الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَواهبْ الجَليل
من أدلة خليل
تأليف
الشيخ أحمد بن أحمد المختار الجكينى الشنقيطي
الجزء الرابع
عني بمراجعته خادم العلم
عَبد الله إبَراهيْم الأنصَارى
من مطبوعات
إِدارة إِحياء التراث الإِسلامى بدولة قطر
1407 هـ - 1987 م
رقم الإِيداع بدار الكتب القطرية
65 لسنة 1987
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصلح
بَابٌ: الصُّلْحُ عَلى غير المُدَّعَى بَيْعٌ أوْ إِجَارَةٌ (1)، وَعَلَى بَعْضِهِ هِبَةٌ (2)،
كِتَابُ الصُّلحِ
الصلح عرفه الحطاب عزوًا إلى النووي، قال: الصلح والإِصلاح والمصالحة، قطع المنازعة.
وهو مأخوذ من صلح الشيء -بفتح اللام وضمها- إذا كمل، وهو خلاف الفساد، يقال: صالحته مصالحة وصِلاحًا -بكسر الصاد- وهو يذكر ويؤنث. ا هـ. منه.
وقال ابن قدامة في المغني: الصلح معاقدة يتوصل بها إلى الإِصلاح بين المختلفين. ويتنوع أنواعًا: صلح بين المسلمين وأهل الحرب، وصلح بين أهل العدل وأهل البغي، وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما. قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ اقْتَتَلوا. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}
(1)
. وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَليْهِمَا أَنْ يَصَّالَحَا
(2)
بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وروي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي موسى رضي الله عنه بمثل ذلك.
وأجمعت الأمة على جواز الصلح في هذه الأنواع التي ذكرناها، ولكل واحد منها باب يذكر فيه، وهذا الباب خاص للصلح بين المتخاصمين. ا هـ. منه بتصرف. وقد حده ابن عرفة فقال: الصلح انتقال من حق أو دعوى بعوض لرفع نزاع أوخوف وقوعه. قال: وهو من حيث ذاته مندوب إليه وقد يعرض وجوبه عند تعيين مصلحة، وحرمته وكراهته لاستلزامه مفسدة واجبة الدرء أو راجحته. ا هـ. الحطاب.
وقال ابن رشد: لا بأس بندب القاضي الخصمين إلى الصلح ما لم يتبين له الحق لأحدهما؛ وذلك لقول عمر بن الخطاب لأبي موسى: احرص على الصلح ما لم يتبين لك فصل القضاء. ا هـ. من الحطاب.
(1)
قول المصنف رحمة الله: الصلح على غير المدعَى بيع أو إجارة، يريد به، والله أعلم أن
(1)
سورة الحجرات 9.
(2)
سورة النساء: 128 أثبتِها بحرف نافع قارئ المدينة.
وَجَازَ عَنْ دَيْنٍ بِمَا يُبَاعُ بِهِ، وَعَنْ ذَهَبٍ بِوَرِقٍ وَعَكْسِهِ إِنْ حَلَّا وَعُجِّلَ؛ كمائةِ
= الصلح على أخذ شيء غير الشيء المدعى به، يعتبر بيعًا لذات ذلك الشيء المدعى به بالشيء المأخوذ بدلًا منه، إن كان ذاتًا، وإذًا، فإنه يشترط فيه ما يشترط في البيع من شروط وانتفاء موانع. وإن كان المأخوذ من الشيء المدعى به منفعة، فإن الصلح يعتبر إجارة للمصالح به. يشترط فيه ما يشترط في الإِجارة من شروط وانتفاء موانع. فمثال ما كان من ذلك بيعًا توفرت شروطه وانتفت موانعه: أن يدعي بعرض، أو حيوان، أو طعام، أو عقار، فيقرّ به المدعى عليه، ثم يصالحه بدنانير أو دراهم أو بهما معًا نقدًا، أو يصالحه بعرض أو طعام مخالف للمصالح عنه.
ومثال ما كان من ذلك إجارة توفرت شروطها وانتفت موانعها: أن يدعي عليه بشيء معين كثوب أو حيوان مثلًا، فيقرّ به، ثم يصالحه بمنفعة شيء معين أو مضمون من عقار أوحيوان أو عرض.
إن الصلح الذي يقع على نحو ما تقدم مثاله جائز، بدليل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقد أخرجه البيهقىِ في السنن الكبرى بسنده عن كثير بن زيد، وعن كثير ابن عبد الله عن أبيه عن جده.
وقال البيهقي أيضًا في السنن الكبرى: أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأنا أبوحامد بن بلال، ثنا يحيى ابن الربيع المكي، ثنا سفيان عن إدريس الأودي، قال: أخرج إلينا سعيد بن أبي بردة كتابًا فقال: هذا كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى- فذكره وفيه: والصلح جائز بين الناس، إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، ا هـ. منه.
(2)
وقوله: وعلى بعضه هبة: يريد به، والله أعلم، أن الصلح على أخذ بعض المدعى به وترك الباقي يعتبر هبة للباقي المتروك، وإذًا، فإنه. يشترط فيه ما يشترط في الهبة من قبول قبل موت واهبه، وقبل جنونه أو مرضه المتصلين بموته، وقبل فلسه.
غير أن الدسوقي ذكر أنه ليس المراد بالهبة هنا حقيقتها -حتى يحتاج فيها للقبول من المدعى عليه قبل موت الواهب الذي هو المدعي- بل المراد بها الإبراء، وحينئذ فلا يشترط قبول، ولا تجدد حيازة على المعتمد، ا هـ. منه. وعزاه للعدوي، والله أعلم بمستنده في ذلك.
ودليل جواز الصلح على بعض المدعى به، ما رواه يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: حدثني =
دِينارٍ وَدِرْهَمٍ عَنْ مِائتَيْهمَا، وعَلَى الافْتِداء مِنْ يَمينٍ (1)، أوْ السُّكوتِ أوِ الإِنْكَارِ (2) إنْ جَازَ عَلى دَعْوَى كُلٍّ وَعَلى ظَاهِر الْحُكْمِ (3)
= عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك أخبره أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته، ونادى كعب بن مالك فقال:"يَا كَعْبُ"! فقال: لبيك يا رسول الله. فأشار بيده أنْ ضع الشطر من دينك. قال كعب: قد فعلت يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُمْ فَاقْضِهِ".
قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته، وفيه دليل على أن لصاحب الحق ملازمة الغريم، واقتضاء الحق منه في المسجد، وأن للقاضي أن يصلح بين الخصمين، وأن الصلح على حط بعض الحق جائز. ا. هـ. منه.
وقال ابن قدامة في المغني: إذا كان للرجل على الرجل دين ليس عنده وفاء، فوضع عنه بعض حقه وأخذ منه الباقي، كان ذلك جائزًا لهما. ولو فعل ذلك قاضٍ لم يكن عليه في ذلك إثم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر ليضعوا عنه، فوضعوا عنه الشطر. قال: وفي الذي أصيب في حديقته، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو ملزوم- فأشار إلى غرمائه بالنصف، فأخذوه منه، ا هـ. منه.
قلت: إن الوارد في قصة دين والد جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر أن يقبلوا ثمر حائطه ويحللوا أباه، فأبوا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمر الحائط بالبركة، فجد جابر حائطه وقضاهم من ثمرها وبقيت له بقية. فقد أخرج البيهقي في السنن بسنده عن يونس عن ابن شهاب قال: وحدثني ابن مالك أن جابر بن عبد الله أخبره أن أباه قتل يوم أحد شهيدًا، وعليه دين، فاشتد الغرماء في حقوقهم، قال جابر: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي فأبوا، فلم يعطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطي، ولم يكسره لهم، ولكن قال:"سَأَغْدُو عَلَيْكَ". فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل ودعا في ثمرها بالبركة، قال: فجددتها فقضيتهم حقوقهم وبقيت لنا من ثمرها بقية، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر وهو جالس عنده:"أَسَمِعَ عُمَرُ مَا يَقُولُ"؟. قال عمر رضي الله عنه: ألا يكون قد علمنا أنك رسول الله، إنك لرسول الله.
(1)
وقوله وعلى الافتداء من يمين، تبع في ذلك المدونة، ففيها. ومن لزمته يميمت فأفتدى منها بمال جاز ذلك. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال الحطاب: وظاهر ذلك الإِطلاق، سواء كان يعلم براءته أم لا. قال: والأصل في هذا أن الصحابة رضي الله عنهم، منهم من افتدى ومنهم من حلف. وقال الدسوقي: قوله: ولو علم براءة نفسه -يعني الدردير- رد بذلك على ابن هشام الخضراوي في قوله: إن علم براءة نفسه وجبت اليمين، ولا يجوز له أن يصالح لأربعة أمور: منها أن فيه إذلال نفسه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَذَلَّ نَفْسَهُ أَذَلَّهُ اللهُ". ومنها ان فيه إضاعة المال، ومنها أن فيه إغراءً للغير، ومنها أن فيه إطعام ما لا يحل.
قال: ورد قوله بأن ترك اليمبن وترك الخصام عز لا إذلال، وحينئذ فبذل المال فيه ليس إضاعة له لأنه لمصلحة، وأما أكل الغير الحرام فلا، سبيل على المظلوم فيه {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}
(1)
. انتهى منه.
(2)
وقوله: أو السكوت أو الإِنكار، قال ابن قدامة في المغني: الصلح على الإِنكار صحيح. وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يصح؛ لأنه عاوض على ما لم يثبت له فلم تصح المعاوضة؛ كما لو باع مال غيره.
قال: ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ". فيدخل هذا في عمومه، إلى أن قال: وإذا كان المدعي معتقدًا أنما ادَّعاه حق، والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه، فيدفع إلى المدعي شيئًا افتداءً ليمينه، وقطعًا للخصومة وصيانة لنفسه من التبذل وحضور مجلس الحاكم، فإن ذوي النفوس الشريفة والمروءة يصعب عليهم ذلك، ويرون دفع ضرر ذلك عنهم من أعظم مصالحهم، والشرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: إن جاز على دعوى كل وعلى ظاهر الحكم، يريد به، والله تعالى أعلم، أن الصلح يشترط فيه أن يكون جائزًا على دعوى المدعي، وعلى دعوى المدعى عليه، وعلى ظاهر الحكم. قال الدسوقي: والحق أن هذه الشروط إنما هي معتبرة في الصلح على الإنكار، وأما الصلح على السكوت فإن المشترط فيه إنما هو جوازه على دعوى المدعي.
قال: والمراد بقوله: وعلى ظاهر الحكم، كونه جائزًا على ما ظهر من الأحكام الشرعية، أي بأن
(1)
سورة الشورى: 42. =
وَلَا يَحِلُّ للظَّالِم (1)، فَلَوْ أقَرَّ بَعْدَهُ أوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لَمْ يَعْلَمْهَا، أوْ أشْهَدَ وأعْلَنَ أنَّهُ يَقُومُ بِهَا، أوْ وَجَدَ وثِيقَتَهُ بَعْدَهُ، فَلَهُ نَقْضُه (2) كمَن لمْ يُعْلِنْ أوْ يُقِرَّ سِرًّا فَقَطْ عَلى الأحْسَن فِيهِمَا، لَا إنْ عَلمَ بِبَيِّنَتِهِ وَلَمْ يُشْهِد، أوِ ادَّعَى ضَياعَ الصَّكِّ فَقِيلَ لَهُ: حَقّكَ ثَابِتٌ فائْتِ بِهِ، فَصَالحَ ثمَّ وجَدَهُ. وَعَنْ إِرْثِ زوجَةٍ مِنْ عَرْضٍ وَوَرِقٍ وذَهَبٍ بِذَهَبٍ، مِنَ التَّرِكَة (3) قَدْرَ مَوْرِثِهَا مِنْهُ فَأقَلَّ أوْ أكْثَر،
= يكون ذلك الصلح ليس فيه شيء من تلك الأحكام التي تقتضي المنع؛ كتهمة سلف جر منفعة. وكتهمة بيع الطعام قبل قبضه ونحو ذلك، ا هـ. منه بتصرف.
- وقوله قبل: وجاز عن دين بما يباع به وعن ذهب بورق وعكسه، قال الحطاب: وجاز عن دين بما يباع به، هذا إذا كان المأخوذ من غير الجنس، وأما إذا أخذ عن دين من جنسه فإنه يجوز أن يأخذ منه أقل منه، ولا يجوز بيعه بأقل من جنسه، قال: كمائة دينار ودرهم عن مثلها، هذه مسألة المدونة.
قال أبو الحسن عن ابن يونس: وسواء أخذ منه الدرهم نقدًا أو أخذ منه المائة دينار نقدًا، أو أخره بها لأنه لا مبايعة هنا وإنما قضاء وحطيطة، فلا تهمة في ذلك. قال: ولو كانت المائة الدينار أو المائة الدرهم لم تحل، لأنه: ضَعْ وَتَعَجَّلْ. ا. هـ.
أخرج البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن الزهري: أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر كان إذا كان للرجل عليه الذهب أو الورق خيّره حين يقضيه؛ أي الصنفين أحب إليك؟ ثم يقضيه بصرف الناس، أو يصرف فيقضيه، فإذا قبل ذلك الرجل لم ير به عبد الله بأسًا. ا هـ.
وأخرج بسنده كذلك عن سعيد مولى الحسن بن علي قال: كان لي على ابن عمر دراهم، فأتيته أتقاضاها فقال: إذا خرج عطائي قضيتك. قال: فخرج عطاؤه مائة دينار، فأتيته فقال لغلامه: اذهب بهذه الدنانير إلى السوق فإذا قامت على ثمن فاعطها إياه بدراهمه، وإن أحب أن يبيعها بالدراهم، فبعها واعطه دراهمه. ا. هـ.
(1)
وقوله: ولا يحل للظالم، نقل المواق عن المدونة، الصلح على الإِنكار جائز. قال ابن عرفة: باعتبار نقده، وفي باطن الأمر إن كان الصادق المنكر، فالمأخوذ منه حرام، وإلا فحلال. فإن وفى بالحق برئ وإلا فهو غاصب في الباقي. اهـ. منه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال الدسوقي: وقوله: ولا يحل الصلح للظالم في نفس الأمر، أي فيما بينه وبين الله؛ وظاهره أن الصلح لا يحل للظالم ولو حكم له به حاكم يرى حله للظالم. وهذا موافق الآتي في القضاء، ورفع الخلاف لا أحل حرامًا. ا هـ. منه بتصرف.
قلت: والدليل على أن حكم الحاكم لا يحل شيئًا للظالم هو ما أخرجه المنذري في مختصر أبي داود له: باب في قضاء القاضي إذا أخطأ: عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْ مِنْه شيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ". قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
قال الخطابي: فيه من الفقه وجوب الحكم بالظاهر، وأن حكم الحاكم لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، وأنه من أخطأ في حكمه فمضى، كان ذلك في الظاهر، فأما في الباطن وفي حكم الآخرة فإنه غير ماض.
وفيه، أنه لا يجوز للمقضي له بالشيء أخذه، إذا علم أنه لا يحل له فيما بينه وبين الله، ألا تراه يقول:"فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ".
وأخرج البيهقي في السنن بسنده عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة، قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسة، فجاءه رجلان من الأنصار يختصمان في أشياء قد درست وبادت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ شَيْءٌ فَمَنْ قَضَيْبُ لَهُ بِشَيْءٍ بِحُجَّةٍ أَرَاهَا فَأَقْتَطِعُ بِهَا مِنْ مَالِ أَخِيهِ ظُلْمًا أَتَى بِهَا أَسْطَامًا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي له يا رسول الله. قال:"لَا، وَلكِنْ اذْهَبَا فَاسْتَهِمَا وَتَوَخَّيَا، ثُمَّ لْيُحَلِّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ". اهـ. منه.
(2)
وقوله: فلو أقر بعده إلى قوله: فله نقضه، لعله لما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن المفضل بن غسان الغلابي: ثنا أبو داود، ثنا شريك عن أبي اسحاق، قال: كان لرجل على رجل ألف وخمسمائة درهم، فأبوا أن يُعطوه حتى حط الخمسمائة، فكتب عليه الكتاب وأبرأه ثم أخذ بالخمسمائة، فاختصموا إلى شريح، فقال للشهود: هل وضع الخمسماثة في كفه؟. فقالوا: لا. فأمر فرد عليه. قال الشيخ: ونحن أيضًا لا نجيز الحط إذا كان بشرط. اهـ. منه بلفظه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (3) وقوله: وعن إرث زوجة من عرض وورق وذهب بذهب، من التركة ألخ، لعله لما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسًا بالمخارجة في الميراث. قال: وحدثنا سعيد بن منصور، ثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه، قال: صولحت امرأة عبد الرحمن من نصيبها -ربع الثمن- على ثمانين ألفًا. وهذا محمول على أنها كانت عارفة بمقدار نصيبها. وقد روى الشعبي عن شريج أنه قال: أيما امرأة صولحت من ثمنها ولم تخبر بما ترك زوجها فتلك الريبة كلها. اهـ. منه. ولعل هذا أيضًا دليله قوله: إن عَرَفا جميعَها.
تنبيهٌ: الصلح عند الشافعي يجري مجرئ المعاوضات، ولذلك لا يجوز عنده إلا فيما أوجب المال، ولا يجوز في دعوى القذف، ولا على دعوى الزوجية، ولا على مجهول، ولا أن يصالحه من دين له على مال نسيه، لأنه من باب الكالئ بالكالئ. قاله الخطابي في معالم السنن وقال: لا يجوز الصلح في قول مالك على الإِقرار، غير أن المواق نقل عند قول خليل أو السكوت ما نصه: الصلح على ثلاثة أضرب: على الإِقرار وعلى الإِنكار وعلى السكوت، وهو جائز في الوجوه الثلاثة ا. هـ.
تنبيهٌ: وقول الخطابي: إن الصلح لا يصح على دعوى مجهولة هو مذهب الشافعي، قال لأنه فرع البيع ولا يصح البيع على مجهول، غير أن هذا الاجتهاد يرد عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في رجلين اختصما في مواريث درست:"اسْتَهِمَا وَتَوَخَّيَا، وَلْيُحَلِّلْ أَحَدكُمَا صَاحِبَهُ" الحديث، وقد تقدم تخريجه في الكلام على قول المصنف: ولا يحل للظالم، وهو صلح على مجهول. وقال المتيطي في الصلح على مجهول: يسجل بنحو: قام فلان على فلان يزعم أن قِبَله له حقًا لا يعرف قدره ولا مبلغه، ثم إن فلانًا المدعى عليه خشي أن تكون للقائم علاقة فيما مضى، وإن كان لا يعرف شيئًا من ذلك، فرأى أن يتحلل من دعواه بأن يدفع له كذا، فرضي بذلك فلان القائم وقطع حجته وأسقط التبعة. اهـ. انظر المواق.
تنبيه: تقدم القول بأنه يستحب للقاضي أن لا يعجل بالقضاء بين الخصمين قبل أن يدعوهما إلى الصلح، تجنبًا للضغائن بينهما، لا سيما إذا كان الخصمان أهل قرابة ورحم، عملًا، بسنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن أزهر عن محارب، قال: قال عمر رضىِ الله عنه: ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن. =
إنْ قَلّتْ الدَّرَاهِمُ، لَا مِنْ غَيْرِهَا مُطْلَقًا إلَّا بِعَرْضٍ، إن عَرَفَا جَمِيعَهَا وحَضَرَ وَأقَرَّ المَدِينُ وحَضرَ، وَعَنْ دَرَاهِمَ وعَرْضٍ تُركَا بِذَهَبٍ، كبَيْعٍ، وَصَرْفٍ، وإنْ كَانَ فِيهَا دَيْنٌ فَكَبَيْعهِ، وَعَنِ الْعَمْدِ بِمَا قَلَّ وَكَثُرَ (1)، لَا غَرَرٍ؛ كَرِطْلٍ مِنْ شَاةٍ، ولِذىِ دَيْنٍ مَنْعُهُ مِنْهُ، وَإنْ رُدَّ مُقَوَّمٌ بِعَيْبٍ أوِ اسْتُحِقَّ رُجِعَ بِقيمَتِهِ؛ كَنِكَاحٍ وَخُلْعٍ، وَإنْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ أوْ قَطَعُوا، جَازَ صُلْحُ كُلٍّ والْعَفْوُ عَنْهُ، وَإنْ صَالحَ مَقْطُوعٌ ثُمَّ نُزِىَ فَمَاتَ فَلِلْوَليِّ لَا لَهُ رَدُّهُ وَالقْتَلُ بِقَسَامَةٍ؛ كأخْذِهِمُ الدِّيَةَ في الْخَطإ، وَإنْ وَجَبَ لِمَريضٍ عَلَى رَجُلٍ جَرْحٌ عَمْدًا، فَصَالحَ في مَرَضهِ بِأرْشِهِ أوْ غَيْرهِ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرضِهِ، جَازَ وَلَزِمَ، وَهَلْ مُطْلَقًا؟. أوْ إنْ صَالَحَ عَلَيْهِ، لَا مَا يَئُولُ إلَيهِ؟ تأويلَانِ. وَإنْ صَالحَ أحَدُ ولِيَّيْنِ فَلْلآخَرِ الدُّخُولُ مَعَهُ وَسَقَطَ الْقَتْلُ، كَدَعْوَاك صُلْحَهُ فَأنْكَرَ، وَإنْ صَالَحَ مُقِرٌّ بِخَطَإ بِمَالِه لَزِمَهُ، وَهَلْ مُطْلَقًا؟. أوْ مَا دَفَعَ؟ تَأويلَانِ. لَا إنْ ثَبَتَ وَجَهِلَ لُزُومَهُ، وَحَلَفَ وَرُدَّ إنْ طُلبَ بِهِ مُطْلقًا، أوْ طَلَبَهُ وَوُجدَ. وَإنْ صَالحَ أحَدُ وَلَدَيْنِ وَارِثَيْنِ، وَإنْ عَنْ إنْكَارٍ،
= وأخرج أيضًا بسنده عن معروف بن واصل، عن محارب بن دثار، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ردوا الخصوم لعلهم أن يصطلحوا فإنه أبرأ للصدق وأقل للحنات.
قال: وحدثنا يحيى، ثنا الحسن بن صالح عن علي بن بذيمة الجزري، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ردوا الخصوم إذا كان بينهم قرابة، فإن فصل القضاء يورث بينهم الشنآن. قال: وهذه الروايات عن عمر رضي الله عنه منقطعة. والله أعلم. اهـ. منه.
(1)
وقول المصنف: وعن العمد بما قل أو كثر ألخ. دليله حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قَتَلَ مُتَعَمدًا دُفِعَ إِلَى أَوُلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءُوا قَتلُوا وَإنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ؛ وَهِيَ ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةُ وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، وَذلِكَ عَقْلُ الْعَمْدِ، وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ، وَذلِكَ تَشْدِيدُ الْعَقْلِ". رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه. قال الشوكاني: الحديث يأتي الكلام =
فَلِصَاحِبِهِ الدُّخُولُ؛ كَحَقٍّ لَهُمَا في كِتَابِ أو مُطْلَقٍ، إلّا الطَّعَامَ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ إلّا أنْ يشَخَصَ ويُعْذِرَ إِلَيْهِ في الخُروجِ أوَ الْوكَالَةِ، فيمْتَنِعُ وَإنْ لَمْ يَكنْ غَيْرُ المُقْتَضَى. أوْ يَكُونَ بِكتَابَيْنِ وَفيمَا لَيْسَ لَهُمَا وكُتِبَ فِي كِتَابٍ قَوْلَانِ. ولَا رُجُوعَ إِنْ اخْتَارَ مَا عَلى الْغَريمِ وَإنْ هَلَكَ. وَإنْ صَالَحَ على عَشَرَةٍ مِنْ خَمْسِينِهِ فَلِلآخَرِ إسْلَامُهَا أوْ أخْذُ خَمْسَةٍ مِنْ شَرِيكِهِ وَيَرْجِعُ بِخمْسَةٍ وأرْبَعينَ ويأخُذُ الآخَرُ خَمْسَةً. وإنْ صَالحَ بِمُؤخَّرٍ عَنْ مُسْتَهلَكٍ لَمْ يَجُزْ، إلَّا بِدَراهِمَ كَقيمَتِهِ فَأقَلَّ أوْ ذَهَبٍ كذلِك، وَهُوَ مِمَّا يُبَاعُ بِهِ كَعَبْدٍ آبِقٍ، وإنْ صَالحَ بشقْصٍ عَنْ مُوَضِّحَتَيْ عَمْدٍ وَخَطَإ، فَالشُّفْعَةُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الشِّقْصِ وبِدِيَةِ المُوَضِّحَةِ، وَهَلْ كذلِكَ إنْ اخْتَلَفَ الجُرْحُ؟ تَأوِيلَان.
= على ما اشتمل عليه في أبواب الديات، وإنما ساقه المصنف -يعني المجد- هنا للاستدلال بقوله فيه:"وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ". فإنه يدل على جواز الصلح في الدماء بأكثر من الدية، اهـ. منه.
خاتمة: السعي في الصلح والإِصلاح بين الناس من فضائل الأعمال، قال الله تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أوْ إِصْلَاحٍ بَيْن النَّاسِ وَمَنْ يَفْعْلْ ذلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}
(1)
. وأخرج البخاري في سنده عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلحُ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا". والله تعالى نرجوه التوفيق لما يرضى به عنا إنه سميع مجيب.
(1)
سورة النساء: 114.
كتاب الحوالة
بَابٌ: شَرْطُ الْحَوَالَةِ رِضَا المُحِيلِ والمُحَالِ فَقَطْ (1)، وثبوتُ دَيْنٍ لَازِمٍ، فإن أعْلمَهُ بَعَدَمِهِ وَشَرَطَ البراءَةَ صَحَّ. وَهَلْ إلَّا أن يُفَلَّسَ أوْ يَمُوتَ؟. تأويلان. وَصِيغَتُهَا، وَحُلُولُ المُحَالِ بهِ وإنْ كتابة، لَا عَلَيْهِ، وَتَسَاوي الدَّينَيْنِ قَدْرًا وَصِفَةً. وَفي تَحَوُّلِهِ على الأَدْنَى تَرَدُّدٌ. وأن لَا يَكُونا طَعَامًا منْ بَيْعٍ، لَا كَشْفُهُ عَنْ ذمَّةِ المُحَال عَلَيْهِ. ويَتَحَوَّلُ حَقُّ المُحَالِ عَلى المُحَال عَلَيْهِ وَإنْ أفْلَسَ أوْ جَحَدَ، إِلَّا أنْ يَعْلَمَ المُحِيلُ بإِفلاسِهِ فَقَطْ (2)، وَحَلَفَ على
الكلام على الحوالة
قال ابن قدامة في المغني: الحوالة ثابتة بالسنة والإِجماع؛ أمَّا السنة فحديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَليَتْبَعْ" قال البغوي: "أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ" بالتخفيف معناه: أحيل أحدكم على مليء "فَلْيَتْبَعْ" أي فليحتل، يقال: أتبعت غريمي على فلان فتَبْعَهُ أي أحلته فاحتال، وتبِعْتُ الرجل بحقي أتبعه تِباعة: إذا طالبته به، وأنا تبيعه. قال: ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}
(1)
. أي تابعًا مطالبًا بالثأر. اهـ. منه.
وقد أجمع أهل العلم على جواز الحوالة في الجملة. وقالوا إن اشتقاقها من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة. وقد قيل: إنها بيع؛ فإن المحيل يشتري ما في ذمته بمال له في ذمة المحال عليه. قال ابن قدامة: والصحيح أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه ليس بمحمول على غيره؛ لأنها لوكانت بيعًا لما جازت، لكونها بيع دين بدين، ولما جاز التفرق قبل القبض؛ لأنه بيع مال الربا بجنسه. اهـ. منه.
وحدّها ابن عرفة بأنها طرح الدين عن ذمة بمثله في أخرى لامتناع تعلق الدين بما هو له. وقال ابن يونس: لم يختلف في جواز الحوالة وهي في الحقيقة بيع دين بدين، فاستثنيت منه لأنها معروف كاستثناء العرية من بيع الرطب بالتمر، اهـ. المواق.
(1)
قوله: شرط الحوالة رضا المحيل والمحال فقط، نسب المواق هنا لابن عرفة قوله: المذهب
(1)
سورة الاسراء: 69. =
نَفْيِهِ إِنْ ظُنَّ بِهِ الْعِلْمُ؛ فَلَوْ أحَالَ بَائِعٌ على مُشْتَرٍ بالثَّمَنِ، ثُمَّ رُدَّ بِعَيْبٍ أو اسْتُحِقَّ لَمْ تَنْفَسِخْ. وَاخْتِيرَ خِلَافُهُ، والْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ إنْ ادُّعِيَ عَلَيْهِ نَفْيُ الدَّيْنِ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ، لا فِي دَعْوَاهُ وكَالةً أو سَلَفًا.
= توقف الحوالة على رضا المحيل والمحال. وصرح ابن الحاجب وغيره أن هذا من شروطها. وخالف في ذلك ابن رشد واللخمي قالا: ليس ذلك من شروطها.
(2)
وقوله: ويتحول حق المحال على المحال عليه وإن أفلس أو جحد، إلا أن يعلم المحيل، بإفلاسه فقط، قال الحطاب، قال في المدونة: وإذا أحالك غريمك على من له عليه دين فرضيت باتباعه، فلا ترجع عليه بشيء في غيبة المحال عليه أو عدمه.
وقال المواق، قال مالك: إذا أحالك غريمك على من له عليه دين فرضيت باتباعه، برئت ذمة غريمك، ولا ترجع عليه في غيبة المحال عليه أو عدمه، ولو غرك غريمك من عُدْم يعلمه بغريمه أو بفلس فلك طلب المحيل، ولو لم يغرك، أو كنتما عالمين بفلسه، كانت حوالة لازمة لك.
وقال المازري: وأما الجحود فقال بعض أشياخنا: إنه لا يوجب الرجوع على المحيل؛ لأن المحال فرط إذ لم يشهد على المحال عليه، فكأنه لما قبل الحوالة برئت ذمة المحيل وفرط في الِإشهاد، فصار كالمتسلف لماله بعد القبض، فمصيبة الجحود منه، ولا أعرف لمالك في هذا نصًا، اهـ منه.
وقال البغوي في شرح السنة: وإذا قبل الحوالة تحول الدين من المحيل إلى ذمة المحال عليه، ولا رجوع للمحتال على المحيل من غير عذر؛ فإن أفلس المحال عليه أو مات ولم يترك وفاء، اختلف أهل العلم فيه؛ فذهب قوم إلى أنه لا رجوع له على المحيل بحال. وهو قول علي وإليه ذهب مالك والشافعي، وأحمد، واسحاف، وأبو عبيد، وأبو ثور. وقال اسحاق: إلا أن يراه المحتال حالة قبول الحوالة مليئًا فبان معسرًا، رجع حينئذ على المحيل. وحجة هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ"، قالوا: والحوالة تصح على غير المليء. ففائدة ذكر الملاءة في الحديث سقوط سبيل المحتال على المحيل بعدما قبل الحوالة على من هو مليء، ولا ينظر إلى حدوث الفلس والموت من بعد؛ لأن الدين قد تحول من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، وسميت الحوالة لذلك. وذهب قوم -منهم أصحاب الرأي- إلى أنه يرجع على المحيل إذا أفلس المحال عليه أو مات ولم يترك وفاء. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ودليل من قال: يرجع على المحيل، ما أخرجه البيهقي بسنده عن خليد بن جعفر قال: سمعت أبا إياس عن عثمان بن عفان قال: ليس على مال امرئ مسلم توى. يعني حوالة. ورواه غيره عن شعبة مطلقًا ليس فيه حوالة. قال: قال الشافعي في رواية المزني في الجامع الكبير: احتج محمد بن الحسن بأن عثمان بن عفان قال في الحوالة أو الكفالة، يرجع صاحبها لا توى على مال مسلم، فسألته عن هذا الحديث فزعم أنه عن رجل مجهول، عن رجل معروف منقطع عن عثمان قال: فهو في أصل قوله يبطل من وجيهن، ولوكان ثابتًا عن عثمان لم تكن فيه حجة لأنه لا يدري أقال ذلك في الحوالة أو في الكفالة. اهـ. منه.
وقوله: قبلُ وثبوت دين لازم، قال الدردير: للمحيل في ذمة المحال عليه وكذا للمحال على المحيل، وإلا كانت وكالة لا حوالة. قال: واحترز بقوله: لازم، عن دين صبي وسفيه ورقيق بغير إذن ولي وسيد، فلا تصح الاحالة عليهم ا. هـ. منه.
وقوله: وتساوي الدَّينين قدرًا وصفة، قال الدردير: مراده بالتساوي قدرًا أن لا يكون المأخوذ من المحال عليه أكثر من الدين المحال به ولا أقل؛ فلا يحيل بخمسة على عشرة وعكسه، لأنه ربا في الأكثر ومنفعة في التحول إلى الأقل، فيخرج عن المعروف، وليس المراد أنه لابد من تساوي ما عليه لماله حتى يمتنع أن يحيل بخمسة من عشرة على مدينه أو بخمسة من عشرة عليه، وكذا لا يحل بخمسة محمديَّة على مثلها يزيدية مثلًا ولا عكسه، اهـ. منه.
تنبيهٌ: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث "فَلْيَتْبَعْ" جميع أهل العلم على أن ذلك ليس على طريق الوجوب،
وخالف داود بن علي، قال: هو للوجوب؛ فصاحب الحق إذا أحيل على مليء يجب عليه أن يقبل، وإن أبى أكره على القبول، ويفهم من كلام ابن قدامة في المغني أن ذلك المذهب عندهم، قال ما نصه: ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف، فإن الحق عليه ولا يتعين عليه جهة قضائه. قال: وأما المحتال والمحال عليه فلا يعتبر رضاهما على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ونص الخرقي: ومن أحيل بحقه على مليء فواجب عليه أن يحتال. فإنه بهذه العبارة لم يجعل اعتبارًا لرضا المحال ولا المحال عليه، خلافًا لأبي حنيفة الذي يعتبر رضاهما معًا. والله الموفق.
الضمان
بَابٌ: الضَّمَانُ شَغْلُ ذِمَّةٍ أُخْرَى بالْحَقِّ. وَصَحَّ مِنْ أهْلِ التَّبَرُّعِ؛ كَمُكَاتَبٍ ومَأذُونٍ أذِنَ سَيِّدُهُمَا، وَزَوْجَةٍ وَمَرِيضٍ بِثُلُثٍ، واتُّبِعَ ذُو الرِّقِّ بِهِ إِنْ عَتَقَ. وَليْسَ لِلسَّيِّدِ جَبْرُهُ عَلَيْهِ، وَعَنِ المَيِّتِ المُفْلِسِ، والضَّامِنِ وَالمُؤجَّلِ حَالًا إنْ كَانَ مِمَّا يُعَجَّلُ، وعَكْسُهُ إنْ أيْسَرَ غَريمُهُ أوْ لَمْ يُوسِرْ فِي الأجَلِ، وبالموسَر أو المُعْسَرِ، لا الجَمِيعِ، بِدَيْنٍ لَازِمٍ أوْ آيلٍ إِلَيْهِ، لَا كِتابَةٍ، بَلْ كجُعْلٍ، ودَايِنْ فُلانًا. وَلزِمَ فِيمَا ثَبَتَ. وَهَلْ يُقَيَّدُ بِمَا يُعَامَلُ بِهِ؟ تأوِيلَانِ. وَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ المُعَامَلةِ، بخِلَاف: إحْلِفْ وأنا ضَامِنٌ بِهِ. إنْ أمْكنَ اسْتيفاؤهُ مِنْ ضَامِنِهِ، وَإنْ جُهِل، أو مَنْ له، وبغَيْر إذْنِهِ؛ كأدَائِهِ رِفْقًا لا عنَتًا، فيُرَدُّ كشِرائِهِ. وَهَل إنْ عَلِمَ بائعُهُ؟. وهو الأظْهَرُ، تأوِيلَانِ. لَا إنْ ادُّعِيَ عَلى غَائِبٍ فَضَمِنَ ثُمَّ أنْكَرَ، أو قَالَ لمدَّعٍ عَلى مُنْكرٍ: إنْ لَم آتِكَ بِهِ لِغَدٍ فأنَا ضَامِنٌ. وَلم يأتِ بِهِ، إنْ لمْ يثبُتْ حَقُّه بِبَيِّنَةٍ. وَهَلْ بِإقْرارِه؟. تَأوِيلَان؛
الكلام على الضمان
قال ابن قدامة: الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه، فيثبت في ذمتهما جميعًا، ا هـ. منه.
وهذه العبارة قريبة من عبارة المصنف هنا حيث يقول: الضمان شَغل ذمة أخرى بالحق؛ ولفظه مشتق من الضم أو التضمين؛ يقال: ضمن فهو ضامنٌ وضمين، وكفيلٌ، وقبيلٌ، وحميلٌ، وزعيمٌ، وصبيرٌ.
والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإِجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى في سورة يوسف:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}
(1)
، وقوله تعالى في سورة القلم:{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ لِذلِكَ زَعِيمٌ}
(2)
=
(1)
سورة يوسف: 72.
(2)
سورة القلم: 40.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما السنة، فقد أخرج البيهقي بسنده عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أُمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الزَّعِيمُ غَارِمٌ". قال المزني: والزعيم في اللغة هو الفيل. قال الشيخ: ورويناه عن قتادة والسدي، ا هـ. منه.
وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن. اهـ.
وأخرج البيهقي بسنده عن فضالة بن عبيد، سمعه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَنَا زَعِيمٌ، وَالزَّعِيمُ الْحَمِيلُ، لِمَنْ آمَنَ بِي وَأسْلَمَ وَهَاجَرَ، بِبَيْتٍ فِي رَيَضِ الْجَنَّةِ".
وقد أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة، دكانما اختلفوا في فروع منه. وأخرج البخاري تعليقًا في كفالة الوجه: وقال أبو الزناد عن خحمد بن حمزة بت عمرو الأسلمي عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه مُصدِّقًا، فوقع رجل على جارية امرأته، فأخذ حمزة من الرجل كفلاء حتى قدم على عمر، وكان عمر قد جلده مائة جلدة، فصدَّقهم، وعذره بالجهالة. اهـ.
قال ابن حجر في الفتح: واستفيد من هذه القصة مشروعية الكفالة بالأبدان، فإن حمزة بن عمرو الأسلمي صحابي، وقد فعله ولم ينكر عليه عمر مع كثرة الصحابة حينئذ، اهـ. منه.
وجاء في الحديث ما يؤخذ منه أن الضمان كان جائزًا في شرع من قبلنا؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلًا من بني اسرائيل سأل بعض بني اسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال: ائتني بالشهداءِ أشهدُهم. فقال: كفى بالله شهيدًا. قال: فائتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلًا. قال: صدقت. فدفعها إليه إلى أجل مُسَمًّى. فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبًا يركبها يقدَم عليه للأجل الذي أجَّله فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجَّج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلَّفت فلانًا ألف دينار فسألني كفيلًا فقلت: كفى بالله كفيلًا. فرضي بك، وسألني شهيدًا فقلت: كفى بالله شهيدًا فرضي بذلك، وإني جَهَدْتُ أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وأني استودعُكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهوفي ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة. ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار =
كَقَوْلِ المُدعَى عَلَيْهِ: أجِّلْنِي الْيَوْمَ، فإنْ لَمْ أوَافِكَ غَدًا فَالَّذِي تَدعِيهِ عَليَّ حَقٌّ. وَرَجَعَ بِمَا أدَّى وَلَوْ مُقَوَّمًا إِنْ ثَبَتَ الدَّفْعُ. وَجَازَ صُلْحُهُ عَنْهُ بِمَا جازَ لِلْغَرِيمِ عَلى الأصَحِّ، ورَجَعَ بالأَقَلِّ مِنْهُ أوْ قيمَتِهِ وَإنْ بَرِئ الأصْلُ بَرئ، لا عَكْسُهُ، وعُجِّلَ بِمَوْتِ الضَّامِنِ، ورَجَعَ وَارثُهُ بَعْدَ أجَلِهِ أو الْغَرِيم إنْ تَرَكَهُ، ولَا يُطَالَبُ إنْ حَضَرَ الْغَرِيمُ مُوسرًا، أوْ لَمْ يَبْعُدْ إِثْباتُهُ عَلَيْهِ. والْقَوْلُ لَهُ في مَلَائِه. وَأفادَ شَرْطُ أخْذِ أيِّهما شَاءَ وَتَقْدِيمِهِ أوْ إنْ مَاتَ؛ كَشَرْطِ ذي الوجْهِ أوْ رَبِّ الدَّيْنِ التَّصْدِيقَ في الإِحْضَارِ، وَلَهُ طَلَبُ المُسْتَحِقِّ بِتَخْليصِهِ عِنْدَ أجَلِهِ لَا بتَسْلِيمِ الْمَالِ إليْهِ، وضَمِنَهُ إنْ اقْتَضَاهُ، لَا أُرْسِلَ بِهِ، وَلَزِمَهُ تَأْخِيرُ رَبِّهِ المُعسِرَ أوْ المُوسِرَ إنْ سَكتَ، أوْ لَمْ يَعْلَمْ انْ حَلَفَ أنَّهُ لَمْ يؤخِّرهُ مُسْقِطًا، وَإنْ أنْكرَ حَلَفَ أنَّهُ لَمْ يُسْقِط وَلَزِمَهُ وتَأخَّرَ غَرِيمُهُ بِتَأخِيرِهِ، إلَّا أن يَحْلِفَ، وَبَطلَ إنْ فَسَدَ مُتَحَمَّلٌ بِهِ أوْ فَسَدَتْ كَبجُعْلٍ مِن غَيْرِ رَبِّه لمَدِينهِ (1) وَإنْ ضَمَانَ مَضْمُونِهِ إلَّا في اشْتِراءِ شَيْءٍ بينَهُمَا أَوْ بَيْعِهِ؛ كَقَرْضِهِمَا على الأصَحِّ.
= فقال: والله مازلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الذىِ أتيت فيه، قال: هل كنت أرسلت إليَّ بشيء؟. قال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه. قال: إن الله قد أدَّى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرفْ بالألف الدينار راشدًا.
قال ابن حجر في فتح الباري: وفي الحديث جواز الأجل في القرض، ووجوب الوفاء به. وقيل: لا يجب بل هو من باب المعروف. وفيه التحدث عما كان في بني اسرائيل وغيرهم من العجائب للاتعاظ والإِتساء. وفيه التجارة في البحر وجواز ركوبه، وفيه فضل التوكل على الله. وفيه طلب الشهود في الدين وطلب الكفيل به. اهـ. منه.
(1)
وقوله: وبطل إن فسد متحمل به أو فسدت كبجعل من غير ربه لمدينه، يريد به، والله تعالى أعلم، وبطل الضمان إن فسد العقد الذي ترتب عليه مال متحمل به، أي تحمل به الضامن عن المدين الذي ترتب الدين عليه، كقوله: ادفع دينارًا في دينارين إلى شهر وأنا ضامن له. فهذه حمالة فاسدة فلا
وإنْ تَعَدَّدَ حُمَلَاءُ اتُبعِ كُلٌّ بِحِصَّتِهِ إلَّا أن يَشْتَرِطَ حَمَالَةَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ كتَرَتُّبِهِمْ، وَرَجَعَ المؤدِّي بِغَيْرِ المُؤَدَّى عَن نَفْسِهِ بِكُلِّ مَا عَلى المُلْقِي ثُمَّ سَاوَاهُ، فإنْ اشْتَرى سِتَّةٌ بِسِتُّمائَةٍ بالْحَمالَةِ، فلَقِيَ أحَدَهُمْ أخَذَ مِنْهُ الجَمِيعَ، ثُمَّ إنْ لَقِيَ أحَدَهُمْ أَخَذَهُ بِمائةٍ ثُمَّ بِمائتَيْنِ، فإنْ لَقِيَ أحَدُهُمَا ثَالثًا أخَذَه بِخَمْسِينَ وبِخمْسَةٍ وسَبْعِينَ، فإن لقي الثالثُ رَابعًا أخَذه بِخَمْسَةٍ وعِشْرينَ وبِمِثْلِهَا، ثُمَّ باثني عَشر ونصف وبستَّةٍ وَرُبعٍ، وهَلْ لا يَرْجِعُ بِمَا يَخُصُّهُ أَيْضًا، إذا كان الحَقُّ عَلى غيرهم أَوَّلًا وَعَلَيْهِ الأكثر؛ تأويلان. وَصَحَّ
= يلزم الضامن شيء بموجبها.
قال في الموازية: كل حمالة وقعت على حرام بين المتبايعين في أول أمرهما أو بعده، فهي ساقطة لا يلزم الحمل بها شيء.
وبطل الضمان أيضًا إذا فسدت الحمالة نفسها بانتفاء ركن منها، أو شرط من شروطها، أو وجود مانع من موانعها؛ وذلك كحمالة بجعل -أي بعوض- لأن الضامن إذا غرم رجع بمثل ما غرمه، ويزداد الجعل فيكون سلفًا جر منفعة، ولأن الضمان أحد الأمور الثلائة التي لا تكون إلا لله تعالى، والثاني القرض والثالث الجاه. اهـ. الإكليل.
قال الأبهري يعزَو المواق إليه: لا يجوز ضَمَانٌ بجعل؛ لأن الضمان معروف ولا يجوز أن يؤخذ عوض عن معروف وفعل خير، كما لا يجوز على صوم ولا صلاة، لأن طريقهما ليس لكسب الدنيا.
وقال مالك: لا خير في الحمالة بجعل. وقال ابن القاسم: فإن نزل وكان يعلم صاحب الحق سقطت الحمالة ورد الجعل، وإن لم يكن يعلمه فالحمالة لازمة للحميل ويرد الجعل على كل حال. اهـ. منه.
قلت: وفي شرح المنهج لشيخ مشائخنا الشيخ محمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني ما نصه: فائدة: الضمان أحد الأمور التي لا يجوز أخذ شيء عليها.
قال ابن عاشر:
القرضُ والضمانُ، عَوْضُ الْجَاهِ
…
يُمنع فعلُها لغير الله
اهـ. منه.
بِالْوَجْهِ (1). وللزَّوْجِ رَدُّهُ مِنْ زوجَتِهِ، وَبَرئ بِتَسْلِيمهِ لَهُ وإن بِسجْنٍ أوْ بِتَسْليمه نَفْسَهِ إنْ أمَرَهُ بِهِ، إِنْ حَلَّ الْحَقُّ، وَبِغَيْرِ مَجْلِسِ الحُكْمِ إِنْ لَمْ يُشْتَرطْ. وبِغَيْر بَلدِهِ إنْ كانَ بِهِ حَاكِمٌ ولوْ عَدِيمًا، وَإلَّا أُغْرِمَ بَعْدَ خَفيفِ تَلَوُّمٍ إنْ قَرُبَتْ غيبةُ غَرِيمِهِ كَاليَوْمِ، ولَا يَسْقُطُ الغُرْمُ بإحْضَارِه إنْ حُكِمَ بِهِ، لَا إنْ أثبت عُدْمَهُ أوْ مَوْتَهُ في غيبتِهِ ولَوْ بِغَيْرِ بَلدِهِ، ورَجَعَ بِهِ وبالطلَب وَإنْ في قِصَاصٍ؛ كَأنَا حَمِيلٌ بِطَلَبِهِ. أو اشْتَرَطَ نَفْيَ الْمالِ، أوْ قَالَ: لَا أضْمَنُ إِلَّا وجْهَهُ، وطَلَبَهُ بِمَا يَقْوى عَلَيْهِ وحَلَفَ: مَا قَصَّرَ. وَغَرمَ إنْ فَرَّطَ أوْ هَرَّبَهُ، وعُوقِبَ، وحُمِلَ في مُطْلَقِ: أنَا حَمِيلٌ. أو زَعيمٌ، وأذِينٌ. وقَبِيلٌ. وعندي. وإِلَيَّ، وشِبْهِهِ، عَلى الْمَالِ عَلى الأرْجَح والأظْهَرِ، لَا إنْ اخْتَلَفَا، ولَمْ يَجبْ وكيلٌ لِلْخُصُومَةِ ولَا كِفيلٌ لِلْوَجْهِ بِالدَّعْوَى إلَّا بِشَاهِدٍ. وإنْ ادَّعَى بينَةً بِكالسُّوقِ أوْقَفَهُ الْقَاضِي عِندَه.
(1)
وقوله: وصح بالوجه ألخ، تقدم ذكر الحديث الذىِ ذكره البخاري تعليقًا عن حمزة ابن عمر الأسلمي في كفالة الوجه.
وقال القرطبي في تفسيره: وقد اختلف العُلماء فيمن بالنفس أو بالوجه، هل يلزمه ضمان المال أم لا؟. فقال الكوفيون: من تكفل بنفس رجل لم يلزمه الحق الذي على المطلوب إن مات. وهو أحد قولي الشافعي في المشهور عنه.
وقال مالك، والليث، والأوزاعي: إذا تكفل بنفسه، وعليه مال، فإنه إن لم يأت به غرم المال، ويرجع به طى المطلوب، فإن اشترط ضمان وجهه أو نفسه وقال: لا أضمن المال. فلا شيء عليه من المال.
قلت: ولهذا قال المصنف مشبهًا على مسائل عدم مطالبة الحميل بالمال، قال: كأنا حميل بطلبه، أو اشترط نفي المال، أو قال: لا أضمن إلا وجهه. ألخ.
قال القرطبي: والحجة لمن أوجب غرم المال أن الكفيل قد علم أن المكفول وجهه لا يطالب بدم، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وإنما يطالب بمال، فإذا ضمنه له ولم يأت به فكأنه فوته عليه، فلذلك لزمه المال. اهـ. منه.
وقول المصنف قبلُ: وعن الميِّت المفلس، دليله ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة فقالوا: يا نبي الله، صلّ عليها. قال:"هَلْ تَرَكَ مِنْ شَيْءٍ"؟ قالوا: لا. قال: "هَلْ تَرَكَ مِنْ دَيْنٍ"؟ قالوا: لا. فصلى عليه. ثم أتي بجنازة فقالوا: يا نبي اللهُ، صلّ عليها. قال:"هَلْ تَرَكَ مِنْ دَيْنٍ"؟ قالوا: نعم، أو قالوا: لا، قال:"هَلْ تَرَكَ مِنْ شَيْءٍ"؟ قالوا: ثلالة دنانير. قال: "ثَلَاثُ كَيَّاتٍ" قال هكذا بيده. ثم أتي بجنازة أخرى فقيل: يا نبي الله، صلَّ عليها. قال:"هَلْ تَرَكَ مِنْ ديْنٍ"؟ قالوا: نعم. قال: "هَلْ تَرَكَ مِنْ شَيْءٍ"؟ قالوا: لا. قال: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ". قال أبو قتادة: يا نبي الله، على دينه. قال: فصلى عليه، قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح مختصرًا عن أبي عاصم.
وعن أبي سعيد الخدري، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة ليصلي عليها، فتقدم ليصلي، فالتفت إلينا فقال:"هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ"؟ قالوا: نعم. قال: "هَلْ تَرَكَ لَهُ مِنْ وَفَاءٍ"؟ قالوا: لا. قال: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ". قال علي بن أبي طالب: عليَّ دينه يا رسول اللهُ، فتقدم فصلى عليه. فقال:"جَزَاكَ اللهُ يَا عَليٍّ خَيْرًا كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ فَكَّ رِهَانَ أَخِيهِ إِلَّا فَكَّ اللهُ رِهَانَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". كذا أخرجه البغوي في السنة. وقال شعيب: في سنده عطية العوفي وهو ضعيف. وأخرجه الدَّارقُطْنِي والبيهقي بأسانيد ضعيفة.
تنبيهٌ: الكفالة لا تكون إلا في الحقوق التي يجوز النيابة فيها. مما يتعلق بالذمة من الأموال، وكان ثابتًا مستقرًا.
وأما كل حق لا يقوم به أحد عن أحد كالحدود، فلا كفالة فيه، فيسجن المدعى عليه الحد حتى ينظر في أمره، اهـ. من القرطبي.
تنبيهٌ: اختلف العُلماء إذا تكفل رجل عن رجل بمال، هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما؛. فقال الثوري، والكوفيون، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: يأخذ من شاء منهما حتى يستوفي حقه. وقد قال مالك بهذا القول ثم رجع عنه فقال: لا يؤخذ الكفيل إلا أن يفلس الغريم أو يغيب؛ لأن التبدية بالذي عليه الحق أوْلى، إلَّا أن يكون معدمًا فإنه يؤخذ من الحميل. قال القرطبي: والقياس أن للرجل أن يأخذ من أي الرجلين شاء. اهـ. منه والله الموفق.
كتاب الشركة
بَابٌ: الشَّرِكَةُ إذْنٌ في التَّصَرُّفِ لَهُمَا مَعَ أنْفُسِهِمَا (1) وَإنَّمَا تَصِحُّ مِنْ أَهْلِ التَّوْكيلِ والتَّوكُّلِ (2)، ولَزِمَتْ بِمَا يَدُلُّ عُرْفًا، كاشْتَركْنَا (3) بِذهَبَيْن أوْ وَرِقَيْنِ اتّفَقَ صَرْفُهُمَا (4) وبِهِمَا مِنْهُمَا، وبِعَيْنٍ وبِعَرْضٍ (5) وبِعَرْضَيْن مُطْلقًا وكُلٌّ بِالقِيمَةِ يَوْمَ أُحْضِرَ، لَا فَاتَ (6) إنْ صَحَّتْ إِنْ خَلطَا ولَوْ حُكْمًا وإلَّا فَالتَّالِفُ مِنْ رَبِّهِ (7) وما ابْتيعَ بِغَيْرِهِ فَبَيْنَهُمَا وَعَلى المُتْلَفِ نِصْفُ الثَّمَنِ، وَهَلْ إلَّا أنْ يَعْلَمَ بِالتَّلَفِ فَلَهُ وعَليْه أوْ مُطْلَقًا إلَّا أنْ يَدَّعِيَ الأَخْذَ لَهُ؟ تَردُّدٌ. ولَوْ غَابَ نَقْدُ أحَدهِمَا إنْ لَمْ يَبْعُدْ وَلَمْ يُتَّجَرْ لِحُضورِهِ، لا بذهَبٍ وبوَرِقٍ وبِطَعَامَيْنِ وَلَوْ اتَّفَقَا ثُمَّ إنْ أَطْلَقَا التَّصَرُّفَ وإنْ بِنَوْعٍ فَمُفَاوَضَةٌ (8)، وَلا يُفْسِذهَا انْفِرَادُ أحَدِهِمَا بِشَيْءٍ، وَلَهُ أنْ يَتَبرَّعَ إن اسْتَألَفَ بِهِ أوْ خَفَّ كإعَارَةِ آلَةٍ وَدَفْعِ كِسْرَةٍ، ويُبْضِعَ ويُقَارِضَ ويُودِعَ لِعُذْرٍ، وَإلَّا ضَمِنَ، ويُشَاركَ فيِ مُعَيَّنٍ، ويُقِيلَ ويُوَلِّيَ، وَيْقبَلَ المَعِيبَ وإنْ أَبَى الآخَرُ، ويُقِرَّ بِدَيْنٍ لمَنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ، ويَبيعَ بِالدَّيْنِ، لا الشِّرَاءُ بِهِ كِكِتَابَةٍ وعِتْقٍ عَلى مَالٍ وَإذْنٌ لِعَبد في تجارَةٍ أوْ مُفَاوَضَةٍ، واسْتَبَدَّ آخِذ قِراضٍ وَمُسْتَعِيرُ دَابَّةٍ بلا إذْنٍ، وإِنْ للشِّرْكَةِ.
كتابُ الشّركَةِ
قال ابن قدامة في المغني: الشركة هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف. وهي ثابتة بالكتاب، والسنة، والإِجماع.
أما الكتاب: فقول الله سبحانه وتعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}
(1)
، وقال الله تعالى في سورة ص:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} "
(2)
. قال: والخلطاء هم الشركاء.
(1)
سورة النساء 12.
(2)
سورة ص 24. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأمَّا السنة: فقد روي أن البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما:"أنَّ مَا كَانَ بِنَقْدٍ فَأَجِيزُوهُ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فرُدُّوهُ". قال المجد في المنتقى: رواه أحمد والبخاري بمعناه. وعن أبي هريرة يرفعه، قال:"إنَّ الله يَقُولُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجتُ مِنْ بَيْنِهِمَا". رواه أبو داود.
ولأبي داود، وابن ماجه أَنَّ السائب المخزومي كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فجاء يوم الفتح فقال:"مَرْحَبًا بِأَخِي وَشَرِيكِي لا تُدَارِي وَلَا تُمَارِي".
وروى أبو داود، والنسائي وابن ماجه. عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء.
وقال الشوكاني في ضبط كلمة الشركة: بكسر الشين وسكون الراء. وحكي فتح الشين وكسر الراء. وذكر صاحب الفتح فيها أربع لغات: فتح الشين وكسر الراء، وكسر الشين وسكون الراء، وقد تحذف الهاء، وقد يفتح أوله مع ذلك. ا. هـ. منه.
قال ابن قدامة: وأجمع المسلمون على جواز الشركة في الجملة، وإنما اختلفوا في أنواع منها نبينها إن شاء الله تعالى.
قال: والشركة على ضربين: شركة أملاك، وشركة عقود. وهذا الباب لشركة العقود وهي خمسة أنواع: شركة العنان، والأبدان، والوجوه، والمضاربة، والمفاوضة، ولا يصح من جميعها شيء إلا من جائز التصرف؛ لأنه عقد على التصرف في المال، فلم يصح من غير جائز التصرف في المال كالبيع.
(1)
وقول المؤلف: الشركة إذن في التصرف لهما مع أنفسهما، يعني أن الشركة هي إذن كل واحد مِن الشريكين لصاحبه في التصرف في ماله أو ببدنه لهما -أي له ولشريكه- أي أن يتصرف له ولشريكه مع أنفسهما أي مع تصرفهما أنفسهما أيضًا.
(2)
وقوله: وإنما تصح من أهل التوكيل والتوكل، قال المواق: ابن شاس: من أركانها العاقدان ولا يشترط فيهما إلَّا الأهلية للتوكيل والتوكل بان يكون كل واحد منهما متصرفًا لنفسه ولصاحبه بإذنه، اهـ. منه بتصرف. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تنبيهٌ: أجاز مالك أن يشترك الذمي والمسلم بشرط أن لا يغيب الذمي على بيع ولا شراء.
وهو مذهب الإمام أحمد، قال ابن قدامة: قال أحمد: يشارك اليهودي والنصراني، ولكن لا يخلو اليهودي والنصراني بالمال دونه، ويكون هو الذي يليه، لأنه يعمل بالربا، وبهذا قال الحسن والثوري. استدل ابن قدامة لذلك بما رواه الخلال بإسناده عن عطاء قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشاركة اليهودي والنصراني إلَّا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم. اهـ. منه.
تنبيهٌ: في الحطاب ما نصه: وتجوز الشركة بين النساء، وبينهن وبين الرجال. قال اللخمي: يريد، إن كانت (المرأة) متجالة أو شابة ولا تباشره في التجارة، لأن كثرة محادثة الشابة للرجل يتقى منها الفتنة، فإن كانت بينهما واسطة فلا بأس. المتيطي عن ابن الهندي: وإنما تجوز بين المرأة والرجل إذا كانا صالحين مشهورين بالخير والدين والفضل والَّا فلا. انتهى، قال أبو الحسن: أو مع ذي محرم. اهـ. منه بتصرف قليل.
(3)
وقوله: ولزمت بما يدل عرفًا؛ كاشتركنا. قال المواق بالعزو لابن شاس: من أركانها الصيغة الدالة على الإذن في التصرف، أو ما يقوم مقامها في الدلالة على ذلك، ويكفي قولهما: اشتركنا. إذا كان يفهم منه المقصود عرفًا. وقال ابن رشد: مذهب ابن القاسم وروايته في المدونة أنها تنعقد باللفظ.
قال الحطاب: يعني أن حكم الشركة ابتداءً الجواز، فإذا انعقدت لزمت. قال ابن عرفة: وحكمها الجواز كجزأيها البيع والوكالهَ، وعروض ما يوجبها بعيد بخلاف مرجب حرمتها وكراهتها. اهـ. منه.
وذكر في المقدمات أنها من العقرد الجائزة لكل منهما أن ينفصل عن صاحبه متى شاء، ولهذه العلة لم تجز إلَّا على التكافؤ والاعتدال؛ لأنه إنْ فضل أحدهما صاحبه فيما يخرجه، فإنما يسمح له بذلك رجاء بقائه معه على الشركة فصار غررًا. اهـ. وقال في التوضيح: قال في المقدمات: هي من العقود الجائزة لكل واحد أن ينفصل متى شاء، إلا الشركة في الزروع ففي لزومها خلاف. انتهى من الحطاب باختصار.
(4)
وقوله: بذهبين أو ورقين اتفق صرفهما، قال الحطاب: أركان الشركة أربعة: العاقدان، والصيغة، والمحل، فلما ذكر الثلاثة الأول أتبعها بالرابع وهو المال أو العمل، فبدأ بالمال فقال: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بذهبين أو ورِقين اتفق صرفهما، قال المواق: قال ابن القاسم: تجوز الشركة بالعين؛ مثل أن يخرجا دنانير ودنانير، أو دراهم ودراهم متفقة النفاق والعين، وأما إن أخرج أحدهما دنانير والآخر دراهم فإنه لا يجوز، وإن باع نصف ذهبه بنصف فضة صاحبه، قيل: ما الفرق بينهما؟ قال: لأن هذا صرف مع شركة والأول ليس فيه صرف. اهـ. منه.
(5)
وقوله: وبعين وبعرْض، قال الحطاب: يريد ولو كان العرض طعامًا، قال في المدونة: وتجوز الشركة بطعام ودراهم، أو بعين وعرض على ما ذكرنا من القيم، وبقدر ذلك يكون الربح والعمل. اهـ.
(6)
وقوله: وكل بالقيمه يوم أحضر لا فات، قال الحطاب: هو راجع إلى مسألة العرضين وإلى مسألة اعين والعرض كما تقدم عن المدونة، والمعنى: وكل من أخرج عرضًا فهو شريك بقيمته يوم أحضر. وقال ابن غازي: هذه العبارة توهم أن المعتبر في الفاسدة القيمة يوم الفوت، وعبارة ابن الحاجب أبين منها إذ قال: فلو وقعت فاسدة فرأس ماله ما بيع به عرضه. اهـ. منه.
(7)
وقوله: إن خلطا ولو حكمًا وإلا فالتالف من ربه، يريد به أن الخلط شرط في الضمان.
قال الرجراجي: ذهب ابن القاسم إلى أن الخلط ضرط في الانعقاد في التوى -أي في الْهَلَاكِ- لَا في النماء لأنه قال: ما اشتراه أحدهما بماله قبل الْخَلْطِ فهُو بينَفمَا، وما ضَاعَ فهو من صاحبه. انتهى. وقال ابن عرفة: وفي شرط ثبوتِ لازمها، وهو ضمان المشترك منهما بالخلط الحكمي فضلًا عن الحسي أو بالحسي قولًا ابن القاسم وغيره فيها، والحكمي كون المالين في حوز واحد ولو عند أحدهما، اهـ. والله أعلم - من الحطاب.
(8)
وقوله: ثم إن أطلقا التصرف وإن بنوع فمفاوضة، هذا تعريف منه للمفاوضة؛ وهي نوع من أنواع الشركة. قال ابن قدامة في المغني: وهي خمسة أنواع: شركة العنان، وشركة الأبدان، وشركة الوجوه، والمضاربة، والمفاوضة. وقد تقدم قوله هذا قريبًا، ومراد المصنف أن شركة المفاوضة هي أن يجعل كل واحد من الشريكين لصاحبه مطلق التصرف في غيبته وحضوره؛ في بيع وشراء وكراء واكتراء وغير ذلك مما تحتاج إليه التجارة، سواء كان ذلك الإطلاق في جميع أنواع التجارة أو في نوع واحد كالبز مثلًا، فإن الشركة تسمى حينئذ مفاوضة - بفتح الواو وهي أي المفاوضة، لا يفسدها انفراد أحدهما أو =
ومُتَّجِرٌ بِوَدِيعَةٍ بِالرِّبْحِ والْخُسْرِ إلَّا أنْ يَعْلَمَ شرِيكُهُ بِتَعَدِّيهِ في الْوَدِيعة، وكُلٌّ وَكيلٌ فَيُرَدُّ عَلى حَاضِرٍ لَمْ يَتَوَلَّ كالْغَائِب إنْ بَعُدتْ غيْبَتُهُ وإلَّا انْتُظِرَ، والرِّبْحُ والخُسْرُ بِقَدْرِ المالَيْنِ (1)، وتَفْسُدُ بشِرْطَ التَّفَاوُتِ، وَلِكُلٍّ أجْرُ عَمَلهِ لِلآخرِ، وَلَهُ التَّبرُّعُ والسَّلَفُ والْهِبَةُ بِعْدَ الْعَقْدِ، وَالقَوْلُ لِمُدَّعِي التَّلَفِ وَالخُسْرِ، ولآخِذِ لائق لَهُ، ولمدَّعي النِّصْفِ وَحُمِلَ عَلَيْهِ في تَنَازعِهِمَا، وللاشْتِرَاك فِيمَا بِيَدِ أحَدِهما إلَّا لبَيِّنَةٍ عَلى كإرْثِهِ، وَإنْ قَالتْ: لَا نَعْلَمُ تَقَدُّمَهُ لَهَا. إِنْ شُهِدَ بالمُفَاوضَةِ وَلَوْ لَمْ يُشْهَدْ بالإِقْرار بهَا على الأصَحِّ، ولِمُقيمِ بِيِّنَةٍ بأخْذِ مائة أنَّهَا باقِيَةٌ إِنْ أَشْهَدَ بِهَا عِنْدَ الأخْذِ أوْ قَصُرَتْ المُدَّة، كدَفْعِ صَدَاقٍ عَنْهُ في أنَّهُ مِنَ المُفَاوضَةِ إلَّا أن يَطُولَ كَسَنَةٍ، وإلَّا بِبَيِّنَةٍ عَلى كَإِرْثِهِ، وإنْ قَالتْ: لَا نَعْلَمُ، وإنْ أقَرَّ واحدٌ بَعْدَ تَفَرُّقٍ أو مَوْتٍ، فَهُو شَاهِدٌ في غَيْرِ نَصِيبه، وأُلْغِيَتْ نَفَقَتُهُمَا
= كل واحد منهما بشيء من المال غير مال الشركة إذا تساويا في عمل الشركة. قال المواق عزوًا لابن رشد: شركة الأموال ثلاثة: مفاوضة ومضاربة وعنان؛ فالمفاوضة أن يجيز كل واحد منهما على صاحبه.
وسميت مفاوضة لاستوائهما في الربح والضمان، وشروعهما في الأخذ والعطاء. ا. هـ. منه.
ويعرف الحنابلة المفاوضة بأنها نوعان:
أحدهما: أن يشتركا في جميع أنواع الشركة؛ كان يجمعا بين شركة العنان والوجوه والأبدان، فيصح ذلك، لأن كل نوع يصح على انفراده، فيصح مع غيره.
والثاني: أن يدخلا في اشتراكهما الاشتراك فيما يحصل لكل واحد منهما من ميراث، أو ركاز، أو لقطة، وأن كل واحد منهم يلزمه ما يلزم الآخر من أرش جناية وضمان غصب، وقيمة متلف، وغرامة ضمان، أو كفالة، فهذا فاسد.
قال ابن قدامة: وبهذا قال الشافعي، وأجازه الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة. قال: وحكي ذلك عن مالك.
قلت: وقد تقدم لك تفسير المفاوضة عند أصحابنا، فلا تلتفت إلى غيره.
(1)
وقوله: والربح والخسر بقدر المالين، وتفسد بشرط التفاوت، يريد به، والله أعلم، أن الربح =
وكِسْوَتُهُمَا وَإنْ بِبَلدَيْنِ مُختَلِفي السِّعْرِ، كعِيالِهِمَا إنْ تَقَارَبَا وإلَّا حَسَبَا، كَانْفِرادِ أحَدِهِمَا بهِ، وَإِنْ اشْتَرى جَاريَة لِنَفْسِهِ فلِلآخَر رَدُّهَا إلَّا لِلْوَطْءِ بإِذْنِهِ، وَإِنْ وَطئ جَارِيَةً لِلشَّرِكَةِ بإذْنِهِ أوْ بِغَيْرِ إذْنِه وحَمَلَتْ قُوِّمَتْ وإلَّا فَلِلآخَرِ إبْقَاؤُهَا أو تَقْويمُهَا، وَإنْ اشْتَرَطَا نَفْيَ الاسْتِبْدَادِ فَعِنَانٌ (1).
= والخسر في مال الشركة -وكذا العمل بها- يفض على الشريكين بقدر المالين من تساوٍ وتفاوت إن شرطا ذلك، أو سكتا عنه، وأن الشركة تفسد بشرط التفاوت في ذلك، ويفسخ العقد إذا اطلع عليه قبل العمل.
وقال الخرقي: والربح على ما اصطلحا عليه. قال ابن قدامة: يعني في جميع أقسام الشركة، ولا خلاف في ذلك في المضاربة المحضة. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو ما يجمعان عليه، بعد أن يكون ذلك معلومًا، جزءً من أجزاء.
قال: وأما شركة العنان، وهو أن يشترك بدنان بماليهما، فيجوز أن يجعلا الربح على قدر المالين، ويجوز أن يتساويا مع تفاضلهما في المال، وأن يتفاضلا فيه مع تساويهما في المال. وبهذا قال أبو حنيفة.
قال: وقال مالك والشافعي: من شرط صحتها كون الربح والخسران على قدر المالين؛ لأن الربح في هذه الشركة تبع للمال، اهـ. منه.
وفي المواق عند قول خليل: إن لم يبعد ويتجر لحضوره، ما نصه: قال في كتاب ابن المواز: وإن أخرج هذا مائتين وهذا مائة على أن الربح والعمل بينهما بقدر المالين، فاشتريا سلعة بأربعمائة ونقدا الثلاثمائة فالربح بينهما على الثلث والثلثين، ولو شرطا بينهما الربح سوية فسدت الشركة ورجع القليل المال على الآخر بفضل عمله. وقال ابن القاسم: وإذا اشترك ثلاثة، لأحدهم عشرة وللآخر خمسة، والثالث لا مال له، على أن الربح بينهم أثلاثًا، فربحوا أو خسروا، فهذا فاسد، والربح والوضيعة على صاحبي المال على الثلث والثلثين، وللذي لا مال له أجر عمله، وللقليل المال أجر ما عمل في الخمسة الفاضلة، ا هـ. منه.
(1)
وقوله: وإنْ اشْتَرطا نفي الاستبداد فعِنان، هو تعريف منه رحمه الله لما يسمى شركة العنان عند =
وَجَازَ لِذِي طَيْرٍ وَذىِ طَيْرَة أنْ يتَّفِقَا عَلى الشِّرِكَةِ في الْفِرَاخِ، واشْتَرِ لي وَلَكَ فَوَكالَةٌ، وَجَازَ. وانْقُدْ عَنِّي، إِنْ لَمْ يَقُلْ: وأبيعُهَا لَكَ، ولَيْسَ لَهُ حَبْسُهَا إلَّا أن يَقُولَ: وَاحْبسْهَا. فَكالرَّهْنِ، وإن أسْلَفَ غَيْرَ المُشْتَرِي جَازَ إِلَّا لِكَبَصِيرَةِ المُشْتَرِي، وأُجْبِرَ عَلَيْهَا إنْ اشْتَرى شَيْئًا بِسُوقِهِ، لا كَسَفْرٍ وقِنْيَةٍ، وغَيْرُهُ حَاضِرٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ مِنْ تُجَّارِهِ، وَهَلْ وفي الزُّقَاقِ لا كبَيْتِهِ؟ قَوْلَانِ.
= أصحابنا، فهي الشركة التي يشترط فيها أنه لا يتصرف فيها واحد من الشريكين أو الشركاء إلَّا بحضرة صاحبه وموافقته على ذلك. قال المواق هنا عزوًا لابن رشد: من أقسام الشركة في الأموال شركة العنان؛ وهي الشركة في شيء خاص كأنه عنَّ لهما أمر، أي عرض لهما فاشتركا فيه، وهذه الشركة جائزة بإجماع لجميع الناس إذا اتفقوا عليها ورضوا بها، وهي لازمة لأهل الأسواق فيما اشروه للتجارة على غير المزايدة. ا هـ. منه.
وفي الحطاب: قالب ابن عرفة قال عياض: عنان ضبطناه بكسر العين وهو المعروف، وفي بعض كتب اللغة فتحها ولم أره. اهـ. قال: ونص ابن الحاجب، فإن شرطا نفي الاستبداد لزم، وتسمى شركة العنان. قال ابن عبد السلام، يعني أن كل واحد من الشريكين يجوز تصرفه في مال الشركة في حضرة صاحبه ومع غيبته؛ فلو شرط أنه لا يتصرف واحد منهما إلا بحضرة صاحبه وموافقته على ذلك - وهو معنى نفي الاستبداد - لزم الرط وتسمى شركة العنان. اهـ. منه.
والعنان في مذهب أحمد، أن يشترك بدنان بماليهما.
قال ابن قدامة: ومعناها أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيهما بابدانهما والربح بينهما. قال: وهي جائزة بالإِجماع. قاله ابن المنذر، وإنما اختلف في بعض شروطها، واختلف في علة تسميتها شركة العنان، فقيل: سميت بذلك لأنهما يتساويان في المال والتصرف؛ كالفارسين إذا سوَّيا فرسيهما وتساويا في السير، فإن عنانيهما يكونان سواء. وقال الفراء: هي مشتقة من عنَّ الشيء إذا عرض، يقال: عنَّت لي حاجة لا إذا عرضت، فسميت الشركة بذلك، لأن كل واحد منهما عنَّ له أن يشارك صاحبه. اهـ. من المغني.
وجَازَتْ بِالْعَمَل (1) إن اتَّحَدَ أوْ تلَازَمَ وتَسَاوَيا فِيهِ أوْ تَقَارَبَا وحَصَل التَّعَاوُنُ وإِنْ بمكَانَيْنِ. وفي جَوَازِ إِخْراجِ كُلٍّ آلَةً واسْتِئجَارِهِ مِنَ الآخَرِ، أوْ لَابُدّ مِنْ مِلْكٍ أَوْ كِرَاءٍ؟ تَأويلانِ؛ كَطَبيبيْنِ اشْتَركا في الدَّوَاءِ، وصَائديْنِ في البَازَيْنِ. وَهَلْ وَإنْ افْتَرقَا؛ رُويَتْ عَليْهِمَا، وَحَافِريْنِ بِكَرِكَازٍ وَمَعْدِنٍ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ وَارِثُهُ بَقيَّتَهُ وَأَقْطَعَهُ الإِمَامُ، وَقُيِّدَ بِمَا لَمْ يَبْدُ، ولَزِمَه ما يَقْبَلُهُ صَاحِبُهُ وضَمَانُهُ وإنْ تَفَاصَلَا، وأُلْغِيَ قَرضُ كيوْمَيْنِ وَغَيْبَتُهُمَا لَا إِنْ كثُرَ، وفَسَدَتْ باشْتِراطِهِ ككثير الآلَةِ. وَهَلْ يُلْغَى الْيَوْمَانِ كَالصَّحِيحةِ؛ تَرَدُّدٌ. وباشْتِراكِهِمَا بِالذِّمَم إِنِ اشْتَرَيا بلا مَال وَهُوَ بَيْنَهُمَا (2)، وَكبَيْعِ وجيهٍ مَالَ خَامِلٍ بِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ (3)، وكذِي رَحىً وَذِي بَيْتٍ وذي دَابَّةٍ لِيَعْمَلُوا إنْ لَمْ يَتَسَاوَ الكِرَاءُ، وتَسَاوَوْا في الغَلَّةِ وتَرادُّوا الأكْرِيَةَ، وإنْ اشْتُرِطَ عَمَلُ رَبِّ الدَّابَّةِ، فَالْغَلَّةُ لَهُ وَعَلَيْهِ كِرَاؤُهُمَا.
(1)
وقوله: وجازت بالعمل ألخ. قال المواق هنا عزوًا للمدونة: قال مالك: لا تجوز الشركة إلَّا بالأموال أو على عمل الأبدان إذا كانت صنعة واحدة. اهـ. منه.
وقال الحطاب: قوله ان اتحدا أو تلازما، يريد والله أعلم، أن تكون صنعة أحدهما لا تنفق إلا بنفاق الأخرى. اهـ. منه.
(2)
وقوله: وباشتراكهما بالذمم إن اشتريا بلا مال وهو بينهما، هذه شركة الوجوه، وهي فاسدة عند أصحابنا، وفسرها بأن يشتريا بلا مال؛ يعني أن يدخلا على أن يبيعا ويشتريا على ذمتهما، فما اشتراه أحدهما كان في ذمتهما معًا، قال في كتاب الشركة من المدونة: ولا تجوز الشركة إلا بالأموال، وعلى عمل الأبدان إذا كانت صنعة واحدة، فاما بالذمم بغير مال على أن يضمنا ما ابتاع كل واحد منهما فلا يجوز، كانا في بلد واحد أو بلدين، يجهز كل واحد منهما على صاحبه. قال: كذلك إن اشتركا بمال قليل على أن يتداينا لأن كل واحد يقول لصاحبه: تحمل عني بنصف ما اشتريت، على أن أتحمل عنك بنصف ما اشتريت. =
وَقُضِيَ عَلى شريكٍ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ أنْ يُعَمِّرَ أوْ يَبِيعَ، كَذِي سُفُلٍ إنْ وَهِيَ، وعَلَيْه التَعْلِيقُ والسَّقْفُ وكَنْسُ مِرْحَاضٍ لَا سُلَّمٌ، وبعَدَمِ زيادَةِ الْعُلُوِّ إلَّا الخَفِيفَ، وبالسَّقْفِ لِلأسْفَل، وبِالدَّابَّةِ لِلرَّاكِب، لَا مُتَعَلِّقٍ بِلِجامٍ. وإنْ أقَامَ أحَدُهُمْ رَحىً إذْ أبَيَا فالْغَلَّةُ لَهُمْ، ويَسْتَوفي مِنْهَا مَا أنْفَقَ، وبالْإِذْنِ في دُخُولِ جَارِهِ لإِصْلَاحِ جِدَارٍ ونَحْوه، وبقِسْمَتِهِ إنْ طُلِبَتْ لا بِطُولِهِ عَرْضًا، وبإعَادَةِ السَّاتِرِ لِغَيْرِهِ إنْ هَدَمَهُ ضَرَرًا، لا لإِصْلَاحٍ أوْ هَدْمٍ. وَبِهَدْم بِنَاءٍ بِطَرِيقٍ وَلَوْ لَمْ يَضُرَّ، وبِجُلوُسِ بَاعَةٍ بأفنِيةِ الدُّور لِلْبَيْعِ إنْ خفَّ، وللسَّابِقِ كمسْجِدٍ، وبِسَدِّ كُوَّةٍ فُتِحَتْ أرِيدَ سَدٌّ خَلْفَهَا، وبِمَنْعِ دُخَانٍ كحمَّامٍ ورَائحَةِ كَدِبَاغٍ وأنْدَر قِبَلَ بَيْتٍ، ومُضِرٍّ بِجِدَارٍ وَاصْطَبْل أوْ حَانُوتٍ قِبَالةَ بَابٍ، وبِقَطْعِ مَا أضَرَّ مِن شَجَرَةٍ بجدَارٍ إنْ تَجَدَّدَتْ، وإلَّا فقَوْلَانِ، لَا مَانِعَ ضَوْءٍ وشَمْسٍ ورِيحٍ إلَّا لأنْدَر وعُلُوِّ بِنَاءٍ وصَوْتِ كَكَمْدٍ، وبَابٍ بِسِكَّةٍ نافِذَةٍ ورَوْشَنٍ وسَابَاطٍ لِمَنْ لَهُ الجانِبَانِ بِسِكَّةٍ نَفَذَتْ وإِلَّا فكَالْمِلْكِ لِجَمِيعِهِمْ، إلَّا بَابًا إنْ نُكِّبَ وصُعُودَ نَخْلَةٍ وأنْذَرَ بِطُلُوعِهِ، ونُدِبَ إعَارَةُ جِدَارِهِ لِغرْزِ خَشَبَةٍ وَإرْفَاقٌ بِمَاءٍ، وفَتْحُ بَابٍ، ولَهُ أنْ يَرْجِعَ، وَفِيهَا إنْ دَفعَ مَا أَنْفَقَ أوْ قِيمَتُهُ، وفي مُوَافَقَتِهِ ومُخَالفَتِهِ تَرَدُّدٌ.
= لكنهما إن اجتمعا في شراء سلعة معينة، حاضرة كانت أو غائبة فيبتاعاها بدين، كان ذلك جائزًا إذا كانا حاضرين؛ لأن العقدة وقعت عليهما معًا، وإن ضمن أحدهما صاحبه جاز أيضًا، اهـ. من الحطاب.
(3)
وقوله: وكبيع وجيه مال خامل بجزء من ربحه، هو تفسير آخر لشركة الذمم المحظورة. قال المواق عزوًا لابن شاس: شركة الوجوه لا تصح؛ وفسرها بعضهم أن يبع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح فيكون له بعضه، وقال أبو محمد: هي أن يشركا في الذمم دون مال ولا صنعة؛ على أن ما اشترياه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يكون في ذمتهما، وربحه بينهما. وكلاهما لا يجوز، اهـ. منه.
ومذهب الإمام أحمد جواز شركة الوجوه. قال ابن قدامة: وأما شركة الوجوه فهي أن يشترك اثنان فيما يشتريان بجاههما وثقة التجار بهما من غير أن يكون لهما رأس مال، على أن ما اشتريا بينهما نصفين، أو أثلاثًا أو أرباعًا، أو نحو ذلك. ويبيعان ذلك، فما قسم الله تعالى كان بينهما. فهي جائزة سواء عين أحدهما لصاحبه ما يشتريه أو قدَّره أو وقَّته أو ذكر صنف المال، أو لم يعين شيئًا من ذلك بل قال: ما اشتريت من شيء فهو بيننا.
قال: وبهذا قال الثوري، ومحمد بن الحُسين، وابن المنذر. وقال أبو حنيفة: لا يصح حتى يذكر الوقت أو المال أو صنفًا من الثياب. وقال مالك والشافعي: يشترط ذكر شرائط الوكالة؛ لأن شرائط الوكالة معتبرة في ذلك تعيّن الجنس، وغيره، اهـ. منه.
تنبيهٌ: من المعلوم أم موضوع هذا الكتاب المبارك هو استجلاب ما يتيسر من أدلة الفروع المالكية، غير أنه لما كانت الركة من أهم الأحكام العاملة اليوم، تحتم عليَّ الدُّخول في تفصيل أنواعها، وان كانت أدلتها لم ترد إلا مجملة، أي على جواز الشركة إجمالًا، وقد تقدمت في أول الباب، وإنما هذه التفاصيل من آراء الفقهاء عليهم رحمة الله، فبينت بعضها احتسابًا، وما لا يدرك كله لا يترك كله، وبالله تعالى التوفيق.
كتاب المزارعة
فَصْلٌ: لِكُلٍّ فَسْخُ الْمُزَارَعَةِ إنْ لَمْ يُبْذَرْ (1)، وصَحَّتْ إن سَلِمَا مِنْ كِرَاء الأرْضِ بِمَمْنُوعٍ (2) وقَابَلَهَا بِمُسَاوٍ وتَسَاوَيَا، إلَّا لِتَبَرُّعٍ بَعْدَ الْعَقْدِ وخَلْطِ بَذْرٍ إنْ كَانَ ولَوْ بإخراجِهِمَا (3)، فإنَ لَمْ يَنْبِتْ بَذْرُ أحَدهِمَا وَعُلِمَ، لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ إنْ غَرَّ وَعَلَيْهِ مِثْلُ نِصْفِ النَّابِتِ، وإلَّا فَعَلَى كُلٍّ نِصْفُ بذْرِ الآخَرِ، والزَّرْعُ بَيْنَهُمَا كأنْ تَسَاوَيَا في الجَمِيعِ (4) أوْ قَابَلَ بَذْرَ أحَدِهِمَا عَمَلٌ أوْ أرْضُهَ، وبذْرُهُ أو بَعْضُهُ إِن لَمْ يَنْقُصْ مَا لِلْعَامِلِ مِن نِسْبَةِ بَذْرِه، أوْ لأحَدِهِمَا الجَمِيعُ إلَّا الْعَمَلَ (5) إنْ عَقَدَا بِلَفْظِ الشًرِكَةِ لَا الإِجَارَةِ، أوْ أطلَقَا كَإلْغاءِ أرْضٍ وَتَسَاوَيَا (6) غَيْرَهَا، أوْ لأحَدِهِمِا أرْضٌ رَخيصَةٌ وعَمَلٌ عَلى الأصَحِّ، وَإنْ فَسَدَتْ وَتكافآ عَمَلًا، فبَيْنَهُمَا، وَتَرَادَا غيْرَهُ وإلَّا فِللْعَامِلِ وعَلَيْهِ الأجْرَةُ، كَانَ لَهُ بَذْرٌ مَعَ عَمَلٍ، أو أرْضٌ أو كل لكلٍّ.
فصل في أحكام الشركة في الزرع
قال القرطبي في تفسيره في الكلام على قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}
(1)
. قال: في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال. قال: ولذلك ضرب الله به المثل فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ".
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول اللُه صلى الله عليه وسلم:"الْتَمِسُوا الرِّزْقَ فِي خَبَايَا الْأَرْضِ". يعني الزرع، أخرجه الترمذي.
(1)
سورة البقرة 261. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلت: ويدخل في ذلك غيره مما يوجد في خبايا الأرض من معدن ونفط وركاز ونحو ذلك. والله أعلم.
قال: وقال صلى الله عليه وسلم في النخل: "هِيَ الراسِخَاتُ فِي الْوَحَلِ الْمُطْعِمَاتُ فِي الْمَحْلِ". وهذا خرج مخرج المدح.
قال: والزراعة من فروض الكفاية؛ فيجب على الإِمام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار. ولقي عبد الله بن المبارك، ابن شهاب الزهري، فقال: دلني على مالٍ أعالجه، فأنشأ يقول:
أقول لعبد الله يوم لقيتُه
…
وقد شدَّ أحلاسَ المطيِّ مشرِّقًا
تتبَّعْ خبايا الأَرْض وادْعُ مليكها
…
لعلَّك يومًا أن تُجابَ فَتُرْزَقَا
فيؤتيك مالًا واسعًا ذا مثابة
…
إذا ما مياهُ الارض غارتْ تدفقا
اهـ. منه.
(1)
قوله: لكل فسخ المزارعة إن لم يبذر، قال الحطاب عزوًا للتوضيح: المزارعة دائرة بين الشركة والإجارة، ولهذا اختلف في لزومها بالعقد، فقيل تلزم به تغليبًا للإجارة. وهو قول سحنون وابن الماجشون، وقول ابن كنانة وابن القاسم في كتاب ابن سحنون. وقيل: لا تلزم تغليبًا للشركة، ولكل واحد أن ينفصل عن صاحبة ما لم يبذر.
قال أصبغ: وقيل لا تلزم إلا بالشروع في العمل. وهو قول ابن كنانة في المبسوط، وبه جرت الفتوى عندنا، في قرطبة، وهو على قياس رواية ابن زياد عن مالك أن الجاعل يلزمه الجعل بشروع المجعول له في العمل. انتهى.
قال ابن عبد السلام: والأقرب عندي أنها شركة حقيقة إلَّا أنها مركبة من شركة الأموال والأعمال.
(2)
وقوله: وصحت إن سلما من كراء الأرض بممنوع ألخ، نسب المواق للمدونة: قال مالك: لا تصلح الشركة في الزرع إلَّا أن يخرجا البذر نصفين، ويتساويا في قيمة أكرية ما يخرجانه بعد ذلك؛ مثل أن يكون لأحدهما الأرض وللآخر البقر، والعمل على أحدهما أو عليهما إذا تساويا والبذر بينهما نصفين. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وإن أخرج أحدهما الأرض والآخر البذر والعمل بينهما، وقيمة البذر وكراء الأرض سواء، لم يجز، لأنه أكرى نصف أرضه بطعام صاحبه - ولو اكتريا الأرض من أجنبي، أو كانت لهما، جاز أن يخرج أحدهما البذر كله والآخر البقر والعمل، وكراء ذلك وقيمة الأرض والبذر سواء، وإذا سلم المتزارعان في قول مالك، من أن تكون الأرض لواحد، والبذر من عند الآخر، جازت الشركة إن تساويا ولم يفضل أحدهما الآخر بشرط في عمل ولا نفقة ولا منفعة. اهـ. منه.
(3)
وقوله: وخلط بذر إن كان ولو بإخراجهما، نسب المواق هنا لسحنون. قال: شرط المزارعة أن يخلطا البذر إن كان منهما. وقال ابن يونس عنه: أو يجمعا الزريعة في بيت واحدة أو يحملاها جميعًا إلى الفدان ويبذر كل واحد فيزرعا واحدة ثم يزرعا الأخرى، فهذا جائز، كما لو جمعاها في بيت، وتصح الشركة. قال بعض القرويين: عند ابن القاسم خلطا أو لم يخلطا الشركة جائزة. اهـ.
(4)
وقوله: كأن تساويا في الجميع، نسب المواق للمتيطي، قال: سنة المزارعة الاعتدال والتساوي في الأرض والبذر والبقر والأداة والعمل كله حتى يصير ما هلك من ذلك في ضمانهما معًا، وهذه غاية الكمال فيها. اهـ.
(5)
وقوله: أو لأحدهما الجميع إلا العمل، في المواق هنا: وسئل ابن رشد ما يقول في رجلين اشتركا في الزراعة على أن يجعل أحدهما الأرض والبذر والبقر ويجعل الآخر العمل، ويكون الربع للعامل؛ فأجاب: إن عقداها بلفظ الشركة جاز اتفاقًا، وإن كان بلفظ الإِجارة، لم يجز اتفاقًا، وإن عرا العقد من اللفظين. أجاز ذلك ابن القاسم ومنعه سحنون. اهـ. منه.
(6)
وقوله: كإلغاء أرض وتساويا. هو تشبيه في عدم الصحة. قال في المدونة: إن أخرج أحدهما أرضًا لها قدر من الكراء، وألغاها صاحبه، واعتدلا فيما بعد ذلك من العمل والبذر، فلا تجوز حتى يعطي شريكه نصف كراء أرضه؛ اهـ. الإِكليل.
قلت: وفي منتقى الأخبار ما نصه: وعن طاوس أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان على الثلث والربع، فهو يعمل بها إلى يومك هذا. رواه ابن ماجة.
قال البخاري: وقال قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلت والربع، وزارع علي رضي الله عنه وسعد بن مالك، وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل علي، وآل عمر؛ قال: وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا. اهـ. نصه.
وقال الشوكاني في الكلام على حديث قيس بن مسلم: هذا الأثر أورده البخاري، ووصله عبد الرزاق، وقوله زارع علي ألخ. أما أثر علي فوصله ابن أبي شيبة. وأما أثر ابن مسعود وأثر سعد بن مالك فقد وصلهما ابن أبي شيبة، وأما أثر عمر بن عبد العزيز فوصله ابن أبي شيبة أيضًا، وأما أثر القاسم بن محمد فقد وصله عبد الرزاق، وأما أثر عروة بن الزبير، فقد وصله ابن أبي شيبة، وأما آثار آل أبي بكر وآل علي وآل عمر فقد وصلها ابن أبي شيبة أيضًا وعبد الرزاق، وأما أثر عمر في معاملة الناس، فوصله ابن أبي شيبة أيضًا والبيهقي، قال: وساق البخاري عن السلف غير هذه الآثار، ولعله أراد بذكرها أن الصحابة لم ينقل عنهم الخلاف في جواز ذلك، خصوصًا أهل المدينة منهم، وقد تمسك بالأحاديث المذكورة في الباب جماعة من السلف. قال الحازمي: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى. وابن شهاب الزهري، ومن أهل الرأي أبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن. قالوا: تجوز المزارعة والمساقاة بجزء من الثمر أو الزرع. قال: وأجابوا عن الأحاديث القاضية بالنهي عن المزارعة بأنها محمولة على التنزيه. وقيل: إنها محمولة على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها معينة. وقال طائفة، منهم طاوس، ووافقهم ابن حزم: لا يجوز كراء الأرض مطلقًا، لا بجزء من الثمر والطعام ولا بذهب ولا بفضة ولا بغير ذلك.
وقال الشافعي وأبو حنيفة وجماعة: يجوز كراء الأرض بكل ما يجوز أن يكون ثمنًا في المبيعات من الذهب والفضة. والعرض والطعام، سواء كان من جنس ما بزرع في الأرض أو غيره، لا بجزء من الخارج منها.
وقد أطلق ابن المنذر أن الصحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة. ونقل ابن بطال اتفاق فقهاء الأمصار عليه، وتمسكوا بما سيأتي من النهي عن المزارعة بجزء من الخارج، وأجابوا عن أحاديث الباب بأن خيبر فتحت عنوة فكان أهلها عبيدًا له صلى الله عليه وسلم فما أخذه من الخارج منها فهو له وما تركه فهو له. وروى الحازمي هذا المذهب عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، ورافع بن خديج، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأسيد بن حضير، وأبي هريرة، ونافع، قال: وإليه ذهب مالك والشافعي، ومن الكوفيين. أبو حنيفة. ا هـ.
وقال مالك إنه يجوز كراء الأرض بغير الطعام والثمر، لا بهما، لئلا يصير من بيع الطعام بالطعام، وحمل النهي على ذلك، قال: هكذا حكى عنه صاحب الفتح. وقال ابن المنذر: ينبغي أن يحمل ما قال مالك على ما إذا كان المكرى به من الطعام جزءً مما يخرج من الأرض المكرية، وأما إذا أكراها بطعام معلوم في ذمة المكتري أو بطعام حاضر يقضيه المالك، فلا مانع من الجواز.
وقال الإِمام أحمد بن حنبل: تجوز إجارة الأرض بجزء من الخارج منها إذا كان البذر من رب الأرض، حكى ذلك عنه الحازمي. اهـ. ملخصًا من نيل الأوطار.
والحاصل أنه وردت أحاديث في النهي عن كراء الأرض وأحاديث ترغب في زراعتها بنفس المالك أو إعارتها، وآثار تدل على جواز كرائها، وقد نقل الشوكاني عن الفتح أنه حكى عن الجمهور أن ما ورد من النهي محمول على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة، لا عن إكرائها مطلقًا حتى بالذهب والورق، قال: ثم اختلف الجمهور في جواز إكرائها بجزء مما يخرج منها، فمن قال بالجواز حمل أحاديث النهي على التنزيه، ومن لم يجز إجارتها بجزء مما يخرج منها قال: النهي عن إكرائها محمول على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها، أو شرط ما ينبت على النهر لصاحب الأرض، لِما في ذلك كله من الغرر والجهالة. انتهى وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الوكالة
بَابٌ: صِحَّةُ الْوَكَالَةِ في قَابِلِ النِّيابَةِ (1) مِنْ عَقْدٍ وفَسْخٍ وَقَبْضِ حَقّ وَعُقُوبَةٍ وحَوَالَةٍ وَإبْرَاءٍ وَإنْ جَهِلَهُ الثَّلَاثَةُ (2) وَحَجٍّ وَوَاحِدٍ في خُصُومَةٍ (3) وَإنْ كَرِهَ خَصْمُهُ، لَا إنْ قَاعَدَ خَصْمَهُ؛ كَثَلَاثٍ إلَّا لِعُذْرٍ، وَحَلَفَ في كَسَفَرٍ وَلَيْسَ لَهُ حِينَئذٍ عزله (4) وَلَا لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ، ولَا الإِقْرارُ إنْ لَّمْ يُفَوَّضْ لَهُ أوْ يَجْعَلْ لَهُ ولِخَصْمِهِ اضْطِرَارُهُ إلَيْهِ. قَالَ: وإنْ قَالَ: أقِر عَنّي بِألْفٍ. فإقْرَارٌ، لَا في كيمِينٍ ومَعْصِيَةٍ كظِهَارٍ بِمَا يَدُل عُرْفًا، لَا بمُجَرَّدِ وَكَّلْتُكَ، بَلْ حَتَّى يُفَوِّضَ فَيمْضِي النّظَرُ إلَّا أنْ يَقُول: وَغَيْرُ النَّظَرِ، إلَّا الطَّلَاقَ وإنْكَاحَ بِكْرِهِ، ويَيْعَ دَارِ سُكناهُ وَعَبْدِهِ أوْ يُعَيِّنَ بِنَصٍّ أوْ قَرِينَةٍ.
كتَابُ الوكالة
الوكالة -بفتح الواو وكسرها- معناها اللغوي هو الحفظ والكافاية والضمان. قال الله تعالى: {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} . الآية، قيل: حافظًا وقيل: كافيًا. وقيل: ضامنًا؛ واصطلاحًا هي نيابة ذي حق كير ذي إمرة ولا عبادة لغيره فيه غير مشروط بموته، كذا عرفها ابن عرفة.
قال القرطبي في التفسير: الوكالة عقد نيابة أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة في ذلك، إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره، أو بترفُّه فيستنيب من يريحه.
وقد استدل أصحابنا على صحتها بآيات، منها هذه الآية، يعني قوله تعالى في سورة الكهف:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}
(1)
.
ومنها: قوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} : الآية، ومنها قوله تعالى:{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا}
(2)
.
(1)
سورة الكهف: 19.
(2)
سورة يوسف: 93.
وَتَخصَّصَ وَتَقَيَّدَ بِالْعُرْفِ فَلَا يَعْدُهُ، إلَّا عَلَى بَيْعٍ فَلَهُ طَلَبُ الثَّمَنَ وَقَبْضُهُ، أوْ اشْتَراءٍ فَلَهُ قَبْضُ المَبِيعِ وَرَدُّ المَعِيبِ إنْ لَّمْ يُعَيِّنْهُ مُوَكِّلُهُ، وَطُولبَ بثَمَنٍ ومُثْمَنٍ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بالْبَراءَةِ كبَعَثَنِي فُلَان لِتَبِيعَهُ لَا لأشْتريَ مِنْكَ، وبالْعُهْدَةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ. وَتَعَيَّنَ في المُطْلَقِ نَقْدُ الْبَلدِ وَلَائِق بِهِ إلَّا أنْ يُسَمِّيَ الثمَنَ، فَتردُّدٌ، وثَمَنُ المِثْلِ وإلَّا خُيِّرَ كَفُلُوسٍ إلَّا مَا شَأنُهُ ذلكَ لِخِفَّتِهِ، كَصَرْفِ ذهَبٍ بِفِضَّةٍ، إلَّا أنْ يَكوُنَ الشَأْنُ، وَكمُخَالَفَتِهِ مُشتَرىً عُيِّنَ أوْ سُوقًا أوْ زَمَانًا، أو بَيْعِهِ بِأقَلَّ أوْ اشْتِرائهِ بأكْثَرَ كَثيرًا إلَّا كدِينارَيْنِ في أرْبَعينَ.
= قال: وأما السنة فأحاديث كثيرة، منها حديث عروة البارقي وقد تقدم في آخر الأنعام.
قلت: ونصه كما أحال عليه: وروى البخاري والدارقطني عن عروة بن أبي الجعد، قال: عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلبٌ فأعطاني دينارًا وقال: "أَيْ عُرْوَةُ، إيتِ الْجَلَبَ فَاشْتَرِ لَنَا شَاةً بِهذَا الدِّينَارِ" فأتيت الجلب فساومت فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أقودهما. أو قال: أسوقهما، فلقيني رجل في الطريق فساومني فبعته إحدى الشاتين بدينار وجئت بالشاة الأخرى وبدينار، فقلت: يا رسول الله، هذه الشاة وهذا ديناركم.
قال: "كَيْفَ صَنعْتَ"؟ فحى ثته الحديث، قال:"اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صفْقَةِ يمِينِهِ" قال: فلقد لقيتُني أقف في كناسة الكوفة فأربح أربعين ألفًا قبل أن أصل إلى أهلي. اهـ. لفظ الدَّارقُطْنِي.
قال: وروى جابرِ بن عبد الله، قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أردت الخروج إلى خيبر. فقال: "إِذَا أَتَيْتَ وكيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا، فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تِرْقَوَته" خرجه أبو داود. وأخرج مالك في الموطإ عن سليمان بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلًا من الأنصار، فزوجاه من ميمونة بنت الحارث وهو بالمدينة قبل أن يخرج، قال المجد في المنتقى: وفيه دليل على أن تزوجه بها سبق إحرامه، وقد خفي على ابن عباس.
قال القرطبي: والأحاديث كئيرة في هذا المعنى، وفي إجماع الأمة على جوازها كفاية.
(1)
قوله: صحة الوكالة في قابل النيابة، نسب المواق هنا لابن شأس قوله: الوكالة نيابة عن الموكل فهي لا تكون إلا فيما تصح فيه النيابة مما يلزم الرجل القيام به لغيره، أويحتاج إليه الرجل لمنفعة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= نفسه. فأما الوكالة فهي: فيما على الرجل القيام به لغيره؛ فكتوكيل الأوصياء والوكلاء المفوض إليهم، من ينوب عنهم، وكاستخلاف الإمام على ما يلزم به القيام من أمور المسلمين، وأما الوكالة فيما يحتاج إليه الرجل لمنفعة نفسه، فذلك كتوكيله على البيع والشراء والنكاح والحدود والخصام وما أشبه ذلك من كل مباح أومندوب إليه، أو واجب تعبد به الإِنسان في غير عينه، لأن ما تعبد به في عينه كالوضوء والصلاة ونحو ذلك لا تصح فيه النيابة، قيل: إلا في صب الماء في الطهارة مطلقًا، وفي الدلك للمرض والعجز. اهـ. منه.
(2)
وقوله: وإبراءٍ وإن جهله الثلاثة، نسب المواق أيضًا لابن شاس قوله: التوكيل بالإِبراء لا يستدعي علم الموكل بمبلغ الدين المبرإ منه، ولا علم الوكيل ولا علم من عليه الحق. اهـ. قال ابن عرفة: هذا كضروري من المذهب، لأنه محض ترك، والترك لا مانعية للغرر فيه كقول المدونة: إن كان لك عليه دراهم نسيت مبلغها، جاز أن قصطلحا على ما شئتما. اهـ. منه.
(3)
وقوله: وواحد في خصومة الخ. نسب المواق للمتيطي: لا يجوز لرجل ولا امرأة أن يوكلا في الخصام أكثر من وكيل واحد، ولا يجوز توكيل وكيلين، وإذا أراد الرجل التوكيل جاز له ذلك، طالبًا كان أو مطلوبًا، هذا هو القول المشهور الذي جرى به العمل. وإن خاصم الرجل عن نفسه وقاعد خصمه ثلاث مجال وانعقدت المقالات بينهما لم يكن له بعد ذلك أن يوكل خصمًا يتكلم عنه إذا منعه صاحبه من ذلك إلا أن يمرض أو يريد السفر، قال: ولا يمنع الخصمان من السفر ولا من أراد منهما، ويكون له أن يوكل عند ذلك، قال ابن العطار: وتلزمه حينئذ اليمين أنه ما استعمل السفر ليوكل غيره. فإن نكل منع من التوكيل إلا أن يرضى خصمه. اهـ. منه وبعضه من الحطاب. والله أعلم بدليله.
(4)
وقوله: وليس له حينئذ عزله: نسب المواق هنا لابن رشد قوله: للموكل أن يعزل وكيله عن الوكالة متى شاء إلا أن تكون الوكالة في الخصام، فليس له أن يعزله عن الخصام ويوكل غيره، ولا يخاصم عن نفسه، إذا كان قاعد خصمه المرتين أو الثلاث، إلا من عذر، هذا هو المشهور في المذهب، قال: وفي المكان الذي لا يكون للموكل أن يعزل وكيله عن الخصام، لا يكون له هو أن ينحل عنه إذا كان قبل الوكالة.
تنبيهٌ: قال القرطبي في آية الكهف المتقدمة نكتة بديعة؛ وهي أن الوكالة إنما كانت مع التقية خوفَ =
وصُدِّقَ في دَفْعِهمَا وإنْ سَلَّمَ مَا لَمْ يَطُلْ، وحَيْثُ خَالَفَ في اشتراءٍ لَزِمَهُ إنْ لَمْ يَرْضَهُ مُوَكِّلُهُ كذِي عَيْبٍ إلَّا أنْ يَقِلَّ وَهُوَ فُرْصَة، أوْ في بَيْع فِيُخَيَّرُ مُوَكِّلُهُ ولَوْ رَبويًا بِمِثْلِهِ إنْ لمْ يَلتَزِم الوَكيلُ الزَّائِدَ على الأحْسَنِ لَا إِنْ زَادَ في بَيْعٍ أو نَقَصَ في اشْتِراءٍ، أو: اشْتَر بِهَا. فاشْترى في الذِّمَّةِ ونَقَدَهَا وعَكسُهُ، أوْ شاةً بدينَارٍ فاشْتَرى بِهِ اثنَتَيْنِ لَمْ يُمْكِنْ إفْرَادُهُمَا وإلَّا خُيِّرَ في الثانيةِ (1)، أوْ أخَذَ في سَلَمِكَ حَمِيلًا أوْ رَهْنًا وضَمِنَهُ قَبْلَ عِلْمِكَ بِهِ ورضَاكَ. وفي بذَهَبٍ بدَرَاهِمَ وعَكْسِهِ قَوْلَانِ. وحَنِث بِفِعْلِهِ في: لا أفْعَلُهُ إلا بنيَّةٍ. ومُنعَ ذِمّيٌّ في بَيْعٍ أوْ شراءٍ أوْ تَقَاضٍ، وعَدُوٌ على عَدُوِّهِ، والرِّضَا بِمُخَالفَتهِ في سَلَمٍ إنْ دَفَعَ له الثَّمَنَ وبَيْعُه لِنَفْسِهِ وَمحْجورِهِ بِخلَافِ، زوجَتهِ ورَقيقهِ، لم يُحَابِ، واشتراؤُه مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، إنْ عَلِمَ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ مُوَكَلُهُ وعَتَقَ عَلَيْهِ، وإلّا فَعَلى آمِرِه.
= أن يشعر بهم أحد؛ لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم، قال: وجواز توكيل ذوي العذر متفق عليه. فأما من لا عذر له، فالجمهور على جواز توكيله، خلافًا لأبي حنيفة وسحنون، قال: وأما أهل الدين والصلاح والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحَّاء، والدليل على جواز وصحة الوكالة للحاضر الصحيح هو ما خرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه. فقال "أعْطُوة". فطلبوا له سنه فلم يجدوا إلا سنًا فوقها فقال: "اعْطُوهُ". فقال: أوفيتني، أوفى الله لك. قال النبي صلى الله عليه وسلم "إِن خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً". لفظ البخاري، فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي كانت عليه، وذلك توكيل منه لهم على ذلك، ولم يمن النبي صلى الله عليه وسلم مريضًا ولا مسافرًا، قال: وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما إنه لا بجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضا خصمه قال: وهذا الحديث خلاف قولهما. اهـ. منه.
(1)
وقوله: أو شاة بدينار فاشترى به اثنمَين لم يمكن إفرادهما وإلّا خير في الثانية، هذا رأي ابن = القاسم وهو محجوج بكل من حديثي عروة البارقي المتقدم، وما رواه حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمره =
وتَوْكِيلُهُ إلَّا أنْ لَا يَليقَ بهِ أوْ يَكْثُرَ فَلَا يَنْعَزِلُ الثَّانِي بِعَزْل الأوَّلِ، وفي رِضَاهُ إنْ تَعَدَّى بِهِ تأوِيلانِ، وَرضَاهُ بِمُخالفَتِهِ في سَلَمٍ إنْ دَفَعَ الثَمَنَ بِمُسَمَّاهُ، أوْ بِدَيْنٍ إنْ فَاتَ وبِيعَ، فإنْ وَفَّى بالتَسْمِيَةِ أوْ الْقِيمَةِ، وإلَّا غَرِمِ، وَإنْ سَألَ غُرْمَ التَّسْمِيَةِ أو الْقِيمَةِ وَيَصْبِرْ ليَقْبِضَهَا وَيْدفَعَ الْبَاقِيَ، جَازَ إنْ كانت قِيمَتُهُ مِثْلَهَا فَأقَلَّ وإنْ أمرهُ بِبَيْعِ سِلْعَةٍ فَاسْلَمَهَا في طَعَامٍ أُغْرِمَ التَسْمِيَةَ أوْ القِيمَةَ وَاسْتُؤنيَ بالطعَامِ لِأجَلِهِ فِبيعَ، وَغَرِمَ النَّقْصَ والزِّيادَةُ لَكَ، وَضَمِنَ إنْ أقْبَضَ الذَيْنَ وَلَمْ يُشْهِدْ أوْ بَاعَ بِكطعَامٍ نَقْدًا مَا لَا يُبَاعُ بِهِ، وادَّعَى الإِذْنَ فَنُوزِعَ، أوْ أنْكَرَ الْقَبْضَ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ، فشَهِدَتْ بَيِّنَة بالتَّلَفِ كَالْمِدْيَانِ. ولو قَال غَيْرُ المفوَّضِ: قَبَضْتُ. وَتَلِفَ، بَرئ وَلَمْ يَبْرَإ الْغَرِيمُ إلَّا بِبيِّنَةٍ، ولَزِمَ المُوكَلَ غُرْمُ الثمَنِ إلّاَ أنْ يَصِلَ لِرَبِّهِ إنْ لَمْ يَدْفَعْهُ لَهُ، وصُدَّقَ في الرَّدِّ كَالمُودَعِ، فَلا يؤخَّرُ لِلإِشْهَادِ (1) ولأحَدِ الوَكيلَيْنِ الاسْتِبْدَادُ إلَّا لِشَرْطٍ، وإنْ بِعْتَ وبَاعَ فالأولُ إلا
= أن يشتري له شاة بدينار فاشترى له شاتين بدينار وياع واحدة بدينار، وأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة؛ فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه، قالوا: فلولا أن الشاة المبيعة لازمة له صلى الله عليه وسلم وصارت على ملكه، ما كان ليأخذ ثمنها، ولم يكن ليقره على فعل ذلك - قال المجد في منتقى الأخبار: باب: من وكل في شراء شيء فاشترى بالثمن أكثر منه وتصرف في الزيادة، ثم ساق حديث عروة بن أبي الجعد البارقي الذي تقدم، وقال: رواه أحمد والبخاري وأبو داود - ثم ساق بعد ذلك حديث حكيم بن حزام آنف الذكر.
وقال: رواه الترمذي. وقال لا نعرفه إلى من هذا الوجه. وحبيب بن أبي ثابت لم يسمع عندي من حكيم. ثم قال: ولأبي داود نحوه من حديث أبي حصين عن شيخ من أهل المدينة عن حكيم. اهـ.
وغير خاف أن الحديثين دليل على أنه يجوز للوفيل إذا قال له المالك: اشتر بهذا الدينار شاة وصفها، أن يشتري به شاتين بتلك الصفة، والله الموفق.
(1)
وقوله: وصدق في الرد كالمودع فلا يؤخر للإشهاد، يريد به، والله أعلم، أن الوكيل حيث =
بِقَبْضٍ، ولَكَ قَبْضُ سَلَمِهِ لَكَ إنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ، والْقَوْلُ لَك إنْ ادَّعَى الإِذْنَ أوْ صِفَةً لَهُ، إلَّا أنْ يَشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ فزعَمْتَ أنَّك أمَرْتَهُ بِغَيْرِه وحَلَف؛ كَقوْلهِ: أمَرْتَ بِبَيْعِهِ بِعَشَرَةً وأشْبَهَتْ وَقُلْتَ بأكْثَرَ وفَاتَ المَبيعُ بزوَال عَيْنِهِ أوْ لمْ يَفُتْ ولم تَحْلِفْ، وِإنْ وكَّلْتَهُ عَلى أخْذِ جَارِيَةٍ فَبَعَثَ بِهَا فوُطئتْ ثُمَّ قَدِمَ بِأخْرَى وقَالَ: هذهِ لك، والأولى وَدِيِعَةٌ. فإنْ لمْ يُبيِّنْ وحَلَفَ أخَذَهَا إلَّا أنْ تَفوُتَ بكَوَلَدٍ أوْ تَدبِيرٍ إلَّا لبيِّنَةٍ ولزِمَتْكَ الأخْرَى، وإنْ أمْرتَهُ بِمِائةٍ فَقالَ: أخَذْتُهَا بمائةٍ وخمْسِين، فإد لَمْ تَفُتْ خُيِّرْتَ في أخْذِهَا بِمَا قَالَ وإلَّا لَمْ يلْزَمْكَ إلَّا المائةُ،
= كان، مصدقًا في دعوى رد ما وكل عليه بدون بينة يقيمها. فإنه ليس له تأخير دفع ما وكل عليه حتى يشهد على دفعه.
وقال الحطاب: وكونه -أي الوكيل- مصدقًا في دعوى الرد، ليس ذلك خاصًا به، بل هو عام في كل من كان يصدق في دعواه الرد، من وكيل أو مودع، إذا ادعى إيصال ذلك إلى اليد التي دفعت إليه، سواء كان الدافع حيًا أو ميتًا. اهـ.
وقال المواق: قال ابن عبد السلام: ينبغي أن يكون للوكيل أو المودع مقال في وقف الدفع على البينة، ولو كان القول قولهما في الرد، لأن البينة تسقط عنهما اليمين. اهـ. منه.
تنبيهٌ: قال الحطاب: إنما يصدق الوكيل في رد ما وكل عليه إلى ربه، إذا قبضه بغير إشهاد، وأما ما قبضه بإشهاد فلا يصدق في رده، كما صرح به القاضي عبد الوهاب، والفاكهاني، والزناتي وغيرهم. ا. هـ.
قلت: وما ذكره الحطاب هنا عن القاضي عبد الوهاب وغيره، هو نص المنهج المنتخب للشيخ علي الزقاق، قال:
وكل من صدق في دعوى التلف
…
تقبل دعوى رده مع الحلف
إن لم تكن بينة حين دفع
…
وبعضها فيه خلاف قد سمع
وإنْ رُدَّتْ دَرَاهِمُك لِزيْفٍ، فإنْ عَرَفَهَا مَأمُورُكَ لَزِمَتْكَ، وهَلْ إنْ قبضْتَ؟ تَأويلانِ. وإلَّا فإنْ قَبِلَهَا حَلَفْتَ. وَهَلْ مُطْلَقًا أوْ لِعُدْمِ المأمُورِ، مَا دَفَعْتَ إلَّا جِيَادًا في عِلْمِكَ ولَزِمَتْهُ؟ تَأويلَانِ، وإلَّا حَلَفَ كَذلكَ وحَلَفَ البَائعُ، وفي المُبَدَّإ تأويلان. وانْعَزَل بِمَوْتِ مُوَكِّلِهِ إن عَلمَ وإلَّا فتَأويلَانِ (1). وفي عَزْلِهِ بِعَزْله ولَمْ يَعْلَمْ خِلَافٌ. وَهَلْ لَا تَلْزَمُ أوْ إنْ وَقَعَتْ بأُجْرَةٍ أو جُعْل فَكَهُمَا وَإلَّا لَمْ تَلْزَم؟ تَرَدُّدٌ (2).
= قال شيخنا محمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني في شرح هذين البيتين: يعني أن كل من صدق في دعوى التلف فالقول قوله في رد الشيء إلى ربه مع يمينه، وهذا إذا لم تكن بينة مقصودة للتوثيق حين دفع إليه المال المودع، أو الموكل عليه، أو المقارض به، ونحو ذلك، فلا يصدق حينئذ في الرد، ولكنه يصدق في التلف. ا هـ. منه.
(1)
وقوله: وانعزل بموت موكله إن علم وإلا فتأويلان، قال الحطاب: جعل ابن رشد الخلاف في الموت والعزل سواء، وظاهر كلامه في التوضيح ترجيح القول بعدم العزل قبل بلوغ العلم والموت، وهو الظاهر، وهذا إذا أعلن بالعزل وأشهد عليه، ولم يكن منه تفريط في تأخير إعلامه بذلك، وأما إن عزله سرًا، فإنه لا يتعزل بذلك. قاله ابن رشد في نوازله، اهـ. منه.
(2)
وقوله: وهل لا تلزم أو إن وقعت بأجرة أو جعل فكهما وإلا لم يلزم تردد، نسب المواق هنا لابن عرفة قوله: عقد الوكالة غير لازم للموكل مطلقًا في غير الخصام، والوكيل مخير في قبولها، اهـ. منه.
وهل للوكيل أن يعزل نفسه؟ فالمشهور أن ذلك له إذا لم يكن بأجر، وإن كانت بدون أجر فهي معروف، فيلزمه إذا قبل الوكالة ما التزمه. وللموكل أن يعزله متى شاء، ما لم تكن الوكالة في الخصام، انتهى ملخصًا من المواق.
الاقرار
بَابٌ: يُؤاخَذُ المُكَلَّفُ بلا حَجْرٍ بإقْرَارِهِ (1) لأِهْلٍ لَمْ يُكَذِّبْهُ وَلَمْ يُتَّهَمْ كَالْعَبْدِ في غَيْرِ الْمَالِ (2) وأخْرَسَ ومَرِيضٍ إنْ ورِثَهُ وَلَدٌ لأبْعَدَ أوْ لِمُلَاطِفِهِ (3)، أوْ لِمَنْ لَمْ يَرثْهُ أوْ لمجْهُولٍ حَالُهُ كَزَوْجٍ عُلِمَ بُغْضُهُ لَهَا أوْ جُهلَ، وَوَرِثَهُ ابْنٌ أوْ بَنُونِ، إلَّا أن تَنْفَردَ بالصَّغِير وَمَعَ الإِنَاثِ وَالعَصَبَةِ قَوْلَانِ، كإقْرَارِهِ لِلْوَلَدِ الْعَاقِّ أوْ لأمِّه، أَو لأَنَّ مَن لَمْ يُقَر لَهُ أَبْعَدُ وأقْرَبُ، لا المُسَاوي والأقْرَبِ، كأخِّرْني لِسَنَةٍ وَأنا أقِر وَرجَعَ للخُصُومَةِ وَلَزِمَ لِحَمْلٍ إنْ وُطِئَتْ وَوُضِعَ لأقَلَّهِ وإلَّا فَلأكْثَرِهِ، وسُوِّيَ بَيْن تَوْأمَيْهِ إلَّا لِبيَانِ الْفضْلِ، بِعَلَى أوْ في ذِمَّتِي، أوْ عِنْدِي، أوْ أخَذْتُ مِنْكَ ولو زَادَ إنْ شَاءَ اللهُ أوْ قَضى، أوْ وَهبْتَه لي، أوْ بعْتَهُ، أوْ وفَّيْتُهُ، أوْ أقْرَضْتَنِي، أوْ مَا أقرضْتَني أو أَلَمْ تُقْرِضْنِي، أوْ سَاهِلْني، أو اتَّزِنْهَا مِنِّي، أوْ لأقْضِينَّكَ الْيَوْمَ، أونَعَمْ، أوْبَلى، أوْ أجَلْ جَوابًا لألَيْسَ لي عِنْدَك؟ أوْ لَيْسَتْ لي مَيْسَرَةٌ.
كتاب الإِقرار
في الحطاب أن مادة الإِقرار، والقرار، والقر، والقارورة ونحو ذلك، من السكون والثبوت. لأن الإِقرار يثبت الحق، والمقر أثبت الحق به على نفسه. والقرار: السكون، والقر: البرد، وهو يسكن الدماء والأعضاء.
قال: ومنها قاعدة الإِقرار، والدعوى، والشهادة، كلها إخبارات، والفرق بينها أن الإِخبار إن كان يقتصر حكمه على قائله، فهو إقرار، وإن لم يقتصر: فإمَّا أن لا يكون للمخبر فيه نفع، وهو الشهادة، أو يكون، وهو الدعوى، قال: وقال ابن عرفة: الإِقرار لم يعرفوه وكأنه عندهم بديهي، ومن أنصف لم يدع بداهته، لأن مقتضى حال مدعيها أنه قول يوجب حقًا على قائله، والأظهر أنه نظري فيعرف بأنه خبر يوجب حكم صدقه عى قائله فقط، بلفظه أو لفظ نائبه.
وقال ابن قدامة لي المغني هو الاعتراف. والأصل فه الكتاب والسنة، والإِجماع، أما الكتاب: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} - إلى قوله - قَالَ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا}
(1)
. وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}
(2)
. في آي كثيرة مثل هذا.
وأما السنة: فما روي أن ماعزًا أقر بالزنا، فرجمه رسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك الغامدية وقال صلى الله عليه وسلم:"اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هذَا فَإِنِ اعْتَرفَتْ فَارْجُمْهَا".
وأَما الإِجماع، فإن الأمة أجمعت على صحة الإِقرار. قال: ولأن الإِقرار إخبار على وجه ينفي عنه التهمة والريبة، فإن العاقل لا يكذب على نفسه كذبًا يضر بها، ولهذا كان آكد من الشهادة، فإن المدعى عليه إذا اعترف لا تسمع عليه الشهادة، وإنما تسمع إذا أنكر، ولو كذَّب المدعي بينته لم تسمع، وإن كذب المقر ثم صدَّقه سمع، اهـ.
وقال الصنعاني: الإِقرار لغة الإِثبات. وفي الشرع: إخبار إنسان بما عليه. وهو ضد الجحود.
عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول اللُه صلى الله عليه وسلم: "قُلِ الْحَقَّ وَلَوْ كَانَ مُرَّا". صححة ابن حبان من حديث طويل. قال: وقوله: "قُلِ الْحَقَّ" يشمل قوله على نفسه وعلى غيره، وهو مأخوذ من قوله تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}
(3)
. الآية، وقوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}
(4)
الآية. قال: وفيه دلالة على اعتبار إقرار الإنسان على نفسه في جميع الأمور، وهو أمر عام لجميع الأحكام، لأن قول الحق على النفس هو الإخبار بما عليها مما يلزمها التخلص منه بمال أو بدن أو عِرْضِ. قال: وقوله "وَلَوْ كَانَ مُرًا" من باب التشبيه، لأن الحق قد يصعب إجراؤه على النفس، كما يصعب عليها إساغة المر لمرارته. ويأتي في باب الحدود والقصاص أحاديث في الإقرار. اهـ. منه باختصار.
(1)
قول المصنف: يؤاخذ المكلف بلا حجر بإقراره، دليله، عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول اللُه صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه، حتى ردَّد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أَبِكَ جُنُونٌ"؟ قال: لا. فقال: "هَلْ أحْصِنْتَ"؟ قال: نعم:
(1)
سورة آل عمران: 81.
(2)
سورة التوبة: 102.
(3)
سورة النساء: 135.
(4)
سورة النساء: 171.
لَا أُقِرُّ أوْ عَليَّ أوْ عَلى فُلَانٍ أوْ مِنْ أيِّ ضَرْبٍ تأخُذُهَا. مَا أبْعَدَكَ مِنْهَا، وفي حَتَّى يأتِيَ وَكِيلي وشِبْهِهِ أوْ اتَّزِنْ أوْ خُذْ، قَوْلانِ، كَلَكَ عَليَّ ألْفٌ فِيمَا أعْلَمُ أوْ أظُنُّ أوْ عِلْمي ولَزِمَ إنْ نُوكِرَ في أَلْفٍ مِن ثَمَنِ خَمْرٍ أوْ عَبْدٍ وَلَمْ أقْبِضْهُ، كدَعْوَاهُ الرِّبَا وَأقَامَ بَيِّنَةً أنَّهُ رَابَاهُ في ألْفٍ لَا إِنْ أقَامَهَا عَلى إقْرارِ المدَّعِي أنَّهُ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا إلَاَ الرِّبَا، أوْ اشْتَرَيْتُ خَمْرًا بألْفٍ. أوْ اشْتَرَيْتُ عَبْدًا بألْفٍ ولَمْ أَقْبِضْهُ، أوْ أقْرَرْتُ بِكذَا وأنَا صَبِىٌّ كأنَا مُبَرْسَمٌ إنْ عُلمَ تَقَدُّمُهُ، أوْ أقَرَّ اعْتذَارًا، أوْ بِقَرْضٍ شُكْرًا على الأصَحِّ، وقُبِلَ أجَلُ مِثْلِهِ في بَيْعٍ لَا قَرْضٍ، وتَفْسِيرُ ألْفٍ في كألفِ دِرْهَمٍ وخَاتَمٍ فَصُّهُ لي نَسَقًا إلَاَ في غَصْبٍ فَقَوْلانِ.
= فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ".
وأخرج البيهقي بسنده عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللُه، طهِّرني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وَيْحَكَ، إرْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتبْ إِلَيْهِ". فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول اللهُ، طهِّرني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتبْ إِلَيْهِ". فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يارسول الله، طهِّرني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"مِمَّ أُطَهِّرُكَ"؟ قال من الزنا، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم "أَبِهِ جُنُونٌ"؟ فأخبر أنه ليس به جنون، فقال:"أَشَرِبْتَ خَمْرًا"؟. فقام رجل فاستنكهه فلم يجد فيه ريح خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أَثَيِّبٌ أَنْتَ"؟ لَال: نعم. فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم، اهـ. منه، وسيأتي مزيد من هذا النوع في الحدود إن شاء اللهُ تعالى.
وأخرج البيهقي بسنده عن قتادة عن أنس أن جارية وجد رأسها بين حجرين فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: من فعل بك هذا؟ أَفلان؟ أفلان؟ حتى سمى اليهودي فأومأت برأسها، فبعث إلى اليهودي فجيء به فاعترف قال: فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ رأسُه بين حجرين. قال البيهقي: أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح من حديث همام بن يحيى. وأيضًا فقد تبت عن شريح أنه أقر عنده رجل ثم ذهب ينكر ما =
لا بِجِذْعٍ وَبَابٍ فِيِ لَهُ مِنْ هذِهِ الدَّارِ أو الأرْضِ كَفِي عَلَى الأحْسَنِ، ومالٌ نِصَابٌ، والأحْسَنُ تَفْسيرُهُ كَشَيْءٍ وكذا، وسُجِنَ لَهُ، وكَعَشَرةٍ ونَيِّفٍ، وسَقَطَ في كَمِائةٍ وشيء وَكَذَا دِرْهَمًا عِشْرُونَ، وَكَذا وَكَذا أحَدٌ وعِشْروُنَ، وكَذَا كذا أحَدَ عَشَرَ، وَبِضْعٌ أوْ دَرَاهِمُ ثَلاثَةٌ، وكثيرةٌ أو لا كثيرةٌ وَلا قَلِيلَةٌ أرْبَعَةٌ، ودِرْهمٌ المتَعَارفُ وإلَّا فِالشَّرْعِيُّ، وقُبِلَ غِشُّهُ ونَقْصُهُ إنْ وَصَلَ، ودْرَهمٌ مَعَ دِرْهَمٍ أوْ تَحْتَه أوْ فوْقَهُ أوْ عَلَيْهِ أوْ قبْلَهُ أوَ بَعْدَهُ، أوْ فَدِرْهَمٌ أو ثُمَّ دِرْهَمٌ، دِرْهَمَانِ، وسَقَطَ في لا بل دِرْهَمانِ، وَدِرْهَمٌ دِرْهَمٌ أو بِدِرْهَم، دِرْهَمٌ، وحَلَفَ مَا أرَادَهُمَا، كإشْهَادٍ في ذُكْرٍ بمائَةٍ وفي آخر بمائةٍ وبمائةٍ وبمائتَين الأكْثَرُ، وجُلُّ المائَةِ أوْ قرْبُهَا أَوْ نَحْوُهَا الثُّلُثَانِ فأكْثَرُ بالاجْتِهَادِ، وهَلْ يَلزَمُهُ في عضَرَةٍ في عَشَرَةٍ عِشْرُونَ أَو مِائةٌ؟. قَوْلَانِ. وَثَوْبٌ في صَنْدُوقٍ وزَيْتٌ في
= أقر به أولًا، فحكم عليه شريح بإقراره، فقال: حكمت عليَّ بدون بينة. قال شريح: بل شهد عليك ابن أُخت خالتك. أخرجه في مصنف عبد الرزاق، وأخرجه البيهقي من رواية إبراهيم النخعي عن شريح. وقول المصنف: بلا حجر، يريد به أن المعجور عليه لا يجوز إقراره على نفسه بشيء، ودليله حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتى يَحْتَلِمَ وَعَنِ الْمَعْتوه حَتَّي يُفِيقَ، وَعَنِ النائِمِ حَتَّي يَسْتَيقِظَ". هكذا رواه البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن حماد ابن سلمة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، تحت ترجمته باب: من لا يجوز إقراره.
تنبيهٌ: وهناك حديث: "وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرهُوا عَلَيْهِ". أخرجه البيهقي تحت الترجمة المتقدمة، بسنده عن الوليد بن مسلم، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر. ولعله استجلبه هنا للاستدلال به على أن المكره لا يجوز إقراره، ولا يؤاخذ به. والله أعلم.
وفي الحطاب عند قول خليل: يؤاخذ المكلف بلا حجر بإقراره، ما نصه: خرج بالمكلف إقرار المكره، فإنه غير مكلف على الصحيح؛ وقال القرطبي في شرح مسلم في آخر باب الديات: شرط صحة الإقرار أن لا يكون بإكراه، وأما المحبوس والمتهدد فاختلف في أخذه، قراره على ثلالة أقوال: =
جَرَّةٍ، وفي لُزُومِ ظَرْفِهِ قَوْلَانِ، لَا دَابَّةٌ في اصْطَبْلٍ وألْفٌ إِنْ اسْتَحَلَّ أوْ أعَارَني لَمْ يلْزَمْ كإنْ حَلفَ في غَيْرِ الدَّعْوَى أوْ شَهِدَ فُلَان غيْر الْعَدْلِ. وهذِهِ الشَّاةُ أَوْ هذِهِ النَّاقَة لِزمَتْهُ الشّاةُ وَحَلَفَ عَلَيْهَا، وغَصَبْتُهُ مِنْ فُلَانٍ. لا، بَلْ مِنْ آخَرَ، فَهُوَ لِلْأوَّلِ، وقُضِيَ لِلثَّاني بِقيمَتِهِ، ولَكَ أحَدُ ثَوْبَيْنِ. عَيَّنَ، وإلًا فَإنْ عيَّنَ المُقَرُّ لَهُ أجْوَدَهُما حَلَفَ، وإنْ قَالَ: لا أدْرِي. حَلَفَا عَلى نَفْي الْعِلْمِ واشْتَركَا، والاسْتِثْنَاءُ هُنَا كغَيْرِهِ، وَصَحَّ لَهُ الدَّارُ والبَيْتُ لِي وبِغَيْرِ الجنْسِ كألْفٌ إلَّا عَبْدًا، وسَقَطَتْ قِيمَتُهُ، وإنْ أبْرأ فُلَانًا ممًا لَهُ قِبَلَهُ أوْ مِنْ كُل حَقً أوْ أبْرَأَهُ بَرئَ مُطْلَقًا، ومِنَ الْقَذْفِ والسَّرِقَةِ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ، وإنْ بِصَكٍّ إلَّا بِبيَّنَةٍ أنَهُ بَعْدَهُ وإنْ أبْرأهُ مِمَّا مَعَهُ بَرئَ مِنَ الأمانَةِ لا الدَّيْنِ.
= فقيل: يقبل جملة. وقيل: لا يقبل جممة، وفيل: يقبل إذا عين ما أقر به، ولا يقبل إذا لم يعين.
قلت: إنه انطلاقًا من مبدإ عدم اعتبار إقرار المكره، فإن ما تنتزع به الشرطة اليوم، في البلاد الإِسلامية، إقرار المتهمين، أقل أحواله أن يوصف بالإِكراه. والله تعالى أعلم. وهو حسبنا ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(2)
وقوله: كالعبد في غير المال، أي غير المأذون له، فيلزمه الإِقرار في غير المال؛ كجرحٍ أو قتل عمد، أو نحو ذلك مما فيه القصاص، وكسرقة بالنسبة للقطع دون المال، وأما المأذون له - ولو حكمًا - كالمكاتب فإنه يؤاخذ بإقراره في المال فيما في يده من مال التجارة. وقد وافق على أخذ العبد بإقراره فيما فيه قصاص أو قطع، كل من أبي حنيفة، والشافعي وخالف الإِمام أحمد.
قال ابن قدامة في المغني: وأما إقراره بما يوجب القصاص في النفس فالمنصوص عن أحمد أنه لا يقبل. ويتبع به بعد العتق، وبه قال زفر، والمزني، وداود، وابن جرير الطبري، قالوا: لأنه متهم في أنه يقر لرجل ليعفو عنه ويستحق أخذه فيتخلص بذلك من سيده. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: ومريض إن ورثه ولد لأبعد أو لملاطفه ألخ، تقريره: وكإقرار شخصر مريض بمال، ولو زاد على الثلث، لقريب في النسب، أو لصديق له ملاطف، فإنه يؤاخذ بهذا الإِقرار، بشرط أن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يكون ذلك المريض المقر موروثًا بولد سواء كان ذكرًا أو أنثى، أو بولد ولد، سواء كان الوارث يستحق بميراثه جميع المال كابن مثلًا، أو كان يستحق بعضه كابنة؛ ومفهوم المخالفة في قوله: لأبعد أو لملاطف، هو أنه إن أقر لأجنبي غير ملاطف، جاز الإقرار ولر لم يرثه ولد، لعدم اتهامه فيه.
ونقل المواق هنا عن ابن رشد: إن أقر المريض لوارث أبعد، ممن لم يقر له من الورثة، مثل أن يقر بعصبة وله أب، أو لأخ لأم وله أخ شقيق، أو لأب وله أم، جاز إقراره اتفاقًا، دهان أقر لصديق ملاطف أو لقريب غير وارث، فقيل: يجوز مطلقًا، وقيل لا يجوز إقراره إلَّا إن ورثه ولد، والقولان قائمان من المدونة. ا. هـ. منه.
قلت: أخرج البيهقي بسنده عن ليث عن طاوس قال: إن أقر المريض لوارث أو لغير وارث جاز، قال: وبلغني عن أبي يحيى الساجي أنه قال: روي عن الحسن، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز أن إقراره جائز، وقال: قال البخاري: وقال الحسن: أحق ما يصدق به الرجل آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وقال البخاري: أوصى رافع بن خديج أن لا تكشف امرأته الفزارية عما أغلق عليه بابها. قال: وقال بعض الناس: لا يجوز إقراره لسوء الظن بالورثة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِيَّاكُمْ وَالظّنَّ فإنّ الظَّنَّ أَكَذبُ الْحَدِيثِ" ولا يحل مال المسلمين. والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
(1)
} فلم يخص وارثًا ولا غيره. اهـ. منه بتصرف قليل.
وهذا مذهب عطاء، والحسن، وإسحاق، وأبي ثور قالوا: يقبل إقراره لأن من صحَّ إقراره في الصحة صح في المرض، وهو احدى الروايتين عن الشافعي. وقال مالك: يصح إذا لم يتهم ويبطل إذا اتهم، وهو قول لا يمكن اعتباره لأن التهمة لا يمكن اعتبارها بنفسها لأنها ظن، وقد ثبت عن رسول اللُه صلى الله عليه وسلم:"إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ اَكْذَبُ الْحَدِيثِ". وتد تقدم لك ما حكاه البخاري عن الحسن؛ أن أحق ما يصدق به الرجل آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة.
هذا، وبناء على ما أخرجه البخاري عن رافع بن خديج، وقد تقدم آنفًا، وأن الظن بعضه إثم، وأَنه أكذب الحديث، ولا يحل به مال المسلم، فقد ترجح عندي أن المريض يقبل إقراره في مرضه بملك سبق أن ملكه لولده الصغير مثلًا وأنه حازه له، أو بدين لأحد ورثته ونحو ذلك. والله تعالى أعلم. وهو الموفق.
(1)
سورة النساء: 58. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تنبيهٌ: في الحطاب عند قول المصنف: لا أقر، ما نصه: وصئل عن رجل جاء قومًا في مجلس فقال: أنا أشهدكم أن لي على فلان كذا وكذا دينارًا، وفلان ذلك مع القوم في المجلس. فسكت ولم يقل نعم ولا لا. ولم يسال الشهود عن شيء، ثم جاء يطلب ذلك قبله فأنكر أن يكون عليه شيء، قال: نعم، ذلك لازم إذا سكت ولم يقل شيئًا. قال محمد بن رشد: اختلف في السكوت هل هو إذن في الشيء وإقرار به على قولين مشهورين في المذهب. اهـ. منه.
قلت: هذه المسألة عقدها الشبخ علي الزقاق في المنهج المنتخب، فقال:
. . . . . . . . . . . . وهلْ
…
كمن أقر ساكت؟ وقد نقل
سليل رشد نفي كونه رضا
…
واختلفوا هل هو إذن وارتضى
نعم ببكر لا بغير للأثر
…
فمن فروع الأصل ما قد انكسر
بيد من قلَّب كالمكيال
…
والغرس والبنا وشبه تالي
وقد حكى الشيخ عن الأصحاب
…
الصمت كالإقرار في الإياب
والحوز، واليمين، واللعان
…
والعتق والنكاح والضمان
دعوى كديْن، تجر عبد، وكرا
…
. . . . . . . . . . . . . . .
وقوال الناظم: وقد حكى الشيخ عن الأصحاب، يعني به الشيخ ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله، ذكر عنه أنه قال: إن المذهب عند أصحابنا أن السكوت في هذه الفروع التي عددها إقرار، وهي: الرجعة، فمن قال: راجعت زوجتي، فسكتت ثم تدعي بعد ذلك أن عدتها قد انقضت، فليس لها ذلك.
ومنها: الحوز، وهو أن يحوز شيئًا لغيره فيبيعه وهو يدعيه لنفسه، وصاحبه عالم ساكت لا ينكر بيعه، فإن ذلك يعد إقرارًا منه يقطع دعواه.
ومنها: مسألة اليمين؛ كأن يحلف لزوجته لا تخرج إلا بإذنه، فخرجت بغير إذنه وهو ينظر إليها ساكتًا، فإنه يحنث. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ومنها: مسألة اللعان، وهي أن يرى حملًا بزوجته فيسكت ولم ينكره، ثم بعد ذلك يريد أن ينفيه بلعان، فإنه لا يمكن من ذلك وعليه حد القذف.
ومنها: مسألة العتق، وهي فيما إذا سكت الغرماء عن عتق الغريم وطال ذلك، والحال أنه لا مانع لهم من القيام، فات عليهم.
وكذلك لو سكتوا حتى قسم الورثة ما تركه الغريم، والحال أنه لا مانع لهم من المطالبة بحقوقهم، فإن ذلك السكوت يفوت عليهم.
ومنها: مسألة النكاح، وأراد بها من عقد له وليه على امرأة، فسكت مدة، ثم قال: إني لا أرضى، فإن سكوته ذلك يفوت عليه.
ومنها: مسألة الضمان، وأراد بها من ضمن دينًا على غريم إلى أجل فحل الأجل. فصبر صاحب الدين على الغريم لشهر مثلًا، فلما انتهى الشهر قال للضامن: اقضني. فإن للضامن أن يقول: ليس علي شيء. لأن سكوته ذلك فوت عليه.
ومنها: مسألة دعوى الديْن، وأراد بها من يأتي رجلًا بشهود فيقول: اشهدوا أن لي عنده كذا وكذا. وهو ساكت، فإن ذلك يلزمه.
ومنها: مسألة الكراء، وأراد بها كراء الدور والأرضين، في الذي زرع أرض رجل بغير إذنه وهو عالم ولم ينكر، أو سكن داره بغير إذنه، وهو عالم ولم ينكر، فإن ذلك يفوت عليه. اهـ. انظر شرح المنهج لشيخنا محمد الأمين بن أحمد زيدان.
كتاب الاستلحاق
فَصْلٌ: إنَّمَا يَسْتلحِقُ الأبُ (1) مَجْهُولَ النَّسَبِ إن لَمْ يُكَذِّبْهُ الْعَقْلُ لِصِغَرِه أوِ العَادَةُ إنْ لَمْ يَكُن رِقًّا لِمُكَذِّبِهِ أوْ مَوْلى لكِنَّهُ يُلْحَقُ بِهِ وَفيها أيْضًا يُصَدّقُ وَإنْ أَعْتَقَهُ مُشْتَرِيهِ إنْ لَمْ يُسْتَدَلَّ عَلى كَذِبِهِ وإنْ كَبِرَ أوْ مَاتَ وَوَرثَهُ إِنْ وَرِثَهُ ابْنٌ أوْ بَاعَهُ وَنُقِضَ وَرَجَعَ بِنَفَقَتِهِ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ خِدْمَةٌ عَلى الأرْجَحِ، وَإنْ ادَّعَى اسْتِيلَادَهَا بِسَابِقٍ فَقوْلَانِ فِيهَا، وَإنْ بَاعَهَا فَوَلَدَتْ فَاسْتَلْحَقَهُ لَحِقَ وَإنْ لَمْ يُصَدَّقْ فِيهَا إنْ اتُّهِمَ بِمَحَبَّةٍ أوْ عَدَمِ ثَمَنٍ أوْ وَجَاهَةٍ وَرَدَّ ثَمَنَهَا ولَحِقَ بِهِ الْوَلدٌ مُطْلَقًا، وَإنْ اشْتَرَى مُسْتَلْحَقَهُ والمِلْكُ لِغَيْرهِ عَتَقَ كَشَاهِدٍ رُدَّتْ شَهَادَتَهُ، وَإنْ اسْتَلْحَقَ غيْرَ وَلَدٍ لَمْ يَرِثْهُ إنْ كَانَ وَارِثٌ وإلَّا فَخِلَافٌ.
فصل في الاستلحاق
نقل المراق عن ابن شاس: روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: الاستحسان تسعة أعشار العلم. وهذا الباب أكثره محمول على ذلك.
(1)
قوله: إنما يستلحق الأب، نقل المواق عن ابن رشد قوله: لا خلاف أعلمه أن المرأة لا يجوز لها استلحاق. قال: ومن المدونة: وإن نظرت امرأة إلى رجل فقالت: ابني. ومثله يولد لها، وصدقها، لم يثبت نسبه منها؛ إذ ليس هناك أب يلحق به. وإن جاءت امرأة بغلام مفصول فادعت أنه ولدها لم يلحق بها في ميراث، ولا يحد من افترى عليه. قال: وفي كتاب ابن سحنون: قال مالك: ولا يصلح استلحاق الجد. قال ابن رشد: إن قال: هذا ابن ولدي. أو ولد ابني. لم يصدق، و إن قال. أبو هذا ابني. أو: والد هذا ابني. صُدِّق؛ لأن الرجل إنما يصدق في الحاق ولده بفراشه، لا في إلحاقه بفراش غيره؛ وهذا مما لا ينبغي أن يختلف فيه. اهـ. منه.
وفي الحطاب: أتى بأداة الحصر لينبه على أن الاستلحاق لا يصح إلَّا من الأب فقط. وهذا هو المشهور.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلت: يرد على هذا الحصر ما ثبت في صحيحي مسلم والبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول اللهُ صلى الله عليه وسلم، في ابن أمة زمعة، فقال سعد: أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة فأقبضه فإنه ابنه. وقال عبد بن زمعة: أخي، ابن أمة أبي، وُلد على فراش أبي. فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبَهًا بينًا بعتبة، فقال:"الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَللْعَاهِرِ الْحَجَر. وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَة". وفي رواية: "هُوَ أَخوكَ يَا عَبْدُ". هذا لفظ مختصر سنن أَبي داود للحافظ المنذري وقال: أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة، وهذه الزيادة رجال إسنادها ثقات. يعنىِ بالزيادة قوله:"هُوَ أَخوكَ يَا عَبْدُ".
قال الصنعاني على بلوغ المرام: وفي الحديث دليل هلى أن لغير الأب أن يستلحق الولد، فإن عبد ابن زمعة استلحق أخاه بإقراره أن الفراش لأبيه، وظاهر الرِّواية أن ذلك يصح وإن لم يصدقه الورثة، فإن سودة لم يذكر عنها تصديق ولا إنكار، إلا أن يقال: إن سكوتها قائم مقام الإقرار.
قلث: عدم ذكر سودة بتصديق ولا إنكار بين سببه؛ وهو أنها ليست من ورثة زمعة في شيء، فإن زمعة بن قيس بن عبد شمس العامري مات كافرًا، والعياذ بالكه، ومعلوم أنه لا يرث مسلم كافرًا. وقال الخطابي في معالم السنن: قد ورد أنه لم يكن لزمعة وارث غير عبد بن زمعة. إلى أن قال: والاعتبار في هذا إنما هو بقول من استحق المال بالإِرث، سواء كان ذلك من نسب أو زوجية، فلو كان له ابن واحد، فادَّعى أخًا ألحق به، لأنه جميع الورثة. ا. هـ. محل الغرض منه.
والحاصل أن قوله صلى الله عليه وسلم: "هُوَ أَخوكَ يَا عَبْدٌ". كما أخرجه البخاري، فيه دليل على ثبوت النسب باستلحاقِ غير الأب بدون مكابرة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وَاحْتَجِبيِ مِنْهُ يَا سَوْدَةُ" هو أن هذا الفرع من الشريعة -أعني واقعة الحال في النزاع في ابن زمعة- تنازعه أصلان من أصول الشريعة الغراء هما: إلحاق الولد بالفراش، والثاني: هو إلحاقه بمن ألحقته به القافة. وسنبين أدلة الإلحاق بالقافة في محله إن شاء الله، فلما تناوله الحكم بموجب كل واحد من الأصلين، ألحقه صلى الله عليه وسلم بأقوى الأصلين سببًا، وهو الفراش، فقال:"الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، هُوَ أَخُوك يَا عَبْدُ". ثم التفت إلى أم المؤمنين وقال لها: "احْتَجِبي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ" على سبيل الورع والاحتياط لأمهات المؤمنين، والاستظهارِ والتنزه عن الشبه، فإن لهن في هذا الباب ما ليس =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لغيرهن، ألا ترى إلى قوله تعالى:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}
(1)
. الآية.
قال ابن القيم في تهذيب السنن: وأما أمر سودة -وهي أخته- بالاحتجاب منه. فإنه يدل على أصل، وهو تبعيض أحكام النسب، فيكون أخاها في التحريم والميراث وغيره، ولا يكون أخاها في المحرمية والخلوة والنظر إليها. لمعارضة الشبه للفراش، فأعطى الفراش حكمه من ثبوت الحرمة وغيرها، وأعطى الشبه حكمه من عدم ثبوت المحرمية لسودة، وهذا الباب من دقيق الشرع وأسراره، قال: ومن نبا فهمه عن هذا، وغلظ عنه طبعهُ فلينظر إلى الولدِ من الرضاعة كيف هو اين في التحريم لا في الميراث، ولا في النفقة، ولا في الولاية، قال: وبالجملة فهذا من أسرار الفقه، ومراعاة الأوصاف التي تترتب عليها الأحكام. ا. هـ. منه بتصرف.
قلت: هذه القاعدة الفقهية عقدها الشيخ علي بن قاسم الزقاق في المنهج المنتخب بقوله:
إنْ دار فرعٌ بين أصلين وقدْ
…
تعذر الجمع يقدم الأسدَّ
فقوله: يقدم الأسد، أي الأكثر سدادًا واستقامة، أي أنه إن دار فرع بين أصلين يغلب الأقوى منهما دليلُا.
وأيضًا فقد تعرض الشيخ علي الزقاق في المنهج المنتخب إلى ما ذكره ابن القيم رحمه الله؛ أن من أسرار التشريع ورود حكم بين حكمين. قال في المنهج:
. . . . . . . . . . . . هل ورد
…
الحكمُ بَيْنَ بَيْنَ؟ كَوْنَة اعْتَقِدْ
كالبيع مع شرط يصح وبطلْ
…
وحكمُ زنديق وشبهه نُقِلْ
ومعناه: اختلف في ورود حكم بين حكمين؛ فأثبته أهل مذهب مالك، وهو أصل من أصولهم، ونفاه الشافعية، ويعمل بهذا الأصل عد من أثبته، في بعض صور تعارض الأدلة فيها، والحال أنه لا ترجيح، كما لو أشبه الفرع أصلين ولم يترجح أحد الشبهين. ومثلوا له بالبيع مع شرط حيث يحكم بصحة البيع وبطلان الشرط في مسائل، فإنه حكم ببطلان وصحة، والعقد واحد؛ ومثلوا له أيضًا بمسألة الزنديق؛ فإنه يقتل لما أبطن من الكفر، ويرث لما أظهر من الإِيمان، فلم يتمحض فيه حكم الكفر ولا
(1)
سورة الأحزاب: 32.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الإيمان، فهو حكم بين حكمين، وبالله التوفيق.
وفي الموطإ بعد ما ساق حديث عائشة رضي الله عنها في خبر سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في نزاع ابن وليدة زمعة:
وحدثني مالك عن زيد بن عبد الله الهادي، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن سليمان ابن يسار، عن عبد الله بن أبي أمية، أن امرأة هلك عنها زوجها فاعتدت أربعة أشهر وعشرًا، ثم تزوجت حين حلت، فمكثت عند زوجها أربعة أشهر ونصف شهر، ثم ولدت ولدًا تامًا، فجاء زوجها إلى عمر ابن الخطاب فذكز ذلك له، فدعا عمر نسغ من نساء الجاهلية قدماء فسألهن عن ذلك، فقالت امرأة منهن: أنا أخبرك عن هذه المرأة، هلك عنها زوجها حين حملت فأهريقت عليه الدماء فَحُشَّ ولدها في بطنها، فلما أصابها زوجها الذي نكحها وأصاب الولد الماء تحرك الولد في بطنها وكبر، فصدَّقها عمر ابن الخطاب وفرَّق بينهما. وقال عمر: أما إنه لم يبلغني عنكما إلّا خيرٌ، وألحق الولد بالأول.
قلت: تكررت هذه المسألة بعينها عام 1384 هـ. ببعض البلاد الأفريقية حين توفي رجل كان يحدث بعض أصدقائه -حين طلبوا منه التأني معهم بعض الشيء قبل أن يرجع لأهله- فأخبرهم أن سبب استعجاله هو أنه ترك زوجته بها حمل ولا يريد البطء عنها، فأصيب، عليه رحمة الله، في حادث سيارة في وجهه ذلك، فاعتدت المرأة أربعة أشهر وعشرًا ولم تظهر ريبة، فتزوجها أحد بني عمومتها. ولما مكثت عنده أربعة أشهر وكثيرًا من الخامس نفست، فجاءت ببنت، فلما رفعت القضية لقاضي البلدة، فرق بين الزوجين وألحق البنت بالأول. وسبحان الله فإنها نفس القضية التي وقعت في زمن عمر ابن الخطاب تكررت في آخر القرن الرابع عشر الهجري. فسبحان القادر على كل شيء.
وأما ما نقله المواق عن ابن رشد أنه لا خلاف يعلمه أن المرأة لا يجوز لها أن تستلحق، فهذا ابن قدامة ينقل عن أحمد بن حنبل في رواية ابن منصور، في امرأة ادعت ولدًا، قال: فإن كان لها إخوة أو نسب معروف، فلابد من أن يثبت أنه ابنها، فإن لم يكن لها دافع، فمن يحول بينها وبينه؟ قال: وهذا لأنها متى كانت ذات أهل فالظاهر أنه لا تخفى عليهم ولادتها، فمتى ادَّعت ولدًا لا يعرفونه فالظاهر كذبها، قال: ويحتمل أن تقبل دعواها مطلقًا، لأن النسب يحتاط له، فأشبهت الرجل، اهـ. منه بلفظه.
وَخَصَّهُ المخْتَارُ بِمَا إذا لَمْ يَطُلْ الإِقْرَارُ، وَإنْ قَالَ لأوْلَادِ أمَتِهِ: أحَدُهُمْ وَلَدِي. عُتِقَ الأصْغَرُ وثُلُثَا الأوْسَطِ وثُلُثُ الأكبرِ، وَإنْ افْتَرقَتْ أمَّهَاتُهُمْ فَوَاجِدٌ بِالْقُرْعَةِ، وَإِذَا وَلَدَتْ زَوْجَةُ رَجُلٍ وَأَمَةُ آخَرَ وَاخْتَلَطَا، عَيَّنَتْهُ القَافَةُ (1)، وعَن ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ وجَدَتْ مَعَ ابْنَتِهَا أُخْرى: لا تُلْحَقُ بِهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا، وإنَّمَا تَعْتَمِدُ الْقَافَةُ عَلَى أَبِ لَمْ يُدْفَنْ، وإنْ أقَر عَدْلَانِ بثَالثٍ ثَبَتَ النَّسَبُ، وعَدْلٌ يَحْلِفُ مَعَهُ وَيَرِثُ ولَا نَسَبَ، وإلَّا فَحِصَّة المُقِرِّ كَالْمَال؛ وَهذا أخِي بَلْ هذا فَللأوَّلِ نِصْفُ إِرْثِ أبِيهِ وللثَّاني نِصْفُ مَا بَقِيَ، وإنْ تَرَكَ أمًّا وَأخًا فَأقَرتْ بِأخٍ فَلَهُ مِنْهَا السُّدُسُ، وإنْ أَقَرَّ مَيَتٌ بأنَّ فُلانَةَ جَاريَتهُ ولَدَتْ مِنْهُ فُلَانَةَ، وَلَهَا ابْنَتَانِ أيْضًا وَنَسِيَتْهَا الْوَرَثَةُ والبيِّنَةُ، فَإنْ أقَرَّ بِذلِكَ الْوَرَثَةُ فَهُنَّ أحْرَارٌ وَلهُنَّ مِيراثُ بِنْتٍ وإلَّا لَمْ يَعْتِقْ شَيْءٌ وَإنْ اسْتَلْحَقَ وَلَدًا ثُمَ أنْكَرَهُ ثُمَ مَاتَ الْوَلَدُ فَلَا يَرثُهُ وَوُقِفَ مَالُهُ، فَإنْ مَاتَ فَلِورَثَتِهِ، وقُضي بِهِ دَيْنُهُ، وَإنْ قَامَ غُرَمَاؤُةُ وهو حَيٌّ أخَذوه.
(1)
وقوله: عينته القافة: دليل ثبوت النسب بالقافة هو ما أخرجه الحافظ المنذري في مختصر سنن أبي د أود. قال: عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مسدد وابن السرح: يومًا مسرورًا، وقال عثمان: تعرف أسارير وجهه، فقال:"أي عَائِشَةُ، أَلَمْ تَرَيْ أنً مُجَزَزًا المُدْلِجى رَأَى زَيْدًا وَأُسَامَةَ وَقَدْ غَطَّيَا رُؤُوسَهُمَا بِقَطِيفَةٍ، وَلَدَتْ أقْدَامُهُمَا، فقال: هذِهِ الَأقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بِعْض"؟. وفي رواية: تبرُقُ أسارير وجهه، وقال: أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
قال أبو سليمان الخطابي في معالم السنن: فيه دليل على ثبوت أمر القافة، وصحة لقولهم في إلحاق الولد، وذلك أن رسول اللُه صلى الله عليه وسلم لا يظهر السرور إلَّا بما هو حق عنده، وكان الناس قد ارتابوا بأمر زيد بن حارثة وابنه أسامة، فقد كان زيد أبيض، وجاء أسامة أسود، فلما رأى الناس ذلك تكلموا بقول كان يسوء رسول الله صلى الله عليه وسلم سماعُه، فلما سمع هذا القول من مجزز فرح به وسُرِّي عنه، قال: وممن أثبت الحكم بالقافة: عمر بن الخطاب، وا بن عباس، وعطاء، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعامة أهل الحديث، ا. هـ. منه.
وقال أصحاب الرأي: إذا ادعاه اثنان، يقضى به لهما، وأبطلوا الحكم بالقافة والحديث حجة عليهم.
ومن أدلة ثبوت الشبه قوله في قصة المتلاعنين: إن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان. فإنه دليل الالحاق بالقافة، ولكن الإيمان منعته عن الإِلحاق، ولذلك فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لَوْلَا الْأيْمَانُ لَكَانَ لِي مَعَهَا شَأْنٌ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ومما يستدل به في هذا الصدد قوله صلى الله عليه وسلم لإِحدى أمهات المؤمنين عندما تساءلت: أو تحلم المرأة؟ قال: "فَمِنْ أَيْنَ يَكوُنُ الشَّبَهُ"؟.
ومن ذلك أمره صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين سودة بالاحتجاب من أخيها، وقد تقدم ذكر ذلك، وإنما أمرها لما رأى من شبه الولد بعتبة بن أبي وقاص. ويستأنس في هذا القبيل بحديث الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال للذي ذكر له أن امرأته أتت بولد على غير لونه، قال:"وَلَعَلَّهُ لِعِرْقٍ نَزَعُهُ". لكن القافة إن عارضها الفراش قضي لصاحبه في ثبوت النسب لقوة سببه. وبالله تعالى التوفيق.
فائدة: ذكر الحطاب أن الحد ولحوق الولد قد يجتمعان، وذلك في خمس مسائل: منها: الرجل تكون عنده الجارية فتلد منه ثم يقر بأنه اغتصبها، فيحد ويلحق به الولد للتهمة التي تلحقه في محاولة قطع نسبه منه.
ومنها: من اشترى أمة فولدت ثم استحقت بحرية، فذكر أنه علم أنها كانت حرة ووطئها بعد ما علم بحريتها، فيلزمه الحد ويلحق الولد به.
ومنها: من اشترى جارية على الخيار من اثنتين، فأقر أنه اختار واحدة ثم وطئ التي لم يقع اختياره عليها فحملت منه. فإنه يحد ويلحق الولد به.
ومنها: من اشترى جارية ووطئها فطالبه بائعها بثمنها فيقول الواطئ: إنما تركتها عندي أمانة ووديعة، فإنه يحد، ويلحق الولد به.
ومنها: الرجل يتزوج بأم امرأته عالمًا بذلك فتلد منه، فإنه يحد ويلحق الولد به. قال: وليس ذكر هذه المسائل على سبيل الحصر، بل الضابط أن كل حد يثبت بالإقرار وشقط بالرجوع عنه، فالنسب ثابت منه، وكل حد لازم ثابت بالرجوع عنه، فالنسب معه غير ثابت ا. هـ. منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فائدة أخرى: نسب الحطاب للسهيلي في شرح السيرة، في حديث الأسراء، ومروره على النساء اللَّاتي أدخلن على الرجال ما ليس منهم من الأولاد: فإن بلغ الضبي وتابت أمه فأعلمته أنه لغير رشدة، ليستعفف عن ميراثهم ويكف عن الاطلاع على عوراتهم، أو علم بذلك بقرينة حال، وجب عليه ذلك، وإلَّا كان شر الثلاثة؛ كما في الحديث في ابن الزنا أنه شر الثلاثة، قال: وقد يُؤَوَّلُ على وجوه هذا أقربها إلى الصَّواب. ا. هـ.
وقيل في تأويله: أي إذا عمل بعمل أبويه.
قال: وقال الشعبي: ولد الزنا خير الثلاثة إذا اتّقى الله، قيل له: فقد قيل إنه شر الثلاثة، قال: هذا شيء قاله كعب، لو كان شر الثلالة لم تنتظر بأمه ولادته، وكذلك قال ابن عباس، وقال ابن مسعود: إنما قيل شرهم في الدنيا، ولو كان شرهم عند الله ما انتظر بامه أن تضع. وقال عمر بن الخطاب: أكرموا ولد الزنا وأحسنوا إليه. وقال ابن عباس: هو عبد من عبيد الله؛ إن أحسن جوزي، وإن أساء عوقب؛ وقال عمر: اعتقوا أولاد الزنا وأَحسنوا إليهم. واستوصوا بهم. ا. هـ. منه.
كتاب الوديعة
بَابٌ: الإِيدَاعُ تَوْكِيلٌ بِحِفْظِ مَالٍ (1) تُضْمَنُ بِسُقُوطِ شَيْءٍ عَلَيْهَا (2)، لَا إنْ انْكَسَرَتْ في نَقْلِ مِثْلِهَا، وبخَلْطِهَا إلَّا كَقَمْحٍ بِمِثْلِهِ أوْ دَرَاهِمَ بدَنَانِيرَ للإِحْرَازِ ثُمَّ إنْ تَلِفَ بَعْضُهُ فبَيْنَكُمَا إلَّا أنْ يَتَمَيَّزَ، وبانْتفَاعِهِ بها أوْ سَفَرِه إنْ قَدَرَ عَلى أمِين إلَّا أنْ تُردَّ سَالِمَةً (3)، وَحَرُمَ سَلَفُ مُقَوَّمٍ ومُعْدِمٍ، وكُرهَ النَّقْدُ، والمِثْلِيُّ، كالتِّجَارةِ والرِّبْحُ لَهُ (4) وَبَرِئ إنْ رَدَّ غَيْرَ المُحَرَّمِ إلَّا بإذْنٍ أوْ إنِ احتْجْتَ فَخُذْ، وضَمِنَ المأخوذَ فَقَطْ. أَوْ بِقُفْل بِنَهْي أوْ بِوَضْعٍ بِنُحَاسٍ فِي أمْرِهِ بِفَخَّارٍ، لَا إِنْ زَادَ قُفْلًا أو عَكَسَ فِي الفَخارِ أوْ أمَرَ بِرَبْطٍ بِكُمٍّ فَأخَذَهَا بالْيَدِ كجَيْبهِ عَلى المخْتَار، وبِنسْيَانِهَا في مَوْضِعِ إيدَاعِهَا.
كتاب الوديعة
قال الصنعاني في تعريف الوديعة: هي العين التي يضعها مالكها أو نائبه عند آخر ليحفظها. وهي مندوبة، إذا وثق من نفسه بالأمانة، لقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}
(1)
الآية. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "وَالله في عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ". أخرجه مسلم، وقد تكون واجبة، إذا لم يكن من يصلح لها غَيره، وخيف الهلاك عليها إن لم يقبلها. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: الإيداع توكيل بحفظ مال، هو تعريف للإِيداع، وحقيقته أنه استنابة في حفظ مال.
قال المواق: وللوديعة عاقبتان: رد عند البقاء. وضمان عند التلف، فأما الضمان، فلا يجب إلا عند التقصير.
وقال الحطاب: قال في اللباب: أركانها ثلاثة: الصيغة، والمودعَ، والمودع؛ أما الصيغة فهي لفظ أو ما يقوم مقامه، يدل على الاستنابة في حفظ المال اهـ. وقال الذخيرة: قال الشافعي: تفتقر للإيجاب والقبول كالوكالة، وأصلنا يقتضي عدم الاشتراط فيهما كما تقرر في البيع، قال: ونزلت مسألة، وهي أن رجلًا كان جالسًا فجاء إنسان فوضع أمامه متاعًا ثم ذهب فقام الجالس وتركه، فذهب المتاع، فالظاهر ضمانه؛ لأن سكوته حين وضع المتاع يدل على قبوله للوديعة. اهـ. منه بلفظه. =
(1)
سورة المائدة: 2. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلت: يتجه تضمينه إذا كان المكان خاصًا به، يملك منع من وضع متاعه به، أما إذا كان في مكان عام لا يستطيع منعه من وضع متاعه به، فكيف يتجه تضمينه؟
(2)
وقوله: تضمن بسقوط شيء عليها: نقل المواق عن أشهب وعبد الملك: من أودع جرارًا فيها إدام، أو قوارير فيها دهن، فنقلها من موضع في بيته. إلى موضع، فانكسرت في موضعها ذلك لم يضمنها، ولو سقط عليها شيء من يده فانكسرت، أورمى بشيء في بيته يريد غيرها فأصابها، فانكسرت ضمنها. انتهى.
قلت: المودع -بفتح الدال- ضامن في حالتين: إن قصر في الحفظ، أو تعدى، والظاهر أن غلبة الظن في ذلك تكفي في تضمينه، وذلك لما أخرجه عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة قال:
كان عند أنس بن مالك وديعة، فهلكت من بين ماله، فضمَّنه إياها عمر بن الخطاب، فقال معمر: لأن عمر اتهمه، يقول: كيف ذهبت من بين مالك؛ وهذا الأثر أخرج مثله البيهقي بسنده إلى الشعبي عن أنس بن مالك، قال: استودعت مالًا فوضعته مع مالي فهلك من بين مالي، فرفعت إلى عمر فقال: إنك لأمين في نفسي، ولكن هلكت من بين مالك فضمنته ا. هـ. منه.
تنبيهٌ: ذكر الحطاب: يجب حفظ الوديعة من التلف، ولو أذن ربها في التلف. ويضمن إن فعل، قال ابن سلمون في كتاب الاستغناء: إذا قال رب الوديعة: ألقها في البحر أو في النار. ففعل، فهو ضامن للنهي عن إضاعة المال، كمن قال لرجل: اقتلني. أو: اقتل ولدي، قال الحطاب: ولا شك في الحرمة، وأما وجوب الضمان ففيه نظر. والظاهر دخول الخلاف فيه لإِذن المالك في ذلك. اهـ. منه.
والذي لا شك فيه -لكثرة الأدلة عليه- هو وجوب حفظها والترغيب في أدائها. فقد أخرج البيهقي بسنده عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله، عن عبد اللهُ بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ الْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" قال: فسمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". - لفظ حديث علي بن محمد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بن عيسى -رواه البخاري في الصحيح عن أبي اليمان، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن الزهري. اهـ. منه بلفظه.
وأخرج البيهقي بسنده أيضًا عن حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ".
قال البيهقي: رواه مسلم في الصحيح عن أبي نصر التمار وعبد الأعلى بن حماد.
وأخرج البيهقي بسنده أيضًا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آيَةُ الْمُنافِقِ ثَلَاث: إِذَا حَدَثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإذَا ائْتُمِنَ خَانَ". قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح عن أبي الربيع ورواه مسلم عن قتيبة ويحيى بن أيوب عن إسماعيل.
وأخرج البيهقي أيضًا بسنده عن أنس بن مالك قال: فلما خطبنا نبينا صلى الله عليه وسلم أو قال: النبي صلى الله عليه وسلم إلا قال في خطبته: "لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَة، وَلَا دِين لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ".
وأَخرج البيهقي أيضًا بسنده عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن حنطب، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعُدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ".
وأخرج بسنده عن عبد الرزاق، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يغرنك صلاة الرجل ولا صيامه، من ضاء صام ومن شاء صلى، ولكن لا دين لمن لا أمانة له.
وأخرج بستده عن عبد العزيز بن عمر، عن عبيد بن أبي كلاب أنه سمع عمر بن الحطاب رضي الله عنه يقول وهو يخطب الناس: لا يعجبنكم من الرجل طنطنته، ولكنه من أدَّى الأمانة، وكف عن أعراض الناس فهو الرجل. اهـ. منه.
كل هذه الآثار استجلبها البيهقي، واستجلب غيرها تحت عنوان باب: في الترغيب فى أداء الأمانات.
أما ما ورد في تضمين المودع -بالفتح- إن قصر أو خالف، وأنه لا ضمان على مؤتمن إذا لم تقع =
وبدُخولِهِ الْحمَّامَ بِهَا، وبخرُوجِه بِها يَظُنُّهَا لَة فَتَلِفَتْ، لا إنْ نَسِيَهَا في كُمِّهِ فوَقَعَتْ، ولَا إنْ شَرَطَ عَلَيْه الضَّمَانَ، وَبإيدَاعِهَا وَإنْ بِسَفَرٍ لِغَيْرِ زَوْجَةٍ أوْ أمَةٍ اعْتيدَا بذلِكَ إِلَّا لِعَوْرَةٍ حَدَثَتْ أو لِسَفَرٍ عِنْدَ عَجْزِ الرَّدِّ، وإنْ أودعَ بِسَفَرٍ، وَوَجَبَ الإِشْهَادُ بِالْعُذْرِ، وبَرِئ إنْ رَجَعَتْ سَالِمةً وعَليْهِ اسْتِرجَاعُهَا إِنْ نَوَى الإِيابَ وبِبَعْثِهِ بِهَا وبإنْزائهِ عَلَيْهَا فَمُتْنَ وَإنْ مِنَ الْوِلَادَةِ كَأمَةٍ زَوَّجَهَا فَمَاتَتْ مِنَ الوِلَادَةِ، وبِجَحْدِهَا ثُمَّ في قَبُولِ بِيِّنَةِ الرَّدِّ خِلَافٌ، وبمَوْتهِ وَلَمْ يُوصِ وَلَمْ توجَدْ إلَّا لِكَعَشْرِ سِنينَ، وأخَذَهَا إنْ ثَبَتَ بِكِتَابَةٍ عَلَيْهَا أَنَّهَا لَهُ أنَّ ذلِكَ خَطُّهُ أوْ خَطُّ المَيِّتِ، وبِسَعْيِهِ بِهَا لِمُصَادِرٍ، وبِمَوْتِ المُرْسَل مَعَهُ لِبَلَدٍ إنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ، وَبِكلُبْسِ الثَّوْب وركُوب الدَّابَّةِ، وَالْقَوْلِ لهُ أنَّهُ رَدَّهَا سَالِمَةً إنْ أقَرَّ بِالْفِعْلَ.
= إحدى الخصلتين، فهذا ما تيسر من أدلة ذلك:
أخرج عبد الرزاق عن الثوري، عن عوف، عن أنر بن سيرين، عن شريح قال: من استودع وديعة، فاستودعها بغير إذن أهلها، فقد ضمن.
وعن عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن جابر، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عليٍّ وابن مسعود، قالا: ليس على المؤتمن ضمان. قال معمر: ولم أسمع أحدًا يضمنه، يقولون: هو أمين إلَّا أن يعثر عليه بخيانة.
وعن عبد الرزاق قال: أخبرنا هشام عن الحسن، قال: إذا خالف المستودَعُ غير ما أمر به ضمن، وإن كان فيه فضل فهو له بضمانه.
وفي البيهقي في السنن الكبرى ما نصه: باب: لا ضمان على مؤتمن، ثم ساق سندًا إلى حجاج ابن أرطأة عن أبي الزبير، عن جابر أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قضى في وديعة كانت في جراب، فضاعت من خرق الجراب، أن لا ضمان فيها.
وأخرج سندًا آخر عن سفيان، عن جابر، عن القاسم بن عبد الرحمن أن عليًا وابن مسعود رضي الله =
وإنْ أكْرَاهَا لمَكَّةَ ورَجَعَتْ بحَالِهَا إلَّا أنَّه حَبَسَهَا عَنْ أسْوَاقِهَا فَلَك قِيمَتُهَا يَوْمَ كِرَائِهِ ولَا كِرَاءَ، أوْ أخْذُهُ وَأَخْذُهَا، وَبدَفْعِهَا مُدَّعِيًا أنَكَ أمَرْتَهُ بِهِ وحَلَفْتَ وَإلَّا حَلَفَ وبَرِئَ إلَّا بِبَيَّنَةٍ عَلَى الآمِرِ وَرَجَعَ عَلى القَابِضِ، وَإنْ بَعَثْتَ إليْهِ بِمَالٍ فَقَالَ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَيَّ وأنْكَرْتَ فَالرَّسُولُ شَاهِدٌ، وَهَلْ مُطْلَقًا؟. أوْ إنْ
= عنهما قالا: ليس على مؤتمن ضمان. قال: وروينا عن شريح: ليس على المستوح غير المغل ضمان، قال: وروي في ذلك حديث مسند ضعيف. ثم ساق سندًا آخر إلى عمروبن شعيب عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنِ اسْتُودعَ وَدِيعَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ".
قلت: وأَخرج في بلوغ المرام هذا الحديث وقال: أخرجه ابن ماجة وإسناده ضِعيف.
وأخرج البيهقي أيضًا أثرًا جاء فيه أن رجلين استودعا امرأة من قريش مائة دينار على أن لا تدفعها إلى واحد منهما دون صاحبه حتى يجتمعما، فأتاها أحدهما فقال: إن صاحبي توفي فادفعي إليَّ المال.
فأبت، فاختلف إليها ثلاث سنين واستشفع عليها حتى أعطته. ثم إن الآخر جاء فقال: اعطني الذي لي. فذهب بها إلى عمر بن الخطاب فقال له عمر رضي الله عنه: هل من بينة؟ قال: هي بينتي. فقال ما أظنك إلا ضامنة. فقالت: أسألك أن ترفعنا إلى ابن أبي طالب. فأتو وهو - يطين حوضًا له في بستان وهو مترز بكساء - فقصوا عليه القصة فقال: ائتني بصاحبك وإلى متاعك. اهـ. منه.
ونقل القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
(1)
وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة، قال: وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أصحابها؛ الأبرار منهم والفجار. قاله ابن المنذر. والأمانة مصدر بمعنى المفعول ولذلك جمع.
وروى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في خطبة الوداع: "الْعَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ والْمِنْحَةُ مَرْدُودَة، وَالدّيْنُ مَقْضِيٌّ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ". حديث صحيح أخرجه الترمذي وغيره، وزاد الدَّارقُطْنِي: قال رجل: فَعهد الله؟ قال: "عَهْدُ اللهِ أَحَقُ مَا أُدِّيَ"، وقال - بمقتضى هذا الحديث وهذه الآية - أن الوديعة مضمونة على كل حال، كانت مما يغاب عليه أو لا، تُعُدِّي فيها أو لم يتعدَّ، كل من عطاء وأحمد والشافعي، وأشهب بن عبد العزيز من أصحابنا. وروي أن ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما ضمَّنا الوديعة.
(1)
سورة النساء: 58. =
كَانَ الْمَالُ بِيَدِهِ؟ تَأويلَانِ، وبدَعْوَى الرَّدِّ عَلى وَارِثِكَ أوْ المرْسَلِ إلَيْه المُنْكِرِ، كَعَلَيْكَ إنْ كانَتْ له بيِّنَةٌ به مَقْصُودَةٌ لَا بِدَعْوَى التَّلَفِ أوْ عَدَمِ الْعِلْم بِالتَّلَفَ أو الضَّيَاعِ وَحَلَفَ المتَّهَمُ وَإنْ لَمْ يُفِدْهُ شَرْطُ نَفْيِهَا فإنْ نَكَلَ حَلَفْتَ ولا إنْ شَرَطَ الدَّفْعَ لِلْمرسَلِ إلَيْهِ بلا بِيِّنَةٍ وبِقَوْلِهِ: تَلِفَتْ قَبْلَ أنْ تَلْقَانِي، بَعْدَ مَنْعِهِ دَفْعَهَا كَقْوله بَعْدَهُ بلا عُذْر لَا إنْ قَالَ: لا أدْري مَتَى تَلِفَتْ، وبِمَنْعِهَا حَتَّى
= وروى ابن القاسم عن مالك أن من استعار حيوانًا أو غيره، مما لا يغاب عليه، فتلف عنده، فهو مصدق في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي. وهذا قول الحسن البصري والنخعي، والأوزاعي والكوفيين.
قالوا: فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن غرمها لأنه مصدق، قال: وروي عن عليٍّ وعمر، وابن مسعود أنه لا ضمان في العارية. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا ضَمَانَ عَلَى مؤتَمَنٍ"، انتهى منه بتصرف.
(3)
وقوله: وبانتفاعه بها أو سفره إن قدر على أمين إلا أن ترد سالمة، نسب المواق هنا للمدونة: من أودعته دراهم أو حنطة أو ما يكال أو يوزن، فاستهلك بعضها ثم هلك بقيتها، لم يضمن إلا ما استهلك أوَّلًا، وإن كان رد ما استهلك لم يضمن شيئًا إن ضاعت، وهو مصدق أنه رد فيها ما أخذ منها، كما يصدق في ردها إليك وفي تلفها، وكذلك لو تسلف جميعها ثم رد مثلها مكانها لبرئ، كان أخذها على السلف أو على غيره ولا شيء علب إن هلكت بعد أن ردها. ولو كانت ثيابًا فلبسها حتى بليت أو استهلكها ثم رد مثلها، لم تبرأذمته من قيمتها لأنه إنما لزمته القيمة. اهـ.
وقد أخرج عبد الرزاق في المصنف: أخبرنا وكيع عن ابن أبي ليلى في الوديعة تدفع إلى الرجل، قال: إن دفعت إليه مختومة فكسر خاتمها، فأخذ منها شيئًا، فهو ضامن لها، وإلا فلا ضمان عليه، قال: وقال أصحابنا: لا يضمن إلا ما استنفق.
(4)
وقوله: كالتجارة والربح له، نسب المواق ها للموطإ، قال مالك: إذا استوح الرجل مالًا فابتاع به لنفسه وربح فيه، فإن ذلك الربح له لأنه ضامن للمال حتى يؤديه إلى صاحبه. قال أبو عمران: وهذا قول الليث، ومالك، وأبي سفيان لأنه إذا رد المال طاب الربح له، غاصبًا كان للمال أو مستودعًا عنده وتعدى فيه. قال الباجي: قوله: فإن دلك الربح له، يريد إن كانت الوديعة عينًا، وهذا عندي. على أن الدراهم والدنانير لا تتعين، ولذلك قال: فإن كانت الوديعة طَعامًا فباعه بتمن فإن صاحبه مخير =
يَأتيَ الْحَاكِمُ إنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، لَا إنْ قَالَ: ضَاعَتْ مُنْذُ سِنِينَ وكنْتُ أرْجُوهَا وَلَوْ حَضَرَ صَاحِبُهَا، كالْقِراضِ وليسَ لَهُ الأخْذُ مِنْها لِمَنْ ظَلَمَهُ بمِثْلِهَا (1)، ولَا أجْرَةُ حِفْظِهَا، بِخَلَافِ مَحَلِّهَا.
وَلِكُلٍّ تَرْكُهَا، وَإنْ أوْدَعَ صَبِيًّا أوْ سَفِيهًا أوْ أقْرَضَهُ أوْ بَاعَهُ فأتْلَفَ، لَمْ يَضْمَنْ وإنْ بإذْنِ أهْلِهِ وتَعَلَّغَتْ بِذِمَّةِ الْمأذُونِ عَاجِلًا وبِذَمَّةِ غَيْرِهِ إذَا عَتَقَ إن لَمْ يُسْقِطْهُ السَّيِّدُ، وَإنْ قَالَ: هِيَ لأحَدِكمَا ونَسِيتُهُ، تَحَالَفَا وقُسِمَتْ بَيْنَهُمَا. وَإنْ أوْدَعَ اثْنيْنِ جُعِلَتْ بِيَدِ الأعْدَلِ.
= بين إمضاء البيع وأخذ الثمن أو يضمنه مثل طعامه، ووجه ذلك أن هذا مما يتعين بالصفة. اهـ. منه.
تنبيهٌ: ذكر الحطاب مسألة: من أوح معه وديعة لبلد، فعرضت له إقامة في الطريق قصيرة؛ كالأيام أو طويلة كالسنة، أو متوسطة كالشهرين مثلًا، فإن بعثها في القصيرة ضمنها، وإن حبسها في الطويلة ضمنها، وهو في المتوسطة مخير، قال: هذا الذي ارتضاه ابن رشد وجمع فيه بين أقوال مالك وأصحابه.
(1)
وقوله: وليس له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها، مراده به، والله أعلم، أن من ظلمه إنسان في مال ثم أودع عنده ذلك الإِنسان الظالم مالًا قدر ماله الذي ظلمه به أو أكثر، فليس له - أي ليس للمرح -بفتح الدال- الأخذ من وديعته التي هي ملك لمن ظلمه، بقدر ما ظلمه به، وذلك اجتنابًا لما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقوق:"أَدِّ الْأمَانَةَ لِمَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ". والله الموفق.
كتاب العارية
صَحَّ ونُدِبَ إعَارَة (1) مَالِكِ مَنْفَعَةٍ بِلَا حَجْر (2)، وَإنْ مُسْتَعِيرًا، لا مَالِك انْتِفَاعٍ مِنْ أهْلِ التَّبَرُّعِ عَلَيْهِ، عَيْنًا لِمنْفَعَةٍ مُباحَةٍ (3)، لَا كَذِمِّي مُسْلِمًا (4)، وجَاريَة لِوَطْءٍ أوْ خِدْمَةٍ لِغَيْرِ مَحْرَمٍ (5) أوْ لمَنْ لَا تَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَهَا والأطْعِمَةُ
كتاب العارية
العارية، قال الدسوقي: مأخوذة من التعاور، أي التداول، فهي واوية، فأصل عارية عورية: فَعَلِية، بفتحتين، تخفف ياؤها وتشدد، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا. وقيل: هي مأخوذة من عرا يعرو بمعنى عرض، فأصلها عارُووَة: فاعولة. فقلبت الواو الثانية ياء لتطرفها، والتاء في نية الانفصال، فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء، هذا في المشددة، وأصل المخففة عارِوَة: فاعلة، فأبدلت الواو ياء لتطرفها.
وقيل: إنها يائية مأخوذة من العار فأصلها عيرية، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا. ورد بأنها لو كانت يائية لقيل: القوم يتعيرون. مع أنهم قالوا: يتعاورون أي يعير بعضهم بعضًا. اهـ. منه بلفظه.
وقال ابن قدامة في المغني: والأصل فيها الكتاب والسنة، والإِجماع، اهـ.
وفي البغوي - أعني شرح السنة: باب العارية، قال الله سبحانه وتعالى:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}
(1)
قال عبد الله بن مسعود: كنا نعد الماعون عارية الدلو، والقدر، قال شعيب الأرناؤوط: أخرجه أبو داود في الزكاة، وإسناده حسن. وذكره الحافظ في الفتح عن أبي داود والنسائي وقال: إسناده صحيح إلى ابن مسعود. وأورده السيوطي في الدر المنثور، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه، والبيهقي في سننه اهـ. منه.
وقال ابن قدامة: وأما السنة، فمن أدلة العارية، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة عام حجة
(1)
سورة الماعون: 7. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الوداع: "الْعَارِيَةُ مَؤَدَّاةٌ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ، والْمِنْحَةُ مَرْدُودَة، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن، غريب. اهـ. منه. بتصرف قليل.
ومن أدلتها كذلك حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري في الهبة باب: الاستعارة للعروس عند البناء، ونورده هنا بلفظ البغوي بعدما ساق السند إلى عبد الواحد بن أيمن (قال) حدثني أبي قال: دخلت على عائشة، وعليها درع قطر ثمن خمسة دراهم، فقالت: إرفع بصرك إلى جاريتي، انظر إليها، فإنها تُزْهَى أن تلبسه في البيت، وقد كان لي منهن درع على عهد رسور الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تُقَيَّنُ بالمدينة إلا أرسلت إليَّ تستعيره. اهـ.
فقولها تُزهى: أي تأنف وتتكبر، يقال زُهي الرجل إذا دخله الزهو، وهو الكبر. وقولها: تُقَيَّنُ، أي تزين. يقال: قيَّن العروس أي زينها، ومن ذلك اشتق اسم القينة لمن تزين العروس، وتطلق على الماشطة، والمغنية، والأمة، ويقال للعبد، قين.
وأخرج الشيخان من حديث قتادة، قال: سمعت أنسًا يقول: كان فزعٌ بالمدينة، فاستعار النبيُّ صلى الله عليه وسلم فرسًا من أبي طلحة يقال له المندوب فركب، فلما رجع قال:"مَا رَأيْنَا مِنْ شَىْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا".
وفي السنة للبيهقي من طريق ابن اسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد المسير إلى حنين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية فسأله أدراعًا مائة درع، وما يصلحها من عدتها، فقال أغصبًا يا محمد؟ فقال:"بَلْ عَارِيَة مَضْمونَةٌ حتَّى نُؤَدِّيَهَا إِلَيْكَ". قال الحاكم: صحيح الإِسناد. ولم يخرجاه. اهـ. شعيب.
(1)
وقوله: "صح وندب إعارة، نقل المواق هنا عن ابن يونس: العارية مندوب إليها لقوله صلى الله عليه وسلم: "كُل مَعْرُوفٍ صَدَقَة".
وقال الحطاب: وهي من حيث ذاتها مندوب إليها لأنها إحسان {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ويعرض وجوبها نعني عينها لمن يخشى بعدمها هلاكه، وحرمتها ككونها معينة على معصية، وكراهتها ككونها معينة على مكروه، وتباح لغني عنها. وفيه نظر لاحتمال كراهتها في حقه. اهـ. منه.
(2)
وقوله: بلا حجر، قال الحطاب: مراده هنا بالحجر أعم من الحجر المتقدم في بابه ليشمل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ما إذا منع المعير المستعير من الإِعارة فإنه ليس له الإِعارة، قال ابن سلمون: العارية مندوب إليها. وتصح من كل مالك للمنفعة، وإن كان ملكه لها بإجارة أو عارية ما لم ججر عليه، ذلك ومن اسْتعار شيئًا لمدة أو اكتراه، فله أن يعيره لمثله في تلك المدة أو يكريه إلا أن يشترط عليه أن لا يفعل ذلك. اهـ. منه.
وتصح من كل مالك للمنفعة، وإن كان ملكه لها بإجارة أو عارية ما لم يحجر عليه، ذلك ومن اسْتعار شيئًا لمدة أو اكتراه، فله أن يعيره لمثله في تلك المدة أو يكريه إلا أن يشترط عليه أن لا يفعل ذلك. اهـ. منه.
(3)
وقوله: عينًا لمنفعة مباحة: في المواق هنا: العارية هبة المنافع دون الرقاب؛ فلا تعار المكيلات ولا الموزونات، هانما تكون قرضًا لأنها لا تراد إلا للاستهلاك لا عيانها، وكذلك الدراهم والدنانير إذا أخذت ليتصرف فيها، قال: ومن شرط المستعار أن يكون الانتفاع به مباحًا، فلا تستعار الجواري للاستمتاع. ويكره استخدام الإِماء إلا من المحرم والنسوان، أو لمن لم يبلغ الإِصابة من الصبيان. ا. هـ.
(4)
وقوله: لا كذمي مسلمًا: أي لا تصح إعارة رقيق مسلم لذمي، فإن ذلك ممنوع لما فيه من إذلال المسلم للكافر، والله تعالى يقول:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
(1)
الآية وقال تعالى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}
(2)
الآية.
(5)
وقوله: وجارية لوطء أو خدمة لغير محرم، قال المواق هنا: شرط عارية خدمة الإِماء كونه لمن لا يخشى متعته بهن، وذلك للإِجماع على أنه لا يحل التممع بهن إلا بملك تام أو بنكاح. قال: فتجوز إعارتهن للنساء، ولغير بالغ، ولذي محرم منهن كالابن والأب والأح وابن الأخ والجد والعم، هؤلاء بالانتفاع بالخدمة على ضَرْبينِ: فمن حكان منهم يصح منه ملك رقبة المخدوم جاز أن يستخدمه، ومن لم يجز له ملك الرقبة لم يجز له أن يسخخدمه تلك المدة، وتكون منافع ذلك العبد أو تلك الأمة لهما دون من وهبت له. ا. هـ. منه.
تنبيهٌ: إجارة الرجل المرأة على خمسة أوجه. فإن كان عزبًا لم يجز له أن يستأجر امرأة، سواء كان
(1)
سورة النساء: 141.
(2)
سورة المنافقون: 8. =
والنُقُودُ قَرْضٌ بِمَا يَدُلُّ رَجَازَ أَعِنِّي بغُلَامِكَ لأعِينَكَ إجَارَةً، وَضَمِنَ الْمَغِيبَ عَلَيْهِ إلَّا لِبَيِّنَةٍ (1)، وَهَلْ وَإنْ شَرَطَ نَفْيَهُ؟ تَرَدُدٌ، لَا غَيْرُهُ (2) ولَوْ بِشَرْطٍ (3)، وحَلَفَ فِيمَا عُلِمَ أنَهُ بِلَا سَبَبِهِ كَسُوسٍ أنَهُ ما فَرَّطَ، وَبَرِئَ في كَسْرِ كَسَيْفٍ إنْ شُهِدَ لَهُ أنَّه مَعَه في اللِّقَاء أوْ ضَرَبَ بِه ضَرْبَ مِثله، وَفَعَلَ الْمأذُونَ وَمثْلَهُ وَدُونَهُ لَا أضَرَّ، وإنْ زَادَ مَا تُعْطَبُ بِهِ فَلهُ قِيمَتُهَا أوْ كِرَاؤهُ كرديفٍ وَاتُّبِعَ إنْ أعْدَمَ وَلَمْ يَعْلَمْ بالإِعَارةِ وإلَّا فَكِراؤُهُ. ولَزِمَتْ المقَيَّدَةُ بِعَمَلٍ أوْ أجَلٍ لانْقِضَائهِ وإلَّا فَالْمُعْتَادُ (4)، ولَهُ الإِخْراج في كبِنَاءٍ إنْ دَفَعَ مَا أنْفَقَ وَفِيهَا أيْضًا قِيمَتُهُ، وهَلْ خِلافٌ؟ أوْ قِيمَتُهُ إنْ لمْ يَشْتَرِهِ؟ أوْ إنْ طَالَ؟ أوْ إنْ اشْتَراهُ بِغَبْنٍ كثير؟
= مأمونًا أو غير مأمون. وان كان له أهل والحال أنه مأمون جاز له أن يستأجرها. وان كان غير مأمون لم يجز له ذلك؛ وإن كانت المرأة متجالة لا أرب للرجال فيها، جاز للرجل أن يستأجرها، وكذلك إن كانت شابة وكان الرجل شيخًا فانيًا. انظر المواق.
(1)
قوله: وضمن المغيب عليه إلا لبينة: نسب المواق هنا للمدونة، قال ابن القاسم: العارية مضمونة فيما يغاب عليه من ثوب أو غيره من العروض، فإن ادَّعى المستعير أن ذلك هلك أو سرق أو انحرق أو انحسر، فهو ضامن، وعليه فيما أفسد فسادًا يسيرًا ما نقصه، وإن كان كثيرًا ضمن قيمته كله إلَّا أن يقيم بينة أن ذلك هلك بغير سببه، فلا يضمن إلَّا أن يكون منه تضييع أو تفريط بيّن فيضمن. ا. هـ. منه.
وقال الحطاب: قال في المقدمات: إذا وجب على المستعير ضمان العارية، فإنه يضمن قيمة الرقبة يوم انقضاء أجل العارية على أنه ينقصها الاستعمال المأذون فيه، بعد يمينه؛ لقد ضاعت ضياعًا لا يقدر على ردها. ا. هـ. منه.
أما القول في ضمان العارية، فإن أهل العلم اختلفوا فيه؛ فذهب جماعة منهم إلى أنها أمانة في يد المستعير، إلَّا إذا تعدى فيها فيضمن بالتعدي، يروى ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه، وابن مسعود، وهو قول شريح، والحسن، وإبراهيم النخعي، وبه قال سفيان الثوري، وأصحاب الرأي، وإسحاق ابن راهويه. =
تأويلاتٌ. وإنْ انْقَضَتْ مُدَّةُ البنَاءِ والْغَرْسِ فكالْغَصْبِ وإن ادّعاهَا الآخِذُ والْمَالِكُ الْكِرَاءَ فَالْقَوْلُ لَهُ إلَّا أن يَأنَفَ مِثْلُهُ، كزَائِدِ المَسَافَةِ إنْ لَمْ يَزِدْ وَإلَّا فَلِلْمُسْتَعِيرِ فِي نَفْي الضَّمَانِ وَالكِرَاءِ وَإنْ بِرَسُولٍ مُخَالِفٍ، كدَعْوَاهُ رَدَّ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وإنْ زعَمَ أَنَّهُ مُرْسَل لاسْتِعَارةِ حُلِيٍّ وَتَلِفَ ضَمِنَهُ مُرْسِلُهُ إنْ صَدَّقَهُ وَإلاَّ حَلَفَ وَيَرِئ ثُمَّ حَلَفَ الرَّسُولُ وَبَرِئَ، وَإنْ اعْتَرَفَ بِالْعَدَاءِ ضَمِنَ الْحُرُّ والْعَبْدُ في ذِمَّتِهِ إنْ عَتَقَ، وَإنْ قَالَ أوْصَلْتُهُ لَهُمْ فَعَلَيْه وعَلَيْهِمْ اليَمِينُ ومَئونَةُ أخْذِهَا عَلى المُسْتَعِيرِ كَردِّهَا على الأظْهَرِ. وفي عَلَفِ الدَّابَّةِ قَوْلَانِ.
= وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن العارية مضمونة على المستعير، منهم ابن عباس رضي الله عنهما، وأبو هريرة، وهو قول عطاء، وبه قال الشافعي وأحمد، وذهب مالك رحمه الله إلى أنه إن ظهر هلاك العارية فلا ضمان، وإن خفي هلاكها ضمن.
وحجة من يقول: هي مضمونة. حديث صفوان بن أمية وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: "بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ"؛ قال ابن التركماني في الجوهر النقي: ذكر -يعني البيهقي- قوله عليه السلام: "بَلْ عَارِيَة مَضْمُونَةٌ" من وجوه: الأول فيه ابن إسحاق. وفي الثاني شريك، وفيهما كلام، وفي الثاني عند أبي داود رواية يزيد ببغداد، وروايته بواسط على غير هذا، وفي الثالث قيس بن الربيع ضعفه البيهقي في باب: من زرع في أرض غيره. وفي الرابع مجهول ولفظه: "إِنْ شِئْتَ غَرِمْنَاهَا لَكَ"؛ وهذا اللفظ يدل على أنها غير مضمونة، إذ لو كانت مضمونة لغرم عليه الصلاة والسلام ما ضاع منها دون أن يرد اليه المشيئة .. وفي الإِشراف لابن المنذر: وفي بعض الأخبار أنه عليه الصلاة والسلام قال لصفوان: "إِنْ شِئْتَ غَرِمْنَاهَا لَكَ" - وفي هذا دليل على أنها ليست مضمونة، ولا أعلم مع من رأى تضمينها حجة توجب ذلك. انتهى كلامه، قال: وأيضًا لو كانت العارية مضمونة لكان النبي صلى الله عليه وسلم غنيًا عن ذكر الضمان، بل ولقال: وهل تكون العارية إلا مضمونة.
قال: ثم أكثر البيهقي وجوه الحديث ثم قال: بعض هذه الأخبار وإن كان مرسلًا فإنه يقوي شواهد هذه الموصولة قبله. قال ابن التركماني: هذا الحديث اضطرب سندًا ومتنًا وجميع وجوهه لا يخلو من نظر، ولهذا قال صاحب التمهيد: الاضطراب فيه كثير، ولا حجة فيه عندي في تضمين العارية. انتهى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= كلامه. قال: ثم على تقدير صحة قوله "مَضْمُونَةٌ" فإن المراد به مردودة أي مضمونة الرد عليك، بدليل قوله:"حَتَّى نُؤَدِيَهَا إِلَيْكَ" ويحتمل أن يريد اشتراط الضمان، والعارية بشرط الضمان مضمونة فى رواية للحنفية.
وأخرج النسائي عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَتْكَ رُسلي فَأعْطِهِمْ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلاثِينَ مِغْفَرًا" قال: قلت: يا رسول الله، أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال:"بَلْ عَارِيَةَ مُؤَدَّاةٌ".
قال ابن حزم: حديث حسن ليس في شيء مماروي في العارية خبر يصح غيره. وأما ما سواه فليس يساوي الاشتغال به، وقد فرق فيه بين الضمان والأداء.
ومن طريق عبد الرزاق قال عمر: العارية بمنزلة الوديعة، ولا ضمان فيها إلا أن تتعدى.
ومن طريق ابن أبي شيبة قال عليُّ: العارية ليست بيعًا ولا مضمونة، إنما هو معروف، إلا أن يخالف فيضمن. قال ابن حزم: صحيح، وهو قول النخعي، وعمر بن العزيز، والزهري، وغيرهم.
وفي الإِشراف لابن المنذر: روينا عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما: قالا: ليس على مؤتمن ضمان. قال: وممن كان لا يرى العارية مضمونة الحسن، وعمر بن العزيز. وبه قال الثوري. وإسحاق والنعمان وأصحابه. وذكر الخطابي كما ذكر ابن المنذر، ثم ذكر البيهقي عن الحسن عن سمرة عنه عليه السلام:"عَلَى الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ". ثم إن الحسن نسي حديثه فقال: هو أمينك.
قال ابن التركماني: لم يسمع الحسن من سمرة هذا الحديث، وأيضًا الأداء فرض ولا يلزم منه الضمان، ولو لزم من هذا اللفظ الضمان للزم البيهقي أن يضمن الرهون والودائع لأنها مما قبضته اليد، وإذا لم يدل هذا الحديث على الضمان، فلم يخالفه الحسن في قوله: لا ضمان عليه، ولم ينسه أيضًا. انتهى منه.
(2)
وقوله: لا غيره: يعني أنه لا يضمن ما لا يغاب عليه. قال الجزولي في شرح قول الرسالة: ولا يضمن ما لا يغاب عليه من عبد أو دابة، وهو مصدق في هلاكه ويحلف؛ متهمًا كان أو غير متهم.
ذكر ذلك الحطاب ونسب للتوضيح: قال ابن المواز: وإذا قلنا: لا يضمن الدابة، فيضمن سرجها ولجامها. قال اللخمي: ولا يضمن العبد ولا لباسه، لأن العبد حائز لما عليه. ا. هـ. منه.
(3)
قوله: ولو بشرط: ذكر المواق: قال ابن رشد: إن اشترط المعير على المستعير الضمان فيما =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لا يغاب عليه، أو مع قيام البينة فيما يغاب عليه، فقول مالك وجميع أصحابه أن الشرط باطل جملة من غير تفصيل، حاشا مطرف. ا. هـ. منه.
وقال ابن قدامة: هي مضمونة، ولو شرط نفي الضمان لم يسقط. ونسب ذلك إلى كل من مذهب أحمد والشافعي.
(4)
وقوله: ولزمت المقيدة بعمل أو أجل لانقضائه وإلا فالمعتاد: نسب المواق هنا لابن عرفة: الوفاء بالعارية لازم. ونسب للمدونة: من ألزم نفسه معروفًا لزمه. ومن كتاب محمد قال مالك في السائل يقف في الباب، فيؤمر له بالكسرة، فيوجد قد ذهب: فأرى أن يعطى لغيره وما هو بالواجب. ومن قال لمديان أو غيره: أنا أعيرك. أنا أهبك، فلا يلزمه. وقد رغب عن مكارم الأخلاق ولا أدري كيف ذلك فيما بينه وبين الله. قال ابن القاسم: وأما ما أدخله بوعده في لازم فذلك الوعد يلزم. قال مالك: إلا أن يموت المعطي قبل القبض.
قلت: قاعدة: هل يلزم الوفاء بالوعد أو لا؟ عقدها الشيخ علي بن قاسم الزقاق في المنهج المنتخب بقوله:
هل يلزمُ الوفاة بالوعد نعمْ
…
أو لا نعم بسبب أو إن لَزِمْ
يعني هل يلزم الوفاء بالوعد مطلقًا؟ أولا يلزم الوفاء به مطلقًا؟ أوإنما يلزم الوفاء به إن وقع بسبب فقط؟ أو هو لا يلزم الوفاء به إلا إذا وقع بسبب ودخل من وقع له الوعد في ذلك السبب؟ أربعة أقوال، كأن يقول: إن تزوجت فعليَّ المهر. فيتزوج بناء على وعده.
وقد نظم شيخ مشائخنا العلامة الشيخ محمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني هذا الفرع فقال:
مشهور مذهب الإِمام مالكْ
…
لزوم ما يعطى بقول المالكْ
تمامه بالقبض ثم ذلكْ
…
في عدة بالقبض أو إدخالكْ
موعَدَها في ورطة كالسالكْ
…
تصرفًا في المال من مقالكْ
وفي المواق هنا: المشتري يخاف الوضيعة فيقول له البائع: لا تخف، قد حط الله عنك كذا من ثمنه. ثم إن المشتري باع بربح، قال: لا تلزم الحطيطة، قال ابن رشد: صار السبب شرطًا لها فوجب بطلانها بارتفاع الشرط. ا. هـ. وهكذا كل وعد تخلف سببه. والله أعلم وهو الموفق.
كتاب الغصب
بَابٌ: الْغَصْبُ أخْذُ مَالٍ (1) قَهْرًا تَعَدِّيًا بِلَا حِرَابَةٍ، وأدِّبَ مُمَيِّزٌ (2) كمُدَّعِيهِ عَلى صَالح (3)، وَفي حَلِفِ الْمجْهُولِ قَوْلَانِ، وضَمِنَ بالاستيلاءِ (4) وإلَّا فَتَرَدُّدٌ كأنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ عَبْدٌ قِصَاصًا أوْ رَكِب أوْ ذبَحَ أوْ جَحَدَ ودِيعَةً أوْ أكَلَ بِلَا عِلْمٍ
كتاب الغصب
(1)
قوله: الغصب أخذ مال إلخ
…
قال الحطاب: الغصب لغة قال الجوهري: أخذ الشيء ظلمًا، غصبه منه وغلبه سواء، والاغتصاب مثله. ا. هـ. ثم قال صاحب المقدمات: التعدي على رقاب الأموال سبعة أقسام، لكل قسم منها حكم يخصه، وهي كلها مجمع على تحريمها. وهي: الحِرابةُ، والغصب، والاختلاس، والسرقة، والخيانة والإِدلال، والجحد. انتهى.
وقال ابن قدامة في المغني: الغصب: هو الاستيلاء على مال غيره بغير حق. وهو محرم بالكتاب والسنة، والاجماع؛ أما الكتاب فقال تعالى في النساء:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
(1)
. وقال تعالى في سورة البقرة: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
(2)
.:
وأمَّا السنة، فقد روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر:"إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذَا في شَهْرِكُمْ هذَا في بَلَدِكُمْ هذَا". رواه مسلم، وغيره - وعن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول اللهُ صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِيَّاهُ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ". متفق عليه. وعن هشام بن عروة عن أبيه يرفعه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَليس لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ". قال البغوي: العرق الظالم أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله، فيغرس فيها، أو يحدث فيها شيئًا ليستوجب به الأرض. قال شعيب الأرنؤوط: هذا الحديث في كتاب الأموال ص: 286، وأخرجه أبو داود في الخراج، والترمذي من حديث أيوب عن هشام بن عروة عن أبيه، عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإسناده قوي، وحسنه الترمذي. ا. هـ. منه.
تنبيهٌ: يفرق الفقهاء بين الغصب والتعدي في التعريف وفي الحكم، أما التعريف، قال المواق: وقال المازري: أحسن ما قيل: إن من قصد إلى التعدي على منفعة الشيء؛ كعبد يستخدمه أو ثوب يلبسه، ولم يقصد إلى الاستيلاء على رقبة العين ولا الحيلولة بينها وبين ربها في التصرف في ملكه،
(1)
سورة النساء: 29.
(2)
سورة البقرة: 188. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= على حسب ما يتصرف به المالك في الرقاب، فإن هذا يسمى تعديًا. ا. هـ.
وقد تقدم تعريف الغصب أنه استعمل في عرف الفقهاء، أنه أخذ أعيان الممتلكات بغير رضا أربابها على وجه القهر والغلبة. والفرق بينهما في الحكم، منه: أن الغاصب ضامن للمغصوب يوم الغصب؛ لأنه يوم وضع يده عليه بالتعدي، والمعتدي يضمن يوم التعدي. ومنه: أن الغاصب يضمن الفساد اليسير، والمعتدي لا يضمن من ذلك إلا ما كان كثيرًا. ومنه: أنه على المعتدي كراء ما تعدى عليه وأجرته بكل حال عند مالك، وقال في الغاصب: لا كراء عليه. ا. هـ.
قال الحطاب: وفي كثير من هذه الأصول اختلاف بين أصحابنا معلوم، قال: ويؤخذ منه أن من تعدى على دابة وديعة وركبها فعليه أجرتها. فتأمله.
قال: وفي الذخيرة قال بعضهم: الغصب رفع اليد المستحقة ووضع اليد العادية قهرًا. وقيل: وضع اليد العادية قهرًا. قال: وقال ابن عرفة: التعدي قال المازري هو غير الغصب، وأحسن ما ميز به عنه أن التعدي هو الانتفاع بملك الغير بغير حق دون قصد الرقبة، أو إتلافه أو بعضه دون قصد تملكه.
(2)
وقوله: وأدب مميز، نسب المواق هنا: لابن رشد: يجب على الغاصب لحق الله تعالى الأدب والسجن على قدر اجتهاد الإِمام، ليتناهى الناس عن حرمات الله، إلا أن يكون صغيرًا لم يبلغ الحلم، فإن الأدب يرفع عنه لحديث:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ" وقيل: يؤدب كما يؤدب في المكتب. ا. هـ. وقال الحطاب في المقدمات: يجتمع في الغصب حق الله وحق المغصوب منه، على الغاصب لحق الله تعالى الأدب والسجن على قدراجتهاد الحاكم؛ ليتناهى الناس عى حرمات الله. ولا يسقط ذلك عنه عفو المغصوب منه. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: كمدعيه على صالح: قال المواق: من المدونة: قال ابن القاسم: من ادَّعى على رجل غصبًا، وهو ممن لا يتهم بذلك، عوقب المدعي، وإن كان متهمًا بذلك نظر فيه الإِمام أو حلّفه، فإن نكل لم يقض عليه حتى يرد اليمين كسائر الحقوق. ا. هـ. منه. قال الدسوقي: وفي النوادر محل أدب من ادعاه على صالح إذا كانت الدعوى على وجه المشاتمة، لا إن كانت على وجه التظلم.
قال: فإن أقام عليه البينة غرم، وإلا فلا شيء عليه، ولا يمن عليه اتفاقًا، ا. هـ. منه. بتصرف.
(4)
قوله: وضَمِن بالاستيلاء ألخ .. قال المواق: ابن عرفة: الاستيلاء هو حقيقة الغصب يوجب =
أوْ أكْرَهَ غَيْرَهُ على التَّلَفِ، أوْ حَفَرَ بِئْرًا تَعَدِّيًا، وقُدِّمَ عَلَيْهِ الْمُرْدِي إلَّا لِمُعَيَّنٍ فسِيَّانِ، أوْ فَتَحَ قَيْدَ عَبْدٍ لِئَلَّا يأبَقَ، أوْ عَلى غَيْرِ عَاقِلٍ إلَّا بِمُصَاحَبَةِ رَبِّهِ، أوْ حِرْزًا لِمثْلِيٍّ ولَوْ بِغَلَاءٍ بِمِثْلِهِ (1)، وصَبَرَ لِوُجُودِهِ ولبَلَدِهِ (2) وَلَوْ صَاحَبَهُ ومُنعِ مِنْهُ لِلتَّوثُّق ولَا رَدَّ لَهُ كإجَارتِه بَيعَهُ مَعيبًا زَال، وقال: أجَزْتُ. لِظنِّ بَقَائِه، كنُقْرة
= الضمان، وقال أيضًا: مجرد حصول المغصوب في حوزة الغاصب يوجب ضمانه بسماوي أو بجناية غيره عليه. وقال ابن يونس: يضمنه يوم الغصب، وإن هلك من ساعته بأمر من الله، أو بجنايته، أو بجناية غيره، أو كانت دارًا فانهدمت. قال مالك: كن غصب عبدًا فمات من وقته بغير سببه ضمنه، وقال ابن القاسم فيمن غصب دارًا فلم يسكنها حتى انهدمت: غرم قيمتها، وفي المدونة: ما مات من حيوان أو انهدم من الربع بيد غاصبه، بقرب الغصب أو بغير قربه، بغير سبب الغاصب، فإنه يضمن قيمته يوم الغصب. وقال ابن عرفة: وموت المغصوب بحق قصاصٍ أو حرابة كموته. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: والمثلي ولو بغلاء بمثله: نسب المواق للمدونة: قال مالك: من غصب لرجل طعامًا أو إدامًا فاستهلكه فعليه مثله بموضع غصبه منه، فإن لم يجده هناك مثلًا، لزمه أن يأتي بمثله إلا أن يصطلحا على أمر جائز. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وصبر لوجوده ولبلده، قال ابن عرفة: لو فقد المثل حين طلبه فقال ابن القاسم: ليس عليه إلا مثله، يريد أنه يصبر حتى يوجد المثل، وخالف أشهب فقال: يخير حينئذ بين أن يصبر أو يأخذ القيمة.
وإذا لقي المغصوب منه الغاصب بغير البلد الذي غصب فيه، قال في المدونة: لم يقض عليه فيه هناك بمثله ولا بقيمته، وإنما له عليه مثله بموضع غصبه فيه. انتهى مضمونه من المواق.
قلت: كل هذه الفروع التي ذكرها المصنف في هذا الباب دليلها قوله صلى الله عليه وسلم: "عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ". من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، هذا إذا كان المغصوب لا يزال باقيًا.
وأما إذا كان المغصوب مقومًا أو مثليًا، وأتلفه الغاصب أو تلف في يديه، فإن الاستدلال له، إذا كان مقومًا، ظاهر بين بحديث الصحيحين:"مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ يُقَوَّمُ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاؤُهُ حُصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدَ، وَإِلَّا فَقَدْ أَعْتَقَ مِنْهُ مَا عْتَقَ". هذا لفظ البيهقي وقال: اتفقا على إخراجه في الصحيح من حديث مالك. =
صيغَتْ وطِينٍ لُبِّنَ وقَمْحٍ طُحِنَ ويذْرٍ زُرعَ وبيضٍ أفْرخَ إلَّا مَا بَاضَ إنْ حَضَنَ، وعَصِيرٍ تَخَمَّرَ، وإنْ تَخلَّلَ خُيِّرَ كتَخَلُّلِهَا لِذِمِّيٍّ، وتَعَيَّنَ لِغَيْره، وإنْ صَنَعَ كَغَزْلٍ وحَلْيٍ وغيْرِ مِثْلِيٍّ فَقِيمتُة يَوْمَ غَصْبِهِ وَإنْ جِلْدَ مَيْتَةٍ لمْ يُدْبَغْ أوْ كَلْبًا ولَوْ قَتَلَهُ تَعَدِّيًا، وخُيِّرَ في الأجنبيِّ، فإنْ تَبِعَهُ تَبِعَ هُوَ الْجَانِيَ فإنْ أخَذَ رَبُّهُ أقَل فَلَهُ الزَّائِدُ مِنَ الغَاصِبِ فَقَطْ. وَلَهُ هَدْمُ بِنَاءٍ عَلَيْهِ وغَلَّة مُسْتَعْمَلٍ، وصَيْدُ عَبْدٍ وجَارح وَكراءُ أرْضٍ بنيتْ كَمَرْكَبٍ نَخِرٍ وأخَذَ مَا لَا عَيْنَ لَهُ قَائِمَة، وصَيْدَ شَبَكَةٍ وَمَا أنْفَقَ في الْغَلَّةِ، وهَلْ إنْ أعْطَاهُ فيه مُتَعَدّدٌ عَطَاءً فَبِهِ أوْ بالأكْثَر مِنْهُ ومِن الْقِيمَةِ تَرَدُّدٌ، وَإنْ وَجَدَ غَاصِبَهُ بِغَيْرِهِ وَغَيْر مَحَلِّهِ فَلَة تَضْمِينُهُ، ومَعَهُ أخَذَهُ إنْ لَمْ يَحْتَجْ لِكبيرِ حَمْلٍ، لَا إنْ هَزلَتْ جَارِيَةٌ أوْ نَسِيَ عَبْدٌ صَنْعَةً ثُمَّ عَادَ أوْ خَصَاهُ فَلَمْ يَنْقُصْ أوْ جَلَسَ عَلى ثوْبِ غَيْرِهِ في صَلَاةٍ، أوْ دَلَّ لِصًّا أوْ أعَادَ مَصُوغًا عَلى حَالِهِ، وعَلى غَيْرهَا فَقِيمَتُهُ كَكَسْرِهِ أوْ غَصَبَ مَنْفَعَةً فَتَلِفَتْ الذَّاتُ، أوْ أكَلَهُ مَالِكُهُ ضِيافَةً أوْ نَقَصَتْ لِلسُّوقِ (1) أوْ رَجَعَ بِها مِن سَفَرٍ، وَلَوْ بَعُدَ كَسَارِقٍ. ولَهُ في تَعَدِّي كَمُسْتَأجِر كِرَاءُ الزَّائدِ إنْ سَلِمَتْ وإلَّا خُيِّرَ فِيهِ وَفِي قيمَتِها وَقْتَهُ وإنْ تَعَيَّبَ وإنْ قَلَّ كَكَسْرِ نَهْديْهَا أوْ جَنَى هُوَ أوْ أجْنَبِيٌّ خُيِّرَ فِيهِ كَصِبْغِهِ في قيمَتِهِ وَأخْذِ
= وبحديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام، فضربت بيده فانكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام وقال "كُلُوا" وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة، هذا لفظ البيهقي، وقال رواه البخاري في الصحيح عن مسدد، وللحديث ألفاظ أخرى غير هذا.
(1)
قوله: أو نقصت للسوق، هذا التغيير لا يفوت المغصوب على صاحبه، بخلاف التعدي. قال في المدونة: ما اغتصبه غاصب فأدركه ربه بعينه لم يتغير في بدنه فليس له غيره، ولا ينظر إلى نقص =
ثَوْبِهِ وَدَفْعَ قِيمَةِ الصِّبْغَ وَفي بِنَائِه في أخْذِهِ وَدَفْعَ قِيمَةِ نُقْضِهِ بَعْدَ سُقُوطِ كُلْفَةٍ لَمْ يَتَوَلَّهَا ومَنْفَعَةَ الْبُضْعِ والحُر بالتَّفْويتِ كَحُرٍّ بَاعَهُ وتَعَذَّرَ رُجُوعُهُ ومَنْفَعَةَ غَيْرِهمَا بِالْفَوْتِ. وَهَلْ يَضْمَنُ شَاكِيهِ لمُغَرِّمٍ زائِدًا عَلى قَدْرِ الرسُولِ إنْ ظَلَمَ أوِ الْجَمِيعَ أوْ لَا؟ أقوَال، ومَلكهُ إنِ اشْتَراهُ وَلَوْ غَابَ أوْ غَرمَ قِيمَتَهُ إنْ لَّمْ يُمَوِّهْ، ورَجَعَ عَلَيْهِ بِفَضْلَةٍ أخْفَاهَا، والْقَوْلُ لَهُ في تَلَفِهِ وَنَعْتِهِ وَقَدْرِهِ، وَحَلَفَ كَمُشْتَرٍ مِنْهُ ثُمَّ غَرِمَ لآخِرُ رُؤْيَةٍ، ولِرَبِّهِ إمْضَاءُ بَيْعِهِ، ونَقْضُ عِتْقِ المشْتَرِي وإجَازَتُهُ، وَضَمِنَ مشْتَرٍ لَمْ يَعْلَمْ في عَمْدٍ لَا سَمَاوِيٍّ وغَلّةٍ، وَهَلْ الْخَطَأ كَالْعَمْدِ؟
تَأويلَانِ، وَوَارِثُهُ وَمَوْهُوبُهُ إِنْ عَلِمَا كَهُوَ، وَإلَّا بُدِئَ بِالْغَاصِب وَرَجَعَ عَلَيْهِ بِغَلَّةِ مَوْهُوِبهِ، فَإنْ أعْسَرَ فَعَلى الْمَوْهُوبِ، ولُفِّقَ شَاهِدٌ بِالْغَصْبِ لَآخَرَ عَلى إقْرَارِهِ بِالْغَصْبِ، كَشَاهِدٍ بِمِلْكك لثانٍ بِغَصْبِكَ وَجُعِلْتَ ذَا يَدٍ لَا مَالِكًا إلَّا أَنْ تَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِ المِلْكِ وَيَمِينَ الْقَضَاءِ. وإنْ ادَّعَتْ اسْتِكْرَاهًا عَلى غَيْرِ لَائقٍ بِلَا تَعَلُّقٍ
= قيمته باختلاف سوقه. طال زمان ذلك سنين أو كان ساعة واحدة، وإنما ينظر إلى تغيير بدنه.
قال مالك: وهو بخلاف المتعدي في حبس الدابة من مكتر أو مستعير يأتي بها أحسن حالًا، فربها مخير في أخذ الكراء أو يضمنه القيمة يوم التَّعدي لأنه حبسها عن سوقها. ا. هـ. المواق.
قلت: وأما دليل تضمين الغاصب ما نقص به المغصوب من حيث بدنه، فهو ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن الفقهاء من أهل المدينة أنهم كانوا يجعلون في كل بهيمة أصيبت، ما بين قيمة البهيمة صحيحة العين ومصابة العين، وكل ما أصيب من البهيمة فعلى قدر ذلك. قال عيسى بن منيا - وهو أحد من روى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد: فأما جراح العبد فإنهم يجعلون جراح العبد تجري جراحه كلها في قيمته يوم يصاب كما تجري جراح الحرفي ديته.
حُدَّتْ لهُ (1).
والمُعْتَدِي جَانٍ عَلى بَعْضٍ غَالِبًا (2)، فإنْ أَفَاتَ المَقْصُودَ كقَطْعِ ذنَبِ دَابَّةٍ ذِي هَيْئَةٍ أوْ أذُنِهَا أوْ طيْلَسَانِهِ أوْ لَبَنِ شَاةٍ هُوَ المقْصُودُ، وقَلْعِ عَيْنَيْ عَبْدٍ أوْ لِدَيْهِ فَلَهُ أخْذهُ ونَقْصُهُ أوْ قِيمَتُهُ، وإنْ لمْ يُفِتْهُ فَنَقْصُهُ (3) كَلَبَنِ بَقَرَةٍ وَيَدِ عَبْدٍ أو عَيْنِهِ، وعَتَقَ عَلَمه إنْ قُوِّمَ وَلَا مَنْعَ لِصَاحِبِهِ في الفاحِش عَلى الأرْجَحِ. ورفَا الثَّوْبَ مُطْلَقًا. وَفِي أجْرَةِ الطَّبيبِ قَوْلَانِ.
(1)
وقوله: وادَّعت استكراهًا على غير لائق بلَا تعلق حدت له: نقل المواق هنا عن ابن رشد قال: من استكره أمة أو حرة فوطئها، فعليه في الحرة صداق مثلها، وفي الأمة ما نقصها، بكرًا كانت أو ثيبًا. وهذا إذا ثبت الوطء ببينة أو بإقراره، وادعت هىِ ذلك مع قيام البجنة لحى غيبته طيها، وأما إنْ ادعت أنه استكرهها ولا بينة لها، فإن كان رجلًا صالحًا لا يليق به ذلك، ولم تأت متعلقة به، فلا خلاف أنه لا شيء على الرجل، وأنها تحد له حد إلقذف، وتحد حد الزنا إن ظهر بها حمل، وتحد حد الزنا وإن لم يظهر بها حمل لإِقرارها به إلا أن ترجع عن إشرارها، وإن أتت متعلقة بهذا الرجل الصالح فهذا يسقط عنها حد الزنا، لما بلغت من فضيحة نفسها، وتحد له حد القذف عند ابن القاسم. قال: وإن ادعت ذلك على فاسق ولم تأت متعلقة به، فهذا لا تحد له حد القذف ولا تحد أيضًا حد الزنا إلا أن يظهر بها حمل. ولا صداق لها. وينظر الإِمام في أمره. وإن أتت متعلقة بهذا الفاسق، سقص عنها حد القذف وحد الزنا وإن ظهر حمل. ا. هـ. منه.
قال الحطاب في المحتعلقة بالصالح: وقال بعض أصحابنا في المشتهرة بذلك مثل صاحبة جريج أنها تحد للزنا على كل حال، ولا تصدق بتعلقها وفضيحة نفسها لأنها لم تزل مفتضحة بحالها، قال: وهذا صحيح في النظر. ا. هـ. منه.
خاتمة: يستفاد من الأدلة أنه لا يجوز شيء من مال المسلم إلا برضاه، فإن الله تعالى يقول:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}
(1)
. الآية. وقد تقدمت، قال القرطبي في التفسير: الخطاب بهذه الآية يضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق. فيدخل في هذا القمار،
(1)
سورة البقرة 188. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والخداع، والغصب، وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، وما حرمتد الشريعة وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغي وحلوان الكاهن، وأثمان الخمور والخنزير. ا. هـ. محل الغرض منه.
وفي الحديث عن عمرو بن يثربي الضمري قال: شهدت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، فكان فيما خطب به قال:"وَلَا يَحِلُ لأحَدٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ". فلما سمعه قال ذلك قال: يا رسول الله، أرأيت لو لقيت غنم ابن عمي فأخذت منها شاة فأجزرتها، فعليّ في ذلك شيء؟ قال:"إِنْ لَقِيتَها نَعْجَةٌ تَحْمِلُ شفرة وَزِنَادًا بِخَبْتِ الْجَميشِ فَلَا تَمَسَّهَا". أخرجه البيهقي.
وأضج البيهقي كذلك بسنده عن يسار، عن ابن عمر فذكر الحديث في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم أيام التشريق وقال فيها:" أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كَانَتْ عِنْدهُ وَدِيعَة فَلْيَرُدَّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلَّا مَا طابَتْ بِهِ نَفْسُهُ".
وأخرج البيهقي كذلك بسنده عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، عن رجل من مزينة قال: صنعت امرأهَ من المسلمين من قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا فدعَه وأصحابه، قال فذهب بي أبي معه. قال: فجلسنا بين يدي آبائنا مجال الأبناء من آبائهم، قال: فلم يأكلوا حتى رأوا رسول اللهُ صلى الله عليه وسلم أكل، فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمة رمى بها ثم قال:"إِنِّي لَأجِدُ طَعْمَ لَحْمِ شَاةٍ ذُبِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا". فقالت: يا رسول الله، أَخي، وأنا من أعز الناس عَليه، ولو كان خيرًا منها لم يغير عليَّ، وعليَّ أَن أُرضه بافضل منها. فأبى أن يأكل منها وأمر بالطعام للأسارى. قال البيهقي: وهذا لأنه كان يخشى عليه الفساد، وصاحب الشاة كان غائبًا، فرأى من المصلحة أن يطعمها الأسارى، ثم يضمن لصاحبها. والله أعلم. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: والمعتدي جان على بعض، هذا التعريف للمعتدي لابن الحاجب. واعترضه ابن عبد السلام بأن هذا التعريف لا يعم صور التعدي؛ لأنه لا يشمل من استعار أو اكترى دابة لمكان معين، ثم زاد على المسافة المدخول عليها، فإنهما متعديان على كل الدابَّة لا على بعضها، ومع ذلك جعلوه من التعدي. قال: فلابد من زيادة غالبًا؛ لأدخالهما في التعدي.
قال الإكليل: ولما أنهى الكلام على الغاصب أتبعه الكلام على المتعدي لتناسبهما. ا. هـ.
وتقدم لك الفرق بين الغصب والتعدي، وأن ضابط التعدي هو الانتفاع بمال الغير دون حق فيه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال اللخمي: والتعدي على أربعة أنواع: يسير لم يبطل الغرض المقصود منه، ويسير يبطل الغرض المقصود منه، وكثير لم يبطل الغرض المقصود منه، وكثير يبطل الغرض المقصود منه، قال: فاليسر الذي يبطل الغرض المقصود منه، فيه خلاف، قال ابن القصار. يضمن جميعه، فإن قطع ذنب دابة القاضي أو أذنها ضمنها، وكذلك مركوب كل من يعلم أن مثله لا يركب مثل ذلك، فذلك سواء، وسواء كانت الدابة حمارًا أو بغلًا أو غيره، ولا فرق بين المركوب والملبوس كقلنسوة القاضي وطيلسانه وعمامته. وكذا من يعلم أنه لا يلبس مثل ذلك المجني عليه، قال: وهذه هي الرِّواية المشهورة عن مالك.
وإن كانت الجناية كثيرة مفوتة للمقصود من المجني عليه ضمن قيمته أيضًا. قال في المدونة: من فقأ عيني عبد، أو قطع يديه جميعًا فقد أبطله، ويضمن الجارح قيمته ويعتق عليه، فإن لم يبطله بأن فقأ إحدى عينيه، أو قطع إحدى يديه. فعليه ما نقص ولا يعتق عليه. قال ابن رشد: إن قطع اليد الواحدة من صانع ضمن قيمته اتفاقًا ا. هـ. المواق.
(3)
وقوله: وإن لم يُفِتْهُ ويفته فنقصه: أبي وإن لم يفت المقصود منه يأخذ ما نقصه - مع أخذه، وليس له تركه وأخذ قيمته، مثل لما لم يفته فقال: كلبن بقرة ويد عبد أو عينه، إلا أن يكون صانعًا أو ذا يد واحدة فقط أو عين واحدة، فله حينئذ أخذ قيمته وعتق على الجاني.
قلت: وغير خاف على أحد أن حرمة التعدي دليلها قوله صلى الله عليه وسلم "وَلَا يَحِلُّ لِأحَدٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِلَّا مَا طابَتْ بِهِ نَفْسُهُ". وقد تقدم. والله أَعلم. وهو الموفق. وعليه التكلان.
تنبيهٌ: ذكر المواق عند قول المصنف: أو دَلَّ لصًّا، ما يفهم تضمين الغارِّ بالقول، وهو أمر يخالف القاعدة الفقهية التي عقدها في المنهج المنتخب بقوله:
وكل من خالف أو تعدَّى
…
أو غر بالفعل كمن قد شدَّا
أو صب أو قطع أو قد أنكحا
…
لا غر بالقول على ما صححا
ضمنه، لا منازعًا فيما قلع
…
كالصبغ والنحر وللخوف نزع
قال في شرح المنهج. فقوله ضمنه، راجع لكل هذه الأمثلة المتقدمة، أي كل من فعل مما تقدم مما مثل به للغرور بالفعل ضمنه، أي ألزمه ضمان ما غر فيه بفعله. أما من غر بالقول فإنه لا ضمان عليه =
الاستحقاق
فصل: وَإنْ زَرعَ فاسْتُحِقَّتْ، فَإنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِالزَّرْعِ أُخِذَ بِلَا شيءٍ (1)، وإلَّا فَلَهُ قَلْعُهُ إنْ لَمْ يَفتْ وَقْتُ مَا تُرادُ لَهُ، ولَهُ أخْذُهُ بِقيمَتِهَ عَلى المختَارِ وإلَّا فَكِرَاءُ السَّنَةِ كَذي شُبْهَةٍ (2) أوْ جُهِلَ حَالُهُ وفاتَتْ بِحَرْثِهَا فِيمَا بَيْنَ مُكْرٍ ومُكْتَرٍ ولِلمُسْتَحِقِّ أخْذُهَا ودَفْعُ كِرَاءِ الحَرْثِ، فإنْ أبَى قيلَ لَهُ: اعْطِ كِراءَ سَنَةٍ وإلَّا أَسْلِمْهَا بلا شيْءٍ، وفي سِنينَ يَفْسَخُ أوْ يُمْضِي إنْ عَرَفَ النِّسْبَةَ، ولَا خِيَارَ للمُكْترِي لِلعُهْدَةِ وانتَقَدَ إن انْتَقَدَ الأولُ وأمِنَ هُوَ، والْغَلَّةُ لِذِي الشُّبْهَةِ أوْ المجهولِ، لِلْحُكْمِ، كوَارِثٍ ومَوْهُوبٍ ومُشْتَرٍ منه إنْ لم يَعْلَمُوا بخلافِ ذي دَيْنٍ على وَارِثٍ، كَوارثٍ طَرَأ على مِثْلِهِ إلَّا أنْ يَنْتَفعَ وإنْ غَرَسَ أَوْ بَنَى قِيلَ لِلْمَالِك: اعْطِهِ قِيمَتَهُ قَائمًا، فإنْ أبَى فَلَهُ دَفْعُ قِيمَةِ الأرْضِ، فإنْ أبي فشريكانِ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ الْحُكْمِ، إلَّا المُحَبَّسَة فالنَّقْضُ وضَمنَ قِيمَةَ المسْتَحَقَّةِ وَوَلدِهَا يَوْمَ الْحُكْمِ (3)، وَالأقَلَّ إنْ أخَذَ دِيَةً لَا صَدَاقَ حُرَّةٍ أوْ غَلَّتَهَا،
= على ما صححه غير واحد من الشيوخ، وذلك مثل أن يقول: الإناء صحيح ولم يصب فيه، أو يقول: الشقة تقطع قميصًا ولم يباشر هو قطعها، أو يقول: فلانة حرة، ولم يباشر هو تزويجها منه، فلا ضمان عليه في هذه على الصحيح. ا. هـ. وبالله تعالى التوفيق.
الاستحقاق
قال ابن عرفة: الإستحقاق ترجمة من تراجم كتب المدونة، وهو رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله أو حرية كذلك بغير عوض. ا. هـ. المواق.
وقال الحطاب: لم يبين المصنف حقيقته، وحكمه، وسببه، وشروطه، وموانعه، ولا يتصور إلا بمعرفة ذلك. قال ابن عرفة: هو من تراجم كتبها، أما حقيقته فقال ابن عرفة: هو رفع ملك شيء بثبوت ملك قبله أو حرية كذلك بغير عوض. =
وَإنْ هَدَمَ فكْتَرٍ تَعَدِّيًا فللْمُسْتَحِقِّ النَّقْضُ وَقِيمَةُ الْهَدْم، وإنْ أبْرَأهُ مُكْرِيه كَسَارِقِ عَبْد ثمَّ اسْتُحِقَّ بخِلافِ مُسْتَحِقِّ مُدَّعِي حُرِّيَّة إلَّا الْقَلِيلَ، ولَهُ هَدْمُ مَسْجدٍ، وإنْ اسْتحقَّ بَعْض فَكالْبَيْعِ ورُجِعَ لِلتَّقْويمِ ولَهُ ردُّ أحَدِ عَبْدَيْنِ اسْتُحِقَّ أَفْضَلهُمَا بِحُرِّيَّةٍ، كان صَالحَ عَنْ عَيْبٍ بآخرَ، وهَلْ يُقَوَّمُ الأوَّلُ يَوْمَ الصُّلْح أوْ يَوْمَ الْبَيْعَ؟ تأويلان.
= وقال في اللباب: هو الحكم بإخراج المدعَى فيه الملكية من يد حائزه إلى يد المدعي بعد ثبوت السبب والشروط وانتفاء الموانع.
وأما حكمه، فقال ابن عرفة: حكمه الوجوب عند تيسر أسبابه في الربع على عدم يمين مستحقه، وعلى يمينه مباح كغير الربع، لأن اليمين مشقة.
وأما سببه، فهو قيام البينهَ على عين الشيء المستحق أنه ملك للمدعي لا يعلمون خروجه ولا خروج شىِء منه عن ملكه حتى الآن. والشهادة في أنها لم تخرج عن ملكه إنما تكون على نفي العلم- في قول ابن القاسم المعمول به. قاله في اللباب.
وأما شروطه فثلاثة:
الأول: الشهادة على عينه إن أمكن، وإلا فحيازته، وهي أن يبعث القاضي عدلين -وقيل: أو عدلًا- مع الشهود الذين شهدوا بالملكية، فإن كانت دارًا مثلًا، قالوا لهما مثلًا: هذه الدار هي التي شهدنا عند القاضي فيها الشهادة المقيدة أعلاه.
الثاني: الإِعذار في ذلك إلى الحائز، فإن ادعى مدفعًا أجل له فيه بحسب ما يراه.
الثالث: يمين الاستبراء، واختلف في لزومها على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لابد منها في جميع الأشياء. قاله ابن القاسم، وابن وهب، وابن سحنون. القول الثاني: لا يمين في الجميع أيضًا: قاله ابن كنانة. القول الثالث: إنه لا يحلف في العقار ويحلف في غيره، وهو المعمول به عند الأندلسيين، قال: وفي سجلات الباجي: لو استحق ذلك من يد غاصب لم يحلف. قال ابن سلمون: ولا يمين على مستحق الأصل إلا أن يدعي عليه خصمه ما يوجبها. وقيل لابد من اليمين كالعروض والحيوان. ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ونص هذه اليمين المختلف فيها: هو بالله الذي لا إله إلا هو ما بعت هذا الشيء [ويسميه] المشَهود لي به فيه ولا فوْته ولا خرج عن ملكي بوجه من وجوه الفوْت حتى الآن. والحال أنه يشر إلى الشيء المحلوف عليه الحاضر. ا. هـ. منه باختصار.
(1)
قوله: وإن زرع فاستحقت، فإن لم ينتفع بالزرع أخذ بلا شيء، قال المواق: من تعدى على أرض رجل فزرعها، فقام بها وقد نبت الزرع، فإن قام في إبان يدركه فيه الحرث فله قلعه -يريد في قلعه المتعدي- وإن فات الأوان فله كراء أرضه.
قال أشهب: وكذلك غاصب الأرض. وقال ابن القاسم وأشهب: وإن كان الزرع صغيرًا، إذا قلع لا منفعة فيه للغاصب قضى به لصاحب الأرض بلا ثمن. قال: وإذا كان في الإِبان، وهو إذا قلع انتفع به، فلرب الأرض أن يأخذ منه كراء الأرض أو يأمره بقلعه، إلا أن يتراضيا على أمر جائز، وإن لم يكن في قلعه نفع ترك لرب الأرض إلا أن يأباه فيؤمر بقلعِهِ، قال عبد الوهاب: وإنما كان له قلعه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِم حَقٌّ". قال: وهذا عرق ظالم.
قال: وإن قام عليه، وقد فات إبان الزراعة ولا ينتفع المالك بأرضه إن قلع الزرع، قيل: له أن يقلعه. وقيل: ليس له قلعه وإنما له كراء أرضه، والقول الأول أصح للحديث المتقدم. وقال مالك: إن الزرع إذا أسبل لا يقلع لأن قلعه من الفساد العام للناس فهو كمنع ذبح الفتي من الإبل لما فيه من الحمولة، وذبح ذوات الدر من الغنم.
قال: وقال مالك: وكما نهى عن تلقي الركبان، واحتكار الطعام لمصلحة العامة، فقد منع الخاص من بعض منافعه لما فيه من الضرر بالعامة. ا. هـ. وقال ربيعة: العرق أرْبعة؛ عرقان فوق الأرض، الغرس والبناء وعرقان في جوفها؛ الماء والمعدن.
وقال البغوي في شرح السنة: العرق الظالم أن يجىِء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله فيغرس فيها، أويحدث فيها شيئًا ليستوجب به الأرض. قال: وقال أبو عبيد: هذا التفسير في الحديث. ومما يحقق ذلك حديث آخر، سمعت عباد بن عوام يحدث به عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا الحديث، قال عروة: ولقد أخبرني الذي حدثني بهذا الحديث أن رجلًا غرس في أرض رجل من الأنصار نخلًا، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى للأنصاري بأرضه، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقضى على الآخر أن ينزع نخله، قال: فلقد رأيتها يضرب في أصولها بالفئوس وإنها لنخل غمٌ.
قال شعيب: هذا الحديث في الأموال ص 286/ 287. وأخرج أبو داود من حديث ابن إسحاق مثله إلا أنه قال في مكان قوله: الذي حدثني بهذا الحديث: قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر ظني أنه أبوسعيد الخدري. ا. هـ.
قال أبو عبيد: قوله نخل عُمٌ واحدته عميمة، وهي التامة في طولها والتفافها، ومنه قيل للمرأة: عميمة، إذا كانت كذلك.
قال البغوي: من غصب أرضًا فزرعها أو غرسها، قُلع زرغه وغِراسُه، ولا شيء له، وعليه أجر مثل الأرض من يوم أخذها، وعليه ضمان نقصان دخل الأرض بالغرس أو القلع، قال: وإن أدرك الزرع فهو لمن كان البذر له، لأنه تولَّد من عين ماله، على قول عامة أهل العلم.
وحكي عن أحمد أنه قال: إذا حصد الزرع فهو لصاحب الأرض وللزارع الأجرة. واحتج بما روى شريك عن أبي إسحاق، عن عطاء، عن رافع بن خديج. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" مَنْ زَرعَ في أَرْضِ قَوْم بِغيْرِ إِذْنِهِمْ، فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزرعْ شَيْء وَلَهُ نَفَقَتُهُ". وهذا حديث ضعفه بعض أهل الحديث. قال محمد ابن إسماعيل: لا أعرفه من حديث أبىِ إسحاق إلا من رواية شريك، ويحكى عن أحمد أنه قال: زاد أبو إسحاق فيه: " بِغَيْرِ إِذْنِهِ ". ولم يذكر غيره هذا الحرف.
قال البغوي: إن ثبت قوله: "بِغَيْرِ إِذْنِهِ" احْتمل أن يكون قوله:" لَيْسَ لَه مِنَ الزرعْ شَيءٌ".
على سبيل العقوبة والحرمان لظلمه وغصبه، فإن لم يثبت، فمن زرع أرض الغير بإذنه، فإن كان البذر من الزارع، فما حصل فله، وإن كان البذر من مالك الأرض، فما حصل فلمالك الأرض، وللزارع أجر عمله.
قلت: وقد أخرج البيهقي بسنده عن يحيى بن عروة عن أبيه قال: قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم" مَنْ أَحْيى أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَه وَلحسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَق".
قال: فاختصم رجلان من بياضة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غرس أحدهما نخلًا في أرض الآخر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: قال عروة: فلقد أخبرني الذي حدثني قال: رأيتها وإنه ليضرب في أصولها بالفئوس، وإنه لنخل عُمٌ، حتى أخرجت. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأخرج البيهقي بسنده تحت عنوان: من اغتصب جارية فباعها ثم جاء رب الجارية، فقد ساق السند إلى قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدَ مَالَهُ عنْدَ رَجُل فَهُوَ أَحَق بِهِ وَيتَّبِعُ الْبَيعُ مَنْ بَاعَة". ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه البغوي في شرح السنة عن قتادة عن الحسن عن سمرة، وقال شعيب في التعليق على ذلك: أخرجه أحمد ج 5/ ص 13، وأخرجه أبو داود في البيوع، وأخرجه النسائي ج 7/ ص 313/ 314، قال: وإسناده ضعيف. وفي السنن الكبرى للبيهقي، بعد أن ساق سندًا إلى سعيد بن منصور، ثنا هشيم، ثنا حميد الطويل عن الحسن أن رجلًا باع جارية لأبيه -وأبوه غائب- فلما قَدم أبوه أبى أن يجيز البيع، وقد ولدت الجارية من المشتري، فاختصموا إلى عمر بن الخطاب فقضى للرجل بجاريته، وأمر المشتري أن يأخذ بيِّعه بالخلاص، فلزمه، فقال أبو البائع: مره فليخل عن ابني. فقال له عمر رضي الله عنه: وأنت فخل عن ابنه. ا. هـ.
(2)
وقوله كذي شبهة: قال الحطاب: ظاهر التشبيه أن حكم من كانت الأرض بيده بشبهة حكم الغاصب في جميع الوجوه، وليس كذلك، وإنما مراده بتشبيهه به فيما إذا استحقت من يده بعد أن زرعها وقبل فوات إيان الزراعة، فإن كراء تلك السنة للمستحق، وأما إنْ استحقت من يده قبل أن يزرعها، فسيأتي حكمه في قوله: وللمستحق أخذها، وأما إذا استحقها بعد إبان الزرع فإن كراءها للذي أكراها.
قاله في المدونة: قال: ودخل في ذي الشبهة المشتري والوارث والمكتري منهما، إذا لم يعلموا بالغصب أو التعدي. ا. هـ. منه.
ونص المدونة في ذلك نقلًا عن المواق: قال ابن القاسم: من اكترى أرضًا سنين للبناء أو للزرع أو للغرس، فبنى فيها أو غرس أو زرع، وكانت تزرع السنة كلها، ثم قام مستحق قبل تمام الأمد، فإن كان الذي أكراها مبتاعًا فالغلة له بالضمان إلى يوم الاستحقاق، وللمستحق أن يجيز كراء بقية المدة أو يفسخ؛ وإن كانت أرضًا تزرع في السنة مرة فاستحقها وهي مزروعة قبل فوات إيان الزرع، فكراء تلك السنة للمستحق، وليس له قلع الزرع لأن المكتري زرع فيه بوجه شبهة. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وضمن قيمة المستحقة وولدها يوم الحكم، نقل المواق عن المدونة، قال مالك: من أتباع أمة فأولدها، فلمستحقها أخذها إن شاء مع قيمة ولدها يوم الحكم عبيدًا. وعلى هذا جماعة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الناس، وأخذ به ابن القاسم، وهو قول عَلي رضي الله عنه، ثم رجع مالك فقال: يأخذ قيمتها وقيمة ولدها يوم يستحقها. قال ابن يونس: لأن في أخذها ضررًا على المبتاع إذا أخذت منه كان عارًا عليه وعلى ولده. وقال ابن حبيب: ثم رجع مالك فقال: ليس على المبتاع إلا قيمتها يوم وطئها ولا قيمة عليه في ولدها. وبه أخذ ابن الماجشون وغيره. وبه أقول. ا. هـ. منه.
قلت: قد سبق ذكر قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الجارية التي باعها ابن مالكها وصاحبها غائب وما رجع حتى أولدها المشتري، فلما حضر مالكها امتنع من إجازة البيع ورفعه إلى عمر بن الخطاب فرد الجارية إلى صاحبها.
وعلاوة على ذلك فأخرج البيهقي: أخبرنا أبو حازم، أنبأ أبو الفضل، ثنا أحمد، ثنا سعيد، ثنا خالد بن عبد الله، ثنا مطرف عن عامر الشعبي في رجل وجد جاريته في يد رجل قد ولدت منه، فأقام البينة أنها جاريته، وأقام الذي في يده الجارية البينة أنه اشتراها، فقال: قال عليٌّ: يأخذ صاحب الجارية جاريته ويؤخذ البائع بالخلاص.
قال وحدثنا سعيد، ثنا هشيم، أنبأ إسماعيل بن سالم قال: سمعت الشعبي يقول: ليس الخلاص بشيء؛ من باع ما لا يملك فهو لصاحبه ويَتبع المشتري البائع بما أعطاه، وليسر على البائع أكثر من أن يرد ما أخذ، ولا يؤخذ بغيره.
قال: وروينا من وجه آخر عن الشعبي عن شريح أنه قال: من شرط الخلاص فهو أحمق. سلِّم ما بعت، أوردَّ ما أخذت، ليس الخلاص بشيء.
قال البيهقي: وقول عليٍّ: ويؤخذ البائع بالخلاص، يريد، والله أعلم، بالثمن وقيمة الولد، فيكون موافقًا لقول من بعده، وما روينا عن سمرة عن النبىِ صلى الله عليه وسلم. ا. هـ.
قلت: قول الإِمام مالك الأول الذي رجع عنه هو أجرى على الدليل لحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ رَجُل فَهُوَ أَحَق بِهِ وَيتبعُ الْبَيِّعُ مَنْ بَاعَهُ".
ولقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولقضاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد علمت قوله صلى الله عليه وسلم:"عَلَيْكُمْ بِسُنتِي وَسُنةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي". الحديث. أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وَإنْ صَالَح فَاسْتُحِقَّ مَا بِيَدِ مُدَّعِيهِ، رَجَعَ في مُقِر بِهِ لَمْ يَفُتْ وَإلَّا فَفِي عِوَضهِ كَإنْكَارٍ عَلى الأرْجَحِ لَا إلى الخُصُومَةِ ومَا بِيَدِ المدَّعَى عَلَيْهِ، فَفِي الإِنْكارِ يَرْجِعُ بِمَا دَفَعَ وَإلَّا فَبِقيمَتَهِ وفي الإِقْرَارِ لَا يَرْجِعُ كَعِلْمِهِ صِحَّةَ مِلْكِ بَائِعِهِ، لَا إنْ قَالَ: دَارُهُ، وفي عَرْضِ بَعْضٍ بمَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ أو قيمتِهِ إلّا نِكاحًا وَخُلْعًا وصُلْحَ عَمْدٍ ومُقَاطَعًا بِهِ عَنْ عَبْدٍ أو مُكَاتَبٍ أوْ عُمْرَى (1)، وإنْ أُنْفِذَتْ وَصيَّةُ مُسْتَحَقٍّ بِرِقٍّ لَمْ يَضْمَنْ وَصِي وَحَاجٌّ إنْ عُرِفَ بِالحُرِّيةِ، وأخَذَ السيِّدُ مَا بيعَ، وَلَمْ يَفُتْ بِالثَّمَنِ كَمَشْهُودٍ بِمَوْتِهِ إِنْ أُعْذِرَتْ بَينَتُهُ وإلَّا فكالغَاصِبِ ومَا فَاتَ فالثَّمنُ كَمَا لَوْ دَبَّرَ أَوْ كَبِرَ صَغيرٌ.
(1)
وقوله: وفي عرض بعضٍ بما خرج منه أو قيمته إلا نكاحًا أو خلعًا، وصلح عمد، أو مقاطعًا به عن عبد أو مكاتب أو عمرى، هو مضمون ما عقده الشيخ علي الزقاق في المنهج المنتخب حيث يقول:
والعَرضُ إنْ بيعَ بعَرض فاسْتُحِق
…
رُدَّ بعينه، وإن فات تَحِق
قيمتُه، إلا بخُلع ونِكاحْ
…
مكاتَبٍ، مقاطع، عمرى، اصطلاح
فقيمةُ العِوضِ، والمقيِّدُ
…
مِنْهَا مُسَاقَاة، قِراضٌ وجدوا
فرَسَهَا منها، عياض الكثير
…
عليه، والغيرُ بتأويل بصير
ومعناه أن الأصل أن من باع عرضًا بعرض فاستحق أحدهما، رجع المستحق من يده في عين شيئه إن كان قائمًا، وفي قيمته إنْ فات، إلا في سبع مسائل فإنه يرجع فيها بقيمة ما استحق من يده لا بقيمة شيئه، وهي: من خالع بعبد فاستحق العبد، فإن الخلع لازم، ويرجع بقيمة العبد المستعق من يده ومن نكح بعبد بعينه، أو صالح عن دم عمد على عبد، أو كان عوضًا عن عُمرى أو صالح عن إنكار.
فقوله: اصطلاح، يشمل الصلح عن دم العمد، والصلح عن الخطإ في الإنكار.
وقوله: والمقيِّد ألخ: يعني بالمقيد -باسم الفاعل- الشيخ أبا الحسن فإن له شرحًا على المدونة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عرف بالتقييد، يقول أنه ذكر أن المساقاة، والقراض ومسألة فرس المدونة، مع هذه النظائر التي يلزم فيها قيمة العوض، قال في القراض والمساقاة: إذا أخذ العامل المال، والمساقي الحائط على جزء، ودفعا لمن يعمل فيه بأكثر، فإن رب المال أحق بشرطه، كما إذا أخذا على النصف ودفعا على الثلثين، فيرجع الثاني على العامل الأول بقيمة شرطه، وهو السدس، وكذلك رب الحائط أحق بشرطه فيرجع المساقي الثاني على الأول بسدس الثمرة، سواء كان الربح عينًا أو عرضًا، وكان الأصل أن كلًا منهما يرجع بربع قيمة عمله. وأما فرسها، ففي آخر كتاب الاستحقاق من المدونة: من أسلم ثوبين في فرس موصوف، فاستحق الأدنى من الثوبين، كان عليه قيمة ما استحق وثبت السلم، وإن كان الأصل أن يكون عليه حصة ما استحق وقيمة الفرس. قال عياض: وعلى هذا حمله أكثر المختصرين والشارحين، وحمله آخرون على أن معناه حصة ذلك من قيمة الفرس إلى أجله، وهو قول ابن المواز. ا. هـ.
والحاصل أن أدلة الاستحقاق تتلخص في حديث سمرة بن جندب، وما رواه عروة من قضائه صلى الله عليه وسلم بين اللذين اختصما إليه وقد غرس أحدهما في أرض الآخر، وما روي من قضاء كل من عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما في شأن من استحق جاريته بيد من استولدها. وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الشفعة
بَابٌ: الشُفْعَةُ أخْذُ شَرِيكٍ (1)، ولوْ ذمِيًا بَاعَ لِمُسْلِمٍ لِذِمِيٍّ، كَذِمِّيِّينِ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا أو مُحَبِّسًا ليحُبِّسَ كَسُلْطَانٍ لَا مُحَبَّسٍ عَلَيْهِ وَلَوْ لِيحَبِّسَ، وَجَارٍ وإنْ مَلَكَ تَطَرقًا وَنَاظِرِ وقْفٍ وَكِرَاءٍ، وفي ناظِر المِيراثِ قَوْلَانِ، مِمَّنْ تَجَدَّدَ مِلْكُهُ اللَّازمُ اخْتِيارًا بِمُعَاوَضَةٍ وَلَوْ مُوصىً بِبَيْعِهِ للمَسَاكِنِ عَلى الأصَحِّ والمُخْتَارِ، لَا مُوصىً لَهُ بِبَيْعِ جُزْءٍ عَقَارًا وَلَوْ مُنَاقَلًا بِهِ إنْ انْقَسَمَ وَفيهَا الإِطْلَاقُ وعُمِلَ بِهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ وَلَوْ دَيْنًا أوْ قِيمَة (2) بِرهْنِهِ وَضامِنهِ وأجْرةِ دَلَّالٍ وعَقْدِ شِرَاءٍ وفي المَكْسِ تَرَدُّدٌ أوْ قيمَةِ الشقْصِ في كَخُلْع وصُلْحِ عَمْدٍ (3) وجزافِ نَقْدٍ وَبِمَا يَخُصُّهُ إنْ صَاحَبَ غَيْرَهُ ولَزِمَ المُشْتَرِيَ الْباقِي وإلى أجَلِهِ إنْ أيْسَرَ أو ضَمِنَهُ مَليءٌ وإلَّا عُجِّلَ (4) الثَّمَنُ إلَأ أنْ يَتَسَاوَيَا عُدْمًا على المُخْتَارِ. وَلَا يَجُوزُ إحَالَةُ الْبَائِعِ بِهِ كَأنْ أَخَذَ مِنْ أجْنَبى مَالًا لِيأخذَ وَيرْبح ثُمَّ لا أخْذَ لَهُ، أوْ بَاعَ قَبْلَ أخذِهِ بِخِلَافِ أخْذِ مَالٍ بَعْدَهُ لِيُسْقِطَ كَشجَرٍ وبِنَاءٍ بِأرْض حُبُس (5) أوْ مُعِيرٍ، وقُذمَ الْمُعِيرُ بِنَقْضِهِ أوْ ثَمَنِهِ (6) إنْ مَضىَ مَا يُعَارُ لَهُ، وإلًّا فَقَائِمًا (7)،
كتاب الشفعة
قال ابن قدامة في المغني: الثسفعة استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه، من يد من انتقلت إليه. قال: وهي ثابتة بالسنة والإجماع.
أمَّا السنة: فما رويْ عن جابر رضي الله عنه، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة. متفق عليه. ولمسلم قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم رَبعَةٍ، أوْ حائطٍ، لا يحلُّ له أن يبيع حتى يستاذِنَ شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باع ولم يستأذنه فهو أحق به.
وللبخاري: إنَّما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يقْسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما الإِجماع: فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم، فيما بيع من أرض، أو دار، أو حائط.
والمعنى في ذلك أن أحد الشريكين إذا أراد أن يبيع نصيبه، وتمكن من بيعه لشريكه، وتخليصه مما كان بصدده؛ من توقع الخلاص والاستخلاص، فالذي يقتضيه حسنُ العِشرة أن يبيعه منه، ليصل إلى غرضه من بيع نصيبه، وتخليص شريكه من الضرر، فإذا لم يفعل ذلك، وباعه لأجنبىِ، سلَّط الشرع الشريك على صرف ذلك إلى نفسه، ولا نعلم أحدًا خالف في هذا إلَّا الأصم.
(1)
قوله: الشفعة أخذ شريك، اعلم أنه اتفق أهل العلم على ثبوت الشفعة للشريك في الربع المنقسم، إذا باع أحد الشركاء نصيبه قبل القسمة، فللباقين أخذه بالشفعة بمثل الثمن الذي وقع عليه البيع، وإن باع بشيء مقوم من ثوب أو عبد، أخذه بقيمة ما باعه به.
وحيث إن الشفعة ثبتت على خلاف الأصل من حيث إنها انتزاع ملك المشترىِ بغير رضاء منه، وبإجبار له على المعاوضة، فإنها لا تثبت إلا بشروط هي:
أولًا: أن تكون للشريك المقاسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. فأما الجار غير الشريك فلا شفعة له، وبهذا قال عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو الزناد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، والمغيرة، وهو مذهب مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد. وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وابن المنذر.
وخالف في هذا الشرط جماعة من أهل العلم. منهم ابن سيرين، والثوري، وابن المبارك وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، فقد قال هؤلاء بثبوت الشفعة بالجوار وقالوا: الشريك مقدم عليه. واحتجوا بما رواه عمرو بن الشريد عن أبي رافع يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "الْجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ". صحيح رواه البخاري، والسَّقَبُ: القرب -بالسين وبالصاد- يحتمل أن معناه أحق بالبر والمعونة لحديث عائشة قلت: يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال:"إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا".
ويحتمل أن يكون المراد منه الشفعة، كما ذكروا، غير أن هذا الحديث روي عن عبد الملك بن سليمان، عن عطاء، عن جابر قال: قال ق سول الله صلى الله عليه وسلم: "الْجَارُ أَحَقُ بِشُفْعَةِ جَارهِ يَنْتَظِرُ بِهَا وَإنْ كَانَ غَائِبًا، إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال الشوكاني في نيل الأوطار: والحاصل أن الجار المذكور في الأحاديث إن كان يطلق على الشريك في الشيء وعلى المجاور له بغير شركة، كانت مقتضية بعمومها على ثبوت الشفعة لهما جميعًا، وحديث جابر، وحديث أبي هريرة يعني قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قُسِمَتِ الدَّارُ وُحُدَّتْ فَلَا شفْعَةَ فِيهَا". رواه أبو داود، قال: هذان الحديثان يدلان على عدم الشفعة للجار الذي لا شركة له، فيخصصان عموم أحاديث الجار قال: ولكن يشكل على هذا حديث الشريد بن سويد، فإن قوله:"لَيْسَ لَأحدٍ فِيهَا شِرْك وَلَا قَسْم إِلَّا الْجِوَارُ" مشعر لثبوت الشفعة لمجرد الجوار، وكذلك حديت سمرة لقوله فيه:"جَارُ الدَّارِ أَحَقُ بِالدَّارِ" فإن ظاهره أن الجوار المذكور جوار لا شركة فيه. والجواب عن هذين الحديثين أنهما لا يصلحان لأن يعارض بهما ما في الصحيح، مع أنه يمكن الجمع بما في حديث جابر، الذي يرويه عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء عنه، وقد تقدم نصه، فإن هذا الحديث يقول فيه "إِذَا كانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا". وأن ذلك ليدل على أن الجوار لا يكون مقتضيًا للشفعة إلا مع اتحاد الطريق لا بمجرده. ا. هـ. منه.
والشرط الثاني: أن يكون المبيع عقارًا، وذلك ما أشار إليه المصنف بقوله: عقارًا ولو مناقلًا، به، إن انقسم، وهو يشمل الأرض وما اتصل بها من عرش وبناء يباع معها، فإن في ذلك الشفعة، ولا يعلم فيه خلاف بين أهل العلم. ودليله قوله صلى الله عليه وسلم:"فِي كُل شِرْكٍ لَمْ يُقْسَمْ؟ رَبعَةٍ، أَوْ حَائِطٍ".
واختلف في الثمرة المؤبرة، والزرع يباع مع الأرض، فقد قال مالك وأبو حنيفة: يؤخذ ذلك بالشفعة مع أصوله؛ لأنه متصل بما فيه الشفعة، فتثبت فيه الشفعة تبعًا لأصوله- وخالف الشافعي وأحمد، قالا: لا تثبت الشفعة في الثمرة المؤبرة ولا في الزرع، لا مفردًا ولا تبعًا. انظر ابن قدامة.
قال ابن قدامة: قال أبو الخطاب: وعن أحمد رواية أخرى أن الشفعة تجبُ في البناء والغرس، وإن بيع مفردًا، كما قدمنا أنه المذهب عند مالك، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ".
والشرط الثالث: أن يكون المبيع مما يمكن قسمه، وهو ما أشار إليه المصنف، بقوله: إن انْقسم، أي أن كان قابلًا للقسمة، فلا شفعة فيما لا يقبل القسمة؛ كالحمام والطاحونة، والمعصرة، والحانوت الصغير، ودليله: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا شُفْعَةَ في فِنَاءٍ وَلَا طَرِيقٍ وَلَا منْقبَةٍ".
والمنقبة: الطريق الضيق، قال ابن قدامة: رواه أبو الخطاب في رؤوس المسائل، قال: وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر ولا فحل. ا. هـ. منه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والشرط الرابع: أن يكون شقصًا منتقلًا بعوض، وذلك ما عناه المصنف بقوله: ممن تجدد ملكه اللازم اختيارًا بمعاوضة: قال الحطاب: يدخل في قوله: بمعاوضة، البيع، وهبة الثواب، والمهر، والخلع، وجميع المعاوضات، والصلح ولو كان على إنكار. ا. هـ. منه.
ونقل المواق عن ابن عرفة: المعروف لا شفعة فيما حدث ملكه بهبة لا ثواب فيها، ولا في صدقة.
ونقل غير واحد الاتفاق على نفي الشفعة في الميراث. قال ابن شاس: وثبتت الشفعة فيما وراء ذلك من وجوه المعاوضات بأي نوع كان من التمليكات؛ من مهر، وخلع، وبيع، وإجارة وصلح، وأرش جناية، أو قيمة متلف، أودم عمد أو خطإٍ أو غير ذلك من المعاوضات. قال: ومن المدونة قال مالك: لا شفعة في هبة الثواب إلا بعد العوض، قيل: فَلِمَ أجاز مالك الهبة بغير ثواب مسمى؟ قال: لأنه على وجه التفويض في النكاح، وفي القياس لا ينبغي أن يجوز، وقد أجازه الناس. ا. هـ. منه.
وقال ابن قدامة: وأما المنتقل بغير عوض كالهبة بغير ثواب، والصدقة والوصية والإِرث، فلا شفعة فيه في قول عامة أهل العلم، منهم مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: بمثل الثمن ولو دينًا أو قيمة، قال في المدونة: ما اشتري بعين أو مثلي فالشفعة فيه بمثل ثمنه، وما اشتري بمقوم فقيمته. قال: وما اشترىِ بعبد شفع فيه بقيمته، وما اشتري بعرض
(1)
فإنما ينظر إلى قيمه يوم الصفقة. ا. هـ. المواق.
وفي المدونة قال مالك: من ابتاع شقصًا بثمن إلى أجل فللشفيع أن يأخذ بالثمن إلى ذلك الأجل إن كان مليًا أو أتى بضامن ثقة مليء. ا. هـ. بنقل المواق.
(3)
وقوله: أو قيمة الشقص في كخلع وصلح عمد، نسب المواق هنا للمدونة: قال ابن القاسم: من نكح أو خالع أو صالح عن دم عمد، على شقص، فيه الشفعة بقيمته يوم العقد، إذْ لا ثمن معلوم لعوضه، يريد، ولا يجوز الاستشفاع إلا من بعد المعرفة بقيمته. قال ابن القاسم: إن أخذ الشقص عن دم خَطَإٍ ففيه الشفعة بالدية، فإن كانت العَاقِلة أهل إبل أخذه بقيمة الإِبل، وإن كَانت أهل ذهب أخذه بذهب. ينجم ذلك على الشفيع كالتنْجيم على العاقلة. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وإلى أجله إن أيسر أو ضمنه مليء، وإلا عجّل، تقدم نص المدونهَ إن كان الثمن إلى
(1)
في المواقَ. بعوض -ولعل ما أثبته هو الحق- والله أعلم. =
وكَثمرةٍ وَمقْثَإٍ وباذنْجَانٍ وَلَوْ مُفْرَدَةً إلَّا أنْ تيْبَسَ وحُطَّ حِصَّتُهَا إنْ أزْهَتْ أوْ أبِّرَتْ، وفِيهَا أخذُهِا مَا لَمْ تَيْبَسْ أوْ تُجَذَّ. وَهَلْ هُوَ خِلَافٌ؟ تأويلَانِ، وإنْ اشْتَرى أصْلَهَا فَقَطْ أُخِذَتْ، وإنْ أبِّرتْ وَرَجَعَ بِالْمَئونَةِ وكبئْرٍ لَمْ تُقْسَمْ أرْضُهَا وَإلَّا فَلَا وأوِّلَتْ أيْضًا بالمتَّحِدَةِ لَا عَرْضٍ وكِتَابَةٍ وَدَيْنٍ وعُلُوٍّ عَلى سُفْلٍ وعَكْسِهِ وزَرْعٍ وَلَوْ بأرْضِهِ. وَبَقْلٍ وعَرْصَةٍ ومَمَرٍّ قُسِّمَ مَتْبُوعُهُ وَحَيَوَانٍ إلَّا في كَحَائِطٍ وَإرْثٍ وهِبَة بِلَا ثَوَابٍ وإلَّا فَبِهِ بَعْدَهُ وَخِيَارٍ إلَّا بَعْدَ مُضيِّهِ، وَوَجَبَتْ لمُشْتَرِيهِ إنْ بَاع نِصْفَيْنِ خِيارًا ثُمَّ بَتلًا فأمْضَى، وبَيْعٍ فَسَدَ إلَّا أَنْ يَفوتَ بالقِيمَةِ، إلّاَ ببيْع
= أجل فللشفيع أخذه بالثمن إلى ذلك الأجل، إن كان مليًا أو أتى بضامن ثقة مليء، دهان عجل الشفيع الثمن ظلمبتاع قبضه، ثم ليس عليه أن يعجله للبائع.
(5)
وقوله: وبناء بأرض حبس، نسب المواق هنا للمدونة قال مالك: وإذا بنى قوم في دار حبست عليهم، ثم مات أحدهم، فأراد بعض ورثته بيع نصيبه من البناء فلِإخوته فيه الشفعة. استحسنه مالك قائلًا: ما سمعت فيه بشيء، قال بهرام: وهذه المسألة هي إحدى مسائل الاستحقاق الأربع. والشفعة في الثمار، والقصاص بالشاهد واليمين، وفي الأنملة من الإبهام خمس من الإِبل، كل هذه المسائل قال مالك: فيها ذلك شيء استحسنته وما علمت أحدًا قاله قبلي. ا. هـ. منه. بتصرف قليل.
(6)
وقوله: أو معير وقدم المعير بنقضه أو ثمنه، نسب المواق هنا للمدونة قال مالك: من بنى في عرصة رجل بإذنه ثم أراد الخروج منها، لرب الأرض أن يعطيه قيمة النقض، يريد مقلوعًا أو يأمره؛ وإذا بنى رجلان في عرصة رجل بإذنه، ثم باع أحدهما حصته من النقض، فلرب الأرض أخذه بالأقل من قيمته -يريد مقلوعًا- أو بالثمن الذي باعه به، فإن أبى فلشريكه الشفعة بالضرر، إذ الضرر أصل الشفعة، يريد. فلشريكه الشفعة بالثمن. ا. هـ. منه.
(7)
وقوله: إن مضَى ما يعار له وإلا فقائمًا: نسب المواق للمدونة: من أذنت له أن يبني في أرضك أو يغرس، فلما فعل أردت إخراجه بقرب ذلك، مما لا يشبه أن تعيره إلى مثله، فليس لك إخراجه إلا أن تعطيه ما أنفق، وإلَّا تركته إلى مثل ما يرى الناس أنك أعرته إلى مثله. ا. هـ. منه.
صَحَّ فبالثَّمَنَ فِيهِ، وتَنَازُع في سَبْقِ مِلْكٍ إلَّا أنْ ينْكُلَ أحَدُهُمَا، وسَقَطَتْ إنْ قاسَمَ (1) أو اشْتَرى أوْ سَاوَمَ أوْ سَاقى أوْ اسْتَأجَر أوْ بَاعَ حِصَّتَهُ أو سَكَتَ بِهَدْمٍ أو بناءٍ أوْ شَهْرينِ إنْ حَضَرَ الْعَقْدَ وإلَّا سَنَةً كأنْ عَلِمَ فغَابَ إلَّا أن يَظُنَّ الأوْبَةَ قَبْلَهَا فَعِيقَ وحَلَفَ إنْ بَعُدَ وصُدِّقَ إنْ أنْكر عِلْمَهُ، لا إنْ غَابَ أوَّلًا (2) أوْ أسْقَطَ لِكَذِبِ في الثمَنِ وَحَلفَ أوْ في المشْتَرَى أوِ المُشْتَرِي أوْ انِفْرَادِه، أوْ أَسْقَطَ وَصِيٌّ أوْ أبٌ بِلَا نَظَرٍ وشَفَعَ لِنَفْسِهِ أوْ لِيَتيمٍ آخَر (3) أوْ أنْكَرَ المُشْتَرِي الشِّرَاءَ، وَحَلَفَ وأقَرَّ بِهِ بَائعُهُ وهيَ عَلى الأنْصِبَاءِ وتُركَ لِلشَّرِيكِ حِصَّتُهُ وَطُولبَ بالأخذ بَعْدَ اشْترِائه لا قَبْلَهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ إسْقَاطُهُ وَلَهُ نَقْضُ وَقْفٍ كهِبَة
(1)
وقوله: وسقطت إن قاسم ألخ. هو بيان لمسقطات الشفعة وهي سبعة:
- أن يسقط الشفيع شفعته بالقول؛ كأن يقول: تركت.
- أن يقاسم بما فيه الشفعة.
- أن يطول الزمن قبل أن يأخذ بشفعته بحيث يعد ذلك تركًا منه لشفعته.
- أن يحدث المشتري هدمًا أو بناءً أو غرسًا قبل أن يطالب الشفيع بالشفعة.
- أن يخرج الشقص من يد المشتري ببيع أو صدقة أو هبة أو رهن.
- أن يساوم الشفيع المبتاع في الشقص بأي نوع من المساومة؛ لأن ذلك دليل على أنه أعرض عن أخذه بالشفعة.
- أن يبيع الشفيع الشقص الذي يستشفع بسببه.
(2)
وقوله: لا إن غاب أولًا، نسب الحطاب هنا للمدونة، وقال مالك: الغائب على شفعته وإن طالت غيبته وهو عالم بالثراء، فإن لم يعلم فذلك أحرى ولو كان حاضرًا.
وقد روى أشهب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يُنْتَظَرُ إِنْ كَانَ غَائِبًا". قال أشهب: وقضى عمر بن عبد العزيز بالشفعة للغائب بعد أربع سنين- قال مالك. إلا أن يقوم بعد طول الزمان مما يجهل في مثله أصل البيع ويموت الشهود فأرى الشفعة منقطعة. ا. هـ. منه.
وَصَدَقَةٍ وَالثمَنُ لِمُعْطَاهُ إنْ عَلِمَ شَفِيعَهُ، لَا إنْ وَهَبَ رَادًّا فَاستُحِق نِصْفُهَا ومُلِكَ بحُكْمٍ أوْ دَفْعِ ثَمَنٍ أوْ إشْهَادٍ واسْتُعْجِل إنْ قَصَدَ ارْتيَاءً أوْ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي إلَّا كَسَاعَةٍ وَلَزِمَ إِنْ أخَذَ وَعَرَفَ الثَّمَنَ فبِيعَ لِلِثَمَنِ والمُشْتَرِيَ إنْ سَلَّمَ فإنْ سَكَتَ فَلَهُ نَقْضُهُ وَإنْ قَالَ أنا آخُذُ أُجِّلَ ثلاثًا لِلنَّقْدِ وإلا سَقَطَتْ، وإنْ اتحَدَتْ الصَّفْقَةُ وتَعَدَّدتْ الحصَصُ والْبائعُ لمْ تُبَغَضْ كتَعدُدِ المُشْتَرِي على الأصحِّ كَأنْ أسْقَطَ بَعْضُهُمْ أوْ غَابَ أوْ أْرَادَهُ المُشْتَري ولِمَنْ حَضَرَ حِصَّتُهُ. وَهَلْ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ أوْ عَلى المُشْتَري، أوْ على المُشْتَري فَقَطْ كَغَيْره، ولو أقاله البائع إلَّا أنْ يُسَلَّمَ قَبْلهَا؟ تأويلانِ، وَقُدِّمَ مُشَارِكُهُ في السِّهْمِ وإنْ كَأخْتٍ لأبٍ وأخَذَتْ سُدُسًا وَدَخَل عَلى غَيْرهِ كَذي سَهْمٍ على وارث، ووارث عَلى موُصىً لَهُمْ ثُمَّ الْوَارِثُ ثُمَّ الأجْنَبِيُّ وأخَذَ بأيِّ بَيْعٍ وعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ ونُقِضَ مَا بَعْدَهُ ولَهُ غَلَّتُهُ وَفي
= (3) وقوله: وشفع لنفسه أو ليتيم آخر: يعني أن الوصي أو الأب إذا باع شقصًا من ولايته، فإن له أن يأخذ الشفعة لنفسه إن كان شريكه، أو يأخذ ليتيم آخر في حجره يشاركه فيه، قال في المدونة: ومن وكل رجلًا يبيع له شقصًا أو يشترِيه، والوكيل شفيعه، ففعل لم يقطع ذلك شفعته. ا. هـ. بنقل الحطاب.
قلت: مضمون ما ذكره المصنف هنا عقده الشيخ على الزقاق في المنهج المنتخب بقوله:
هَل تقبض اليد وتدفع معا
…
وهل يكون قابضًا ما صنعا
كمال محجور لأول عرف
…
للثاني أجر صنع مصنوع تلف
اشتمل البيت الأول على قاعدتين هما: اليد الواحدة، هل تكون قابضة دافعة في وقت واحد؟ والثاني: المصنوع هل يكون قابضًا لصنعته وإن لم يقبضه ربه؟. ثم ذكر في البيت الثاني فروعًا مبنية على هذين الأصلين فقال أن الأول يبنى عليه مثل المحجور، يعني بذلك تصرف الولي في مال محجوريه يبيع طعام أحدهم على الآخر ثم يبيعه على آخر منهم من غير قبض حسي، فقد صارت يده قابضة دافعة =
فَسْخِ عَقْدِ كِرَائِهِ تَرَدُّدٌّ، ولَا يَضْمَنُ نَقْصَهُ، فإنْ هَدَمَ وَبنَى فَلَهُ قيمَتُهُ قَائمًا وللشَفِيعِ النَقْضُ، أمَّا لغيبَةِ شَفِيعِهِ فَقَاسَمَ وَكيلُهُ أوْ قَاضٍ عَنْهُ أوْ أَسْقَطَ لِكَذِبٍ في الثمَنِ أوْ اسْتُحِق نِصْفُهَا وحُطَّ ما حُطَّ لِعَيْبٍ أوْ لِهِبَةٍ إنْ حُطَّ عَادَةً أوْ أَشْبَهَ الثَّمَنَ بَعْدَه، وإن اسْتُحِقً الثَّمَنُ أوْ رُدَّ بِعَيْبٍ بَعْدَهَا رَجَعَ الْبَائعُ بِقيمَةِ شِقْصِهِ ولَوْ كَانَ الثَمَنُ مِثْلِيًّا إلَّا النَّقْدَ فَمِثْلُهُ. وَلَمْ يَنْتَقِضْ مَا بَيْنَ الشَّفِيع والمشتري وإنْ وَقَعَ قَبْلَهَا بَطَلَتْ، وَإنْ اخْتَلَفَا في الثمَنِ فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَري بِيَمينٍ فِيمَا يُشْبِهُ ككَبِير يَرْغَبُ في مجُاورهِ وإلا فَلِلشَّفِيع وإنْ ئَمْ يُشْبهَا حَلَفَا وردَّ إِلى الْوَسَطِ، وإنْ نَكَلَ مُشْتَرٍ فَفي الأخْذِ بِمَا ادَّعَى أوْ أدَّى قَوْلَان، وإنْ ابْتَاعَ أرْضًا بزرْعِهَا الأخْضَرِ فاسْتُحِقَّ نِصْفُهَا فَقَطْ واسْتَشْفَعَ بَطَلَ الْبَيْعُ في نِصْفِ الزَّرْعِ لبِقَائهٍ بِلَا أرْضٍ كمُشْتَرِي قِطْعَهٍ مِنْ جنَانٍ بإِزَاءِ جِنَانِهِ لِيِتَوَصَّلَ لَهُ مِنْ جِنَانِ مُشْتَرِيهِ، ثُمَّ اسْتُحِق جِنَانُ المُشْتَري ورَدَّ الْبَائعُ نِصْفَ الثَمَنِ ولَهُ نِصْفُ الزَّرْعِ وَخُيِّر الشَّفِيعُ أوَّلًا بَيْنَ أنْ يَشْفَع أوْ لَا، فيُخَيَّرُ المبْتَاعُ في رَدِّ ما بَقِيَ.
= في آن واحد، وعليه أيضًا تولي ابن العم ونحوه الطرفين، وعليه شراء الوصي من مال يتيمه وشفعته له من نفسه. ا. هـ.
تتمَّة: أدلة من قال: الشفعة بالجوار -مثل أبي حنيفة ومن وافقه- هي هذه الآثار التي نوردها فيما بعد، وقد تقدم في أول الباب بعض مناقشة للأدلة، وبينا هناك أنه يمكن الجمع بين هذه الأدلة وأدلة الجمهور القائلين: إنما الشفعة للشريك المقاسم. والمراد سرد ما وقفت عليه من هذه الآثار كل على حدة استكمالًا للفائدة.
أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا شيخ من أهل الطائف يقال له عبد الله بن عبد الرحمن قال: سمعت عمرو بن الشريد يُحدث عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الْجَارُ أحَقُ بِسَقَبِهِ".
وأخبرنا عبد الرزاق عن الثوري، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد أن أبا رافع ساومه سعد في بيت له، فمَا له سعد: ما أنا بزائدك على أربعمائة مثقال. فقال أبو رافع: لولا أني سمعت =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ". ما أعطيتك.
وأخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري عن منصور، عن الحسن، عمن سمع عليًا وابن مسعود يقول: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجوار.
وأخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن أيوب، عن الشعبي وابن سيرين، عن شريح قال: الخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق ممن سواه.
وأخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة. والحسن قالا: إذا كان لصيقه فلا شفعة.
وعن سمرة بن جندب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "جَارُ الدارِ أَحَق بِالدَّارِ مِنْ غَيْرِهِ". رواه أحمد والترمذي وصححه، وأبو داود. وعن الشريد بن سويد قال: قلت: يا رسول الله، أرض ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلَّا الجوار؟ قال:"الْجَارُ أَحَق بِسَقَيِهِ مَا كَانَ". رواه أحمد وابن ماجه والنسائي. أما أدلة الجمهور القائل بأنه لا شفعة إلا للشريك المقاسم، فإن منها ما يلي:
عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الْجَارُ أَحَقُّ بِشفْعَةِ دَارِه يُنْتَظَر بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، إِذَا كَانَ طَرِيقهُمَا وَاحِدًا". قال المجد في المنتقى: رواه الخمسة إلا النسائي.
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور.
وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة "في كلِّ شِرْكَةٍ لَمْ تقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتًى يؤذِنَ شَرِيكَهُ، فَإنْ شَاءَ أخَذَ وإنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يؤذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بهِ". رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قُسِمَتِ الدَّار وَحُدَّتْ فَلَا شُفْعَةَ فيهَا". رواه أبو داود، وابن ماجه بمعناه.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ". رواه الترمذي وصححه.
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما يقسم "فَإذَا أوَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرفَتِ الطرُقُ فَلَا شفْعَةَ" رواه أحمد والبخاري. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي لفظ: إِنَّمَا جَعَلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الشُفْعةَ الحديث. رواه أحمد والبخاري وأبو داود، وابن ماجه.
وفي مصنف عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري وابن جريج عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب قال: إذا قسمت الأرض وحدت الحدود فلا شفعة فيها؛ وهذا الحديث أخرجه البيهقي من طريق سعيد ابن منصور، عن إسماعيل بن زكريا، عن يحيى بن سعيد، عن عون بن عبد الله، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن عمر ..
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مالك عن محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن عثمان بن عفان قال: إذا وقعت الحدود فلا شفعة فيها، ولا شفعة في بئر ولا فحل. وهذا الحديث أخرجه مالك في الموطإ، وفيه: فحل النخل، أي الذي يلقحون منه نخيلهم، لأن القوم كانت لهم نخيل في حائط فيتوارثونها، ولهم فحل يلقحون منه نخيلهم، فإذا باع أحدهم نصيجه المقسوم من ذلك الحائط بحقوقه من الفحال وغيره، فلا شفعة للشركاء في الفحال، لأنه لا تمكن قسمته. قاله ابن الأثير. ا. هـ. تعليق الأعظمي على المصنف.
وعن عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة، قال: قلت لطاوس: إن عمر بن عبد العزيز كتبه: إذا ضربت الحدود فلا شافعة؟ قال: لا، الجار أحق. ا. هـ.
هذا، وقدمنا لك وجه الجمع بين أدلة الفريقين، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وبموجب ذلك يتبين لك أنه يتعين القول بما ذهب إليه الجمهور حيث يقول أنه لا شفعة إلا للشريك المقاسم. وبالله تعالى التوفيق.
القسمة
بَابٌ: القِسْمَةُ تهَايُؤ في زَمَنٍ كَخِدْمَةِ عَبْدٍ شَهْرًا وسُكْنَى دَارٍ سِنينَ كالَإجَارَةَ، لَا في غَلَّةٍ وَلَوْ يَوْمًا، ومُراضاةٌ فكالْبَيْعِ، وقرعَةٌ، وهي تَمْيِيزُ حَقٍّ.
وكَفى قَاسِمٌ، لَا مُقَوِّمٌ (1)، وأجْرُهُ بِالْعَدَدِ (2)، وكُرهَ (3)، وقُسِمَ الْعَقَارُ وغَيْرُهً بِالْقِيمَةِ، وأفرِدَ كُلُّ نَوعٍ (4)، وَجُمِعَ دورٌ وأقْرِحَةٌ وَلَوْ بِوَصْفٍ إنْ تَسَاوَتْ قِيمَةً ورَغْبَةً وتَقَارَبتْ كَالْمَيْلِ، إنْ دَعَا إلَيْهِ أَحَدُهُمْ وَإنْ بَعلًا، وسَيْحًا. إلَاَ مَعْروفَةً بِالسُّكْنى فَالْقَوْل لِمُفْردِهَا وتُؤُوِّلَتْ أيْضًا بِخِلَافِهِ، وفي العُلُوِّ والسُفْلِ تأويلَانِ،
الكلام على القسمة
قال ابن مفلح في المقنع: القسمة -بكسر القاف- والقسم- بكسرها أيضًا- وهو النصيب المقسوم، قال الجوهري: القَسْمُ مصدر قسمت الشيء فانقسم، وقاسمه المال، وتقاسماه، واقتسماه، والإِسم القسمة.
قال: وهي تمييز بعض الأنصباء ص بعض وإفرازها عنهاْ. والِإجماع على جوازها. ومستنده قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ}
(1)
، وقوله تعالى في سورة النساء:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى}
(2)
.
وقوله عليه والسلام: "إِنَّمَا الشُّفْعَةُ فيمَا لَمْ يُقْسَمْ". الحديث. ومن أدلة القسمة كذلك فعله صلى الله عليه وسلم حيث إنه ثبت أَنه كان يقسم الغنائم بين أصحابه في غزواته، بأبي هو وأمَّي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأزواجه وأهل بيته.
وأيضأ فإن الحاجة لتدعو إلى القسمة ليتمكن كل واحد من الشركاء من التخلص من ضرر الشركة.
ومعلوم أن قولهم (الضرر يزال) هو إحدى أمهات قواعد الفقة الخمسة التي لا تكاد تجد فرعًا غير داخل تحت إحداها، وهي التي ذكرها شيخ مشائخنا سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في مراقي السعود بقوله: قد أسَّسَ الفقه على رفع الضرر ألخ
…
وقد تقدمت الإحالة إليه غير مامرة في هذا الكتاب المبارك.
وفي الحطاب: قال ابن عرفة: القسمة تصيير مشاع من مملوك مالكين معينًا، ولو باختصاص =
(1)
سورة القمر: 28.
(2)
سورة النساء: 8.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تصرف فيه. ا. هـ.
وهي ثلاثة أنواع: قسمة المهايأة، وقسمة المراضاة، وقسمة القرعة. أمَا المهايأة، ويقال المهانأة - بالنون بدل الياء- ويقال أيضًا بالباء- قالوا: مهايأة، لأن كل واحد منهما هيأ لصاحبه ما طلب منه، ومهانأة، لأن كل واحد منهما هنى صاحبه بما أراده، ومهابأة، لأن كل واحد منهما وهب لصاحبه ما أراد من الاستمتاع بحقه في ذلك الشيء مدة معلومة.
والمهايأة ضربان: مهايأة في الأعيان، ومهايأة في الأزمان. أما التي في الأعيان فكأن يتفقا على أن يستخدم هذا عبدًا، وهذا عبدًا؛ أو بزرع هذا أرضًا وهذا أرضًا، أو يسكن هذا دارًا وهذا دارًا.
وأما التي في الأزمان، فهي أن يتفقا على أن يستغل أحدهما العبد مثلًا مدة معينة. على أن يستغله الآخر مدة أخرى مثلها أو أقل أو أكثر.
قال: وهذه القسمة كالإِجارة من حيث اللزوم وشرط تعيين المدة وحصرها، ولا تجوز القسمة في غلة المشترك، ولو يقول: لك غلته يومًا ولي غلته يومًا. لما في ذلك من الجهالة والغرر. ومن أبى المهايأة من الشركاء، لا يجبر عليها.
وأما قسمة المراضاة -ويقال قسمة البيع- فهي أخذ بعضهم بعض ما هو بينهم، على أن يأخذ كل واحد منه ما يعدل ذلك، بتراض منهم، ملكًا للجميع، ولا يقضى بها على من أباها من الشركاء.
قال ابن رشد: وهي ثلاثة أنواع: قسمة مراضاة بغير تعديل ولا تقويم، ولا خلاف أنها بيع من البيوع.
وقسمة مراضاة بعد التعديل والتقويم، والأظهر أنها بيع من البيوع.
وقسمة قرعة والأظهر أنها تمييز حق.
قال ابن رشد: وأما القسمة بالقرعة فهي التي يوجبها الحكم، ويجبر عليها من أباها.
وقد جعلت تطييبًا لأنفس المتقاسمين، ولا تصح إلا فيما تماثل أو تجانس؛ من الأصول والحيوان والعروض، ولا تصح فيما اختلف وتباين من ذلك، ولا في شيء من المكيل والموزون، ولا يجمع فيها حظ اثنين في القسم.
(1)
وقوله: وكفى قاسم لا مقوم، نسب المواق هنا للقرافي ما نصه: الخبر تلاثة: رواية محضة، وشهادهَ محضة، ومركب منهما، ولهذا الأخير صور؛ رابعها المقوم للسلع، وأرش الجنايات. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والسرقات، والمغصوبات وغيرها، قال مالك: يكفي الواحد للتقويم إلا أن يتعلق بالقيم حد كالسرقة فلابد من اثنين، وروي: لابد من اثنين في كل موضع. قال: ولم يعز هذا القول لأحد. ثم قال: وخامسها القاسم، قال مالك: يكفي واحد، والأحسن اثنان، وقال أبو اسحاق التونسي: لابد من اثنين. ا. هـ.
وللشافعية في ذلك قولان، قال الحطاب: ومنشأ الخلاف شبه الحكم والرواية أو الشهادة، والأظهر شبه الحكم؛ لأن الحاكم استنابه شي ذلك، قال: وهو المشهور عندنا وعند الشافعية أيضًا. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وأَجره بالعدد: نسب المواق هنا للمدونة: ولا بأس أن يستأجر أهل موروث أو مغنم قاسمًا برضاهم. وأجر القاسم على جميعهم ممن طلب القسم أو أباه، وكذلك أجر كاتب الوثيقة. قال ابن حبيب: ويكون الأجر في ذلك على عددهم لا على أنصبائهم؛ قال الباجي: ووجهه أن اختلاف المقادير لا يوجب زيادة في فعل القاسم، بل ربما أثر قليل الأنصباء زيادة في العمل، وذلك أنه لو كان لثلاثة أشراك أرض؛ لأحدهم نصفها، وللآخر ثلاثة أثمانها، وللثالث ثمنها، لأثر الثمن لصغره زيادة في العمل، ولاحتاج بسببه أن يقسم الأرض كلها أثمانًا، ولو انقسمت على النصف بأن يكون لاثنين لكل واحد منهما نصفها لكان العمل والقسمة فيها أقل، فإن كان قليل الجزء يؤثر من العمل ما لا يؤثر كثيره، بطل أن يجب على صاحب الجزء الكبير، ولم يؤثر إلا عملًا يسيرًا، أكثر مما يجب على صاحب الجزء اليسير، وقد أثر عملًا كثيرًا، فوجب اطراح ذلك والإِعتبار بعدد الرؤوس.
قال: ونظير أجرة القاسم أنها على عدد الرؤوس، أجرة كاتب الوثيقة، وكذلك الدية. وكنْس المراحيض المشتركة، ونحو ذلك. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وكره، نسب للمدونة: كره مالك لقاسم القاضي أن يأخذ على القسم أجرًا، قال ابن القاسم: وكذلك قاسم الغنائم عندي، ولو كانت أرزاق القاسم من بيت المال، جاز. قال ابن رشد: إن استأجر القوم قاسمًا فلا كراهة في ذلك. ومن هذا المعنى جعل الشرطي، قال مالك: إنما رزق الشرطي على السلطان. قال ابن رشد: فإن لم يفعل كان رزق الشرطي على الطالب في إحضار خصمه، إلا أن يلدْ المطلوب ويختفىِ فيكون الجعل في إحضاره عليه. ا. هـ. المواق.
(4)
وقوله: وأفرد كل نوع: يعني أنه لا يجوز جمع جنسين ولا نوعين متباعدين في قسمة القرعة. =
وأُفْرِدَ كل صنْفٍ كتُفَّاحٍ إنْ احْتَمَلَ إلَّا كَحَائطٍ فيهِ شجَرٌ مُخْتَلِفَة أوْ أرْضٍ بِشَجَرٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وجَازَ صُوفٌ على ظهْرٍ إنْ جُزَّ وَإنْ لكَنِصْفِ شَهْرٍ، وأخْذُ وارِثٍ عَرْضًا وآخرَ دَيْنًا إنْ جَازَ بَيْعُهُ، وَأخْذ أحَدِهما قِطْنيَّةً والأخَرِ قَمْحًا، وخِيارُ أحَدِهما كالبَيْع، وغَرْسُ أُخْرى إنْ انْقَلَعَتْ شَجَرَتُكَ مِن أرْضِ غَيْركَ إنْ لَمْ تَكُنْ أَضَرَّ كَغَرْسِهِ بِجَانبِ نَهْرِكَ الْجَارِي فِي أرْضِهِ، وَحَمَلَتْ، في طَرْحِ كُنَاسَةٍ، عَلى الْعُرْفِ وَلمْ تَطْرَحْ عَلى حَافَتِهِ إنْ وجَدْتَ سَعَةً وجَازَ ارْتِزَاقهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لَا شَهَادَتُه (1) وفَي قَفيزٍ، أخْذُ أَحَدِهِمَا ثُلُثَيْهِ والآخَرِ ثُلُثَهُ، لَا إنْ زَادَ عَيْنًا أَو كيْلًا لِدَناءةٍ، وفي كَثلاثِينَ قفيزًا وثلاثينَ دِرْهمًا أخْذُ أحَدِهِمَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وعِشْرِينَ قَفيزًا إنْ اتَّفَقَ القمْحُ صِفَةً. وَوَجَبَ غَرْبَلَة قَمْحٍ لِبَيْعٍ إنْ زَادَ غَلَثُهُ على الثُلُثِ وَإلَّا نُدِبَتْ، وجَمْعُ بَزٍّ ولوْ كَصُوفٍ وحَرِيرٍ، لا كبَعْلٍ وذَاتِ بِئْرٍ، أو غَرْبٍ وَثَمَرٍ، أوْ زَرْعٍ إنْ لمْ يَجُذَّاهُ كَقَسْمهِ بأصلِهِ أوْ قَتًا أو ذَرْعًا أو فيه فَسَادٌ كيَاقوتَةٍ أو كجَفيرٍ أوْ في أصلِهِ بِالْخَرْصِ كبَقْلٍ إلَّا التَّمْرَ أو الْعِنَبَ إذا اخْتَلَفَتْ حَاجةُ أهْلِهِ وإنْ بكثَرةِ أكْلٍ وقَلَّ وحَلَّ بَيْعُهُ واتَّحَدَ مِنْ بُسْرٍ أوْ رُطَبٍ لا تَمْرٍ.
وَقُسِمَ بِالقُرْعَةِ بِالتَّحرِّي كَالْبَلَحِ الْكبِير، وسَقَى ذو الأصْلِ كَبَائِعِهِ
= قال في المدونة: ولا تقسم أصناف مختلفة بالسهم مثل أن يجعلوا الدور حظا، والرقيق حظا، ويستهمون، وإن اتفق قيم ذلك لأنه خطر، وإنما تُقسم هذه الأشياء كل نوع على حدة؛ البقر على حدة، والغنم على حدة، والعروض على حدة، إلا أن يتراضوا على شيء بغير سهم، وكذلك لا يجوز أن يجعلوا دنانير ناحية، وما قيمته مماثلها ناحيِة -من ربع أو عرض أو حيوان- ويقترعوا، وأما بالتراضي بغير قرعة فجائز. أ. هـ. منه.
(1)
وقوله: لا شهادته: قال المواق. إذا قدم القاضي عدلًا للقسم بين قوم، فأخبره بما صار لكل منهم، قضى به وإن لم يعلم ذلك إلا بقوله. =
المُسْتثنَى ثَمَرَتَهُ حَتَى يُسَلَّمَ، أوْ فِيهِ ترَاجُع إلَّا أنْ يَقِلَّ، أوْ لَبَنٍ في ضُرُوعٍ إلَّا لِفَضْلٍ بَيِّنٍ أوْ قَسَمُوا بِلَا خرَجٍ مُطْلَقًا وَصَحَّتْ إنْ سَكَتَا عَنْهُ ولِشَرِيكِه الإِنْتِفَاعُ، ولا يُجْبَر عَلى قَسْمِ مَجْرى الْماءِ وقُسِمَ بِالْقِلْدِ (1) كَسُتْرَةٍ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ عَاصِبَيْنِ إلَّا بِرِضَاهُمْ إلَّا مَعَ كَزَوْجَةٍ فَيُجْمَعُوا أوَّلًا كَذِي سَهْمٍ وَوَرَثَةٍ وكَتبَ الشّرَكاءَ ثُمَّ رَمَى أوْ كتَبَ الْمَقْسُومَ وأعْطَى كُلًّا لِكلٍّ (2)، وَمُنعِ اشْتِرَاءُ الْخارِجِ وَلَزِمَ ونُظِرَ في دَعْوَى جَوْرٍ أوْ غَلَطٍ، وحَلَفَ المُنْكِرُ، فَإنْ تَفاحَشَ أوْ ثَبَتَا نُقِضَتْ كالمُراضَاةِ إنْ أَدْخَلَا مُقَوِّمًا، وأُجْبِرَ لَهَا كُل إنْ انْتَفَعَ كُلٌّ، ولْلِبَيْعِ، إنْ نَقَصَتْ حِصَّةُ شَرِيكِهِ مُفْرَدَةً، لَا كَربعْ غلَّةٍ أوْ اشْتَرى بَعْضًا، وإنْ وَجَدَ عَيْبًا بِالأكْثَرِ فَلَهُ رَدُها فَإنْ فَاتَ ما بِيَدِ صَاحِبِه بِكهَدْم رَدَّ نِصْفَ قِيمَتِه يوْمَ قَبَضَهُ ومَا سَلِمَ بَيْنَهمَا. ومَا بِيَدِهِ رَدَّ نِصْفَ قِيمَتِهِ ومَا سَلمَ بينَهُمَا، والَأرَجَعَ بِنصْفِ
= قال ابن رشد: وكذا كل ما لا يباشره القاضي من أمور نفسه، قول مأموره فيه مقبول عنده، ولو اختلف الورثة بعد أن نفذ بينهم ما أخبره به القاسم، ولم يوجد رسم أصل القسمة التي قضى بها، فقول القاسم وحده مقبول عند القاضي الذىِ قدمه، لا عند غيره، كما لا تجوز شهادة القاضي بعد عزله على ما مضى من حكمه، قال: وهذا معنى قولها: ولا تجوز شهادة القسام على ما قسموا. ا. هـ. قال ابن عرفة: ما قاله ابن رشد وفسر به المدونة مثله لابن الماجشون، وقال ابن حبيب: وكذلك العاقد والمحلف، والكاتب والناظر للعيب، لا تجوز شهادتهم عند غير من أمرهم، لا وحدهم ولا مع غيرهم. كما لا تجوز شهادة المعزول فيما ذكر أنه حكم به. ا. هـ. المواق.
قال الحطاب: وحاصل المسألة أن شهادة القسام فيما قسموه بأمر القاضي جائزة عنده، ولو كان ذلك بعد إنفاذ الحكم بالقسمة عند اختلاف الورثة وضياع المستند الذي فيه القسمة، ولا تجوز شهادتهم عند غيرهم، قاله ابن عرفة ناقلًا عن ابن رشد وعن النوادر. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: ولا يجبر على قسم مجرى الماء وقسم بالقِلد: قال في المدونة: ولا يقسم أصل العين والآبار ولكن يقسم شربها بالقِلد، ولا يقسم مجرى الماء. وما علمت أحدا أجازه؛ قال ابن حبيب: =
الْمَعِيبِ مِما بِيَدِهِ ثَمَنًا والمعِيبُ بِينَهُمَا، وإنْ اسْتُحق نِصْف أوْ ثُلُث خُيِّرَ لَا رُبُعٌ، وفُسِخَتْ في الأكْثَرِ كطُرُوِّ غَرِيمٍ أوْ مُوصىً لَهُ بعَدَدٍ على وَرَثَةٍ أوْ عَلى وَارثٍ ومُوصىً لهُ بِالثُّلُثِ، والْمَقسُومُ كدَارٍ، وإنْ كانَ عَيْنًا أوْ مِثْلِيًّا رَجَعَ عَلى كُلٍّ، ومَنْ أعْسَرَ فَعَلَيْهِ إنْ لَمْ يَعْلمُوا، وإن دَفَعَ جَمِيعُ الورثَةِ مضت، كبَيْعِهِمْ بِلَا غَبْنٍ وَاسْتَوْفَى مِمَّا وَجَدَ ثُمَّ تَراجَعوا، ومَنْ أعْسَر فَعَليْهِ إنْ لمْ يَعْلَمُوا، وإنْ طَرَأ غَريمٌ أوْ وَارِثٌ أوْ مُوصىً لَهُ على مِثْلِهِ، أوْ مُوصىً لهُ بِجُزْءٍ عَلى وَارِثٍ، اتَّبَعَ كُلَا بِحِصَّتِهِ وأخَرَتْ، لَا دَيْنٌ، لِحَمْلٍ. وفي الْوَصِيةِ قَوْلَانِ، وقَسَمَ عَنْ صَغِيرٍ أبٌ أوْ وَصِيٌّ ومُلْتَقِطٌ كَقَاضٍ عنْ غائبٍ لَا ذِي شُرْطةٍ أوْ كنَفَ أخًا أوْ أبٍ عَنْ كبير وَإنْ غَابَ، وَفِيهَا قَسْمُ نَخْلَةٍ وزيتونَةٍ إنْ اعَتَدَلتَا وَهَلْ هِيَ قُرْعَةٌ وَجَازَتْ لِلْقِلَّةِ؟ أو مُراضَاةٌ؟ تأويلانِ.
= تفسير قسم الماء بالقِلد -إن تحاكموا فيه وأجمعوا على قسمه- أن يأمر الإِمام رجلين مأمونين، أو يجمع الورثة على الرضا بهما، فيأخذان قدرًا من فخار وشبهها فيثقبان في أسفلها بثقب يمسكانه عندهما ثم يعلقانها ويجعلان تحتها قصرية وعدان الماء في جرار، ثم إذا انصدع الفجر صبا الماء في القدر فسال الماء من الثقب، فكلما هم الماء أن يفرغ صبا حتى يكون سيل الماء من الثقب معتدلًا النهار كله والليل كله إلى انصداع الفجر، فينحيانها ويقسمان ما اجتمع من الماء على أقلهم سهمًا، كيلًا أو وزنًا، ثم يجعلان لكل وارث قدرًا يحمل سهمه من الماء. ويثقبان كل قدر منها بالمثقب الذي ثقبا به القدر الأولى، فإذا أراد أحدهم السقي على قدره بمائه وصرف الماء كله إلى أرضه، فسقى ما سال الماء من قدره، ثم كذلك بقيتهم، ثم إنهم إن تشاحوا في التبدئة استهموا. انتهى من المواق.
(2)
وقوله: وكتب الشركاء ثم رمى أوكتب المقسوم وأعطى كلًا لكل: هو إبداء منه لصفة القرعة، قال. هي أن يكتب أسماء الشركاء في رقاع، وتجعل في طيِن أو شمع، ثم ترمى كل بندقة في جهة، فمن حصل له اسمه في جهة أخدها، أي أخذ حقه متصلًا بتلك الجهة، وقيل: تكتب الأسماء والجهات ثم تخرج أول بندقة من الجهات فيعطى من خرج اسمه نصيبه في تلك الجهة. هكذا قال المواق. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال في جواهر الإِكليل: أو يكتب القاسم المقسوم- بعد تجزئته أجزاء مستوية بالقيمة بعدد آحاد مقام أقلهم حظًا- بأن يكتب كل اسم من أسماء أجزائه في ورقة، ويلبسها شمعًا أو نحوه حتى لا تتميز، وأعطى كلا مما فيه أسماء الأجزاء لكل من المقسوم بينهم، وله مسمى الاسم الذي فيها، وهذا ظاهر إذا استوت أنصباؤهم، فإن اختلفت فيعطي واحدًا من الشركاء ورقة من تلك الأوراق المكتوب فيها أسماء الأجزاء فيفتحها وله مسمى ما فيها من الأجزاء، فإن كان له جزء واحد فقد تم القسم له، فيعطي غيره، وإن زاد ماله على جزء كمل له مما يلي مما خرج عليه الإِسم، وهكذا إلى تمام العمل. ا. هـ. منه.
هذا، وكل ما استجلبته هنا آراء العُلماء، فأتيت بما لابد منه منها للفائدة. وبالله تعالى التوفيق.
كتاب القراض
بَابٌ: الْقِرَاضُ تَوْكِيلٌ في تَجْرٍ، في نَقْدٍ مَضْرُوبِ (1)، مُسَلَّمٍ، بِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ إنْ عُلِمَ قَدْرُهُمَا، لَوْ مَغْشُوشًا، لَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ، واسْتَمَر مَا لَمْ يُقْبَضْ أَوْ يُحْضِرْهُ وَيُشْهِدْ، وَلَا بِرَهْنٍ أوْ وَدِيعَةٍ ولَوْ بِيَدِهِ، وَلَا بِتِبْرٍ لَمْ يُتَعَامَلْ بِهِ بِبَلَدِهِ، كَفُلُوسٍ وَعَرْضٍ إنْ تَوَلَّى بَيْعَهُ، كأنْ وَكَّلَهُ عَلى دَيْنٍ أوْ لِيَصْرِفَ ثُمَّ يَعْمَلَ، فأجْرُ مِثْلِهِ في تَوَليهِ ثُمَّ قِرَاضُ مِثْلِهِ في رِبْحِهِ كَلَكَ شِرْك، ولَا عَادَةَ أوْ مُبْهَمٍ أوْ أُجِّلَ أوْ ضُمِّنَ أو اشْتَرِ سِلْعَةَ فُلَانٍ ثُمَّ اتَّجِرْ في ثَمَنِهَا، أوْ بِدَيْنٍ، أوْ بِمَا يَقِلُّ وُجُودُهُ، كاخْتِلَافِهمَا فِي الرِّبحِ وادَّعَيَا مَالا يُشْبِهُ وفيما فَسَدَ غَيْرُهُ، أجْرَةُ مِثْلِهِ في الذِّمَّةِ، كاشْتِرَاطِ يَدِهِ أوْ مُرَاجَعَتِهِ أوْ أمِينًا عَلَيْهِ، بِخِلَاف غُلَامٍ غير عَيْنٍ بِنَصيبٍ لَهُ، وكأن يَخِيطَ أوْ يَخْرِزَ أوْ يُشَارِكَ أوْ يَخْلِطَ، أوْ يُبْضِعَ، أوْ يَزْرعَ، أوْ لَا يَشْتَريَ إلى بَلدِ كذا، أوْ بَعْدَ اشْترائِه إِنْ أخْبَرَهُ،
كتاب القِرَاضِ
قال الحطاب: القراض مأخوذ من القرض، وهو ما يفعله الرجل ليجازى علمِه من خير أو شر، فلما كان صاحب المال والعامل فيه متفقين جميعًا، يقصد كل واحد منهما إلى منفعة صاحبه لينفعه هو، اشتق له من معناه اسمًا وهو القراض، والمقارضة لأنه مفاعلة، هذا اسمه عند أهل الحجاز. وأهل العراق لا يقولون قراضًا ألبتة، ولا عندهم كتاب القراض وإنما يقولون: مضاربة وكتاب المضاربة، أخذوا ذلك من قوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}
(1)
الآية. وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ}
(2)
الآية، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يدفع إلى الرجل ماله على الخروج به إلى الشام وغيرها، فيبتاع المتاع على هذا الشرط.
قال: وفي قول الصحابة، رضوان الله عليهم، لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة عبد الله وعبيد الله: لو جعلته قراضًا، دليل على صحة تسميته قراضًا في اللغة؛ لأنهم أهل اللسان وأرباب =
(1)
سورة النساء: 101.
(2)
سورة المزمل: 20.
فَقَرْضٌ، أوْ عيَّنَ شخْصًا أوْ زَمَنًا أوْ مَحَلًّا، كَأنْ أخَذَ مَالًا لِيَخْرُجَ بِهِ لِبَلَدِ كذا فَيشْتَري وعَلَيْهِ كالنَّشْرِ وَالطَيِّ الْخَفِيفَيْنِ والأجْرُ إنْ اسْتَأجَرَ، وجَازَ جُزءٌ قَلَّ أوْ كثر، ورضَاهُمَا بَعْدُ عَلى ذلك، وزكاتُهُ عَلى أحَدهِمَا، وهو للمُشْتَرِطِ إنْ لَمْ تَجِبْ، والرِّبْحُ لأحَدِهِمَا أوْ لِغَيرهمَا، وضَمِنَهُ في الربحُ لَهُ إنْ لَمْ يَنْفهِ وَلَمْ يُسَمِّ قِراضًا، وشَرْطُهُ عَمَلُ غُلَامِ رَبِّهَ أوَ دَابَّتِهِ في الْكَثير، وخَلْطُهُ وإنْ بِمَالِه وهُوَ الصَّواب، إنْ خَافَ بِتَقْدِيم أحَدِهما رِخَصًا، وشَاركَ إنْ زَادَ مُؤجَّلًا بِقِيمَتهِ، وسَفَرُهُ إنْ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ قَبْلَ شَغْلِهِ، وادْفَعْ لي فَقَدْ وَجَدْتُ رَخيصًا أشْتَرِيهِ.
= البيان، وإذا كان يحتج في اللغة بقول امرئ القيس والنابغة، فالحجة بقول هؤلاء أقوى وأولى.
قال: وفي تفسير ابن عطية قال: فرَّق بين ضرب في الأرض وضرب الأرض: إنَّ الأول للتجارة والثاني للحج والغزو والقربات، كأنه في التجارة منغمس في الأرض ومتاعها، فقيل: ضرب في الأرض. والمتقرب إلى الله تعالى بعيد من الدنيا فلم يجعل فيها.
قال: والمقارض، بالكسر رب المال، وبالفتح العامل، والمضارب بالكسر العامل، عكس الأول، لأنه هو الذي يضرب بالمال. قال بعض اللغويين: ليس لرب المال اسم في المضاربة بخلاف القراض. ا. هـ. منه.
والقراض في اصطلاح الفقهاء، قال ابن عرفة: هو تمكين مال لمن يتجر به بجزء من ربحه، لا بلفظ الإِجارة. ا. هـ. المواق.
ولا خلاف بين المسلمين في جواز القراض، وهو مستثنى من الإِجارة المجهولة ومن السلف لمنفعة.
وحكمة مشروعيته في الإِسلام لأن الضرورة تدعو إليه لحاجة الناس إلى التصرف في أموالهم وتنميتها بالتجارة فيها، وليس كل الناس يقدر على ذلك في نفسه، فاضطر فيه إلى استنابة غيره، ولعله لا يجد من يعمل له فيه بإجارة، لما جرت عادة الناس فيه في ذلك على القراض، فرخص فيه لهذه الضرورة، واستثنى لهذه العلة من الإِجارة المجهولة على نحو ما رخص فيه في المساقاة، وبيع العرية، والشركة في الطعام، والتولية فيه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ودليل القراض، قال ابن حزم: كل أبواب الفقه فيها أصل من الكتاب والسنة حاشا القراض فما وجدنا له أصلًا في السنة، لكنه إجماع صحيح. ويقطع بأنه كان في عصره صلى الله عليه وسلم وعلم به وأقره. ا. هـ.
وقال الصنعاني في سبل السلام: لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض، وأنه مما كان في الجاهلية فأقره الإِسلام، وهو نوع من الإِجارة إلا أنه عفي فيها عن جهالة الأجرِ، وكانت الرخصة في ذلك الموضع للرفق بالناس. ا. هـ. منه.
وأخرج في الموطإ عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري -وهو أمير البصرة- فرحَّب بهما وسهَّل ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت. ثم قال: بلى. ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فَأُسْلفكماهُ فتبتاعان به متاعًا من متَاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الرابح لكما. فقالا: وددنا ذلك. ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ المال منهما، فلما قدما باعا فأُربحا، فلما دفعا ذلك، إلى عمر قال. أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا. لا. فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين، فأسلفكما؟ أدَيا المال وربحه. فأما عبد الله فسكتَ، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه. فقال عمر: أدِّيا المال، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر، يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضًا؟ فقال عمر: قَد جعلته قراضًا. فأخذ عمر رأسِ المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال. ا. هـ.
وأخرج مالك في الموطإ أيضًا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه أن عثمان بن عفان أعطاه مالًا قراضًا يعمل فيه على أن الربح بينهما. ا. هـ.
وقال في نيل الأوطار: وفي تجويز المضاربةَ أثار عن جماعة من الصحابة منهم علي رضي الله عنه عند عبد الرازق أنه قال. المضاربة الوضيعة على المال والربح على ما اصطلحوا عليه.
وعن ابن مسعود عند الشافعي في كتاب اختلاف العراقيين أنه أعطى زيد بن جليدة مالًا مقارضهَ، وأخرجه عنه أيضًا البيهقي.
وعن ابن عباس عن أبيه العباس أنه كان إذا دفع مالًا مضاربة، فذكر قصة، وفيها أنه رفع الشرط =
وبيعُهُ بِعَرْضٍ ورَدُهُ بِعَيْبٍ وللمَالكِ قَبُولُهُ إنْ كانَ الجَمِيعَ والثمنُ عَينٌ، ومُقارَضَةُ عَبْدِهِ وَأجيرهِ، وَدَفْعُ مَالَيْنِ أوْ مًتَعَاقِبَيْنِ قَبْلَ شَغْلِ الأوَّلِ وإنْ بِمُخْتَلِفيْنِ إنْ شَرَطَا خلطًا أوْ شَغَلَهُ إنْ لمْ يَشْتَرِطْهُ، كَنًضُوضِ الأوَّلِ إنْ سَاوَى وَاتَّفَقَ جُزْؤهُمَا، واشْتراءُ رَبِّهِ مِنْهُ إِنْ صَحَّ، واشْتِراطُهُ أنْ لَا يَنْزِلَ وَادِيًا أوْ يَمْشِيَ بِلَيْلٍ أوْ ببَحْرٍ، أوْ يَبْتَاعَ سِلْعَةً، وضَمِنَ إِنْ خَالَفَ، كَأنْ زرع أوْ سَاقَى بمَوْضِعٍ جَوْرٍ لَهُ أَوْ حَرَّكَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَيْنًا أوْ شَارَك، وَإنْ عَامِلًا أوْ بَاعَ بِدَيْنٍ أَوْ قَارَض بِلَا إذْنٍ، وَغَرِمَ لِلْعَامِلِ الثَّانِي إنْ دَخَلَ عَلَى أكْثَرَ، كخُسْرِه وَإنْ قَبْلَ عَمَلِهِ،
= إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه، أخرجه البيهقي بإسناد ضعيف، والطبراني. وقال تفرد به محمد بن عقبة عن يونس بن أرقم عن أبي الجارود.
وعن جابر عند البيهقي أنه سئل عن ذلك فقال: لا بأس به، وفي إسناده ابن لهيعة.
وعن عمر عند الشافعي في كتاب اختلاف العراقيين، أنه أعطى مال يتيم مضاربة، وأخرجه أيضًا البيهقي وابن أبي شيبة.
قال: إن هذه الآثار تدل على أن المضاربة كان الصحابة يتعاملون بها من غير نكير، فكان ذلك إجماعًا منهم على الجواز، وليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما أخرجه ابن ماجه من حديث صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاث فِيهِن الْبَرَكَةُ: البيْعُ إِلى أَجَلٍ، وَالْمُقَارَضَةُ، وَأخْلَاطُ البُرِّ بالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ لَا لِلْبَيْعِ". لكنه في إسناده نصر بن القاسم عن عبد الرحيم بن داود، وهما مجهولان.
فائدة: في الحطاب: قيل إن أول قراض في الإِسلام قراض يعقوب مولى الحرقة مع عثمان رضي الله عنه، وذلك أن عمر رضي الله عنه بعث من يقيم من السوق من ليس بفقيه، فأقيم يعقوب فيمن أقيم، فجاء إلى عثمان فأخبره فأعطاه مزودتين قراضًا على النصف وقال: إنْ جاءك من يعرض لك فقل له: المال لعثمان، فقال ذلك فلم يقم، فجاء بمزودتين، مزود رأس المال ومزود ربح. قال: ويقال إن أول قراض كان في الإسلام قراض عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وقد تقدمت قصته. والله أعلم.
(1)
وقوله: في نقد مضروب، قال المواق: القراض جائز بالدنانير والدراهم، وكذلك النقر =
والرِّبْحُ لَهُمَا، ككل آخِذ مَالٍ للتَّنْمِيَةِ فيتَعَدَّى، لَا إنْ نَهَاهُ عَنِ الْعَمَلِ قَبْلَهُ أوْ جَنى كُل أوْ أخَذَ شَيْئًا فكأجْنَبِيٍّ، وَلَا يَجُوزُ اشْتِراؤهُ مِن ربهِ أوْ بِنَسِيئَةٍ وَإنْ أذِنَ، أوْ بأكْثَرَ، وَلَا أخْذُه مِنْ غَيْرِه وَإنْ كَانَ الثَّاني يُشْغِلُهُ عَنِ الأوَّلِ،
= والأتبار، أعني تبر الذهب والفضة، في البلد الذي يجري فيه ذلك ولا يتعامل عندهم بالمسكوك. قال اللخمي: يجوز القراض بالنقد في البلد الذىِ يتبايعون به فيه ولا خلاف في ذلك.
وقال الحطاب: ظاهره أن المضروب يجوز القراض به، كان التعامل به أو في التبر، كما لو فرض أن السعَة المضروبة لا يتعامل بها في بلد أصلًا، كما هو في غالب بلاد السودان على ما قيل، وقد ناقل الشيخ زروق في شرح الرسالة عن التنبيهات أنه لا يجوز القراض به حينئذ. ا. هـ.
قلت: الذي ظهر لي من دندنتهم حول هذا الموضوع أن العبرة بالرواج وجريان التعامل، وأن كل ما كان هو أساس التعامل بين الناس يجوز التعامل به في القراض؛ مثل ورق البنكنوت -بفتح الراء- والله ولي التوفيق.
تنبيهٌ: الشروط التي بها يصح القراض عند أصحابنا عشرة، هي:
1 -
نقد رأس مال القراض للعامل.
2 -
وكونه معلومًا.
3 -
وكونه غير مضمون على العامل.
4 -
وكونه مما يتبايع به أهل بلد من العين التي بها التعامل.
5 -
وكون الجزء الذي تقارضا عليه من الربح معلومًا.
6 -
وكونه مشاعًا لا مقدرًا بعدد ولا تقدير.
7 -
وأن لا يختص أحدهما بشيء معين، إلا ما يضطر إليه العامل من نفقة ومئونة في السفر.
8 -
وأن ما يختصر العمل بالعامل.
9 -
وأن لا يضيق عليه بتحجير أو بتخصيص يضرِ العامل.
10 -
وأن لا يضرب له أجل.
قال الحطاب بعد أن ذكر هذه الشروط. فإذا توفرت هذه الشروط جاز القراض، وإن اختل فيها شرط واحد فسد القراض. ا. هـ. منه. =
ولَا بَيْعُ رَبِّهِ سِلْعَةً بِلَا إِذْنٍ، وجُبِرَ خُسْرُه، وما تَلِفَ وإنْ قبل عَمَلِهِ، إلّاَ أنْ يُقْبَضَ، ولهُ الْخَلَفُ، فَإنْ تَلِفَ جَمِيعُهُ لَم يَلْزَمْ الْخَلَف ولَزمَتْهُ السِّلْعَةُ وَإنْ تَعَدَّدَ الْعَامِلُ فَالربح كالعَمَلِ، وأنْفَقَ إنْ سَافَرَ وَلَمْ يَبْنِ بِزَوجتِهِ، واحْتَمَلَ الْمَالُ لِغَيْر أهْلٍ وَحَجٍّ وَغَزْوٍ بِالْمَعْروفِ في الْمَالَ، واسْتَخدَمَ إنْ تَأهَّل، لا دَوَاءٍ، واكتسى إنْ بَعُدَ، وَوُزِّعَ إِنْ خَرَجَ لحَاجَةٍ وإنْ بَعْدَ أن اكْتَرَى وتزوَّدَ، وإنْ اشْتَرَى مَنْ يَعْتَقً عَلى رَبِّهِ عَالِمًا عَتَقَ عَلَيْهِ إِنْ أيْسَرَ، وإلاَّ بِيع بقَدر ثمَنِهِ وريْحِه قَبْلَهُ وعَتَقَ بَاقِيه، وغَيْرَ عَالِمٍ فَعَلَى رَبِّه، وللْعَامِل ربِحُهُ فِيهِ
= وحيث إنه لا نص مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سالم من مقال، فإن ذلك يحوجنا إلى نقل كل ما وقفنا عليه من آثار في ذلك للتأسي بها، فمن ذلك ما تقدم لك قضية عمر بن الخطاب مع ابنيه رضي الله عنهم جميعًا. ومنه ما أخرجه مالك في الموطإ عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن جده، أن عثمان ابن عفان أعطاه مالًا قراضًا يعمل فيه على الربح بينهما.
وقال مالك في الموطإ: وجه القراض المعروف الجائز، أن يأخذ الرجل المال من صاحبه على أن يعمل فيه، ولا ضمان عليه، ونفقة العامل في المال في سفره؛ من طعامه وكسوته، وما يصلحه بالمعروف، بقدر المال، إذا شخص في المال، وإذا كان المال يحمل ذلك، فإن كان مقيمًا في أهله، فلا نفقة له في المال ولا كسوة.
وقال مالك في الموطإ: إن كان لرجل دين على رجل، فسأله أن يقره عنده قراضًا، إن ذلك يكره حتى يقبض ماله، ثم يقارضه بعدُ أو يمسك، وإنما ذلك مخافة أن يكون أعسر بماله، فهو يريد أن يؤخر ذلك، على أن يزيده فيه. وقال مالك، فيمن دفع إلى رجل مالًا قراضًا، فهلك بعضه قبل أن يعمل فيه، ثم عمل فيه فربح، فأراد أن يجعل رأس المال بقية المال بعد الذي هلك منه قبل أن يعمل فيه، قال مالك: لا يقبل قوله، ويجبر رأس المال من ربحه، ثم يقتسمان ما بقي بعد رأس المال، على شرطهما في القراض.
وقال مالك: من اشترط على من قارض أن لا يشتري حيوانًا أو سلعة باسمها، فلا بأس بذلك، ومن اشترط على من قارض أن لا يشتري إلا سلعة كذا وكذا، فإن ذلك مكروه، إلا أن تكون السلعة =
وَمَنْ يَعْتَقُ عَلَيْهِ وَعَلِمَ عَتَقَ عَلَيْهِ بالأكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ أوْ ثَمَنِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ في الْمَال فَضْلٌ وَإلَّا فَبِقيمَتِهِ، إنْ أيْسَرَ فِيهِمَا، وإلَّا بِيعَ بِمَا وَجَبَ، وإنْ أعْتَقَ مُشْتَرىً لِلْعِتْقِ غَرِمَ ثَمَنَهُ ورِبْحَهُ وللمُقَارِض قِيمتُه يَوْمَئِذٍ إلَّا ربحَهُ، فإنْ أعْسَرَ بِيعَ مِنْه بما لِربِّه، وإنْ وَطِئ أمَةً قَوَّمَ ربُّهَا أوْ أبْقَى إن لمْ تَحْمِلْ، فإن أعْسَر أتَّبَعَهُ بها وَبِحصَّةِ الْوَلَدِ، أو بَاعَ لَهُ بِقَدْرِ مَالِهِ، وإنْ أحْبَلَ مُشْتراةً لِلْوَطْءِ فالثَّمَنُ واتبعَ
= كثيرة موجودة لا تخلف في الشتاء ولا في الصيف فلا بأس.
وقال مالك في رجل دفع إلى رجل مالًا قراضًا، واشترط عليه فيه شيئًا من الربح خالصًا دون صاحبه: فإن ذلك لا يصلح، وإنْ كان درهمًا واحدًا، إلا أن يشترط نصف الربح له ونصفه لصاحبه، أو ثلثه أو ربعه، أو أقل من ذلك أو أكثر، فإذا سَمَّى شيئًا من ذلك قليلًا أو كثيرًا، فإن كل شيء سمَّى من ذلك حلال وهو قراض المسلمين. ولكن إن اشترط أن له من الربح درهمًا واحدًا فما فوقه، خالصًا له دون صاحبه وما بقي من الربح فهو بينهما نصفين، فإن ذلك لا يصلح وليس ذلك من قراض المسلمين. وقال مالك: لا يجوز للذي يأخذ المال قراضًا أن يشترط أن يعمل فيه سنين لا ينزع منه، ولا يصلح لصاحب المال أن يشترط: أنك لا تَردُّه إليَّ سنين -لأجل يسميانه- لأن القراض لا يكون إلى أجل، ولكن يدفع رب المال ماله إلى الذي يعمل له فيه، فإن بدا لأحدهما أن يتركه، والمال ناض لم يشتر به شيئًا، تركه، وأخذ صاحب المال ماله، وإن بدا رب المال أن يقبضه بعد أن يشتري به سلعة، فليس ذلك له حتى يباع المتاع ويصير عينًا.
وإن بدا للعامل أن يرده، وهو عرض، لم يكن له ذلك حتى يبيعه فيرده عينًا كما أخذه.
وقال مالك: ولا يصلح لمن دفع إلى رجل مالًا قراضًا، أن يشترط عليه الزكاة في حصته من الربح خاصة، لأن رب المال إن اشترط ذلك، فقد اشترط لنفسه فضلًا من الربح ثابتًا، قال: ولا يجوز لرجل أن يشترط على من قارضه أن لا يشتري إلا من فلان -لرجل يسميه- فذلك غير جائز، لأنه يصير له أجيرًا بأجر ليس بمعروف
وقال مالك في رجل أخذ من رجل مالًا قراضًا، تم دفعه إلى رجل آخر فعمل فيه قراضًا بغير إذن صاحبه: إنه ضامن للمال، إنْ نقص فعليه النقصان، وإن ربح فلصاحب المال شرطه من الربح ثم يكون للذىَ عمل شرطه بما بقي من المال وإن تسلف مما بيده من القَراض مالًا، فابتاع به سلعة =
بِهِ إنْ أَعْسَرَ، ولِكلٍّ فَسْخُهُ قَبْلَ عَمَلِه كربِّه، وإنْ تزوَّدَ لِسَفَرٍ ولم يَظْعَنْ وإلَّا فلنُضُوضِهِ، وإنْ اسْتَنَضَّهُ فْالحَاكِمُ، وإنْ مَاتَ فلوارِثِهِ الأمينِ أنْ يكمِّلَهُ وإلَّا أتَى بِأمِينٍ كَالأوَّلِ، وإلَّا سَلَّمُوا هَدَرًا، والْقَوْلُ لِلْعَامِل في تَلَفِهِ وخُسْرِهِ وَرَدِّهِ إلى رَبِّهِ إنْ قُبِضَ بِلَا بَيَنَةٍ، أوْ قَالَ قِرَاضٌ ورَبُّهُ بِضَاعَةٌ بأجْر، أوْ عَكْسُهُ
= لنفسه، قال مالك: إن ربح فالربح على شرطهما في القراض، وإنْ نقص فهو ضامن للنقصان، وقال أيضًا: إن صاحب المال بالخيار إن شاء شاركه في السلعة على قراضها، وإن شاء خلَّى بينه وبينها، وأخذ منه رأس المال كله، وكذلك بكل من تَعَدَّى.
وقال مالك فيما يجوز من النفقة في القراض: إنه إذا كان المال كثيرًا يحمل النفقة، فإذا شخص فيه العامل، فإن له أن يأكل منه ويكتسي بالمعروف من قدر المال وله أن يستأجر من المال إذا كان كثيرًا لا يقوى عليه، بعض من يكفيه بعض مئونته؛ قال: ومن الأعمال أعمال لا يعملها الذي يأخذ المال، وليس مثله يعملها؛ كنقل المتاع وتقاضي الدَّيَن وشدِّ المتاع وأشباه ذلك، فإن للعامل أن يستأجر من المال من يكفيه ذلك.
قال: وليس للمقارض -باسم المفعول- أن ينفق على نفسه من المال، ولا أن يكتسي منه ما دام مقيمًا في أهله، وإنما تجوز له النفقة إذا شخص في المال، وكان المال يحمل ذلك، فإن خرج بمال القراض وبمال لنفسه، قال مالك: يجعل النفقة من القراض ومن ماله على قدر حصص المال.
وقال مالك في الدين في القراض: إن دفع له مالًا قراضًا على أنه يعمل فيه وأن ما باع به من دين فهو ضامن له، إن ذلك لازم له، إن باع بدين فقد ضمنه.
وقال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا أن عامل القراض إن باع السلعهَ بدين فربح المال، ثم هلك العامل قبل أن يقبض المال، قال: إن أراد ورثته أن يقبضوا ذلك المال، وهم على شرط أبيهم في الربح، فإن ذلك لهم، إن كانوا أمناء، فإن كرهوا أن يقتضوه، وخلوا بين صاحب المال وبينه، لم يكلفوا أن يقتضوه، ولا شيء لهم، ولاشيء عليهم، إذا أسلموه إلى رب المال.
وفي اختلاف المتقارضين في بيع سلعة القراض من عدمه، قال مالك: لا ينظر إلى قول واحد منهما ويسأل عن ذلك أهل المعرفهَ والبصر بتلك السلعة، فإن رأوا وجه بيع بيعت عليهما، وإن رأوا وجه انتظار انتظر بها.
أو ادَّعَى عَلَيْهِ الْغَصْبَ أوْ قَالَ: أنفَقْتُ مِن غَيْرِهِ، وَفي جُزْءِ الرِّبْحِ إنْ ادَّعَى مُشْبِهًا والْمَالُ بيدِهِ، وَوَدِيعَةً وإنْ لِربه، وَلِرَبِّه إنِ ادَّعَى الشَّبَهَ فَقطْ أو قال قَرْضٌ في: قراضٌ أو ودِيعَة، أوْ في جُزْءٍ قَبْلَ الْعَمَلِ مُطْلَقًا، وإنْ قَالَ وَديعَةً ضَمِنَهُ الْعَامِلُ إنْ عَمِلَ، ولمدَّعِي الصَّحَّة ومَنْ هَلَك وَقَبِلَهُ كِقرَاضٍ أُخِذَ وإنْ لم يُوجَدْ وحَاصَّ غُرَمَاءَهُ، وتَعَئنَ بِوَصِيَّةٍ وَقُدِّمَ صَاحِبُهُ في الصِّحَّةِ وَالمَرَضِ، ولَا ينبَغِي لِعَامِلٍ هِبَة (1) وتَوْلِيَة، وَوَسِعَ أنْ يأتِيَ بِطَعَامٍ كغَيْرِهِ إنْ لَمْ. يَقْصِدِ التًفَضُّلَ وإلًا فَلَيَتَحَلَّلْهُ فإنْ أبَى فَلْيُكافِئْهُ.
= وفي رجوع العامل عن إقراره بوفور مال المقراض وربحه، قال مالك: لا ينتفع بإنكاره بعد إقراره أنه عنده، ويؤاخذ بإقراره على نفسه إلا أن يأتي ببينهَ تشهد له على أن المال هلك، وكذلك إذا أقر بربح المال فطالبه صاحب المال بدفع رأس ماله وربحه، فقال: لم أربح شيئًا، وإنما قلت إني ربحت لأجل أن تقر المال في يدي. قال مالك: إن ذلك لا ينفعه ويؤخذ بما أقر به، إلا أن يأتي بأمر يعرف به قوله وصدقه.
وفي اختلاف المتقارضين في قدر الأجر، قال مالك: القول قول العامل وعليه في ذلك اليمين، إذا كان ما ادعاه يشبه قراض مثله وكان ذلك نحوًا مما يتقارض الناس عليه، قال: وإن جاء بأمر يستنكر ليس على مثله يتقارض الناس، لم يصدق ورد على قراض مثله.
وقال مالك في المتقارضين يتفاصلان فيبقى بيد العامل من المتاع الذي كان يعمل فيه شيء، قال: كل شيء من ذلك كان تافهًا لا خطب له فهو للعامل. ولم أسمع أحدًا أفتى يرد مثل ذلك، وإنما يرد من ذلك الشيء الذي له ثمن؛ مثل الدابة والجمل ونحو ذلك.
(1)
قوله: ولا ينبغي لعامل هبة، قال مالك في الموطإ: إنه لا يهب منه شيئًا ولا يعطي منه سائلًا ولا غيره، ولا يكافئ فيه أحدًا، أما إذا اجتمع هو وقوم، فجاءوا بطعام وجاء هو بطعام، فأرجو أن يكون ذلك واسعًا إن لم يتعمد أن يتفضل عليهم، فإن تعمد ذلك بغير إذن صاحب المال، فعليه أن يتحلله من رب المال، فإن حلَّله ذلك فلا بأس به، وإنْ أبى أن يحلله فعليه أن يكافئه بمثل ذلك، إن كان شيئًا له مكافأة. أ. هـ. من الموطإ بتصرف.
كتاب المساقاة
بَابٌ: إنَّمَا تَصحُّ مُسَاقَاةُ شَجَرٍ، وَإنْ بَعْلًا، ذِي ثَمَرٍ لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ وَلَمْ يُخْلَفْ إلَّا تَبعًا بِجُزْءٍ قَل أوْ كَثُرَ شَاعَ وَعُلِمَ، بِسَاقَيْتُ، لَا نَقْصِ مَنْ في الْحَائطِ وَلَا تَجْدِيدٍ وَلَا زيَادَةٍ لأحَدِهِمَا، وَعَمِلَ الْعَامِلُ جَمِيعَ مَا يُفْتقَرُ إليْهِ عُرْفًا كإبَارٍ وَتَنقِيَةٍ ودَوَابَّ وَأُجَرَاءَ، وأنفَقَ وكَسَا، لَا أجْرَةُ مَنْ كانَ فيهِ أوْ خَلَفُ مَنْ
كتاب المساقاة
المساقاة مشتقة من السقي لأنه غالب عملها، وهو من العامل فقط، فهي إذًا من المستعمل في فعل فاعل واحد كقولهم: سافر فلان، وعافاه الله تعالى، وهو قليل، والكثير استعماله في فعلي فاعلين كالمشاركة والمقاصة.
والمساقاة أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه، بجزء معلوم من ثمره.
وحكمها الجواز فهي رخصة مستثناة من الإجارة بمجهول، ومن كراء الأرض بما يخرج منها، إذا ما اشتملت الأرض المساقى عليها، على بياض يزرعه العامل، وهي مستثناة أيضًا من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، بل وقبل وجودها، ومن بيع الغرر.
والأصل في جوازها السنة والإجماع.
أمَّا السنة، فما رواه جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ليهودِ أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها.
قال البغوي: هذا حديث متفق عليه، وأخرجه أيضًا محمد عن إبراهيم بن المنذر عن أنس بن عياض، عن عبيد الله، وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب، عن يحيى القطان عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع.
وأخرج البخاري في صحيحه: حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: " لَا " قالوا: تَكْفُونا المئونة ونَشْرككُمْ في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا.
قال ابن حجر في فتح الباري: وهذه هي المساقاة بعينها. =
مَاتَ أوْ مَرِضَ كمَا رَثَّ عَلى الأصَحِّ، كَزَرْعٍ وَقَصَبٍ وبَصَلٍ ومَقْثَأَةٍ (1) إنْ عَجَز رَبه وَخِيفَ رَبُّهُ وبَرَزَ وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ.
وَهَلْ كَذلِكَ الوَرْدُ وَنَحْوُهُ والْقُطْنُ؟ أوْ كَالأوَّلِ؟ وعَلَيْهِ الأكْثَرُ؟ تَأويلَانِ. وأُقِّتَتْ بِالجِذَاذِ، وحُمِلَتْ عَلى الأوَّلِ إن لَمْ يُشْتَرطْ ثَانٍ، وَكَبَياضٍ ونَخْلٍ أوْ زَرْعٍ إنْ وَافَقَ الجُزْءَ (2) وبَذَرَهُ الْعَامِلُ، وكَان ثُلُثًا بِإسْقَاطِ كُلْفَةِ الثَّمرَةِ، وإلَّا
= واما الإِجماع: فقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي أبي طالب رضي الله عنه وعن آبائه: عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر، ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع، وهذا عمل به الخلفاء الراشدون في مدة خلافتهم، واشتهر ذلك فلم ينكر منكر فكان إجماعًا. ا. هـ. مغني ابن قدامة.
وأخرج البخاري تعليقًا: وقال قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والرُّبُع، وزارع عليٌّ وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآلُ عمر، وآل علىٌّ، وابن سيرين. وقال عبد الرحمن بن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع. وعامل عمر الناس على: إنْ جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإنْ جاءوا بالبذر فلهم كذا، وقال الحسن: لا بأس أن تكون الأرض لأحدهما فينفقان جميعًا، فما خرج فهو بينهما. ا. هـ. منه.
قال ابن حجر في فتح الباري: والحق أن البخاري إنما أراد بسياق هذه الآثار إلى أن الصحابة لم ينقل عنهم خلاف في الجواز، خصوصًا أهل المدينة، فيلزم من يقدم عملهم على الأخبار المرفوعة أن يقول بالجواز على قاعدتهم. ا. هـ. منه.
وقال البغوي عند حديث ابن عمر المتقدم: هذا الحديث يدل على جواز المساقاة؛ وهي أن يدفع الرجل نخيله أو كرمه إلى رجل ليعمل فيها بما فيه صلاحها وصلاح ثمرها، على أن يكون له جزء معلوم من الثمر؛ نصف، أو ثلث، أو ربع، على ما يشترطان، وعليه أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، غير أبي حنيفة فإنه أبطل عقد المساقاة، وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن فقالا بقول جماعة أهل العلم. ا. هـ. منه.
(1)
وقول المصنف رحمه الله: كزرع وقصب وبصل ومقثأة الخ. قال البغوي: اختلفوا فيما تصح =
فسَدَ، كاشْتِراطِهِ رَبُّهُ، وألْغِيَ لِلْعَامِلِ إنْ سَكَتَا عَنْهُ، واشْتَرَطه، ودَخَلَ شَجَرٌ تَبِعَ زَرْعًا، وجَازَ زَرعٌ وشجَرٌ وإنْ غَيْرَ تَبَعٍ، وحَوَائِطَ وإنِ اخْتَلَفَتْ، بِجُزْءٍ، إلَّا في صَفَقَاتٍ وَغَائبٍ إن وُصِفَ وَوَصَلَهُ قَبْلَ طيبِهِ، واشْتِرَاطُ جُزْءِ الزَّكَاةِ عَلى أحَدِهِمَا وسِنينَ مَا لَمْ تَكْثُرْ جِدًّا بِلَا حَدٍّ، وعَاملٍ دَابَّةً أوْ غُلامًا في الكبِيرِ، وقَسْمُ الزبْتونِ حَبًّا كعَصْرِهِ عَلى أحَدِهِما، وإصْلَاحِ جِدَارٍ وَكَنْسِ عَيْنٍ وشَدِّ حَظيِرةٍ، وإصْلَاحِ ضَفِيرَةٍ أوْ مَا قَلَّ، وتَقايُلُهُمَا هَدَرًا، ومُسَاقَاةُ الْعَاملِ آخَرَ وَلَوْ أقَلَّ أمَانَةً، وحُمِلَ عَلى ضِدِّهَا وَضَمِنَ، فإنْ عَجَزَ وَلَمْ يَجدْ أسْلَمَهُ هَدَرًا، وَلَمْ تَنْفَسِخْ بِفَلَسِ رَبِّه وَبِيعَ مُسَاقىً، ومُسَاقَاةُ وَصِيٍّ وَمَدِينٍ بِلا حَجْرٍ، ودَفْعُهُ لِذِمِّيٍّ لَمْ يَعْصِرْ حِصَّتَه خَمْرًا، لا مُشَارَكَةُ رَبِّهِ، أو إعْطَاءُ أرْضٍ ليَغْرِسَ فإذا بَلَغَتْ كانَتْ مُسَاقَاةً، أوْ شَجَرٍ لم يَبْلُغْ خَمْسَ سِنِينَ وهي تَبْلُغُ أثناءَهَا،
فيه المساقاة من الأشجار، فذهب الشافعي في أظهر قوليه إلى أنها لا تصح إلا في النخل والكرم؛ لأن ثمرهما ظاهر يدركه البصر فيمكن خرصه، وغيرهما من الثمار كالتين والزيتون والتفاح يتعذر خرصه لتفرق ثمرها في تضاعيف الأوراق. قال: وجوز مالك وأبو يوسف ومحمد المساقاة في جمعها، وجوز مالك في القثاء والبطيخ. قال شعيب: واستدلوا بأن في بعض طرق حديث الباب: "بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ نَخْلٍ وَشَجَرٍ". وفي رواية حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر في حديث الباب: "عَلَى أَنَّ لَهُمْ الشَّطرَ مِنْ زَرْعٍ وَنَخْلٍ وَشَجَرٍ". وهو عند البيهقي من هذا الوجه. ا. هـ. منه.
قلت: ولفظه عند البيهقي. أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، ثنا يونس بن يعقوب القاضي، ثنا عبد الواحد بن غياث، ثنا حماد بن سلمة، أنبأنا عبيد الله بن عمر - فيما يحسب أبو سلمة - عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض والزرع والنخل، فقالوا: يا محمد، دعنا نكن في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء، ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث. =
وفُسِخَتْ فاسِدَةٌ بلا عَمَلٍ أوْ في أَثْنَائِهِ أو بَعْدَ سَنةٍ مِنْ أكثَرَ إنْ وَجَبَتْ أجْرَةُ الْمِثْلِ وِبَعْدَهُ أجْرَةُ المِثْلِ إنْ خَرَجَا عَنْهَا كَأنْ ازْدَادَ عَيْنًا أوْ عَرْضًا، وإلَّا فمُسَاقَاةُ
وفي مغني ابن قدامة: وإن قال ما زرعتها من شيء فلي نصفه، صحَّ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقى أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وكبياض ونخل أو زرع إن وافق الجزء، تبع فيه الموطأ، ففيه: قال مالك: إذا ساقى الرجل النخل وفيها البياض، فما ازدرع الرجل الداخل في البباض فهو له.
قال: وإن اشترط الزرع بينهما فلا بأسر بذلك، إذا كانت المئونة كلها على الداخل في المال - البذر والسقي والعلاج كله - فإن اشترط الداخل في المال على رب المال أن البذر عليك كان ذلك غير جائز. ا. هـ. منه.
تنبيهٌ: قال مالك: والسنة في المساقاة، التي يجوز لرب الحائط أن يشترطها على المساقي: شد الحظائر، وخمُّ العين، وسرو الشَّرَب، وإبَّارُ النخل، وقطع الجريد، وجذُّ الثمر.
قلت: والحظائر، جميع حظيرة، وهي العيدان التي يحصن بها البستان، تمنع من التسور عليه، وقال ابن قتيبة: هي حائط البستان.
وخمُّ العين يعني تنقيتها لأن المخموم هو النقي.
والشَّرَبُ - بفتحتين - قال عياض: هو الحفرة حول النخلة. واحده شربة، وهي للنخلة كالحوض تشرب منه، وسروُها كنسها.
قال مالك: غير أن صاحب الأصل لا يشترط ابتداء عمل جديد يحدثه العامل فيها؛ من بئر يحتفرها، أو عين يرفع رأسها، أو غراس يغرسه فيها، يأتي بأصل ذلك من عنده.
تنبيهٌ: تقدم ذكر جواز دخول البياض في البستان في المساقاة، وقال مالك: لا ينبغي أن تساقى الأرض البيضاء، والفرق بين ذلك - كما في الموطإ - أن صاحب النخل لا يقدر أن يبيع ثمرها حتى يبدو صلاحه، وصاحب الأرض يستطيع كراءها وهي أرض بيضاء لا شيء فيها.
قال مالك: إذا كان البياض تبعًا للأصل، وكان الأصل أعظم ذلك أو أكثره، فلا بأس بمساقاته، وذلك أن يكون النخل الثلثين أو أكثر، ويكون البياض الثلث أو أقل من ذلك، ودلك أن البياض حينئذ تبع للأصل. أ. هـ. منه.
المِثْلِ كمُسَاقَاتِهِ مَعَ ثَمَرٍ أطْعَمَ أوْ مَعَ بَيْعٍ، أو اشْتَرَطَ عَمَلَ رَبِّهِ أوْ دَابَّةٍ أوْ غُلَامٍ (1) وهوَ صَغيرٌ، أوْ حَمَلَهُ لِمَنْزِله، أوْ يَكْفيهِ مَئونَةَ آخَرَ، أو اخْتَلَفَ الجُزْءُ بِسِنينَ، أوْ حَوَائِطَ، كاختِلافِهمَا وَلَمْ يُشْبِهَا، وإنْ سَاقَيْتهُ أوْ أكْريْتَهُ فألفَيتَهُ سَارِقًا، لم تَنْفَسِخْ ولْيَتَحَفَّظْ مِنْهُ، كبَيْعِهِ وَلمْ يَعْلَم بِفَلَسِهِ، وسَاقِطُ النَّحْل كَلِيفٍ كَالثَّمَرِ، والْقَوْلُ لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ، وإنْ قَصَّرَ عَامِلٌ عَمَّا شُرِطَ حُطَّ بِنِسْبَتِه.
(1)
وقوله: أو اشترط عمل ربه أو دابة أو غلام، الخ. هو لما في الموطإ، قال مالك: إن أحسن ما سمع في عمال الرقيق في المساقاة يشترطهم المساقي على صاحب الأصل، إنه لا بأس بذلك، لأنهم عمال المال فهم بمنزلة المال، لا منفعة فيهم للداخل إلا أنه تخف عنه بهم المئونة.
قال مالك: وليس للمساقي أن يعمل بعمال المال في غيره، ولا أن يشترط ذلك على الذي ساقاه.
قال: ولا يجوز للذي ساقى أن يشترط على رب المال رقيقًا يعمل بهم في الحائط، ليسوا فيه حين ساقاه إياه، إنما مساقاة المال على حاله الذي هو عليه.
قال: ومن مات من الرقيق أو غاب أو مرض، فعلى رب المال أن يخلفه. انتهى منه باختصار.
الغَرس
بَابٌ: نُدِبَ الْغَرْسُ (1)، وَجَازَتِ المُغَارَسَةُ في الأُصُولِ أوْ مَا يَطُولُ مُكْثُهُ كَزَعْفَرانٍ وَقُطْنٍ إِجَارَةً وَجَعَالَةً، بِعِوَضٍ وشرْكَةَ جُزْءٍ مَعْلُومٍ في الأرْض والشَّجَرِ، لَا في أحَدِهِمَا، ودَخَلَ مَا بَيْنَ الشَّجَرِ مِنَ الأرْضِ إنْ لَمْ يَسْتَثْنِهِ أَوَّلًا، إنِ اتَّفَقَا عَلى قَدْرٍ مَعْلُومٍ تَبْلُغُهُ الشَّجَرُ ولَا ثَمَرَ دُونَهُ، كتَحْدِيدِهَا بالإِثْمَارِ أوْ أجَلٍ، لَا بَعْدَهُ، وحُملَا عَلَيْه عِنْدَ السُّكوُتِ، وصَحَّتْ، كاشْتراطِهِ عَلى الْعَامِلِ مَا خَفَّتْ مَئونَتُهُ كَزَرْبٍ، لَا ما عَظُمَ مِنْ بُنيَانٍ، وَهَلْ تَلْزَمُ بِالْعَقْدِ؟ أو إلَّا أنْ يَشْرَعَ فِي الْعَمَلِ؟ خِلَافٌ. وَعَمَلُ الْعَامِلِ مَا دَخَلَ عَليْهِ عُرْفًا أوْ تَسْميَةً، وَضَمِنَ إنْ فَرّط، فَإنْ عَجَز أوْ غَابَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَعَملَ رَبُّهُ أوْ غَيْرُهُ، فَهُوَ عَلى حَقِّهِ إنْ شَاءَ وعَليْهِ الأجْرَةُ إلَّا أَنْ يَتْرُكَهُ أَوَّلًا.
وَوَجَبَ بَيَانُ مَا يُغْرَسُ، كَعَدَدِهِ إلَّا أنْ يُعْرَفَ عِنْدَ أهْلِهِ. ومُنِعَ جَمْعُهَا مَعَ بَيْعٍ أوْ إجَارَةٍ كَجُعْلٍ، وصَرْفٍ، ومُساقَاةٍ، وشِرْكَةٍ، ونِكَاحٍ، وقِراضٍ،
الكلام على الغرس
(1)
قوله رحمه الله: ندب الغرس - هو بفتح العين المعجمة وسكون الراء - الشجر الذي يثمر. ودليل استحبابه قوله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غرْسًا إلَّا كَان مَا أُكِلَ مِنْهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ صَدَقَةً، وَمَا أَكَلَ مِنْهُ السَّبُعُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ. وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ". رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه.
وفي الحديث: "لَا يَغْرِسُ مُسْلِمٌ غَرْسًا وَلَا يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ وَلَا دَابَّةٌ، وَلَا شَيْءٌ إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ إِلى يَوْم الْقِيَامَةِ".
وفي رواية: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الأجْر قَدْرَ مَا يَخْرُجُ مِنْ ذلِكَ الْغَرْسِ".
وعنه: صلى الله عليه وسلم "مَنْ بَنَى بُنْيَانًا في غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا اعْتدَاءٍ أَوْ غَرسَ غَرْسًا في غَيْرِ ظُلْم ولَا اعْتدَاءٍ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ جَارِيًا مَا انْتَفعَ بِه أحدٌ منْ خَلْقِ الله تبارك وتعالى". =
وقَرْضٍ. واقْتسَامُهَا إنْ بَلَغَ الْحَدَّ المُشْتَرَطَ، أوْ تَوَلَّيا الْعَمَلَ. وَإنْ هَلَكَت الأشْجَارُ بعْدَهُ فَالأرض بَيْنَهُمَا. ولَا شَيْءَ للعَامِل فِيمَا قَلَّ إنْ بَطَلَ الجُلُّ إلَّا أنْ يَتَمَيَّزَ بِنَاحِيَةٍ أوْ كَانَ لَهُ قَدْرٌ بخلافِ الْعَكْسِ وَليْسَ لَهُ قَبْلَهُ جَعْلٌ، كبَقْلٍ إلَّا بَإذْنٍ. وَإنْ اخْتَلَفَا فِي الجُزْء حُمِلَا على العُرْفِ. والْقَوْل لِمُدَّعِي الصِّحَّةِ إلَّا أنْ يَغلِب الْفَسَادُ. وَفُسِخَتْ فَاسِدَةٌ بِلَا عَمَلٍ، وإلَّا فَهَلْ تَمْضِي، ويتَرادّان الأرْضَ والْعَمَلَ، إنْ جُعِلَ لِلْعَامِلِ جُزْءٌ؟ أوْ إنْ كَانَ، كَذلِكَ، قِيمَةُ غَرْسِهِ وَعمَلِهِ فَقَطْ؟ وإلَّا، فَفي كَوْنِهِ كِراءً فَاسِدًا، أوْ إجَارةً فَاسِدَةً كَذلك؟ قَوْلَانِ، تَرَدُّدٌ.
ومَا فَاتَ مِنْ غَلَّةٍ رَجَعَ صَاحِبُهَا بِمِثْلهَا إنْ عُلِمَتْ، كَالْمِثْلِيِّ في غَيْرهَا، وإِذَا غَرَسٍ أحَدُ الشَّرِيكيْنِ أوْ بَنَى، فَلِلآخَرِ الدُّخُولُ مَعَهُ، وَيُعْطِيهِ قيمَةَ ذلكَ قَائِمًا.
= وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وهُوَ في قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ أَجْرَى نَهَرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا أَوْ بَنَى مَسْجِدًا أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ" ا. هـ. (منح الجليل) لعليش.
هذا، ولم يشرح الحطاب هذا الباب من المختصر، ولم يعرج عليه الدردير في الشرح الكبير، ولا محشيه الدسوقي، وقد أثبت نصه للفائدة. والله تعالى هو الموفق، عليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
كتاب الإجارة
بَابٌ: صِحَّةُ الإِجارة. بعَاقِدٍ وَأجْرٍ كَالْبَيْعِ (1) وَعُجِّلَ إنْ عُيِّنَ (2) أَو بِشَرْطٍ أوْ عَادَةٍ (3) أوْ في مَضْمُونَةٍ لمْ يُشْرَعْ فيهَا (4) إِلَّا كَرِيَّ حجٍّ فَالْيَسِيرُ،
كتاب الإجارة
الكلام في هذا الكتاب في بيان أحكام الإِجارة، وكراء الدواب والحمّام والدار والأرض وما يناسبها .. ، فالإِجارة بيع منافع معلومة بعوض معلوم، وهي معاوضة صحيحة، يجري فمها ما يجري في البيوع من الحلال والحرام.
وقال القرافي في الذخيرة: يقال: آجر - بالمد والقصر - وأنكر بعضهم المد، وهو منقول، قال: ولما كان أصل هذه المادة الثواب على الأعمال، وهي منافع، خصصت الإِجارة ببيع المنافع على قاعدة العرف في تخصيص كل نوع تحت جنس باسم ليحصل التعارف عد الخطاب، قال: وقد غلب وضع الفعالة - بالكسر - للصنائع نحو: الصناعة، والخياطة، والتجارة ونحو ذلك، والفعالة - بالفتح - لأخلاق النفوس نحو: السماحة، والشجاعة، والفصاحة ونحو ذلك، والفعالة - بالضم - لما يطرح من المحقرات نحو: الكُناسة، والقُلامة، والفضالة، والنُّخالة ونحو ذلك. ا. هـ.
وقال في اللباب: حقيقة الإِجارة تمليك منفعة غير معلومة، زمنًا معلومًا، بعوض معلوم، وقال: وقد خص تمليك منفعة الآدمي باسم الإِجارة، ومنافع المتملكات باسم الكراء. قال: وحكمها الجواز ابتداء، واللزوم بفس العقد ما لم يقترن به ما يفسدها. قال: وحكمة مشروعيتها التعاون ودفع الحاجات، وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}
(1)
. ا. هـ. تلخيصًا من الحطاب.
قال سليمان الجمل في حاشيته على الجلالين: أي ليستعمل بعضهم بعضًا في حوائجهم، فيحصل بينهم تآلف وتضامّ، ينتظم بذلك نظام العالم، لا لكمال في الموسع عليه ولا لناقص في المقتر عليه. قال: وعبارة الخطيب {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل. فيكون بعصهم سببًا لمعاشر بعض؛ هذا بماله، وهذا بأعماله، فيلتئم قوام العالم، لأن المقادير لو تساوت لتعطلت المعايش، ا. هـ. منه باخصار. =
(1)
سورة الزخرف: 32.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}
(1)
، قال: فيه دليل على صحة جواز الإِجارة، وهي سنة الأنبياء والأولياء. ا. هـ. منه.
وفي السنن الكبرى للبيهقي باب جواز الإِجارة، قال الله تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
(2)
. فأجاز الإِجارة على الرضاع. وقال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}
(3)
. إلى آخر القصة. قال الشافعي: فذكر الله أن نَبيًّا من أنبيائه آجر نفسه حججًا مسماة ملك بها بضع امرأة، فدل ذلك على تجويز الإِجارة. ا. هـ. منه.
وقالت عائشة رضي الله عنها: استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، رجلًا من بني الديل، هاديًا خريتًا، وهو على دين كُفَّار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، هذا لفظ البغوي، والحديث في صحيح البخاري باب: استئجار المشركين عند الضرورة.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا بَعَتَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ". فقال أصحابه، وأنت؟ فقال:"نَعَمْ، كُنْتُ أرْعَى عَلَى قَرَارِيطَ لأهْلِ مَكةَ". أخرجه البخاري في صحيحه في أول الإِجارة.
(1)
قوله رحمه الله: صحة الإِجارة بعاقد وأجر، كالبيع، تقريره: صحة موافقة الإِجارة للشرع وقوعها بعاقد وأجر؛ كعاقد البيع وعوضه، فشمل العاقد المؤجر والمستأجر. وشبه العوض فيها بعوض البيع، فكان شبه العاقد فيها بعاقد البيع من حيث التمييز، وشبه عوضها بعوض البيع من حيث كونه معلومًا، طاهرًا، منتفعًا به، مقدورًا على تسليمه، غير منهي عنه .. الخ. ما تقدم في البيع.
ودليل كون الإِجارة كالبيع، ذلك ما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: باب لا تجوز الإِجارة حتى تكون معلومة، وتكون الأجرة معلومة استدلالًا بما روينا في كتاب البيوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرز. والإجارات صنف من البيوع والجهالة فيها غرر، ثم ساق سندًا إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لَا يُسَاوِم الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَايَعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ، وَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ". قال: ورواه حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير، يعني حتى يبين له أجره. =
(1)
سورة الكهف: 77.
(2)
سورة الكهف: 77.
(3)
سورة القصص: 26.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال: وحدثنا يعقوب، حدثني عمرو بن الربيع، ثنا ابن لهيعة، جميعًا عن يزيد ابن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط، أخبره عن مالك بن هدم - يعني عن عوف بن مالك، قال: غزونا وعلينا عمرو بن العاص، وفينا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فأصابتنا مخمصة شديدة، فانطلقت ألتمس المعيشة، فألغيت قومًا يريدون ينحرون جزورًا لهم، فقلت: إن شئتم كفيتكم نحرها وعملها واعطوني منها. ففعلت، فأعطوني منها شيئًا فصنعته ثم أتيت عمر بن الخطاب فسألني من أين هو؟ فأخبرته، فقال: أسمعك تعجلت أجرك. وأبى أن يأكله، ثم أتيت أبا عبيدة فأخبرته فقال لي مثلها، وأبى أن يأكله، فلما رأيت ذلك تركتها، قال: ثم أبردوني في فتح لنا فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صاحِبُ الْجَزُورِ"؟. ولم يرد علي شيئًا. وفي حديث سعيد: لم يزدني على ذلك. قال البيهقي: وفي هذا أن الأجرة كانت مجهولة، وفي الذمة معلقة بعين. والله أعلم. ا. هـ.
وقال ابن قدامة في المغني: يشترط في عوض الإِجارة كونه معلومًا. لا نعلم في ذلك خلافًا، وذلك لأنه عوض في عقد معاوضة، فوجب أن يكون معلومًا كالثمن في البيع، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ". ا. هـ. منه.
وفي المقدمات لابن رشد: لا تجوز الإِجارة إلا بأجرة مسماة، معلومة، وأجل معروف، أو ما يقوم مقام الأجل من المسافة فيما يحمل، أو توقيت العمل فيما يستعمل، وعمل موصوف، أو عرف في العمل والخدمة، يدخل عليه المتآجرون فيقوم ذلك مقام الصفة، يدل على ذلك قوله تعالى:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}
(1)
قال: فسمى الأجرة وضرب الأجل ولم يصف الخدمة والعمل، لأن العرف والعادة أغنياهما عن ذلك.
قال: وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ". وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُؤْجِرْهُ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ إِلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ". فأمر صلى الله عليه وسلم بتسمية الأجر، وضرب الأجل، وسكت عن وصف العمل، إذْ قد يستغنى عن ذلك بالعرف والعادة اللذين يقومان مقامه.
(2)
وقوله: وعجل إن عَيَّنَ، تقريره: وعجل الأجر وجوبًا شرطًا في الصحة إن عين الأجر، لأن عدا تعجيل المعين يؤدي إلى بيع معين يتأخر قبضه، وفيه غرر إذ لا يدري أيستمر على حاله أم يتغير؟. =
(1)
سورة القصص: 27.
وَإلَّا فَمُيَاومَةً (1) وَفَسَدَتْ إِنْ انْتَفَى عُرْفُ تَعْجِيلِ المُعَيَّنِ، كمَعَ جُعْلٍ لَا بَيْعٍ وَكجِلْدٍ لِسَلَّاخٍ أوْ نُخَالَةٍ لِطحَّانٍ وَجُزْءُ ثَوْبٍ لِنَسَّاجٍ أوْ رَضِيعٍ وَإنْ مِنَ الآن، وبِمَا سَقَطَ أوْ خَرَج في نَفْضِ زَيْتُونٍ أوْ عَصْرِهِ، كاحْصُدْ وادْرُسْ ولَكَ نِصْفُهُ، وَكِرَاءُ أرْضٍ بِطَعَامٍ أوْ بمَا تُنْبتُهُ (2) إلَّا كخشَبٍ، وحَمْلِ طَعَامٍ لِبَلَدٍ بِنصْفِهِ إلَّا أنْ يقْبِضَهُ الآن، وَكَأَنْ خِطْتَهُ الْيَوْمَ بِكذَا، وَإلَّا فَبِكَذَا واعْمَلْ عَلى دَابَّتِي فَمَا حَصَل فَلَكَ نِصْفُهُ (3) وَهُو لِلْعَامِلِ وعَلَيْهِ أجْرَتُهَا، عَكْسُ لِتُكرِيَهَا، وَكَبَيْعِهِ نِصْفًا (4)، إلَّا في الْبَلدِ إِن أجَّلا وَلَمْ يَكُنِ الثَمَنُ مِثْلِيًّا، وجَاز بنِصْفِ مَا يَحْتَطِبُ عَلَيْهَا (5) وَصَاعِ دَقِيقٍ مِنْهُ أوْ مِنْ زيْتٍ لَمْ يَخْتَلِفْ، واسْتِئجَارُ الْمَالِكِ مِنْهُ، وتَعْلِيمُهُ بِعملِه سَنَةً مِنْ أخْذِهِ (6)، واحْصُدْ هذَا ولَكَ نِصْفُهُ، ومَا حَصَدْتَ فَلَك نِصْفُهُ.
(3)
وقوله: أو بشرط أو عادة، يريد به: أو لم يعين وعقدا الإِجارة بشرط التعجيل فيجب الوفاء بالشرط لقوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُون عِنْدَ شُرُوطِهِمْ". أو لم يعين ولم يشترط التعجيل، ولكن الإِجارة وقعت مصحوبة بعادة التعجيل، فيجب التعجيل حينئذ لأن العرف كالشرط قال تعالى:{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} الآية: فهي إحدى القواعد الخمس التي بني الفقه عليها. قال في مراقي السعود.
قد أُسِّسَ الفِقْهُ على رفْع الضَّرَرْ
…
وَأنَّ ما يَشُقُّ يَجْلِبُ الْوَطَرْ
ونَفْي رَفْعِ الْعِلْمِ بالشَّك وأنْ
…
يُحَكَّمَ العرف ........ ألخ
(4)
وقوله: أو في مضمونة لم يشرع فيها: تقرير معناه: أو لم يعين الأجر، ولم يشترط تعجيله، ولم يُعْتَدْ، والحال أن الأجرة وقعت في منفعة مضمونة في ذمة المؤجر - باسم الفاعل - كإجارة على خياطة ثوب بدرهم، فيجب تعجيل هذا الدرهم حذرًا من الوقوع في ابتداء دين بدين، إلا إذا بادر الشروع فيها، أي في تلك المنفعة المضمونة، فلا يجب التعجيل حينئذ لانتفاء الدين بالدين، بناء على أن قبض الأوائل قبض للأواخر. والله أعلم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (1) وقوله: وإلا فمياومة، تقريره: وإن لم يكن الأجر معينًا، ولم يشترط تعجيله، ولم يجر عرف بتعجيله، ولم تكن المنفعة مضمونة لم يشرع فيها، فاللازم أنه كلما استوفى المستأجر منفعة يوم تين عليه دفع أجرته، ولا يجب عليه تعجيل شيء قبله.
(2)
وقوله: وكراء أرض بطعام أو بما تنبته، قد أوسعت البحث فيه في هذا الكتاب المبارك، في الكلام على أحكام الشركة في الزرع. وقد أغنى ذلك ولله الحمد عن إعادته هنا: فليرجع إليه من يريد مراجعته. والله تعالى ولي التوفيق.
(3)
وقوله: واعمل على دابتي فما حصل فلك نصفه، هو من صيغ الإِجارة الفاسدة لما يعتري ذلك من الغرر لجهلهما الأجرة - وما أكثر الوقوع في هذا الفساد اليوم، خصوصًا في أجرة سائقي سيارات الأجرة - والحكم في هذه النازلة إن وقعت هو أن ما حصل من العمل للعامل، وعليه أن يعطي لصاحب السيارة أو الدابة أجرتها عن كل يوم عمل فيه بحسب المعتاد المتعارف عليه من أجرة المثل، والله تعالى أعلم.
(4)
وقوله: وكبيعه نصفًا ألخ. في المدونة: قال مالك: من باع من رجل نصف ثوب أو نصف دابة أو غيرها، على أن يبيع له النصف الآخر بالبلد، جاز إن ضرب لبيع ذلك أجلًا، ما خلا الطعام فإنه لا يجوز. ا. هـ. من المواق.
(5)
وقوله: وجاز بنصف ما يحتطب عليها، قال المواق: ابن المواز، قال مالك: لا خير في أن يدفع الرجل دابته لمن يحتطب عليها على النصف. قال محمد: يريد نصف قيمة الحطب، ولو جعا له نصف النقلة كان جائزًا، وكذلك على نقلات معروفات، أو قال: لي نقلة ولك نقلة. فذلك جائز كله. ا. هـ. منه.
(6)
وقوله: وتعليمه بعمله سنة من أخذه، نسب المواق للمدونة: لو دفعت غلامك إلى خياط أو قصار ليعلمه ذلك العمل بعمله سنة جاز. قال عيسى: والسنة من يوم أخذه. ا. هـ.
وكِرَاءُ دَابَّةٍ لِكَذا عَلى إنْ اسْغْنَى فِيهَا حَاسَب (1)، واسْتئْجَارُ مُؤْجَرٍ أوْ مُسْتَثْنىً مَنْفَعَتُهُ والنَّقْدُ فِيهِ إنْ لمْ يَتَغَيَّرْ غَالبًا، وعَدَمُ التَّسْمِيَةِ لِكُلِّ سَنَةٍ، وكِرَاء أرْضٍ لِتُتَّخَذَ مَسْجِدًا مُدَّةً والنَّقْضُ لِربِّهِ إذا انْتَقَضَتْ، وعَلى طَرْحِ مَيتَةٍ، وَالقصَاصِ والأدَبِ، وعَبْدٍ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا وَيَوْمٍ، وخِيَاطَةِ ثَوْبِ مَثَلًا، وهَلَ تفْسدُ إنْ جَمَعَهُمَا وتَسَاويا؟ أوْ مُطْلَقًا؟ خِلَافٌ. وبَيْعُ دَارٍ لتُقْبَضَ بَعْدَ عَامٍ، وَأرْض لِعَشْرٍ، واسْتِرْضَاعٌ والْعُرْفُ في كَغَسْلِ خِرَقِهِ (2)، ولزَوْجِهَا فَسْخُهُ إنْ لمْ يأذَنْ (3)، كأهْلِ الطِّفْلِ إذا حَمَلَتْ، ومَوْتِ إحْدَى الظِّئْريْنِ ومَوْتِ أبيه وَلَمْ تَقْبِضْ أجْرَةً إلَّا أنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا مُتَطَوعٌ، وكظُهُور مُسْتَأجَرٍ أوجِرَ بأكْلِهِ أكُولًا، ومُنِعَ زوجٌ رَضيَ مِنْ وَطْءٍ ولَوْ لمْ يَضُرَّ وسَفَرٍ كأن تُرْضِعَ مَعَهُ، ولَا يَسْتَتْبعُ حَضَانَةً كعَكْسِهِ، وبَيْعُهُ سِلْعَةً عَلى أنْ يتَّجِرَ بِثَمَنِهَا سَنَةً إنْ شَرَطَ الْخُلْفَ كغَنَمٍ لَمْ تُعَيَّنْ وإلَّا فَلَهُ الخُلْفُ على آجِرِهِ كَرَاكِبٍ، وحَافَتيْ نَهَرِكَ لِيَبْنِيَ بَيْتًا، وَطَريقٍ في دَارٍ، ومَسِيلِ مَصَبِّ مِرْحَاضٍ، لا مِيزَابٍ إلَّا لِمنْزِلكَ في أرْضِهِ، وكرَاءُ رَحَى مَاءٍ بِطَعَامٍ أوْ غَيْرِهِ، وعَلى تَعْلِيم قُرْآنٍ مُشَاهَرَةً أوْ عَلى الحِذَاق وأخَذَهَا وَإنْ لَمْ تُشَتَرَطْ (4).
(1)
وقوله: وكراءُ دابة لكذا على إن استغنى فيها حاسب، نسب المواق هنا للعتبية والموازية: قال مالك: من تكارى دابته بدينار إلى بلد كذا على أنه إن تقدم منها فبحساب ما تكارى منه فذلك جائز إذا سمى موضع التقدم، أو عرف نحوه أو قدره. قال الحطاب: لو قال: على أن أستغني عنها. لكان أبين، ويريد بشرط لا أن ينقد، لأنه إن نقد يكون تارة سلفًا وتارة ثمنًا. قاله في التوضيح، وعزاه لمالك في العتبية والموازية. ا. هـ.
(2)
قوله: واسترضاع والعرف في كغسل خرقه، نسب المراق هنا للمدونة، قال مالك: لا بأس بإجارة الظئر على رضاع الصبي حولا أو حولين بكذا، وكذلك إن شرطت عليهم طعامها وكسوتها فهو =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= جائز، قال ابن حبيب. وذلك معروف على قدرها وقدر هيئتها وقدر أبي الصبي في غناه وفقره، ا. هـ. واعتبر العرف فيما يحتاج إليه الصبي في مئونته من غسل خرقه وغير ذلك على ما يتعارفه الناس. انظر المواق.
(3)
وقوله: ولزوجها فسخه إن لم يأذن، قال في المدونة: قال مالك: وليس لزوجها وطؤها إن آجرت نفسها بإذنه، وإن كان بغير إذنه فله أن يفسخ إجارتها، وفي المدونة أيضًا: وإذا حملت الظئر فخيف على الصبي فلهم فسخ الإِجارة، ولا يلزمها أن تأتي بغيرها ترضعه؛ لأنها إنما أكريت على رضاعه بعينها، وإن سافر الأبوان فليس لهما أخذ الصبي إلا أن يدفعا إلى الظئر جميع الأجرة.
(4)
وقوله: وعلى تعليم قرآن مشاهرة أو على الحذاق وأخذها وإن لم تشترط، تقريره: وجازت الإِجارة على تعليم القرآن الكريم مشاهرة - كل شهر بكذا - أو مسانهة - كل سنة بكذا - أو مياومة - كل يوم بكذا - وجازت الإِجارة أيضًا على الحذاق، أي على الحفظ لكل القرآن أو لبعضه كسورة البقرة مثلًا، وجاز لمعلم القرآن أخذ الأجرة على تعليمه، وإن لم تشترط ابتداء - والدليل على ذلك حديث ابن عباس عند البخاري وغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أَحَقَّ مَا أخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ الله". رواه البخاري في الصحيح عن سيدان بن مضارب، عن أبي معشر. وقال البيهقي في السنن الكبرى بعد أن ساق سندًا إلى وكيع قال: حدثنا صدقة بن موسى الدقيقي أو الدمشقي عن الوضين بن عطاء قال؛ ثلاثة معلمون كانوا بالمدينة يعلمون الصبيان، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرزق كل واحد منهم خمسة عشر درهمًا كل شهر. قال: وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع.
وأخرج البيهقي بسنده إلى شعبة قال: سألت معاوية بن قرة عن أجر المعلم؟ قال: أرى له أجرًا. قال شعبة وسألت الحكم فقال: لم أسمع أحدًا يكرهه. قال البخاري في الترجمة: وقال الحكم: لم أسمع أحدًا كره أجر المعلم. قال: ولم ير ابن سيرين بأجر المعلم بأسًا. قال البيهقي: ورويا عن عطاء وأبي قلابة أنهما كانا لا يريان بتعليم الغلمان بالأجر بأسًا. ا. هـ. من السنن الكبرى.
وقال البغوي عند حديث ابن عباس المتقدم: في الحديث دليل على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وجواز شرطه، وإليه ذهب عطاء، والحكم، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور، قال الحكم: ما سمعت فقيهًا يكرهه. =
وَإجَارَةُ مَاعُونٍ كَصَفْحَةٍ وقِدْرٍ، وعَلى حَفْرِ بِئْرٍ إجَارَةً وجَعَالَةً (1)، ويكرَهُ حَلْيٌ (2) كإجَارِ مُسْتَأجر دَابَّةٍ أوْ ثَوْبٍ لِمثْلِهِ وتَعْلِيمِ فِقْهٍ وفَرَائضَ، كبَيْعِ كُتبه وقِراءَةٌ بِلَحْنٍ، وكراءُ دفٍّ ومِعْزَفٍ لِعُرْسٍ (3)، وكِرَاءُ كعَبْدٍ كافِرٍ وبناءُ مَسْجِدٍ للِكراءِ وسُكْنَى فَوْقَهُ (4) بِمَنْفَعَةٍ تَتَقَوَّمُ قُدِرَ على تَسْلِيمهَا (5) بِلَا اسْتِيفَاءِ عَيْنٍ قَصْدًا وبلا حَظْر (6) وتَعَيُّنٌ ولَوْ مُصْحَفًا وأرْضًا غَمَرَ مَاؤهَا. ونَدَرَ انكشافُه، وشَجَرًا لتَجْفِيفٍ
= وذكر أن طائفة - منهم أبو حنيفة وإسحاق - قالوا: إن أخذ الأجرة والعوض على تعليم القرآن غير مباح. واحتجوا بما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، رجل أهدى إليَّ قوسًا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال، فأرمي عليها في سبيل الله؟ قال:"إنْ كنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا".
وأجاب من أباحه عن الحديث بأنه كان تبرع بتعيمه، ونوى بذلك الاحتاب فيه، فحذره النبي صلى الله عليه وسلم من إبطال أجره وحسبته. ا. هـ. منه بتصرف.
وقال ابن قدامة في المغني: وممن أجاز ذلك مالك والشافعي، ورخص في أجور المعلمين أبو قلابة، وأبو ثور، وابن المنذر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج رجلًا بما معه من القرآن، متفق عليه، وإذا جاز تعليم القرآن عوضًا. في باب النكاح. وقام مقام المهر، جاز أخذ الأجرة عليه في الإِجارة. ا. هـ. منه.
وقال أبو محمد بن حزم في المحلَّى: وروينا من طريق ابن أبي شيبة، عن صدقة الدمشقي، عن الوضين بن عطاء، قال: كان بالمدينة ثلاثة معلمين يعلمون الصبيان، فكان عمر بن الخطاب يعطي كل واحد منهم، خمسة عشر كل شهر.
قال أبو محمد: وأما حديث عبادة بن الصامت فإن أحد طرقه عن الأسود بن ثعلبة، وهو مجهول لا يدرى. قاله علي بن المديني وغيره. وطريقه الآخر من طريق بقية؛ وهو ضعيف، وطريقه الثالث من طريق إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف، ثم هو منقطع أيضًا. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وعلى حفر بئر إجارة وجعالة، من المدونة قال ابن القاسم: لو آجرته على حفر بئر من صفتها كذا وكذا ثم أنهدمت فله بحساب ما عمل، ولو انهدمت بعد فراغها فله جميع الأجر، حفرها في ملكك أو في غير ملكك. ا. هـ. من المواق. =
عَلَيْهَا على الأحْسَنِ لَا لِأخْذِ ثَمرَتهِ وشَاةٍ لِلَبنِهَا واغْتُفِرَ مَا في الأرْضِ مَا لم يَزِدْ على الثُّلُثِ بالتَّقويمِ، ولا تعْلِيمِ غِنَاءٍ ودُخُولِ حَائضٍ لِمَسْجدٍ، أو دَارٍ لتُتّخَذَ كنيسَةً كَبَيْعهَا لِذلك، وتُصُدِّقَ بالكراءِ وبفَضْلةِ الثّمَنِ عَلى الأرْجَح، ولَا مُتَعَيِّنٍ كرَكْعَتَي الْفَجْرِ بخلَافِ الكِفَايَةِ، وَعُيِّنَ مُتَعَلِّمٌ ورَضِيعٌ ودَارٌ وحَانُوتٌ وَبِنَاءٌ على جِدَارٍ، ومَحْمِلٌ إنْ لمْ تُوصَفْ، ودَابَّةٌ لِرُكُوبٍ وإنْ ضُمِنَتْ فجِنْسٌ
(2)
وقوله: ويكره حليّ، قال في المدونة: قال ابن القاسم: لا بأس بإجارة حلي الذهب بالذهب أو الفضة، واستثقله مالك مرة وخففه مرة أخرى. قال ابن يونس: قال مالك: ليس كراء الحلي من أخلاق الناس. ومعناه أنهم كانوا يرون زكاة الحلي أن يعار، فلذلك كرهوا أن يكرى. ا. هـ. المواق.
(3)
وقوله: وكراء دف ومعزف لعُرس، في المدونة قال ابن القاسم: لا ينبغي إجارة الدف والمعازف كلها في العُرس، وكره ذلك مالك وضعفه، قال ابن يونس: يريد ضعف قول من يجيز ذلك. وقاك ابن يونس أيضًا: وأما الدف الذي أبيح ضربه في العُرس ونحوه فينبغي أن تجوز إجارته. ا. هـ. المواق.
(4)
وقوله: وبناء مسجد للكراء وسكنى فوقه، في المواق من المدونة: لا يصلح لأحد أن يبني مسجدًا ليكريه ممن يصلي فيه، وقد كره مالك أن يبني الرجل مسجدًا ثم يبني فوقه بيتًا يسكنه بأهله، يريد لأنه إذا كانت معه صار يطؤها على ظهر المسجد وذلك مكروه، قال الحطاب: وذكر مالك أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان يبيت على ظهر المسجد بالمدينة في الصيف فكان لا يقرب فيه امرأة. ا. هـ. منه.
(5)
وقوله: بمنفعة تتقوم قدر على تسليمها: قال ابن شأس: الركن الثالث من أركان الإِجارة، المنفعة. ومن شروطها أن تكون متقومة، وقد فسر ابن عرفة ذلك فقال: أي تتقوم بما له قيمة؛ فلا يصح استئجار تفاحة للشم؛ لأن ذلك لا قيمة له. وقد نص ابن يونس أن من قال: إرْقَ هذا الجبل ولك كذا. أنه لا شيء له. قالوا: ومن شروط هذه المنفعة أن تكون مقدورًا على تسليمها حسًّا وشرعًا. فيمنع استئجار الأخرس للتعليم، والأعمى للخط. أو استئجار حائض على كنس مسجد.
(6)
وقوله: بلا استيفاء عين قصدًا وبلا حظر، قال ابن عرفة: شرط المنفعة إمكان استيفائها دون ذهاب العين وبلا منع من استيفائها، فلا تجوز الإِجارة على ممنوع شرعًا كقتل أو قطع ونحو ذلك.
وذكر الحطاب في الكلام على قول المصنف: قدر على تسليمها، ما نصه: يتفرع على هذا الشرط =
ونَوعٌ وذُكُورَةٌ (1) وليْسَ لِراعٍ رَعْيُ أُخْرَى إنْ لمْ يَقْوَ إلَّا بِمُشَارِكٍ أَوِ تَقِلَّ وَلَمْ يَشْتَرِطْ خِلافَهُ وإلَّا فأجْرُهُ لِمُسْتَأجِرِهِ كأجِيرٍ لِخِدْمَةٍ آجَر نَفْسَهُ، ولَا يلْزَمُهُ رَعْيُ الْوَلَدِ إلا لِعُرْفٍ وعمِلَ بِهِ في الْخيْطِ ونَقْشِ الرَّحَى وآلةِ بناءٍ وإلَّا فَعَلى رَبِّه، عَكْسُ إِكَافٍ وشِبْهِهِ في السَّيْر والْمَنَازِلِ والْمَعَالِيقِ والزَّامِلَةِ وَوِطَائِهِ بِمَحْمِلٍ وبَدَلِ الطَّعامِ المحْمُولِ وتَوْفيره كَنَزْعِ الطَّيْلَسَان قَائِلَةً وهوَ أمِينٌ فَلَا ضَمَانَ (2) ولَوْ
كراء دور مكة، ونقل في المقدمات عن مالك فيها أربع روايات: الجواز والمنع والكراهة في أيام الموسم، ولا خلاف عن مالك وأصحابه أنها فتحت عنوة، وقال القرافي: مقتضى هذه المباحث أن يحرم كراء دور مصر وأرضها؛ لأن مالكًا صرح في المدونة وغيرها أنها فتحت عنوة، ويلزم من ذلك تخطئة القضاة في إثبات الأملاك وعقود الإِجارات، والقاعدة المتفق عليها أن مسائل الخلاف إذا اتصل ببعضها قضاء حاكم تعين ذلك القول وارتفع الخلاف، فإذا قضى حاكم بثبوت ملك أرض العنوة ثبت الملك وارتفع الخلاف، وتعين ما حكم به الحاكم. وهذا التقرير يطرد في مكة ومصر وغيرهما. ا. هـ.
وقوله: بلا استيفاء عين قصدًا، قال المواق: لو شرط في المنفعة إمكان استيفائها دون إذهاب العين لأغنى ذلك عن ذكر هذا. قال ابن رشد: ويجوز شراء لبن غنم معينة شهرًا أو شهرين إذا عرف وجه حلابها، بخلاف ثمرة المقثأة. ويكره بيع شاة أو شاتين، قال: والأظهر أنه لا يعارض هذا بإجازته في المدونة أن يكتري البقرة ويشترط حلابها، لأن العذر خف بما انضاف إليها من الكراء، كما خف في الغنم إذا كثرت. انتهى من المواق بتصرف.
وقوله: وبلا حظر ألخ. يريد به، والله تعالى أعلم. أنه لا تجوز الإِجارة على محرم شرعًا، وأنه لا تجوز الإِجارة على العبادات التي لا تجزئ النيابة فيها؛ كالصلاة، والصوم ونحو ذلك، ونسب المواف هنا لابن يونس أنه قال: لا جعل لمن وجد ضالة وأتى بها لأنه لا جعل في أداء الأمانات إلى ربها، قال: وقال ابن رشد: الجعل لا يجوز فيما يلزم الرجل أن يفعله، إنما يجوز فيما لا يلزمه فعله. قال مالك: لو قال: دلّني على امرأة أتزوجها ولك كذا. فلا شيء له، قال: ابن رشد معناه أشر علي وانصح لي في ذلك، وهذا لو سأله إياه دون جعل للزمه أن يفعله لقوله صلى الله عليه وسلم:"الدِّينُ النَّصِيحَةُ". ا. هـ. المواق.
(1)
وقوله: ودابة لركوب وإن ضمنت فجنس ونوع وذكورة، قال في المدونة: كراء الدواب على =
شُرِطَ إثباتُهُ إنْ لَمْ يأت بِسِمَةِ الميِّتِ أو عَثَرَ بِدُهْنٍ أوْ طَعَامٍ أوْ بآنِيَةٍ فانْكَسَرَتْ ولَمْ يَتَعَدَّ أوْ انْقَطَعَ الحَبْلُ ولَمْ يَغُرَّ بِفِعْلٍ كَحَارِسٍ وَلوْ حَمَّامِيًا وأجيرٍ لِصَانعٍ كسِمْسَارٍ إنْ ظهَرَ خيْرُهُ على الأظْهَر، ونوتيًّ غرقتْ سَفِينَتُهُ بِفعْلٍ سَائغٍ، لا إن خَالَفَ مَرْعىً شُرِطَ أوْ أنزى بلَا إِذْنٍ أو غَرَّ بِفعْلٍ، فَقِيمَتُهُ يَوْمَ التّلَفِ، أوْ صَانِعٍ في مَصْنُوعِهِ لَا غَيْرِهِ وَلَوْ مُحْتَاجًا لهُ عَمَلٌ وَإنْ ببَيْتٍ أوْ بلَا أجْرٍ إنْ نَصَبَ نَفْسَهُ وغَابَ عَلَيْهَا فَبقيمَتِهِ يَوْمَ دَفْعِهِ وَلَوْ شَرَطَ نَفْيَهِ أَوَ دَعَا لأخَذهِ إلَّا أن تَقومَ بينَةٌ فتَسْقُطُ الأجْرةُ وإلا أن يُحْضِرَهُ بشَرْطِهِ.
= وجهين: دابة بعينها أو مضمونة، فالمركوب المعين لابد من تعيينه بالإِشارة إليه؛ كهذه الدابة. أو هذه الناقة. وذلك ليحيط بها المكتري كالمشتري، وأما المضمونة فالواجب ذكر جنسها ونوعها والذكورة والأنوثة. قال ابن رشد: ولا ينفسخ الكراء بموت الدابة في الكراء المضمون، إلَّا أن الكرى إذا قدم للمكري دابة يركبها فليس له أن يزيلها من تحته إلا برضاه. ا. هـ. المواق. باختصار.
(2)
وقوله: وهو أمين فلا ضمان، نقل المواق عن ابن يونس: القضاء أن الأكرياء والأجراء فيما أسلم إليهم كالأمناء عليه لا يضمنونه، إلا الصناع والأكرياء على حمل الطعام والشراب والإدام حاصة إذ لا غنى عظ، فضمنا لصلاح العامة كالصناع إلا أن تقوم بينة بهلاكه بغير سببهم، أو يكون معهم أربابه لم يسلموه إليهم فلا يضمنون، قال: وقال الفقهاء السبعة من فقهاء التابعين: وإن اشترط عليهم ضمان العروض يلزم إلا أن يخالفوا في شرط يجوز. ا. هـ. منه.
وقال الحطاب: قال ابن ناجي في شرح قول الرسالة: من اكترى ماعونًا أو غيره فلا ضمان عليه في هلاكه بيده، وهو مصدق إلا إن يتبين كذبه. قول الشيخ: مصدق، يريد: ويحلف إن كان متهمًا: لقد ضاع، ولا فرطت، ولا يمين عليه إن كان غير متهم، ا. هـ. منه.
قلت: تقدم في الكلام على العارية من هذا الكتاب المبارك، نقلنا للأثر الذي نقله ابن التركماني في الجوهر النقي؛ قال: في الإِشراف لابن المنذر: روينا عن على وابن مسعود رضي الله عنهما، قالا. ليس على مؤتمن ضمان. ا. هـ. منه.
هذا وقد وردت آثار عن السلف بتضمين بعض الأجزاء؛ فقد أخرج البيهقي عن الشافعي قال: ذهب =
وصُدِّقَ إنِ ادَّعَى خَوْفَ مَوْتٍ فنَحَرَ أوْ سَرِقَةَ مَنْحورِه أو قَلْعَ ضِرْسٍ أو صِبْغًا فَنُوزِعَ وفُسِخَتَ بِتَلَفِ مَا تُسْتَوْفَى مِنْهُ لَا بِهِ، إلَّا صبِيِّ تَعَلُّمٍ أوْ رَضْعٍ، وفَرَسِ نَزْوٍ، وَرَوْضٍ، وسِنٍّ لِقَلْعٍ فَسَكَنَتْ، كعَفْو القِصَاصِ، وبِغَصْبِ الدَّار وغَصْبِ مَنْفَعَتِهَا وأمر السّلْطَانِ بإغْلَاقِ الحَوَانيتِ، وحَمْلِ ظئْرٍ أوْ مَرَضٍ لَا تَقْدِرُ مَعَهُ عَلى رَضَاعٍ، ومَرَضِ عَبْدٍ وهَرَبه لِكعَدُوٍّ إلَّا أنْ يَرْجعَ في بَقِيّتِهِ، بخِلَافِ دَابَّةٍ بِسَفَرٍ ثُمَّ تَصِحُّ، وَخُيِّرَ إنْ تَبيَّنَ أَنَّهُ سَارِقٌ، وبرُشْدِ صَغِيرٍ عَقَدَ عَلَيْهِ أَوْ على سِلعِهِ وَلِيٌ إلَّا لِظَنِّ عَدَمِ بُلُوغِهِ وَبَقِيَ كالشّهْرِ، كَسَفِيهٍ ثَلَاثَ سِنينَ، وبمَوْتِ مُسْتَحِقِّ وقْفٍ آجَرَ فَمَاتَ قَبْل تَقَضِّيهَا عَلى الأصَحِّ لا بإقرارِ المالك، أو خُلْفِ رَبِّ دَابَّةٍ في غَمر مُعَيَّنٍ أو حجٍّ وإنْ فَاتَ مَقْصِدُهُ، أَوْ فِسْقِ مُسْتَأجِرٍ، وآجَرَ الحَاكِمُ إن لَمْ يَكُفَّ أو بِعِتْقِ عَبْدٍ وحُكْمُهُ عَلى الرِّقِّ وأجْرَتُهُ لِسَيِّدِهِ إنْ أرَادَ أنه حُرُّ بَعْدَهَا.
= إلى تضمين القصار شريح، فقد ضمّن قصارًا احترق بيته، فقال تضمنني وقد احترق بيتي؟. قال شريح: أرأيت لو احترق بيته أكنت تترك له أجرك؟ قال أخبرنا بهذا عنه ابن عيينة. ا. هـ.
وأخرج البيهقي بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه كان يضمّن الصباغ والصائغ، وقال: لا يصلح للناس إلا ذاك.
هذا وقد بوب البيهقي في السنن الكبرى لتضمين الإمام وتغريم المعلم من صار مقتولًا بتعزير الإِمام وتأديب المعلم، وذكر آثارًا في ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب في المحدود والمعزر، وأثرًا عن عطاء في المعلم بضرب الغلام على التأديب فيعطب؟ قال: يغرمه. وبالله تعالى التوفيق.
فَصْلٌ: وَكِرَاءُ الدَّابَّةِ كَذلكَ (1)، وَجَازَ عَلى أنَّ عَلَيْكَ عَلَفَهَا أوْ طَعَامَ رَبِّهَا أوْ عَلَيْهِ طَعَامَكَ، أوْ لَيرْكَبَهَا في حَوَائجِهِ أو ليَطْحَنَ بِهَا شَهْرًا أوْ لِيَحْمِلَ عَلى دَوَابِّهِ مِائَةً وإنْ لَمْ يُسَمِّ مَا لِكُلٍّ، وعَلى حَمْلِ آدَمِيٍّ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يلْزَمْهُ الفَادحُ بِخِلَافِ وَلَدٍ ولَدَتْهُ وَبيْعُهَا واسْتِثْنَاءُ رُكُوبِهَا الثَّلَاثَ لَا جُمُعَةً، وكُرِهَ التَّوَسُّط، وَكِرَاءُ دَابَّةٍ شَهْرًا إنْ لَمْ يَنْقُدْ، والرِّضَا بغَيْرِ المُعَيَّنَةِ الْهَالِكَةِ إنْ لَمْ يَنْقُدْ أوْ نَقَدَ واضْطَرَّ (2)، وفَعَلَ المُسْتَأجَرَ عَلَيْهِ ودُونَه (3)، وَحِمْلٌ بِرُؤيَتِهِ أوْ كَيْلِهِ أوْ وَزْنِهِ أوْ عَدِّهِ إنْ لَمْ تَتَفَاوَتْ، وإقَالَةٌ قَبْلَ النَّقْدِ وبَعْدَهُ إنْ لمْ يَغِبْ عَلَيْهِ، وإلَّا فَلَا،
فصل في الكلام على كراء الدابة
أخرج البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن مسدد قال: حدثنا عبد الواحد، ثنا العلاء بن المسيب،
ثنا أبو أمامة التيمي قال: كنت رجلًا أكري في هذا الوجه، وكان ناس يقولون لي أن ليس لك حج.
فلقيت ابن عمر فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إني لرجل أكري في هذا الوجه، وإن ناسًا يقولون لي: إنه ليس لك حج؟ قال: ألست تحرم وتلبي وتطوف بالبيت وتفيض من عرفات وترمي الجمار؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن لك حجًا. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن مثل ما سألتني عنه فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ
(1)
}. فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هذه الآية تم قال: "لَكَ حَجٌّ".
وفي البيهقي أيضًا أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نادى في الناس: أخروا الأحمال فإن الأيدي معلقة والأرجل موثقة ثم ساق البيهقي سندًا بلغ به الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إِذَا حَمَلْتُمْ فَأَخِّرُوا فإِنَّ الْيَدَ مُعَلَّقَة وَالرجْلَ مُوثَقَةٌ". ثم قال: وصله قيس بن الربِيع عن بكر بن وائل. ورواه سفيان بن عيينة عن وائل أو بكر بن وائل هكذا بالشك عن الزهري يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَخِّرُوا الْأحْمَالَ فإِنَّ الْأيدِي مُعَلَّقَةٌ وَالْأرْجُلَ مُوثَقَةٌ".
(1)
قوله. وكراء الدالة كذلك، التشبيه فيه للجواز، أي كإيجار عاقل من رفيق وحر، في توقف =
(1)
سورة البقرة: 198.
إلَّا مِنَ المُكْتَري فقط إنِ اقْتَصَّا أوْ بَعْدَ سَيْرٍ كثيرٍ، واشْتِراطُ هَدِيَّة مَكَّة إنْ عُرِفَ، وعَقَبَة الأجِيرِ، لَا حَمْلِ مَنْ مَرِض ولَا اشْتراطُ إنْ مَاتَتْ مُعَيَّنَةٌ أتَاهُ بغَيْرهَا، كَدَوابٍّ لرجَالٍ أوْ لأمْكنَةٍ أوْ لمْ يَكُن العُرْفُ نَقْدَ مُعَيَّنٍ وإنْ نَقَدَ أوْ
صحة ذلك وجوازه على شروط البيع المتقدمة.
قال في المدونة: ولا بأس أن تكتري إبلًا من رجل على أن عليك رحلتها، أو تكتري دابة بعلفها، أو أجيرًا بطعامه، أو إبلًا على أن عليك علفها أو طعام ربها، أو على أن عليه هو طعامك ذاهبًا وراجعًا. فذلك كله جائز وإن لم توصف النفقة لأنها معروف، وقد قال مالك: لا بأس أن يؤاجر الحر العبد أجلًا معلومًا بطعام في الأجل أو كسوة، وكذلك إن كان مع الكسوة أو الطعام دنانير أو دراهم أو عروض بعينها معجلة فلا بأس به، وإن كانت عروضًا مضمونة بغير عينها، جازَ تأخيرها إن ضربا لذلك أجلًا كأجل السلم، قال: ومن أكري دابة ليركبها في حوائجه شهرًا متى شاء من ليل أو نهار، فإن كان على ما يركب الناس الدواب جاز، وكذلك إن أكراها لطحينٍ قمح شهرًا يعينه، ولم يذكر كم يطحن كل يوم لأن الطحين معروف، قال: ومن استأجر دوابًا لرجل واحد في صفقة، ليحمل عليها مائة أردبٍّ قمحًا، ولم يسم ما يحمل على كل دابة، جاز. وليحمل على كل دابة بقدر قوتها، وإن كانت الدواب لرجال شتى وحملها مختلف لم يجز، إذ لا يدري كل واحد بما اكترى دابته، كالبيوع.
قال: ومن أكرى من رجل على حمل رجلين أو امرأتين لم يرهما جاز لتساوي الأجسام إلا الخاص، فإن أتاه بفادحين لم يلزمه ذلك. ا. هـ. بنقل المواق.
(2)
وقوله: والرضا بغير المعينة الهالكة إن لم ينقد أو نقد واضطر، في المدونة قال مالك: ولو هلكت الدابة المعينة ببعض الطريق - يريد وقد نقده - فلا ينبغي أن يعطيه دابة أخرى يركبها بقية سفره، إلا أن يصيبه ذلك بفلاة وموضع لا يوجد فيه كراء، فلا بأس به في الضرورة إلى موضع مستعتب فقط، وسواء تحول في كراء مضمون أو معين إذا كان الكراء الأول معينًا، قال المواق: وقد تقدم قول ابن رشد: إن لم ينقد جاز له كراء مبتدأ. ا. هـ. منه.
(3)
قوله: وفعل المستأجر عليه. ودونه، قال في المدونة: من اكترى دابة لحمل محمل فعطبت، فإن كان ذلك أقل ضررًا من المحمل أو مساويًا له لم يضمن، وله أن يحمل غير ما سمى إن لم يكن ذلك أضر ولا أثقل، ورب زاملة أثقل من محمل. ا. هـ. المواق.
بَدَنَانِيرَ عُيِّنَتْ إلَّا بَشَرْطِ الْخَلَفِ أوْ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مَا شَاءَ أوْ لمَكانٍ شَاءَ أوْ ليُشَيِّعَ رَجُلًا، أوْ بِمِثْلِ كِرَاءِ النَّاسِ أوْ إنْ وصَلَتْ في كَذَا فَبكَذَا، أوْ ليَنْتَقِلَ لِبَلَدٍ وَإنْ سَاوَتْ إلَّا بِإذْنٍ، كَإرْدَافِهِ خَلْفَكَ أوْ حَمْلٍ مَعَكَ، والكِرَاءُ لكَ إنْ لمْ تَحْمِلْ زنَةً كالسَّفينَةِ وضَمِنَ إنْ أكْرَى لِغَيْر أمِينٍ (1) أوْ عَطبَتْ بزيادَةِ مَسَافَة أو حَمْلٍ تَعْطُبُ بهِ وإلَّا فَالْكِرَاءُ كَأنْ لَمْ تَعْطَبْ إلَّا أنْ يَحْبِسَهَا كثيرًا فَلَهُ كِراءُ الزَّائِد أَو قيمَتُهَا. ولَكَ فَسْخُ عَضُوضٍ أوْ جَمُوِحٍ أوْ أعْشَى أوْ دَبَرُهُ فاحشًا كَأنْ يَطْحَنَ لَك كُلَّ يَوْمٍ أرْدَبَّيْن بِدِرْهَمٍ فوُجِدَ لَا يَطْحَنُ إلَّا أرْدَبًّا. وإنْ زَادَ أوْ نَقَصَ ما يُشْبِهُ الْكَيْلَ فَلَا لَكَ ولَا عَلَيْكَ.
(1)
وقوله: ضمن إن أكرى لغير أمين. ألخ. في المدونة. قال مالك: وإن اكتري دابة ليركبها فحمل مكانه في الخفة والأمانة لم يضمن، وإن أكرى ممن هو أثقل منه أو من غير أمين ضمن، قال ابن القاسم. وإذا أبلغ المكتري الغاية التي أكري إليها ثم زاد ميلًا أو نحوه، وعطبت الدابة فلربها كراؤها الأول، والخيار في أخذ قيمة كراء الزيادة بالغًا ما بلغ، أو قيمة الدابة يوم التعدي. قال: يضمن في زيادة الميل ونحوه. وأما مثل ما يعدل الناس إليه في المرحلة فلا يضمن. قال مالك: وإذا زاد المكتري على الدابة في الحمل الذي شرط فعطبت؛ فإن زاد تعطب بمثله خير ربها بين أخذ المكتري بقيمة كراء ما زاد على الدابة بالغًا ما بلغ من الكراء الأول، أو قيمة الدابة يوم التعدي ولا كراء له. قال: وإن زاد ما لا تعطب بمثله فعطبت، فله كراء الزيادة فقط مع الكراء الأول. ا. هـ. من المواق.
قال مقيد هذه الحروف - عفا الله عنه -، ويسر أمره، وتقبل منه، وغفر لوالديه وللمسلمين: إنه غير خاف على القارئ أني خالفت في هذا الباب عادتي في عدم التعرص للفروض المفروضة المقدرة، وأني أكثرت من النقول التي هي محض آراء، وما ذلك إلا لكثرة عمل فروع هذا الباب واحتياج الناس إليها، وها أنا أتطفل في نقل ما وقفت عليه من آثار في هذا الموضوع، لعل أن يكون فيها تسليط ضوء على ما يمكن أن يستأنس به حيث الأدلة:
أخرج عبد الرزاق في المصنف قال: أخبرنا معمر عن حماد، قال: من اكتري فتعدَّي فهلك فله الكراء الأول، والضمان عليه، وإن سَلِمَ فلا شيء إلا الكراء الأول. قال معمر وقال ابن شبرمة له =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الكراء الأول والضمان، وكراء ما تعدَّى.
وقال البيهقي: روينا عن شريح أنه قال: ليس على مستكري ضمان، فإن تعدَّى كما فجاوز عليها الوقت فعطبت، قال شريح: يجتمع عليه الكراء والضمان.
وأخبرنا عبد الرزاق، قال معمر: إذا دفعها إلى رجل فحمل عليها مثل شرطه، قال: لا شيء عليه ولا ضمان.
وأخبرنا عبد الرزاق قال الثوري عن الشيباني عن الشعبي قال: هو ضامن فيما خالف، وليس عليه كراء.
أخبرنا عبد الرزاق، قال سفيان: إذا قلت أكتري إلى مكان كذا لطعام لي، فذهب الكريُّ معه، فلم يحمله على إبله؟ قال: فله أجر مثله. قال عبد الرزاق: فذكرته لمعمر، فقال: يرضيه بقدر ما عناه.
وأخبرنا عبد الرزاق عن الثوري في رجل يكتري من رجل إلى مكة، ولضمن له الكريُّ نفقته إلى أن يبلغ؟ قال: لا، إلَّا أن يوقت أيامًا معلومة، وكيلًا معلومًا من الطعام يعطيه إياه كل يوم.
وأخبر عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: سألت الزهري عن رجل اكترى من رجل إلى مكة فاشترط عليه نفقته، قال: إن لم يعطه ورقًا فلا بأس به إذا أَعطاه طعامًا.
وأخبر عبد الرزاق في ضمان الأجير الذي يعمل بيده، قال: أخبرنا معمر عن قتادة قال: يضمن كل عامل أخذ أجرًا إذا ضيع. قال معمر: وقال لي ابن شبرمة: لا يضمن إلا ما أعْنَتَ بيده، يعني ما أدخل الضرر عليه وأفسده. وأخبر عبد الرزاق عن الثوري عن محمد بن مسلم عن الشعبي عن شريح في رجل استأجر رجلًا يعمل على بعيره، فضرب البعير ففقأ عينه، قال: يضمنه.
تتمة: فيما ورد في إثم من منع أجرة الأجير، أخرج البغوي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قَالَ اللهُ تَعَالَى: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًا فَأكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجَلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أجْرَهُ".
هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في الإِجارة، باب: إثم من منع أجر الأجير، وأخرجه في البيوع، باب: إثم من باع حرًا. وأخرجه البيهقي بسنده إلى أبي هريرة بهذا اللفظ، وقال: رواه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= البخاري في الصحيح عن يوسف بن محمد.
وأخرج البيهقي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعْطِ الْأجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ". رواه بسندين عن أبي هريرة؛ الأول من طريق عبد الله بن جعفر؛ أخبرني سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة الحديث، والثاني عن طريق سويد الأنباري: ثنا محمد بن عمار المؤذن، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعْطِ الْأجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ". ا. هـ. منه.
فَصْلٌ: جَازَ كِراءُ حَمَّامٍ وَدَارٍ غَائِبةٍ (1) كبَيْعِهَا أوْ نِصْفِهَا أوْ نِصْفِ عَبْدٍ (2) وشَهْرًا عَلى إن سَكَنَ يَوْمًا لَزِمَ إنْ مَلَكَ البَقِيَّةَ، وعَدَمُ بَيَانِ الابْتِدَاءِ وَحُمِلَ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، ومُشَاهَرَةً وَلَمْ يَلْزَمْ لَهُمَا إلا بِنَقْدٍ فَقَدْرُهُ، كَوَجيبَةٍ بِشَهْرِ كذا أوْ هذَا الشَّهْرُ أو شَهْرًا أوْ إلى كذَا (3)، وفي سَنَةً بِكَذَا تَأويلَانِ، وأرْضِ مَطرٍ عَشْرًا إن لَمْ يَنْقُدْ وَإنْ سَنَةً (4) إلَّا المأمُونَةَ كَالنِّيل والمَعينَةِ فيجوُزُ، ويَجبُ في مَأْمُونَةِ
فصل في الكلام على كراء الحمّام والدار والأرض والعبد واختلاف المتكاريين
وليس فيه إلا الرأي، ولذلك سوف لا يكون لنا مجال فيه.
(1)
قوله: جاز كراء حمام ودار غائبة، نسب الحطاب هنا للمدونة: ولا بأس بكراء أرض أو دار غائبه ببلد قريب أو بعيد، على صفة أو رؤية متقدمة. وينقده كالبيع، ثم لا رد له إن وجدها على الصفة، وإنما يجوز ذلك على رؤية متقدمة منذ أمد لا تتغير في مثله. ا. هـ. منه.
وقال المواق: من المدونة: قال ابن القاسم: من اكترى دارًا بإفريقية وهو بمصر، جاز ذلك، كالشراء، ولا بأس بالنقد فيها لأنها مأمونة، فإن قدم فلم يرضها وقال: هي بعيدة من المسجد. فالكراء لا يصلح إلا إذا كان قد رأى الدار وعرف موضعها، أو على صفه، وإلا لم يجز.
(2)
وقوله: أو نصفها أو نصف عبد، قال في المدونة في كراء الدور منها: وتجوز إجارة نصف دابة أو نصف عبد؛ يكون للمستأجر يومًا ويكون للذي له النصف الآخر يومًا كالبيع، ثم قال: ولا بأس بكراء نصف دار أو سدسها أو جزء شائع قلَّ أو كثر كالشراء. ا. هـ. الحطاب.
(3)
وقوله: كوجيبة بشهر كذا، وهذا الشهر أو شهرًا أو إلى كذا، نسب المواق هنا لعياض ما نصه: كراء الدور مشاهرة ومسانهة، لا خلاف إذا نص على تعيين السنة أو الشهر، أو جاء بما يقوم مقام التعيين، أنه لازم لهما، وذلك في خمس، صور: إذا قال: شهر كذا، وهذا الشهر. أو سمى العدد فيما زاد على الواحد فقال: شهرين أو ثلاثة. أو ذكر الأجل فقال: أكريك إلى شهر كذا. أو أنقد كراء كذا شهرًا أو أكثر. إن هذا كله لازم لهما المدة التي ذكراها لا خيار لواحد منهما. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وأرض مطر عشرًا إن لم ينقد وإن سنة، قال المواق: من المدونة قال ابن القاسم: ولا بأس بكراء أرض المكري عشر سنين إن لم ينقد، فإن شرط النقد فسد الكراء، وإن اكتراها سنين، وقد =
النِّيلِ إذا رُوِيَتْ وَقَدْرٍ مِنْ أرْضِكَ إنْ عُيِّنَ أَوْ تَسَاوَتْ وعَلى أنْ يَحْرُثَهَا ثَلَاثًا أوْ يُزَبِّلَهَا إنْ عُرِفَ، وَأرْضٍ سِنينَ لِذي شَجَرٍ بِهَا سِنِينَ مُسْتَقْبَلَةً وإنْ لِغيْركَ (1) لَا زَرْعٍ (2) وَشَرْطُ كَنْسِ مِرْحَاضٍ (3) أوْ مَرَمَّةٍ أوْ تطيينٍ مِنْ كِرَاءٍ (4) وَجَبَ لَا إنْ
= أمكنت للحرث جاز نقد حصة عامه هذا، وقال مالك: وإن اكترى أرض المطر سنة قرب الحرث، أو حين توقع الغيث، لم يجز النقد حتى تروى وتمكن من الحرث إلا المأمونة كالنيل والمعينة فيجوز، قال ابن رشد: عقد الكراء جائز في الأرضين كلها من غير تفصيل بين السنين الكثيرة، وسواء على مذهب ابن القاسم كانت مأمونة أو غير مأمونة، وتنقسم في جواز النقد فيها على قسمين: فما كان منها مأمونًا كأرض النيل وأرض المطر المأمونة وأرض السقي بالأنهار والعيون الثابتة والآبار المعينة، فالنقد فيها للأعوام الكثيرة جائز، وما كان منها غير مأمون فلا يجور النقد فيه إلا بعد أن يروى ويمكن من الحرث. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وأرض سنين لذي شجر بها مستقبلة وإن لغيرك نسب المواق هنا لمالك: وإن أكريت أرضًا سنين مسماة، فغرست فيها شجرًا، فانقضت المدة وفيها شجرك فلا بأس أن تكتريها من ربها سنين مستقبلة، قال اللخمي: ويجوز لرب الأرض أن يكريها من غير المكتري الأول. وياقال له: ارْضِ المكتري الآخر. أو اقلع شجرك. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: لا زرع، نسب المواق للَّخمي: إن انقضت المدة وفي الأرض زرع، لم يكن للمكتري الأول ولغيره أن يكتري إلا ما بعد هذا الزرع، بخلاف الغرس، وثالث الأقوال قول ابن القاسم: يغرم فيه كراء المثل، قال ابن القاسم. ولو كان موضع الشجر زرعًا أخضر لم يكن لرب الأرض أن يكريها ما دام زرع هذا فيها؛ لأن الزرع إذا انقضت الإِجارة لم يكن لرب الأرض قلعه وإنما له كراء أرضه، وله أن يقلع الشجر، فافترقا، إلا أن يكريها منك إلى تمام الزرع، فلا بأس بذلك. ا. هـ.
(3)
وقوله: وشرط كنس مرحاض، قال المواق من المدونة: من اكترى دارًا أو حمامًا واشترط كنس المراحيض والتراب وغسالة الحمام على المكتري جاز لأنه معروف، قال ابن يونس: معنى ذلك في كنس ما يكون بعد العقد، وأما ما يكون يوم عقد الكراء في المرحيض فهو على المكترى، سواء شرط ذلك أم لم يشترط عليه. قال ابن القاسم: ومن اكترى دارًا فعلى ربها مرمتها وكنس مراحيضها وإصلاح ما وَهَى منها؛ من جدرانها وبيوتها. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: ومرمة أو تطيين من كراء، قال في المدونة: من اكترى دارًا أو حمامًا على أن احتاجا =
لَمْ يَجبْ أوْ مِنْ عِنْدِ المُكْتَري أوْ حَمِيمِ أهْلِ ذي الحَمَّام أو نَوْرَتِهِمْ مُطْلَقًا أوْ لم يُعَيَّنْ بِنَاءٌ وَغَرْسٌ وبَعْضُهُ أضَرُّ وَلَا عُرْفَ وكرَاءُ وَكِيلٍ بِمُحَابَاةٍ أوْ عَرْضٍ أوْ أرْضٍ مُدَّةً لِغَرْسٍ فإذَا انْقَضَتْ فَهُوَ لِرَبِّ الأرْضِ أوْ نِصْفُهُ، والسَّنَةُ في المَطَرِ لِلْحَصَادِ، وفي السَّقْي بِالشُّهُورِ (1)، فإنْ تَمَّتْ وَلهُ زَرْعٌ اخْضَرَّ فَكراءُ مِثْلِ الزَّائِدِ، وَإذا انتثَرَ للمُكْتَري حَبٌّ فنَبَتَ قَابِلًا فَهُوَ لِرَبِّ الأرْض مَنْ جَرَّهُ السَّيْلُ إلَيْهِ. ولَزِمَ الكِراءُ بِالتَّمَكُّنِ، وإنْ فَسَدَ لِجَائِحَةٍ أوْ غَرَقٍ بَعْدَ وقْتِ الحَرْثِ أوْ عُدْمِهِ بَذْرًا أوْ سِجْنِهِ، أو انهَدَمَتْ شُرُفَاتُ البَيْتِ، أوْ سَكَنَ أجْنَبِيٌّ بَعْضَهُ، لَا إنْ نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الكِرَاءِ وإنْ قَلَّ، أو انْهَدَمَ بَيْتٌ فِيهَا أوْ سَكَنَهُ مُكْرِيهِ، أوْ لَمْ يأتِ بِسُلَّمٍ للأعْلى أوْ عَطِش بَعْضُ الأرْضِ أوْ غَرِقَ، فَبحِصَّتِهِ، وخُيِّرَ في مُضِرٍّ كَهَطْلٍ، فَإنْ بَقِيَ فَالكِرَاءُ كَعَطَشِ أرْضِ صُلْحٍ، وهَلْ مُطْلَقًا؟ أوْ إلَّا أنْ يُصَالِحُوا على الأرْضِ؟ تأويلَانِ، عَكْسُ تَلَفِ الزَّرْع لِكْثرَةِ دوُدِهَا أوْ فأرِهَا أوْ عَطَشٍ (2) أوْ بَقيَ الْقَلِيلُ. ولَمْ يُجْبَر آجِرٌ على
= إليه من مرمة رمها المكتري، فإن شرط على أن ذلك من الكراء جاز، ولو شرط أن ما عجز عن الكراء أنفقه الساكن من عنده لم يجز. ا. هـ. من المواق.
(1)
وقوله: والسنة في المطر بالحصاد وفي السقي بالشهور: في المدونة عن ابن القاسم. من اكترى أرضًا فحصد زرعه قبل تمام السنة، فأما أرض المطر فمحمل السنة فيها الحصاد ويقضى بذلك فيها، وأما ذات السقي التي تكرى على أمد الشهور والسنين فللمكتري العمل إلى تمام سنة، فإن تمت وله فيها زرع أخضر أو بقل فليس لرب الأرض قلعه وعليه تركه إلى تمامه، وله فيما بقي كراء مثلها على حساب ما اكتراها منه، قال المواق. وطرح سحنون على حساب ما اكتراها منه وأبقى كراء المثل. ونقل ذلك أبو محمد في مختصره قال: وله فيما بقي كراء مثله لا على ما أكراه. ا. هـ. منه بتصرف.
(2)
وقوله: عكس تلف الزرع لكثرة دودها أو فأرها أو عطش: قال المواق: هلاك الزرع إن كان لقحط المطر، أو لتعذر ماء البئر أو العين، أو لكثرة نبوع ماء الأرض، أو الدود، أو فأر، سقط كراء =
إصْلَاحٍ مُطْلَقًا بِخلَافِ سَاكِنٍ أصْلَحَ لَهُ بَقيَّةَ المُدَّةِ قَبْلَ خُروجِهِ. وإنْ اكتَرَبَا حَانُوتًا فأرَادَ كُلٌّ مُقَدَّمَهُ قُسِمَ إنْ أمْكَنَ وَإلَّا أُكْرِيَ عَلَيْهِمَا، وإنْ غَارَتْ عَيْنُ مُكْرىً سنينَ بَعْدَ زَرْعِهِ نَفقَت حصَّةُ سَنَة فَقَطْ، وَإنْ تَزَوَّجَ ذَاتَ بَيْت وإنْ بكرَاء فلَا كِرَاءَ إلَّا أنْ تُبَيِّنَ (1) والْقَوْلُ لِلْأجير أنَّهُ وصَّلَ كِتَابًا أوْ أنَّه اسْتُصْنعَ وقَالَ وَدِيعَةٌ أوْ خُولِفَ في الصِّفَةِ وفي الأجْرَةِ إِنْ أشْبَهَ وَحَازَ، لَا كبنَاءٍ، وَلَا في رَدِّهِ فَلِرَبِّهِ وإنْ بِلَا بَيِّنَةٍ، وَإنْ ادَّعَاهُ وقَالَ سُرِقَ مِني وَأرادَ أخْذَهُ، دَفَعَ قيمَةَ الصَّبْغِ بِيَمِينٍ إنْ زَادَتْ دَعْوَى الصَّانِعِ عَلَيْهَا، وإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَهُ، فَإنْ دَفَعَ الصَّانِعُ قِيمَتَهُ أبْيَضَ فَلَا يَمِينَ، وإلَّا حَلَفَا واشْتَرَكَا، لَا إنْ تَخَالَفَا في لَتِّ السَّويقِ وأبى مَنْ دَفَعَ ما قَالَ اللَّاتُ فَمِثْلُ سَوِيقِهِ، ولَهُ وللجَمَّالِ بِيَمِينٍ في عَدَمِ قَبْضِ الأجْرَةِ وَإنْ بَلَغَا الْغَايَةَ إلَّا بِطُولٍ فَلِمُكْترِيهِ بيَمينٍ، وإنْ قَالَ بِمائَةٍ لِبَرْقَةَ، وقَالَ بَلْ لإِفريقيَّةَ، حَلَفَا وَفسِخَ إنْ عُدِمَ السَّيْرُ أوْ قَلَّ وإنْ نَقَدَ وإلَّا فكفَوْتِ المَبِيع وللمُكْري في المَسَافَةِ فَقَطْ إنْ أشْبَهَ قَوْلُهُ فَقَطْ أو أَشْبَهَا وانْتَقَدَ،
= الأرض، وسواء كان هلاكه في الإِبان أو بعده، وإن هلك لطير، أو جراد، أو جليد، أو برد، أو جيش، أو لأن الزريعة لم تنبت، لزم الكراء وسواء هلك في الإِبان أو بعده. قال المتيطي: ومثل قحط المطر توالي الأمطار. وكذلك إذا منعه من الازدراع فتنة. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وإن تزوج ذات بيت وإن بكراء فلا كراء إلا أن تبيّن: قال ابن القاسم: ومن نكح امرأة وهي في بيت اكترته سنة فدخل بها فيه وسكن باقي السنة فلا كراء عليه لها ولا لرب البيت؛ وهي كدار تملكها هي إلا أن تبيّن له قائلة: إني بالكراء، فإما أديت وإما خرجت. يريد: لأن العادة أن ذلك على وجه المكارمة، فإن زالت العصمة زال موضع المكارمة، وكان لها طلبه بكراء العدة. قال: وسكناه بها في مسكن أبيها أو أمها كسكناه بمسكنها. ا. هـ. المواق بتصرف، ومثله في الحطاب وراد: وأما العم والأخ فالأمر فيهما مشكل فيحلف ويستحق إلا أن تطول المدة والسنون وهو لا يتكلم، ومثله إذا سكن عند أبويه ثم طلبا الكراء فلا شئ لهما، وذلك لأخيه وعمه إن لم يقم دليل على المكارمة. ا. هـ. منه. =
وإنْ لَمْ يَنْتَقِدْ، حَلَفَ الْمُكْتَرِي ولَزِمَ الجَمَّالَ مَا قَالَ إلَّا أنْ يَحْلِفَ عَلى ما ادَّعَى فَلَه حِصَّةُ المَسَافَةِ على دَعْوى المُكتَرِي وفُسِخَ الْبَاقي، وإنْ لمْ يُشْبِهَا حَلَفَا وفُسِخَ بكرَاء الْمِثل فيما مَشَى. وإنْ قَال: أكْرَيْتُكَ لِلْمَدينَةِ بِمِائةٍ، وبلَغَاهَا، وقَالَ: بَل لِمكَةَ بِأقلَّ فإنْ نَقَدَهُ فَالْقَوْلُ لِلْجَمّالَ فِيمَا يُشْبِهُ، وحَلَفَا وفُسِخَ، وإنْ لمْ يَنْقُدْ فَلِلْجَمَّالِ في الْمَسَافَةِ وللمُكْتَرىِ في حِصَّتِها مِمَّا ذُكِرَ بَعْدَ يمينهَا، وإنْ أشْبَهَ قَوْلُ المُكْرىِ فَقط فالقوْلُ لَه بِيَمينٍ، وإنْ أقَاما بَيِّنَةً قُضِيَ بأعْدَلِهمَا وإلَّا سَقَطتَا، وإن قال اكتَريْتُ عَشْرًا بِخَمْسينَ، وقالَ خَمْسًا بِمِائةٍ حَلَفَا وفُسِخَ. وإنْ زَرَعَ بَعْضًا ولَمْ يَنْقُذْ فَلِرَبِّهَا مَا أقَرَّ بِهِ المُكْتَرِي إنْ أشْبَهَ وحَلَفَ، وإلَّا فَقَوْلُ رَبِّهَا إنْ أشْبَهَ، فإن لمْ يُشْبِهَا حَلَفَا وَوَجَبَ كرَاءُ المِثْلَ فِيمَا مضَى، وفُسِخ الْبَاقي مُطْلَقًا، وإنْ نَقَدَ فَتَرَدُدٌّ.
تنبيهٌ: ذكر الحطاب. وإن طلب الجمال نقد الكراء قبل الركوب أو بعد السير القريب فامتنع المكتري، حملا على سنة الناس في نقد الكراء أو تأخيره، وإن لم تكن لهم سنة في ذلك كان كالسكنى لا يعطيه إلا بقدر ما سكن، وإن عجل الكراء من غير شرط فلا رجوع له فيه. وإن أراد أحدهما نقد البلد الذي وصلا إليه وأراد الآخر نقد بلد التعاقد قضي بنقد البلد الذي عقدا فيه الكراء. ا. هـ. منه.
وذكر الحطاب أيضًا هنا فائدة: يقال الكَرِيُّ والْمُكارِي والمُكْرِي لبائع المنافع. ويقال المكْتَرِي المُتَكَاري لمشتريها؛ حيث دخلت التاء فهو مشتري المنافع، قال: وجمع المكري مكرون وجمع الكري أكرياء وجمع المكتري مكترون. ا. هـ. منه.
قلت: لا يخفى أني في هذا الباب أتيت بغير ما التزمت؛ لأن هذه النقول في جلها آراء، لكنها لله الحمد منسوبة إلى قائليها وعهدة ذلك عليهم، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الجعل
بَابٌ: صِحَّةُ الْجُعْلِ بالْتِزَامِ أهْلِ الإِجَارَةِ جُعْلًا عُلِمَ يَسْتَحِقُّهُ السَّامعُ بِالتَّمَام كَكِرَاءِ السُّفُنِ إلَّا أنْ يَسْتَأجِرَ عَلى التَّمَامِ فبنِسْبَةِ الثَّاني وإنْ اسْتُحِقَّ وَلَوْ بِحُرِّيَّةٍ، بِخِلافِ مَوْتِهِ، بِلَا تَقْدِيرِ زَمَنٍ إلَّا بِشَرْطِ تَرْكٍ مَتَى شَاءَ ولَا نَقْدٍ مُشْتَرَطٍ، فَي كُلِّ مَا جَازَ فِيهِ الإِجَارَةُ بِلَا عَكْس ولَوْ في الْكَثِيرِ، إلَّا كبَيْعِ سِلَعٍ كَثِيرَةٍ لَا يأخُذُ شَيْئًا إلّا بِالجَمِيعِ وفي شَرْطِ مَنْفَعَةِ الْجَاعِل قوْلَانِ (1). ولِمَنْ لَمْ يَسْمَعْ جُعْلُ مِثْلِهِ إن اعْتَادَهُ (2) كحَلِفهمَا بعْدَ تَخَالُفِهِمَا ولِرَبِّهِ ترْكُهُ وإلَّا فَالنَّفَقَةُ، وإنْ أفْلَتَ فَجَاءَ بِهِ آخَرُ فَلِكُلٍّ نِسْبَتُهُ. وإنْ جَاءَ بِهِ ذو دِرْهَمٍ وذو أقَلَّ اشْتَركَا فِيهِ ولكِلَيْهمَا الفَسْخُ، ولَزِمَتْ الْجَاعِلَ بالشُّرُوعِ. وفي الْفَاسِدِ جُعْلُ المِثْلِ إلّا بِجُعْلٍ مُطْلَقًا فأُجرتُهُ.
الكلام على الجعل
قال الحطاب: الأصل في الجعالة قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}
(1)
. وحديت الرقية. ا. هـ. منه.
قال القرطبي في تفسيره في الكلام على هذه الآية: جواز الجعل قد أجيز للضرورة، فإنه يجور فيه من الجهالة ما لا يجوز في غيره، فإذا قال الرجل: من فعل كذا فله كذا. صح. وشأن الجعل أن يكون أحد طرفيه معلومًا والآخر مجهولًا للضرورة إليه، بخلاف الإِجارة فإنه يتقدر فيها العوض والمعوض من الجهتين. وهو من العقود الجائزة التي يجوز لأحدهما فسخه، إلا أن المجعول له يجوز أن يفسخه قبل الشروع وبعده، إذا رضي بإسقاط حقه، وليس للجاعل أن يفسخه إذا شرع المجهول له في العمل.
ولا يشترط في عقد الجعل حضور المتعاقدين كسائر العقود، لقوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} قال: وبهذا كله قال الشافعي.
قال القرطبي: متى قال الإِنسان: من جاء بعبدي الآبق فله دينار. لزمه لمن جعله فيه إذا جاء به، =
(1)
سورة يوسف: 72.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فلو جاء به من غير ضمان لزمه إذا جاء به على طلب الأجرة، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ جَاءَ بِآبِقٍ فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا". ولم يفصل بين من جاء به من عقد ضمان أو غير عقد، قال ابن خويزمنداد: ولهذا قال أصحابنا: إن فعل الإِنسان ما يجب عليه أن يفعله بنفسه من مصالحه لزمه ذلك، وكان له أجر مثله، إن كان ممن يفعل ذلك بالأجر. قال القرطبي: وخالفنا في ذلك كله الشافعي. ا. هـ. منه.
(1)
وقول المصنف: وفي شرط منفعة للجاعل قولان: نقل المواق هنا عن ابن رشد: اختلف؛ هل من شرط صحة الجعل أن يكون فيه منفعة للجاعل أم لا؟ على قولين. ا. هـ.
قال: ولم ينقل ابن يونس إلا ما نصه: قال عبد الملك: من جعل لرجل جعلًا على أن يرقى إلى موضع من الجبل سماه له، إنه لا يجوز، ولا يجوز الجعل، إلا فيما ينتفع به الجاعل، يريد: لأنه أكل أموال الناس بالباطل.
قال: وعن ابن عات: لا يجوز الجعل على إخراج الجان عن الرجل؛ لأنه لا يعرف حقيقته ولا يوقف عليه، ولا ينبغي لأهل الورع الدخول فيه، وكذلك الجعل على حل المربوط والمسحور. انظر الإِكمال عند قوله صلى الله عليه وسلم "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْفْعَلْ". ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: ولمن لم يسمع جعل مثله إن اعتاده: قال المواق هنا: ولو قال: ولمن يسمع جعل مثله إن اعتاده وإلا فالنفقة ولربه تركه، لتنزل على ما يتقرر، من المدونة: ومن وجد آبقًا فطلب جعلًا على أخذه، فقال مالك: إن لم يكن شأنه يطلب الضوال فلا جعل له وله نفقته، قال ابن عرفة: إلا أن يتركه ربه فلا يلزم أن يعطي نفقته. ا. هـ. منه والله الموفق.
إحياء الأرض الموات
بَابٌ: مَوَاتُ الأرْضِ مَا سَلِمَ عَنِ الاخْتِصَاصِ بِعَمَارَةٍ (1) وَلَوِ انْدَرَسَتْ إلَّا لإِحْيَاءٍ (2)، وبِحَريمِهَا كمُحْتَطَبٍ وَمَرْعىً (3) يُلْحَقُ غَدُوًّا وَرَواحًا لِبَلَدٍ، وَمَا لا يضَيِّقُ على وَارِدٍ ولَا يَضُرُّ بِمَا لِبِئرٍ، ومَا فيهِ مَصْلَحَةٌ لِنَخْلَةٍ، ومَطْرَحٍ لِتُرابٍ، ومَصَبِّ مِيزابٍ لِدَارٍ، ولا تَخْتَصُّ مَحْفُوفَةٌ بأمْلَاكٍ (4) وَلِكُلٍّ الانتفاعُ مَا لَمْ يَضُرَّ بالآخَرِ.
وبإقْطَاعِ الإِمَامِ (5)، ولَا يُقْطِعُ مَعْمُورَ الْعَنْوَةِ مِلْكًا، وَبِحِمَى إمَامٍ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ قلَّ مِنْ بَلَدٍ عَفَا لِكَغَزْوٍ (6)، وافْتَقَرَ لإِذْنٍ (7) وإنْ مُسْلِمًا إِنْ قَرُبَ، وإلَّا فللإِمَامِ إمْضَاؤهُ أوْ جَعْلُهُ مُتَعَدِّيًا (8)، بِخِلَافِ البَعِيدِ وَلوْ ذِمِّيًّا بِغَيْرِ جزيرَةِ الْعَرَب (9).
الكلام على موات الأرض وعلى إحيائه
الموات هو الأرض الخراب الدارسة، تسمى ميِّتة، ومواتًا، وموتانا - بفتح الميم والواو - والموتان - بضم الميم وسكون الواو - الموت السريع. ورجل موتا - القلب - بفتح الميم وسكون الواو - يعني أعمى القلب لا يفهم، كذا لابن قدامة.
والأصل في إحياء الأرضر حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ".
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى سعيد بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ، ولَيْس لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ". قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى مالك في الموطإ، وأبو داود في سننه عن عائشة مثله، وقال ابن عبد البر: إنه مسند صحيح، متلقى بالقبول عند فقهاء المدينة المنورة وغيرهم.
وروى أبو عبيد في الأموال عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحْيَا أرْضًا لَيْسَتْ لأحَدٍ فهُوَ أحَقُّ بِهَا". قال عروة: قضى بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، وعَامة فقهاء الأمصار متفقون على أن الموات يملك بالإِحياء، وإنما كان اختلافهم في شروطه. ا. هـ. المغني.
(1)
قوله: موات الأرض ما سلم عن الاختصاص بعمارة: الموات قسمان: قسم لم يجر عليه ملك =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لأحد، ولم يوجد فيه أثر تعمير لأحد مطلقًا، فهذا يملك بالإحياء بلا خلاف بين القائلين بالإِحياء، وتتناوله الأخبار المتقدمة دون شك. وقسم جرى عليه ملك مالك فيما سبق، قال ابن قدامة: وهذا القسم ثلاثة أنواع: أحدها: ماله مالك معين، وهو ضربان: أحدهما ما ملك بشراء أو عطية؛ فهذا لا يملك بالإِحياء بغير خلاف. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه، نقله عنه ابن قدامة.
(2)
والثاني هو ما عناه المصنف بقوله: ولو اندرست إلا لإِحياء، أي ولو اندرست العمارة وعادت الأرض لما كانت عليه قبل الإِحياء، فلا يزول اختصاص محييها عنها في كل حال إلا لإِحياء من شخص آخر بعد طول اندراس عمارة الأول، فيزول اختصاص الأول ويختص الثاني بها.
وقد تبع المصنف في ذلك مذهب المدونة حيث تقول: من أحيا أرضًا ميتة ثم تركها حتى دثرت، وطال زمانها، وهلكت أشجارها، وتهدمت آبارها، وعادت كأول مرة، ثم أحياها غيره فهي لمحييها أخيرًا. قال مالك، وهذا إذا أحيا في غير أصل كان له، فأما من ملك أرضًا بهبة أو شراء لم أسلمها فهي له، وليس لأحد أن يحييها. ا. هـ. من المواق. ودليل مالك على أن الأرض المندرسة بعد إحياء تملك بالإحياء هو عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيْتَةً فَهِي لَهُ". قال: ولأن أصل هذه الأرض مباح، فإذا تركت حتى تصير مواتًا عادت إلى الإِباحة، كمن أخذ ماء من نهر ثم رده فيه، وكمن اصطاد صيدًا فند منه، ثم التحق بالوحوش.
وخالف ابن حنبل فقال: لا تملك هذه الأرض بالإِحياء؛ لأنها أرض يعرف مالكها فلم تملك بالإحياء كالتي ملكت بشراء أو عطية. قال: والخبر الذي استدل به مالك مقيد بغير المملوك بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحْيَا أرْضًا مَيِّتَةً ليْسَتْ لأحَدٍ". وقوله صلى الله عليه وسلم: "في غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ" انظر المغني.
(3)
وقوله: وبحريمها كمحتطب ومرعى. الخ. نسب المواق هنا لابن شاس قال: النوع الثاني من الاختصاص أن يكون حريم عمارة، فيختص بها صاحب العمارة ولا يملك بالإِحياء، فإن حريم البلدة ما كان قريبًا منها تلحقه مواشيها في المرعى في غدوها ورواحها، وهو لهم مسرح ومحتطب، فهو حريمها، وليس لأحد إحياؤه.
قال: وأما البئر فليس لها حريم محدود لاختلاف الأرض في الرخاوة والصلابة، ولكن حريمها ما لا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ضرر معه عليها؛ وهو مقدار ما لا يضر بمائها، ولا يضيق مناخ إبلها، ولا مرابض مواشيها عند الورود. ولأهل البئر منع من أراد أن يحفر أو يبنى بئرًا في ذلك الحريم. قال: وسأل ابن غانم مالكًا عن حريم النخلة فقال: قدر ما يرى أن فيه مصلحتها، ويترك ما أضر بها، ويسأل عن ذلك أهل العلم به، وقد قالوا: من اثني عشر ذراعًا من نواحيها كلها إلى عشرة أذرع، وذلك حسن. قال: وحريم الدار المحفوفة بالموات ما يرتفق به من مطّرح تراب أو مصب ميزاب، قال ابن عرفة: مسائل المذهب تدل على صحة ما قاله ابن شاس. ا. هـ. المواق.
وقال ابن قدامة في المغني: وما قرب من العامر وتعلق بمصالحه من طرقه، ومسيل مائه، ومطرح قمامته، وملقى ترابه وآلاته، فلا يجوز إحياؤه بغير خلاف، وكذلك ما تعلق بمصالح القرية كفنائها، ومرعى ماشيتها، ومحتطبها، وطرقها، ومسيل مائها، لا يملك بالإحياء ولا نعلم فيه أيضًا خلافًا بين أهل العلم. وكذلك حريم البئر والنهر، والعين، لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً في غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ".
مفهومه أن ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالإِحياء. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: ولا تختصُّ محفوفة بأملاك، مراده به، والله أعلم، أن الدار التي تحوطها أملاك، - دور أو غيرها - لا تختص بحريم دون جيرانها، وأن لكل من أصحاب هذه الأملاك الانتفاع بالساحة التي بينها؛ بوضع تراب أو ربط دابة ونحو ذلك، ما لم يضر بالآخر من أصحاب الأملاك الذين لهم حق فيها.
(5)
وقوله: وبإقطاع الإِمام، هو بيان للنوع الثاني من أنواع الإِختصاص: إذا أقطع الإِمام رجلًا أرضًا كانت ملكًا له، وإن لم يعمرها، ولا عمل فيها شيئًا، فله أن يبيعها، وأن يهبها، وأن يتصرف أي نوع من أنواع التصرف، وتورث عنه، وليس هو من الإِحياء بسبيل، وإنما هو تمليك مجرد، قال ابن القاسم: وسواء كانت في المهامه أو الفيافي، أو قريبة من العمران. ا. هـ. المواق.
والدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بعض أصحابه دورًا بالمدينة وبلادًا بغيرها؛ فقد أقطع لعبد الله بن مسعود دارًا بالمدينة، وكانت ظهراني عمارة الأنصار من المنازل والنخيل، فقال بنو عبد بن زهرة: نَكِّبْ عَنَّا ابْنَ أمِّ عَبْدٍ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلِمَ ابْتَعَثَنِي اللهُ إِذًا؟ إنَّ اللهَ لا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفٍ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فِيهِمْ حَقُّهُ". كذا في البغوي وقال شعيب: أخرجه الشافعي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة وهو مرسل، قال في تلخيص الحبير. وقد وصله في الكبير من طريق عبد الرحمن بن سلام عن سفيان، فقال يحيى بن جعدة، عن هبيرة بن مريم، عن ابن مسعود، وإسناده قوي، وله شاهد من حديث أبي سفيان بن الحارث عند البيهقي والخطيب: "إِنَّ اللهَ لَا يُقَدِّسُ أمَّةً لَا يأْخُذُ الضعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ مِنَ الْقَوِيِّ وَهُوَ غَيْرُ مُتَعْتَعٍ". وفي سنده رجل لم يسم الراوي عن أبي سفيان وباقي رجاله ثقات، فهو حسن لغيره. ا. هـ.
قلت: غير أن جعل أصحابنا الإقطاع تمليكًا مطلقًا يستطيع بسببه كل أنواع التصرف، تأباه الأدلة، والذي يقتضيه النظر في الأدلة هو ما ذهب إليه الحنابلة، قال ابن قدامة: وللإِمام إقطاع الموات لمن يحييه، فيكون بمنزلة المتحجر الشارع في الإِحياء، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق أجمع، فلما كان عمر قال لبلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتُحِيزَهُ عن الناس، إنما أقطعك لتُعَمِّرَ، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورُدَّ البَاقي. فإذا ثبت هذا، فإنَّ من أقطعه الإِمام شيئًا من الموات لم يملكه بذلك، لكنه يصير أحَقَّ به من غيره، فيعد بمثابة الشارع في التعمير والإِحياء، فما أحيا منه ملكه وما عجز عن إحيائه رُدَّ منه، بدليل ما ذكرنا من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه حيث استرجع منه عمر رضي الله عنه ما عجز عن إحيائه من العقيق الذي أقطعه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كان بلال بن الحارث رضي الله عنه ملك سائر العقيق بموجب ذلك الإِقطاع لما أقدم أمير المؤمنين العدل عمر بن الخطاب على انتزاع ما لم يستطع إحياءه منه.
وأيضًا فقد رد عمر بن الخطاب ما أقطعه أبو بكر لعيينة بن حصن الفزاري، فسأل عيينة أبا بكر أن يجدد له كتابًا بالإقطاع، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا أجدد شيئًا رده عمر. رواه أبو عبيد، نقله عنه ابن قدامة.
لذلك، فإن المقطع له يصير أحق بالمقطوع من سائر الناس، وأولى بإحيائه من جميع الناس، فإن أحياه، وإلا قال له السلطان: إن أحييته، وإلا فارفع يدك عنه. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبلال بن الحارث المزني رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطك لتحجبه دون الناس، وإنما أقطعك لتعمر، فخذ منها ما قدرت على عمارته، ورُدَّ الباقي. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= هذا، وليس للإمام إقطاع ما لا يجوز إحياؤه من المعادن الظاهرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استقطعه أبيض ابن حمَّال الملح الذي بمأرب، فقيل: يا رسول الله، إنما أقطعنه الماء العِدَّ، فأرجعه منه؛ لأن في ذلك تضييقًا على المسلمين.
فأما إن كان المعدن باطنًا لا ينتفع به إلا بعمل، فإن الدليل إلى جانب من يقول بجواز إقطاعها؛ لما روى أبو داود وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال بن الحارث رضي الله عنه معادن القبلية، جَلْسِيِّهَا وغَوْريِّها.
قال ابن قدامة: ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر أو باطن فهو أحق بما ينال منه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَبَقَ إلى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ". قال: فإن أخذ قدر حاجته، وأراد الإِقامة فيه بحيث يمنع غيره، منع منه، لأنه يضيق على الناس ا. هـ. منه.
(6)
وقوله: وبحمى إمام محتاجًا إليه قلّ من بلد عفا لكغزو، قال الحطاب: يعني أن الوجه الرابع من أوجه الاختصاص التي تمنع إحياء الموات هو الحِمَى؛ يحمى للضعفاء من المسلمين لترعاه مواشيهم، ويمنع منه الأغنياء، وكذلك يجوز للإِمام أن يحمي.
والحمى - بكسر الحاء المهملة وفح الميم وبالقصر - هو المكان الذي يمنع رعيه ليتوفر فيه الكلأ، فترعاه مواشي مخصوصة ويمنع غيرها من رعيه، والكلأ - بالهمزة من غير مدٍّ - هو المرعى رطبًا كان أو يابسًا. الخَلَا - بالقصر من غير همز - النبات الرطب، قال في المشارق: وضبطه السمرقندي العذرى بالمد، وهو خطأ.
والحمى بمعنى المحمي، هو مصدر بمعنى المفعول، وهو خلاف المباح، وتثنيته حميان. وحكى الكسائي أنه سمع في تثنيته حموان بالواو، والصواب الأول لأنه يائي. وأصل الحمى عند العرب أن الرئيس منهم كان إذا نزل منزلًا مخصبًا استعوى كلبًا على مكان عال، وحيث بلغ صوته حماه من كل جانب، فلا يرعى فيه غيره، لكنه هو يرعى مع غيره فيما سواه. هذا هو أصل معنى الحمى لغة.
وأما الحمى الشرعي، فهو أن يحمي الإِمام موضعًا، لا يقع به التضييق علي الناس، للحاجة العامة إلى ذلك؛ إما للخيل التي يحمل عليها الناس للغزو، وإما لماشية الصدقة. انظر الحطاب.
روى الصَّعْبُ بن جثَّامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا حِمَى إلَّا لله ولِرَسُوله". رواه أبو داود، وهو في البخاري من طريق يونس عن الزهري، وفي آخره عنده: وقال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حمى النقيع. قال شعيب: وقد وصله أبو داود من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن عبد الله ابن عباس، عن الصعب بن جثَّامة. قال: وإسناده لا بأس به.
قال البغوي: وكان الحمى جائزًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لخاصَّة نفسه، لكنه لم يفعل، وإنما حمى النقيع لمصالح المسلمين؛ للخيل المعدة في سبيل الله، ولما فضل من سهمان أهل الصدقة، ولما فضل من نعم الجزية. قال: والنقيع موضع معروف بالمدينة مستنقع للماء ينبت فيه الكلأ عند نضوب الماء عنه. قال: وليس بالواسع الذي إذا حمي ضاقت البلاد على أهل المواشي حوله. قال: وليس لأحد من أئمة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمي لنفسه. ا. هـ. منه.
قال ابن قدامة: ولكن لهم أن يحموا مواضع لترعى فيها خيل المجاهدين، ونعم الجزية، وإبل الصدقة، وضوالُّ الناس التي يقوم الإمام بحفظها، وماشية الضعيف من الناس، على وجه يتضرر به من سواه من الناس، قال: وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي - في صحيح قوليه - وأما قوله الثاني: ليس لغير النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمي لقوله: "لَا حِمَى إِلَّا للهَ ولِرَسُولهِ".
قال ابن قدامة: ولنا أن عمر، وعثمان حميا، واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر عليهما، فكان إجماعًا.
وروى أبو عبيد بإسناده عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أحسبه عن أبيه قال: أتى أعرابي عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإِسلام، علام تحميها؟. فأطرق عمر وجعل ينفخ ويفتل شاربه - وكان إذا كربه أمر فتل شاربه ونفخ - فلما رأى الأعرابي ما به، جعل يردد ذلك، فقال عمر: المال مال الله، والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت شبرًا من الأرض في شبر. ا. هـ. منه.
وأخرج الموطأ، وأبو عبيد في الأموال، والبخاري في الجهاد: باب إذا أسلم قوم في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم. وأخرج البغوي، واللفظ له: أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يقال له هُنَيُّ، على الحمى، فقال له: يا هُنَيُّ، اضمم جناحك عن المسلمين، واتَّق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابةٌ، وأدْخل ربَّ الصُّريْمَةِ وربَّ الغُنَيْمَةِ، وإيَّايَ ونَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ وابْنِ عَفَّانَ، فإنهما إن تَهْلِك ماشيتُهما يَرْجِعَا إلى زرعٍ ونَخْلٍ، وإنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ والغُنَيْمَةِ إنْ تَهْلِك ماشيتُه يأتي فيقولُ: يا أمير =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المؤمنين
…
أفَتَاركهُمْ أنَا؟. لا أبا لك، فالماءُ والكلأ أيسر عليَّ من الذَّهَبِ والْوَرِقِ، وأيْمُ اللهِ إنَّهُم لَيَرَوْنَ أنْ قَدَ ظَلَمْتُهُمْ، إنَّها لَبِلَادُهُم، قَاتلوا عليها في الجاهليَّة، وأسلموا عليها في الإسلام، وأيْمُ الله لولا المالُ الذي أحْمِلُ عليه في سبيل الله، ما حميت على المسلمين من بلادهم شبرًا. ا. هـ.
قال البيهقي: وأثر إبل ابن عمر يدل على أن غير النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أن يحمي لنفسه. وفيه أيضًا دلالة على أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا حِمَى إلَّا للهِ وَلِرَسُولهِ". أراد به أن لا حمى إلا على مثل ما حمى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاح المسلمين.
قلت: وأثر إبل ابن عمر ساقه قبل كلامه هذا، بسنده عن يونس بن أبي يعقوب، عن أبيه قال: قال ابن عمر: اشتريت إبلًا وأنجعتها إلى الحمى، فلما سمنت قدمت بها. قال: فدخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه السوق فرأى إبلًا سمانًا فقال: لمن هذه الإِبل؟ قيل: لعبد الله بن عمر، فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر، بخ بخ ابن أمير المؤمنين، قال: فجئته أسعى فقلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت: إبل أنضاء اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون، قال: فقال: ارعُوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقُوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله، اغد على رأس مالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين. ا. هـ.
والحاصل أن الدليل إلى جانب من يجعل للإِمام أن يحمي حمى لمصلحة المسلمين العامة لا لمصلحة نفسه، وأن هذا لا ينبغي أن ترد عنه ماشية الضعيف، والله أعلم.
(7)
وقوله: وافتقر لإِذن، أي وافتقر إحياء الموات لإذن الإِمام، وقال ابن رشد، فيما عزاه له المواق: المشهور في القريب الذي لا ضرر في إحيائه على أحد، لا يجوز إحياؤه إلا بإذن الإِمام. ا. هـ.
(8)
وقوله: وإلا فللإمام إمضاؤه أو جعله متعديًا، قال ابن عبد السلام: فإذا فرعنا على أن القريب الذي لا ضرر فيه يفتقر إلى إذن الإِمام، كان الأمر أنه أحياه أحد من غير إذن منه، تعقب الإِمام ما فعله هذا؛ فإن رأى إمضاءه أمضاه، وإن لم ير ذلك أخذه منه وأعطاه قيمة صنعه منقوضًا إن رده لبيت المال، وإن شاء كلفه بهدمه، وإن شاء أقطعه لغيره، فيكون لذلك الذي أقطعه الإِمام إياه أن يكلفه بما كان الإِمام يأمره به. ا. هـ. من الحطاب بتصرف.
(9)
وقوله: ولو ذميًا بغير جزيرة العرب، قال ابن قدامة: لا فرق بين المسلم والذمي في الإِحياءِ، =
وَالإِحْيَاءُ بِتَفْجِيرِ مَاءٍ وَبإخْراجِهِ (1) وبِبِنَاءٍ وغَرْسٍ، وبَحَرْثِ وَنَحْرِيكِ أرْضٍ وبِقَطْع شَجَرٍ، وبكَسْر حَجَرهَا وَتَسْويَتِهَا، لا بتَحْويطٍ (2) وَرَعْي كلَإ، وحفْرِ بِئرِ مَاشِيةٍ (3).
= نص عليه أحمد، وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وقال مالك: لا يملك الذمي بالإحياء في دار الإسلام. قال القاضي: وهو مذهب جماعة من أصحابنا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَوَتَانُ الْأرْضِ للهِ ولِرَسُولِهِ، ثُمَّ هُو لَكُمْ مِنِّي". فجمع الموتان وجعله للمسلمين، ولأن موتان الدار من حقوقها، والدار للمسلمين فكان موتانها لهم كمرافق المملوك.
واحتج من قال بجواز إحياء الذمي بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ" قال: ولأن هذه جهة من جهات التمليك، فاشترك فيها المسلم والذمي كسائر جهاته قالوا: ثم لا يمتنع أن يريد صلى الله عليه وسلم بقوله: "هِي لَكمْ" أي لأهل دار الإِسلام، والذمي من أهل الدار، يتملكها كما يتملكها بالشراء، ويملك مباحاتها من حشيش، وحطب، وصيد، وركاز، ومعدن، ولقطة، وهي من مرافق الإِسلام. انظر المغني.
نسب المواق هنا للباجي: إنْ أحيا ذمي، فقال ابن القاسم: هي له إلا أن يكون ذلك في جزيرة العرب، وإنما يحيي الذمي ذلك فيما بَعُدَ، وأما ما قرب من العمران فيخرج عنه ويعطي قيمة ما عمر، لأن ما قرب بمنزلة الفيء، ولا حق للذمي في الفيء، وكذلك في جزيرة العرب؛ مكة والمدينة والحجاز كله والنجود واليمن. قاله مطرف وابن الماجشون، وفيه نظر، قال: ولو قيل: إن حكمهم في ذلك حكم المسلمين لم يبعد كما كان لهم ذلك فيما بعد. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: والإحياء بتفجير ماء وبإخراجه. الخ. نسب المواق للباجي: قال مالك: صفة الإحياء أن يحفر فيها بئرًا، أو يجري عينًا، أو يغرس شجرًا، أو يبني، أو يحرث، ما فعل من ذلك فهو إحياء. قال عياض: اتفق على سبعة: تفجير الماء، وإخراجه عن غامرها به، والبناء، والغرس، والحرث، ومثله تحريك الأرْض بالحفر وقطع شجرها. وسابعها كسر حجرها وتسوية حفرها وتعديل أرضها. ا. هـ. المواق.
(2)
وقوله: لا بتحويط، قال ابن القاسم: ليس التحجير إحياء. قال أشهب: فمن حجر أرضًا مواتًا بعيدة لا يكون أولى بها حتى يعلم أنه حجرها ليعمل فيها إلى أيام لا يمكنه العمل ليبس الأرض =
وَجَازَ بِمَسْجِدٍ سُكْنَى لِرَجُل تَجَرَّدَ لِلْعِبَادَةِ (1)، وعَقْدُ نِكَاحٍ (2)، وقَضَاءُ دَيْنٍ، وقَتْلُ عَقْرَبٍ (3)، ونَوْمٌ بِقَائِلةٍ (4)، وتَضْييفٌ بِمَسْجِدِ بادِيَةٍ (5)، وإنَاءٌ لِبَوْلٍ إنْ خَافَ سَبْقًا كَمَنْزِلٍ تَحْتَهُ ومُنِعَ عَكْسُهُ كإخْراجِ رِيحٍ (6) ومُكْثٍ بنجسٍ (7) وَكُرِهَ أنْ يَبْصُقَ بأرْضِهِ وحَكّهُ (8).
= ونحوه. قال: ومن حجر ما لا يقوى عليه فله منه ما عَمَّر. ا. هـ. مواق.
قال ابن قدامة: ظاهر كلام الخرقي أن تحويطها إحياء لها، سواء أرادها للبناء أو للزرع، أو لتكون حظيرة لغنم، أو غير ذلك، ونص على ذلك أحمد في رواية علي بن سعيد، فقال: الإِحياء أن يحوط عليها حائطًا، ويحفر فيها بئرًا أو نهرًا. ولا يعتبر في ذلك تسقيف، وذلك لما روى الحسن، عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ". رواه أبو داود، والإِمام أحمد في مسنده، ويروى عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. قال: ولابد أن يكون الحائط منبعًا يمنع ما وراءه، وأن يكون مما جرت العادة بمثله، ويختلف باختلاف البلدان. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وحفر بئر ماشية، قال الباجي ليس حفر بئر الماشية إحياء. قاله ابن القاسم. ا. هـ. غير أننا لم نجد مستندًا لهذه الفتيا، إنما وجدنا الدليل إلى جانب أن من حفر بئرًا في موات للتمليك فله حريمها، واختلفوا في تحديد ذلك الحريم، ففي رواية عن أحمد:"مَنْ سَبَق إِلَن مَا لَمْ يَسْبِقْ إلِيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ، وَلَهُ حَرِيمُهَا خَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ". وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حَرِيمُ الْبِئْر أَرْبَعُونَ ذِراعًا لأعْطَانِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ". وعن الشعبي مثله. رواه أبو عبيد.
إن هذا الحديث الذي رواه أبو عبيد ظاهر في بئر الماشية لقوله: "لأعْطَانِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ". وقد حدد لها حريمها الذي لا يجوز لأحد إحياؤه. لذلك، فقد يستشكل نفي الإِحياء عن بئر الماشية، ولعلهم اطلعوا على ما لم نطلع عليه، فهم أهل اليد الطولى في العلم وسعة المعرفة، وأصحاب القدم الراسخة في العلم. غفر الله لنا ولهم، وجمعنا بهم في مستقر رحمة الله.
(1)
قوله: وجاز بمسجد سكنى لرجل تجرد للعبادة: دليله أن الصفّة من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان أصحاب الصفّة يسكنونها ويقيمون بها حتى يستغني أحدهم بما يتحصل به على مسكن بالملك أو بالأجرة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكن بالمسجد من مرض من أصحابه لعلاجه به ولتمكنه صلى الله عليه وسلم من عيادته في أي وقت شاء، كما كان الحال بالنسبة لسعد بن معاذ بن النعمان سيد الأوس رضي الله عنه.
(2)
وقوله: وعقد نكاح - قال الزركشي في "إعلام الساجد بأحكام المساجد": يستحب عقد النكاح في المسجد. قاله أبو عمر بن الصلاح، واحتج بحديث:"أَعْلِنُوا النِّكَاحَ فِي الْمَسْجد". رواه الترمذي.
(3)
وقوله: وقتل عقرب، في الحديث:"لَعَنَ اللهُ الْعَقْرَبَ، لَا يَدَعُ مُصَلٍّ وَلَا غَيْرَ مُصَلٍّ إِلَّا وَلَدَغَتْهُ، اقْتُلُوهَا لي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ". أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
(4)
وقوله: ونوم بقائلة - قال الزركثي: قال القاضي أبو منصور بن الصباغ في كتاب الإِشعار باختلاف العلماء: الذي حكاه ابن المنذر في الإشراف: أن ابن عمر قال: كنت أنام في المسجد على عهد رسول صلى الله عليه وسلم. قلت: وهو في صحيح البخاري. قال: وإن عمرو بن دينار قال: كنا نبيت على عهد ابن الزبير في المسجد، وأن سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعطاء، والشافعي رخصوا فيه. وأن ابن عباس قال: لا تتخذوا المساجد مرقدًا. وعنه أنه قال: إن كنت تنام فيه للصلاة فلا بأس. وأن مالكًا قال: أما الغرباء الذب يأتون فيمن يريد الصلاة فإني أراه واسعًا. وأما رجل حاضر فلا أرى ذلك له. وأن أحمد بن حنبل قال: إذا كان على رجل سفر وما أشبهه فلا بأس، فأما أن تتخذه مبيتًا، أو مقيلًا فلا. وبه قال إسحاق. ا. هـ. منه.
(5)
وقوله: وتضييف بمسجد بادية، قال المواق: سمع ابن القاسم: يجوز تعليق الأقتاب بكل مسجد لضيافة من أتى يريد الإِسلام، ولم ير مالك بأسًا بأكل الرطب الذي يجعل في المسجد. قال ابن رشد: وفيها ما يدل على أن الغرباء الذين لا يجدون مأوى يجوز لهم أن يأووا إلى المسجد ويبيتوا فيه ويأكلوا فيه ما أشبه التمر من الطعام الجاف، وقد خفف مالك أيضًا للضيفان المبيت والأكل بالمساجد في القرى. ا. هـ. منه.
قلت: يستأنس لذلك بربط رسول الله صلى الله عليه وسلم لثمامة بن أثال الحنفي بالمسجد وضيافته به وهو مربوط، وكان صلى الله عليه وسلم يغدوا إليه كل يوم يقول:"مَا تَقُولُ يَا ثُمَامَةُ؟ ". فيقول: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم. فلما كان اليوم الثالث أطلقه، فكان سبب إسلامه. متفق عليه. انظر شرحه في فتح المنعم على زاد المسلم تجد أنهم كانوا يضيفونه بالمسجد، وأنه كان قبل إسلامه يأكل ويشرب كثيرًا، فلما أسلم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= نقص قوته فكان ذلك سبب حديث: "الْكَافِرُ يَأكُلُ بِسَبْعَةِ أَمْعَاءٍ". الحديث.
(6)
وقوله: كإخراج ريح، في الحطاب هنا ما نصه: عده المصنف من المحرمات. وقال ابن العربي في عارضته في باب: تطييب المساجد، في شرح قول عائشة: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد وأن تنظف وتطيب، ونظافتها أن لا تبقى فيها قمامة من الخرف والقذى والعيدان، وليس من ذلك الحدث يكون فيه ريح أو صوت، ولا يناقض تنظيفه تعليق قنو فيه من ثمر يأكله المساكين، ولا أكل ما فيه إذا وضع لقاطة أو سقاطة ما يأكل في حجره أو كمه. ا. هـ. وقال في باب المشي إلى المسجد وانتظار الصلاة فيه في شرح قوله صلى الله عليه وسلم:"لَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدكُمْ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ؛ اللَّهُمَّ اغفرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ". قال رجل من حضرموت لأبي هريرة: ما الحدث؟. قال: فساء أو ضراط.
وفيه دليل على جواز إرسالهما في المسجد كما يرسلهما في بيته إذا احتاج إلى ذلك، وأن المسجد إنما ينزه عن نجاسة عينية. ا. هـ. منه بلفظه.
وقال الزركشي: لا يحرم إخراج الريح من الدبر في المسجد لكن الأولى اجتنابه لقوله صلى الله عليه وسلم "فَإنَّ الْمَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ".
(7)
وقوله: ومكث بنجس، قال الزركشي: يحرم إدخال النجاسة إلى المسجد، فأما من على بدنه نجاسة، فإن خاف تلويث المسجد، لم يجز له الدخول، وإن أمن ذلك، جاز. نقله عن التتمة في شرح المهذب وأقره، وأما إذا افْتَصد في المسجد أو احتجم، فإن كان في غير إناء فحرام، وإن قطر دمه في إناء فمكروه، والأولى تركه. قال: وأما إذا بال في المسجد في إناء ففيه احتمالان لابن الصباغ، وأصحهما في الروضة أنه حرام، ويخالف الحجامة، لأنه مما يستقبح ويستحقر فينزه المسجد عنه. وأما قول المصنف فيما قبل: وإناء لبول إن خاف سبقًا، فإنه يستأنس له بما في كتاب الطهور لأبي عبيد عن سعيد بن أبي بردة أنه أبصر أبا وائل شقيق ابن سلمة في المسجد يبول في طست وهو معتكف. وفي صحيح البخاري في باب الاعتكاف عن عائشة، قالت: اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه مستحاضة، فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي. ا. هـ.
(8)
وقوله: وكره أن يبصق بأرضه وحكه، نسب المواق هنا للمدونة، قال مالك: لا يبصق أحد بحصير المسجد أو في الصلاة ويدلك برجله، ولا بأس أن يبصق تحت الحصير. قال أبو القاسم: =
وتَعْلِيمُ صَبيٍّ (1) وبَيْعٌ وشِرَاءٌ (2)، وسَلُّ سَيْفٍ (3)، وإنْشَادُ ضَالَّةٍ (4)، وهَتْفٌ بِميِّتٍ، ورَفْعُ صَوْتٍ كرفْعِهِ بِعِلْمٍ (5)، وَوَقيدُ نَارٍ، ودُخُولُ كَخَيْلٍ لَنَقْل فَرْشٍ، أو مُتَّكَأً، ولِذي مَأجَلٍ وبِئر ومِرْسَالِ مَطَرٍ، كماءٍ يَمْلِكُهُ (6) مَنْعُهُ وبَيْعُهُ إلَّا مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ ولَا ثَمَنَ مَعَهُ، والأرجَحُ بالثَّمَنِ، كفَضْلِ بئر زَرْعٍ.
= وكذلك إن كان المسجد غير محصب فلا يبصق تحت قدمه ويحكه برجله بمنزلة الحصير، قال مالك: وإذا كان المسجد محصبًا، فلا بأس أن يبصق بين يديه وعن يساره وتحت قدمه ويدفنه، ويكره أن يبصق أمامه في حائط القبلة. قال: وإن كان عن يمينه رجل وعن يساره رجل في الصلاة بصق أمامه ودفنه، وإن كان لا يقدر على دفنه لا يبصق في المسجد بحال، كان مع الناس أو وحده لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْصُقْ فِي الْقِبْلَة بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلكِنْ عَنْ شِمَالِهِ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَبْصُقْ فِي ثَوبِهِ". وقال صلى الله عليه وسلم: "إِن أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي فإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ وَإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ فَلْيَبْصُقْ إِذَا بَصَقَ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ". قال ألو عمر: في هذا الحديث دليل على أن للمصلي وهو في الصلاة أن يبصق إذا لم يبصق قبل وجهه ولا عن يمينه. ا. هـ. منه.
وقال الزركشي: يحرم البصاق في المسجد كما جزم به النووي في التحقيق وشرح المهذب لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "الْبُصَاقُ في المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ". قال: وأما إطلاق الروياني والجرجاني، والعمراني، والمحاملي، وسليم الرازي وغيرهم الكراهة، فمحمول على إرادة التحريم، فمن بصق فقد ارتكب محرمًا، وكفارته دفنه في رمل المسجد، ولو مسحها بيده أو خرقة كان أفضل.
قال في شرح المهذب: ومن رأى من يبصق في المسجد لزمه الإِنكار عليه، ومنعه منه إن قدر، ومن رأى بصاقًا أو نحوه في المسجد، فالسنة أن يزيله بدفنه أو إخراجه، ويستحب تطييب محله. ا. هـ. منه. هذا وقد تقدم الكلام على البصاق بالمسجد عند قول المؤلف: وبصق به إن حصب. فليرجع إليه من شاء.
(1)
وقوله: وتعليم صبي: قال الزركشي: قال القرطبي منع بعض العلماء من تعليم الصبيان في المسجد وقال: إنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة، فإن كان تبرعًا فهو ممنوع أيضًا لعدم تحرز الصبيان من القذر والوسخ، فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد، وقد ورد الأمر بتنظيفها، قال: وفي الحديث: "جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلت: حكم دخول الصبيان المساجد قد قدمت الكلام عليه في هذا الكتاب المبارك عند قول خليل: وإحضار صبي به لا يعبث ويكف إذا نهي، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. ولله الحمد وله الشكر. وهو المرجو أن يوفق لما يرضيه من القول والعمل.
(2)
وقوله: وبيع وشراء، نسب المواق لأبي عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأيْتُم الرَّجُلَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي في الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمسْجِدِ فَقُولوا: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ". وقال ابن القاسم عن مالك: لا بأس أن يقضي الرجل الرجل في المسجد ذهبًا. وقال مالك: لا أحب لأحد أن يظهر سلعته في المسجد للبيع، فأما أن يساوا رجلًا بثوب عليه أو سلعة تقدمت رؤيته لها، فيراجعه البيع فيها فلا بأس به. قال مالك: وينهى المساكين عن السؤال في المسجد. قال ابن عبد الحكم: وإذا سألوا فلا يعطوا شيئًا. ا. هـ. منه.
قال الزركشي: ولا بأس أن يعطى السائل في المسجد شيئًا لحديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا "؟ فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل، فوجدت كسرة خبز في يد عبد الرحمن فأخذتها فدفعتها إليه. رواه أبو داود في سننه: والبزار في مسنده، وقال: لا نعلمه يروى عن عبد الرحمن بن أبي بكر إلا بهذا الإسناد، ويروى مرسلًا، وأخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الزكاة، وقال: صحيح على شرط مسلم. قال المنذري: وقد أخرجه مسلم في صحيحه، والنسائي في سننه من حديث أبي حازم سليمان الأشجعي عن أبي هريرة، فتموه أتم منه. قال: وأخرجه البخاري أيضًا قال: والمختار أنه إن كان السائل لا يتخطي رقاب الناس، ولا يمر بين يدي المصلي، ولا يسأل الناس إلحافًا، فلا بأس بالسؤال والإِعطاء، لأن السؤَال كانوا يسألون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، حتى روي أن عليَّ بن أبي طالب تصدق بخاتمه وهو في الركوع، فمدحه الله بقوله تعالى:{وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (1). ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وسلّ سيف، قال الزركشي: يكره سل السيف في المسجد. قال عطاء: نهي عن سل السيف في المسجد. وفيه آثار رواها ابن أبي شيبة في مصنفه. قال: وأما إقراره صلى الله عليه وسلم الحبشة على لعبهما بالحراب والسيوف في المسجد يوم العيد فهو مخصوص بما أقره صلى الله عليه وسلم من جهة التدريب على الحرب والتمرين فيه، فهو من باب المندوب. ا. هـ. منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (4) وقوله: وإنشاد ضالة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ. فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهذَا". وروى الترمذي أيضًا عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أوْ يَبْتَاعُ في الْمَسْجِدِ فَقُولوُا: لَا أَرْبَحَ الله تِجَارَتَكَ. وإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لَا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ". قال الترمذي: حسن غريب. وذكر الحطاب: قال الطرطوشي في كتاب البدع: ولو لم يرفع بذلك صوته، ولكن يسأل عن ذلك جلساءه غير رافع صوته فلا بأس بذلك، لأنه من جنس المحادثة، وذلك غير ممنوع. ا. هـ. منه.
وفي الحطاب هنا فرع: قال القرطبي في شرح مسلم في قوله: إن عمر مر بحسان ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه، قال: أي أومأ إليه بعينه أن اسكت، وهذا يدل على أن عمر كان يكره إنشاد الشعر في المسجد، وكان قد بنى رحبة في خارج المسجد، وقال من أراد أن يلغط أو ينشد شعرًا فليخرج إلى هذه الرحبة. وقد اختلف في ذلك؛ فمن مانع مطلقًا، ومن مجيز مطلقًا، والأولى التفصيل: فما كان يقتضي الثناء على الله تعالى أو على رسوله صلى الله عليه وسلم أو الذب عنهما، كما كان شعر حسان، أو يتضمن الحث على الخير، فهو حسن في المساجد وغيرها، وما لم يكن كذلك لم يجز، لأن الشعر لا يخلو في الغالب من الكذب والفواحش والتزيين بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك لقوله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (1). ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ كَلَام النَّاسِ، إِنَّمَا هِيَ لِلذِّكْر وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآن". ا. هـ. منه بلفظه.
(5)
وقوله: ورفع صوت كرفعه بعلم. قال المواق: قال ابن القاسم: رأيت مالكًا يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد. ا. هـ. منه.
وقال الزركشي: يكره اللغط ورفع الصوت في المسجد، ففي مصنف ابن أبي شيبة أن عمر بن الخطاب سمع رجلًا رافعًا صوته في المسجد فقال: أتدري أين أنت؟. وفي البخاري نحوه، قلت: ولفظ ما في البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فائتني بهذين. فجئته بهما، فقال من أنتما؟ أو من أين أنتما؟. قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. ا. هـ. =
خِيفَ عَلى زَرْعِ جَارِهِ بِهَدْمِ بِئْرِه وَأخَذَ يُصْلحُ، وأُجْبِرَ عَلَيْهِ، كَفَضْلِ بِئْرِ مَاشِيَةٍ بِصَحْرَاءَ هَدَرًا إنْ لَمْ يُبَيِّنْ المِلْكِيَّةَ، وبُدِئ بِمُسَافِرٍ، ولَهُ عَارِيَةُ آلَةٍ ثُمَّ حَاضِرٍ ثُمَّ دَابَّةِ رَبِّهَا بِجَمِيعِ الرِّيِّ وَإلَّا فَبِنفْسِ المَجْهُودِ. وإنْ سَال مَطَرٌ
= نسبه مصطفى المراغي في تعليقه على إعلام الساجد. لعمدة القاري جـ 4/ ص 294 قال الزركشي: وسئل مالك عن رفع الصوت بالعلم في المسجد، فقال: لا خير في ذلك العلم ولا غيره. ولقد أدركت الناس قديمًا يعيبون ذلك على من يكون في مجلسه، وأنا أكره ذلك ولا أرى فيه خيرًا. قاله أبو عمر، وقال: وأجاز ذلك قوم، منهم أبو حنيفة، ومحمد بن مسلمة من المالكية، واحتجوا بحديث عبد الله بن عمرو قال: تخلف فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أرهقتنا الصلاة، ونحن نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته "وَيْلٌ لِلْأعْقَابِ مِنَ النَّارِ". قال: وليس في الحديث أنهم كانوا في المسجد. واحتجوا أيضًا بحديث كعب بن مالك وابن أبي حدرد في الديْن الذي له عليه، وأنهما دخلا المسجد وارتفعت أصواتهما فيه، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم وقال له:"ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ الشَّطْرَ". الحديث.
(6)
وقوله: ولذي مأجل وبئر ومرسال مطر كماء يملكه الخ. هو شروع منه رحمه الله في تفصيل أحكام المياه، قال ابن رشد: ما كان من المياه بأرض ممتلكة، وسواء أكانت مستنبطة مثل بئر يحفرها، أو عين يستخرجها، أو مواجل يتخذها أو غير ذلك؛ مثل غدير بأرضه، وما أشبه ذلك، فهو أحق به، ويحل له بيعه، ومنع الناس منه إلا بثمن، إلا أن يرد عليه قوم لا ثمن معهم، ويخاف عليهم الهلاك إن منعهم. ويحق عليه أن لا يمنعهم، فإن منعهم كان عليهم مجاهدته. هذا قوله في المدونة، لأنه لم يحمل نهيه عليه الصلاة والسلام على منع نفع البئر على عمومه، بل تأوله على ما تقدم؛ لأنه يستحب له أن لا يمنع الشرب من العين أو الغدير في أرضه من أحد من الناس من غير حكم يحكم به عليه، وله في واجب الحكم أن يمنع ماءه إذا شاء ويبيحه إذا شاء.
وقال في المدونة: إذا حرث جارك على غير أصل ماء فلك منعه أن يسقي أرضه بفضل ماء بئرك الذي في أرضه إلا بثمن إن شئت، وأما إن حرث ولأرضه بئر فانهارت، فخاف على زرعه، فإنه يقضى له عليك بفضل ماء بئرك بغير ثمن، وإن لم يكن في مائه فضل فلا شيء له، وروي عن مالك أنه يرجع عليه الثمن. ا. هـ. من المواق.
بِمُبَاحٍ سُقِيَ الأعْلى (1) إنْ تَقَدَّمَ لِلكَعْب وأمِرَ بِالتَّسْويَةِ (2)، وإلَّا فَكَحَائطَيْنِ. وقُسِمَ للمُتَقابلَيْنِ كالنِّيلِ، وإنْ مُلِكَ أوَّلًا قُسِمَ بِقلْدٍ أوْ غيْرهِ، وَأقرعِ للتَّشَاحِّ في السَّبْقِ، ولَا يَمْنعُ صَيْدَ سَمَكٍ وَإنْ مِنْ مِلْكِهِ، وَهَلْ في أرْضِ الْعَنْوة فَقَطْ أوْ إلَّا أنْ يَصِيدَ الْمَالِكُ؟ تأوِيلَانِ. وكَلَأً بِفحْصٍ وَعَفَاءٍ لَمْ يَكْتَنفْهُ زَرْعُهُ بِخِلَافِ مَرْجِهِ وحِمَاهُ.
(1)
وقوله: وإن سال مطر بمباح سقي الأعلى. قال ابن قدامة: إذا كان الماء نهرًا صغيرًا يزدحم الناس فيه، ويتشاحون في مائه، أو سيلًا يتشاح فيه أهل الأرض الشاربة منه، فإنه يبدأ بمن في أول النهر، فيسقي ويحبس الماء حتى يبلغ إلى الكعب، ثم يرسل إلى الذي يليه فيصنع كذلك، وعلى هذا إلى أن تنتهي الأرض كلها، فإن لم يفضل عن الأول شيء، أو عن الثاني، أو عمن يليهم، فلا شيء للباقين، لأنه ليس لهم إلا ما فضل، فهم كالعصبة في الميراث، قال: وهذا قول فقهاء المدينة، ومالك، والشافعي، ولا نعلم فيه مخالفًا.
قال: والأصل في هذا ما روى عبد الله بن الزبير؛ أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ". فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أنْ كان ابن عمتك؟. فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:"يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجعَ إلَى الْجَدْرِ". قال الزبير: فوالله إِني لأحسب هذه الآية نزلت فيه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
(1)
. متفق عليه. ورواه مالك في الموطإ عن الزهري، عن عروة، عن عبد الله بن الزبير، وذكر عنه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: نظرنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْجَدْرِ". فكان ذلك إلى الكعبين، قال: وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير أن يسقي ثم يرسل الماء تسهيلًا على غيره، فلما قال الأنصاري ما قال استوعى النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حقه قال: وروى مالك في الموطإ أيضًا عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سبل مهزوز ومذينيب: "يُمْسِكُ حَتَّى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يُرْسِلُ الأعْلَى عَلَى الأسْفَلِ". قال ابن عبد البر: =
(1)
سورة النساء: 65.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= هذا حديث مدني مشهور عند أهل المدينة، معمول به عندهم. قال عبد الملك بن حبيب: مهزوز ومذينيب واديان من أودية المدينة يسيلان بالمطر، وتتنافس أهل الحوائط في سيليهما. وروى أبو داود بإسناده عن ثعلبة بن أبي مالك أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلًا من قريش كان له سهم في بني قريظة، فخاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيل مهزوز، والسيل يقتسمون ماءه، قضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الماء إلى الكعبين، يحبس الأعلى على الأسفل.
قال: ولأن من أرضه قريبة من فوهة النهر أسبق إلى الماء فكان أولى به، كمن سبق إلى المشرعة. ا. هـ. ابن قدامة.
(2)
وقوله: وأمر بالتسوية: نقل المواق عن الباجي: فإن كان بعض الحائط أعلى من بعض، فقال سحنون: يؤمر أن يعدل أرضه، وليس له أن يحبس على أرضه كلها إلى الكعبين. قال: فإن تعذرت عليه التسوية؛ سقى كل ما كان على حدته. ا. هـ. منه والله تعالى أعلم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كتاب الأحباس
الحُبُسُ لغة حقيقته الحبْسُ، وشرْعًا: هو حبر عين لمن يستوفي منافعها على التأبيد. قال النووي: وهو مما اختص به المسلمون. قال الشافعي رحمه الله: لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته دارًا ولا أرضًا تبررًا بحبسها، وإنما حبس أهل الإِسلام.
والحبس حكمه الجواز خلافًا لأبي حنيفة. وقال شريح: لا حبر على فرائض الله. يريد به أن من حبس شيئًا يورث عنه. قال مالك: إنما تكلم شريح ببلده، ولم يرد المدينة فيرى أحباس الصحابة. قال: وينبغي للمرء أن لا يتكلم فيما لم يحط به خبرًا. ا. هـ. المواق.
قال ابن قدامة: وهو مستحب، والأصل فيه ما روى عبد الله بن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إنِّي أصبت أرضًا بخيبر لم أصب قط مالًا أنفس عندي منها، فما تأمرني فيها؟ فقال:"إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وتَصَدَّقْتَ بِهَا، غَيْر أنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، ولا يُبْتَاعُ، ولَا يُوهَبُ، ولَا يُورَثُ". قال: فتصدق بها عمر على الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقًا بالمعروف غير متأثل فيه أو غير متمول فيه. متفق عليه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات ابنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَملُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْعِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالحٍ يَدْعُو لَهُ". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف. قال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف. وقال الترمذي: العمل على صحة الوقف عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافًا.
وقال الحميدي: تصدق أبو بكر رضي الله عنه بداره على ولده، وعمر بربعه عند المروة على ولده، وعثمان ببئر رومةَ، وتصدق عليّ بأرضه بينبع، وتصدق الزبير بداره بمكة وبداره بمصر وأمواله بالمدينة على ولده، وتصدق سعد بداره بالمدينة وداره بمصر على ولده، وتصدق حكيم بن حزام بداره بمكة والمدينة على ولده، وتصدق عمرو بن العاص بالوهط
(1)
وبداره بمكة على ولده، قال: فذلك كله إلى =
(1)
الوهط بستان له بالطائف يبالغ المؤرخون فيه.
كتاب الأحباس
بَابٌ: صَحَّ وَقْفُ مَمْلُوكٍ (1) وإنْ بِأُجْرَةٍ، ولَوْ حَيَوَانًا (2) ورَقيقًا كَعَبْدٍ عَلَى مَرْضَى لَمْ يَقْصِدْ ضَرَرَهُ، وَفي وَقْفِ كطعَامٍ تَرَدُّدٌ، عَلى أهْل لِلتَمَلُّكِ كمَنْ
= اليوم. فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف، واشتهر ذلك، فلم ينكره أحد فكان إجماعًا.
ومن أنكر الوقف احتج بحديث عبد الله بن زيد - راوي الأذان - روي أنه جعل حائطًا صدقة، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه أبواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: لم يكن لنا عيش إلا هذا الحائط، فرده صلى الله عليه وسلم لهما، ثم ماتا فورثه منهما، رواه المحاملي في أماليه.
والجواب عن هذا الحديث إن صح، بأنه ليس فيه ذكر الوقف إطلاقًا، فالظاهر أنه جعله صدقة استناب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى والديه أحقَّ الناس بها، فصرفها إليهما، ولهذا لم يردها عليه وإنما دفعها إليهما.
ويحتمل أيضًا أن البستان كان لهما فتصرف فيه عبد الله بهذا التصرف بغير إذنهما، فلم ينفذاه وأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فرده إليهما. ا. هـ. مضمونه من المغني.
(1)
وقوله: صح وقف مملوك، قال الحطاب: احترز به من وقف الإِنسان نفسه على نوع ما من العبادات، كذا ذكر ابن عبد السلام.
(2)
وقوله: ولو حيوانًا، الأصل في تحبيس ما سوى الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِيمَانًا بِاللهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ، فَإِنَّ شِبَعَة وَرِيَّهُ في مِيزَانِه". أخرجه البخاري، كذا نسب الحطاب للمتيطي واللخمي، قال: والذي للبخاري في كتاب الجهاد عن أبي هريرة رضي الله عه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ فَكَانَ شِبَعُهُ وَرِيُهُ رَوْثُهُ وَبَوْلُهُ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". فلفظ البخاري "احْتَبَسَ" على وزن: افتعل، وكذلك نقله المنذري في الترغيب والترهيب عن البخاري، ومقتضى كلام ابن عرفة رحمه الله، أن حبس بالتخفيف ليس معناه أوقف، ومخالف لما قاله القاضي عياض في المشارق، ونصه في باب الجامع في قوله: وأما خالد فإنه احتبس أذراعه أي أوقفها في سبيل الله، واللغة الفصيحة أحبس. قاله الخطابي. ويقال: حبس مخففا وحبَّس مشددًا، فدل كلام القاضي على أن حبس بالتخفيف بمعنى حبَّس بالتشديد، وهو الوقف، فصح ما قاله اللخمي والمتيطي، هذا إذا كانا نقلا الحديث بلفظ: حبس - بالتخفيف - وإن كانا نقلاه بلفظ احتبس =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= كما هو في صحيح البخاري فقد حرفه النساخ، فمعنى احتبس أوقف كما تقدم. كذا قال النووي وغيره، فصح ما قالاه أن الحديث المذكور أصل في تحبيس ما سوى الأرض، وكذا حديث خالد كما قاله القاضي عياض في شرح مسلم. ا. هـ. منه.
وفي السنن الكبرى للبيهقي بسنده عن ابن عباس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أراد الحج فقالت امرأة لزوجها حجَّ بي مع النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ما عندي ما أحجك عليه. قالت: أحجني على جملك فلان. قال: ذاك حبيس في سبيل الله، قالت: فحج بي على ناضحك. قال: ذاك أعتقبه أنا وابنك. قالت: فبع ثمرتك. قال: ذاك قوتي وقوتك. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أقرئه السلام ورحمة الله، وسله ما يعدل حجة معك؟ فأتى زوجها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، امرأتي تقرئك السلام ورحمة الله، إنها سألتني أحجها فقلت: ما عندي ما أحجك عليه. فقالت: أحجني على جملك فلان. قلت: ذاك حبيس في سبيل الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كُنْتَ أَحْجَجْتَهَا عَلَيْهِ كَانَ فِي سِبِيلِ الله". قالت: فاحجني على ناضحك. فقلت: ذاك نعتقبه أنا وابنك. قالت: فبع ثمرتك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم من حرصها على الحج، قال: فإنها أمرتني أن أسألك: ما يعدل حجة معك؟ قال: "أَقْرئْهَا السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللهِ وَأَخْبِرْهَا أَنَّهَا تَعْدِلُ حَجةً مَعِي" يعني عمرة في رَمَضَانَ؟. قال القاضي: هكذا رواه عبد الوارث عن عامر الأحول عن بكر، عن ابن عباس. ا. هـ. منه.
قلت: وهذا الحديث أخرجه المجد في منتقى الأخبار، وقال: رواه أبو داود. وقال الشوكاني في الكلام عليه: وحديث ابن عباس أخرجه أيضًا ابن خزيمة في صحيحه، وأخرجه أيضًا البخاري والنسائي مختصرًا، وسكت عنه أبو داود والمنذري، ورجال إسناده ثقات.
قال الشوكاني: وقوله: "مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا" ألخ. فيه دليل على أنه يجوز وقف الحيوان، وإليه ذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يصح لعدم دوامه، وقال محمد، لا يصح في الخيل فقط إذ هي معرضة للتلف. قال: وحديث الباب يرد عليهما. ويؤيد الصحة حديث عمر بن الخطاب المتقدم في باب نهي المتصدق أن يشتري ما تصدق فإن فيه أن عمر حمل على فرس في سبيل الله وأطلع النبي على ذلك وقرره ونهاه عن شرائه برخص. وقد ترجم عليه البخاري في كتاب الوقف باب: وقف الدواب والكراع والعروض والصامت. قال: ومن أدلة الصحة حديث ابن عباس المذكور، وحديث تحبيس خالد يدل على جواز وقف المنقولات. ا. هـ. من نيل الأوطار للشوكاني.
سَيُولَدُ (1)، وذمِّيٍّ وإنْ لَمْ تَظْهَرْ قُرْيَةٌ أوْ يَشْتَرِطْ تَسْلِيمَ غَلَّتِهِ مِنْ ناظِرِه لِيَصْرِفَهَا أوْ كَكِتَابِ عَادَ إليْهِ بَعْدَ صَرْفِهِ في مَصْرِفِهِ. وبَطلَ على مَعْصِيَةٍ (2) وحَرْبيٍّ وكافِرٍ لِكَمَسْجِدٍ (3) أوْ عَلى بَنيهِ دُونَ بنَاتِهِ (4)، أوْ عَادَ لِسُكْنَى مَسْكَنِهِ قَبْلَ عَامٍ، أوْ
(1)
وقوله: على أهل للتملك كمن سيولد، قال المواق: الذي لابن الحاجب أن من أركان الوقف الموقوف عليه، قال: ولا يشترط قبوله إلا إن كان معينًا وأهلًا. وقال ابن عرفة: المحبس عليه ما جاز صرف منفعة المحبَّس له أو فيه. وقال المتيطي: المشهور المعمرل عليه صحته على الحمل. ابن الهندي: زعم بعضهم أنه لا يجوز على الحمل والروايات واضحة بصحته على من سيولد له، وبها احتج الجمهور على الحمل، وفي لزومه بعقده على من يولد قبل ولادته قولا ابن القاسم ومالك لنقل الشيخ: روى محمد بن المواز وابن عبدوس: لمن حبس على ولده ولا ولد له، بيع ما حبسه ما لم يولد له، ومنعه ابن القاسم قائلًا: لو جاز لجاز بعد وجود الولد وموته، قال الحطاب: يرد بأنه لما لزم بوجوده استمر ثبوته لوجود متعلقه، وقبله لا وجود لمتعلقه حكمًا، قال: والأولى الاحتجاج بأنه حبس على مجهول من يأتي فصار موقوفًا أبدًا ومرجعه لأولى الناس بالمحبس، ولهم فيه تكلم ا. هـ.
(2)
وقوله: وبطل على معصية، قال الحطاب هنا: وانظر الوقف على مكروه، والظاهر أنه إن كان مختلفًا في كراهته فإنه يمضي، وإن اتفق على كراهته فلا يصرف في تلك الجهة، ويتوقف في بطلانه أو صرفه إلى جهة قربة، وكذا قال الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في المدخل في فصل: الأذان جماعة، بعد أن قرر أن الأذان جماعة على صوت واحد مكروه، قال: وفعلهم ذلك لا يخلو إمَّا أن يكون لأجل الثواب، فالثواب لا يكون إلا بالاتباع، أو لأهل الجامكية
(1)
؛ فالجامكية لا تصرف في بدعة، كما أنه يكره الوقف عليها ابتداء. ا. هـ.
(3)
وقوله: وكافر لكمسجد، قال المواق: سمع ابن القاسم: إن حبَّس ذميٌّ دارًا على مسجد ردت. رواه معن في نصرانية بعثت بدينار إلى الكعبة رد عليها. قال ابن عرفة: لا يصح الوقف من كافر في قربة دينية، ولو كانت في منفعة عامة دنيوية كبناء القناطر، ففي رده نظر، والأظهر إن لم يحتج إليها ردت. ا. هـ.
(4)
وقوله: وعلى بنيه دون بناته، هو عطف على الوقف الباطل، قال المواق: سمع ابن القاسم =
(1)
الجامكية يطلقونها على المكافأه التي تصرف له من الأوقاف.
جُهِلَ سَبْقُهُ لِدَيْنٍ إنْ كانَ عَلى مَحْجُورِهِ أوْ عَلى نَفْسِهِ وَلَوْ بِشَريكٍ، أوْ عَلى أنَّ النَّظَرَ لَهُ، أوْ لَمْ يَحُزْهُ كَبِئرٍ وُقِفَ عَلَيْهِ ولَوْ سَفِيهًا أوْ وَلِيُّ صغِيرٍ، أوْ لَمْ يُخَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وبَيْنَ كَمَسْجِدٍ قَبْلَ فَلسِهِ وَمَوْتِهِ ومرَضِهِ، إلَّا لِمَحْجُورِه إِذا أشْهَدَ وصَرَفَ الغَلَّةَ لَهُ ولَمْ تَكُنْ دَارَ سُكْنَاهُ. أوْ عَلى وَارِثٍ بِمَرضِ مَوْتِهِ إلَّا مُعَقَّبًا خَرَجَ مِنْ ثُلُثِهِ فَكَمِيَراثٍ لِلْوَارِثِ كثَلَاثَةِ أوْلَادٍ وأرْبَعَةِ أوْلَادِ أوْلَادٍ وعَقَّبَهُ وَتَركَ أُمًّا وزوجَةً فيدْخُلَان فِيما للأوْلَادِ وأرْبَعَةُ أَسْباعِهِ لِوَلدِ الْوَلَدِ وقْفٌ، وَانْتَقَضَ الْقَسْمُ بِحُدُوثِ وَلَدٍ لَهُمَا كَمَوْتِهِ عَلى الأصَحِّ لَا الزّوْجَةِ والأُمِّ فيَدْخُلَانِ، ودَخَلَا فيمَا زيدَ لِلْوَلَدِ.
بِحَبَّسْتُ وَوَقَفْتُ وتَصَدَّقْتُ إنْ قَارَنَهُ قَيْدٌ أوْ جِهَةٌ لَا تَنْقَطِعُ (1) أو لِمَجْهُولٍ
= إذا حبس على ولده وأخرج البنات منه إن تزوجن فالشأن أن يبطل ذلك، ورأى ابن القاسم إن فات ذلك أن يمضي على ما حبس، وإن كان حيًا لم يحز عنه الحبُسُ فليرده ويدخل فيه البنات، وإن حيز عنه أو مات مضى على شرطه. ا. هـ.
(1)
وقوله: بحبَّستُ ووقَّفت وتصدقت إن قارنه قيد أو جهة لا تنقطع، قال المواق: قال ابن الحاجب: لفظ تصدقت، إن اقترن به ما يدل من قيد أو جهة لا تنقطع، تأبد، وإلَّا فروايتان. وقال ابن رشد: التحبيس ثلاثة ألفاظ: حُبُسٌ، وَوَقْفٌ، وصَدَقَةٌ، فأما الحبُس والوقف فمعناهما واحد لا يتفرقان في وجه من الوجوه، وأمَّا الصدقة، فإن قال: داري أو عقاري صدقة أو في السبيل أو على بني زهرة، فإنها تباع ويتصدق بها على المساكين على قدر الاجتهاد، إلَّا إنْ قال: صدقة على المساكين يسكنونها أو يستغلونها. فتكون حُبُسًا على المساكين للسكنى والاستغلال ولا تباع. ا. هـ. منه.
وفي الحطاب، قال ابن عبد السلام: يعني أن لفظتي حبَّست وتصدقت لا تدلان على التأبيد بمجردهما، بل لابد مع ذلك من ضميمة قيد في الكلام كقوله: حبس لا يباع ولا يوهب. وشبه ذلك من الألفاظ، أو الجمع بين اللفظتين معًا، كما وقع في بعض الروايات إذا قال: حبسًا صدقة. أو ذكر لفظ التأبيد أو ضميمة جهة في الحبس لا تنقطع، ومراده عدم انحصار من يصرف إليه الحبُس بأشخاص =
وإنْ حُصِرَ. ورَجَعَ إنِ انْقَطَعَ لأقْرَبِ فُقَراءِ عَصَبَةِ المُحَبِّس (1) وامرأةٍ لو رُجِّلَتْ عَصَّبَ، فإنْ ضَاقَ قُدِّمَ البَناتُ، وعَلى اثْنَيْنِ وبَعْدَهُمَا على الفُقَرَاءِ، نَصِيبُ مَنْ مَاتَ لَهُمْ، إلا كَعَلَى عَشَرَةٍ حَياتَهُمْ فَيُمْلَكُ بَعْدَهُمْ. وفي كَقَنْطرَة وَلَمْ يُرْجَ عَوْدُهَا في مِثْلِهَا وَإلَّا وُقِفَ لَهَا، وصَدَقَةٌ لِفُلَانٍ فَلَهُ، أو لْلِمَسَاكِينِ فُرِّقَ ثَمَنُهَا بالاجتهَادِ ولَا يُشْتَرَطُ التَّنْجِيزُ وَحُمِلَ في الإِطْلَاقِ عَلَيْهِ كَتَسْويَةِ أنثى بِذَكَرٍ، ولَا التَّأبيدُ، ولَا تَعْيِينُ مَصْرفِه، وصُرفَ في غَالبِ وإلَّا فَالفُقَرَاءُ، ولَا قَبُولُ مُسْتَحِقِّهِ إلَّا المعَيَّنَ الأَهْل فإنْ رَدَّ فكمُنْقَطِعٍ.
= معينين كقوله: حبُس على المساكين، أو على المجاهدين، أو على طلبة العلم، فإن انعدمت هذه القيود والجهاد وشبهها ففي التأبيد حينئذ روايتان، وظاهر كلام المؤلف أنه لا يختلف في التأبيد إذا وجدت هذه القيود أو الجهات، وذلك قريب مما قال في المدونة إذا قال: حبس صدقة، أو حبس لا يباع ولا يوهب. إن قول مالك لم يختلف في هذا أنه صدقة محرمة ترجع مراجع الأحباس ولا ترجع إلى المحبس ملكًا. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله. ورجع إن انقطع لأقرب فقراء عصبة المحبِّس: قال المواق: قال ابن الحاجب: إذا لم يتأبد رجع بعد انقطاع جهته ملكًا لمالكه أو لوارثه، وإذا تأبد رجع إلى عصبة المحبس من الفقراء ثم للفقراء، قال ابن عرفة: لو قال حبس عليك وعلى عقبك. قال: مع ذلك صدقة أو لا، فإنه يرجع بعد انقراضهم لأولى الناس بالمحبس يوم المرجع من ولد أو عصبة، ذكورهم وإناثهم سواء، يدخلون في ذللت حبسًا، ولو لم تكن إلا ابنة واحدة كانت الصدقة لها حبسًا. ولا يرجع إلى المحبس ولو كان حيًا، وهي لذوي الحاجة من أهل المرجع دون الأغنياء، فإن كانوا كلهم أغنياء فهي لأقرب الناس بهم من الفقراء، قال مالك: من قال هذه الدار حبس على فلان وعقبه. أو عليه وعلى ولده. أو قال: حبس على ولدي. ولما يجعل لها مرجعًا. فهي موقوفة لا تباع ولا توهب، وترجع بعد انقراضهم حبسًا على أولى الناس بالتحبيس يوم المرجع وإن كان المحبس. فقيل لابن المواز: من أقرب الناس بالمحبس الذي يرجع إليه الحبر بعد انقراض من حبس عليهم؟. فقال: قال مالك: على الأقرب من العصبة، =
واتُّبِعَ شَرْطُهُ إِنْ جَازَ (1) كَتَخْصِيصِ مَذْهَبٍ، أوْ نَاظِرٍ، أوْ تَبْدِئَةِ فُلَانٍ بِكَذَا وإنْ مِنْ غَلَّةِ ثانِي عَامِ إنْ لمْ يَقُلْ مِنْ غَلَّةِ كُلِّ عَامٍ (2) أوْ أنَّ مَنِ احْتَاجَ مِنَ المُحَبَّسِ عَلَيْهِ بَاعَ (3)، أَوإنْ تَسَوَّرَ عَلَيْهِ قَاضٍ أوْ غَيْرُهُ رَجَعَ لَهُ أوْ لِوَرَثَتِهِ كَعَلى وَلَدِي ولَا ولَدَ لَهُ. لَا بِشَرْطِ إصلَاحِهِ على مُسْتَحِقِّهِ كأرْضٍ مُوظَّفَةٍ إلَّا مِنْ غَلَّتِهَا عَلى الأصَحِّ أوْ عَدَم بَدْءٍ بإصْلَاحِهِ أَو بِنَفَقَتِهِ، وَأُخْرِجَ السَّاكنُ الموْقُوفُ عَلَيْهِ لِلسُّكْنَى إن لَمْ يُصْلحْ لِتُكْرَى لَهُ، وأُنْفِقَ في فَرَسٍ لِكغَزْوٍ مِنْ بَيْتِ الْمَال فإنْ عُدِمَ بِيعَ وعُوِّضَ بِهِ سِلَاحٌ كما لَوْ كَلِبَ، وبيعَ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ غَيْر عَقَارٍ في مِثْلِهِ أَو شِقْصه كَأنْ أَتْلَفَ، وفَضْلُ الذَّكورِ وَما كَبِرَ مِنَ الإِنَاثِ في إنَاثٍ، لا عَقَارٌ وإنْ خَرِبَ وَنِقْضٌ ولوْ بغير خَرِبٍ إلَّا لتَوْسِيعِ كمَسْجِدٍ ولَوْ جَبْرًا،
= من النساء من لو كانت رجلًا كانت عصبة للمحبس فيكون ذلك عليهم حبسًا، قال مالك: ولا يدخل في ذلك ولد البنات ذكرًا كان أو أنثى، ولا بنو الأخوات ولا زوج ولا زوجة. قال ابن القاسم: وإنما يدخل مثل العمات والجدات وبنات الأخ والأخوات أنفسهن، شقائق كن أم لأب، ولا يدخل في ذلك الإِخوة والأخوات لأم. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: واتُّبع شرطُه إن جاز، هو لحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"المُسْلِمُونَ علَى شرُوطِهِمْ".
وأخرج البيهقي بسنده عن هشام بن عروة أن الزبير جعل دوره صدقة، قال: وللمردودة من بناته أن تسكن غير مضرّة ولا مضرّ بها، فإن استغنت بزوج فلا شيء لها.
ومن أدلة اتباع شرط الواقف، وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ونصها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به عبد الله أمير المؤمنين إن حدث به حدث، إن ثمغًا وصرمة بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخبير ورقيقه الذي فيه، الذي أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالواد، تليه حفصة ما =
وأمرُوا بِجَعْلِ ثَمنِه لِغَيْرِهِ، ومَنْ هَدَمَ وَقْفًا فَعَلَيْهِ إعَادَتُهُ. وتناوَلَ الذُّرِّيَّةُ وَوَلَدُ فُلَانٍ وَفُلَانَة أو الذُّكُورُ والإِنَاثُ وأوْلَادُهُمْ، الحافِدَ (4). لَا نَسْلِي وعَقِبي وَوَلَدِي
= عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، أن لا يباع ولا يشترى؛ ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذوي القربى، لا حرج على من وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقًا منه. رواه أبو داود.
(2)
وقوله: أو تبدئة فلان بكذا وإن من غلة ثاني عام إن لم يقل: من غلة كل عام، قال المتيطي: إذا شرط المحبس في حبسه أن ينفق من غلته على فلان كذا في كل عام، أو يخرج منه كذا ربعًا من زيت لمسجد كذا، أو شرط ذلك لنفسه حياته، جاز إن كان المستثنى أقل من الثلث، وإلا بطل الحبس إن كان هو الحائز على من يلي، وإن كان الحائز من قبض لنفسه بطل ما وقع فيه الشرط. ا. هـ. المواق.
(3)
وقوله: وأن من احتاج إليه من المحبَّس عليه باع، قال المواق: في كتاب ابن المواز قال مالك: من حبس داره على ولده وقال في حبسه: إن احتاجوا. أو: اجتمع ملؤهم على بيعها، باعوها واقتسموا الثمن بينهم بالسواء، ذكورهم وإناثهم، فهلكوا جميعًا إلا واحدًا، فأراد بيعها فقال مالك: له ذلك، ولا حق فيها لأحد من ولد بنات المحبس إن طلبوا ميراثهم. قال ابن القاسم: لأنه بتله في صحته، فليس لسواهم من ورثة أبيهم فيها حق. ا. هـ. منه.
ومثله في الحطاب من سماع ابن القاسم من كتاب الحبس انظره جـ: 6/ ص: 43.
وفيه في نفس المدرك: سئل مالك عمن تصدق على ابنتين بدار على وجه الحبس وكتب لهما في كتاب: صدقة؛ إن شاءتا باعتا وإن شاءتا أمسكتا، فرهق ابنتيه دين داينتا به الناس، فقام عليهما الغرماء وقالوا: نحن نبيع الدار، فقد كتب أبوكما في صدقته: إن شئتما بعتما وإن شئتما أمسكتما. قال مالك: صدقوا في ذلك، لهم أن يبيعوا الدار حتى يستوفوا. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وتناول الذرية وولد فلان وفلانة أو الذكور والإِناث وأولادهم، الحافد: قال المواق أما الذرية، فقال ابن رشد: اختلف الشيوخ في الذرية والنسل فقيل: إنهما بمنزلة العقب، والولد لا يدخل فيه ولد البنات على مذهب مالك. وقيل: إنهم يدخلون فيها. وفرق ابن العطار فقال: النسل كالولد. والعقب لا يدخل فيه ولد البنات، بخلاف الذرية فتشمل ولد البنت اتفاقًا لقوله تعالى:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} إلى قوله تعالى. {وَعِيسَى} وهو ولد بنت. قال ابن رشد: صحيح أن ولد بنت الرجل من ذريته، وكذا نقول في نسله وعقبه. قال وأما إذا قال: حبست على ولدي، ويسميهم بأسمائهما ذكورهم وإناثهم، ثم قال: وعلى أولادهم، فإن ولد البنات يدخلون في ذلك على مذهب مالك وجميع =
وولدِ وَلَدِي، وأولادي وأولادِ أولادي، وبنيَّ وبني بنيَّ، وفي: على ولدي وولدهم قولان. والإِخوة الأنثى، ورجال إخوتي ونِسَاؤُهُمْ الصَّغِيرَ، وبَنِي أبي وإخْوتَهُ الذُّكُورَ، وأوْلادَهُمْ، وآلِي وأهْلي الْعَصَبَة (1) وَمَنْ لَوْ رُجِّلَتْ عَصَّبَتْ، وَأقارِبي أقارِبَ جِهَتَيْه مُطْلقًا (2) وإنْ قَصَوْا، ومَوَالِيهِ المُعْتَقَ وَوَلَدَهُ، ومُعْتَقَ أبيهِ وابْنِهِ وقَوْمُهُ عَصَبَتَهُ فَقَطْ، وطِفْلٌ وصَبيٌّ وصَغيرٌ، مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وشَابٌّ وحَدَثٌ للأرْبَعِينَ. وإلَّا فَكَهْلٌ للسِّتِّينَ وإلَّا فشَيْخٌ وشَملَ الأنْثَى كالأرمل. والمِلْكُ لِلْوَاقِفِ (3) لَا الْغَلَّةُ، فَلَهُ وَلِوَارِثِهِ مَنْعُ مَنْ يُريدُ إصْلَاحَهُ، ولَا يُفْسَخُ كراؤُهُ لِزيَادَةٍ ولَا يُقْسَمُ إلَّا مَاضٍ زَمَنُهُ وأكْرَى نَاظِرُهُ إنْ كَانَ عَلى مُعَيَّنٍ كالسَّنَتَيْنِ ولِمَنْ
= أصحابه. قال: وما روي عن ابن زرب فهو خطأ. قال ابن رشد: وإذا قال: حبست على أولادي، ذكورهم وإناثهم، ولم يسمهم بأسمائهم ثم قال: وعلى أعقابهم، فالظاهر من مذهب مالك أن أولاد البنات يدخلون في ذلك كما لو سمى. ا. هـ. منه.
قلت: أخرج البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن عبد الملك بن عمير، وبسند آخر عن عاصم بن بهدلة، قال: اجتمعوا عند الحجاج، فذكر الحُسين بن علي رضي الله عنهما، فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده يحيى بن يعمر، فقال له: كذبت يا أمير، فقال: لتأتيني على ما قلت ببينة من مصداق من كتاب الله أو لأقتلنك. قال: قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى}
(1)
. فأخبر اللهُ تعالى أن عيسى من ذرية آدم بأمه، والحسين بن علي من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم بأمه. قال: صدقت، فما حملك على تكذيبي في مجلسي؟ قال: ما أخذ الله على الأنبياء: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}
(2)
. قال اللهُ تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}
(3)
. قال: فنفاه إلى خراسان. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله: وآلي وأهلي العصبة، ذكر البيهقي أن أبا بكر رضي الله عنه قال فيما احتج به على الأنصار يوم السقيفة: بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق فدعا إلى الإِسلام فأَخذ اللّه بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعا إليه. وكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلامًا ونحن عشيرته وأقاربه. ا. هـ. =
(1)
سورة الأنعام: 84.
(2)
و
(3)
سورة آل عمران: 187.
مَرْجِعُهَا لَهُ كَالْعَشْرِ وإنْ بَنَى مُحَبَّسٌ عَلَيْهِ فَمَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ وَقْفٌ وَعَلى مَنْ لَا يُحَاطُ بِهِمْ أوْ عَلى قَوْمٍ وأعْقَابِهِمْ، أوْ عَلى كوَلَدِهِ ولَمْ يُعَيِّنْهُمْ، فَضَّلَ المُوَلَّى أهْلَ الحَاجَةِ والْعِيَالِ في غَلَّةٍ وسُكْنَى وَلَمْ يُخْرَجْ سَاكِنٌ لِغيْرِهِ إلَّا بشَرْطٍ أوْ سَفَرِ انْقِطَاعٍ أوْ بَعيدٍ.
= (2) وقوله: وأقاربي؛ أقارب جهتيه مطلقًا وإن قصَوْا: نقل المراق، قال مالك: من أوصى لأقاربه قسم على الأقرب فالأقرب بالاجتهاد، ولا يدخل في ذلك ولد البنات. قال عيسى وينظر فيه على قدر ما يرى وينزل، فربما لم يدع غير ولد النات وولد الخالات. قال ابن يونس: يريد فيعطوا حينئذ. قال ابن القاسم: ولا يدخل الخال ولا الخالة ولا قرابته من قبل الأم إلا أن لا يكون له قرابة من قبل الأب. ا. هـ. منه.
قلت: في السنن الكبرى للبيهقي: باب الصدقة في الأقربين، ثم ساق سندًا إلى أنس بن مالك رضي الله عنه. قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالًا من نخل، وكات أحب أمواله إليه بئر تسمى بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء كان فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(1)
. قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إن الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} . وإن أحب مالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأقْرَبِينَ". قال أبو طلحة: أفعل يا رسول اللهُ. فقسمها أبو طلحة في أقاربه أو بني عمه. متفق عليه. وفي رواية لمسلم: فجعلها فس حسان بن ثابت وأبي بن كعب. وفي رواية للبخارىِ قال "اجْعَلْهَا لِفُقَرَاءِ قَرَابَتِكَ" وعليه فإن أبا طلحة جعل بيرحاء في قرابته بإرشاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلها في حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، يجتمع مع أبي طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام، يجتمع معه في حرام؛ وهو الجد الثالث بالنسبة لهما، وجعلها أيضًا في أبي بن كعب بن قيس بن عتيك بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك، وعمرو هذا هو الذي يجتمع فيه مع أبي طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك، فإن عمرو بن مالك هو السادس بالنسبة لأبي بن كعب، السابع بالنسبة لأبي طلحة. =
(1)
سورة آل عمران: 92.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذا وقد اختلف العُلماء في الأقارب، فقال أبو حنيفة: القرابة كل ذي رحم محرم من قبل الأب أو الأم، ولكن يبدأ بقرابة الأب قبل الأم. وقال الشافعية: القريب من اجتمع في النسب سواء قرب أم بعُد، مسلمًا كان أو كافرًا، غنيًا أو فقيرًا، ذكرًا أو أنثى، وارثًا أو غير وارث، محرمًا أو غير محرم. وقال أحمد في القرابة مثل الشافعية إلا أنه أخرج الكافر، وفي رواية أخرى له: القريب هو كل من يجمعه مع الموصي الأب الرابع إلى ما هو أسفل منه. وقال مالك يختص بالعصبة سواء كان يرثه أو لا، ويبدأ بفقرائهم ثم يعطي الأغناء. هكذا في الفتح.
قلت: ومن يقول القرابة المحصبة، يتأيد قوله ذلك بقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى لبني هاشم وبني المطلب، وعلل إعطاءه بني المطلب بعدم الفرقة مع بني هاشم؛ جاهلية ولا إسلامًا، ولو كان الصرف لهم بالقرابة لما اختصوا بذلك دون بني عبد شمس وبني نوفل، إذ الكل يجتمع في عبد مناف. ويتأيد كذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
(1)
. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا، فعم وخص فقال:"يَا بَني كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَني مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَني عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذَوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَني عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بِنَي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النًارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمطلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ". الحديث، وفيه دليل على أن جميع من ناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلق عليهم لفظ الأقربين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ممتثلًا لقوله تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} . وفي الحديث دليل أيضًا على دخول النساء في الأقربين لذكره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لفاطمة بنت محمد، وذكره في رواية للبخاري من حديث أبي هريرة لعمته صفية رضي الله عنها. ا. هـ. وبالله تعالى التوفيق.
(3)
وقوله: والملك للواقف، قال الموات: قال ابن عرفة: صرح الباجي ببقاء ملك المحبس على محبِّسه، وهو لازم تزكية الأحباس على ملك محبسها، فقول اللخمي: الحبس يسقط ملك المحبس غلط. قال الحطاب: ظاهره حتى في المساجد، ونقل القرافي الإِجماع على أن المساجد ارتفع عنها الملك، قال: وهو خلاف ما حكاه أول الحبس من النوادر أن المساجد باقية أيضًا على ملك محبسها، والله أعلم. =
(1)
سورة الشعراء: 214.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وخالف قوم فقالوا: إن الوقف إذا صحَّ زال به ملك الوقف عن الواقف. قال ابن قدامة: وهو الصحيح من مذهب الإِمام أحمد، وهو المشهور من مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة. قال: وعن أحمد لا يزول ملكه، وحكى قولًا عن الشافعي وهو مذهب مالك، لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب "حَبِّسِ الْأصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ".
قلت: ومما يدل على بقاء ملك الموقوف للواقف، قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا من ثَلَاثٍ" الحديث، وذكر منها الصدقة الجارية التي هي الوقف، ففي رأي أنه لو لم يكن باقيًا في ملكه، ما عده رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمله الجاري عليه بعد الموت، لأنه لو خلف مال قارون غير الوقف ينقطع عنه بمجرد الموت لانتقال الملك إلى غيره. والله تعالى أعلم. وهو الموفق عليه توكلت وإليه أنيب.
كتاب الهبة
بَابٌ: الْهِبَةُ تَمْلِيكٌ بلَا عِوَضٍ (1) ولِثَوَاب الآخِرَةِ صَدَقَةٌ، وصَحَّتْ في كل مَمْلُوكٍ يُنْقَلُ مِمَّنْ لَهُ تَبَرُّعٌ بِهَا (2) وإنْ مَجْهُوَلًا أوْ كَلْبًا وَدَيْنًا، وَهُو إبْرَاءٌ إنْ وُهِب لمَنْ عَلَيْهِ وإلَّا فَكالرَّهْنِ، وَرَهْنًا لم يُقْبَضْ وأيْسَرَ رَاهِنُهُ أوْ رَضِيَ مُرْتَهِنُهُ وَإلَّا قُضِيَ بِفَكِّهِ إنْ كَانَ مِمَّا يُعَجَّلُ وإلَّا بَقيَ لِبَعْدِ الأجَلِ. بِصيغَةٍ أوْ مُفْهِمِهَا (3) وإنْ بفِعْلٍ كَتَحْلِيَةِ وَلدِهِ، لا بابْن مَعَ قَوْلِهِ دَارَهُ، وحِيزَ وإنْ بِلا إذنٍ وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ (4)، وبَطلَتْ إنْ تَأخَّرَ لِدَيْنٍ مُحِيطٍ (5) أو وَهَبَ لِثَانٍ وحَازَ أوْ أعْتَقَ الْوَاهِبُ أوْ اسْتَوْلَدَ ولَا قِيمَةَ، أو اسْتَصْحَبَ هَدِيَّةً أوْ أرْسَلَهَا ثُمَّ مَاتَ، أو المُعَيَّنَةُ لَهُ (6) إن لمْ يُشْهِدْ، كأنْ دَفَعْتَ لِمنْ يَتَصَّدَّقُ عَنْكَ بِمَالٍ ولم تُشْهِدْ.
كتاب الهبة
(1)
قوله: الهبة تمليك بلا عوض ألخ. الهبة، والصدقة، والهدية، والعطية، معان متقاربة، وكلها تمليك بلا عوض، واسم العطية شامل لجميعها، وكذلك الهبة، لكن الصدقة والهدية بينهما تغاير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وقال عليه الصلاة والسلام في اللحم الذي تصدِّق به على بريرة:"هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ".
لذلك، فإن الفرق بين الصدقة والهدية؛ أنه من أعطى شيئًا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج، فهو صدقة، ومن دفع إلى إنسان شيئًا للتقرب إليه ولمحبته، فهو هدية.
قال ابن قدامة: وجميع ذلك مندوب إليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تهَادَوْا تَحَابُّوا"
(1)
. وفي البيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَا نِسَاءَ الْمُسْلِماتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ". قال: رواه البخاري في الصحيح عن عاصم بن علي، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن سعيد.
وفي البيهقي أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ، وَلَوْ دُعِيتُ إلَى كِرَاعٍ لأجَبْتُ". وقال: أخرجه البخاري من حديث شعبة. =
(1)
رواه البيهقي بسنده عن أبي هريرة.
لا إنْ بَاعَ وَاهِبٌ قَبْلَ عِلْمٍ الموهوب وإلَّا فالثَّمَنُ للمُعْطِي - رُويَتْ بِفَتْحِ الطَّاءِ وكسْرِهَا - أوْ جُنَّ أوْ مَرِض واتَّصَلَا بِمَوْتِهِ أوْ وَهَبَ لمُودَعٍ وَلَمْ يَقْبلْ لِمَوْتِهِ. وصَحَّ إنْ قَبَضَ لِيتَرَوَّى أوْ جَدَّ فِيهِ أوْ في تَزْكِيَةِ شَاهِدِهِ، أو أعتَقَ أوْ بَاعَ أو وَهَبَ إذا أشْهَدَ وَأعْلَنَ، أو لمْ يُعْلَمْ بِهَا إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَحَوْزُ مُخْدَمٍ ومُسْتَعِيرٍ مُطْلَقًا ومُودَعٍ إنْ عَلِمَ، لا غَاصِبٍ ومُرْتَهِنٍ، ومُسْتَأجِرٍ إلَّا أنْ يَهَبَ الإِجَارَةَ، ولَا إنْ رَجَعَتْ إلَيْهِ بَعْدَهُ بِقُرْبٍ بأن آجرها أو أرْفَقَ بِهَا بِخِلَافِ سَنَةٍ أوْ رَجَعَ مُخْتَفِيًا أوْ ضَيْفًا فَمَاتَ. وهِبَةُ أحَدِ الزَّوجَيْن لِلْآخَرِ مَتَاعًا، وهِبَةُ زوجَةٍ دَارَ سُكْنَاهَا لِزَوْجِهَا، لا الْعَكْسُ، ولَا إن بَقِيَتْ عنده، إلَّا لِمَحْجُورِهِ، إلَّا مَا لا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ وَلَوْ خَتَمَ عَلَيْهِ، ودَارَ سُكْنُاهُ إلَّا أنْ يَسْكُنَ أقَلَّهَا ويُكْريَ لَهُ الأكْثَرَ،
= وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها. متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه.
وفي سنن البيهقي بسنده عن أنس رضي الله عنه أن رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام قال: كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ".
(2)
وقوله: ممن له تبرع بها، قال المواق: الأولى أن يقول: الواهب من لا حجر عليه بوجه، فيخرج من أحاط الدين بماله. وقول المواق: من لا حجر عليه بوجه؛ يريد في القدر الذي يصح له منه أن يهب، فتصح هبة المريض في ثلثه، وهبة الزوجة في ثلث مالها، لأنه لا حجر عليهما في ذلك. ا. هـ.
(3)
وقوله: بصيغة أو مفهمها، ذكر الحطاب قال: في الذخيرة الركن الرابع: السبب الناقل. وفي الجواهر: هو الإِيجاب والقبول الدالة على التمليك بغير عوض، أو ما يقوم مقامها في الدلالة على =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ذلك من قول أو فعل. ا. هـ. قال الحطاب: مذهب الشافعي القبول فورًا على الفور، وظاهر مذهبنا يجوز على التراخي لما يأتي بعد من إرسال الهبة للموهوب قبل القبول. والشافعي يقول: لابد من توكيل الرسول في أن يهب عنه، ولم يشترط ذلك مالك، وقد وقع لأصحابنا أن للموهوب له التروي في القبول. ا. هـ.
قال ابن قدامة: والإِيجاب والقبول أن يقول: وهبتك، أو أهديت إليك، أو أعطيتك، أو هذا لك. ونحوه من الألفاظ الدالة على هذا المعنى، والقبول أن يقول: قبلت أو رضيت أو نحو هذا، قال: والأفعال الدالة على الإِيجاب والقبول كافية، ولا يحتاج إلى لفظ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يهدي ويهدى إليه، ويعْطي ويُعْطَى، ويفرق الصدقات ويأمر سعاته بتفريقها وأخذها، وكان أصحابه يفعلون ذلك، ولم ينقل عنهم في ذلك إيجاب ولا قبول، ولا أمر به أحدًا، ولا أمر تعليمه لأحد. ولو كان ذلك شرطًا لنقل عنهم نقلًا مشهورًا. قال وكان ابن عمر على بعير لعمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:"بِعْنِيهِ" فقال: هو لك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ عُمَرَ فَاصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ". ولم ينقل قبول النبي صلى الله عليه وسلم من عمر، ولا قبول ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان شرطًا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه ابن عمر. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وحيز وإن بلا إذن وأجبر عليه، نسب المواق هنا للمدونة: من وهب هبة لغير ثواب، فقبضها الموهوب له بغير أمر الواهب، جاز قبضه، إذ يقضى بذلك على الواهب إن منعه إياها. ا. هـ. قال الحطاب: وهذا على المشهور من أن الهبة تلزم بالقبول، قال ابن عرفة: والمعروف لزوم العطية بعقدها. قال المازري: للواهب الرجوع في هبته قبل حوزها عند جماعة، وفي قولة شاذة عندنا، وحكاه الطحاوي عن مالك، وحكاه ابن خويزمنداد عن مالك. ا. هـ.
قلت: المعروف من الأدلة أن الهبة يشترط في ملكها الحوز، ففي البيهقي ما نصه: باب شرط القبض في الهبة، ثم ساق سندًا إلى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه منحها جداد عشرين وسقا من مال بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إليَّ غنى بعدي منك، ولا أعز عليَّ فقرًا منك، وإني كنت نحلتك من مالي جداد عشرين وسقًا، فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان لك ذلك، وإنما هو مال الوارث؛ وإنما هو أخواك وأختاك =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فاقتسموه على كتاب الله. قالت: يا أبت، والله لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء فمن الأخرى؟. قال: ذو بطن بنت خارجة، أراها أنثى. ا. هـ.
وفي البيهقي أيضًا بسنده عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن يحيى بن يعمر عن أبي موسى الأشعري قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الإِنحال ميراث ما لم يقبض. ا. هـ. منه.
وعلى ذلك فإن الخلاف في اشتراط إذن الواهب في الحوز الذي يشترطه الحنابلة ومن وافقهم قالوا: إن قبضها الموهوب له بغير إذن الواهب لم تتم الهبة، وعدم اشتراط إذنه لذلك الذي درج عليه المُصَنّف هنا، إن الخلاف في ذلك يتخرج على الخلاف في رجوع الواهب في هبته؛ هل يجوز له ذلك أم لا؟ فمن قال: يجوز له الرجوع فيها. اشترط إذنه في الحوز، ومن قال: لا يجوز له الرجوع في هبته، أجاز بدون إذنه وقال: يجبر على تمكينه من حوز الهبة إن امتنع. ومنشأ الخلاف قوله صلى الله عليه وسلم: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ". متفق عليه. وفي رواية للبخاري: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْء الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ في قَيْئِهِ". وقد بوب البخاري باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته. فمن منع حمل الحديث على التحريم، ومن أجاز حيل الحديث على التغليظ في الكراهة. قال الطحاوي: فقوله: كالكلب، يدل على عدم التحريم؛ لأن الكلب غير متعبد، فالقيء غير حرام عليه، فالمراد التنزه عن فعل يشبه فعل الكلب. ا. هـ. والمقصود من البحث معرفة مبنى الخلاف في اشتراط إذن الواهب في الحوز، لا تقرير الحكم في ذلك، فاللّه تعالى. أعلم، وهو ولي التوفيق.
(3)
وقوله: وبطلت إن تأخر لدين محيط، قال الحطاب: يعني أن الهبة تبطل إذا تأخر الحوز حتى أحاط الدين بمال الواهب، وظاهره ولو كان حادثًا بعد الهبة، وهو أحد القولين، وعليه اقتصر ابن الحاجب. ا. هـ.
قلت: والدليل يؤيد ما اقتصر عليه ابن الحاجب، لأن هبة الصديق رضي الله عنه لابنته أم المؤمنين رضي الله عنها، وقعت قبل المانع، وإنما أبطلها تأخر القبض حتى كان المانع، لأنه رضي الله عنه قال لها: فلو كنت جددتيه واحتزتيه كان ذلك لك، وأما الآن فإنما هو مال وارث، فالأمر واضح والتوفيق بيد الله عز وجل.
(6)
قوله: أو أرسلها ثم مات أو المعينة له، قال ابن قدامة في المغني: وإن مات الواهب أو =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الموهوب له قبل القبض، بطلت الهبة، قال: وقال أحمد في رواية أبي طالب وأبي الحارث في رجل أهدى هدية فلم تصل إلى المهدى إليه حتى مات، إنها تعود إلى صاحبها، وروي بإسناد عن أم كلثوم بنت أبي سلمة، قالت: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ سلَمَةَ قال لها: "إِنِّي قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقِيَ مِسْكٍ، وَلَا أرَى النَّجَاشِيَّ إلَّا قَدْ مَاتَ، وَلَا أَرَى هَدِيَّتِي إِلَّا مَرْدُودَةٌ إِلَيَّ فَإِنْ رُدَّتْ فَهِيَ لَكِ". قالت: فكان ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وردت عليه هديته فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مِسْك، وأعطى أمَّ سلمة بقية المسك والحلة. ا. هـ.
تنبيهٌ: ذكر ابن قدامة أنه حصل الاتفاق بين الفقهاء على أن ما وهبه المرء لذوي رحمه المحرم غير ولده، لا يجوز له الرجوع فيه، وكذلك ما وهبه الزوج لامرأته. قال: ووقع الخلاف فيما عدا هؤلاء. قال: فعندنا لا يرجع إلا الوالد، وعندهم لا يرجع إلا الأجنبي، وقد ذكر من مجوزي الرجوع النخعي، والثوري، وإسحاق، وأصحاب الرأي، قالوا: من وهب لغير ذي رحم فله الرجوع ما لم يثب عليها. ومن وهب لذي رحم فليس له الرجوع. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. واحتجوا بما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِه مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا". رواه ابن ماجه.
وأمَّا دليل من منع الرجوع فقد قدمنا أنه الحديث المتفق عليه: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ".
وأما المرأة تهب لزوجها. فقد اختلف العُلماء في ذلك، فقد قال قوم: لا رجوع لها في ذلك، ومن هؤلاء: عمر بن عبد العزيز، والنخعي، وربيعة، ومالك، والثوري، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وعطاء، وقتادة، وهو رواية عن أحمد.
والرواية الثانية: لها الرجوع. قال الأثرم: سمعت أحمد يسأل عن المرأة تهب ثم ترجع، فرأيته يجعل النساء غير الرجال، ثم ذكر الحديث:"إِنَّمَا يَرْجِعُ فِي الْمَوَاهِبِ النِّسَاءُ وَشِرَارُ الْأقْوَامِ". وذكر حديث عمر: إن النساء يعطين أزواجهن رغبةً ورهبة، وأيما امرأة أعطت زوجها شيئًا ثم أرادت أَن تعتصره فهي أحق به. رواه الأثرم بإسناده، قال: وهذا قول شريح والشعبي، وحكاه الزهري عن القضاة.
قال: ولأحمد رواية ثالثة نقلها عنه أبو طالب: إذا وهبت له مهرها، فإن كان سألها ذلك ردَّه إليها رضيت أو كرهت؛ لأنها لا تهب إلا مخافة غضبه أو إضرار بها بأن يتزوج عليها، وإن لم يكن سألها =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وتبرعت به فهو جائز. قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}
(1)
.
قال ابن قدامة: وظاهر كلام الخرقي الرِّواية الأولى للآية المتقدمة ولقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}
(2)
. ا. هـ. منه.
أما هبة الأب لابنه، فقد قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا وهب لولده الطفل دارًا بعينها، أو عبدًا بعينه، وقبضه له من نفسه وأشهد عليه، أن الهبة تامة، هذا قول مالك، والشافعي، والثوري، وأصحاب الرأي، وروينا معنى ذلك عن شريح وعمر بن عبد العزيز.
وقال ابن عبد البر: أجمع العُلماء على أن هبة الأب لابنه الصغير في حجره لا تحتاج إلى قبض، وأن الإِشهاد فيها يغني عن القبض وإن وليها أبوه، لما رواه مالك عن الزهري عن ابن المسيِّب أنَّ عثمان قال: من نحل ولدًا صغيرًا لم يبلغ أن يحوز نحلة، فأعلن ذلك وأشهد على نفسه، فهي جائزة وإن وليها أبوه.
وقال الشافعي: لابد أن يقول الوالد: قد قبلته له، لأن الهبة عنده لا تصح إلا بإيجاب وقبول. وقال ابن حنبل: أحب إِليَّ أن يقول: قد قبضته له. قيل فإن سها؟ قال: إن كان مفرزًا رجوت. قال ابن قدامة: وهذا موافق للإِجماع المذكور عن سائر العُلماء. وإن كان الواهب للصبي غير أبيه من أوليائه، فقد قال أصحاب مذهب أحمد: لابد أن يوكل من يقبل للصبي ويقبض له. قال ابن قدامة: والصحيح عندي أن الأب وغيره في هذا سواء؛ لأنه عقد يجوز أن يصدر منه، ومن وكيله فجاز له أن يتولى طرفيه كالأب.
قلت: وما ذهب إليه ابن قدامة جار على القاعدة الفقهية، أي على أحد شطريها وهو الراجح، وهي: هل اليد الواحدة يمكن أن تقبض وتدفع في آن واحد، وقد عقدها الشيخ علي الزقاق المغربي في المنهج المنتخب بقوله:
هل تقبض اليد وتدفع معا؟
…
وهل يكون قابضًا ما صنعا
كمال محجور لأول عرف
…
للثاني أجر صُنْع مصنوع تلف =
(1)
سورة النساء: 4.
(2)
سورة البقرة: 237.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وغير خاف عليك أن البيت الأول اشتمل على أصلين هما: اليد الواحدة، هل تكون قابضة دافعة في آن واحد؟ والثاني: المصنوع هل يكون قابضًا لصنعته وإن لم يقبضه ربه؟ كما لا يخفاك إن البيت الثاني اشتمل على أمثلة الأصلين على سبيل اللف والنشر المرتب.
أما المفاضلة بين الأولاد في العطية فقد جرى اختلاف العُلماء في جوازها ومنعها. قال أصحاب ابن حنبل: فإن خص أحدهم بعطية أو فاضل بينهم فيها أثم، ووجبت عليه التسوية إمَّا برد ما فضل به البعض، وإمَّا بإتمام نصيب الآخر، قالوا: وهذا قول طاوس، وابن المبارك، وروي معناه عن مجاهد، وعروة، وكان الحسن يكره ويجيزه في القضاء.
وقال مالك، والليث، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي: ذلك جائز. وروي معناه عن شريح، وجابر بن زيد، والحسن بن صالح؛ لأن أبا بكر نحل عائشة رضي الله عنهما جذاذ عشرين وسقًا دون سائر ولده، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير قال لبشير:"أَشْهِدْ عَلَى هذَا غَيْرِي" فهو أمر بتأكيد الهبة دون الرجوع فيها. قال العُلماء: فقوله في بعض روايات الحديث: "هذَا تَلْجِئَةٌ فَأَشْهِدْ عَلَى هذَا غَيْرِي". وفي بعض رواياته: "أَلَيْسَ يَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ واللُّطْفِ سَوَاءٌ". وفي بعض رواياته: "فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى هذَا. هذَا جَوْرٌ أَشْهِدْ عَلَى هذَا غَيْرِي. اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي النِّحَلِ كَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَعْدِلُوا بَيْنَكُمْ فِي الْبِرِّ وَاللُّطْفِ". قالوا: كل هذه الألفاظ تدل على صحة الهبة، وعلى أنه صلى الله عليه وسلم أرشد بهذه الألفاظ إلى ما هو أفضل؛ وهو العدل بينهم والتسوية، ولا خلاف بين علماء الأمة في أن ذلك أَفضل.
قلت: ويؤيد ما ذهب إليه أصحابنا ما وقفنا عليه من عمل الصحابة في هذا القبيل؛ فقد أثبت البيهقي بالإسناد أن أبا بكر رضي الله عنه فضل عائشة رضي الله عنها بنحل. قال: وقال الشافعي: وفضل عمر عاصم بن عمر بشيء أعطاه إياه، وفضل عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم، وساق البيهقي سندًا إلى ابن عمر أنه فضل بعض ولده بثلاثة أرؤس أو أربعة أقطعها له، وساق سندًا آخر إلى ابن عمر أنه فضل ولده واقدًا بأرض وقال: هذه الأرض لابني واقد، فإنه مسكين. نحله إياها دون ولده، ولم يبن لطالب العلم في في ذلك إلا أن ينظر بعين الإِنصاف وترك التعصب. وبالله التوفيق.
وأما التسوية بينهم فإنها كانت هي الأخرى محل أخذ ورد بين أهل العلم، ولا خلاف بينهم في =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= استحباب التسوية بين الأولاد في النحل وكراهة التفضيل، ولكنهم اختلفوا في تحقيق مناط تلك التسوية. فقد قال قوم: التسوية المستحبة أن يقسم بينهم على حسب قسمة الله تعالى الميراث؛ فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. هذا قول أحمد وعطاء، وشريح، وإسحاق، ومحمد بن الحسن.
وقال قوم، منهم مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وابن المبارك: التسوية بينهم أن تعطى الأنثى مثل ما يعطى الذكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد:"سَوِّ بَيْنَهُمْ". وعلَّل ذلك بقوله: "أَيَسُرُّكَ أَنْ يَستَوُوا فِي بِرِّكَ"؟ قال: نعم! قال: "فَسَوِّ بَيْنَهُمْ"، قالوا: والبنت كالابن في استحقاق برها، وكذلك في عطيتها، واحتجوا أيضًا بحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، وَلَوْ كُنْتُ مُؤْثِرًا لَآثَرْتُ النِّسَاءَ عَلَى الرِّجَالِ". رواه سعيد في سننه، واحتجوا من حيث النظر بأنها عطية في الحياة يستوي فيها الذكر والأنثى كالنفقة والكسوة.
وأما حق الوالد في الرجوع فيما وهبه لولده، فهو حق ثابت عند أصحابنا، وهو ظاهر مذهب ابن حنبل، سواء قصد برجوعه التسوية بين الأولاد، أو لم يرد ذلك. وبهذا يقول الشافعي، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور.
وقال أحمد في إحدى الروايتين عنه: لا يجوز له الرجوع فيها، وبهذا قال أصحاب الرأي والثوري والعنبري، واحتجوا بحديث:"الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ".
واحتج الجمهور على جواز رجوعه في هبته بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير: "ارْدُدْهُ". وفي رواية "أَرْجِعْهُ". كما احتجوا بحدِيث طاوس عن ابن عمر وابن عباس يرفعانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْطِيَ فَيَرْجِعَ إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي لِوَلَدِهِ". رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وأما الأم فليس لها الرجوع في هبتها لولدها إلا ما دام أبوه حيًا - عند أصحابنا - فإذا مات أبو صار يتيمًا، وهبة اليتيم لازمة كصدقة التطوع، ومعلوم أنه لا رجوع عندنا في صدقة التطوع، لقول عمر رضي الله عنه: من وهب هبة وأراد بها صلة الرحم أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع.
ولا فرق بين الصدقة والهبة عند أحمد والشافعي، والحجة عندهم عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي لِوَلَدِهِ". قالوا: وهو عموم يقدم على قول عمر، ثم هو خاص في الولد، وحديث عمر عام فيجب تقديم الخاص، وهذا قول وجيه من حيث الصناعة الفقهية، والله الموفق.
وإنْ سَكَنَ النِّصْفَ بَطَلَ فَقَطْ، والأكْثَرَ بَطَلَ الجَمِيعُ وَجَازَتْ الْعُمْرَى كأعْمَرتُكَ (1) أوْ وَارِثَكَ، وَرَجَعَتْ لْلِمُعْمِرِ أوْ وَارِثِهِ، كحُبُسٍ عَلَيْكُمَا وهُوَ لآخِرِكُمَا مِلْكًا، لَا. الرُّقْبَى (2) كَذَوَيْ دَارَيْنِ قَالَا: إن مُتَّ قَبْلي فَهُمَا لِي وإلَّا فَلَكَ، كَهِبَةِ نَخْلٍ وَاسْتِثْنَاءِ ثَمرَتِهَا سِنينَ والسَّقْيُ عَلى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَفرَسٍ لِمَنْ يَغْزُو سِنِينَ ويُنْفِقُ عَلَيْهِ المَدْفُوعُ لَهُ وَلَا يَبِيعُهُ لبَعْدِ الْأجَلِ. وللْأبِ اعْتِصَارُهَا مِنْ وَلدِهِ كأمٍّ فَقَطْ وَهَبَتْ ذا أبٍ وَإنْ مَجْنُونًا ولَوْ تيتَّمَ عَلى المُخْتَار. إلا فِيمَا أريدَ به الآخرةُ، كصَدَقَةٍ بِلَا شَرْطٍ إنْ لَمْ تَفُتْ لَا بِحَوَالَةِ سُوقٍ بَلْ بَزيْدٍ أوْ نَقْصٍ (3) ولَمْ يُنْكَحْ أوْ يُدَايَنْ لَهَا أوْ يَطأْ ثَيِّبًا أوْ يَمْرُضْ كوَاهِبٍ إلَّا أنْ يَهَبَ عَلى هذِهِ الأحْوالَ أوْ يزولَ الْمَرضُ عَلى المخْتَارِ.
وَكُرِهَ تَمَلُّكُ صَدَقِةٍ بِغَيْرِ ميراثٍ (4) وَلَا يَرْكَبُهَا أوْ يَأكُلَ مِنْ غَلَّتِهَا، وَهَلْ إلَّا أن يَرْضَى الإِبْنُ الْكَبيرُ بِشُرْب اللَّبَنِ؟ تأويلان. وينفِقُ عَلى أبِ افْتَقَرَ مِنْها، وتَقْويمُ جَارِيَةٍ أوْ عَبْدٍ لِلضَّرُورَةِ ويُسْتَقْصَى. وجَازَ شَرْطُ الثَّوابِ، وَلَزمَ بتَعْيينه (3)، وصُدِّقَ واهِبٌ فِيهِ إن لَمْ يَشْهَدْ عُرْفٌ بِضِدِّهِ وإنْ لِعُرْسٍ، وهَلْ
(1)
وقوله: وجازت العمرى كأعمرتك، قال ابن عرفة: العمرى تمليك منفعة حياة المعطى، بغير عوض، وحكمها الندب، ويتعذر عروض وجوبها. قال الباجي: وصيغة العمرى ما دل على هبة المنفعة دون الرقبة؛ كأسكنتك هذه الدار، ووهبتك سكناها عمرك. قال في المدونة: وإن قال: سكنتك هذه وعقبك. رجعت إليه ملكًا بعد انقراضهم، فإن مات فلأقرب الناس به يوم مات أو إلى ورثتهم. ا. هـ المواق.
(2)
وقوله: لا الرقبى، قال المواق: لم يعرف مالك الرقبى ففسرت له فلم يجزها. وهي أن تكون داران بين رجلين فيحبسانهما على أن من مات منهما أولًا فنصيبه حُبُسٌ على الآخر. ا. هـ. المواق.
وقال ابن قدامة في المغني: العمرى والرقبى نوعان من الهبة يفتقران إلى ما يفتقر إليه سائر الهبات؛ من الإيجاب والقبول والقبض أو ما يقوم مقام ذَلك عند من اعتبره. وصورة العمرى أن يقول: أعمرتك =
يحْلِفُ أوْ إنْ أشْكَلَ؟ تأويلَان في غيْرِ المسْكُوكِ إلَّا لِشَرْطٍ. وهِبَةُ أحَدِ الزوجَيْنِ للآخَرِ ولِقَادِمٍ عِنْدَ قدُومِهِ وَإنْ فَقِيرًا لِغَنيٍّ ولا يأخُذُ هِبَتَهُ وإنْ قائمَةً ولَزِمَ واهِبَهَا لا المَوْهوبَ لَهُ الْقِيمَةُ إلَّا لفَوْتٍ بِزيْدٍ أو نَقْصٍ، ولَهُ مَنْعُهَا حَتَّى يَقْبِضَهُ وأثيب ما يُقْضَى عنه بِبَيْع وإنْ مَعِيبًا إلَّا كَحَطَبٍ فَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُه وللْمَأذُونِ وللأبِ في مَالِ ولَدِهِ الْهِبَةُ، وإنْ قَالَ دَاري صَدَقةٌ بِيَمِينٍ مُطْلَقًا أوْ بِغَيْرهَا وَلَمْ يُعَيِّنْ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِخِلَاف المُعَيَّنِ، وفي مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ قَوْلَانِ. وقُضِي بَيْنَ مُسْلِمٍ وذِمِّيٍّ فيها بِحُكْمِنَا.
= داري هذه، أو هي لك عُمْرَى، أو ما عشت، أو مدة حياتك، أو ما حييت، ونحو هذا، قال: وسميت عمرى لتقييدها بالعمر.
قال: والرقبى أن يقول: أرقبتك هذه الدار، أو هي لك حياتك على أنك إن مت قبلي عادت إليَّ، وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك. فكأنه يقول: هي لآخرنا موتًا، وبذلك سميت رقبى؛ لأن كل واحد منهما يرقب موت صاحبه. ا. هـ.
وقال مالك والليث: العمرى تمليك المنافع، ولا تملك رقبة المعمر بحال، ولكون للمعمر السكنى، فإذا مات عادت إلى المعمر، وإن قال له: ولعقبك، كان سكناها لهم، فإذا انقرضوا عادت إلى المعمر. والحجة عندهما ما روى يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم قال: سمعت مكحولًا يسأل القاسم بن محمد عن العُمْرى، ما يقول الناس فيها؟ فقال القاسم: ما أدركت الناس إلَّا على شروطهم في أموالهم وما أعطوا.
وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي عن ابن الأعرابي: لم يختلف العرب في العُمرى، والرقبى، والإِقفار
(1)
، والإِحبال
(2)
، والمنحة، والعرية، والعارية، والسكنى، والإِطراق
(3)
، إنها على ملك =
(1)
الإِقفار: إعارة البعير للركوب.
(2)
إباحة الفحل ليطرق في الإِناث فتحبل.
(3)
إباحة الطريق للمملوك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أربابها، ومنافعها لمن جعلت له، ولأن التمليك لا يتأقت، كما لو باعه إلى مدة، فإذا كان لا يتأقت حمل قوله على تمليك المنافع، لأنه يصح تمليكه.
وذهب قوم إلى أن العمرى تنقل الملك إلى المعمر، منهم جابر بن عبد الله، وابن عمر، وابن عباس، وشريح، ومجاهد، وطاوس، والثوري، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي، واحتجوا بِما روى جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ لَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ". رواه مسلم، وفي لفظ: قَضى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ. متفق عليه. وروى ابن ماجة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا رُقْبى، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ". وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العمرى للوارث. واحتجوا أيضًا بما رواه مالك في الموطإ؛ يعني حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا، لَا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا، لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ".
قال ابن قدامة: هو حديث صحيح رواه جابر، وابن عمر، وابن عباس، ومعاوية، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، قال: وقول القاسم لا يقبل في مخالفة من سمينا من الصحابة والتابعين، فكيف يقبل في مخالفة قول سيد المرسلين؟. قال: ولا يصح أن يدعى إجماع أهل المدينة لكثرة من قال بها منهم. ا. هـ. منه.
(3)
وقول المُصَنِّف رحمة الله عليه: إن لم تفت لا بحوالة سوق بل يزيد أو نقص الخ. يريد به، والله أعلم أن للرجوع في هبة الولد شروطًا:
منها: أن تكون الهبة باقية في ملك الولد، فإن خرجت عن ملكه ببيع، أو هبة، أو أي تصرف يخرجها عن ملكه، لم يكن للوالد الرجوع فيها، ولو عادت إلى الولد بسبب جديد من بيع أو وصية أو هبة أو إرث ونحو ذلك لم يك للوالد الرجوع فيها.
ومنها: أن لا يتصرف الولد فيها تصرفًا يفوتها؛ كأن يستولدها. وإن رهن العين الموهوبة، أو أفلس وحجر عليه، لم يملك الأب الرجوع فيها، لأن في ذلك إبطالًا لحق غير ولده.
ومنها: أن لا يتعلق بالهبة رغبة لغير ولده، فإن تعلقت رغبة غير الولد بالهبة فليس للوالد ردها، كأن يهب لولده هبة فيرغب الناس فيه من أجلها، فزوجوه أو حملوه دينًا، فإنه إن رجع في الهبة كان كمن غرَّ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= هؤلاء، وليس له الرجوع حينئذ في هبته لقوله صلى الله عليه وسلم:"لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ". وفي الرجوع ضرر.
وأما تغير الهبة بحوالة سوق، فقد نقل المواق عن الباجي قوله: لم يمنع ذلك الاعتصار. قاله مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ، لأن الهبة على حالها، وزيادة القيمة ونقصها لا تعلق له بها ولا تأثير له في صفتها، فلم يمنع الاعتصار كنقلها من موضع لآخر، وأما إن تغيرت الهبة في عينها، فقد قال مطرف وابن الماجشون: زيادتها في عينها ونقصها لا يمنع الاعتصار، وقال أصبغ: يمنع ذلك اعتصارها وهو الظاهر من قول مالك وابن القاسم، لأن تغير حالة ذمة المعطي يمنع الاعتصار، فلأن يمنعه تغير الهبة أولى وأحرى. ا. هـ. منه بتصرف قليل.
وقال الحطاب: حكى في معين الحكام قولين في فوات الاعتصار بحوالة السوق، فيحتمل أن يكون المُصَنِّف اعتمد القول بالإِفاتة.
(4)
وقول المصنف: وكره تملك صدقة بغير ميراث، قال مالك لا يشتري الرجل صدقته من المتصدق عليه ولا من غيره، وقال محمد: ولا ترجع إليه باختبار من شراء أو غيره، وإن تداولتها الأملاك. واختلف، هل النهي على الندب أو الوجوب؟ فقال مالك: لا ينبغي أن يشتريها. وقال: يكره، وظاهر الموازية أنه لا يجوز. قال اللخمي: والأول أحسن لأن المثل ضرب لنا بما ليس بحرام. انتهى من المواق، ودليل نهي المتصدق عن تملك ما تصدق به، الحديث المتفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن اشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"لَا تَشْتَرِهِ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ وَإنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ في قَيْئِهِ".
وأما رجوع الصدقة إلى المتصدق بالإِرث، فهو جائز اتفاقًا، لما أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت تصدقت على أمي بوليدة، وإنها ماتت وتركت تلك الوليدة؟ قال. "وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَجَعَتْ إِلَيْكِ فِي الْمِيرَاثِ" قال الشوكاني: ويجمع بجواز تملك الشيء المتصدق به بالميراث، لأن ذلك ليس مشبهًا بالرجوع عن الصدقة دون سائر المعاوضات. ا. هـ.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها، رواه أحمد، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والبخاري، وأبو داود، والترمذي. كذا قال في منتقى الأخبار.
وعن ابن عباس أن أعرابيًا وهب النبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها، قال:"أَرَضِيتَ"؟ قال: لا. فزاده، قال:"أَرَضِيتَ"؟ قال: لا. فزاده، قال" أَرَضِيتَ"؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لَقَدْ هَمَمْتُ أَلَّا أَتَّهِبَ هِبَةً إِلَّا قُرَشِيٌّ أَوَ أَنْصَارِيٌّ أَوْ ثَقَفِيٌّ". أخرجه في منتقى الأخبار وقال: رواه أحمد.
قال الشوكاني: حديث ابن عباس أخرجه أيضًا ابن حبان في صحيحه، وقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح. وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة بنحوه وطوله، ورواه من وجه آخر وبين أن الثواب كان ست بكرات. وكذا رواه الحاكم وصححه على شَرط مسلم. قال: واستدل المالكية بهذا الحديث على وجوب المكافأة على الهدية إذا أطلق المهدي وكان مثله ممن يطلب الثواب كأن يهدي فقير لغني، بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى. قال: ووجه الدلالة منه مواظبته صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. منه.
(5)
وقوله: وجاز شرط الثواب ولزم بتعيينه، قال ابن قدامة: الهبة المطلقة لا تقتضي ثوابًا، سواء كانت من الإِنسان لمثله، أو لمن هو دونه، أو أعلى منه، قال: وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة في الهبة لمثله أو دونه مثل قولنا. وإن كانت لأعلى منه فإنها تقتضي الثواب عند مالك لقول عمر بن الحطاب رضي الله عنه: ومن وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يرض عنها.
وقال أصحاب أحمد: إنها عطية على وجه التبرع فلم تقتض ثوابًا كهبة المثل، وحديث عمر احتجوا بأنه خالفه ابنه وابن عباس.
وقال ابن قدامة: فإن شرط في الهبة ثوابًا معلومًا صح، خلافًا للشافعي. قال: لأنه شرط في الهبة ما ينافي مقتضاها. وقال: فإذا قال الواهب: هذا لك على أن تثيبني. فله أن يرجع إذا لم يثبه؛ لأنه شرط، قال: والأصل في هذا قول عمر المتقدم: من وهب هبة أراد بها الثواب فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يعوض، قال: وروي معنى ذلك عن عليٍّ، وفُضالة بن عبيد، ومالك بن أنس، وهو قول الشافعي على القول الذي يرى أنه الهبة المطلقة تقتضي ثوابًا. ا. هـ. منه.
اللقطة
بَابٌ: اللُّقَطَةُ مالٌ مَعْصُومٌ عَرَضَ للضَّيَاعِ (1)، وإنْ كَلْبًا وفَرَسًا وحمَارًا (2)، ورُدَّ بِمَعْرِفَةِ مَشْدُودٍ فِيهِ وبِهِ (3) وعَدَدِه، بِلَا يَمينٍ، وقُضِيَ لَهُ عَلى ذي الْعَدَدِ وَالوَزْنِ، وإنْ وَصَفَ ثَانٍ وَصْفَ أولٍ وَلَمْ يَبِنْ بِهَا حَلَفَا وقُسِمَتْ كَبَيِّنَيْنِ لَمْ يُؤرِّخَا، وإلَّا فلِلْأقْدَمِ. ولَا ضَمَانَ عَلى دَافعٍ بِوَصْفٍ وإنْ قَامَتْ بيِّنَةٌ لِغَيْرِهِ، واستُؤْنيَ بالوَاحِدَةِ إن جَهِلَ غَيْرَهَا، لَا غَلِطَ على الأظْهَرِ، ولم يَضُرَّ جَهْلُهُ بِقَدْرِهِ ووجب أَخْذُهُ لِخَوْفِ خَائنٍ (4) لا إن عَلِمَ خِيَانَتَهُ هُوَ فَيَحْرُمُ وإلَّا كُرهَ على الأحْسَنِ. وتعرِيفُه سَنَةً وَلَوْ كدَلْوٍ، لَا تَافِهًا، بِمَظانِّ طَلَبِهَا بِكَبَابِ مسَجْدٍ (5) في كُلِّ يَوْمَيْنِ أوْ ثَلَاثَةٍ بِنَفْسِهِ أوْ بِمَنْ يَثِقُ به أو بأجرةٍ مِنْهَا إنْ لَمْ يُعَرِّفْ مِثْلُهُ، وِبالْبَلدَيْنِ إنْ وُجِدَتْ بَيْنَهُمَا، ولَا يَذْكُرُ جِنْسَهَا عَلى المخْتَارِ. وَدُفِعَتْ لِحَبْرٍ إنْ وُجِدَتْ بَقَرْيَةٍ ذمِّيَّةٍ، ولَهُ حَبْسُهَا بَعْدَهُ أو التَّصَدُّقُ أو التَّملُّكُ وَلَوْ بمكَّةَ (6)
كتاب اللقطة
اللقطة، قال الخليل بن أحمد: هي بفتح القاف اسم للملتقط، لأن ما جاء على فُعَلَة - بضم الفاء وفتح العن - هو اسم للفاعل نحو: هُمَزةٍ لمزَةٍ، وضُحَكَةٍ، وهُزَأَةٍ، قال: واللقْطة بسكون القاف، المالُ الملقوط، مثل الضُّحْكَةِ، للذي يضحك منه، والهُزْأة للذي يهزأ به. وقال الأصمعي وابن الأعرابي: هي بفتح القاف اسم للمال الملقوط أيضًا. ا. هـ. ابن قدامة.
وقال الحطاب: هي بضم اللام وفتح القاف، هكذا ضبطها الأكثر، وعليه استعمال الفقهاء وهو خلاف القياس، وبعضهم أنكر فتح القاف وزعم أنها بالسكون على الأصل، وبعضهم رواها بالوجهين. منهم ابن الأثير وقال: الفتح أصح. ومنهم ابن العربي وقال: السكون أولى. ا. هـ.
(1)
قوله: اللقطة مال معصوم عرض للضياع: الأصل في اللقطة ما رواه زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق فقال: "اعْرِفْ وِكاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فإن لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا من الدَّهْرِ فَادْفَعْهَا إلَيْهِ"، وسأله عن ضَالة =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الإبل، فقال:"مَا لَكَ وَلَهَا؟ دَعْهَا فَإنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا". وسأله عن الشاة، فقال:"خُذْهَا، فَإنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ، أوْ للذِّئْبِ". والحديث متفق عليه.
فاللقطة مال ضاع على ربه، يلتقطه غيره.
(2)
وقوله: وإن كلبًا وفرسًا وحمارًا، الظاهر أن ضائع الحيوان لا يطلق عليه لقطة في الاصطلاح؛ لأن المتعارف أن ضائع الحيوان يقال له ضالة، جمعها ضَوَالٌّ ويقال لها أيضًا الْهَوَامَى والهَوامِلُ، ألا ترى إلى ألفاظ الحديث كيف سأله أولًا عن لقطة الذهب والورق، ثم لما أجابه عن ذلك سأله عن الضوال. والذي يظهر، والله أعلم، أن ضالة البقر والخيل والحمير، إن تكن بأرض مضيعة أنها تلتقط لحفظها لصاحبها، وإن كانت بأرض أمينة يتوفر بها الماء والمرعى فالأحسن تركها تأكل من ذلك المرعى وتشرب من الماء حتى يجدها ربها.
(3)
وقوله: ورد بمعرفة مشدود فيه وبه، قال في المدونة: من التقط لقطة فأتى رجل فوصف عِفاصها ووكاءها وعدتها لزمه أن يدفعها إليه، ويجبره السلطان على ذلك. قال أبو عمر: أجمعوا على أن العفاص: الخرقة المربوط فيها، وهي لغة ما يسد به فم القارورة، والوكاء: الخيط الذي تربط به. ا. هـ. المواق.
قلت: قوله في المدونة: فوصف عفاصها ووكاءها وعددها، زيادة العدد هنا على ما جاء في حديث زيد بن خالد الجهني، يشهد لها ما جاء في حديث أبيّ بن كعب فإن فيه: فعرفتها حولًا ثم أتيته فقلت: لم أجد من يعرفها. فقال: "احْفظ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فإنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا". متفق عليه. قال الخطابي في معالم السنن في الكلام على حديث أبيِّ بن كعب: فيه دلالة على أنه إذا وصف اللقطة وعرف عددها دفعت إليه من غير تكليف بينة سواها، وهو مذهب مالك وأحمد، وقال الشافعي: إن وقع في نفسه أنه صادق، وقد عرف العفاص والوكاء والعدد والوزن دفعها إليه إنْ شاء، ولا أجبره على ذلك إلا ببينة، وكذلك قال أصحاب الرأي. قال الخطابي: ظاهر الحديث يوجب دفعها إليه إذا أصاب الصفة، وهو فائدة قوله:"عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا" فإن صحت هذه اللفظة في رواية حماد، وهي قوله:"فَعَرفَ عَدَدَهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ". كان ذلك أمرًا لا يجوز خلافه، وان لم يصح فالاحتياط مع =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= من لم ير الرد إلا بالبينة، لقوله عليه الصلاة والسلام:"الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي".
قال أبو داود: ليس يقول هذه الكلمة إلا حماد في هذا الحديث. يعني "فَعَرفَ عَدَدَهَا". وفي التعليق على النسخة التي بيدي من أبي داود، طبعة دار الحديث بحمص، ما نصه: وليس في حديث البخاري ومسلم: "فَعَرَفَ عَدَدَهَا وَوِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا". وفي حديث الترمذي: "فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا فَأَخْبَرَكَ بِعِدَّتِها وَوِعَائِها وَوِكَائِهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ". وفي حديث النسائي: "فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُ بِعَدَدِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا فَاعْطِهَا إِيَّاهُ". ا. هـ.
يتحصل منه أن قول المدونة: فوصف عفاصها ووكاءها وعدتها لزمه أن يدفعها إليه، لها أساس من السنة المرفوعة إليه صلى الله عليه وسلم، والله الموفق.
(4)
وقوله: ووجب أخذه لخوف خائن، قال ابن قدامة: واختار أبو الخطاب إذا وجدها بمضيعة، وأمن نفسه عليها فالأفضل أخذها، وهذا قول الشافعي، وحكي عنه قول آخر أنه يجب أخذها لقوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
(1)
. قال: فإذا كان وليه وجب عليه حفظ ماله. وممن رأى أخذها سعيد بن المسيب، والحسن بن صالح، وأبو حنيفة، وأخذها أبي بن كعب وسويد بن غفلة، وقال مالك: إن كان شيئًا له بال يأخذه أحب إليَّ ويعرفه؛ لأن فيه حفظ مال المسلم. وقال الإِمام أحمد: الأفضل ترك الإِلتقاط، وروي معنى ذلك عن ابن عباس وابن عمر، وبه قال جابر، وابن زيد، والربيع بن خيثم، وعطاء.
(5)
وقوله: وتعريفه سنة ولو كدلوٍ، لا تافهًا، بمظان طلبها بكباب مسجد، المواق - قال مالك: من التقط دنانير أو دراهم أو حليًا مصوغًا أو عرضًا أو شيئًا من متاع أهل الإِسلام، فليعرفها سنة، فإن جاء صاحبها أخذها، وإلا تم أمره بأكلها، كثرت أو قلّت، درهم فصاعدًا، إلا أن يحب بعد السنة أن يتصدق بها، ويخير صاحبها إن شاء في أن يكون له ثوابها أو يغرمها.
وقال في المدونة: يعرف اللقطة حيث وجدها، وعلى أبواب المساجد، ويعرف حيث يعلم أن صاحبها هناك أو خبره، ولا يحتاج في ذلك إلى أمر الإِمام؛ لأن الإِنسان مندوب إلى فعل الخير والعون عليه، وهذا منه. ويكون التعريف بالمساجد بأبوابها لكراهة رفع الصوت في المسجد، قالوا. ولو مشى =
(1)
سورة التوبة: 71.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إلى الحلق في المسجد يعرفها بغير رفع صوت فلا بأس. قال ابن قدامة: ومكان التعريف الأسواق وأبواب المساجد، والجوامع، في الوقت الذي يجتمعون فيه كأدبار الصلوات في المساجِد، وكذلك في مجامع الناس. وحكم التعريف الوجوب، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به زيد بن خالد الجهني وأبيَّ بن كعب ولم يقيد، فكان أمرًا مطلقًا. ومدة التعريف سنة كاملة، روي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وبه قال ابن المسيِّب، والشعبي ومال، والشافعي، وأحمد وأصحاب الرأي. ودليل ذلك حديث زيد بن خالد المتفق عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره فيه بتعريفها سنة. ويجب التعريف فور التقاطها؛ لأن ذلك أحرى أن يصل خبرها إلى صاحبها، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعريفها حين سئل عنها، والأمر يقتضي فور الامتثال.
قالوا: وكيفية التعريف؛ هي أن يذكر جنسها لا غير، كأن يقول من ضاع له ذهب؟ أو فضة؟ أو دنانير، أو ثياب، ونحو ذلك. لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لواجد الذهب في طريق الشام، ولا توصف اللقطة لأنه إن وصفها لعلم صفتها من يسمعها، فلا تبقى صفتها دليلًا لمالكها لمشاركة غير المالك في ذلك، ولأنه لا يؤمن أن يدعيها بعض من يسمع صفتها.
قال ابن قدامة: ولا خلاف بين أهل العلم في إباحة أخذ اليسير، وقد روي ذلك عن عمر، وعليّ، وابن عمر، وعائشة، وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، وطاوس، والنخعي، ويحيى بن أبي كثير، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي.
أما تحديد ذلك اليسير المباح، فقد قال مالك وأبو حنيفة: لا يجب تعريف ما لا تقطع فيه اليد، وهو ربع دينار عند أصحابنا، وعشرة دراهم عند أبي حنيفة، قالوا: لأن ما دون ذلك تافه فلا يجب تعريفه، والدليل على أنه تافه، قول عائشة رضي الله عنها، كانوا لا يقطعوت في الشيء التّافه.
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري أن عليَّ بن أبي طالب وجد دينارًا فأتى به فاطمة، فسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"هُوَ رِزْقُ اللَّهِ عز وجل". فأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل عليّ وفاطمة، فلما كان بعد ذلك أتته امرأة تنشد الدينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يَا عَلَيُّ أَدِّ الدينَارَ". رواه أبو داود، وفى سنده رجل مجهول.
أما مذهب أحمد، فقال: لا فرق في تعريف اللقطة بين يسيرها وكثيرها إلا ما كان من ذلك تافهًا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= جدًّا مثل العصا، والسوط، والحبل وأشباه ذلك، واستدلوا لذلك بما رواه ابن ماجة بإسناده عن سويد بن غفلة، قال: خرجت مع سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان حتى إذا كنَّا بالعذيب التقطت سوطًا، فقالا لي: ألقِهِ، فأبيت حتى قدمنا المدينة، أتيت أُبيّ بن كعب، فذي ت ذلك له، فقال أصبت، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(6)
وقوله: وله حبسها ليأتي ربُّها، أو التصدق أو التملك ولو بمكة، نسب المواق هنا للجلاب: إنْ مضت السنة ولم يأت طالبها، فهو مخير إن شاء أنفقها أو تصدق بها وضمنها، أو حبسها ليأتي ربها، قال اللخمي: ثبت في الحديث: "عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا". وفي النسائي: "فَإِنْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا فَهُوَ مَالٌ لِلَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ". قال: فتضمنت هذه الأحاديث أن الحكم فيها بعد الحول خلافه قبله، وله أن يتصرف لنفسه. والذي يقتضيه قول ابن القاسم في المدونة أن له أن ينتفع بها، غنيًا كان فقيرًا، وقال مالك في الذي اشترى كبَّة الخيوط من المغنم بدرهم، فوجد فيها صليب ذهب فيه سبعون مثقالًا: له أن يحب لنفسه لنفسه. قال ابن رشد: لأنه لما لم يمكنه قسمة ذلك على الجيش لافتراقه، صار حكمه حكم اللقطة بعد التعريف، واليأس من وجود صاحبها، في جواز أكلها لملتقطها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"فَشَأْنَكِ بِهَا". لأن مالكًا إنما كره له أكلها بعد التعريف مخافة أن يأتي صاحبها فيجده عديمًا لا شيء له، ولو علم أنه لا يجد صاحبها أبدًا لما كره له أكلها، قال: وافتراق الجيش في هذه المسألة كاليأس من وجود صاحبها، قال: وهذا في الأربعة الأخماس الواجبة للجيش، وأما الخمس فواجب عليه أن يضعه في مواضع الخمس. ا. هـ.
ومن الأدلة على صحة تملكها بعد انقضاء السنة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد: "فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ فَاسْتَنْفِقْهَا". وبعض ألفاظ الحديث " وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيل مَالِك". وفي لفظ: "فَانْتَفعْ بِهَا". وفي لفظ "فَاسْتَمْتعْ بِهَا" وفي لفظ: "فَشَأْنَكَ بِهَا". وفي لفظ: "ثُمَّ كُلْهَا".
وقوله: ولو بمكة، من أدلته فتوى ابن عمر: روى الجوزجاني بإسناده عن الحر بن الصبَّاح: كنت عند ابن عمر بمكة إذْ جاء رجل فقال: إني وجدت هذا البرد وقد نشدته وعرفته، فلم يعرفه أحد، وهذا يوم التروية ويوم يتفرق الناس، فقال: إن شئت قومته قيمة عدل ولبسته، وكنت له ضامنًا متى جاءك صاحبه دفعت إليه ثمنه، وإن لم يجئ له طالب فهو لك إن شئت. ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال ابن قدامة: وظاهر كلام أحمد والخرقي أن لقطة الحل والحراس سواء، وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وابن المسيب، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة. قال: وروي عن أحمد رواية أخرى أنه لا يجوز التقاط لقطة الحرم للتملك. وهو قول عن الشافعي، وله مذهب كالأول، والحجة للقول الأخير ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في مكة:"لَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لَمُنْشِدٍ". متفق عليه، قال أبو عبيد: معناه، لا تحل لقطة مكة، إلا لمن يعرفها، فهو محتمل جدًّا لهذا المعنى، علمًا بأن من يقول: لا فرق بين لقطة الحل والحرم. تمسك بعموم الأحاديث، مع أن قوله صلى الله عليه وسلم:"إِلَّا لِمُنْشِدٍ" يحتمل أن يريد: إلا لمن يعرفها عامًا، وتخصيصها بذلك لتأكدها. ا. هـ. منه بتصرف.
تنبيهٌ: ذكر الحطاب هنا، قال النووي في شرح مسلم: وفي جميع أحاديث الباب دليل على أن التقاط اللقطة وتملكها لا يفتقر إلى حكم حاكم ولا إلى إذن سلطان، وهذا مجمع عليه، وفيها أنه لا فرق بين الغني والفقير، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور. والله أعلم.
قال: وفي التمهيد: أجمعوا على أن للفقير أن يأكلها بعد الحول وعليه الضمان، وأخلفوا في الغني، فقال مالك أحب أن يتصدق بها بعد الحول ويضمنها، وقال الشافعي: يأكل اللقطة الغني والفقير بعد حول، وهذا تحصيل مذهب مالك. ا. هـ. منه بتصرف قليل.
قلت: قال الخطابي في معالم السنن: وفي قوله: "فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإلَّا فَاسْتَمْتعْ بِهَا".
دليل على أنه له أن يتملكها بعد السنة، ويأكلها بعد السنة إن شاء، غنيًا كان الملتقط لها أو فقيرًا، قال: وكان أبيّ بن كعب من مياسير الصحابة، ولو كان لا يجوز للغني أن يتملكها بعد تعريف السنة لأشبه أن لا يبيح له الاستمتاع بها إلا بالقدر الدي لا يخرجه عن حد الفقير إلى حد الغني، فلما أباح له الاستمتاع بها كلها، دل على أن حكم الغني والفقير لا يختلف في ذلك، وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وقد روي عن عمر بن الخطاب وعائشة إباحة التملك والاستمتاع بعد السنة.
وقالت طائفة: إذا عرفها سنة فلم يأت صاحبها، تصدق بها. روي ذلك عن عليّ، وابن عباس، وهو قول الثوري، وأصحاب الرأي، وإليه ذهب مالك. ا. هـ. منه.
ضَامِنًا فِيهِمَا، كَنِيَّةِ أخْذِهَا قَبْلَهَا وَرَدَّهَا بَعْدَ أخْذِها لِلْحِفْظِ، إلَّا بِقُرْبٍ فتأويلَانِ (1) وَذُو الرِّقِّ كَذلِكَ، وقَبْل السَّنَةِ في رقبَتِهِ، ولَهُ أكْلُ ما يَفْسُدُ وَلَوْ بقرْيَةٍ، وشَاةٍ بِفَيْفَاء (2) كَبَقَرٍ بِمَحَلِّ خَوْفٍ وإلَّا تُرِكتْ (3) كإبِلٍ، وإن أُخِذَتْ عُرِّفَتْ ثُمَّ تُرِكَتْ بِمَحَلِّهَا (4)، وكِرَاءُ بَقَرٍ ونَحْوِهَا في عَلَفِهَا كِرَاءً مَضْمُونًا، ورُكوبُ دَابَّةٍ لِمَوْضِعِهِ وإلَّا ضَمِنَ، وغَلَّاتُهَا دُونَ نَسْلِهَا، وخُيِّرَ رَبُّهَا بَيْنَ فكِّهَا بالنَّفَقَةِ أوْ إسْلَامِهَا. وَإنْ بَاعَهَا بَعْدَهَا فَمَا لرَبِّهَا إلَّا الثَّمنُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَهَا بِيَدِ المِسْكِين أوْ مُبْتَاعٍ مِنْهُ فَلَهُ أخْذُهَا، ولْلِمُلْتَقِطِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ إنْ أخَذَ مِنْهُ قَيمَتَهَا إلَّا أن يَتَصَدَّقَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، وإنْ نَقَصَتْ بَعْدَ نيَّةِ تملُّكِهَا فَلِرَبِّهَا أَخْذُهَا أوْ قيمَتهَا. وَوَجَبَ لَقْطُ طِفْلٍ نُبِذَ كِفَايَةً (5)، وحَضَانَتُهُ ونَفَقَتُهُ، إن لم يُعْطَ مِنَ الْفَيءِ (6) إلَّا أنْ يَمْلِكَ كَهِبَةٍ أوْ يوجَدَ مَعَهُ أوْ مَدْفُونٌ تَحْتَهُ إنْ كانَتْ مَعَهُ رقْعَةٌ، وَرُجُوعُهُ عَلى أبِيهِ إنْ طَرَحَهُ عَمْدًا، والْقَوْلُ لَهُ أنَّه لَمْ يُنْفِقْ حِسْبَةً وَهُوَ حُرٌّ وولاؤه للمسلمين (7).
(1)
وقوله وردها بعد أخذها للحفظ، إلا بقرب فتأويلان: قال في المدونة: من التقط لقطة بعد أن حازها وبان بها وردها لموضعها أو لغيره، ضمنها، وأما إن ردها في موضعها مكانه في ساعته؛ كمر مر في أثر رجل فوجد شيئًا فأخذه وصاح به: أهذا لك؟ فيقول: لا، فيتركه فلا شيء عليه، وقاله مالك في واجد الكساء في أثر رفقة فأخذه وصاح: ألكم هذا؟ فقالوا: لا، فرده، قال: قد أحسن في رده ولا يضمن. ا. هـ. مواق.
قال ابن قدامة: إذا أخذ اللقطة ثم ردها إلى موضعها، ضمنها. روي ذلك عن طاوس، وبه قال الشافعي.
وقال مالك: لا ضمان عليه لما روى الأثرم عن القعنبي، عن مالك عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن ثابت بن الضحاك، عن عمر أنه قال لرجل وجد بعيرًا: أرسله حيث وجدته. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولما روي عن جرير بن عبد الله أنه رأى في بقره بقرة قد لحقت بها، فأمر بها فطردت حتى توارت. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وشاة بفيفاء: قال الخطابي في معالم السنن: وقوله صلى الله عليه وسلم: "هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ". فيه دليل على أنه إنما جعل هذا حكمها إذا وجدت بأرض فلاة يخاف عليها الذئب فيها، أما إذا وجدت في قرية أو بين ظهراني عمارة فسبيلها سبيل اللقطة في التعريف، إذا كان من المعلوم أن الذئاب لا تأوي إلى الأمصار والقرى.
وقال مالك وأبو عبيد وابن المنذر في الشاة توجد بالصحراء: اذبحها وكلها، وفي المصر ضُمَّها حتى يجدها صاحبها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"هِيَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ" والذئب لا يكون في المصر.
وقال الحنابلة: لملتقطها أكلها سواء وجدها في الصحراء أو في المصر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"هِيَ لَكَ أَوْ لأَخِيكَ" فأضافها إِليه بلام التمليك، وقال:"خُذْهَا". ولم يفرق ولم يستفصل، ولو افترق الحال لسأل واستفصل.
قلت: هذا القول وجيه جدًّا من حيث الصناعة الأصولية، والله الموفق. ا. هـ.
ولهذا قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي وغيرهم: فله أكلها في الحال. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أن ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ". فجعلها له في الحال، وسوَّى بينه وبين الذئب، والذئب لا يستَأني بأكلها، ومتى ما أراد أَكلها حفظ صفتها، فإذا جاء صاحبها غرمها في قول عامة أهل العلم إلَّا مالكًا، فإنه قال: كلها ولا غرم عليك لصاحبها، ولا تعريف لها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"هِيَ لَكَ" ولم يوجب فيها تعريفًا ولا غرمًا، وسوَّى بينه وبين الذئب، والذئب لا يعرف ولا يغرم، قال ابن عبد البر: لم يوافق مالكًا أحدٌ من العُلماء على قوله هذا. قال: وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو: "رُدَّ عَلَى أَخِيكَ ضَالَّتَهُ" دليل على أن الشاة ملك لصاحبها. ا. هـ. المغني.
(3)
وقوله: كبقر بمحل خوف وإلا تركت، قال المواق، قال ابن القاسم: وضالة البقر إن كانت بموضع يخاف عليها من السباع والذئاب، فهي كالغنم، وإن كانت لا يخاف عليها من السباع والذئاب فهي كالإبل. ا. هـ. منه. والله أعلم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (4) وقوله: كإبل فإن أخذت عرفت ثم تركت بمحلها، قال الحطاب: ظاهره أن هذا في جميع الأزمان، قال في المقدمات: وهو ظاهر قول مالك في المدونة، وفي سماع أشهب من العتبة، وقيل: هو خاص بزمن العدل وصلاح الناس، وأما في الزمن الذي فسد فيه الناس، فالحكم أن تؤخذ فتعرف، فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمنها لصاحبها، فإن أيس منه تصدق به، على ما فعله عثمان لما داخل في زمنه الفساد، وقد روي ذلك عن مالك. أ. هـ. قال ابن عبد السلام: وصحيح مذهب مالك عدم التقاطها مطلقًا. ا. هـ. منه.
قلت: وفي حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، قال يا رسول الله، فضالّة الإِبل؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى احمرت وجنتاه أو أحمر وجهه وقال:"مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا رَبُّهَا". قال الخطابي: وأما ضالة الإِبل فإنه لم يجعل لواجدها أن يتعرض لها لأنها قد ترد الماء وترعى الشجر وتعيش بلا راع، وتمتنع على أكثر السباع، فيجب أن يخلى سبيلها حتى يأتي ربها.
قال: وقوله في الإِبل: "مَعَهَا حِذَاؤُهَا وسِقَاؤُهَا" فإنه يريد بالحذاء أخفافها، يقول أَنها تقوى على السير وقطع البلاد. وأراد بالسقاء أنها تقوى على ورود الماء فتحمل ربها في أكراشها. ا. هـ.
وقال ابن قدامة في المغني: وجملة ذلك أن كل حيوان يقوى على الامتناع من صغار السباع، وورود الماء، لا يجوز التقاطه ولا التعرض له، سواء كان لكبر جثته كالإِبل، والخيل، والبقر، أو لطيرانه كالطيور كلها، أو لسرعته كالظباء، أو لنابه كالكلاب والفهود. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: مَن أخذ ضَالةً فهو ضال، أي مخطئ، وبهذا قال الشافعي، والأوزاعي، وأبو عبيد.
(5)
وقوله: ووجب لقط طفل نبذ كفاية: هذا الكلام على اللقيط والطفل الممبود، وهو بمعنى الملقوط، لأنه فعيل بمعنى مفعول، كقولهم: قتيل، وجريح، وطريح.
قال ابن شأس، كل صبي ضائع لا كافل له، فالتقاطه من فروض الكفاية، فمن وجده وخاف عليه الهلاك إن تركه، لزمه أخذه ولم يحل له تركه. ا. هـ. الحطاب. ودليل وجوب التقاطه قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}
(1)
الآية. ولأن في التقاطه إحياء نفس: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}
(2)
. الآية. =
(1)
سورة المائدة: 2.
(2)
سورة المائدة: 32.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (6) وقوله: وحضانته ونفقته إن لم يعط، من الفيء: قال في المدونة: اللقيط حر، ونفقته من بيت المال، وكذلك أجر رضاعه، ورضاع من لا مال له من اليتامى. ا. هـ. المواق.
وفي الموطإ عن مالك عن ابن شهاب، وفي البغوي بإسناده إلى مالك عن ابن شهاب، واللفظ له، عن سُنَيْنٍ أبي جميلة - رجل من بني سُلَيْمٍ - أنه وجد منبوذًا في زمان عمر بن الخطاب، قال: فجئت به [إلى أمير المؤمنين] عمر بن الخطاب، فقال: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟. قال: وجدتها ضائعة فأخذتها، فقال عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح. فقال: كذلك؟ فقال: نعم. قال: اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته. أخرجه الموطأ في الأقضية، باب: القضاء في المنبوذ.
وسنبين هذا بصيغة التصغير، تخفف ياؤه وتشدد، هو ابن فرقد ويكنى أبا جميلة، صحابي صغير، أخرج له البخاري حديثًا واحدًا. كذا وجدت على هامش مغني ابن قدامة بتحقيق الدكتور طه محمد الزيني.
قال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا في المنبوذ أنه حر وولاؤه للمسلمين يرثونه ويعقلونه. وقال البغوي: في هدا الحديث بيان أن اللقيط إذا وجد، لا يجوز تضييعه، وأنه محكوم بحريته وإسلامه، ويكون ميراثه للمسلمين إذا مات، ونفقته من بيت المال: ا. هـ. منه.
(7)
وقوله: وولاؤه للمسلمين، تقدم في حديث سُنين أبي جميلة رضي الله عنه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: وولاؤه لك، وهذا يشكل مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". وهو لم يعتقه، وقد بوب البيهقي باب: من قال اللقيط حر لا ولاء عليه. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". ثم ساق سندًا إلى عليّ رضي الله عنه أنه قضى في اللقيط أنه حر، وقرأ هذه الآية:{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}
(1)
. ا. هـ. منه.
وذكر المواق من المدونة: اللقيط حر. قال عمر رضي الله عنه: وولاؤه للمسلمين، وعقله على بيت المال. ا. هـ.
(1)
سورة يوسف: 20.
وحُكِمَ بإسْلَامِهِ في قُرَى المُسْلِمِينَ (1). كأن لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا بَيْتَانِ إنِ الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ وإِنْ في قُرَى الشِّرْكِ فَمُشْرِكٌ، ولَمْ يَلْحَقْ بِمُلْتَقِطِهِ ولا غَيْرهِ إلَّا ببيِّنَةٍ أوْ بِوَجْهٍ وَلَا يَرُدُّهُ بَعْدَ أَخْذِهِ إلَّا أنْ يَأخُذَهُ لِيَرْفَعَهُ للْحَاكِمِ فَلَمْ يَقْبَلْهُ والمَوْضِعُ مَطْرُوقٌ. وقُدِّمَ الأسْبَقُ ثُمَّ الأوْلَى، وإلَّا فَالقُرْعَةُ، ويَنْبَغِي الإِشْهَادُ، ولَيْسَ لِمُكَاتَبٍ ونَحْوِهِ الْتِقَاطٌ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ. ونُزِعَ مَحْكُومٌ بإسْلَامِهِ مِنْ غَيْرهِ (2)، ونُدِبَ أخْذُ آبِقٍ لِمَنْ يَعْرِفُ وَإِلَّا فَلَا يَأخُذْهُ، فإنْ أخَذَهُ رَفَعَهُ لِلإِمَامِ وَوقِّفَ سَنَةً ثُمَّ بِيعَ ولَا يُهْمَلُ وأخَذَ نَفَقَتَهُ ومَضَى بَيْعُهُ، وإن قَالَ رَبُّهُ كُنْتُ أعْتَقْتُهُ، وَلَهُ عِتْقُهُ وهِبَتُهُ لِغَيْرِ ثَوَابٍ وتُقَامُ عَلَيْهِ الحُدُودُ، وضَمِنَهُ إنْ أرْسَلَهُ إلَّا لِخَوْفٍ مِنْهُ كَمَنْ اسْتأجَرَهُ فِيمَا يَعْطَبُ فِيهِ لا إنْ أبَقَ مِنْهُ وإنْ مُرْتَهِنًا وحَلَفَ واسْتَحَقَّهُ سَيِّدُهُ بِشَاهِدٍ ويَمِينٍ وأخَذَهُ إن لم يَكُنْ إلَّا دَعْوَاهُ إنْ صَدَّقَهُ ولْيرْفَعْ لِلإمَامِ إنْ لَمْ يَعْرِفْ مُسْتَحقَّهُ إنْ لمْ يُخَفْ ظُلْمُهُ وَإنْ أتَى رَجُلٌ بِكِتَابِ قَاضٍ أنَّهُ قَدْ شَهِدَ عِنْدِي أنَّ صَاحِبَ كِتَابِي هذا فُلَانٌ هَرَبَ مِنْهُ عَبْدٌ وَوَصَفَهُ فَلْيُدْفَعْ إلَيْهِ بذلِك.
(1)
وقوله: وحكم بإسلامه في قرى المسلمين، قال في المدونة: إن التقطه نصراني في قرى أهل الإِسلام ومواضعهم فهو مسلم، وإن كان في قرى الشرك وأهل الذمة ومواضعهم فهو مشرك، وإن وجد في قرية ليس فيها إلا اثنان أو ثلاثة من المسلمين فهو للنصارى إلا أن يلتقطه هناك مسلم فيجعل على دينه ا هـ. منه بنقل المواق.
قلت: الأصل في ذلك أن الولد يتبع أبويه في الكفر؛ فإذا أسلم أحدهما تبعه الولد في الإِسلام، روى القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرانِهِ كَما تَنَاتَج الإِبِلُ مِنْ بَهيمَةٍ جَمَّاءَ هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ". قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت وهو صغير؟. قال:"اللَّهُ أَعْلَمُ بمَا كَانوا عَاملينَ". متفق عليه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما كون الولد يصبح مسلمًا بإسلام أبويه أو أحدهما فالأمثلة على ذلك موجودة من أولاد الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ساق البيهقي سندًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: والله ما عقلت أبوي فقط إلا يدينان الدين، وما مر علينا يوم قط إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة وعشيًا. وقال البيهقي رواه البخاري في الصحيح عن يحيى بن بكير. وهذا عبد الله بن عمر أسلم بإسلام أبيه وهو صبي. روى إسلام أبيه وهو صبي، قال: لما أسلم عمر اجتمع عليه الناس قالوا: صبأ عمر، صبأَ عمرُ، وأنا على ظهر بيت، فجاء العاص بن وائل وعليه قباء ديباج مكففة بحرير فقال: صبأ عمر؟ فمه، أنا له جار. فعجبت من عزه يومئذ. رواه البخاري في الصحيح عن علي بن عبد الله عن سفيان. فعبد الله بن عمر أسلم أبوه وهو صبي فصار مسلمًا بإسلامه. وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما أسلم بإسلام أمه على الرغم من أن أباه كان على دين قومه إلى أن أسر يوم بدر. قال البخاري: كان ابن عباس مع أمه من المستضعفين، ولم يكن مع أبيه على دين قومه. قال البيهقي حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف، أنبأ أبو سعيد بن الأعرابي، ثنا سعيد بن نصر، ثنا سفيان عن عبيد الله بن أبي زيد قال: سمعت ابن عباس يقول: أنا وأمي من المستضعفين؛ كانت أمي من النساء وأنا من الولدان. رواه البخاري في الصحيح عن عبد الله بن محمد عن سفيان. ا. هـ.
يريد ابن عباس بذلك، المستضعفين المذكورين في قوله تعالى:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}
(1)
.
ولا شك أن العباس كان إلى وقعة بدر على دين قومه، ولا التفات إلى ما يذكره بعض المؤرخين من أنه كان يكتم إيمانه، وذلك لما رواه البخاري في الصحيح من حديث أنس أن رجالًا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ائذن لنا يا رسول الله لنترك لابن أختنا العباس فداءه، فقال:"لَا وَاللَّهِ لَا تَذَرُونَ دِرْهَمًا" قال، وعبد الله بن عباس إذ ذاك كان صبيًا صغيرًا إلا أن أمه كانت أسلمت فصار مسلمًا بإسلامها. ا. هـ. بنقل البيهقي.
وأما الحكم بأن ابن الكافر كافر مثله، فقد روى البخاري في الصحيح أن غلامًا من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأسه فنظر الغلام إلى أبيه فقال، أَطع =
(1)
سورة النساء: 98.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أبا القاسم. فأسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ". ا. هـ. والله الموفق.
(2)
وقوله: ونزع محكوم بإسلامه من غيره: قال مطرف وأصبغ: إن التقطه نصراني وهو في قرى الإِسلام، نزع منه لئلا، ينصره أو يسترقه، ومعلوم أن دليل ذلك قوله تعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
(1)
. الآية.
(1)
سورة النساء: 141.
كتاب القضاء
بَابٌ: أهْلُ الْقَضَاءِ (1) عَدْلٌ، ذَكَرٌ (2)، فَطِنٌ، مُجْتَهِدٌ إِنْ وُجِدَ، وإلَّا فأَمْثَلُ مُقَلِّدٍ، وَزِيدَ لِلْإِمَامِ الأعْظَمِ قُرَشيٌّ، فَحَكَمَ بقَوْلِ مُقَلَّدِهِ (3)، ونَفَذَ حُكْمُ أعْمَى وأبْكَمَ وَأصَمّ، وَوَجَبَ عَزْلُه (4)، وَلَزِمَ المُتَعَيِّنَ أو الخَائِفَ فِتْنَةً إنْ لمْ يَتَولَّ، أوْ ضَيَاعَ الحَقِّ الْقَبُولُ (5) والطَّلَبُ، وأُجْبِرَ وَإنْ بضَرْبٍ (6)، وَإلَّا فَلَهُ الْهَرَبُ وَإِنْ عُيِّنَ (7). وحَرُمَ لجاهل وطالب دنيا (8).
كتاب القضاءِ
قال الحطاب: القضاء بالمد، قال في القاموس: ويقصر، يطلق في اللغة على الحكم، ومنه قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}
(1)
، أي: حكم. ويطلق على الأمر والإِيجاب، قال النووي، قال الواحدي، قال عامة المفسرين وأهل اللغة: قضى ههنا بمعنى أمر، وقال غيره: بمعنى أوجب. وقيل: وصى، وبها قرأ عليٌّ وابن مسعود.
قال: ويطلق على الإِلزام، كما في قوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ}
(2)
. أي ألزمناه به وحتمناه، وهذه المعاني متقاربة.
قال: ويطلق القضاء على الفراغ من الشيء: كقولهم: قضيت حاجتي. وضربه فقضى عليه، أي قتله؛ كأنه فرغ منه، وسمّ قاضٍ أي قاتل، وقضى نحبه: أي مات وفرغ من الدنيا. وأصل النحب النذر، واستعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان. قال في الصحاح: وقد يكون القضاء بمعنى الأداء والإنهاء تقول: قضيت ديني. قال: ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ}
(3)
. وقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ}
(4)
. أي أَنهيناه إليه وأبلغناه ذلك. وقد يكون القضاء بمعنى الصنع والتقدير، ومنه قوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}
(5)
. ومنه أيضًا القضاء والقدر، قال: وقال: الأزهري: القضاء في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه. وأما القضاء شرعًا، فهو الإِخبار عن حكم شرعي على سبيل الإِلزام. ا. هـ. منه بتصرف. =
(1)
سورة الإسراء: 23.
(2)
سورة سبأ: 14.
(3)
سورة سبأ: 4.
(4)
سورة الحجر: 66.
(5)
سورة فصلت: 12.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والأصل في مشروعية القضاء؛ الكتاب والسنة والإِجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
(1)
. وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}
(2)
. وقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}
(3)
(4)
.
وأما السنة، فقد روى عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وإذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ". متفق عليه. هذا، وقد أجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء بين الناس. انتهى من ابن قدامة.
(1)
قوله: أهل القضاء. الخ. قال الحطاب: واعلم أن صفات القاضي المطلوبة فيه على ثلاثة أقسام.
الأول: شرط في صحة التولية، وعدمه يوجب الفسخ، وقد أشار إليه المُصَنِّف بقوله: أهل القضاء عدل، إلى قوله: وإلا فأمثل مقلد.
والثاني: ما يقتضي عدمه الفسخ وإن لم يكن شرطًا في صحة التولية، وأشار إليه المُصَنِّف بقوله: ونفذ حكم أعمى إلى قوله: ووجب عزله.
والثالث: مستحب وليس بشرط؛ وأشار إليه المصنف بقوله: كورع إلى آخره. والله تعالى أعلم.
قال: وشمل قوله: عدل، الحر، المسلم، العاقل، البالغ بلا فسق، قال القرطبي في شرح مسلم: وقد نص أصحاب مالك على أن القاضي لابد أن يكون حرًا، وأمير الجيش والحرب في معناه، فإنها مناصب دينية يتعلق بها تنفيذ أحكام شرعية، فلا يصلح لها العبد لأنه ناقص بالرق، محجور عليه، لا يستقل بنفسه، ومسلوب أهلية الشهادة والتنفيذ، ولا يصلح للقضاء ولا للإِمارة قال: وأظن جمهور علماء المسلمين على ذلك. ا. هـ. منه بتصرف.
(2)
وقوله: ذكر، وحكي عن ابن جرير أنه قال: يجوز أن تكون المرأة مفتية؛ فيجوز أن تكون =
(1)
سورة ص: 26.
(2)
سورة المائدة: 49.
(3)
سورة النور: 48.
(4)
سورة النساء: 65.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قاضية. وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود، وذكر الحطاب نحو ذلك عن ابن زرقون، نقل عنه ابن عرفة أنه قال: أظنه فيما تجوز فيه شهادتها، مصوبًا بذلك ما نقله ابن أبي مريم عن ابن القاسم من جواز ولاية المرأة. ا. هـ.
قلت: لعل كل ما نسب إلى هؤلاء الأعلام لم تصح نسبته إليهم لرسوخ أقدام القوم، وأن لهم اليد الطولي في العلم، وإلَّا فكيف يصح أن يقول مثل هؤلاء بجواز تولية المرأة في الإِسلام؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمَرَهُمُ امْرَأَةً". أخرجه البخاري، والترمذي، والنسائي، وأحمد.
وأيضًا فقد ثبت في الحديث المتفق عليه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة بأنها ناقصة العقل والدين، فكيف يجوز أن يتولى ناقص عقل ودين أمرًا من أمور المسلمين؟ ومعلوم أن مجلس القاضي يحضره محافل الخصوم من الرجال، والمرأة ليست أهلًا لحضور محافل الرجال، ومعلوم كذلك أن الخصوم يأتون بأنواع الحيل والروغان، مما ينبغي له كمال الفطنة وتمام العقل، والمرأة ناقصة ذلك كله، لا تضبط شيئًا، ولذلك لم يجعل الله لها سبيلًا إلى الشهادة إلا بالتعدد، ونبه على سبب ذلك أنه عدم الضبط بقوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} . وأيضًا فقد ذكر الله عنها في محكم تنزيله أنها عاجزة عن المجادلة والإِدلاء بالحجة، قال في سورة الزخرف:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}
(1)
قال قتادة: ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتها على نفسها. ذكره القرطبي.
لذلك، فإن المرأة لا تصلح للإِمامة ولا لأي تولية كائنة ما تكون إلا في أمر يختص بالنساء، الأمر الذي جعلنا لم يبلغنا قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من خلفائه، ولا عن تابعيهم بإحسان أنهم ولّوْا امرأة قضاء ولا ولاية بلد، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان، ولو كان في ذلك خير لسبقونا إليه. ا. هـ.
قال ابن قدامة: وجملة القول أن القاضي يشترط فيه ثلاثة شروط:
أحدها: الكمال، وهو نوعان: كمال الأحكام، وكمال الخلقة. أما كمال الأحكام، فإنه يعتبر في أربعة أشياء: أن يكون بالغًا، حرًا، ذكرًا، عاقلًا. =
(1)
سورة الزخرف: 18.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما كمال الخلقة، فإنه تعتبر فيه أن يكون متكلمًا، سميعًا، بصيرًا؛ لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع الناس إشارته، وإن الأصم لا يسمع قول الخصمين، وإن الأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه، ولا يعرف المقر من المنكر، ولا يعرف الشاهد من المشهود له.
الثاني: العدالة، فلا يجوز تولية فاسق، ولا من فيه نقص يمنع الشهادة. قال: والدليل على منع تولية الفاسق قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}
(1)
. ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله، ويجب التبين عند حكمه، قال: ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدًا، فلئلا يكون قاضيًا أولى.
الثالث: أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا، أيضًا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية، قال: والدليل قوله تعالى:
(2)
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}
(3)
. وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}
(4)
.
قال: فإذا ثبت هذا، فاعلم أن من شروط الاجتهاد معرفة ستة أشياء هي: الكتاب، والسنة، والإِجماع، والاختلاف، والقياس، ولسان العرب.
فأما الكتاب، فالحاجة إلى معرفة عشرة أشياء منه: العام، والخاص، والمطلق، والمقيد، والمحكم، والمتشابه، والمجمل، والمفسر، والناسخ والمنسوخ في الآيات المتعلقة بالأحكام وذلك نحو خمسمائة. قال: ولا يلزمه معرفة القرآن كله.
وأما السنة فيحتاج إلى معرفة ما يتعلق بالأحكام منها؛ فيحتاج إلى معرفة منها ما يعرف من الكتاب، ويزيد معرفة التواتر، وخبر الواحد، والمرسل، والمتصل، والمسند، والمنقطع، والصحيح، والضعيف.
ويحتاج كذلك إلى معرفة مسائل الإِجماع والمسائل المختلف فيها، والقياس وشروطه وأنواعه، وكيفية استنباط الأحكام.
قال: فينبغي أن يكون القاضي قويًا من غير عنف، ليِّنًا من غير ضعف، لا يطمع القوي في باطلة، =
(1)
سورة الحجرات: 6.
(2)
سورة المائدة: 49.
(3)
سورة النساء: 105.
(4)
سورة النساء: 59.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولا ييأس الضعيف من عدله، وأن يكون حليمًا متأنيًا، ذا فطنة وتيقظ، لا يؤتى من غفلة، ولا يخدع لغرة، صحيح السمع والبصر، عالمًا بلغات أهل ولايته، عفيفًا، ورعًا، نَزِهًا، بعيدًا عن الطمع، صدوق اللهجة، ذا رأي ومشورة، لكلامه لين إذا قرب، وهيبة إذا أوعد، ووفاء إذا وعد، ولا يكون جبارًا عسوفًا فيقطع ذا الحجة عن حجته. ا. هـ. منه بتصرف واختصار.
تنبيهٌ: قال الحطاب: بقي على المؤلف شرط آخر وهو أن يكون القاضي واحدًا. قال في المقدمات: وأما الخصال المشترطة في صحة الولاية فهي: أن يكون حرًا، مسلمًا، عاقلًا، بالغًا، ذكرًا، واحدًا، فهذه الست الخصال لا يصلح أن يولى القضاء على مذهبنا إلا من اجتمعت فيه، فإن ولي من لم تجتمع فيه لم تنعقد له الولاية، وإن انخرم منها شيء بعد عقد الولاية سقطت، ثم عد العدالة وقال: إنها من هذا القسم، وإنما أخر ذكر العدالة لأن في عدها شرطًا خلافًا. ا. هـ. منه.
تنبيهٌ: ونسب أيضًا للمقدمات ما نصه: يجب أن لا يولى القضاء من أراده وطلبه، وإن اجتمعت فيه شروط القضاء مخافة أن يوكل إليه فلا يقوم به، وهذا فيمن لم يتعين عليه القضاء فيجب عليه حينئذ أن يسأله.
ويدل لمنع تولية من سأل القضاء قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسْأَلِ الإمَارَةَ" فهو نهي ظاهره التحريم. قال القرطبي: ويدل على التحريم قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّا لَا نُوَلِّي عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ". وفي لفظ: "إِنَّا وَاللَّهِ لَا نُوَلِّي عَلَن هذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ". وهو حديث متفق على صحته.
قلت: ولست أدري أين موقف أولياء الأمور اليوم من تولية المتكالبين على الخطط الشرعية فيها؟ أين موقف هؤلاء من هذا الحديث الذي هو في قمة الصحيح؟ ولست أدري أيضًا أين موقف أولياء الأمور في بعض الأقطار - التي تزعم أنها على مذهب مالك، من تأليف المحاكم الشرعية من متعددين؟! وهو يشترط في المذهب عندهم أن يكون واحدًا، ولا يجوز تعدده. ا. هـ.
تنبيهٌ: إن الأصل في آداب القضاء كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري؛ لأنه من للمعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى وهو يتولى القضاء بين الناس بنفسه، ولم يتول القضاء أحد مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما علمت، وكذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ فكان يتولى القضاء بنفسه إلى أن لحق بصاحبه صلى الله عليه وسلم فكان أول من اتخذ القضاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ونص كتابه إلى أبي موسى، كما أخرجه ابن قيم الجوزية في أعلام الموقعين، قال: قال أبو عبيد: حدثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن معمر البصري، عن أبي العوام قال: كتب عمر إلى أبي موسى: أما بعدُ، فإن القضاء فريضةٌ محكمةٌ وسنةٌ متبعةٌ، فافْهَمْ إذا أُدْليَ إليك، فإنه لا يَنْفَعُ تكلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذ له، آسِ الناسَ في مجلسك وفي وجهك وفي قضائك، حتَّى لا يطمعَ شريفٌ في حَيْفِكَ ولا ييأسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِك، البَيِّنَةٌ على المدَّعِي واليمينُ عَلى مَنْ أنْكَرَ، والصلحُ جائزٌ بيْنَ المِسلمين، إلًا صُلْحًا أحَلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا، ومن ادَّعى حقًّا غائبًا أوْ بَيِّنةً فاضْرِبْ لَهُ أمَدًا ينتهي إلَيْه، فإن بيَّنَه أعْطيْتَهُ بحَقِّهِ، وإنْ أعجَزهُ ذلك اسْتَحْلَلْت عليه القَضية، فإنَّ ذلك هو أبْلَغُ في العُذْرِ وأجْلَى للعماءِ، ولا يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَ فيه اليوم فَراجَعْتَ فِيهِ رَأيكَ فَهُدِيتَ فيه لِرُشْدِكَ، أن تُراجِعَ فيهِ الحقَّ، فإنَّ الحقَّ قَدِيمٌ لا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، ومراجَعَةُ الحقِّ خَيْرٌ من التَّمادي في الباطِلِ، والمسلمونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ؛ إِلا مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُور، أَو مَجْلُودًا في حَدٍّ، أو ظنِّينًا في وَلاءٍ أوْ قَرابَةٍ، فإنَّ اللهُ تعالى تَوَلَّى منَ الْعِبَادِ السَّرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبيِّنَاتِ والأيمان، ثمَّ الفهْمَ الفَهْمَ فيما أُدليَ إليك مما ورد عليك ممَّا ليس في قرآنٍ ولا سُنَّةٍ، ثمَّ قايِسِ الأمور عند ذلك واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أَحبِّها إلى الله وأشبهها بالحقِّ، وإياك والغضب والقلؤ والضَّجَرَ والتَّأذيَ بالناس، والتَّنكر عند الخُصومَةِ، أو الخصُوم - شكَّ أبو عُبَيْد - فإن القضاءَ في مواطن الحقِّ ممَّا يوجِبُ اللهُ به الأجْرَ، ويُحْسِن بِه الذِكر، فمن خَلَصَتْ نيته فَي الحقِّ ولَوْ على نفسه كفاه الله ما بينه وبينَ الناس، ومن تَزَيَّنَ بما ليس في نفسه شَانَهُ اللهُ، فإنَّ الله تعالى لا يَقْبَلُ مِن العبادِ إلا ما كان خالصًا، فما ظنك بِثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام عليك ورحمة الله. ا. هـ.
قال ابن القيم: هذا كتاب جليل تلقاه العُلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شَيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه.
تنبيهٌ: ورد في التخويف من القضاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْر سِكِّينٍ". رواه البغوي، وأخرجه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجة، وسنده قوي، حسنه الترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وقال علي رضي الله عنه: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة؛ فأما اللذان في النار =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فرجلٌ جار متعمدًا، فهو في النار، ورجل اجتهد فأخطأ، فهو في النار، وأمَّا الذي في الجنَّة، فرجل اجتهد فأصاب الحق، فهو في الجنة، قال قتادة: فقلت لأبي العالية: ما ذنب هذا الذي اجتهد فأخطأ؟. قال: ذنبه ألا يكون قاضيًا إذْ لم يعلم. قال البغوي: قوله: اجتهد فأخطأ فهو في النار، أراد به من كان اجتهاده عن غير علم، فأما من كان من أهل الاجتهاد فالخطأ فيه عنه موضوع، والدليل ما روي مرفوعًا عن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الذِي فِي الْجَنَّةِ، فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فجَارَ فِي الْحُكْم فِي النَّار، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسَ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ".
ومن الأحاديث التي تخوف من تولي القضاء ما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطّ". أخرجه أحمد.
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ حَكَمٍ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا حُبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخذٌ بِقَفَاهُ حَتَّى يَقِفَ إلَى جَهَنَّمَ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأسَهُ إِلَى اللْهِ عز وجل، فَإِنْ قَالَ: أَلْقِهِ، ألقاهُ في مَهْوىً، فَهَوَى أَرْبَعِينَ خَرِيفًا". أخرجه أحمد. لذلك فإن طريق السلف الامتناع منه والتوقي، فقد أراد عثمان أن يولي ابن عمر القضاء فأبى عنه. وحلف المنصور لأبي حنيفة ليلين القضاء، فحلف أبو حنيفة أنه لا يلي القضاء، فقال الوزير: الخليفة قد حلف. فقال النعمان رحمه الله: وأنا حلفت، والخليفة أقدر على الكفارة مني.
ونقل الحطاب: روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بالبصرة عدي بن أرطاة أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة، فول القضاء أنفذهما. فجمع عدي بينهما وقال لهما ما عهد به عمر إليه، فقال إياس: سل عنا فقيهي البصرة؛ الحسن وابن سيرين - وكان القاسم يأتي الحسن وابن سيرين، وإياس لا يأتيهما - فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا إليه، فقال له القاسم: لا تسألهما عني ولا عنه، فوالله الذي لا إله إلا هـ وإن إياسًا أفقه مني وأعلم بالقضاء، فإن كنت كاذبًا فما عليك أن توليني وأنا كاذب، وإن كنت صادقًا فينبغي لك أن تقبل قولي، فقال إياس: إنك جئت برجل وأوقفته على شفا جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة فيستغفر الله منها، وينجو مما يخاف، فقال له عدي: أما إنك إذ فهمتها فأنت لها، فاستقضاه. ا. هـ. منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أما تولية القضاة وبعثهم إلى الأمصار غير بلده. فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليًّا رضي الله عنه قاضيًا إلى اليمن، وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن أيضًا، وقال له:"بِمَ تَحْكُمُ"؟ قال: بكتاب الله تعالى. قال: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ"؛ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ"؟ قال: أَجْتَهِدُ رَأْيي. قال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَهِ لِمَا يرُضي رَسُولَ اللَّهِ" صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أبو داود والترمذي عن معاذ.
وبعث عمر شريحًا على قضاء الكوفة، وكعب بن سوار على قضاء البصرة، وكتب إلى أبي عبيدة ومعاذ يأمرهما بتولي القضاء في الشام، لأن أهل كل بلد يحتاجون إلى القاضي ولا يستطيعون الذهاب إلى بلد الإِمام، ومن استطاع منهم ذلك شق عليه، فوجب إغناؤهم عن ذلك.
أما في بلد الإِمام فإنه لا ينبغي أن يتولى القضاء غيره، وإذا أمكن من أمراء الأمصار، فلا ينبغي أن يتولى القضاء غيرهم، لما كتب به عمر لأبي موسى الأشعري أن لا يقضي إلَّا أمير، فإنه أهيب للظالم، ولشاهد الزور.
وقال عمر لابن مسعود: أما بلغني أنك تقضي ولست بأمير؟ قال: بلى، قال: فولِّ حارَّها من تولى قارَّها. ذكره البغوي في شرحِ السنة، وهو في مصنف عبد الرزاق، تحت رقم 15293. ا. هـ.
وإذا جلس القاضي في مجلسه، فإنه ينبغي أن يكون أول ما ينظر فيه أمر المحبوسين، لأن الحبس عذاب، وربما كان في المحبوسين من لا يستحق البقاء فيه، فمن واجبه أن يبعث ثقة إلى السجن يكتب له اسم كل محبوس وفيم حبس، ويأمر مناديًا في البلد: إن القاضي فلان بن فلان سوف ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا وكذا، فمن له محبوس من أجل دعواه عليه فليحضر، فإذا حضر الناس في اليوم المذكور مد يده إلى الرقاع التي فيها أسماء المساجين، فمن وقعت رقعته في يده، قال: من خصم فلان بن فلان المحبوس؟ فإذا قال خصمه: أنا، بعث معه ثقة إلى الحبس فيخرج خصمه ويحضر معه مجلس القضاء، يفعل ذلك بأفراد يعلم أنه يتسع زمنه للنظر في معاملاتهم، فإذا حذر المحبوس، سأله: بمَ حُبستَ. ويقضي في مسائل المحبوسين على حسب ما يراه شرعًا في ذلك.
ثم ينظر في أمر الأوصياء على اليتامى والمجانين ونحو ذلك، فإذا قدم إليه الوصي، فإن كان القاضي قبله نفذ وصيته، لم يعزله، هذا لأن القاضي ما نفذ وصيته إلا وقد عرف أهليته في الظاهر، وإن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= كان الأول ما نفذ وصيته، نظر فيه، فإن وجده أمينًا قويًا أقره، وإن كان أمينًا ضعيفًا، ضم إليه من يعينه، وإن وجده فاسقًا عزله وأقام غيره.
ثم ينظر في أمر أمناء القاضي الذين يرد إليهم النظر في أمر الوصايا التي لم يعين لها وصي، فإن وجدهم على ما يرام أقرهم على تولية من قبله لهم، ومن تغير حاله منهم إلى فسق عزله.
ثم ينظر في أمر الضوالِّ واللُّقط التي تولى القاضي حفظها، فإن كانت مما يخاف تلفه كالحيوان، باعها وحفظ ثمنها لأربابها، وكتب عليها من الأمور ما تتم به معرفتها لمن جاء ينشدها.
(3)
وقول المصنف رحمه الله: فحكم بقول مقلده، قال البغوي: على الحاكم أن يحكم بما في كتاب الله سبحانه وتعالى، فإن لم تكن الحادثة التي يحتاج إلى الحكم فيها في كتاب الله، يحكم بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدها شي السنة، فحينئذ يجتهد، والدليل على ذلك ما روي عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما أراد أن يبعثه إلى اليمن:"كَيْفَ تَقْضِي إذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ"؟ قال: أقضي بكتاب اللهُ. قال: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ"؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِىِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ" صلى الله عليه وسلم. قال: أجتهد رأَيي، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ". وقد تقدم هذا الحديث قريبًا بلفظ يقارب هذا، قال البغوي: قوله: أَجتهد رأيي، أراد به رد القضية إلى معنى الكتاب والسنة عن طريق القياس. قال: وقوله في الحديث: "وإذَا اجْتَهَدَ فأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ" لم يرد به أنه يؤجر على الخطإ، بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق، لأن اجتهاده عبادة، والإثم في الخطإ عنه موضوع إذا لم يأل جهده، وهذا فيمن كان مجتهدًا، أما من لم يكن مجتهدًا فهو متكلف لا يعذر في الخطإ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر، روي عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ؛ وَاحِدُ في الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي في الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَن جَهْل، فَهُوَ فِي النَّارِ". وهذا الحديث صحيح، وقد تقدم. قَال: وجوز أصحاب الرأي للعامي أن يتقلد القضاء، ثم يقضي بما يفتي به أهل العلم. ا. هـ. منه.
وفي الحطاب: قال ابن فرحون: يلزم القاضي المقلد إذا وجد المشهور أن لا يخرج عنه. وذكر عن المازري أنه بلغ درجة الإجتهاد وما أفتى قط بغير المشهور، وعاش ثلاثًا وثمانين سنة، وكفى به قدوة في هذا. ا. هـ. منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (4) وقوله: ونفذ حكم أعمى وأبكم وأصم ووجب عزله، قال المواق: قال ابن رشد: الخصال التي ليست مشترطة في صحة ولاية القضاء إلا أن عدمها يوجب فسخ الولاية؛ وهي أن يكرن سميعًا بصيرًا متكلمًا، فإن ولي من لم تجتمع فيه وجب عزله متى عثر عليه، ويكون ما مضى من أحكامه جائزًا. ا. هـ. منه.
تنبيهٌ: قال الحطاب: ترك المؤلف الكلام على الكتابة. قال الباجي وابن رشد: إنه لا نص؛ هل يشترط في القاضي أن يكتب؟ ألخ. كلامه.
قلت: وهذا من أغرب ما وقفت عليه، فكيف يفعل عن هؤلاء الجهابذة أنه لا نص في جواز قضاء من لا يكتب؟ وهذا سيد الأولين والآخرين قدوة كل من قضى كان لا يكتب ولا يقرأ .. وكان أقضى الناس، وأعدل الناس، وأعلم الناس صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم.
والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}
(1)
.
(5)
وقوله: ولزم المتعين أو الخائف فتنة أو ضياع الحق، إن لم يتول، القبول، قال ابن عرفة: قبول ولاية القضاء من فروض الكفاية، إن كان بالبلد عدد يصلحون لذلك، فإن لم يكن يصلح لذلك إلا واحد، تعين عليه، وأجبر على قبوله. وقال الباجي: يجب على من هو أهله السعي في طلبه إن علم أنه إن لم يله ضاعت الحقوق، أو وليه من لا يحل له أن يولى. ا. هـ. من المواق.
(6)
وقوله: وأجبر وإن بضرب، قال أبو عمر. إنما يجبر على القضاء من لم يوجد غيره، يجبر بالسجن والضرب. قال: عرف عياض بابن مسكين بعد إجماع الناس عليه على اختلاف مذهبهم، قال ابن الأغلب: أتدري لم بعثته إليك؟ لأشاورك في رجل قد أجمع الخير، أردت أن أوليه القضاء فامتنع. قال ابن مسكين: تجبره على ذلك قال: تمنع. قال: يحبس، قال. قم، أنت هو. قال: إنني رجل طويل الصمت قليل الكلام غير نشيط في أموري ولا أعرف أهل البلد، فقال الأمير: عندي مولىً نشيط تدرب في الأحكام أنا أضمه إليك يكون لك كاتبًا، يصدر عنك في القول في جميع الأمور؛ فما رضيت من قوله أمضيت، وما سخطت رددت. فضم إليه ابن البناء، قال المخبر: فكثيرًا ما كنت آتي مجلسه وهو صامت لا ينطق وابن البناء يقضي، فقال الأمير لابن البناء بلغني أنك تفصل بين الخصوم وهو =
(1)
سورة الأحزاب: 21.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ساكت، ما أرى إلا أنه لم يقبل القضاء. فقال ابن البناء: قد قبل إلا أني أكفيه، فقال: امض، لا تعلم أحدًا بما بيني وبينك، وافصل بين خصمين بغير مذهبه، قال ابن البناء: ففعلت، فأمرهما ابن مسكين فدارا بين يديه وفصل بمذهبه فأخبرت الأمير فحمد الله وشكره. ا. هـ. من المواق بتصرف قليل.
(7)
وقوله: وإلا فله الهرب وإن عين، قال ابن رشد: الهروب عن القضاء واجب وطلب السلامة منه لازم، لا سيما في هذا الوقت. وقال ابن شأس: للإِمام إجباره، وله هو أن بهرب بنفسه منه إلا أن يعلم أنه متعين عليه فيجب عليه القبول. ا. هـ. المواق.
وفي الحطاب: وروي أن عمر رضي الله عنه دعا رجلًا ليوليه، فأبى، فجعل يديره على الرضا فأبى، ثم قال له: أنشدك اللهُ يا أمير المؤمنين أي ذلك تعلم خيرًا لي؟ قال ألَّا تلبي. قال فاعفني. قال: قد فعلت ا. هـ. قال: وطلب القضاء والحرص عليه حسرة وندامة يوم القيامة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سَتحْرِصُونَ عَلَى الإمَارَةِ وَتَكُونُ حَسْرَةً وَنَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ". فمن طلب القضاء وأراده وحرص عليه وُكِّل إليه وخيف عليه فيه الهلاك، ومن لم يسأله وامتحن به وهو كاره له خائف على نفسه فيه أعانه الله عليه. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِّل إِلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ وَلَا اسْتَعَانَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ". وقال صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ فَإنَّكَ إِنْ تُؤتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ تُعَنْ، وَإنْ تُؤْتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ تُوكَلْ إلَيْهَا". وقال الجزيري في وثائقه: القضاء محنة وبلية، ومن دخل فيه فقد عرَّض نفسه للهلاك؛ لأن التخلص منه عسر، فالهروب منه واجب، لا سيما في هذا الوقت، وطلبه نوك وإن كان حسبة. قاله الشعبي. والنوك - بالضم - الحمق. قاله في الصحاح، قال قيس بن الخطيم: وداء النَّوْكِ ليس له دواء. والنَّواكةُ الحماقة. ا. هـ. منه.
(8)
وقوله: وحرم لجاهل وطالب دنيا: تقدم حديث بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ" الحديث. وفيه: "وَرَجُلٌ قَضَى بَيْنَ النَّاسِ بالْجَهْلِ فَهُوَ في النَّارِ" قال: وقلنا. أن القاضي إذا اجتهد فليس عليه شيء، قال البيهقي: اجتهاده بغير علم لا يهديه إلى الحق اتفاقًا، فلم يكن مأذونًا له فيه. ا. هـ.
وذكر الحطاب أنه يكره طلب القضاء من قبل العدل المشهور الذي ينفع الناس بعلمه، ويخاف إن تولى القضاء أن لا يقدر على ذلك. ونسبه للتوضيح، قال: وقال ابن عرفة عن المازري: وفي كونه في =
وَنُدِبَ لِيُشَهِّرَ عِلْمَهُ (1) كوَرِعٍ، غَنِيٍّ، حَلِيمٍ، نَزِهٍ، نَسِيبٍ، مُسْتَشِيرٍ، بِلَا دَيْنٍ وَحَدٍّ (2)، وزائدٍ في الدَّهَاءِ (3)، وبِطَانَةِ سُوءٍ، ومَنْعُ الرَّاكِبِينَ مَعَهُ والمُصَاحِبينَ لَهُ، وتَخْفِيفُ الأعْوَانِ، واتِّخَاذُ مَنْ يُخْبرُهُ بِمَا يُقالُ في سِيرَتِهِ وحُكْمِهِ وشُهُودِهِ، وَتَأديبُ مَنْ أسَاءَ عَلَيْهِ إلَّا في مِثْلِ اتَّقِ اللهَ في أمْرِي فَليَرْفُقْ بِهِ، ولم يَسْتَخْلِفْ إلَّا لِوُسْعِ عَمَلِهِ في جِهَةٍ بَعُدَتْ، مَنْ عَلِمَ ما اسْتَخْلَفَ فِيهِ، وانْعَزلَ بِمَوتِه، لَا هُوَ بِمَوْتِ الأمِيرِ وَلوْ الخَلِيفَةَ، ولا تُقبلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَهُ أنه قَضَى بكذا وجَازَ تَعَدّدُ مُسْتَقلٍّ أو خاصٍّ بِنَاحِيَةٍ أوْ نَوْعٍ، والْقَوْلُ للطَّالِبِ ثمَّ مَنْ سَبَقَ رَسُولهُ وإلَّا أُقْرعَ كالادِّعَاءِ. وجَازَ تَحْكِيمُ (4) غيْر خَصْمٍ، وجَاهِلٍ، وكَافِر، وغيْرِ مُمَيِّزٍ في مَالٍ وجَرْحٍ لَا حَدٍّ، وَلِعَانٍ، وَقَتْلٍ،
= حق المشهور علمه الغني مكروهًا أو مباحًا، نظر، قال: وأصول الشرع تدل على الإِبعاد منه. انتهى.
قال ابن فرحون: ومن المكروه أن يكون سعيه في طلب القضاء لتحصيل الجاه والاستعلاء على الناش، فهذا يكْرهُ له السعي ولو قيل: إنه يحرم، لكان وجهه ظاهرًا لقوله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
(1)
. انتهى.
قال: وأما إباحة السعي في حصول القضاء، فقال في التوضيح: قال المازري: ويبعد عندي تصور الإِباحة إلا عند تقابل أدلة الأحكام وقرائن الأحوال، ولا يقدر على ترجيح بعضها على بعض للفهم، وقد تقدم أن ابن فرحون جعل منه من سعى فيه لسد خلته، والله تعالى أعلم. ا. هـ. منه.
(1)
قوله: وندب ليشهر علمه، قال الحطاب: نقله ابن عرفة عن المازري عن بعض العُلماء وزاد معه: أو أن يكون فقيرًا وله عيال ويسعى في تحصيله لسدِّ خلته، ونصه: قال بعض العُلماء، يستحب طلبه لمجتهد خفى علمه وأراد إظهاره بولايته القضاء، أو لعاجز عن قوته وقوت عياله إلا برزق القضاء، قال المازري: ولا يقتصر الاستحباب على هذين بل يستحب للأولى من غيره لأنه أعلم منه. ا. هـ.
وفي المغني لابن قدامة: وقال أبو عبد الله بن حامد: إن كان رجلًا خاملًا لا يرجع إليه في الأحكام =
(1)
سورة القصص: 83.
وَوَلَاءٍ، ونَسَبٍ، وطَلاقٍ، وعِتْقٍ، ومَضَى إِنْ حَكَمَ صَوابًا وأُدبَ، وصبِيٍّ وعَبْدٍ، وامرأةٍ، وفَاسِقٍ، ثالِثها إلا الصّبيَّ ورَابِعُهَا إلَّا وفَاسِقٍ، وضَرْبُ خَصْمٍ لدَّ، وَعزلُه لِمَصْلَحَةٍ ولَمْ يَنْبَغِ إنْ شُهِرَ عَدْلًا، بِمُجَرَّدِ شَكِيةٍ، وليُبرَّأْ من غير
= ولا يعرف، فالأولى له توليه ليرجع إليه في الأحكام، ويقوم به الحق، وينتفع به المسلمون، وإن كان مشهورًا في الناس بالعلم، يرجع إليه في التعليم والفتوى، فالأولى الاشتغال بذلك لما فيه من النفع مع الأمن من الغرر. قال: ونحو هذا قال أصحاب الشافعي، وقالوا أيضًا: إذا كان ذا حاجة، وله في القضاء رزق، فالأولى له الاشتغال به، فيكون أولى من سائر المكاسب؛ لأنه قربة وطاعة. ا. هـ.
(2)
وقوله: كورع غني حليم نزه نسيب مستشير بلا ديْن وحدٍّ: قال ابن رشد: للقضاء خصال مستحبة، ويستحب لعدمها عزله؛ وهي أن يكون من أهل البلد، ورعا، غنيًا ليس بمحتاج ولا مديان، معروف النسب، جزلًا نافذًا، فطنًا غير مخدوع لغفلته، ولا محدود في زنا ولا قذف، ولا مقطوع في سرقة، وأن يكون ذا نزاهة عن الطمع مستخفًا باللائمة؛ أي يدير الحق على من دار عليه، ولا يبالي بمن لامه على ذلك، مستشيرًا لأهل العلم. ا. هـ. من المواق.
قال البغوي: ويستحب له مشاورة أهل العلم في الحوادث، والبحث في الدلائل، ثم يحكم بما لاح له بالدليل، قال تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}
(1)
.
وروي عن أبي هريرة قال: ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه عبد الرزاق في المُصَنِّف في آخر حديث صلح الحديبية. وقال الحسن: إن كان رسول الله عن مشورتهم لغنيًا، ولكن أراد أن يستن بذلك الحكام من بعده. أخرجه البيهقي في سننه، ورجاله ثقات، وذكره ابن حجر في فتح الباري عن ابن أبي حاتم وقال: بسند حسن.
وقال محمد بن إسماعيل في صحيحه: والمشاورة قبل العزم والتبيين؛ وذلك لقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}
(2)
.
قال: وكان الأئمة يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة لياخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقال الزهري: وكان مجلس عمر مغتصًا من القراء =
(1)
و
(2)
سورة آل عمران: 159.
سُخْطٍ. وخَفِيفُ تَعْزِيرٍ بِمَسْجدٍ، لَا حَدٌّ (1)، وجَلَسَ بهِ (2) بغَيْرِ عِيدٍ وقُدُوِم حَاجٍّ وخُروجِهِ وَمَطَرٍ ونَحْوِهِ، واتِّخَاذُ حَاجبٍ وبوَّابٍ (3)، وَبَدَأَ بِمَحْبُوسٍ (4)، ثُمَّ وَصِيٍّ، ومالِ طِفْلٍ ومُقَامٍ، ثُمَّ ضَالٍّ، ونَادَى بِمَنْعِ مُعَامَلَةِ يَتِيمٍ وسَفيهٍ وَرَفْعِ أَمْرِهِمَا إليْهِ، ثُمَّ في الخُصُوم، ورَتَّبَ كَاتبًا عَدْلًا شَرْطًا، كَمُزَكٍّ واخْتَارَهُمَا (5). والمُترْجِمُ مُخْبِر كالمُخَلَّفِ (6). وأحْضَرَ الْعَلَمَاءَ أَوْ شَاوَرهُمْ (7)، وشُهُودًا (8) وَلَمْ يُفْتِ في خُصُومَةٍ (9) وَلَمْ يَشْتَرِ بِمَجْلِسِ قَضَائِهِ كسَلَفٍ وقراضٍ وإبْضَاعٍ وحُضُورِ وَلِيمَةٍ إلَّا النَّكَاحَ، وقَبُولُ هَدِيَّةٍ ولَوْ كافَأَ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ قَرِيبٍ (10) وَهِدِيَّةِ مَنْ اعْتَادَهَا قَبْلَ الْوِلَايَةِ، وكراهَةِ حُكْمِهِ في مَشْيهِ أوْ مُتَّكِئًا، وإلْزَام يَهُودِيٍّ حُكْمًا بِسَبْتِهِ، وتَحْدِيثِهِ بِمَجْلِسِهِ لِضَجَرٍ ودَوَام الرِّضَا في التَّحكِيمِ للْحُكْمِ قَوْلَانِ. وَلَا يَحْكُمُ مَعَ مَا يُدْهِشُ عَنِ الفِكْر (11) ومَضَى،
= شبابًا كانوا أو كهولًا، فربما استشارهم، فيقول: لا يمنعن أحدكم أن يشير برأيه، فإن العلم ليس على قِدَم السنِّ ولا على حداثته، ولكن الله يضعه حيث شاء. وفي البخاري في قصة الحر بن قيس وعمه عيينة بن حصن: وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولًا كانوا أو شبابًا.
وفي البيهقي في السنن، عن يوسف بن الماجشون قال: قال لنا ابن شهاب الزهري أنا وابن أخي وابن عم لي، ونحن غلمان أحداث نسأله عن الحديث: لا تحقروا أنفسكم لحداثة سنكم، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان واستشارهم؛ يبتغي حدة أذهانهم. ا. هـ. شرح السنة وتعليقه.
(3)
وقوله: وزائد في الدهاء، ذكر الطرطوشي: ليس بحسن الزيادة في العقل المفضية إلى الدهاء والمكر، فإن هذا مذموم، وقد عزل عمر رضي الله عنه زيادًا وقال: كرهت أن أحمل الناس على فضل عقلك، وكان من الدهاة. ا. هـ. مواق.
(4)
وقوله: وجاز تحكيم، قال المواق: من المدونة، لو أن رجلين حكما بينهما رجلًا فحكم بينهما أمضاه القاضي إلا أن يكون جورًا بينًا. قال ابن عرفة: ظاهره، ولو كان مخالفًا لما عند القاضي. قال =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= اللخمي: إنما يجوز التحكيم لعدل مجتهد أو عامي يحكم باسترشاد العُلماء، وتحكيم غيرهما خطر.
وقال المازري: وتحكيم الخصمين غيرهما جائز، كما يجوز أن يستفتيا فقيهًا يعملان بفتواه في قضيتهما، قال ابن عرفة: وانظر هل لأحدهما الرجوع عن التحكيم؟ قال مالك: لا رجوع لأحدهما عن ذلك. ا. هـ. منه بتصرف.
(1)
وقوله: وخفيف تعزير بمسجد لا حد، قال في المدونة: لا بأس بيسير الأسواط أدبًا في المسجد، وأما الحدود وشبهها فلا. ا. هـ. مواق.
(2)
وقوله: وَجَلَسَ به، قال مالك: القضاء بالمسجد من الحق، وهو من الأمر القديم، لأنه يرضى فيه بالدون من المجلس، وتصل إليه المرأة والضعيف. وروى ابن حبيب: يجلس في رحاب المسجد، وهذا أحسن لقوله صلى الله عليه وسلم "جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ رَفع أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ". ا. هـ. مواق.
وقال ابن قدامة: ولا يكره القضاء في المسجد، فعل ذلك شريح، والحسن، والشعبي، ومحارب بن دثار، ويحيى بن يعمر، وابن أبي ليلى، وابن خلدة قاضي عمر بن عبد العزيز وروي عن عمر وعثمان وعلي رضوان الله عنهم، أنهم كانوا يقضون في المسجد.
وقال مالك: القضاء في المسجد من أمر الناس القديم. وبه قال مالك، وإسحاق، وابن المنذر. وقال الشافعي: ذكره ذلك، لما روي أن عمر كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا تقض في المسجد، لأنه تأتيك الحائض والجنب والذمي.
قال: ولنا إجماع الصحابة بما قد رويناه عنهم، ولأن القضاء قربة وطاعة وإنصاف بين الناس، فلم يكره في المسجد، ولا نعلم صحة ما رووه عن عمر، وقد روي عنه خلافه، وأما الحائض إن عرضت لها حاجة إلى القاضي وكلت أو أتته في منزله، والجنب يغتسل ويدخل، والذميُّ يجوز دخوله بإذن مسلم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في مسجده مع حاجة الناس إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك من حوائجهم، وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضًا بالحقوق في المسجد، وربما رفعوا أصواتهم، فقد روي عن كعب بن مالك أنه قال: تقاضيت ابن أبي حدرد دينًا في المسجد حتى ارتفعت أصواتنا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إليَّ أن ضع من دينك الشطر، فقلت: نعم يا رسول الله، قال:"قَمْ فَاقْضهِ" أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (3) وقوله: واتخاذ حاجب وبواب، قال أصبغ: حق على الإمام أن يوسع على القاضي في رزقه، ويجعل له قومًا يقومون بأمره، ويدفعون الناس عنه، إذ لابد له من أعوان يكونون حوله؛ يزجرون من ينبغي زجره من المتخاصمين، فقد كان الحسن ينكر على القضاة اتخاذ الأعوان، فلما ولي القضاء قال: لابد للسلطان من رزعة. وقال ابن عرفة: ويسوغ له اتخاذ من يقوم بين يديه لصرف أمره ونهيه، وكف أذى الناس عنه، وأذى بعضهم عن بعض، قال: ولا يتخذ لذلك إلا ثقة مأمونًا. ا. هـ. من المواق.
(4)
وقوله: وبدأ بمحبوس. ألخ. قد تقدم الكلام على ذلك في مبحث تولية القضاة وبعثهم إلى الأمصار، فأغنى عن إعادته هنا، والحمد لله وحده.
(5)
وقوله: ورتب كاتبًا عدلًا شرطًا كمزك واختارهما، قال الحطاب: اعلم أن ترتيبه للكاتب وللمزكي والمترجم على جهة الأولوية، هذا ظاهر عباراتهم، فإنَّ أبا الحسن الصغير والقرافي جعلاه من آداب القضاء، وقوله: عدلًا، قال ابن فرحون: ذكر بعضهم في صفاته أربعة: العدل، والعقل، والرأي، والعفة. ونسب لابن شأس أنه قال: لا تشترط العدالة في الكاتب، قال: ولعله يريد أن القاضي يقف على ما كتب. ا. هـ. قال ابن عبد السلام وظاهر نصوصهم أنه لا يستعين مع القدرة إلَّا بالعدول، فإن لم يجدهم جاز الاستعانة بغيرهم. قال: ولا كلام في اشتراط العدالة في المزكي، قال في الرسالة: ولا يقبل في التزكية إلا من يقول: عدل رضا. ا. هـ. منه بتصرف.
وقال المواق ابن بطال: الشأن عندنا أن يتخذ القاضي رجلًا رضا؛ مجمعًا على أنه رجل عدل يسأل عن الشهود، وقال سحنون: ليس كل من تجوز شهادته تجوز تزكيته، ولا يجوز في التزكية إلا المبرز النافذ الفطن الذي لا يخدع. ا. هـ.
(6)
وقوله: والمترجم مخبر كالمحلف: قال المواق: إن احتكم للقاضي خصوم يتكلمون غير العربية ولا يفهم كلامهم، ينبغي أن يترجم عنهم رجل ثقة مأمون مسلم، واثنان أحب إليّ ويجزئ الواحد، ولا تقبل ترجمة كافر ولا عبد ولا مسخوط، ولا بأس بترجمة المرأة إن كانت من أهل العفاف والحق مما تقبل فيه شهادة النساء، وامرأتان. والرجل أحب إليَّ لأن هذا موضع شهادات.
قال: ومثله الذي يحلِّفُ المرأة يجوز فيه رسول واحد، ولا خلاف فيه، والخيار في ذلك عدلان، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ويجزئ فيه العدل الواحد، قال: قوله لا تقبل ترجمة عبد ولا مسخوط ولا كافر، معناه مع وجود المسلمين، ولو اضطر إلى ترجمة كافر أو مسخوط لقبل فعله، وحكم به كما يحكم بقول الطبيب النصراني وغير العدل فيما اضطر فيه لقوله من جهة معرفته بالطب. قال: وسمع القرينان، أترى المسألة عن الشهود سرًا؟ قال: نعم، ولا سبيل إلا للعدول. قال ابن رشد: مسألة تعديل السر تفترق من العلانية في أنه لا إعذار في السر، وفي أنه يجزئ فيه الشاهد الواحد، بخلاف العلانية في الوجهين. ا. هـ. منه بتصرف.
(7)
وقوله: وأحضر العلماء وشاورهم، لقد تقدم في ذلك بما فيه كفاية عند قول المصنف: مستشيرًا، ولا بأس بزيادة في ذلك للفائدة، قال المواق: قال مالك، كان عثمان رضي الله عنه، إذا جلس للقضاء، أحضر أربعة من الصحابة ثم استشارهم، فإذا رأوا ما رآه أمضاه وقال: هؤلاء قضوا لَسْتُ أنا قضيت. وقال محمد: لا يدع القاضي مشورة أهل العلم عندما يتوجه إلى الحكم، ولا يجلس للقضاء إلا بحضرة العدل، وليحفظوا له إقرار الخصوم خوف رجوع بعضهم عما يقر به. قال: وعرف عياض بابن أبي طالب وذكر دينة وعلمه، قال: وكان يكتب على أحكامه: حكمت بقول ابن القاسم. حكمت بقول أشهب، ويقول: في البلد علماء وفقهاء اذهبوا إليهم، فما أنكروا عليكم فارجعوا إليَّ به، وكان يكتب القضية ويقول لصاحبها: اذهب بها وطف بها على كل من له علم بالقرآن ثم ارجع إليَّ بما يقولون، قال: وكان إذا أشكل عليه أمر توقف وقال: لأن يسألني الله: لم وقفت؟ أيسرُ عليَّ من أن يسألني: لمَ جسرت. ا. هـ.
قلت: ومن لطائف مزية إحضار القاضي العلماء مجلسه، ما يذكر أن أحد الخليفتين - إما عثمان وإما هو عمر بن الخطاب - اشتكى إليه رجل قال: يا أمير المؤمنين، تزوجت هذه وها هي جاءت بهذا الولد لستة أشهر من دخولي بها. فأرسل الخليفة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أرسلنا إليكم لتشهدوا رجم هذه. قالوا: وما بالها؟ قال زعم هذا أنه تزوجها فأتت بولد لستة أشهر من يوم دخوله بها وسألناها فأقرت، وكان علي رضي الله عنه ممن حضر، فقال: أمَّا القرآن فقد برأها، فقال الخليفة: يبرئها القرآن ويرجمها فلان؟!. كيف برأها القرآن؟!.
قال: ألست تقرأ في كتاب الله {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} سورة لقمان: 14 قال: بلى! قال: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ألست تقرأ في موضع آخر من القرآن: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} ؟ سورة الأحقاف: 15 قال: بلى! قال فإذا طرحنا أربعة وعشرين شهرًا مدة العامين، كم يبقى من الثلاثين قال: ستة أشهر، قال هي أقلُّ أمد الحمل. وهذه المرأة ولدت على أقل أمد الحمل؛ فعندها قال الخليفة: يا هذه، اذهبي بأمان الله فقد برأك القرآن، ورغم أنف فلان، يعني نفسه. ا. هـ.
ومن ذلك ما قيل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى امرأة في شيء بلغه عنها فأسقطت، فاستشار في أمرها، فقال له قائل: أنت مؤدب. فقال له عليٌّ: إن كان مجتهدًا فقد أخطأ، وإن كان لم يجتهد فقد غشك، عليك الدية، قال: عزمت عليك أن لا تجلس حتى تضربها على قومك. أخرجه البيهقي.
(8)
وقوله: وشهودًا، ينبغي للقاضي أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود ليحكم بشهادتهم لا بعلمه. وقال أبو عمر إذا جحد المقر إقراره الذي أقر به في مجلس الحكم، ولم تحضره بينة تشهد عليه بالإقرار، قال جمهور الشافعية وغيرهم يقولون: يجب القضاء عليه بموجب إقراره الذي أقر به، واستحب مالك أن يحضره شاهدان، ولا يعذر فيهما وظاهر هذا أن له أن يحكم ولو لم تشهد بينة علي إقراره، وفى المدونة: إذا أقر الخصم عنده وليس عنده بينة تشهد، ثم عاد فجحده، لا يقضى إلا ببينة سواه، وإلا شهد عليه بذلك عند من فوقه. ا. هـ. قال الحطاب: قولهم رفع إلى من فوقه، قال أبو الحسن: إذا رأى القاضي حدًا، رفع إلى من فوقه. وهل يرفع إلى من دونه؟ قولان، قال عياض: مذهب الكتاب أن أحدًا لا يرفع إلى من هو دونه إلَّا السلطان الأعظم للضرورة إلى ذلك. ا. هـ.
(9)
وقوله: ولم يفت في خصومة، نقل المواق عن ابن شأس: لا يجيب القاضي في مسألة مما يتعلق بالخصومات، واختار ابن عبد الحكم أنه لا بأس أن يجيب بالفتيا في كل ما سئل عنه لما عنده فيه علم واحتج بأن الخلفاء الراشدين الأربعة كانوا يفتون الناس في نوازلهم. ا. هـ. منه.
تنبيهٌ: قال في الواضحة: لا ينبغي أن يدخل على القاضي أحد الخصمين دون الآخر، وسواء كان القاضي وحده أو كان في جماعة. ا. هـ. المواق.
(10)
وقوله: وقبول هدية ولو كافأ عليها إلا من قريب، قال ابن حبيب: لم يختلف العلماء في كراهة قبول الإمام الأكبر وقضاته وجباته الهدايا، قال وهو مذهب مالك وأهل السنة، وقوله: إلا من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قريب يريد الخاص من الولد والوالد والخالة والعمة وبنت الأخت، قاله ابن فرحون ونحوه في التوضيح.
قلت: كراهة قبوله هدية من أحد، أي لئِلا تكون ذريعة إلى الرشوة لأن الرشوة ملعون صاحبها، ونهى الله عنها في كتابه العزيز، ونهى عنها نبيه في سنته المطهرة؛ أما الكتاب فقد قال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}
(1)
. أي ولا تعطوها إلى الحكام على سبيل الرشوة ليغيروا الحكم لكم. وقال تعالى: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى}
(2)
أي يرتشون في الأحكام. قاله البغوي. وأما السنة فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الراشِي وَالْمُرْتَشِي" أخرجه البغوي، والإِمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. والرشوة المحرمة إجماعًا، حقيقتها أنها ما يعطى لإبطال حق، أو لإحقاق باطل، أي المال الذي يعطيه الراشي لينال باطلًا، أو ليمنع حقًا يلزمه.
وهي بالنسبة للآخذ، المال الذي يأخذه الآخذه على أداء حق يلزمه، فلا يؤديه إلا برشوة يأخذها، أو المال الذي يأخذه على باطل يجب عليه تركه، ولا يتركه إلا بها.
أما إذا أعطى المعطي شيئًا ليتوصل به إلى حق له، أو ليدفع به عن نفسه ظلمًا، فإن ذلك لا يدخل في الرشوة المحرمة، والدليل ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه أُخِذَ فأعطى دينارين، فخُلِّي سبيله.
وروي عن الحسن، والشعبي، وجابر بن زيد، وعطاء، أنهم قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله، إذا خاف الظلم.
قال البغوي: وكذلك الآخذ إذا أخذ ليسعى في إعانة صاحب الحق، فلا بأس. ا. هـ.
(11)
وقوله: ولا يحكم مع ما يدهش عن الفكر، قال ابن عرفة: لا يجلس القاضي للقضاء وهو على صفة يخاف بها أن لا يأتي بالقضية صوابًا، وإن نزل به ذلك في قضائه ترك، كالغضب، والضجر، والهم، والجوع، والعطش، والحقن، قال: وإن أخذ من الطعام فوق ما يكفيه لم يجلس، وأصل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لَا يَحْكمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ". قال ابن عرفة: اتفق العلماء على إناطة الحكم بأعم من الغضب؛ وهو الأمر الشاغل، وإلغاء خصوص الغضب، وسموا هذا الإِلغاء والاعتبار بتنقيح =
(1)
سورة البقرة: 188.
(2)
سورة الأعراف: 169.
وعَزَّرَ شاهِدَ زورٍ في الْمَلإِ بِنِدَاءٍ ولَا يَحْلِقُ رَأسَهُ أوْ لحْيَتَهُ ولَا يُسَخِّمُهُ، ثُمَّ في قَبُوله تَردُّدٌ. وَإنْ أدَّبَ التَّائبَ فَأهْلٌ، وَمَنْ أسَاءَ عَلى خَصْمِهِ، أو مُفْتٍ، أو شاهِدٍ لا بِشَهِدْتَ بِبَاطِلٍ كَلِخَصْمِهِ كذَبْتَ. وَلْيُسَوِّ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ (1) وَإنْ مُسْلِمًا وكَافِرًا (2)، وقُدِّمَ المُسَافِرُ وَمَا يُخْشَى فَوَاتُهُ، ثُمَّ السَّابِقُ، قَالَ: وإنْ بَحقيْنِ بِلَا طُولٍ، ثُمَّ أُقْرِعَ. وَيَنْبَغِي أنْ يُفْرِدَ وقْتًا أوْ يَوْمًا لِلنَسَاءِ (3) كالمُفْتِي والمُدَرِّسِ.
وأمرَ مُدَّعٍ تَجَرَّدَ قَوْلُهُ عنَ مُصَدِّقٍ بِالْكَلَامِ وإلّا فَالْجَالبُ وإلَّا أُقْرِعَ فَيَدَّعِي بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقٍ. قال: وكَذَا شَىْءٌ وإلَّا لَمْ تُسْمَعْ كَأظُنُّ، وكَفَاهُ بِعْتُ وتَزَوَّجْتُ، وحُمِل عَلى الصَّحيحِ، وإلَّا فَلْيَسْألْهُ الْحَاكِمُ عَنِ السَّبَبِ، ثُمَّ مُدَّعىً عَلَيْهِ تَرَجَّحَ قَوْلُهُ بِمَعْهُودٍ أوْ أصْلٍ (4) بِجَوابهِ، إنْ خَالَطَهُ بِدَيْنٍ أوْ تَكرُّرِ بَيْع وَإنْ بِشَهَادَةِ امْرَأةٍ، لا بِبَيِّنَةٍ جُرِّحَتْ، إلَّا الصَّانِعَ والمُتَّهَمَ والضَّيْفَ، وفي مُعَيَّنٍ وَالْوَديعَةَ عَلى أهْلِهَا، والمُسافِرَ عَلى رُفْقَتِهِ، ودَعْوَى مَرِيضٍ أوْ بَائعٍ عَلى حَاضِرِ المُزَايَدَة، فإنْ أقَرَّ فَلَهُ الإِشْهَادُ عَلَيهِ، ولْلِحَاكمِ تنبيهُهُ عَلَيْهِ، وإنْ أنكرَ قَالَ: ألك بَيِّنَةٌ (5)؟ فإنْ نَفَاهَا واسْتَحْلَفَهُ فَلَا بَيِّنَةَ إلَّا لِعُذْرٍ كَنِسْيَانٍ أوْ وَجَدَ ثَانِيًا أوْ مَعَ يَمِينٍ لَمْ يَرَه الأولُ، ولَهُ يَمِينُهُ أنَهُ لَمْ يُحَلِّفْهُ أوَّلًا. قَال: وكَذا أنَّهُ عَالمٌ بِفِسْقِ شُهُودِهِ.
= المناط. ا. هـ. المواق.
والحديث الذي استدل به متفق عليه، وأيضًا فإن في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري: إيَّاك والضجر، والقلق، والتأذي بالناس عند الخصومة. ا. هـ.
(1)
وقوله: وليس بين الخصمين، قال الخرقي من فقهاء الحنابلة: ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه، والمجلس، والخطاب، قال ابن قدامة في الكلام على ما ذكره الخرقي: وجملة القول =
وأعْذرَ إلَيْهِ بأبَقيَتْ لَكَ حُجَّةٌ؟ ونُدِبَ تَوْجِيهُ مُتَعَدِّدٍ فِيهِ إلَّا الشَّاهِدَ بِمَا في المجْلِسِ ومُوَجَّهَهُ ومُزَكِّيَ السِّرِّ والمُبَرَّزِ بِغَيْرِ عَدَاوَةٍ وَمَنْ يُخْشَى مِنْهُ، وأنْظَرَهُ لَهَا باجْتِهَادِهِ، ثُمَّ حَكَمَ. كَنَفْيِهَا، ولْيُجبْ عَنِ المُجَرِّحِ، ويُعَجِّزُهُ إلَّا في دَمٍ، وحُبُسٍ، وعِتْقٍ، ونسَبٍ، وطَلَاقٍ، وكتَبَه، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ حُبِسَ وَأُدِّبَ ثُمَّ حَكَمَ بِلَا يَمِينٍ، ولمُدَّعىً عَليْهِ السُّؤَالُ عَنِ السَّبَبِ وقُبِلَ نِسْيَانُهُ بِلَا يَمِينٍ، وإنْ أنْكَرَ مَطْلُوبٌ المُعَامَلَةَ فَالْبَيِّنَةُ، ثُمَّ لا تُقْبَلُ بَيَنَةٌ بالْقَضَاء بِخِلَافِ لا حَقَّ لَك عَليَّ.
= أن على القاضي العدل بين الخصمين في كل شيء؛ من المجلس، والخطاب، واللحظ، واللفظ، والدخول عليه، والإِنصات إليهما، والاستماع منهما، قال: وهذا قول شريح، وأبي حنيفة والشافعي، ولا أعلم فيه مخالفًا. وقد روى عمرو بن شبة في كتابه قضاة البصرة بإسناده عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ بُلِي بِالْقَضاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِهِ وَإِشَارَتِهِ ومَقْعَدِهِ وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَا يَرْفَعُهُ عَلَى الآخَرِ". وفي رواية: "فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ في النَّظَرِ، وَالْمَجْلِسِ وَالإشَارَةِ".
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: آسِ الناس في مجلسك، وفي وجهك، وفي قضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك. ا. هـ. منه. وقال ابن قدامة: قال سعيد، ثنا هشيم، ثنا سيار، ثنا الشعبي قال: كان بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبيّ بن كعب رضي الله عنه بدار في شيء، فجعلا بينهما زيد بن ثابت فأتياه في بيته، فقال عمر: أتيناك لتحكم بيننا، وفي بيته يؤتي الحكم، فوسع له زيد عن صدر فراشه فقال: ههنا يا أمير المؤمنين. فقال له عمر: جُرْتَ في أول القضاء، ولكن أجْلِسُ مع خصمي، فجلسا بين يديه، فادَّعى أبيٌّ وأنكر عمر، فقال زيد لأبيّ: اعفُ أمير المؤمنين من الحلف، وما كنت لأسألها لأحد غيره، فحلف عمر، ثم أقسم لا يدرك زيد باب القضاء حتى يكون عمر ورجل من عُرْضِ المسلمين عنده سواء. وهذا الأثر أخرجه أبو يعلي، والدارقطني، والطبراني في الكبير عن أم سلمة، وقال الشوكاني: في إسناده عباد بن كثير وهو ضعيف. =
. . . . . . . . . . . . . . .
= وقال ابن قدامة: والسنة أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم، رواه أبو داود.
(2)
وقوله: وإن مسلمًا وكافرًا، قال المواق: المازري: لو كان الخصمان مسلمًا وذميًا، ففي تسويتهما في المجلس كالمسلمين، أو جعل المسلم أرفع قولان. قال ابن عرفة: لم يذكر الشيخ غير الأول معزوًا لأصبغ. ا. هـ. منه.
قلت: ذكر ابن قدامة: يجوز رفع الخصم المسلم على خصمه الذميِّ، لما روى إبراهيم التيمي قال: وجد على كرم الله وجهه درعه مع يهودي، فقال: درعي سقطت وقت كذا، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، بيني وبينك قاضي المسلمين، فارتفعا إلى شريح، فلما رآه شريح قام من مجلسه وأجلسه في موضعه، وجلس مع اليهودي بين يديه، فقال عليٌّ: إن خصمي لو كان مسلمًا لجلست معه بين يديك ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجَالِس". ذكره أبو نعيم في الحلية.
تنبيهٌ: ولا ينبغي أن يضيف القاضي أحد الخصمين دون صاحبه، إما أن يضيفهما معًا أو يدعهما معًا، فقد روي عن عليّ رضي الله عنه أنه نزل به رجل فقال: إنك خصم؟ قال: نعم، قال: تحوَّل عنا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لَا تُضَيِّفُوا أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إِلَّا وَمَعَهُ خَصْمُهُ".
(3)
وقوله: وينبغي أن يفرد وقتًا أو يومًا للنساء: قال القرطبي في شرح قوله عليه الصلاة والسلام للنساء: "اجْتَمِعْنَ وَقْتَ كَذَا". على أن الإِمام ينبغي له أن يعلم النساء ما يحتجن إليه من أمر دينهن، وأن يخصهن بيوم مخصوص لذلك، كان في المسجد أو في مكان بمعناه لتؤمن الخلوة بهن، فإن تمكن بذلك بنفسه فعل، وإلا استنهض الإِمام شيخًا يوثق بعلمه ودينه لذلك حتى يقوم بهذه الوظيفة. ا. هـ. بنقل الحطاب.
(4)
وقوله: وأمر مدع تجرد قوله عن مصدق بالكلام إلى قوله: ثم مدعىً عليه ترجح قوله بمعهود أو أصل، لما كان فصل القضاء جملته في تمييز حال المدعي والمدعى عليه، شرع رحمه الله في تمييز ذلك، وجملة القول فيه أن المدعي هو أبعد المتداعيين سببًا، فهو من كان قوله على خلاف أصل أو عرف ظاهر، وأن المدعى عليه هو أقربهما سببًا، فهو من وافقت دعواه الأصل أو العرف، فالأصل كدعوى بقاء الملك والعرف كدعوى الأشبه، وظهور العرف هو إفادة ظن صدق صاحبه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال ابن شاس: المدعي من تجردت دعواه عن أمر يصدقه، أو كان أضعف المتداعيين أمرًا في الدلالة على الصدق، واقترن بها ما يوهنها عادة، وذلك كالمخالف لأصل وشبه ذلك، قال: ومن ترجح جانبه بشيء من ذلك فهو المدعى عليه، ا. هـ. بنقل المواق.
قال علي الزقاق في المنهج المنتخب:
المدَّعَى عليه من يوافقه
…
عُرْفٌ أو أصْلٌ، بعْضهم يُحَقِّقُهْ
بأنه أقربُ خصمين سبَبْ
…
والضدُّ مدَّعٍ كَنَاظِرٍ طُلِبْ
وقوله: فيدعي بمعلوم محقق ألخ. يريد به، والله أعلم، أن الدعوى الصحيحة التي يجب ردها بإقرار أو إنكار، هي طلب ما في ذمة معين، إما بالشخص؛ كدعوى دين على زيد مثلًا، أو بالصفة؛ كدعوى الدية علي العاقلة، أو هي طلب الشيء المعين، كثوب مثلًا يدعي أنه اشتراه، أو أنه غصب منه أو كدعوى ما يترتب عليه ادعاء أحدهما؛ كدعوى المرأة على زوجها الطلاق أو الردة، فيترتب على ذلك حوزها لنفسها وهي معين، أو كدعوى الوارث أن موروثه مات مسلمًا أو مات كافرًا؛ فيترتب على ذلك ما يترتب من الميراث وهو معين، أو هي ما يثول إلى الدعوى على معين بالشخص؛ كدعوى المرأة المسيس على زوجها؛ لأن ذلك يئول إلى دعوى الصداق - أو هي ما يئول إلى دعوى معين بالصفة؛ كدعوى قتل الخطإ؛ لأنه يئول إلى الدعوى على كل مكلف عاقل من عاقلة المدعى عليه.
ويشترط في الدعوى أن تكون معتبرة شرعًا، فمثل دعوى عشر سمسمة على أحد لا يسمعه القاضي.
ويشترط في الدعوى أيضًا أن تكون معلومة محققة، فلو قال: لي عليه شيء لم تسمع دعواه لأنها مجهولة، ولو قال: أظن أن لي عليه ألفًا. لم تسمع أيضًا ويشترط فيها أيضًا أن لا تكذبها العادة، فمن ادعى على الحاضر الأجنبي ملك دار في يده؛ طال الزمن وهو يراه يهدم ويبني، ويؤجر من غير منازع، ومن غير وازع يزعه عن طلبه؛ من رغبة أو رهبة .. فإن هذا دعواه تكذبها العادة، فلا تسمع.
وقد عرف الشيخ علي الزقاق في المنهج المنتخب الدعوى الصحيحة فقال:
طلب ما بذمة المعين
…
أو المعين كثوب بين
أو ما ترتب عليه ما ذكر
…
كامرأة أو وارث إن اعتبر =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= شرعًا، وإلَّا لا، كعشر سمسمة
…
د 0 عوى صحيحة، وجهْلًا عَدِمَهْ
ولم تكذِّبْ عادة، وحَقَّقَا
…
وغرض صُحح هل تعلقَا
(5)
وقوله: وإن أنكر قال: ألك بينة الخ، الذي عليه الدليل أن من ادعى عينًا في يد آخر، أو دينًا في ذمة أحد، فأنكر أن القول قول المدَّعى عليه مع يمينه، وإن على من ادَّعى البينة، وهذا قول عامة أهل العلم. روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَموَالَهُمْ، وَلكِنَّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ". أخرجه مسلم في الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه، وهو عند الشيخين بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه.
وأخرج مسلم أيضًا عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي". قال وأحسبه قال: "وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ".
قال البغوي: وروى أبو معاوية عن الأعمش، عن شقيق، عن الأشعث، قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ"؟ قلت. لا. قال لليهودي "احْلِفْ". فقلت: إذًا يحلف، فأنزل الله سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}
(1)
أخرجه البخاري، وأبو داود، وابن ماجه، والإِمام أحمد.
وأخرج أبو داود عن الأشعث بن قيس أن رجلًا من كندة ورجلًا من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن أرضي اغتصبها أبو هذا وهي في يده، قال:"هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ"؟ قال: لا. ولكن أحلفه والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين، وساق الحديث.
وفيه عن وائل بن حجر الحضرمي عن أبيه قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها، ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي:"أَلَكَ بَيِّنَةٌ "؟ قال: لا، قال:"فَلَكَ يَمِينُه". فقال. يا رسول الله، إنه فاجر، ليس يبالي ما حلف، ليس يتورع من شيء، فقال: =
(1)
سورة آل عمران: 77.
وكُلُّ دَعْوَى لَا تثبت إلَّا بعَدْلَيْنِ فلا يمين بمجرَّدِها ولا تُرَدُّ كَنِكَاحٍ (1). وَأمَر بِالصُلْحِ ذَوِي الْفَضْلِ والرَّحِمِ، كأنْ خَشِيَ تَفَاقُمَ الأمْرِ. ولَا يَحْكُمُ لِمَنْ لَا يَشْهَد لَهُ عَلى المخْتارِ. ونُبِذَ حُكْمُ جَائِرٍ، وجَاهِلً لَمْ يُشَأوِرْ، وإلَّا تُعُقِّب ومَضَى غيْرُ الْجَوْرِ، ولا يُتَعَقَّبُ حُكْمُ الْعَدْلِ العَالِمِ. ونَقَضَ وبَيَّنَ السَّبَبَ مُطْلَقًا مَا خَالَفَ قَاطِعًا أوْ جَلِى قِياسٍ كاسْتِسْعَاءِ مُعْتِق، وشُفْعَةِ جَارٍ، وحُكْمٍ على عَدُوٍّ، أَو بشَهَادَةِ كَافِرٍ، أو ميراثِ ذي رَحِمٍ أوْ مَوْلىً أسْفَلَ، أوْ بِعِلْمٍ سَبَقَ مَجْلِسَهُ، أَو جَعْلِ بَتَّةٍ وَاحِدَةً، أَو أنَّه قَصَدَ كذَا فأخْطَأَ بِبَيِّنَةٍ، أوْ ظَهَرَ أنَّه قَضَى بِعَبْدَيْنِ أو كَافِريْنِ أو صَبِيَّيْنِ أو فاسقَيْنِ كأحَدِهِمَا إلَّا بِمَالٍ فَلا يُرَدُّ إنْ حَلَفَ وإلَّا أُخِذَ مِنْهُ إنْ حَلَفَ، وحَلَفَ فِي القِصَاصِ خَمسِينَ مَع عَاصِبهِ وإن نَكَلَ رُدَّتْ، وغَرمَ شُهُودٌ عَلِمُوا وإلَّا فَعَلى عَاقِلَةِ الإِمَامِ، وفي القَطْعِ حَلَفَ المَقْطُوعُ أنَّها باطِلَةٌ. ونَقَضَهُ هُو فَقَطْ إن ظَهَرَ أنَّ غَيْرَهُ أصْوَبُ (2) مِنْهُ، أوْ خَرَجَ عَنْ رَأيِهِ أوْ رَأيَ مُقَلَّدِهِ.
ورفع الخِلَافَ لَا أحَلَّ حرامًا (3). ونَقْلُ مِلْكٍ وفَسْخُ عَقْدٍ وتَقَرُّر نِكاحٍ بِلَا
= لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذلِكَ". وهذا الحديث كما أخرجه أبو داود، فقد أخرجه مسلم في الأيمان، والترمذي في الأحكام، باب: البينة. على المدعي. ونسبه المنذري للنسائي أيضًا.
(1)
وقوله: وكل دعوى لا تثبت إلا بعدلين فلا يمين بمجردها ولا ترد كنكاح: قال ابن الحاجب: كل دعوى لا تثبت إلا بشاهدين، فلا يمين بمجردها، ولا ترد؛ كقتل العمد والنكاح والطلاق والعتق والنسب والولاء والرجعة. ا. هـ. مواق.
قلت: هذا ما نظمه الشيخ علي الزقاق في المنهج المنتخب بقوله:
وكل ما ثُبوتُهُ مُقَيَّدُ
…
بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ فإنْ تَجَرَّدُ
فلا يمِينَ مُطْلَقًا، نَعَمْ تَجِبْ
…
إنْ نُفِيَ الْقَيْدُ وكان مَا طُلِبْ
مُسْتَوْفيًا شُروَط ما تَقدّمَا
…
ومُشْبِهًا كمَنْ بِسُوقٍ علما =
وَليٍّ حُكْمٌ، لَا، لَا أجيزُهُ، أو أفْتَى ولم يَتَعَدَّ لمُمَاثِلٍ، بَلْ إن تجَدَّدَ فالاجْتهادُ كفَسْخٍ برضْعِ كَبيرٍ وتَأبِيدِ مَنْكُوحَةِ عِدَّةٍ، وهِيَ كَغَيْرهَا في المُسْتَقْبَلِ. ولا يَدْعُو لِصُلْحٍ إنْ ظَهَرَ وَجْهُهُ، ولا يَسْتَنِدُ لِعِلْمِهِ إلَّا في التّعْدِيلِ والجَرْحِ كالشّهْرَةِ بِذلِك أو إقْرار الْخَصْمِ بِالعَدَالَةِ، وإنْ أنْكَرَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ إقْرَارَهُ بَعْدَهُ لَمْ يُفِدْهُ. وإن شَهِدَا بِحُكْمٍ نَسِيَهُ أوْ أنْكَرَهُ أمْضَاهُ.
= ومعنى ما نظم أن كل دعوى لا تثبت إلا بعدلين، لا تتوجه اليمين بردها على من ادعيت عليه بمجرد الدعوى، فإن كانت الدعوى تثبت بالشاهد واليمين، وجب اليمين على المدعى عليه بمجردها لردها إنْ كانت مستوفية للشروط التي تستوجب سماعها، وهي الشروط التي تقدم ذكرها في تعريف الدعوى الصحيحة، وبشرط أن يكون المدعي مشبهًا في دعواه، كمن يدعي سلعة معينة بيد رجل، أو ادعى غريب وديعة محمد جاره، أو ادعى مسافر أنه أودع أحد رفقائه، أو ادعى أحد على أحد أهل السوق المنتصبين اللبيع به أنه اشترى منه شيئًا.
(2)
وقوله: ونقضه هو فقط إن ظهر أن غيره أصوب، هذا الفرع يستأنس له بما كتبه عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري عليه رضوان الله، وهو قوله: ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادى على الباطل.
(3)
وقوله: ورفع الخلاف لا أحل حرامًا، قال ابن قدامة: حكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته في قول جمهور العلماء، منهم مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، ومحمد بن الحسن، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، ولَعَلَّ أحَدكُم يَكُونُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَىْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فلَا يَأخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِن النَّارِ". متفق عليه.
وخالف أبو حنيفة قال: إذا حكم الحاكم بعقد أو فسخ أو طلاق، نفذ حكمه ظاهرًا وباطنًا.
قال ابن المنذر تفرد أبو حنيفة فقال: لو استأجرت امرأة شاهدين شهدا لها بطلاق زوجها، وهما يعلمان كذبهما، فحكم الحاكم، لحل لها أن تتزوج، وحل لأحد الشاهد نكاحها. واحتج =
وأنْهَى لِغيْرِهِ بِمُشَافَهَةٍ إن كانَ كُلُّ بِوِلَايَتِهِ، وبِشَاهِدَيْنِ مُطْلَقًا واعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا وإنْ خَالَفَا كتَابَهُ، ونُدِبَ خَتْمُهُ، وَلَمْ يُفِدْ وحْدَهُ، وأدَّيا وإنْ عِنْدَ غَيْرِه، وأفَادَ إنْ أشْهَدَهُمْا أنَّ مَا فِيهِ حُكْمُهُ أوْ خَطُّهُ كَالإِقْرَارِ. ومَيَّزَ فيهِ مَا يَتَمَيَّزُ بِه مِن اسْمٍ وحِرْفَهٍ وغْيرِهِمَا، فيُنَفِّذُهُ الثَانِي، وبَنَى، كأنْ نُقِلَ لِخِطَّةٍ أُخْرَى وإنْ حَدًّا، إنْ كَانَ أهْلًا أوْ قاضِيَ مِصْرٍ، وإلَّا فلا، كأنْ شَارَكَهُ غيْرهُ وإنْ مَيِّتًا، وإنْ لمْ يُمَيَّزْ، فَفِي إعْدَائِهِ أوْ لَا حَتَّى يُثْبِتَ أحَدِيَّتَهُ، قولان. والقَرِيبُ كالْحَاضِرِ. والْبَعيدُ كإفريقية يُقْضَى عَلَيْه بِيَمِينِ الْقَضَاءِ. وسَمَّى الشُّهُودَ وإلَّا
= بما روي عن عليّ رضي الله عنه أن رجلًا ادعى على امرأة نكاحها، فرفعها إلى عليّ رضي الله عنه، فشهد له شاهدان بذلك، فقضى بينهما بالزوجية، فقالت: والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين، اعقد بيننا عقدًا حتى أحل له. فقال: شاهداك زوجاك. قال أبو حنيفة: فدل على أن النكاح ثبت بحكمه، قال: ولأن اللعان ينفسخ به النكاح وإن كان أحدهما كاذبًا، فالحكم أولى. ا. هـ. من المغني بتصرف.
وفي الموطإ، وفي صحيح مسلم، وفي السنة للبغوي، عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ". قالوا: يا رسول الله، وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال:"وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ". قالها ثلاث مرات. وهذا لفظ البغوي.
وقد ورد في ذم اللدد في الخصومة قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}
(1)
. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أرْبعٌ مَنْ كُن فيه كَانَ مُنَافقًا؛ إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ". الحديث المتفق عليه.
وحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَال إِلَى الله الْألَدُّ الْخَصِمُ". متفق عليه أيضًا.
تنبيهٌ: يجوز للقاضي أخذ رزق القضاء، لما رواه عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استُخْلِفَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مئونة أهلي، وشُغلتُ بأمر المسلمين، فسيأكلُ آلُ أبي بكر من هذا المال، ويحترف للمسلمين فيه. هذا =
(1)
سورة البقرة: 204.
نُقِضَ، والعَشَرَةُ، أو اليَوْمَانِ مَع الخَوْفِ، يُقْضَى عَلَيْهِ مَعَهَا في غَيْرِ اسْتِحْقَاقِ الْعَقَارِ. وحَكَمَ بِمَا يَتَمَيَّزُ غَائبًا بِالصِّفَةِ كدَيْنٍ.
وجَلَبَ الْخَصْمَ بِخَاتَمٍ أوْ رَسُولٍ إنْ كانَ عَلى مَسَافَةِ الْعَدْوَى لَا أكْثَر، كَسِتِّينَ مِيلًا إلَّا بِشَاهِدٍ. وَلَا يُزوَّجُ امرأةً لَيْسَتْ في ولايَتِهِ. وَهَلْ يُدَّعَى حَيْثُ المدَّعَى عَلَيْهِ؟ وبه عُمِلَ، أو المدَّعي؟ وأقِيمَ مِنها، وفي تَمْكينِ الدَّعْوى لغائب بِلَا وَكالةٍ، تَردُّدٌ.
= الحديث أخرجه البخاري باب كسب الرجل وعمله بيده، في البيوع، وأخرجه البغوي باب: رزق القضاة والولاة.
وساق البغوي سندًا أيوب، عن ابن سيرين، عن الأحنف بن قيس، قال: كنا جلوسًا عند باب عمر، فخرجت علينا جارية، فقلنا هذه سُرِّيَّةُ أمير المؤمنين، فقالت: والله ما أنا بُسرِّيَّةٍ، وما أَحِلُّ له، وإنِّي لمن مال اللهِ، ثمَّ دخلت، فخرج علينا عمر فقال: ما ترونه يحل لي من مالِ الله؟ أو قال: من هذا المال؟ قال قلنا. أمير المؤمنين أعلم بذلك منَّا. فقال: إن شئتم أخبرتكم ما أستحل منه؛ ما أحُجُّ وأعتمر عليه من الظهر، وحُلَّتي في الشِّتاء، وحُلَّتي في الضَّيف، وقُوتُ عِيَالي وشِبَعِي، وسهمي في المسلمين، فإنما أنا رجل من المسلمين. ا. هـ.
وقال ابن قدامة: ويجوز للقاضي أخذ الرزق، ورخص فيه شريح، وابن سيرين، والشافعي وأكثر أهل العلم. وروي عن عمر بن الخطاب أنه استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقًا، ورزق شريحًا في كل شهر مائة درهم، وبعث إلى الكوفة عمارًا وعثمان بن حنيف وابن مسعود، ورزقهم كل يوم شاة، نصفها لعمار، ونصفها لابن مسعود وعثمان. قال: وكتب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام أن انظرا رجالًا من صالحي من قبلكم، فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم، وارزقوهم وأكفوهم من مال الله. قال. وقال أصحاب الشافعي: إن تعين القضاء على القاضي لم يجز له أخذ الرزق عليه، إلا مع الحاجة، قال: والصحيح جواز أخذ الرزق عليه مطلقا؛ لما روينا من عمل الصحابة رضوان الله عليهم. ا. هـ. منه باختصار وتصرف.
تنبيهٌ: ورد في التنفير من الولاية، ما روي أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَمِير =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عَشَرَةٍ إِلَّا يُؤْتى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا حَتَّى يَفُكَّ عَنْهُ الْعَدْلُ، أوْ يُوبِقَهِ الْجَورُ" أخرجه البغوي، وأحمد، والدارمي، والمنذري.
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وَيْلٌ لِلأُمَرَاءِ، وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ، وَيْلٌ لِلْأمَنَاءِ، لَيَتَمَنَّيَن أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ نَوَاصِيَهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِالثُّريَّا يَتَجَلْجَلُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ والْأرْضِ، وَأَنهُمْ لَمْ يَلُوا عَمَلًا". أخرجه البغوي، وأحمد، وصححه الحاكم وابن حبان.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّ الْعَرَافَةَ حَقٌّ، وَلَا بُدَّ لِلناس مِنْ عُرَفَاءَ، وَلكِنَّ الْعُرَفَاءَ فِي النارِ". أخرجه أبو داود، وذكره في شرح السنة. قال البغوي: والعريف هو القيم بأمر القبيلة والمحلة يلي أمورهم، ويتعرف الأمير منه أحوالهم. وهو حق لما فيه من المصلحة للناس. وقوله:"وَالْعُرَفَاءُ فِي النَّارِ". معناه التحذير من التعرض للرئاسة والتأمر على الناس، لما فيه من الفتنة، وأنه إذا لم يقم بحقه، ولم يؤد الأمانة فيه، أثم واستحق العقوبة والنار. ا. هـ.
وعن ابن عمر قال، قال رسول صلى الله عليه وسلم:"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالْأمِيرُ عَلَى النَّاسِ رَاعٍ عَلَيْهِمْ وهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ". الحديث المتفق عليه. قال البغوي: معنى الراعي هنا: الحافظ المؤتمن على ما يليه.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنصيحة فيما يلونه، وحذرهم الخيانة فيه، فالرعاية حفظ الشيء وحسن التعهد، فرعاية الإِمام: ولاية أمور الرعية والحيطة من ورائهم، وإقامة الأحكام فيهم. ا. هـ.
تنبيهٌ: ورد في الحث على العدل بين الناس قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
(1)
. وقال الله تعالى في المائدة أيضًا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
(2)
. والقسط هو العدل. قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}
(3)
. من الأعراف، أي أمر ربي بالعدل، يقال: أقسط إذا عدل، ويقال: قَسَطَ، إذا جارَ، والقاسط الجائر، قال الله تعالى:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}
(4)
. =
(1)
سورة المائدة: 8.
(2)
سورة المائدة: 42.
(3)
سورة الأعراف: 29.
(4)
سورة الجن: 15. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ: إِمَامٌ عَادِلٌ". الحديث المتفق عليه. وهو في الموطإ أيضًا. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يرفعه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ الرحْمنِ، وَكِلْتَا يَديْهِ يَمِينٌ، هُمُ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأهْلِيهِمْ وَمَا وُلُوا" أَخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن سفيان بن عيينة.
هذا، وأرجو الله تعالى أن يمن علينا وعلى إخواننا المسلمين بالعدل في القول والفعل في كل حال من أحوالنا، هو حسبنا ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كتاب الشهادات
بَابٌ: الْعَدْلُ حُرٌّ، مُسْلِمٌ، عَاقِلٌ، بالِغٌ، بلا فِسْقٍ (1) وحَجْرٍ وبِدْعَةٍ وإنْ تَأوَّل كَخَارِجيٍّ وقَدَرِيٍّ. لَمْ يَباشِرْ كَبِيرَةً أوْ كثيرَ كَذِبٍ. أوْ صغيرةَ خِسَّةٍ وسفاهةٍ ولَعِبَ نَردٍ. ذو مُرُوءَةٍ بِتَرْكِ غيْر لَائق مِنْ حَمَامٍ وسَمَاع غِنَاء، ودِبَاغةٍ، وحِياكَةٍ اختيارًا، وإدامةِ شطرْنج وإنْ أعْمَى في قَوْلٍ (2) أوْ أصَمَّ فِي فِعْلٍ، ليْسَ بِمُغَفَّلٍ إلَّا فِيما لَا يلْبِسُ، ولَا مُتَأكَّدِ الْقُرْبِ (3) كأبٍ وإنْ عَلَا وزَوْجِهمَا، وولَدٍ وإنْ سَفَلَ كبِنْتٍ وزَوْجِهِمَا، وشَهَادَةُ ابْنٍ مَعَ أبٍ وَاحِدَةٌ كَكُلٍّ عِنْدَ الآخَر أوْ على شَهَادَتِهِ أوْ حُكْمِهِ، بِخِلافِ أخٍ لأخٍ إنْ برَّزَ (4) وَلَوْ بتعْدِيلٍ، وتُؤُوِّلَتْ أيْضْا بِخِلَافِهِ، كَأجِيرٍ ومَوْلىً ومُلَاطِفٍ ومُفاوضٍ في غيْرِ مُفاوَضَةٍ وزائد أوْ مُنَقِّصٍ وذَاكِرٍ بَعْدَ شَكٍّ وتَزْكِيَةٍ (5) وإنْ بِحَدٍّ مِنْ مَعْرُوفٍ، إلَّا الْغَريبَ (6)، بأشْهَدُ أنَّه عَدْلٌ رِضًا (7)، مِنْ فَطِنٍ عَارِفٍ لَا يُخْدَعُ مُعْتِمدٍ على طُولِ عِشْرَةٍ، لا سَمَاعٍ مِن سُوقِه أو مَحَلَّتِهِ إلَّا لتَعَذُّرٍ (8).
كتاب الشهادات
قال ابن قدامة: الأصل في الشهادات الكتاب والسنة والإِجماع، والعبرة، أمّا الكتاب. فقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
(1)
. وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}
(2)
. وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}
(3)
. ومن أدلة ذلك قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}
(4)
.
وأما الدليل من السنة فحديث وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض لي. فقال الكندي: هي أرضي، وفي يدي، فليس له فيها حق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي:"أَلَكَ بَيِّنَةٌ"؟ قال: لا. قال "فَلَكَ =
(1)
و
(3)
سورة البقرة: 282.
(2)
سورة الطلاق: 2.
(4)
سورة الحجرات: 6.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يمِينُهُ"؛ قال: يا رسول الله، الرجل فاجر، لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء. قال: "لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذلِكَ"، قال: فانطلق الرجل ليحلف له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر: "لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالٍ لِيَأكُلَهُ ظلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللهَ تَعَالَى وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ". قال الترمذي: حسن صحيح. وأيضًا فإن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ". رواه الترمذي، وإن كان في سنده مقال فإن الترمذي قال: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. أي على مقتضاه قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على هذا.
ومأثور عن شريح قوله: القضاء جمر، فنحه عنك بعودين. يعني الشاهدين.
وقال: إنما الخصم داء، والشهود شفاء، فأفرغ الشفاء على الداء. ا. هـ.
(1)
قوله رحمه الله: العدل حر، مسلم، عاقل، بالغ، بلا فسق ألخ، قال البغوي: شرائط قبول الشهادة سبعة: الإِسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والعدالة، والمروءة، وانتفاء التهمة. فلو شهد ذمي على شيء، لا تقبل شهادته عند كثير من أهل العلم. وهو قول مالك، والشافعي. وقال الشافعي: المعروفون بالكذب من المؤمنين لا تجوز شهادتهم، فكيف تجوز شهادة الكفار مع كذبهم على الله عز وجل.
وقال البغوي: والحرية شرط في قبول الشهادة لأنها من باب الولايات، والعبد ناقص في الحال. وذهب قوم إلى قبول شهادة العبيد. يروى ذلك عن أنس، وإليه ذهب شريح، وزرارة بن أوفى. وهو شوت عثمان البتِّي. وقال ابن سيرين: تجوز شهادته إلا لسيده. وقال الحسن وإبراهيم النخعي: تجوز شهادة العبيد في الشيء التافه. ا. هـ.
والبلوغ شرط في العدالة لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}
(1)
.
وروي عن ابن عباس في شهادة الصبيان، قال: لا تجوز؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
(2)
.
وقال مالك: تقبل شهادة الصبيان على الجراح التي تقع في محل اجتماعهم، ما لم يتفرقوا، ولا تقبل في غير ذلك. ويروى مثل ذلك عن ابن الزبير. وكان شريح يجيز شهادة الصبيان بعضهم علي =
(1)
و
(2)
سورة البقرة: 282.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بعض.
والعدالة شرط في قبول الشهادة لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}
(1)
. فلا تقبل شهادة الفاسق إذًا، ولقوله تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}
(2)
. فهو أمر بالتوقف عن نبإ الفاسق، والشهادة نبأ.
فالعدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله، أما في دينه؛ فلا يرتكب كبيرة، ولا يداوم على صغيرة. قال الشافعي رحمه الله: ليس من الناس أحد نعلمه إلا أن يكون قليلًا، يمحض الطاعة والمروءة، حتى لا يخلطهما لشيء من المعاصي، ولا يمحض المعصية ويترك المروءة حتى لايخلطهما بشيء من الطاعة والمروءة، فإذا كان الأغلب الأظهر من أمره الطاعة والمروءة، قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة، ردت شهادته. وهذا المعنى نظمه من قال:
والعدل من ي 5 جتنب الكبائرا
…
ويتقي في الأغلب الصغائرا
وما أبيح وهو في الأعيان
…
يقدح في مروءة الإِنسان
قال: والمروءة المطلوبة هي ما يتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء، وهي حسن الهيئة، والعشرة، والسيرة، والصناعة.
وقال بعضهم: المروءة هي المحافظة على ترك ما يوجب الذم فعلهُ من مباح.
(2)
وقوله: وإن أعمى في قول، قال البغوي: شهادة الأعمى مقبولة فيما يثبت بالسماع، أو حيث انتفت الريبة عن شهادته؛ بأن أقر رجل لآخر في أذنه، فتمسك به، فشهد عليه، قال: وممن أجاز شهادته القاسم، والحسن وعطاء، وابن سيرين، والشعبي، والزهري. قال الزهري: أرأيت ابن عباس لو شهد أكنت ترده؟
قلت: أليس في قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلوُا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ". أليس فيه دليل على قبول شهادة الأعمى؟. فإن في هذا الحديث أن الصبح يثبت بإعلامه، وأنه يحرم لذلك الأكل والشرب على الصائم. =
(1)
سورة الطلاق: 2.
(2)
سورة الحجرات: 6.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (3) وقوله: ولا متأكد القرب الخ. دليله حديث عروة عن عائشة ترفعه. "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غَمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلا ظِنِّينٍ فِي وَلَاءٍ وَلَا قَرَابَةٍ، وَلَا الْقَانِعِ مَعَ أَهْلِ الْبَيْتِ"
(1)
. فلا تجوز شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده عند أكثر أهل العلم، وتجوز عليه. وذهب بعض أهل العلم إلى جواز شهادة أحدهما على الآخر، وهو قول شريح، وإليه ذهب داود، وأبو ثور. ا. هـ. البغوي.
قال ابن قدامة: وبه قال عمر بن عبد العزيز والمزني، وإسحاق، وابن المنذر لعموم الآيات؛ ولأنه عدل تقبل شهادته في غير هذا الموضع، فتقبل شهادته فيه كالأجنبي.
أما دليل قبول شهادة أحدهما على الآخر، فقوله تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}
(2)
.
(4)
وقوله: بخلاف أخ لأخ إن برَّز: قال في كتاب الشهادات من المدونة: وتجوز شهادة الأخ لأخيه، والرجل لمولاه أو لصديقه أو الملاطف إلا أن يكون في عياله أحد من هؤلاء يمونه فلا تجوز شهادته له. ا. هـ. وقال في أول الكتاب. ولا تجوز شهادة من هو في عيال الرجل له وذلك الأخ والأجنبي إذا كانا في عياله، فإن لم يكونا في عياله جازت شهادَتُهُمَا إذا كانا مُبرِّزين في العدالة. ا. هـ. منه بنقل الحطاب.
قال الخرقي: وشهادة الأخ لأخيه جائزة. ونقل ابن قدامة عن ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة، روي هذا عن ابن الزبير، وبه قال شريح، وعمر بن عبد العزيز، والشعبي، والنخعي، والثوري، ومالك، والشافعي، وأبو عبيد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وعن مالك أنه لا تقبل شهادته لأخيه إذا كان منقطعًا إليه في صلته وبره؛ لأنه متهم في حقه، وقال ابن المنذر، قال مالك: لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في النسب وتجوز في الحقوق. ا. هـ. منه.
وقال البغوي واتفقوا على قبول شهادة الأخ، وسائر الأقارب. ا. هـ. منه.
والمبرز - بكسر الراء - هو ظاهر العدالة، سابقًا غيره متقدمًا عليه. وأصله من تبريز الخيل في السبق. ا. هـ. الحطاب.
(5)
وقوله: كأجير ومولىً ملاطف إلى قوله: وتزكية، قال ابن بشير: ستة لا يقبل فيها إلا العدل =
(1)
أخرجه الترمذي والبغوي.
(2)
سورة النساء: 135.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المبرز، وهي: الشاهد للأخ، وللمولى، وللصديق الملاطف، وللشريك في غير التجارة، وإذا زاد الشاهد أو نقص في شهادته، والتعديل. انتهى.
وقال ابن رشد: يشترط التبريز في العدالة على مذهب ابن القاسم في شهادة الأخ لأخيه، والأجير لمن استأجره إن لم يكن في عياله، وشهادة المولى لمن أعتقه، وشهادة الصديق الملاطف لصديقه، وشهادة الشريك لشريكه المفاوض في غير مال المفاوضة، ومن سئل في مرضه شهادة لتنقل عنه فقال: لا أعلمها. ثم شهد بها واعتذر بأنه خشي في مرضه عدم تثبته فيها، ومن زاد في شهادته أو نقص. ا. هـ. وقال سحنون: لا يجوز في التزكية العلانية إلا المبرز النافذ الفطن؛ الذي لا يخدع في عقله، ولا يستذل في رأيه ا. هـ. من المواق باختصار.
(6)
وقوله: من معروف إلا الغريب، قال في المدونة: إن شهد قوم على حق فعدلهم قوم غير معروفين، وعدل المعدلين آخرون، فإن كان الشهود غرباء، جاز ذلك، وإن كانوا من أهل البلد، لم يجز؛ لأن القاضي لا يقبل عدالة على عدالة. ا. هـ. من المواق.
وقد نظم ابن غازي ذلك فقال:
تَعْدِيلٌ احْتَاجَ لتَعْديلٍ هَبَا
…
إلَّا مُعَدِّلَ النِّسَا والغُرَبَا
(7)
وقوله: بأشهد أنه عدلٌ رضًا، قال في المدونة: لا يجزئ في التعديل إلا القول بأنهم عدول مرضيون. قال الحطاب: وذكر الدماميني في حاشيته على البخاري في قوله: لا نعلم إلا خيرًا. إن هذا اللفظ لا يفيد التزكية، وإنما يكتب للتبرئة من التهم، فيقولون في عقد التبرئة: لا يعلم شهوده على فلان إلا خيرًا. قال: ولابد في هذه الشهادة من خبرته ومباطنته. ا. هـ. منه.
قلت: ولعلهم اقتبسوا شرط التصريح بالرضا هنا من قوله تعالى في سورة البقرة {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
(1)
والله تعالى أعلم.
(8)
وقوله: "من فطن عارف، إلى قوله إلا لتعذّر، قال سحنون، لا يزكِّي إلا من خالطه في الأخذ والإعطاء، وطالت صحبته إياه في السفر والحضر. وقال اللخمي: لا يقبل التعديل بيسير المخالطة، ولا يقبل تعديله من غير سوقه ومحلته، فإن توقف أهل سوقه ومحلته عن تعديله، كان ذلك ريبة، فإن =
(1)
سورة البقرة: 282.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لم يكن فيهم عدل قبل التعديل من سائر بلده.
قلت: ويستأنس لهذا بما روي عن عمر بن الخطاب أنه أُتيَ بشاهدِين، فقال لهما عمر: لست أعرفكما ولا يضركما إن لم أعرفكما، جيئا بمن يعرفكما، فأتيا برجل، فقال له عمر: تعرفهما؟ فقال: نعم، فقال عمر: صحبتهما في السفر الذي تتبين فيه جواهر الناس؟ قال: لا. قال: عاملتهما بالدراهم والدنانير التي تقطع فيها الأرحام؟ قال: لا. قال: كنت جارهما تعرف صباحهما ومساءهما؟. قال: لا، قال: ابن أخي، لست تعرفهما، جيئا بمن يعرفكما. قال ابن قدامة بعد ما ذكر هذه القصة: وهذا بحث يدل أنه لا يكتفى بدونه، فإنه لا يخفى من شروط الشاهد ويحتاج إلى البحث عنه إلا العدالة، ولابد من البحث عنها لقوله تعالى:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
(1)
. ولا يعلم أنه مرضي حتى يعرف، فينبغي للقاضي أن يكتب أسماء الشهود، وكناهم، ونسبهم، والصفات التي يتميزون بها عن غيرهم، وصنائعهم، ومعائشهم، ومواضع سكناهم، والمساجد التي يصلون بها، وأسماء جيرانهم، وأهل سوقهم، ومحلتهم، ونحلتهم، وكل وصف يميز الشاهد عن غيره. ويكتب اسم المشهود له والمشهود عليه وقدر الحق الذي عليه الخصومة، يكتب القاضي ذلك كله في رقاع يدفع لكل واحد من أصحاب مسائله واحدة منها ليسأل عن عدالة هؤلاء. والعلة في كتابة اسم المشهود له، لئلا تكون قرابة بينه وبين الشاهد تمنع الشهادة، أو شركة كذلك، والعلة في ذكر المشهود عليه، لئلا تكون بينه وبين الشاهد عداوة. وينبغي للقاضي أن يخفي عن كل واحد من أصحاب مسائله ما يعطيه الآخر من الرقاع لئلا يتواطئوا، وينبغي كذلك أن يكون السؤال سرًا لئلا يكون في إعلانه هتك المسئول وينبغي للقاضي أن يكون أصحاب مسائله غير معروفين؛ لئلا يقصدوا بهدية أو رشوة، وأن يكونوا أصحاب عفاف في الطمعة والأنفس، ذوي عقول وافرة ومروءة تامة، أبرياء من الشحناء وبغض الناس، وأن لا يكونوا من أهل الأهواء والعصبية، وأن يكونوا أمناء، ثقات، لأن هذا موضع أمانة.
فهذا ما ينبغي أن يكون مزكي السر.
قال المواق: سمع القرينان: أترى المسألة عن الشهود سرًا؟ قال: نعم، وهو تعديل السر، ينبغي =
(1)
سورة البقرة: 282.
ووَجَبَتْ إن تَعَيَّنَ، كَجَرحٍ إنْ بَطَلَ حَقٌّ، ونُدِبَ تَزكِيَةُ سِرٍّ مَعَهَا مِنْ مُتَعَدِّدٍ. وإنْ لم يَعْرفْ الإِسْمَ أوْ لم يَذكُرِ السبب، بِخِلَافِ الجرْحِ، وهو مُقَدَّمٌ (1)، وإنْ شَهِدَ ثانيًا فَفِي الاكْتِفَاءِ بِالتَّزْكِيةِ الأولى تَرَدُّدٌ، وبِخِلَافِهَا لِأحَدِ وَلَدَيْهِ على الآخَر أو أبَويْهِ إن لَمْ يَظْهَرْ مَيْلٌ لهُ، ولا عَدُوٌّ ولَا عَلى ابْنِهِ (2) أوْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وليُخْبِرْ بِهَا كقَوْلِهِ بَعْدَهَا تَتَهِمُنِي وَتُشَبِّهُنِي بِالمجَانِينِ. مُخاصِمًا لَا شاكِيًا.
وَاعْتَمَدَ في إعْسَارٍ بِصُحْبَةٍ وقَرينةِ صَبْر ضَرٍّ كضَرَر الزَّوْجَيْن ولا إنْ حَرَصَ عَلى إزَالةِ نَقْصٍ فِيمَا رُدَّ فِيهِ لِفِسْقٍ أو صِبًا أوْ رِقّ أَوْ على التَّأَسِّي كشَهَادَةِ ولَدِ الزِّنَا فِيهِ أو مَنْ حُدَّ فِيمَا حُدَّ فِيهِ (3)، ولَا إنْ حَرَصَ عَلى الْقَبُولِ كمُخاصَمَةِ مَشْهُودٍ عَلِيْهِ مُطْلَقًا أوْ شَهِدَ وحَلَفَ، أو رَفَعَ قَبْلَ الطَّلَبِ في مَحْضِ حَقّ الآدميِّ (4)، وَفي مَحْضِ حَقِّ اللهِ تَعالى تَجبُ المبُادَرَةُ بالإمْكانِ إنْ اسْتُدِيمَ تحْرِيمُهُ كَعِتْق وطَلَاقٍ وَوَقْفٍ، ورَضَاعٍ، وإلَّا خُيِّر كالزِّنَا (5) بِخِلَافِ الْحِرْصِ عَلى التَّحَمُّلِ كالمخْتَفِي (6)، ولا إنْ اسْتُبْعِدَ كبَدَوِيٍّ لِحَضَرِيٍّ (7)، بخِلافِ إنْ سَمِعَهُ أوْ مَرَّ بِهِ ولا سَائِلٍ في كثير.
= للقاضي فعله، ولا يكتفي بتعديل العلانية دونه، لكنه قد يكتفي بتعديل السر دون تعديل العلانية، قال: حكى هذا ابن حبيب عن أصبغ والأخوين، ومعناه في الإِختيار لا على اللزوم، على ما في المدونة وغيرها. ا. هـ. منه بتصرف قليل.
وقال ابن رشد: تعديل السر يفترق عن تعديل العلانية، أنه لا إعذار فيه، وأنه يجزي فيه الواحد، بخلاف العلانية في الوجهين. قال: وقد تقدم قول المدونة أن تزكية السر تكون من رجلين.
(1)
وقوله: بخلاف الجرح وهو المقدم، قال ابن عرفة: إن اجتمع تعديل وتجريح، فقول مالك من رواية ابن نافع عنه: ينظر إلى الأعدل من البينتين فيأخذ بها، وقال ابن نافع: المجرحان أولى لأنهما =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= زادا ويسقط التعديل. وقال ابن أبي حازم وسحنون: فلو عدله أربعة، وجرحه اثنان، والأربعة أعدل، أخذ بشهادة المجرحين لأنهما علما ما لم يعلمه الآخرون. ا. هـ. المواق.
ولا يُسمع الجرح إلا مفسَّرًا؛ لاختلاف الناس في أسباب الجرح، فوجب أن لا يقبل القاضي مجرد الجرح؛ لئلا يجرحه بما لا يراه القاضي جرحًا. وقد ذكر المواق مثالًا لذلك قال: المازري يقول: أكد الشافعي وجوب الكشف في الجرح؛ لأن شاهدًا جرح شاهدًا فسئل عن جرحته، فقال: رأيته يبول قائمًا. فقيل له: وإذا بال قائمًا؟ قال: يتطاير عليه البول. فقيل له: هل رأيته صلى بعد ذلك؟. قال: لا. فظهر غلطه. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: ولا عدو ولو على ابنه، قال ابن عرفة: عداوة الشاهد للمشهود عليه معتبرة في المانعية اتفاقًا، وفي نوازل سحنون: إن كانت العداوة بين الشاهد والمشهود عليه في أمر الدنيا؛ في الأموال والمواريث والتجارة ونحوها، سقطت شهادته عليه، وإن كانت غضبًا لله، لفسقه وجراءته على الله، لا لغير ذلك، لم تسقط شهادته. ا. هـ. من المواق.
وقال ابن قدامة: العدو شهادته غير مقبولة على عدوه عند أكثر أهل العلم.
روي ذلك عن ربيعة، والثوري، وإسحاق، ومالك، والشافعي، ويريد بذلك العداوة الدنيوية مثل أن يشهد المقذوف على القاذف، والمقتول وليه على القاتل، والمجروح على الجارح، والزوج يشهد على إمرأته بالزنا، فلا تقبل شهادته عليها لأنه يقر علي نفسه بعداوته لها لأنها أفسدت: فراشه. أما العداوة في الدين؛ كأن يشهد مسلم على كافر، أو يشهد سني محق على مبتدع، فلا ترد شهادته، لأن العدالة بالدين، والدين يمنعه من أن يرتكب ما يحظر في دينه. وخالف أبو حنيفة، قال: لا تمنع العداوة الشهادة. والدليل على أن العداوة تمنع الشادة حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خائِنَةٍ، وَلَا زَانٍ ولَا زَانِيَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ". رواه أبو داود، قال. والغمْر هو الحقد. ا. هـ. منه بتصرف.
(3)
وقوله: أو منْ حُدّ فيما حُدّ فيه: قال الحطاب: هذا هو المشهور. وصرح بمشهوريته ابن عبد السلام في الاستذكار، نقله في التوضيح، وابن عرفة، فعزوُ تشهيره لابن رشد قصور. وقال ابن عرفة الشيخ عن الأخوين: المحدود في الزنا يتوب، شهادته جائزة في كل شيءٍ إلا في الزنا والقذف واللعان، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وكذلك المنبوذ؛ لاتجوز شهادته في شيء من وجوه الزنا، لا قذفٍ ولاغيره ا. هـ. منه.
وفي البيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَحْدُودٍ فِي الإسْلَامِ وَلَا مَحْدُودَةٍ وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ".
قال البيهقي: ولا يصح في ترك شهادة المحدود شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى جاء فيه قوله: والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد أو مجربًا في شهادة زور أو ظنينًا في ولاء أو قرابة. قال: وهذا أراد به؛ قبل أن يتوب، فقد روينا عنه أنه قال لأبي بكرة رحمه الله: تُب تقبلْ شهادتك. والظاهر من الأدلة أن المحدود إذا ثبتت توبته جازت شهادته ولو كان قاذفًا، روي ذلك عن عمر، وأبي الدرداء، وابن عباس، وبه قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، والشعبي، والزهري، وعبد الله بن عتبة، وجعفر بن أبي ثابت، وأبو الزناد، ومالك، والشافعي، وأحمد، والبتي، وإسحاق، وأبو عبيد، وابن المنذر، ويحيى بن سعيد، وربيعة، واستدلوا بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}
(1)
. أي إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم وليسوا بفاسقين، وهذا التفسير هو الذي تؤيده الصناعة الفقهية، فإن المتعاطفات قبل المخصص يعود تخصيصه إلى جميعها، خلافًا لأبي حنيفة الذي يقصر عوده على الجملة الأخيرة فكان لا يرى جواز شهادة القاذف وإن تاب، واستدل أيضًا بحديث عمرو بن شعيب المتقدم، وقال بقوله جماعة، منهم النخعي والثوري وسعيد بن المسيب، وهم محجوجون بأن الحديث الذي استدلوا به لا تنهض به حجة؛ لأن في سنده حجاج بن أرطاة وهو مدلس. وقد رواه بالعنعنة، قال ابن عبد البر: لم يرفعه مَنْ روايته حجة. وقد روي من غير طريق حجاج، ولم يذكر فيه قوله "ولا مَحْدُودٌ فِي الإِسْلَامِ". فدل ذلك على أنها من غلطه. ا هـ. المغني. والحجة عليهم أيضًا بما ثبت أن عمر بن الخطاب كان يقول لأبي بكرة، حين شهد على المغيرة بن شعبة: تب أقبل شهادتك. ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة فكان إجماعًا. روى سعيد بن المسيب، شهد على المغيرة ثلاثة رجال: أبو بكرة، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، وكان معهم زياد فنكل، فجلد عمر الثلاثة وقال لهم: تويوا تقبل شهادتكم. فتاب الرجلان وأبى أبي بكرة، فقبلت =
(1)
سورة النور: 4، 5.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
شهادتهما ولم تقبل شهادته، وقد عاد مثل النصل من العبادة. قاله ابن قدامة.
والحجة عليهم أيضًا بأن كل ذنب تلزم منه التوبة، متى تاب صاحبه قبلت توبته؛ قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}
(1)
. وقال تعالى في النساء: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}
(2)
الآية. وإذا قررنا قبول التوبة بموجب كتاب الله، وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"التَّائِبُ مِنَ الذنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَه". فكيف ترى شهادة من لا ذنب له إذًا؟ أما قول أصحابنا بعدم قبول شهادة المحدود التائب في خصوص ما حد فيه فهو نظرًا لأصلهم المعروف عنهم من سد الذرائع، فخافوا أن يكون حريصًا على التأسي بغيره في المسألة، وهو نفس ما ردوا به شهادة المنبوذ في خصوص الزنا والقذف واللعان، ولكنه هو لمْ يَفعل شيئًا، والمصلحة أن لا يؤخذ أحد بجريرة غيره لقوله تعالى. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
(3)
الآية. وقد قال قوم بقبول شهادته في ذلك، منهم: عطاء، والحسن، والشعبي، والزهري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو حنيفة وأصحابه، وابن المنذر. اهـ.
(4)
وقوله: ولا إن حرص على القبول، إلى قوله. أو رفع قبل الطلب في محض حق الآدمي، يُريد به، والله أعلم، أن الحرص على قبول الشهادة من قبل الشاهد مبطل لشهادته، ومثل لذلك بمخاصمة المشهود عليه مطلقًا، سواء كانت في حق الله تعالى أو هي مخاصمة في حق الآدمي، أما في حق الله تعالى: كأن يتعلق أربعة برجل ويشهدوا عليه بعد ما رفعوه إلى القاضي، فقد قال ابن القاسم في أربعة نفر شهدوا على رجل بالزنا فتعلقوا به، فأتوا به إلى السلطان، قال: لا أرى أن تجوز شهادتهم، وأراهم قذفة، ورواه أصبغ في كتاب الحدود، وقال محمد بن رشد. إنما لم تجز شهادتهم لأن ما فعلوه من أخذه، وتعلقهم به، ورفعهم إياه إلى السلطان لا يلزمهم، ولا يجب عليهم، بل هو مكروه لهم. لأن الإنسان مأمور بالستر على نفسه وعلى غيره، قال رسورل الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَصَابَ مِنْ هذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، فَإِنَّهُ إِنْ يُبْدِ لَنَا فَضِيحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ". ونص هذا الحديث =
(1)
سورة آل عمران: 135 - 136.
(2)
سورة النساء:110.
(3)
سورة الإسراء: 15.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= كما في الموطإ: "مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ هذِهِ الْقَاذورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ". والرواية الأولى ذكرها الحطاب ولم يعزها لأحد من كتب الحديث.
قال الحطاب: فهؤلاء الذين تعلقوا به ورفعوه وشهدوا عليه، صاروا ظالمين له ومدعين عليه بالزنا، وقذفة له، فوجب عليهم الحد ما لم يأتوا بأربعة شهداء سواهم على معاينة الفعل؛ كالمرود في المكحلة. قال: ولو كانوا من أصحاب الشرطة المكلفين بتغيير المنكر ورفعه، فأخذوه ورفعوه وشهدوا عليه لقبلت شهادتهم؛ لأنهم فعلوا في أخذه ورفعه ما يلزمهم. اهـ. منه.
أما مثاله للحرص على القبول برفع الشاهد شهادته قبل الطلب، فقد قال شيخ مشائخنا، الشيخ محمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني في النصيحة في الكلام على هذا الفرع: وأما الرفع قبل الطلب، فأقل أحواله أن لا يقدح. ا. هـ.
قلت: ذلك أنه روي عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا". رواه مالك في الموطإ، ومسلم، والترمذي، وأبو داود. وأحسن ما سمعته من حيث الجمع بين الحديث الصحيح وبين حديث عمران بن حصين عند البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خَيْرُ الْقُرُونَ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، تُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يأْتِي قَوْمٌ يَنْذُرُونَ وَلَا يُوفونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ".
أحسن ما سمعت من حيث الجمع بين هذين الحديثين ما ذكره ابن قدامة قال: من كانت عنده شهادة لآدمي، فإن كان عالمًا بها، لم يجز للشاهد أداؤها حتى يسأله ذلك، وعلى هذا حمل حديث عمران بن حصين، وإن كان المشهود له غير عالم بالشهادة التي عنده له، جاز للشاهد أداؤها قبل طلبها، وعلى هذا حمل حديث زيد بن خالد الجهني. والله تعالى الموفق وعليه التكلان، هو حسبنا ونعم الوكيل.
(5)
وقوله: وفي محض حق الله تعالى تجب المبادرة بالإِمكان إن استديم تحريمه، إلى قوله: وإلا خيّر كالزنا، نسب الحطاب هنا لابن عبد السلام أنه قال: إن كان هناك غيره ممن يتم الحكم بشهادته، فإنه يستحب له المبادرة تحصيلًا لفرض الكفاية، فإن أبى غيره، أو منعه من ذلك مانع، تعين عليه القيام.
وأما ابن رشد فقد قال: إن هذا في حق من يندر منه، يعني أنه لا يضره إذا كتم عليه وستر، قال: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأما من كثر منه فينبغي أن يشهد عليه، وأن يعلم الإمام بذلك.
قال الحطاب: وحاصل ما تقدم أن ما حكاه ابن رشد، يعني سقوط شهادة من ترك الرفع بما يستدام تحريمه، هو ظاهر كلام المؤلف، وهو ظاهر إطلاقات أهل المذهب، ولا شك في ظهور الفرق بين وجوب رفع الشهادة وسقوطها بكون الشاهد هو المدعي فرفع الشهادة عند الحاكم، والإخبار بها من غير مخاصمة فيما يستدام فيه التحريم واجب غير مسقط للشهادة، كما يصرح به المصنف بقوله: وفي محض حق الله تعالى تجب المبادرة بالإمكان إن استديم تحريمه، وأما إن كان الرافع هو المخاصم، فتسقط الشهادة كما أطلقه هنا بقوله: كمخاصمة مشهود عليه مطلقًا. والله أعلم.
وقال المواق: قال في التمهيد: في هذا الحديث، يعني حديث الموطأ:"مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ هذِهِ الْقَاذُورَاتِ". الحديث. فيه دليل على أن الستر واجب على المسلم في خاصة نفسه إذا أتى فاحشة، وواجب ذلك أيضًا في غيره. وقال ابن العربي: إذا رأيته على معصية فعظه فيما بينك وبينه ولا تفضحه، روى النسائي وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا، كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْؤُودَةً مِنْ قَبْرِهَا".
وقال صلى الله عليه وسلم لهزال: "هَلَّا سَتَرْتَهُ بِرِدَائِكَ". أخرجه أهل الصحيح. ولما أمر صلى الله عليه وسلم بقطع السارق، وقال صفوان: لم أرد هذا يا رسول الله. قال: "فَهَلَّا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ". قال: وكذلك الجوار أمانة، والجار عليه أمين، يغض بصره، ويصم أذنيه، ويكف عنه أذاه، ويسدل دونه حجابه، فإن رأى عورة سترها، أو سيئة غفرها، أو حسنة نشرها.
لطيفة: كان لأبي حنيفة جار إسكافي يعمل نهاره أجمع، فإذا جن الليل رجع إلى منزله وقد جمع لحمًا فطبخه، أو سمكة فشواها، ثم لا يزال يشرب حتى إذا دب الشراب فيه غزل بصوت يقول:
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا
…
ليوم كريهة وسَدادِ ثغرِ
فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يقوم الليل، ففقد ليلة صوت جاره فسأل عنه، فقيل أخذه الشرط وهو محبوس عندهم، فلما كان الصبح ركب بغلته فجاء الأمير، فأذن له أن ينزل؛ فلم يزل الأمير يوسع له في فراشه حتى أجلسه بجنبه، فقال. ما حاجتك؟ قال: إسكافي أخذه الحرس، ليأمر الأمير بتخليته. قال: نعم، وكل من أخذ معه تلك الليلة، فخلى جميعهم، فركب أبو حنيفة والإِسكافي يمشي وراءه، ولما نزل مضى إليه وقال يا فتى، أضعناك؟ قال: لا، بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيرًا عن حرمة الجار ورعاية الحق، وتاب الرجل عما كان فيه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال المواق. ونقل ابن عرفة عن ابن حبيب قال. مشى عمر رضي الله بالليل، فرأى نارًا في بيت فأتى إليها فإذا بقوم يشربون، وشيخ، فاقتحم عليهم، وقال: يا أعداء الله، أمكن الله منكم، فقال الشيخ: ما نحن بأعظم منك ذنبًا، تعديت ودخلت بغير إذن. فاحتشم عمر، وقال: ذروا هذه بهذه. اهـ.
قال: ولم يذكر ابن عرفة ما يعارض هذا إلا بالنسبة لمن يستظهر ويشتهر، وقد تقدم قول ابن رشد أن الشهادة لا تبطل بترك القيام بها وإن كان مشتهرًا اتفاقًا، قال: وقد يكون يتضرر بالرفع، فيسقط عنه، قال: لما ذكر عياض شرف مالك في رجوع أشياخه لكلامه، ذكر أن ابن هرمز مر بدار بعض أهل الأقدار وهو واقف مع مولى له، فقال له ابن هرمز: إنك على الطريق وليس يحل لك هذا، فقال لعبيده: طؤوا بطنه، فوطئوه حتى حمل إلى منزله، فعاده الناس وفيهم مالك، فجعل يشكو والناس يدعون ومالك ساكت، ثم تكَلم فقال: إنَّ هذا لم يكن لك أن تأتي إلى رجل من أهل القدر على باب داره، معه حشمه ومواليه، فقال له ابن هرمز: أفتراني أخطأت؟ قال: إي والله. اهـ. بنقل المواق.
(6)
وقوله: بخلاف الحرص على التحمل كالمختفي، نقل الحطاب عن الموازية: قال مالك في رجلين قعدا لرجل من وراء حجاب يشهدان عليه، قال: إن كان ضعيفًا أو مخدْوعًا أو خائفًا، لم يلزمه، ويحلف ما أقر إلا بما ذكر، وإن كان على غير ذلك لزمه، ولعله يقر خاليًا ويأبى من البينة، فهذا يلزم ما سيم منه، قيل: فرجل لا يقر إلا خاليًا أفأقعد له بموضع لا يعلم للشهادة عليه؟ قال: لو أعلم أنك تستوعب أمرها، ولكني أخاف أن تسمع جوابه لسؤاله، ولعله يقول له في سر: إن جئتك بكذا، ما الذي لي عليك؟ فيقول له: عندي كذا، فإن قدرت على أن تحيط بسرهم، فجائز. اهـ.
وقال الخرقي: وتجوز شهادة المستخفي إذا كان عدلًا، قال ابن قدامة: وبهذا قال عمرو بن حريث. وقال: كذلك يفعل بالخائن والفاجر، وروي مثل ذلك عن شريح، وهو قول الشافعي. قال: وعن أحمد رواية أخرى؛ لا تسمع شهادته. وهو اختيار أبي بكر وابن أبي موسى، وروي كذلك عن شريح والشعبي، ولأن الله تعالى يقول في الحجرات:{وَلَا تَجَسَّسُوا} . وأخرج أحمد: أبو داود والترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَدَّثَ بِحَديثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ". يعني أنه لا يجوز لسامعه ذكره لأحد لالتفاته وحذره. اهـ. منه.
(7)
وقوله: ولا إن استبعد كبدوي لحضري: قال المازري: تعرض التهمة من جهة الشهود في =
بِخِلَافِ مَن لَمْ يسْأَلْ أوْ يَسْأَلِ الْأعْيَانَ، ولَا إن جَرَّبَها نَفْعًا كَعَلَى مُورِّثِهِ المُحْصَنِ بِالزِّنَا أوْ قَتْلِ الْعَمْدِ إلَّا الْفَقِيرَ (1) أوْ بِعِتْقِ مَنْ يُتَّهَمُ فِي وَلَائِهِ، أوْ بِدَيْنٍ لِمَدِينِهِ، بِخِلَافِ المُنْفِقِ لِلمُنْفَقِ عَلَيْهِ، وشَهَادة كُلٍّ لِلآخر وَإنْ بِالمجْلِسِ، والقَافِلةِ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِي حِرابَةٍ، لَا المجْلُوبِينَ إلَّا كَعِشْرينَ، ولا مَنْ شهِدَ لهُ بِكثيرٍ ولغَيْرِهِ بِوَصِيَّةٍ، وَإلَّا قُبِلَ لَهُمَا، ولا إنْ دفع كشهادَةِ بَعْضِ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شهودِ القَتْلِ أو المُدَانِ المُعْسِرِ لِرَبّهِ، ولَا مُفْتٍ على مُسْتَفْتيهِ إنْ كَانَ ممَّا يُنَوَّى فِيهِ وإلا رَفَعَ، ولا إن شهِدَ باسْتِحْقَاقٍ وقَالَ: أنا بِعْتُهُ له، ولا إن حَدَثَ فِسْقٌ بَعْدَ الأدَاءِ، بِخِلَافِ تُهْمَةِ جَرٍّ ودَفْعٍ وعَدَاوَةٍ، ولَا عَالِمٍ عَلى
= الشهادة ومخالفة العادة، ومن ذلك حديث:"لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيّ"
(1)
وقال ابن الحكم: مالك يتأول ذلك في الحقوق إذا شهدوا في الحاضرة، لأنها تهمة أن يشهد أهل البادية دون من معه من أهل الحاضرة، وأجازها في الدماء والجراح وحيث تطلب الخلوات والبعد من العدول. وقال ابن الحاجب: حديث "لَا تُقْبَل شهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ" محمله عند مالك على الشهادة في الحضر لأنه مظنة الريبة، وأما لو قال إنه سمعها أو رآها، أو كانوا في سفر، فلا ريبة في المال وغيره. ا. هـ. المواق. وقال البغوي: وذهب عامة أهل العلم إلى قبول شهادة البدوي إن كان عدلًا، وقال مالك لا تقبل شهادة البدوي على القروي، وروى فيه حديثًا. وتأويله عند الآخرين إن ثبت، أنهم قلما يضبطون الشهادة على وجهها لجهلهم بأحكام الشريعة، فإن كان ضابطًا فطنًا بصيرًا بما يؤديه منها، فلا فرق بينه وبين القروي. اهـ. منه.
(1)
وقوله: لا إن جربها كعلى مورثه المحصن بالزنا أو قتل العمد، إلا الفقير، ذكر في الموطإ قال عمر: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين. وعن الزهري: مضت السنة في الإِسلام أن لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين. والظنين هو المتهم. وروى طلحة بن عبد الله بن عوف قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا شهادة لخصم ولا ظنين. انتهى من ابن قدامة.
(1)
أخرجه أبو داود، وابن ماجة من حديث أبي هريرة، قال شعيب: وإسناده صحيح.
مِثْلِهِ (1)، ولا إن أخَذَ مِن العُمَّالِ أَو أكل عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ الخُلَفَاءِ، ولا إن تعصّبَ، كالرِّشْوَةِ وتَلْقِينِ خَصْمٍ، ولَعِبِ نيرُوزٍ، ومَطْلٍ، وحَلِفٍ بِطَلَاقٍ وعِتْقٍ، وبِمَجيءِ مَجْلِسِ القَاضِي ثَلاثًا، وتِجَارَةٍ لأرْضِ حَرْبٍ، وسُكْنَى مَغْصُوبَةٍ، أوْ مَعَ وَلَدٍ شِرِّيبٍ، وَبِوَطْءِ مَنْ لَا تُوطأ، وبالْتِفَاتِهِ فِي الصَّلَاةِ، وباقْتِراضِهِ حجَارَةً مِن المسْجَدِ، وعَدَم إحْكام الوُضُوءِ والغُسْلِ والزَكَاةِ لمَنْ لَزِمَتْهُ، وبَيْعِ نَرْدٍ وطُنْبُورٍ، واسْتِحْلَافِ أبِيهِ. وقُدحَ فِي المُتَوَسِّطِ بِكُلٍّ وفِي المُبرَّزِ بِعَدَاوَةٍ وَقَرابَةٍ، وَإنْ بِدُونِهِ كغَيْرِهِمَا عَلَى المختَارِ. وَزَوالِ العَدَاوَةِ والفِسْق بِمَا يَغْلِبُ على الظَّنِّ بِلَا حَدٍّ. ومَنْ امْتَنَعَتْ لَهُ لَمْ يُزَكِّ شَاهِدَهُ أوْ يُجَرِّحْ شَاهِدًا عَلَيْهِ، ومَنِ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ فَالْعَكْسُ، إلَّا الصِّبْيَانَ (2)، لَا نِسَاءً فِي كَعُرْسٍ، في جَرْح أو قَتْلٍ، والشَّاهِدُ حُرٌّ مُمَيِّزٌ ذَكَرٌ تَعَدَّدَ لَيْسَ بِعَدُوٍّ ولَا قرِيبٍ، ولا خِلَافَ بَيْنهُمْ ولَا فُرْقَةَ إلّا أنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِمْ قَبْلَهَا، ولَمْ يَحْضُرْ كبيرٌ أو يُشْهَدْ عَلَيْهِ أوْ لَهُ، ولا يَقْدَحُ رُجُوعُهُمْ ولا تَجْريحُهُمْ، وللزنا واللِّواط أربعة (3) بَوَقْتٍ وَرُؤيةٍ اتّحَدَا وفرقوا فقط أنه أدخلَ فرجه في فرجها. ولكلٍ النظر للعورة.
(1)
وقوله: ولا عالم على مثله، عن ابن عباس رضي الله عنهما: خذوا العلم حيث وجدتم ولا تقبلوا شهادة الفقهاء بعضهم على بعض؛ لأنهم يتغايرون كما يتغاير التيوس في الزريبة. وقال ابن وهب: لا تجوز شهادة القارئ على القارئ، يعني العلماء؛ لأنهم أشد الناس تحاسدًا، وقاله سفيان الثوري.
قال المواق: وأنظر كثيرًا ما يكون هذا التغاير في خلافهم في تحقيق المناظرات التي لا يمكن أن ينقطع فيها الاجتهاد، أبدًا. اهـ. منه.
(2)
قوله: إلا الصبيان: قال المقري: كل من ليس بحر مسلم مكلف عدل مستعمل لمروءة مثله لا تقبل شهادته إلا بعض ذكور صبيان المسلمين الأحرار على بعض في الدماء.
وقال ابن عرفة: المذهب صحة شهادة الصبيان الذكور في جراحهم، وشرط القاضي أن يكونوا ممن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يعقل الشهادة. وقال ابن سحنون: قلت لسحنون، لِمَ أجزت شهادة الصبيان بينهم في الجراح؟ ولمْ تجزْها في الحقوق والأموال؟ قال للضرورة؛ لأن الحقوق يحضرها الكبار، قلت: فيلزمك أن تجيزها في غصب بعضهم بعضًا؛ قال: هذا موضع اتباع الماضين ولا وجه للقياس فيما هو سنة أو كالسنة. اهـ. المواق.
قلت: وقد تقدمت الإِشارة إلى قول مالك بقبول شهادة الصبيان، وذكر بعض من وافقه من أهل العلم في ذلك، في الكلام على قول المصنف: العدل حر ذكر. ألخ.
(3)
وقوله: وللزنى واللواط أربعة: قال ابن قدامة: أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة شهود، وقد نص الله ذلك بقوله تعالى في سورة النور:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
(1)
. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}
(2)
.
وقد جاءت السنة بأن البينة في الزنا أربعة، فقد أخرج البيهقي بسنده إلى الشافعي قال: أنبأنا مالك عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن سعدًا قال: يا رسول الله، أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلًا أُمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ". قال البيهقي: أخرجه مسلم من حديث مالك. وذكر البيهقي رواية أخرى لهذا الحديث، وزاد أن سعدًا قال - بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم": كلا، والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعجله بالسيف. قال صلى الله عليه وسلم:"اسْمَعوا إِلَي مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؛ إِنَّهُ غَيُورٌ، وَأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي". قال البيهقي: رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أبي شيبة.
وأخرج البيهقي بسند إلى سعيد بن المسيب أن معاوية كتب إلى أبي موسى: سل عليًا رضي الله عنه عن رجل دخل بيته، فإذا مع امرأته رجل، فقتلها أو قتله؟ فسأله أبو موسى، فقال له عليّ رضي الله عنه: ما ذكرك هذا؟ إن هذا لشيء ما هو بأرضنا، عزمت عليك، قال: كتب إليَّ معاوية أنْ أسألك عنها، قال: أنا أبو الحسن، إن جاءنا بأربعة شهداء وإلا دفع برمته. اهـ. منه .. ومعلوم أن عمر رضى الله عنه جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لما رجع الرابع، والقضية مشهورة.
(1)
سورة النور: 13.
(2)
سورة النور: 4.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال أبو عبد الله القرطبي من أصحابنا عند قوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}
(1)
. قال: أي من المسلمين. فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظًا على المدَّعي وسترًا على العباد. قال: وتعديل
(2)
الشهود بالأربعة في الزنا، حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}
(3)
وقال هنا، يعني في النساء. {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}. قال أبو عبد الله: ولابد أن يكون الشهود ذكورًا لقوله تعالى: {مِنْكُمْ} ولا خلاف فيه بين الأمة، وأن يكونوا عدولًا. وقال ابن قدامة: وأجمعوا على أنه يشترط كونهم مسلمين عدولًا ظاهرًا وباطنًا، وجمهور العلماء على أنه يشترط أن يكونوا ذكورًا أحرارًا، فلا تقبل شهادة النساء ولا العبيد، وبه يقول مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي، وشذ أبو ثور فقال: تقبل فيه شهادة العبيد، وحكي عن عطاء وحماد أنهما قالا: لا تجوز شهادة ثلاثة رجال وامرأتين. ا. هـ. منه.
وقال عبد الرزاق في المصنف عن الأعمش عن عبد الرحمن قال: لا تجوز شهادة النساء في الحدود. وعن الثوري، عن بيان، عن إبراهيم في ثلاثة شهدوا وامرأتين؟ قال: لا، إلا أربعة أو يجلدون. قال: وأخبرنا ابن جريج عن عطاء: تجوز شهادة النساء مع الرجال في كل شيء، وتجوز على الزنا امرأتان مع ثلاث رجال، رأيًا منه. ا. هـ. منه.
وقال ابن عرفة: شرط بينة الزنا، كونها أربعة بنص التنزيل وبحكم عمر رضي الله عنه، قال المازري: ولا خلاف فيه، قال المواق: وروى محمد: والشهادة في اللواط كالزنا. وقال في المدونة: وجه الشهادة في الزنا أن يأتي الأربعة الشهداء في وقت واحد يشهدون على وطء واحد في موضع واحد، وبهذا تتم الشهادة، فينبغي للقاضي أن يكشف الشهود بالزنا عن شهادتهم كيف رأوه، فإن رأى في شهادتهم ما يبطلها أبطلها. وقال ابن القاسم في المجموعة: كل الشهود لا يفرقون ولا يسألون إن كانوا عدولًا إلا في الزنا فإنهم يفرقون ويسألون؛ أنه أدخل فرجه في فرجها. وقال مالك: لا تتم شهادتهم حتى يقولوا: كالمرود في المكحلة.
(1)
سورة النساء: 15.
(2)
هكذا في نسخة تفسير القرطبي ولعله "وتحديد" والله أعلم.
(3)
سورة النور: 4.
وندب سؤالهم كالسرقة. مَا هِيَ وكَيْفَ أُخِذَتْ (1)؟ ولِمَا لَيْس بِمَالٍ ولا آيلٍ لَهُ كَعِتْقٍ وَرَجْعَةٍ وَكتابَةٍ، عَدْلَانِ (2)، وإلَّا فَعَدْلٌ وامْرأتَانِ (3) أو أحَدُهُمَا بِيَمِينٍ (4) كأجَلٍ، وخِيَارٍ، وشُفْعَةٍ، وإجَارَةٍ، وجَرْحِ خَطَإٍ، أو مَالٍ، وأَدَاءِ كتابةٍ، وإيصاء بِتَصَرُّفٍ فيهِ، أو بأنَهُ حُكِمَ لَهُ بِهِ، كَشِرَاءِ زوجَتِهِ، وتَقَدُّمِ دَيْنٍ عِتْقًا، وقِصَاصٍ في جَرْحٍ. ولما لا يَظْهَر للرِّجَالِ امْرأتَانِ (5)، كِولَادَةٍ، وعَيْبِ فَرْجٍ، واسْتهْلَالٍ، وحَيْضٍ، ونِكَاحٍ بَعْدَ مَوْتٍ أوْ سَبْقيَّتِهِ أوْ مَوْتٍ ولا
= قلت: ولعل استنباطهم لسؤال الشهود كان من قصة ماعز بن مالك رضي الله عنه لأنه جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أَنِكْتَهَا؟ "قال: نعم، قال:"حَتَّى غَابَ ذلِكَ مِنْك فِي ذلِكَ مِنْهَا"؟ قال: نعم، قال "كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ"؟ قال: نعم، الحديث. عند أبي داود، ونسبه المنذري للنسائي أيضًا.
وأما اللواط، فقد أخرج أبو داود عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ".
قال شعيب: وأخرجه الترمذي، وابن ماجه ونسبه المنذري للنسائي، وسوف نتكلم على حكم حده عند أهل العلم في موضعه إن شاء الله، أما تحديد بينته بأربعة فأرى أن ذلك بالقياس لفاحشة اللواط على فاحشة الزنا. والله أعلم.
(1)
وقوله: وندب سؤالهم، كالسرقة؟ ما هي؟ وكيف أُخِذت؟ قال في المدونة: وينبغي للإمام إذا شهدت بينة عنده على رجل أنه سرق ما يقطع في مثله، أن يسألهم عن السرقة؛ ما هي؟ وكيف أخذت؟ ومن أين أخذها؟ وإلى أين أخرجها؟ كما يكشفهم عن الشهادة على رجل بالزنا؛ فإن كان في ذلك ما يدرأ به الحد درأه. انتهى بنقل الحطاب. وقال: قوله ينبغي معناه، والله أعلم، يجب، لأنه قد يكون في شهادتهم ما يسقط الحد، فيؤدي ذلك إلى أن يقطع عضوًا شريفًا لقوله صلى الله عليه وسلم:"ادْرَؤُوا الْحدُودَ بِالشُبُهاتِ". ا. هـ.
وذكر الحطاب أيضًا أن في المدونة في أول كتاب الزنا من المدونة: وينبغي، إذا شهدت بينة عنده على رجل بالزنا، أن يكشفهم عن شهادتهم؛ وكيف رأوه؟ وكيف صنع؟ فإن رأى في شهادتهم ما تبطل =
زوجَةَ، ولا مُدَبَّرَ ونَحْوَهُ، وثبت الإرْثُ والنَّسَبُ لهُ وعَلَيْهِ بلَا يَمِينٍ والمالُ دُونَ القطْعِ في سرقَةٍ، كقَتْلِ عَبْدٍ آخَرَ، وحِيلَتْ أمَةٌ مُطْلَقًا، كَغَيْرِهَا، إن طُلِبَتْ بِعَدْلٍ أوِ اثْنيْنِ يُزكَيانِ، وبِيعَ مَا يَفْسُدُ وَوُقفَ ثَمَنُهُ مَعَهُمَا، بِخِلَافِ الْعَدْلِ فَيَحْلِفُ ويُبَقَّى بِيَدِهِ، وإنْ سأل ذو الْعَدْلِ، أوْ بَيِّنَةٍ سُمِعَتْ، وإنْ لَمْ تَقْطَعْ، وَضْع قِيمَةِ الْعَبْدِ لِيَذْهَبَ بِهِ إلى بَلَدٍ يُشْهَدُ لَهُ عَلى عَيْنِهِ، أجيب، لَا إِنْ انتَفَيَا، وطَلَبَ إيقَافَهُ ليأتِيَ ببيِّنَةٍ، وإنْ بكيَوْمَيْنِ، إلَّا أن يدَّعِيَ بَينَةً حَاضِرَةً أوْ سَمَاعًا يَثْبُتُ بِهِ فيوقَفُ وَيُوَكَّلُ بِهِ فِي كَيَوْمٍ، والغَلَّةُ لَهُ لِلْقَضَاءِ، والنَّفَقَةُ على المقْضِيِّ له بِهِ.
= به الشهادة أبطلها. ا. هـ. قال أبو الحسن. انظر قوله: ينبغي، هل معناه يجب؟ أو هو على بابه؟ والأقرب الوجوب كما قال في السرقة، أو يفرق بين البابين، وأن السرقة اختلف في نصابها اختلافًا كثيرًا، وفي الزنا لم يختلف، إلا أن يقال في الزنا أيضًا شديد لأنه قيل: زنا العين النظر، واليدان تزنيان .. إلى غير ذلك، فيجب الكشف عن هذا لئلا يظن الشاهد أن ذلك زنا. ا. هـ فحاصل كلامه في الموضعين أنه يميل للوجوب. قال: وهو الظاهر. اهـ. منه.
(2)
وقوله: ولما ليس بمال ولا آيل له؛ كعتق، ورجعة وكتابة، عدلان، نقل المواق عن ابن شاس: الشهادات على ثلاث مراتب؛ أعلاها بينة الزنا عددها أربعة. الثانية ما عدا بينة الزنا مما ليس بمال ولا آيل له؛ كالنكاح، والرجعة، والطلاق، والعتق، والإسلام، والردة، والبلوغ، والولاء، والعدة، والجرح، والتعديل، والعفو عن القصاص، وثبوته في النفس والأطراف فيها على خلاف فيها، وثبوت النسب، والموت، والكتابة، والتدبير، وشبه ذلك، وشرط ذلك كله العدالة والذكورية، وإنما تثبت بشهادة رجلين ولا تثبت برجل وامرأتين، قال: والمرتبة الثالثة، الأموال وحقوقها؛ كالأجل، والخيار، والشفعة، والإجارة، وقتل الخطإ، وكل جرح لا يوجب إلا المال، فيثبت برجل وامرأتين.
وقال ابن قدامة عند قول الخرقي: ولا يقبل فيما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال أقل من رجلين، قال: وهذا القسم نوعان: أحدهما العقوبات؛ وهي الحدود، والقصاص، فلا يقبل فيه إلا شهادة رجلين، إلا ما روي عن عطاء وحماد أنهما قالا: يقبل فيه رجل وامرأتان قياسًا على الشهادة في =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الأموال، ولنا أن هذا مما يحتاط لدرئه وإسقاطه، ولهذا يدرأ بالشبهات ولا تدعوا الحاجة إلى إثباته، وفي شهادة النساء شبهة بدليل قوله تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}
(1)
. ولأنهن لا تقبل شهادتهن وإن كثرن ما لم يكن معهن رجل، فوجب ألا تقبل شهادتهن فيه. وبهذا الذي قلنا، قال سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وحماد، والزهري، وربيعة، ومالك، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، واتفق هؤلاء وغيرهم على أنها تثبت بشهادة رجلين ما خلا الزنا، إلا الحسن فإنه قال: الشهادة على القتل كالشهادة على الزنا؛ لأنه يتعلق به إتلاف النفس فأشبه الزنا، وما ذكره من الوصف لا ينهض ولا أثر له، فإن الزنا الموجب للحد لا يثبت إلا بأربعة، ولأن حد الزنا حق لله تعالى يقبل الرجوع عن الإِقرار به.
والثاني: هو ما ليس بعقوبة؛ كالنكاح، والرجعة، والطلاق، والعتاق، والإِيلاء، والظهار، والنسب، والتوكيل، والوصية، والولاء، والكتابة، وأشباه هذا، فإن المعول عليه في المذهب أنها لا تثبت إلا بشاهدين ذكرين، ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال، قال: ولا يثبت شيء من هذين النوعين بشاهد ويمين؛ لأنه إذا لم يثبت بشهادة رجل وامرأتين، فلئلا يثبت بشهادة رجل واحد ويمين أولى.
قال أحمد ومالك في الشاهد واليمين: إنما يكون ذلك في الأموال خاصة، فلا يقع في حد ولا نكاح ولا طلاق، ولا عتاق، ولا سرقة، ولا قتك. ا. هـ. منه باختصار وتصرف.
(3)
وقوله: وإلا فعدل وامرأتان: تقدم نقل المواق عن ابن شأس أن الأموال وحقوقها، كالأجل والخيار والإِجارة وقتل الخطإ وكل جرح لا يوجب إلا المال، تثبت برجل وامرأتين. ولا خلاف في أن المال يثبت بشهادة النساء مع الرجال. وقد نص الكتاب العزيز على ذلك بقوله تعالى في سورة البقرة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} - إلى قوله - {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
(2)
. وأجمع أهل العلم على القول بذلك.
(4)
وقوله: أو أحدهما بيمين: قال ابن الماجشون: ما جاز فيه الشاهد واليمين، جاز فيه شاهد وامرأتان مع اليمين، وفي المدونة: يحلف الطالب مع شهادة امرأتين في الأموال ويقضى به له. ا. هـ. من المواق. =
(1)
و
(2)
سورة البقرة: 282.
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأكثر أهل العلم يرون ثبوت المال لمدعيه بشاهد ويمين، قال ابن قدامة: يروى ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، وهو قول الفقهاء السبعة، وعمر بن عبد العزيز، والحسن، وشريح، وإياس، وعبد الله بن عتبة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، ويحيى بن يعمر، وربيعة، ومالك، وابن أبي ليلى، وأبي الزناد، والشافعي.
وقال: الشعبي، والنخعي، والأوزاعي، وأصحاب الرأي، قالوا: لا يقضى بشاهِد ويمين، واحتجوا بقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
(1)
. وقالوا: فمن زاد في ذلك فقد زاد في النص، وهم يرون الزيادة في النص نسخًا.
ومعلوم أن المقرر في مباحث الألفاظ أن الزيادة على النص ليست نسخًا، لأن النسخ هو رفع لحكم شرعي بخطاب شرعي متأخر عنه، والزيادة في النصر لم ترفع حكمًا شرعيًا واردًا بخطاب شرعي، وإنما رفعت الاقتصار على ذلك، وقررت زيادة في الحكم الذي الاقتصار عليه براءة أصلية، ومعلوم أن البراءة الأصلية ليست من الأحكام حتى يكون رفعها نسخًا. قال الشيخ عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي في مراقي السعود:
وليس نسخًا كل ما أفادا
…
فيما رسا بالنص الازديادا
وقال ابن قدامة: وقولهم: إن الزيادة في النص نسخ، غير صحيح؛ لأن النسخ رفع وإزالة، والزيادة في الشيء تقرير له لا رفع. والحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه، ولأن الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه لم ترفعه ولم تكن نسخًا، وكذلك إذا انفصلت عنه، ولأن الآية واردة في التحمل دون الأداء ولهذا قال تعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}
(2)
. والنزاع في الأداء، لا في التحمل. ا. هـ. منه.
قلت: أخرج أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي أن زيد بن الحباب حدثهم: حدثنا سيف المكي، قال عثمان سيف بن سليمان، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد. وهذا الحديث أخرجه مسلم في الأقضية باب: القضاء =
(1)
و
(2)
سورة البقرة: 282.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= باليمين والشاهد، وأخرجه ابن ماجه في الأحكام، باب: القضاء بالشاهد واليمين. ونسبه المنذري للنسائي أيضًا. قال الخطابي في معالم السنن: هذا خاص في الأموال دون غيرها؛ لأن الراوي وقفه عليها، والخاص لا يتعدى به محله ولا يقاس عليه غيره، واقتضاء العموم منه غير جائز لأنه حكاية فعل، والفعل لا عموم له، فوجب صرفه إلى أمر خاص، فلما قال الراوي: هو في الأموال كان مقصورًا عليه.
قال: الخطابي: وقد رأى الحكم باليمين مع الشاهد الواحد أجلة الصحابة، وأكثر التابعين، وفقهاء الأمصار، وأباه أصحاب الرأي وابن أبي ليلى، وحكي ذلك أيضًا عن النخعي والشعبي. واحتج بعضهم في ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام:"الْبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْه". وهذا ليس مخالفًا لحديث اليمين مع الشاهد، وإنما هو في اليمين إذا كان مجردًا، وهذه يمين مقرونة ببينة، فكل واحدة منهما غير الأخرى، وإذا تباين محلاهما جاز أن يختلف حكماهما. انتهى. وقال في المغني: مضت السنة أن يقضى بالشاهد الواحد واليمين، فإن أبى أن يحلف استحلف المطلوب، وهذا قول مالك والشافعي ويروى عن أحمد، فإن أبى المطلوب أن يحلف ثبت الحق. اهـ.
وقال أبو عبد الله القرطبي في الكلام على آية البقرة - آية الديْن - في المسألة التاسعة والعشرين: وخالف في هذا أبو حنيفة وأصحابه، فلم يروا اليمين مع الشاهد، فلا يجوز به القضاء عندهم، قالوا: لأنه يكون قسيمًا زائدًا على ما قسمه الله؛ وهذه زيادة على النص، وذلك نسخ. وممن قال بهذا الثوري، والأوزاعي، وعطاء، والحكم بن عتبة، وزعم عطاء أن أول من حكم به عبد الملك بن مروان، وقال الحكم: القضاء بالشاهد واليمين بدعة، وأول من حكم به معاوية؛ وهذا كله غلط وظن لا يغني من الحق شيئًا، وليس من نفى وجهل كمن أثبت وعلم، وليس في قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} . الآية، ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين مع الشاهد، ولا أنه لا يتوصل إلى الحقوق، ولا تستحق إلا بما ذكر فيها لا غير، فإن ذلك يبطل بالنكول من المطلوب ويمين الطالب، فالمال يستحقه بذلك إجماعًا. وليس في كتاب الله، وهذا قاطع في الرد عليهم. قال علماؤنا: ثم العجب، مع شهرة الأحاديث وصحتها، بدَّعوا من عمل بها حتى نقضوا حكمه واستقصروا رأيه، مع أنه قد عمل بذلك الخلفاء الراشدون الأربعة، وأبيُّ بن كعب، ومعاوية، وشريح، وعمر بن عبد العزيز وكتب له إلى عماله، وإياس بن معاوية، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو الزناد، وربيعة، ولذلك قال =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= مالك: وإنه ليكفي في ذلك ما مضى من عمل السنة، أترى هؤلاء تنقض أحكامهم ويحكم ببدعتهم؟ هذا إغفال شديد ونظر غير سديد.
فلم يأت عن أحد من الصحابة أنه أنكر اليمين مع الشاهد، بل جاء عنهم القول به وعليه جمهور أهل العلم بالمدينة، وبه قال مالك وأصحابه، والشافعي وأتباعه، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وداود بن علي، وجماعة أهل الأثر، وهو الذي لا يجوز عندي خلافه لتواتر الآثار به عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أهل المدينة قرنًا بعد قرن، وقال مالك: يقضى باليمين مع الشاهد في كل البلدان، ولم يحتج لمسألة في الموطإ غيرها، ولم يختلف عنه في القضاء باليمين مع الشاهد ولا عن أحد من أصحابه بالمدينة ولا بمصر وغيرهما، ولا يرف المالكيون في كل بلد غير ذلك إلا عندنا بالأندلس؛ فإن يحيى زعم أنه لم ير الليث يفتي به ولا يعمل به، فخالف يحيى مالكًا في ذلك، مع مخالفته السنة والعمل بدار الهجرة.
ثم إن اليمين مع الشاهد زيادة حكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها مع قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
(1)
الآية، وكنهيه عن لحوم االحمر الأههلية وكل ذي ناب من السباع مع قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}
(2)
الآية. وكالمسح على الخفين والقرآن إنما ورد بغسل الرجلين أو مسحهما، ومثل هذا كثير. ا. هـ. منه.
ومعلوم أن قول المصنف: أو أحدهما بيمين يفيد أنه إن لم يكن الشاهدان رجلين، فيجوز شهادة رجل وامرأتين، أو رجل ويمين، أو امرأتين ويمين، وهذا المذهب، قال مالك: يقبل ذلك في الأموال لأنهما في الأموال أقيمتا مقام الرجل فحلف معهما كما يحلف مع الرجل. وخالف الشافعي والحنابلة، وقالوا: لا تقبل شهادة امرأتين ويمين المدعي. انظر المغني.
(5)
وقوله: ولما لا يظهر للرجال امرأتان: قال المواق: أما أن شهادة امرأتين كافية في عيوب النساء والاستهلال والحيض، فبين. وزاد ابن شاس الرضاع، فقال أما ما لا يظهر للرجال كالولادة وعيوب النساء والرضاع فإنه إنما يشترط فيه العدد فحسب، ويقوم النساء مقام الرجال؛ فيثبت بامرأتين، وكذلك الاستهلال والحيض، وفي المدونة: قال مالك: يجوز الاستهلال والولادة بشهادة امرأتين عدلتين، قال =
(1)
سورة النساء: 24.
(2)
سورة الأنعام: 145.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ابن القاسم: ويجوز في الرضاع وعيوب الفرج ومعرفة حيض وحس حمل ونحوه مما لا يطلع عليه غيرهن. قال مالك: وكل شيء تقبل فيه شهادة النساء وحدهن فلا يقبل فيه أقل من امرأتين ولا تجوز شهادة امرأة واحدة في شيء من الشهادات. انتهى منه بلفظه.
وقال ابن قدامة: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة، والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء: الولادة والإِستهلال والرضاع، والعيوب تحت الثياب، كالرتق، والقرن، والبرص، و انقضاء العدة، والبكارة وعدمها. اهـ.
وقال ابن حجر في فتح الباري: واتفقوا على شهادتهن مفردات فيما لا يطلع عليه الرجال؛ كالحيض والولادة والاستهلال وعيوب النساء. اهـ. منه.
فإذا علمت أنه لا خلاف بين الأمة في جواز شهادتهن فيما لا يطلع عليه الرجال، فاعلم أنهم اختلفوا: هل يكفي في ذلك امرأة واحدة؟ أو لا يكفي إلا امرأتان؟ أو أكثر من ذلك؟ فالمذهب عند أصحابنا أنه لا يكفي ولا يقبل في ذلك إلا امرأتان، وهو رواية عن الإِمام أحمد، وبه قال الحكم، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة والثوري، قالوا: لأن كل جنس يثبت به الحق كفى فيه اثنان كالرجال، ولأن الرجال أكمل منهن عقلًا، ولا يقبل منهم إلا اثنان.
وقال عثمان البتي: يكفي ثلاث؛ لأن كل موضع قبل فيه النساء كان فيه العدد ثلاثة كما لو كان معهن رجل.
والرواية المشهورة عن أحمد أن كل موضع تقبل فيه شهادة النساء المنفردات فإنه تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، واحتجوا بما روي عن عليّ رضي الله عنه أنه أجاز شهادة القابلة وحدها في الإِستهلال. رواه الإِمام أحمد وسعيد بن منصور، إلا أنه من حديث جابر الجعفي، قال البيهقي: إنه متروك.
وأنكر أبو حنينة قبول شهادتهن منفردات في الرضاع، وأنكر قبول شهادة النساء المنفردات في الاستهلال، وخالفه في ذلك صاحباه، وقال مرة: تقبل شهادة المرأة الواحدة في ولادة الزوجات دون ولادة المطلقة. وقال الشافعي، وعطاء، والشعبي، وأبو ثور، وقتادة: لا يقبل في ذلك إلا أربع نسوة، واحتجوا بما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم "شَهَادَةُ امْرَأتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ".
وبذلك تعلم أنه لم يتفق اثنان من الأئمة الأربعة على قول في المسألة، ولا ينقضي عجبي من نسبة العلامة ابن حجر في فتح الباري عدم قبول ما دون الأربع للجمهور في الكلام على حديث أبي سعيد =
وجَازَتْ عَلى خَطِّ مُقِرٍّ بِلَا يَمِينٍ، وخطِّ شاهِدٍ مَاتَ أوْ غَابَ بِبُعْدٍ وإنْ بِغَيْرِ مَالٍ فِيهمَا إنْ عَرفَتْهُ كَالْمُعَيَّن وَأنَّهُ كانَ يَعْرِفُ مُشْهِدَهْ، وتَحَمَّلَهَا عَدْلًا لَا عَلى خَطِّ نَفَسْهِ حَتَّى يَذْكُرَهَا وأدَّى بِلَا نَفْعٍ، ولَا عَلى مَنْ لَا يَعْرِفُ إلَّا عَلى عَيْنِهِ ولْيُسَجِّلْ مَنْ زَعَمَتْ أنَّهَا ابْنَةُ فُلَان، وَلا عَلى مُنْتَقِبَةٍ لِتَتَعَيَّنَ لِلأَدَاءِ، وإنْ قَالُوا: أشْهَدَتْنَا مُنْتَقِبَةً وكَذلِك نَعْرِفُهَا، قُلِّدُوا وعَلَيْهِمْ إخْراجُهَا إنْ قِيلَ لهُمْ عَيِّنوُهَا، وجَازَ الأداءُ إنْ حَصَلَ الْعِلْمُ (1) وإنْ بامْرأة، لَا بِشاهِدَيْنِ إلَّا نَقْلًا، وجَازَتْ بِسَمَاعٍ فَشَا عَنْ ثِقَاتٍ وغَيْرهِمْ بِمِلْكٍ لِحَائزٍ مُتَصَرِّفٍ طَوِيلًا، وقُدِّمَتْ بَيِّنَةُ المِلْكِ إلَّا بِسَمَاعٍ أنَّهُ اشْتراهَا مِنْ كأبىِ القائِم، وَوَقْفٍ، ومَوْتٍ بِبُعْدٍ إنْ طَالَ الزَّمَانُ بلَا رِيبَةٍ، وحَلفَ وشَهِدَ اثْنَانِ كَعَزْلٍ، وجَرْحٍ، وكُفْرٍ، وَسَفَهٍ، ونِكاحٍ، وضِدِّهَا وإنْ بِخُلْعٍ وضَرَرِ زَوْجٍ وهِبَةٍ وَوَصِيةٍ وَوِلَادَةٍ، وحِرَابَةٍ، وإبَاقٍ، وَعُدْم، وأسْرٍ، وعِتْقٍ، وَلَوْثٍ.
والتَّحَمُّلُ إنْ افْتُقِرَ إِلَيْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ (2)، وتَعَيَّنَ الأدَاءُ (3) مِنْ كبَريدَيْنِ وعلى ثَالِثٍ إن لَمْ يُجْتَزْ بِهِمَا. وإنْ انْتَفَعَ فَجُرْحٌ إلَّا رُكوبَه لعُسْرِ مَشْيِهِ وعَدَمِ دَابَّتِهِ لا كمَسَافَةِ القَصْرِ ولَهُ أنْ يَنْتَفِعَ مِنْهُ بِدَابَّةٍ ونفَقَةٍ.
= الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أَلَيْس شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُل" الحديث. فانظره فيه إن شئت.
(1)
وقوله: وجاز الأداء إن حصل العلم: حاصل هذا الفرع أن الشهادة مستندها العلم، فلا يجوز لأحد أن يقوم بشهادة إلا بما يعلمه، وذلك لقوله تعالى في الزخرف. {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
(1)
. وقوله تعالى في الإسراء: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
(2)
: ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عباس: "إِذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَمْسِ فَاشْهَدْ وإلَّا فَدَعْ".
(1)
سورة الزخرف: 86.
(2)
سورة الإسراء: 36.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وهذا الحديث ذكره ابن قدامة قال: روي عن ابن عباس أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة قال: "هَلْ تَرَى الشَّمْسَ" قال: نعم. قال: "عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دع" رواه الخلال في الجامع بإسناده. وقال الأستاذ محمود فائد، محقق الطبعة التي بيدي من مغني ابن قدامة، قال: أخرجه أيضًا العقيلي، والحاكم، وأبو نعيم في الحلية، وابن عدي، والبيهقي من حديث طاوس عن ابن عباس، وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي فقال: بل هو حديث واهٍ لأن في سنده محمد بن سليمان بن مشمول، وقد ضعفه غير واحد. ا. هـ. فإذا علمت ذلك فإن مستند الشهادة العلم، وهو يستند إلى السمع والبصر. فأما ما يقع من الشهادات بالرؤية فهو الأفعال جميعها؛ كالغصب، والإتلاف، والزنا، وشرب الخمر، ونحو ذلك، وكالصفات المرئية كالعيوب في البيع.
وأما ما يقع من الشهادات بالسماع فمنه العقود، كالبيع والإجارة وغير ذلك. فإنه يحتاج الشاهد فيه إلى أن يسمع كلام المتعاقدين. وبهذا قال ابن عباس والزهري، وربيعة، والليث، وشريح، وعطاء، وابن أبي ليلى، ومالك، وأحمد.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تجوز الشهادة حتى يشاهد القائل المشهود عليه، لأن الأصوات قد تشتبه، فلا يجوز أن يشهد عليها من غير رؤية كالخط.
والحاصل أن مستند الشهادة العلم، فإذا حصل العلم جاز الأداء؛ فإن إخوة يوسف قالوا، فيما حكاه القرآن الكريم عنهم:{وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا}
(1)
. وقال تعالى في الزخرف. {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
(2)
. وقال تعالى في سورة بني إسرائيل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}
(3)
.
ومن هذا المعنى قال الشيخ علي الزقاق في المنهج المنتخب:
مستند الشهادة العلم نعم
…
مدركه عقل ونقل وتُضَمْ
ذوات حس لهما ومُستدل
ومعناه أن ما تستند الشهادة إليه هو العلم، فإن من علم شيئًا بوجه من الوجود الموجبة للعلم، جاز له، أن يشهد به. =
(1)
سورة يوسف: 81.
(2)
سورة الإسراء: 36.
(3)
سورة الزخرف: 86.
وخلَفَ بِشَاهِدٍ في طَلَاقٍ، وعِتْقٍ، لا نِكَاحٍ، فإنْ نَكَلَ حُبِسَ، وإنْ طَالَ دُيِّنَ وحَلَف عَبْدٌ وسَفِيهٌ مَعَ شَاهِدٍ، لا صَبيٌّ وأبُوهُ وإنْ أنْفَقَ، وحَلَفَ مَطْلُوبٌ ليُتْركَ بِيَدِهِ وأُسْجِلَ لِيَحْلِفَ إذا بَلَغَ، كَوَارِثِهِ قَبْلَهُ إلا أنْ يَكُونَ نَكَلَ أوَّلًا فَفِي حَلِفِهِ قَوْلَانِ. وإن نَكَلَ اكتُفِيَ بِيَمينِ المَطْلُوبِ الأولى، وإن حَلَفَ المَطْلُوبُ ثُمَّ أتى بآخَرَ فَلَا ضَمَّ، وفي حَلِفِهِ مَعَهُ وتَحْلِيفِ المَطْلُوبِ إنْ لَمْ يَحْلِفْ قَوْلَانِ. وإنْ تَعَذَّر يَمِينُ بَعْضٍ كَشَاهِدٍ بِوَقْفٍ على بَنِيهِ وعقبهم أوْ عَلى الفُقَرَاء، حَلَفَ وإلَّا فَحُبُسٌ، فإنْ مَاتَ ففي تَعْيِين مُسْتَحِقِّهِ من بَقِيَّة الأولين أو
= (2) وقوله: والتحمل إن افتقر إليه فرض كفاية، قال ابن قدامة: تحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية، لقوله تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}
(1)
. وقال مالك في هذه الآية: إنما هي فيمن دعي للأداءِ بعد التحمل. قال: وأما قبل أن يشهد، فأرجو أن يكون في سعة إن كان ثم من يشهد.
قال ابن رشد: الدعاء ليشهد على الشهادة ويستحفظها فرض كفاية كصلاة الجنازة، وقد دعي مالك فلم يجب واعتذر لمن دعاه فقال: أخاف أن يكون في أمرك ما لا أرى أن أشهد عليه فيقتدي بي من حضر. ا هـ.
وقال ابن عرفة: التحمل هو علم ما يشهد به بسبب اختياري، وهو فرض كفاية، والأداء هو إعلام الشاهد الحاكم بشهادته بما يحصل له العلم بما شهد به، وهو واجب عينًا على من لم يزد على عدد يثبت به المشهود به، وواجب كفاية على من زاد عدده عليه حاضرًا، كواحد من ثلاثة في الأموال، وما يقبل فيه اثنان، ومن خمسة فصاعدًا في الزنا.
(3)
وقوله: وتعين الأداء، دليله قوله تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}
(2)
. وقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}
(3)
. فإن امتنع من تعين عليه الأداء أثم - إن لم يكن عليه ضرر في أدائها - فإن كان يلحقه ضرر في الأداء سقط عنه الوجوب لقوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}
(4)
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا ضَرَر وَلَا ضِرَارَ". ولأنه لا يلزمه أن يضر نفسه لينفع غيره.
(1)
سورة البقرة: 282.
(2)
و
(4)
سورة البقرة: 282.
(3)
سورة البقرة: 283.
الْبَطْنِ الثَّانِي، تَرَدُّدٌ. ولَمْ يَشْهدْ على حَاكِم قال: ثَبَتَ عْنِدِي إلَّا بإشْهَادٍ مِنْةُ كاشْهَدْ عَلى شَهَادَتي أوْ رَآهُ يؤدِّيهَا إنْ غَابَ الأصْل وهو رَجُلٌ بِمَكَانٍ لَا يَلْزَمُ الأدَاءُ مِنْهُ، ولَا يَكْفِي في الحُدُودِ الثَّلاثَةُ الأيامِ، أوْ مَاتَ أوْ مَرِضَ ولم يَطْرأ فِسْقٌ أوْ عَدَاوَةٌ، بِخِلَافِ جِنٍّ، ولم يُكَذِّبْهُ أصْلُه قَبْلَ الحُكْمِ وإلا مَضَى بِلَا غُرْمٍ. ونَقَلَ عَنْ كُلٍّ اثْنَانِ لَيْسَ أحَدُهُمَا أصْلًا، وفي الزنا أرْبَعَةٌ عَنْ كُلٍّ، أو عن كل اثنيْنِ اثنَانِ، ولُفّقَ نَقْلٌ بِأصْلٍ، وجاز تَزْكِيَةُ نَاقلٍ أصْلَهُ، ونَقْلُ امْرأتَيْنِ عَنْ رَجُلٍ في بَاب شَهَادَتِهِنَّ. وإن قَالا: وهمْنَا بَلْ هو هذا، سَقَطَتَا. ونُقِضَ إنْ ثبت كذبُهُمْ كحَيَاةِ مَن قُتِلَ، أوْجَبِّهِ قَبْلَ الزِّنَا، لا رجُوعُهُمْ، وغَرِمَا مالًا ودِيَةً ولو تعمَّدا (1)، ولا يُشَارِكُهُمْ شَاهِدَا الإِحْصَانِ في الغُرْمِ، كرُجُوعِ المُزَكّي، وأُدِّبَا في كَقَذْفٍ وحُدَّ شُهُودُ الزِّنَا مُطْلَقًا كرجوع أحَدِ الأرْبَعَةِ قَبْلَ الحُكم وإنْ رَجَعَ بَعْدَهُ حُدَّ الرَّاجِعُ فَقَطْ، وإنْ رَجَعَ اثنَانِ من سِتَةٍ فَلَا غُرْمَ ولَا حَدَّ إلّا إن تبيَنَ أنَّ أحَدَ الأربَعَةِ عَبْدٌ فَيُحدُّ الراجِعَانِ والْعَبْدُ وغَرِمَا فَقَطْ رُبُعَ الدِّيَةِ، ثُمَّ إنْ رَجَعَ ثَالِثٌ، حُدَّ هُو والسَّابِقَانِ وغُرمُوا رُبُعَ الدِّيَةِ، ورابعٌ فنِصْفُهَا، وإن رَجَعَ سَادِسٌ بَعْدَ فَقْءِ عَيْنِهِ، وخَامِسٌ بَعْدَ مُوضِحَتِهِ، ورَابِعٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، فعلى الثاني خُمُسُ الموضِحَةِ مَعَ سُدُسِ الْعَيْنِ كالأول، وعلى الثالث رُبُعُ دِيَةِ النَّفْسِ فَقَطْ.
(1)
قوله رحمه الله: لا رجوعهم، وغرما مالًا ودية ولو تعمَّدا، يريد به، والله أعلم، أن الحكم لا ينقض إن ثبت رجوع الشهود عن الشهادة، وسواء كان رجوعهم قبل الاستيفاء أو بعده، فإن كان قبله؛ فإن كان الحكم بمال مضى اتفاقًا، وإن كان بقتل ورجعوا قبل الاستيفاء فقيل: لا يستوفى في الدم لحرمته ولزمت الدية، وإن كان بعد الاستيفاء فالحكم تام، وعلى الشاهدين دية المقتول، سواء كان القتل قصاصًا أو رجمًا.
وَمُكِّنَ مُدَّعٍ رُجُوعًا مِنْ بَيِّنَةٍ كَيَمينٍ إنْ أتَى بِلَطْخٍ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُمَا عَنِ الرُّجُوعِ، وإنْ عَلِمَ الحَاكِمُ بِكَذِبِهِمْ وَحَكَمَ فالقِصَاصُ، وإنْ رَجَعَا عَنْ طَلاقٍ فَلا غُرْمَ كَعَفْوِ القصَاصِ إنْ دَخَلَ وَإلَّا فَنِصْفُهُ كَرُجوعِهِمَا عَنْ دُخُولِ مُطَلَّقَةٍ وَاخْتَصَّ الرَّاجِعَانِ بِدُخُولٍ عَنِ الطَّلَاقِ وَرَجَعَ شَاهِدَا الدُّخُول عَلى الزَّوْجِ بِمَوْتِ الزَّوجَةِ إنْ أنكَرَ الطَّلَاقَ وَرَجَعَ الزَّوْجُ عَليْهِمَا بِمَا فَوَّتَاهُ مِنْ إرْثٍ دُونَ مَا غَرِمَ، وَرَجَعَتْ عَلَيْهِمَا بما فَوَتَّاها مِنْ إرْثٍ وصَدَاقٍ، وإنْ كَانَ عَنْ تَجْريحٍ أوْ تَغْلِيطِ شَاهِدَيْ طَلَاقِ أمَةٍ، غَرِما للسَّيِّدِ ما نَقَصَ بِزَوْجِيَّتهَا ولَوْ كَانَ بِخُلْعٍ بثمرة لَمْ تَطِبْ أوْ آبِقٍ فَالْقِيمَةُ حِينَئِذٍ كالإِتْلَافِ بِلَا تَأخِيرٍ لِلْحُصُولِ فَيَغْرَمَ الْقِيمَة حِينَئذٍ عَلى الأحْسَنِ، وإنْ كان بِعِتْقٍ غَرِمَا قِيمَتَهُ وَوَلَاؤُهُ لَهُ. وَهَلْ إنْ كَانَ لأجَلٍ يَغْرَمَانِ الْقِيمَة والمْنَفَعَةُ إلَيْهِ لَهُمَا؟ أو تُسْقَطُ مِنْهَا المَنْفَعَةُ؟ أوْ يُخيَّرُ فِيهمَا؟ أقْوَال. وإن كان بِعِتْقِ تَدْبِيرٍ فَالْقيمَةُ، واسْتَوْفَيَا مِنْ خِدْمَتِهِ، فإنْ عَتَقَ بِمَوْتِ سَيِّدهِ فَعَلَيْهِمَا وهُمَا أَوْلى إنْ رَدَّهُ دَينٌ أو بَعْضَهُ كالجِنَايَةِ، وإن كانَ بِكتَابَةٍ فَالْقِيمَةُ واسْتَوْفَيَا مِنْ نُجُومِهِ، وإنْ رُقَ فَمِنْ رَقَبَتِهِ، وإنْ كانَ بإيلَادٍ فالْقِيمَةُ، وإِنْ أخَذَا مِنْ أرْشِ جِنايَةٍ عَلَيْهَا وَفيمَا اسْتَفادَتْهُ قَوْلَانِ. وَإنْ كَانَ
= قلت: في السنن للبيهقي بسنده عن الشعبي أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل بالسرقة، فقطع عليّ يده، ثم جاءا بآخر فقالا: هذا هو السارق لا الأول. فأغرم على رضي الله عنه الشاهدين دية يد المقطوع الأول وقال. لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما. ولم يقطع الثاني.
ثم ساق سندًا آخر عن الحسن قال: إذا شهد شاهدان على قتل، ثم قتل القاتل، ثم يرجع أحد الشاهدين قُتِل. قال البيهقي: وهذا إن قال: عمدت أن أشهد عليه ليقتل، والأول في الخطإ، يعني تغريم الدية. والله أعلم. =
بِعِتْقِهَا فَلا غُرْمَ أوْ بِعِتْقِ مُكاتبٍ فَالكِتابَةُ، وإنْ كانَ بِبُنُوَّةٍ فَلَا غُرْمَ إلّا بَعْدَ أخْذِ المالِ بِإرْثٍ إلَّا أن يَكونَ عَبْدًا فَقِيمَتُهُ أوَّلًا ثُمَّ إِنْ مَاتَ وتَرَكَ آخَرَ فَالْقِيمَةُ لِلآخَرِ وغَرِمَا لَهُ نِصْفَ الْبَاقِي وَإنْ ظَهَرَ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ، أُخِذَ مِنْ كُلٍّ النِّصْفُ وكُمِّل بِالْقِيمَةِ ورَجَعَا عَلى الأول بِمَا غَرِمَهُ الْعَبْدُ لِلْغَرِيمِ، وإنْ كانَ بِرقٍّ لِحُرٍّ فَلَا غُرْمَ إلّا لِكُل مَا اسْتُعْمِلَ ومَالٍ انْتُزِعَ ولَا يأخُذُهُ المشْهُودُ لَهُ، وَوُرِثَ عَنْهُ وله عَطِيَّتُهُ لَا تَزَوُّجٌ وَإنْ كانَ بِمائةٍ لزيْدٍ وعَمْرو ثُمَّ قَالَا لِزيْدٍ غرِمَا خَمْسِينَ لِعَمْرو فَقَطْ، وإنْ رَجَعَ أحَدُهُمَا غَرِمَ نِصْفَ الحَقِّ، كَرَجُلٍ مَعَ نِسَاءٍ وهُوَ مَعَهُنَّ في الَّرضَاعِ كاثْنَتَيْنِ وعَنْ بَعْضِهِ غَرِمَ نِصْفَ الْبَعْضِ وَإنْ رَجَعَ مَنْ يَسْتَقِل الحُكْمَ بِعَدَمِهِ فَلَا غُرْمَ، فإذا رَجَعَ غيْرُهُ فالْجَميعُ، ولِلْمَقْضِيّ عَلَيْهِ مطالبتُهُمَا بِالدَّفْعِ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ ولِلْمَقْضِيِّ لَهُ ذلِكَ إذَا تَعَذَرَ مِنَ المَقْضِيِّ عَلَيْهِ. وإنْ أمْكَنَ جَمْعٌ بَيْنَ البينَتَيْنِ جُمعَ، وإلّا رُجِّحَ بِسَبَبِ مِلْكٍ كَنَسْجٍ ونِتَاجٍ إلَّا بِمِلْكٍ مِنَ المُقَاسِمِ، أوْ تَاريخٍ أو تَقَدُّمِهِ، وبمزيدِ عَدَالةٍ، لا عَددٍ، وبِشَاهِدَيْنِ عَلى شَاهِدٍ وَيَمِينٍ أو امرأتيْنِ، وبِيَدٍ إنْ لمْ تُرَجَّحْ بَيِّنَةُ مُقَابلِهِ فَيَحْلِفُ وبالمِلْكِ عَلَى الْحَوْزِ، وبِنَقْلٍ عَلى مُسْتَصْحِبَةٍ. وصِحَّةُ الْمِلكِ بِالتَّصَرُّف وعَدَمِ مُنَازِعٍ، وحَوْزٍ طَالَ كعَشْرَةِ أشْهُرٍ، وَأنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلكِهِ، في عِلْمِهِمْ، وتُؤوِّلَتْ عَلى الكَمَالِ في الأخِيرِ، لَا باشتِرَاءٍ، وإنْ شُهِدَ بإقْرارٍ اسْتُصْحِبَ، وإنْ تَعَذَرَ تَرْجِيحٌ سَقَطَتَا وبَقيَ بِيَدِ
= وساق البيهقي سندين آخرين، أحدهما عن شريح، مفاده أن رجوع الشاهد لا يؤثر في الحكم إن كان بعد نفاذه، والثاني عن الأوزاعي عن الزهري، ومفاده أن رجوع الشاهد عن شهادته قبل الحكم يبطلها.
فهذه آثار عن بعض الصحابة والتابعين يمكن الاستئناس بها، والله الموفق.
حَائزهِ أوْ لِمَنْ يُقِرُّ لَهُ وقُسِمَ عَلى الدَّعْوَى إن لمْ يكن بِيَدِ أحَدِهِمَا (1) كالعَوْلِ (2)، ولم يأخُذْهُ بأنَّهُ كانَ بيَدِهِ. وإنِ ادَّعَى أخٌ أسْلَمَ أنَّ أَباهُ أسْلَمَ فَالْقَوْلُ للنَّصْرَانِيِّ، وقُدِّمَتْ بَيِّنَةُ المُسْلِمِ إلَّا بأنَّهُ تَنَصَّرَ أوْ مَاتَ إنْ جُهِلَ أصْلُهُ فيُقْسَمُ كَمَجْهُولِ الدِّينِ، وقُسمَ عَلى الجِهَاتِ بالسَّويّةِ وإن كانَ مَعَهُمَا طِفْلٌ فَهَلْ يَحْلِفَانِ وَيُوقَفُ الثُلُثُ فَمَنْ وافَقَه أخَذَ حِصَّتَهُ ورُدَّ على الآخَرِ، وَإنْ مَاتَ حَلَفَ وَقُسِمَ أوْ للصَّغِيرِ النِّصْفُ ويُجْبَرُ عَلى الإِسْلَامِ، قولَانِ. وَإنْ قَدَرَ على شَيْئِهِ فَلَهُ أخْذُهُ إنْ يكُنْ غَيْرَ عُقُوبَةٍ، وأمِنَ فتْنَةً ورَذيلَةً. وإنْ قَالَ: أبْرَأني مُوَكِّلُكَ الغَائِبُ. أُنْظِرَ، ومَنِ استمْهَلَ لِدَفْعِ بَيِّنَةٍ أُمْهِلَ بالاجْتِهَادِ كحِسَابٍ وشِبْهِهِ، بكفِيلٍ بِالمَالِ، كأن أرَادَ إقَامَةَ ثَانٍ أَوْ بإقامَة بَيِّنةٍ فبِحَمِيلٍ بالْوَجْهِ، وفيهَا أيْضًا نفْيُهُ وهل خِلَافٌ، أوْ المُرادُ وَكِيلٌ يُلَازِمُهُ، أوْ إن لم تُعْرَفْ عَيْنُهُ، تأويلَاتٌ. ويُجِيبُ عَنِ القِصَاصِ الْعَبْدُ وعن الأرْشِ السَّيِّدُ. واليَميِنُ في كُلِّ حَقٍّ بِاللهِ الَّذي لا إله إلَّا هُوَ (3) ولَوْ كَتابيًّا.
وتؤوِّلَتْ عَلى أنَّ النَّصْرَانيَّ يَقُولُ: بِالله فقط (4). وغُلِّظَتْ في رُبُعِ دِينَارٍ بِجَامِعٍ (5) كالكنِيسَةِ وبَيْتِ النَّارِ وبالْقِيَامِ، لا بِالاسْتِقْبالِ، وبِمِنْبَرِهِ صلى الله عليه وسلم. وخَرَجَتْ المُخَدَّرَةُ فِيمَا ادّعَتْ أو ادُّعِيَ عَلَيْهَا إلَّا التي لَا تَخْرُجُ نَهَارًا وإنْ مُسْتَوْلَدَةً فَلَيْلًا وتُحَلَّفُ في أقلَّ بِبَيْتِهَا، وإن ادَّعَيْتَ قَضَاءً على مَيِّتٍ لَمْ يَحْلِفْ إلَّا مَنْ يُظَنُّ بِهِ الْعِلْمُ مِن ورثَتِهِ. وحَلَفَ في نَقْصٍ بَتًّا، وغِشٍّ عِلْمًا. واعْتَمَدَ الْبَاتُّ على ظَنٍّ قَوِيٍّ (6) كخَطِّ أبِيهِ أوْ قَرينَةٍ، ويمِينُ المطْلُوبِ: مَالَهُ عِنْدي
(1)
وقوله: وقسم على الدعوى إن لم يكن بيد أحدهما: أخرج البيهقي بسنده عن بكير بن عبد الله أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر، فجاء كل واحد منهما =
كَذَا. ولَا شَيءٌ مِنْهُ ونَفَى سَبَبًا إنْ عُيِّنَ وغيْرَهُ فإنْ قَضَى نَوَى سَلَفًا يَجِبُ رَدُّهُ. وإنْ قَالَ وَقْفٌ أوْ لِوَلَدِي لم يُمْنَعْ مُدَّعٍ مِنْ بَيِّنتهِ، وإنْ قَالَ لِفُلَانٍ، فإنْ حَضَرَ ادُّعِيَ عَليْهِ، فإنْ حَلَفَ فَلِلْمُدَّعِي تَحْلِيفُ المُقِرِّ، وإنْ نَكلَ حَلَفَ وغَرِمَ ما فَوَّتَهُ أوْ غَابَ لَزِمَهُ يَمِينٌ أوْ بيِّنَةٌ، وانْتَقَلَتْ الحُكُومَةُ لَهُ فإنْ نَكَلَ أخذَهُ بِلَا يَمِينٍ، وإنْ جَاءَ المُقَرُّ لَهُ فَصَدَّقَ المُقِرَّ أخَذَهُ وإنِ اسْتَحْلَفَ ولَهُ بَيِّنةٌ حَاضرَةٌ أوْ كالجُمُعَةِ يَعْلَمُهَا لم تُسْمَعْ، وإنْ نكَلَ في مَالٍ وحَقِّه اسْتَحَقَّ بِهِ إنْ حَقَّقَ وليُبَيِّنْ الحَاكِمُ حُكْمَهُ، ولَا يُمكَّنُ مِنْهَا إنْ نَكَلَ بِخِلَافِ مُدَّعٍ الْتَزَمَهَا ثُمَّ رَجَعَ، وإنْ رُدَّتْ عَلى مُدَّعٍ وسَكتَ زَمَنًا، فَلَهُ الْحَلِفُ، وإنْ حَاز أجنبيٌّ غيْرُ شَرِيكٍ وتَصَرفَ ثُمَ ادَّعَى حَاضِرٌ سَاكِتٌ بِلَا مَانعٍ عَشْرَ سِنِينَ، لَمْ تُسْمَعْ ولا بَيِّنَتُهُ إلَّا بِإسْكَانٍ ونَحْوِهِ كشَرِيكٍ أجْنَبِيٍّ حَازَ فيهَا إنْ هَدَمَ وَبَنَى. وفىِ الشَريكِ القرِيبِ مَعَهُمَا قَوْلَانِ. لا بَيْنَ أبٍ وَابْنِهِ إلَّا بكهِبَةٍ إلّا أنْ يَطُولَ مَعَهُمَا مَا تَهْلِك البيِّناتُ ويَنْقَطِعُ الْعِلْمُ، وَإنَّمَا تَفْتَرِقُ الدَّارُ مِنْ غيْرِهَا في الأجْنَبِيِّ ففي الدَّابَّةِ وأمَةِ الخِدْمَةِ السَّنَتَانِ، ويُزادُ في عَبْدٍ وعَرْضٍ.
= بعدول على عدة واحدة، فأسهم النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وقال:"اللَّهُمَّ أَنْتَ تَقْضِي بَيْنَهُمْ". فقضى للذي خرج له السهم. قال: أخرجه أبو داود في المراسيل. وله شاهد من وجه آخر، ثم ساق سندًا عن عروة وسليمان بن يسىار أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتى كل واحد منهما بشهود، وكانوا سواء، فأسهم بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي البيهقي أيضًا وبسنده عن أبي موسى أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير، فبعث كل واحد منهما شاهدين، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وفيه حديث آخر بسنده عن تميم بن طرفة بمثله.
وفي البيهقي أيضًا أثر بسنده إلى أبي الدرداء؛ أنه اختصم إليه رجلان في فرس، فأقام كل واحد منهما البينة أنه أنتج عنده، وأنه لم يهبه ولم يبعه. فقال أبو الدرداء: إن أحدكما لكاذب، وقسمه بينهما نصفين =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2)
وقول المصنف: كالعَوْل، لعله ينزع به إلى ما روي عن عليّ رضي الله عنه أنه اختصم إليه في بغل وجد يباع في السوق، فادَّعاه رجل وقال: بغلي، لم أهب، ولم أبع. وجاء على دعواه بخمسة شهود، وجاء رجل آخر يدعيه وجاء بشاهدين، فقال على رضي الله عنه: إن فيه قضاء وصلحة؛ أما الصلحة؛ فيباع البغل ويقسم على سبعة لهذا خمسة أسباعه ولهذا سُبُعاه، فإن أبيتم إلا القضاء؛ يحلف أحد الخصمين أنه بغله؛ ما باعه ولا وهبه، فإن تشاحنتما أيكما يحلف، أقرعت بينكما، فأيكما خرج سهمه حلف.
وأصح شيء في القضاء فيما لم يكن بيد أحد الخصمين، ولم يقم أحدهما عليه ما يستوجبه به، حديث أم سلمة، وأصله متفق عليه؛ أن رجلين من الأنصار اختصما في مواريث لهما، لم تكن لهما بينة إلّا دعواهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلى الله عليه وسلم "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ". قالت: فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:"أَمَّا إِذْ فَعَلْتُمَا مَا فَعَلْتُمَا فَاقْتَسِمَا وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَ اسْتَهِمَا، ثُمَّ تَحَالَّا". ا. هـ. والله الموفق.
(3)
قوله رحمه الله: واليمين في كل حق بالله الذي لا إله إلا هو، يريد به، والله أعلم، أن اليمين الشرعية في جميع الحقوق المالية وغيرها، سوى اللعان والقسامة، صيغتها: بالله الذي لا إله إلا هو. سواء كان الحالف مسلمًا أو يهوديًا أو نصرانيًا، وتؤولت المدونة على أن الحالف النصراني يقول: بالله. فقط؛ لأنه لا يعتقد وحدانية الله تعالى. والعياذ بالله.
وأخرج أبو داود: حدثنا مسدِّدٌ، حدثنا أبو الأحوص، حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي يحيى عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل حلَّفه:"إِحْلِفْ بِاللهِ الَّذىِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، مَا لَهُ عِنْدِي شَيءٌ". قال شعيب: ونسبه المنذري للنسائي أيضًا. اهـ.
ونسب ابن حجر في فتح الباري لابن المنذر، قال: اختلفوا، يعني في الصيغة التي ينبغي التحليف بها، فقالت طائفة: يحلفه بالله من غير زيادة. وقال مالك: يحلفه بالله الذي لا إله إلا هو. وكذا قال الكوفيون والشافعي. قال ابن المنذر: وبأي ذلك استحلفه أجزأ. قال: والأصل في ذلك أنه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إذا حلف بالله صدق عليه أنه حلف اليمين التي ورد بها القرآن. قال تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ}
(1)
. وقال تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}
(2)
. وقال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا}
(3)
. قال: ولأن من جاء يسأل عن الإِسلام قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، وأنه جاء في حديث ابن عمر المتفق عليه:"مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفِ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ". ا. هـ. منه بتصرف.
وقال ابن قدامة في المغني: واليمين المشروعة في الحقوق التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله.
في قول عامة أهل العلم، إلا أن مالكًا أحب أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، وإن استحلف حاكم بالله أجزأ. قال ابن المنذر: هذا أحب إليَّ؛ لأن ابن عباس روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف رجلًا فقال له: "قُلْ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مَا لَهُ عِنْدَكَ شَيْءٌ". رواه أبو داود. وفي حديث عمر حين حلف لأبى قال: والله الذي لا إله إلا هوإن النخل لنخلي، وما لأبي فيها شيء. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: ولو كتابيًا وتؤولت أيضًا على أن النصراني يقول بالله فقط، قال في المدونة: لا يحلف النصراني واليهودي في حق أو لعان أو غيره إلا بالله، ولا يزاد عليه: الذي أنزل التوراة والإِنجيل. قال عياض: وفرق ابن شبلون بين اليهودي والنصراني في ذلك؛ فألزم اليهود أن يقولوا: بالله الذي لا إله إلا هو؛ لقولهم بالتوحيد. انظر المواق.
والدليل على تحليف الكتابي قوله صلى الله عليه وسلم: "الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ". فهو عام في كل مدعى عليه حتى يخرجه منه دليل منفصل، وأيضًا فقد روى شقيق عن الأشعث ابن قيس قال: كان بيني وبين يهودي أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هَلْ لَك بَيِّنَةٌ"؟ فقلت: لَا، فقال لليهودي "إحْلِفْ". فقلت. إذًا يحلف فيذهب بمالي، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}
(4)
. رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه. قال ابن قدامة: وممن قال يستحلف أهل الكتاب بالله وحده مسروق، وأبو عبيدة بن عبد الله، وعطاء، وشريح، والحسن، وإبراهيم بن كعب بن سور، ومالك، والثوري وأبو عبيد. وقال الخرقي: إن كان يهوديًا قيل له: قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى. وإن كان نصرانيًا قيل له: قل: والله الذي أنزل الإِنجيل على عيسى. واحتج =
(1)
سورة النمل: 49.
(2)
سورة الأنعام: 23.
(3)
سورة يوسف: 91.
(4)
سورة آل عمران: 77.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ابن قدامة لذلك بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني لليهود:"نشدْتُكُمْ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَنْ زَنَى"؟. رواه أبو داود.
(5)
وقوله رحمه الله: وغلظت في ربع دينار بجامع ألخ، قال مالك والشافعي: تغلظ اليمين بالزمان والمكان، قال الشافعي: يستحلف المسلم بين الركن والمقام بمكة، وفي المدينة عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنابر، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وتغلظ في الزمان بالاستحلاف بعد العصر، واستدل للتغليظ بالزمان بقوله تعالى:{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ}
(1)
. قيل: أراد بعد العصر، واستدل للتغليظ بالمكان بقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ فَلْيَتَبوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". أخرجه ابن ماجه.
فثبت أنه يتعلق بذلك تأكيد اليمين.
تنبيهٌ: نسب الحطاب إلى ابن العربي: وأما التغليظ بالتحليف على المصحف فهو بدعة لم يرد عن أحد من الصحابة، وأجازه الشافعية، قال ابن المنذر فيما حكاه عنه ابن قدامة: ولم نجد أحدًا يوجب اليمين بالمصحف. وقال الشافعي -: رأيتهم يؤكدون بالمصحف، ورأيت ابن مازن يغلظ اليمين بالمصحف، قال ابن المنذر: وهذا زيادة على ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين، وفعله الخلفاء الراشدون وقضاتهم، من غير دليل ولا حجة يستند إليها، ولا يترك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لفعل ابن مازن ولا غيره. ا. هـ. منه.
(6)
وقوله: واعتمد البات على ظن قوي، البت: القطع. أي يحلف بالله ما له عليّ شيء. قال ابن قدامة: وجملة الأمر أن الأيمان كلها على البت والقطع إلا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم، قال: وبهذا قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، واستدلوا بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استحلف رجلًا فقال له:"قُلْ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مَا لَهُ عَلَيْكَ حَقٌّ". رواه أبو داود. وقد تقدم قريبًا؛ واستدلوا أيضًا بحديث الأشعث بن قيس أن رجلًا من كندة ورجلًا من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض من اليمن. الحديث. وفيه: فتهيأ الكندي لليمين، رواه أبو داود، ومحل الشاهد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه ذلك. =
(1)
سورة المائدة: 106.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تنبيهٌ: واليمين على نية المستحلف؛ لدليل حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ". وفي رواية عن أبي هريرة عند مسلم أيضًا: "الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفْ". قال البغوي: ورُوي عن النخعي أنه قال: إن كان المستحلف ظالمًا فالنية نية الحالف، وإن كان مظلومًا فالنية نيَّة المستحلف، قال البغوي: وقوله: "يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بهِ صَاحِبُكَ" أي يحب أن تحلف على ما يصدقك به صاحبك إذا حلفت.
تنبيهٌ: من توجهت عليه يمين هو فيها صادق أو توجهت له، أبيح له الحلف ولا شيء عليه من إثم ولا غيره، لأن الله تعالى شرع اليمين ولا يشرع محرمًا، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم على الحق في ثلاثة مواضع من كتابه، وقد حلف عمر بن الخطاب لأبيّ على نخيل ثم وهبه له، وقال: خفت إن له أحلف أن تمتنع الناس من الحلف على حقوقهم فتصير سنة. قاله ابن قدامة، ثم قال: واختلف في الأوْلى؛ هل الحلف أو افتداء اليمين، فمن قال: الحلف أوْلى. قال: حلف عمر. ومن قال الفداء أوْلى. قال: أفتدى عثمان يمينه وقال: خشيت أن تصادف قدرًا فيقال: حلف فعوقب، أو هذا شؤم يمينه. ا. هـ. والله الموفق.
كتاب الدماء
بَابٌ: إن أتْلَفَ مُكَلَّفٌ (1) وَإنْ رُقَّ (2) عير حَرْبيٍّ وَلَا زائِدِ حُرِّيَّةٍ أوْ إسْلَامٍ حِينَ الْقَتْلِ (3)، إلَّا لِغِيلَةٍ (4)، مَعْصومًا (5) لِلتَّلَفِ والإِصَابَةِ بإيمانٍ أوْ أمَانٍ كالقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ المُسْتَحِقِّ، وأُدِّبَ كَمُرْتَدٍّ، وَزَانٍ أُحْصِنَ ويَدِ سَارِقٍ، فالقَوَدُ عَيْنًا (6) وَلَوْ قَالَ: إنْ قَتَلْتَنِي أبْرأْتُكَ. ولَا دِيَةَ لِعَافٍ مُطْلِقٍ (7) إلَّا أنْ تَظْهَرَ
كتاب الدماء
قال ابن شاس: الدماء خطيرة القدر في الدين، والقتل كبيرة فاحشة موجبة العقوبة في الدنيا والآخرة، وموجباتها في الدنيا خمسة: القصاص، والدية، والكفارة، والتعزير، والقيمة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَنْ شَارَكَ فِي دَمِ امْرِئٍ مسْلِمِ بِشَطْر كَلِمَةِ، جَاءَ يَوْمَ الْقيَامَة مَكْتُوبُ آيسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ".
وقال المتيطي: قال بعض الشيوخ: من قال: إن القاتل يخلد في النار على التأبيد فقد أخطأ وخالف السنة؛ لأن الذنب لا يحبط ما تقدم من إيمانه، ولا ما اكتسب من عمل صالح، ولابد أن يجازي الله سبحانه كل مؤمن على إيمانه، قال الله تعالى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}
(1)
. وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
(2)
. وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}
(3)
. ولكن من تمام توبة القاتل عرضه نفسه على أولياء المقتول، وأن يصوم أو يعتق. وأَن يلازم الجهاد. ا. هـ. المواق.
(1)
قوله: إن أتلف مكلف، قال الحطاب: بدأ المُصَنف الكلام على القصاص في النفس؛ وله ثلاثة أركان: القاتل والمقتول والقتل، فقال: إن أتلف مكلف ألخ. ولم يقل إن قتل؛ لأن الإِتلاف يشمل المباشرة والتسبب، والقتل إنما يتبادر في المباشرة. وذكر أنه يشترط في وجوب القصاص على القاتل ثلاثة شروط: الأولي، أن يكون مكلفًا، وهو العاقل البالغ، فلا قصاص على صبي ولا على مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْغُلَامِ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ". رواه أبو داود.
تنبيه: المرفوع في هذا الحديث إنما هو الإِثم، وهو من باب خطاب التكليف، وأما الضمان فلا؛ =
(1)
سورة محمد: 35.
(2)
سورة الزلزلة: 7، 8.
(3)
سورة الأنبياء: 94.
إرَادَتُهَا، فيَحْلِفُ وَيَبْقَى على حَقِّهِ إنِ امْتَنَعَ كعَفْوِهِ عن العبد.
= لأنه ليس من ذلك الباب وإنما هو من خطاب الوضع، ولا يشترط فيه علم المكلف ولا قدرته ولا كونه من كسبه، فيضمن النائم ما أتلفه في حال نومه من الأموال في ماله، وكذلك ما أتلفه من الدماء، غير أنه إن كان دون ثلث الدية فعليه، وإن بلغ ثلث الدية فأكثر فهو على عاقلته. اهـ. منه.
ودليل وجوب القود قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}
(1)
، الآية.
ومن السنة حديث أبي هريرة عند أبي داود، قال: قتل رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعه إلى وليِّ المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله، والله ما أردت قتله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للولي: "أَمَا إِنَّهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا ثُمَّ قَتَلْتَهُ دَخَلْتَ النَّارَ" قال: فخلَّى سبيله، قال: وكان مكتوفًا بنسعة، فخرج يجر نسعته. أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وقال الترمذي حديث حسن صحيح. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْر النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَفْتَدِيَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ". قال المجد في المنتقى: رواه الجماعة لكن لفظ الترمذي: "إِمَّا أَنْ يَعْفُوَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ".
(2)
وقوله: وإن رُقَّ، قال المتيطي: العبيد مكلفون، وجنايتهم متعلقة برقابهما دون ساداتهم، ولا يلزم ساداتهم أكثر من إسلامهم بما جنوا، سواء كانت الجناية مما يجب فيه القصاص أو لا، وجناياتهم ثلاثة أقسام: جنايتهم على العبيد، وجنايتهم على الأحرار، وجنايتهم على الأموال.
فأما جنايتهم على العبيد؛ فمالك يرى فيها أن عليهم القود بينهم في النفس. وأما جنايتهم على الأحرار؛ ففي المدونة: قال مالك: يقتل العبد بالحر إن شاء الوليّ، فإن استحياه خير السيد بين إسلامه وفدائه بالدية. اهـ. من المواق.
قالوا: ودليل قتل العبد بالحر هو فحوى الخطاب من قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}
(2)
. وأما قتل الحر بالعبد فإن أهل العلم اختلفوا فيه، فقد ذكر عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما يقولان: يقتل الحر بعبده، قال الشوكاني: وحكاه صاحب الكشاف عن سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وقتادة، والثوري وأبي حنيفة وأصحابه. قال: وحكى الترمذي عن الحسن البصري؛ وعطاء، وبعض أهل العلم أنه ليس بين الحر والعبد قصاص؛ لا في نفس ولا فيما دون النفس، قال وهو قول أحمد وإسحاق وحكاه صاحب الكشاف عن عمر بن عبد العزيز، والحسن، =
(1)
سورة الإسراء: 33.
(2)
سورة البقرة: 178.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وعطاء، وعكرمة، ومالك والشافعي. أما المثبتون للقصاص بين الحر والعبد، فإنهم احتجوا بحديث سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ وَمَنْ جَدَعَ عَبْدًا جَدَعْنَاهُ". قال المجد: رواه الخمسة. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
واستدل النافون للقصاص بين الحر والعبد بما روى الدَّارقُطْنِي بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رجلًا قتل عبده متعمدًا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده به وأمره أن يعتق رقبة، وهذا الحديث، وإن كان من رواية إسماعيل بن عياش، فإنه يعتضد بأن أكثر أهل العلم يقولون: لا يقتل السيد بعبده.
ويتأولون حديث: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ". قال الخطابي في معالم السنن: قد يحتمل أن يكون الحسن لم ينس الحديث. ولكنه كان يتأوله على غير معنى الإِيجاب، ويراه نوعًا من الزجر ليرتدعوا فلا يقدموا على ذلك. قال: وقد تأوله بعضهم على أنه إنما جاء في عبد كان يملكه مرة، فزال عنه ملكه وصار كفؤًا له في الحرية.
قال الخطابي: وقد اختلفوا على من قتل عبده أو قتل عبد غيره، فروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنه لا يقتص منه إن فعل ذلك، وكذلك روي عن ابن الزبير رضي الله عنهما، وهو قول الحسن وعطاء، وعكرمة، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال ابن المسيب، والشعبي، والنخعي، وقتادة: القصاص بين الأحرار والعبيد ثابت في النفس، وإليه ذهب أبو حنيفة.
قال: وأجمعوا أن القصاص بين الأحرار وبين العبيد ساقط في الأطراف، قال: وإذا منعوا منه في القليل، كان منعه في الكثير أولى. ا. هـ. منه.
(3)
قوله: ولا زائد حرية أو إسلام حين القتل، يريد به، والله أعلم، أنه لا يقتل الحر بالعبد إلا أن يكون الحر كافرًا والعبد مسلمًا فيقتل الحر الكافر بالعبد المسلم، ولا يقتل المسلم بالكافر، ولو كان القاتل المسلم عبدًا والمقتول الحر كافرًا اتفاقًا، والمعتبر في التكافؤ حين القتل، فلو أسلم الكافر بعد أن قتل كافرًا قتل به، وكذلك لو عتق عبد بعد أن قتل عبدًا قتل به. ودليل عدم قتل المؤمن بالكافر حديث: "الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ أَلَا لَا يُقْتَل مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ". أخرجه أبو داود بهذا اللفظ، وهو في النسائي، وأصله في البخاري عن أبي جحيفة. وأخرجه الترمذي في الديات، باب: لا يقتل مسلم بكافر. وقال: حسن صحيح، وابن ماجة في الديات، باب: لا يقتل مسلم بكافر.
(4)
وقوله: إلا لغيلة، يعني أن المسلم إذا قتل الكافر لا يقتل به إلا إذا كان قتله له غيلة فإنه يقتل به، قال ابن عرفة: وهذا الاستثناء منقطع لأنه بالحرابة قتل حينئذ، لأن الغيلة حرابة، والغيلة هي أن يدخل غيره موضعًا بالخديعة ليأخذ ماله. ذكر ابن عرفة عن الباجي: قتل الغيلة حرابة وهو قتل الرجل خفية لأخذ ماله، قال الحطاب: ولا عفو فيه، قال في المدونة: ومن قتل وليه غيلة فصالح فيه على الدية فذلك مردود، والحكم فيه للإِمام. ا. هـ. منه.
(5)
وقوله: معصومًا، يعني أنه يشترط في وجوب القصاص أن يكون المقتول معصوم الدم، قال ابن عرفة: تعمّد قتل المسلم عدوان يوجب ملك القود لمكافئه إن كان بالغًا عاقلًا، وشرط كونه عدوانًا عصمة دم القتيل، وتكون بإسلام أو حرية أو أمان. قال ابن شأس: والحربي مهدور الدم، والزنديق لا قصاص على من قتله، ولا على من قتل زانيًا محصنًا، ولا على من قطع سارقًا قد توجه عليه القطع، لأن هذه حدود لابد أن تقام، ولا تخيير فيها، ولا عفو. ا. هـ.
(6)
وقوله: فالقود عينًا، هذا جواب الشرط في قوله إن أتلف، أي فالقصاص متعين للولي إن شاء أخذ حقه فقتل، وعفوه أولى وأكمل، وهذا قول ابن القاسم عن مالك. وقال أشهب بن عبد العزيز: هو مخير بين القود والعفو على الدية. واختاره اللخمي وجماعة من المتأخرين من أصحابنا، قالوا: إن اختار الوليّ الدية فإن القاتل يجبر على دفعها إليه؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا، أَنْ يُؤدَّى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ". وفي رواية لأبي داوت عن أبي شريح الكعبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُمْ هذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَإِنِّي عَاقِلُهُ، فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقَالَتِي هذِهِ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ أَوْ يَقْتُلُوا". فالحديث الأول متفق عليه، والثاني كما أخرجه أبو داود فهو في الترمذي. وقال. حسن صحيح.
قال الخطابي في معالم السنن: فيه بيان أن الخيار إلى ولي الدم في القصاص وأخذ الدية، وأن القاتل إذا قال: لا أعطيكم المال فاستقيدوا مني، واختار أولياء الدم المال، كان ذلك لهم، وإلى هذا ذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. =
واستَحقَّ وليٌّ دَمَ مَنْ قَتَلَ الْقَاتِلَ أو قَطَعَ يَدَ القَاطعِ، كَدِيَةٍ خَطإ فإنْ أَرْضاهُ وَليُّ الثَّانِي فَلَهُ، وَإنْ فُقِئَتْ عَيْنُ الْقَاتِلِ أوْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَلَوْ مِنَ الْوَليِّ بَعْدَ أنْ أُسْلِمَ لَهُ فَلَهُ القَوَدُ وَقُتِلَ الأدْنى بِالأعْلى كَحُرٍّ كتَابِيٍّ بِعَبْدٍ مُسْلِمٍ. والكُفَّارُ بَعْضُهُمْ ببَعْضٍ مِنْ كِتَابِيٍّ ومَجُوسِيٍّ ومُؤمِنٍ، كَذَوِي الرِّقِّ وذَكَرٍ وصَحِيحٍ وضِدِّهِمَا (1). وإنْ قَتَل عَبْدٌ عَمْدًا بِبَيِّنَةٍ أو قَسامَةٍ، خُيِّرَ الْوَلِيُّ، فَإِنْ اسْتَحْيَاهُ فِلسَيّدِهِ إسْلَامُهُ أوْ فِدَاؤُهُ إنْ قَصَدَ ضَرْبًا وإنْ بِقَضِيبٍ كخَنْقٍ ومَنْعِ طَعَامٍ ومُثَقَّلٍ (2)، وَلَا قسَامَةَ إنْ أنْفَذَ مَقْتَلَهُ بِشَيْءٍ أوْ مَات مَغْمُورًا.
وكَطَرْحِ غَيْر مُحْسِنٍ لِلْعَوْم عَداوَةً وإلَّا فِديَةٌ، وكَحَفْرِ بئْرٍ وَإنْ بِبَيْتِهِ، أوْ وَضْعِ مُزْلِقٍ أوْ بَطْ دَابَّةٍ بِطَرِيقٍ أو اتِّخَاذِ كلبٍ عَقوُرٍ تُقُدِّمَ لِصَاحِبِهِ قَصْدَ الضَّرَرِ وهَلَكَ المَقْصُودُ وإلَّا فالدِّيَةُ، وكَالإِكْرَاهِ، وتَقْدِيمِ مَسْمُومٍ (3) ورَمْيِهِ عَلَيْهِ حَيَّةً،
= وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول سعيد بن المسيب، والشعبي وابن سيرين، وقتادة. ا. هـ. منه.
(7)
وقوله: ولا دية لعافٍ مطلقٍ ألخ. قال في المدونة: إن عفوت عن عبد قتل وليك الحر عمدًا ولم تشترط شيئًا، فكما عفوت عن الحر ولم تشترط شيئًا ثم تطلب الدية، قال مالك: لا شيء لك إلا إن تبين أنك أردته، فتحلف ما عفوت إلا لأخذها ثم ذلك لك. وإن عفا ولي الدم على إلزام القاتل الدية لم تلزم إلا أن يشاء. قال ابن عرفة: الأظهر أنها تلزمه لحديث مسلم. أ. هـ. المواق.
قلت: قد تقدم لك آنفًا الدليل على صحة القول بلزوم الدية، ولو امتنع القاتل لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه وغيره من الأحاديث، وهو صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة، ولا حجة لقائل - كائن من يكون - بعد قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه.
(1)
وقوله: وذكر وصحيح وضدهما، قال في المدونة: لغو فضيلة الذكورية والعدالة والشرف، وسلامة الأعضاء وصحة الجسم؛ لحديث:"الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ".
قال المواق: وفي دياتها، إن قتل الصحيح سقيمًا أو أجذم أو أبرص أو مقطوع اليدين والرجلين، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عمدًا قتل به. وإن اجتمع نفر على قتل امرأة أو صبية عمدًا قتلوا بذلك.
(2)
وقوله: إن قصد ضربًا وإن بقضيب كخنق، ومنع طعام ومثقّل: هذا كلام منه على الركن الثالث من أركان القصاص، وهو الجناية التي بموجبها يكون القصاص، فقال إن قصد القاتل ضربًا للمقتول، الذي لا يجوز له ضربه على وجه الغضب، وإن بقضيب، وجب القصاص، وشبه في وجوب القصاص فقال: كخنق لمعصوم حتى مات، فعلى خانقه القصاص وكضرب بشيء مثقل راضٍّ للبدن بلا جرح؛ كحجر وخشبة، ومات من الضرب، فيقتص، فلا يشترط كون المضروب به له حد يجرح.
قال ابن قدامة في المغني: القتل بغير المحدد مما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله، فهذا عمد موجب للقصاص، وبه قال النخعي، والزهري، وابن سيرين، وحماد، وعمرو بن دينار، وابن أبي ليلى، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد؛ وخالف الحسن فقال: لا قود في ذلك. وروي مثله عن الشعبي. قال ابن المسيب وعطاء وطاوس: العمد ما كان بالسلاح. وقال أبو حنيفة: لا قود في ذلك إلا أن يكون قتله بالنار، واحتج بحديث:"أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ عَمْدِ الْخَطَإِ؛ قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْحَجَرِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ". قال: فسماه عمدًا وأوجب فيه الدية دون القصاص، قال: وَلَنا قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}
(1)
.
وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}
(2)
. من سورة البقرة.
وروى أنس أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين، متفق عليه.
(3)
وقوله: وتقديم مسموم: قال في المواق: شرط القتل أن يكون عمدًا من مباشرة أو تسبب، فالسبب كحفر بئر للإِهلاك، وكالإِكراه، وشهادة الزور في القصاص على إحدى الروايتين، وتقديم الطعام المسموم للضيف. والذي لابن عرفة في القود بالإِكراه وبشهادة الزور روايتان، واختار ابن القصار الأولى. وفي تقديم الطعام المسموم القود. ا. هـ. نقله.
ومن المدونة: من قتل رجلًا بسقي السم قتل به. ا. هـ. منه. =
(1)
سورة الإسراء: 33.
(2)
سورة البقرة: 178.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال ابن القيم: وإن سقاه سما أو أطعمه شيئًا قاتلًا فمات به، فهو عمد موجب للقود، إذا كان مثله يقتل غالبًا، وإن خلطه بطعام، وقدمه إليه فأكله، أو أهداه إليه، أو خلطه بطعام رجل، ولم يعلم ذلك، فأكله، فعليه القود، لأنه يقتل غالبًا. قال: وقال الشافعي في أحد قوليه: لا قود عليه، لأنه أكل مختارًا، فأشبه ما لو قدم إليه سكينًا فطعن بها نفسه، قال: ولأن أنس بن مالك قال أن يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها النبىِ صلى الله عليه وسلم ولم يقتلها.
والجواب عن ذلك أن أبا سلمة قال فيه: فمات بشر بن البراء، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت، رواه أبو داود، ويجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يقتلها قبل أن يموت بشر بن البراء، فلما مات أرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها، وأن يكون أنس نقل أول القصة دون آخرها، ويتعين حمله عليها جمعًا بين الخبرين، وتحمل أيضًا أنه على رواية تركها من القتل، أن يكون ترك قتلها لاختلال العمد في بشر الذي مات لأنها لم ترد قتله، وإنما أرادت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: لفظ حديث أبي سلمة عند أبي داود، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة، زاد: فأهدت له يهودية بخير شاة مصلية سمَّتها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأكل القوم، فقال:"ارْفعُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ". فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري، فأرسل إلى اليهودية:"مَا حَمَلَكِ عَلَى الَّذِي صَنَعْتِ"؟ قالت: إن كنت نبيًا لم يضرك الذي صنعت، وإن كنت ملكًا أرحت الناس منك فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت، ثم قال في وجعه الذي مات فيه:"مَا زِلْتُ أجِدُ مِنَ الْأكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي".
قال الخطابي: اختلف الناس فيما يجب على من جعل في طعام رجل سمًّا فأكله فمات، فقال مالك بن أنس: عليه القود، وأوجب الشافعي - في أحد قوليه - القود إذا جعل في طعامه سمًا وأطعمه إياه، أو في شرابه فسقاه إياه ولم يعلمه أن فيه سمًّا، قال: وإن خلطه بطعام فوضعه، ولم يقل له: كل. أو: اشرب؛ فمات، فلا قود عليه. قال الخطابي: والأصل في ذلك أن المباشرة والسبب إذا اجتمعا، كان حكم المباشرة مقدمًا على السبب، كحافر البئر والدافع إليها. أما إذا استكرهه على شرب السم فعليه القود في مذهب مالك والشافعي. وعن أبي حنيفة: إن سقاه السم فمات لم يقتل به، وإن أوجره إيجارًا، كان على عاقلته. ا. هـ. منه.
وكإِشَارَتهِ بِسَيْفٍ فَهَرَبَ وطَلبهُ وبَينهُمَا عداوَةٌ وإنْ سَقَط فبِقَسَامَةٍ، وإشَارَتُهُ فَقَطْ خَطأ، وكَالإِمْسَاكِ لِلقَتلِ. ويُقْتَلُ الْجَمْعُ بِوَاحِدٍ والمُتَمَالِئونَ (1) وإنْ بِسَوْطٍ سَوْطٍ، والمُتَسَبِّبُ مَعَ المبَاشِر كَمُكْرِهٍ ومُكْرَهٍ (2) وكأب أو مُعَلِّم أمَرَ وَلدًا صَغيرًا، أو سَيِّدٍ أمَر عَبْدًا مُطلَقًا، فإنْ لمْ يَخَفِ المَأمورُ اقْتُصَّ مِنْهُ فقطْ، وعلى شَريك الصَّبيِّ الْقِصَاصُ إن تمَالآ على قَتْلِهِ، لا شَرِيكِ مُخْطِئٍ ومَجْنُونٍ. وَهَلْ يُقْتَصُّ مْنِ شَرِيكِ سَبُعٍ وجَارِحٍ نَفْسَهُ وحَرْبيٍّ ومَرَضٍ بَعْدَ الجُرْحِ، أوْ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ؟ قَوْلان. وإن تصادما أو تَجَاذَبَا مُطْلقًا قَصْدًا فَمَاتَا أوْ أَحَدُهُما فالْقَوَدُ (3).
(1)
وقوله: ويقتل الجمع بالواحد والمتمالئون، لما أخرجه الترمذي، عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لأكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ".
وقال فيه: حديث غريب. ا. هـ. بنقل القرطبي.
وفي الموطإ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو تمالأ أهل صنعاء على قتل صبي لقتلتهم به، وقال القرطبي: وقد قتل عمر رضي الله عنه سبعةً برجل بصنعاء. وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعًا. قال: وقتل عليّ رضي الله عنه الحرورية بعبد الله بن خبَّاب، فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبد الله بن خبَّاب كما تذبح الشاة، وأخبر عليّ بذلك قال: اللهُ أكبر، نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خبَّاب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال عليّ لأصحابه: دونكم القوم، فما لبثوا أن قتلهم عليّ وأصحابه. خرج الحديثين الدَّارقُطْنِي في سننه، نقله القرطبي.
وخالف ابن حنبل فقال: لا تقتل الجماعة بالواحد، لأن اللَّه تعالى شرط المساواة، ولا مساواة بين الفرد والجماعة، واحتج بقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}
(1)
. الآية. والجواب عن ذلك: أن المراد بالقصاص في هذه الآية قَتْلُ من قتل كائنًا من كان، ردًا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قُتِلَ من لم يَقْتُلْ، وتقتل في مقابلة الواحد مائة؛ افتخارًا واستظهارًا =
(1)
سورة المائدة: 45.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= للجاه والمقدرة، فأمر اللهُ سبحانه وتعالى بالعدل والمساواة؛ وذلك بأن يقتل من قتل. ا. هـ. من القرطبي.
وقال الخرقي من الحنابلة: ويقتل الجماعة بالواحد قال ابن قدامة: وجملة ذلك أن الجماعة إذا قتلوا واحدًا فعلى كل واحد منهم القصاص، إذا كان كل واحد منهم لو انفرد بفعله وجب عليه القصاص، روي ذلك عن عمر، وعليّ، والمغيرة بن شعبة، وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وأبو سلمة، وعطاء، وقتادة، وهو مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، قال: وحكي عن أحمد رواية أخرى: لا يقتلون به وتجب عليهم الدية، وهذا قول ابن الزبير، والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت، وعبد الملك، وربيعة، وداود، وابن المنذر، وحكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس.
قال: وروي عن معاذ بن جبل، وابن الزبير، وابن سيرين، والزهري، أنه يقتل منهم واحد، ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية، لأن كل واحد منهم مكافئ له، فلا تستوفى أبدال ببدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد. قال: ولنا إجماع الصحابة، فذكر قتل عمر للسبعة بصنعاء، وذكر عن علي أنه قتل ثلاثة بواحد، قال: ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف فكان إجماعًا. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: كمكره ومكرَه: هو من أمثلة المتمالئين، لأن المكره - باسم المفعول - هو المباشر للقتل، والمكره - باسم الفاعل - متسبب في القتل، قال المازري: من أكره رجلًا على قتل رجل ظلمًا، قتل المباشر؛ إذ لا خلاف أن الإكراه لا يبيح له قتل مسلم ظلمًا، ويقتل المكرهُ لأن القاتل كان مثل آلته التي قتل بها. ا. هـ.
قال ابن رشد: إن أمر الرجل عبده بقتل رجل ففعل، فإنهما يقتلان جميعًا عند ابن القاسم. ولم يختلف في ذلك، كان العبد فصيحًا أو أعجميًا. قال: دهان أمر الإِمام بعض أعوانه بقتل رجل ظلمًا. ففعل، لا خلاف أنهما يقتلان. قال: إن أمر الرجل ابنه الذي في حجره، وقد بلغ الحلم، أو الصانعُ لمتعلمه وقد بلغ الحلم، أو المؤدب لمن يؤدبه وقد بلغ الحلم، بقتل رجل ظلمًا فيفعل، اختلف في هذا قول ابن القاسم، فقال في سماع عيسى: يقتل القاتل، ويبالغ في عقوبة الآمر، وقال في رواية سحنون: إنهما يقتلان معًا. ا. هـ. =
وَحُمِلَا عَلَيْهِ، عَكْسَ السَّفِينَتَيْنِ، إلَّا لِعَجْزٍ حَقيقيٍّ (1)، لَا لكِخَوْفِ غَرَقٍ أوْ ظُلْمةٍ وإلَّا فدِيَةُ كُلٍّ عَلى عَاقِلَةِ الآخَرَ، وفَرَسُهُ في مَالِ الآخَر، كَثَمَنِ الْعبْدِ، وإنْ تَعَدَّدَ المُبَاشِرُ ففِي المالأةِ يُقْتَلُ الجَمِيعُ، وإلّا قُدِّمَ الأقْوى، وَلَا يَسْقُطُ الْقَتْلُ عِنْدَ المُسَاوَاةِ بِزَوالِهَا بِعِتْقٍ أوْ إسْلامٍ. وضَمِنَ وَقْتَ الإِصَابَةِ والْمَوْتِ (2).
والجَرْحُ كالنَّفْسِ في الْفِعْلِ والْفَاعِلِ والمَفْعُولِ، إلَّا نَاقِصًا جَرَحَ كامِلًا (3). وَإنْ تَمَيَّزَتْ جِنَايَاتٌ بِلَا تَمالُؤٍ، فَمِنْ كُلٍّ كفِعْلِهِ، وَاقْتُصَّ مِنْ مُوضِحَةٍ أَوْضَحَتْ عَظْمَ الرأسِ والجَبْهَةِ والْخدَّيْنِ، وإنْ بكإبْرَةٍ وسَابِقهَا مِنْ دَامِيَةٍ، وحَارِصَةٍ شَقَّتْ الجلْدَ، وَسِمْحَاقٍ كشَطَتْهُ، ويَاضِعَةٍ شَقَّتْ اللَّحْمَ،
= والذي للمتيطي: إذا أمر رجل صبيًا صغيرًا لا يعقل بقتل رجل أو بقتل صبي، قتل الآمر، أبًا كان أو معلمًا، وكانت على عاقلة المأمور الصبي الدية، وإن كان الصبي ممن يعقل وهو دون الحلم أدب ولم يقتل وكان على عاقلته الدية. وهذا ما عناه المصف بقوله: وعلى شريك الصبي القصاص إن تمالآ على قتله قال في المدونة: إن قتل رجل وصبي رجلًا عمدًا، قتل الرجل وعلى عاقلة الصبي نصف الدية، قال ابن يونس: يريد إذا تعمدا جميعًا قتله، وتعاقدا عليه، وتعاونا عليه. ا. هـ.
(3)
وقوله: وإن تصادما أو تجاذبا مطلقًا، قصدًا، فماتا أو أحدهما فالقود، قال مالك: إذا اصطدم فارسان فمات الفرسان والراكبان، فدية كل واحد على عاقلة الآخر وقيمة فرس كل واحد في مال الآخر. قال مالك: ولو أن حرًا وعبدًا اصطدما فماتا جميعًا، فقيمة العبد في مال الحر، ودية الحر في رقبة العبد يتقاصان، فإن كان ثمن العبد أكثر من دية الحر، كان الزائد لسيد العبد في مال الحر، وإن كانت دية الحر أكثر، لم يكن على السيد من ذلك شيء. وقال في رجلين اصطدما وهما يحملان جرتين فانكسرتا: غرم كل واحد ما كان على صاحبه، وإن انكسرت إحداهما غرم ذلك له صاحبه.
وقال مالك في السفينتين تصطدمان فتغرق إحداهما بما فيها، فلا شيء في ذلك على أحد لأن الريح تغلبهم، إلَّا أن يعلم أن النواتية لو أرادوا صرفها قدروا فيضمنوا، وإلا فلا شيء عليهم.
ومُتَلَاحِمَةٍ غَاصَتْ فِيهِ بِتَعَدُّدٍ وَمِلْطَأةٍ قَرُبَتْ لِلْعَظْمِ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ وَجراحِ الجَسَدِ وَإنْ مُنَقِّلَةً بِالْمسَاحَةِ إنْ اتَّحَدَ المحَلُّ كَطَبِيبٍ زَادَ عَمْدًا وإلَّا فَالْعَقْلُ كَيَدٍ شَلَّاءَ عَدِمَت النَّفَعَ، بِصَحِيحَة وبالْعَكْسِ، وعَيْنِ أعْمَى ولِسَانِ أبْكَمَ، ومَا بَعْدَ المُوضِحَةِ من مُنَقِّلَةٍ طارَ فِرَاشُ الْعَظْمِ من الدَّواءِ وآمَّةٍ أَفْضَتْ لِلدِّمَاغِ،
(1)
وقوله: وحملا عليه عكس السفينتين إلا لعجز. حقيقي، يريد به، والله أعلم، وإن جهل حال الفارسين المتصادمين، من جهة قصد التصادم من عدمه، حملًا على القصد حتى يثبت عدم ذلك، بخلاف السفينيتن المتصادمتين إذا جهل قصدهما فإنهما على عدم قصد الاصطدام، فلا يضمنون مالًا ولا دية لعذرهم بغلبة البحر والريح.
قل: محل هذا الحكم في السفن الشراعية، أما السفن البخارية فأظن أن الربان مقتدر على تجنبها أي اصطدام ما دامت حالة البحر عادية، وعلى كل حال فالحكم في ذلك أن يسأل عنه أهل الخبرة بالملاحة البحرية.
أما السفن البرية فإن السائق أقدر بكثير على كبح السيارة، وأشد تمكنًا منها من الفارس بفرسه، إلا إذا حدث خلل مفاجئ في جهازه القيادي، وما أكثر وقوع ذلك، وأما إذا وجد أهل الخبرة بهندسة السيارات أن جهازه القيادي سلم، كان محمولًا على تعمد ذلك الحادث عند جهل حاله، لشدة تمكنه من كبح سيارته دون أي شيء، إلا إذا كان المعني غير ماهر بالقيادة، فهو، والحالة هذه، أعظم جريمة لتلاعبه بحياته وحياة الآخرين. والله حسبنا ونعم الوكيل.
(2)
وقوله: وضمن وقت الإصابة والموت، تقريره، والله أعلم، وضمن الجاني على نفس خطأً، أو على طرف خطأً، أو عمدًا لا قصاص فيه كجائفة، الدية للحر، والقيمة للرق باعتبار حال المجني عليه وقت الإصابة بالسهم مثلًا، في الجرح، ووقت الموت في النفس، فإذا زال التكافؤ بين الجاني والمجني عليه بين حصول السبب ووصول المسبب، فقال ابن القاسم: المعتبر في الضمان أي في ضمان دية الحر وقيمة الرق، حال الإِصابة وحال الموت، أي حصول المسبب، وهذا بالنسبة لضمان الدية والقيمة، وأما بالنسبة للقصاص، فيشترط دوام التكافؤ من حصول السبب إلى حصول المسيب اتفاقًا.
(3)
وقوله: والجرح كالنفس في الفعل والفاعل والمفعول إلا ناقصًا جَرَحَ كاملًا: قال ابن شاس: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= النظر في القصاص في نوعين في النفس والطرف، فتكلم على النفس، يعني فيما مضى، ثم شرع يتكلم على النوع الثاني وهو القصاص في الطرف، فقال إنه يشترط في القطع والقاطع والمقطوع ما يشترط في القتل والقاتل والمقتول، ففي الجرح يشترط إن يكون عمدًا عدوانًا، ويشترط في الجارح أن يكون مكافئًا للمجروح، مكلفًا بلا زيادة حرية أو إسلام، ويشترط في المجروح أن يكون معصومًا من الرمي للإِصابة، ثم استثنى فقال: إلا شخصًا ناقصًا برق أو كفر، جرح كاملًا بحرية وإسلام فلا يقتص له منه، هذا هو المشهور عن الإِمام مالك. وبه قال الفقهاء السبعة، وعليه عمل أهل المدينة. وروى ابن القصار عن الإِمام مالك عليه رحمة الله وجوب القصاص في ذلك. ا. هـ. الإِكليل.
وأدلة جريان القصاص فيما دون النفس من الجروح إذا أمكن هي قوله تعالى في المائدة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
(1)
، الآية. وفي الحديث المتفق عليه عن أنس رضي الله عنه أن الرُّبيِّع بنت النضر بن أنس كسرت ثنية جارية، فعرضوا عليهم الأرش فأبوا إلا القصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله، تكسر سنية الرُّبيِّع؟! والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيَّتُها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَهِ الْقِصَاصُ" قال: فعفا القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأبَرَّهُ".
هذا، وأجمع المسلمون لهذه الأدلة على جريان القصاص فيما دون النفس إذا أمكن القصاص فيها، لأن الجراح على ضربين: ضرب تتأتى فيه المماثلة: وهو الذي يجري فيه القصاص، كالدامية من الشجاج وما بعدها إلى الموضحة، وكقطع الأطراف وكقلع العين وغير ذلك من الأعضاء.
قال البغوي: وجملة ذلك أن كل طرف له مفصل معلوم، قطعه جان من مفصله من إنسان يقتص له منه كالأصبع يقطعها، أو اليد يقطعها من الكوع، أو من المرفق، أو الرجل يقطعها من المفصل، يقتص منه. وكذلك لو قلع سنه، أو قطع لسانه، أو قطع أنفه، أو أذنه، أو فقأ عينه، أو جبّ ذكره، أو قطع أنثييه، يقتص منه، وكذلك لو شجه موضحة في رأسه أو جبهته، يقتص منه، ولو جرح رأسه دون الموضحة أو جرح موضعًا آخر من بدنه، أو هشم العظم، فلا قود عليه، لأنه لا يمكن مراعاة المماثلة في ذلك. قال: وكذلك لو قطع يده من نصف الساعد، فليس له أن يقطع يده من ذلك الموضع وله أن يقتص من الكوع، ويأخذ حكومة من نصف الساعد. =
(1)
سورة المائدة: 45.
ودَامِغَةٍ خَرقَتْ خَريطتَهُ، وَلَطْمَةٍ وشُفْر عَيْنٍ وحَاجِبٍ ولحْيَةٍ، وعَمْدُهُ كالْخَطَإ إلَّا في الأدَبِ وإلَّا أنْ يعْظُمَ الخَطَرُ في غَيْرِهَا كَعَظْمِ الصَّدْر، وَفيهَا أخَافُ في رَضِّ الأنثَيَيْنِ أنْ يَتْلَفَ، وإنْ ذَهَبَ كبَصَرٍ بِجُرحٍ اقْتُصَّ مِنْهُ، فإنْ حَصَلَ أوْ زَادَ، وإلَّا فَدِيَةٌ مَا لَمْ يَذْهَبْ، وَإنْ ذَهَبَ والعَيْنُ قَائِمَةٌ فإن اسْتُطِيعَ كَذلِكَ، وإلَّا فَالعَقْلُ، كأنْ شلَّتْ يَدُهُ بِضَرْبَةٍ، وإنْ قُطِعَتْ يَدُ قَاطعٍ بِسَمَاوِي أوْ سَرقَةٍ
= قال: ولا قود في اللطمة، والخمشة، إنما فيهما التعزير تأديبًا، والحكومة إن بقي لها أثر، قال: وممن ذهب إلى هذا الحسن وقتادة، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي.
وذهب جماعة إلى أنه يقاد من اللطمة والضربة بالسوط، روي ذلك عن الخلفاء الراشدين الأربعة، وإليه ذهب شريح، والشعبي، وابن شُبْرُمة، وروي عن أبي بكر أنه أقاد من لطمة، ومثله عن عليّ وابن الزبير، وسويد بن مقرن، وأقاد عمر من ضربة بالدرة، وأقاد علي من ثلاثة أسواط.
واحتج من لم يوجب بذلك القود أنهم إنما فعلوا ذلك على وجه التعزير.
قلت: هذا يأباه ما ورد به النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أسيد بن حضير بينما هو يحدث القوم يضحكهم، وكان فيه مزاح، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود، فقال: أصبرني، فقال:"اصْطَبِرْ" فَقال: إن عليك قميصًا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبل كشحه، وقال: إنما أردت هذا يا رسول الله. قال: وقوله: أصبرني أي أقدني. وقوله "اصْطَبِرْ" أي استقد. فهذا نص في الموضوع لا ينبغي العدول عنه.
وأيضًا فقد روى أبو سعيد الخدري. قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسمًا أقبل رجل فأكب عليه، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه، فجرح بوجهه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تَعَالَ فَاسْتَقِدْ". فقال: بل عفوت يا رسول الله، رواه النسائي في القسمة، باب: القود في الطعنة، وهو وإن كان في سنده مجهول، فقد يتعضد بحديث أسيد بن حضير عند أبي داود، وبما أخرجه النسائي عن عمر بن الخطاب: إني والله ما أرسلت عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل فليرفعه إليَّ أقصه منه، فقال عمرو بن العاص: لو أنَّ رجلًا أدَّب بعض رعيته أتقصه منه؟ قال: أي والذي نفسي بيده لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه. ا. هـ. منه.
أوْ قِصَاصٍ لِغَيْرِهِ، فلَا شَيْءَ لِلْمَجْنيِّ عَلَيْهِ (1). وإنْ قَطَعَ أقْطَعُ الكفِّ مِنَ المِرْفقِ، فَلْلِمَجْنِيِّ عَلَيْهِ القِصَاصُ أوِ الدِّية (2) كمقْطوِع الحَشَفَةِ.
وتُقْطَعُ الْيَدُ الناقِصَةُ إصْبَعًا بالْكَامِلَةِ بِلَا غُرْمٍ وَخُيِّرَ إن نَقَصَتْ أكْثَرَ فيه وَفي الدِّيةِ، وإنْ نَقَصتْ يَدُ المجْنيِّ عَلَيْهِ فَالْقَوَدُ وَلَوْ إبْهَامًا، لا أكْثَرَ، وَلَا يَجوُزُ بكوعٍ لِذي مِرْفَقٍ وَإنْ رَضِيَا، وَتَؤخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالضَّعِيفَةِ خِلْقَةً أو مِنْ كِبَرٍ أَوْ لجُدريٍّ أوْ لِكَرَمْيَةٍ، فَالْقَوَدُ إنْ تَعَمَّدَ وإلَّا فَبِحِسَابِهِ، وإنْ فَقأ سَالِمٌ عَيْنَ أعْوَرَ فَلَهُ الْقَوَدُ وأخْذُ الدِّيَةِ كامِلَةً مِنْ مَالِه، وإنْ فَقَأ أعْوَرُ مِنْ سَالِمٍ مُمَاثِلَتَهُ فَلَهُ
(1)
وقوله: ولو قطعت يد قاطع بسماوي أو سرقة أو قصاص أو غيره، فلا شيء للمجني عليه، قال في المدونة: إن ذهت يمين من قطع يمين رجل بأمر من الله تعالى، أو بقطع سرقة أو قصاص، فلا شيء للمقطوع من يمينه، ولو فقأ عين جماعة اليمنى وقتا بعد وقت ثم قاموا فلتفقأ عينه لجميعهم، وكذا اليد والرجل. ومن قتل رجلًا عمدًا ثم رجلًا آخر، قتل ولا شيء عليه لهم. انتهى من المواق.
(2)
وقوله: وإن قطع أقطع الكف من المرفق، فللمجني عليه القصاص أو الدية، قال في المدونة: إن قطع أقطع الكف اليمنى، يمين رجل صحيح، من المرفق، فللمجني عليه العقل، أو قطع الذراع الناقصة من المرفق. انتهى من المواق.
قال البغوي: أما إذا اختلفت الأطراف في السلامة، فإن كانت يد المقطوع شلاء ويد القاطع صحيحة، فلا قصاص بالاتفاق. وإن كانت يد القاطع شلاء ويد المقطوع سليمة، فالمقطوع يده له الخيار بالاتفاق، إن شاء اقتص من يده الشلاء، ولا شيء له، وإن شاء ترك القصاص وأخذ دية يده. قال: وإن كانت يد المقطوع ناقصة بإصبع، ويد القاطع كاملة الأصابع، فلا يقتص من يده ولكن للمجني عليه أن يلتقط أربعة من أصابعه، وإن كانت يد القاطع ناقصة بإصبع ويد المقطوع كاملة، فله أن يقطع يد القاطع، ويأخذ دية إصبع عند الشافعي. وأما عند أصحابنا، فقد نقل المواق عن ابن رشد: إن لم ينقطع من أصابع الجاني إلا إصبع واحد فليس للمجني عليه إلا القود. ولا يغرم عقل إصبعه الناقصة، لم يختلف في ذلك قول ابن القاسم. ا. هـ. منه.
الْقِصَاصُ أوْ دِيَةُ ما تَرَكَ، وغَيْرَهَا فنِصْفُ دِيَةٍ فَقَطْ في مَالِهِ وإنْ فقَأ عَيْنيْ السَّالِمِ فَالْقَوَدُ ونصْفُ الدِّيةِ، وإنْ قُلِعَتْ سِنٌّ فَثبَتَتْ فَالْقَوَدُ وَفي الْخَطَإِ كَالْخَطَإِ، والاسْتِيفَاءُ لِلْعَاصِب (1) كَالْوَلَاءِ إلَّا الجَدَّ والإِخْوَةَ فسِيَّانِ، ويَحْلِفُ الثُّلُثَ، وهَلْ إلَّا في الْعَمْدِ فَكَأخٍ؟ تَأويلان.
وانْتُظِرَ غَائبٌ لَمْ تَبْعُدْ غيْبَتُهُ (2) ومُغْمىً ومُبَرْسَمٌ، لا مُطْبِقٌ وصَغيرٌ لَمْ يَتَوَقَّفْ الثُّبُوتُ عَلَيْهِ (3)، وللنِّسَاءِ إنْ وَرِثْنَ، ولم يُسَاوِهِنَّ عَاصِبٌ، ولِكُلٍّ الْقَتْلُ وَلَا عَفْوَ إلَّا باجْتِمَاعِهِمْ (4)، كأن حُزْنَ المِيرَاثَ. وثَبَتَ بِقَسامَةٍ، والْوَارِثُ كمُوَرِّثِهِ وللصَّغِيرِ إنْ عُفِيَ نصِيبُهُ مِنَ الدِّيَةِ، ولوَلِيِّهِ النَّظَرُ في الْقَتْلِ أو الدِّيَةِ كامِلَةً،
(1)
وقوله: والاستيفاء للعاصب: قال ابن شاس: الفن الثاني في حكم القصاص الواجب وفيه بابان: الأول في الاستيفاء، وفيه ثلاثة فصول فيمن له ولاية الاستيفاء، وفي تأخير القصاص، وفي كيفية المماثلة، والباب الثاني في العفو، قال الحاجب: ولاية الاستيفاء لأقرب الورثة العصبة الذكور. ا. هـ. المواق.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}
(1)
، قال: أي لمستحق دمه، قال ابن خويزمنداد: الوليّ يجب أن يكون ذكرًا، لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير. وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله تعالى:{فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} ما يدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الوليّ، فلا جرم، ليس للنساء حق في القصاص لذلك، ولا أثر لعفوها، وليس لها الاستيفاء. ا. هـ.
وقال مالك في الموطإ: وإذا قتل الرجل عمدًا وقامت على ذلك البينة، وللمقتول بنون وبنات فعفا النون وأبى البنات أن يعفون، فعفو البنين جائز على البنات، ولا أمر للبنات مع البنين في القيام بالدم والعفو عنه. ا. هـ.
(2)
وقوله: وانتظر غائب لم تبعد غيبته، يريد به، والله أعلم، أنه إذا كان للمقتول وليان أحدهما غائب والآخر حاضر، فليس للحاضر أن يستبد بالقتل قبل أن يعلم رأي الغائب، إلا أن يكون الغائب =
(1)
سورة الإسراء: 33.
كَقَطْعِ يَدِهِ إلَّا لِعُسْرٍ فَيَجُوزُ بأَقَلَّ بِخِلَافِ قَتْلِهِ فَلِعَاصِبِهِ، والأحَبُّ أخْذُ الْمَالِ في عَبْدِهِ. ويَقْتَصُّ مَنْ يَعْرِفُ يأجُرُهُ المُسْتَحِقُّ ولِلْحَاكِمَ رَدُّ الْقَتْلِ فَقَطْ لِلوَليِّ، ونَهى عَنْ الْعَبَثِ، وَأُخِّرَ لِبرْدٍ أوْ حَرٍّ كَلِبُرْءٍ كَدِيَتِه خَطَأً ولَوْ كَجَائِفَةٍ، والْحَامِلُ وَإنْ بِجُرْحٍ مُخِيفٍ لَا بِدَعْوَاهَا وحُبِسَتْ كالحَدِّ، والمرضِعُ لوُجُودِ مُرْضِعٍ، والمُوَالَاةُ في الأطرافِ كحَدَّيْنِ للَّهِ لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِمَا وبُدئ بِأُشَدَّ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ، لا بِدُخُولِ الحرم. وسَقَطَ إنْ عَفَا رَجُلٌ كالْبَاقِي والبِنْتُ أوْلى مِنَ الأُخْتِ
= بعيد الغيبة فإنه لا ينتظر. وظاهر المدونة أن الغائب ينتظر ولو بعدت غيبته. ا. هـ. من الحطاب.
وقال المواق: من المدونة: إذا غاب أحد الوليين، والقتل بغير قسامة، فإنما للحاضر العفو، ويكون للغائب حظه من الدية، ولا قتل للحاضر حتى يحضر الغائب، ويسجن القاتل حتى يحضر الغائب ويكتب له، ولا يكفل القاتل إذ لا كفالة في الحدود والقصاص. قال ابن يونس: إلا الغيبة البعيدة جدًّا فلمن حضر القتل. اهـ. منه. والله تعالى أعلم.
(3)
وقوله: لا مطبق وصغير لم يتوقف الثبوت عليه، قال ابن عرفة: وفيها إن كان أحد الوليين مجنونًا مطبقًا، فللآخر أن يقتل، وهذا يدل على أن الصغير لا ينتظر، وإن كان في الأولياء مغمى عليه أو مبرسم انتظر إفاقته لأن هذا مرض. ا. هـ. بنقل الحطاب.
وقال المواق هنا: من المدونة: إن كان أولاد المقتول صغارًا وكبارًا، فإن كان الكبار اثنين فصاعدًا، فلهم أن يقسموا ويقتلوا، ولا ينتظر بلوغ الصغار، وإن عفا بعضهم فللباقين منهم وللأصاغر حظهم من الدية، فإن لم يكن إلا ولد كبير وصغير، فإن وجد الكبير رجلًا من أولياء الدم يحلف معه، وإن لم يكن ممن له العفو، حلفا خمسين يمينًا ثم للكبير أن يقتل، فإن لم يجد من يحلف معه حلف خمسًا وعشرين يمينًا واستؤني بالصغير، فإذا بلغ حلف خمسًا وعشرين يمينًا أيضًا ثم استحق الدم. وإن كان القتل بغير قسامة، وللمقتول وليان أحدهما مجنون مطبق، فللآخر ان يقتل، وهذا يدل على أن الصغير لا ينتظر. اهـ. منه.
(4)
وقوله: وللنساء إن ورثن ولا يساويهن عاصب ولكلٍّ القتل ولا عفو إلا باجتماعهم، قال مالك: إن للنساء حقًا في الدم، قال ابن رشد: أما من يرثه منهن، كالأخوات والأمهات فلهن، حق فيه، وأما من =
في عَفْوٍ وَضِدِّهِ. كانْ عَفَتْ بِنْتٌ مِنْ بَنَاتٍ نَظَرَ الْحَاكِمُ. وَفي رِجَالٍ ونِسَىاءٍ لَمْ يَسْقُطْ إلَّا بِهِمَا أوْ ببعْضِهِمَا، ومَهْمَا أسْقَطَ الْبَعْضُ فَلِمَنْ بَقِيَ نصيبُهُ مِنَ الدِّيَةِ كإرْثِهِ ولَوْ قسْطًا مِن نفْسِهِ وَارِثُه كَالْمَال. وجَازَ صُلْحُهُ في عَمْدٍ بأقَلَّ أو أكْثَرَ وَالْخَطَإِ كَبَيْعِ الدَّيْنِ. ولا يَمْضي عَلى عَاقِلَتِهِ كَعَكْسِهِ فإنْ عَفَا فوصيةٌ وتَدْخُلُ الْوصَايَا فِيهِ وإنْ بَعْدَ سَبَبِهَا أَوْ بِثُلُثِهِ أوْ بِشَيْءٍ إذا عَاشَ بَعْدَهَا مَا يُمْكِنُهُ التَّغْييرُ فَلَمْ يُغَيِّرْ، بِخِلَافِ الْعَمْدِ إلَّا أنْ يُنْفِذَ مَقْتَلَهُ ويقْبَلَ وَارِثُهُ الدِّيةَ وعَلِمَ وَإنْ عَفَا عَنْ جُرْحِهِ أوْ صَالَحَ فَمَاتَ فَلأِوْليَائهِ القَسَامَةُ والقَتْلُ،
= لا يرثه منهن كالعمات وبنات الإِخوة فلا حق لهن فيه، فأما الجدات والزوجات فلا مدخل لهن في الدم بحال، وكذلك الزوج.
قال ابن رشد: أما من يرث كالبنات ولم يساوهن عاصب فلهن حق ولكل القتل، ولا عفو إلا باجتماعهن، ومراده والله أعلم، أنه إن كان الورثة بنات وإخوة مثلًا فلا عفو إلا باجتماعهم في العفو، أي اجتماع بعض الصنفين بأن يعفو بعض هؤلاء وبعض هؤلاء، وأحرى إن عفا الجميع، قال في المدونة: إن عفا بعض البنات وبعض الإِخوة أو بعض الأخوات وبعض العصبة فلا سبيل إلى القتل ويقضى لمن بقي بالدية. وأما الأم مع الأخوات أو مع البنات، فقد قال اللخمي، اتفق ابن القاسم وأشهب على تقديم الأم على الأخوات واختلفا فيها مع البنات. وروى ابن القاسم: لا تسقط الأم إلا مع الأب والولد الذكر فقط. وعليه فلا يصح عفو إلا باجتماعها مع البنات. ا. هـ.
هذا، وقد أخرج المجد في المنتقى باب في أن الدم حق لجميع الورثة: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا، ولا يرثوا منها إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلها. رواه الخمسة إلا الترمذي.
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَعَلَى الْمقْتَتَلِينَ أنْ يَنْحَجزُوا الْأوَّل فَالْأوَّل وَإِنْ كَانَتْ امَرَأَةٌ". رواه أبو داود والنسائي. وأراد بالمقتتلين أولياء المقتول الطالبين للقود، وينحجزوا أي ينكفوا عن القود بعض أحدهم ولو كان امرأة، وقوله:"الأول فالأول" أي الأقرب فالأقرب.
قال الشوكاني: وقد استدل المُصَنِّف بالحديثين المذكورين على أن المستحق للدم جميع ورثة =
وَرجَعَ الْجَانِي فِيما أُخِذَ مِنْه ولِلْقَاتِلِ الاسْتِحْلَافُ على الْعَفْوِ، فَإنْ نَكَلَ حَلَفَ وَاحِدَةً وبرِئ، وتُلُوِّمَ لَهُ في بَيِّنَتِهِ الغَائبَةِ. وقُتِلَ بِمَا قَتَلَ وَلَوْ نَارًا (1) إلَّا بخَمْرٍ وَلِوَاطٍ وسِحْرٍ ومَا يَطُولُ. وهل والسُّمُّ ويُجْتَهَدُ في قَدْرِهِ؟ تأويلَانِ، فيُغَرَّقُ ويُخْنَق ويُحَجَّرُ وضُرِبَ بِالعَصَا لِلْمَوْتِ كَذِي عَصَوَيْنِ، ومُكِّنَ مُسْتَحِقٌّ مِنَ السَّيْفِ مُطْلَقًا (2)، وانْدَرَجَ طَرَفٌ إنْ تَعَمَّدَهُ وإنْ لَغَيْرِهِ لَمْ يَقْصِدْ مُثْلَةً كَالأصَابِعِ في الْيَدِ، ودِيَةُ الْخَطَإِ عَلى الْبَادِي مُخَمَّسَةٌ (3) بِنْت مَخَاضٍ وَوَلَدَا لَبُونٍ وحِقَّةٌ وجَذَعَةٌ، ورُبِّعَتْ في عَمْدٍ بِحَذْفِ ابْنِ اللَّبُونِ، وثُلِّثَتْ في الأبِ وَلوْ كَانَ مَجُوسِيًّا في عَمْدٍ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ كجَرْحِهِ بثلاثينَ حِقَّةً وثلاثين جَذَعَةً وأرْبَعينَ خِلْفَةً بِلَا حَدِّ سِنٍّ، وعلى الشَّامِيِّ والمِصْرِيِّ والمَغْرِبِيِّ ألْفُ دِينَارٍ، وعلى الْعِرَاقيِّ اثْنَا عَشَر ألْفَ دِرْهَمٍ إلَّا في المُثَلَّثَةِ فيُزَادُ بنسبة مَا بَيْنَ الدِّيتَيْنِ، والكتابيُّ والمُعَاهَدُ نصْفُ دِيَتِه (4) والمجُوسِيُّ والمُرْتَدُّ ثُلُثُ خُمُسٍ (5)، وأنْثَى كُلٍّ كنِصْفِهِ. وفي الرَّقيقِ قيمَتُهُ وإنْ زادَتْ، وفي الجَنِين وَإنْ عَلَقَةً عُشُرُ أمِّهِ وَلَوْ أمَةً نَقْدًا أوْ غُرَّةٌ عَبْدٌ أوْ وليدَةٌ تُسَاوِيهِ (6)، والأمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا والنَّصْرَانيةُ مِنَ الْعَبْدِ المُسْلِمِ كَالْحُرَّةِ إنْ زَايَلَهَا كُلُّهُ حَيَّةً إلَّا أنْ يَحْيَا فالدِّيَةُ إنْ أقْسَمُوا (7) ولَوْ مَاتَ عَاجِلًا وإن تعَمَّدَهُ بِضَرْبِ بَطْنٍ أوْ ظَهْرٍ أوْ رَأسٍ فَفِي القِصاصِ خِلَاف (8).
= القتيل من غير فرق بين الذكر والأنثى والسبب والنسب فيكون القصاص إليهم جميعًا. وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه.
وذهب الزهري ومالك إلى أن ذلك يختص بالعصبة، قالا: لأنه مشروع لرفع العار كولاية النكاح، فإن وقع عفو من العصبة فالدية عندهما كالتركة. ا. هـ. والله أعلم.
(1)
وقوله: وقتل بما قتل به ولو نارًا، قال ابن شاس، الفصل الثالث من الفن الثاني من حكم القصاص في كيفية المماثلة، وهي فرعية في قصاص النفس، قال أبو بكر: من قتل بشيء قتل به إلا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= في وجهين وفي وصفين، الوجه الأول المعصية؛ كالخمر واللواط، الثاني: النار والسم، وقيل: يقتل بالنار والسم، قال الباجي: المشهور قتله بما قتل به من نار أو غيرها. قال ابن عرفة: ذلك خلاف ما شهره ابن العربي.
قلت: من أدلة قتل القاتل بما قتل به ما أخرجه أبو داود عن أنس أن جارية وجدت قد رُضَّ رأسها بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سمى اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرضَّ رأسه بالحجارة. ا. هـ.
وقد احتج الخطابي لجواز القتل بالنار لمن قتل بها، احتج بقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنهما:"اغْدُ عَلَى أبْنَا صَبَاحًا وَحَرِّقْ". قال: وأجاز عامة الفقهاء أن يرمى الكفار بالنار إذا خافوهم ولم يطيقوا دفعهم عن أنفسهم إلا بها، فعلم أن من قتل رجلًا بالإحراق بالنار، فإن للولي أن يقتل القاتل بالنار كذلك. فإذا تعذرت جهة الجناية فلم تعرف كيفيتها، صرنا إلى استيفاء الحق بالسيف؛ إذ هو دائرة القتل. اهـ. منه بتصرف.
(2)
وقوله: ومكن مستحق من السيف مطلقًا، معنى الإطلاق هنا سواء قتل بالسيف أو لا، قالوا: لأن القتل به أخف من غيره غالبًا، ولأنه الأصل في القصاص. وقال المواق: أن ما تقدم من قتْل من قَتَلَ بما قتل به إنما هو فيمن ثبت قتله بذلك، وأما من يقتل بالقسامة فلا يقتل إلا بالسيف.
قلت: وتمكين المستحق من السيف من السلطان الذي جعل الله له في قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}
(1)
.
(3)
وقوله: ودية الخطإ على البادي مخمسة ألخ. هذا شروع منه رحمه الله في الكلام على الدية - وهي بتخفيف الياء المثناة التحتية - قال ابن عرفة: الدية مال يجب بقتل آدمي حر عن دمه أو بجرحه، مقدرًا شرعًا لا باجتهاد، فيخرج بهذا الحد ما يجب بقتل غير الآدمي من قيم المتلفات، وبقيد الحرية يخرج ما يجب لقتل الرقيق من قيمة، وبقيد التقدير شرعًا لا باجتهاد تخرج الحكومة لأنها باجتهاد الحاكم.
وفي الموطإ أن ابن شهاب، وسليمان بن يسار، وربيعة بن أبي عبد الرحمن كانوا يقولون: دية =
(1)
سورة الإسراء: 33.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الخطإ عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكرًا، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. ا. هـ. منه.
والأصل في وجوب الدية قوله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}
(1)
. قال القرطبي: قال ابن المنذر. فحكم الله في المؤمن يقتل خطأ بالدية، فثبتت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وأجمع أهل العلم على القول به. قال القرطبي: لم يعين الله في كتابه العزيز ما يعطى في الدية، وإنما في الآية إيجاب الدية مطلقًا وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السنة، قال: وثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدية مائة من الإبل، وقد أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية عبد الله بن سهل الأنصاري الذي وجد قتيلًا بخيبر، أعطاها لحُويِّصة ومُحَيِّصة وعبد الرحمن، فكان ذلك بيانًا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمجمل كتابه، وأجمع أهل العلم على أن على أهل الإِبل مائة من الإِبل. واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإِبل، فقالت طائفة: على أهل الذهب ألف دينار، وهم أهل الشام، ومصر، والمغرب؛ هذا قول مالك، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، والشافعي في أحد قوليه في القديم. وروي هذا عن عمر، وعروة بن الزبير، وقتادة. وأما أهل الوَرِق - بكسر الراء - فاثنا عشر ألف درهم، وهم أهل العراق، وفارس، وخراسان، هذا مذهب مالك على ما بلغه عن عمر أنه قوم الدية على أهل القرى فجعلتها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وقال المزني: قال الشافعيُّ: الدية الإبل، فإن أعوزت فقيمتها بالدراهم والدنانير على ما قوّمها عمر؛ ألف دينار على أهل الذهب واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق. قال: وقال ابن المنذر: دية الحر مائة من الإِبل في كل زمان، كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلفت الروايات عن عمر رضي الله عنه في أعداد الدراهم، وما منها شيء يصح عنه لأنها مراسيل، وقد عرفتك مذهب الشافعي، قال ابن المنذر: وبه نقول.
قال القرطبي: واختلف العُلماء في أسنان دية الإِبل، فروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإِبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشر بني لبون. قال الخطابي. هذا الحديث لا أعرف أحدًا قال =
(1)
سورة النساء: 92.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= به من الفقهاء، وإنما قال أكثر العُلماء: دية الخطإ أخماس، كذا قال أصحاب الرأي، والثوري، وكذلك مالك وابن سيرين، وأحمد بن حنبل، إلا أنهم اختلفوا في الأوصاف؛ فقال أصحاب الرأي وأحمد: خمس بنو مخاض، وخمس بنات مخاض، وخمس بنات لبون، وخمس حقاق، وخمس جذاع. وروي هذا القول عن ابن مسعود. وقال مالك والشافعي: خمس حقاق، وخمس جذاع، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنو لبون. وحكي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري، وربيعة، والليث بن سعد. قال الخطابي: ولأصحاب الرأي فيه أثر إلا أن راويه عبد الله بن خِشْفِ بن مالك وهو مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث، وعدل الشافعي عن القول به لما ذكرنا من العلة في راويه، ولأن فيه بني مخاض، ولا مدخل لبني مخاض في شيء من أسنان الصدقات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ودى قتيل خيبر مائة من إبل الصدقة، وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض. قال أبو عمر: وقد روى زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطإ أخماسًا، إلا أن هذا لم يرفعه إلا خشف بن مالك الكوفي الطائي وهو مجهول، لأنه لم يرو عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الطائي من بني جشم بن معاوية، أحد ثقات الكوفيين. ثم أطنب فيما حاصله طرح حديث خشف بن مالك.
قال: وروى حماد بن سلمة: حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة، أن ابن مسعود قال: دية الخطإ خمسة أخماس: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكور، قال الدَّارقُطْنِي: هذا إسناد حسن، ورواته ثقات. وقد روي عن علقمة عن عبد الله نحو هذا. قال القرطبي: وهذا مذهب مالك والشافعي؛ أن الدية تكون مخمسة. وقال: قد ذكرنا عن ابن مسعود ما يوافق ما صار إليه مالك والشافعي. قال أبو عمر: وأسنان الإبل في الديات لم تؤخذ قياسًا ولا نظرًا، وإنما أخذت اتباعًا وتسليمًا، وما أخذ من جهة الأثر فلا مدخل فيه للنظر، فكل يقول بما صح عنده عن سلفه رضي الله عنهم أجمعين.
وقال أبو عبد الله القرطبي: ثبتت الأخبار عن النبيِّ المختار محمد صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطإ على العاقلة، وأجمع أهل العلم على القول به، قال: وفي إجماعهم على أن الدية في الخطإ على العاقلة، دليل على أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي رمْثة حيث دخل عليه ومعه ابنه: "إنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عَلَيْهِ"؛ العمد دون الخطإ. وأجمعوا على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة، واختلفوا في الثلث، والذي عليه الجمهور أن العاقلة لا تحمل عمدًا ولا اعترافًا ولا صلحًا، ولا تحمل من دية الخطإ إلا ما جاوز الثلث، وما دون الثلث في مال الجاني.
وقالت طائفة: عقل الخطإ على عاقلة الجاني، قلت الجناية أو كثرت؛ لأن من غرم الأكثر غرم الأقل. وهذا قول الشافعي.
قال: وحكمها أن تكون مُؤجلة. منجمة على العاقلة، والعاقلة العصبة، ليس ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها، من العاقلة، ولا الإِخوة من الأم بعصبة لإِخوتهم منها إن لم يكونوا إخوة لهم من الأب أيضًا أو من بني عمومتهم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة لأغراض؛ منها أنه كان يعطيها صلحًا وتسديدًا، ومنها أنه كان يجعلها تأليفًا، فلما تمهد الإِسلام قدرها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النظام.
قال أبو عمر: أجمع العُلماء قديمًا وحديثًا أن الدية على العاقلة لا تكون إلا في ثلاث سنين ولا تكون في أقل منها. وأجمعوا على أنها على البالغين من الرجال. وأجمع أهل السير والعلم أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإِسلام، وكانوا يتعاقلون بالنصرة، ثم جاء الإِسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل عمر الديوان. واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به.
وأجمعوا على أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان وجمع بين الناس، وجعل أهل كل ناحية يدًا، وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو.
وقال ابن قدامة: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن دية الخطإ على العاقلة. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كله من نحفظ عنه من أهل العلم. وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطإ على العاقلة، وأجمع أهل العلم على القول به. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم دية عمد الخطإ على العاقلة بما قد رويناه من الأحاديث، وفيه تنبيه على أن العاقلة تحمل دية الخطإ، والمعنى في ذلك أن جنايات الخطإ تكثر، ودية الآدمي كثيرة فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإِعانة له، تخفيفًا عنه إذا كان معذورًا في فعله، وينفرد هو بالكفارة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين، فإن عمر وعليًا رضي الله عنهما جعلا دية الخطإ على العاقلة في ثلاث سنين، ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفًا، فاتبعهم على ذلك أهل العلم، قال: ولأنه مال يجب على سبيل المواساة فلم يجب حالًا كالزكاة، وكل دية تحملها العاقلة تجب مؤجلة لما ذكرنا، وما لا تحمله العاقلة يجب حالًا لأنه بدل متلف. قال: ولا يلزم القاتل شيء من الدية، وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: هو كواحد من العاقلة لأنها وجبت عليهم إعانة له فلا يزيدون عليه فيها.
(4)
وقوله: والكتابي والمعاهد نصف ديته، روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عام الفتح ثم قال: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْإسْلَامَ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا شِدَّةً، الْمُؤْمِنُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصاهُمْ، يَرُدُّ سَرَايَاهُمْ عَلَى قَعِيدَتِهِمْ، لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، دِيَةُ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ، وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ".
(5)
وقوله: والمجوسيُّ والمرتد ثلث خمس، قال البغوي: روي عن عمر أنه قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة. ا. هـ. وهذا سليمان بن يبسار، وبه قال مالك أن دية المجوسي ثمانمائة درهم، وإليه ذهب الشافعي، قال البغوي: ودية عبدة الأوثان إذا دخلوا إلينا بأمان مثل دية المجوسي.
(6)
وقوله: وفي الجنين وإن علقة عُشْرُ أمه ولو أمة نقدًا أو غرةٌ عبدٌ أو وليدة تساويه، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ".
قال أبو عمرو بن العلاء في هذا الحديث: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى، لقال في الجنين عبد أو أمة، ولكنه عنى البياض، فلا يقبل في الدية إلا غلام أبيض أو جارية بيضاء، ولا يقبل فيها أسود ولا سوداء، واختلف العُلماء في قيمتها، فقال مالك: تقوّم بخمسين دينارًا أو بستمائة درهم، نصف عشر دية الحر المسلم، وعشر دية أمه الحرة، وهذا قول ابن شهاب، وربيعة وسائر أهل المدينة.
وقال أصحاب الرأي: قيمتها خمسمائة درهم. وقال الشافعي: سن الغرة سبع سنين أو ثمان سنين، وليس عليه أن يقبلها معيبة. ومقتضى مذهب مالك أنه مخير بين إعطاء غرة أو عشر دية الأم؛ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= من الذهب خمسون دينارًا إن كانوا من أهل الذهب، ومن الورق إن كانوا أهل ورق ستمائة درهم، أو خمس فرائض من الإِبل. قال مالك وأصحابه: هي في مال الجاني. وبه قال الحسن بن حيي. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: هي على العاقلة، قال القرطبي: وهو أصح لحديث المغيرة بن شعبة أن امرأتين كانتا تحت رجلين من الأنصار - في رواية - تغايرتا؛ فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها، فاختصم الرجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحد الرجلين: نَدِي من لا صاحَ ولا أكل؟ ولا شربَ ولا استهل؟ فمثل ذلك يطل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أَسَجْعٌ كَسَجْع الْأعْرَابِ"؟ فقضى فيه غرة وجعلها على عاقلة المرأة. قال: وهو حديث ثابت صحيح، نص في موضع الخلاف، يوجب الحكم. قال القرطبي: واحتج علماؤنا بقول الذي قضى عليه: كيف أغرمُ؟ قالوا: وهو يدل على أن المحكوم عليه معين وهو الجاني، قالوا: وفي القياس أن كل جان جنايته عليه إلا ما قام بخلافه الدليل الذي لا معارض له، مثل إجْماع لا يجوز خلافه، أو نص سنة من جهة نقل الآحاد العدول لا معارض لها فيجب الحكم بها، وقد قال تعالى:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}
(1)
. وقال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
(2)
.
(7)
وقوله: إلا أن يحيا فالدية إن أقسموا، قال القرطبي: ولا خلاف بين العُلماء أن الجنين إذا خرج حيًا فيه الكفارة مع الدية، واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتًا فقال مالك: فيه الغرة والكفارة، وقال الشافعي وأبو حنيفة: فيه الغرة ولا كفارة. قال: واختلفوا فيمن يرث الغرة، فقال مالك والشافعي وأصحابهما: الغرة موروثة عن الجنين على كتاب الله تعالى لأنها دية، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هي للأم وحدها لأنها بسبب جناية جني عليها بقطع عضو من أعضائها وليست بدية.
(8)
وقوله: وإن تعمده بضرب بطن أو ظهر أو رأس ففي القصاص خلاف، هذا الكلام على تعمد ضرب المرأة على بطنها أو على ظهرها حتى تلقي جنينًا حيًا ثم يموت، فقال كافة العُلماء: فيه الدية كاملة في الخطإ، وفي العمد بعد القسامة، وقيل بغير قسامة. واختلفوا فيما به تعلم حياته بعد اتفاقهم على أنه إن استهل صارخًا أو رضع أو تنفس نفسًا محققة، فهو حي فيه الدية كاملة. فقال الشافعي وأبو حنيفة: الحركة تدل على حياته، وقال مالك: لا تدل على ذلك إلا إذا قارنها طول إقامة.
قال: والذكر والأنثى عند كافة العُلماء سواء في الحكم. ا. هـ. وبالله تعالى التوفيق.
(1)
و
(2)
سورة الأنعام: 164.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال ابن قدامة: إن في جنين الحرة المسلمة غرة، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب، وعطاء، والشعبي، والنخعي، والزهري، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه استشار الناس في إمْلَاصِ المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبدٍ أو أمة، فقال: لتأتين بمن يشهد معك. فشهد له محمد بن مسلمة. وقال ابن قدامة: إنما تجب الغرة إذا سقط الجنين من الضربة، ويعلم ذلك بأن يسقط عقيب الضرب، أو ببقائها متألمة إلى أن يسقط. وقال: ولو قتل حاملًا ولم يسقط جنينها، لم يضمن الجنين، وبهذا قال مالك، وقتادة، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر.
وقال: إن الغرة قيمتها نصف عشر الدية، وهي خمس من الإِبل، وروي ذلك عن عمر وزيد رضي الله عنهما، وبه قال النخعي، والشعبي، وربيعة، وقتادة، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، قال: ولأن ذلك ما قدره الشرع في الجنايات وهو أرش الموضحة، ودية السن، فرددناه إليه.
وقال: إن الغرة موروثة عن الجنين كأنه سقط حيًا، لأنها دية له، وبدل عنه، فيرثها ورثته، كما لو قتل بعد الولادة، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي. وقال: وإذا ضرب بطن امرأة فألقت أجنة، ففي كل واحد فيها غرة، وبهذا قال الزهري، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر، وقال: لا أحفظ عن غيرهم خلافه.
وقال: وعلى كل من ضرب بطن امرأة فألقت جنينًا عتق رقبة مؤمنة، سواء كان الجنين حيًا أو ميتًا. هذا قول أكثر أهل العلم، منهم: الحسن، وعطاء، والزهري، والحكم، ومالك، والشافعي، وإسحاق، قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم أوجب على ضارب بطن المرأة تلقي جنينًا، الرقبة مع الغرة، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه.
وقال أبو حنيفة: لا تجب الكفارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الكفارة حين أوجب الغرة. لكنه محجوج بمنطوق قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
(1)
. وهذا الجنين إن كان أبواه مؤمنين أو أحدهما فهو مؤمن محكوم بإيمانه شرعًا. ا. هـ. والله تعالى الموفق.
(1)
سورة النساء: 92.
وتَعَدَّدَ الْوَاجِبُ بِتَعَدُّدِهِ وَوُرِّثَ على الْفَرائضِ، وفي الْجراحِ حُكُومَةٌ بِنِسْبَة نُقْصَانِ الجِنَايَةِ، إذا بَرئ، مِن قِيمَتِهِ عَبْدًا فَرْضًا مِنَ الدِّيَةِ (1) كجَنينِ الْبَهِيمَةِ، إلَّا الْجَائفَةَ والآمَّةَ فَثُلُثٌ (2)، والْمُوضحَةَ فَنِصْفُ عُشرٍ (3)، والمُنَقِّلَةَ والهَاشِمَةَ فَعُشرٌ ونِصْفُهُ وإنْ بِشيْنٍ فيهِنَّ إنْ كُنَّ بِرَأْسٍ أوْ لَحْيٍ أعْلَى (4)، والْقِيمَةُ لِلْعَبْدِ كَالدِّية (5)، وإلَّا فلا تَقْدِير (6). وتَعَدَّدَ الواجِبُ بِجَائفَةٍ نَفَذَتْ كتَعَدُّدِ المُوضِحَةِ (7) والمُنَقِّلَةِ والآمَّةِ إنْ لَمْ تَتَّصِلْ وَإلَّا فَلَا وإنْ بِفَوْرٍ في ضَرَبَاتٍ. والدِّيَةُ في العَقْلِ أو السَّمْع (8) أو البَصرِ أو النّطْقِ أو الصَّوْتِ، أو الذَّوقِ، أو قُوَّةِ الجِمَاعِ، أو نَسْلِهِ، أو تَجْذيمِهِ أو تَبْريصِهِ، أو تَسْويدِهِ، أو قيَامِه وجُلوسِهِ، أو الأذنين، أو الشَّوَى، أو العَيْنَيْنِ، أو عين الأعْوَرِ، للسُّنَّةِ. بِخِلَاف كل زَوْجٍ فإن في أحَدِهما نِصْفَهُ، وفي اليدَيْنَ والرجْلَيْنِ ومارِنِ الأنْفِ والحَشَفَةِ وفي بَعْضِهمَا بِحِسَابِها مِنْهُمَا لا مِنْ أصْلِهِ، وفي الأنثييْنِ مُطْلَقًا، وفي ذكر العِنَين قوْلَانِ، وفي شُفْرَيِ المرأة إنْ بدا العَظْمُ، وفي ثَدْيَيْهَا أوْ حَلْمَتَيْهِمَا إنْ بَطَل اللَّبَنُ، واسْتؤني بالصَّغيرَةِ وسِنِّ الصَّغِيرِ الذي لم يُثْغِرْ للإِيَاسِ كالْقَوَدِ وإلَّا انْتُظِر سَنَةً، وسَقَطَا إنْ عَادَتْ وَوُرِثا إنْ مَاتَ، وفي عَوْدِ السِّنِّ أصْغَرَ بِحِسَابِهَا، وجُرِّبَ الْعَقْلُ بِالْخَلَواتِ، والسمع بأن يُصَاحَ مِنْ أمَاكِنَ مُخْتِلَفَة مَعَ سَدِّ الصَّحِيحَةِ ونُسِبَ لِسَمْعِهِ الآخر وإلَّا فَسَمْعٌ وسَطٌ ولَهُ نسْبَتُهُ إنْ حَلَفَ ولم يَخْتَلِفْ قَوْله وإلَّا فهَدَرٌ. والبَصَرُ بإِغْلَاقِ الصَّحِيحَةِ كذلك، والشَّمُّ بِرَائحَةٍ حَادَّةٍ، والنُّطْقُ بالكَلَامِ اجْتِهَادًا، والذَّوقُ بالمَقِرِّ. وصُدِّقَ مُدَّعٍ ذَهَابَ
(1)
وقوله: وفي الجِرَاحِ حُكُومَةٌ بنسبة نقصان الجناية، إنْ برئَ من قيمته عبدًا فرضًا من الدية، تقريره، والله تعالى أعلم، وفي الجراح - التي ليس فيها دية مقدرة من الشارع، إذا برئت على شين =
الجَمِيعِ بِيَمِينٍ. والضَّعِيفُ مِنْ عَيْنٍ ورِجْلٍ ونَحْوِهِمَا خِلْقَةً كَغَيْرهِ، وكَذَا الْمَجْنيُّ عَلَيْهَا إنْ لَمْ يأخُذْ لَهَا عَقْلًا، وَفي لِسَانِ النَّاطِقِ، وإن لَمْ يَمْنَعِ النُّطْقَ ما قَطَعَهُ فَحُكُومَةٌ كلسَانِ الأخْرسِ والْيَدِ الشَّلَّاءِ والسَّاعِدِ وأليْتَي المرْأةِ وسِنٍّ مُضْطَربَةٍ جِدًا وعَسِيبِ ذَكرٍ بَعْدَ الحَشَفَةِ، وحَاجِبٍ أوْ هُدْب، وظُفُرٍ، وفيه القِصَاصُ، وَإفْضَاءٍ، وَلَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ مَهْرٍ بِخلَافِ البكارَةِ إلَّا بأصْبُعِهِ. وفي كُلِّ أصْبُعٍ عُشْرٌ وَالأُنْمُلَةُ ثُلُثُهُ إلَّا في الإِبْهَامِ فَنِصْفُهُ، وفي الأصْبُع الزائدَةِ القَوِيَّةِ عُشْرٌ إن انْفَرَدَتْ وَفي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ، وإنْ سوداءَ، بِقَلْعٍ أوِ اسْودَادٍ أو بِهِمَا أو بِحُمْرَةٍ أوْ بصُفْرَةٍ، وإن كانا عُرْفًا، كالسَّوَادِ أوْ باضْطِرابهَا جِدّا وإن ثبتَتْ لِكَبيرٍ قَبْلَ أخْذِ عَقْلِهَا أخَذَهُ كالجراحَاتِ الأرْبعِ، ورُدَّ في عَوْدِ البَصَر وقُوَّةِ الجِمَاعِ ومَنْفَعَةٍ اللَّبَنِ وفي الأذنِ إِنْ ثبَتَتْ تأويلَانِ.
= ونقص، وإلا فلا شيء فيها - حكومة؛ وهي مال محكوم به، يتوصل إلى معرفة قدره بنسبة نقصان قيمته معيبًا بسبب الجناية لقيمته سليمًا، فيقوم على فرض رقبته سالمًا ومعيبًا وينسب ما نقصته قيمته معيبًا لقيمته سليمًا، ويحكم بمثل تلك النسبة من الدية، ولا ينظر في الحكومة إلا بعد برء المجني عليه، ولا يستعجل بها قبل البرء لاحتمال سيلان، الجرح إلى الموت فتلزم الدية كاملة. قال ابن قدامة: ما فسر به الحكومة هو قول أهل العلم كلهم، لا نعلم بينهم فيه خلافًا، وبه قال الشافعي، والعنبري، وأصحاب الرأي، وغيرهم، قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن معنى قولهم حكومة هو أن يقال - إذا أصيب إنسان لا عقل له معروف: كم قيمة هذا المجروح لو كان عبدًا يجرح هذا الجرح؛ فإذا قيل: مائة دينار، قيل: وكم قيمته وقد أصابه هذا الحرج وانتهى برؤه؟ فإن قيل: خمس وتسعون. فالذي يجب على الجاب نِصْفُ عُشْرِ الدية. وإن قالوا: تسعون، فعشر الدية.
(2)
وقوله: إلَّا الجائفة والآمَّةَ فثُلُثٌ: يريد به، والله أعلم، أن الاستثناء من الجراح؛ أي يستثنى من الجراح الجائفة، وهي الجرح الذي أفضى إلى الجوف، والأمَّة وهي الجرح الذي وصل إلى أم الدماغ، ففي كل منهما ثلث الدية الكاملة للمجروح على عاقلة الجاني، ولا فرق فيهما بين العمد =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والخطإ؛ والآمَّة والمأمومة شيء واحد، قال أبو عمر بن عبد البر: أهل العراق يقولون لها الآمّة، وأهل الحجاز يقولون لها المأمومة. وهي الجراحة الواصلة إلى أم الدماغ. قال: وأرشها ثلث الدية في عامة قول أهل العلم. ودليل ذلك ما جاء في كتاب عمرو بن حزم الذي كتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ". وروى ابن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وروى نحوه عليّ رضي الله عنه.
وأما الجائفة، فقد ذكر ابن عبد البر أن مالكًا وأبا حنيفة، والشافعي والبتي وأصحابهم اتفقوا على أن الجائفة لا تكون إلا في الجوف.
وقال ابن قدامة: الجائفة ما وصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو صدر أو ثغرة نحر، أو ورك، أو يخره. قال: وعامة أهل العلم، منهم أهل المدينة، وأهل الكوفة وأهل الحديث، وأصحاب الرأي، يقولون بأن فيها ثلث الدية.
وقد خالف مكحول فيهما - في الآمّة والجائفة - قال: الثلث في خطئهما، وفي عمدهما الثلثان. غير أن كتاب عمرو بن حزم نص فيهما فقد جاء فيه:"وَفِي الْمَأْمُومَةِ الثُّلُث وَفِي الْجَائِفَهَ الثُّلُثُ". فلا اعتبار لأي قول مع قوله صلى الله عليه وسلم.
(3)
وقوله: والموضحة فنصف عُشُر: الموضحة هي الشجة التي أظهرت العظم، فدية خطئها نصف عشر دية المجني عليه، وفي عمدها القصاص كما تقدم. وقد أجمع أهل العلم على أن أرشها مقدر. قالة ابن المنذر، فقد جاء في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له النبي صلى الله عليه وسلم:"وَفِي الْمُوَضِّحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ". رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي وقال: حديث حسن.
قال: وليس في موضحة غير الرأس والوجه مقدر في قول أكثر أهل العلم. منهم أحمد بن حنبل والإِمام مالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر. قال ابن عبد البر: لا يكون في البدن موضحة، يعنى ليس فيها مقدر. قال: وعلى ذلك جماعة العُلماء إلَّا الليث بن سعد قال في الموضحة: تكون في الجسد أيضًا. ا. هـ.
(4)
وقوله: والمنقَّلةَ والهاشمةٌ فَعُشُرٌ ونصفه وإن بشين فيهن إن كنَّ برأس أوْ لَحْيٍ أعلى: قال المواق: أما المنقلة فقال في الكافي: في المنقلة عشر الدية ونصف عشرها؛ خمس عشرة فريضة أو مائة وخمسون دينارًا. وقال ابن رشد الخطأ والعمد في المنقلة سواء، إذ لا قصاص فيها لأنها من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المتالف، وأما الهاشمة فقد تقدم قول ابن شاس لا دية فيها، وقول أبي عمر: فيها عشر الدية، قال ابن رشد: أما الهاشمة فلم يعرفها مالك، وديتها عند من عرفها من العُلماء، وهم الجمهور من العُلماء، عشر من الإِبل. ا. هـ. منه.
وقال الخرقي الحنبلي: والهاشمة عشر من الإِبل، وهي التي توضح العظم وتهشمه، قال ابن قدامة: هي التي تتجاوز الموضحة؛ فتهشم العظم، سميت هاشمة لأنها هشمت العظم، ولم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها تقدير، وأكثر من بلغنا قوله عن أهل العلم على أن أرشها مقدر بعشر من الإِبل، روى ذلك قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت، وبه قال قتادة، والشافعي، والعنبري، ونحوه قال الثوري، وأصحاب الرأي، إلا أنهم قدروها بعشر الدية من الدراهم. وحكي عن مالك أنه قال: لا أعرف الهاشمة لكن في الإِيضاح خمس وفي الهشم حكومة. اهـ.
وأما المنقلة، فقد قال ابن قدامة: هي زائدة على الهاشمة، وهي التي تكسر العظام وتزيلها عن موضعها، فيحتاج إلى نقل العظم ليلتئِم، وفيها خمس عشرة من الإبل بإجماع أهل العلم، حكاه ابن المنذر. وفي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له النبي صلى الله عليه وسلم:"وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسُ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ".
(5)
وقوله: والقيمة للعبد كالدية، قال في أوائل كتاب الديات من المدونة: وفي مأمومة العبد وجائفته في كل واحدة ثلث قيمته، وفي منقلته عشر قيمته ونصف عشر قيمته، وفي موضحته نصف عشر قيمته، وفي سوى ذلك من جراحه ما نقصه بعد برئه. ا. هـ. الحطاب.
(6)
وقوله: وإلا فلا تقدير، أي وإن لم تكن الجراحات المذكورة برأس فلا تقدير لديتها وفيها الحكومة. قال أبو عبد الله القرطبي: قال العلماء: الشجاج في الرأس والجراح في البدن. وأجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرش، فيما ذكره ابن المنذر. واختلفوا في ذلك الأرش. وما دون الموضحة شجاج خمس: الدامية، والدامعة، والباضعة، والمتلاحمة، والسمحاق؛ فقال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي: في الدامية حكومة. وذكر عبد الرزاق عن زيد بن ثابت قال: في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة من الإبل، وفي السمحاق أربع، وفي الموضحة خمس، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمس عشرة، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة. أو يضرب حتى يَغُنَّ ولا يُفهم الدية كاملة، أو حتى يُبحَّ ولا يفهم، الدية كاملة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وفي جفن العين ربع الدية، وفي حلمة الثدي ربع الدية. قال ابن المنذر: وروي عن عليّ رضي الله عنه في السمحاق مثل قول زيد. وروي عن عمر وعثمان أنهما قالا: فيها نصف الموضحة. وقال الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والنخعي: فيها حكومة، وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد. ولا يختلف العُلماء أن الموضحة فيها خمس من الإِبل على ما في حديث عمرو بن حزم، وفيه:"وَفِي الْمُوَضِّحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ". وأجمع أهل العلم أن الموضحة تكون في الرأس والوجه. واختلفوا في تفصيل موضحة الوجه على موضحة الرأس، فروي عن أبي بكر وعمر أنهما سواء، وقال بقولهما جماعة من التابعين، وبه يقول الشافعي وإسحاق. وروي عن سعيد تضعيف موضحة الوجه على موضحة الرأس. وقال أحمد: موضحة الرأس أحرى أن يزاد فيها. وقال مالك: المأمومة، والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الرأس والوجه، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس، خاصّة إذا وصل الدّماغ، قال: والموضحة ما تكون في جمجمة الرأس، وما دونها فهو من العنق ليس فيه موضحة، قال مالك: والأنف ليس من الرأس وليس فيه موضحة، وكذلك اللحيُ الأسفل ليس فيه موضحة. وقد اختلفوا في الموضحة في غير الرأس والوجه، فقال ابن القاسم وأشهب: ليس في موضحة الجسد ومنقلته ومأمومته إلا الاجتهاد، وليس فيها أرش معلوم. قال ابن المنذر: هذا قول مالك والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وبه نقول.
وقال أبو عمر: واتفق مالك والشافعىِ وأصحابهما أن من شج رجلًا مأمومتين أو موضحتين، أو ثلاث مأمومات أو موضحات أو أكثر في ضربة واحدة، أن فيهن كلهن دية كاملة. وأما الهاشمة فلا دية فيها عندنا بل حكومة.
قال ابن المنذر: ولم أجد في كتب المدنيين ذكر الهاشمة، بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل: إن كان خطأ ففيه الاجتهاد. وكان الحسن لا يوقت في الهاشمة شيئًا. وقال القاضي أبو الوليد الباجي: فيها ما في الموضحة، فإن صارت منقلة فخمس عشرة، وإن صارت مأمومة فثلث الدية. قال ابن المنذر: ووجدنا أكثر من لقيناه، وبلغنا عنه من أهل العلم، يجعلون في الهاشمة عشرًا من الإِبل. وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت، وبه قال قتادة وعبيد الله بن الحسن، والشافعي. وأما المنقلة فقال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسُ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ". وأجمع أهل العلم على القول به.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال ابن المنذر: وقال كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المنقلة هي التي تنقل منها العظام. وقال مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي، وقتادة، وابن شُبرُمة: إنَّ المنَقِّلةَ لا قَوَدَ فيها، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا خالف في ذلك. وقال ابن المنذر: وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيةِ". وأجمع أهل العلم على القول به. ولا نعلم أحدًا خالف ذلك إلا مكحولًا فإنه قال: إذا كانت عمدًا ففيها ثلثا الدية وهذا قول شاذ.
وأما الجائفة ففيها ثلث الدية، بدليل حديث عمرو بن حزم، ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أيضًا وهو شاذ كقوله في المأمومة.
وقال عطاء، ومالك، والشافعي وأصحاب الرأي: لا قصاص في الجائفة، وبه قال ابن المنذر. وبالله تعالى التوفيق.
(7)
وقوله: وتعدد الواجب بجائفة نفذت كتعدد الموضحة ألخ. قد تقدم في المبحث قبل هذا تحقيق ما في ذلك فأغنى عن إعادته، والحمد لله.
(8)
وقوله: والدية في العقل أو السمع ألخ. وجملة القول في هذه المسألة أن من أتلف ما في الإِنسان منه شيء واحد لزمته دية ذلك الإِنسان كاملة، وإن أتلف ما فيه منه شيئان كان في كل واحد منهما نصف الدية؛ معناه أن كل عضو لم يخلق الله تعالى في الإِنسان منه إلا واحدًا؛ كاللسان، والأنف، والذكر، والصلب، ففيه دية كاملة؛ لأن في إتلافه ذهاب منفعة الجنس وإذهابها؛ كإتلاف النفس، وما فيه منه شيئان؛ كاليدين والرجلين، والعينين، والأذنين، والمنخرين، والشفتين، والخصيتين، والثديين، والإِليتين، ففيهما الدية كاملة، لأن في إتلافهما إذهاب منفعة الجنس، وفي إحداهما نصف الدية لأن في إتلافه إذهاب نصف منفعة الجنس، قاله ابن قدامة، وهذا مذهب الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفًا، وقد روي عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له في كتابه:"وَفِي الْأنْفِ إِذَا أَوْعَبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي البَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفَي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْن الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَة نِصْفُ الدِّيَةِ". رواه النسائي وغيره، ورواه ابن عبد البر، وقال: كتاب عمرو بن حزم معروف عند الفقهاء، وما فيه متفق عله عند العُلماء إلا قليلًا. ا. هـ.
وقال البغوي: ثلاثة عشر عضوًا في البدن يجب في كل واحد منها كمال دية النفس؛ أحدها: مارن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الأنف، وهو مالان منه، إذا قطع كله ففيه كمال بدل النفس وهو مائة من الإبل.
والثاني: أجفان العينين، وهي الجلود التي تنطبق على الحدقة يجب فيها كمال الدية، وفي جفني إحدى العينين نصف الدية، وفي واحد منها ربع الدية.
الثالث: الأذنان، فيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها.
والرابع: الشفتان، وهي المتجافي مما يستر اللثة من أعلى وأسفل مستديرًا بالفم، ففيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها، يستوي فيه العليا والسفلى. قال: وإن كان الشين في قطع بعضها أكثر، كاليدين يستويان في الدية مع تفاوتهما في المنفعة.
الخامس: اللسان.
والسادس: الأسنان؛ يجب فيها كمال الدية، وفي كل سن خمس من الإِبل.
والسابع: اللحيان، وهما العظمان المتقابلان، عليهما نبات الأسنان السفلى وملتقاهما الذقن، ففيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصف الدية. قال ولو قلعهما وعليهما الأسنان فعليه ديتهما، ولكل سن خمس من الإِبل.
الثامن: اليدان. يجب فيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها، وفي كل إصْبَع يقطعها عشر من الإِبل، وكذلك أصابع الرجل، وإذا قطع أنملة من أنامله، ففيها ثلث دية الأصبع، إلا أنملة الإِبهاء ففيها نصف دية أصبع لأنه ليس لها إلا أنملتان، ولا فرق فيه بين أنامل اليد والرجل.
التاسع: الرجلان، فيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها.
العاشر: الإِليتان، وهما ما أشرف على الظهر من المأكمتين إلى استواء الفخذين، فإذا قطع من أشرف منها يجب فيها كمال الدية وإن لم يصل إلى العظم، وفي إحداهما نصفها.
الحادي عشر: الحشفة من الرجل، إذا قطعها يجب فيها كمال الدية، وإذا قطع بعضها ففيها بقدرها.
الثاني عشر: الأنثيان، يجب فيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها، وسواء قطع اليمنى أو اليسرى؛ كاليدين والرجلين لا يفضل إحداهما على الأخرى.
الثالث عشر: إذا كسر صلبه بحيث لا يطيق المشي، ففيه كمال الدية. قال: ولو ضربه فأذهب عقله، يجب فيه كمال الدية، وكذلك لو أذهب بصره، أو سمعه، أو شمه، أو ذوقه، أو كلامه بجميع =
وتَعَدَّدَتْ الدِّيَةُ بِتَعَدُّدِهَا إلَّا المنْفَعَةَ بِمَحَلِّهَا، وسَاوَتْ المرأةُ الرَّجُلَ لثُلُثِ دِيَتِهِ فترْجِعُ لِديتهَا (1). وضُمَّ مُتَّحِدُ الفِعْلِ أوْ في حُكْمِهِ أو الْمَحَلِّ في الأصَابِعِ لا الأسْنَانِ والموَاضِحِ والمنَاقِلِ، وعَمْدٍ لِخَطَإٍ وإن عَفَتْ. ونُجِّمَتْ دِيَةُ الحُرِّ الخَطَأُ بِلا اعْتِرافٍ عَلَى العَاقِلَة والْجَاني، إنْ بَلَغَ ثُلُثَ المَجْنيِّ عَلَيْه (2) أو الْجَانِي، ومَا لَمْ يَبْلُغْ فَحَالٌّ عَلَيْهِ، كعَمْدٍ وديَةٍ غُلِّظَتْ وسَاقِطٍ لِعَدَمِهِ (3) إلَّا ما لا يُقْتَصُّ مِنْهُ مِنَ الجُرِوحِ لإِتْلَافِهِ فَعَلَيْهَا وهيَ الْعَصَبَةُ (4). وبُدِئ بالدِّيوَانِ إنْ أُعْطُوا ثُمَّ بِهَا الأقْرَبُ فالأقْرَبُ ثُمَّ المَوَالي الأعْلَوْنَ ثُمَّ الأسْفَلُونَ ثُمَّ بَيْتُ الْمَالَ إنْ كانَ الجَاني مُسْلِمًا، وإلَّا فالذِّمِّيُّ ذَوُو دِينِهِ. وضُمَّ كَكُورِ مِصْرَ، والصُّلْحِيُّ أهْلُ صُلْحِهِ. وضُرِبَ عَلى كُلٍّ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ (5) وعُقِل عَنْ صَبِيٍّ ومَجْنُونٍ وَامْرأةٍ، وفَقِير وغارِمٍ، ولا يَعْقِلوُنَ. والمُعْتَبَرُ وقْتُ الضَّرْبِ، لا إنْ قَدِمَ غائبٌ، ولا يَسْقُطُ لِعُسْرِهِ أو مَوْتِهِ، ولا دُخُولَ لِبَدَوِيٍّ مَعَ حَضَرِيٍّ ولا شامِيٍّ مَعَ مِصْرِيٍّ مُطْلَقًا. والْكَامِلَةُ في ثَلَاثِ سِنينَ تَحِلُّ في أوَاخِرِهَا مِنْ يَوْمِ الحُكْمِ. والثَلُثُ والثَّلُثَانِ بِالنِّسْبَةِ، ونُجِّمَ في النِّصْفِ والثَّلَاثَةِ الأرْبَاع - بِالتَّثْلِيتَ ثُمَّ للِزَّائدِ سَنَةٌ وحُكْمُ مَا وَجَبَ عَلى عَوَاقِلَ بِجنَايَةٍ وَاحِدَةٍ كَحُكْمِ الْوَاحِدَةِ، كتَعَدُّدِ الجنايات عَلَيْهَا. وهَلْ حَدُّها سَبْعُمَائةٍ أو الزَّائِدُ عَلى ألْفٍ؛ قَوْلَانٍ. وعَلى الْقَاتِلِ الْحُرِّ المُسْلِمِ وإنْ صَبِيًّا أوْ مَجْنُونًا أو شريكًا،
= حروفه، يجب فيها كمال الدية، وفي بصر إحدى العينين، أو سمع إحدى الأذنين، نصف الدية.
وقال مالك: إذا فقئت عين الأعور الصحيحة يجب فيها كمال الدية.
(1)
وقوله: وساوت المرأة الرجل لثلث ديته فترجع لديتها، قال في المدونة: المرأة تعاقل الرجل في الجراح إلى ثلث ديته، فإذا بلغت ذلك رجعت إلى عقل نفسها، قال: وتفسير ذلك أن لها في ثلاث أصابع ونصف أنملة إحدى وثلاثين بعيرًا وثلثي بعير، والرجل في هذا وهي سواء، فإذا أصيب منها ثلاث =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أصابع وأنملة رجعت إلى عقلها، فكان لها في ذلك ستة عشر بعيرًا وثلثا بعير، ففي الموطإ عن ربيعة قلت لابن المسيب: كم في ثلاث من أصابع المرأة؟. قال: ثلاثون. قلت: وكم في أربع؟ قال: عشرون. قلت حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ قال: أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم، قال هي السنة. ا. هـ. بنقل المواق.
قال القرطبي: واختلفوا في عقل جراحات النساء؛ ففي الموطإ عن مالك عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل، أصبعها كأصبعه، وسنها كسنه، وموضحتها كموضحته، ومنقلتها كمنقلته، قال ابن بكير: قال مالك: فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل.
قال ابن المنذر: روينا هذا القول عن عمر، وزيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز، وعروة بن الزبير، وابن هرمز، والزهري، وقتادة، ومالك وأحمد بن حنبل، وعبد الملك بن الماجشون.
وذهب قوم إلى أن دية المرأة على النصف من دية الرجل في كل شيء. قالوا: لما أجمعوا على الكثير - وهو الدية - كان القليل مثله، وهو مروي عن عليِّ بن أبي طالب، وبه قال الشافعي، والثوري، وأبو ثور، والنعمان وصاحباه، قال ابن المنذر: وبه نقول.
(2)
وقوله؛ ونجَّمت دية الحر الخطأُ، بلا اعتراف، على العاقلة والجاني إن بلغ ثلث المجني عليه، يريد به أن العاقلة تتحمل دية الحر الخطأ بشرط أن لا تكون عن اعتراف ولا عن صلح، وأن تكون بلغت الثلث. وأنها تتحمل ذلك منجمًا على ثلاث سنين، لا خلاف بين أهل العلم في ذلك، ومذهب المؤلف دخول الجاني مع العاقلة في دفع الدية.
قال الحطاب: وهو المشهور. قال ابن قدامة: ولا يلزم القاتل شيء من الدية. وبهذا قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة.
تنبيهٌ: العاقلة لا تحمل جناية العبد، ولا العمد، ولا تتحمل الصلح، أي من ادعي عليه القتل فأنكره، وصالح على مال، فإن ذلك المال في ماله، لا تتحمله العاقلة، ولا تتحمل الاعتراف؛ وهو أن يقر الإِنسان بقتل عمد أو خطإ أو شبه عمد، فتجب عليه الدية في ماله، ولا تتحمل العاقلة منها شيئًا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولا تتحمل ما دون الثلث. ودليله ما رويَ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَعَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا".
قال ابن قدامة: رويَ عن ابن عباس موقوفًا، ولم نعرف له في الصحابة مخالفًا فكان إجماعًا.
قلت: عدم تحمل العاقلة العبد قال به ابن عباس والشعبي والثوري، ومكحول، والنخعي، والبتي، ومالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وابن أبي ليلى. وأما عدم تحملها العمد، لا خلاف أنها لا تحمل دية ما يجب فيه القصاص، وأكثر أهل العلم على أنها لا تحصل عمدًا مطلقًا، وقال مالك: إنها تحمل الجنايات التي لا قصاص فيها؛ كالجائفة والمأمومة.
وأما كونها لا تحمل صلحًا، فقد قال بذلك ابن عباس والزهري، والعبي، والثوري، والليث، وأحمد، والشافعي، وقد تقدم حديث ابن عباس في ذلك.
وأما كونها لا تحمل اعترافًا، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافًا، وبه قال ابن عباس والشعبي، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، وسليمان بن موسى، والثوري، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وبه ورد حديث ابن عباس المتقدم.
وأما كونها لا تحمل ما دون الثلث، فقد قال به سعيد بن المسب، وعطاء، ومالك وإسحاق، وعبد العزيز، وعمر بن أبي سلمة، وبه قال الزهري.
وخالف أبو حنيفة في هذا الفرع والثوري، قالا: تحمل السن والموضحة وما فوقهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الغرة التي في الجنين على العاقلة، وقيمتها نصف عشر الدية.
والصحيح من مذهب الشافعي أنها تحمل الكثير والقليل؛ لأن من حمل الكثير حمل القليل. ا. هـ.
(3)
وقوله: ودية غلظت وساقط لعدمه، قال الحطاب: الدية المغلظة تكون في شبه العمد؛ وهو ضرب الزوج والمؤدب والأب في ولده، والأم والأجداد، وفعل الطبيب والخاتن، وهو كل من جاز فعله شرعًا. وقيل: اللطمة والوكزة والرمية بالحجر والضرب بعصاة متعمدًا فهذا شبه العمد، لا يقتصر منه، وتكون فيه دية مغلظة. انتهى.
قال ابن قدامة: واختلفت الروايات في مقدار الدية المغلظة، فروى جماعة عن أحمد أنها أرباع، كما ذكر الخرقي، وهو قول الزهري، وربيعة، ومالك، وسليمان بن يسار، وأبي حنيفة، وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وروى جماعة عن أحمد أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها.
وبهذا قال عطاء، ومحمد بن الحسن، والشافعي، وروي ذلك عن عمر، وزيد، وأبي موسى، والمغيرة، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَإِنْ شَاؤُوا قَتَلُوهُ، وَإنْ شَاؤُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ حُقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلْفَةً، وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ". وذلك لتشديد القتل. رواه الترمذي، وقال: هو حديث حسن غريب. وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَلَا إِنَّ فِي قَتِيلِ عَمْدِ الْخَطَإِ قَتِيلِ السَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الإبِلِ؛ مِنْهَا أَرْبَعوُنَ خِلْفَة فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا". رواه الإِمام أحمد، وأبو داود وغيرهم.
وعن عمرو بن شعيب أن رجلًا يقال له قتادة، حذف ابنه بالسيف فقتله، فأخذ منه عمر الدية ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، رواه مالك في الموطإ واحتج من اعتبرها أرباعًا بما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعًا: خمسًا وعشرين جذعة، وخمسًا وعشرين حقة، وخمسًا وعشرين بنت لبون، وخمسًا وعشرين بنت مخاض، قال: ولأنه قول ابن مسعود، ولأنه حق يتعلق بجنس الحيوان، فلا يعتبر فيه الحمل كالزكاة والأضحية.
والمذهب أنها لا تتحملها العاقلة، كما لا تتحمل دية عضو ساقط القصاص فيه لعدم وجود مثله في الجاني كقطعه يمنى رجل ولا يمنى له، فديتها في ماله حالة وإن كان معدمًا انتظر يسره بذلك.
وقال ابن شُبرُمة، والزهري، والحارث العكلي، وابن سيرين، وقتادة، وأبو ثور: الدية المغلظة دية شبه العمد على القاتل في ماله. واختاره أبو بكر عبد العزيز لأنها موجب فعل قصده، فلم تحمله العاقلة كالعمد المحض.
وقال بتحمل العاقلة لدية شبه العمد، الإِمام أحمد، والشعبي، والنخعي، والحكم، والشافعي، والثوري، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وابن المنذر. واحتجوا بما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها. متفق عليه. قال ابن قدامة: ولا أعلم في أنها تجب مؤجلة خلافًا عن أهل العلم، وروي ذلك عن عمر، وعليّ، وابن عباس رضي الله عنهم. وبه قال الشعبي، والنخعي، وقتادة، وأبو هاشم، وعبد الله بن عمر، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر. ا. هـ. منه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال ابن قدامة: إن الدية تغلظ بثلاثة أشياء: إذا قتل في الحرم، وفي الأشهر الحرم، وإذا قتل محرمًا، وقد نص أحمد على من قتل محرمًا في الحرم، وفي الشهر الحرام، واختلف قوله في التغليظ بقتل ذي رحم محرم، قال: وممن روي عنه التغليظ: عثمان وابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، والشعبي، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد، وقتادة والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وإسحاق. واختلف القائلون بالتغليظ في صفته، قال مالك والشافعي: هو إيجاب دية العمد في الخطإ، وقال مالك: تغلظ على الأب والأم والجد دون غيرهم، واحتج مالك والشافعي على صفة التغليظ بما روي عن عمر أنه أخذ من قتادة المدلجي، دية ابنه حين حذفه بالسيف فقتله، ثلاثين حقه، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، ولم يزد عليه في العدد شيئًا، وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر، فكانت إجماعًا.
(4)
وقوله: وهي العصبة: قال المواق: العاقلة هم العصبة، قربوا أو بعدوا، ولا يحمل النساء ولا الصبيان شيئًا من العقل. وليس لأموال العاقلة حد إذا بلغته عقلوا ولا لما يؤخذ منهم حد، ولا يكلف أغنياؤهم الأداء عن فقرائهما. ومن لم تكن له عصبة فعقله في بيت المال. والموالي بمنزلة العصبة من القرابة. ويدخل في القرابة الإِبن والأب. قال سحنون: وإن كانت العاقلة ألفًا فهم قليل فيضم إليهم أقرب القبائل إليهم.
ومذهب مالك وأبي حنيفة أن العاقلة كل العصبة؛ يدخل في ذلك آباء القاتل وأبناؤه وإخوته وعمومته وأبناؤهم، وهو رواية عن الإِمام أحمد، واحتجوا بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عقل المرأة بين عصبتها، من كانوا لا يرثون منها شئًا، إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها. رواه أبو داود، قال: يحققه أن العقل موضوع على التناصر، وهم أهله، ولأن العصبة في تحمل العقل كهم في الميراث في تقديم الأقرب فالأقرب، وأبناؤه وآباؤه أحق العصبات بميراثه، فكانوا أولى بتحمل عقله.
وقال الشافعي: ليس آباؤه وأبناؤه من العصبة وهي الرِّواية الأخرى عن الإمام أحمد، لما روى أبو هريرة: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم. متفق عليه. وفي رواية: ثم ماتت القاتلة، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثها لبنيها، والعقل على العصبة. رواه أبو داود والنسائي. وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلتها، وبرأ زوجها وولدها، قال: فقالت عاقلة المقتولة: ميراثها لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مِيرَاثُهَا لِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا". رواه أبو داود.
قال ابن قدامة: وسائر العصبات من العاقلة بعدوا أو قربوا في النسب، والمولى وعصبته ومولى المولى وعصبته، وبهذا قال عمر بن عبد العزيز، والنخعي، وحماد، ومالك، والشافعي، ولا أعلم عن غيرهم خلافهم، وذلك لأنهم عصبة يرثون المال لو لم يكن وارث أقرب منهم فيدخلون في العقل كالقريب.
ومذهب مالك أن الرجل يكون في العشيرة ليس من أصلها، يعقل معها. أي فعقله مع القوم الذي هو معهم، خلافًا للشافعي وأحمد، قياسًا للموالاة هنا على ولاية النكاح. ا. هـ. والمذهب عند أصحابنا أن الدية تقسم على من حضر دون من غاب.
قال مالك: يختص به الحاضر، لأن التحمل بالنصرة وإنما هي بين الحاضرين.
وقال أحمد: يشترك في العقل الحاضر والغائب. وبه قال أبو حنيفة، وأما الشافعي فإن له في ذلك روايتين كالمذهبين.
(5)
وقوله: وضرب على كل ما لا يضرّ به: قال في المدونة: ويحمل الغني بقدره والفقير بقدره، وذلك على قدر طاقة الناس في يسرهم وعسرهم. ا. هـ. من المواق.
وقال ابن قدامة: ولا خلاف بين أهل العلم أن العاقلة لا تكلف من المال ما يجحف بها ويشق عليها، لأنه لازم لها من غير جنايتها، على سبيل المواساة للقاتل والتخفيف عنه، فلا يخفف عن الجاني بما يثقل على غيره ويجحف به كالزكاة. قال: ولأنه لو كان الإِجحاف فروعًا لكان الجاني أحق به، لأنه بموجب جنايته.
واختلف أهل العلم فيما يحمله كل فرد من العاقلة، فقد قال مالك وأحمد: يحملون على قدر ما يطيقون، ويرجع في ذلك إلى الاجتهاد، لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف ولا يثبت بالرأي والتحكم، ولا نص في هذه المسألة، فوجب فيها الرجوع إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات.
وقال الشافعي، وهو الرِّواية الأخرى عن أحمد. يفرض على الموسر نصف مثقال لأنه أقل مال يقدر =
إذا قَتَلَ مِثْلَهُ مَعْصُومًا خَطَأً، عِتْقُ رَقَبَةٍ، ولِعَجْزِهَا شَهْرانِ كالظِّهارِ، لا صَائِلًا وقاتِلَ نَفِسِهِ كَدِيَتِهِ. ونُدِبَتْ في جَنِينٍ ورَقِيقٍ وعَمْدٍ، وعَبْدٍ، وعَلَيْهِ مُطْلَقًا جَلْدُ مائةٍ وحَبْسُ سَنَةٍ، وإنْ بقَتلِ مَجُوسِيٍّ، أوْ عَبْدِهِ أوْ نُكولِ المُدَّعِي عَلى ذي اللَّوْثِ وَحَلَفِهِ. والقَسَامَةُ سَبَبُهَا قَتْلُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ في مَحَلِّ اللَّوْثِ (1)، كألنْ يَقُولَ بَالِغٌ حُرٌّ مُسْلِمٌ: قَتَلَنِي فُلَانٌ ولَو خَطَأً وَإنْ مَسْخُوطًا عَلَى وَرِعٍ أو وَلدٌ عَلى وَالِدِهِ أنَّهُ ذَبَحَهُ أوْ زَوْجَةٌ على زَوجِهَا إنْ كانَ جُرْحٌ أوْ أطْلَقَ وبَيَّنُوا لَا
= في الزكاة، ويجب على المتوسط ربع دينار لأن ما دون ذلك تافه؛ لكون اليد لا تقطع فيه.
وقال أبو حنيفة: أكثر ما يجعل على الواحد أربعة دراهم، وليس لأقله حد، قال: لأن ذلك مال يجب على سبيل المواساة للقرابة، فلم يتقدر أقله كالنفقة.
ويعتبر الغنى والتوسط عند رأس كل حول؛ لأنه حال الوجوب، فاعتبر الحال عنده كالزكاة.
تنبيهٌ: قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ لا يعقلان مع العاقلة، وأجمعوا على أن الفقير لا يلزمه شيء، وهذا قول مالك، والشافعى، وأصحاب الرأي.
وعن الإِمام مالك وأبي حنيفة وأحمد روايات أن للفقير مدخلًا في التحمل، قالوا: لأنه من أهل النصرة؛ فكان من العاقلة كالغني. والصحيح الأول. انظر مغني ابن قدامة في هذا المحل.
فائدة: ذكرها الخطاب: أسماء طبقات قبائل العرب ستة: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم الفخذ، ثمَّ البطن، ثم الفضيلة. وزاد بعضهم: ثم العشيرة.
وقوله: وعقل عن صبي ومجنون وامرأة وفقير وغارم ولا يعقلون، تقدم الكلام عليه والحمد لله.
فائدة: ذكرها الحطاب: أسماء طبقات قبائل العرب ستة: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم الفخذ، ثمَّ البطن، ثم الفصيلة. وزاد بعضهم: ثم العشيرة.
وقوله: وعقل عن صبي ومجنون وامرأة وفقير وغارم ولا يعقلون، تقدم الكلام عليه والحمد لله.
(1)
قوله: والقسامة سببها قتل الحر في محل اللوث: هذا ابتداء منه رحمه الله في الكلام على القسامة. قال ابن قدامة: القسامة: مصدر ط أقسم قسَمًا وقسامة، ومعناه، حلف حلفًا. والمراد =
خَالَفُوا، ولَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُمْ، ولَا إنْ قَالَ بَعْضٌ عَمْدًا وَبَعْضٌ لا نعْلم، أوْ نَكَلُوا بِخِلَاف ذي الْخَطَإ فَلَهُ الْحَلِفُ وَأخْذُ نَصيبِهِ. وَإنْ اخْتَلَفَا فيهِمَا واسْتَوَوْا حَلَفَ كُلٌّ ولِلْجَمِيعِ دِيةُ خَطَإٍ، وبَطَلَ حَقُّ ذِي الْعَمْدِ بِنُكُولِ غَيْرِهِمْ كَشَاهِدَيْنِ لِجُرْحٍ أَوْ ضَرْبٍ مُطْلَقًا أَوْ بِإِقْرَارِ الْمَقْتُولِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ثُمَّ يتأخَّرُ المَوْتُ، يُقْسِمُ لَمِنْ ضَرْبِهِ مَاتَ، أوْ بِشَاهِدٍ بِذلِكَ مُطلْقًا إنْ ثَبَتَ المَوْتُ أوْ بإقْرارِ المَقْتُولِ عَمْدًا، كإقْرارِهِ مَعَ شاهِدٍ مُطْلَقًا أوْ إقْرارِ القَاتِلِ في الْخَطَإ فَقَطْ بِشَاهِدٍ، وإنْ اخْتَلفَ شاهِدَاهُ بَطَلَ، وكَالْعَدْلِ فَقَطْ في مُعَاينَةِ الْقَتْلَ أوْ رَآهُ يَتَشَحَّطُ في دَمِهِ والمُتَّهَمُ قُرْبَهُ وَعَلَيْهِ آثَارُهُ، وَوَجَبَتْ وإنْ تَعَدَّدَ اللَّوْثُ، ولَيْسَ منْهُ وُجُودهُ في قَرْيَةِ قَوْمٍ أوْ دَارِهِمْ وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أنَّه قَتَلَ وَدَخَلَ في جَمَاعَةِ،
= بالقسامة ههنا: الإيمان المتكررة في دعوى القتل. ا. هـ. منه.
قال القرطبي في تفسيره: اختلف العُلماء في الحكم بالقسامة، فروي عن سالم وأبي قلابة وعمر بن عبد العزيز، والحكم بن عُيينة، التوقف في الحكم بها. وإليه مال البخاري؛ لأنه أتى بحديث القسامة في غير موضعه. وقال الجمهور: الحكم بالقسامة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلفوا في كيفية الحكم بها، فقالت طائفة: يبدأ فيها المدعون بالأيمان، فإن حلفوا استحقوا، وإن نكلوا حلف المدَّعى عليهم خمسين يمينًا وبُرّئُوا. هذا قول أهل المدينة، والليث، والشافعي، وأحمد، وأَبي ثور، وهو مقتضى حديث حويِّصة ومُحَيِّصة، خرجه الأئمة، مالك وغيره.
وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدَّعى عليهم؛ فيحلفون ويبرؤون. روي هذا عن عمر بن الخطاب، والشعبي، والنخعي، وبه قال الثوري والكوفيون. واحتجوا بحديث شعبة بن عبيد عن بُشير بن يسار، وفيه: فبدأ بالأيمان المَدَّعى عليهم وهم اليهود. وبما رواه أبو داود عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم: "أَيَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا"؟. فأبوا، فقال للأنصار "اسْتَحِقُّوا". فقالوا: أنحلف على الغيب يا رسول الله؟. فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم. واحتجوا أيضًا صلى الله عليه وسلم: "وَلكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى =
اسْتُحْلِفُ كُلٌّ خَمْسِينَ والدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أوْ عَلى مَنْ نَكَلَ بِلَا قَسَامَةٍ. وإنْ انْفَصَلَتْ بُغَاةٌ عَنْ قَتْلَى وَلَمْ يُعْلَمْ الْقَاتلُ، فَهَلْ لَا قَسَامَةَ ولا قَوَدَ مُطْلَقًا؟ أوْ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ تَدْمِيَةٍ وشَاهِدٍ؟ أوْ عَنِ الشَّاهِدِ فَقَطْ؟ تَأويلَاتٌ؛ وإنْ تَأوَّلُوا فَهَدَرٌ، كزاحِفَةٍ عَلى دَافِعَةٍ. وهِيَ خَمْسُونَ يَمِينًا مُتَوالِيةً بِتًّا وإنْ أعْمَى أوْ غائبًا، يَحْلِفُهَا في الْخَطَإ مَنْ يَرِثُ المَقْتُولَ وإنْ واحِدًا أوْ امْرأةً وجُبِرَتْ الْيَمينُ عَلى أكثر كَسْرهَا وإلَّا فَعَلى الجَمِيع، وَلَا يأخُذُ أحَدٌ إلَّا بَعْدَهَا ثُمَّ حَلَفَ مَنْ حَضَرَ حِصَّتَهُ، وَإنْ نَكَلُوا أوْ بَعْضٌ حَلَفَتْ الْعَاقِلةُ، فَمَنْ نَكَلَ فَحِصَّتُهُ عَلى الأظْهَرِ. ولَا يَحْلِفُ في دَعْوَى الْعَمْدِ أقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ عَصَبَةً، وإلَّا فَمَوالي، ولْلِوَليِّ الاسْتِعَانَةُ بِعَاصِبِهِ، ولْلِوَليِّ فَقَطْ حَلِفُ الأكْثَرِ إنْ تَزِدْ عَلى نِصْفِهَا، وَوُزِّعَتْ واجْتُزيَ بِاثنيْن طَاعَا مِنْ أكْثَرَ ونُكُولُ المُعَيَّنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِخِلَافِ غيْرهِ ولَوْ بَعُدُوا،
= الْمُدَّعَى عَلَيْهِ". فعينوا. قالوا: وهذا هو الأصل المقطوع به في الدعاوى، الذي نبه الشرع على حكمته بقوله عليه الصلاة والسلام: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلكِنَّ اليَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ". وأجيبوا من قبل أهل المقالة الأولى فقالوا: حديث سعيد بن عبيد في تبدئة اليهود، وهْم عند أهل الحديث، فقد أخرجه النسائي وقال: لم يتابع سعيد في هذه الرِّواية فيما أعلم، وقد أسند حديث بُشير عن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدعين؛ يحيى بن سعيد وابن عيينة، وحماد بن زيد، وعبد الوهاب الثقفي وعيسى بن حماد، وبشر بن المفضل، فهؤلاء سبعة. وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد. قال أبو محمد الأصيلي: فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة، مع أن سعيد بن عبيد قال في حديثه: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من إبل الصدقة. والصدقة لا تعطى في الديات، ولا يصالح بها عن غير أهلها.
وحديث أبي داود مرسل فلا تعارض به الأحاديث الصحاح المتصلة.
وأجابوا عن التمسك بالأصل، بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدماء. قال ابن المنذر: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدَّعي واليمين على المدَّعى عليه، والحكم بظاهر ذلك واجب، إلَّا أن =
فَتُرَدُّ على المدَّعَى عَلَيْهِمْ فَيَحْلِفُ كُلٌّ خَمْسينَ، ومَنْ نَكلَ حُبِسَ حَتى يَحْلِفَ ولَا اسْتِعَانَةَ، وإنْ أكْذَبَ بَعْضٌ نَفْسَهُ، بَطَلَ، بِخِلَافِ عَفْوِهِ فَلِلْبَاقِي نصيبُهُ مِنَ الدِّيةِ، ولَا يُنَتَظرُ صَغِيرٌ بِخلافِ المُغْمَى عَلَيْهِ والمُبَرْسَم إلَّا أن لَا يوجَدَ غيْرُهُ فَيَحْلِفُ الكبيرُ حِصَّتَهُ. والصَّغيرُ مَعَهُ. وَوَجَبَ بها الدِّيةُ. في الْخَطإ والْقَوَدُ في الْعَمْدِ مِنْ وَاحِدٍ تَعَيَّنَ لَهَا، ومَنْ أقَامَ شَاهِدًا عَلى جُرْحٍ أو قَتْلِ كافِرٍ أوْ عَبْدٍ أوْ جَنِينٍ، حَلَفَ واحِدَةً وأخَذَ الدِّيةَ، وإنْ نَكَلَ بَرِئ الْجَارِحُ إنْ حَلَفَ وإلَّا حُبِسَ، فَلوْ قَالَتْ: دَمِي وجَنيني عِنْدَ فُلانٍ. فَفِيهَا القَسَامَةُ وَلا شَيْءَ في الجَنينِ وَلو اسْتَهَلَّ.
= يخص الله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حكمًا في شيء من الأشياء، فيُستثنى من جملة هذا الخبر.
فممَّا دل عليه الكتاب إلزام القاذف حدَّ المقذوف إذا لم يكن معه أربعة شهداء يشهدون له على صدق ما رمى به المقذوف. وخص من رمى زوجته بأن أسقط عنه الحد إذا شهد أربع شهادات. وممَّا خصَّته السنة حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة. وقد روى ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إلَّا في الْقَسَامَةِ". خرَّجه الدَّارقُطْنِي. قال القرطبي: وقد احتج مالك في موطئه لهذه المسألة بما فيه كفاية. قلت: وسوف أختم المبحث بإذن الله بما جاء في الموطإ. ثم إن القسامة إنما يوجبها اللوث ولابد منه، واللوث هو أمارة تجعل مدعي القتل يغلب على الظن صدقه، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل، وكأن يرى الميت يتشحط في دمه، والمتهم نحوه أو قربه وعليه آثار القتل، وقال مالك إن من اللوث قول المقتول: دمي عند فلان. أو قتلني فلان. واستدل على ذلك بقصة قتيل بني إسرائيل، وأبى ذلك الشافعي والبخاري وجماعة من العُلماء.
وقال أبو بكر بن العربي: اختلف في اللوث اختلَافًا كثيرًا؛ مشهور المذهب أنه الشاهد العدل، وقال محمد: هو أحب إليَّ، قال: وأخذ به ابن القاسم وابن عبد الحكم؛ وروي عن عبد الملك بن مروان أن المجروح أو المضروب إذا قال: دمي عند فلان. ومات، كانت القسامة. وبه قال مالك والليث بن سعد. فإن قيل: لا يقول مالك بالقسامة إلا باللوث فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فقد أجاب النسائي عن ذلك بأن مالكًا أنزل العداوة التي كانت بين الأنصار واليهود بمنزلة اللوث.
واختلف العُلماء أيضًا في وجوب القود بالقسامة، فقال طائفة بوجوب القود بها، منهم مالك بن أنس، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل وأبي ثور، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لحُويِّصة ومحيِّصة وعبد الرحمن:"أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ"؟ وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجلًا بالقسامة من بني نضر بن مالك. قال الدارقطني: نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيحة، وكذلك كان أبو عمر بن عبد البر يصحح حديث عمرو بن شعيب ويحتج به. وقال البخاري: رأيت عليَّ بن المديني وأحمد بن حنبل، والحميدي، وإسحاق بن راهويه يحتجون به، قاله الدَّارقُطْنِي في السنن.
وقالت طائفة: لا قود بالقسامة وإنما توجب الدية، روي هذا عن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما. وهو قول النخعي، والحسن، وإليه ذهب الثوري والكوفيون، والشافعي، وإسحاق، واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى بن عبد الله عن سهل بن أبي حيثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للأنصار:"إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ". لَالوا: وهذا يدل على الدية لا على القود، وأولوا لفظ الحديث الوارد بقوله صلى الله عليه وسلم:"وَتَسْتَحِقُّون دَمَ صَاحِبِكُمْ". قالوا معناه: دية دم صاحبكم لأن اليهود ليسوا بأصحاب لهم.
ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يمينًا لقوله صلى الله عليه وسلم لمحيّصة وحويّصة: "تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ". فإن كان المستحقون خمسين رجلًا أقسم كل واحد منهم يمينًا واحدة، فإن كانوا أقل من ذلك، أو نكل منهم من لا يجوز عفوه، ردت الأيمان عليهم بحسب عددهم. ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال، ولا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء، يحلف الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يمينًا. هذا مذهب مالك، والليث، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وداود.
والرواية الأخرى عن مالك رواها مطرف عنه أنه لا يحلف مع المدعى عليهم أحد، ويحلفون هم أنفسهم، كما لو كانوا واحدًا فأكثر خمسين يمينًا يبرئون بها أنفسهم. وبهذا يقول الشافعي، قال: ولا يقسم إلا وارث، كان القتل عمدًا أو خطأ. ولا يحلف على مال، ويستحقه إلا من له الملك لنفسه، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أو من جعل الله له الملك من الورثة. قال: والورثة يقسمون على قدر موارثيهم، وبه قال أبو ثور، واختاره ابن المنذر.
قال القرطبي: وهو الصحيح، لأن من لم يدَّع عليه لم يكن له سبب تتوجه عليه فيه يمين. ثم إن مقصود هذه الإيمان البراءة من الدعوى ولم يدَّع عليه شيء بريء أصلًا.
وقال مالك: في الخطإ يقسم فيها الواحد من الرجال والنساء، فمهما كانت خمسين يمينًا من واحد أو أكثر استحق الحالف ميراثه، ومن نكل لا يستحق شيئًا، وإن حضر الغائب حلف ما كان يجب عليه من الإيمان لو حضر بحسب ميراثه. هذا هو المشهور عن إمامنا مالك. وقد روي عنه أنه لا يرى في الخطإ قسامة.
قلت: وفاءً بما وعدت به من نقل ما استدل به مالك في الموطإ زيادة في الإِيضاح، قال مالك في الموطإ، بعدما سرد روايات حديث حويّصة ومحيّصة، قال: الأمر المجتمع عليه عندنا، والذي سمعت ممن أرضى في القسامة، والذي اجتمعت عليه الأمة في القديم والحديث، أن يبدأ بالأيمان المدَّعون في القسامة فيحلفون، وأن القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين: أن يقول المقتول: دمي عند فلان، أو يأتي أولياء الدم بلوث من بينة، وإن لم تكن قاطعة على الذي يدَّعى عليه الدم، فهذا يوجب القسامة لمدَّعي الدم على من ادَّعوه عليه. ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين الوجهين.
قال مالك: وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي لم يزل عليه عمل الناس أن المبتدئين بالقسامة أهل الدم والذين يدعونه في العمد والخطإ. قال مالك: وقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارثيين في قتل صاحبهم الذي قتل بخيبر، قال مالك، فإن حلف المدعون استحقوا دم صاحبهم وقتلوا من حلفوا عليه، ولا يقتل في القسامة إلا واحد، لا يقتل فيها اثنان؛ يحلف من ولاة الدم خمسون رجلًا خمسين يمينًا، فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الإيمان عليهم، إلا أن ينكل أحد من ولاةِ المقتول، ولاة الدم الذين يجوز لهم العفو عنه، فإن نكل أحدٌ من أولئك فلا سبيل إلى الدم إذا نكل أحد منهم، قال يحيى: قال مالك: وإنما ترد الإيمان على من بقي منهم إذا نكل أحد ممن لا يجوز لهم العفو عن الدم، فإن نكل أحد من ولاة الدم الذين يجوز لهم العفو عن الدم إن كان واحدًا، فإن الإيمان لا ترد على من بقي من ولاة الدم إذا نكل أحد منهم عن الإيمان، ولكن الإيمان عند ذلك ترد على المدَّعى عليهم، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فيحلف منهم خمسون رجلًا خمسين يمينًا، فإن لم يبلغوا خمسين رجلًا ردت الإيمان على من حلف منهم، فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعي عليه حلف هو خمسين يمينًا وبرئ. قال يحيى: قال مالك: وإنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق؛ لأن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه، والرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس، وإنما يلتمس الخلوة، قال: لو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة، ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق هلكت الدماء، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدَّؤون بها فيها ليكف الناس عن القتل، وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول.
قال يحيى: وقال مالك في القوم يكون لهم العدد يتهمون بالدم فتردُّ الإيمان عليهم وهم نَفَرٌ لهم عدد، إنه يحلف كل إنسان منهم على نفسه خمسين يمينًا، ولا تقطع الإيمان عليهم بقدر عددهم، ولا يبرَّؤُون دون أن يحلف كل إنسان منهم عن نفسه خمسين يمينًا، قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت في ذلك.
قال: والقسامة تصير إلى عصبة المقتول، وهم ولاةُ الدم الذين يقسمون عليه والذين يقتل بقسامتهم.
قال يحيى: قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أنه لا يحلف في القسامة في العمد أحد من النساء، وإن لم يكن للمقتول ولاة إلا النساء، فليس للنساء في قتل العمد قسامة ولا عفو. قال يحيى: قال مالك في الرجل يقتل عمدًا أنه إذا قام عصبة المقتول أو مواليه فقالوا: نحن نحلف ونستحق دم صاحبنا. فذلك لهم. قال مالك: فإن أراد النساء أن يعفون عنه فليس ذلك لهن، العصبة والموالي أولى بذلك منهن؛ لأنهم هم الذين استحقوا الدم وحلفوا عليه. قال مالك: وإن عفت العصبة أو الموالي بعد أن استحقوا الدم، وأبى النساء وقلن: لا ندع دم صاحبنا. فهن أحق وأولى بذلك، لأن من أخذ القود أحق ممن تركه من النساء والعصبة إذا ثبت الدم ووجب القتل. قال مالك: لا يقسم في قتل العمد من المدَّعين إلا اثنان فصاعدًا فترد الإيمان عليهما حتى يحلفا خمسين يمينًا ثم قد استحقا الدم، وذلك الأمر عندنا. قال مالك: وإذا ضرب النفر الرجل حتى يموت تحت أيديهم قتلوا به جميعًا، فإن هو مات بعد ضربهم كانت القسامة، وإن كانت القسامة لم تكن إلا على رجل واحد ولم يقتل غيره، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولم نعلم قسامة كانت قط إلا على رجل واحد.
وقال مالك: والقسامة في قتل الخطإ، يقسم الذين يدَّعون الدم ويستحقون بقسامتهم، يحلفون خمسين يمينًا تكون على قسم مواريثهم من الدية، فإن كان في الإيمان كسور إذا قسمت بينهم، نظر إلى الذي يكون عليه أكثر تلك الإيمان إذا قسمت، فتجبر عليه تلك اليمين. قال مالك: فإن لم يكن للمقتول ورثة إلَّا النساء فإنهنَّ يحلفن ويأخذن الدية، فإن لم يكن له وارث إلا رجل واحد حلف خمسين يمينًا وأخذ الدية، وإنما يكون ذلك في قتل الخطإ، ولا يكون في قتل العمد. انتهى من الموطإ. والله ولي التوفيق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كتاب الجنايات الموجبة للعقوبة
قال المواق: والجنايات الموجبة للعقوبة سبع: البَغْيُ: والرِّدَّةُ، والزِّنا، والْقَذْفُ، والسَّرِقَةُ، والحِرَابَةُ، والشِّرْبُ.
أحكام الباغية
وقال الحطاب: لما فرغ رحمه الله من الكلام على القتل والجرح اللذين يكون عنهما إذهاب النفس، الذي هو من أعظم الذنوب في حق الآدميين، أتبع ذلك بالكلام على الجنايات التي توجب سفك الدماء أو ما دونه من العقوبات. والجناية هي ما يحدثه الرجل على نفسه أو على غيره مما يضر حالًا أو مآلًا. قال: وبدأ المُصَنِّف بالبغي لأنه أعظمها مفسدة؛ إذ فيه إذهاب الأنفس والأموال غالبًا.
فقال: باب، أي هذا باب أذكر فيه أحكام البغي، ومعناه في اللغة التعدي. قال ابن العربي في أحكام القرآن: إن مادة (ب غ ي) للطلب إلا أنه في العرف مقصور على طلب خاص؛ وهو ابتغاء ما لا ينبغي ابتغاؤه. وهو في الاصطلاح عرفه ابن عرفة بأنه الامتناع من طاعة من ثبتت إمامته، في غير معصية، بمغالبة ولو تأوُّلًا.
ولقد حملني ما نشره بعض من يرى نفسه الداعية الإِسلامي الناجح في كتاب أسماه "مستقبل الإِسلام خارج أرضه كيف نفكر فيه؟ "على أن آتي قبل أن أتكلم على الباغية، بأدلة وجوب طاعة أولياء الأمور من الكتاب والسنة وفتاوى علماء الأمة.
لقد حملني الفضول على تناول هذا الكتاب من أحد الأصدقاء، وبوازع من حب الاستطلاع استهوتني حكاية بدأ بها لإِسلام بعض الفرنسيين، فإذا به يتهجم على بعض شراح الحديث والمفسرين، بما أستطيع القول بأنه تحريض على الفوضى وتشجيع على الخروج على أولياء الأمور، يقول مؤلف هذا الكتاب في ص 62 - بعد ما تهجم على شارح قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهوَ شَهِيدُ". قالوا: ولا يجب الدفاع عن المال! بل يجوز له أن يتظلم! إلا أن علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان (!) للآثار الواردة بالصبر على جوره فلا يجوز دفاعه عن أخذ المال .. ثم قال: أرأيت إلى أين يتجه الشارع وإلى أين يتجه الشارح؟ لست أشك في أن هذه الروح دفعت إليها الرهبة الجبانة، وأن إرسالها =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= على هذا النحو خدم الملوك الجورة والسلاطين المستبدين، وأتاح لهم فرض ما يشاؤون من الضرائب، ومصادرة ما يشاؤون من أملاك، دون تهيب مقاومة أو توجس عصيان. ورياضة الجماهير على قبول الضيم بفتوى شرعية (!) أفقد الشعوب ملكة الشجاعة، ووطأ ظهرها للاستعمار الخارجي، وكان ذلك يقع في البلاد الإِسلامية في الوقت الذي كانت الأمم الأخرى تصرخ بالدفاع عن الدم والعرض والمال، وتشرع الدساتير التي تقرر ذلك". انتهى بعض ما نقلته من كتابه، والذي فهمت منه أنه تحريض على الفوضى ونبذ طاعة أولياء الأمور، وحيث إن هذا المغرور يغتر كثير من بسطاء طلبة العلم بكتاباته، فقد رأيت إلفات الأنظار إلى بطلان مقصده، بجلب ما أمكن من الدليل على وجوب طاعة الوالي، وقد تزكت العجر والبجر من كلامه، إذ المقصود ليس الرد عليه وإلا فقد أفتى بإباحة لحوم الكلاب، وبأنه لا يقع إيجاب ولا تحريم إلا بنص قاطع
…
إلى غير ذلك من سقطاته.
أقول، وبالله تعالى توفيقي: قال الله تعالى في سورة النساء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
(1)
. قال أبو هريرة: هم الأمراء، قال ابن الجوزي: وقد صوّب الإِمام أبو جعفر الطبري في جامع البيان قول من قال: هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة.
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أطَاعَني فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ الْإِمَامَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ عَصَى الْإِمَامَ فَقَدْ عَصَانِي". قال البغوي: حديث متفق على صحته.
وفِي رواية أخرى عن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصنِي، فَقَدْ عَصَى اللَهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصَ الْأمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي". قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته. أخرجاه من طرق عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: "إِسْمَعْ وَأَطِعْ وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأسَهُ زَبِيبَةٌ". قال البغوي: هذا حديث متفق عليه، أخرجه محمد عن مسدد، عن يحيى عن شعبة وأخرجه مسلم من =
(1)
سورة النساء: 59.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= طريق أبي ذر قال: أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا مجدَّع الأطراف.
وعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في اليُسْرِ، والعُسْرِ، والمَنْشَطِ، والمَكْرَهِ، وأن لا نُنَازِعَ الأمر أهْلَهُ، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثُما كُنَّا، لا نخافُ في الله لومة لائم.
قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته. أخرجه محمد بن إسماعيل عن مالك، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن إدريس، عن يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر. وعن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعنا، فقال فيما أخذ علينا أنْ بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا، ومكرهنا، وعُسْرنَا، ويُسْرِنَا، وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن ترَوْا كفْرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان.
قال البغوي: هذا حديث متفق عليه، أخرجه مسلم عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم، عن عمه عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث.
قلت: وأخرجه البخاري في الفتن، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُوَنَها".
وعن ابن عباس يرويه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَيمُوتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته.
وعن أمِّ سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ". قالوا: أفلا نقتلهم؟ قال: "لَا، مَا صَلَّوْا. لا، مَا صَلَّوْا". قال البغوي: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن حسن بن الربيع البجلي، عن ابن المبارك، عن هشام، عن الحسن، ويروى:"فَمَنْ أَنْكَرَ بِلِسَانِهِ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ" وروي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن وُلِّيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ". قال شعيب: رواه الإمام أَحمد في المسند، ورواه مسلم.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ فَارَق الْجَمَاعَةَ وَخَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فَمَاتَ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي بِسَيْفِهِ يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، لَا يُحَاشِي مُؤْمِنًا لإِيمَانِهِ، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ بِعَهْدِهِ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ، أَوْ يُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ، أوْ يَدْعُو إِلَى الْعَصَبَةِ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ". قال البغوي: هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ، عن جرير بن حازم، عن غيلان بن جرير، وأخرجه عن عبيد الله القواريري، عن حمَّاد بن زيد، عن أيوب.
وروى الأعمش: حدثنا زيد بن وهب، قال: سمعت عبد الله قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا". قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ". قال البغوي: هذا حديث متفق عليه. أخرجه مسلم عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، عن الأعمش. وأخرجه البخاري في الفتن. قاله شعيب.
وصح عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه، قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا؟ قال:"إسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا، وَعَلَيْكمْ مَا حُمِّلْتُمْ". هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه في الإِمارة، باب في طاعة الإِمارة، وإن منعوا الحقوق قاله شعيب.
وقال حذيفة: ما مشى قوم إلى سلطان الله في الأرض ليذلُّوه إلَّا أذلهم الله قبل أن يموتوا. ويروى مرفوعًا بإسناد غريب عن أبي بكرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللهِ فِي الْأرْضِ أَهَانَهُ اللهُ". قال شعيب: أخرجه الترمذي في الفتن، وفي سنده مقال.
وعن عرفجة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ، فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ".
قال البغوي: هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن محمد بن بشار، عن غُندر، عن شعبة، عن زياد بن علاقة.
أسمعت! يا من تحرض على العصيان على أولياء الأمور بقولك: "وأتاح لهم فرض ما يشاؤون من ضرائب، ومصادرة ما يشاؤون من أملاك دون تهيب مقاومة أو توجس عصيان. ورياضة الجماهير على قبول الضيم بفتوى شرعية (!) أفقدت الشعوب ملكة الشجاعة". ولعلك إن وقفت على هذا تعلم أن أهل الحديث على حق إذا كانوا كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالصبر على جوره.
كتاب الباغية
بَابٌ: الْبَاغِيَةُ فِرْقَةٌ خَالَفَتْ الإمَامَ لمَنْعِ حَقٍّ أوْ لِخَلْعِهِ (1)، فَلِلإِمَامِ الْعَدْلِ قِتَالُهُمْ، وإنْ تَأوَّلُوا، كَالكُفَّارِ (2)، ولَا يُسْتَرَقُوا، ولا يُحْرَقُ شَجَرُهُمْ، وَلَا تُرْفَعُ رُووسُهُمْ بأرْمَاحٍ (3)، ولَا يَدَعُوهُمْ بِمَالٍ، واسْتُعِينَ بِمَالهِمْ عَليْهِمْ إِنِ احْتيجَ لَهُ، ثُمَّ رُدَّ (4) كغَيْرهِ. وَإنْ أُمِنُوا لَمْ يُتَّبَعْ مُنْهَزِمُهُمْ، وَلَمْ يُذَفَّفْ عَلى جَرِيحِهِمْ (5)؛ وكُرهَ لِلرَّجُلِ قَتْلُ أبِيهِ، وَوَرِثَهُ (6)، ولَمْ يَضْمَنْ مُتأوِّلٌ أتْلَفَ نَفْسًا أوْ مَالًا (7). ومَضَى حُكْمُ قاضِيهِ وحَدٌّ أقَامَهُ (8)، ورُدَّ ذمِّيٌّ مَعَهُ لِذمَّتِهِ، وضَمِنَ المُعَانِدُ النَّفْسَ والْمَال، والذِّمِّيُ مَعَهُ نَاقِضٌ، والمرأةُ المقاتلَةُ كالرجّل.
(1)
قوله: الباغية فرقة خالفت الإِمام لمنع حق أو لخلعه. قال ابن قدامة: الأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
(1)
. الحجرات.
قال ابن قدامة: هذه الآية فيها خمس فوائد:
أولًا: إنهم لم يخرجهم البغي عن الإِيمان، فإن الله سماهم مؤمنين.
الثانية: أنه أوجب قتالهم.
الثالثة: أنه أسقط قتالهم إذا فاؤوا إلى أمر الله.
الرابعة: أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم.
الخامسة: أن الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقًا عليه. ا. هـ.
ومن أصول هذا الباب إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على قتال البغاة، فإن أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة، وقاتل عليّ رضي الله عنه أهل الجمل وأهل صفين وأهل النهروان. قال القرطبي في تفسير آية الحجرات المتقدمة: في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية، المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين. وفيها دليل أيضًا على فساد مذهب من منع من قتال المسلمين مستدلًا =
(1)
سورة الحجرات: 9، 10.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بقوله عليه السلام: "قِتَالُ الْمُومِنِ كُفْرٌ". قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة رضوان الله عليهم، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة، وإياها عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"وَيْحُ عَمَّارٍ تَقْتلُة الْفِئَة الْبَاغِيَةُ". وقوله عليه الصلاة والسلام في شأن الخوارج: "يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فِرْقَةٍ أَوْ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ". قال: والرواية الأولى أصح لقوله عليه الصلاة والسلام: "تَقْتُلُهُمْ أُولَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ". وكان الذي قتلهم علي بن أبي طالب ومن كان معه. فتقرر عند علماء المسلمين، وثبت بدليل الدين أن عليًا رضي الله عنه كان إمامًا، وأن كل من خرج عليه باغٍ واجب قتاله حتى يفيء إلى أمر الله. لأن عثمان رضي الله عنه قتل والصحابة برآء من دمه، فقد منع من قتال من ثار عليه وقال: لا أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة، وفدى بنفسه الأمة. فلما بويع عليّ طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن في قتلة عثمان وأخذ القود منهم، فقال لهم عليّ رضي الله عنهم: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه. فقالوا: لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك، تراهم صباح مساء. فكان عليّ في ذلك أسدٌ رأيًا وأصوب قيلًا؛ لأن عليًا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربًا ثالثة، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم فيجري القضاء بالحق.
فقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}
(1)
. أمر بالقتال، وهو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلف قوم من الصحابة رضي الله عنهم عن هذه الحرب كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، ومحمد بن مسلمة. وغيرهم.
وصوّب ذلك عليّ بن أبي طالب لهم، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه.
قال ابن قدامة: وجملة الأمر أن من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته، ووجبت معونته؛ لما ذكرنا من الحديث والإِجماع، وفي معناه من ثبتت إمامته بعهد النبي صلى الله عليه وسلم أو بعهد إمام قبله إليه، فإن أبا بكر ثبتت إمامته بإجماع الصحابة على بيعته، وعمر ثبتت إمامته يعهد أبي بكر إليه، وأجمع الصحابة على قبوله.
ولو خرج رجل على الإِمام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته وتابعوه، صار إمامًا=
(1)
سورة الحجرات: 9.
. . . . . . . . . . . . . . . . .
= يحرم قتاله والخروج عليه، فإن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعًا وكرهًا فصار إمامًا يحرم الخروج عليه، وذلك لما في الخروج على الإِمام من شق عصا المسلمين، وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم، فإن الخارج على مثل هذا يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام:"مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي وَهُمْ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ". فمن خرج على من ثبتت إمامته بأحد هذه الوجوه، باغيًا، وجب قتاله.
(2)
وقوله: فللعدل قتالهم وإن تأوَّلوا، كالكفار، يريد به، والله أعلم، فللإِمام العدل قتال أهل البغي وإن تأولوا في خروجهم عليه، والحجة في ذلك قتال الخليفة أبي بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، وكان بعضهم متأولًا انقضاء وجوبها بموته صلى الله عليه وسلم، أخذًا من قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}
(1)
وكان بعضهم متأولًا بأن إمامته رضي الله عنه لم تثبت لزعمه أنه صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي رضي الله عنه بالخلافة. كذا قال في جواهر الإكليل. قال: يقاتلون كقتال الكفار المحاربين للمسلمين في كونه بالسيف وبالنبل وبالمنجنيق وبالتغريق والتحريق إذا لم يكن معهم ذرية، وذلك بعد دعوتهم للدخول تحت طاعة الإمام وموافقة جماعة المسلمين.
والمعول في ذلك على قوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}
(2)
قالوا: لا يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم من يسألهم ويكشف لهم الصَّواب، إلا أن يخاف شرهم، فلا يمكن ذلك في حقهم، فأمَّا إن أمكن تعريفهم عرفهم ذلك، وأزال ما يذكرونه من المظالم وقطع حججهم، فإن لجُّوا قاتلهم حينئذ، لأن الله تعالى في الآية بدأ بالأمر بالإصلاح قبل القتال.
وروي أن عليًا رضي الله عنه راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل، وأمر أصحابه أن لا يبدؤوهم بالقتال. وروى عبد الله بن شداد بن الهادي أن عليا رضي الله عنه لما اعتزله الحرورية، بعث إلهم عبد الله بن عباس فباحثهم على كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف.
فإن أبوا الرجوع وعظهم وخوفهم القتال، وإنما كان ذلك، لأن المقصود كفهم ودفع شرهم، لا قتلهم، فإذا أمكن بمجرد القول كان أولى من القتال، لما فيه من الضرر بالفريقين. =
(1)
سورة التوبة: 103.
(2)
سورة الحجرات: 9.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (3) وقوله: ولا يسترقّوا ولا يحرق شجرهم ولا ترفع رؤوسهم بأرماح ألخ. قال المواق: ويفترق قتالهم من قتال الكفار بأحد عشر وجهًا:
إنه يقصد بالقتال ردعهم، لا قتلهم - وأنه يكف عن مدبرهم - وأنه لا يجهز على جريحهم - وأنه لا يقتل أسراهم - وأنه لا تغنم أموالهم - وأنه لا تنصب عليهم الرعادات - وأنه لا تحرق بيوتهم ولا تقطع أشجارهم - وأنه لا يدعهم على مال.
قال: ويفترق أيضًا قتالهم من قتال المحاربين، بأن البغاة لا يطالبون بما استهلكوه من دم ومال، وما أخذوه من خراج وزكاة، وسقطت عمن كانت عليه.
(4)
وقوله: واستعين بمالهم عليهم إن احتيج له ثم رد، قال المواق: قال عبد الملك: ما أصاب الإِمام من عسكر أهل البغي من كراع أو سلاح فإن كانت لهم فئة قائمة، فلا بأس أن يستعين به الإمام ومن معه على قتالهم، إن احتاجوا إليه، فإن زالت الحرب رد لأهله كغيره، أي وغير السلاح والكراع توقف حتى ترد إليهم، قال: وإن لم تكن لهم فئة قائمة رد ذلك من سلاح وغيره، كما فعله عليّ رضي الله عنه.
(5)
وقوله: وإن أمنوا لم يتبع منهزمهم ولم يذفف على جريحهم، ذلك لما روي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل: لا يذفف على جريح ولا يهتك ستر، ولا يفتح باب، ومن أغلق بابه فهو آمن، ولا يتبع مدبر. وقد روي نحو ذلك عن عمار.
قال ابن قدامة: وقد ذكر القاضي في شرحه عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى مِنْ أُمَّتِي؟ " قال: الله ورسوله أعلم، فقال:"لَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُقْسَمُ فَيْئُهُمْ". ا. هـ. وكتب المعلق على مغني ابن قدامة - أعني المشرف على الطبعة التي بيدي ما نصه: أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: "يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى مِنْ أُمَّتِي"؟ قال: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَا يُتْبَعُ مُدْبِرهُمْ، وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ".
(6)
وقوله: وكره للرجل قتل أبيه وورثه، قال سحنون: ولا بأس أَن يقتل الرجل في قتالهم أخاه وذا قرابته، أما الأب وحده فلا أحب قتله تعمدًا، وكذلك الأب الكافر. وقال ابن قدامة: كرهت طائفة من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أهل العلم القصد إلى ذلك وهو أصح إن شاء اللهُ؛ لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}
(1)
.
قال: وقال الشافعي: إن النبي صلى الله عليه وسلم كفَّ أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه ا. هـ. فإن قتله، قال المصنف: يرثه، وذلك لأنه قتل بحق ولم يكن عدوانًا، فلم يمنع الميراث كالقصاص. ومذهب الشافعي أنه إن قتل قريبه لا يرثه لنص الحديث:"لَيْسَ لِقَاتِل شَيْءٌ". أخرجه الموطأ وابن ماجة وأحمد عن عمر.
قلت: وهو نكرة في سباق النفي؛ فهي عامة في كل قاتل بإذن الله كما تفيده الصناعة الأصولية. وبالله تعالى التوفيق.
(7)
وقوله: ولم يضمن متأول أتلف نفسًا ومالًا، قال في المدونة: والخوارج إذا خرجوا فأصابوا الدماء والأموال، ثم تابوا ورجعوا، وضعت الدماء عنهم، ويؤخذ منهم ما وجد بأيديهم من مال بعينه، وما استهلكوه لم يتبعوا به ولو كانوا أملياء لأنهم متأولون، بخلاف المحاربين. ا. هـ. المواق. والأصل في ذلك أن عليًّا رضي الله عنه لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم ليء مما جبوْه، وذكر ابن قدامة أن ابن عمر كان إذا أتاه ساعي نجدة الحروري دفع إليه زكاته، قال: وكذلك سلمة بن الأكوع. ا. هـ.
(8)
وقوله: ومضى حكم قاضيه وحدٌّ أقامه، قال المواق: إن ولى البغاة قاضيًا وأخذوا زكاة وأقاموا حدًا، فقال الأخوان ينفذ ذلك كله، وقال ابن القاسم: لا يجوز، وقال ابن عرفة: قال ابن عبد السلام: ظاهر المذهب إمضاء ذلك، ونص المدونة: ما أخذوه من الزكاة تجزئ عن أربابها. ا. هـ. منه.
وبهذا قال الإمام أحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة لا يجوز قضاؤه لأن أهل البغي يفسقون ببغيهم والفسق ينافي القضاء.
وقال البغوي: إذا استولى أهل البغي على بلد فأخذوا صدقات أهلها، لا يثنى عليهم، وينفذ قضاء قاضيهم، وتقبل شهادة عدولهم. قال: وإنما تثبت هذه الأحكام في حقهم باجتماع ثلاثة شروط: أحدها: أن تكون لهم قوة ومنعة. الثاني: أن يكون لهم تأويل محتمل. الثالث: أن ينصبوا إمامًا بينهم. فلو فقد شرط من هذه الشروط، فهم كقطاع الطريق في المؤاخذة بضمان ما أتلفوا ورد قضائهم، وجرح شاهدهم.
تنبيهٌ: أهل البغي المتأولون مؤمنون بدليل الآية: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ =
(1)
سورة لقمان: 15.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أَخَوَيْكُمْ}
(1)
وسئل عليّ رضي الله عنه عن أهل النهروان، أمشركون هم؟ فقال: من الشرك فرُّوا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلًا، قيل: فما هم؟ قال إخواننا بغوا علينا، فقاتلناهم.
فائدة: نسب الحطاب للقرطبي في شرح مسلم أن البيعة مأخوذة من البيع، وذلك أن المبايع للامام يجب أن يقيه بنفسه وماله، فكأنه بذل نفسه وماله لله تعالى، وقد وعد الله تعالى على ذلك بالجنة، فكأنه حصلت معاوضة. ثم هي - أي البيعة - واجبة على كل مسلمٍ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَة، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" غير أنه من كان من أهل الحل والعقد والشهرة فبيعته بالقول والمباشرة باليد إن كان حاضرًا، أو بالقول والإِشهاد عليه إن كان غائبًا. قال: ويكفي من لا يؤبه به ولا يعرف، أن يعتقد دخوله تحت طاعة الإِمام وأن يسمع ويطيع له في السر والجهر، وأن لا يعتقد خلاف ذلك، فإن أضمر خلافًا لذلك فمات، مات ميتة جاهلية.
قلت: لا أعلم بيعة في الإِسلام تلزم وتعتبر شرعًا إلا هذه: بيعة الإِمام على السمع والطاعة، في اليسر والعسر، والمنشط، والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.
ترى! فما هي هذه البيعة التي يأخذها شيخ الصوفية على مريديه؛ أيعتبر نفسه إمامًا خارجًا عن طاعة الإِمام الذي له البيعة ببلده؛ أم أنه يعتبرها بيعة إسلام؟! أي أنه يعتبر كل من لم يأخذ بورده خارجًا عن الإِسلام حتى يسلم ويبايعه على ذلك. لأنه لا توجد بيعة شرعية سوى بيعة الإِمام، غير هذه التي يلزم بموجبها الولاء، ينسب بموجبه المبايع إلى من بايعه على الإِسلام كأن يقال مثلًا: الجعفي مولاهم.
تتمة: لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، لأنهم كلهم اجتهد فيما فعله وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بالكف عما شجر بينهم، وأن لا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، ولأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. ولقد سئل بعض السلف عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ =
(1)
سورة الحجرات: 10.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(1)
وسئل آخر من السلف نفس السؤال فقال: تلك حروب طهر الله منها سيفي فلا أدنس بها لساني، وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال: قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا، وجهلنا، واجتمعوا، فاتبعنا، واختلفوا، فوقفنا. ا. هـ. فالذي ينبغي أن نعلم أن القوم كانوا أعلم منا بما دخلوا فيه وأتقى لله، فلنتبع ما اجتمعوا عليه، ولنتوقف عما اختلفوا فيه، ولا نبتدع رأيًا من عندنا. ا. هـ. والله الموفق.
(1)
سورة البقرة: 134.
كتاب الردة
بَابٌ: الردَّةُ كُفْرُ المُسْلِمِ بصَرِيحٍ أوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ (1)، أوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ، كَإلْقَاءِ مُصْحَفٍ بِقَذَرٍ وشدِّ زُنَّارٍ (2)، وسِحْرٍ (3)، وقَوْلٍ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بَقَائِهِ أوْ شَكٍّ في ذلِك، أو بتَنَاسُخِ الأرْواحِ أوْ في كُلِّ جِنْسٍ نَذِيرٌ، أَوِ ادَّعَى شرْكا مَعَ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم، أو بِمُحَاربَةِ نَبِيٍّ أوْ جَوَّزَ اكْتِسَابَ النُّبُوَّةِ أو ادَّعى أنَّه يَصْعَدُ للسَّمَاءِ، أو يُعَانِقُ الحُورَ أو اسْتَحَلَّ كالشِّرْبِ (4)، لا بِأماتَهُ اللّه كَافِرًا عَلى الأصَحِّ، وفُصِّلَتْ الشَّهَادَةُ فِيهِ. واستُتِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَا جُوع وعَطَشٍ وَمُعَاقَبَةٍ وإنْ لَمْ يَتبْ، فإنْ تَاب وإِلَّا قُتِلَ (5)، واستُبْرِئتْ بِحْيضَةٍ (6)، ومَالُ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وإلَّا فَفَيْءٌ، وبَقِيَ وَلَدُهُ مُسْلمًا كأنْ تُرِكَ وأُخِذَ مِنْهُ مَا جنَى عَمْدًا على عَبْدٍ أوْ ذِمِّيٍّ لا حُرٍّ مُسْلِمٍ، كأن هَرَبَ لِدَار الْحرْبِ (7) إلَّا حَدًا لفِرْيَةِ والْخَطأُ على بَيْتِ الْمَالِ، كأخْذِهِ جِنَايةً عَلَيْهِ، وإِنْ تَابَ فَمَالُهُ لَهُ، وقُدِّرِ كالْمُسْلِم فِيهمَا، وقُتِلَ المُسْتَسِرُّ بِلَا اسْتِتابَةٍ، إلَّا أنْ يَجيءَ تَائبًا وماله لِوَارِثهِ (8) وقُبِلَ عُذْرُ مَنْ أَسْلَمَ وقال: أسْلَمْتُ عَنْ ضِيقٍ إن ظهَرَ كأن تَوَضَّأ وَصَلَّى وأعَادَ مَأمُومُه وأُدِّبَ مَنْ تَشَهَّدَ وَلم يُوقَفْ عَلى الدَّعَائِمِ، كسَاحِرٍ ذِمِّيٍّ إنْ لَمْ يُدْخِلْ ضَرَرًا على مُسْلِم وأسْقَطَتْ صَلاةً وصِيامًا وزكاةً وحجًّا تَقَدَّمَ ونَذْرًا وكفَّارَةً ويَمِينًا باللهِ أو بعِتْقٍ أو ظِهَارٍ، وإحْصَانًا وَوَصيَّةً لَا طَلَاقًا، وَرِدَّةُ مُحَلَّلٍ بِخِلَافِ رِدَّةِ المرأة (9)، وأُقِرَّ كَافِرٌ انْتَقَلَ لِكُفْر آخَرَ (10)، وحُكِمَ بإسْلَامِ مَنْ لمْ يُميِّزْ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ بإسْلَامِ أبيهِ فَقَط كأنْ مَيَّزَ، إلَّا المُراهِقَ والمتْرُوكَ لَهَا فلَا يُجْبَرُ بِقَتْلٍ إن امْتَنَعَ وَوُقِفَ إرثَهُ، ولإِسْلَامِ سَابِيهِ إن لَمْ يكن مَعَهُ أبوهُ، والمتَنَصِّرُ من كأسِير على الطّوْعِ إن لم يثبُتْ إكْرَاهُهُ. وإنْ سَبَّ نَبِيًّا أو مَلكًا أوْ عَرَّضَ أو لَعَنَهُ أو عَابَهُ أو قَذفَهُ أوْ اسْتَخَفَّ بِحَقِّهِ أوْ غَيَّرَ صِفَتَهُ أوْ ألْحَقَ بِهِ نَقْصًا وإنْ في =
بَدَنِهِ أوْ خَصْلَتِهِ أو غَضَّ مِن مَرْتَبَتِهِ أو وفُورِ عِلْمِهِ أوْ زهْدِهِ أوْ أضَافَ لَهُ مَا لَا يَجوزُ عَلَيْهِ أو نسب إلَيْهِ ما لا يَليقُ بِمَنْصِبِهِ عَلى طريق الذَّمِّ أوْ قيلَ لَهُ بِحَقِّ رسُولِ اللهِ فَلَعَنَ وقَال أرَدْتُ العَقْرَبَ، قُتِلَ وَلَمْ يُسْتَتَبْ حَدًّا (11) إلَّا أنْ يُسْلِمَ الْكَافِرُ (12)، وإنْ ظَهَرَ أنَّهُ لَمْ يُردْ ذَمَّهُ لِجَهْلٍ أوْ سُكْرٍ أو تَهَوُّرٍ، وفيمنَ قَال لَا صَلَّى اللّهُ عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ جَوابًا لِصَلِّ، أَوْ قال: الأنبياءُ يتَّهَمُونَ جَوَابًا لِتَتَّهِمُنِي، أو جَميعُ الْبَشَرَ يَلْحَقُهُمُ النَّقْصُ حَتَّى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قولَانِ. وَاسْتُتِيبَ في هُزِمَ أو أعْلَنَ بِتَكْذِيبهِ أوْ تَنَبَّأَ إلَّا أنْ يُسِرَّ عَلى الأظْهَرِ، وأُدِّبَ اجْتِهَادًا في أدِّ واشْكُ لِلنَّبِيِّ، أوْ لَوْ سَبَّنِي مَلَكٌ لَسَبَبْتُهُ، أو يا ابْنَ ألْفِ كَلْبٍ أوْ خِنْزير أو عُيِّرَ بالفَقْرِ، فَقَال: تُعَيِّرُنِي بهِ والنبيُّ قَدْ رَعَى الغَنَمَ. أو قَالَ لِغَضبَانَ كأنَّه وجْهُ مُنكَرٍ أو مَالِكٍ أو اسْتَشْهَدَ ببَعْضِ جَائزٍ عَلَيْهِ في الدنيا حُجَّةً لَهُ أوْ لِغَيْرِهِ أوْ شَبَّهَ لِنَقْصٍ لَحِقَهُ لَا عَلى التَّأَسِّي، كأن كُذِّبْتُ فَقَدْ كُذِّبُوا أو لَعَنَ الْعَرَبَ أوْ بني هاشِمٍ وقَال أرَدْتُ الظَّالمينَ، وشُدِّدَ عَلَيهِ في كُلِّ صَاحِبِ فُنْدُقٍ قَرْنَانَ ولو كانَ نَبِيًّا، وفي قَبيح لأحَدِ ذُرِّيته صلى الله عليه وسلم مَعَ الْعِلْمِ بِهِ كأنْ انْتَسَبَ لَهُ أو احْتَمَلَ قَوْله أو شَهِدَ عَلَيْهِ عَدْلٌ أو لَفيفٌ فَعَاق عَنِ الْقَتْل أوْ سَبَّ مَنْ لم يُجْمَعْ على نبُوَّتِهِ أو صَحَابِيًّا وسَبُّ اللَّهِ كَذلكَ وفي اسْتتابةِ المُسْلِم خِلَافٌ (13) كمن قالَ: لَقيتُ في مَرضي مَا لَوْ قَتلْتُ أبا بكر وَعُمَرَ لم اسْتَوْجِبْهُ.
الكلام على الردة
قال ابن شأس، فيما نقل عنه المواق: الردة هي الجناية الثانية - نسأل الله تعالى العصمة منها ومن سائر الكبائر، وأن يتوفانا مسلمين - قال: والنظر في حقيقتها وحكمها. ا. هـ.
قال ابن قدامة: المرتد هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر، قال الله تعالى في سورة البقرة: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1)
.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ". رواه البخاري، وأبو داود. وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد عن الإِسلام، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، ومعاذ، وأبي موسى، وابن عباس، وخالد، وغيرهم، فلم ينكر ذلك فكان إجماعًا. انتهى.
(1)
قوله: الردة كفر المسلم بصريح أو لفظ يقتضيه، قال ابن شأس ظهور الردة إما بالتصريح بالكفر إما أن يقول قولًا يقتضيه، ومثل له ابن عرفة بإنكار غير حديث العهد بالكفر، أمرًا يعلم وجوبه بالضرورة.
(2)
وقوله: أو فعل يتضمنه كإلقاء مصحف بقذر وشد زنَّار، وكسجوده لصنم، وكتردده على كنائسهم بزيهم في أيام أعيادهم، وكأن يرمي المصحف بشيء مستقذر ولو طاهرًا كبصاق مثلًا، ومثل إلقائه به تلطيخه له؛ أو تركه به مع القدرة على رفعه منه، لأن القاعدة أن الدوام كالابتداء. قال في جواهر الإِكليل: وكالمصحف جزؤه، والحديث النبوي الشريف، والحديث القدسي، وأسماء الله الحسنى، وأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قلت: لا يختلف اثنان على أن الريق المعروف باللغة المستعملة بالمشرق "بالتفلان"، لا يختلف اثنان على أنه قذر مستقذر، فإن كان المرء لا يستقذر ريقه هو لنفسه، فإنه بدون شك يستقذر ريق غيره، لذلك، فإنه لا ينقضي عجبي مما هو كالمتفق عليه في سائر المشرق، وخصوصًا بالجزيرة العربية، من قلب أوراق المصحف الشريف بالريق، وكنت ظننت، وذلك بحسن الظن، أنه ما وقع هذا الاتفاق الفعلي على قلب أوراق المصحف بالريق، إلا أن السادة الحنابلة يفتون بذلك في كتبهم، غير أني، حتى الآن، لم أقف على قول واحد بذلك عنهم. ولعله فيما لم أقف عليه من كتبهم، والذي أستطيع أن أقول: إن ذلك عمل قبيح، ينزه المصحف الشريف عنه، والمرء في ذلك مدعو أن ينظر في نفسه؛ هل يرضى أن يقوم أنظف الناس ريقًا بجعل ريقه على حُر وجهه؟ فإذا كان يربأ بوجهه المخلوق عن ذلك، فكيف يرضى به لكتاب الله؟.
(1)
سورة البقرة: 217.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (3) وقوله: وسحر، نسب المواق لمحمد، قال: قول مالك وأصحابه: إن الساحر كافر بالله، قال مالك: هو كالزنديق، إذا عمل السحر بنفسه، قتل ولم يستتب، ومن لم يباشر عمل السحر وجعل من يعمله له، ففي الموازية يؤدب أدبًا شديدًا، قال المواق: يريد ويثبت ذلك عن الإِمام؛ لأنه معنى يجب به القتل، فلا يحكم به إلا بعد ثبوته وتحقيقه، كسائر ما يجب به القتل.
وقال ابن قدامة: السحر هو عُقَدٌ ورُقىً وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئًا يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه، أو عقله، من غير مباشرة له، وله حقيقة، فمنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه من وطئها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، ومنه ما يبغض أحدهما إلى الآخر، ومنه ما يحبب بينهما، والدليل على أن للسحر حقيقة أن الله تعالى أمرنا بالاستعاذة منه بقوله تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}
(1)
. يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن، وينفثن عليه. وقال تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}
(2)
، ذكر أبو عبد الله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن، أن سبب نزول هذه الآية، أن اليهود عارضت محمدًا صلى الله عليه وسلم بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت ومارِوت. وقال ابن إسحاق: لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين، قال بعض أحبارهم: يزعم محمد أن ابن داود كان نبيًا، والله ما كان إلا ساحرًا. فأنزل الله تعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} . فقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} تبرئة من الله تعالى سليمان، ولم يتقدم في الآية أن أحدًا نسبه إلى الكفر، ولكن اليهود نسبته إلى السحر، فلما كان السحر كفرًا صار من نسبه إلى السحر بمنزلة من نسبه إلى الكفر. ثم قال تعالى:{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} . فأثبت كفرهم بتعليم السحر، فقوله:{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر} في موضع نصب على الحال، ويمكن أيضًا أن تكون في موضع رفع على الخبرية، على أنه خبر ثان.
قال: فهذه الآية دلت على أن للسحر حقيقة، وكذلك قوله تعالى في قصة سحرة فرعون: {وَجَاءُوا =
(1)
سورة الفلق: 1 - 4.
(2)
سورة البقرة: 102.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}
(1)
. ودلت على ذلك أيضًا سورة الفلق، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم، وهو مما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم الحديث. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حُلَّ السحر: "إنَّ اللهَ شَفَاني". والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض، فدل على أن له حقيقة، فهو حق مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه.
وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإِجماع، ولا عبرة، مع اتفاقهم، بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق.
وروى سفيان عن أبي الأعور، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: عُلِّم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها "الفَرمَا" فمن كذب به فهو كافر، مكذب لله ورسوله، منكر لما علم مشاهدة.
قال العُلماء: لا ينكر أن يظهر على الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر؛ من مرض، وتفريق، وزوال عقل، وتعويج عضو، إلى غير ذلك مما قام الدليل على كونه ليس من مقدور البشر، ومع ذلك فلا يكون السحر موجبًا لذلك، ولا علة لوقوعه، ولا سببًا مولدًا، ولا يكون السحر مستقلًا به، وإنما يخلق الله هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والريّ عند شرب الماء.
لطيفة: روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحرًا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل، ويدخل في أست الحمار ويخرج من فيه، فاشتمل له جندب على السيف، فقتله جندب، قال: هذا هو جندب بن كعب الأزدي وقيل البجلي، وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم:"يَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُنْدُبٌ يَضْرِبُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ": فكانوا يرونه جندبًا هذا قاتل الساحر. قال عليّ بن المديني: روى عنه حارثه بن مُضَرِّب. ا. هـ.
قال القرطبي: ذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرًا يقتل ولا يستتاب، ولا تقبل توبته، لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني، قال: ولأن الله سمى السحر كفرًا بقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ؛ قال: وهذا قول أحمد بن حنبل وأبي ثور، وإسحاق، =
(1)
سورة الأعراف: 116.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= والشافعي، وأبي حنيفة. وروي قبل الساحر عن عمر، وعثمان وابن عمر، وحفصة، وأبي موسى، وقيس بن سعد، وعن سبعة من التابعين.
قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ". خرجه الترمذي، وليس بالقوي، وخرجه الحاكم أيضًا.
وروى سعيد، وأبو داود في كتابيها عن بجالة، قال: كنت كاتبًا لجزء بن معاوية، عم الأحنف بن قيس، إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة: اقتلوا كل ساحر. فقتلنا ثلاث سواحر في يوم، وهذا اشتهر فلم ينكر، فكان إجماعًا.
وقتلت حفصة جارية لها سحرتها.
قال ابن قدامة: ولم ير الشافعي قتل الساحر بمجرد السَاحِر، وهو قول ابن المنذر، ورواية عن أحمد، واستدلوا أن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها قد سحرتها، قالوا: ولو وجب قتلها لما حل بيعها. واحتجوا أيضًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا يَحِلُّ دَمُ امِرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ". قالوا: فلم يصدر منه أحد الثلاثة، فوجب أن لا يحل دمه.
قال ابن قدامة: فأما الكاهن الذي له رئيٌّ من الجن يأتيه بالخبر، وأما العراف الذي يحدس ويتخرص، فعن الإمام أحمد رواية: أرى أن يستتاب من هذا فعله، قيل له: أيقتل؟ قال: لا، يحبس لعله يرجع، وقال: الساحر والكاهن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا لأنهما يلبسان أمرهما، وعن عمر: اقتلوا كل ساحر وكاهن. قال: وليس هو من أمر الإسلام. قال: فهذا يدل أن كل واحد من الكاهن والساحر فيه روايتان: أنه يقتل إذا لم يتب. والثانية: أن الكاهن لا يقتل لأن حكمه أخف من حكم الساحر.
(4)
وقوله: أو استحل كالشِّرب، نسب المواق إلى عياض حكاية إجماع المسلمين على تكفير من استحل القتل أو الشرب أو شيئًا مما حرم الله، مما علم تحريمه من الدين بالضرورة، قال: كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة المتصوفة. ا. هـ.
(5)
وقوله: واستتيب ثلاثة أيام بلا جوع وعطش ومعاقبة ما لم يتب، فإن تاب وإلا قتل، دليل ذلك =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فاقْتُلُوهُ". قال مالك: وذلك فيمن خرج من الإِسلام إلى غيره، لا من خرج من ملة سواه إلى غيرها. وجاء عن عمر رضي الله عنه وعن غيره استتابة المرتد ثلاثًا، لقوله تبارك وتعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ}
(1)
الآية. وسئل مالك عن قول عمر: ألا حبستموه ثلاثًا وأطعمتموه في كل يوم رغيفًا؟ فقال: لا بأس به، وليس بالمجمع عليه. قال مالك: وإذا تاب المرتد قبلت توبته، ولا حد عليه فيما صنع في ارتداده. وعن ابن شأس: عرض التوبة على المرتد واجب، والنص أنه يمهل ثلاثة أيام، قال مالك: وما علمت في استتابته تعطيشًا ولا تجويعًا، ولا عقوبة عليه إذا تاب. ا. هـ. من المواق.
وقال الحطاب: وقال القاضي عبد الوهاب في شرح الرسالة: وعرض التوبة واجب على الظاهر على المذهب، إلا أنه إن قتله قاتل قبل استتابته، فبئس ما فعل، ولا يكون فيه قود ولا دية. ا. هـ.
وقال ابن قدامة: ولا يقتل المرتد حتى يستتاب ثلاثًا، هذا قول أكثر أهل العلم، منهم عمر، وعلي، وعطاء، والنخعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وهو أحد قولي الشافعي.
وعن الإِمام أحمد رواية أخرى أنه لا تجب استتابته، لكن تستحب، وهذا القول الثاني للشافعي، وهو قول عبيد بن عيير، وطاوس، ويروى ذلك عن الحسن، قالوا: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فاقْتُلُوهُ". ولم يذكر استتابة.
واحتج من قال بوجوب الاستتابة بما روى مالك في الموطإ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القارئ عن أبيه أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى، فقال له عمر: هل كان من مُغَرِّبة خبر؟ قال نعم، رجل كفر بعد إسلامه، فقال: ما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه. فقال عمر: فهلا حبستموه ثلاثًا فأطعمتموه كل يوم رغيفًا، واستتبتموه، لعله يتوب أو يراجع أمر الله؟ اللهم إني لم أحضر ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني. قالوا: ولو لم تجب الاستتابة لما برئ عمر من فعلهم.
قال ابن قدامة: وإذا ثبت وجوب الاستتابة فمدتها ثلاثة أيام. روي ذلك عن عمر رضي الله عنه، وبه قال مالك، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وهو أحد قولي الشافعي، وقوله الآخر: إن تاب في الحال
(1)
سورة الأنفال: 38.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وإلا قتل مكانه، وهذا أصح قوليه، وهو قول ابن المنذر. ا. هـ. منه.
(6)
وقوله: واستبرئت بحيضة: يريد به، والله أعلم، وإذا ارتدت امرأة ذات زوج أو سيد واستتيبت فلم تتب استبرئت بحيضة قبل قتلها خشية حملها.
(7)
وقوله: وأخذ منه ما جنى عمدًا على عبد أو ذمي لا حر مسلم؛ كأن هرب لدار الحرب، نسب المواق هنا لابن شأس قوله: لو قتل حرًا عمدًا وهرب لبلاد الحرب، لم يكن لولاة المقتول في ماله شيء، ولا ينفق على ولده ولا على عياله منه، بل يوقف، فإن مات فهو فيء، وإن كان القتيل عبدًا أو ذميًا أخذ ذلك من ماله.
قال ابن قدامة: المرتد إذا قتل أو مات على ردته، فإنه يبدأ بقضاء دينه وأرش جنايته، ونفقة زوجته وقريبه. لأن هذه الحقوق لا يجوز تعطيلها، وما بقي من ماله فهو فيء، وعلى كل حال فلا نص، وليس لأيٍّ من المذهبين إلا محض الاجتهاد. والله أعلم.
(8)
وقوله: وقُتل المستسرّ بلا استتابة إلا أن يجيءَ تائبًا وماله لوارثه، جاء في تفسير القرطبي: قال مالك: ويقتل الزنادقة ولا يستتابون، وقد مضى هذا القول في البقرة، ج 3 / ص 47. يعني بذلك قوله في ج 1 / ص 199 قال مالك: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة، وهو أحد قولي الشافعي، شال مالك: وإنما كفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه إذْ لم يُشْهَد على المنافقين فإن عبد الله بن أبيٍّ لَم يشهد عليه إلا زيد بن أرقم، والجلاس بن سويد لم يشهد عليه إلا ربيبه عمير بن سعد، قال: ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره لقتل. وخالف الشافعي في قوله الثاني قال: السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالإِيمان وتبرأ من كل دين سوى الإِسلام؛ أن ذلك يمنع من إراقة دمه. وبه قال أصحاب الرأي، وأحمد، والطبري، وغيرهم.
قال الشافعي وأصحابه: إنما منع رسول الله من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم
بنفاقهم.
قلت: ولنا أن نقول بموجب ذلك، فنقول: سلمنا أنه إنما تركهم لما يظهرونه من الإِسلام، ولكن مع عدم الإِشهاد على نفاق أحدهم بعينه وإلَّا قتل، فقد تركهم وهو يعلمهم بأسمائهم ليبين أن الحاكم لا يحكم بعلمه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأيضًا فإن الله تعالى كان حفظ أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بكونه ثبتهم أن يفسدهم المنافقون أو يفسدوا دينهم، فلم يكن ضرر في بقائهم بين أظهرهم، وليس ذلك كذلك اليوم؛ لأنا لا نأمن من الزنادقة أن يفسدوا عامتنا وجهالنا. والله تعالى أعلم وهو الموفق.
(9)
وقوله: وأسقطت صلاة وصيامًا وزكاة وحجًا تقدم ونذرًا، إلى قوله: بخلاف ردة المرأة، قال المواق: إن راجع المرتد الإِسلام قال في المدونة: وضع عنه ما كان لله قد تركه قبل ارتداده من صلاة أو صوم أو زكاة أو حد وما كان عليه من نذر أو يمين بعتق أو بالله أو بالظهار. ا. هـ.
ولعل المعول في ذلك على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه حين جاء ليسلم قال له: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَالرِّدَّةُ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا". أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}
(1)
وقد اختلف مالك والشافعي في تأويل هذه الآية، فقد قال الشافعي: من ارتد ثم عاد إلى الإِسلام لم يحبط عمله ولا حجه الذي فرغ منه، بل إن مات على الردة فحينئذ حبط عمله. وقال مالك: يحبط عمله بنفس الردة، ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم، فقال مالك: يلزمه الحج، لأن الأول قد حبط بالردة، وقال الشافعي: لا حج عليه لأن عمله باق. قال القرطبي: واستظهر علماؤنا بقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}
(2)
، قالوا: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، لأنه عليه الصلاة والسلام، تستحيل منه الردة شرعًا.
وقال ابن العربي: إنما ذكر الموافاة شرطًا ها هنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء، قال: فمن وافى على الكفر خلَّده الله في النار بهذه الآية، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين متغايرين. وما خوطب به علمِه الصلاة والسلام فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه به. ا. هـ. منه.
(10)
وقوله: وأقر كافرًا انتقل لكفر آخر، قال القرطبي في تفسيره: واختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر، فقال مالك وجمهور الفقهاء: لا يتعرض له، لأنه انتقل إلى ما لو كان عليه في الابتداء، لأقر عليه. وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه يقتل لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بَدَّلَ دِينَه فَاقْتُلوهُ" ولم يخصَّ مسلمًا من كافر. وقال مالك: إنما معنى الحديث: من خرج من الإِسلام إلى الكفر، وأما من خرج من كفر =
(1)
سورة البقرة: 217.
(2)
سورة الزمر: 63.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إلى كفر فلم يعن بهذا الحديث، وهو قول جماعة الفقهاء.
قلت: ما ذهب إليه مالك يستأنس له بقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}
(1)
الآية. أي وغيره لا يسمى دينًا ولا يعتبر. والله تعالى أعلم.
قال القرطبي: واختلفوا أيضًا في المرتدة، فقال مالك، والأوزاعي، والشافعي، والليث بن سعد (وغيرهم): تقتل كما يقتل المرتد سواء، وحجتهم ظاهر الحديث:"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ".
قلت: ومعلوم أن"مَنْ" يصلح التعبير به عن الذكر والأنثى. قال ابن مالك في الخلاصة:
ومَنْ، وما، وألْ تساوي ما ذكر
قال ابن عقيل في شرحه: أشار بقوله: (تساوي ما ذكر) إلى أن من، وما، والألف واللام تكون بلفظ واحد للمذكر والمؤنث المفرد والمثنى والمجموع ألخ.
وقال الشيخ عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي في مراقي السعود في مبحث صيغ العموم:
ومَا شُمولُ مَنْ للإِنْثَي جَنَفُ
…
وفي شَبِيه الْمُسْلِمينَ اخْتَلَفُوا
قال القرطبي: وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقتل المرتدة. وهو قول ابن شُبْرُمة وإليه ذهب ابن عُليَّة، وهو قول عطاء والحسن. واحتجوا بأن ابن عباس روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ". ثم إن ابن عباس لم يقتل المرتدة، ومن روي حديثًا كان أعلم بتأويله. وروي عن علي مثله. قالوا: ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
واحتج الأولون بقوله عليه السلام: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ
…
" الحديث. قالوا: فعم كل من كفر بعد إيمانه، وهو أصح. ا. هـ.
هذا، وقد تقدم الكلام على قتل المرتدة عند قول المصنف: واستبرئت بحيضة.
(11)
وقوله: وإن سَبَّ نبيًا أو ملكًا، إلى قوله، قتل ولم يستتب حدًّا، نسب المواق هنا لعياض قوله: من أضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم الكذب فيما بلغه أو أخبر به أو سبه أو استخف به أو بأحد من الأنبياء أو أزرى عليهم أو آذاهم فهو كافر بإجماع. وكذلك يكفر من اعترف بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولكن قال مات قبل أن يلتحي، أو ليس الذي كان بمكة والحجاز، أو ليس الذي كان من قريش؛ لأن وصفه بغير صفته =
(1)
سورة آل عمران: 19.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المعلومة نفي له وتكذيب به ثم قال: وحكم من سب سائر أنبياء الله وملائكته أو استخف بهم، أو أكذبهم، أو أنكرهم، حكم نبينا صلى الله عليه وسلم، على مساق ما قدمناه. وقال القابسي في الذي قال لآخر: كأنه وجه مالك الغضبان، قال: إن عرف أنه قصد ذم الملك، قتل، قال عياض: وهذا فيمن تحققت نبوته أو تحقق أنه من الملائكة، أما من لم يثبت أنه نبي بالإجماع، أو ملَك كذلك، فليس الحكم فيهم ما ذكرنا، ولكن يؤدب من تنقّصهم. وقال عياض: من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه، أو ألحق به نقصًا في نفسه أو دينه، أو نسبه، أو خصلة من خصاله، أو عرض به، أو شبهه بشيء على طريق السب له والازدراء عليه أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، أو العيب له، حكمه القتل حدًا لا كفرًا، ولهذا لا تنفعه استقالته وفيئته ولا تقبل توبته. ا. هـ. باختصار.
(12)
وقوله: إلا أن يسلم الكافر، نقل المواق عن عياض: إذا صرح الذميُّ بسب النبي صلى الله عليه وسلم، أو عرض بذلك، أو استخف بقدره، أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به، فلا خلاف عندنا في قتله إن لم يسلم؛ لأن الإسلام يجبّ ما قبله. وعن ابن يونس: من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عابه، إن كان مسلمًا قتل، قال ابن القاسم: وإن كان نصرانيًا قتل صاغرًا إلا أن يسلم، وليس يقال له: أسلم، ولكن يقتل إلا أن يسلم طائعًا، وكذلك قال مالك. ا. هـ. منه.
(13)
وقوله: وسبُّ الله كذلك. وفي استتابة المسلم خلاف، نقل المواق عن ابن سحنون: من شتم الحق سبحانه وتعالى من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي كفر به، قتل ولم يستب، قال ابن أبي زيد: إلا أن يسلم. وفي التفريع: من سب الله سبحانه وتعالى أو سب النبي صلى الله عليه وسلم، من مسلم أو كافر، قتل ولم يستتب، وقال المخزومي وابن أبي حازم: لا يقتل المسلم بالسب إلا أن يستتاب، وكذلك اليهود والنصارى، وقد تقدم نقل ابن يونس عن ابن القاسم أن من عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب وميراثه لجميع المسلمين وهو بمنزلة الزنديق لا تعرف توبته بلسانه ويراجع ذلك في سريرته، وإن كان نصرانيًا فإنه يقتل صاغرًا. وسئل أصبغ عن رجل أيقن برجل أنه زنديق فاغتاله فقتله؟ فقال: هو محسن فيما بينه وبين الله، لكن يعزره السلطان للعجلة قبل أن يثبت ذلك للسلطان، ولكنه محسن إذ لعل الولاة تضيع مثل هذا. ا. هـ. منه.
جريمة الزنا
بَابٌ: الزِّنَا وَطْءُ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ فَرْجَ آدَمِيٍّ لَا مِلْكَ لَهُ فيه باتِّفَاقٍ عَمْدًا (1)، وإنْ لِوَاطًا (2)، أوْ إتْيَانَ أجْنَبِيَّةٍ بِدُبُرٍ؛ أوْ إتْيَان ميّتة غيْرِ زَوْجٍ أوْ صغيرِةٍ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا أوْ مُسْتَأجَرَةٍ لِوَطْءٍ أوْ غَيْرِهِ، أوْ مَمْلُوكَةٍ تَعْتِقُ أوْ يَعْلَمُ حُرِّيَّتَهَا، أوْ مُحَرَّمَةٍ بِصِهْرٍ مُؤبّدٍ أوْ خامسَةٍ أوْ مَرْهُونَةٍ أوْ ذَاتِ مَغْنَمٍ أوْ حَرْبِيَّةٍ أوْ مَبْتُوتَةٍ وَإنْ بعدَّةٍ، وَهَلْ وإنْ أبَتَّ في مَرَّةٍ؟ تأويلَانِ. أوْ مُطَلّقَةٍ قَبْلَ البِنَاءِ أوْ مُعْتَقَةٍ بِلَا عَقْدٍ كَأنْ يَطَأهَا مَمْلُوكُهَا أوْ مَجْنُونٌ بِخِلَاف الصَّبيِّ إلَّا أنْ يَجْهَل الْعَيْنَ أوْ الحُكْمَ إنْ جَهِلَ مِثْلُهُ إلَّا الْوَاضِحَ، لَا مُسَاحقَةٌ، وأُدِّبَ اجْتِهَادًا (3) كبَهِيمَةٍ وَهيَ كَغيْرِهَا في الذَّبْحِ والأكْلِ (4)، ومَن حَرُمَ لِعَارِضٍ كحَائضٍ أوْ مُشْتَرَكَةٍ أو مَمْلُوكَةٍ لا تَعْتِقُ أو مُعْتَدَّةٍ أوْ بِنْتٍ عَلى أمٍّ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أوْ أُخْتٍ عَلى أخْتِهَا، وهَلْ إلّا أخْتَ النَّسَبِ لتحْريمِهَا بالكتَابِ؟ تأويلانِ.
الكلام على جريمة الزنا أعاذنا اللّه والمسلمين منه
(1)
قوله: الزنا وطء مكلف مسلم فرج آدميّ لا مِلك له فيه باتفاق عمدًا، قال الحطاب: قال القاضي عياض: الزنا يمد ويقصر، فمن مده ذهب إلى أنه فعل من اثنين كالمفاعلة، ومن قصره جعله اسم الشيء بنفسه، وأصل اشتقاق الكلمة من الضيق والشيء الضيق، قال النووي: وإذا مد كتب بالألف، وإذا قصر كتب بإلياء، قال والقصر لغة الحجاز وبها جاء القرآن، والمد لغة تميم، قال: وهل سمي بذلك لضيق المحل أو لضيق الحكم فيه؟. ا. هـ. منه. باختصار.
قال القرطبي: هو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح، بمطاوعتها. وإن شئت قلت: هو إدخال فرج في فرج مشتهى طبعًا، محرم شرعًا، فإذا كان ذلك وجب الحد. قال: والزنى كان معروفًا قبل الشرع، وأول عقوبة نزلت في الزنى هي قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}
(1)
. وكان هذا في ابتداء الإسلام. قاله عبادة بن الصامت، والحسن، ومجاهد، حتى نسخ بالأذى؛ يعني بقوله تعالى:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا}
(2)
ثم نسخ ذلك بآية النور، يعني قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
(3)
وبحديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا؛ الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ، وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ".
وقالت فرقة: بل كان الإيذاء هو الأول ثم نسخ بالإمساك، ولكن التلاوة أخرت وقدمت، قال: وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة، فلما كثروا وخشي فوتهم اتخذ لهم سجن، قاله ابن العربي.
(2)
وقوله: وإن لواطًا، نقل المواق عن ابن أبي زيد: وإن عمل عمل قوم لوط بذكر بالغ أطاعه فيه رجما، أحصنا أو لم يحصنا، قال ابن شأس: المشهور: ولو كانا عبدين كافرين. ا. هـ.
وأخرج أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد بن علي النفيلي، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ". وأخرجه الترمذي في الحدود، باب: في حد اللوطي، وابن ماجة في الحدود، باب: من عمل عمل قوم لوط، ونسبه المنذري للنسائي ولفظه:"لَعَنَ اللهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ". كررها ثلاثًا.
قال أبو داود: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا بن جريج، أخبرني ابن خيثم، قال: سمعت سعيد بن جبير ومجاهدًا يحدثان عن ابن عباس، في البكر يؤخذ على اللوطية، قال: يرجم.
قال الخطابي في معالم السنن: في هذا الصنع هذه العقوبة العظيمة، وكأن معنى الفقهاء فيه أن الله سبحانه وتعالى أمطر الحجارة على قوم لوط فقتلهم بها، ورتبوا القتل المأمور به على معاني ما جاء =
(1)
سورة النساء: 15.
(2)
سورة النساء: 16.
(3)
سورة النور: 2.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= فيه من أحكام الشريعة، فقالوا: يقتل بالحجارة رجما إن كان محصنة، ويجلد مائة إن كان بكرًا ولا يقتل، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والنخعي، والحسن، وقتادة، وهو أظهر قولي الشافعي.
وقال الأوزاعي: حكمه كحكم الزاني. وقال مالك بن أنس وإسحاق بن راهويه: يرجم، أحصن أو لم يحصن، وروي ذلك عن الشعبي. ا. هـ. منه.
وقال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على تحريم اللواط، وقد ذمه الله تعالى في كتابه وعاب من فعله، وذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}
(1)
. الأعراف. قال: واختلفت الرِّواية عن أحمد في حده، فروي عنه أن حده الرجم بكرًا كان أو ثيبًا، وهذا قول عليّ، وابن عباس وجابر بن زيد، وعبد الله بن معمر، والزهري، وأبي حبيب، وربيعة، ومالك، وإسحاق، وأحد قولي الشافعي، وقتادة، والأوزاعي، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وأبي ثور، وهو المشهور من قولي الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ".
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ". رواه أبو داود، وفي لفظ:"فَارْجُمُوا الأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ". قال: ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في صفته، قالوا: ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم، فينبغي أن يعاقب من فعل فعلهم بمثل عقوبتهم، قال: وقول من أسقط الحد عنه، يعني أبا حنيفة والحكم، يخالف النص والإجماع، قال: وروى صفوان بن سليم عن خالد بن الوليد أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلًا ينكح كما تنكح المرأة، فكتب بذلك إلى أبي بكر، فاستشار أبو بكر رضي الله عنه الصحابة فيه، فكان عليّ أشدهم قولًا فيه، فقال: ما فعل هذا إلا أمة من الأمم واحدة، وقد علمتم ما فعل الله بها، أرى أن يحرق بالنار. فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فحرقه. انتهى منه بتصرف.
(3)
وقوله: لا مساحقة وأدبت اجتهادًا، نسب للباجي هنا قوله: المتساحقتان من النساء، سمع ابن القاسم ليس في عقوبتهما حد، وذلك إلى اجتهاد الإمام، والدليل على صحة قول ابن القاسم هذا =
(1)
سورة الأعراف: 81.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إنها بمعنى المباشرة، ولا حد إلا بمغيب. وفي نوازل البرزلي أن حدهما خمسون جلدة وتغتسل وإن لم تنزل. ا. هـ. من المواق.
قلت: ورد في المساحقة قوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا زَانِيَتَانِ". قال ابن قدامة: ولا حد عليهما لأنه لا يتضمن إيلاجًا فأشبه المباشرة دون الفرج، وعليهما التعزير لأنه زنى لا حد فيه، فأشبه مباشرة الرجل المرأة من غير جماع، ولو باشر الرجل المرأة فاستمتع بها فيما دون الفرج فلا حد عليه. روي أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني لقيت امرأة فأصبت منها كل شيء إلا الجماع، فأنزل الله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
(1)
الآية، فقال الرجل: ألي خاصة يا رسول الله؟ قال "بَلْ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي" رواه النسائي. ا. هـ.
(4)
وقوله: كبهيمة وهي كغيرها في الذبح والأكل، قال في المدونة: لا يحد من أتى البهيمة، ويعاقب، وقال الطرطوشي: لا يختلف مذهب مالك أن البهيمة لا تقتل، وإن كانت مما تؤكل، أكلت. ا. هـ. من المواق.
وقال ابن قدامة: روي عن أحمد أنه يعزر ولا حد عليه، وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء، والشعبي، والنخعي، والحكم، ومالك، والثوري، وأصحاب الرأي، وإسحاق، وهو قول الشافعي. وعن أحمد رواية أخرى تقول: حكمه حكم اللائط. وقال الحسن: حده حد الزنى، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن: يقتل هو والبهيمة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ" رواه أبو داود.
واحتج من قال: لا حد على من أتى بهيمة، بأنه لم يصح فيه نص، ولا يمكن قياسه على فرج الآدمي فبقي على الأصل، والحديث الذي احتج به من أنه يحد، رواه عمرو بن أبي عمرو، ولم يثبته الإِمام أحمد، وقال الطحاوي: هو ضعيف، ومذهب ابن عباس خلافه، وهو الذي روى عنه، وقال أبو داود: هذا يضعف الحديث عنه، قالوا: ولأن الحد يدرأ بالشبهات، فلا يجوز إثباته بحديث فيه هذه الشبهة من الضعف.
قلت: حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ =
(1)
سوره هود: 114.
وَكَأَمَةٍ ومُحَلَّلَةٍ وقُوِّمَتْ وَإِنْ أَبَيَا أَوْ مُكْرَهَةٍ أَوْ مَبيعَةٍ بِغَلَاءٍ والأظْهَرُ والأصحُّ كأن ادَّعَى شراءَ أمَةٍ ونَكَلَ الْبَائعُ وحَلَفَ الْواطِئُ، والمخْتَارُ أنَّ المُكْرَهَ كَذلِكَ، والأكْثَر عَلى خِلَافِه (1). ويَثْبُتُ بِإقْرَارٍ مَرَّةً إلَّا أن يَرْجِعَ مُطْلَقًا (2) أوْ يَهْرَبَ وَإنْ في الحَدِّ (3)، وبالْبيِّنَةِ (4)، فَلَا يَسْقُطُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِبَكَارَتِهَا، وَبحَمْلٍ في غَيْر مُتَزوِّجَةٍ وذَاتِ سَيِّدٍ مُقِرٍّ بِهِ (5)، وَلَمْ يُقْبَلْ دَعْوَاهَا الْغَصْبَ بلا قَرينةٍ.
يُرْجَمُ المُكَلَّفُ الحُرُّ المُسْلِمُ إنْ أصَابَ بَعْدَهُنَّ بِنِكاحٍ لَازِمٍ صَحَّ، بِحِجَارَةٍ (6) مُعْتَدِلَةٍ. ولَمْ يَعْرفْ بُدَاءَةَ البَيِّنَةِ ثُمَّ الإِمَام (7). كَلائط مُطْلَقًا وإنْ عَبْدَيْن أوْ كافِرْينِ (8). وجُلدَ الْبِكْرُ الْحُرُّ مِائةً (9)، وتَشَطَّرَ بالرِّقّ وإنْ قَلَّ (10)، وتَحَصَّنَ كُلٌّ دُونَ صَاحِبِهِ بِالْعِتْقِ وَالْوَطْء بَعْدَهُ. وغُرِّبَ الحُرُّ الذَّكَرُ فَقَطْ عَامًا وأجْرُهُ عَلَيْهِ، وإنْ لَمْ يكنْ لَهُ مَالٌ فمِن بَيْتِ الْمَالِ (11)، كفدك وخَيْبَر من المدِينَة، فَيُسْجَنُ سَنَةً، وَإنْ عَادَ أُخْرِجَ ثَانيَةً. وتُؤخَّرُ المتَزَوِّجَةُ لحَيْضَةٍ، وبالجَلْدِ اعْتِدَالُ الْهَوَاءِ. وأقَامَه الْحَاكِمُ والسَّيِّد (12) إن لمْ يَتَزوَّج بغَير مِلكِهِ بغير عِلْمِهِ.
= أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتلُوهُ وَاقْتلُوهَا مَعَهُ". قال: قلت له: ما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها ذلك العمل. قال أبو داود ليس هذا بالقوي، ثم قال: حدثنا أحمد بن يونس أن شريكًا وأبا الأحوص وأبا بكر بن عياش حدثوهم عن عاصم، يعني ابن أبي النجود، عن أبي رزين، عن ابن عباس، قال: ليس على الذي أتى البهيمة حد. قال أبو داود: حديث عاصم يضعف حديث عمرو بن أبي عمرو.
قال الخطابي في معالم السنن: يريد أنَّ ابن عباس لو كان عنده في هذا الباب حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالفه، قال: وقد عارض هذا الحديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلَّا لمأكلة، وقد اختلف العُلماء فيمن أتى هذا الفعل: فقال إسحاق بن راهويه: يقتل إذا تعمد ذلك وهو يعلم ما جاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن درأ عنه إمام القتل فلا ينبغي أن يدرأ عنه جلد مائة تشبيهًا بالزنى. =
وإنْ أنْكرتْ الوطْءَ بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً وخَالَفَهَا الزَّوْجُ فالحَدُّ، وعَنْهُ في الرجُلِ يَسْقُطُ ما لم يُقرَّ به أوْ يُولَدْ لَهُ، وأُوِّلَا على الخِلَافِ، أوْ لِخِلَافِ الزَّوْج في الأولى فَقَطْ، أو لأنه يَسْكُتُ أو لأنَّ الثَّانيَةَ لم تَبْلُغْ عِشْرِينَ، تأويلاتٌ. وإنْ قالَتْ: زَنيْتُ مَعَهُ فادَّعَى الوَطْءَ والزَّوْجِيَّةَ، أو وُجِدا بِبَيْتٍ وأقَرَّا بهِ وادَّعَيَا النِّكاحَ، أو ادَّعَاهُ فَصَدَّقَتْهُ هي وَوَلِيُّهَا وقَالَا لم نُشْهِدْ، حُدَّا.
= وقال أكثر العُلماء: يعزر، وكذلك قال عطاء، والنخعي، وبه قال مالك، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وكذلك أبو حنيفة وأصحابه، وهو أحد قولي الشافعي، وقوله له الآخر أن حكمه حكم الزاني. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله رحمه الله: والمختار أن المكره كذلك والأكثر على خلافه، قال ابن العربي: المكره على الزنى لا حد عليه، وكذلك المكرهة على التمكين لا تحد، وقال ابن القصار إن انتشر قضيبه حُدَّ، وقال اللخمي هذا غير صحيح. ا. هـ. من المواق.
قلت: هذا الخلاف مبني على شطري القاعدة الفقهية الخلافية التي هي قولهم:
هل الانتشار دليل على الاختيار أو لا؟ وقد عقدها في المنهج المنتخب بقوله:
وَهَلْ لبعضٍ ما لكلٍّ من خِيار
…
وهل في الانتشار معنى الاختيار
للأول النفلُ وتكفيرٌ وما
…
لثانٍ الصوم وحدٌّ عُلما
ذكر في البيت الأول أصلين، وذكر في البيت الثاني فروعًا مبنية عليهما، ومحل الشاهد هنا الشطر الثالي من البيت الأول، والشطر الثاني من البيت الثاني. قال: وهل في الانتشار معنى يدل على أن صاحبه مختار؟ وقال في الشطر الثاني من البيت الثاني: يبنى على ذلك من أكره على الجماع وهو صائم في رمضان، هل عليه كفارة؟ ومن أكره على الزنى هل عليه حد أو لا؟ قولان، ثالثهما إن انتشر حد، وإن لم ينتشر فلا، بخلاف المكرهة.
(2)
وقوله: ويثبت بإقرار مرة إلا أن يرجع مطلقًا، قال المواق: قال ابن عرفة: نصوص المدونة وغيرها واضحة بحد المقر بالزنى طوعًا ولو مرة، وفي الموازية: إن رجم عن إقراره لوجه وسبب لم يختلف أصحاب مالك في قبول رجوعه. وقال الباجي: وإن رجر لغير شبهة فروى ابن وهب ومطرف إنه يقال، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقاله ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم. وروي عن مالك. لا يقبل منه.
قلت: كون المقر يحد بإقرار واحد، هو قول الحسن، وحماد، ومالك، واالشافعي، وأبي ثور، وابن المنذر، واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أغْدُ يَا أُنَيْس إِنْ امْرَأَةِ هذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". قالوا: وقد رجم الجهنية وإنما اعترفت مرة. قال البغوي: وفي الحديث دليل على أن من أقر بالزنى على نفسه مرة واحدة يقام عليه الحد، ولا يشترط فيه التكرار، كما لو أقر بالسرقة ولو مرة واحدة يقطع، ومن أقر بالقتل ولو مرة واحدة يقتص منه.
قال: وذهب قوم إلى أنه لا يحد ما لم يقر أربع مرات وإليه ذهب الحكم بن عتيبة، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، قالوا: لابد أن يقر أربع إقرارات في أربعة مجالس، فإن أقر أربع إقرارات في مجلس واحد، فهو كإقرار واحد. واحتجوا بحديث ماعز بن مالك الأسلمي، وهو متفق عليه، من حديث أبي هريرة قال: جاء ماعز بن مالك الأسلُمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، فأعرض عنه، ثم جاء من شقه الأيمن فقال: يافسول الله، إني قد زنيت، فأعرض عنه، ثم جاءه من شقه الأيسر فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، فأعرض عنه، ثم جاءه فقال: إنِّي قد زَنيت، قال ذلك أربع مرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انْطَلِقُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ". فانطلقوا به فلما مسته الحجارة أدبر يشتد، فلقيه رجل في يده لَحي جمل فضربه به فصرعه، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فَهَلَّا تَرَكْتُمُوهُ".
قلت: وفي بعض روايات هذا الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لماعز: "أَشَرِبْتَ خَمْرًا"؟ فقال: لا! فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريحًا. وفي رواية أخرى لهذا الحديث: "لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ"؟ قال: لا. وفي رواية أخرى فقال له صلى الله عليه وسلم: "هَلْ ضَاجَعْتَها"؟ قال: نعم. قال: "فَهَلْ بَاشَرْتَهَا"؟ قال: نعم. قال: "هَلْ جَامَعْتَهَا"؟ قال: نعم. وفي حديث أبي هريرة: قال صلى الله عليه وسلم: "أَنِكْتَهَا"؟ قال: نعم. قال: "حَتَّى دَخَلَ ذلِكَ مِنْكَ فِي ذلِكَ مِنْهَا"؟ قال: نعم. قال: "كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ"؟ قال: نعم. قال: "تَدْرِيَ مَا الزِّنَى"؟ قال: نعم. أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا، قال:"مَا تُرِيدُ بِهذَا الْقَوْلِ"؟ قال: تطَهِّرُنِي. فأمر به فرجم. قال البغوي: في هذا الحديث دليل على أن من أقر على نفسه بما يوجب عقوبة لله سبحانه وتعالى، يجوز للإمام أن يلقنه ما يسقط به عنه الحد، فيقول للزاني: لعلك لمست أو فاخذت، ويقول =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= للسارق: لعلك أخذت من غير حرز، أو اختلست .. ونحو ذلك كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بسارق فقال:"لَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ"؟ أَخرجه أبو داود، وأتي عمر رضي الله عنه بسارق فقال: أَسَرَقْتَ؟ قل: لا. فقال: لا، فتركه ولم يقطعه، أخرجه عبد الرزاق، وروي مثل ذلك عن أبي الدرداء، وأبي هريرة وبه قال الشافعي، وأحمد، وأبي ثور. قال: وأما ما كان من حقوق العباد مالًا كان أو عقوبة، فلا يجوز فيه التلقين. ا. هـ. بتصرف قليل.
وقال البغوي أيضًا: وفي قوله صلى الله عليه وسلم بعدما هرب ماعز: "فَهَلَّا تَرَكْتُمُوهُ" دليل على أن من أقر على نفسه بالزنى، ثم رجع فقال: ما زنيت، أو كذبت، أو رجعت، سقط الحد عنه، وإذا رجع أثناء إقامة الحد عليه، سقط عنه ما بقي، وهو قول عطاء بن أبي رباح، والزهري، وحماد بن أبي سليمان، وإليه ذهب مالك، وسفيان الثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، وأحمد وإسحاق قال: وكذلك السارق والشارب إذا رجع عن إقراره تسقط عنه العقوبة. وذهب جماعة إلى أن الحد لا يسقط بالرجوع. عن الإِقرار، منهم جابر والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى، وأبو ثور، قالوا: ولو سقط عنه الحد لصار مقتولًا ولوجبت ديته على عواقل القاتلين. ا. هـ. منه.
تنبيهٌ: يؤخد من قضية ماعز بن مالك أنه ينبغي بل يستحب لمن وقع في مثل قضيته أن يتوب إلى الله تعالى ويستر نفسه، ولا يذكر ذلك لأحد كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز، وأن من اطلع على ذلك يستر عليه بما ذكرنا ولا يفضحه، ولا يرفعه إلى الإِمام كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القضية لهزال:"لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِك لَكَانَ خيْرًا لَكَ" أي مما أشرت به إليه من قولك له: ائت رسول فأخبره بما صنعت، ذلك أن أبا داود أخرج من طريق نعيم بن هزال قال: كان ماعز بن مالك يتيمًا في حجر أبي فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: أئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَخبره بما صنعت لعله يستغفر لك. ورجاء أن يكون له مخرج.
قال ابن حجر في فتح الباري. وفي الحديث، يعني حديث قصة ماعز، أنه يستحب لمن وقع في معصية وندم أن يبادر إلى التوبة منها ولا يخبر بها أحدًا ويستتر بستر الله، وإذ اتفق أنه أخبر أحدًا، فيستحب أن يأمره بالتوبة وستر ذلك عن الناس كما جرى لماعز مع أبي بكر وعمر، وقد أخرج قصته معهما في الموطإ عن يحيى بن سعيد عن سعد بن المسيب مرسلة، ووصله أبو داود وغيره من رواية يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه. وفي القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهزال:"لَوْ سَتَرْتَه بِثَوْبِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ". وفي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الموطإ عن يحيى بن سعيد، ذكرت هذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم فقال هزال: جدي جدي وهذا الحديث حق. قال الباجي: المعنى: لكان خيرًا لك مما أمرته به من إظهار أمره، وكان ستره بأن يأمره بالتوبة والكتمان كما أمره أبو بكر وعمر، وذكر الثوب مبالغة، أي لو لم تجد سبيلًا إلى ستره إلا بردائك ممن علم أمره كان أفضل مما أمرته به من الإِظهار. ا. هـ. منه.
قلت: وقد تقدم الاستدلال بحديث الموطإ: "مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ هذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَحْفَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ". عند قول المصنف: أو رفع قبل الطلب، كما تقدم مزيد لهذا البحث عند قول المصنف: وفي حق الله تعالى تجب المبادرة بالإِمكان إن استديم تحريمه ألخ. فأغنى ذلك عن الإِطناب فيه هنا. والحمد لله المنعم المتفضل.
(3)
وقوله: إلا أن يرجع مطلقًا أو يهرب وإن في الحد، تقدم الكلام عليه في مبحث ثبوت الحد بالإِقرار، والكلام على حديث ماعز بن مالك وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبروه بهروبه:"فَهَلَّا تَرَكْتمُوهُ". فأغنى ذلك عن إعادته هنا. والحمد لله.
(4)
وقوله: وبالبينة، فقد تقدم الكلام على شروط بينة الزنى واللواط عند قول المصنف: وللزنى واللواط أربعة بوقت ورؤيا اتحدا ألخ. فأغنى ذلك عن إعادته هنا والحمد لله.
(5)
وقوله وبحمل في غير متزوجة وذات سيد مقرّ به، أخرج أبو داود في سننه أن امرأة من غامد أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني قد فجرت، فقال:"ارْجِعِي". فرجعت، فلما كان الغد أتته فقالت: لعلك أن تردني كما رددت ماعز بن مالك، فوالله إِني لحُبلى، الحديث .. وفي صحيح البخاري من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس الطويل، قال عمر: والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبَلُ أو الاعتراف .. الحديث.
(6)
وقوله: يرجم المكلف الحر المسلم إن أصاب بعدهن بنكاح لازم صح، بحجارة، تقريره أن الرجم إنما يكون بشرط كون الزاني مكلفًا أي عاقلًا، بالغًا، حرًا، مسلمًا، وطئ بعد حصول هذه الصفات له، بنكاح لازم صحيح، أي إصابة صحيحة، فلا رجم إذًا على مجنون، وعلى غير بالغ، ولا على عبد، ولا على حر كافر، ولا على من لم يتزوج أصلًا، أو تزوج ووطئ في نكاح غير لازم، أو فاسد يفسخ قبل البناء وبعده، أو تزوج بنكاح لازم لكنه وطن وطئًا ممنوعًا؛ كالوطء في الحيض أو النفاس أو الإحرام أو الإعتكاف. ا. هـ. الحطَّاب. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال ابن قدامة: وللإحصان شروط سبعة:
أحدها: الوطء في القُبُل ولا خلاف في اشتراطه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبُ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ". والثيوبة تحصل بالوطء، فوجب اعتباره. ولا خلاف في أن عقد النكاح الخالي من الوطء لا يحصل به إحصان، سواء حصلت فيه خلوة أو وطء فيما دون الفرج، فلابد أن يكون وطئًا حصل به تغييب الحشفة في القُبُل، لأن ذلك حد الوطء الذي تتعلق به أحكام الوطء.
الثاني: أن يكون في نكاح لأن النكاح يسمى إحصانًا بدليل قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} ، يعني المتزوجات، ولا خلاف بين أهل العلم في أن وطء الزنى ووطء الشبهة لا يصير به الواطن محصنًا؛ ولا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أن التسري لا يحصل به الإِحصان لواحد منهما؛ لكونه ليس بنكاح ولا تثبت فيه أحكام النكاح.
الثالث: أن يكون النكاح صحيحًا، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم: عطاء، وقتادة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي.
وقال أبو ثور: يحصل الإِحصان بالوطء في النكاح الفاسد، وحكي ذلك عن الليث، والأوزاعي، قالوا: لأن الصحيح والفاسد سواء في أكثر الأحكام مثل وجوب المهر والعدة، وتحريم الربيبة، وأم المرأة، ولحاق الولد، فكذلك الإِحصان.
الرابع: الحرية، وهي شرط في قول كل أهل العلم، إلَّا أبا ثور فإنه يقول: العبد والأمة محصنان يرجمان إذا زنيا، إلا أن يكون إجماع يخالف، وقال الأوزاعي: في العبد تحته حرة، هو محصن يرجم إذا زنى، وإن كان تحته أمة لم يرجم، قال ابن قدامة: وهذه الأقوال تخالف النص والإِجماع، فإن الله تعالى يقول:{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
(1)
النساء، والرجم لا يتنصف، وإيجابه كله يخالف النص ولخالف الإِجماع المنعقد قبله.
والخامس، والسادس: البلوغ، والعقل، فلو وطيء وهو صبي أو مجنون ثم بلغ أو عقل، لم يكن محصنًا، وكذلك العبد إذا وطيء في رقه، هذا قول أكثر أهل العلم، وخالف بعض أصحاب الشافعي فقالوا: يصير محصنًا لأن هذا وطء يحصل به الإِحلال للمطلّق ثلاثًا، فحصل به الإِحصان كالموجود حال الكمال. =
(1)
سورة النساء: 25.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= واستدل الجمهور بحديث: "وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ". فاعتبر الثيوية خاصة، ولو كانت تحصل قبل ذلك لكان يجب عليه الرجم قبل بلوغه وعقله، وهو خلاف الإجماع.
والسابع: أن يوجد الكمال فيهما جميعًا حال الوطء، فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة عاقلة حرة، وهذا قول: أحمد، وأبي حنيفة، ونحوه قول عطاء، والحسن، وابن سيرين، والنخعي، وقتادة، والثوري، وإسحاق، قالوه في الرقيق.
وقال مالك: إذا كان أحدهما كاملًا صار محصنًا، إلا الصبي إذا وطئ الكبيرة فإنه لم يحصنها، وبهذا قال الأوزاعي، وهو رواية عن الشافعي، وبه قال ابن المنذر، لأنه حر بالغ عاقل وفى في نكاح صحيح، فصار محصنًا كما لو كان الآخر مثله.
واشترط مالك الإِسلام في الإِحصان، إلا أن الذمية إذا تزوجها المسلم حصنته لأنه لا يعتبر الكمال في الزوجين.
كما اشترط الإِسلام في الإِحصان كل من عطاء، والنخعي، والشعبي، ومجاهد، والثوري، قالوا: لا يكون الكافر محصنًا، ولا تحصن الذمية المسلم، لأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ أَشْرَكَ بِاللَهِ فَلَيْسَ بِمُحْصنٍ" أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن ابن عمر مرفوعًا وموقوفًا، قال الأستاذ محمود عبد الوهاب فائد في تعليقه على المغني: الصَّواب وقفه.
وقال ابن قدامة: ولا يشرط الإِسلام في الإِحصان، وبهذا قال الزهري والشافعي، وعلى هذا يكون الذميان محصنين، واستدل بما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: جاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، وذكر الحديث، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، متفق عليه. قال: فإن قالوا: إنما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين بحكم التوراة بدليل أنه راجعها، فلما تبين له أن ذلك حكم الله عليهم أقامه فيهم، وفيها أنزل اللهُ تعالى في سورة المائدة:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}
(1)
. قلنا: إنما حكم عليهم بما أنزل الله إليه، بدليل قوله تعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}
(2)
من المائدة أيضًا، قال: ولا يسوغ للنبي صلى الله عليه وسلم الحكم بغير شريعته، ولو ساغ ذلك لساغ =
(1)
سورة المائدة: 44.
(2)
سورة المائدة: 48.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لغيره، وإنما راجع التوراة لتعريفهم أن حكم التوراة موافق لما يحكم به عليهم.
قلت: والدليل إلى جانب من يقول: إن الكتابي يرجم إذا زنى لحديث ابن عمر هذا المتفق عليه.
ولحديث جابر عند مسلم وأحمد: رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من أسلم ورجلًا من اليهود وامرأة. ولحديث البراء بن عازب عند مسلم وأحمد وأبي داود، قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: "أَهكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزِّنَى فِي كِتَابِكُمْ"؟ قالوا: نعم! فدعا رجلًا من علمائهم فؤال: "أَنْشُدُكَ بِاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَهكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزِّنَى فِي كِتَابِكُمْ"؟ قال: لا! ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرحم، ولكن كثر في أشرافنا، وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلَ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْا أَمَاتوهُ". فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا} إلى قوله تعالى: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ}
(1)
. يقولون: ائتوا محمدًا فإن أمركم بالجلد والتحميم فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى قوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . قال: هي في الكفار كلها. أخرجه المجد في المنتقى وقال: رواه أحمد ومسلم وأبو داود. قال الشوكاني: وأحاديث الباب تدل على أن الذمي يحد كما يحد المسلم. ا. هـ. وبالله تعالى التوفيق.
(7)
وقوله: ولم يعرف بداءة البينة ثم الإِمام، نقل المواق: قال مالك منذ أقامت الأئمة الحدود. فلم نعلم أحدًا منهم تولى ذلك بنفسه، ولا ألزم ذلك البينة خلافًا لأبي حنيفة القائل: إن ثبت الزنى ببينة بدأ الشهود ثم الإِمام ثم سائر الناس. ا. هـ. منه بلفظه.
وقال البغوي في الكلام على حديث: "اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". قال وفي الحديث دليل على أن حضور الإِمام ليس بشرط لإِقامة الرجم. وقال أيضًا: وفيه دليل على جواز الوكالة في إقامة الحد. ا. هـ. منه.
تنبيهٌ: لابد من حضور جماعة من المسلمين إقامة هذا الحد لقوله تعالى في سورة النور: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
(2)
واختلف في عدد الحضور، وقال الحطاب: قال ابن بكير في أحكام =
(1)
سورة المائدة: 41.
(2)
سورة النور: 20.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= التي رواها عن مالك، قال مالك: الطائفة ههنا أربعة يحضرون جلد الزاني البكر؛ ليعلم أنه محدود في الزنى، ولا يجزئ في ذلك أقل من أربعة شهداء. فإن قذفه قاذف بالزنى شهدوا فلم يحد قاذفه. ا. هـ. منه. بتصرف قليل.
(8)
وقوله: كلائط مطلقًا وإن عبدين أو كافرين، تقدم الكلام على حكم اللائط عند قول المصنف: وإن لواطًا، فأغنى عن إعادته، والحمد لله.
(9)
وقوله: وجلد الحر البكر مائة، دليله قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
(1)
. وهذا حد الزاني البكر الحر، وكذلك الزانية الحرة البالغة البكر. وثبت بالسنة تغريب عام. وسوف نتكلم عليه فيما بعد بإذن الله.
(10)
وقوله: وتشطّر بالرقّ وإن قلّ، قال في المدونة: حد العبد في الزنى خمسون وكذلك الأمة، وكل من فيه عقد حرية لم يتم كالمدبَّر والمكاتب والمعتق بعضه والمعتق إلى أجل. ا. هـ. من المواق.
قلت: دليل تشطر الجلد في الأمة قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
(2)
. وأما العبد الذكر فألحقه العُلماء بها إلحاقًا بنفي الفارق، لأن الذكورة والأنوثة وصفان طرديان بالنسبة للأحكام العامة، والله تعالى الموفق.
(11)
وقوله: وغرَّب الحر الذكر فقط عامًا، وأجره عليه، وإن لم يكن له مال فمن بيت المال، قال لمواق: من المدونة، لا نفي على النساء ولا على العبيد ولا تغريب، ولا ينفى الرجل الحر إلا بالزنى وفي حرابة، فيسجنان جميعًا في الموضع الذي ينفيان إليه، يسجن الزاني سنة، والمحارب حتى يعرف توبته، وكراؤه في سيره عليه في ماله أي في مال الزاني والمحارب، فإن لم يكن له مال فمن بيت المال. ا. هـ. منه.
قال ابن قدامة: ولا خلاف في وجوب الجلد على الزاني إذا لم يكن محصنًا، وقد جاء ذلك في كتاب الله تعالى بقوله سبحانه:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
(3)
، وقد جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لما جاء به كتاب الله، ويجب مع الجلد تغريبه عامًا في قول الجمهور، =
(1)
و
(3)
سورة النور: 2.
(2)
سورة النساء: 25.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين. وبه قال أبَيٌّ، وأبو داود، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم، وإليه ذهب عطاءٌ، وطاوس، والثوري، وابن أبي ليلى، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور.
وقال مالك والأوزاعي: يغرب الرجل دون المرأة؛ لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة، ولأنها لا تخلو في التغريب إما أن تكون بمحرم أو بغيره؛ فإن غربت بغير محرم كان ذلك غير جائز، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ والْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ". ولأن تغريبها بغير محرم تضييع لها وإغراء لها على الفجور؛ وإن غربت بمحرم أفضى ذلك إلى تغريب من ليس بزان، ونفي من لا ذنب له، وإن كلفت أجرة المحرم كان ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به، قالوا: والخبر الخاص في التغريب إنما هو في حق الرجل، وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم، والعام يجوز تخصيصه، لأنه يلزم من عمومه مخالفة مفهومه، فإنه دل بمفهومه على أنه ليس على الزاني أكثر من العقوبة المذكورة فيه، وإيجاب التغريب على المرأة يلزم منه الزيادة على ذلك، وفوات حكمته، لأن الحد وجب زجرًا عن الزنا، وفي تغريبها بغير محرم إغراء به وتمكين منه، مع أنه قد يخصص في حق الثيب بإسقاط الجلد في قول الأكثرين، فتخصيصه هنا أولى. قال ابن قدامة: وقول مالك فيما يقع لي أصح الأقوال وأعدلها، وعموم الخبر مخصوص بخبر النهي عن سفر المرأة بغير محرم، والقياس على سائر الحدود لا يصح، لأنه يسوي الرجل والمرأة في الضرر الحاصل بها بخلاف هذا الحد، قال: ويمكن قلب هذا القياس فيقال: هو حدٌّ فلا تزاد فيه المرأة على الرجل كسائر الحدود. وخالف أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، قالا: لا يجب التغريب لأن الله أمر بالجلد دون التغريب، فإيجاب التغريب زيادة على النص. واحتجا بأخبار أخرى عن علي وعمر لا ينهض الاحتجاج بها في الموضوع، والحجة عليهم أولًا: بأنه ورد في الحديث المتفق عليه "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَهِ عز وجل، عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ". وجلد ابنه مائة وغربه عامًا، وقال:"اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَة هذَا فَإِنِ اعْتَرف فَارْجُمْهَا".
والحجة عليهما أيضًا بأن التغريب فعله الخلفاء الراشدون، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة فكان إجماعًا. وأما ما ذكروه من الزيادة على النص، وأنهما يعتبرانها نسخًا فقد تقدم بحث ذلك عند قول المصنف في الشهادات: وإلا فعدل وامرأتان أو أحدهما بيمين، وبينت هناك أن الزيادة على النصر لا تعتبر نسخًا عند الجمهور، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. والحمد لله. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تنبيهٌ: الذي هو المذهب عند أصحابنا أن الزاني المحصن لا يجمع عليه بين الجلد والرجم إلا إذا ظن به أنه بكر فجلد، ثم ثبت بعد جلده أنه محصن، ففي هذه الحالة يرجم بعد ما جلد، أما إذا ثبت بادئ ذي بدء أنه ثيب، أقيم عليه الرجم دون الجلد، فقد روي عن عمر وعثمان أنهما رجما ولم يجلدا.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا اجتمع حدان لله تعالى فيهما القتل أحاط القتل بذلك، وبهذا قال النخعي، والزهري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي وهو رواية عن أحمد، اختارها الأثرم والجوزجاني، واستدلوا بأن جابرا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا ولم يجلده ورجم الغامدية ولم يجلدها، وقال:"اغْدُ يَا أنَيْسُ إلَى امْرَأَة هذَا فَإِنِ اعْتَرَفتْ فَارْجُمْهَا". متفق عليه. ولم يأمره بجلدها، قالوا: فكان هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجب تقديمه. وبالله التوفيق.
تنبيهٌ: ولا يقام الحد على حامل حتى تضع، سواء كان الحمل من زنا أو غيره. ولا خلاف في ذلك، قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن الحامل لا ترجم حتى تضع، وقد روى بريدة أن امرأة من بني غامد قالت: يا رسول الله، طهِّرْني. قال:"وَمَا ذَاكَ"؟ قالت: إنها حبلى من الزنى، قال:"أَنْتِ"؟ قالت: نعم، فقال لها:"ارْجِعي حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ" قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت. قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية، فقال:"إذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ تُرْضِعُهُ". فقام رجل من الأنصار، فقال إليَّ إرضاعه يا نبي الله، قال: فرجمها. رواه مسلم وأبو داود.
(12)
وقوله: وأقامه الحاكم والسيد، قال المواق: أما مستوفي الحد فهو الإمام في حق الأحرار، ولا بأس للسيد أن يقيم حد الزنى على مملوكه وحد القذف والخمر، وليس له أن يقيم حد السرقة عليه. ونسب الحطاب للمدونة أن ذلك ذريعة أن لا يمثل بعبده ويدعي عليه السرقة. ا. هـ. ودليل إقامة السيد الحد على مملوكه هو قوله صلى الله عليه وسلم:"أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكمْ". رواه الدَّارقُطْنِي كما في المغني، وقال ابن قدامة: هذا قول أكثر العُلماء: روي عن عليّ وابن مسعود، وابن عمر، وأبي حميد، وأبي أسيد الساعديين، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وعلقمة، والأسود والزهري، وهبيرة بن مريم، وأبي ميسرة، ومالك، والثوري، والشافعي، وأبي ثور، وابن المنذر. وقال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يجلدون ولائدهم في مجالسهم الحدود إذا زنوا. ا. هـ. منه. وبالله تعالى التوفيق.
جريمة القذف
بَابٌ: قَذْفُ المُكَلَّفِ حُرًّا بالِغًا مُسْلِمًا بِنَفْي نَسَبٍ عَنْ أَبٍ أوْ جَدٍّ لَا أمٍّ، وَلَا إنْ نُبِذَ أوْ زِنى إنْ كُلِّفَ وَعَفَّ عَنْ وَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ (1) بآلةٍ وَبَلَغَ كَأنْ بَلَغَتْ الْوَطْءَ أَوْ مَحْمُولًا وإنْ مُلَاعَنةً وابْنَهَا، أوْ عَرَّضَ (2) غَيْرُ أبٍ إنْ أفْهَمَ، يُوجِبُ ثَمَانينَ جَلْدَةً (3) وإنْ كرر لِواحِدٍ أوْ جَمَاعَةٍ إلا بَعْدَهُ، ونِصْفهُ على الْعَبْدِ (4)، كَلَسْتُ بزانٍ، أوْ زَنتْ عَيْنُكَ أو مُكْرَهَةً أوْ عَفِيفُ الفَرْجِ، أو لِعَربيٍّ ما أنْتَ بِحُرٍّ أو يا رُومِيُّ كأن نَسَبَه لِعَمِّهِ بِخِلَافِ جَدِّهِ، وكان قَالَ: أنا نَغِلٌ. أوْ وَلَدُ زنىً أوْ كيَاقَحْبَةُ. أوْ قرْنَانُ. أوْ يا ابْنَ مُنَزَلَةِ الرُّكْبَانِ. أوْ ذَاتِ الرَّايَةِ، أوْ فَعَلْتُ بِهَا في عُكْنِهَا، لَا إنْ نَسَبَ جنسًا لِغَيْرِهِ وَلَوْ أبْيَضَ لأسْوَدَ إنْ لمْ يَكُنْ مِنَ الْعَرَبِ، أوْ قَالَ مَوْلىً لِغَيْرِهِ أنَا خَيْرٌ أوْ مَالكَ أَصْلٌ ولَا فَصْلٌ، أو قَالَ لِجَمَاعَةٍ أحَدُكُمْ زَانٍ. وَحُدَّ في مَأبُونٍ إنْ كانَ لَا يَتَأنَّثُ، وَفي يا ابْنَ النَّصْرانيِّ أوْ الأزْرَق إنْ لَمْ يَكنْ في آبائه كذلِكَ، وَفي مُخَنَّثٍ إن لَمْ يَحْلِفْ وأُدِّبَ في يا ابنَ الفاسِقَةِ أو الفاجِرَةِ، أو يَا حِمارُ يَا ابْنَ الحِمَارِ، أو أنا عَفِيفٌ أو أنَّك عَفِيفَةٌ، أو يا فَاسِق، أو يا فاجِرُ، وإنْ قَالَتْ بِكَ جَوَابًا لزنيتِ، حُدَّتْ لِلزِّنَا والْقَذْفِ، ولهُ حَدُّ أبِيهِ وفُسِّقَ (5)، والْقِيامُ به وإنْ عَلِمَه مِنْ نَفْسِهِ، كَوَارثِهِ وإنْ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ وَلَدٍ وَوَلدِهِ وأبٍ وَأبيهِ، ولِكلٍّ الْقِيامُ وإنْ حَصَل مَنْ هُوَ أقْرَبُ، والْعَفْوُ قبْل الإِمَامِ أوْ بَعْدَهُ إنْ أَرَادَ سَتْرًا، وإنْ حَصَلَ في الْحَدِّ ابْتُدِئ لَهُمَا إلَّا أنْ يَبْقَى يَسيرٌ فيُكمَّل الأوَّلُ.
حد القذف
القذف هو الرمي بالزنى، أي السب به، وهو محرم بإجماع الأمة، والأصل في تحريمه الكتاب والسنة. أما الكتاب فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
(1)
، وقال تعالى أيضًا في هذه السورة {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
(2)
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ". قالوا: وما هن يا رسول الله؟. قال: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ". متفق عليه. وأجمع العُلماء على وجوب الحد على من قذف المحصن إذا كان مكلفًا.
(1)
قوله: قذف المكلف حرًا مسلمًا بنفي نسب عن أب أو جد - إلى قوله: يوجب الحد، قال ابن عرفة: القذف الأعم هو نسبة آدمي غيره لزنى أو قطع نسب مسلم، والأخص بإيجاب الحد: نسبة آدمي مكلف غيره حرًا عفيفًا مسلمًا بالغًا أو صغيرة تطيق الوطء لزنى أو قطع نسب مسلم.
وقد تقدم استجلاب آية النور التي نصت على جلد القاذف للمحصنات. قال القرطبي في تفسيره للآية: ذكر اللهُ تعالى في الآية النساء من حيث هن أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفس، وقذف الرجال داخل في الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك، قال: وحكى الزهراوي أن المعنى: والأنفس المحصنات، فهي في لفظها تعم الرجال والنساء، ويدل لذلك قوله تعالى في سورة النساء:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} . قال: وللقذف شروط تسعة:
شرطان في القاذف، وهما: العقل والبلوغ؛ لأنهما أصلا التكليف؛ إذ التكليف ساقط بدونهما.
وشرطان في الشيء المقذوف به؛ وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد، وهو الزنى واللواط، أو بنفيه عن أبيه دون سائر المعاصي.
وخمسة في المقذوف وهي: الحرية، والعقل، والبلوغ، والإِسلام، والعفة عن الفاحشة التي رمي بها، كان عفيفًا من غيرها أو لا.
قال: وإنما شرطنا في المقذوف العقل والبلوغ كما شرطناهما في القاذف، وإن لم يكونا من معاني الإحصان؛ لأجل أن الحد إنما جعل للزجر عن الإِذاية بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عدم العقل والبلوغ، إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى. =
(1)
سورة النور: 4.
(2)
سورة النور: 23.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (2) وقوله: أو عرَّض، اتفق العُلماء على أنه إن صرح بالزنى كان قذفًا ورميًا موجبًا للحد، فإن عرَّض ولم يصرح، فقال مالك: هو قذف، واختلفت الرِّواية في ذلك عن أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يكون قذفًا حتى يقول: أردت به القذف. قال القرطبي: والدليل لمالك هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرة بالتعريض وجب أن يكون قذفًا كالتصريح، والمعول على الفهم. وقد قال تعالى مخبرًا عن شعيب أن قومه عرضوا به فقالوا. {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}
(1)
أي السفيه الضال، فعرضوا له بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات حسبما تقدم في سورة هود، وقال تعالى في أبي جهل:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}
(2)
. وقال تعالى حكاية لما عرض به بنو إسرائيل عن مريم: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}
(3)
. فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء أي الزنى، وعرضوا لمريم بذلك، ولذلك قال الله تعالى:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}
(4)
وكفرهم معروف، والبهتان العظيم هو التعريض لها، أي قولهم لها:{مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} . أي وأنت بخلافهما، وقد أتيت بهذا الولد. وقد عرض الله تعالى بالمشركين في قوله تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
(5)
. فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى، وأن رسوله على الهدى، قال: وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال للزبرقان بن بدر رضي الله عنه:
دعِ المكارمَ لاترحلْ لبغيتها
…
واقعدْ فإنك أنت الطاعم الكاسِي
لأنه شبهه في تعريضه به بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون.
ولما سمع عمر أيضًا قول الشاعر يعرض بقوم:
قبيلته لا يغدرون بذمة
…
ولا يظلمون الناس حبة خردل
قال رضي الله عنه: ليت الخطاب كان كذلك، وإنما أراد الشاعر التعريض بضعف القبيلة.
فقالوا: يا أمير المؤمنين، سل حسان، أكان هذا هجوًا. فقال حسان: إنما سلح عليهم. ومثل هذا كثير. ا. هـ. منه. بتصرف وبعض زيادة.
(1)
سورة هود: 87.
(2)
سورة الدخان: 49.
(3)
سورة مريم: 28.
(4)
سورة النساء: 156.
(5)
سورة سبأ: 24.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3)
وقوله: يوجب ثمانين جلدة ألخ. الجلد الضرب والجلدة واحدته، والمجادلة المضاربة في الجلود أو بالجلود، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف أو غيره، ومنه قول قيس بن الخطيم:
أجادلهم يوم الحديقة حاسرًا
…
كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
والثمانون جلدة حد القاذف الحر، لقوله تعالى:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}
(1)
. وللإجماع المنعقد على ذلك، كان القاذف رجلًا أو امرأة، ويشترط أن يكون بالغًا عاقلًا غير مكره، وبشرط مطالبة المقذوف بحقه، وعدم إحفار القاذف لبينة تشهد له، وذلك لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} .
(2)
فيشترط في جلد القاذف عدم البينة، وعدم إقرار المقذوف، وان كان القاذف زوجًا اعتبر شرط آخر وهو امتناع الزوج من اللعان، قال ابن قدامة: ولا نعلم خلافًا في هذا كله.
(4)
وقوله: ونصفه على العبد: قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على وجوب الحد على العبد إذا قذف الحر المحصن لأنه داخل في عموم الآية، وحده أربعون في قول أكثر أهل العلم، روي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال: أدركت أبا بكر وعمر، وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء، فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف الأربعين، وروى خِلاسٌ أن عليًا قال في عبد قذف حرًا نصف الجلد. قال: وجلد أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عبدًا قذف حرًا ثمانين، وبه قال قبيصة وعمر بن عبد العزيز، ولعلهم ذهبوا إلى عموم الآية، والصحيح الأول للإِجماع المنقول عن الصحابة رضوان الله عليهم.
تنبيهٌ: ولما كان مدار حد القذف على رفع المعرة، قال مالك من رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قاذفًا؛ وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: ليس بقذف إذ لا حد عليها، وعلى من فعل ذلك التعزير.
ونقل القرطبي عن ابن العربي قوله: هذه مسألة محتملة مشكلة، لكن مالكًا غلب حماية عرض المقذوف، وغيره راعى حماية ظهر القاذف، وحماية عرض المقذوف أولى؛ لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد.
وقال ابن المنذر: وقال أحمد في الجارية بنت تسع يجلد قاذفها، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرًا =
(1)
و
(2)
سورة النور: 4.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يضرب قاذفه. وقال إسحاق: إذا قذف غلامًا يطأ مثله فعليه الحد، والجارية إذا جاوزت تسعًا مثل ذلك. ا. هـ. منه.
قلت: وإلى ما ذهب إليه مالك هنا قال المصنف: كان بلغت الوطء.
تنبيهٌ: وأجمع العُلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا قذفه، لتباين مرتبتهما، ولدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ فِي الدُّنْيَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ". أخرجه البخاري ومسلم، وفي بعض طرقه عند الدَّارقُطْنِي:"مَنْ قَذَفَ عَبْدَهُ بِزِنىً ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ثَمَانُونَ".
مسألة: قد تقدمت شهادة الزنى واللواط في الشهادات وإنها لابد فيها أن يشهد أربعة على معاينة؛ يرون ذلك كالمرود في المكحلة، وأن تكون في موطن واحد - على قول مالك - فإن اضطرب واحد منهم جلد الثلاثة جلد الفرية، كما فعله عمر رضي الله عنه في أمر من شهدوا على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، ذلك أنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع، وقيل عبد الله بن الحارث، وزياد أخوهما للأم، وشبل بن معبد البجلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة، توقف زياد فلم يؤدها، فجلد عمر الثلاثة الآخرين.
مسألة: تضمنت الآية التي نزلت في القذف ثلاثة أحكام في القاذف: جلده، ورد شهادته أبدًا، وفسقه، ثم قال الله تعالى بعد ذلك:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1)
. قال القرطبي: فالاستثناء غير عامل في جلده إجماعًا، إلا ما روي عن الشعبي أنه قال: الاستثناء من الأحكام الثلاثة؛ إذا تاب وظهرت توبته لم يحد وقبلت شهادته وزال عنه التفسيق لأنه صار ممن يُرضى من الشهداء، وقد قال الله تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ}
(2)
. قال القرطبي: والاستثناء عامل في فسقه إجماعًا، واختلف الناس في عمله في رد الشهادة، فقال شريح القاضي، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسفيان الثوريّ، وأبو حنيفة: لا يعمل الاستثناء في ردّ شهادته، وإنما يزول فسقه عند الله تعالى، وأما شهادة القاذف فلا تقبل ألبتة، ولو تاب وأكذب نفسه، ولا بحال من الأحوال. =
(1)
سورة النور: 5.
(2)
سورة طه: 82.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال الجمهور: الاستثناء عامل في ردّ الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وإنما كان ردُّها لعلة الفسق، فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقًا قبل الحد وبعده. وهو قول عامة الفقهاء؛ ثم اخلفوا في صورة توبته، فذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره أن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حُدَّ فيه، وهكذا فعل عمر، فإنه قال للذين شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته. فأكذب الشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل، فكان لا يقبل شهادته. وحكى هذا القول النحاس عن أهل المدينة.
وقالت فرقة، منها مالك بن أنس وغيره: توبته أن يصْلُح ويحسُن حاله، وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب، وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله، وهو قول ابن جرير.
واختلف أصحابنا متى تسقط شهادة القاذف، فقال ابن الماجشون: تسقط بنفس قذفه، وقال ابن القاسم، وأشهب، وسحنون: لا تسقط حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع - عفو أو غيره - لم ترد شهادته، وقال اللخمي: شهادته في مدة الأجل موقوفة، ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحدَّ وبقي على عدالته.
مسألة أخرى: واختلف العُلماء أيضًا على القول بجواز شهادته بعد توبته في أي شيء تجوز؟ قال مالك رحمه الله: تجوز في كل شيء مطلقًا وكذلك من حُدَّ في شيء من الأشياء؛ رواه نافع وابن عبد الحكم عن مالك، وهو قول ابن كنانة. وذكر الوقار عن مالك أنه لا تقبل شهادته فيما حدَّ فيه. وقال به مطرف، وابن الماجشون، وسحنون، وأصبغ، قالوا: من حدَّ في شيء من الأشياء فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه، وزاد مطرف وابن الماجشون. لا تجوز شهادة من حدَّ في قذف أو زنى في شيء من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لعان، وإن كان عدلًا وروياه عن مالك، واتفقوا على ولد الزنى أن شهادته لا تجوز في الزنى. ا. هـ. أخذًا من تفسير القرطبي.
قلت: وقد تقدم مزيد بحث لهذا عند قول المصنف: أو من حد فيما حد فيه. فأغنى عن الإِطناب فيه هنا، والحمد لله.
(5)
وقوله: وله حد أبيه وفسِّق، نقل الحطاب هنا عن مطرف وابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وسحنون، قالوا: لا يقضى للولد بتحليف والده، ولا يمكن من ذلك، ولا من أن يحد له في حد يقع =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= له عليه، لأنه من العقوق، وهذا مذهب مالك في المدونة في اليمين في كتاب الديات، وفي الحد في كتاب القذف وهو أظهر الأقوال. قال: وقد مشى هنا على القول الضعيف.
قلت: العجب كل العجب من تقرير مثل هذا ومن صدوره من مثل هذا الطود الشامخ، وصدق الله العظيم:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}
(1)
. الآية. وإلا فكيف يتأتى منه تقرير جواز مطالبة الولد بأن يحد له والده والقرآن العظيم يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا}
(2)
الآية. وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}
(3)
الآية ومعلوم أن قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} نهي عن أدنى مرتبة من مراتب الأذى، فكان ما فوق ذلك من الأذى منهي عنه من باب أحرى، من باب الإِلحاق بنفي الفارق، قال في مراقي السعود:
إعطاء ما للفظة المسكوتا .. من باب أوْلى نفيًا أوْ سكوتا
فمعلوم أنه لا يقول عاقل: إنما نهاني القرآن عن قول أف، ولكن لم ينهني أن أوذيه بأن أطالب بأن يجلد من أجلي ثمانين جلدة. أعوذ بالله من تقرير مثل ذلك، وقد يكبو الجواد، والله يغفر لنا وله ولجميع المسلمين.
(1)
سورة النساء: 82.
(2)
سورة الإسراء: 23.
(3)
سورة العنكبوت: 8.
جريمة السرقة
بَابٌ: تُقْطَعُ الْيُمْنَى وَتحْسَمُ بِالنَّارِ (1) إلَّا لِشَلَلٍ أوْ نَقْصِ أَكْثَرِ الأصَابِعِ فَرجْلُهُ الْيُسْرَى وَمُحِيَ لِيدِهِ (2) الْيُسُرَى، ثُمَّ يَدُهُ ثُمَ رِجْلُهُ ثُمَّ عُزِّرَ وَحُبسَ (3). وَإِنْ تَعَمَّدَ إِمَامٌ أوْ غيْرُهُ يُسْرَاهُ أوَّلًا فَالْقَوَدُ، والحَدُّ بَاقٍ، وَخَطَأً أجْزَأ، فَرِجْلُهُ اليُمْنَى بِسَرِقَةِ طِفْلٍ مِنْ حِرْز مِثْلِهِ، أوْ رُبُعِ دِينَارٍ أوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ خَالِصَةٍ أوْ مَا يُسَاوِيهَا بالْبَلَدِ شَرْعًا (4) وإنْ كمَاءٍ أو جَارِحٍ لِتَعْلِيمِهِ، أوْ جِلْدِهِ بَعْدَ ذَبْحِهِ، أَوْ جِلْدِ مَيْتةٍ إنْ زَادَ دَبْغُهُ نِصَابًا أو ظُنَّا فُلوسًا، أو الثّوْبُ فَارغًا، أو شَرِكَةِ صَبِيٍّ لَا أبٍ ولَا طَيْرٍ لإِجَابتِهِ، ولا إنْ تَكَمَّلَ بِمِرَارٍ في لَيْلَةٍ أوْ اشْتَرَكَا في حَمْلٍ إنْ اسْتَقَلَّ كَلٌّ وَلَمْ ينُبْهُ نصَابٌ، مِلْكَ غَيْرٍ، ولَوْ كَذَّبَه رَبُّهُ، أو أُخِذَ لَيْلًا وادَّعَى الإِرْسَال، وصُدِّقَ إنْ أشْبَهَ، لَا مِلْكِهِ مِن مُرْتَهِنٍ ومُسْتأجِرٍ قَبْلَ خُروجِهِ، محْتَرمٍ، لَا خَمْرٍ، وطَنْبُورٍ إلَّا أن يُسَاويَ بَعْدَ كسْرِهِ نِصَابًا، ولَا كَلْبٍ مُطْلَقًا، وأضْحِيَةٍ بَعْدَ ذَبْحِهَا بِخِلَافِ لَحْمِهَا مِنْ فَقِيرٍ تَامِّ المِلْكِ، لا شُبْهَةَ لهُ فيهِ (5) وإنْ مِن بَيْتِ الْمَالِ، والْغَنِيمَة، أوْ مَالِ شرِكةٍ إن حُجِبَ عَنْهُ وسَرَقَ فوْقَ حَقِّهِ نِصَابًا، لَا الْجَدُّ ولوْ لأُمٍّ، ولَا مِنْ جَاحِدٍ أو مُمَاطِلٍ لِحَقِّهِ، مُخْرَجٍ مِن حرْزٍ (6) بأن لَا يُعَدَّ الوَاضِعُ فِيهِ مُضَيِّعًا وإن لَمْ يُخْرِجْ هُوَ، أوْ ابْتَلعَ دُرًّا أوْ ادَّهَنَ لِمَا يَحْصُلُ مِنْه نِصَابٌ أوْ أشَارَ إلى شَاةٍ بِالْعلَفِ فَخَرَجَتْ أو اللَّحْدَ أو الْخِبَاءَ وما فيه أوْ حَانُوتٌ أو فِنائِهِما أوْ مَحْمِلٍ أو ظَهْرِ دَابَّةٍ وإنْ غِيبَ عَنْهُنَّ، أو جرينٍ أوْ ساحَةِ دَارٍ لأجْنَبِيِّ إنْ حُجِرُ عَلَيْهِ كَالفِينةِ. وخَانٍ للأثْقَالِ، أو زَوْجٍ فيما حُجِرَ عَنْهُ أوْ مَوْقِفِ دَابّةٍ لِبَيْعٍ أوْ غَيرِهِ، أو قَبرٍ أو بَحْر لمن رُمِيَ لِكفَنٍ أوْ سَفِينَةٍ بمرسَاةٍ، أو كُلِّ شَيْء بِحَضرَةِ صَاحِبهِ، أوْ مِن مَطمَر قَرُبَ، وقطارٍ ونَحْوِهِ، أو أزَالَ بَابَ المسْجِدِ أو سَقْفَهُ أوْ أَخْرَجَ قَنَادِيلَهُ أوْ حُصْرَهُ أَوْ بُسُطَهُ إنْ تُرِكتْ بِهِ، أو حَمَّامٍ إنْ دَخَلَ لِلسَّرِقَةِ أو نَقَبَ أو تَسَوَّرَ، أو بحَارسٍ
لمْ يأذَنْ لَهُ في تَقْلِيبٍ، وصُدِّقَ مُدَّعي الْخَطَإِ، أو حَمَلَ عَبْدًا لَمْ يُمَيِّزْ، أو خَدَعَهُ أو أخْرَجَهُ في ذي الإِذْنِ العام لِمَحَلِّهِ، لَا إذْنٍ خَاصٍّ كضَيْفٍ مِمَّا حُجِرَ عَلَيْهِ ولو خَرَجَ بِهِ مِنْ جَمِيعهِ، ولا إنَ نَقلَهُ ولَمْ يُخْرِجْهُ، وَلَا فيما عَلى صَبِيٍّ أوْ مَعَهُ، ولَا عَلى دَاخِلٍ تَناوَل مِنْهُ الخَارِجُ، ولا إن اخْتَلَسَ، أوْ كَابَرَ أوْ هَرَبَ بَعْدَ أخْذه في الحِرْزِ وَلَوْ لِيأتِي بِمَنْ يَشْهَدُ عَليْهِ، أوْ أخَذَ دَابَّةً بِبَابِ مَسْجِدٍ أوْ سُوقٍ، أوْ ثَوْبًا بَعْضُه بِالطَّرِيق، أو ثَمَرًا مُعَلًقًا إلا بِغَلَقٍ فَقوْلَانِ إلَّا بَعْدَ حَصْدِهِ فَثَالِثُهَا إنْ كُدِّسَ، ولا إن نَقَبَ فَقَطْ وإنْ الْتَقَيَا وَسَطَ النَّقْب، أوْ رَبَطَهُ فَجَذَبَهُ الْخَارِجُ، قُطِعَا.
وشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ (7)، فَيُقْطَعُ الحر والْعَبْدُ والمُعَاهَدُ وإن لِمِثْلِهِمْ، إلَّا الرقِيقَ لِسَيِّدِهِ (8). وثبتَتْ بإقْرَار إنْ طَاعَ، وإلَّا فَلَا، ولَوْ أخْرجَ السَّرِقَة أوْ عَيَّنَ القَتيلَ (9)، وقُبِلَ رُجُوعُه ولَوْ بلا شُبْهَةٍ (10)، وإنْ رَدَّ اليَمينَ فَحَلَفَ الطالِبُ أو شَهِدَ رَجُلٌ وامْرأتَانِ أو واحِدٌ وحَلَفَ أو أقَرَّ السَّيِّدُ، فَالْغُرمُ بلا قَطْعٍ، وإنْ أقَرَّ الْعَبْدُ فَالْعَكْسُ، وَوَجَبَ رَدُّ الْمَالِ إنْ لَمْ يُقْطَعْ (11) مُطْلَقًا أوْ قُطِر إنْ أيْسَرَ إلَيْهِ مِنَ الأخذ، وسَقَطَ الحَدُّ إنْ سَقَطَ الْعُضْوُ بِسَمَاويٍّ، لَا بِتَوْبَةٍ وعَدَالَةٍ وإنْ طَالَ زَمَانُهُمَا، وتَدَاخَلَتْ إن اتَّحَدَ الموجِبُ كَقَذْفٍ أوْ شُرْبٍ أوْ تَكَرَّرَتْ.
أحكام السرقة عصمنا اللّه والمسلمين منها
السرقة هي أخذ المال على وجه الخفية والاستتار، ومن ذلك المعنى استراق السمع، ومسارقة النظر إذا كان يستخفي بذلك.
قال ابن عرفة: أخذ مكلف حرًا لا يعقل لصغره، أو مالًا محترمًا لغيره نصابًا أخرجه من حرز بقصد وأخذ خفية لا شبهة له فيه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1)
قوله رحمه الله: تقطع المنى وتحسم بالنار، دليل قطعها من كتاب الله تعالى قوله جل وعز في سورة المائدة:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
(1)
. وروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْقَطْعُ في رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا". قال البغوي: هذا حديث متفق على صحته. أخرجه محمد عن عبد الله بن مسلمة، عن إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى وغيره عن سفيان بن عيينة. وانعقد إجماع المسلمين على وجوب قطع السارق في الجملة.
وقطع السارق كان موجودًا في الجاهلية، قال القرطبي في تفسيره: أول من حكم بقطع السارق في الجاهلية الوليد بن المغيرة، فأمر الله بقطعه في الإِسلام، فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخيار بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء مُرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم، وقطع أبو بكر رضي الله عنه اليد اليمنى للذي سرق العقد، وقطع عمر رضي الله عنه يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن بن سمرة. ا. هـ.
ولا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف، وهو الكوع، وفي قراءة ابن مسعود: فاقطعوا أيمانهما، فهي وإن لم تجز القراءة بها لعدم تواترها، فإنها لا تقل عن تفسير الآية. وقد روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قالا: إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من الكوع. ولا مخالف لهما من الصحابة، قاله في المغني.
وإذا قطع السارق حسم بالنار؛ وهو أن يغلى الزيت، فإذا قطع غمس عضوه في الزيت لتنسد أفواه العروق لئلا يصاب بنزيف للدم فيموت.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بسارق سرق شملة فقال: "اقْطَعُوهُ وَاحْسِمُوهُ". قال ابن المنذر: وهو حديث فيه مقال.
وممن استحب الحسم بالنار: الشافعي، وأبو ثور وغيرهما من أهل العلم، وهو مذهب أحمد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وأمر به القاطع، يكون الزيت من بيت المال.
(2)
وقوله: إلا لشلل أو نقص أكثر الأصابع فرجله اليسرى، وَمُحيَ ليده اليسرى، نقل المواق هنا =
(1)
سورة المائدة: 38.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عن المدونة قال: إن سرق ولا يمين له، أو له يمين شلاء، قطعت رجله اليسرى، قاله مالك، ثم عرضتها عليه فمحاها وقال تقطع يده اليسرى، وقوله في الرجل اليسرى أحب إليَّ وبه أقول. ا. هـ. منه.
وقال ابن قدامة: من سرق ولا يمنى له قطعت رجله اليسرى كما يقطع في السرقة الثانية، وإن كانت يمناه شلاء ففيها وجهان: قيل تقطع رجله اليسرى لأن الشلاء لا نفع فيها، وقيل إن كان يرقأ دمها إذا تطعت وحسمت تقطع؛ لأنها يمين أمكن قطعها، وإلا تركت لأنه يخاف تلفه، فتقطع رجله اليسرى. ا. هـ. منه بتصرف.
قلت: ولم أقف على نص من سنة في ذلك، إنما هو الاجتهاد. والله الموفق.
(3)
وقوله: ثم يده ثم رجله ثم عزر وحبس، قال القرطبي: لا خلاف أن اليمين هي التي تقطع أولًا، ثم اختلفوا إن سرق ثانية، فقال مالك وأهل المدينة، والشافعي، وأبو ثور، وغيرهم: تقطع رجله اليسرى، ثم في الثالثة يده اليسرى، عم في الرابعة رجله اليمنى، ثم إن سرق خامسة يعزر ويحبس، وقال أبو مصعب من علمائنا: يقتل بعد الرابعة واحتج بما خرجه النسائي عن الحارث بن حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بلص فقال: "اقْتُلُوهُ". فقالوا. يا رسول الله، إنما سرق. قال:"اقْطَعُوا يَدَهُ". قال: ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق أيضًا الخامسة، فقال أبو بكر رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أعلم بهذا حين قال:"اقْتُلُوهُ". ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه، منهم عبد الله بن الزبير، وكان يحب الإِمارة، فقال: أمروني عليكم، فأمّروه عليهم، فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه.
وبحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسارق في الخامسة فقال "اقْتُلُوهُ" قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فرميناه في بئر ورمينا عليه الححارة، رواه أبو داود وخرجه النسائي وقال هذا حديث منكر، وأحد رواته ليس بالقوي، ولا أعلم في هذا الباب حديثًا صحيحًا.
وقال ابن المنذر: ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قطعا اليد بعد اليد والرجل بعد الرجل.
وقيل تقطع في الثانية رجله اليسرى، ثم لا يقطع في غيرها، ثم إذا عاد عزر وحبس، وروي عن عليّ بن أبي طالب، وبه قال الزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل. قال الزهري: لم يبلغنا في السنة إلا قطع اليد والرجل. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تنبيهٌ: تقطع يد السارق وتعلق في عنقه، لما روى عبد الله بن محيريز، قال: سألت فضالة عن تعليق يد السارق في عناقه، أمن السنة هو؟ فقال: جيءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، وأبو داود والنسائي.
(4)
وقوله: بسرقة طفل من حرز مثله أو ربع دينار أو ثلاثة دراهم خالصة أو ما يساويها بالبلد شرعًا، أما الطفل الصغير الحر، ففي القطع بسرقته خلاف، فمذهب مالك، والحسن والشعبي، وإسحاق، أنه يقطع السارق بسرقة الحر الصغير، لأنه غير مميز فأشبه العبد، وهو رواية عن الإِمام أحمد. قال في المدونة: من سرق صبيًا حرًا أو عبدًا من حرزه قطع، وأن سرق عبدًا كبيرًا فصيحًا لم يقطع، وإن كان أعجميًا قطع. وروى ابن وهب أن حرز الصبي أن يكون في دار أهله. ا. هـ. المواق.
وذهب الشافعي، والثوري، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وابن المنذر إلى أنه لا قطع على السارق بسرقته الحر الصغير، لأن القطع يشترط فيه أن يكون المسروق مالًا.
قال القرطبي: ولا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار أو فيما قيمته ربع دينار، هذا قول عمر بن الخطاب، وعتمان بن عفان، وعليٍّ رضي الله عنهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والليث، والشافعي، وأبو ثور.
وقال مالك: تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم، فإن سرق درهمين وهما ربع دينار لانحطاط الصرف لم تقطع يده فيهما. قال: ولا تقطع اليد في العروض إلا فيما يساوي ثلاثة دراهم، قل الصرف أو كثر. فترى مالكًا قد جعل الذهب والفضة كل واحد منهما أصلًا بنفسه، وجعل العروض تقوم بالدراهم في المشهور. وقال أحمد وإسحاق بنحو قول مالك.
قلت: ومدار الخلاف هنا على اختلاف حديثي عائشة وابن عمر رضي الله عنهما، فإن ابن عمر روى أن رجلًا سرق جَحَفَة فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقومت بثلاثة دراهم فقطعه. متفق عليه، فقد جعله مالك أصلًا. وقد روت عائشة:"القَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا". وقد جعله الشافعي ومن وافقه أصلًا لتقويم العروض، وهنا يتبين لك من غير تعصب رجحان مذهب مالك من حيث إن حديث ابن عمر الذي اعتمده أصلًا حديث صحيح ثابت متفق عليه، قال ابن عبد البر: هذا أصح حديث يروى في هذا الباب، لا يختلف أهل العلم في ذلك. واعتمد الشافعي حديث عائشة أصلًا رد إليه تقويم العروض =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بالذهب لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورخصه، وترك حديث ابن عمر - والله أعلم - من أجل اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من يقول: ثلاثة دراهم، ومنهم من يقول: عشرة دراهم ومنهم من يقول: خمسة دراهم.
قال الشوكاني: حديث ابن عمر حجة مستقلة، ولو سلمنا صلاحية روايات تقدير قيمة المجن بعشرة دراهم لمعارضة الروايات الصحيحة لم يكن ذلك مفيدًا؛ لعدم ثبوت القطع بما دون ذلك؛ لثبوت القطع في ربع دينار، وهو دون العشرة دراهم، فيتعين طرح الروايات المتعارضة في ثمن المجن، ويتعين الأخذ بما أسلفنا عن جماعة من الصحابة أنهم قطعوا في ربع دينار وفي ثلاثة دراهم.
(5)
وقوله: لا شبهة له فيه، قال ابن شأس: من شروط المسروق أن يكون الملك تامًا قويًا، يعني بحيث لا تكون للسارق فيه شبهة، فإذا كان له فيه شبهة فلا قطع لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِدْرَووا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ".
(6)
وقوله: مخرج من حرز، قال ابن شأس: من شروط المسروق أن يكون محرزًا؛ معناه أن يكون في مكان هو حرز لمثله في العادة والعرف، وذلك يختلف باختلاف عادات الناس في احتراز أموالهم، وهو في الحقيقة كل ما لا يعد صاحب المال في العادة مضيعًا لماله بوضعه. والتحقيق أنه يشترط خروجه به من الحرز، وهو قول أكثر أهل العلم. وهذا مذهب عطاء، والشعبي، وأبي الأسود الدؤلي، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، وعمرو بن دينار، والثوري، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، قال ابن قدامة: ولا نعلم عن أحد من أهل العلم خلافهم، إلا قولًا حكي عن عائشة رضي الله عنها، والحسن، والنخعي، فيمن جمع المتاع ولم يخرج به من الحزر، عليه القطع، وعن الحسن أيضًا مثل قول الجماعة، ومن هنا تعلم أن قول المصنف: وإن لم يخرج هو، غير مسلم، بل قول مرجوح، والله الموفق.
(7)
وقوله: وشرطه التكليف، دليله قوله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثٍ
…
" الحديث. قال ابن عرفة: نصوص المذهب واضحة بأن شرط قطع السارق تكليفه حين سرقته. وإذًا، فإنه يقطع الحر، والعبد، والذمي، والمعاهد؛ لأن حد القطع حق لله تعالى.
قال ابن قدامة: أما الحر والحرة فلا خلاف فيهما، لأن الله تعالى قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أَيْدِيَهُمَا}
(1)
. ولأنهما سواء في سائر الحدود، وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد سارق صفوان، وقطع يد المخزومية التي سرقت القطيفة.
وأما العبد والأمة، فإن جمهور الفقهاء وأهل الفتوى على أنهما يجب قطعهما بالسرقة، إلَّا ما حكي عن ابن عباس أنه قال: لا قطع عليهما، لأنه حد لا يمكن تنصيفه فلم يجب في حقهما كالرجم. وحجة الجمهور عموم الآية، وما رواه الأثرم أن رقيقًا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها فأمر كثير بن الصَّلْت أن تقطع أيديهم، ثم قال عمر: والله إني لأراك تجيعهم، ولكن لأغرمنّك غرمًا يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ قال: أربعمائة درهم، فقال عمر: اعطه ثمانمائة درهم. وروى القاسم بن محمد عن أبيه أن عبدًا أقر بالسرقة عند عليّ فقطعه، رواه الإِمام أحمد في مسنده. قال ابن قدامة: وهذه قصص تنشر ولم تنكر، فتكون إجماعًا.
(8)
وقوله: إلا الرقيق لسيده، قال ابن رشد، إنما لم يقطع العبد في مال سيده لئلا تجتمع على لسيد عقوبتان: ذهاب ماله، وقطع يد غلامه. ا. هـ. المواق.
قال ابن قدامة: وأما العبد إذا سرق من مال سيده فلا قطع عليه في قولهم جميعًا، إلَّا ما روي عن
داود أنه يقطع؛ متمسكًا بعموم الآية. وحجة الجمهور ما روى السائب بن يزيد، قال: شهدت عمر بن الخطاب، وقد جاءه عبد الله بن عمر بن الحضرمي بغلام له، فقال: إن غلامي هذا سرق فاقطع يده، فقال عمر: ما سرق؟ قال سرق مرآة امرأتي ثمنها ستون درهمًا، فقال: أرسله، لا قطع عليه، خادمكم خذ مالكم، ولكنه لو سرق من غيره قطع، وهذه قضايا تشتهر ولم يخالفها أحد فتكون إجماعًا يخصص عموم الآية.
(9)
وقوله: وثبتت بإقرار إن طاع، وإلا فلا، ولو عين السرقة وأخرج القتيل، قال اللخمي: قال مالك فيمن أقر بعد التهديد: لا حكم لإِقراره ولا يؤخذ به، قال في المدونة: وإن أخرج السرقة أو عين القتيل في حال التهديد لم أقطعه ولم أقتله حتى يقر بعد ذلك آمنًا. وقال مالك والشافعية والحنفية إنه يكفي لقطع السارق إقراره مرة واحدة، وقالوا في حديث أبي أمية المخزومي الذي استدل به الإمام أحمد من وافقه على اشتراط تعدد الإقرار ليقطع به صاحبه، قالوا: إنما يدل على أنه يندب له تلقين المسقط =
(1)
سورة المائدة: 38.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= للحد عنه، والمبالغة في الاستثبات، قالوا: ومما يدل على أن هذا هو المراد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ". ثلاث مرات في رواية، ولا قائل بأنه يشترط الإِقرار ثلاث مرات، ولو كان مجرد الفعل يدل على الشرطية لكان وقوع التكرار منه صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات يقتضي اشتراطها. وقد قطع صلى الله عليه وسلم الذي سرق رداء صفوان والذي سرق المجن ولم ينقل أحد في ذلك تكرار الإِقرار. ا. هـ. انظر للشوكاني نيل الأوطار.
قلت: وتقدم بحث هذه المسألة في باب الإِقرار عند قول المصنف: يؤاخذ المكلف بلا حجر بإقراره، واستجلبت هناك قوله صلى الله عليه وسلم:"رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". دليلًا على أن الإِقرار المنتزع من المتهم لا يلزم، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. والله تعالى الموفق.
(10)
وقوله: وقبل رجوعه ولو بلا شبهة، قال المواق: قال أبو عمر: اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة على قبول رجوع المقر بالزنى والسرقة وشرب الخمر إذا لم يدع المسروق ما أقر به السارق. وقال الباجي: إن رجع لغير شبهة، فروى ابن وهب ومطرف أنه يقال، وقاله ابن القاسم وابن عبد الحكيم. ا. هـ. منه.
قلت: وقد تقدم بحث ذلك في الكلام على جريمة الزنى، أعاذنا الله والمسلمين منها، عند قول المصنف: وثبت بإقراره مرة إلا أن يرجع مطلقًا، فأغنى ذلك عن بحثه هنا. والحمد لله المنعم المتفضل.
(11)
وقوله: ووجب رد المال إن لم يقطع، نقل المواق عن ابن عرفة. موجب السرقة قطع السارق، وضمانه السرقة لازم له إن لم يقطع اتفاقًا، وقال مالك: فلو سرق ما لا يجب فيه القطع؛ إما لقلته أو لأنه من غير حرز، أو لغير ذلك، فإنه يتبع به في عدمه ويحاصر به غرماءه، قال: وإذا كان يجب فيه القطع لم يتبع به إلا في يسره المتصل من يوم سرق إلى يوم يقطع، وإلا لم يتبع وإن كان مليًا بعد عدم تقدم، قال مالك: وهو الأمر المجمع عليه عندنا. وقال في المدونة: إنما يضمن السارق إذا سرق وهو موسر فتمادى يسره إلى أن قطع. قال ابن عرفة: وإن قطع والسرقة قائمة بعينها أخذها ربها. ا. هـ. منه.
وقال ابن قدامة: لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين المسروقة على مالكها إذا كانت باقية، أما إذا كانت تالفة فعلى السارق رد قيمتها، أو مثلها إن كانت مثلية، قطع أو لم يقطع، موسرًا كان أو =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= معسرًا، وهذا قول الحسن، والنخعي، وحماد، والبتي، والليث، والشافعي وإسحاق، وأبي ثور.
وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يجتمع الغرم والقطع، فإن غرمها قبل القطع سقط القطع، وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم.
وقال عطاء وابن سيرين، والشعبي، ومكحول: لا غرم على السارق إذا قطع، ووافقهم مالك في المعسر، ووافق أصحاب المذهب الأول في الموسر. واحتج من لا يرى غرمًا على السارق إذا قطع بحديث روي عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ". وهو حديث معلول تدور عليته على سعد بن إبراهيم راويه عن منصور وهو مجهول. قاله ابن المنذر، وقال ابن عبد البر: الحديث ليس بالقوي. ا. هـ. منه.
خلاصة: ذكر القرطبي: لا يجب القطع إلا بجمع أوصاف تعتبر في السارق، وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفته.
أمَّا ما يعتبر في السارق فهو خمسة أوصاف: وهي: البلوغ، والعقل، وأن يكون غير مالك للمسروق منه، وأن لا تكون له عليه ولاية، فلا يقطع العبد إن سرق من مال سيده، ولم يقطع أحدٌ بأخذ مال عبده، وسقط قطع العبد بإجماع الصحابة وبقول الخليفة عمر: غلامكم سرق متاعكم.
وأمّا ما يعتبر في الشيء المسروق، فأربعة: أن يكون مما يتمول ويمتلك ويحل بيعه، إلا الحر الصغير عند مالك وابن القاسم، وقيل لا قطع على من سرق حرًا صغيرًا. وهو قول الشافعي وأبي حنيفة لأنه ليس بمال، وقال أصحابنا: لم يقطع السارق في المال لعينه، وإنما قطع لتعلق النفوس به، وخلقها بالحر الصغير أكثر من تعلقها بالمال. وأن يكون المسروق نصابًا، وقد تقدم الكلام في النصاب. وأن لا يكون للسارق فيه ملك ولا شبهة؛ وأن يكون مما تصح سرقته؛ كالعبد الصغير والأعجمي الكبير.
وأمَّا ما يعتبر في الموضع المسروق منه، فوصف واحد وهو الحزر لمثل ذلك الشيء المسروق، وجملة القول فيه أن كل شيء له مكان معروف فمكانه حرزه، وكل شيء له حافظ فحافظه حرزه، فالدور والمنازل والحوانيت حرز لما فيها، غاب عنها أهلها أو حضروا، وكذلك بيت المال حرز لجماعة المسلمين، والسارق لا يستحق فيه شيئًا، وإن كان قبل السرقة يجوز أن يعطيه الإِمام، وإنما يتعين حق كل مسلم بالعطية. ا. هـ. منه. والتحقيق أنه ليس في ذلك إلا الاجتهاد. والله تعالى الموفق.
كتاب الحرابة
بَابٌ: الْمُحَارِبُ قَاطِعُ الطَّرِيق لِمَنْعِ سُلُوكٍ، أوْ آخِذُ مَالِ مُسْلِمٍ أوْ غَيْرهِ عَلى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَة الغَوْثُ، وإنْ انْفَرَدَ بِمَدِينَةٍ كمُسْقي السَّيْكُرَانِ لِذلِكَ ومُخِادِعِ الصَّبِيِّ أوْ غيْرِهِ ليَأخذَ مَا مَعَهُ، والدَّاخِل في لَيْلٍ أوْ نَهَارٍ في زُقَاقٍ أو دارٍ، قَاتَلَ لِيَأْخُذَ المَالَ، فَيُقَاتَلُ بَعْدَ المناشَدَةِ إنْ أمْكَنَ ثُمَّ يُصْلَبُ فَيُقْتَلُ (1)، أوْ يُنْفَى الحُرُّ كالزِّنَا (2) وَالْقَتْلِ أو تُقْطَعُ يَمِينُه ورِجْلُهُ اليُسْرَى وِلاءً (3) وبالْقَتْلِ يَجِبُ قَتْلُهُ ولَوْ بكافِرٍ أو بإعَانةٍ، ولَوْ جَاءَ تائبًا، ولَيْسَ لِلْولِيِّ العَفْو (4). ونُدِبَ لذِي التَّدْبِير الْقَتْلُ، والبَطْشِ الْقَطْعُ، ولغَيْرِهِمَا ولِمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُمْ فَلْتَةٌ النَّفْيُ والضَّربُ، والتَّعْيِينُ لِلإِمَامِ لا لِمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ ونَحْوُهَا وغَرِمَ كلٌّ عَنِ الجَمِيعِ مُطلَقًا. اتُّبِعَ كَالسَّارِقِ ودُفِعَ مَا بِأيْدِيهِمْ لِمَنْ طَلَبَهُ بَعْدَ الاسْتينَاءِ وَالْيَمِينِ أَوْ بِشَهَادَهِ رَجُلَيْنِ مِنَ الرُّفْقَة لَا لأنْفُسِهِمَا، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أنَّهُ المشْتَهَرُ بِهَا ثَبَتَتْ وإنْ لَمْ يُعَاينَاهَا، وسَقطَ حَدُّها بإتْيانِ الإِمَام طَائعًا أوْ تَرْك مَا هو عَلَيْهِ (5).
الكلام على المحارب
اختلف العُلماء فيمن يطلق عليه اسم المحارب وتجري عليه أحكام الحرابة، فقال مالك بن أنس: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائر ولا ذحل ولا عداوة. وقال ابن المنذر: اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة، وقالت طائفة: حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة، وهذا قول الشافعي وأبي ثور. قال ابن المنذر: كذلك هو لأن كلًا يقع عليه اسم المحاربة، والكتاب على العموم، وليس لأحد أن يُخْرِج من جملة الآية قومًا بغير حجة. ولذلك ترى المصنف اعتمد في تعريف المحارب.
(1)
قوله: المحارب قاطع الطريق لمنع سلوك أو آخذ مال مسلم أو غيره على وجه يتعذر معه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= الغوث
…
إلى قوله: ثم يصلب فيقتل
…
ألخ.
قال الخرقي من أصحاب مذهب الإِمام أحمد: المحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة، قال ابن قدامة: هذا قول أبي حنيفة، والثوري، وإسحاق.
قال القرطبي: والمغتال محارب، وهو الذي يحتال على قتل إنسان لأخذ ماله. وإن لم يشهر عليه السلاح، لكن دخل عليه بيته، أو صحبه في سفر فأطعمه سمًا فقتله، فإنه يقتل حدًّا لا قودًا.
قال الحطاب: أي على وجه الاستحباب، قال ابن رشد: واستحب مالك أن يدعو إلى التقوى والكف، فإن أبوا قوتلوا، وإن عاجلوا قوتلوا. ا. هـ. منه.
وعقوبة المحاربين نزل فيها قوله تعالى في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
(1)
. قال مالك: الإِمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية، وهذا قول أبي ثور، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي. قال القرطبي: قال ابن عباس: ما كان في القرآن "أَوْ" فصاحبه بالخيار، قال: وهذا القول أنسب لظاهر الآية، فإن الذين قالوا إن "أَوْ" للترتيب - وإن اختلفوا - فإنك تجد أنهم يجمعون عليه حدين: فمنهم من يقول يقتل ويصلب، ومنهم من يقول تقطع يده ورجله وينفى، وليس كذلك الآية، ولا معنى "أَوْ" في اللغة، قاله النحاس.
(2)
وقوله: أو ينفى الحر كالزنا، نسب المواق هنا لابن الحاجب: أما النفي فللحر لا للعبد، كما ذكر في الزنى، إلى أن تظهر توبته، قال القرطبي عند قوله تعالى:{أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} قال السدّي هو أن يطلب أَبدًا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله، أو يخرج من دار الإِسلام هربًا ممن يطلبه. عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس، والحسن، والسدّي، والضحاك، وقتادة، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس. والزهري، حكاه الروماني في كتابه. وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وقاله الليث بن سعد والزهري أيضًا. =
(1)
سورة المائدة: 33.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وروي عن مالك أيضًا: ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويحبس فيه كالزاني. وقال مالك أيضًا والكوفيون: نفيهم سجنهم؛ فينفوا من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض إلا من موضع استقراره، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
…
فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يومًا لحاجة
…
عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا
وحكى مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم.
والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة، وقد تجنب الناس قديمًا الأرض التي أصابوا فيها الذنوب، ومنه حديث الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة. قال: وينبغي للإِمام، إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد، أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب فظن أنه لا يعود إلى جناية سرح، قال ابن عطية: وهذا صريح مذهب مالك: أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا على الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الواضح لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية. وسجنه بعدُ، بحسب الخوف منه، فإن تَاب وفهمت حاله سرح. قال: وأصل النفي لغة الإِهلاك، ومنه الإِثبات والنفي، ومنه اشتقت النفاية لرديء المتاع، والنَّفِيُّ لما تطاير من الماء عن الدلو. قال الراجز:
كأن متْنيْه من النَّفِيِّ
…
مواقعُ الطيْر على الصُّفِّيِّ ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: أو تقطع يمينه ورجله اليسرى ولاءً قال ابن قدامة: تقطع يده اليمنى للمعنى الذي تقطع به يمنى السارق، ثم تقطع رجله اليسرى لتحقق المخالفة، فهذا معنى قوله تعالى:{أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} . فإنه أرفق به في إمكان مشيه، قال: ولا ينظر اندمال اليد في قطع الرجل، بل يقطعان معًا، يبدأ بيمينه فتقطع وتحسم، ثم برجله؛ لأن الله تعالى بدأ بذكر الأيدي، قال: ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يقطع منه غير يد ورجل، إذا كانت يداه ورجلاه صحيحتين. ا. هـ. منه بتصرف.
مسألة: قال الخرقي: ولا يقطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله. قال ابن قدامة: وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال مالك وأبو ثور: للإِمام أن يحكم عليه بحكم المحارب لأنه محارب لله ورسوله، ساع في الأرض بالفساد فيدخل في عموم الآية. ا. هـ. منه.
قال القرطبي: وهو الصحيح، يعني قول مالك، فإن الله تعالى وقَّت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع بالسرقة بربع دينار، ولم يوقّت في الحرابة شيئًا، بل ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على الحرابة عن حبة. قال: وكيف يصح قياس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال، فإن شعر به فرَّ؟ وحتى أن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال، فإن منع منه وصيح عليه وحارب عليه فهو محارب يحكم عليه بحكم المحارب. قال ابن العربي: كنت أيام حكمي بين الناس إذا جاءَني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم، وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين. فافهموا هذا من أصل الدين وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله: وبالقتل يجب قتله ولو بكافر، أو بإعانة، ولو جاء تائبًا وليس للولي العفو، نقل المواق عن ابن عرفة: حد المحارب بأحد الأربعة ما لم يقتل، فإن قتل تعين قتله، ولم يختلف فيه قول مالك، وفي المدونة قتل عثمان مسلمًا قتل ذميًا حرابة. وقال في المدونة: إن كانوا جماعة قتلوا رجلًا ولّي أحدهم قتله والباقون عون له، قتلوا كلهم، وإن تابوا قبل أن يؤخذوا، دفعوا إلى أولياء الدم فقتلوا من شاءوا وعفوْا عمن شاؤوا أو أخذوا الدية ممن شاؤوا.
وقال ابن قدامة: إذا قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب في ظاهر المذهب، وقتله متحتم لا يدخله عفو، أجمع على هذا كل أهل العلم، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه، وروى ذلك عن عمر، وبه قال سليمان بن موسى، والزهري، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، قالوا: لأنه حد من حدود الله تعالى، فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود. قال: وهل يعتبر التكافؤ بين القاتل والمقتول في الحرابة؟ فيه روايتان.
قال القرطبي: ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئًا للقاتل، وللشافعي فيها قولان: أحدهما أنها تعتبر المكافاة لأنه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص، قال: وهذا ضعيف لأن القتل هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام؛ من التخويف وسلب المال، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= والله تعالى يقول: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا}
(1)
فأمر الله بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين؛ محاربة وسعيًا في الأرض فسادًا، ولم يخص شريفًا من وضيع، ولا رفيعًا من دنِيء. ا. هـ. منه.
تنبيهٌ: اختلف العُلماء في وقت صلب المحارب حسبما يقتضيه قوله تعالى: {أَوْ يُصَلَّبُوا} . فقد قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، والأوزاعي، والليث قالوا: يصلب حيًا ثم يقتل مصلوبًا. يطعن بالحربة، لأن الصلب عقوبة، وإنما يعاقب الحي لا الميت، ولأنه جزاء على المحاربة فيشرع في الحياة كسائر العقوبات. وخالف الشافعي، فقال: يصلب بعد القتل، قال ابن قدامة: لأن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظًا، والترتيب بينهما ثابت بغير خلاف، قال: ولأن القتل إذا أطلق في لسان الشرع كان بالسيف. قال: وصلبه حيًا تعذيب له، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان.
(5)
وقوله: وسقط حدها بإتيان الإِمام طائعًا، أو بترك ما هو عليه، قال القرطبي: فإن تابوا وجاؤوا تائبين، لم يكن للإِمام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حدًا لله تعالى، وأخذوا بحقوق الآدميين، فيقتص منهم من النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين، هذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي. قال: وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمة ما استهلكوا، لأن ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه أو يوقفه الإِمام عنده حتى يعلم صاحبه.
وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطالب به من المال إلا بما وجد عنده، أما ما استهلكه فلا يطالب به. وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغُدَنيّ فإنه كان محاربًا ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابًا منشورًا. وقال ابن خويزمنداد: واختلفت الرِّواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال، هل يتبع دينًا بما أخذ أو يسقط عنه كما يسقط عن السارق؟ قال: والمسلم والذميّ في ذلك سواء. ا. هـ.
وقال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أنهم إن تابوا من قبل أن يقدر عليهم سقطت عنهم =
(1)
سورة المائدة: 33.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= حدود الله تعالى، وأَخذوا بحقوق الآدميين إلا أن يعفى لهم عنها، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، وأبو ثور. والأصل في هذا قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1)
. فإن تابوا بعد القدرة عليهم لم يسقط عنهم شيء من الحدود، لقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} . فأوجب عليهم الحد. قال: وإن فعل المحارب ما يوجب حدًا لا يختص بالمحاربة كالشرب والسّرقة والقذف، فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة إلا القذف لأنه حق الآدمي، قال: وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين وأصلح، قيل: يسقط عنه الحد لقوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}
(2)
من المائدة ولقوله صلى الله عليه وسلم: "التَّائِبُ مِنَ الذنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَه". أخرجه ابن ماجة.
قال: ومن لا ذنب له لا حدّ عليه.
وقال قوم: لا يسقط عنه الحد. وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، واحتجوا ججج انظرها في المغني.
(1)
سورة المائدة: 34.
(2)
سورة المائدة: 39.
جريمة الشرب
بَابٌ: بِشِرْب المُسْلِمِ المُكَلَّفِ مَا يُسْكِر جِنْسُهُ (1) طَوْعًا بِلَا عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ وظَنِّه غيْرًا، وإنْ قَلَّ، أوْ جَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ أوْ الحُرْمَةَ لِقُرْب عَهْدٍ، وَلوْ حَنفيًّا يَشْرَبُ النبِيذَ، وصُحِّحَ نَفْيُهُ، ثَمَانُونَ بَعْدَ صَحْوِه (2) وتَشَطَّرَ بالرِّقَّ (3) وَإن قَلَّ إنْ أقَرَّ أوْ شَهِدَا بشُرْبٍ (4) أوْ شَمٍّ (5)، وإنْ خُولِفَا. وجَازَ لإِكْرَاهٍ وإسَاغَةٍ، لَا دَواءٍ وَلَوْ طِلاءً (6) والحُدُودُ بِسَوْطٍ وضَرْبٍ مُعْتَدِلَيْن قاعِدًا بِلَا رَبْطٍ وَشَدِّ يَدٍ، بظَهْرِهِ وكتِفيْه (7)، وجُرِّدَ الرَّجُلُ والمرْأَةُ مِمَّا يَقي الضَّرْبَ، ونُدِبَ جَعْلُهَا في قَفَّةٍ. وعَزَّر الإِمَامُ لمعْصِيَةِ اللَّهِ أو لحَقِّ آدَمِيٍّ (8)، حَبْسًا وَلوْمًا وبالإِقامَةِ (9) ونَزْع العِمَامَةِ وضَرْبٍ بِسَوْطٍ أوْ غَيْرهِ وإنْ زَادَ عَلى الحَدِّ أوْ أتَى عَلى النَّفْسِ، وضَمِن مَا سَرى، كطبِيب جَهِلَ أوْ قَصَّرْ (10) أوْ بِلَا إذْنٍ مُعْتَبَرٍ وَلَوْ إذْنَ عَبْدٍ بِفَصْدٍ أو حجَامَةٍ أوْ خِتَانٍ، وكَتأجِيج نَارٍ في يَوْمٍ عَاصفٍ، وكسُقُوطِ جِدَارٍ مَالَ وَأُنْذِرَ صَاحِبُهُ وأمْكنَ تَدَارُكُهُ، أو عَضَّهُ فَسَلَّ يَدَهُ فَقَلَعَ أسْنَانَهُ، أوْ نَظَرَ لَهُ مِنْ كُوَّةٍ فقصَدَ عَيْنَهُ (12) وإلَّا فَلَا، كسُقُوطِ مِيَزابٍ، أوْ بَغْتِ رِيحٍ لِنَارٍ كحَرْقِهَا قَائِمًا لِطَفْيِهَا. وجَازَ دَفْعُ صَائلٍ (13) بَعْدَ الإِنْذارِ لِلْفَاهِمِ وإنْ عَنْ مَالٍ، وقَصْدُ قَتْلِهِ إنْ عَلِمَ أنهُ لا يَنْدَفِعُ إلَّا بِهِ، لَا جُرْحٌ إنْ قَدَرَ عَلى الْهَربِ مِنْهُ بِلَا مَشَقَّةٍ.
ومَا أتْلفَتْهُ الْبَهَائِمُ لَيْلَا فعلى رَبِّهَا (14) وإنْ زَادَ عَلى قِيمَتِهَا، بِقِيمَته عَلى الرجَاءِ والْخَوْفِ، لَا نَهَارًا، إن لَمْ يكن مَعَهَا راعٍ وسُرِّحَتْ بُعْدَ المَزَارِع وإلَّا فَعَلى الراعي.
الكلام على جريمة الشرب
قال ابن قدامة: الخمر حرام بالكتاب، والسنة، والإِجماع. أما الكتاب فقد قال الله تعالى في سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= فَاجْتَنِبُوهُ}
(1)
. وأما السنة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٌ حَرَامٌ". قال ابن قدامة: رواه أبو داود والإِمام أحمد. قال: وأجمعت الأمة على تحريم الخمر. ا. هـ.
قال القرطبي: والخمر مأخوذةٌ من خَمَرَ إذا ستر، ومنه اشتق خمار المرأة، وكل شيء غطَّى شيئًا فاقد خَمره. ومنه"خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ". فالخمر تَخْمُر الْعَقْلَ أي تُغَطِّيهِ وتسْتره قال: ومن ذلك يقال للشجر الملتف الخَمَرُ - بفتح الميم - لأنه يغطي ما تحته ويستره. يقال منه: أخْمَرتْ الأرضُ. إِذا كَثُرَ خَمَرُهَا، قال الشاعر:
ألَا يا زيادُ والضَّحاكَ سيرا
…
فَقد جَاوَزْتُما خَمَرَ الطريق
أي فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر فيها الذئب وغيره. قال: ومن ذلك قولهم: دخلت في غُمَّار الناس وخُمَّارهم، أي في مكان خاف. قال: فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك.
وقيل سميت خمرًا لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال خُمِر الرأي إذا ترك حتى تبين فيه الوجه، كما يقال اختمر العجين أي بلغ إدراكه.
وقيل اشتق لها ذلك الإِسم من المخامرة وهي المخالطة لأنها تخالط العقل، قال: ومن ذلك قولهم: دخلت في خُمَّار الناس، أي اختلطت بهم، فالمعاني الثلاثة متقاربة. فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت ثم خالطت العقل ثم خمرته، والأصل الستر.
والخمر ماء العنب الذي غَلَى أو طبخ، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه.
وجمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب، محرم قليله وكثيره.
وأن الحد في ذلك واجب. وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال، وإذا سكر منه أحد دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه، قال: وهذا ضعيف يرده النظر والخبر. ا. هـ. منه.
(1)
قوله: بشرب المسلم المكلف ما يسكر جنسه إلخ. قال ابن رشد: الشِّرب الموجب للحد هو شرب مسلم مكلف ما يسكر كثيره مختارًا. وقوله: وإن قلّ، لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ". ا. هـ. المواق. =
(1)
سورة المائدة: 90.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال ابن قدامة: إن كل مسكر حرام قليله وكثيره، وهو خمر، حكمه حكم عصير العنب في تحريمه، ووجوب الحد على شاربه. وروي تحريم ذلك عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأبيِّ بن كعب، وأنس، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وبه قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، والقاسم، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد، وإسحاق.
وقال أبو حنيفة ومن وافقه: عصير العنب إذا طبخ فذهب ثلثاه، ونقيع التمر والزّبيب إذا طبخ وإن لم يذهب ثلثاه، ونبيذ الحنطة والذرة والشعير ونحو ذلك، نقيعًا كان أو مطبوخًا، كل ذلك حلال إلا ما بلغ السكر. قال: وأما عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده، أو طبخ فذهب أقل من ثلثيه، ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ فهذا حرام قليله وكثيره، واحتج بما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم:"حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلّ شَرَابٍ". ا. هـ. منه.
قلت: ذكر القرطبي عند قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}
(1)
الآية من المائدة؛ ذكر أن سبب نزولها ما رواه ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها، ويأكل الميسر؟ فنزلت الآية. قال: وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديًا، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت؟! قال: فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي. ألا إنَّ الخمر قد حُرّمت. قال: إذهب فأهرقها - وكان الخمر من الفضيخ - قال فجرت في سكك المدينة، فقال القوم: قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله عز وجل:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} . الآية. ومعلوم أن الفضيخ يتخذ من البسر المفضوخ وحده من غير أن تمسه النار.
قال القرطبي: هذا الحديث في نزول الآية دليل واضح على أن نبيذ التمر إذا خمر أسكر، وهي نص، ولا يجوز الاعتراض عليه، لأن الصحابة رضوان الله عليهم، هم أهل اللغة، وقد عقلوا أن شرابهم ذلك خمر، إذ لم يكن لهم شراب ذلك الوقت بالمدينة غيره، وقال الحكمي: =
(1)
سورة المائدة: 93.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لنا خمر وليست خمر كرم
…
ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولًا
…
وفات ثمارها أيدي الجناة
قال: ومن الدليل الواضح على ذلك ما رواه النسائي: أخبرنا القاسم بن زكريا، أخبرنا عبيد الله عن شيبان، عن الأعمش، عن محارب بن دثار، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الزَّبيبُ وَالتَّمْرُ هُوَ الْخَمْر".
قال: وثبت بالنقل الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحسبك به عالمًا باللسان والشرع - خطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيها إنه، ألا إنه نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل.
قال: وهذا أبين ما يكون في معنى الخمر يخطب به عمر بالمدينة على منبر النبي صلى الله عليه وسلم بمحضر جماعة من الصحابة وهم أهل اللسان ولم يفهموا من الخمر إلا ما ذكرناه، فإذا ثبت هذا بطل مذهب أبي حنيفة والكوفيين القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب، وما كان من غيره لا يسمى خمرًا ولا يتناوله اسم الخمر وإنما يسمى نبيذًا. ا. هـ. منه.
فإذا عرفت معنى الخمر لغة وشرعًا، فاعلم أن تحريم الخمر وقع بالتدريج لأن العرب كانوا مولعين بشربها، وأول ما نزل فيها قوله تعالى في سورة البقرة:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}
(1)
الآية. أي في تجاراتهم.
فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير. ولم يتركها بعض الناس، وقالوا نأخذ منفعتها ونترك إثمها. فنزل فيها قوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}
(2)
، فتركها الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}
(3)
الآية. فصارت حرامًا عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرم الله شيئًا أشد من الخمر. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: نزلت فيَّ آيات من القرآن، وفيه =
(1)
سورة البقرة: 219.
(2)
سورة النساء: 43.
(3)
سورة المائدة: 9.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال: وأتيت على نفر من الأنصار، فقالوا: تعال نُطعمْك ونسقك خمرًا، وذلك قبل أن تحرم الخمر، قال: فأتيتهم في حشٍّ - والحشُّ البستان - فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزقٌّ من خمر، قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال: فأخذ رجل لحي جمل فضربني به فجرح أنفي - وفي رواية: فَفَزَره - وكان أنف سعد مفْزورًا - فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأنزل الله فيَّ - يعني نفسه - شأن الخمر:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} الآية.
(2)
وقوله: ثمانون بعد صحوه، قال المواق: هذا هو المخبر عنه بقوله: بشرب المسلم ألخ.
قال ابن عرفة: حده ثمانون فيها ويتشطر بالرق، وقال في المدونة، لا يحد السكران حتى يصحو، وزاد في سماع أبي زيد، ولو خاف أنا يأتيه بشفاعة تبطل حده، قال ابن سلمون: فخفف بعض التخفيف في الشراب، وروي أن رجلًا سكر فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حاذى دار العباس انفلت فدخلها، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال:"أَفَعَلَهَا"؟ ولم يأمر فيه بشيء. ا. هـ. منه.
قلت: وهو في أبي داود: حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج عن محمد بن علي بن ركانة، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله لم يؤقت في الخمر حدًا. وقال ابن عباس: شرب رجل فسكر فلقي يميل في الفج، فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حاذى دار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال:"أَفَعَلَهَا"؟ ولم يأمر فيه بشيء. قال أبو داود: هذا مما تنفرد به أهل المدينة؛ حديث الحسن بن علي هذا.
قال ابن قدامة: وفي قدر الحد روايتان: إحداهما أنه ثمانون، وبهذا قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة ومن تبعهم لإِجماع الصحابة، فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود؛ ثمانين. فضربه عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام. وروي أن عليًّا قال في المشورة: إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحدوده حد المفتري. روى ذلك الجوزجاني والدارقطني وغيرهما.
والرواية الثانية أن الحد أربعون، وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي، لأن عليًّا جلد الوليد بن عقبة أربعين، ثم قال جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين، وعمر ثماني، وكل سنة. وهذا أحب =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إليَّ. رواه مسلم. ا. هـ. منه.
قلت: الذي استشار عمر فيه الناس هو قدامة بن مظعون الجمحي رضي الله عنه قال القرطبي:
ذكر الحميديّ عن أبي بكر البرقاني عن ابن عباس، قال: لما قدم الجارود من البحرين قال: يا أمير
المؤمنين، إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرًا، وإني إذا رأيت حقًا من حقوق الله حق عليّ أن أرفعه
إليك؛ فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ فقال: أبو هريرة؛ فدعا عمر أبا هريرة فقال: علامَ تشهد
يا أبا هرير؟ فقال: لم أره حين شرب، ورأيته سكران يقيء، فقال عمر: لقد تنطَّعت في الشهادة؛
كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه، فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة، كلم الجارود
عمر، فقال: أقم على هذا كتاب الله، فقال عمر للجارود: أشهيد أنت أم خصم؟ فقال الجارود أنا
شهيد، قال: قد كنت أديت الشهادة؛ ثم قال لعمر: أنشدك الله! فقال عمر: أما والله لتملكنَّ لسانك
أو لأسوأنّك فقال الجارود: أما والله ما ذلك بحق، أيشرب ابن عمك وتسوؤني؟ فأوعده عمر، فقال أبو هريرة وهو جالس: يا أمير المؤمنين، إن كنت في شك من شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون، فأرسل عمر إلى هند يسألها بالله، فأقامت هند على زوجها الشهادة، فقال عمر: يا قدامة، إني جالدك، فقال قدامة: والله لو كنت شربت، كما يقولون، ما كان لك أن تجلدني يا عمر. قال: ولِمَ يا قدامة؟. قال: لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}
(1)
الآية: فقال عمر: أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله. ثم أقبل عمر على القوم فقال: ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعًا، فسكت عمر عن جلده، ثم أصبح يومًا فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعًا، فقال عمر: إني والله لأن يلقى الله تحت السوط أحب إليَّ من أن يلقى الله وهو في عنقي، والله لأجلدنه، ائتوني بسوط فجاءه مولاه أسلم بسوط رفيق صغير، فاخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم: أخذتك دقرارة أهلك، ائتوني بسوط غير هذا. قال فجاءه أسلم بسوط تام، فأمر عمر بقدامة فجلد. فغاضب قدامةُ عمرَ وهجره؛ فحجّا وقدامة مغاضب لعمر حتى قفلوا من حجهم ونزل عمر بالسُّقيا ونام بها، فلما استيقظ قال: عجلوا علي بقدامة، انطلقوا فائتوني به، والله لأرى في النوم أنه جاءني =
(1)
سورة المائدة: 93.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= آت فقال: سالمْ قدامة إنه أخوك، فلما جاؤوا قدامة أبي أن يأتيه، فأمر عمر بقدامة أن يجر إليه جرًا حتى كلمه عمر واستغفر له، فكان أول صلحهما. ا. هـ. منه.
وجاء في أبي داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، وحدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن هشام المعنى عن قتادة عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين، فلما ولي عمر دعا الناس فقال لهم: إن الناس قد دنوا من الريف، وقال مسدد: من القرى والريف، فما ترون في جلد الخمر؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: نرى أن تجعله كأخف الحدود، فجلد فيه ثمانين.
وحدثنا مسدد بن مسرهد وموسى بن إسماعيل، المعنى، قالا: حدثنا عبد العزيز بن المختار، حدثنا عبد الله الداناجُ، حدثني حُضين بن المنذر الرّقاشي - هو أبو سليمان - قال: شهدت عثمان بن عفان وأتي بالوليد بن عقبة، فشهد عليه حمران ورجل آخر، فشهد أحدهما أنه رآه شربها - يعني الخمر - وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلي رضي الله عنه أقم عليه الحد، فقال عليّ للحسن: أقم عليه الحد، فقال الحسن: ولِّ حارَّها من تولَّى قارَّها، فقال علي لعبد الله بن جعفر: أقم عليه الحد، قال: فأخذ السوط فجلد وعليّ يعد، فلما بلغ أربعين قال حسبك، جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، أحسبه قال: وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذه أحب إليَّ. قال الخطابي: وقوله وكل سنة: يريد أن الأربعين سنَّةٌ قد عمل بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في زمانه، والثمانون سنة رآها عمر رضي الله عنه، ومن وافقه من الصحابة فصارت سنة، فتد قال صلى الله عليه وسلم:"اقتَدُوا بِاللَّذَيْنِ من بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ". ا. هـ. منه.
مسألة: يجب هذا الحد على من شرب قليلًا من المسكر أو كثيرًا منه، وهو قول الإمام مالك والإِمام أحمد والإِمام الشافعي وهو مروي عن الحسن، وعمر بن عبد العزير وقتادة والأوزاعي، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ". رواه أبو داود وغيره. وقد ثبت أن كل مسكر خمر، فتناول الحديث القليل والكثير. فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْر". وفي بعض الروايات: "كُل مُسْكِرٍ حَرَامَ".
والحد إنما يلزم من شربها مختارًا لربها، فإن أكره على شربها فلا حد عليه ولا إثم، فإن النبيّ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= - صلى الله عليه وسلم قال: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". وقالوا: إن المضطر إليها لدفع غصة بها، بأن لم يجد مائعًا سواها، فإن الله تعالى قال:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}
(1)
. وقال جل شأنه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}
(2)
. الآية.
(3)
وقوله: وتشطر بالرِّقِّ، لقوله تعالى:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
(3)
. والعبد والأمة في ذلك سواء، وقد تقدم بحث ذلك في الكلام على حد جريمة الزنى. أعاذنا الله والمسلمين منها.
(4)
وقوله: إن أقر أو شهد اثنان بشرب، قال ابن قدامة: لا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين: الإِقرار، أو البينة، ويكفي في الإِقرار مرة واحدة، في قول عامة أهل العلم، لأنه حد لا يتضمن إتلافًا، وإذا رجع عن إقراره قبل رجوعه لأنه حد لله تعالى، يقبل رجوعه عنه كسائر الحدود. ا. هـ. منه.
(5)
وقوله: أو شمٍّ، نقل المواق، قال ابن عرفة: ويثبت بثبوت رائحة. قال أبو عمر: الحد بالرائحة، وهو قول مالك وجمهور أهل الحجاز، خلافًا للشافعي وغيره. وقال ابن القاسم: إذا رأى الحاكم تخليطًا في قول أو مشي شبه السكران أمر باستنكاهه؛ لأنه قد بلغ إلى الحاكم فلا يسعه إلا تحقيقه، وإذا لم يظهر عليه شيء لم يستنكهه، ولم يتجسس عله. ا. هـ. من المنتقى. ا. هـ. من المواق.
واستدل مالك على رأيه هذا بأن ابن مسعود جلد رجلًا وجد منه رائحة الخمر، وبما روي عن عمر أنه قال: إني وجدت من عبد الله ريح شراب. فأقر أنه شرب الطِّلا، فقال عمر: إني سائل عنه، فإن كان يسكر جلدته. قالوا: ولأن الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الإِقرار. ا. هـ.
(6)
وقوله: لا دواء ولو طلاءً، قال مالك: التداوي من القرحة بالبول أخف من التداوي فيها بالخمر. قال ابن رشد: لما جاء فيها أنها رجس، ولم يأت في البول إلا أنه نجس. قاله المواق.
وقال ابن قدامة: وروى الإِمام أحمد بإسناده عن مخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد نبذت نبيذًا في جرة فخرج والنبيذ يهدر، قال "مَا هذَا"؟ فقالت فلانة اشتكت بطنها، فنقعت لها، فدفعه =
(1)
سورة البقرة: 173.
(2)
سورة الأنعام: 119.
(3)
سورة النساء: 45.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= برجله فكسره وقال: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكمْ شِفَاءً". ا. هـ. منه. وهذا الحديث أخرجه ابن حبان والبيهقي من رواية أم سلمة. ا. هـ.
(7)
وقوله: والحدود بضرب وسوط معتدلين قاعدًا بلا ربط وشدّ يد، بظهره وكتفيه، نقل المواق عن المدونة: صفة الضرب في الزنى، والشرب، والفرية، والتعزير واحدة إضرب بين ضربين؛ ليس بالمبرح ولا بالخفيف، قال ولا يتولى ضرب الحد قوي ولا ضعيف ولكن وسط من الرجال، ويضرب على الظهر والكفين دون سائر الأعضاء، والمحدود قاعد لا يربط وتخلى له يداه. ا. هـ. منه.
وقال الخرقي: ويضرب الرجل في سائر الحدود قائمًا، بسوط لا خلق ولا جديد ولا يمد ولا يربط، ويتقى وجهه. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة.
وقال مالك: يضرب جالسًا لأن الله تعالى لم يأمره بالقيام، ورواه حنبل عن الإِمام أحمد. واحتج الشافعي ومن وافقه يقول عليّ: لكل موضع في الجسد حظ، يعني في الحد، إلا الوجه والفرج. وقال للجلاد: اضرب وأوجع، واتق الرأس والوجه.
وقد وقع الاتفاق على أنه لا يمد ولا يربط، قال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا في ذلك. قال ابن مسعود: ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد. قال: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جلدوا ولم ينقل عن أحد منهم مد ولا قيد ولا تجريد ولا تنزع عنه ثيابه، بل يكون عليه الثوب والثوبان.
قال: وعن أحمد - لو تركت عليه ثياب الشتاء ما بالى بالضرب، وقال مالك: يجرد لأن الأمر بجلده يقتضي مباشرة جسمه.
وأما الضرب بالسوط فهو مسألة وفاق بين أهل العلم في سائر الحدود غير حد الخمر، فقد قال بعضهم: يقام عليه الحد بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، وذكر بعض أهل مذهب أحمد أن للإِمام فعل ذلك إذا رآه، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل قد شرب فقال:"اضْرِبُوهُ" قال: فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، رواه أبو داود. والدليل لمن اشترط السوط حتى في الخمر أن الخلفاء الراشدين جلدوا بالسياط. وكذلك غيرهم فكان إجماعًا، وأجابوا عن الحديث: فمنا الضارب بيده
…
الحديث. بأن ذلك كان في بدء الأمر، ثم جلد النبي صلى الله عليه وسلم واستقر الأمر على ذلك. وبالله تعالى التوفيق.
تنبيهٌ: ذكر العلامة أبو عبد الله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن في الكلام على آية المائدة التي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= نزلت بتحريم الخمر، بعد ما ذكر الأحاديث التي وردت في أسباب نزول الآيات التي نزلت في الخمر، قال: هذه الأحاديث تدل على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحًا معمولًا به، معروفًا عندهم بحيث لا ينكر ولا يغير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عليه، وهذا ما لا خلاف فيه، يدل عليه قوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}
(1)
. وهل كان يباح لهم شرب القدر الذي يسكر؛ وحديث حمزة فيه حين بقر خواصر ناقتي عليّ رضي الله عنهما، وجبّ أسنمتهما، فأخبر عليّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى حمزة فصدر عنه للنبي صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لما يجب من احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره، ما يدل على أن حمزة رضي الله عنه كان قد ذهب عقله بما يسكر، ولذلك قال الراوي: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل؛ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على حمزة ولم يعنفه، لا في حال سكره ولا بعد ذلك، بل رجع لمَّا قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي، رجع على عقبيه القهقرى وخرج عنه. قال أبو عبد الله: وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه، فإنهم قالوا: إن السكر حرام في كل شريعة، لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهاب العقل، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه.
قلت: كون الخمر كانت تستعمل في صدر الإِسلام لا يقتضي أنها كانت مباحة في شرائع من قبلنا؛ لأن أهل الفن قرروا أنها كانت مباحة في صدر الإِسلام بالبرآءة الأصلية لأن الأصل في الأشياء الإِباحة قبل نزول الشرع بتحريمها، ولذلك قال شيخ مشائخنا الشيخ عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي في مراقي السعود:
أباحها في أول الإِسلام
…
براءةٌ ليست من الأحكام
يعني الخمر.
وكون المسلمين في صدر الإِسلام كانوا يستعملون الخمر على البراءة الأصلية، ليس فيه أي دليل يستدل به على إباحتها في شرائع الأنبياء قبل نبينا عليه وعلى جميع الأنبياء أفضل الصلاة وأزكى السلام، وحتى على القول بأنها أبيحت شرعًا في شرع نبينا عليه الصلاة والسلام في صدر الإِسلام كما ذهب إليه بعض المحققين أخذًا من قوله تعالى:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا}
(2)
.
(1)
سورة النساء: 43.
(2)
سورة النحل: 67.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قالوا: لأن الآية جاءت في مساق الامتنان، والله لا يمتن بمحرم، وحتى على هذا القول فليس هناك ما يستدل به على إباحتها في شرع من قبلنا؛ لأن الله تعالى يقول:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}
(1)
الآية. هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم.
(8)
وقوله: وعزر الإِمام لمعصية الله أو لحقّ آدمي، قال المواق: من المدونة، أما النّكال والتعزير فجوزوا فيه العفو والشفاعة وإن بلغ الإِمام. وذكر شهاب الدين أن الحدود مقدرة بخلاف التعزير، والحد واجب إقامته بخلاف التعزير، والحد تعبد، فحد من سرق ربع دينار ومن سرق مائة ألف واحد، بخلاف التعزير فبحسب الجناية، والحد في مقابلة المعاصي، بخلاف التعزير فإنه يكون للمكلف والبهيمة والمجنون، والتعزير يسقط بالتوبة بخلاف الحد إلا الحرابة.
وقال مالك: يجوز أن يزاد التعزير على الحد إذا رأى الإِمام، لما روي أن معن بن زائدة عمل خاتمًا على نقش خاتم بيت المال، ثم جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه مالًا، فبلغ عمر رضي الله عنه فضربه مائة وحبسه، فكُلّم فيه فضربه مائة أخرى، فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه. وروى الإمام أحمد أن عليًا أتي بالنجاشي قد شرب خمرًا في رمضان، فجلده ثمانين، الحد، وعشرين سوطًا لفطره في رمضان.
وروي عن أحمد رحمه الله أنه لا يزاد التعزير على عشر جلدات. وبهذا قال إسحاق لما روى أبو بردة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشْرَة أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى". متفق عليه. ومذهب أبي حنيفة والشافعي أنه لا يبلغ به أدنى حد مشروع، وعلى هذا فلا يبلغ التعزير أربعين سوطًا لأنها حد العبد في الخمر والقذف عند أبي حنيفة، ولا يبلغ عشرين في العبد وأربعين في الحر عند الشافعي. انظر المغني.
(9)
وقوله: حبسًا ولومًا وبالإِقامة ألخ. نقل المواق عن ابن شأس: كانوا يعاقبون الرجل على قدره وقدر جنايته؛ منهم من يضرب، ومنهم من يحبس، ومنهم من يقام واقفًا على قدميه في المحافل، ومنهم من تنزع عمامته، ومنهم من يحل إزاره. وقال ابن عرفة: ومما جرى به العمل من أنواع التعزير ضرب القفا مجردًا عن ساتر بالأكف. ولا يخص جنس التعزير بسوط أو يد أو غيره. وقال ابن عرفة: =
(1)
سورة المائدة: 48.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المشهور صحة الزيادة عن الحد باجتهاد الإِمام. لعظم جريمة الجاني، فقد ضرب عمر مائة من نقش على خاتمه. قال ابن شاس: وأمر مالك بضرب شخص أربعمائة سوط وجد مع صبي مجردًا فانتفخ ومات ولم يستعظم ذلك مالك. ا. هـ. المواق.
ومذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة أن التعزير واجب إذا رآه الإِمام، وقال الشافعي: ليس بواجب، لأن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها، فقال:"أَصَلَّيْتَ مَعَنَا"؟ قال: نعم! فتلا عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
(1)
. وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم في حكم حكم به للزبير رضي الله عنه: أن كان ابن عمتك؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعزره.
وإذا مات شخص تحت التعزير فلا ضمان عند الجمهور، وخالف الشافعي فقال: يضمنه لقول عليّ رضي الله عنه: ليس أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي شيئًا لأن الحق قتله، إلا حد الخمر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا. وأشار إلى عمر بضمان التي أجهضت جنينها حين أرسل إليها.
(10)
وقوله: وضمن ما سرى كطبيب جهل أو قصر، قال الحطاب نسبه للجواهري: التعزير جائز بشرط سلامة العاقبة، فإن سرى ضمنت عاقلة المعزر، بخلاف الحد. ا. هـ.
وقال ابن رشد: من مات من سقي طبيب أو ختن حجام أو تقليعه ضرسًا، لم يضمنه إن لم يخطئ، إلا أن ينهاهم الحاكم عن القدوم على ذي غرر إلا بإذنه، فمن خالفه ضمن في ماله، هذا ظاهر السماع، وما كان يخطئ في فعله؛ كسقيه ما لا يوافق المرض، أو تزل يد الخاتن أو يقلع غير الضرس المأمور بها، فإن كان من أهل المعرفة، ولم يغر من نفسه، فذلك خطأ تحمل عاقلته الثلث فصاعدًا، وإن غر من نفسه عوقب بالسجن والضرب، قال: وفي كون أرش الجناية إلى الخطإ أو في ماله قولان. ا. هـ. المواق.
وقال الشافعي وأحمد: إن ختن في زمن معتدل من الحر والبرد لم يلزمه ضمان إن تلف؛ لأنه فعل فعلًا مأمورًا به من قبل الشرع، قالا: وإن كان رجلًا أو امرأة لم يختتنا، فأمر السلطان بهما فختنا بهما فختنا، فإن زعم الأطباء أنه تلف بالختان أو الغالب تلفه به فعليه الضمان، وإلَّا فلا ضمان.
والختان ليس بواجب عند مالك وأبي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الْخِتَان سُنَّةٌ فِي الرِّجَالِ مَكْرمَةٌ في =
(1)
سورة هود: 114.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= النِّسَاءِ". وقال أحمد: هو واجب لأنه قطع عضو من البدن، يتألم بقطعه فلم يقطع إلا واجبًا، قال: ولأنه تكشف العورة من أجله، ولو لم يكن واجبًا لما جاز ارتكاب المحرم من أجله. وقد أجاب عن الخبر بأنه ضعيف.
(11)
وقوله: أو عضه فسل يده، نقل المواق عن ابن الحاجب: لو عضه فسل يده ضمن أسنانه، ابن عرفة: قال غير واحد أن هذا هو المشهور. قال المازري عن بعض شيوخه، عن بعض المحققين، إنما ضمنه من ضمنه لإمكانه النزع برفق. وحملوا الحديث في مسلم:"لَا دِيَة لَهُ" على هذا. ا. هـ. المواق.
قلت: الدليل إلى جانب من يقول: لا ضمان على من انتزع يده من فم العاضّ؛ لما روى يعلى ابن أمية قال: كان لي أجير فقاتل إنسانًا فعض أحدهما يد الآخر، قال فانتزع المعضوض يده من في العاض، فانتزع إحدى ثنيتيه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته، فحسبت أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا قَضْمَ الْفَحْلِ"؟ متفق عليه.
ولا دليل في قوله صلى الله عليه وسلم: "في السِّنَّ خَمْسَ مِنَ الإِبِلِ". على ضمان سن العاض، إنما هو بيان لدية من نزعت سنه ظلمًا، وهذه لم تقلع ظلمًا. والله أعلم.
(12)
وقوله: أو نظر له من كوة فقصد عينه، نقل المواق: لو رمى إنسانًا ينظر إليه في بيته فأصاب عينه، فأكثر أصحابنا على إثبات الضمان وأقلهم على نفيه، للحديث الصحيح.
قلت: من ذهب إلى نفي الضمان هنا أولى بالحق؛ لأخذه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَوْ أَنَّ امْرَءًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَه لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ حَرَجٌ". وعن سهل بن سعد أن رجلًا اطلع من حجر من باب النبي صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحك رأسه بمدرى في يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْظرُنِي لَلَطَمْت أَوْ لَلَطَمْتُ بهَا فِي عَيْنِكَ" متفق عليهما.
ولا ينقضي عجبي ممن يضمن من نفى النبي صلى الله عليه وسلم عنه الحرج. والله الموفق.
(13)
وقوله: وجاز دفع صائل ألخ. نقل المواق عن ابن يونس في الجمل إذا صال على الرجل فخافه على نفسه فقتله، لا شيء عليه. ا. هـ. هذا مذهب مالك، وأحمد، والشافعي، وإسحاق، وخالف =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أبو حنيفة، قال: عليه ضمانه لأنه أتلف مال الغير لإِحياء نفسه.
أما إن صال عليه رجل ودخل منزله بغير إذنه، فله إنذاره بالخروج من منزله، سواء كان معه سلاح أو لا؛ لأنه متعد بدخول ملك غيره بدون إذنه، فإن امتثل وخرج لم يكن له ضربه، فإن لم يخرج بالأمر، فله ضربه بأسهل ما يعلم أنه يدفعه، لأن المقصود دفعه، فإن لم يمكن دفعه إلَّا بالقتل، أو خاف أن يبدره بالقتل إن لم يقتله، فله قتله، فإن قتله أو أصاب منه عضوًا كان هدرًا، لأنه أتلفه لدفع شره، وإن قتل صاحب الدار كان شهيدًا لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أرِيدَ مَالُهُ بغَيْرِ حَقٍّ فَقَاتَلَ فَقتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ". قال ابن قدامة: رواه الخلال بسنده.
وكل من عرض للإنسان يريد نفسه أو ماله فحكمه ما ذكرنا فيمن دخل منزله، فقد ثبت عن أحمد في اللصوص يريدون نفسك ومالك: قاتلهم تمنع نفسك ومالك، وقال عطاء في المحرم يلقى اللصوص، قال: يقاتلهم أشد قتال، وقال ابن سيرين ما أرى أحدًا ترك قتال الحرورية واللصوص تأثمًا إلَّا أن يجبن، وقيل للحسن: إني أخرج في هذا الوجه، أخوف شيء عندي يلقاني المصلي يعرض لي في مالي، فإن كففت يدي ذهبوا بمالي، وإن قاتلت المصلي ففيه ما علمت. قال: يا بني من عرض لك في مالك فاقتله فإلى النار، وإن قتلك فشهيد. وروي نحو ذلك عن أنس، والشعبي، والنخعي.
وسئل الإمام أحمد عن امرأة راودها رجل على نفسها فقتلته لتحصن نفسها، فقال: إذا علمت أنه لا يريد إلَّا نفسها فقتلته لتدفع عن نفسهما فلا شيء عليها، وذكر حديثًا يرويه الزهري عن القاسم بن محمد، عن عبيد بن عمير، أن رجلًا أضاف ناسًا من هذيل، فأراد امرأة على نفسها، فرمته بحجر فقتلته، فقال عمر: والله لا يودى أبدًا. والأمر في هذا ظاهر؛ فإنه إن جاز الدفع عن المال الذي يجوز بذله، فإنه يجوز دفع المرأة عن نفسها وصيانتها عن الفاحشة من باب أولى.
(14)
وقوله: وما أتلفته البهائم ليلًا فعلى ربها ألخ. الأصل في ذلك حديث الموطإ أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها. قال ابن عبد البر: إن كان هذا مرسلًا فهو مشهور، حدث به الأئمة الثقات وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول. ا. هـ. والله الموفق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كتاب العتق
قال الحطاب: يقال العتق بكسر العين وفتحها، والعَتاقَةُ والعَتَاقُ بفتحها فقط. ويقال: عتق يعتق كضرب يضرب، ولا يقال عُتِقَ بضم العين، والله أعلم.
قال: وقال في الذخيرة: والعتق في اللغة الخلوص، ومنه عتاق الخيل، وعتاق الطير أي خالصوها، وقيل للبيت الحرام عتيقًا لخلوصه من أيدي الجبابرة. وهو في الشرع خلوص الرقبة من الرق.
وحكمه الندب، وهو من أفضل الأعمال وأعظم القربات، ويدل على عظيم قدره ما في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يُجْزِئَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلَّا أَنْ يَجدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَريَهُ فَيَعْتِقَهُ". قال في التوضيح: وكأن الوالد لما كان سببًا لوجود الولد، وذلك من أعظم النعم، فالذي يشبه ذلك إخراج الولد لوالده من عُدْم الرق إلى وجود الحرية؛ لأن الرقيق كالمعدوم، وربما كان العدء خيرًا منه. ا. هـ.
وفي الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ إِرَبًا مِنْه مِنْ النَّارِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَعْتِقُ الْيَدَ بِالْيَدِ وَالرِّجْلَ بِالرَّجُلِ وَالْفَرْجَ بِالْفَرَجِ". وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حَتَّى يُعْتِقَ فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ".
وروى الترمذي وصححه أنه عليه الصلاة والسلام قال: "أيُّمَا امْرِئَ مُسْلِمٍ، أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، كَانَ فَكَاكَهُ مِنَ النَّار يُجْزِئَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ، وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ، أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فَكَاكَهُ مِنَ النَّارِ يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْهُ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ، أَعْتَقَتْ امْرَأَةً مُسْلِمَةً، كَانَتْ فَكَاكَهَا مِنَ النَّارِ يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهَا". قيل: ولعل هذا لأن دية المرأة على النصف من دية الرجل. انتهى.
وقد يجب العتق أحيانًا لأسباب هي: إلزام الرجل نفسه ذلك وتبتله عتق مملوكه ابتداء، وبنذره ذلك لأمر كان أو يكون، وبالحنث في يمين بذلك، أو بحمل مملوكته منه، أو بعتقه بعضه فيبتل عليه باقيه، وبالتمثيل به، وبشرائه من يعتق عليه، وبقتل النفس خطأً، وبوطء المظاهر، وبكتابة العبد، وبمقاطعته على مال، وبكفارة اليمين بالله تعالى، وبكفارة الفطر في رمضان عمدًا، إلا أن الفرض في كفارة اليمين موضوع لأنه مخير بينه وبين غيره.
كتاب العتق
بَابٌ: إنَّمَا يَصِحُّ إعْتَاقُ مُكَلَّفٍ (1) بِلَا حَجْرٍ وإحَاطَةِ دَيْنٍ، ولِغَريمِهِ رَدُّهُ أوْ بَعْضِهِ إلَّا أنْ يَعْلَمَ أوْ يَطُولَ، أوْ يُفِيدَ مَالًا ولَوْ قبْلَ نُفُوذِ البَيْعِ، رَقيقًا لمْ يتَعَلَّقْ بهِ حَقٌّ لَازِمٌ بِهِ وبِفَكِّ الرَّقَبَةِ والتَّحْرِيرِ وَإنْ في هذَا الْيَوْمِ، بِلَا قرِينَةِ قَدْحٍ أوْ خُلْفٍ أوْ دَفْعٍ أوْ مَكْسٍ، بِلَا مِلْكَ أوْ سَبِيلَ لي عَلَيْكَ، إلَّا لِجَوابِ، وبِكوَهَبْتُ لَكَ نَفْسَكَ وبكاسْقِني أو اذْهَبْ أو اعْزُبْ بِالنِّيَّةِ. وعَتَق عَلَى البَائعِ إِنْ عَلَّقَ هُوَ وَالمُشْتَري على الْبَيْع والشِّراءِ وبِالاشْتِراءِ الْفَاسِدِ في إنْ اشْتَريْتُكَ كأنْ اشْتَرى نَفسَهُ فَاسدًا. والشِّقْصُ والمدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَوَلَدُ عَبْدِي مِنْ أمَتِهِ وإنْ بعْدَ يَمِينهِ، والإِنْشَاءُ فيمَنْ يَمْلِكُهُ، أوْ لي أوْ رَقِيقي أوْ عَبِيدي أوْ مَمَاليكي، لا عَبيدُ عَبِيدِهِ كأمْلِكُهُ أبَدًا. وَوَجَبَ بِالنّذْرِ ولم يُقْضَ إلَّا بَبَتٍّ معَيَّنٍ. وهو في
تنبيهٌ: كلما كثرت أسباب الشيء كان إلى الوقوع أقرب: ألا ترى أن الله قد وعد بالمغفرة على أسباب كثيرة تكاد تخرج عن الحصر؟ قال صلى الله عليه وسلم: "صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالآتِيَةَ". وقال: صَوْمُ يَوْم عَاشُورَاءَ يُكَفِّر الْمَاضِيَةَ". وقال "رَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ يُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا". وقال: "الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ يُكَفِّرْنَ مَا بَيْنَهُنَّ". وقال: "وَإِنْ تَوَضَّأَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ بيْنِ أَشْفَارِ عَيْنَيْهِ".
وقال الحطاب لشيخه شهاب الدين: إذا كان عرفة يكفر الماضية والآتية، فأي شيء يكفر عاشوراء، وكل ما ذكرناه؟ فقال: ذلك دليل على أنه تعالى مريد للمغفرة لعباده، فإن العبد إن أخطأه سبب لا يخطئُهُ غيره، وما كثرت أسبابه كان إلى الوقوع أقرب. ا. هـ.
قال: وحكمة مشروعيته، التنبيه على شرف الآدمي وتكرمته، فإن الرِّقَّ إذلال له، والترغيب في العتق من مكارم الأخلاق، وتعاطي أسباب النجاة من النار. ا. هـ. منه.
والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ}
(1)
. وأما السنة فما تقدم ذكره من الأحاديث وغيره، وأجمعت الأمة على صحة العتق وحصول القربة به.
(1)
قوله: إنما يصح إعتاق مكلف ألخ. يريد به، والله أعلم، أن العتق يصح من كل من يصح =
(1)
سورة البلد: 13.
خُصُوصِهِ وعُمُومِهِ ومَنْعٍ من وَطْءٍ وبَيْعٍ في صيغَة حِنْثٍ وعِتْقِ عُضْوٍ، وتَمْلِيكهِ الْعَبْدَ، وجَوابِهِ، كالطَّلاقِ، إلَّا لأجَلٍ أو إحْدَاكمُا فَلَهُ الاخْتِيارُ. وإنْ حَمَلْتِ فأنْتِ حُرَّةٌ فَلَهُ وَطْؤُهَا في كُلِّ طُهْر مَرَة، وإنْ جَعَلَ عِتقَهُ لاثْنَيْنِ لم يَسْتَقِلَّ أحَدُهُمَا إن لَهَا يَكَونَا رَسُولَيْنِ. وإنْ قالَ إن دَخلْتُما فَدَخَلَتْ إحْدَاهُمَا، فَلا شَيْء عَليه فيهما.
وعَتَقَ بِنَفْسِ الْمِلكِ الأبَوَانِ (1) وإن عَلَوا والْوَلَدُ وإنْ سَفلَ كَبنتٍ وأخٍ وأخْتٍ مُطْلَقًا وإن بِهِبَةٍ أو صَدَقَةٍ أو وَصِيَّةٍ إن عَلِمَ المُعْطِي ولوْ لَمْ يَقْبَله، ووَلَاؤُهُ لَه ولا يكُمِّلُ في جُزْء لَمْ يَقْبَلْهُ كبيرٌ أو قَبِلَهُ وِليُّ صَغِيرٍ أو لم يَقْبَلْهُ، لا بإرْثٍ
= تصرفه في المال؛ وهو البالغ العاقل الرشيد، ولا يصح من غير جائز التصرف كالصبي والمجنون. قال ابن المنذر: هذا قول عامة أهل العلم، وممن حفظنا عنه ذلك: الحسن، والشعبي، والزهري. ومالك والشافعي، وأصحاب الرأي. قال: وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَن الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيق، وعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ". أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة.
ويحصل العتق بالقول، والملك، والاستيلاء.
أما القول: فإنه ينقسم إلى صريح وكناية، فالصريح هو لفظ الحرية والعتق وما تصرف من ذلك: لأن هذين اللفظين وردا في كتاب اللّه تعالى، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما المستعملان عرفًا في العتق، فمتى أتى المرء بشيء من هذه الألفاظ حصل العتق ولو لم ينو العتق.
وأما الكناية: فهي كنحو قوله: لا سبيل لي عليك، ولا سلطان لي عليك وأنت سائبة، واذهبي حيث شئت، فهذا ونحوه يدور الحكبم فيه حول النية، فإد نوى العتاق به لزم وإلا فلا، لقوله صلى الله عليه وسلم "إِنَّمَا الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لِكُلِّ امْرئٍ مَا نَوَى". الحديث.
(1)
وقوله: وعتق بنفس الملك الأبوان ألخ. ففي أبي داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال موسى في موضع آخر: عن سمرة بن جندب فيما يحسب حماد قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "مَنَ مَلَكَ ذَا =
أو شِراءٍ وعليْهِ دَيْنٌ فَيبَاعُ. وبالحُكْم إِنْ عمد لِشَيْنٍ بِرَقيقِهِ (1) أوْ رقيق رقيقه أو لِوَلدٍ صَغيرٍ غيرُ سَفيهٍ، وعَبْدِ وذمِّيٍّ بمثله وزوجةٍ ومَريضٍ في زائد الثُّلُث.
= رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ". قال أبو داود: روى محمد بن بكر البرساني، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، وعاصم عن الحسن، عن سمرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك الحديث. قال أبو داود: ولم يحك ذلك الحديث إلا حماد بن سلمة وقد شك فيه.
قال الخطابي في معالم السنن: الذي أراد أبو داود من هذا أن الحديث ليس بمرفوع، أو ليس بمتصل، إنما هو عن الحسن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وقد اختلف العلماء في هذا، فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه، روى ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، هو قول الحسن وجابر بن زيد، وعطاء، والشعبي، والزبير، والحكم، وحماد، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وسفيان، وأحمد، وإسحاق.
وقال مالك بن أنس: يعتق عليه الولد والوالد والإِخوة، ولا يعتق عليه غيرهم.
وقال الشافعي: لا يعتق عليه إلا آباؤه وأمهاته وأولاده، ولا يعتق عليه إخوته؛ ولا أحد من ذوى قرابته ولحمته. وأما ذوو المحارم من الرضاعة فإنهم لا يعتقون في قول أكثر أهل العلم، وكان شريك بن عبد الله القاضي يعتقهم. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي في الكلام على رواية البيهقي لهذا الحديث، قال: رواه محمد بن بكر عن حماد من غير هذا الشك، وكذا أخرجه من طريقه النسائي وابن ماجة. وأخرجه النسائي أيضًا من حديث حجاج وأبي داود وبهز وعبد الله يعني ابن المبارك عن حماد، وليس فيه الشك المذكور، وكذا أخرجه أحمد في مسنده من حديث أبي كامل ويزيد بن هارون عن حماد، وكذا أخرجه الترمذي عن عبد الله بن معاوية الجمحي عن حماد، وكذا رواه مسلم بن إبراهيم كما تقدم وكذا رواه موسى بن إسماعيل مرة، ومن شك ليس بحجة على من لم يشك، فكيف والذين لم يشكوا جماعة؟
(1)
وقوله: وبالحكم إن عمد لشين برقيقه ألخ. أخرج مالك في الموطإ بلاغًا أن عمر بن الخطاب أتته وليدة قد ضربها سيدها بنار أو أصابها بها فأعتقها.
ومَدِينٍ كَقَلْعِ ظفُرٍ وقَطْعِ بَعْضِ أذُنٍ أو جَسَدٍ أو سِنّ أوْ سَحْلِها أو خَرم أنْفٍ، أوْ حَلْقِ شَعرِ أمَةٍ رَفيعَةٍ أوْ لحْيَةِ تَاجِرٍ، أو وَسْمِ وجْهٍ بِنَارٍ لا غَيْرِهِ. وفي غَيْرها فيه قَوْلَانِ. والْقَوْلُ لِلسَّيِّدِ في نَفْي العَمدِ لَا في عِتْقٍ بِمَالٍ. وبالْحكْم جَمِيعُهُ إنْ أَعْتَقَ جُزْءًا والْبَاقي لَهُ، كأنْ بَقي لِغَيْره (1)، إن دَفَعَ الْقِيمَةَ يَوْمَهُ وإنْ كَانَ المُعْتِقُ مُسْلِمًا أو الْعَبْدُ وإنْ أيْسَر بها أوْ بِبَعْضِهَا فمُقابِلُهَا وفَضَلتْ عَنْ مَتْروكِ المُفْلِسِ وإنْ حَصَلَ عِتْقُهُ باخْتِيارِهِ لَا بإرْثٍ وَإنْ ابْتَدَأَ العِتْقَ لا إن كانَ حُرَّ الْبَعْضِ وقُوِّمَ عَلى الأولِ وَإِلَّا فَعَلى حِصَصِهِمَا إنْ أيْسَرَا وإلَّا فَعَلى المُوسرِ. وعُجِّلَ في ثُلُثِ مَريضٍ أُمِنَ، ولم يَقوَّمْ عَلى مَيِّتٍ لم يُوصِ، وَقُوِّمَ كَامِلًا بِمَالِه بَعْدَ امْتِنَاعِ شَرِيكهِ مِنَ الْعتْقِ ونُقِضَ لَهُ بَيعٌ مِنْهُ وتَأجيل الثَّانِي أو تَدْبِيرهُ.
(1)
وقوله: وبالحكم جميعًا إن أعتق جزءًا والباقي له كأن بقي لغيره: هذا الكلام على العض بالسراية، قال في المدونة: من أعتق جزْءً من عبده عتق جميعه، قال في التلقين: ولا يجوز تبعيض العتق ابتداء. ا. هـ. المواق.
قلت: لعله يعني بعدم الجواز لمن يملك سائر العبد وعتق بعضه، فهذا الذي يظهر أنه لا يجوز وكذا من أعتق شقصًا له في عبد وهو ملي، فإنه يقوم عليه باقي العبد وإن لم يرض هو ولا مالك باقيه لقوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه:"مَنْ أَعْتَق شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ". ولا يجوز له الامتناع عن دفع ما قوم به عليه أما أن يقال أن الإِقدام على عتق شقص من عبد ابتداء، فما أرى أنه يريد ذلك. والله أعلم.
روى أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا همام (ح) وحدثنا محمد بن كثير المعنى أخبرنا همام، عن قتادة، عن أبي المليح، قال أبو الوليد: عن أبيه أن رجلًا أعتق شقصًا له من غلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لَيْسَ لِلهِ شَرِيكٌ". زاد ابن كثير في حديثه، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه.
قال الخطابي: هذا الحديث فيه دليل على أن المملوك يعتق كله إذا أعتق الشقص منه، ولا يتوقف على عتق الشريك الآخر وأداء القيمة، ألا ترى إلى قوله: فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم عتقه وقالْ "لَيْسَ لِلهِ شَرِيكٌ". قال: هذا إذا كان المعتق موسرًا، وإذا كان معسرًا فإن الحكم بخلاف ذلك على مما ورد في =
وَلَا ينتقِلُ بَعْدَ اخْتِيارِهِ أحَدهُمَا، وإذا حُكِمَ بِبَيْعِهِ لِعُسْرِه مَضَى، كَقَبْلَهُ ثمَّ أيْسَرَ إنْ كَانَ بَيِّنَ الْعُسْرِ وحَضَرَ الْعَبْدُ. وأحكامُهُ قَبْلَهُ كالْقِنِّ، ولَا يَلْزَمُ اسْتِسْعَاءُ الْعَبْدِ (1) ولَا قَبُولُ مَالِ الْغيْرِ ولَا تَخْلِيدُ الْقيمَةِ في ذِمَّةِ المُعْسِرِ برضَا الشّرِيكِ. ومَنْ أعْتَقَ حِصَّتَهُ لِأجَلٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ لِيُعْتَقَ جَمِيعُهُ عِنْدَهُ إلَّا أن يَبُتَّ الثَّانِي فَنَصيبُ الأوَّل عَلى حَالِهِ. وَإنْ دَبَّرَ حِصَّتَهُ تَقَاوَيَاهُ لِيُرَقَّ كُلُّهُ أوْ يُدَبَّرَ وإنْ ادَّعَى المُعْتِقُ عَيْبَهُ فَلَهُ اسْتِحْلَافُهُ، وإن أذِنَ السَّيِّدُ أوْ اسْتَجَازَ عِتْقَ عَبْدِهِ جُزْءًا قُوِّمَ في مَالِ السَّيِّدِ وإنْ احتِيجَ لِبَيْع المعْتِقِ بِيعَ، وإنْ أعْتَقَ أوَّلَ وَلَدٍ لَمْ يَعْتِقْ الثَّانِي ولَوْ مَاتَ، وإنْ أعْتَق جَنينًا أوْ دَبَّره فَحُرٌّ وَإنْ لأكْثَر الْحَمْلِ إلَّا لِزَوْجٍ مُرْسَلٍ عَلَيْها فلأقَلِّهِ، وبيعَتْ إن سَبَقَ العِتْقَ دَيْنٌ، وَرُقَّ ولَا يُسْتَثْنَى بِبَيْعٍ أو عِتْقٍ ولم يَجُزِ اشْتِراءُ وَليٍّ مَنْ يَعْتِقُ على وَلَدٍ صغِيرٍ بِمَالِهِ، ولَا عَبْدٍ لم يُؤْذَنْ
= السنة، وسيجيء ذكره فيما بعد إن شاء الله.
واختلف العُلماء في ذلك، فذهب ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وسفيان الثوري والشافعي - في أظهر قوليه - إلى أن العتق إذا وقع من أحد الشريكين في شقصه، وكان موسرًا، سرى في جميع العبد وعتق العبد، ثم غرم المعتق لشريكه قيمة نصفه، ويكون الولاء كله للمعتق.
وقال مالك بن أنس: نصيب الشريك لا يعتق حتى يقوم العبد على المعتق، ويؤمر بأداء حصته من القيمة إليه، فإذا أدَّاها عتق العبد كله. وهو أحد قولي الشافعي في القديم. ا. هـ.
(1)
وقوله: ولا يلزم استسعاء العبد ألخ. لما رواه أبو داود: حدثنا القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ أَعْتَقَ شَرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ أُقِيمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَأعْتِقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ".
قال الخطابي: هذا الحديث يدل على أنه لا عاقبة وراء ذلك، وفيه سقوط السعاية، وهو أثبت شيء روي من الحديث في هذا الباب. ا. هـ. فقد رواه البخاري في العتق، ومسلم في العتق، والترمذي في الأحكام، والنسائي في البيوع، وابن ماجة في العتق.
لَهُ، مَنْ يَعْتِقُ عَلى سَيِّدِهِ، وإنْ دَفَعَ عَبْدٌ مَالًا لِمَنْ يَشْتَرِيهِ بِهِ، فإنْ قَالَ اشْتَرِني لِنَفْسِكَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ اسْتثنَى مَالَهُ وَإلَّا غَرِمَهُ وبِيعَ فِيهِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ على العبد، والْوَلَاءُ له، كلِتُعْتِقَني، وإنْ قَالَ لِنَفْسِي فَحُرٌّ وَوَلَاؤُهُ لِبَائعِهِ إنْ اسْتَثْنَى مَالَهُ وإِلَّا رُقَّ. وإنْ أَعْتَقَ عَبيدًا في مَرَضِهِ (1) أوْ أوْصَى بِعتْقِهِمْ وَلَوْ سَمَّاهُمْ، ولَمْ يَحْمِلْهُمْ الثُّلُثُ، أو أوْصَى بِعِتْقِ ثُلُثِهِم أوْ بعَدَدٍ سَمَّاهُ مِنْ أكْثَرَ، أُقْرعَ كالْقِسْمَةِ إلَّا أن يُرَتِّبَ فَيتَّبَعُ أو يقُولَ ثلثَ كُلٍّ أو أنْصَافَهُمْ أوْ أثْلَاثَهُمْ، وتَبِعَ سَيِّدَهُ بِدَيْنٍ إنْ لَمْ يَسْتَثْنِ مَالَهُ. وَرُقَّ إنْ شهدَ شَاهِدٌ برقِّهِ أو تَقَدُّمِ دَيْنٍ وحَلَفَ واسْتُؤني بِالْمَالِ إنْ شَهِدَ شَاهِدٌ بالولاء أو اثنان أَنَّهُمَا لَمْ يَزَالَا يَسْمَعَانِ أنَّه مَوْلاهُ وَوَارِثُهُ وحَلَف. وإن شَهِدَ أحَدُ الْوَرثَةِ أوْ أقَرَّ أنَّ أباهُ أعْتَقَ عَبْدًا لم يَجُزْ ولَمْ يُقَوَّمْ عَلَيْهِ. وإن شَهِدَ على شَريكِهِ بِعِتْقِ نَصِيبهِ فنصِيبُ الشَّاهِدِ حُرٌّ إن أيْسَرَ شَرِيكُهُ والأكثَرُ على نَفْيهِ كعُسِره.
(1)
وقوله: وإن أعتق عبيدًا في مرضه ألخ. روى أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين أن رجلًا أعتق ستة أعبد عند موته، ولم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له قولًا شديدًا، ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة. ا. هـ.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الإيمان والنذور، باب من أعتق شركًا له في عبد، والترمذي في الأحكام باب: فيمن عتق مماليكه، والنسائي في الجنائز، وابن ماجة في الأحكام باب: القضاء بالقرعة.
قال الخطابي: هذا الحديث، قال الشافعي، أصل في جواز الوصية في المرض بالثلث للأجانب، لأن عتقه إياهم في معنى الوصية لهم وهم أجانب، قال: وكانت العرب لا تستعبد من بينها وبينه نسب.
قال: وقد اختلف العُلماء في هذه المسألة، فقال بظاهر الحديث مالك والشافعي، وأحمد بن حنبل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وإسحاق بن راهويه، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يعتق من كل واحد منهم الثلث ويستسعى في ثلثيه للورثة ويعتق، ويروى ذلك عن الشعبي والنخعي. وعلى هذا القياس إذا أعتق في المرض الذي مات فيه عبدًا، ولم يكن له مال غيره، فإنه يعتق منه الثلث، ويكون ثلثاه رقيقًا للورثة في قول مالك والشافعي؛ وعند أبي حنيفة وأصحابه يعتق ثلثه، ويستسعى في ثلثيه للورثة ويعتق.
قال الخطابي: وقد أخبر عمران بن حصين في هذا الحديث أنه أعتق اثنين منهم وأرَقَّ أربعة، فصرح بوقوع القسمة في الأعيان دون الأجزاء، ولو أراد الأجزاء، لقال: فأعتق الثلث وأرق الثلثين، وما أشبه ذلك من الكلام. والله أعلم.
قال: وفي قوله: فأعتق اثنين، بيان صحة وقوع العتق لهما والرق لمن عداهما. وفي قول من يرى استسعاء كل واحد منهم في ثلثي قيمته، ترك الأمرين معًا، لأنه لا يعتق أحدًا منهم ولا يرقه، وفي ذلك مخالفة الحديث على وجهه، وقد جاء بيان ما قلناه صريحًا من رواية الحسن عن عمران بن حصين: حدثنا إبراهيم بن فارس، حدثنا أحمد بن علي بن سهل، حدثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي، حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب، وأيوب عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين، وقتادة، وحميد، وسماك بن حرب، عن الحسن عن عمران بن حصين: أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته وليس له مال غيرهم، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق اثنين ورد أربعة في الرِّقِّ. فقوله: ورد أربعة في الرق، يبطل كل تأويل بخلاف ظاهر الحديث.
وقال ابن قدامة: وقد أنكر أصحاب أبي حنيفة القرعة وقالوا: هي قمار، وحكم الجاهلية، قال: والقرعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب فقوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}
(1)
. الصافات، وقوله تعالى في آل عمران:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}
(2)
. وأما السنة: فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أقرع بين نسائه - وأنه أقرع في ستة مملوكين - وقال لرجلين: "اسْتَهِمَا" وقال: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاء وَالصَّفِّ الْأوَّلِ لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ". إلى غير ذلك من الأحاديث الثابتة في القرعة. =
(1)
سورة الصافات: 141.
(2)
سورة آل عمران: 44.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= تنبيهٌ: ومال العبد المعتق يتبعه عند أصحابنا إلَّا إذا اشترطه السيد، هذا قول مالك وأهل المدينة، والحسن، وعطاء، والشعبي، والنخعي، قالوا: لما روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُ الْعَبْدِ لَهُ، إلَّا أنْ يَشْتَرطَه السَّيِّدُ". رواه أبو داود، وهو في البخاري في الشرب والمساقاة، وأخرجه مسلم في البيوع باب: من باع نخلًا عليها ثمر. وأخرجه الترمذي في البيوع، وابن ماجة في العتق.
وقال ابن قدامة: من أعتق عبدًا وله مال فمال العبد لسيده. روي هذا عن ابن مسعود، وأبي أيوب، وأنس بن مالك. وبه قال قتادة، والحكم، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن حماد، والبتي، وداود بن أبي هند. واحتجوا بما روى الأثرم عن ابن مسعود أنه قال لغلامه عمير: إني أريد أن أعتقك عتقًا هنيئًا، فأخبرني بمالك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَوْ غلَامَهُ فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِمَالِهِ فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ". قالوا: ولأن العبد وماله كانا جميعًا للسيد، فأزال ملكه عن أحدهما وبقي ملكه في الثاني كما لو باعه، وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ". أخرجه البخاري، ومسلم وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.
وقال الخطابي في معالم السنن: وإذا ثبت هذا الحديث ومقتضاه، وجب أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُ الْعَبْدِ لَهُ". على الاستحباب أن يسمح به للعبد إذ كان العتق منه إنعامًا عليه، ومعروفًا اصطنعه إليه، فندب إلى مسامحته فيما بيده من المال؛ ليكون ذلك إتمامًا للصنيعة التي أسداها إليه، وقد جرئ من عادة السادة أن يحسنوا إلى مماليكهم إذا أرادوا إعتاقهم، فكان أقرب ذلك أن يتغاضى عما في يده من المال. والله أعلم. ا. هـ. منه بتصرف.
قلت: الإِنصاف والاعتدال يلوحان على ما قاله الخطابي في هذه المسألة. وبالله تعالى التوفيق.
تنبيهٌ آخر في بيان في الرقاب أفضل، فقد أخرج في الموطإ مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرقاب أيها أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَغْلَاهَا ثَمَنًا وأنفَسَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا". والله الموفق.
كتاب التدبير
بَابٌ: التَّدْبيرُ تَعْلِيقُ مُكَلَّفٍ رَشِيدٍ، وَإنْ زوجَةً في زائد الثُّلُث الْعِتْقَ بِمَوْتهِ لَا عَلى وَصِيّةٍ كإنْ مِتُّ مِنْ مَرَضي أوْ سَفَري هذَا، أو حُرٌّ بَعْدَ مَوْتي مَا لَمْ يُرِدْهُ، وَلَمْ يُعلِّقْه أوْ أنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِيوْمٍ. بِدبَّرتُكَ (1)، أوْ أنت مُدَبَّرٌ، أوْ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي. ونَفَذَ تَدْبيرُ نَصْرَانِيٍّ لِمُسْلِمٍ وَأوجر لَهُ. وتَنَاوَلَ الحَمْلَ مَعَهَا (2) كوَلَدِ المدَبَّرِ مِنْ أمَتِه بَعْدَهُ، وصَارَتْ بِهِ أمَّ وَلَدٍ إنْ عَتَقَ، وقُدِّمَ الأبُ عَلَيْهِ في الضّيقِ، وللسَّيِّدِ نَزْعُ مَالِهِ إنْ لَمْ يَمْرَضْ، ورَهْنُهُ وَكتَابَتُهُ، لَا إخراجه بغير حُرِّيَّة، وفُسِخَ بَيْعُهُ إن لم يَعْتِقْ (3) والْوَلَاءُ لَهُ كالْمُكاتَبِ، وإنْ جَنَى فإنْ فَدَاهُ وَإلَّا أسْلَمَ خِدْمَتَهُ تَقَاضِيًا، وحَاصّهُ مَجْنيٌّ عَلَيْهِ ثَانِيًا، ورَجَعَ إنْ وَفَّى، وإنْ عَتَق بِمَوْتِ سَيِّدِه اتُّبِعَ بالْبَاقِي أوْ بَعْضُهُ بِحِصَّتِهِ، وخُيِّرَ الوَارِثُ في إسْلَامِ مَا رُقَّ أوْ فكِّهِ، وَقوِّمَ بِمَالِهِ. وإذَا لَمْ يَحْمِلْ الثُّلثُّ إلَّا بَعْضَهُ عَتَقَ وبَقي مَالُهُ بِيَدِهِ (4)، وإنْ كانَ لسَيدِهِ دَيْنٌ مُؤجَّلٌ على حَاضِرٍ مَلِيءٍ بِيعَ بالنَّقْدِ، وإنْ
الكلام على أحكام المدبَّر
التدبير معناه، تعليق المرء عبده بموته، فالوفاة دُبُر الحياة. يقال: دابر الرجل يدابر مدابرة، إذا مات، فسمي العتق بعد الموت لذلك تدبيرًا، لأنه عتق في دبر الحاة. والأصل في جوازه السنة والإجماع.
أما السنة: فقد روى جابر أن رجلًا أعتق مملوكًا له عن دبر منه. فاحتاج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي". فباعه من نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم، فدفعها إليه، وقال:"أَنْتَ أَحْوَجُ مِنْهُ". متفق عليه. وأما الإِجماع: فقد حكى ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن من دبر عبده أو أمته، ولم يرجع عن ذلك حتى مات، والحال أن الثلث يتحمله، بعد قضاء دينه إن كان، وهو جائز التصرف، أن الحرية تجب بذلك.
(1)
وقوله: بدبرتكَ ألخ. جملة القول في ذلك أن التدبير له عبارات صريحة ينعقد بها بمجرد اللفظ، لا تحتاج إلى نية. كان يقول له: أنت حر بعد موتي، أو: عتيق بعد موتي، أو أنت محرر بعد =
قَرُبَتْ غيبتُه اسْتُؤنيَ قَبْضُهُ، وإلَّا بِيعَ، فإنْ حَضَرَ الْغَائبُ أوْ أيْسَرَ المُعْدمُ بَعْدَ بَيْعِهِ عَتَقَ مِنْهُ حَيْثُ كَانَ. وَأنْتَ حُرٌّ قَبْلَ مَوْتي بِسَنَةٍ إنْ كانَ السَّيِّدُ مَلِيئًا لم يُوقَفْ، فإنْ مَاتَ نُظِرَ فإنْ صَحَّ اتُّبِعَ بالخِدْمَةِ وعَتَقَ مِن رَأسِ المال وإلَّا فمِنَ الثلُثِ ولَمْ يَتَّبِعْ، وإنْ كانَ غيرَ مَلِيءٍ، وُقِفَ خَرَاجُ سَنَةٍ ثُمَّ يُعْطَى السَّيِّدُ مِمَّا وُقِفَ مَا خَدَمَ نَظِيرُهُ. وبَطَلَ التّدْبِيرُ بِقَتْلِ سَيِّدِهِ عَمْدًا، وباسْتِغْراقِ الدَّيْن لَهُ، ولِلتَّركَةِ، وبَعْضُهُ بِمُجاوزَةِ الثُّلُثِ، ولَهُ حُكْمُ الرِّقِّ. وإن مَاتَ سَيدُه حَتَّى يُعْتَقَ فيمَا وُجِدَ حِينَئذٍ. وأنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتي ومَوْتِ فُلَانٍ، عَتَقَ مِنَ الثُّلُثِ أيْضًا ولا رُجُوعَ له، وإن قَال: بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ، فَمُعْتَقٌ لأجَلٍ مِنْ رَأسِ المال.
= موتي، أو أنت معتق بعد موتي، أو أنت مدبَّرٌ، أو قد دبّرتك، صار مدبَّرًا بهذه الألفاظ. قال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا في ذلك. وأما الكنايات فإنها تحتاج إلى نية إرادة التدبير بها.
(2)
وقوله: وتناول الحمل معها، جملة القول في ذلك أن المدبَّرة إن وقع التدبير وهي حامل تناول التدبير حملها ذلك من غير خلاف بين أهل العلم.
وإن حملت بعد التدبير تناول حكم التدبير ذلك الحمل عند أكثر أهل العلم. منهم ابن مسعود وابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن، والقاسم، ومجاهد، الشعبي، والنخعي، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ومالك، والثوري، والحسن بن صالح، وأحمد في رواية عنه، والشافعي في قول عنه.
والرواية الأخرى عن أحمد والشافعي هي أن ولد المدبَّرة عبد إذا لم يشرط المولى، قال: وهذه ظاهره أنه لا يتبعها ولا يعتق بموت سيدها. وهذا قول جابر بن ريد وعطاء. والتحقيق إن شاء الله أن ولد المدبَّرة يتناوله حكمها لما روى عبد الرزاق في مصنفه: أخبرنا معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الحجي عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن ابن عمر قال: ولد المدبَّر بمنزلته. قال ابن قدامة: وهو قول عمر، وابن عمر، وجابر، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة، فكان إجماعًا.
قال ابن قدامة: فأما ولد المدبَّرة فحكمه حكم أمه، لا نعلم فيه خلافًا. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (3) وقوله: وفسخ بيعه إن لم يعتق، يريد به، والله أعلم، أنه إذا بيع المدبر فسخ بيعه إن لم يعتق، فإن أعتقه المشتري مضى بيعه وإعتاقه، ذلك أن مالك بن أنس، وأصحاب الرأي، والنخعي، والشعبي، والثوري، والأوزاعي كرهوا بيع المدبَّر، قالوا: وقد كره ابن عمر بيعه. وروي ذلك عن سعيد بن المسيب، وابن سيرين، والزهري؛ لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ وَلَا يُشْتَرَى". غير أن هذا حديث في سنن الدارقطني موقوف على ابن عمر، قال الدارقطني: لم يسنده غير عبيدة بن حسان وهو ضعيف، وإنما هو من قول ابن عمر موقوف عليه.
فلا يعارض به ما رواه البخاري في صحيحه في عدة مواضع، ورواه مسلم كذلك ورواه أبو داود في العتق، والترمذي في البيوع، والنسائي، وابن ماجة، وهذا لفظه عند أبي داود. قال باب في بيع المدبَّر: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا هشيم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، وإسماعيل بن أبي خالد عن سلمة بن كهيل، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله أن رجلًا أعتق غلامًا له عن دُبُر منه، ولم يكن له مال غيره، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فبيع بسبعمائة أو بتسعمائة.
وفي بعض روايات أبي داود، حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا بشر بن بكر، أخبرنا الأوزاعي، حدثني عطاء بن أبي رباح، حدثني جابر بن عبد الله، بهذا وزاد: وقال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنْتَ أَحَقٌّ بِثَمَنِهِ وَالله أَغْنَى عَنْهُ". وفي لفظ آخر: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا إسماعيل عن إبراهيم، حدثنا أيوب عن أبي الزبير، عن جابر، أن رجلًا من الأنصار يقال له أبو مذكور أعتق غلامًا له يقال له يعقوب، عن دُبُر، ولم يكن له مال غيره، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مَنْ يَشْتَرِيهِ"؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله النحام بثمانمائة درهم، فدفعها إليه ثم قال: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فقيرًا فَلْيَبْدأْ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ فَعلَى عِيَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضل فَعَلَى ذِي قَرَابَتِهِ، أو قال: عَلَى ذِي رَحِمِهِ، فَإِنْ كَانَ فَضْل فَههُنَا وَههُنَا". وهذا الحديث في صحيح مسلم باب: جواز بيع المدبَّر وفي النسائي في الزكاة.
ولذلك قال أحمد بن حنبل والشافعي: يباع المدبَّر إذا كان سيده فقيرًا لا يملك شيئًا، وبهذا قال إسحاق بن راهويه، وروي عن أبي أيوب وأبي خيثمة وقالا: إن باعه من غير حاجة أجزناه. ونقل جماعة عن أحمد جواز بيع المدبَّر مطلقًا في الدين وغيره، مع الحاجة وعدمها، قال ابن قدامة: وهذا هو الصحيح، وروي مثله عن عائشة وعمر بن عبد العزيز، وطاوس، ومجاهد، وهو قول الشافعي. ا. هـ. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= قلت: الدليل إلى جانب من يجيز بيع المدبَّر إذا لم يكن لصاحبه مال للحديث المتفق عليه الذي مر آنفًا، والله تعالى الموفق.
(4)
وقوله: وإذا لم يحمل الثلث إلا بعضه عتق وبقي ماله بيده،: جملة القول فيه أن المدبّر يعتق بعد موت سيده من ثلث المال عند أكثر أهل العلم؛ يروى ذلك عن عليّ وابن عمر، وبه قال شريح، وابن سيرين، والحسن، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والزهري، وقتادة، وحماد، ومالك وأهل المدينة، والشافعي، والثوري، وأهل العراق، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور وأصحاب الرأي.
وقال ابن مسعود ومسروق، ومجاهد، والنخعي، وسعيد بن جبير: إن المدبر يعتق من رأس المال.
وأما إذا لم يحمل المثلث بعضه فإنه يجري عليه ما ورد في المبعَّض. والله أعلم.
هذا، وسوف أورد هنا ما ورد في الموطإ بخصوص المدبَّر لتكمل الفائدة.
قال: الأمر عندنا فيمن دبر جارية له، فولدت أولادًا بعد تدبيره إيَّاها، ثم ماتت الجارية قبل الذي دبَّرها، أن ولدها بمنزلتها؛ قد ثبت لهم من الشرط ما ثبت، مثل الذي ثبت لها، ولا يضرهم هلاك أمهم، فإذا مات الذي كان دبَّرها فقد عتقوا إن وسعهم الثلث. وقال مالك: كل ذات رحم فولدها بمنزلتها؛ إن كانت حرة فولدت بعد عتقها فولدها أحرار، وإن كانت مدبَّرة، أو مكاتبه، أو معتقه إلى سنين، أو مخدمة، أو بعضها حرًا، أو مرهونة، أو أم ولد، فولد كل واحدة منهن على مثل حال أمه، يعتقون بعتقتها ويرقُّون برقها.
وقال مالك في مدبرة دبرت وهي حامل، ولم يعلم سيدها بحملها؛ إنَّ ولدها بمنزلتها، وإنما ذلك بمنزلة رجل أعتق جارية له وهي حامل ولم يعلم بحملها. قال مالك: فالسنة فيها أن ولدها يتبعها ويعتق بعتقها. قال مالك: وكذلك لو أن رجلًا ابتاع جارية وهي حامل، فالوليدة وما في بطنها لمن ابتاعها، اشرط ذلك المبتاع أو لم يشترطه. قال مالك: ولا يحل للبائع أن يشترط ما في بطنها؛ لأن ذلك غرر يضع من ثمنها. ولا يدري أيصل ذلك إليه أم لا؟ وإنما بمنزله ما لو باع جنينًا في بطن أمه؛ وذلك لا يحل له لأنه غرر. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قال مالك في مدبَّر أو مكاتب ابتاع أحدهما جارية فوطئها فحمل منه فولدت، قال: ولد كل واحد منهما من جاريته بمنزلته؛ يعتقون بعتقه، ويرقون برقه. وقال مالك: إذا عتق هو فإنما أم ولده مال من ماله يسلم إليه إذا أعتق. وقال مالك في مدبّر قال لسيِّده: عجِّل لي العتق وأعطيك خمسين منجمة عليّ. فقال سيِّده: نعم، أنت حر وعليك خمسون دينارًا، تؤدي إليَّ كل عام منها عشرة دنانير، فرضي بذلك العبد، ثم هلك السيد بعد ذلك بيوم أو يومين أو ثلاثة، قال مالك: يثبت له العتق، وصارت الخمسون دينارًا دينًا عليه، وجازت شهادته، وثبتت حرمته وميراثه وحدوده، ولا يضع عنه موت سيِّده شيئًا من ذلك الدين. وقال مالك في رجل دبر عبدًا له فمات السيد وله مال حاضر وقال غائب، فلم يكن له في ماله الحاضر ما يخرج فيه المدبر؟ قال: يوقف المدبَّر بماله، ويجمع خراجه حتى يتبين المال الغائب، فإن كان فيما ترك سيده مما يحمله الثلث عتق بماله وبما جمع من خراجه، فإن لم يكن فيما ترك سيّده ما يحمله عتق منه قدر الثلث وترك ماله في يده.
وقال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا أن كل عتاقة أعتقها رجل في وصية أوصى بها في صحة أو مرض أنه يردها متى شاء، ويغيرها متى شاء ما لم يكن تدبيرًا، فإذا دبَّر، فلا سبيل له إلى ردِّ ما دبَّر. وقال مالك: وكل ولد ولدته أمة أوصي بعتقها ولم تدبَّر، فإن ولدها لا يعتقون معها إذا عتقت، وذلك أن سيدها يغير وصيته إن شاء ويردها إن شاء، ولم تثبت لها عتاقة، وإنما هي بمنزلة رجل قال لجاريته: إن بقيت عندي فلانة حتى أموت فهي حرة، قال مالك: فإن أدركت ذلك كان لها ذلك، وإن شاء قبل ذلك باعها وولدها؛ لأنه لم يدخل ولدها في شيء مما جعل لها. قال: والوصية في العتاقة مخالفة للتدبير، فرق بين ذلك ما مضى من السنة، قال: ولو كانت الوصية بمنزلة التدبير، كان كل موص لا يقدر على تغيير وصيته وما ذكر فيها من العتاقة، وكان قد حبس عليه من ماله مالًا يستطيع أن ينتفع به. قال مالك في رجل دبّر رقيقًا جميعًا في صحته، وليس له مال غيرهم: إن كان دبّر بعضهم قبل بعض، بدئ بالأول فالأول حتى يبلغ الثلث، وإن كان دبرهم جميعًا في مرضه، فقال: فلان حر، وفلان حر، وفلان حر، في كلام واحد، إن حدث بي في مرضي هذا حدث الموت، أو دبّرهم جميعًا في كلمة واحدة، تحاصّوا في الثلث ولم يبدّأ أحد منهم قبل صاحبه، وإنما هي وصية، وإنما لهم الثلث يقسم بينهم بالحصص ثم يعتق منهم الثلث بالغًا ما بلغ. قال: ولا يبدّأ أحد منهم إذا كان ذلك كله في مرضه. وقال مالك في =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
= رجل دبَّر غلامًا له فهلك السيّد ولا مال له إلا العبد المدبّر وللعبد مال، قال: يعتق ثلث المدبر ويوقف ماله بيديه. وقال مالك في مدبّر كاتبه سيده فمات السيّد ولم يترك مالَّا غيره، قال مالك: يعتق منه ثلثه ويوضع عنه ثلث كتابته ويكون عليه ثلُثاها. وقال مالك في رجل أعتق نصف عبد له وهو مريض، فبتَّ عتق نصفه أو بت عتقه كله، وقد كان دبَّر عبدًا له آخر قبل ذلك، قال يُبَدَّأ بِالمدبَّر قبل الذي أعتقه وهو مريض، وذلك أنه ليسر للرجل أن يرد ما دبَّر، ولا أن يتعقبه بأمر يردُّه به. فإذا أعتق المدبَّر فليكن ما بقي في الثلث في اعْتَق شطره حتَّى يستتم عتقه كله في ثلث مال الميِّت، فإن لم يبلغ ذلك فضلُ الثلث عتق منه ما بلغ فضل الثلث بعد عتق المدبَّر الأول.
وحدثني مالك عن نافع أن عبد الله دبَّر جاريتين له فكان يطؤهما وهما مدبَّرتان. وحدثني مالك عن يحيى بن سعيد أن سيد بن المسيب كان يقول: إذا دبّر الرجل جاريته فإن له أن يطأها، وليس له أن يبيعها ولا يهبها، وولدها بمنزلتها.
قال مالك: والأمر المجمع عليه عندنا في المدبَّر أن صاحبه لا يبيعه ولا يحوله من موضعه الذي وضعه فيه، وأنه إن رهق سيِّدَه دين فإنَّ غرماءه لا يقدرون على بيعه ما عاش سيّده، فإن مات سيّده ولا دين عليه فهو في ثلثه؛ لأنه استثنى عليه عمله ما عاش، فليس له أن يخدمه حياته ثم يعتقه على ورثته إذا مات من رأس ماله، وإن مات سّيد المدبَّر ولا مال له غيره عتق ثُلُثُهُ وكان ثلثاء للورثة، فإن مات سيّد المدبَّر وعليه دين محيط بالمدبَّر بيع في دينه؛ لأنه إنما يَعْتِقُ في الثلث. قال: فإن كان الديْن لا يحيط إلا بنصف العبد، بيع نصفه في الدين، ثم عتق ثُلُثُ ما بقي بعد الدين. قال مالك: لا يجوز بيع المدبَّر ولا يجوز لأحد أن يشتريه إلا أن يشتري المدبَّر نفسه من سيِّدِه فيكون ذلك جائزًا له أو يعطي أحدٌ سبِّد المدبَّر مالًا ويعتقه سيّده الذي دبَّره فذلك جائز أيضًا. قال مالك: وولاؤه لسيِّده الذي دبّره. وقال مالك: لا يجوز ببيع خدمة المدبَّر لأنه غرر، إذ لا يدري كم يعيش سيِّده، فذلك غرر لا يصلح. وقال مالك في البعد يكون بين الرجلين فيدبر أحدهما حصته، إنهما يتقاومانه فإن اشتراه الذي دبره كان مدبَّرًا كله، وإن لم يشتره انتقض تدبيره إلا أن يشاء الذي بقي له في الرِّقُّ أن يعطيه شريكه الذي دبره بقيمته، فإن أعطاه إياه بقيمته لزمه ذلك وكان مدبَّرًا كله.
وقال مالك في رجل نصراني دبر عبدًا له نصرانيًا فأسلم العبد، قال مالك: يحال بينه وبين العبد، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ويخارج على سيده النصراني، ولا يباع عليه حتى يتبين أمره، فإن هلك النصراني وعليه دين قضي دينه من ثمن المدبَّر إلا أن يكون في ماله ما يحمل الدين فيعتق المدبَّر.
قلت: نكتفي بهذا القدر من النقل من الموطإ في موضوع المدبر، ومعلوم أن هذه النقول خروج عن موضوع كتابنا هذا، لأن المفروض نقل ما وجد ليس الأدلة، غير أنه لما لم تكن الأدلة متوفرة، فإنه لا بأس بالوقوف على رأي الإِمام فيما لا نص فيه، لأنه نص في الموضوع بالنسبة للمقلدين. والله تعالى أسأل التوفيق في القول والعمل، وصلاح الدنيا والآخرة، هو حسبنا ونعم الوكيل.
المكاتبة
بَابٌ: نُدِبَ مكَاتَبَةُ أَهْلِ التَّبَرُّعِ (1) وَحَطُّ جُزْءٍ آخِرًا (2)، ولَمْ يُجْبَرْ الْعَبْدُ عَلَيْهَا والمَأخُوذُ مِنْهَا الجَبْرُ؛ بِكَاتَبْتُكَ ونَحْوِهِ بِكَذا، وظاهِرهَا اشْتِراطُ التَّنْجِيم (3)، وصُحِّحَ خِلَافُهُ. وجَازَ بغَرَرٍ كآبِقٍ وجَنينٍ وعبْدِ فلانٍ، لا لُؤْلُؤٍ لمْ يُوصَفْ أَو كَخَمْرٍ، ورُجِعَ لِكِتَابَةِ مِثْلِهِ وفسْخُ مَا عَليْهِ من مُؤخَّرٍ أوْ كذهَبٍ عَنْ وَرِقٍ وعَكسِهِ، وَمكاتَبةُ وَلِيٍّ مَا لمَحْجُوره بالْمَصْلَحَةِ، وَمُكاتَبَةُ أمَةٍ وصَغِيرٍ وَإِنْ بِلَا مَالٍ وَكسْبٍ، وبَيْعُ كِتابَةٍ (4) أوْ جُزْءٍ لا نَجْمٍ فَإنْ وَفَّى فالْوَلَاءُ لِلأوَّلِ وإِلَّا رُقَّ للمُشْتَري، وَإقْرارُ مَريضٍ بقبْضِهَا إنْ وُرِثَ غَيْرَ كَلَالَةٍ ومكاتَبتُه بِلا مُحَابَاةٍ وَإلَّا فَفي ثُلُثِهِ، ومكاتَبَةُ جَمَاعَةٍ لِمَالِك فتُوَّزَعُ على قُوَّتِهِمْ على الأدَاءِ يَوْمَ العَقْدِ، وهُمْ وَإنْ زَمِنَ أحَدُهُمْ حُمَلَاءُ مُطْلَقًا فيؤخَذُ مِن المليء الجَميعُ ويَرْجِعُ إن لَمْ يَعْتِقْ عَلى الدَّافعِ ولم يَكُنْ زَوْجًا، ولا يَسْقُط عَنْهُم شَيءٌ بِمَوتِ واحِدٍ، وللسَّيِّدِ عِتْقُ قويٍّ مِنهُمْ إنْ رَضِي الجَمِيعُ وقَوُوا، فإن رُدَّ ثُمَّ عَجَزُوا صحَّ عِتْقُهُ. والخيارُ فيها ومكاتبةُ شَريكيْنِ بِمَالٍ وَاحِدٍ، لا أحَدِهِمَا، أوْ بِمَالين أو بمتّحِدٍ بِعَقْدَيْنِ فيُفْسَخُ. ورضا أحَدِهمَا بتقدِيم الآخر، ورجع لِعَجْزٍ بِحِصَّتِهِ.
أحكام المكاتب
الكتابة شرعًا هي إعتاق السيّد عبده على مال في ذمته يؤديه مؤجلًا. قال الحطاب: وهذا الإسم مشتق من الأجل المضروب لأداء نجومها، فإن الكتابة معناها الأجل، قال الله تعالى:{وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}
(1)
أي أجل مقدر. وقيل: سميت بذلك اشتقاقًا لها من الكتب؛ لأن السيّد يكتب بينه وبين عبده كتابًا بما اتفقا عليه. والكتابة معناها اللغوي هو الضم، والمكاتب يضم بعض النجوم إلى بعض، ومن هذا المعنى سمي الخراز كاتبًا لأنه يضم أحد الجانبين إلى الآخر بخرزه. قال الحريري في ألغازه:
وكاتِبِين وما خطت أناملُهم
…
حرفًا وما قرؤوا ما خطّ في الكتب =
(1)
سورة الحجر: 4.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال ذو الرمة يصف قربة يسيل الماء بين خرزها، مشبهًا بذلك جريان دمعه:
ما بال عينيك منها الماء ينسكبُ
…
أنه من كُلىً مفريةٍ سرب
وفْراءَ غرفيةٍ أثْأى خوارزَها
…
مُشَلْشَلٌ ضيَّعتْهُ بينها الكُتُبُ
وسميت هذه الأقساط نجومًا لأنها تؤدى في أوقات محدودة، وما كانت العرب تعرف الحساب، فكانت تعرف أوقاتها بطلوع النجوم، قال الشاعر:
إذا سهيلٌ أول الليل طلع
…
فابْن اللَّبونِ الحقُّ والحق جَذَعْ
يقولون: لأن سهيلًا كان يطلع عند نتاج الإِبل، فإذا حالت السنة تحولت أسنان الإِبل.
والأصل في الكتابة الكتاب والسنة والإِجماع:
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
(1)
. الآية من سورة النور.
وأما السنة، فقد روى سعيد عن سفيان عن الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا كَانَ لإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ فَمَلَكَ مَا يُؤَدِّي فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ". أخرجه أبو داود، والترمذي، وأحمد، والحاكم، والبيهقي عن أم سلمة. وورد في السنة في أحاديث كثيرة. وأما الإِجماع: فإنه منعقد على مشروعية الكتابة.
(1)
قوله: ندب مكاتبة أهل التبرع، قال الحطاب: يشير به إلى أن حكم الكتابة الندب، قال في التوضيح: وهو المذهب، قال ابن عرفة: وهو المعروف. ومقابله قول بالإِباحة في المذهب، وهو الذي رواه ابن القصار وقاله مطرف وحكاه ابن الجلاب عن مالك، قال في الموطإ: سمعت بعض أهل العلم إذا سئل عن ذلك يتلو: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
(2)
. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}
(3)
فجعلها على الإِباحة انتهى. وقال أهل الظاهر بوجوبها للأمر بها في قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
(4)
. الآية. ا. هـ. منه.
قلت: القول بوجوبها حكي عن عكرمة، وعطاء، ومسروق، وعمرو بن دينار، والضحاك بن =
(1)
و
(4)
سورة النور: 33.
(2)
سورة المائدة: 2.
(3)
سورة الجمعة: 10.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= مزاحم، وأهل الظاهر. وروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس، واختاره الطبري. احتجوا بأن سيرين أبا محمد بن سيرين كان سأل أنس بن مالك الكتابة وهو مولاه، فأبى، فرفع عمر عليه الدرة وتلا:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
(1)
. الآية؛ فكاتبه، قالوا: وما كان عمر ليرفع الدرة على أنس فيما أبيح له أن لا يفعله.
وقال عامة علماء الأمصار بعدم وجوبها، قالوا، لأن الإِجماع منعقد على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك، ولم يجبر عليه ولو ضوعف له الثمن، وانعقد كذلك على أنه لو قال له: اعتقني أو ديِّرني أو زوِّجني لم يلزمه ذلك؛ قالوا: فكذلك المكاتبة، لأنها معاوضة فلا تصح إلا عن تراض. واحتج الجمهور جوابًا عن تمسك من أوجبها بأن الأمر للوجوب، بأنه مسلم فيما عري عن قرينة صارفة له عن الوجوب، وهو هنا علق بشرط علم الخير فيه، وهو أمر باطن، فإذا قال لسيّده: كاتبني. فقال: لا أعلم فيك خيرًا، عوِّل على ذلك.
قال ابن قدامة: يستحب له إجابته إذا علم فيه خيرًا، ولم يجب ذلك في ظاهر المذهب، وهو قول عامة أهل العلم، منهم، الحسن، والشعبي، ومالك، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: وحط جزء آخرًا: هذا الحكم أخذه مالك رحمه الله من قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}
(2)
. فقد رأى مالك هذا الأمر على الندب، ولم ير لقدر الوضيعة حدًا، ورأى أيضًا هو وغيره، أن يكون الوضع من آخر نجم؛ وعلل ذلك بأنه إذا وضع من أول نجم ربما عجز العبد، فرجع هو وماله إلى سيّده، وتعود إليه وضيعته وهي شبه الصدقة. وبهذا قال عليّ رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنهما.
قال القرطبي: هذه الآية أمر للسَّادة بإعانتهم في مال الكتابة، إمَّا بأن يعطوهم شيئًا مما في أيديهم - أعني أيدي السادة - وإما أن يحطوا عنهم من مال الكتابة. وقد وضع ابن عمر خمسة آلاف من خمسة وثلاثين ألفًا، واستحسن عليٌّ رضي الله عنه أن يكون ذلك ربع الكتابة، قال: واستحسن ابن مسعود والحسن بن أبي الحسن ثلثها، وقال قتادة: عشرها، وقال ابن جبير: يسقط عنه شيئًا ولم يحدّه، وهو =
(1)
و
(2)
سورة النور: 33.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قول الشافعي، واستحسنه الثوري.
وقال الحسن والنخعي وبريدة: إنما الخطاب بقوله: {وَآتُوهُمْ} للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين، وأن يُعينُوهُمْ في فكاك رقابهم. وقال زيد بن أسلم: إنما الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم الذي تضَمَّنه قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} قال القرطبي: وعلى هذين القولين، فليس على سيِّد المكاتب أن يضع شيئًا عن مكاتبه، قال: ولو أراد حط شيء من نجوم الكتابة لقال: وضعوا عنهم كذا. ا. هـ. منه.
تنبيهٌ: قال مالك في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} . قال: سمعت بعض أهل العلم يقولون هو القوة على الاكتساب والأداء، وهذا قول الشافعي، ويروى عن الليث نحوه، ولأجل هذا كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تبر له حرفة، ويقول: أتريدونني أن آكل أوساخ الناس؟! وروي نحوه عن سلمان الفارسي. وروي عن حكيم بن حزام قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عمير بن سعد: أما بعد، فانْهَ مَنْ قِبَلَكَ من الناس أن يكاتبوا أرقاءهم على مسألة الناس. وكره ذلك الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
قال القرطبي: ورخص فيه مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وروي عن عليّ رضي الله عنه أن ابن النَّيَّاح مؤذنه قال له: أكاتب وليس لي مال؟ قال نعم! ثم حضَّ الناس على الصدقة عليه، قال: فأعطوني ما فضل عن كتابتي، فأتيت عليًّا، فقال: اجعلها في الرقاب. وكره ذلك مالك، وقال: إن الأمة التي لا حرفة لها يكره مكاتبتها لما تؤدي إليه من فسادها. قال القرطبي: والحجة في السنة لا فيما خالفها، فقد روى الأئمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على بريرة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين، كل سنة أوقية، فأعينيني .. الحديث. وهذا دليل أن السيد له أن يكاتب عبده وهو لا شيء عنده، قال: ألا ترى أن بريرة جاءت عائشة تخبرها بأنها كاتبت أهلها وسألتها أن تعينها، وذلك كان في أول كتابتها قبل أن تؤدي منها شيئًا، كذلك ذكره ابن شهاب عن عروة أن عائشة أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا. أخرجه البخاري وأبو داود، وفي هذا جواز كتابة الأمة وهي غير ذات صنعة ولا حرفة ولا مال، ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل لها كسب أو عمل واصب أو مال؟. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولو كان هذا واجبًا لسأل عنه ليقع حكمه عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث مبينًا. قال القرطبي: وفي هذا الحديث دليل على أن الخير في قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} هو القوة على الاكتساب مع الأمانة. والله تعالى أعلم.
(3)
وقوله: وظاهرها اشتراط التنجيم ألخ .. قال الحطاب: ظاهر كلام المؤلف وابن الحاجب وغيرهما أن الكتابة الحالة لا تصح إلا على ظاهر المدونة. وقال ابن عرفة: قول الشيخ، يعني في الرسالة وغيره، لا يدل على منعها حالة، بل على عدم صدق لفظ الكتابة عليها فقط. ا. هـ. منه.
قال القرطبي: الكتابة تكون بقليل المال وكثيره، وتكون على أنجم، لحديث بريرة. وهذا لا خلاف فيه بين العُلماء والحمد لله. فلو كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلًا نجمت عليه بقدر سعايته وإن كره السيد. وقال ابن العربي: اختلف السلف في الكتابة إذا كانت حالة على قولين، والصحيح في النظر أن الكتابة مؤجلة، كما ورد الأثر بها في حديث بريرة حين كاتبت أهلها على تسع أواق في كل عام أوقية، وكما فعل الصحابة، ولذلك سميت كتابة لأنها تكتب ويشهد عليها، فقد استوثق الاسم والأثر، وعضده المعنى، فإن المال إن جعله حالًا وكان عند العبد شيء فهو مال مقاطعة وعقد مقاطعة لا عقد كتابة.
قال: ولم يرد عن مالك نص في الكتابة الحالة، والأصحاب يقولون إنها جائزة. ويسمونها قطاعةً. وقال الشافعي: لا تجوز على أقل من ثلاثة أنجم، ولو كان قوله هذا صحيحًا لأمكن القول لغيره بأنها لا تجوز على أقل من خمسة نجوم؛ لأنها أقل النجوم التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بريرة، وعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم وقضى فيها. فكان القول به أولى بالصواب، فقد روى البخاري عن عائشة أن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمسة أواق نجمت عليها في خمس سنين. الحديث.
(4)
وقوله: وبَيْعُ كِتَابَةٍ: قال القرطبي: حديث بريرة على اختلاف طرقه وألفاظه يتضمن أن بريرة وقع فيها بيع بعد كتابة تقدمت. واختلف الناس في بيع المكاتب بسبب ذلك. وقد ترجم البخاري: "باب بيع المكاتب إذا رضي". وإلى جواز بيعه للعتق إذا رضي المكاتب بالبيع ولو لم يكن عاجزًا، ذهب ابن المندر، والداودي، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر. وبه قال ابن شهاب، وأبو الزناد: وربيعة، غير أنهم قالوا: لأن رضاه بالبيع عجز منه.
كأنْ قَاطَعَهُ بإذْنِهِ مِنْ عِشْرينَ عَلى عَشَرَةٍ فإنْ عَجَزَ خُيِّرَ المُقَاطِعُ بَيْنَ رَدِّ مَا فَضَلَ بِهِ شَرِيكَهُ وبمنَ إسْلَامِ حِصَّتِهِ رِقًّا ولا رُجُوعَ لَهُ عَلى الآذِنِ، وَإنْ قَبَضَ الأكْثَرَ، فإن مَاتَ أخَذَ الآذِنُ مَالَهُ بِلَا نَقْصٍ إن تَركَهُ وإلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ، وعِتْقُ أحَدِهمَا وَضْعٌ لِمَالِهِ إلَّا إنْ قصَدَ الْعِتْقَ كإنْ فَعَلْتَ فنِصْفُكَ حُرٌّ فكاتَبَهُ ثُمَّ فَعَلَ وُضِعَ النِّصفُ وَرَقَّ كُلُّهُ إن عجَز (1). ولْلمُكَاتَب بِلَا إذْنٍ بَيْعٌ، واشْتِراءٌ، ومُشَارَكَةٌ، ومُقَارضَةٌ ومُكَاتَبَةٌ واسْتِخْلَافُ عَاقِدٍ لأمَتِهِ، وإسْلَامُهَا أوْ فدَاؤهَا إنْ جَنَتْ بالنَّظَر، وسَفَرٌ لَا يَحِلُّ فِيه نَجْمٌ، وإقْرَارٌ في رَقَبَتِهِ، وإسْقاطُ شُفْعَتِهِ، لا عِتْقٌ وَإنْ قَرِيبًا، وهِبَةٌ، وصَدَقَةٌ، وتَزْويِجٌ، وإقْرارٌ بِجِنايَةِ خَطَإٍ، وسَفَرٌ بعُدَ إلَّا بإذْنٍ. وَلَهُ تَعْجيزُ نَفْسِهِ إنْ اتَّفَقَا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ فَيُرَقُّ ولَوْ ظَهَر لَهُ مَالٌ، كأنْ عَجَزَ عَنْ شَيْءٍ أوْ غَابَ عِنْدَ المَحلِّ ولَا مَالَ له. وفَسَخَ الحاكِم، وتَلَوَّمَ لمَنْ يرْجُوهُ كالْقِطَاعةِ ولَوْ شرَطَ خِلَافَهُ. وقَبَضَ إنْ غَابَ سَيّدُهُ وإنْ قَبْلَ مَحلِّهَا. وفُسِخَتْ إنْ مَاتَ وإنْ عَنْ مَالٍ إلا لِوَلَدٍ أوْ غَيْرهِ دَخَلَ مَعَهُ بشَرْطٍ أوْ غَيْره فَتَؤدَّى حَالَّةً وَوَرِثَهُ مَن مَعَهُ في الكِتابَةِ فَقَطْ مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ (2).
= وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما: لا يجوز بيع المكانب ما دام مكاتبًا حتى يعجز، ولا يجوز بيع كتابة بحال، وهو قول الشافعي بمصر، وكان بالعراق يقول بيعه جائز، وأما بيع كتابته فغير جائز، وقال مالك: بيع الكتابة جائز، فإن أدَّاها عتق، وإِلَّا كان رقيقًا لمشتري الكتابة، ومنع ذلك أبو حنيفة قال: لأنه بيع غرر، واختلف قول الشافعي في ذلك بالمنع والإجازة.
وقال أحمد والأوزاعي وإسحاق: لا يباع المكاتب إلَّا للعتق، ويكره أن يباع قبل عجزه. وقال أبو عمر: في حديث بريرة إجازة بيع المكاتب إذا رضي بالبيع، ولم يكن عاجزًا عن أداء نجم قد حل عليه، بخلاف قول من زعم أن بيع المكاتب غير جائز إلَّا بالعجز، لأن بريرة لم تذكر أنها عجزت عن أداء نجم، لا أخبرت أن النجم قد حل عليها، ولا قال لها النبي صلى الله عليه وسلم أعاجزة أنت؟ أم هل حل عليك نجم؟. قال: لو لم يجز بيع المكاتب والمكاتبة إلَّا بالعجز عن أداء ما قد حل لكان النبي صلى الله عليه وسلم قد سألها أعاجزة هي أم =
وَإن لَمْ يتْرُكْ وَفاءً وَقَوِيَ وَلَدُهُ عَلَى السَّعْي سَعَوْا وتُرِكَ مَتْرُوكُهُ لْلِوَلَدِ إنْ أُمِن كأُمِّ وَلَدِهِ، وَإنْ وُجدَ الْعوَضُ مَعِيبًا أوْ اسْتُحقَّ مَوْصُوفًا، كمُعَيَّنٍ، وَإنْ بِشُبْهَةٍ، إنْ لَمْ يَكن لَّه مَالٌ. ومَضَتْ كتَابَةُ كَافِرٍ لَمُسْلِمٍ وَبيعَتْ، كأنْ أسْلَم، وَبيعَ مَعَهُ مَنْ في عَقْدِهِ، وكَفَّرَ بِالصَّوْم. واشْتِراطُ وَطْءِ المكاتبةِ، واسْتِثْنَاءُ حَمْلهَا أوْ مَا يُولَدُ لَهَا، أَو مَا يُولَدُ لمكاتَبٍ مِنْ أمَتِهِ بَعْدَ الكتابَةِ، أوْ قَلِيلِ خِدْمَة، إنْ وفَّى، لَغْوٌ. وَإنْ عَجَزَ عَنْ شَيْءٍ أوْ عَنْ أرْشِ جِنايَةٍ وَإنْ عَلى سَيِّدِه، رُقَّ كَالْقِنِّ. وأُدِّبَ إنْ وَطئ بِلَا مَهْرٍ، وعَلَيْهِ نَقْصُ المُكرهَةِ. وإنْ حَمَلتْ خُيِّرَتْ في الْبَقَاءِ وأمُومَةِ الْوَلَدِ، إلَّا لَضُعَفَاءَ مَعَهَا، أوْ أقْوِياءَ لَمْ يَرْضَوْا، وحُطَّ حِصَّتُهَا إنْ اخْتَارَتْ الأمُومَةَ. وإنْ قُتِلَ فَالْقِيمَةُ للسَّيِّد، وهل قِنًّا أو مُكاتَبًا؟ تأويلان.
= لا؟ وما كان ليأذن في شرائها إلا بعد علمه صلى الله عليه وسلم أنها عاجزة ولو عن أداء نجم واحد قد حل عليها. وفي حديث الزهري أنها لم تكن قضت من كتابتها شيئًا. قال: ولا أعلم في هذا الباب حديثًا أصح من حديث بريرة هذا، ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يعارضه، ولا في شيء من الأخبار دليل على عجزها. انتهى منه.
(1)
وقوله: ورقّ كله إن عجز، دليله ما أخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ دِرْهَمٌ". وروي عنه أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأدَّاهَا إِلَّا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ". وعلى هذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة وأصحابهم، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وداود، والطبري، وروي عن ابن عمر من وجوه، وعن زيد بن ثابت، وعائشة، وأم سلمة، وروي أيضًا عن عمر بن الخطاب، وبه قال ابن المسيب، والقاسم، وسالم، وعطاء. وقال مالك: وكل من أدركنا ببلدنا يقول ذلك.
وروي قول آخر عن عليّ رضي الله عنه أن المكاتب إن أدّى الشطر فهو غريم وبه قال النخعي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال القرطبي: إن الإِسناد عنه بأنه عبد ما بقي عليه درهم =
وَإنْ اشْتَرى مَن يَعْتِقُ عَلى سَيِّده صَحَّ وعَتَقَ إنْ عَجَزَ. والْقَوْلُ للسَّيِّد في الكتَابَةِ والأدَاءِ، لَا الْقَدْرِ والْجنْسِ والأجَل. وإنْ أعَانَهُ جَماعَةٌ، فإن لم يقْصِدُوا الصَّدقَةَ، رَجَعُوا بالْفَضْلَةِ، وعَلى السَّيِّدِ بِمَا قَبَضَهُ، إِنْ عَجَزَ، وإلَّا فَلَا. وإنْ أوْصَى بِمُكاتَبَتِهِ فَكِتَابَةُ المِثْل إن حَمَلَهُ الثُّلُثُ؛ وإنْ أوْصَى له بِنَجْم، فإنْ حَمَل الثُّلُثُ قيمَتَه جَازَتْ، وَإلَّا، فَعَلى الوَارِثِ الإِجَازَةَ، أو عِتْقُ مَحْمِل الثُّلُتَ. وإنْ أوْصى لرجل بِمُكاتبته أوْ بِمَا عَلَيْهِ، أو بِعتْقِهِ، جَازَتْ، إنْ حَمَلَ الثلُثُ قيمَةَ كتَابتِهِ أوْ قيمةَ الرَّقَبَة على أنَّه مُكاتَبٌ. وأنْتَ حُرٌّ عَلى أنَّ عَلَيْكَ ألْفًا، أو وعَلَيْكَ ألْفٌ، لَزِمَ الْعِتْقُ والْمَالُ، وَخُيِّرَ الْعَبْدُ في الالْتِزام والرَّدِّ في أنْتَ حُرٌّ عَلى أنْ تَدْفَعَ أوْ تُؤدِّيَ، أوْ إنْ أعْطَيْتَ، أوْ نَحْوَهُ.
= خير من الإِسناد عنه أن المكاتب إذا أدّى الشطر فلا رقَّ عليه، قاله أبو عمر. وفيه أقوال أخر انظرها في تفسير القرطبي.
وحكي عن بعض السلف أنه بنفس عقد الكتابة يصير حرًا، وهو غريم بالكتابة؛ قال القرطبي: وهذا القول يرده حديث بريرة لصحته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو دليل واضح على أن المكاتب عبد، ولولا ذلك ما بيعت بريرة، لأن السنة المجمع عليها أن لا يباع الحر. قال: وكذلك كتابة سلمان وجويرية رضي الله عنهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على جميعهم بالرِّقِّ حتى أدَّوا الكتابة، وهو حجة للجمهور في أن المكاتب عبد ما بقي عليه شيء. قال: وقد ناظر عليَّ بن أبي طالب زيدُ بن ثابت في المكاتب، فقال لعليّ: أكنت راجمه لو زنى؟ أو مجيزًا شهادته لو شهد؟ فقال عليّ: لا، فقال زيد: فهو عبد ما بقي عليه شيء. انتهى منه، والله تعالى الموفق.
(2)
وقوله: وورثه من معه في الكتابة فقط ممن يعتق عليه ألخ. اختلف العُلماء في ميراث المكاتب على ثلاثة أقوال: فمذهب مالك أن المكاتب إذا هلك وترك مالًا أكثر مما بقي عليه من كتابته، وله ولد ولدوا في كتابته، أو كاتب عليهم، ورثوا ما بقي من المال بعد قضاء كتابته، لأن حكمهم كحكمه، وعليهم السعي فيما بقي من كتابته لو لم يخلف مالًا، ولا يعتقون إلَّا بعتقه، ولو أذى عنهم ما رجع بذلك =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عليهم، لأنهم يعتقون عليه، فهم أولى بميراثه لأنهم مساوون له في جميع حاله.
وقال قوم: يؤدى عنه من ماله جميع كتابته، وجعل أنه قد مات حرًا، ويرثه جميع أولاده. وسواء في ذلك من كان حرًا قبل موته من ولده ومن كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته؛ لأنهم قد استووا في الحرية كلهم حين تأدت عنهم كتابتهم. قال القرطبي: روي هذا القول عن على وابن مسعود، ومن التابعين. عن عطاء والحسن، وطاوس وإبراهيم وبه قال فقهاء الكوفة؛ سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه. والحسن بن صالح بن حي، وإليه ذهب إسحاق.
وقال قوم: إذا مات المكاتب قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدًا، وكل ما يخلفه من المال فهو لسيده، ولا يرثه أحد من أولاده، لا الأحرار، ولا الذين معه في كتابته، لأنه لما مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فماله لسيده، فلا يصح عتقه بعد موته؛ لأنه محال أن يعتق بعد موته، وعلى ولده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته أن يسعوا في باقي الكتابة، ويسقط عنهم منها قدر حصته، فإن أدَوْا عَتَقَوا لأنهم كانوا فيها تبعًا لأبيهم، وإن لم يؤدوا ذلك رقوا. هذا قول الشافعي، وبه يقول أحمد بن حنبل وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت، وعمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة. ا. هـ. من القرطبي.
تنبيهٌ: يعتق المكاتب إذا أدَّى الكتابة ولا يحتاج إلى ابتداء عتق من السَّيِّد، وكذلك ولده من أمته الذين ولدوا في كتابته، يعتقون بعتقه ويرقون برقه، لأن ولد الإِنسان من أمته بمثابته اعتبارًا بالحر وكذلك ولد المكاتبة. قاله القرطبي.
مسألة: وليس للمكاتب أن يتزوج بغير إذن سيده لقوله صلى الله عليه وسلم. "أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَهُو عَاهِرٌ". أخرجه ابن ماجة من حديث ابن عمر. هذا قول مالك، وأحمد، والشافعي، والحسن والليث، وابن أبي ليلى، وأبي حنيفة وأبي يوسف.
وليس للمكاتب إعتاق رقيقه إلا بإذن سيده، هذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد وأبي حنيفة، والحسن، والأوزاعي.
والمكاتب محجور عليه في ماله، فليس له استهلاكه، ولا هبته، لأن حق سيده لم ينقطع عنه ولأن هبة ماله قد تفوت المقصود من الكتابة الذي هو تحصيل العتق بالأداء، ولأنه قد يعجز فيعود هو وماله إلى سيده. هذا مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافًا لأحد من أهل العلم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وللمكاتب أن يبيع ويشتري بإجماع أهل العلم، قالوا: لأن عقد الكتابة لتحصيل العتق، ولا يحصل العتق إلا بأداء عوضه، ولا يمكن أداء العوض إلا بالإِكتساب، والبيع والشراء من أقوى جهات الاكتساب، فقد جاء في بعض الآثار أن تسعة أعشار الرزق في التجارة. أخرجه سعيد بن منصور في سننه عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي ويحيى بن جابر الطائي مرسلًا. ا. هـ. المغني مع التعليق.
وليس للرجل وطء مكاتبته في قول أكثر أهل العلم، منهم: سعيد بن المسيب، والحسن، الزهري، ومالك، والشافعي، والأوزاعي، والليث، والثوري، وأصحاب الرأي، والإِمام أحمد.
فإن شرط وطأها، كان الشرط لغوًا عند أصحابنا، لا يؤثر في صحة عقد الكتابة؛ لأنه لا يخل بركن من أركان العقد. وقال الشافعي: إن، شرط ذلك فسد عقد الكتابة.
وقال الإِمام أحمد: إن شرط وطأها فله وطؤها. وبه قال سعيد بن المسيب والحجة لهما في قوله صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ". عند أبي داود وغيره.
أم الولد
بَابٌ: إنْ أقَر السَّيِّدُ بِوَطْءٍ وَلَا يَمِينَ إنْ أنْكَرَ، كأنِ اسْتَبْرأَ بحَيْضَةٍ ونَفَاهُ وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أشْهُرٍ، وإلَّا لَحِق بِهِ ولَوْ أَتَتْ لأكْثَرِهِ إنْ ثَبَتَ إِلقَاءُ عَلقَةٍ فَفَوْقُ وَلَوْ بامرأتَيْنِ كادِّعَائهَا سِقْطًا رَأيْنَ أثَرَهُ، عَتَقَتْ مِنْ رَأس الْمَالِ (1)، وَوَلَدُها من غيره. ولا يَرُدُّهُ دَيْن سَبَقَ كاشْتِراءِ زوجَتِهِ حَامِلًا؛ لَا بِوَلَدٍ سَبَقَ أو وَلدٍ من وَطْء شُبْهَةٍ، إلَّا أمَة مُكاتَبِهِ أو وَلدِهِ، ولا يَدْفَعُهُ عَزْلٌ (2) أوْ وَطْءٌ في دُبُرٍ أوْ فخِذَيْنِ، إنْ أنْزَل. وجَازَ إجَارَتُهَا بِرضَاهَا، وعِتْقٌ عَلى مَالٍ، ولَهُ قَلِيلُ خِدْمَةٍ وكثيرُهَا في وَلَدِهَا مِنْ غيْرِهِ، وأرْشُ جِنَايَة عَلَيْهمَا، وإنْ مَاتَ فَلِوارِثِهِ، والاسْتِمْتَاعُ بِهَا، وانْتزَاعُ مَالِهَا ما لَم يَمْرَضْ. وَكُرهَ لَهُ تَزْويجُهَا وإنْ بِرضَاهَا. ومُصِيبَتُهَا إنْ بِيِعَتْ مِنْ بائِعِهَا (3) ورُدَّ عِتْقُهَا. وفُدِيَتْ إنْ جنَتْ بأقَلِّ الْقِيمَةِ يَوْمَ الحُكم والأرْشِ. وإنْ قَالَ في مَرَضهِ ولدَتْ مِني ولا وَلَدَ لَهَا صُدِّقَ إنْ وَرِثَهُ وَلَدٌ.
أحكام أم الولد
الأم في اللغة أصل الشيء. والجمع أمات، وأصل الأم أمهة، ولذلك جاء جمعها على أمهات، وقيل: الأمهات للناس، والأمات للنعم. وأم الولد في اللغة تطلق على كل من ولد لها ولد، ولكن استعمال الشرع خصصها بالأمة التي ولدت من سيِّدها. قال الحطاب: وجرت عادة الفقهاء بترجمة هذا الباب بالجمع، ولعل سبب ذلك تنوع الولد الذي تحصل به الحرية، فقد يكون تام الخلقة وقد لا يكون كذلك من مضغة وغيرها.
ولا خلاف بين المسلمين في إباحة التسري ووطء الإِماء، لقوله تعالى في سورة المؤمنون:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}
(1)
وقد استولد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته مارية القبطية رضي الله عنها، وهي أم ولده إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وسلم. وقد قال فيها:"أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا". أخرجه ابن ماجة، وقد استولد أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام جاريته هاجر فولدت له إسماعيل بن إبراهيم، أصل عمود نسب العرب. وقال الحطاب في رسم العشور من سماع =
(1)
سورة المؤمنون: 5، 6.
وإنْ أقَرَّ مَريضٌ بِإيلادٍ أو بعِتْقٍ في صِحَّتِهِ لَمْ تُعْتَقْ منْ ثُلُثٍ ولَا مِن رَأس مَالٍ. وإنْ وطِئ شَرِيكٌ فَحَمَلَتْ غَرمَ نَصِيبَ الآخَرِ، فإنْ أعْسَرَ خُيِّر في اتِّباعِهِ بالقيمَةِ يَوْمَ الوَطْء أوْ بَيْعهَا لِذلكَ، وتَبعَهُ بِمَا بَقيَ وبنِصْفِ قيمة الولد. وإنْ وَطِئَاهَا بِطُهْرٍ فَالْقَافَةُ وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا أوْ عَبْدًا فإنْ أشْرَكتْهُمَا فَمُسْلِمٌ. وَوَالى إذا بَلَع أحَدَهُمَا كأن لمْ تُوجَدْ. وَوَرِثَاهُ إن مَاتَ أوَلًا. وحَرُمَتْ عَلى مُرْتَدٍّ أمُّ وَلَده حتى يُسْلِمَ، وَوُقِفَتْ، كمُدَبَّرهِ إنْ فَرَّ لِدَارِ الحَرْب. ولا تَجوُزُ كتَابَتُهَا، وعَتَقَتْ إنْ أدَّت.
= عيسى من كتاب الجامع قال ابن القاسم: بلغنى أن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلي بن الحُسين بن عليّ بن أبي طالب، كانوا بني أمهات أولاد.
وقال ابن قدامة: وروي أن الناس كانوا لا يرغبون في أمهات الأولاد حتى ولد هؤلاء الثلاثة من أمهات أولاد، فرغب الناس فيهن.
لطيفة تناسب الموضوع. روي عن سالم بن عبد الله، قال: كان لابن رواحة جارية وكان يريد الخلوة بها، وكانت امرأته ترصده، فخلا البيت فوقع عليها، فنذرت به امرأته وقالت: أفعلتها؟ قال: ما فعلت، قالت: فاقرأ إذًا، فقال:
شهدْتُ بأن وعد الله حق
…
وأنَّ النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماءِ طافٍ
…
وفوق العرض ربُّ العالمينا
وتحمله ملائكةٌ شدادٌ
…
ملائكة الإِلهِ مُسوَّمينا
فقالت: أما إذا قرأت فاذهب إذًا. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال: فلقد رأيته يضحك حتى بدت نواجذه، ويقول:"هِيه، كَيْفَ قُلْتَ"؟ فأكرره عليه فيضحك. "بأبي وأمي هو، صلوات الله وسلامه عليه".
تنبيهٌ: نسب الحطاب لعياض: تشبه أمهات الأولاد الحرائر في كونهن لا يبعن في دين ولا غيره، ولا يرهنَّ، ولا يؤاجرن، ولا يسلمن في جنايتهن ولا يستسعين. وتشبه أمهات الأولاد الإِماء في أنهن للسيد انتزاع مالهن ما لم يمرض، وله إجبارهن على النكاح على القول به، وله استخدامهن في الخفيف =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الذي لا يلزم الحرة، وكونهن للسيد الاستمتاع بهن ما بدا له. ا. هـ.
(1)
قوله: إن أقر السيِّد بوطء - إلى قوله: عتقت من رأس المال، نقل المواق عن ابن الحاجب: تصير الأمة أم ولد بثبوت إقرار السيد بالوطء، وثبوت الإِتيان بولد حي أو ميت، علقة فما فوقها، مما يقول النساء إنه حمل، ولو ادعت سقطا كذلك ورأى النساء أثره، اتبع. قال اللخمي: فإن ادّعت وطأه وأنكر، صدق ولا يمين عليه وإن كانت رائعة.
وقال مالك: إذا أتت المملوكة بولد لم يلحق بالسيّد إلا أن يقر بالوطء، وإذا أتت الزوجة بولد لحق به وإن لم يقر بالوطء، قال: وفي كلا الموضعين فالوطء مباح له. قال مالك: ولا ينتفي ولد حرة إلا بلعان بخلاف ولد الأمة، قال: وفي كليهما الفراش موجود. قال ابن رشد: إذا ولدت الأمة من سيدها الحر، فقد حرم عليه بيعها وهبتها ورهنها، والمعارضة على رقبتها أو على خدمتها، وإسلامها في الجناية وعتقها في الواجب، وليس له منها إلا الاستمتاع بالوطء فما دون، طول حياته. وهي حرة من رأس ماله بعد وفاته. قال: وولدها من غيره بعد الاستيلاد يعتق بموت السيد وللسيد أن يستخدم ولدها ويستأجره، لكن لا يطأ الأمة منهم لأنها كالربيبة. انتهى من المواق باختصار وتصرف.
(2)
وقوله: ولا يدفعه عزل ألخ. دليله ما رواه أبو سعيد أنه قال: يا رسول الله، إنا نصيب النساء ونحب الأثمان، أفنعزل عنهن؟ فقال:"إِنَّ اللهَ إِذَا قَضَى خَلْق نَسَمَةٍ خَلَقَهَا". أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري.
وعن جابر قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل؟ فقال: "اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا". قال: فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حملت، فقال:"قَدْ أَخْبَرْتُكَ أَنَّهُ سَيَأْتِيَها مَا قُدَّرَ لَهَا". رواه أبو داود.
وعن ابن عمر أن عمر قال: ما بال أقوام يطؤون ولائدهم ثم يعزلونهن، لا تأتيني وليدة يعترف سيّدها أنه أتاها إلا ألحقت به ولدها، فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا. كذا في مغني ابن قدامة، وقال المعلق: رواه الشافعي.
وفي الحطاب: قال في مسألة العزل، وقد نزل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: كنت أعزل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إِنَّ الْوِكَاءَ ينْفَلِتُ". وألحق به الولد، قال عياض: والوكاء بالكسر =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ممدودًا استعارة وتشبيه بخروج الماء في الفرج قبل العزل، والوكاء الخيط الذي يشد به فم القربة. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: وله قليل خدمة فيها - إلى قوله - ومصيبتها إن بيعت من بايعها: قال الخرقي في مختصره: وأحكام أمهات الأولاد أحكام الإِماء في جميع أمورهن إلا أنهن لا يبعن. قال ابن قدامة: وجملة ذلك أن الأمة إذا حملت من سيدها وولدت منه ثبت لها حكم الإِستيلاد، وحكمها حكم الإِماء في حل وطئها لسيدها، واستخدامها، وملك كسبها، وتزويجها، وإجارتها، وعتقها، وتكليفها، وحدها، وعورتها، وهذا قول أكثر أهل العلم. وحكي عن مالك أنه لا يملك إجارتها وتزويجها؛ لأنه لا يملك بيعها فلا يملك تزويجها وإجارتها كالحرة.
قال ابن قدامة: إنها تخالف الأمة القن في أنها تعتق بموت سيدها من رأس المال، ولا يجوز بيعها ولا التصرف فيها بما ينقل الملك من الهبة والوقف، ولا ما يراد للبيع وهو الرهن، ولا تورث لأنها تعتق بموت السيّد ويزول الملك عنها. روي هذا عن عمر، وعثمان، وعائشة وعن عامة الفقهاء.
قال: وروي عن عليٍّ، وابن عباس، وابن الزبير إباحة بيعهن، وإليه ذهب داود. قال سعيد: حدثنا سفيان عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس في أم الولد قال: بعها كما تبيع شاتك وبعيرك. قال: وحدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن الشعبي عن عبيدة قال: خطب عليٌّ الناس فقال: شاورني عمر في أمهات الأولاد، فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن، فقضى به عمر حياته، وعثمان حياته، فلما وليت رأيت أن أرقهن، قال عبيدة: فرأي علي وعمر في الجماعة أحب إلينا من رأي عليّ وحده.
قال الخطابي في معالم السنن: ذهب عامة أهل العلم إلى أن بيع أم الولد فاسد، وإنما روي الخلاف عن عليّ فقط. وعن ابن عباس أنها تعتق من نصيب ولدها.
وقد روى حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين أنه قال لأبي معشر: إني أتهمكم فيما تروون عن عليّ رضي الله عنه لأني قال لي عبيدة: بعث إليَّ عليّ وإلى شريح يقول: إني أبغض الاختلاف، فاقضوا كما كنتم تقضون - يعني في أم الولد - حتى يكون للناس جماعة، أو أموت كما مات صاحباي. قال: فقتل على قبل أن يكون للناس جماعة.
قال الخطابي: واختلاف الصحابة إذا ختم بالاتفاق وانقرض العصر عليه صار إجماعًا، وقد ثبت =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ". وقد خلف صلى الله عليه وسلم أم ولده مارية، فلو كانت مالًا لبيعت وصار ثمنها صدقة. وأيضًا قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين الأولاد والأمهات، وفي بيعهن تفريق بينهن وبين أولادهن. قال: وإذا وحّدنا حكم الأولاد وحكم أمهاتهم في الحرية والرق، وإذا كان ولدها من سيّدها حرًا، دل على حرية الأم.
قلت: قد سمع جواز بيع أم الولد عند أصحابنا في ست مسائل ذكرها الشيخ عليَّ بن قاسم الزقاق المغربي في المنهج المنتخب بقوله:
وبيعُ أمِّ وَلَدٍ مَمْنُوعُ
…
إلَّا بستٍّ بيعُها مَسْمُوعُ
رهنٌ، وتفليسٌ، قراضٌ شِرْكَهْ
…
جنايةٌ كوْطءِ مَنْ بِالتركةْ
تنجيزُ عتق في الَّتي قد مُنِعَا
…
مِنْ وطْئِهَا مُولدُهَا قدْ سُمعا
يعني أن من وطئ أمة قد وضعها رهنًا في دين، يلزمه تعجيلُ الدين المرهونة فيه، أو وضع قيمة الأمة رهنًا مكانها، فإن وجد معسرًا بيعت الجارية بعد الوطء.
- وأمة المفلس إذا وقفت للبيع، فوطئها وحملت فإنها تباع عليه.
- وعامل القراض إذا وطئ أمة من مال القراض فحملت منه، وكان معسرًا بقيمتها، فإنها تباع عليه.
- وإذا وطئ أحد الشريكين أمة شركة بينه وبين أحد، فحملت منه، وهو معسر بقيمة نصيب شريكه، فإنها تباع عليه.
- والأمة التي جنت على أحد، إذا وطئها سيِّدُها بعد العلم بجنايتها، وهو معدم، فإنها تسلم في جنايتها.
- وإذا وطئ الابن أمة من تركة أبيه، وعلى الأب دين أكثر من مال التركة، وكان الابن معدمًا، عالمًا بالدين حال وطئه، فإنها تباع عليه. ا. هـ.
وقال ابن قدامة: روي عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أَيُّمَا أَمَةٍ وَلدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ". أخرجه ابن ماجة، والحاكم، والدارقطني، وأحمد، نسبه المعلق على نسخة المغني التي بيدي إليهم.
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، ولا يبعن ولا يرهن ولا يرثن، ويستمتع =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بها سيدها ما بدا له، فإن مات فهي حرة. قال المعلق: رواه الدارقطني ج 4/ ص 134. قال ابن قدامة: وهذا فيما أظن عن عمر، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم بدليل قول عليّ رضي الله عنه: كان رأي ورأي عمر أن لا تباع أمهات الأولاد، وقوله: فقضى به عمر حياته وعثمان حياته، ولقول عبيدة: رأي عليّ وعمر في الجماعة أحب إلينا من رأيه وحده. ا. هـ. منه.
وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن ذر، قال: حدثني محمد بن عبيد الله الثقفي أن أبانا اشترى جارية بأربعة آلاف قد أسقطت لرجل سقطًا، فسمع عمر بن الخطاب بذلك فأرسل إليه - وكان صديقًا له - فلامه لومًا شديدًا وقال: والله إن كنت لأنزهك عن مثل هذا. قال: وأقبل على الرجل ضربًا بالدرة وقال: الآن حين اختلطت لحومكم ولحومهن ودماؤكم ودماؤهن تبيعونهن؛ تأكلون أثمانهن؟ قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها. ارددها. قل فرددتها، وأدركت من مالي ثلاثة آلاف درهم. ا. هـ. والله الموفق.
وأخرج في بلوغ المرام عن عمرو بن الحارث أخي جويرية أم المؤمنين رضي الله عنهما قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهمًا ولا دينارًا ولا عبدًا ولا أمة ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضًا جعلها صدقة، رواه البخاري.
قال الصنعاني: والحديث دل على حرية أم الولد بعد وفاة سيِّدها حيث قال: ولا أمة فإنه صلى الله عليه وسلم، توفي وخلف مارية القبطية أم إبراهيم، وتوفيت في أيام عمر، فدل على أنها عتقت بوفاته صلى الله عليه وسلم. ا. هـ.
وقد تقدم لك قول الخطابي: فلو كانت مالًا لبيعت وصار ثمنها صدقة لقوله صلى الله عليه وسلم "لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ".
وأخرج في بلوغ المرام عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى عمر عن بيع أمهات الأولاد، فقال: لا تباع ولا توهب ولا تُورث، يستمتع بها ما بدا له، فإذا مات فهي حرة، رواه مالك في الموطإ، والبيهقي، قال: ورفعه بعض الرواة فوهم، وقال الدارقطني: الصحيح وقفه على عمر. قال الصنعاني: وقد أخرج الحاكم وابن عساكر وابن المنذر عن بريدة قال: كنت جالسًا عند عمر إذ سمع صائحًا فقال: يا يرفأ، انظر ما هذا الصوت، فنظر ثم جاء فقال: جارية من قريش تباع أمها، فقال عمر: ادع لي المهاجرين والأنصار، فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة، فحمد الله وأثنى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عليه، ثم قال: أما بعد، فهل كان فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة؟ قالوا: لا، قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية، ثم قرأ:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
(1)
. الآية. ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ منكم، وقد أوسع الله لكم؟! قالوا: فاصنع ما بدا لك. فكتب إلى الآفاق أن لا تباع أم حر، فإنها قطيعة، وأنه لا يحل. ا. هـ.
فتحصل لك من هذه النقول، بإذن الله تعالى، أن أم الولد لا يجوز بيعها. وبالله تعالى التوفيق.
تنبيهٌ: إذا عتقت أم الولد بعد وفاة سيّدها كان ما بيدها من المال لورثة سيّدها، وإنما كان ذلك لأن أم الولد أمة، ومال العبد بسيده، فإذا مات عتقت وانتقل المال إِلى ورثته كسائر ماله، إلا إذا أوصى لها بما في يدها من المال، فإنه يكون لها إذا احتمله الثلث، لأن الوصية لأم الولد صحيحة ولا يعلم في ذلك خلاف، فقد روى الإِمام أحمد، وسعيد بن منصور عن هشيم: حدثنا حميد، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب أوصى لأمهات أولاده بأربعة آلاف أربعة آلاف. ا. هـ. انظر مغني ابن قدامة.
(1)
سورة محمد: 22.
كتاب الولاء
فَصْلٌ: الْوَلَاءُ لِمُعْتِقٍ (1) وإنْ بِبَيْعٍ مِنْ نَفْسِهِ أوْ عِتْقِ غَيْرِهِ عَنْهُ بلا إذْنٍ (2) أوْ لَمْ يَعْلَمْ سَيّدُهُ بِعِتْقِهِ حَتَىَ عَتَقَ، إلّا كَافرًا عَتَقَ مُسْلِمًا (3) ورَقِيقًا إنْ كان يُنْتَزَعُ مَالُهُ، وَعَنِ المُسْلِمِينَ الوَلَاءُ لَهُمْ، كَسَائبَةٍ، وكرهَ (4)، وإنْ أَسْلَمَ العَبْدُ عَادَ الْوَلَاءُ بإسْلَامِ السيّدِ. وجَرَّ ولَدَ المُعْتَقِ كأوْلَادِ المُعْتَقَةِ (5) إنْ لمْ يَكن لَهُمْ نَسَبٌ مِنْ حُرٍّ إلَّا لِرقٍّ أوْ عِتْقٍ لآخر. ومُعْتَقُهُمَا وإنْ أُعْتِقَ الأبُ أو اسْتَلْحَقَ رَجَعَ الْوَلَاءُ لِمُعْتِقهِ من مُعْتِقِ الجدِّ والأمِّ. والْقَوْلُ لمُعْتِقِ الأبِ لَا لمُعْتِقِهَا، إلَّا أنْ تَضَعَ لِدُون سِتَّةِ أشْهُرٍ منْ عِتقِهَا. وإنْ شَهِدَ وَاحِدٌ بالوَلَاءِ أو اثنَانِ بأنَّهُمَا لَمْ يَزالا يَسْمَعَانِ أنه مَوْلَاهُ أوْ ابنُ عمِّه لَمْ يثْبُتْ لكنَّه يَحْلفُ ويأخُذُ المَالَ بَعْدَ الاستيناء. وقُدِّمَ عَاصِبُ النَّسَبِ (6) ثُمَّ المُعْتِقُ ثُمَّ عَصَبتُهُ كالصَّلاة ثمَّ مُعْتِقُ مُعْتِقِهِ. ولا تَرثُهُ أُنْثى إن لَمْ تُبَاشِرهُ بِعِتْقٍ أوْ جَرَّةُ وَلَاءٌ بِولَادَةٍ أو عِتْقٍ. وَلَو اشْتَرى ابْنٌ وَبِنْتٌ أبَاهُمَا ثُمَّ اشْتَرى الأبُ عَبْدًا فَماتَ الْعَبْدُ بَعْدَ الأب وَرثَهُ الابْنُ، وإنْ مَاتَ الإِبنُ أولًا فللبنت النِّصْفُ لِعتقِهَا نصْفَ المُعْتِقِ والرُّبُعُ لأنّها مُعْتِقَةٌ نِصْفَ أبِيهِ، وإن مَاتَ الإِبنُ ثُمَّ الأبُ فَلَلْبنْت النِّصْفُ بالرحم والرُّبُعُ بالوَلاء والثمنُ بِجرِّه.
أحكام الولاء
قال الحطاب: الولاء - بفتح الواو ممدودًا - من الولاية - بالفتح - بمعنى القرب، وأصله من الولي، وأما من الولاية والتقديم فبكسر الواو. وقيل بالوجهين فيهما.
(1)
قوله: الولاء لمعتق ألخ. دليله قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". قال أبو عمر في التمهيد: قوله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". يدخل في قولى: "مَنْ أَعْتَقَ". كل مالك نافذ أمره، مستقر ملكه من الرجال والنساء البالغين، إلا أن النساء ليس لهن من الولاء إلا ما أعتقن، أو ولاء عتق من أعتق، لأن الولاء للعصبات، وليس لذوي الفروض مدخل في ميراث الولاء إلا أن يكونوا عصبة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2)
وقوله: أو عتق غيره عنه بلا إذن: قال أبو عمر: فأما عتق الرجل عن غيره، فإن مالكًا وأصحابه، إلا أشهب، قالوا: الولاء للمعتق عنه، وسواء أمر بذلك أو لم يأمر، إذا كان مسلمًا، وإن كان نصرانيًا فالولاء لجماعة المسلمين، وكذلك قال الليث بن سعد في ذلك كله. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: من أعتق عن غيره فالولاء للمعتق عنه، كقول مالك.
وقال الشافعي: إذا عتقت عبدك عن رجل حي أو ميت بغير أمره فولاؤهُ لك، وإن أعتقه عنه بأمره، بعوضٍ أو بغير عوض، فولاؤه له دونك. قال الشافعي: ولا يكون ولاء لغير معتق أبدًا، وكذلك قال الإِمام أحمد وداود.
قال: وأما حجة مالك ومن ذهب مذهبه: فمنها ما حدثناه أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن، وأحمد بن محمد بن أحمد، قالا: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا ابن المبارك قال: حدثنا يونس بن يزيد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث ذكره فيه طول:"إِنَّ نَبِيَّ اللهِ أَيُّوبَ عليه السلام قَالَ فِي بَلَائِهِ: إنَّ الله لَيَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ وَيَذْكُرَانِ اللهَ، فَأرْجِعُ إِلَى بَيْتي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهَةَ أنْ يَذْكُرا اللهَ إِلَّا في حَقٍّ". قال: ولو لم يجز عند أيوب لم يكفر عنه. قال: وإذا جاز العتق للإِنسان عن غيره في شريعة أيوب عليه السلام، لم ينسخ ذلك في شريعتنا إِلا بأمر بين، فالواجب الاقتداء به لقول الله عز وجل:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
(1)
،. وقال ابن القاسم: من أعتق عن رجل بغير أمره في كفارة إنه يجزئه. قال أبو عمر: حجتهم في ذلك ما تقدم، والقياس على أداء الدين عن غيره بغير إذنه.
(3)
وقوله: إلا كافرًا عتق مسلمًا ألخ. قال أبو عمر: وأما النصراني يعتق عبده المسلم قبل أن يباع
عليه، فإن مالكًا وأصحابه يقولون: ليس له من ولائه شيء، وولاؤه لجماعة المسلمين، ولا يرجع إليه
الولاء أبدًا وإن أسلم ولا إلى ورثته وإن كانوا مسلمين، وحجتهم في ذلك أنّ إسلام عبد النصراني يرفع ملكه عنه ويوجب إخراجه عن يده، فلما كان ملكه يرتفع بإسلامه لم يثبت الولاء له بعد عتقه وكان لجماعة المسلمين، ولم ينتقل عنهم لأنه لحمة كلحمة النسب. والدليل على ارتفاع ملك النصراني عن عبده المسلم. قوله تعالى. {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}
(2)
. وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ
(1)
سورة الأنعام: 9.
(2)
سورة آل عمران: 141.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .....
= الْأَعْلَوْنَ}. وقوله صلى الله عليه وسلم. "الْإِسْلَامُ يعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ".
وقال الشافعي: إن قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". بيّن في أن الولاء لا يكون إلا لمعتق، وهو يوجب أن الولاء يكون لكل معتق، كافرًا كان أو مسلمًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعله كالنسب، وكما منع اختلاف الأديان من التوارث مع صحة النسب، كذلك يمنع اختلاف الأديان من التوارث مع صحة الولاء وثبوته، فإذا اتفقا على الإسلام توارثا. قال: فولاء المسلم على الكافر ثابت وولاء الكافر على المسلم ثابت إذا أعتقه لقوله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". قال: ولا يزيل إسلام عبد النصراني ملكه عنه، وإنما يمنع استقراره واستدامته، ألا ترى أنه إذا بيع عليه ملك ثمنه؟ فلو ارتفع ملكه عنه لم يبع عليه، ولا ملك المبدل منه. ا. هـ.
(4)
وقوله: كسائة وكره، قال أبو عمر: وأما المعتق سائبة، فإن ابن وهب روى عن مالك قال: لا يعتق أحد سائبة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته، وهذا عند كل من ذهب مذهب مالك، إنما هو على كراهية السائبة لا غير، لأن كل من أعتق عندهم سائبة نفذ عتقه وكان في ولاؤه لجماعة المسلمين، وهكذا روى ابن القاسم، وابن عبد الحكم، وأشهب وغيرهم عن مالك، وكذلك ذكر ابن وهب عن مالك في موطئه، وهو المشهور من مذهبه عند أصحابه.
قال مالك في موطئه: وأحسن ما سمعت في السائبة أنه لا يوالي أحدًا، وأن ولاءه لجماعة المسلمين، وعقله عليهم. وهذا يدلك على أن عتق السائبة جائز عده.
وقال ابن القاسم، وابن وهب، عن مالك: أنا أكره عتق السائبة وأنهى عنه، فإن وقع نفذ، وكان ميراثه لجماعة المسلمين، وعقله عليهم.
وقال ابن نافع: لا سائبة اليوم في الإِسلام، ومن أعتق سائبة فإن ولاءه له. وقال أصبغ: لا بأس بعتق السائبة ابتداء. قال أبو عمر: وهذا هو المشهور من مذهب مالك؛ لأن عتق السائبة كان مستفيضًا بالمدينة لا ينكره عالم، ولأن عبد الله بن عمر وغيره من السلف أعتقوا السائبة. وروى سليمان التيمي عن بكر المزني أن ابن عمر أتي بمال مولى أعتقه سائبة فمات فقال: إنا كنا أعتقناه سائبة، فأمر أن تشترى به رقاب فتعتق. وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي قال: قال عمر بن الخطاب: السائبة والصدقة ليومهما، أي لا يتصرف في شيء منهما. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وروى وكيع عن بسطام بن مسلم عن عطاء بن أبي رباح أن طارق بن المرقع أعتق عبدًا له فمات، وترك مالًا، فعرض على طارق فأبى، وقال إنما جعلته لله ولست آخذ ميراثه، فكتب فيه إلى عمر، فكتب عمر أن اعرضوا على طارق الميراث، فإن قبله، وإلا فاشتروا به رقيقًا فاعتقوهم. فبلغ خمس عشرة أو ست عشرة رقبة. قال أبو عمر: وأما أهل المدينة فأكثرهم على أن السائبة ميراثه لجماعة المسلمين، وممن روي هذا عنه منهم: ابن شهاب، وربيعة، وأبو الزناد، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وأبي العالية، وعطاء، وعمرو بن دينار. قال: ولا يختلف في أن سالمًا مولى أبي حذيفة أعتقته مولاته ليلى أو لبنى بنت يعار، وكانت تحت أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، فأعتقته سائبة ولم يقل أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولما مات سالم ترك ابنته، فأعطاها عمر بن الخطاب نصف ماله، وجعل النصف في بيت المال. قال: ولا خلاف أن سالمًا مولى أبي حذيفة أعتق سائبة، ولا خلاف أنه قتل يوم اليمامة، وإنما نسب القضاء فيه إلى عمر لأنه كان بأمر أبي بكر، وكان عمر يومها القاضي لأبي بكر.
وقال أبو العالية، والزهري، ومكحول، ومالك بن أنس: لا ولاء على السائبة ويرثه المسلمون. وولاؤه لجماعة المسلمين، والحجة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"الْوَلَاءُ لِمَنْ أعْتَقَ". ومعلوم أن من يتولاه السائبة لم يعتقه، فكيف يكون له ولاؤه؟
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: من أعتق سائبة فولاؤه له وهو يرثه دون الناس، وقال بهذا عطاء، والحسن، وابن سيرين، وضمرة بن حبيب، وراشد بن سعد، وبه يقول محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. وحجتهم في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". فنفى بذلك أن يكون الولاء لغير معتق، ونهى عليه السلام عن بيع الولاء وهبته. واحتجوا أيضًا بقول الله عز وجل:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}
(1)
،. واحتجوا أيضًا بما رواه أبو قيس عن هذيل بن شرحبيل، قال: قال رجل لعبد الله بن مسعود: إني أعتقت غلامًا لي سائبة، فمات وترك مالًا، فقال عبد الله: إن أهل الإِسلام لا يسيبون إنما كانت تسيب الجاهلية، أنت وارثه وولي نعمته. ا. هـ. منه.
تنبيهٌ: الذي يسلم على يد رجل، قال مالك وأصحابه، وعبد الله بن شبرمة، والثوري،
(1)
سورة المائدة: 103.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأوزاعي، والشافعي، وأصحابه، قالوا: لا ولاء عليه للذي أسلم على يديه، ولا يرثه بحال وإنما ولاء ذلك المسلم وإرثه لجماعة المسلمين إذا لم يدع وارِثًا، وبهذا قال أحمد وداود، وحجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". قالوا: وهذا غير معتق فكيف يكون له ولاء؟
وخالف في ذلك ربيعة بن أبي عبد الرحمن، والليث بن سعد، وأبو حنيفة وأصحابه قالوا: من أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره، فميراثه له. واحتجوا بما رواه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن موهب الهمداني أو الخولاني عن تميم الداري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشرك يسلم على يدي الرجل المسلم فقال: "هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ وَأَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ". قال عبد العزيز: فحدث به ابن موهب عمر بن عبد العزيز، فشهدته قضى بذلك في رجل أسلم على يدي رجل مسلم، فمات وترك مالًا وابنة، فقسم ماله بينه وبين ابنته، فأعطى الإبنة النصف وأعطى الذي أسلم على يديه النصف.
(3)
وقوله: وجر ولد المعتق كأولاد المعتقة ألخ. دليله حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه أن أباه يعقوب تزوج أم عبد الرحمن، فولدته، وكان يعقوب مكاتبًا لأوس بن الحدثان، وكانت أم عبد الرحمن مولاة لرجل من الحُرَقَة، فاختصما إلى عثمان في ولايته، فقضى عثمان أن ما ولدت أم عبد الرحمن ويعقوب مكاتب فهو للحرقي، وما ولدت بعد عتقه فهو لأوس. أخرجه البغوي في السنة وأخرجه الدارمي، ورجاله ثقات. قال البغوي: ومعنى هذا أن الأم إذا كانت معتقة إنسان، والأب رقيق أو
مكاتب، فولاء الولد لموالي الأم، فإن عتق الأب انجر إلى مواليه، سواء كان ولادة المولود قبل العتق
للأب أو بعده.
وأخرج مالك في موطئه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن الزبير بن العوام اشترى عبدًا فأعتقه، ولذلك العبد بنون من امرأة حرة، فلما أعتقه الزبير قال: هم مواليَّ، وقال موالي أمهم: بل هم موالينا، فاختصموا إلى عثمان بن عفان، فقضى عثمان للزبير بولائهم. وقال مالك في الموطإ: الأمر المجمع عليه عندنا في ولد العبد من امرأة حرة، وأبو العبد حر، أن الجد أبا العبد يجر ولاء ولد ابنه الأحرار من امرأة حرة، يرثهم ما دام أبوهم عبدًا، فإن عتق أبوهم رجع الولاء إلى مواليه. ا. هـ. منه.
وقال البغوي: ولو عتق الجد، والأب مملوك، يجر موالي الجد ولاء الولد عند أكثر أهل العلم، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وبه قال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، والشافعي وأحمد. وخالف أبو حنيفة فقال: لا يجر الجد ولاءهم. ا. هـ. منه.
(6)
وقوله: وقدم عاصب النسب ألخ. أخرج مالك في الموطإ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه أنه أخبره أن العاصي بن هشام هلك وترك بنين له ثلاثة؛ اثنان لأم ورجل لعلة، فهلك أحد اللذين لأم وترك مالًا وموالي، فورث أخوه لأبيه وأمه ماله وولاء مواليه، ثم هلك الذي ورث المال وولاء الموالي وترك ابنه وأخاه لأبيه، فقال ابنه: قد أحرزت ما كان أبي أحرز من المال وولاء الموالي، وقال أخوه: ليس كذلك إنما أحرزت المال، وأما ولاء الموالي فلا، أرأيت لو هلك أخي اليوم، ألست أرثه أنا؟ فاختصما إلى عثمان فقضى لأخيه بولاء الموالي. قال البغوي: وقال الشعبي: عن عمر، وعلى، وعبد الله بن مسعود، وزيد أنهم قالوا: الولاء للكِبْر، يعنون من كان أقرب إلى المعتق بأب أو بأم. ا. هـ.
قال أبو عمر بن عبد البر: ولا يستحق الولاء من العصبات إلا الأقرب فالأقرب، ولا يدخل بعيد على قريب وإن قربت قراباتهم، فأقرب العصبات الأبناء ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأب لأنه ألْصق الناس به بعد ولده وولد ولده، ثم الإخوة لأنهم بنو الأب، ثم بنو الإخوة وإن سفلوا، ثم الجد أبو الأب، ثم العم لأنه ابن الجد، ثم بنو العم، فعلى التنزيل ميراث الولاء. حدثني سعيد بن نصر، قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن وضاح، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو سلمة عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: تزوج زياد بن حذيفة بن سعيد بن سهم أم وائل بنت معمر الجمحية، فولدت ثلاثة أولاد فتوفيت أمهم، فورث بنوها رباعها وولاء مواليها، فخرج بهم عمرو بن العاص معه إلى الشام، فماتوا في طاعون عمواس، فورثهم عمرو وكان عصبتهم، فلما رجع عمرو جاءه بنو معمر يخاصمونه في ولاء أختهم إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: أقضي بينكم بما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا أَحْرَزَ الْوَلَدُ أَوِ الْوَالِدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ". فقضى لنا وكتب بذلك كتابًا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وآخر، حتى إذا استخلف عبد الملك بن مروان توفي مولى لها وترك ألف دينار، وبلغني أن ذلك القضاء قد غير، فخاصموه إلى هشام بن إسماعيل فرفعهم إلى عمد الملك بن مروان فأتيناه بكتاب عمر، فقال إن كنت لأرى أن هذا من القضاء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الذي لا يشك فيه، وما كنت أرى أمرًا بالمدينة بلغ هذا أن يشكوا في القضاء به. فقضى لنا به، فلم ننازع فيه بعد. ا. هـ. منه بلفظه.
هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الفرائض - في باب الولاء، مع تغيير بسيط في الألفاظ لا يؤثر على المعنى. انظر مختصر وشرح وتهذيب سنن أبي داود، وقال المنذري: أخرجه النسائي وابن ماجه.
وقوله: ولا ترثه أنثى إن لم تباشره ألخ .. حكى الحطاب عن سحنون الإجماع أنه لا ولاء لامرأة إلا من باشرت عتقه أو أعتقت من أعتقه، أو يكون ولدًا لمن أعتقت، وإن سفل من ولد الذكور خاصة. قال: ونص كلامه في المدونة: ولا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن، أو ولد من أعتقن من ولد الذكور، ذكرًا كان ولد هذا الذكر أو أنثى. ا. هـ.
وقال البغوي في شرح السنة: والمرأة لا ترث بالولاء إلا معتقها، أو ممن ينتمي إلى معتقها بولاء أو نسب حتى ترث من معتقها أو معتق معتقها وأولاد بني معتقها، كالرجل. وروي أن ابنة حمزة أعتقت عبدًا لها، فماث وترك ابنته ومولاته بنت حمزة، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه بين ابنته ومولاته بنت حمزة نصفين. أخرجه ابن ماجه.
تنبيهٌ: أخرج الشيخان عن عبد الله بن دينار أنه سع ابن عمر يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته.
قال الإمام البغوي: اتفق أهل العلم على هذا، أن الولاء لا يباع ولا يوهب ولا يورث وإنما هو سبب يورث به كالنسب يورث به ولا يورث.
قال: وكانت الجاهلية تبيع ولاء مواليها، فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وزعم بعضهم أن السائبة يضعُ ولاءه حيث شاء، ولا يصح هذا، لأن الولاء كالنسب إذا استقر لم يزل، إلا ما استثناه الإجماع من جر الولاء. ا. هـ. وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الوصية
بَابٌ: صَحَّ إيصَاءُ حُرٍّ مُمَيِّزٍ مَالِكٍ، وإنْ سَفِيهًا أوْ صَغيرًا (1)، وهل إِن لم يَتَنَاقَضْ قَوْلهُ؟ أوْ أوْصَى بقُرْبة؟ تَأويلان. وكَافِرًا إلا بِكَخَمْرٍ لِمُسْلِم، لمَنْ يصحُّ تَمَلُّكُهُ (2)، كمَنْ سَيَكوُنُ إنْ اسْتَهَلَّ، وَوُزِّعَ لِعَدَده، بِلَفْظٍ أوْ إشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ (3). وقَبُولُ المُعَيَّن شَرْطٌ بَعْدَ الموْتِ (4) فَالْمِلْكُ لهُ بِالمَوْتِ، وقومَ بِغَلَّة حَصَلَتْ بَعْدَه، ولَمْ يَحْتَجْ رِقٌّ لإِذْنٍ في قَبُولِهِ، كإيصَائِه بِعِتْقِهِ، وخُيِّرَتْ جَاريَةُ الْوَطْءِ، ولَهَا الانْتِقَالُ، وصحَّ لِعَبْدِ وَارثِهِ إن اتَّحَدَ أوْ بتافِهٍ أُريدَ بِهِ الْعَبْدُ،
أحكام الوصية
قال الحطاب: الوصية تمليك مضاف لما بعد الموت بطريق التبرع. ا. هـ. قال هذا تعريفها في الشامل، وأما اللباب فقد قال في تعريفها: تصرف المالك في جزء من حقوقه موقوف على موته، على وجه يكون له الرجوع فيه. ا. هـ. وقال ابن عرفة: الوصية في عرف الفقهاء عقد يوجب حقًا في ثلث عاقده يلزم بموته أو يوجب نيابة عنه بعده. ا. هـ.
والأصل فيها كتاب الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}
(1)
.
قال القرطبي: وليس في القرآن ذكر الوصية إلا في هذه الآية، وفي النساء؛ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} وفي المائدة:{حِينَ الْوَصِيَّةِ}
(2)
.
وقد جاءت السنة بالوصية أيضًا؛ ففي البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَا حَقُّ امْرِيءٍ مُسْلِم لَهُ شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ يَبيتُ لَيْلَتَيْنِ إلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ".
وحكم الوصية الاستحباب لمن ترك مالًا كثيرًا إلا لمن عليه حقوق أو عنده ودائع لا بينة عليها، فإن الوصية تجب في حق هذا. والله تعالى أعلم.
(1)
قوله: صح إيصاء حر مميز مالك وإن سفيهًا أو صغيرًا ألخ. قال في المدونة: تجوز وصية ابن
(1)
سورة البقرة: 180.
(2)
سورة المائدة: 106.
ولِمَسْجِدٍ، وصُرفَ في مَصَالِحِهِ، ولمَيِّتٍ عَلِمَ بِمَوتِهِ، فَفي ديْنِهِ أوْ وَارِثِهِ، ولِذِمِّيٍّ وقَاتِلٍ عَلِمَ المُوصِي بالسّبَبِ وإلَّا فَتأويلان.
عشر سنين وأقل مما يقاربها، إذا أصاب وجه الوصية. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن عمرو بن سليم الغساني أوصى وهو ابن عشر، أو اثنتي عشرة، ببئر له قومت بثلاثين ألفًا، فأجاز عمر بن الخطاب وصيته.
وله رواية أخرى قال: حدثنا ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بن عمرو بن سُليم الغساني قال: بلغ عمر أن غلامًا من غَسَّان يموت فقال. مروه فليوص، فأوصى ببئر حشم، فبيعت بثلاثين ألفًا، وهو ابن عشر سنين أو اثنتي عشرة، وقد قارب.
وروى عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر عن الزهري قال: وصية الغلام جائزة إذا عقل. وروى الدارمي من طريق عبد الأعلى عن معمر عن الزهري أنه كان يقول: وصيته ليست بجائزة إلا بشيء ليس ذي بال، يعني الغلام قبل أن يحتلم.
وروى الدارمي عن أبي الزناد عن عمر بن عبد العزيز أنه أجاز وصية ابن ثلاث عشرة سنة. وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني سليمان بن موسى أن عبد الملك قضى في غلام من أهل دمشق وصى فقال: إذا بلغ ثنتي عشرة سنة جازت وصيته، قال: فلم يزل يعمل بذلك ويقضي به، حتى كان عمر بن عبد العزيز فخشينا أن يرده، قضى به عمر بن عبد العزيز أيضًا، فلم يزل عليه بعد، قال: ولا علم أحدًا قضى به قبل عبد الملك.
وفي الموطإ عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه أن عمرو بن سليم الزرقي أخبره أنه قيل لعمر بن الخطاب: إن ههنا غلامًا يفاعًا لم يحتلم من غسان ووارثه بالشام، وهو ذو مال وليس له ههنا إلا ابنة عم له، قال عمر بن الخطاب: فليوص لها، قال فأوصى لها بمال يقال له بئر جشم، بيع ملك المال بثلاثين ألف درهم. وابنة عمه التي أوصى لها هي أم عمرو بن سليم الزُّرقي. ا. هـ. وقال يحيى: سمعت مالكًا يقول: الأمر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله، والسفيه، والمصاب الذي يفيق أحيانًا، تجوز وصاياهم، إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون به ما يوصون به. أما من ليس له من عقله ما يعرف به ما يوصي به وكان مغلوبًا على عقله فلا وصية له ا. هـ. منه. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (2) وقوله: لمن يصح تملكه ألخ. قال ابن شاس: الركن الثاني الموصى له. فلو أوصى لحمل امرأة فانفصل حيًا صحت الوصية. وقال مالك: تجوز الوصية للصديق الملاطف، ولا يصح له الإقرار بالدين. قال عبد الوهاب: والكل إخراج مال عن الورثة. ا. هـ.
هذا، وقد اختلف العلماء في الوصية لمن تكون؟ وفي حكمها:
أما حكمها فقد قال قوم بوجوبها؛ لحديث البخاري: "مَا حَقُّ امْريءٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ". استدلوا بظاهر هذا الحديث مع ظاهر آية البقرة على وجوب الوصية، وبه قال الزهري وأبو مجلز وعطاء وطلحة بن مصرف في آخرين، وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم، وبه قال إسحاق وداود، واختاره أبو عوانة وابن جرير.
قال ابن حجر: ونسب ابن عبد البر القول بعدم الوجوب إلى إجماع سوى من شذَّ، قال: فلو كانت الوصية واجبة لما قسم مال لم يوص بين ورثته بالإجماع، ولوجب أن يخرج منه سهم ينوب عن الوصية، قالوا: فأما الآية، فإنها منسوخة، على ما قاله ابن عباس: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله ما أحب؛ فجعل لكل واحد من الأبوين السدس. الحديث. وأجابوا عن الحديث الذي احتجوا به للوجوب، بأنه المراد به الجزم والاحتياط، لأنه قد يفجؤه الموت وهو على غير وصية، ولا ينبغي لمؤمن أن يغفل عن ذكر الموت والاستعداد له، قالوا: ولو كانت الوصية واجبة لما علقها بالإرادة.
ونقل ابن المنذر عن أبي ثور أن المراد بوجوب الوصية في الآية والحديث يختص بمن عليه حق شرعي يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به، كوديعة أو دين لله أو لآدميٍّ، قال. ويدل لذلك تقييده بقوله:"لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أنْ يُوصِيَ فِيهِ". قال. لأن فيه، إشارة إلى قدرته على تنجيزه ولو كان مؤجلًا، فإنه إذا أَرادَ ذلك ساغ له، وإن أراد أن يوصي به ساغ له، قال: وحاصل هذا القول يرجع إلى قول الجمهور من أن الوصية غير واجبة لعينها، وأن الواجب بعينه الخروج من الحقوق الواجبة للغير، سواء كان ذلك بتنجيز أو بوصية.
قال ابن حجر في فتح الباري: فعرف من مجموع ما ذكرنا أن الوصية قد تكون واجبة وقد تكون مندوبة، لمن رجا منها كثرة الأجر، وقد تكون مكروهة في عكسه، وقد تكون مباحة لمن استوى الأمران فيه، وقد تكون محرمة إذا ما كان فيها إضرار، كما ثبت عن ابن عباس: "الإِضْرَارُ فِي الْوصِيَّةِ مِنَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْكَبَائِرِ". رواه سعيد بن منصور موقوفًا بإسناد صحيح، ورواه النسائي ورجاله ثقات. ا. هـ. منه بتصرف.
وأما لمن تكون الوصية؟ فقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين، انتزعت منهم وردت على ذوي قرابته، فإن لم يكن في أهله فقراء، فلأهل الفقراء من كانوا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال: إذا أوصى لمساكين، بدئ بالمساكين من ذي قرابته، فإن أوصى لقوم وسماهم أعطينا من سمَّى له.
وروى عبد الرزاق عن معمر وقتادة وابن المسيب مثل قول الزهري.
وروي أيضًا عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيد الله بن يعمر - قاض كان لأهل البصرة - قال: من أوصى فسمَّى أعطينا من سَمَّى، وإن قال: يضعها حيث أمر الله أعطينا قرابته.
وقال القرطبي: قال قوم: الوصية للأقربين أولى من الأجانب؛ لنص الله تعالى عليهم، وقال الضحاك: إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية.
وروي عن ابن عمر أنه أوصى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف. رروي أن عائشة أم المؤمنين أوصت لمولاة لها بأثاث البيت. وروي عن سالم بن عبد الله بمثل ذلك.
وقال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة وأصحابهم، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل: من أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين بئس ما صنع، وفعله مع ذلك جائز ماضٍ لكل من أوصى له؛ من غني وفقير، وبعيد، مسلم وكافر، وهو معنى ما روي عن ابن عمر، وعائشة. وهو قول ابن عمر وابن عباس. ا. هـ. منه.
هذا، ولا يخفى ما في الوصية من فضل لمن أقضى الأمر فعلها منه، سواء للجواز أو الاستحباب أو الوجوب، وذلك لما ورد من الحث عليها، من ذلك حديث عبيد الله بن عمر بن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا حَقُّ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ وَلَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتوبَةٌ عِنْدَهُ".
وما أخرجه ابن ماجه بسنده عن أنس بن مالك، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الْمَحْرُومُ مَنْ حُرمَ وصِيَّتَهُ". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ومن ذلك ما أخرجه ابن ماجه أيضًا عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ عَلَى وَصِيَّةٍ مَاتَ عَلَى سَبِيل وَسُنَّةٍ، وَمَاتَ عَلَى تُقىً وَشَهَادَةٍ، وَمَاتَ مَغْفورًا لَهُ".
ملحوظة: أخرج عبد الرزاق بسند عن أنس بن مالك، قال: كانوا يكتبون في صدر وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أوصى به فلان، إنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور}
(1)
. وأوصى من ترك من من أهله أنْ يتَّقُوا اللهَ، ويُصلحوا ذاتَ بَيْنِهِمْ، وأن يُطيعوا اللهَ ورسولَه إنْ كانوا مؤمنين. وأوصاهم بِمَا أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
(2)
.
وأخرج عبد الرزاق عن الثوري قال: سمعت أبي يذكر وصية ربيع بن خيثم: هذا ما أقر به ربيع بن خيثم على نفسه وأشهد الله عليه، وكفى بالله شهيدًا، وجازيًا لعباده الصالحين ومثيبًا، بأني رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، فأوصي نفسي ومَن أطاعني بأن أعبده في العابدين، وأن أحمده في الحامدين، وأن أنصح لجماعة المسلمين. ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: بلفظ أو إشارة مفهمة، قال ابن عرفة: الصيغة، ما دل على معنى الوصية، فيدخل اللفظ والكتب والإشارة، وقال مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَا حَقُّ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ". وقال ابن شأس: كل لفظ فهم منه قصد الوصية بالوضع أو بالقرينة حصل إلى اكتفائه. ا. هـ. من الحطاب. وقد ترجم البخاري في باب الوصية. قال: باب إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة جازت. ا. هـ. وقال القرطبي: قال العلماء المبادرة بكتب الوصية ليست مأخوذة من هذه الآية، يعني آية الوصية من البقرة، وإنّما هي من حديث ابن عمر، وفائدتها، المبالغة في زيادة الاستيثاق، وكونها مكتوبة مشهودًا بها، وهي الوصية المتفق على العمل بها. ا. هـ. منه.
(4)
وقوله؛ وقبول المعين شرط بعد الموت قال في المدونة: وإذا مات الموصى له بعد موت الموصي فالوصية لورثه الموصى له، علم بها أم لا، ولهم أن يقيموها كشفعة أو خيار في بيع ورثوه. ا. هـ.
(1)
سورة الحج: 7.
(2)
سورة البقرة: 132.
وبَطَلَتْ بِردَّتِهِ، وإيصَاءٍ بِمَعْصِيَةٍ، ولِوَارِثٍ (1)، كَغَيْره بِزَائدٍ عَنِ الثُّلُثِ (2) يَوْمَ التَّنْفِيذِ، وإن أُجيزَ فَعَطِيَّةٌ، ولَوْ قَالَ إن لمْ يُجِيزوُا فَلِلْمَسَاكِينِ، بِخلاف العَكْسِ، وبِرُجُوع فِيهَا (3) كان بِمَرَضٍ، بِقَوْلٍ أو بَيْع وعِتْقٍ وكِتَابَةٍ وإيلَادٍ، وحَصْد زَرْع ونَسْجِ غَزْلٍ، وصَوْغ فِضَّةٍ، وحَشْوِ قُطْنٍ، وذَبْح شَاةٍ، وتَفْصِيل شُقّةٍ، وإيصَاءٌ بمرضٍ أو سَفَرٍ انْتَفَيَا. قال إن مِتُّ فِيهِمَا وإن بكتاب ولم يخرجه أو أخرجه ثم اسْتَرَدَّهُ بعدهما. ولوْ أطْلقَهَا، لا إن لمْ يسْتَرِدَّه، أو قال: مَتى حدث الموت، أو بَنَى الْعَرْصَةَ وَاشْتَركَا، كإيصَائه بِشَيْءٍ لِزَيْدٍ ثُمَّ لِعَمْرٍو، ولَا بِرَهْنٍ وتَزْويج رَقِيقٍ وتَعْلِيمِهِ وَوَطْء، ولا إنْ أوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فباعَهُ، كثِيَابِهِ، واسْتَخْلَفَ غَيْرَهَا، أو بثَوْبِ فبَاعَهُ ثمَّ اشْتَراهُ بِخلَافِ مِثْلِهِ، ولَا إنْ جَصَّصَ الدّارَ أوْ صَبَغَ الثوْبَ أوْ لَتَّ السَّويقَ فَلِلْمُوصَى لَهُ بِزيادَتهِ وفي نُقْضِ العَرْصَةِ قَوْلَانِ. وإنْ أوْصَى بوَصيةٍ بَعْدَ أُخْرى فَالْوَصِيتَانِ كنَوْعَيْنِ،
قال الحطاب: ونحو هذا في كتاب الوصايا الثاني، قال عياض: هذا بين لأن مذهبه في الكتاب أنها لا تحتاج إلى قبول الموصى له قبل موته ولا علمه، لأن قبولها حق يورث عنه. ا. هـ. وعبارة المصنف ظاهرها أنه إذا مات الموصى له قبل قبول الوصية لم يكن لورثته قبولها، وهو خلاف مذهب المدونة كما علمت، فإذا تبين أنه لم يكن في الموضوع إلا الاجتهاد، فاعلم أن جمهور العلماء على أن الوصية لا تملك إلا بالقبول، إذا كانت لمعين يمكن القبول منه؛ لأنها تمليك مال لمن هو من أهل الملك متعين، فاعتبر قوله كالهبة والبيع. أما إذا كانت لغير معين، لزمت بمجرد الموت، والله الموفق.
(1)
وقوله: وبطلت بردته وإيصاء بمعصية ولوارث، أما بطلان وصيته إن ارتد فهي من عمله، والله تعالى يقول:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} . الآية. قال الحطاب: وفي المسائل الملقوطة، وبطلت الوصية بموت الموصى له قبل موت الموصي، وبالرجوع فيها بالقول والفعل، وبالردة من أحدهما، أو بقتل الموصى له الموصي. ا. هـ. منه. ونقل المواق عن بهرام: وبطلت بردة الموصي إن مات على ذلك، وإلا فإن تاب وكانت مكتوبة صحت. قال في المدونة: إذا قتل المرتد على ردته بطلت =
ودَرَاهِمَ وسَبَائِك وذهَب وفِضَّةٍ، وإلَّا فَأكثَرُهُمَا وإنْ تَقَدَّمَ. وإنْ أوْصَى لِعَبْدِهِ بِثُلُثُه عَتَقَ إنْ حَمَلهُ الثُّلُثُ وأخَذَ باقِيَهُ وإلَّا قُوِّمَ في مَالِهِ. ودخل الفَقِيرُ في المِسْكِينِ كَعَكْسِهِ، وفي الأقَارِبِ والأرْحَامِ والأهْلِ أقارِبُهُ لأمِّهِ إن لَمْ يكُنْ أقَارِب لأبٍ، والوارث كغيره بِخِلَافِ أقارِبِه هُوَ، وأُوثرَ المُحْتاجُ الأبْعَدُ إلَّا لِبَيَانٍ، فيُقَدَّمُ الأخُ وابْنُهُ على الجَدِّ ولا يُخَصُّ، والزَّوْجَةُ في جِيرانِهِ. لَا عَبْدٌ مع سَيِّدهِ، وفي وَلدٍ صَغِيرٍ وبكر قَوْلَانِ. والحَمْلُ في الْجَارِيةِ إنْ لَمْ يَسْتثْنِهِ، والأسْفَلُونَ في الْمَوالِي والحَمْلُ في الْوَلَدِ، والمُسْلِمُ يَوْمَ الوَصِيَّة في عَبيدِه المُسْلِمين؛ لا المَوالي في تَمِيمٍ أو بَنيهِمْ ولَا الْكافِرُ في ابْنِ السَّبِيلِ ولَمْ يلْزَمْ تَعْمِيمٌ كَغُزَاةٍ، واجْتَهَدَ كزيْدٍ مَعَهُمْ وَلا شيْءَ لِوَارِثه قَبْلَ القَسْم. وضُرِبَ لمجْهُولٍ فَأكْثَر بالثّلُثِ.
= وصاياه قبل الردة وبعدها. ا. هـ.
وقال ابن عرفة: الموصى به كل ما يملكه من حيث الوصية به، فتخرج الوصية بالخمر وبالمال فيما لا يحل صرفه فيه. ا. هـ. ويمكن الاستدلال لهذا الفرع بقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدِّ". متفق عليه.
وأما بطلان الوصية للوارث، فدليل بطلانها ما رواه عبد الرازق عن معمر عن مطر الوراق عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ"؛ قال القرطبي: وأخرجه الترمذي من رواية أبي أمامة بلفظ: "إِنَّ اللهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ". وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الخرقي: ولا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة ذلك. وقال ابن قدامة: إذا وصى الإِنسان لوارثه بوصية، فلم يجزها الورثة، لم تصح، بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على هذا، وجاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث أبي أمامة آنف الذكر، وقال: رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي. ا. هـ. منه.
وَهَل يُقْسَمُ عَلَى الحِصَصِ؟ قَوْلَان. والمُوصَى بِشِرائِهِ لِلْعِتْقِ يُزادُ لِثُلُثِ قيمَتِهِ ثُمَ اسْتُؤْنيَ ثُمً وُرِثَ، وَبِبَيْعٍ مِمَن أحَبَّ بَعْدَ النّقْصِ والإِبايَةِ، واشْتَراءٍ لفُلَانٍ وأبَى بُخْلًا بَطَلَتْ، ولِزيادَةٍ فَلِلْمُوصَى لَهُ، وبِبَيْعِهِ لِلْعِتْقِ نُقِّصَ ثُلُثُه وَإلَّا خُيِّرَ الْوَارِثُ في بَيْعِهِ أوْ عِتْقِ ثُلُثِهِ أوْ الْقَضَاءِ بِهِ لِفُلَانٍ في لهُ، وبِعِتْقِ عَبْدٍ لَا خْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْحَاضِر وُقِفَ إنْ كَانَ لِأشْهُرٍ يَسِيرةٍ وإلَّا عُجِّلَ عِتْقُ ثُلُثِ لْحَاضِرِ ثُمَّ تُمِّمَ مِنْهُ ولَزِمَ إجَازَةُ الْوَارِثِ بِمَرَضٍ لَمْ يَصِحَّ بَعْدَهُ إلا لِتَبَيُّنِ عُذْرٍ لكوْنِهِ في نَفَقَتِهِ أوْ دَيْنِهِ أوْ سُلْطَانِهِ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ مَنْ يَجْهَلُ مِثْلُهُ أنَّهُ جَهلَ أنَّ له الرَّدَّ لا بصِحَةٍ ولوْ بكَسَفَرٍ.
(2)
وقوله: كغيره بزائد الثلث: مراده أن الوصية لغير الوارث تلزم في الثلث، وأنها باطلة فيما زاد يلى الثلث، إلا إذا أجازها الوارث، وإن رد الوارث ما زاد على الثلث بطل في قول جميع أهل العلم، الأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص حين قال: أوصي بمالى كله؟ قال: "لَا" قال: بالثلثين؟ قال:، "لَا" قال: بالنصف؟ قال: "لَا" قال: فبالثلث؟ قال: "الثُّلُثُ، وَالثلُثُ كَثِيرٌ".
قال أبو عمر في التمهيد: هذا حديث اتفق أهل العلم على صحة إسناده، وجعله جمهور الفقهاء أصلًا في مقدار الوصية، وأنه لا يتجاوز بها الثلث، إلا أن في بعض ألفاظه اختلافًا عند نقلته، فمن ملك أن ابن عيينة قال فيه: عن ابن شهاب عن عامر بن سعد عن أبيه: مرضت عام الفتح؛ وانفرد بذلك عن ابن شهاب فيما علمت. وقد روينا هذا الحديث من طريق معمر ويونس بن يزيد، وعبد العزيز بن أبي سلمة، ويحيى بن سعيد الأنصاري وابن أبي عتيق وإبراهيم بن سعد، فكلهم قال فيه عن ابن شهاب عام حجة الوداع، كما قال مالك. قال: ولم يختلف أحد عن ابن شهاب، لا ابن عيينة ولا غيره، أنه قال فيه:(أفأتصدق) بمالي كله، أو بثلثي مالي؟ ولم يقل: أفأوصي؟ قال: فإن صحت هذه اللفظة التي هي قوله: أفأتصدق، كان في ذلك حجة قاطعة لما ذهب إليه مالك، والليث، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد، وعامة أهل الحديث والرأي. وحجتهم حديث عمران بن حصين في الذي أعتق ستة أعبد له في مرضه لا مال له غيرهم، ثم توفي، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم اثنين وأرقّ أربعة. =
والْوَارِثُ يَصِيرُ غيْرَ وَارِثٍ، وعَكْسُهُ المُعْتَبَرُ مَآلُهُ ولَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَاجْتَهَدَ في ثَمَنِ مُشْتَرىً لِظِهَارٍ أوْ لِتَطَوُّع بَقدْر الْمَالِ، فإنْ سَمَّى في تَطوُعٍ يَسِيرًا أوْ قَلَّ الثُّلُثُ شُورِكَ بهِ في عبْدٍ، وإلَّا فآخِرُ نَجْم مُكاتَبٍ. وإنْ عَتَقَ فظهَرَ دَيْنٌ يَرُدُّهُ أوْ بَعْضَهُ رُقَّ المُقَابِلُ، وإنْ مَاتَ بَعْدَ اشْتِرائهِ، ولم يُعْتَقْ اشْتُرِيَ غيْرُهُ لِمَبْلَغ الثُّلُثِ، وبِشَاةٍ أو بِعَدَدٍ من مَالِه شَارَكَ بالجُزْءِ وإن لم يَبْقَ إلَّا مَا سَمَّى فَهُوَ لَهُ إنْ حَمَلَهُ الثُّلُثُ، لَا ثُلُثُ غَنَمي فَتَمُوتُ. وَإنْ لَمْ يَكُنْ لهُ غَنَمٌ فَلَهُ شَاةٌ وسَطٌ. وإنْ قَالَ مِنْ غَنَمِي وَلَا غَنَمَ لَهُ بَطَلَتْ، كَعِتْقِ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدهِ فَمَاتُوا.
= قال: وقالت فرقة من أهل النظر وأهل الظاهر، منهم داود، في هبة المريض، إنها من جميع ماله. والحجة عليهم شذوذهم عن السلف، ومخالفة الجمهور، وما ذكرنا في هذا الباب من حديث سعد بن أبي وقاص، وعمران بن حصين.
قلت: لفظ حديث سعد، كما جاء في الموطإ: مالك، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعودني عام حجة الوداع، وبي وجع قد اشتد بي، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ مني الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا ترثني إلا ابنة لي، أفتصدق بثلثي مالي؟ قال:"لَا" قلت: فالشطر؟ قال: "لَا " قلت: الثلث؟ قال: "الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْر مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغي بِهَا وَجْهَ اللهِ إلَّا أُجِرْتَ فِيهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلَ فِي فِي امْرَأَتِكَ". قال: قلت: يا رسول اللهِ، أَأُخفَفُ بعد أَصْحَابِي؟ قال:"إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَة، وَلَعَلَّكَ أنْ تُخَلَّفَ حَتَّى ينْتَفعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَروُنَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابِي هِجْرتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ. لكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ". ا. هـ.
قال أبو عمر: وأجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من ثلث ماله إذا ترك ورثة من بنين أو عصبة.
واختلفوا إذا لم يترك بنين ولا عصبة ولا وارثًا بنسب أو نكاح، فقال ابن مسعود إذا كان كذلك جاز له أن يوصي بماله كله. وروي عن أبي موسى الأشعري مثل ذلك. وقال بقولها قوم منهم: مسروق، =
وقُدِّمَ لِضِيقِ الثُّلُثِ فَكُّ أَسِيرٍ ثُمَّ مُدَبَّرُ صِحَّةٍ، ثُمَّ صَدَاقُ مَرِيضٍ، ثُمَّ زَكَاةٌ أَوْصَى بِهَا إلَّا أنْ يَعْتَرِفَ بِحُلُولِهَا ويُوصِي فَمِنْ رَأسِ الْمَال كالحَرْثِ وَالمَاشِيَةِ وإنْ لمْ يُوصِ بِهَا، ثُمَّ الْفِطْرُ، ثُمَّ كفَّارَةُ ظِهَارٍ وقَتْلٍ وأُقْرعِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ كَفَّارَةُ يَمِينهِ ثُمَّ فِطْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ للتَّفْرِيطِ، ثُمَّ النَّذْرُ، ثُمَّ المُبَتَّلُ ومُدَبَّرُ الْمَرَضِ، ثُمَّ الْمُوصَى بعِتْقِهِ مُعَيَّنًا عِنْدَهُ أوْ يُشْتَرى، أوْ لِكشَهْرٍ أوْ بِمَالٍ فَعَجَّلَهُ، ثُمَّ الْمُوصَى بِكتِابَتِهِ والمُعْتَقُ بِمَالٍ والمعْتَقُ إلى أجَلٍ بَعُدَ، ثُمَّ المُعْتَقُ لِسَنَةٍ عَلى أكْثَرَ، ثُمَ بِعِتْقٍ لَمْ يُعَيَّنْ، ثُمَّ حَجٌّ إلَّا لضَرُورَةٍ فَيَتَحَاصَّانِ كَعِتْقٍ لَمْ يُعَيَّنْ ومُعَيَّنِ غَيْرِهِ وجُزْئهِ.
= وعبيدَة السلماني، وبه قال إسحاق بن راهويه، واختلف في ذلك قول أحمد، وذهب إليه جماعة من المتأخرين ممن يقول بقول زيد بن ثابت في هذه المسألة، وحجتهم أن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، وهذا لا ورثة له، فليس ممن عني بالحديث.
وقال زيد بن ثابت: لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من ثلثه، كان له بنون، أو ورث كلالة، أو ورثة جماعة المسلمين، لأن بيت مالهم عصبة من لا عصبة له. قال أبو عمر: وبهذا القول قال جمهور أهل العلم، وإليه ذهب جماعة فقهاء الأمصار إلا ما ذكرنا عن طوائف من المتأخرين من أصحابهم.
قلت: وقد نظم الشيخ علي بن قاسم الزقاق هذه القاعدة الخلافية في المنهج المنتخب بقوله:
هَلْ بَيْتُ مَالٍ وَارِثٌ أوْ مُجْمع
…
عليْهِ إِيصاءٌ بِمَالٍ أَجْمَعْ
يعني هل بيت مال يعد وارثًا للمنقطع، أو هو بعد مجمعًا للأموال الضائعة. وعلى هذا الأصل يبنى نفوذ وصية من لا وارث له بجميع ماله، وهي رواية بعضهم عن مالك، أو هو يرد ما زاد على الثلث من ذلك أن أخذه بناء على أن بيت المال وارث، وهو المعروف.
قال أبو عمر: وقد كره جماعة من أهل العلم الوصية بجميع الثلث. ذكر عبد الرزاق عن معمر عن بن طاوس عن أبيه قال: إذا كان ورثته قليلًا، وماله كثيرًا، فلا بأس أن يبلغ الثلث في وصيته. واستحب طائفة منهم الوصية بالربع، روي ذلك عن ابن عباس وغيره.
وقال إسحاق بن راهويه: السنة في الوصية الربع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ". إلا =
ولِلْمَريضِ اشْتِرَاءُ مَنْ يَعْتِقُ عَليْهِ بِثُلُثِهِ وَيرِثُ، لا إنْ أوْصَى بِشِرَاء ابْنهِ وعَتَقَ، وقُدِّم الإِبْنُ عَلى غَيْرِهِ. وَإنْ أوْصَى بِمَنْفَعَةِ مُعَيَّنٍ أوْ بِمَا لَيْسَ فيهَا، أو بعتقِ عَبْدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، ولا يَحْمِلُ الثلُثُ قِيمَتَهُ، خُيرَ الْوَارِثُ بَيْنَ أن يُجيزَ أو يَخْلَعَ ثُلُثَ الْجَمِيعِ. وبِنَصِيبِ ابْنِهِ أو مِثلِهِ فَبِالْجَمِيعِ. لَا اجْعَلُوهُ وَارِثًا مَعَهُ أوْ ألْحِقُوهُ بِهِ، فَزَائِدٌ. وبَنِصِيبِ أحَدِ ورثَتِهِ فبِجُزْءٍ مِنْ عَدَدِ رُؤُوسِهِمْ، وبِجُزْءٍ أوْ سَهْمٍ فبِسَهْمٍ مِنْ فَريضَتِهِ، وفي كَوْنِ ضِعْفِهِ مِثْلَهُ أوْ مِثْلَيْهِ تَردُّدٌ. وبِمَنَافِع عَبْدٍ وُرثَتْ عَن المُوصَى لَهُ، وإن حَدَّدَهَا بِزمَنِ فَكالمُسْتَأجِرِ،
= أن يكون رجل يعرف في ماله شبهات فيجوز له الثلث ولا يجوز له غيره. قال ابن عبد البر: ولا أعلم لإسحاق حجة في ذلك، وهذا الذي نزع به ليس بحجة في تسمية ذلك سنة.
وقد روي عن أبي بكر الصديق أنه كان يفضل الوصية بالخمس، وبذلك أوصى، وقال: رضيت لنفسي ما رضي الله لنفسه، كأنه يعني خمس الغنائم. واستحب قوم الوصية بالثلث، واحتجوا بحديث ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"جَعَلَ اللهُ لَكُمُ الْوَصِيَةَ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ". وهو حديث تفرد به طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة، وطلحة بن عمرو ضعيف. ولا خلاف بين المسلمين أن الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز، على حسب ما تقدم ذكره. والله الموفق.
(3)
وقوله: وبرجوع فيها، نقل المواق عن ابن عرفة قوله: يجوز رجوع الموصي إذا وصية إجماعًا في صحة أو مرض، فلو التزم فيها عدم الرجوع ففي لزومها اختلاف بين متأخري فقهاء تونس. ا. هـ. وقال القرطبي في تفسيره: وأجمعوا أن للإِنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدبَّر، فقال مالك رحمه الله: الأمر المجمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته أو مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه أو غير ذلك، فإنه يغير من ذلك ما بدا له، ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت، وإن أحب أن يطرح تلك الوصية ويسقطها فعل، إلا أن يدبِّر، فإن دبَّر مملوكًا فلا سبيل له إلى تغيير ما دبَّر. إلى أن قال: وقال الشافعي، وأحمد، وإسحاق: هو وصية. لإجماعهم أنه في الثلث كسائر الوصايا. وفي إجازتهم وطء المُدَبَّرة ما ينتقض به قياسهم المدبَّر على العتق إلى أجل. وقد =
فإن قُتِلَ فلِلْوَارِثِ الْقِصَاصُ أو الْقِيمَةُ، كأنْ جَنَى إلَّا أن يَفْدِيَة المُخْدَمُ أو الْوَارِثُ فَتَسْتَمِرُّ. وَهيَ ومُدَبَّرُ إنْ كانَ بِمَرَضٍ فِيمَا عَلِمَ ودَخَلَتْ فِيهِ وفي الْعُمْرى وفي سفينَةٍ أَوْ عَبْدٍ شُهِرَ تَلَفُهُمَا ثُمَّ ظَهَرَتْ السَّلَامَةُ قَوْلَانِ. لَا فِيمَا أقَرّ بِهِ في مَرَضِهِ، أوْ أوْصى به لِوَارِثٍ، وَإنْ ثَبَتَ أنً عَقْدَها خَطُّهُ أوْ قَرأهَا وَلَمْ يُشْهِدْ أوْ يَقُلْ أَنْفِذوهَا لَمْ تُنَفَّذْ، ونُدِبَ فِيهِ تقدِيمُ التَّشَهُّدِ وَلَهُم الشَّهَادَةُ وإنْ لمْ يَقْرَأهُ ولا فَتَحَ، وتُنَفَّذُ وَلَوْ كانَت الوصِيَّةُ عِنْدَهُ، وإنْ شَهِدَا بِمَا فيهَا ومَا بَقي فَلِفُلَانٍ ثُمَّ مَاتَ فَفُتِحَت فإذا فيها ومَا بقِيَ فَلِلْمَسَاكِينِ قُسِمَ بَيْنهُمَا.
= ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم باع مدبَّرًا، وأن عائشة رضي الله عنها دبَّرت جارية لها ثم باعتها، وهو قول جماعة من التابعين. ا. هـ. منه.
وقال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن للوصي أن يرجع في جميع ما أوصى به، وفي بعضه، إلا الوصية بالإعتاق، والأكثرون على جواز الرجوع في الوصية به أيضًا، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يغير الرجل ما شاء من وصيته، وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، والزهري، وقتادة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وقال الشعبي، وابن سيرين، وابن شبرمة، والنخعي: يغير ما شاء منها إلا العتق؛ لأنه إعتاق بعد الموت، فلم تملك تغييره كالتدبير.
وقال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أنه إذا أوصى لرجل بطعام، فأكله، أو بشيء فأتلفه، أو تصدق به، أو وهبه، أو بجارية فأحبلها أو أولدها أنه يكون رجوعًا. ا. هـ. منه.
وفي مصنف عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: يعاد في كل وصية. قال: وحدثنا معمر عن قتادة أن عمر بن الخطاب قال: ملاك الوصية آخرها. قال معمر: وكان قتادة يقول: هو مخير في وصيته في العتق وغيره، يغير فيها ما شاء، قال معمر: بلغني أنه ذكره عن عمرو بن شعيب، عن الحارث بن عبد الله، عن عمر. وقال: حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه مثل قول قتادة. وقال: عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس قال: يعود الرجل في مدبَّره. وقال: عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار قال: سمعت طاوس، وعطاء، وأبا الشعثاء يقولون: آخر عهد الرجل أحق =
وكتبْتُهَا عِنْدَ فُلَانٍ فَصَدِّقُوهُ، أَو أوْصَيْتُه بِثُلُثي فَصَدِّقُوهُ يُصَدِّقُ إن لَمْ يَقُلْ لابْني، وَوصيِّيَ فَقَطْ يَعُمُّ، وعَلى كَذَا يُخَصُّ بِه. كوصيِّيَ حَتى يَقْدَمَ فُلَانٌ. أوْ إلى أنَّ يَتَزَوَّجَ زوجتي. وَإنْ زَوَّجَ مُوصى عَلى بيع تَركتِهِ وقبْضِ دُيُونِه صَحَّ، وإنَّما يُوصَى عَلى المحْجُورِ عَلَيْهِ أَبٌ أو وَصيُّهُ (1) كأمٍّ إنْ قَلَّ وَلَا وَلِيَّ وَوُرِثَ عَنْهَا، لِمُكلَّفٍ مُسْلِم عَدْل كَافٍ وإنْ أعْمى وامْرأةً وعَبْدًا وتَصَرَّفَ بإذن سَيِّدِهِ، وإنْ أرَادَ الأكَابرُ بَيْعَ مُوصى اشْتُرِيَ لِلأَصَاغِرِ. وَطُرُوُّ الْفِسْقِ يَعْزِلُهُ. ولا يبيعُ الوَصيُ عَبْدًا يُحْسِنُ الْقِيامَ بِهِمْ، ولا التَّركةَ إلَّا بِحَضْرةِ الكبير، ولا يَقْسِمُ عَلى غائِبٍ بِلا حَاكِمٍ، ولاثنيْنِ حُملَ عَلى التَّعَاوُنِ، وإنْ مَاتَ أحَدُهُمَا أو اخْتَلَفَا فالحاكم، وَلَا لأحَدهِمَا إيصَاءٌ، ولا لَهُمَا قَسْمُ الْمَال، وإلَّا ضَمِنَا.
ولِلْوَصِيِّ اقْتِضَاءُ الدَّيْنِ وَتَأخِيرُهُ بِالنَّظرِ، والنَّفَقَةُ عَلى الطِّفْلِ بِالمعْرُوفِ، وفي خَتْنِهِ وعُرْسِهِ وعِيدِهِ، ودَفْعُ نَفقَةٍ لَهُ قَلَّتْ، وإخْراجُ فِطْرَتِه وزكاتِهِ، ورَفَعَ لِلْحَاكم إنْ كانَ حَاكِمٌ حَنَفيٌّ، ودَفْعُ مَالِهِ قِرَاضًا وبضاعَةً، ولا يعمل هو به،
= من أوله: يقولون. يغير الرجل من وصيته ما شاء في العتق وغيره. وقال: عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن نافع بن علقمة كتب إلى عبد الملك يسأل عن رجل أوصى بوصية فأعتق فيها ثم رجع في وصيته فكتب إليه: له أن يرجع في وصيته ما كان حيًا. ا. هـ. منه.
(1)
وقوله. إنما يوصي على المحجور عليه أب أو وصيه ألخ. قال في المدونة: تصح وصية الأب إلى غيره لصغار بنيه وأبكار بناته، وإن مات الموصي فأوصى إلى غيره، جاز ذلك، وكان وصي الوصي فكان الوصي في النكاح وغيره بخلاف مقدم القاضي. ا. هـ. من المواق.
قلت: يستطاع الاستدلال لهذا الفرع بما جاء في السنة بأن أسعد بن زرارة رضي الله عنه أوصى بابنته الفارعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن حجر لي فتح الباري في الكلام على حديث أن عائشة رضي =
ولا اشتراءٌ مِنَ التَّرِكَةِ، وتُعُقِّبَ بالنَّظَرِ إلَّا كِحمَارَيْن قَلَّ ثَمَنُهمَا وتَسَوَّقَ بِهما الحَضَرَ والسَّفَرَ. ولهُ عَزْلُ نَفْسِهِ في حَياةِ الموُصِي ولو قَبِلَ، لا بَعْدَهُمَا، وَإنْ أبى القَبُولَ بَعْدَ المَوْتِ فلا قَبُول لَهُ بَعْدُ. والقَوْلُ لَهُ في قَدْر النَّفَقَةِ، لَا في تَارِيخ المَوْتِ، ودَفْعِ مَالِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ.
= الله عنها زفت امرأة من الأنصار، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم:"يَا عَائشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟ فَإنَّ الْأنْصَارَ يُعْجبُهُمُ اللَّهْوُ".
قال ابن حجر في فتح الباري: إن المرأة التي زفتها عائشة هي الفارعة بنت أسعد بن زرارة، أوصى بها أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فزوجها من نبيط بن جابر الأنصاري. والمقصود من الاستدلال به هو أنه إن ثبت أنه أوصى إليه بها، وأقر ذلك، كان فيه دليل من السنة على جواز إيصاء الأب بصغار أولاده إلى من يراه أهلا لذلك، وبالله تعالى التوفيق.
كتاب الفرائض
بَابٌ: يُخْرَجُ مِنْ تَركَةِ المَيِّت حَقٌّ تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ كَالْمَرْهُونِ، وعَبْدٍ جَنَى (1)، ثُمَّ مُؤَنُ تَجْهِيزهِ بالْمَعْروفِ، ثُمَّ تُقْضَى دُيُونُهُ، ثُمَّ وَصَايَاهُ مِن ثُلُثِ الْبَاقي، ثُمَّ الْبَاقِي لِوارِثِهِ (2). من ذي النِّصْفِ، الزَّوْجُ (3)، وبِنْتٌ، وبنتُ ابْن إن لَمْ تَكُنْ بِنْتٌ (4)، وأَخْتٌ شَقيقَةٌ، أو لأبٍ إن لَمْ تَكنْ شَقِيقَةٌ (5). وعَصَّبَ كُلًّا أخٌ يُسَاوِيهَا (6)، والْجَدُّ والأخْريَيْنِ الأولَيَانِ (7).
كتاب الفرائض
علم الفرائض علم قرآني، ونسب في جواهر الإكليل للغزالي في وسيطه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَكِلْ قِسْمَةَ مَوَارِيثِكُمْ إِلَى نَبيٍّ مُرْسَل وَلَا إِلَى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلكِنْ تَوَلَّى بَيَانَهَا فَقَسَمَهَا أَبْيَنَ قَسْمٍ". قال: أشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}
(1)
،. ونقل أيضًا عن السهيلي قوله: نظرت فيما بينه الله في كتابه من حلال وحرام وحدود وأحكام، فلم أجده افتتح شيئًا من ذلك بما افتتح به آية الفرائض، ولا ختم شيئًا من ذلك بما ختمها به، فإنه قال في أولها:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} . فأخبر عن نفسه بأنه موص تنبيهًا على حكمته فيما أوصى به، وعلى عدله، وعلى رحمته، وقال حين ختم الآيات:{وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}
(2)
، وعلم الفرائض هو العلم بالأحكام الشرعية العلمية المتعلقة بالمال بعد وفاة صاحبه تحقيقًا أو تقديرًا. وموضوعه التركات؛ لأنه يبحث فيه عن عوارضها الذاتية؛ من مؤن تجهيز، وقضاء دين، وتنفيذ وصية، وإرث.
وفائدته: إيصال الحقوق إلى أهلها. وهو مستمد من كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة، واجتهاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضوء الكتاب والسنة وآراء أئمة الاجتهاد.
وعلم الفرائض علم عظيم القدر، فهو ثلث العلم، وروي: نصف العلم، وهو أول علم ينزع من الناس وينسى، روى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَوَّل شَيْءٍ يُنْسَى وَهُوَ أَوَّلُ شَئٍ يُنْزعُ مِنْ أُمَّتِي". وروي أيضًا عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوه النَّاسَ، وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ
(1)
سورة النساء:11.
(2)
سورة النساء: 12.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، وَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، فَإنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضُ وإنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الْإثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ لَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا".
وروى مطرف عن مالك: قال عبد الله بن مسعود: من لم يتعلم الفرائض والطلاق والحج، فبمَ يفضل أهل البادية؟ وقال ابن وهب عن مالك، كنت أسمه ربيعة يقول: من تعلم الفرائض من غير علم بها من القرآن، ما أسرع ما ينساها. قال مالك وصدق.
وروى أبو داود والدارقطني عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ ومَا سِوَى ذلِكَ فَهُوَ فَضْلٌ: آيَة مُحْكَمَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ". قال الخطابي أبو سليمان في معالم السنن: الآية المحكمة هي كتاب الله تعالى، واشترط فيها الإحكام، لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به، وإنما يعمل بناسخه، والسنة القائمة هي الثابتة مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من السنن الثابتة، والفريضة العادلة تحتمل وجهين من التأويل؛ أحدهما: أن يكون من العدل في القسمة، فتكون معدلة على الأنصباء والسهام المذكورة في الكتاب والسنة. والوجه الثاني: أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معناهما، فتكون تعدل ما أخذ من الكتاب والسنة إذْ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصًا. ومثل لذلك بما رواه عكرمة قال: أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت يساله عن امرأة تركت زوجها وأبويها؟ فقال: للزوج النصف، وللأم ثلث الباقي. فقال ابن عباس: تجده في كتاب الله أو تقوله برأيك؟ قال: أقوله برأيي؟ لا أفضل أُمًّا على أب. قال الخطابي: فهذا من باب تعديل الفريضة إِذا لم يكن فيها نص، وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص عليه من قوله تعالى:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}
(1)
.
تنبيهٌ: كان العرب في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الذكر الصغير، ولا يعطون إِلا من قاتل على ظهور الخيل، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة، حتى توفي أوس بن ثابت الأنصاري عن امرأته أم كجَّة وثلاث بنات له منها، قال القرطبي: فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما: سويدٌ وعرفجةُ، فأخذا ماله ولم يعطيا لامرأته شيئًا ولا لبناته، فذكرت أم كُجَّة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهما، فقالا: يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسًا، ولا يحمل كَلًّا، ولا ينكأ عدوًّا، فقال عليه الصلاة والسلام:"انْصَرفَا حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ الله لِي فِيهِنَّ". فانزل الله تعالى قوله في سورة =
(1)
سورة النساء: 11.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1)
. أنزل الله هذه الآية ردًا عليهم وإبطالًا لقولهم وتصرفهم بجهلهم. فكانت هذه الآية إبطالًا لذلك الرأي الفاسد، وتوطئة لذلك الحكم المبين البيان الشافي في آية المواريث.
وقد اختلفت الروايات في سبب نزول آية المواريث التي بينت هذا الإِجمال الذي نزل في هذه الآية، فقد روى الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، إن سعدًا هلك وترك بنتين وأخاه، فعمد أخوه فقض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن؟ فلم يجبها في مجلسه ذلك. ثم جاءته فقال: يا رسول الله، ابنتا سعد؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إدْعِ لِي أَخَاهُ". فجاء فقال له: "إدْفَعْ إلَى ابْنَتِهِ الثُّلُثَيْن وإلَى امْرَأَتِهِ الثُّمُنَ وَلَكَ مَا بَقِيَ". هذا لفظ أبي داود. وفي رواية الترمذي وغيره: فنزلت آية المواريث، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وروى جابر بن عبد الله أيضًا، قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان، فرجداني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش عليّ منه فأفقت، فقلت: يا رسول الله، كيف أصنع في مالي فنزلت:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}
(2)
. متفق عليه.
(1)
قوله: يخرج من تركة الميت حق تعلق بعين كالمرهون وعبد جنى، التركة - بفتح التاء وكسر الراء - ويجوز تسكينها مع فتح المثناة الفوقية وكسرها - هي بمعنى المتروك، كالطلبة بمعنى المطلوب وتركة الميت تراثه، بمعنى الميراث.
إعلم أن الذي يجب إخراجه من التركة قبل وقرع المواريث فيها ينقسم إلى قسمين: أحدهما: من يجب إخراجه من رأس المال. والثاني: ما يجب إخراجه من الثلث. وما يجب إخراجه من رأس المال مقدم على ما يجب إخراجه من الثلث. وما يجب إخراجه من رأس المال على وجهين: حقوق معينة. وحقوق ليست بمعينة. فأما الحقوق المعينة فتخرج كلها وإن أتت على جميع التركة؛ لأن القرآن يقول في إخراج الفرائض: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فإن أول شيء يخرج من التركة الحقوق
(1)
سورة النساء: 7.
(2)
سورة النساء: 11.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المتعينة؛ كأم الولد، والمرهون المحوز ونحو ذلك. ويلي ذلك ما أشار إليه قوله: ثم مؤن تجهيزه بالمعروف: فهي حقوق تخرج من رأس المال أيضًا وليست بمعينة، إنما هي بالمعروف. ثم تقضى ديونه من رأس المال أيضًا. ثم تنفذ وصاياه من ثلث الباقي. قال الحطاب: فإن كان في التركة وفاء بهما أخرجت كلها، وإن لم يكن بها وفاء بدئ بالأوكد فالأوكد منها. فآكد هذه الحقوق وأولاها بالتبدئة من رأس المال عند ضيقه الكفن وتجهيز الميت إلى قبره من أجرة الغسال والحمال والحفار والحنوط، ثم الدين، ثم الوصية، ثم الميراث.
وللإِرث أسباب، وموانع، وشروط، أما أسبابه فهي ثلاثة: القرابة والنكاح والولاء. وأما شروطه فثلاثة أيضًا هي: تحقق موت المورث، واستقرار حياة وارثه بعده، والعلم بالدرجة التي تجمعهما. وأما موانع الإِرث فهي خمسة: اختلاف الدين، والقتل عمدًا عدوانًا، والشك في السبب فهو مانع للحكم إجماعًا، والرق، واللعان. والحقوق المتعلقة بالتركة خمسة: حق ثابت قبل الموت؛ وهو إما متعلق بعينها؛ كالرهن والجناية وأم الولد، أو متعلق بالذمة؛ كالدين، وإما ثابت بالموت. وهو إمَّا للميت؛ وهي مؤن تجهيزه، أو لغير الميت بسببه وهي الوصية، أو لغيره بغير سببه وهي الإِرث.
نكتة: قدمت الوصية على الدين في لفظ الآية الكريمة، وهو مقدم عليها في الأداء، لأنه حق واجب على الميت، قال تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . قالوا: لشبهها بالموروث في الأخذ بغير عوض، ولمشقتها على الورثة بخلاف الدين، فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه، فقدمت عليه في الذكر حثًا على إخراجها والمسارعة بها.
(2)
قوله: ثم الباقي لوارثه: أي بالقرابة أو النكاح أو الولاء، فرضًا كان ميراثه أو تعصيبًا. وجملة الورثة سبعة عشر: عشرة من الرجال هم: الإبن، وابن الإبن وإن سفل، والأب، والجد أبو الأب وإن علا، والأخ، سواء كان لأب أو لأم أو لأب أو لأب وأم، وابن الأخ لأب وأم، أو لأب وإن سفل، والعم لأب ولأم أو للأب، وابناهما وإن سفلوا، والزوج، والمعتق.
والوارثات من النساء سبع هن: البنت، وبنت الإِبن وإن سفلت، والأم، والجدة أم الأم أو أم الأب، والأخت، سواء كانت لأب وأم أو لأب أو لأم، والمعتقة والزوجة.
فستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمان بالغير وهم: الأب، والإبن، والزوج، والأم، والبنت، والزوجة.=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والفروض المقدرة في كتاب الله تعالى ستة هي: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.
(3)
وقوله: من ذي النصف الزوج، أي عند عدم الولد لقوله تعالى:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ}
(1)
.
(4)
وقوله: وبنت، وبنت ابن إن لم تكن بنت، أي إذا لم يكن ولد للصلب، لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}
(2)
.
(5)
وقوله: وأخت شقيقة أو لأب إن لم تكن شقيقة، أي إذا لم يكن لها أخ لأب وأم لقوله تعالى:{وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}
(3)
.
(6)
وقوله: وعصب كلًا أخ يساويها: أي في درجتها من الميت، فتقسم التركة أو باقيها بعد أصحاب الفروض بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين لقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(4)
.
(7)
وقوله: والجدُّ، والأخريين الأوليان، معناه، وعصب الجد للميت الأخت الشقيقة أو لأب، لا البنت ولا بنت الإبن فإنه لا يعصبهما، وعصب الأخريين أي الأخت الشقيقة أو لأب الأوليان أي والبنت وبنت الإبن إن لم تكن بنت، تعصبان الأخت الشقيقة أو لأب كما يعصبهما الجد. قال الراجز:
والأخوات قد يصرن عاصبات
…
إن كان للميّت بنت أو بنات
أما تعصيب الجد للأخوات فلعله لأن الجميع يدلي إلى التركة بنفس الميت، وقد قال صاحب التلقين. ويقاسم إناثهن إذا انفردن؛ للذكر مثل حظ الأنثيين، قاله المواق.
وأما تعصيب الأخوات للبنات فلحديث البخاري. قال بابٌ: ميراث الأخوات مع البنات عصبة: حدثنا بشر بن خالد حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن الأسود قال: قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: النصف للإِبنة، والنصف للأخت، ثم قال سليمان: قضى فينا ولم يذكر: على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحدثنا عمرو بن عباس، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن
(1)
سورة النساء: 12.
(2)
و
(4)
سورة النساء: 11.
(3)
سورة النساء: 176.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أبي قيس عن هُزيل قال: قال عبد الله: لأقضينَّ فيها بقضاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لِلإِبْنَةِ النِّصْفُ وَلابْنَةِ الإِبْنِ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَلِلأُخْتِ". قال ابن حجر: قال ابن بطال: أجمعوا على أن الأخوات عصبة البنات، فيرثن ما فضل عن البنات. وحديت هزيل هذا أخرجه البغوي بسنده في السنة، ونص ذلك من رواية أبي قيس قال: سمعت هزيل بن شرحبيل يقول. سئل أبو موسى عن ابنة وبنت ابن وأخت، فقال: للبنت النصف وللأخت النصف، وائْت ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضي النبي صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف ولابنة الإبن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللآخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. ا. هـ. قال البغوى. وفي حديث هزيل دليل على أن الأخت للأب والأم أو لأب مع البنت عصبة، وهو قول عامة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا ابن عباس، فإنه قال: تسقط الأخت بالبنت لأن الله تعالى يقول: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}
(1)
. قال إنما جعل للأخت النصف إذا لم يكن للميت ولد. قال الخطابي أبو سليمان: وجه ما ذهب إليه الصحابة من الكتاب مع بيان الله التي رواها عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، أن المذكور في الآية إنما هو الذكور من الأولاد دون الإِناث، وهو الذي يسبق إلى الأوهام ويقع في المعارف عندما يقرع السمع، فقيل: ولد فلان، وإن كان الإناث أيضًا أولادًا في الحقيقة كالذكور. قال: ويدل لذلك قول الله سبحانه وتعالى، حكاية عن بعض الكفار:{لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}
(2)
. وقوله تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم}
(3)
. وقوله تعالى: التغابن: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}
(4)
. فكان معلومًا أن المراد بالولد في هذه الآيات كلها المذكور دون الإِناث، إذ كان مشهورًا من مذاهب القوم أنهم لا يتكثرون بالبنات ولا يرون فيهن موضع نفع وعز، بل كان مذاهبهم وأْدهن ودفنهن أحياء والتعفية لآثارهن. قال: فجرى التخصيص في هذا الاسم، كما جرى ذلك في اسم المال إذا أطلق في الكلام، فإنما يختص عرفًا بالإبل دون سائر أنواع المال، ومشهور في كلام أن يقال: غدا مال فلان وراح. يريدون سارحة الإِبل والمواشي دون ما سواها من أصناف =
(1)
سورة النساء: 176.
(2)
سورة مريم: 77.
(3)
سورة الممتحنة: 3.
(4)
سورة التغابن: 15.
ولِتَعَدُّدِهِنَّ الثُّلُثَانِ (1)، وللثَّانِيَةِ مَعَ الأولَى السُّدُسُ وإنْ كَثُرْنَ (2)، وحَجَبَهَا ابْنٌ فَوْقَهَا، وبنتانِ فَوْقَهَا، إلَّا الابْنَ في دَرَجَتِهَا مُطْلَقًا أوْ أسْفَلَ فمُعَصِّبٌ (3). وأُخْتٌ لأب فأكْثَرُ مَعَ الشَّقِيقةِ فأكثر، كذلك إلا أَنَّه إنَّما يُعَصِّبُ الأخ. والرُّبُعُ الزَّوْجُ بِفرْع (4) وزَوجَةٌ فأكَثرُ (5)، والثُّمُنُ لَهَا أَو لَهُنَّ بِفرْع لَاحِقٍ (6). والثُّلُثَيْنِ لِذي النِّصْفِ إن تَعَدَّدَ. والثُّلُث لأمٍّ وَوَلَدَيْهَا فأكْثَر (7)، وَحَجَبَهَا مِنَ الثُّلُثِ للسُّدُسِ ولَدٌ وإنْ سَفَلَ وأخَوَانِ أو أُخْتَانِ مُطْلَقًا. ولَهَا ثُلُثُ الْبَاقي في زَوج وأبوَيْنِ، وزوجَةٍ وأبوَيْنِ (8). والسُّدُسُ لِلْوَاحِدِ مِن وَلَدِ الْأمِّ مُطْلَقًا (9)، وسَقَط بِابْنٍ وابْنِه وبنْتٍ وإنْ سفَلَتْ وأب وجَدٍّ (10)، والْأبِ أَوِ الأمٍّ مَعَ وَلَدٍ وإن سَفَل (11)، والجَدَّةِ فأكثر، وأسْقطَهَا الأمُّ مُطْلقًا (12)، والأبُ الجدَّةَ من قِبَلِهِ، والْقُرْبَى من جِهَةِ الأمِّ الْبُعْدَى مِن جِهَة الأبِ وإلَّا اشْتَركَتَا (13)، وأحَدُ فُروضِ الجَدِّ غَيْرِ المُدْلي بأُنْثَى (14). ولَهُ مَعَ الإِخْوَةِ أَوِ الأخَواتِ الأشِقَّاءِ أو لأبٍ الْخَيْرُ من الثُّلُثِ أو الْمُقَاسَمَةِ، وعادَّ الشَّقِيقُ بِغَيْرهِ ثُم رَجَعَ كالشَّقِيقَةِ بِمَا لَهَا لَوْ لَمْ يَكُن جَدٌّ، ولَهُ مَعَ ذَي فَرْضٍ مَعَهُمَا السُّدُسُ أو ثُلُثُ الْبَاقِي أو المقاسَمَةُ. ولا يُفْرَضُ لأخْت مَعَهُ إلَّا في الأكْدَرِيَّةِ والْغَرَّاءِ: زَوْجٌ، وَجَدٌّ وأمٌّ،
= المال. قال: وإذا ثبت أن المراد بالولد الذكور في قوله سبحانه وتعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} . دون الإناث، لم يمنع الأخوات الميراث مع البنات. انتهى منه بلفظه.
(1)
وقوله: ولتعددهن الثلثان: أي ولتعدد ذوات النصف من بنت وبنت ابن إن لم تكن بنت، والأخت الشقيقة، ولأب إن لم تكن شقيقة، فللبنتين فأكثر، ولابنتي ابن فأكثر إن لم تكن بنت، ولأختين شقيقتين فأكثر، ولأخين لأب فأكثر لم تكن شقيقة، الثلثان. ودليل ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}
(1)
. فيما يخص تعدد البنات. وأما الأخوات المتعددات فلقوله =
(1)
سورة النساء: 11.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} .
(2)
وقوله: وللثانية مع الأولى السدس وإن كثرن، تقدم دليله من حديث هزيل، فأغنى ذلك عن إعادته. والحمد لله.
(3)
وقوله: وحجبها ابن فوقها وبنتان فوقها إلا الابن في درجتها مطلقًا فمعصب، أي ومنع بنت الإبن من الإرث ابن للميت أو لابنه أعلى منها بدرجة أو أكثر، ومنعها من الإرث أيضًا بنتان للميت أو لابنه فوقها فيحجبانها من الإِرث في كل حال، إلا لوجود ابن لابن الميت معها في درجة واحدة فيعصبها مطلقًا. سواء كان أخًا لها أو ابن عم لها في درجتها، فترث معه في الثلث الباقي، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقوله: وأخت لأب فأكثر مع الشقيقة فأكثر كذلك، دليله حديث هزيل أيضًا وقد تقدم، والحمد لله.
(4)
وقوله: والربعُ الزَّوْجُ بفرع، أي إن كان للميتة ولد، لقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
(1)
.
(5)
وقوله: وزوجة فأكثر، أي إذا لم يكن للميت ولد، لقوله سبحانه وتعالى:{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ}
(2)
.
(6)
وقوله: والثمن لها أو لهن بفرع لا حق، أي والثمن فرض الزوجة إذا كان للميت ولد، ولو تعددت الزوجة أو اتحدت، وذلك لقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم}
(3)
.
(7)
وقوله: والثلث لأم وولديها فأكثر، أي والثلث فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد، ولا اثنان من الإخوة، لقوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}
(4)
والثلث أيضًا فرض الاثنين من أولاد الأم فصاعدًا، ذكرهم وأنثاهم فيه سواء. لقوله تعالى:{فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}
(5)
.
والثلث أيضًا فرض الجد مع الإِخوة للأب والأم، أو للأب، في بعض الأحوال على مذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه. =
(1)
و
(2)
و
(3)
و
(5)
سورة النساء: 12.
(4)
سورة النساء: 11.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (8) وقوله: ولها ثلث الباقي في زوج وأبوين، وزوجة وأبوين، تقدم بيان أن ذلك كان باجتهاد زيد بن ثابت وجمهور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استنباطًا من قوله تعالى:{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} . الآية.
(9)
وقوله: والسدس للواحد من ولد الأم مطلقًا، أي ذكرًا كان أو أنثى لقوله تعالى:{وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}
(1)
.
(10)
وقوله: وسقط بابن وابنه وبنت وإن سفلت وأب وجد، بدليل أن القرآن الكريم إنما أعطى للأخ للأم هذا الفرض بشرط عدم وارث من أصله ولا من فرعه، على رأي جمهور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ}
(2)
الآية، قالوا: الكلالة من لا ولد له ولا والد. وروي عن الشعبي أن أبا بكر سئل عن الكلالة فقال: إني سأقول فيها رأي فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمنِّي ومن الشيطان: أراه ما خلا الوالد والولد. والله الموفق.
(11)
وقوله: والأبِ والأمِّ مع ولد وإن سفل، بدليل قوله تعالى:{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}
(3)
.
(12)
وقوله: والجدَّةِ فأكثر وأسقطها الأم مطلقًا، روى أبو داود بسنده عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال: مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة نبيِّ الله شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه تسأله ميراثها فقال: مالك في كتاب الله شيء وما كان القضاء الذي قضى به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكن هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها. ا. هـ. وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه، ونسبه المنذري للنسائي، وأخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. وأخرجه مالك في الموطإ. وأخرج أبو داود أيضًا بسنده عن ابن بريدة عن أبيه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إذا لم تكن دونها أم. ا. هـ. قال المنذري وأخرجه النسائي. وقال القرطبي: أجمع أهل العلم على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أمٌّ. وأجمعوا على أن الأم تحجب أمها وأم الأب. وأجمعوا على أم الأب لا =
(1)
و
(2)
سورة النساء: 12.
(3)
سورة النساء: 11.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يحجب أم الأم. واختلفوا في توريث الجدة وابنها حيٌّ؛ فقالت طائفة: لا ترث الجدة وابنها حيٌّ؛ روي
ذلك عن زيد بن ثابت وعثمان وعليّ، وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: ترث الجدة مع ابنها، روى عن عمر، وابن مسعود، وعثمان وعلي، وأبي موسى الأشعري، وبه قال شريح، وجابر بن زيد، وعبيد الله بن الحسن، وشريك، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وقال: كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب، كذلك الجَدة لا يحجبها إلّا الأم.
(13)
وقوله: والأب الجدة من قبله، والقربى من جهة الأم البعدى من جهه الأب وإلا اشتركتا، حاصل المقام هنا أن العلماء في توريث الجدات، فقال مالك: لا يرث إلا جدتان: أمُّ الأمِّ، وأمُّ الأبِ، وأمَّهاتُهما، وكذلك روى أبو ثور عن الشافعي، وقال به جماعة من التابعين. فإن انفردت إحداهما فالسدس لها، وإن اجتمعا وقرابتهما سواء فالسدس بينهما، وكذلك إن كثرن إذا تساوين في القُعْدُد. وهذا كله مجمع عليه. فإن قربت التي من قبل الأم كان لها السدس دون غيرها، وإن قربت التي من قبل الأب كان بينها وبين التي من قبل الأم وإن بعُدت. ولا ترث إلا جدة واحدة من قبل الأم. ولا ترث الجدة أم أب الأم بحال من الأحوال. هذا مذهب زيد بن ثابت، وهو أثبت ما روي عنه في ذلك، وهو قول مالك وأهل المدينة. وقيل: الجدَّات أمهات فإذا اجتمعن فالسدس لأقربهن، قال ابن المنذر: وهذا أصَحُّ وبه أقول
…
وكان الأوزاعي يورث ثلاث جدات: واحدة من قبل الأم واثنتين من قبل الأب، وهو قول الإِمام أحمد بن حنبل، ورواه الدارقطني مرسلًا.
وروي عن زيد بن ثابت عكس هذا؛ أنه كان يورث ثلاث جدات؛ ثنتين من جهة الأم وواحدة من قبل الأب، وبه يقول عليّ رضي الله عنه، وكانا يجعلان السدس لأقربهما من قبل الأم كانت أو من قبل الأب، ولا يشركها فيه من ليس في قُعْدُدِها، وبه يقول الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور. انتهى من القرطبي بتصرف.
(14)
وقوله: وأحد فروض الجد غير المدلي بأنثى. ألخ .. هذا أول الكلام على ميراث الجد، إن أهلًا اختلفوا في ميراث الجد مع الإخوة للأب والأم، أو للأب، فذهب جماعة إلى أن الجد يسقطهم كالأب، وممن قال هو أب وحجب به الإِخوة، أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولم يخالفه أحد من الصحابة في ذلك مدة حياته خليفة، وإنما اختلفوا بعد وفاته؛ فقال بقول أبي بكر كل من ابن عباس، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وعبد الله بن الزبير، وعائشة، ومعاذ بن جبل، وأبيُّ بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو هريرة رضي الله عنهم، فكلهم يجعل الجد عند عدا الأب كالأب لا يرث الإخوة معه شيئًا. وبهذا قال عطاء، وطاوس، والحسن، وقتادة، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأبو ثور، وإسحاق. واحتجوا لمذهبهم بقوله تعالى:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} . {يَابَنِي آدَمَ} . وبقوله صلى الله عليه وسلم. "يَا بَني إسْمَاعِيلَ ارْمُوا، فَإِن أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا". رواه البخاري.
وذهب عليُّ بن أبي طالب، وزيد وابن مسعود إلى توريث الجد مع الإِخوة، ولا يُنقص من الثلث مع الإِخوة للأب والأم أو للأب، إلا مع ذوي الفروض، فإنه لا يُنقص معهم من السدس شيئًا في قول زيد. وهذا قول مالك، والأوزاعي، وأبي يوسف، ومحمد، والشافعي. وكان عليّ يشرك بين الجد والإخوة إلى السدس ولا ينص من السدس شيئًا مع ذوي الفروض وغيرهم. وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة.
وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث الأب، وأن الإِبن يحجب أباه.
تنبيهٌ: أول جد ورث في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مات ابن لعاصم بن عمر، وترك أخوين له، فأراد عمر رضي الله عنه أن يستأثر لماله. روى الدارقطني عن زيد بن ثابت أن عمر بن الخطاب استأذن عليه يومًا فأذن، ورأسه في يد جارية له ترجله، فنزع رأسه، فقال له عمر: دعها ترجلْك. فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إليَّ جئتك. فقال عمر: إنما الحاجة لي، إنما جئتك لتنظر في أمر الجد فقال زيد: لا والله ما تقول فيه. فقال عمر: ليس هو بوحي حتى نزيد فيه أو ننقص، إنما هو شيء تراه، فإن رأيته وافقني تبعته: وإلا لم يكن عليك فيه شيء. فأبى زيد، فخرج مغضبًا وقال. قد جئتك وأنا أظن ستفرغ من حاجتي. ثم أتاه مرة أخرى في الساعة التي أتاه في المرة الأولى، فلم يزال به حتى قال: سأكتب لك فيه. فكتب في قطعة قَتَب وضرب له مثلًا. إنما مثله مثل شجرة تنبت على ساق واحدة. فخرج فيها غصن ثم خرج مع الغصن غصن آخر، فالساق يسقي الغصنين، فإن قطعت الغصن الأول رجع الماء إلى العصر الثاني، ولو قطعت الثاني رجع إلى الأول. فأتى به فخطب الناس عمر ثم قرأ قطعة القتب عليهم، ثم قال: إن زيد بن ثابت قد قال في الجد قولًا وقد أمضته. قال: وكان عمر أول جد ورث، فأراد أن يأخذ المال كله، مال ابن ابنه دون إخوته. فقسمه بعد ذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه. ا. هـ. بنقل القرطبي.
وأخْتٌ شقِيقةٌ أو لأبٍ، فيُفْرضُ لَهَا وَلَهُ ثَمَّ يُقاسمُها. وإنْ كانَ مَحلَّها أخٌ لأب ومعه إخْوَةٌ لأم سَقَطَ. ولعاصب ورث المال أو الباقي بعد الفرض (1)، وهُوَ الإبْنُ ثُمَّ ابْنُه، وعصَّبَ كُلُّ أخْتَهُ، ثُمَّ الأبُ ثُمَّ الجَدُّ والإخْوَةُ كما تَقَدَّم، الشّقيق ثمَّ لِلأب، وهو كالشقيق عِنْدَ عَدَمِهِ إلَّا في الحِمَاريَّةِ والمشْتَركَةِ: زَوْجٌ وأمٌّ أو جدَّةٌ وأَخَوانِ لأمٍّ وشَقيقٌ وحْدَه أو مَعَ غيره، فمُشَارِكونَ الإِخْوَةَ للأمِّ الذَّكَرُ كالأنْثَى. وأسْقَطَه أيضًا الشَّقيقَةُ التي كالْعَاصِب لبنت أو بنت ابن فأكثر.
(1)
وقوله: ولعاصب ورث المال أو الباقي بعد الفرض، دليله حديث ابن عباس المتفق عليه ولفظ البخاري: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا وهيب، حدثنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقيَ فَهُوَ لأِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ". قال الخطابي أبو سليمان: معنى "أوْلَى" ههنا أقرب، والوَلْيُ القرب، يريد أقرب العصبة إلى الميت، كالأخ والعم، فإن الأخ أقرب من العم، وكالعم وابن العم، فإن العم أقرب من ابن العم، وعلى هذا المنوال.
قال: ولو كان قوله "أَوْلَى" بمعنى أحق نبقي الكلام مبهمًا لا يستفاد منه بيان الحكم، إذ كان لا يدرى من الأحق ممن ليس بأحق، فعلم أن معناه أقرب النسب على ما فسرناه والله أعلم. ا. هـ. وبمثل ما فسر به الخطابي، قال البغوي:"لأوْلَى رَجُلٍ" أي لأقرب رجل، والولْيُ القرب، وأراد قرب النسب، وقوله تعالى:{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}
(1)
، أي قاربك ما تكره فاحذر. ا. هـ. منه.
فإذا سمعت ذلك فاعلم أن ما فضل من التركة عن الفروض يعطى أولًا لأولاد الصلب؛ للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(2)
وإن كان في ولد الصلب ذكر لم يكن لولد الولد شيء، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم. وإن لم يكن في ولد الصلب ذكر، وكان في ولد الولد، بديء بالبنات للصلب يعطين إلى مبلغ الثلثين، ثم الثلث الباقي لولد الولد إذا استووا في القُعدُدِ، أو كان الذكر منهم أسفل من البنات، للذكر مثل حظ الأنثيين. هذا قول مالك، والشافعي وأصحاب الرأي. وبه قال عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا ما روي عن ابن مسعود أنه قال على ما ذكره عنه الباجي وابن المنذر: أن ما فضل عن بات الصلب لبني الإبن=
(1)
سورة القيامة: 34.
(2)
سورة النساء: 11.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= دون بنات الإبن، ولم يفصلا. وحكاه ابن المنذر أيضًا عن أبي ثور.
وقال أبو عمر: وخالف في ذلك ابن مسعود فقال: وإذا استكمل البنات الثلثين، فالباقي لبني الإبن دون أخواتهم ودون من فوقهم من بنات الإبن، ومن تحتهم. قال: وإلى هذا ذهب أبو ثور وداود بن علي، وروي مثله عن علقمة، واحتجوا بحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ".
وأجاب الجمهور عن ذلك بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} لأن ولد الولد ولد، ومعلوم من جهة النظر والقياس أن كل من يعصب من في درجته في جملة المال كان حريًا أن يعصبه في الفاضل من المال عن الفروض؛ كأولاد الصلب، فوجب لذلك أن يشرك ابن الإبن أخته، كما يشرك ابن الصلب أخته، فإن قيل: بنت الابن لما لم ترث شيئًا من الفاضل بعد الثلثين منفردة، لم يعصبها أخوها إن وجد، فالجواب: إنها إذا كان معها أخوها قويت به وصارت عصبة معه. والله تعالى يقولْ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} . وهي من الولد.
تنبيهٌ: استشكل بعض طلبة العلم وجه إعطاء البنتين الثلثين من التركة، وقد قال الله تعالى:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}
(1)
. قالوا: فرض الله للواحدة النصف، وفرض لما فوق الثنتين الثلثين، ولم يفرض للثنتين فرضًا في كتابه، فأين مدرك إعطائهما الثلثين؟ فإن قيل: الإجماع، قيل: ذلك مردود بما روي عن ابن عباس أن الصحيح أنه يعطى البنتين النصف؛ لأن الله تعالى يقول: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}
(2)
قال: هذا شرط وجزاء، فلا أعطي البنتين الثلثين.
والتحقيق إن شاء الله أن الدليل في إعطائهن الثلثين من السنة، وهو حديث جابر بن عبد الله الصحيح المروي في سبب نزول آية المواريث هذه: أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، إنَّ سعد هلك وترك بنتين وأخاه، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن، فلم يجبها في مجلسه ذلك، ثم جاءته فقالت: يا رسول الله، ابنتا سعد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ادْع لِي أَخَاهُ". فجاء فقال له: "ادْفَعْ إِلَى ابْنَتَيْهِ الثُّلُثَيْنِ وَإلَى امْرَأتِهِ الثُّمُنَ وَلَكَ مَا بقي". فهذا نص من السنة صريح في إعطاء البنتين الثلثين، والله الموفق.
(1)
و
(2)
سورة النساء: 11.
ثمَّ بَنوهُمَا، ثمَّ الْعَمُّ الشَّقيق ثُمَّ لأبٍ، ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ الأقْرَبُ فَالأقْربُ، وإن غير شَقيقٍ وقُدِّمَ مَعَ التَّسَاوي الشقيق مُطْلَقًا ثُمَّ المُعْتقُ كما تَقَدَّمَ، ثمَّ بَيْتُ الْمَالِ، وَلَا يُرَدُّ وَلَا يُدْفَعُ لِذَوِي الأرْحَام (1). وَيرثُ بِفَرْضٍ وعُصُوبَةٍ الأبُ ثُمَّ الجَدُّ مَعَ بِنْتِ وإنْ سَفَلَتْ، كابْن عَمٍّ أخٌ لِأمٍّ. وَوَرِثَ ذوُ فَرْضَيْنِ بالأقْوَى وَإنْ اتَّفَقَ ذلك في المُسْلِمِينَ كأُمٍّ أوْ بِنْتٍ أخْتٌ. ومَالُ الكِتابِيِّ الحُرِّ المؤدِّي للجزْيَةِ، لأهْلِ دِينِهِ منْ كَوَرثَتِهِ. والأصول اثْنَانِ، وأرْبَعَةٌ، وثَمَانِيةٌ، وثلاثةٌ، وَسِتَّةٌ واثْنا عَشَرَ، وأرْبَعَةٌ وَعشرُون. فالنَّصفُ مِن اثنين، والربُعُ من أرْبَعَةٍ، والثُّمُنُ مِن ثَمَانِيةٍ، والثُّلُثُ من ثَلاثَةٍ والسُّدُسُ من سِتَّةٍ، والربع والثُّلُثُ أو السُّدُس من اثنَيْ عَشَر، والثُّمُنُ والثُّلُثُ أو السُّدُسُ من أربَعَةٍ وعشْرِين.
وَمَا لا فَرْضَ فيها فأصْلُهَا عَدَدُ عَصَبَتِهَا وضُعِّفَ لِلذَّكَرِ على الأُنْثَى. وإن زَادَتْ الْفُروضُ أُعِيلتْ (2): فَالْعَائلُ السِّتَّةُ لِسَبْعَةٍ ولِثَمَانِيَةٍ ولِتسْعَةٍ ولِعَشَرَةٍ، والاثنا عَشَر لثلاثَةَ عَشَرَ وخَمْسَةَ عَشَرَ وسَبْعَةَ عَشَرَ، والأربعةُ والعِشْروُنَ لِسَبْعَةٍ وعشرين زَوْجَةٌ وأبَوانِ وابْنَتَانِ، وهِيَ المنبريةُ لِقَوْلِ عَليٍّ: صَارَ ثُمُنُهَا تُسْعًا.
(1)
وقوله: ثم بيت المال، ولا يرد ولا يدفع لذوى الأرحام، تقريره: إذا لم يكن عاصب للميت ولا ولاء من عتق، كان وارثه بيت المال؛ يرثه المسلمون بأخوة الإِسلام، ولا نص، بل هذه المسألة بالاجتهاد، قال: ولا يرد. أي ولا يرد ما فضل عن أصحاب الفروض على ذوي الفروض، وبالرد على أصحاب الفروض قال عليّ وهو مذهب أبي حنيفة. قال. ولا يدفع لذوي الأرحام، ومراده بذوي الأرحام مثل الخال، والخالة، وابي الأم، وولد البنت، وولد الأخت، وبنت الأخ، والعمة، وبنت العم. قال مالك في الموطإ: الأمر المجمع عليه عندنا الذي لا اختلاف فيه، والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن ابن الأخ للأم، والجَدَّ أبا الأم، والعمَّ أخا الأب للأمِّ، والخال، والجدة أمَّ أتى الأم، وابنة الأخ للأب والأمَّ، والعَمَّة والخالة، لا يرثون بأرحامهم شيئًا. ا. هـ. وبهذا قال جماعة من علماء =
ورَدَّ كُلَّ صِنْفٍ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُهُ إلى وَفْقِهِ، وإلَّا تَركَ وقَابَلَ بيْنَ اثنين فأخَذ أحَدَ المثْلَيْنِ أوْ أكثر المُتَداخِلَيْنِ وحَاصِلِ ضَرْبِ أحَدِهِمَا في وَفْقِ الآخَر إنْ تَوَافَقا، وَإلَّا فَفِي كُلِّهِ إِنْ تَبَايَنَا ثُمَّ بَيْنَ الْحَاصِلِ والثَّالِثِ ثُمّ كذلِكَ، وضُرِبَ في الْعَوْلِ أيْضًا وفي الصِّنْفَيْن اثنتا عَشْرَةَ صُورَةً لأنَّ كلَّ صِنْفٍ إمَّا أنْ يُوَافِقَ سِهَامَهُ أو يُبَايِنَها أو يوافق أحَدهمَا ويُباينَ الآخَرَ، ثُمَّ كُلٌّ إمَّا أن يَتَدَاخَلَا أو يَتَوافَقَا أو يتبايَنا أو يتَمَاثَلَا، فالتَّدَاخُلُ أَن يُفْنِيَ أحَدُهُما الآخر أوَّلًا، وإلا فإن بَقيَ واحدٌ فمُتَبَاينٌ، وإلَّا فالمُوافَقَةُ بِنِسْبَةِ مُفْرَدٍ لِلْعَدَدِ المفْنِي آخِرًا، ولِكلٍّ مِن التَّركةِ بِنِسْبَةِ حَظِّهِ مِن المسْأَلَة. أو تَقْسِيمَ التركَةِ على مَا صَحَّتْ مِنْهُ المسْأَلَة كزَوْج وأُمٍّ وأخْتٍ للزوْجِ ثلاثةٌ والتركةُ عشْرُونَ فالثلاثَةُ من الثمانيةِ رُبُعٌ وثُمُنٌ فيأخُذ سَبْعَةً ونصفًا، وإنْ أخَذَ أحَدُهُمْ عَرْضًا أخَذَهُ بِسَهْمِهِ وأَرَدْتَ مَعْرفَة قيمَته فاجْعَلْ المسألة سِهَامَ غير الآخِذِ ثُمَّ اجْعَلْ لِسهَامِهِ من تِلْكَ النِّسْبَةِ، فإنْ زَاد خَمْسَةً ليأخُذَ فَزِدْهَا عَلى الْعِشْرِينَ ثُمَّ اقْسِمْ.
= المسلمين، منهما أبو بكر الصديق وزيد بن ثابت، وابن عمر، ورواية عن عليّ، وهو قول أهل المدينة، وروي مكحول الآوزاعي، وبه قال الشافعي، عليهم رحمه الله.
وقال بتوريث ذوي الأرحام عمر بن الخطاب، وابن مسعود، ومعاذ وأبو الدرداء وعائشة، ورواية عن عليّ، وذهب إليه أهل الكوفة، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بقوله تعالى. {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
(1)
. قالوا: فقد جمع أولو الأرحام سببين؛ القرابة والإِسلام، فكانوا أولى ممن له سبب واحد وهو الإِسلام. وأجاب الأولون فقالوا: هذه آية مجملة جامعة، وظاهرها كل رحم قرب أو بعد، وآيات المواريث مفسرة لذلك الإِجمال، والمفسر قاضت على المجمل ومبين له. واحتجوا أيضًا بما رواه المقدام الكندي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَنَا وَارِثُ مِنْ لَا وَارِثَ لَهُ، أَفُكُّ عَانِيَهُ، وَأَرِثُ مَالَهُ، وَالْخالُ وارِثُ مَنْ لَا وَارثَ لَهُ، يَفُكَّ عَانَيْهُ وَيَرثُ مَالَهُ".
(1)
سورة الأنفال: 75.
وإنْ مَاتَ بَعْضٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَوَرِثَهُ الْبَاقُونَ كَثَلَاثَةِ بَنينَ مَاتَ أحَدُهُمْ أو بَعْضٌ كَزَوْج مَعَهُمْ ولَيْسَ أبَاهُمْ فكالْعَدَمِ وإلَّا صَحِّحِ الأُولى ثُمَّ الثانِيةَ، فإن انْقَسَمَ نصيبُ الثَّاني على وَرَثَتِهِ كابْنٍ وبِنْتٍ مَاتَ وتَرَكَ أخْتًا وعَاصِبًا صَحَّتَا وإلَّا وفِّقْ بَمنَ نَصِيبِهِ وَمَا صَحَّتْ مِنْهُ مَسْألَتُهُ، واضْرِبْ وَفْقَ الثَّانِيةِ في الأُولَى كابْنَيْنِ وابْنَتَيْنِ مَاتَ أحَدُهُمَا وَتَركَ زَوْجَةً وبِنْتًا وثَلَاثَةَ بني ابْنٍ، فمن لَهُ شَيءٌ مِنَ الأولى ضُرِبَ لَهُ في وَفْقِ الثَّانِيةِ، ومَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّانِيَةِ فَفِي وَفْقِ سِهَامِ الثَّاني وإن لمْ يتوافَقَا ضَرَبْتَ ما صَحَّتْ مِنْهُ مَسْألتُهُ فيمَا صَحَّتْ مِنْهُ الأُولى كمَوْتِ أحَدِهمَا عَنِ ابْنٍ وبِنْتٍ.
وتأول مالك والشافعي ومن يقول بقولهما في عدم توريث ذوي الأرحام، تأولوا حديث المقدام على أنه طعمة أُطعمها الخال عند عدم الوارث، لا على أن يكون للخال ميراث راتب، قالوا: ولكنه لما جعله يخلف الميت فيما يصير إليه من المالِ سماه وارثًا على سبيل المجاز على نحو قولهم: الصبر حيلة من لا حيلة له، والجوع طعام من لا طعام له ونحو ذلك. وفي تفسير القرطبي: وروى أبو هريرة قال: سئل النبي عن ميراث العمة والخالة فقال: "لَا أَدْرِي حَتَّى يَأْتِيَنِي جِبْرِيلُ". ثم قال: "أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ ميرَاثِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ"؟ قال فأتى الرجل، قال:"سَارَّنِي جِبْرِيلُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُمَا". قال الدارقطني: ضعف لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف. وروي عن الشعبي قال: قال زياد بن أبي سفيان لجليسه: هل تدري كيف قضى عمر في العمة والخالة؟ قال لا: قال: إنّي لأعلم خَلق الله كيف قضى فيهما عمر، جعل الخالة بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة الأب. ا. هـ. من القرطبي والله أعلم بسنده، فإن مالك بن أنس أخرج في الموطإ عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الرحمن بن حنظلة الزَّرقي أنه أخبره عن مولىً لقريش كان قديمًا يقال له ابن مرْسَى أنه قال: كنت جالسًا عند عمر بن الخطاب فلما صلّى الظهر قال: يا يرفأُ هَلُمَّ ذلك الكتاب، كتاب كتبه في شأن العمَّة. فنسأل عنها ونستخبر عنها. فأتاه به يرفأ، فدعا بتور أو قدح فيه ماء، فمحا ذلك الكتاب فيه ثم قال: لو رضيك الله وارثة أقرَّك، لو رضيك الله وارثة أقركِ. =
وإنْ أقَرَّ أحَدُ الْوَرَثَةِ فَقَطْ بِوَارِثٍ فَلَهُ مَا نَقَصَهُ الإِقْرَارُ تَعْمَلْ فَريضَةَ الإِنْكَارِ ثُمَّ فريضَةَ الإِقْرارِ ثُمَّ انْظُرْ مَا بَيْنَهُمَا مِن تَدَاخُلٍ وتَبَايُنٍ وتَوَافُقٍ الأول والثَّاني كشَقِيقَتَيْنِ وعَاصِبٍ أَقَرَّتْ وَاحِدَةٌ لشَقِيقَةٍ أوْ بِشَقِيقٍ، والَثَّالتُ كابنتَيْنِ وابْنٍ أقَرَّ بابْنٍ، وإنْ أقَرَّ ابْنَ ببِنْتٍ وبِنْتٌ بابْنٍ فالإِنْكارُ من ثَلاثَةٍ وَإقْرارُهُ مِنْ أرْبَعَةٍ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ فتَضْرِبُ أربَعَةً في خَمْسَةٍ بِعِشْرِينَ ثُمَّ في ثلاثَةٍ، يَرُدُّ الابْنُ عَشَرَةً وَهِيَ ثَمانِيةً. وإنْ أقَرَّتْ زَوْجَةٌ حَاملٌ وأحَدُ أخَوَيْهِ أنَّهَا وَلَدَتْ حَيًّا، فالإِنكارُ مِن ثمَانِيةٍ كَالْإِقْرارِ، وفريضةُ الابْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ تُضْربُ في ثَمانِيةٍ.
وإنْ أوْصَى بِشَائع كَرُبُعٍ أو جُزْءٍ من أحَدَ عَشَرَ، أُخِذَ مَخْرَجُ الْوَصِيَّةِ، ثُمَّ إنْ انْقَسَمَ الْبَاقي على الفَريضةِ كَابْنَيْنِ وَأوْصَى بِالثلُث فَوَاضِحٌ وإلَّا وَفِّقْ بَيْنَ الْبَاقِي والمَسْألَةِ واضْرِبْ الْوَفْقَ في مَخْرَجِ الوَصِيَّةِ كأرْبَعَةِ أوْلَادٍ وَإلَّا فكامِلُهَا كثلَاثَةٍ. وإنْ أوْصى بِسُدُسٍ وسُبُع ضَرَبْتَ ستَّةً في سَبْعَةٍ ثُمَّ في أصْلِ المسْألَةِ أوْ في وَفْقِهَا.
= وحدثني مالك عن محمد بن أبي بكر بن حزم أنه سمع أباه كثيرًا يقول. كان عمر بن الخطاب يقول: عجبًا للعمة تورث ولا تَرِثُ.
(2)
وقوله: وإن زادت الفروض أُعيلت، لم يرد في العول شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله تعالى: ولكن آثارًا وردت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل إن أول من أفتى بالعول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقد أخرج البيهقي بسنده عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه أول من أعال الفرائض، وكان أكثر ما أعالها به الثلثين.
وقيل أول من أعال الفرائض عليّ رضي الله عنه كما ورد عنه في المنبرية، فقد أخرج البيهقي أيضًا في السنن الكبرى لسنده إلى شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه في امرأة وأبوين وبنتين قال: صار ثُمنها تُسُعًا.
ولَا يرثُ مُلَاعِنٌ وَمُلَاعِنَةٌ (1) وتَوْأمَاهَا شَقِيقَتَانِ، ولَا رَقيقٌ (2). ولسَيِّدِ المُعْتَقِ بَعْضُهُ جَمِيعُ إرْثِهِ. ولَا يُورَثُ إلَّا المُكاتَبَ ولَا قَاتِلٌ عَمْدًا عُدْوَانًا (3)، وإنْ أتَى بِشُبْهَةٍ كَمُخْطِئٍ مِنَ الدّيَةِ (4)، ولَا مُخالِفٌ في دِينٍ (5) كمُسْلِمٍ مَعَ مُرْتَدٍّ أوْ غَيْرِه (6)، وكيَهُودِيٍّ مَعَ نَصْرَانيٍّ وسِوَاهُمَا مِلَّةٌ. وحُكِمَ بَيْنَ الكُفَّار بُحكْم
= وقيل: أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن أبي بكر عن أبي إسحاق قال ثنا الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: دخلت أنا وزفر بن أوس بن الحدثان علي ابن عباس بعدما ذهب بصره، فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال ترون الذي أحصى رمل عالج عددًا لم يحص في مالٍ نصفًا نصفًا وثلثًا ثلثًا؟ إذا ذهب نصف ونصف فأين موضع الثلث؟
فقال له زفر: يا ابن عباس، من أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ولم؟ قال لما تدافعت عليه وركب بعضها بعضًا، قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم؟ والله ما أدري أيكم قدم الله ولا أيكم أخر؟ قال: وما أجد في هذا المال شيئًا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص. ثم قال ابن عباس: وأيمُ الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة. فقال له زفر: وأيهم قدم وأيهم أخر؟ فقال: كل فريضة لا تزول إلا إلى فريضة فتلك التي قدم الله، وتلك فريضة الزوج له النصف، فإن زال فإلى الربع لا ينقص عنه، والمرأة لها الربع فإن زالت عنه صارت إلى الثمن لا تنقص عنه، والأخوات لهن الثلثان والواحدة لها النصف فإن دخل عليهن البنات كان لهن ما بقي، فهؤلاء الذين أخر الله، فلو أعطى من قدم الله فريضة كاملة، ثم قسم ما بقي بين من أخر الله بالحصص، ما عالت فريضة. فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هيبته والله. قال ابن إسحاق فقال لي الزهري: وأيمُ الله لولا أنه تقدمه إمام هدى، كان أمره على الورغ، ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم. ا. هـ.
(1)
وقوله: ولا يرث ملاعِن وملاعِنة، نقل المواق عن ابن علَّاق: وإذا نفى الزوج ولده من زوجته باللعان فإنه ينتفى منه، ويقطع التوارث بينهما، وترثه أمه وأخوه لأمه وموالي أمه، لا عصبة أمه. وقال الجلاب: ويرث هو أيضًا أمه. وقال على رضي الله عنه: إن لم يرثه ذو سهم كان ما تركه لعصبة أمه، =
المُسْلِمِ إن لم يَأبَ بَعْضٌ أنْ يُسْلِمَ بَعْضٌ فكذلِك إن لم يَكُونُوا كِتَابِيِّين وإلّا فبحكْمهِمْ.
= وتصير شقيقته أختًا لأمه إذا كانا في بطن واحد وبقي الحمل، فإنهما يتوارثان على أنهما شقيقان. ا. هـ. منه.
وفي ذلك أخرج أبو داود بسنده عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْمَرْأة تَحُوزُ ثَلَاثَةَ موَارِيثَ عَتِيقِهِا، وَلَقِيطِها، وَوَلَدِهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَنْهُ".
وهذا الحديث أخرجه الترمذي، وابن ماجه، ونسبه المنذري للنسائي. وأخرج أبو داود أيضًا بسند عن مكحول قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مراث ابن الملاعنة لأمه. ولورثتها من بعدها. وأخرج أبو داود أيضًا بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله.
قال الخطابي أبو سليمان: قال مالك والشافعي: إن كانت الملاعنة مولاة، كان ما فضل عن سهمها من ميراثها من ابنها لمواليها، وإن كانت عربية، فإن ما بقي لبيت المال. وهذا قول الزهري. قال وقال الإِمام أحمد بن حنبل: ترثه أمه وعصبة أمه، وقد روي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا: الأم عصبة من لا عصبة له. وقال: ظاهر قوله: "ابْنُ الْمُلَاعِنَةِ مِيرَاثُهُ لِأُمِّه". إن جميع ماله لأمه في حياتها ولورثتها إن كانت أمه قد ماتت. وإلى هذا ذهب مكحول والشعبي، وهو قول سفيان الثوري. وقال أبو حنيفة ميراث ابن الملاعنة كميراث غيره ممن يموت ولا عصبة له، فإن ترك أصحاب فروض أعطوا فرضهم، ويرد ما فضل عليهم. ا. هـ. منه بتصرف.
والذي في الموطإ عن مالك أنه بلغه أن عروة بن الزبير كان يقول في ولد الملاعنة وولد الزنا: إنه إن مات ورثته أمه حقها في كتاب الله عز وجل وإخوته لأمه حقوقهم، ويرث الباقية موالي أمه إن كانت مولاة وإن كانت عربية ورثت حقها وورث إخوته الأمه حقوقهم، وكان ما بقي للمسلمين. قال مالك: وبلغني عن سليمان بن يسار مثل ذلك. قال مالك: وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا. ا. هـ.
(2)
وقوله: ولا رقيق، نقل المواق عن المدونة: إذا كان بعض العبد حرًا فليس لمن يملك بقية أن ينتزع ماله وهو موقوف بيده، وله بيع حصته، ويحمل المبتاع في مال العبد محمل البائع، وإذا عتق العبد يومًا مَا تبعه ماله، وإن كان ماله للمتمسك بالرق خاصة دون الذي أعتق؛ لأنه لا يورث بالحر حتى تتم حريته. ا. هـ. منه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا في أن العبد لا يرث، إلا ما روي عن ابن مسعود في رجل مات ترك أبًا مملوكًا، يشترى من ماله ثم يعتق، ثم يرث، وقاله الحسن. وحكي عن طاوس أن العبد يرث يكون ما ورثه لسيده ككسبه. قال: وممن روى ما عنه أن العبد لا يرث ولا يورث ولا يحجب: عليّ، زيد، وبه قال الثوري، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي. ا. هـ. منه.
وقال البغوي في شرح السنة: الأسباب التي تمنع الميراث أربعة: اختلاف الدين، والرق، والقتل عمى الموت. فالرقيق لا يرث أحدًا ولا يرثه أحد لأنه لا ملك له: ولا فرق بين القن وغيره. وقوله: ولا يورث إلا المكاتب: قد تقدم الكلام عليه في الكتابة. والحمد لله.
(3)
وقوله: ولا قاتل عمدًا عدوانًا، قال القرطبي في تفسيره: ولا خلاف بين العلماء أنه لا يرث قاتل العمد من الدية ولا من المال، إلا فرقة شذت عن الجمهور كلهم أهل بدع.
وأخرج مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن رجلًا من بني مدلج يقال له قتادة حذف منه بالسيف فأصاب ساقه، فنزى في جرحه فمات، فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك، فقال عمر بن الخطاب: اعدُد لي على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم عليه عمر، أخذ من تلك الإِبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة، ثم قال: أين أخو المقتول؟ فقال: ها أنا ذا، فقال: خذها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَىْءٌ".
وروى حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ".
قال البغوي إسناده ضعيف، والعمل عليه عند عامة أهل العلم. وهذا الحديث أخرجه الترمذي في فرائض، وابن ماجه كذلك.
(4)
وقوله: كمخطئ من الدية، قال القرطبي: ويرث قاتل الخطإ من المال، ولا يرث من الدية في قول مالك والأوزاعي، وأبي ثور، والشافعي؛ لأنه لا يتهم على أنه قتله ليرثه ويأخذ ماله. وقال سفيان الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي في قول آخر عنه: لا يرث القاتل عمدًا وخطأً شيئًا من المال ولا من الدية. وهذا قول شريح، وطاوس، والشعبي والنخعي؛ ورواه الشعبي عن عمر، وعلي، وزيد قالوا: لا يرث القاتل عمدًا ولا خطأً شيئًا. وقال في كلامه على آية المواريث: وقول مالك أصح. وبه قال إسحاق، وأبو ثور، وهو قول سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، والزهري، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= والأوزاعي، وابن المنذر، لأن ميراث من ورثه الله تعالى في كتابه ثابت لا يستثنى منه إلا بسنة أو إجماع. وكل مختلف فيه مردود إلى ظاهر الآيات التي فيها المواريث. ا. هـ.
(5)
وقوله: ولا مخالف في دين، في الموطإ ما نصه: قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا، والسنة التي لا اختلاف فيها، والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، أنه لا يرث المسلم الكافر بقرابة ولا ولاء وَلا رحم، ولا يحجب أحدًا عن ميراثه. ا. هـ. وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الكَافِرُ الْمُسْلِمَ". قال البغوي: والعمل على هذا عند عامة أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم أن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر لقطع الولاية بينهما، إلا ما روي عن معاذ ومعاوية أنهما قالا: المسلم يرث الكافر، ولا يرثه الكافر. وحكي ذلك عن إبراهيم النخعي، قالوا: كما أن المسلم ينكح الكتابية ولا ينكح الكافر المسلمة، وبه قال إسحاق بن راهويه. قاق: وأما الكفار فيرث بعضهم من بعض مع اختلاف مِلَلِهم؛ كاليهودي من النصراني لأن الكفر كله ملة واحدة، واختلاف الملل فيه كاختلاف المذاهب في الإِسلام، وهو قول عامة أهل العلم لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
(1)
الآية من الأنفال.
وذهب جماعة إلى أن اختلاف الملل الكفر يمنع التوارث، فلا يرث اليهودي النصراني ولا النصراني المجوسي. يروى ذلك عن عمر، وهو قول الزهري، والأوزاعي، وابن أبي ليلى وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بما رواه عمرو بن شعيب أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى". رواه أبو داود، والبغوي، والبيهقي، وابن ماجه، والدارقطني، والإِمام أحمد. وقال في التعليق على شرح السنة: إسناده حسن.
(6)
وقوله: كمسلم مع مرتد أو غيره، حكى المواق عن ابن أبي زيد: ما يتركه العبد المرتد والكافر فلسيِّده، وكذلك من فيه بقية رق، لأنه يستحقه بالرق لا بالإِرث ولقد اختلف العلماء في توريث مال المرتد، فقد قال مالك، والشافعي، وربيعة، وابن أبي ليلى، وأبو ثور: ميراث المرتد لبيت المال.
وقال عليّ بن أبي طالب، وابن مسعود، والحسن، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد. قالو: ميراثه لأقاربه من المسلمين.
(1)
سورة الأنفال: 73.
ولَا مَنْ جُهِلَ تَأخُّرُ مَوْتِهِ (1). وَوُقِّفَ الْقَسْمُ لْلِحَمْلِ (3)، ومَالُ الْمَفْقُودِ للحُكْم بمَوْتِهِ، وإنْ مَاتَ مورِّثُه قُدِّرَ حَيًّا ومَيِّتًا وَوُقِّفَ الْمشكُوكُ فِيهِ، فإنْ مَضَتْ مُدَّةُ التَّعْمِيرِ فَكالمَجْهُولِ، فَذَاتُ زَوْج وأمٍّ وأخْتٍ وَأبٍ مَفْقُودٍ، فعلَى حَيَاتِهِ من سِتَّةٍ، ومَوْتِهِ كذلِكَ، وتَعُولُ لِثمَانِيَةٍ وتَضْرِبُ الْوَفْقَ في الْكُلِّ بِأربَعَةٍ وعِشْرِينَ، للزَّوْجِ تِسْعَةٌ، وللأمِّ أرْبْعَةٌ وَوُقِّفَ البَاقي، فإنْ ظَهَر أنَّه حَيٌّ فللزَّوج ثلاثةٌ، وللأب ثمَانيَةٌ، أوْ مَوْتُهُ أوْ مُضِيُّ مُدَّةِ التَّعْمِير، فَللأخْتِ تِسْعَةٌ وللأم اثْنَان.
وللخُنْثَى المشْكِل نِصْفُ نَصِيبيْ ذَكر وأُنْثَى. تُصَحِّحُ المسْأَلَة على التَّقْدِيرَاتِ ثُمَّ تَضْرِبُ الْوَفْقَ أو الْكُلَّ ثُمَّ في حَالَتَيْ الخُنْثَى وتَأخُذُ مِنْ كُلّ نَصِيب مِنَ الإِثْنَينِ النِّصْفَ، وأرْبَعَةٍ الرُّبعَ فَما اجْتَمَعَ فنصِيبُ كُلٍّ كذَكَرٍ وخُنْثَى، فالتَّذْكيرُ من اثْنَين والتأنيثُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، تَضْرِبُ الاثْنَيْنِ فِيهَا ثُمَّ في حَالتَيْ الخُنْثَى لَهُ في الذُّكورَةِ سِتَّةٌ وفي الأنُوثَةِ أرْبَعَةٌ فَنِصْفُها خَمْسَةٌ وكذلك غَيْرُهُ. وكخُنْثَيَيْنِ وَعَاصِبٍ فأرْبَعَةُ أحْوالٍ تَنْتَهِي لأرْيَعَةٍ وعِشْرِينَ لكلٍّ أحَدَ عَشَرَ، ولِلْعَاصِب اثنَانِ، فإنْ بَالَ مِنْ وَاحِدٍ (3) أوْ كانَ أكْثَرَ أو أسْبَقَ، أو نَبَتَتْ لَهُ لِحْيَةٌ أوْ ثَدْيٌ أَوْ حَصَلَ حَيْضٌ أوْ مَنِيٌّ فَلَا إشْكَالَ.
وقال قوم: ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته من المسلمين. وقال أبو حنيفة: ما اكتسبه المرتد في حالة الردة فهو فيء، وما كان مكتسبًا في حالة الإِسلام ثم ارتد يرثه ورثته المسلمون. قال القرطبي: ولكن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى". يرد على هؤلاء. والله تعالى الموفق.
(1)
وقوله: ولا من جهل تأخر موته، يعني أن المتوارثين إذا عمي موتُهما بأن غرقا في ماء أو انهدم عليهما بناء، أو غابا فجاء نعيهما، ولم يدر أيهما سبق موته، فلا يورث أحدهما من الآخر، بل ميراث كل واحد منهما لكل من كان حياته يقينًا بعد موته من ورثته. وحكي عن ابن مسعود أن كل واحد يرث من =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= صاحبه تليد ماله دون ما ورث منه. قال البغوي: وكل من لا يرث من هؤلاء لا يحجب الغير عن الميراث عند عامة أهل العلم. ا. هـ.
وفي الموطإ، أخرج مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن غير واحد من علمائهم أنه لم يتوارث من قتل يوم الجمل، ويوم صفين، ويوم الحرة، ثم كان يوم قديد فلم يورث أحد من صاحبه شيئًا إلا من علم أنه قتل قبل صاحبه. قال مالك: وذلك الأمر الذي لا اختلاف فيه ولا شك عند أحد من أهل العلم ببلدنا. وكذلك العمل في كل متوارثين هلكا بغرق أو هدم أو قتل أو غير ذلك من الموت إذا لم يعلم أيهما مات قبل صاحبه، لم يرث أحدهما من صاحبه شيئًا، وكان ميراثهما لمن بقي من ورثتهما.
قال مالك: ولا ينبغي أن يرث أحدٌ أحدًا بالشك، ولا يرث أحدٌ أحدًا إلا باليقين من العلم والشهداء؛ وذلك أن الرجل يهلك هو ومولاه الذي أعتقه أبوه، فيقول بنو الرجل العربي: قد ورثه أبونا. وليس ذلك لهم أن يرثوه بغير علم ولا شهادة أنه مات قبله، إنما يرثه أولى الناس به من الأحياء. ا. هـ. منه.
(2)
وقوله: ووقف القسم للحمل، يعني أنه إذا مات الرجل وترك زوجته حبلى، فإن المال يوقف حتى يتبين ما تضع. وقد أجمع أهل العلم على أن الرجل إذا مات عن زوجته حلبى، أن الولد الذي في بطنها يرث ويورث إذا خرج حيًا واستهلَّ. وقالوا جميعًا. إذا خرج ميتًا لم يرث. فإذا خرج حيًا ولم يستهل؛ فقالت طائفة: لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل. هذا قول مالك، والقاسم بن محمد، وابن سيرين، والشعبي، والزهري، وقتادة، والنخعي.
وقالت طائفة: إن عرفت حياة المولود بتحريك أو صياح أو رضاع أو نفس، فأحكامه أحكام الحي. هذا قول الشافعي، وسفيان الثوري، والأوزاعي.
وقال ابن المنذر: الذي قاله الشافعي يحتمل النظر، غير أن الخبر يمنع منه؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"ما مِنْ مَولُودٍ يُولَدُ إلَّا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلَّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ إلَّا ابْنُ مَرْيَمَ وَأمَّهُ". قال: وهذا خبر، ولا يقع على الخبر النسخ. ا. هـ. القرطبي.
وأخرج أبو داود عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وُرِّثَ". والاستهلال هو رفع الصوت. قال الخطابي: استهل معناه رفع صوته؛ بأن يصرخ أو يبكي، وكل من رفع صوته =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بشيء فقد استهل به.
وأخرج الدارمي عن ابن عباس: إذا استهل الصبي وَرَّث وورِّث وصلي عليه.
وأخرج البيهقي بسنده عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: من السنة أن لا يرث المنفوس ولا يورث حتى يستهل صارخًا - كذا وجدته - ورواه يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَرِثُ الصَّبِيُّ إِذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ، وَالْاسْتِهْلَالُ الصِّيَاحُ أوِ الْعُطَاسُ أوْ الْبُكَاءُ، وَلَا تَكْمَل دِيَتُهُ" وقال سعيد: "وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ". ا. هـ. منه.
(3)
وقوله: فإن بال من واحد ألخ .. أجمع العلماء على أن قوله تعالى: {فِي أَوْلَادِكُمْ} تتناول الخنثى؛ وهو الذي له فرجان. وأجمعوا على أنه يورث من حيث يبول، فإن بال من حيث يبول الرجل ورث ميراث رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة ورث ميراث المرأة. قال ابن المنذر: ولا أحفظ عن مالك فيه شيئًا، بل قد ذكر ابن القاسم أنه هاب أن يسأل مالكًا عنه. فإن بال منهما معًا، فالمعتبر سبق البول، قاله سعيد بن المسيب، وأحمد، وإسحاق، وحكي ذلك عن أصحاب الرأي. وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال في الخنثى: يورثه من حيث يبول، فإن منهما جميعًا فمن أيهما سبق، فإن بال منهما معًا فنصف ذكر ونصف أنثى. وقال يعقوب ومحمد: من أيهما خرج أكثر ورث، وحكي عن الأوزاعى. ا. هـ. من القرطبي.
وروى البيهقي بسنده عن البخاري حدثني بشر بن محمد، أنا عبد الله، أنا الحسن بن وكيع، سمع أباه يقول: سمعت عليًّا رضي الله عنه في الخنثى قال: انظروا مسيل البول فورثوه منه.
وأخرج البيهقي أيضًا بسنده عن جابر بن زيد، قال قتادة: سجن جابر بن زيد زمن الحجاج فأرسلوا إليه يسألونه عن الخنثى كيف يورث؟ فقال: انظروا من حيث يبول فورثوه منه، قال قتادة فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: فإن بال منهما جميعًا؟ قلت: لا أدري. فقال سعيد: يورث من حيث يسبق. ا. هـ.
ونسب البغوي للشعبي، وابن أبي ليلى، والثوري، قالوا: للخنثى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى. وهذا الأثر قال شعيب: أخرجه الدارمي. وقال البغوي: وسئل جابر عن مولود ليس له ما للذكر، ولا له ما للأنثى، يخرج من سرته كهيئة البول الغليظ، سئل عن ميراثه، فقال: نصف حظ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الذكر والأنثى. ا. هـ. منه.
وقال الشعبي: يعطى نصف ميراث الذكر ونصف ميراث الأنثى. وبه قال الأوزاعي وهو مذهب مالك بن أنس. قال القرطبي: واستدل العلماء على ميراث الخنثى المشكل إذا تساوت فيه علامات النساء والرجال من اللحية والثدي والمبال، بنقص الأعضاء، فإن نقصت أضلاعه عن أضلاع المرأة، أعطى نصيب رجل، روى ذلك عليّ رضي الله عنه، لخلق حوّاء من أحد أضلاع آدم. قاله في الكلام على قوله تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}
(1)
. وهو استنباط لطيف بفضل الله.
وذكر الحطاب: الخنثى - بضم الخاء المعجمة وسكون النون وبالثاء المثلثة وبعدها ألف تأنيث مقصورة - قال: والضمائر الراجعة إلى الخنثى مذكرة وإن بانت أنوثته، لأن مدلوله شخص صفته كذا وكذا، وجمعه خناثى وخناث، قال: واشتقاقه من قولهم خنث الطعام إذا اشتبه أمره فلم يخلص طعمه المقصود. وينقسم الخنثى إلى قسمين: مشكل وواضح، فعلى مذهبنا يكون واضحًا إذا نبتت له لحية أو ثدي، فمن ظهرت فيه علامات الرجال حكم بذكوريته، وإن ظهرت فيه علامات النساء حكم بأنوثته، والمشكل عندنا هو من ظهرت فيه العلامات كلها واستوت فيه. أو لم تكن له لا آلة رجل ولا آلة أنثى ولكن ثقب يبول منه.
وذهب الحسن البصري والقاضي إسماعيل من أصحاب مذهب مالك إلى أنه لا وجود للخنثى المشكل. قال القاضي إسماعيل: ولابد أن تكون له علامة تزيل إشكاله.
لطيفة: أول من حكم في الخنثى في الجاهلية عامر بن الظرب العدواني، أحد حكماء العرب: نزلت به قضية فسهر ليلته، فقالت جاريته سخيلة عندما سهر، وكانت ترعى غنمه، ما أسهرك يا سيدي: قال: لا تسألي عما لا علم لك به، ليس هذا من رعي الغنم في شيء، ثم رجعت فسألته، ثم كررت عليه السؤال وقالت: لعلك تجد عندي مخرجًا، فأخبرها بأن ناسًا تحاكموا عليه في ميراث خنثى، فقالت له: أتبع المالَ المبالَ يا سيدي، فقال: فرجتها يا سخيلة. قيل: وكانت سخيلة لا تذهب بالغنم إلى المرعى إلا بعد أن يتعالى النهار، وتذهب الرعاة إلى مسارحها، وكانت أول راعٍ يأتي في الرواح، وكان عامر كثيرًا ما يضربها من أجل ذلك، فلما حلت له مشكلة الخنثى أقسم أن لا يضربها مما تصنع =
(1)
سورة البقرة: 35.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بالغنم. فقامت عندما سمعت ذلك منه، تبين له كيف كانت أسباب تأخرها بسرحها عن الرعاة، ورواحها قبل هؤلاء، وأن ذلك للحرص على عدم ضياع بعض سرحها بالاختلاط مع مواشي الغير، فازداد إعجابًا بها. والله تعالى أعلم.
هذا آخر ما جمعته من أدلة مختصر العلامة خليل بن إسحاق المالكي. لكنه عمل قصَّر بي جهلي فيه عن الإِتيان بكل ما كنت أؤمل من أدلة، ولعل ذلك أيضًا لكثرة المسائل الاجتهادية فيه والفروع المقدرة.
فرحم الله عبدًا أنصفني. إني، وإن كنت لم أستوعب ما دمت جمعه، فقد فتحت الطريق لمن بعدي، وقديمًا قيل: مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ. أرجو الله جلت قدرته أن يمن علينا بالرضا، وأن يتولانا برحمته وعنايته، وأن يختم لنا بالسعادة حتى نفوز بالنظر إلى وجهه الكريم، وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
انتهى بمكة المكرمة في عشرين خلت من جمادي الثانية عام 1405 للهجرة النبوية.