الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة التاسعة
التفضيل بين الخلفاء الأربعة
رضي الله عنهم
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة التفضيل بين الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وإن كان أصلُها من الدين؛ لتنزيل الناس منازلهم، وإعطاء كلِّ أحدٍ حقَّه= فقد صارت مِن حُجُبِ الشيطان التي يُلهي بها الإنسانَ عمّا خُلِقَ لأجله، ومَن أنكر هذا فيقال له: التفضيل هل هو بحسب ما عند الله تعالى أم بحسب تشييد الدّين والنفع للمسلمين؟
فإن قال بالثاني. قلنا: وايمُ الله إنّ كلًّا منهم قد شاد الدين ونفع المسلمين.
ومعرفة تفصيل ذلك تمامًا لا سبيل إليها؛ لأنَّه لم يَرِد مِن ذلك إلَّا بعضُه، ولعلَّ لبعضهم زيادةً على غيره ينفع المسلمين بالالتجاء إلى الله تعالى والدعاء لهم؛ فإنَّ ذلك من أعظم النفع.
وليت شعري أيُّ طائل في الدين لمثل البحث في: أيّهم أنفع؟! ولاسيّما مع ما عَرَض للفضائل من التعصُّبات بدفن البعض واختلاق البعض، حتى يحتمل صدق الضعيف وكذب الصحيح.
وإن قال: بحسب ما عند الله تعالى. قلنا: هذا غيب.
فإن قال: الأدلَّة. قلنا: ما منهم إلَّا وقد وَرَد في حقِّه ما يُشْعِر بأفضليَّته أو يصرِّح بها مع كثرة ذلك، ولا سبيل إلى القطع ببعضها حتى تزعم أنَّها عند الله تعالى كذلك.
فأمَّا كوننا متعبَّدين بالأخذ بالصحيح من السُّنن والحَسَن ونحو ذلك،
فهذا في العبادات المتعبَّد بعملها، وأمَّا في الاعتقادات فليس كذلك؛ إذْ هي مبنيّةٌ على القطع، ولا سبيل إليه، بل ولا إلى الظنِّ؛ لتعارض ظواهر الآثار، ولم يكونوا أنفسهم رضي الله عنهم يشتغلون بمثل هذا، بل ورد أنَّ كلًّا منهم كان يقول بفَضْل الآخر عليه، مع أنَّه ما منهم إلَّا من كان يتحدَّث بنعمة الله، ولاسيّما سيدنا علي فيما أوتيه من العلم.
فكيف يغمط نفسه حقَّها بتفضيل أبي بكرٍ وعمر على نفسه؟! وكذلك أبو بكر بتفضيله سيدنا عليًّا على نفسه، وغير ذلك.
فإن قيل: كان ذلك ظنَّهم بأنفسهم. قلنا: فهل يعرف غيرُهم منهم ــ ولاسيّما بعد مرور هذه الأعصار ــ ما جهلوه من أنفسهم؟!
فأمَّا كون أحدهم كذب بذلك فلا يقوله أحدٌ.
وقد كان السلفُ لا يهمُّهم إلَّا تعظيم الجميع، بحيث لا ينقص أحد منهم، ولا يهتمون بالتَّفضيل، وإن قالوا به بحسب الظنِّ فلا يلومون أحدًا خالفهم في ذلك، أو يعنِّفون عليه، كما رُوِي ذلك عن معمر ووكيع، كما في "الاستيعاب" في ترجمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(1)
.
وكلُّ مُفضِّل لا يخلو عن تعصُّبٍ، والدليل عليه أنّه إذا قال بتفضيل أحدهم ثم ورد ما يدلُّ على أفضلية الآخر تكدَّر لذلك، وتمنَّى أن يظفر بما يَردُّ ذلك الوارد ويُبطله، إلى غير ذلك.
فكلُّهم ساداتنا، أفاضلُ الأمر رضي الله عنهم وعنّا.
(1)
(3/ 1150)، وعزاه لعبد الرزاق.
فأمّا ما جرى بينهم من الوحشة فما زالت تجري بين الأخيار، بل ــ وأستغفر الله ــ لم يسلم منها الأنبياء الأطهار عليهم أفضل الصلاة والسلام.
أترى موسى لمَّا أخذ بلحية هارون يجرُّه إليه، أليس ذلك عن وحشة حَدَثَت في نفسه، وهي للّ? ـهِ بلا شكٍّ. وهارون بريءٌ، وموسى معذورٌ.
أترى الأسباط وفعلهم الذي قصَّهُ الله ــ تعالى ــ ألم يُدْخلوا على أبيهم وحشةً؟ ولا دخلت بينهم الوحشة، وإن كان الأنبياء ــ عليهم السلام ــ أعلى شأنًا من أن يُنْسَبَ إليهم الخطأ إلَّا مع ضَرْبٍ من التنزيه.
وكفاك أنَّ الوحشة التي جَرَت بين الخلفاء ونحوهم زالت في حياتهم، فقد قال عليٌّ عليه السلام: "إنِّي لأرجو أن أكون أنا وفلان وفلان وفلان من الذين قال اللهُ فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ
…
} الآية [الحجر: 47]، ثم قال: فإن لم نكن هم فمَن هم؟ "
(1)
. فكيف يُقامُ لها وزنٌ بعد الممات؟!
اللَّهم وفّق وسدِّد واهْدِ وأرشِدْ بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
وأمّا التقدُّم بالخلافة فقد قيل: إنَّ سببه الفضل، وإنَّ الصحابة اجتمعوا على الأفضل فالأفضل.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه ونعيم في "الفتن" وابن أبي شيبة والطبراني كما في "الدر المنثور"(8/ 629 - 630)، وسمّى المبهمين (عثمان، وطلحة، والزبير).
فاعْلم أنَّ الإمامةَ كالإمارة، والسُّنَّةُ أن يؤمَّر في كلِّ عملٍ أهل الاقتدار فيه، وإن لم يكونوا من أولي الأفضلية، كما وُلِّيَ عمرو بن العاصي على كثيرٍ من أكابر الصحابة؛ لمزيد علمه بالحروب ونحو ذلك.
واليقينُ الذي لا يشوبه ريبٌ أنَّ هذا الدين لم يزل يَسُوْسُه الله تعالى عند تأسيسِه فما بعده بما يصلحه، ولاسيّما بعد موتِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وارتدادِ العرب قاطبةً، ولله الحكمةُ البالغةُ، والذي يظهر من الحِكَمِ ما سيفتح الله به:
فأولًا: حكمة الله في الأنبياء أن لا ينبَّؤُوا إلَّا بعد بلوغِ سِنِّهم أربعين سنةً، وعند موتِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان سيِّدُنا عليٌّ دون الأربعين، وكذا عند موت أبي بكرٍ.
وثانيًا: أنّه قد سبق في علم الله تعالى أنَّ كلًّا من الأربعة له حقٌّ في تولِّي الخلافة، وللدِّين مصلحةٌ في تولِّيه، فحينئذٍ لابد أن يتولَّاها قطعًا.
فلو تولَّاها أولًا عليٌّ وقد سبق تأخُّر أَجَلِه فلا تَصِلُ إلى غيره إلَّا بموته قبل أَجَلِه، وهذا محالٌ. أو بعَزْلِه وهذا ينافي الحكمة، ليس لمجرد التكدُّر، بل لِما يلزم العزلَ من المفاسد المشوِّشة.
فاقتضت الحكمة الإلهية أن يُوَلَّوها على ترتُّب آجالهم، وهذا الوجهُ قد كان فُتِحَ عليَّ به في الصِّغَر ثم رأيته محرَّرًا مقررًا للشيخ الأكبر نفع الله به
(1)
.
ثالثًا: لو وَلِيَها عليٌّ أولًا لقال أهل الكتاب وغيرهم من الكفار
(1)
لم يتبيّن لي من هو!
والمنافقين: هذه صفةُ المَلِكِ؛ إذ وليها بعده أقربُ الناسِ إليه نسبًا وحسبًا، وهذا عهد كسرى، ولصارت شبهةً للأمراء بعد ذلك بأن يُولِّي أحدُهم ولَدَه أو أخاه وقال: سُنَّة رسول الله، كما قال مروان إذْ خطبَ الناس لبيعة يزيد:"سُنّة أبي بكر وعمر"، فردَّ عليه عبد الرحمن بن أبي بكر:"بل سُنَّة كسرى وقيصر، إنّ أبا بكرٍ لم يولِّها ولَدَه ولا أخاه ولا قريبه" أو كما قال
(1)
.
فلو كانت الخلافة أولًا في سيدنا عليٍّ لوجَدَ مروانُ وأمثاله شبهةً يُغالطون بها الناس، وإلى نحو هذا يشير الحسن بن عليٍّ في قوله: "والله ما
(1)
أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(11426) والحاكم في مستدركه (4/ 528)، من طريق علي بن الحسين عن أمية بن خالد عن شعبة عن محمد بن زياد قال: لمَّا بايع معاوية لابنه قال مروان: سنة أبي بكر وعمر! فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سُنَّة هِرَقل وقَيْصَر .. " الأثر.
قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وقال الألباني في "الصَّحيحة" (3240):"وإسناده صحيح".
وفي روايةٍ لابن أبي حاتم في "تفسيره"(10/ 3295): "أهرقليَّةٌ؟! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلَّا رحمة وكرامة لولد .. " الأثر.
قال الألباني في "الصَّحيحة"(3240) عن إسناده: "إسناد صحيح".
وتُنظَر طرقه الأخرى في "الصحيحة" للألباني (7/ 2/721)، و"الدُّر المنثور" للسيوطي (13/ 327 - 328).
وأصله مختصرًا عند البخاري (4827) عن يوسف بن ماهك قال: "كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يُبَايَع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه شيئًا .. " الأثر.
أرى الله جامعًا لنا بين النبوة والخلافة"
(1)
، أو كما قال.
ولو دامت في أهل البيت فكذلك قد يتولاها أحدهم، ثم يكون له ولدٌ غيرُ أهلٍ فيأخُذ له البيعة، ويستدل بما قلناه سابقًا.
رابعًا: أنّ الله ــ تعالى ــ قد جَبَل كُلًّا منهم على خلائق يحصل بها الصلاح في الوقت الذي تولَّى فيه، فلو تولَّى فيه غيره لما حصل الصلاح، أَلَا ترى إلى أبي بكرٍ في الشِّدِّة على قتال أهل الرِّدَّة، وكان فيه غايةُ الصلاح، ولو كان غيره مكانه لكان الأمر بخلاف ذلك، وكذلك في الثبات عند موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعند موت أبي بكرٍ نفسِه حيث لم يدعِ الناسَ في عمياءَ، بل اجتهد فرأى عمرَ أهلًا، وصَدَق اللهُ ظنَّه؛ فكان ذلك الزمنُ عزَّة الإسلام (1). وقِسْ على ذلك.
ولم
…
(2)
بما ذكرتُ توصُّلاً إلى الجزم بأفضليّةِ عليٍّ عليه السلام، بل لإمكان ذلك، فيلزمُ التوقُّفُ، والله أعلم.
(1)
لم أره مسندًا عن الحسن رضي الله عنه، ولكن في "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 391) قال:"ورُوِّينا من وجوهٍ أنَّ الحسن بن عليٍّ لمَّا حضرته الوفاة قال للحسين أخيه: يا أخي، إنَّ أبانا رحمه الله تعالى لمَّا قُبِض رسول الله استشرف لهذا الأمر، ورجا أن يكون صاحبه، فصَرَفَه الله عنه، ووليها أبو بكر، فلمَّا حضرت أبا بكر الوفاة تشوَّف لها أيضًا، فصُرِفت عنه إلى عمر، فلمَّا احتضر عمر جعلها شورى بين سِتَّةٍ هو أحدهم، فلم يشك أنَّها لا تعدوه، فصُرِفت عنه إلى عثمان، فلمَّا هلك عثمان بُوْيع ثم نُوْزِع حتى جرد السيف وطلبها، فما صفا له شيء منها، وإنِّي والله ما أرى أن يجمع الله فينا أهل البيت النُّبوَّة والخلافة .. ".
(2)
كلمة غير ظاهرة.