الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
إمارة - أمير
"
المدلول اللغوى:
جاء في مفردات الراغب والمصباح والتاج - الإِمارة بكسر الهمزة الولاية وهى الأمرَة. يقال: أمَر على القوم يأمُر من باب قتل يقتل فهو أمير والجمع أمراء - ويعدَّى بالتضعيف فيقال أمرته تأميرًا فتأمَّر - والأمارة كالعلامة وزنا ومعنى وأمِرَ الشيء من باب تعب كَثُر ويعدى بالهمزة وبالتضعيف فيقال آمرت وأمَرت والأمر الطلب من المستعلى لغيره جمعه أوامر والتقدم بالشيء سواء أكان ذلك بقول أو فعل أو بلام الأمر أو بلفظ الخبر والآمر الشأن والحال وهو عام في الأفعال والأقوال ومنه قوله تعالى {إليه يرجع الأمر كله} وقوله {وما أمر فرعون برشيد} وجمعه أمور كفلْس وفلوس ويقال أيضًا أمِرَ فلان بالكسر وأمرَ بالضم صار أميرا والاسم الأمِرةُ وهى الأمارهُ ومنه حديث طلحة: لعلك ساءتك إمرة ابن عمك والأمارة الولاية وتلحق بالحرف والصناعات والأمير الملِك سمى بذلك لنفاذ أمره والأنثى أميرة والأمير قائد الأعمى لأنه يملك أمره، والجارُ والمشاوَر. ومنه حديث أمِيرى من الملائكة جبريل والأمير المؤمَّر كمعظم. وفى التنزيل:{أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} قيل هم الأمراء فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم وقيل الرؤساء والعلماء وقيل الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر. وللمفسرين في ذلك أقوال كثيرة - وعلى هذا فأمِر القوم صاحب الأمر فيهم.
المدلول الاصطلاحى:
لم يكن للفقهاء عرف خاص في كلمتى إمارة وأمير بل كان استعمالهم إياهما في عباراتهم استعمالا لغويا يضعونهما حيث يراد منهما معنى الرياسة المنوط بها الأمر والتوجيه والقيام على ما يعهد به من الأمور إلى من يوصف بهما ولذا فإنه كثيرًا ما يضافان إلى ما يقيد معناهما ويخصصه فيقال أمير المصر أو أمير الجيش أو أمير المؤمنين أو أمير الحج أو نحو ذلك مما يقصد به الدلالة على من له الولاية على هذه الأمور. وقد كان هذا الاستعمال معروفا منذ القدم وقبل ظهور الإسلام، إذ كان في العرب أمراء وكان لكل قبيلة أمير بحكم الوراثة أو بالغلبة وكذلك كان لرسول الله - صلى الله علية وسلم - أمراء هم ولاته الذين ولاهم على البلاد التي استجاب له أهلها فأسلموا وعلى القضاء والصدقات فيها كما جاء في شرح الزرقانى على المواهب والأمراء الذين ولاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهات والأعمال كثيرون منهم أمير مكة عتاب بن أُسَيْد فقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميرا على مكة وإقامة المواسم والحج بالمسلمين وكان ذلك سنة ثمان ومنهم بادان ويقال له بادام الذي كان نائب كسرى على اليمن فقد ولاه رسول الله حين أسلم على مخاليف اليمن وكان منزله بصنعاء ومنهم عبد الله بن عمرو أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنى تغلب وعبس وغطفان، ومنهم أبو موسى الأشعرى فقد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على زبيد وعدن من أعمال اليمن، ومنهم عمرو بن العاص. إذ أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش كان فيه أبو بكر وعمر، ومنهم السائب بن عثمان فقد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة
حين خرج في غزوة بواط، ومنهم عثمان بن أبي العاص إذ استعمله صلى الله عليه وسلم على الطائف، ومنهم عمرو بن حزم الأنصارى الذي استعمله على نجران وكتب وكتب إليه كتابه في الفرائض والزكاة والديات، ومنهم أبو بكر إذ استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج عقب فتح مكة. وغير هؤلاء كثير بعث بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الجهات في جزيرة العرب ليقوموا على تعليم الناس القرآن وجمع الصدقات وإحضارها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لصرفها في مصارفها الشرعية
(1)
. وكان صلى الله عليه وسلم إذا استعمل أميرا على جهة عهد إليه بما يرشده ويسدده في عمله حتى يقوم به خير قيام. ومن ذلك عهده إلى عمرو بن حزم ونصه كما ذكره ابن هشام في شيرته بعد البسملة: هذا بيان من الله ورسوله، يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود عهدا من محمد رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله في أمره كله فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به ويعلمهم القرآن ويفقههم فيه وينهى الناس فلا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر ويخبر الناس بالذي هو لهم والذي عليهم ويبين للناس الحق ويشهد عليهم في الظلم فإن الله كره الظلم ونهى عنه فقال ألا لعنة الله على الظالمين إلى آخر الكتاب
(2)
.
الفرق بين الإِمارة والولاية:
الولاية لها عدة معان منها الصداقة والنصرة وتولّى الأمر، والذي يعنينا في موضوعنا - هو الولاية بمعنى تَوَلِّى الأمر والاضطلاع به. ويقال فيه وليت الأمر إليه ولاية ووليت البلد وولّيت عليه فأنا وال والجمع وُلاة واسم المفعول مولى عليه. والولى على الشئ من ملك أمره وكان له القيام عليه أو قام به.
والولاية في استعمال الفقهاء سلطة شرعية على النفس أو على المال أو على الجماعة يترتب عليها نفاذ قول صاحبها أو فعله فيمن يلى عليه شرعا ويكون بها صاحبها مؤاخذا بقوله وفعله في حق نفسه إذا تصرف تصرفا قوليا فتزوج أو باع أو تصرف تصرفا فعليا فاعتدى على مال غيره إذ يلزمه عندئذ ضمانه كما يكون بها صاحبها نافذ التصرف في حق من يلى عليه من صبى أو محجور عليه أو غيرهما من جماعة الناس في حدود ولايته التي حددها الشارع. فكان له بيع الأموال واستثمار العقار وعمارة البناء كما يكون له بها جمع الزكاة وتولى شؤون البلد العامة فيما هو من ولايته بمقتضى إقامته ممن له الأمر عليهم - وهى بهذا المعنى لثبت بطريق الإِيصاء للوصى وبطريق الإِقامة للقيم على السفيه وبطريق الوكالة للوكيل وبطريق القرابة حسب المنصوص عليه لمن يرتبطون برباط النسب بعضهم على بعض في النفس والمال جميعا أو في أحدهما وبطريق التولية من ذى السلطان. وهى في حال ثبوتها شرعا بالقرابة أو حال ثبوتها على نفس الولى حقٌّ ذاتى يثبت لصاحبه شرعا فلا يقبل الإِسقاط من صاحبه وكانت لذلك في معنى التكليف.
والولاية إما عامة كالولاية على الجماعة في أمر عام يخصهم كما في ولاية الصلاة وولاية جمع الصدقات وولاية الخراج وإما خاصة كما
(1)
الترتيبات الإدارية ص 240 وما بعدها.
(2)
سيرة ابن هشام جـ 1 ص 8.
في الولاية على النفس وعلى مال ضعيف الأهلية وهى في الحال الأولى حيث تكون عامة وعلى الجماعة ونحوها نوعٌ من الإِمارة فصاحبها يسمى أميرا كما يسمى واليا في الاصصلاح الشرعى وإنما سمى في هذه الحال أميرا لما يكون له عادة من حق الطاعة على من يلى عليهم فيما يأمرهم به وما يرشدهم إليه فكان له بسبب ذلك الريادة والقيادة والرياسة عليهم ومن ثم سمى أميرا وذلك لما يوحى به مدلول هذا اللفظ لأنه من معنى الأمر ومضمون الآمر وقد جرى الاستعمال الاصطلاحى على أن هذا اللقب أو الوصف لا يطلق إلا عند كثرة المولى عليهم واشتراكهم في وال واحد يتعهدهم كما في أمير المصر وأمير الجيش ونحو ذلك. أما في غير هذه الحال فلا يستعمل اسم أميرا ولكن يستعمل اسم وال أو ولى كما في ناظر الوقف والولى على الأيتام والقيم على المحجور عليهم والقائم بالتصرف بناء على الإِذن فيه والمتصرف لنفسه والولى على النفس أو على المال فكل هؤلاء أولياء وليسوا بأمراء وربما أطلق اسم أمير في غير ذلك كما في حديث أميرى جبريل المتقدم ذكره.
أما في الحال الثانية حيث تكون خاصة فلا تعد من الإِمارة ولا يسمى الوليّ في هذه الحال أميرا ومن هذا يظهر أن الولاية أعم من الإِمارة فكل أمير وال على من أمّر عليه وليس كل وال أميرا على من يلى عليه كالوصى فإنه لا يسمى أميرا على الصغار ومما ينبغى ملاحظته أن الولاية تستبع نيابة عن المولى عليه كما ولاية الوصى والقيم، أما الإمارة فقد تستبع نيابة الأمير نيابة عامة عن من أمِّر عليه كأمارة القاضي فإن القاضي يعد نائبا على من له ولاية القضاء فيهم في بعض الأحوال كما في قيامه بتزويج من لا ولى له من ناقص الأهلية وذلك مما يعرف حكمه ومسائله في موضعه من مصطلح قضاء أو ولاية.
أنواع الإِمارات:
الإمارة قد تكون عامة وقد تكون خاصة ومرجع ذلك إلى عموم موضوعها وخصوصه وإلى خصوص مكانها وحدوده من ناحية شمولها وعدم شمولها فأعم الإِمارات إمارة أمير المؤمنين وهى ما تسمى بالخلافة وبالإِمامة العظمى وهى الرياسة الجامعة لمصالح الدين وحراسته وسياسة الدنيا بالدين. وقد أجمع السلف من أهل السنة وجمهور الطوائف الأخرى على أن نصْب الإِمام واجب على المسلمين وأن طاعته واجبة في غير معصية الخالق وأنه يستمد ولايته في إمارته من الأمة وهو منفذ لما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله. وللباحثين في الخلافة طرق مختلفة تبعا لاختلافهم في وجهة النظر إليها ولكنها جميعها تنتهى إلى نتيجة واحدة وهى أنها رياسة دينية في أمر الدين والدنيا لشخص من الأشخاص نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عامة بمعنى أنها لا تتقيد بحادثة ولا بضرب من ضروب السلطة ولا بنوع من أنواع الولايات ولا ببلد إسلامى من البلدان وليس يعلوها إمارة أخرى ولا تحد إلا بما يحدها به الشرع. ويشترط فيه أن يكون مكلفا مسلما عدلا حرا ذكرا مجتهدا شجاعا ذا رأى وكفاية سميعا بصيرا ناطقا قرشيا وفى هذه الشروط آراء ومذاهب لكثير من العلماء كما أن لهم بحوثا وآراء فيما يتعلق بهذا الموضوع من وجوب تولية الخليفة وطريق تعيينه وممن يكون اختياره وشروط من له الحق في اختياره وبم تنعقد إمامته وفى وحدته وتعدده ومصدر سلطته وإطلاقها وتقييدها وعصمته وعدمها - فلهم في
جميع ذلك بحوث يرجع إليها في مصطلح خلافة ومصطلح إمامة كما أن الكلام فيما يجب عليه للأمة وفيما يجب للأمة عليه من حقوق وواجبات وفى عموم ولايته وعدم عمومها وفيما يخرجه من الولاية وفى ثبوت هذه الولاية بالغلبة والقوة مباحث. كذلك يرجع إليها في مصطلح خلافة لأنها أمس وأوثق بهذا المصطلح
(1)
.
وجاء في مقدمة ابن خلدون "الفصل الثاني والثلاثون" أن لقب أمير المؤمنين قد استحدث منذ عهد الخلفاء إذ كانوا يسمون بعض قواد الجيوش والبعوث باسم الأمير وهو فعيل في الإِمارة فقد كان الصحابة يدعون سعد بن أبي وقاص أمير المؤمنين لأمارته على جيش القادسية وهم معظم المسلمون يومئذ. كما كانوا يلقبون عبد الله بن جحش به. واتفق أن دعا بعض الصحابة عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمير المؤمنين فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به وكان ذلك فيما كتبه إليه أبو موسى الأشعرى وفيما خاطبه به مشافهة المغيرة بن شعبة وعمرو ابن العاص. كما حدث أن جاء بريد من بعض البعوث إلى المدينة فلما دخلها أخذ يسأل عن عمر ويقول أين أمير المؤمنين وسمعها الصحابة من بريد جاء إلى المدينة من الغزاة فاستحسنوا ذلك وقالوا: أصبت والله اسمه أنه والله أمير المؤمنين حقا فدعوه بذلك وصار له لقبا في الناس وتوارثه الخلفاء من بعده. وقد كان قبل ذلك يدعى خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان خليفة لأبى بكر وكان أبو بكر يلقب بخليفة رسول الله ثم توارث الخلفاء هذا اللقب لا يشاركهم فيه أحد وخاصة بنى أمية ثم بنى العباس ثم تلقب به من ولى الخلافة بالأندلس إلى أن جاءت دولة المرابطين وكان منهم يوسف بن تاشفين واستولى على المغرب والأندلس فسمى بأمير المسلمين أدبا مع الخليفة العباسى. غير أن الشيعة خصّوا عليا رضى الله عنه باسم الإمام نعتا له بالإمامة التي هي بمعنى الخلافة والتي هي أصل من أصول مذهبهم وذلك تنويها ببيان مذهبهم في أنه أحق بأمامة الصلاة من أبي بكر رضى الله عنه فخصوه بهذا اللقب وساقوه إلى من جاء بعده من أئمتهم ولا يطلقونه على غيرهم من ولاة الأمر بل يطلقون عليهم اسم خلفاء. أما عند غيرهم من طوائف المسلمين فقد شاع فيهم إطلاق اسم الإِمام لورود ما يؤيد هذا الإِطلاق في الكتاب حين نعت فيه إبراهيم عليه السلام بالإمام وفى السنة إذ ورد فيها قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة وقد سأله ماذا نفعل في أوقات الفتن: تلزم جماعة المسلمين وأمامتهم وقوله من بايع إماما فأعطاه صفته يده وثمرة قلبه فليطلق ما استطاع على أن بعض من ولى أمر المسلمين من أمراء المغرب لقب نفسه بأمير المسلمين كما أشرنا إلى ذلك شعورا منه بأنه لم يصل إلى المستوى الذي يجعله جديرا بلقب أمير المؤمنين.
أما بقية أنواع الإمارات وهى التي يعبر عنها في بعض كتب الفقه بالولايات أو الوظائف فإنها تقوم بسلطات أو بولايات متنوعة عديدة منها العام ومنها الخاص وفيما يلى بيانها:
النوع الأول: ولاية عامة في أعمال عامة
(1)
راجع الملل والنحل جـ 1 ص 20 وما بعدها - السياسة الشرعية لابن القيم والأحكام السلطانية لأبى ليلى والأحكام السلطانية للماوردى والسياسة الشرعية والحسية لابن تيمية ومنهاج السنة له.
وهى للوزراء الذين يستنابون في جميع الأمور من غير تخصيص.
النوع الثاني: ولاية عامة في أعمال خاصة وهى لأمراء الأقاليم والبلدان ذلك لأن النظر فيما خصوا به من الأعمال عام في جميع أمورها بينما لا تتجاوز إمارتهم قطرا أو بلدا معينا من البلدان.
النوع الثالث: ولاية خاصة في أعمال عامة وهى لقاضى القضاة وأمراء الجيوش وأمراء الثغور وأمراء الخراج وأمراء الصدقات ذلك لأن كل واحد منهم مقصور على نظر خاص في جميع الأعمال التي نيطت به.
النوع الرابع: ولاية خاصة في أعمال خاصة وهى لقاضى البلد أو الأقليم أو أمير خراجه أو صدقاته أو أمير جنده لأن كل واحد منهم قد خص بالنظر في عمل خاص محدد ولكل واحد من هؤلاء الولاة شروط تنعقد بها ولايته ويصح بها نظره وسنعرض لذلك فيما يلى على وجه الإِجمال
(1)
.
الوزارة: هي الولاية الثانية في الدولة الإِسلامية أو هي الإِمارة التالية لإِمارة المؤمنين وهى إمارة عامة في موضوعها تكاد تتساوى مع إمارة المؤمنين من الوجهة العملية أو التنفيذية فإن الوزير ينيبه الإِمام في جميع الأمور العامة نيابة عامة تتناول جميع الأقسام والمناطق التي تتكون منها الدولة وبذلك تمتاز الوزارة عن سائر الإمارات الأخرى ومنصب الوزارة منصب قديم وهى نوع من الوكالة ووضع الفقهاء لها شروطها الخاصة وطريق إقامتها مسترشدين في ذلك بما جاء في الكتاب العزيز حكاية عن موسى عليه السلام إذ طلب من ربه فقال {واجعل لى وزيرا من أهلى هارون اخى أشدد به أزرى وأشركه في أمرى} ولما في شرع ذلك من المصلحة فإن الإِمام مكلف ومحمل بأعمال عديدة ينوء بحملها أي شخص يحملها فلا يستطيع منفردا أن يقوم بها على وجهها فكان من المصلحة معاونته فيها بالإِنتداب والمشاركة في الرأى والعمل حتى يكون على العمل وإحسانه أقوى وعلى تجنب الخطأ أقدر وفى المصلحة أبصر ولذا قال الماوردى في الأحكام السلطانية "ومشاركة الوزير للإمام في التدبير والعمل أصح في تنفيذ الأمور من إنفراده بها ليستظهر به على نفسه وليكون أبعد عن الزلل وأمنع من الخطأ"
(2)
. ولهذا خصت بهذا الاسم على أساس أنه مُشتق من الوزر وهو الثقل لأن الوزير يحمل من الأمير أثقاله أو من الوزَرَ وهو الملجأ ومنه قوله تعالى {كلا لا وزر} أي لا ملجأ لأن الأمير يلجأ إلى رأى وزيره ومعونته أو من الأزر وهو الظهر لأن الأمير يقوى بوزيره كما يقوى البدن بقوة الظهر ويقول ابن خلدون أن الاسم مأخوذ من الموازرة وهى المعاونة أو من الوزر - ولم توجد الوزارة بهذا الاسم في عهد النبوة ولا في عهد الخلفاء الراشدين وإن وجدت بمعناها فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في أمورهم العامة وكان أخصهم في ذلك أبو بكر وعمر رضى الله عنهما وهكذا كان شأن أبي بكر في إمارته مع عمر رضى الله عنه ومع عثمان وعلى وشان عمر مع على وعثمان رضى الله
(1)
الأحكام السلطانية للماوردى ص 24 وما بعدها.
(2)
الأحكام السلطانية في باب الوزارة.
عنهما ومع كبار الصحابة رضوان الله عليهم مشاورة ومعاونة تتحقق بهما معنى الوزارة وإن لم يكن ذلك على سبيل المعاقدة والتقليد حتى إذا استحالت الخلافة ملكا وتطورت أمورها ونظمها وتعددت سلطاتها ودعت الحاجة في قيامها وحسن تدبير أمورها إلى اختيار النظم المحققة لأغراضها والاسترشاد بالنظم التي كانت معروفة في طرائق الحكم في الدول المجاورة تبلور معنى استنابة الخليفة لغيره واستعانته به وارتفعت مرتبته وعظم شأنه وخص باسم الوزير وصارت إليه النيابة عن الخليفة بالتعيين والعقد وتنوعت الوزارة تبعا لتنوع أعمالها فصارت نوعين وزارة تفويض ووزارة تنفيذ وتميزت طبيعة كل منهما واتضحت الفروق بينهما
(1)
.
وزارة التفويض:
تمتاز وزارة التفويض بأنها إمارة عامة في موضوعها وتكاد تتساوى مع إمارة المؤمنين فيما تقوم به من تدبير وتنظيم ووضع للأمور في مواضعها إذ أنها تقوم على تفويض عام من الإمام لمن يعهد بها إليه من رعيته في تدبير الأمور برأيه وإمضائها حسب اجتهاده ولذا اشترط فيمن يتقلدها شروط الإِمامة فيجب أن يكون من أهل الكفاية فيما توجبه عليه هذه الولاية من أمور الحرب والخراج والإدارة وجميع شؤون الدولة خبيرا بها إذ أن عليه أن يباشرها بنفسه وقد يستنيب فيها عند الحاجة من يكون أهلا. لها ولا يصل إلى استنابة أهل الكفاية فيه إلا إذا كان منهم كمالًا تستقيم الأمور ولا تصلح إذا قصر في ذلك عنهم وهى لا تثبت لمن يتقلدها إلا بعقد من الإمام يتضمن إنابته عنه في النظر والتدبير على وجه العموم لأنها ولاية عامة في النظر والتدبير فلا يكفى في ثبوتها مجرد النص على النيابة دون بيان عموم ما تكون فيه هذه النيابة وذلك لما لها من خطر ولما سيكون لصاحبها من القوامة على جميع أمور الدولة من الحكم بين الناس وتأمير الأمراء وتعيين الحكام والنظر في المظالم وتولى الجهاد وغير ذلك من أمور الدولة العامة. وقد جاء في الأحكام السلطانية لأبى يعلى الحنبلى أن هذه الوظائف هي الدفاع عن الحوزة وتحصين الثغور والقيام بالجهاد وما يستتبعه وهذا ما يسمى بالوظيفة الدفاعية، ثم جباية الفئ والصدقات والخراج وتقدير العطاء وما يستحق في بيت المال وما يستحق له وهذا ما يعرف بالوظيفة المالية ثم القضاء بين الناس وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود الشرعية وهذا ما يجمعه اسم الولاية القضائية ثم استكفاء الأمناء وتقليد الأكفاء والنصحاء وإدارة الأمور وهذا ما يعرف بالوظيفة الإدارية ثم حفظ الدين وإقامة شعائره والقيام على الأخلاق وهذا ما يعرف بالحسبة. فيقوم بذلك بنفسه وله أن يستنيب فيه وعلى الجملة فكل ما يقوم به الإمام يصع أن يقوم به وزير التفويض ما عدا ثلاثة أشياء: أحدها: ولاية العهد فللإمام أن يعهد بالخلافة إلى من يختاره مع مراعاة ما لذلك من شروط وأوضاع وليس فلك لوزير التفويض وثانيها أن للإمام أن يستعفى الأمة وليس ذلك لوزير التفويض لأن في استعفائه ضررا بمصالح الدولة فلابد أن يكون ذلك بموافقة الخليفة. وثالثها أن للإمام أن يعزل من يوليه وزير التفويض وليس لوزير التفويض أن يعزل من يوليه الإمام إلا أن يجعل له الإمام ذلك في عقد
(1)
الأحكام السلطانية للماوردى ومقدمة ابن خلدون.
التفويض إليه وإذا عارضه الإمام فأراد نقض ما أمضاه مما هو في ولايته لم يجز له نقض ما أنفذه بإجتهاده من حكم ولا استرجاع ما أعطى من مال على وجهه وإذا حدث ذلك في تقليد وال أو أمير أو تجهيز جيش أو تدبير حرب جاز للإمام معارضته بعزل المولى أو بالعدول بالجيش إلى حيث تقضى الحرب والمكيدة لأن للإمام أن يستدرك ذلك من أفعال نفسه فكان أولى أن يستدركه من أفعال نائبه ووزيره وإذا أمَّر الإمام أميرًا وأمر الوزير غيره على العمل نفسه كانت الإِمارة لأسبقهما ولاية إلا أن يكون تأمير الإِمام قد تم على علم بتأمير الوزير فإن الإِمارة عندئذ لمن أمره الإمام ويكون تأمير الإمام عزلا لمن أمره الأمير - وخالف في ذلك بعض الشافعية فذهبوا إلى أن من ولاه الوزير في هذه الحال لا ينعزل بتولية الإِمام غيره حتى يعزله بقوله عزلتك ونحوه وعندئذ يصير معزولا بقوله لا بتقليده غيره وعلى هذا إن كان النظر مما يصح فيه الاشتراك صح تقليدهما جميعا فكانا شريكين في النظر وإن كان مما لا يصح فيه الاشتراك كان تقليدهما موقوفا على عزل أحدهما وإقرار الآخر فإن أراد ذلك الإِمام جاز له عزل أيهما وإقرار الآخر أما وزير التفويض فليس له عزل من ولاه فقط
(1)
.
وزارة التنفيذ:
هي إمارة تلى إمارة التفويض في المنزلة والعموم وسلطانها أضعف وشروطها أقل لأن النظر فيها مقصور على رأى الإِمام وتدبيره وليس وزير التنفيذ إلا واسطة بينه وبين رعاياه وولاته يؤدى إليهم ما أمر به وأوجب إنفاذه ويُمضى ما حكم به ويعلن تقليد الولاة والأمراء وتجهيز الجيوش ويقوم بعرض ما ورد منهم على الإِمام ورفع ما حدث من حوادث عليه ليرى فيها رأيه حتى يقوم بتنفيذه فهو منفذ للأمور وليس بوالٍ عليها ولا متقلد لها فإن أشركه الإِمام في الرأى كان باسم الوزارة أولى وأخص وإن لم يشركه فيه كان باسم الوساطة والسفارة أشبه ولا تفتقر هذه الإِمارة إلى تقليد وعقد وإنما تتوقف على مجرد الإِذن ولا يشترط في صاحبها الحرية ولا العلم لأنه ليس له أن ينفرد بولاية ولا حكم ولا تقليد حتى يشترط فيه ما يُشترط في الوزير المفوض من العلم والحرية وإنما هو مقصور. على النظر في أمرين: أحدهما أن يرفع إلى الخليفة ما يجب أن يُرفع إليه؛ وثانيهما أن يقوم عنه بما يأمره به ولذلك يجب أن يراعى فيه الصفات الآتية: أحدها الأمانة حتى لا يخون فيما أؤتمن عليه ولا يفشى فيما استنصح فيه، وثانيها صدق اللهجة حتى يُوثق بخبره فيعمل الخليفة على وقفه إن رأى ذلك؛ وثالثها عدم الطمع حتى لا يرتشى ولا ينخدع؛ ورابعها أن يكون بريئا من العداوة والشحناء فإن العداوة تصد عن النصفة؛ وخامسها أن يكون ذكورا لما يؤديه إلى الخليفة حتى لا يفوته شئ؛ وسادسها الذكاء والفطنة حتى لا تُدَلَّس عليه الأمور فتلتبس؛ وسابعها ألا يكون من أهل الأهواء حتى لا يحيد به الهوى عن الحق فإن الهوي خادع وصارفٌ عن الصواب فإن كان هذا الوزير ممن يشركه الخليفة في الرأى وجب أن يكون من أهل الحنكة والتجربة التي تؤدى إلى صحة الرأى وصواب التدبير ولا يجوز أن تُسند
(1)
راجع الأحكام السلطانية للماوردى من ص 18 وما بعدها والأحكام السلطانية للقاضى أبي يعلى من ص 13 وما بعدها.
هذه الإِمارة إلى امرأة وإن كان خبرها مقبولا وذلك لما في هذه الإِمارة من معنى الولاية. وقد قال صلى الله عليه وسلم "ما أفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة"؛ ولأنها إمارة تقتضى الظهور في مباشرة الأمور وذلك على النساء محظور ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة دون وزير التفويض والفرق بين الإِمارتين إمارة التنفيذ وإمارة التفويض من أربعة أوجه: أحدها أن إمارة التفويض تقتضى مباشرة الحكم والنظر في المظالم دون إمارة التنفيذ؛ ثانيها أن إمارة التفويض تتضمن جواز تقليد الولاة والأمراء وليس ذلك لإِمارة التنفيذ؛ وثالثها أن لوزير التفويض أن ينفرد بتسيير الجيوش وتدبير الحروب وليس ذلك لوزير التنفيذ؛ ورابعها أنه يجوز لوزير التفويض التصرف في أموال بيت المال وذلك بقبض ما هو مستحق له وبأداء ما يجب عليه وليس ذلك لوزير التنفيذ. وليس فيما عدا هذه الأربعة ما يمنع أهل الذمة من القيام بها إلا أن يجعلوها وسيلة إلى الاستطالة فيمنعون منها حينئذ ولهذه الفروق الأربعة اختلفت الإِمارتان في أربعة من شروطها أحدها أن الحرية معتبرة في إمارة التفويض دون إمارة التنفيذ؛ ثانيها أن الإِسلام معتبر في الأولى دون الثانية؛ ثالثها أن العلم بالأحكام الشرعية معتبر في الأولى دون الثانية أيضا؛ رابعها أن المعرفة بأمور الحرب والخراج معتبرة في الأولى دون الثانية فهما مختلفتان في هذه الشروط متفقتان فيما سواها
(1)
. وقد ذكر الخِرقى من الحنابلة أنه يجوز أن يكون وزير التنفيذ من أهل الذمة وأن يُجعل له عطاء من بيت المال جزاء عمله لا على أنه صدقة وروى عن أحمد ما يدل على منع ذلك إذ قد جاء في رواية أبي طالب أنه سُئل أيستعمل اليهودى والنصرانى في أعمال المسلمين كالخراج فقال لا يُستعان بهم في شئ.
ويجوز للخليفة أن يقلد وزيرى تنفيذ على اجتماع وانفراد ولا يجوز أن يقلد وزيرى تفويض على اجتماع كما لا يجوز تقليد إمامين لأنهما ربما تعارضا في العقد والحل والتقليد والعزل وفى تعارضهما الفساد فإن قلد وزيرى تفويض نظر فإن فوض إلى كل واحد منهما عموم النظر بم يصح وعندئذ إن كان التقليد في وقت واحد بطل تقليدهما معا وإن سبق أحدهما الآخر صح تقليد السابق وبطل تعليد اللاحق. أما إن أشرك بينهما في النظر على اجتماعهما فيه ولم يجعل إلى كل واحد منهما أن ينفرد صح وتكون الوزارة فيهما مجتمعين لا في واحد منهما ولها تنفيذ ما اجتمعا عليه وليس لهما تنفيذ ما اختلفا فيه بل يكون موقوفا على رأى الخليفة وخارجا عن نظر هذه الوزارة وتكون هذه الوزارة قاصرة عن وزارة التفويض المطلقة من وجهين أحدهما اجتماعما على تنفيذ ما اتفقا عليه والثانى زوال نظرهما فيما اختلفا فيه فإن اتفقا بعد الاختلاف وكان ذلك عن رأى اجتمعا على صوابه بعد اختلافهما فيه دخل في نظرهما وصح تنفيذه منهما لأن ما تقدم من الاختلاف لا يمنع من جواز الاتفاق بعده وإن كان من متابعة أحدهما لصاحبه مع بقائهما على الرأى المختلف فيه بينهما فهو على خروجه من نظرهما لأنه لا يصح من الوزير تنفيذ ما لا يراه صوابا، فإن لم يُشرك بينهما في النظر بل أفرد كل واحد منهما بعمل يكون فيه عام النظر خاص العمل
(1)
راجع الأحكام السلطانية للماوردى ص 21، 22 والأحكام السلطانية ص 15، 16.
مثل أن يجعل إلى أحدهما وزارة بلاد الشرق والى الآخر وزارة بلاد الغرب أو يخص كل واحد منهما ينظر يكون فيه عام العمل خاص النظر مثل أن يستوزر أحدهما على الحرب والآخر على الخراج صح تقليدهما على كلا الوجهين غير أنهما لا يكونان عندئذ وما يرى تفويض بل يكونان أميرين على عملين مختلفين لأن وزارة التفويض لا تكون إلا عامة وعندئذ ينفذ أمر كل من الأميرين فيما عهد إليه به ويكون تقليد كل واحد منهما مقصورا على ما خص به وليس له معارضة الآخر في نظره وعمله.
ولا يجوز لوزير التنفيذ أن يولى معزولا ولا أن يعزل واليا ويجوز لوزير التفويض أن يولى المعزول ويعزل الولاة ولا يعزل من ولاه الخليفة منهم. ويجوز لوزير التفويض أن يوقع عن نفسه إلى عماله وإلى عمال الخليفة وأن يلزمهم بقبول توقيعاته. وإذا عزل الخليفة وزير التنفيذ لم ينعزل بذلك أحد من الولاة. وإذا عزل وزير التفويض انعزل بذلك عمال التنفيذ ولم ينعزل به عمال التفويض لأن عمال التنفيذ نواب وعمال التفويض ولاة. ويجوز لوزير التفويض أن يستخلف نائبا عنه ولا يجوز لوزير التنفيذ أن يستخلف من ينيب عنه لأن الاستخلاف تقليد فهو صحيح من وزير التفويض غير صحيح من وزير التنفيذ وإذا نهى الخليفة وزير التفويض عن الاستخلاف لم يكن له أن يستخلف وإذا أذن لوزير التنفيذ في الاستخلاف جاز له أن يستخلف لأن كل واحد من الوزيرين يتصرف عن أمر الخليفة ونهيه وإن افترقا في حكمهما على الإطلاق والتقييد وإذا فوض الخليفة تدبير الأقاليم إلى أمرائها ووكل النظر فيها إلى المسئولين عليها جاز لوالى كل أقليم أن يستوزر وكان حكم وزيره معه كحكم وزير الخليفة مع الخليفة في اعتبار الوزارتين وأحكام النظرين
(1)
.
الأمراء:
إذا قلد الخليفة أميرا على أقليم أو مصر أو بلد كانت إمارته على ضربين: عامة وخاصة فأما العامة فعلى ضربين إمارة استكفاء بعقد عن اختيار وإمارة استيلاء بعقد عن اضطرار، فأما إمارة الاستكفاء التي تنعقد عن اختيار فهى في عمل محدود ونظر معهود والتقليد فيها أن يفوض الخليفة إلى الأمير الولاية على جميع أمور بلد أو أقليم نظرا في المعهود من سائر أعماله فيصير عام النظر فيما هو محدود من عمل ومعهود من نظر فيشمل نظره سبعة أمور أحدها النظر في تدبير الجيوش وترتيبهم في الجهات والنواحى وتقدير أرازقهم إلا أن يكون الخليفة قد قدرها فيؤديها إليهم؛ وثانيها النظر في الأحكام وتقليد القضاة والحكام، وثالثها جباية الخراج وقبض الصدقات وتقليد العاملين عليها وتفريق ما استحق منها؛ ورابعها حماية الدين والذب عن الحريم؛ وخامسها إقامة الحدود؛ وسادسها الإِمامة في الجميع والجماعات والاستخلاف فيها، وسابعها تسيير الحجيج فإن كان هذا الأقليم ثغرا متأخما للعدو قام بجهاد من يليه من الأعداء وقسم غنائمهم وأخذ خمسها لأهل الخمس.
وشروط هذا الضرب من الإِمارات هي الشروط المعتبرة في وزارة التفويض.
وإذا تولى الخليفة عقد هذه الإِمارة كان لوزير
(1)
الأحكام السلطانية للماوردى ص 21 وما بعدها والأحكام السلطانية لأبى يعلى ص 15 وما بعدها.
التفويض على صاحبها حق المراعاة والنظر في تصرفه وإن لم يكن له حق عزله ولا نقله من أقليم إلى غيره. أما إذا تولاه وزير التفويض فإن كان ذلك عن أمر من الخليفة لم يجز له عزله ولا نقله من عمل إلى غيره إلا بإذن من الخليفة وإذا عزل هذا الوزير لم ينعزل هذا الأمير. وإن قلده الوزير عن نفسه فهو نائب عنه فيجوز له أن يعزله وأن يستبدل به غيره وأن ينقله إلى عمل آخر بحسب ما يؤدى إليه اجتهاده من النظر في الأصلح وإذا أطلق الوزير تقليد هذا الأمير فلم يصرح فيه بأنه عن نفسه أو عن الخليفة كان عن نفسه فله أن يعزله وإذا عزل الوزير انعزل هذا الأمير إلا أن يقره الخليفة على إمارته فإن ذلك يكون تجديد لولايته واستئنافا لتقليده غير أنه لا يُحتاج في ذلك إلى ما يحتاجه إليه ابتداء من العقد وشروطه ولذا يكفى أن يقول الخليفة له قد أقررتك على ولايتك أو إمارتك. أما عند الابتداء فيجب أن يقول له قلدتك إمارة ناحية كذا أو بلدة كذا والنظر في جميع ما يتعلق بها ويكون ذلك على تفصيل لا يدخله إجمال ولا يتناوله احتمال.
وإذا قلد الخليفة هذه الإِمارة أحدًا لم يمنع ذلك الوزير عن تصفحها ومراعاتها. وإذا قلد الخليفة وزيرا جديدا لم يكن ذلك عزلا للأمير عن إمارته ويجوز لهذا الأمير ولا يجوز له أن يستوزر لنفسه وزير تنفيذ بأمر الخليفة وبغير أمره ولا يجوز له أن يستوزر وزير تفويض إلا بإذن من الخليفة لأن وزير التنفيذ مُعينٌ ووزير التفويض مسئول وإذا أراد هذا الأمير زيادة أرزاق جيشه بغير سبب لم يجز لما فيه من إعطاء مال بغير حق وإن زادهم لحدوث ما يقتضيه نظر في السبب فإن كان مما يُرجى زواله لم تستقر هذه الزيادة على التأبيد كالزيادة لغلاء سعر أو حدوث حدث أو منفعة في حرب فعند ذلك يجوز للأمير أن يؤدى هذه الزيادة من بيت المال ولا يجب عليه استئمار الخليفة فيها لأنها من حذق السياسة الموكولة إلى اجتهاده وإن كان سبب الزيادة مما يقضى بدوامها كالبلاء الحسن في الحرب وجب استئمار الخليفة فيها ولم يكن له التفرد بإمضائها وإذا فضل من مال الخراج فضل عن الأرزاق والحاجة حمله إلى الخليفة ليضعه في بيت المال العام وإذا فضل من مال الصدقات فضل عن أهله لم يلزمه حمله إلى الخليفة بل يصرفه في أقرب أهل الصدقات من عمله وإذا نقص مال الخراج عن الحاجة طالب الخليفة بإكماله من بيت المال ولو نقص مال الصدقات عن أهلها لم يكن له مطالبة الخليفة بالإِتمام لأن أرزاق الجيش مقدرة بالكتابة وحقوق أهل الصدقات معتبرة بالوجود. ولا ينعزل الأمير من قبل الخليفة بموته ولكنه ينعزل بموت الوزير إن كان مولى من قبله لأن تقليد الخليفة مراعى فيه النيابة عن المسلمين وتقليد الوزير إنما هو نيابة عن نفسه وينعزل الوزير بموت الخليفة وإن لم ينعزل به الأمير لأن الوزارة نيابة عن الخليفة والإِمارة نيابة عن المسلمين.
وأما الإِمارات الخاصة فهى الإِمارات المقصورة على تدبير الجيوش وسياسة الرعية وحماية البيضة والذب عن الحريم وليس لأميرها أن يتعرض القضاء والأحكام ولا لجباية الخراج والصدقات. أما إقامة الحدود فما افتقر منها إلى اجتهاد لاختلاف الفقهاء أو إلى إقامة بينة بسبب تناكر المتنازعين فيه لم يكن له التعرض فيه لأن ذلك من الأحكام الخارجة عن خصوص إمارته وإن لم يفتقر إلى اجتهاد ولا إلى بينة أو افتقر
إليهما فنفذ فيه اجتهاد الحاكم أو قامت عليه البينة عنده وكان من حقوق الآدميين كحد القذف والقصاص في نفس أو في ظرف كان ذلك معتبرا بحال الطالب فإن عدل عنه إلى الحاكم كان الحاكم أحق باستيفائه لدخوله في الحقوق التي تندب الحكام إلى استيفائها وإن عدل الطالب في ذلك إلى الأمير كان الأمير أحق باستيفائه لأنه ليس بحكم ولكنه معونة على استيفاء حق وصاحب المعونة هو الأمير دون الحاكم وإن كان هذا الحد من حقوق الله تعالى كحد الزنا فالأمير أحق باستيفائه من الحكم لدخوله في قوانين السياسة وموجبات الحماية فدخل في حقوق الإِمارات ولا يخرج منها إلا بنص كما أنه يخرج من حقوق القضاء ولا يدخل فيها إلا بنص أما نظره في المظالم فإن كان مما نفذت فيه الأحكام وأمضاه القضاة والحكام جاز له النظر في استيفائه معونة للمحق على المبطل وانتزاعا للمحق من المعترف به المماطل فيه لأنه موكول إليه المنع من التظالم والأخذ بالتعاطف والتناصف وإن كانت المظالم مما تستأنف فيها الأحكام ويبدأ فيها القضاء مُنع من النظر فيها هذا الأمير لأنها من الأحكام التي لا يتضمنها عقد إمارته ورُدت إلى حاكم البلد فإن قضى حكمه لأحدهم بحق قام الأمير باستيفائه إن ضعف الحاكم عنه فإن لم يكن في البلد حاكم كان ذلك لأقرب الحكام من البلد إن لم يكن في المسير إلى مشقة فإن كان في المسير إليه مشقة استأمر الخليفة فيما يحدث من نزاع في ذلك. أما تسيير الحجيج فداخل في إمارته لأنه من جملة المعونات التي ندب إليها أما إقامة الصلاة في الجمع والأعياد والجنائز فالأمراء أخص بها من القضاة، عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا للشافعى، وقد قال ابن القاسم إذا حضر الأمير فهو أحق. وتعتبر في ولاية هذه الإمارة الشروط المعتبرة في إمارة التنفيذ ويزاد عليها شرطان الإِسلام والحرية لما تتضمنه هذه الولاية من الأمور الدينية التي لا تصح مع الكفر والرق ولكن لا يعتبر فيها العلم والفقه. وبذلك يبين أن شروط الإمارة العامة معتبرة بشروط وزارة التفويض لاستوائهما في عموم النظر وإن افترقا في خصوص العمل وشروط الإِمارة الخاصة تقل عن شروط الإِمارة العامة بشرط واحد هو العلم لأن لمن عمت إمارته أن يحكم وليس ذلك لمن خصت إمارته. وليس على واحد من هذين الأميرين مطالعة الخليفة فيما أمضياه من عملهما على مقتضى إمارتهما إلا على وجه الاحتياط والاختيار فإن حدث أمر غير معهود وقفاه على مطالعة الإمام وعَمِلا برأيه فيه فإن خافا من ذلك اتساع الخرق فأما بما يدفع الخصومة حتى يرد عليهما أمر الخليفة.
وأما إمارة الاستيلاء التي تعقد عن اضطرار فهى أن يستولى الأمير بالقوة على بلد الخليفة إمارتها ويفوض إليه تدبير أمورها وسياستها فتكون تصرفاته بذلك معتبرة بإذن الخليفة فيقلده.
وهذا وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه ففيه من حفظ القوانين الشرعية وحراسة أحكام الدين ما لا يجوز أن يترك مختلا فاسدا فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار للفرق بين شروط الإمكان والعجز.
والذي يحفظ في تقليد المستولى من قوانين الشرع سبعة أشياء فيشترك في التزامها الخليفة الولى والأمير المتولى ووجوبها في جانب
المستولى أغلظ وأشد أحدهما حفظ منصب الإِمامة في خلافة النبوة وتدبير أمور الملة ليكون ما أوجبه الشرع من إقامتها محفوظا وما تفرع عنها من الحقوق محروسا. والثانى ظهور الطاعة الدينية التي يزول معها حكم العناد فيه وينتفى بها أثم المباينة له والثالث اجتماع الكلمة على الألفة والتناصر ليكون للمسلمين يد على من سواهم والرابع أن تكون عقود الولايات الدينية جائرة والأحكام والأقضية فيها نافذة لا تبطل بفساد عقودها ولا تسقط بتحلل عهودها والخامس أن يكون استيفاء الأموال الشرعية بحق تبرأ به ذمة مؤديها ويستباح به أخذها والسادس أن تكون الحدود مستوفاة بحق وقائمة على مستحق والسابع أن يكون الأمير في حفظ الدين ورعا عن محارم الله يأمر بحقه ويدعو إلى طاعته فهذه سبع قواعد من قوانين الشرع تحفظ بها حقوق الإِمامة وأحكام الأمة ولأجلها وجب تقليد المستولى فإن كملت فيه شروط الاختيار كان تقليده حقا استدعاء لطاعته ودفعا لمخالفته صار بالإِذن له نافد التصرف في حقوق الملة وأحكام الأمة وجرى عن من استوزره واستنابه أحكام من استوزره الخليفة وجاز له أن يستوزر وزير تفويض ووزير تنفيذ فإن لم يكمل في المستولى شروط الاختيار جاز للخليفة إظهار تقليده استدعاء لطاعته وحسما لمخالفته ومعاندته وكان نفوذ تصرفه في الأحكام والحقوق موقوفا على أن يستنيب له الخليفة فيها من تكمل فيه شروطها ليكون كمال الشروط فيمن أضيف إلى نيابته جبرا لما فقد من شروطها في نفسه فيصير التقليد للمستولى واللنفيذ من المستناب وجاز ذلك وإن شذ عن الأصول وذلك بناء على أن الضرورة تسقط ما أعوز من شروط المكنة. فإذا صحت إمارة الاستيلاء كان الفرق بينها وبين إمارة الاستكفاء من أربعة أوجه أحدهما أن إمارة الاستيلاء متعينة في المستولى وإمارة الاستكفاء مقصورة على اختيار المستكفى والثانى أن إمارة الاستيلاء مشتملة على البلاد التي غلب عليها المستولى وإمارة الاستكفاء مقصورة على البلاد التي تضمها عهد المستكفى والثالث أن إمارة الاستيلاء تشتمل على معهود النظر ونادِرِه وإمارة الاستكفاء مقصورة على معهود النظر دون نادره والرابع أن وزارة التفويض تصح في إمارة الاستيلاء ولا تصح في إمارة الاستكفاء للفرق بين المستولى ووزيره في النظر لأن نظر الوزير مقصور على المعهود دون النادر وللمستولى أن ينظر كل المعهود والنادر وإمارة الاستكفاء مقصورة على النظر في المعهود فلم تصح معها وزارة تشتمل على مثلها من النظر في المعهود فقط لاشتباه حال الوزير بالمستوزر حينئذ
(1)
.
إمارة الجهاد:
هي من الإِمارات العامة التي تختص بقتال المشركين وتدبير الجيوش والنظر في أمرهم وفى كل ما يتعلق بهم مما يمس قيامهم بحماية البلاد والذب عن الملة ونُصرة الأمة وجهاد المشركين. وهى على ضربين أحدهما أن تكون مقصورة على سياسة الجيوش وتدبير أمور الحرب فتعتبر فيها شروط الإِمارة الخاصة والضرب الثاني أن يفوض الإِمام إلى أميرها جميع ما يتصل بها من الأحكام من قسم الغنائم وعقد الصلح والمهادنة ونحو ذلك فيعتبر فيها
(1)
راجع الأحكام السلطانية للماوردى والأحكام السلطانية لأبى يعلى.
شروط الإمارة العامة وهذه الإمارة هي من أعظم الولايات الخاصة أحكاما ومن أوفرها أنواعا وفصولا ويتعلق بها من الأحكام عند عمومها ستة: أولها ما يتعلق بتسيير الجيش وعليه في ذلك أن يراعى سبعة حقوق أحدها الرفق بالجيش في السير الذي يقدر عليه أضعفهم وتحفظ به قوة أقواهم. ثانيها أن يتفقد خيلهم ورُبُطهم ويمنع من حمل ما يزيد على طاقة خيلهم؛ ثالثها أن يراعى من معه من المقاتلة مسترزقة ومتطوعة أما المسترزقة فهم أصحاب الديوان من أهل الفيئ والجهاد فيفرض لهم العطاء من بيت المال بحسب الفناء والحاجة. وأما المتطوعة فهم الخارجون عن الديوان من أهل البوادى وسكان القرى والأمصار الذين خرجوا في النفير طاعة لقوله تعالى {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} أي شبانا وشيوخا أغنياء وفقراء ركبانا ومشاة. وهؤلاء يعطون من الصدقات ولا يُعطون من الفيئ لأن حقهم في الصدقات ولا يعطى أهل الفيئ المسترزقة من الديوان شيئا من مال الصدقات فلكل واحد من الفريقين مال لا يجوز أن يشاركه غيره فيه. إلى هذا ذهب الشافعي. وجوَّز أبو حنيفة صرف كل واحد من المالين إلى كل واحد من الفريقين بحسب الحاجة. ورابعها أن يعرِّفَ على الفريقين العرفاءَ وينقب عليهما النقباء ليعرف من عرفائهم ونقبائهم أحوالهم. وفد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في مغازيه، فكان صلى الله عليه وسلم يؤمر على السرايا والجيوش الأمراء والنقباء والعُرفاء في أسفارهم وغزواتهم ومحلاتهم ليكون إليهم تعليمهم والقيام على أمورهم وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة اثنى عشر نقيبا من الأنصار على طوائفهم ممن بايعه يعرفونهم بالإِسلام والخامس أن يجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به ليصيروا متميزين وبالإجماع متظافرين. فقد روى عروة بن الزبير عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل شعار المهاجرين: بنى عبد الرحمن وشعار الخزرج: بنى عبد الله وشعار الأوس: بنى عبيد الله وسمى خيله خمل الله. والسادس أن يتصفح الجيش ومن فيه ليخرج منهم من كان فيه تخذيل للمجاهدين وإرجاف للمسلمين أو كان عبئا عليهم للمشركين فقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول في غزوة تبوك في بعض غزواته لتخذيله المسلمين. والسابع ألَّا يمائى من ناسبه أو وافق رأيه ومذهبه على غيره حتى لا يظهر من ذلك ما تتفرق به الكلمة الجامعة. وقد أغض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين وهم أعداء الدين وأجرى عليهم أحكام ظاهرهم - ومن أحكام هذه الإمارة تدبير الحرب والنظر فيها يعامل به المشركون المحاربون وهم على ضربين أحدهما من بلغتهم الدعوة الإسلامية فامتنعوا من إجابتها وتأبوا عليها وأمير الجيش مخير في قتالهم بين أن يبيتهم ليلا أو يغير عليهم بغتة نهارا وبين أن ينذرهم ويحاربهم حتى ينتصر عليهم والضرب الثاني من لم تبلغه الدعوة وهؤلاء يحرم قتالهم فبل إظهار دعوة الإسلام وإعلامهم به فإن أقاموا على الكفر بعد ذلك حاربهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإن بدأ بقتالهم قبل دعائهم إلى الإسلام وإنذارهم بالحجة وقتلهم غرة وبياتا ضمن ديات نفوسهم وكانت على الأصح من مذهب الشافعي كديات المسلمين ومقابله تكون مماثلة لديات الكفار على اختلافها باختلاف مذاهبهم. وعند أبي حنيفة لا دية على قاتلهم ونفوسهم هدر وهو ما ذهب إليه الحنابلة.
ومن أحكام هذه الإِمارة ما يلزم أمير الجيش في سياستهم وهو عشرة أمور: أحدها حراستهم من غرة يظفر بها العدو وذلك بأن يتتبع المكامن فيحفظها عليهم ويحوط أسوارهم بحرس يأمنون به على أنفسهم ورحالهم، وثانيها أن يتخير لهم المنازل لمحاربة عدوهم مما يُعدُّ اختيارها من الحرب والمكيدة؛ وثالثها أعداد ما يحتاج إليه الجيش من زاد وعلوفة وأن توزع عليهم في أوقات حاجتهم تسكينا لنفوسهم، ورابعها أن يتعرف أخبار العدو حتى يقف عليهم ويكون على علم بأحوالهم وخططهم فيأمن مكرهم ويتلمس القوة في الهجوم عليهم. خامسها أن يقوم على ترتيب الجيش في مصاف الحرب وأن يتفقد الصفوف ويصلح ما يبدو له فيها من خلل وضعف بإمداده بما يقويها وإقامة من يرعاها؛ سادسها أن يقوى نفوس الجيش بما يشعرهم بقوتهم واقتراب ظفرهم ليقلل العدو في أعينهم. سابعها أن يعد أهل الصبر والبلاء والنجدة والإِقدام منهم بثواب الله تعالى في الآخرة وبالجزاء والثقل من الغنيمة في الدنيا؛ ثامنها أن يشاور أهل الرأى فيما يعن من الأمور المعضلة ويرجع إلى أهل الحزم والحكمة فيما يشكل منها ليأمن الخطأ ويسلم من الزلل؛ تاسعها أن يأخذ جيشه بما أوجبه الله تعالى من حقوقه؛ عاشرها ألا يمكن أحدا من جيشه بأن يشغله عن الحرب والجهاد تجارة أو زراعة أو أي عمل يصرفه عن الاهتمام بها وعن مصايرة عدوه.
ومن أحكام هذه الإِمارة ما يلزم المجاهدين معه من حقوق الجهاد وهو ضربان: أحدهما ما يلزمهم في حق الله تعالى، وثانيهما ما يلزمهم في حق الأمير عليهم. أما الأول فأربعة أشياء أحدها مصابرة العدو عند التقاء الجمعين ولا يولى أحد دبره من مثله إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد فرض الله في أول الإِسلام على كل مسلم أن يقاتل عشرة من الكفار إذ يقول في كتابه {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن مائة يغلبوا ألفا بإذن الله} ثم خفف الله سبحانه وتعالى عن المسلمين إذ أوجب على كل مسلم أن يقاتل رجلين فقد جاء في كتابه:{الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله} .
قال الخرقى لا يجوز للمسلم أن يهرب من كافرين ويباح له إن خشى القتل أو الأسر أن يهرب من ثلاثة. الثاني أن يقصد بقتاله نصرة دين الله تعالى دون قصد إلى مُغنم. الثالث أن يؤدى الأمانة فيما حازه من الغنائم فلا يغل. الرابع ألا يمالئ المشركين وإن كانوا ذوى قربى وألا يحابى في نصرة دين الله ذا مودة.
وأما ما يلزم الجيش في حق أميره فأربعة أشياء أحدها التزام طاعته والدخول في ولايته؛ الثاني أن يفوضوا الأمر إليه ويكلوه إلى تدبيره حتى لا يختلفوا؛ الثالث أن يسارعوا إلى امتثال أمره والوقوف عند نهيه وزجره فإن لم يفعلوا كان له حق تأديبهم حسب أحوالهم. الرابع ألا تكون منهم منازعة في الغنائم وقسمتها.
ومن أحكام هذه الإِمارة مصابرة الأمير قتال العدو وأن يطاول به المدة وألا يولى عنهم وفيه قوة - وهذه المصابرة واجبة لازمة حتى يظفر بخصلة من خصال أربع إحداها أن يسلموا فيعصموا بالإِسلام أموالهم ودماءهم ويليهم صغار أولادهم؛ الثانية أن يظفره الله عليهم
فيسبى ذراريهم ويغنم أموالهم ويقتل من لم يؤسر منهم وهو في الأسرى مخير في استعمال الأصلح للمسلمين من أربعة أمور: المن عليهم والفداء منهم والقتل إن لم يثخن فيهم والاسترقاق ومعاملة بمثل معاملتهم للمسلمين
(1)
. وهذا بناء على أن آية سورة القتال وآيات التوبة والأنفال محكمة ولا تعارض بينها والجمع بينها جائز وقال النحاس فإذا كان الأسر جاز القتل والاسترقاق والمقاواة والسن على ما فيه الصلاح للمسلمين. وقد وقع كل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعى وأبي عبيد وحكاه الطحاوى مذهبا عن أبي حنيفة
(2)
. (أرجع إلى مصطلح أسير من الموسوعة جـ 9 ص 293).
الخصلة الثالثة:
أن يبذلوا مالا على المسالمة والموادعة فيجوز للأمير أن يقيله منهم ويوادعهم عليه وذلك على ضربين أحدهما أن يبذلوه لوقتهم ولا يجعلوه خراجا مستمرا فيكون هذا المال غنيمة لأنه مأخوذ بإيجاف الخيل والركاب فيقسم بين القائمين ويكون ذلك أمانا لهم في الانكفاف به عن قتالهم في هذا الوقت ولا يمنع من قتالهم فيما بعد. الضرب الثاني أن يبذلوه كل عام فيكون خراجا مستمرا ويستقر به الأمان والمأخوذ منهم في العام الأول غنيمة وفى الأعوام المستقبلة فئ ولا يجوز العودة إلى قتالهم ما داموا مقيمين على دفع هذا المال لاستقرار الموادعة بالأمان على النفس والمال فإن منعوا المال زالت الموادعة وارتفع الأمان وفجاز جهادهم وصاروا كغيرهم من أهل الحرب ولا يعد بذلهم مالا على أنه هدية عهدا فلا يمتنع قتالهم لأن العهد لا يكون إلا عن عقد.
الخصلة الرابعة:
أن يسألوا الأمان والمهادنة فيجوز أن يقبل منهم ذلك ما كان في مصلحة المسلمين فقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية عشر سنين ولا يزاد على ذلك وإذا نقضوا العهد صاروا حربا يجاهدون من غير إيذان وذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش حين نقضت عهدها بعد صلح الحديبية ولكن لا يجوز لنا عند ذلك قتل من يكون في أيدينا من رهائنهم ذكر ذلك المبارك بن سليمان نقلا عن أحمد بن حنبل
(3)
وقد روى أن الروم نقضوا عهدهم زمن معاوية وفى يده رهائن منهم فلم يمس الرهائن من ذلك شر من المسلمين وقالوا وفاء بغدر خير من غدر بغدر. ولذلك كان للأمير عند ذلك إطلاق رهائنهم ما لم يقع حرب بيننا وبينهم وإلا استبقوا حتى لا يكونوا حربا علينا.
ومن أحكام هذه الإِمارة أنه يجوز لأمير الجيش في حصار العدو أن ينصب عليهم العرادات والمنجنيقات وقد نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف منجنيقا
(4)
. ويجوز له أن يفاجئهم في منازلهم ويحرقها عليهم وإذا رأى في قطع نخلهم وشجرهم صلاحا وضعفا لهم وظفر بهم جاز له ذلك. فقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم كروم أهل الطائف وكان ذلك سببا لإِسلامهم ونقل
(1)
الأحكام السلطانية لأبى يعلى والأحكام السلطانية للماوردى.
(2)
تفسير القرطبي جـ 16 ص 228.
(3)
الأحكام لأبى يعلى ص 22.
(4)
آلة لرمى الحجارة الكبيرة (منجنيق).
المروزى عن أحمد أننا نفعل بهم مثل ما يفعلون بنا من ذلك ونقل الأشرم عنه أن أحمد قال: إنى أكره ذلك إلا أن يكون يغيظهم وينال منهم
(1)
.
ويجوز لأمير الجيش أن يغوّر عليهم المياه وأن يقطعها عنهم لأن ذلك أبلغ في الظفر بهم ويوارى قتلاهم ولا يلزمه تكفينهم ولا يحرقهم بالنار أحياء ولا أمواتا لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلا إن فعلوا ذلك بنا ورأى فيه مصلحة للمسلمين كما فعل أبو بكر حين أحرق بعض أهل الردة
(2)
.
وإذا عقدت هذه الإمارة على غزاة واحدة لم يكن لأميرها أن يغزو غيرها وإذا عقدت عامة لزمه معاودة الغزو عاما بعد عام متى قدر عليه، ويلزم هذا الأمير أن ينظر في أحوال المجاهدين وأن يقيم الحدود عليهم ولا ينظر في أحكام غيرهم حال غزوه أو حال خروجه له فإن استقر في الثغر الذي تقلده جاز له أن ينظر في أحكام جميع أهله ورعيته.
وأمير الجيش إذا كان مولى من الإمام كان عزله من ولاية الإمام وإذا كان مولى من أمير المصر أو الأقليم على جيش ذلك الاقليم أو المصر كان عزله إلى الإمام وإلى من ولاه.
الإمارة على حروب المصالح:
وهى إمارة تقوم على دفع الفتن واتقائها وقطع الفساد في الأرض وهى تختص بقتال أهل الردة وأهل البغى والمحاربين ويصح أن يعهد بها إلى أمير الجيش فيتولاها مع ولاية الجهاد. فإذا ارتد فريق من المسلمين عن الإسلام إلى أي دين انتقلوا إليه سواء أكان دينا يصح أن يقر أهله كاليهودية والنصرانية أو لا يصح كالزندقة والوثنية ولم يجز أن يقر على ردته لما في إقراره عليه من الفتنة والفساد ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه". فإذا كان المرتدون قلة تقيم في دار الإسلام ولم يتمتعوا بدار يتميزون بها عن المسلمين فلا حاجة إلى قتالهم لدخولهم تحت القدرة عليهم فيكشف عن شبهاتهم وتقام لهم الحجج على بطلانها حتى يتبين لهم الحق فإن تابوا قبلت توبتهم وعادوا إلى حكم الإسلام كما كانوا، وإن لم يتوبوا وجب قتلهم رجالا كانوا أو نساء. وقال أبو حنيفة لا تقتل المرأة. أما إذا انحازوا إلى دار ينفردون بها عن المسلمين حتى يصيروا فيها ممتنعين فعندئذ يجب قتالهم على الردة بعد مناظرتهم على الإسلام وإيضاح دلائله ويجرى على قتالهم بعد الإنذار والإعذار ما يجرى على قتال أهل الحرب مما سبق بيانه. غير أن من أمر منهم قتل إن لم يثب. (أرجع فيما تقدم إلى مصطلح ردة).
أما إذا بغت طائفة من المسلمين فخالفوا رأى الجماعة وانفردوا بمذهب ابتدعوه فإن لم يخرجوا به عن المظاهرة بطاعة الإمام ولم يتميزوا بدار اعتزلوا فيها وكانوا أفرادا متفرقين تنالهم القدرة تركوا ولم يحاربوا وأجريت عليهم أحكام العدل فيما يجب لهم وعليهم من الحقوق والحدود فإن تظاهروا باعتقادهم مع اختلاطهم بأهل العدل أوضح لهم الإِمام فساد ما اعتقدوه وضلال ما ابتدعوه وجاز للإمام أن يعزر من تظاهر بالفساد أو بأمر زجرا ولا يتجاوزه إلى قتل ولا حد وإن اعتزلت هذه الطائفة الباغية أهل العدل وامتنعت بداد فإن لم تمتنع عن حق ولم تخرج عن طاعة لم يحاربوا وقد عزلت طائفة
(1)
الأحكام السلطانية لأبى يعلى ص 34.
(2)
المرجع السابق.
من الخوارج عليا رضى الله عنه بالنهروان فولى عليهم عاملا أقاموا على طاعته زمانا وهو لهم موادع إلى أن قتلوه فأرسل إليهم أن سلموا قاتله فأبوا فقاتلهم. (أرجع في ذلك إلى مصطلح بغى أو بغاة).
أما المحاربون وقطاع الطريق من أهل الفساد الذين شهروا سلاحهم وقطعوا الطريق وأخذوا الأموال وقتلوا النفوس ومنعوا السابلة فقد نزل فيهم قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} فإذا امتنعوا قوتلوا وأجريت عليهم الحدود. (أرجع في ذلك إلى مصطلح محاربة).
إمارة القضاء أو ولايته:
لا يُقلد القضاء إلا من كُملت فيه ثمانية شروط وهى الذكورة والبلوغ والعقل والحرية والإسلام والعدالة والسلامة في السمع والبصر والعلم. والمراد بالعلم أن يكون عالما بكتاب الله وبسنة رسول الله وبأقوال السلف وبالقياس فإذا علم ذلك كان من أهل الاجتهاد وجاز له أن يفتى ويقضى. وجَوَّز أبو حنيفة أن يُولى القضاء من ليس أهلا للاجتهاد على أن يستفتى غيره في أحكامه قبل قضائه. وفى تولية القضاء من لم تتوفر فيه بعض هذه الشروط، وفى نفاذ قضائه آراء (يرجع إليها في مصطلح قضاء). وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضى الله عنه قضاء اليمن وكان حديث السنن فقال له يا رسول الله ترسلنى قاضيا وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله سيهدى قلبك ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء. قال على فما زلت قاضيا وما شككت في قضاء بعد. أخرجه الترمذى. وقال حديث حسن. كذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى ناحية من نواحى اليمن قاضيا فسأله وقال له بم تقضى؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيى ولا آلو (أي أقصر) فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضى رسول الله. وقد تكون ولاية القضاء بالمراسلة والمكاتبة مع الغيبة كما تكون بالمشافهة مع الحضور فإن كان التقليد مشافهة فقبوله على الفور لفظا وإن كان في الغيبة جاز أن يكون على التراضى. وقد تكون التولية عامة. وقد تكون خاصة. فإذا كانت عامة اشتمل نظره على عشرة أحكام، الفصْل في المنازعات، واستيفاء الحقوق من الممتنع، وثبوت الولاية على من كان ممنوعا من التصرف لضعف أهليته، والنظر في الأوقاف، وفى تنفيذ الوصايا، وفى تزويج الأيامى بالأكفاء عند عدم الأولياء، وفى إقامة الحدود على مستحقها، وفى النظر في المصالح عامة من كتب المعتدين ونحو ذلك، وفى تصفح الشهود والأمناء واختيار النائبين، وفى التسوية في الحكم بين القوى والضعيف والشريف والوضيع. وإن كانت خاصة اختصت بما تضمنته الصيغة عند التقليد أو التولية فليس للقاضى على الجملة وإن عمت ولايته جباية الخراج لأن ذلك من ولاية أمير الجيوش. أما أموال الصدقات فإن اختصت بناظر خرجت من عموم ولايته وإلا دخلت في عموم ولايته
على خلاف في ذلك بين الفقهاء (يرجع إليه في مصطلح قضاء). وكذلك القول في إمامة الجمع والأعياد. ويجوز أن يكون القاضي عام النظر في خصوص العمل الذي قُلده فيكون له النظر في جميع الأحكام في المحلة أو البلد الذي عين له وعندئذ يحكم بين ساكنيها والطارئين عليها إلا أن يُنص في التقليد على تخصيص ولايته لأهله فقط. وفى استخلاف القاضي غيره فيما عُهد إليه بعد فصل، (يرجع إلى حكمه في مصطلح استخلاف). ويجوز أن تكون ولاية القاضي متعددة على خصومة معينة بين خصمين كما يجوز أن تكون مخصصة بضروب معينة من النزاع والتخاصم وليس لغير أهل الاجتهاد وطلب القضاء لأنه ليس من أهله، فإن كان من أهل الاجتهاد كان له طلب القضاء إذا لم يكن هناك أحق منه. وفى ذلك آراء (يرجع إليها في مصطلح قضاء).
ومرد هذه المسألة إلى جواز طلب الولاية وعدم جوازه. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن أجبر عليه نزل إليه ملك يسدده" وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الرحمن بن أبي سمرة "لا تسأل الإِمارة فإنك إن أعطيتها من غمر مسألة أعنت عليها". وقد استحدث العباسيون في القضاء ولاية عامة سموا صاحبها بقاضى القضاة، كان إليه النظر في أمر القضاء تولية وعزلا وتخصيصا تعميما وكان أول من قُلد هذه الولاية أبو يوسف يعقوب ابن إبراهيم الأنصارى الكوفي صاحب أبي حنيفة المتوفى سنة 182 هـ. وقد كان القضاء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى عهد أبي بكر وفى صدر خلافة عمر رضى الله عنهما جزءا من الولايات العامة فكانت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده وإلى الخليفة من بعده أو إلى من ينيبه ممن يرى أنه أهل للقضاء. ولقد أناب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بعض أصحابه في بعض ما رفع إليه كما أناب أبو بكر وعمر. ولما فتحت الأمصار وكثر الناس في عهد عمر عهد به إلى من يليه فعهد إلى أبي الدرداء بقضاء المدينة وإلى شريح بقضاء البصرة وإلى أبي موسى الأشعرى بقضاء الكوفة ومن ذلك الحين صارت ولاية القضاء مستقلة ومستمدة من الخليفة أو من الأمير إذا كانت إمارته عامة كأمير المصر. وكانت هذه الولاية في أول عهدها خاصة بولاية الفصل في الخصومات بين الناس ولا تتجاوزه إلى غيرها من الولايات كولاية الخراج وولاية بيت المال. بل كانت لا تتناول القصاص والحدود إذ كان مرجع ذلك إلى ولاة الأمصار. وجاء في مقدمة ابن خلدون أن من الخلفاء من كان يفوض إلى بعض القضاة النظر في بعض الأمور العامة لا باعتبار أنها داخلة في ولاية القضاء ولكن لما يراه فيه من الكفاءة كما فوض عمر بن الخطاب لقاضيه أبي إدريس الخولانى النظر في المظالم وهى ولاية خاصة يراعى فيها قوة السلطة ونصفة القاضي وشدة الرهبة لما تقوم به من قمع الظالمين وزجر المعتدين.
إمارة الحسبة:
الحسبة فعل ما يحتسب عند الله تعالى ذكر ذلك الراغبُ الأصفهانى في مفرداته ولا تخرج في استعمال الفقهاء لها عن هذا المعنى فهى عندهم أمر بمعروف ظهر تركه ونهى عن منكر ظهر فعله فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده إذ يقول {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران) وهى من فروض الكفاية إذا قام بها بعض الأمة سقط طلبها عن باقيها لم يخالف في ذلك إلا عدد دليل منهم الشيخ أبو جعفر وابن حمزة من الإِمامية.
وهذه الولاية ولاية شرعية أوجبها الشارع على من كان قادرا عليها. قال صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإِيمان" رواه الشيخان في صحيحهما.
وولاية الخليفة أو الحاكم تنظمها بحكم أنها ولاية عامة ولذا كان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالنسبة إليهما فرض عين كما أنه فرض عين كذلك على من يُولى ذلك من قبل الخلفاء أو الأمراء بحكم منصبه ووجوب قيامه به والولاية في الحسبة نوعان: ولاية أصلية ثابتة عن الشارع وهى الولاية التي اقتضاها التكليف بها وولاية مستمدة وهى التي تُسْتمد من الخليفة أو الأمير وهي ولاية المحتسب المعين كذلك ولذا يُرى أنه يجمع بين الولايتين جميعا لأنه مكلف بها من جهة الشارع ومكلف بها كذلك من قبل من عهد بها إليه.
والولاية الأصلية كما تتضمن الأمر والنهى على وجه الطلب مباشرة تتضمن كذلك القيام بما يؤدى إلى اجتناب المنكر على وجه الإدعاء والاستعداء وذلك بالتقدم إلى القضاء بالدعوى أو بالشهادة لديه أو باستدعاء إلى المحتسب أو والى المظالم وتسمى الدعوى لدى القاضي عندئذ دعوى حسبة ولا تكون إلا فيما هو حق لله تعالى أو ما كان فيه حق الله غالبا وعندئذ يكون مدعيها مدعيا بالحق وشاهدا عليه في وقت واحد لأنه إن كان ممن عاين المنكر فهو شاهد وشهادته مقبولة دون دعوى تتقدمها وإن لم يشاهده ولم يعلم به لم تكن دعواه دعوى حقيقية وكانت مجرد اختبار للقاضى بما حصل من أمر المنكر لا يترتب عليه أثر وليس للقاضى بناء عليه أن يقوم بتجسس لأن وظيفته تنحصر في الفصل فيما يرفع إليه من النزاع ولا تتعدى ذلك إلى التحرى وبث العيون.
والحسبة ولاية شرعية ووظيفه دينية تلى في المرتبة وظيفة القضاء إذ أن ولايات رفع المظالم ثلاث أسماها وأقواها ولاية المظالم ويليها ولاية القضاء ويليها ولاية الحسبة لأن ولاية المظالم تقوم على التناصف بالرهبة وزجر المنازعين عن التجاحد بالهيبة ولذا كان من يعهد بها إليه جليل القدر عظيم الهيبة ظاهر العفة قليل الطمع كثير الورع لأن قيامه بعمله يحتاج إلى سطوة الحُماة وثبت القضاة ولذا كان من سلطانه تنفيذ ما لم ينفذ من أحكام القضاء للعجز عن تنفيذه والضعف عن إنفاذه أما ولاية القضاء فمجالها الفصل بين الناس في المنازعات التي ترفع إلى القاضي وأما ولاية الحسبة فهى تقصر عن ولاية القضاء في إنشاء الأحكام إذ أن مجالها النظر في الأمر بمعروف ترك والنهى عن منكر يفعل دون حاجة إلى دعوى ترفع وبينة تقدم وأيمان تطلب والحدود بمن هذه الولايات الثلاث ليست مرسومة على وجه يمتنع منه التداخل والتنازع بينها. فكان الفصْل بينها بسبب ذلك دقيقا وكان المرجع في ذلك على العموم ما نحويه مراسم التولية في كل منها وعلى الجملة يُرى أن ولاية الحسبة تتفق مع ولاية القضاء في بعض المسائل وتقصر عنها في بعضها وتزيد علمها في مسائل أخرى فهى تتفق معها في جواز الاستعداء إلى القائم بها
وتقصر عنها في عدم تناولها لأية دعوى خارجة عن نطاق المنكرات الظاهرة فلا يختص والى الحسبة بسماع شئ من الدعاوى في العقود والمعاملات وتزيد عليها في أنها تتناول بعض ما لا تتناوله ولاية القضاء إذ لوالى الحسبة أن ينظر فيما عليه الناس فإن تركوا معروفا أمرهم به وإن رآهم على منكر نهاهم عنه وإن لم يترافع إليه في ذلك خصم ولم يستعده مستعد ثم لوالى الحسبة من القوة والسلاطة والاستطالة فيما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقضاة ما بين ولاية الحسبة وولاية القضاء من فرق أما ما بينها وبين ولاية المظالم فهى تشبهها في أنها تقوم على سلاطة السلطة وقوة الصرامة وجواز التعرض لأسباب تقتضيها المصالح العامة والتطلع إلى إنكار العدوان الظاهر وتختلف عنها ولاية المظالم في أنها تتناول ما يعجز عنه القضاء ولذا كانت ولاية المظالم أرفع الولايات.
طريق الحسبة:
الاحتساب يعد من الولاية العامة الشرعية إذا ما أسند إلى شخص من الأشخاص كولاية القضاء وله طرق توصل إليه كما أن للقضاء طرقا توصل إليه وهى الدعوى ووسائل إثباتها غير أن طريقه يختلف عن طريق القضاء فالاحتساب يقوم على الاستعداء أو المشاهدة والعلم فإذا كان في حق من الحقوق الخاصة التي لا حق لمجموع الأمة فيها كان طريقه الاستعداء من صاحب الحق وليس للمحتسب أن يتدخل بالمنع والتغيير إلا بناء على طلب صاحب الحق واستعدائه وذلك كما إذا اعتدى إنسان على دار لآخر فسكنها بدون حق أو اغتصب شخص من آخر مالا وذلك لجواز ترك صاحب الحق حقه لمن اعتدى عليه فلا يكون مع هذا الترك ظهور لما اقترف من المنكر إذ قد يكون صاحب الحق في هذه الحال قد أباحه لمن هو في يده. والمحتسب إنما يتدخل عند ظهور المنكر وعدم احتمال زواله ورفعه. والاستعداء في هذه الحال يشبه الدعوى تطلب للقضاء غير أنه لا يطلب من المحتسب إلا التثبت من صحة الخبر بأى طريق من الطرق إما عند الخفاء والإنكار ممن نسب إليه الاعتداء فلا يتدخل المحتسب لأنه لا يسمع دعوى ولا يوجه عيبا ولا يتجسس. ذلك إذا كان المنكر متمثلا في الاعتداء على حق خاص أما إذا كان متمثلا في حق من حقوق الله تعالى بأن يظهر اعتداء على مرفق عام أو حق يغلب فيه حق الله فإنه في هذه الحال يقوم على المشاهدة والعلم الشخصى سواء أكان ذلك بواسطة المحتسب نفسه أو بواسطة أعوانه لأنهم في الواقع ولاة من ولاة الحسبة بسبب تعيينهم فيها.
ويجوز أن يقوم الاحتساب في هذه الحال على الإمارات الظاهرة فإذا سمع المحتسب أصوات استغاثة أو أصواتا منبثقة من اقتراف جريمة وجب عليه أن يتدخل وإن لم ير الجريمة نفسها لأن العلم كما يكون بالنظر يكون بالسمع. وليس للمحتسب على العموم أن يتعرف على المنكر بالتجسس ولا باستراق السمع ولا باستنشاق الروائح التي تدل عليه ولا برفع المستور لينظر ما وراءها. وهذه كانت سنة الخلفاء الراشدين وما يتفق مع ما نهى عنه الكتاب من التجسس. والاحتساب لا يكون إلا حيث يرى أن منكرا يقترف أو معروفا يترك وكان ذلك هديه صلى الله عليه وسلم طيلة حياته إذ كانت حياته حافلة بنهيه عن المنكرات وأمره بالمعروف وكان أكثر نهيه نهيا
عن أمور قائمة محظورة وقلَّ أن يكون عن أمر لم يقع وكذلك كان الوضع فيما كان يأمر به من معروف إذ كان يأمر به إذا لم يجده قائما وشاع في الناس تركه، وقد استن أصحابه من بعده سنته في ذلك فكانت حياة عمر رضى الله عنه حافلة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. إذ كان يجوب الطرقات ويمر في الأسواق وبيده درته يعزر بها كل من يراه مرتكبا منكرا تاركا معروفا مأمورا به. غير أنه لم يكن لولاية الحسبة في عهد الخلفاء الراشدين من عهد إليه بها من الصحابة بل ترك أمرها إلى من لهم ولاية الحكم على العموم وإلى آحاد المسلمين بحكم طلبها منهم شرعا ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن عين للقيام بها من يليها وسميت بهذا الاسم وذلك في عهد الدولة العباسية وفيما بعدها من الزمن فكان في كل من القاهرة ودمشق وحلب وغيرها إمارات للحسبة لها ولاة يقومون عليها. (ارجع إلى مصطلح حسبة).
ولاية المظالم:
يقول الماوردى: نظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة فكان من شروط الناظر منها أن يكون جليل القدر نافذ الأمر عظيم الهيبة ظاهر العفة قليل الطمع كثير الورع لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة وثبت القضاة.
أما ابن خلدون فيقول: النظر في المظالم وظيفة ممتزجة في سطوة السلطنة ونصفة القضاء وتحتاج إلى علوية وعظيم رهبة تقمع الظالم في الخصمين وتزجر المعتدى.
أما شيخ الإسلام بن تيميه فيقول عن ولاية المظالم: من الولايات والولاية أمانة والأمانة مطلوب أداؤها على حقيقتها. قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا} . ويتبين من ذلك أن ولاية المظالم كولاية القضاء وكولاية الحرب وكولاية الحسبة جزء مما يتولاه ولى الأمر الأعظم ويقيم نائبا عنه فيه ممن يكون فيه الكفاية والهمة لأدائه ويسمى المتولى لأمر المظالم ناظرا ولا يسمى قاضيا وإن كان له مثل سلطان القضاء ومثل إجراءاته في كثير من الأحوال ولكن عمله ليس قضائيا خالصا بل هو قضائى وتنفيذى قد يعالج الأمور الواضحة بالتنفيذ أو بالصفح أو بالعمل الذي يرد لصاحب الحق حقه فهو قضاء أحيانا وتنفيذ إدارى أحيانا.
ولم يكن هذا الإجراء بالأمر الذي لم يكن له مثيل في ما قبل الإِسلام فقد حدث في زمن الجاهلية ما يسمى بحلف الفضول الذي حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقره بعد نبوته إذ قال "لقد حضرت في بيت عبد الله بن جدعان في الجاهلية حلفا ما أحب أن لي به حجر النعم ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت" وسببه أن رجلا من اليمن في زبيد قدم مكة معتمرا ببضاعة فاشتراها منه رجل من بنى سهم قيل أنه العاص بن وائل فلوى الرجل بحقه على الرغم من كثرة سؤاله بدفع ثمنه أو رد متاعه وامتنع من إجابته فاستعدى عليه الرجل من استعدى من أهل مكة فاجتمعت بطون قريش وتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان على رد المظالم بمكة وعلى ألا يظلم أحد بها إلا منعهوه وأخذوا للمظلوم حقه من ظالمه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قبل النبوة. ولقد نظر الرسول صلى الله عليه وسلم في رد المظالم وباشر ذلك بنفسه ومن ذلك ما حدث من قيامه صلى الله عليه وسلم من دفع دية
قتلى من قتلهم خالد بن الوليد بعد إعلانهم الخضوع إذ استنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عليه والتزم بدفع دية القتلى على أساس أن ذلك وقع خطأ وقال "اللهم إنى أبرأ إليك مما فعل خالد" وبعث في ذلك على بن أبي طالب رضى الله عنه وقد استن سنته صلى الله عليه وسلم في ذلك الخلفاء الراشدون ومن ذلك انتصار عمر رضى الله عنه للقبطى الذي ضربه بن عمرو بن العاص حين سبقه في السباق قائلا له "أتسبق ابن الأكرمين" فلقد أحضره عمر حين شكاه القبطى إليه وأمره أن يقتص لنفسه قائلا "اضرب ابن الأكرمين" وسيرة عمر بن عبد العزيز مليئة برد الظلامات والحقوق وإنصاف المظلومين ومن ذلك أن أهل سمرقند شكوا إليه قائده قتيبة بن مسلم لأنه قاتلهم قبل أن يعرض الإِسلام عليهم أو العهد فبعث لهم عمر من ينظر في هذه الظلامة فأمر أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وأن ينابذهم المسلمون على سواء فقال أهل سمرقند نرضى بما كان ولا نريد حربا جديدة. ولقد جاءه وفد من أحد الأقاليم يشكون إليه ظلما فقال لهم لا تجشموا أنفسكم مشقة السفر في طلب الحق بل أطلبوه وأنتم في بلدكم مطمئنون في دياركم والنتيجة أن النظر في المظالم كان مرده إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومسلك خلفائه من بعده. وقد روى أن أول من نظر في المظالم بانتظام على بن أبي طالب ولما غلب على الناس الطابع المادى الدنيوى وذلك في عهد بنى أمية وما يليه أصبح نظر المظالم ولاية متميزة وإمارة خاصة بها متميزة عن ولاية القضاء وولاية الحسبة. وكان عبد الملك بن مروان من أول من خصص لهذه الولاية يوما للنظر فيها سواء بنفسه أو بواسطة أعوانه وكذلك فعل من بعده من العباسيين المهدى ثم الهادى ثم الرشيد ثم المأمون. ولقد كتب أبو يوسف إلى هارون الرشيد في كتابه الخراج قوله "يا أمير المؤمنين تقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالجلوس لمظالم رعيتك تتسمع من المظلوم وتنكر على الظالم ولعلك لا تجلس بهذا إلا مجلسا أو مجلسين حتى يشيع ذلك في الأمصار والمدن فيخاف الظالم وقوفك على ظلمه
(1)
.
ديوان المظالم:
لقد أصبح النظر في المظالم بمرور الزمن ولاية لها أناظيمها وحدودها وعمال يقومون عليها. لهم أمير أو ناظر يختار من علمة القوم ومن ذوى المكانة والجاه معروف بالتقوى والورع وقلة الطمع كما أورد أبو يعلى حين يقول لناظر المظالم في فضل الهيبة وقوة اليد في كف الخصوم عن التجاحد ورفع الظلمة من التغالب والتجاذب ما ليس للقضاة فالناظر في المظالم يجب أن يكون جليل القدر نافذ الأمر عظيم الهيبة ظاهر العفة قليل الطمع كثير الورع لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة وتثبت القضاة فاحتاج إلى الجمع بين الصفتين
(2)
.
وقد ذهب بعض العلماء إلى التعبير عن ديوان المظالم باسم المحكمة العليا وكانت رياستها للخليفة أو لمن ينيبه ومن أعضائها قاضى القضاة وكبار. رؤساء الدواوين وبعض رجال الفقه والإفتاء. وكان لأحكامها قوة ليست لأحكام القضاء التي كثيرا ما كان يُلجأ في تنفيذها إليهم
(1)
الأحكام السلطانية للماوردى والأحكام السلطانية لأبى يعلى والكامل في التاريخ لابن الأثير والخراج لأبى يوسف.
(2)
الأحكام السلطانية للماوردى والأحكام السلطانية للقاضى أبي يعلى في ولاية المظالم.
ولم يكن أحد يجرؤ على عدم الخضوع لقراراتها وذلك لاستنادها إلى سلطان ولى الأمر نفسه. وقد جاء في كتاب الأحكام السلطانية للماوردى في ذلك أنه إذا نظر في المظالم من انتدب لها جعل لنظره يوما معروفا يقصده فيه المتظلمون ويستكمل مجلس نظره بحضور خمسة أصناف لا يستغنى عنهم ولا ينتظم نظره إلا بهم أحدهم: الحماة والأعوان لجذب القوى وتقويم الجرئ والصنف الثاني: القضاة والحكام لاستعلام ما يثبت عندهم من الحقوق ومعرفة ما يجرى في مجالسهم بين الخصوم، والصنف الثالث: الفقهاء: ليرجع إليهم فيما أشكل ويسألهم عما اشتبه وأعضل، والصنف الرابع: الكتاب: ليثبتوا ما جرى بين الخصوم وما توجه لهم أو عليهم من الحقوق، والصنف الخامس: الشهود ليشهدهم على ما أوجبه من حق وأمضاه من حكم.
اختصاص ديوان المظالم:
إن ما يرفع إلى ديوان المظالم من خصومات بعضه لا يحتاج إلى رفع دعوى وبعضه الآخر يتوقف النظر فيه عليها وبهذا يختلف القضاء عن النظر في المظالم إذ من المظالم ما ينظر فيه ناظرها بعد تصفحه لأحوال الرعية واتصال علمه بما وقع من ظلم لرفعه وأكثر ذلك متعلق بالنظام العام.
ومنها ما يحتاج النظر فيه إلى دعوى ترفع ومطالب تعرض. وقد أورد الماوردى في الأحكام السلطانية القضايا التي يعالجها ناظر المظالم فقسمها إلى عشرة أنواع ثلاثة منها لا يحتاج إلى متظلم أو مُدع بل يعرض لها ناظر المظالم من تلقاء نفسه والسبعة الباقية يتوقف النظر فيها إلى تظلم متظلم يتقدم بدعواه.
النوع الأول وهو ما لا يحتاج إلى متظلم يتناول.
أولا: النظر في اعتداء الولاة على الرعية وتعديهم سلطانهم وهذا من أهم ما ينظر فيه أمير المظالم فعلمه أن يتصفح سير الولاة بين الرعية وأحوالهم وأعمالهم وتصرفاتهم ويحاسبهم على التجاوز فيها. ثانيا: النظر في جور العمال فيما يجبونه من أموال وسيرهم في جبايتها بالحق حتى يتأكد أنهم قد جمعوها من غير إرهاق للناس أو إيذاء وأن هذه الأموال لم تتجاوز ما يجب عليهم. كما يجب أن يتحرى نزاهة العمال وأنهم لم يأخذوا لأنفسهم شيئا عن طريق الرشوة أو الهدية المقنعة وفى قصة ابن اللتبية الذي أمره الرسول على بعض المال فلما جاء به إلى الرسول قال له هذا لكم وهذا لي أعطيتُه هدية، فقد صعد رسول الله على المنبر وقال ما بال أحدكم يُعهد إليه بإحضار مال من أموال المسلمين فإذا جاء به قال هذا لكم وهذا لي هدية أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى يُهدى إليه. ثالثا: مراقبة كتاب الدواوين في أعمالهم لأنهم أمناء المسلمين على ثبوت أموالهم فيما يستوفونه أو يُوفونه.
النوع الثاني: ويتمثل في رفع الظلم الخاص ويتناول: أولا: النظر في تظلم العمال من نقص أرزاقهم أو تأخيرها عن موعدها. ثانيا: رد الأموال المغتصبة إلى أربابها ويُعتبر هذا من أهم ما ينظر فيه والى المظالم إذ أن الغاصب غالبا ما يكون من ذوى القوة والبأس وقد قسم الفقهاء هذا النوع من الغصوب قسمين:
الأول: غصوب سلطانية وهى التي أخذها الولاة أو الحكام من غير حق إما بضمها إلى مال الدولة
ظلما وإما أن يأخذها الولاة لأنفسهم وفى هذه الخال يقوم مجلس المظالم برد هذه الغصوب إلى أهلها - وعلى والى المظالم أن يتعرف على ذلك بتصفح أحوال الولاة وسلوكهم وما ضم إلى أموال الدولة من أموال كما له أن يتعرف على ذلك بالاستماع إلى ظلامات أصحابها وبحثها والقسم الثاني من الغصوب ما غصبه الأقوياء من الضعفاء وتصرفوا فيه تصرف الملاك وقد جعل النظر في هذا النوع لوالى المظالم فوق ما للقضاء فيه من ولاية نظرا لما للمغصوب فيه من ضعف أمام الغاصب قد يذهب بحقه بسبب ما للغاصب من قوة وسطوة وجاه. قد يحول دون نصفته أمام القضاء.
وهذا النوع من الغصوب لا ينظر فيه والى المظالم إلا بناء على دعوى أو ظلامة ترفع إليه ولكنه لا يتقيد عند نظره بما يتقيد به القاضي من طرق الإيثار بل يكون له أن يصل إلى الحق فيه بكل طريق يوصله إليه وتطمئن إليه نفسه لأن ضعف صاحب الحق قد يعجزه عن الإثبات كما أن قوة الغاصب قد تخيف الشهود وتساعد على إخفاء الحقيقة وطمسها.
ثالثا: الأوقاف: فينظر فيها والى المظالم وهى ضربان عامة وخاصة: فأما العامة فيبدأ بتصفحها وإن لم يكن فيها متظلم ليجريها على سبيلها ويمضيها على شروط واقفها إذا عرفها من أحد ثلاثة أوجه إما من دواوين الحكام المندوبين لحراسة الأحكام، وإما من دواوين السلطنة على ما جرى فيها من معاملة أو ثبت لها من ذكر وتسمية وإما من كتب فيها قديمة تقع في النفس صحتها وإن لم يشهد الشهود بها لأنه ليس يتعين الخصم فيها فكان الحكم أوسع منه في الوقوف الخاصة فإن نظره فيها موقوف على تظلم أهلها عند التنازع فيها لوقفها على خصوم متعينين فيعمل عند التشاجر فيها على ما تثبت به الحقوق عند الحاكم ولا يجوز أن يرجع إلى ديوان السلطنة ولا إلى ما يثبت من ذكرها في الكتب القديمة إذا لم يشهد بها شهود معدلون، والقسم السابع: تنفيذ ما وقف القضاة من أحكامها لضعفهم عن إنقاذها وعجزهم عن المحكوم عليه لتعززه وقوة يده أو لعلو قدره وعظم خطره فيكون ناظر المظالم أقوى يدا وأنفذ أمرا فينفذ الحكم على من توجه إليه بانتزاع ما في يده أو بإلزامه الخروج مما في ذمته، والقسم الثامن: النظر فيما عجز عنه الناظرون من الحسبة في المصالح العامة كالمجاهرة منكر ضعفط عن دفعه والتصدى في طريق عجز عن منعه والتخفيف في حق لم يقدر على رده فيأخذهم بحق الله تعالى في جميعه ويأمر بحملهم على موجبه، والقسم التاسع: مراعاة العبادات الظاهرة كالجمع والأعياد والحج والجهاد من تقصير فيها وإخلال بشروطها فإن حقوق الله أولى أن تستوفى وفروضه أحق أن تؤدى، والقسم العاشر: النظر بين المتشاجرين والحكم بين المتنازعين فلا يخرج في النظر بينهم عن موجب الحق ومقتضاه ولا يسوغ أن يحكم بينهم إلا بما يحكم به الحكام والقضاة وربما اشتبه حكم المظالم على الناظرين فيها فيجوزون في أحكامها ويخرجون إلى الحد الذي لا يسوغ فيها.
ويبين من هذا أن ولاية المظالم قد تكون فيما يدخل في الولايتين ولاية القضاء وولاية الحسبة
(1)
. غير أن كثيرا من الفقهاء يميزون
(1)
الأحكام السلطانية للماوردى ص 69، 70 الطبعة الأولى سنة 1337 هـ - سنة 1909 م.
بين نظر والى المظالم والقاضى من عدة وجوه ذكرها الماوردى في الأحكام السلطانية. ويمكن إجمالها فيما يأتى وهو أن نظر والى المظالم أفسح مجالا وأوسع مقالا وبخاصة في طريق الوصول إلى الحق والتعرف على الباطل وإن لوالى المظالم أن يقوم بتعزيز من ظهر ظلمه وبتقويم من بان عدوانه وأن يتأنى في إصدار حكمه إذا ما رأى المصلحة في ذلك وأن يرد الخصوم ليصلحوا ما بينهم دون مداخلة منه وأن يسمع من شهادات المستورين بما يخرج عن عرف القضاء وأن يحلف الشهود عند ارتيابه وأن يقوم بما يرى من طرق التحرى وأن يستدعى من يرى سؤاله من الشهود ولو لم يطلب من المدعى وعلى الجملة فله أن يفصل بعلمه نتيجة لتحريه وبحثه ورؤيته وليس ذلك للقاضى.
هذا. وقد ذكر الماوردى أن ولاية المظالم تتفق مع ولاية الحسبة في أن اختصاص كل منهما قائم على الرهبة وزيادة السلطة وقوتها وفى التعرض لإقامة الصالح وإنكار العدوان الظاهر عليها. وتفترقان في أن النظر في المظالم يكون غالبا لما عجز عنه القضاء وأن لوالى المظالم أن يرفع إلى القاضي والمحتسب بما يرى المصلحة في رفعه إليهما وليس لهما أن يرفعا إلى والى المظالم لأنه دونه في المنزلة والسلطان
(1)
.
وفى تعرف باقى الأحكام يرجع إلى (مصطلح ولاية المظالم).
إمارة الحج:
هذه الإمارة قد تكون لتيسير سفر الحجيج وتدبير أمورهم وقد تكون لإقامة شعيرة الحج.
والأولى من هاتين الإِمارتين إمارة سياسية وولاية تدبيرية والشروط المعتبرة فيمن يلبيها أن يكون مطاعا ذا رأى وشجاعة وهيبة وهداية وعلى من يلى إمارة الحج من الحقوق عشرة: أحدها أن يجمع الناس في مسيرهم ونزولهم حتى لا يتفرقوا فيخاف عليهم التلف والضلال؛ وثانيها ترتيبهم في المسير والنزول وجعلهم طوائف على كل طائفة منهم عريف حتى تعرف أمكنتهم ونقل منازعتهم؛ ثالثها أن يرفق بهم في السير حتى لا يعجز ضعيفهم، فقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الضعيف أمير الرفقة". يريد: أن من ضعفت دوابه كان على القوم أن يسيروا بسيره؛ رابعها أن يسلك بهم أوضح الطرق وأخصبها ويتجنب أوعرها وأجدبها؛ خامسها أن يرتاد بهم موارد المياه حتى لا يصيبهم عطش؛ سادسها أن يقوم على حراستهم؛ سابعها أن يجنبهم عوائق المسير ثامنها أن يصلح بينهم إذا تنازعوا ولا يتعرض للحكم بينهم إلا إذا فوِّض إليه ذلك؛ تاسعها أن يقوم زائفهم ويؤدب خائنهم ولا يتجاوز التعزير إلى الحد إلا أن يؤذن له في ذلك فيستوفيه. وإذا دخل بلدا عليه من يلى الحدود كان أولى بإقامة الحد أن سببه قد حدث قبل دخول البلد، وإلا كان ذلك لوالى البلد وعاشرها أن يراعى اتساع الوقت حتى يؤمن القوات - فإذا وصل إلى الميقات أمهلهم للإحرام وإقامة سنته. وعلى الجملة يرعاهم ويهديهم إلى ما فيه يسرهم ولا يعنتهم. وإذا وصل الحجيج إلى مكة فمن كان منهم على نية الرجوع إلى بلده فهو تحت ولايته ويلتزم بأحكام طاعته. ومن كان منهم على نيّة الإقامة بمكة زالت عنه ولايته. وإذا قضى الناس الحج أمهلهم بما جرت به العادة من
(1)
المرجع السابق.
الإِقامة ولا يرهقهم في الخروج فيضر بهم ثم يكون معهم في زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يكون في العودة بهم إلى بلدهم ملتزما بمثل ما التزم به في خروجه بهم. وإذا كان واليا على إقامة الحج كان عليه أن يرشد الناس إلى مناسك الحج وأحكامها وسننها وشروطها حتى يكونوا على علم بما يطلب منهم فيها. وعند ذلك يراعى فيه أن يكون عالما بمناسك الحج وأحكامه عارفا بمواقيته وأيامه. وتتوقف ولايته بسبعة أيام من صلاة ظهر اليوم السابع من ذى الحجة إلى الثالث عشر منه وهو فيما قبل ذلك وما بعده أحد الرعايا وليس من الولاة. وإذا كانت إمارته على إقامة الحج مطلقة فله إمارته في كل عام حتى يصرف عنها. وعليه في هذه الولاية إشعار الناس بوقت إحرامهم والخروج إلى مشاعرهم وترتيبه المناسك على ما جاء به الشرع ويكون تقدير المواقيت بمقامه فيها وسيره عنها كما تقدر صلاة المأمومين بصلاة الإِمام وعليه إتباع الأذكار والأدعية المأثورة فيها لينبه الناس في ذلك ويؤم الناس في الصلاة التي شرعت فيها خطب الحج وهى خطبتان خطبة في يوم عرفة وأخرى يوم النفر الأول ويستحب له في اليوم الثامن أن يخرج من مكة فينزل بخيف منى بنى كنانة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيت بها ويسير بهم من منى في اليوم التاسع إلى عرفة فإذا أشرف على عرفة نزل ببطن عرفة وأقام به حتى تزول الشمس ثم سار إلى مسجد إبراهيم بوادى عرفة فخطب الخطبة الأولى من خطب الحج قبل الصلاة فذكر للناس فيها ما يلزمهم من أركان الحج ومناسكه وما يحرم عليهم من محظوراته ثم صلا بهم بعد الخطبة صلاة الظهر والعصر جامعا بينهما في وقت الظهر ويقصر المسافرون ويتم المقيمون ثم يسير بعد فراغه إلى عرفة فيقف بها ثم يسير بعد غروب الشمس إلى مزدلفة فيؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين صلاة العشاء ويؤم الناس ويبيت بمزدلفة ويلتقط هو والناس حصى الجمار ويسير منها بعد الفجر ثم يتوجه منها إلى المشعر الحرام فيقف فيه داعيا.
ثم يسير إلى منى فيبدأ برمى جمرة العقبة قبل الزوال بسبع حصيات ثم ينحر هو ومن ساق هديا ثم يحلق أو يقصر ثم يتوجه إلى مكة فيطوف طواف الإِفاضة ويسعى بعده ان لم يسع قبل عرفه ثم يعود إلى منى فيصلى بالناس الظهر ويخطب بعدها وهى الخطبة الثالثة من خطب الحج الأربع ويذكر للناس ما بقى عليهم من مناسكه وحكم إحلاله الأول والثانى وما يستبيحونه من محظورات الإِحرام بكل واحد منهما على الإِنفراد. وإن كان فقيها قال هل من سائل. وإن لم يكن فقيها لم يتعرض للسؤال. ويبيت ليلته بمنى ليرمى من غدها وهو يوم الحادى عشر إحدى وعشرين حصاة وهى الجمار الثلاث كل جمرة بسبع ويبيت بها ليلته الثانية ويرمى في غيرها الجمار الثلاث وذلك يوم النفر الأول ثم يخطب بعد صلاة الظهر الخطبة الرابعة وهى آخر الخطب المشروعة في الحج يعلم الناس فيها بقية مناسك الحج المندوبة من النفر في يومين أو ثلاثة أيام ويعلمهم أن من نفر من منى قبل غروب الشمس من يومه هذا، سقط عنه المبيت بها، والرمى للجمار من غده. ومن أقام بها حتى غربت الشمس لزمه المبيت بها، والرمى في غده.
وليس لهذا الإِمام بحكم ولايته أن ينفر في النفر الأول، ويقيم ليبيت بها لينفر في النفر
الثاني من غده، في يوم الحلاق، وهو اليوم الثاني عشر بعد رمى الجمار الثلاث. لأنه متبوع. فلا ينفر إلا بعد استكمال المناسك. فإذا استقر حكم النفر الثاني، انفضت ولايته وقد أدى ما لزمه.
وليس له تعزير الحجيج إلا من فعل منهم محظورا من محظورات الحج وليس له الحكم بينهم فيما يتنازعون فيه من غير أحكام الحج وله الإِفتاء لمن فعل محظورا يستوجب جزاء بما يجب عليه من جزاء كما له أن يفتى فيما يسأل عنه إذا كان فقيها عالما به وليس له أن يحمل الناس على مذهبه (الأحكام السلطانية لأبى يعلى من إمارة الحج).
إمارة بيت المال:
بيت المال اسم للجهة التي يحفظ فيها جميع ما يستحقه جماعة المسلمين من أموال لإِنفاقه في مصالحهم العامة فبيت المال إذن في اصطلاح الفقهاء بناء على ذلك هو المصرف الشرعى الذي يمثل تلك المصالح التي سنعرض لها عند بيان مصادر تلك الأموال العامة المستحقة التي لا يستحقها شخص بعينه - هذا ما يريده الفقهاء عند طلاقهم اسم بيت المال إذا ما قالوا هذا من حق بيت المال أو هذا لبيت مال المسلمين أو هذا حق مستحق في بيت المال وكثيرا ما يراد به المكان الذي تخزن فيه تلك الأموال فور جمعها وتحصيلها إلى أن تصرف في مصارفها المختصة بها وهذا استعمال لا يبعد عن الاستعمال السابق والمقصود فيهما واحد إذ العبرة بالمستحق لا بمكان المال المستحق - وليس يعلم على التحديد زمن نشأة هذا الاصطلاح واستعماله في لسان الفقهاء ولكن المؤكد أن هذا الاصطلاح لم يعرف إلا في عهد عمر رضى الله عنه حين أشير عليه بإنشاء الديوان على غرار ما كان عليه الحال في النظامين الرومانى والفارسى حين دعت الحاجة إلى ذلك إذ لم تكن حاجة إلى إنشائه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر من بعده وذلك لقلة مصادره من الأموال حين ذلك فقد كانت الصدقات قليلة والغنائم قليلة وكان ما يرد منها يقسم بمن مستحقيه وقت وروده دون إدخار لشئ منه وكان هذا هو شأن كل مغنم جاء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجئ ويفرق في حينه ولما فرضت الزكاة ووجدت ابل الصدقة وكان لها مراح ورعاة يقومون عليها لم يكن ذلك أيضا داعيا إلى إنشاء بيت المال واستمر الحال على ذلك في عهد أبي بكر وشطر من خلافه عمر حيث كان المسجد هو المكان الذي تحمل إليه الأموال فتقسم بين المسلمين حين ورودها فلما اتسعت الفتوح في عهد عمر وكثرت الأموال لم ير عمر بدا من أن يضبط موارد هذا المال ومصارفه فأمر بإنشاء ديوان لبيت المال يُرصد فيه الوارد والمنصرف ويحصر فيه الجند وأعطياتهم مما فرض للمهاجرين والأنصار كما أمر أن يكون لكل والٍ من ولاة الأمصار ديوان على هذا الوضع وبهذا كان أول ديوان لبيت المال والجند ديوان عمر
(1)
.
وبيت مال المسلمين يتمول من كل مال يستحق للمسلمين دون تعيين مالك معين منهم له فكل مال من هذا القبيل يعد من حقوق بيت المال فإذا قبض صار بالقبض مضافا إلى حقوق بيت المال سواء أدخل في حرزه أم لم يدخل. وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال.
(1)
السياسة الشرعية لابن تيمية والخراج لأبى يوسف.
مصادر بيت المال:
الفيئ والصدقات وخمس الغنائم وكذلك الخراج والجزية وعشور التجارة والعشر ونصف العشر والأموال التي ليس لها مالك كالتركات التي لا وارث لها والغصوب والودائع التي تعذر معرفة أصحابها عقارا كان أم منقولا.
فأما الفيئ فمن حقوق بيت المال لأن مصرفه موقوف على رأى الإمام
(1)
. أما الغنيمة فيما عدا الخمس فليست من حقوق بيت المال لأنها مستحقة للغانمين الذين تعينوا بحضورهم الواقعة ولا يتوقف مصرفها واستحقاقها على رأى الإِمام ولا على اجتهاد له في مغنمهم منها فلم تصر لذلك من حقوق بيت المال إلا في الأراضين. فقد حكى فيها روايتان إحداهما أنه لا رأى له فيها كغيرها من الأموال والثانية أن له رأيا في وقفها أو قسمتها وأرجع في ذلك إلى مصطلح غنيمة ويلاحظ أن ما يؤخذ من الغنيمة من الخمس الواجب فيها فإنه ينقسم ثلاثة أقسام قسم منه يعد من حقوق بيت المال وهو سهم الرسول الواجب صرفه في المصالح العامة لوقوف مصرفه على رأى الإمام واجتهاده وقسم منه ليس من حقوق بيت المال وهو سهم ذوي القربى يتعين مالكه وخروجه بذلك عن حقوق بيت المال ولذلك خرج عن اجتهاد الإمام ورأيه وقسم منه يكون بيت المال فيه حافظا له على أهله وهو سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل إن وجدوا دفع إليهم وإن فقدوا أحرز لهم وأرجع إلى مصطلح فيئ (المرجع السابق).
وأما الصدقة وهى الزكاة فضربان صدقة المال الباطن وصدقة المال الظاهر، فأما صدقة المال الباطن فلا تعد من حقوق بيت المال لجواز أن ينفرد أربابه بإخراجها وتقسيمها في أهلها وأما صدقة المال الظاهر كأعشار الزروع والثمار وزكاة المواشى فقد ذهب أحمد إلى أن هذا النوع ليس من حقوق بيت المال أيضا لأن الجهات معنية لا يجوز صرفه في غير جهاته برأى الإمام ولا هو محل لإحراز بيت المال عند تعذر جهاته ولذا لا يجب دفعه إلى الإمام وإن جاز أن يدفع إليه.
ونقل عن بعض العلماء كجعفر بن محمد ما يفيد أن هذا النوع من حقوق بيت المال وذهب أبو حنيفة إلى أن هذا النوع من حقوق بيت المال أيضا لأن للإمام رأيا في صرفه في أهله وعند الشافعي ليس من حقوق بيت المال لأنه ليس لجهات عنده لا يجوز صرفة في غيرها ولكن اختلف قوله هل يكون بيت المال محلا لإِحرازه عند تعذر جهاته أم لا فذهب في القديم إلى أنه إذا تعذرت الجهات كان بيت المال محلا لإحرازه إلى أن توجد لأنه كان يرى وجوب دفعه إلى الإمام وذهب في الجديد إلى أن بيت المال ليس محلا لإحرازه استحقاقا لأنه لا يرى فيه وجوب دفعه إلى الإِمام وإن جاز أن يدفع إليه فلذلك لم يكن إحرازه مستحقا لبيت المال وإن جاز إحرازه فيه. (أرجع إلى مصطلح زكاة). أما ما كان مستحقا على بيت المال من أموال فنوعان: أحدهما ما كان بيت المال حرزا له واستحقاقه عندئذ معتبر بوجود أهله وجهاته فإن كان المال موجودا فيه كان صرفه في جهاته مستحقا لهم وإن كان غير موجود فيه لم يكن لجهاته استحقاق في بيت المال؛ والنوع الثاني أن يكون بيت المال له مستحقا وذلك على ضربين: أحدهما أن يكون
(1)
الخراج لأبى يوسف ص 23 وما بعدها، الأبدال لأبى عبيد ص 46 وما بعدها.
مصرفه مستحقا على وجه البدل كأرزاق الجند وأثمان الكراع والسلاح فاستحقاق ذلك غير معتبر، بالوجود وهى من الحقوق اللازمة عند الوجود والعدم فعند الوجود يحل ومنه كالديون مع اليسار وعند العدم يجب في الأنظار كالديون مع الإعسار والضرب الثاني أن يكون مصرفه مستحقا على وجه المصلحة والارتفاق دون البدل فاستحقاقه معتبر بالوجود دون العدم فإن كان موجودا في بيت المال وجب فيه وسقط فرضه عن المسلمين وإن كان معدوما سقط وجوبه عن بيت المال وكان من فروض الكفاية أن عم ضرره كافة المسلمين حتى يقوم به منهم من فيه كفاية كالجهاد وإن كان ما لا يعلم ضرره كوعورة طريق قريب يجد الناس طريقا غيره بعيدا أو انتفاع شرب يجد الناس شربا غيره فإنه إن سقط وجوبه على بيت المال بالعدم سقط وجوبه عن الكافة لوجود البدل وإذا اجتمع على بيت المال حقان ضاق عنهما واتسع لأحدهما صرف فيما يصير منهما دينا في بيت المال فلو ضاق من كل واحد منهما جاز لولى الأمر إذا خاف الفساد أن يعترض على بيت المال ما يصرفه في الديون دون الارتفاق. وكان بيت المال مأخوذا بقضائه إذا اتسع له بعد ذلك وإذا كان قيما لبيت المال من حقوق فضل عن مصرفها فقد اختلف في ذلك الفقهاء فذهب أبو حنيفة إلى أنه يُدخر في بيت المال لما ينوب المسلمين من حادث وذهب الشافعي إلى أنه يفرق على ما يعم به صلاح المسلمين ولا يُدخر وإن النوائب يتعين فرضها عليهم إذا حدثت ولم يكن في بيت المال ما يقوم بها (المرجع السابق).
وأما الخراج فهو ما يفرض على الأرض التي فتحها المسلمون عنوة أو صلحا. ويرى أبو يوسف أنه يعد من الفيئ إذ يقول وأما الفيئ فهو الخراج عندنا والخراج خراج الأرض وكان عمر رضى الله عنه يرى أن الخراج حق لجماعة المسلمين غانمين وغير غانمين ولذا خالف بلال حين سأله قسمة ما أفاء الله عليهم من أرض العراق والشام قائلا لو قسمت لم يبق لمن بعدكم شئ وقد أشرك الله فيها الذين يأتون من بعدكم إذ قال {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان} .
وهذا والله أعلم يعلم كل من جاء بعدهم من المؤمنين إلى يوم القيامة: ويرى أبو عبيدة أن الجزية من الفيئ أيضا فالخراج هو ما على الأرض من وظيفة وما على الرءوس من جزية ولذا كانت الجزية شأنها شأن الخراج في أنها لجميع المسلمين والأراضى التي افتتحها المسلمون ثلاثة أنواع أرض أسلم عليها أهلها وهى لهم ملك وعليهم فيها عشر ما تنتجه زكاة لا خراجا وأرض فتحت صلحا على خراج معلوم وهى على ما صولح عليه أهلها لا يلزمهم أكثر منه ومصيره إلى بيت المال وأرض أخذت عنوة وقد اختلف فيها الرأى بين الفقهاء فقال بعضهم سبيلها سبيل الغنيمة فتخمس وتقسم أربعة أخماسها بين الغانمين والخمس الباقى لمن سمى الله تعالى في قوله {واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} وقال بعضهم أمرها إلى الإمام إن رأى أن يجعلها غنيمة جعلها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر فذلك له إن رأى المصلحة في ذلك وإن رأى أن يجعلها فيئا فلا يخمسها ولا يقسمها بل تكون موقوفة على المسلمين عامة فذلك له إن رأى المصلحة فيه
كما صنع عمر بالسواد. (انظر مصطلح خراج).
وأما الجزية فهى ما فرض من مال على رءوس أهل الذمة الذين دخلوا في حوزة المسلمين من أهل الكتاب والمجوس ما خلا نصارى تغلب ونجران خاصة ومصيرها إلى بيت المال. وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أهل اليمن إن من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها (لا يصرف عنها) وعليه الجزية. (وانظر في نظامها وأحكامها إلى مصطلح جزية).
وأما عشور الحجارة فهو ما يؤخذ من أموال أهل الذمة أو أهل الحرب إذا مروا بتجارتهم في أرض المسلمين وعلى الذمى في تجارته نصف العشر من قيمتها من الحول إلى الحول. وأما المحارب فعليه العشر كاملا. أما ما يؤخذ من المسلمين في تجارته فيعتبر زكاة. (وانظر في تعرف أحكام ذلك إلى مصطلح عشور التجارة)(المرجع السابق).
ومن البيان المتقدم يتضح أن ما لبيت المال من حقوق أشرنا إليها وما عليه من حقوق مردها إلى حقوق جميع العمال القائمين بمهام الدولة من جند وغيرهم من العاملين بمصالحها العامة الذين تجب لهم أجورهم في بيت المال وما يقتضيه ذلك من نظام وتدبير في جمع الحقوق وحصرها وتوزيعها على مستحقيها وحفظها إلى أن يحين وقت توزيعها قد استوجب إقامة أمير أو والٍ يقوم على هذه المهام المنوطة ببيت المال ويسمى ناظر بيت المال أو أميره أو وإليه وله في هذه الحقوق من الولاية ما للقيم والأوصياء على أموال المحجور عليهم وهو في ذلك مُقيد برأى الإمام باعتباره مستمد ولايته منه. (ارجع في تعرف بقية الأحكام إلى مصطلح ولاية ومصطلح بيت المال).
"
الإِمامة في الصلاة
"
التعريف لغة:
الإِمامة مصدر فعله أم. قال صاحب لسان العرب
(1)
: أم فلان فلانا يؤمه أما إذا قصده، وفى حديث ابن عمر رضى الله عنهما: من كانت فترته إلى سُنَّة فلأَم ما هو، أي قصد الطريق المستقيم، ويحتمل أن يكون الأم أقيم مقام المأموم أي هو على طريق ينبغى أن يقصد، وفى حديث كعب بن مالك: ثم يؤمر بأمّ الباب على أهل النار فلا يخرج منهم غمٌّ أبدا، أي يقصد إليه فيسد عليهم. قال ابن سيده: والتيمم التوضوء بالتراب على البدل، وأصله من الأم لأنه يقصد التراب فيتمسح به. والأم العلم الذي يتبعه الجيش. ويقال تأمم فلان بكذا وأْتم به جعله أمة أي سُنة، وأم فلان القوم وأم بهم تقدمهم، وهى الإمامة، والإمام كل من إئتم به قوم سواء كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، قال ابن الأعرابى في قوله عز وجل:{يوم ندعو كل أناس بإمامهم}
(2)
قالت طائفة:
(1)
انظر لسان العرب للإمام العلامة جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المصرى جـ 49 ص 22 وما بعدها مادة أمم طبع مطابع دار صادر دار بيروت للطباعة والنشر طبعة سنة 1375 هـ.
(2)
الآية رقم 71 من سورة الإسراء.
بكتابهم. وقال آخرون بنبيهم وشرعهم، وقيل بكتابه الذي أحصى فيه عمله. والإمام الطريق وعليه قول الله عز وجل:{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}
(1)
أي لبطريق يؤم أي يقصد فيتميز يعنى قوم لوط وأصحاب الأيكة، والإِمام الصُّقْع من الطريق والأرض. وقال الفراء:{وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} يقول: في طريق لهم يمرون عليها في أسفارهم فجعل الطريق إماما لأنه يؤم ويتبع، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام أمته وعليهم جميعا الائتمام بسنته التي مضى عليها. قال ابن سيده: والإِمام ما أئتم به من رئيس وغيره، والجمع أئمة، وفى التنزيل قوله سبحانه وتعالى:{فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}
(2)
أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم الذين ضعفاؤهم تبع لهم، وإمام كل شئ قيمه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين، والخليفة إمام الرعية، وإمام الجند قائدهم، والإمام الخيط الذي يمد على البناء فيبنى عليه ويسوى عليه ساق البناء، وإمام الإبل حاديها، وإمام القبلة تلقاؤها، ويقال أممت القوم في الصلاة إمامة، وأتم فلان بفلان أي اقتدى به، وإمامنا هذا حسن الإِمامة أي حسن القيام بإمامته إذا صلى بنا، وقيل الإمام جمع آمٍّ كصحاب وصحاب. قال الليث: والإمة الائتمام بالإِمام يقال فلان أحق بإمامة هذا المسجد من فلان أي أحق بالإِمامة. قال أبو منصور: الإمة الهيئة في الإِمامة والحالة. يقال فلان حسن الإِمة أي حسن الهيئة إذا أم الناس في الصلاة.
التعريف شرعا:
جاء في الدر وحاشيته لابن عابدين، ما يفيد أن: الإِمامة مصدر قولك فلان أمّ الناس أي صار لهم إماما يتبعونه في صلاته فقط أو يتبعونه فيها وفى أوامره ونواهيه. والأول ذو الإمامة الصغرى، والثانى ذو الإمامة الكبرى. فالكبرى: استحقاق تصرف عام على الأنام، والصغرى - وهى الإِمامة في الصلاة - ارتباط صلاة المؤتم بالإِمام بشروط، لأن الإمام لا يصير إماما إلا إذا ارتبطت صلاة المقتدى بصلاته، فنفس هذا الارتباط هو حقيقة الإمامة، وهو غاية الاقتداء الذي هو الربط بمعنى الفاعل لأنه إذا ربط صلاته بصلاة إمامه حصل له صفة الاقتداء والائتمام، وجعل لإمامه صفة الإمامة التي هي الارتنباط
(3)
.
حكم الجماعة وعلى من تجب ومتى تسقط:
مذهب الحنفية:
الجماعة بالنسبة للصلوات الخمس - غير الجمعة - سنة مؤكدة للرجال. وقيل أنها واجبة. وقال بعضهم - توفيقا بين القولين - هي واجبة تثبت بالسنة فالمراد بالتأكيد الوجوب. وقيل: أنها فرض عين - وعلى أساس هذا القول قال العراقيون: من ترك الجماعة مرة بلا عذر يأثم. وقيل أنها فرض كفاية. وعلى أساس هذا القول إذا تركها الكل مرة بلا عذر أثموا.
أما الجماعة في الجمعة والعيد فهى شرط
(1)
الآية رقم 79 من سورة الحجر.
(2)
الآية رقم 12 من سورة التوبة.
(3)
انظر رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار بهامش حاشية الشيخ محمد أمين الشهير بابن عابدين جـ 1 ص 511 إلى ص 513 وما بعدها.
لصحة الصلاة في كل منهما سواء قلنا أن صلاة العيد واجبة أو سنة.
والجماعة في التراويح سنة كفاية على أهل كل محلة فلو ترك أهل محلة كلهم الجماعة في صلاة التراويح فقد تركوا السنة وأساءوا في ذلك. وإن صلوها بجماعة وتخلف بعضهم وصلاها في بيته منفردا فقد ترك الفضيلة.
وفى شهر رمضان تستحب الجماعة على قول وغير مستحبة على قول آخر بل يصليها وحده في بيته - وهما قولان مصححان.
وفى وتر غير رمضان وفى التطوع المشهور كراهة الجماعة وذكر بعضهم عدم الكراهة ووفق بعضهم بين القولين بحمل الأول على المواظبة والثانى على الفعل أحيانا.
وأما الجماعة في صلاة الخسوف فقد نقل ابن عابدين عن الحلية: أن ظاهر كلام الجم الغفير من أهل المذهب كراهتها وفى شرح الزاهدى قيل جائزة لكنها ليست سنة
(1)
.
ويكره تحريما تكرار الجماعة في مسجد محلة بآذان وإقامة إلا إذا صلى بهما فيه أولا غير أهله أو صلى أهله لكن بمخافته الأذان. ولو كرر أهله الجماعة بدون الآذان والإِقامة أو كان في مسجد طريق جاز إجماعا كما في مسجد ليس له إمام ولا مؤذن ويصلى فيه الناس فوجا فوجا فإن الأفضل أن يصلى كل فريق بآذان وإقامة على حدة. والمراد بمسجد المحلة ما له إمام وجماعة معلومون. والدليل على الكراهة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان قد خرج ليصلح بين قوم فعاد إلى المسجد وقد صلى أهل المسجد فرجع إلى منزله فجمع أهله وصلى ولو جاز ذلك لما اختار الصلاة في بيته على الجماعة في المسجد ولأن في الإِطلاق هكذا تقليل الجماعة معنى فإنهم لا يجتمعون إذا علموا أنها لا تفوتهم وأما مسجد الشارع فالناس فيه سواء لا اختصاص له بفريق دون فريق ومقتضى هذا الاستدلال كراهة التكرار في مسجد المحلة ولو بدون أذان ويؤيده ما في الظهيرية: لو دخل جماعة المسجد بعدما صلى فيه أهله يصلون وحدانا وهو ظاهر الرواية. قال ابن عابدين وهذا مخالف لحكاية الإجماع وعن هذا ذكر العلامة الشيخ رحمه الله السندى في رسالته أن ما يفعله أهل الحرمين من الصلاة بأئمة متعددة وجماعات مترتبة مكروه اتفاقا ونقل عن بعض المشايخ إنكاره صريحا وأقره الرملى في حاشية البحر. إلا أن هذا معارض بأن نحو المسجد المكى أو المدنى ليس له جماعة معلومون فلا يصدق عليه أنه مسجد محلة بل هو كمسجد شارع فلا كراهة في تكرار الجماعة فيه على ما سبق وفى شرح المنية عن أبى يوسف أنه إذا لم تكن الجماعة على الهيئة الأولى لا تكره وإلا تكره وهو الصحيح وبالعدول عن المحراب تختلف الهيئة، والجماعة
(2)
سواء كانت سنة أو واجبة تكون على الرجال العُقلاء البالغين الأحرار القادرين على الصلاة بالجماعة من غير حرج فبالحرج يرتفع الإِثم ويرخص في تركها ولكنه يفوته الأفضل بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لابن أم مكتوم الأعمى لما استأذنه في الصلاة في بيته ما أجد لك رخصة. قال في الفتح أي تحصل لك فضل الجماعة من غير حضورها وليس المقصود الإِيجاب على الأعمى لأن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
المرجع السابق إلى ص 515 وما بعدها.
(2)
المرجع السابق إلى ص 518 وما بعدها.
رخص لعتبان بن مالك في تركها لكن في نور الإِيضاح وإذا انقطع عن الجماعة لعذر من أعذارها وكانت نيته حضورها لولا العذر يحصل له ثوابها ولو فاتته ندب طلبها في مسجد آخر فلا يجب عليه الطلب في المساجد بلا خلاف بل إن أتى مسجدًا آخر للجماعة فحسن وإن صلى في مسجد حيه منفردا فحسن. وذكر القدورى أنه يجمع أهله ويصلى بهم وينال ثواب الجماعة. وندب طلب الجماعة في مسجد آخر إنما هو في غير المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى لأن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف وفى مسجده صلى الله عليه وسلم بألف وفى المسجد الأقصى بخمسمائة، وتسقط
(1)
الجماعة عن المريض والمعقد
(2)
والزمن ومقطوع يد ورجل من خلاف أو رجل فقط ومفلوج
(3)
وشيخ كبير عاجز وأعمى وإن وجد قائدا وكذا الزمن لو كان غنيا له مركب وخادم فلا تجب عليهما عنده خلافا لهما كما ورد في الحلية عن المحيط. وذكر في الفتح أن الظاهر أنه اتفاق والخلاف في الجمعة لا في الجماعة لكن المسطور في الكتب المشهورة خلافه وكذلك تسقط من حال بينه وبينها برد شديد ومطر وطين كثير وفى الحلية عن أبى يوسف سألت أبا حنيفة عن الجماعة في طين وردغة فقال لا أحب تركها وقال إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال وإن هذا الحديث يفيد الرخصة بالنسبة لترك الجماعة. والنعال جمع نعل وهو ما غلظ من الأرض في صلابة وإنما خص بالذكر لأنه أدنى بلل يندبها بخلاف الرخوة فإنها تتشف الماء ومثل النعال الأحذية وكذلك تسقط بالظلمة الشديدة التي لا يبصر طريقه فيها إلى المسجد فيكون كالأعمى والظاهر أنه لا يكلف إلى إيقاد سراج وإن أمكنه ذلك. ومن الأعذار الريح في الليل لا في النهار لعظم المشقة في الليل والخوف على المال من لص ونحوه إذا لم يمكنه غلق الدكان أو البيت مثلا ومنه خوفه على تلف طعام في قدر أو خبز في تنور والظاهر أن مال غيره الذي هو عنده كوديعة أو عارية أو رهن كماله لأنه مما يجب عليه حفظه وكذلك من الأعذار الخوف من غريم أو ظالم أو مدافعة أحد الأخبثين وإرادة سفر إذا أقيمت الصلاة وخشى أن تفوته القافلة وأما السفر نفسه فليس بعذر وقيامه بمريض يحصل له بغيبته المشقة والوحشة وحضور طعام تتوقه نفسه لشغل باله ومثله الشراب وقرب حضور الطعام ولحضوره وكذا اشتغاله بالفقه لا بغيره إلا إذا واظب على تكرار الفقه وترك الجماعة تكاسلا فلا يعتبر ذلك عذرا ويعزر ولو بحبس المال عنه مدة، وأقل
(4)
الجماعة اثنان واحد مع الإمام ولو مميزا لحديث "اثنان فما فوفهما جماعة"
(5)
قال في البحر لأنها مأخوذة من الاجتماع وهما أقل ما يتحقق به وهذا في غير الجمعة والعيد فإن الواحد فيهما مع الإِمام لا يكفى. وإقامة الجماعة في البيت كإقامتها في المسجد إلا في الأفضلية.
(1)
المرجع السابق لابن عابدين إلى ص 519 وما بعدها.
(2)
قال في المعزب المقعد الذي لا حراك به من داء في جسده أقعده والزمن الذي طال مرضه زمانا وقيل الزمن عند أبى حنيفة المقعد والأعمى والمقطوع اليدين أو أحداهما والمفلوج والأعرج الذي لا يستطيع المشى والأشل.
(3)
المفلوج هو من به فالج وهو استرخاء لأحد شقى الإنسان لانصباب خلط بلغمى تنسد منه مسالك الروح.
(4)
انظر حاشية ابن عابدين جـ 1 ص 517 وما بعدها الطبعة السابقة.
(5)
أخرجه السيوطى في الجامع الصغير ورمز بضعفه.
مذهب المالكية:
اختلف المالكية في حكم الجماعة فقال خليل والدردير الجماعة
(1)
في الفرض ولو فائتة غير الجمعة سنة مؤكدة لكل مصل وفى كل مسجد وفى البلد. وقال ابن رشد وابن بشير إنها فرض كفاية بالبلد يقاتل أهلها عليها إذا تركوها وسنة في كل مسجد ومندوبة للرجل في خاصة نفسه قال الأبى وهذا أقرب للتحقيق. وأما غير الفرض فمنه ما الجماعة فمه مستحبة كعب وكسوف واستسقاء أو تراويح. قال الدسوقى استحباب الجماعة في هذه السنة غير ظاهر والصواب على ما في الحطاب أن الجماعة لا تطلب في النوافل إلا في قيام رمضان على جهة الاستحباب وأما الجماعة في العيدين والكسوف والاستسقاء فسنة. وقد صرح عياض في قواعده بالسنة في الثلاث. وذكر ابن الحاجب في باب الكسوف قولا باستحباب الجماعة فيها. قال الدردير وأما الجمعة فالجماعة فيها فرض وأما الجنازة فالجماعة فيها سنة مؤكدة كما قال اللخمى فإن صلوا عليها وحدانا استحب إعادتها جماعة وقيل إن الجماعة مندوبة فيها وهو المشهور وقال ابن رشد إن الجماعة شرط فيها كالجمعة فإن صلوا عليها بغير إمام أعيدت ما لم تدفن مراعاة للقول المقابل ولا تتفاضل الجماعة في الكمية تفاضلا يكون سببًا في الإعادة والصلاة مع العلماء والصلحاء والكثير من أهل الخير أفضل من غيرها لشمول الدعاء وسرعة الإجابة وكثرة الرحمة وقبول الشفاعة لكن هذه الأفضلية لا دليل على جعلها سببا في الإِعادة وفضل الجماعة ورد به الخبر وهو صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا وفى رواية صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ويحصل فضلها بركعة كاملة يدركها مع الإِمام وندب لمن لم يحصل فضل الجماعة بأن صلى بصبى أو منفردا أن يعيد صلاته في جماعة مأموما لا إماما لأن صلاة المعيد تشبه النفل إلا من لم يجعل فضل الجماعة بأحد المساجد الثلاثة فإنه لا يعيد في غيرها جماعة من صلى في غيرها منفردا فإنه يعيد فيها ولو منفردا ومن صلى في غيرها جماعة أعاد بها جماعة لا فذا ولا يعيد المغرب لأن المغرب يحرم إعادتها لأنها تصير مع الأخرى شفعا
(2)
. وتسقط
(3)
الجماعة بسبب شدة وحل وهو ما يحمل أواسط الناس على ترك المداس وبشدة مطر يحملهم على تغطية رءوسهم وجذام تضر رائحته بالناس ومرض يشق معه الإِتيان وكذا كبر السن الذي يشق معه الإِتيان راكب وماشيا وتمريض لأجنبى ليس له من يقوم به وخشى عليه بتركه الضيعة وتمريض لقريب خاص كولد ووالد وزوج وإن كان له من يقوم به غيره وسواء كان يخشى علمه الضيعة يترك تمريضه له أم لا والقريب غير الخاص كالعم وابن العم كالأجنبى. ومن الأعذار إشراف قريب على الموت وكذا صديق ومملوك وزوج وإن لم يمرضه وأولى موتهم وكذا تسقط الجماعة لخوف على مال له بال وهو الذي يجحف بصاحبه من ظالم أو لص أو من نار وسواء إن كان المال له أو لغيره وكذا الخوف على العرض أو الدين أو خوف حبس معسر بأن كان ظاهر
(1)
الشرح الكبير وحاشية الدسوقى علية جـ 1 ص 319، ص 320 طبع مطابع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر.
(2)
المرجع السابق جـ 1 ص 516 الطبعة السابقة.
(3)
حاشية ابن عابدين جـ 1 ص 528 وما بعدها الطبعة السابقة.
الملاء وهو في الباطن معسر فخاف بالخروج أن يحبس لإِثبات عسره فخوفه هذا عذر يبيح له التخلف عن الجمعة والجماعة عند ابن رشد واللخمى لأنه مظلوم في الباطن وإن كان محكوما عليه بحق في الظاهر وقال سحنون لا يعد هذا عذرا لأن الحكم عليه بالحبس حتى يثبت عسره أمر حق وأما من علم إعساره وكان ثابتا فلا عذر له ولا يباح تخلفه لأنه لا يجوز حبسه نعم إن خاف الحبس ظلما كان عذرا ومن الأعذار الخوف من الضرب والعرى الذي لا يجد معه ما يستر عورته فإذا وجد ما يستر عورته فلا يجوز له التخلف ولو كان من ذوى المروءات والطريقة الأليق بالحنفية السمحاء أنه إن وجد ما يليق بأمثاله ولا يذرى به وجبت عليه وإلا لم تجب عليه ومن الأعذار طمع في عفو قود وجب عليه بإختفائه وتخلفه ومثل القود سائر ما يفيد فيه العفو من الحدود كحد القذف على تفصيل بخلاف ما لا يقيد فيه العفو كحد السرقة والشرب ومن الأعذار أكل ثوم وبصل وكل ما له رائحة كريهة وكذا الريح الشديدة بليل لشدة المشقة بخلاف الربح في النهار فلا يكون عذرا مبيحا للتخلف عن الجماعة وكذا البرد والحر لا يعتبران عذرا ما لم يشتدا جدا بحيث يجففان الماء لأهل البوادى وإلا كان عذرا مبيحا للتخلف كالزحمة الشديدة لإِضرارها لا مطلق زحمة وليس الابتغاء بالمرأة من الأعذار إذ لا حق لها في إقامة زوجها عندها يبيح لها التخلف عن الجمعة والجماعة وقال بعضهم إن لها حقا في إقامة زوجها عندها سببا إن كانت بكرا أو ثلاثا إن كانت ثيبا وليس العمى عذرا يبيح التخلف عن الجمعة والجماعة إذا كان الأعمى ممن يهتدى للجامع بلا قائد أو كان عنده من يقوده إليه فإذا لم يجد قائدا أو لم يهتد للطريق بنفسه كان عذرا يبيح له التخلف وشهود العيد ليس عذرا يبيح له التخلص عن جماعة الظهر وكذا لا يبيح التخلف عن الجماعة إن أذن له الإِمام في التخلف إذ لا حق للإمام في ذلك فلا ينفعهم ولا يكون عذرا يبيح لهم التخلف.
مذهب الشافعية:
جاء في مغنى المحتاج
(1)
: الأصل في مشروعية الجماعة قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ}
(2)
الآية. أمر بها في الخوف ففى الأمن أولى والأخبار كخبر الصحيحين: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة. وفى رواية بخمس وعشرين درجة وانعقد الإِجماع عليها، والجماعة في الفرائض غير الجمعة سنة مؤكدة ولو للنساء وأما الجمعة فالجماعة فيها فرض عين وقيل إن الجماعة فرض كفاية للرجال لقوله صلى الله عليه وسلم:"ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان - أي غلب - فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. رواه أبو داود والنسائى" وصححه ابن حبان والحاكم فتجب بحيث يظهر شعار الجماعة بإقامتها بمحل في القرية الصغيرة وفى الكبيرة والبلد بمحال يظهر بها انشعار ويسقط الطلب بطائفة وإن قلت فلو أطبقوا على إقامتها في البيوت ولم يظهر بها شعار لم يسقط الفرض فإن
(1)
انظر كتاب مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج لمحمد الشربينى للخطيب جـ 1 ص 228 وما بعدها طبع مطابع المطبعة اليمنية بمصر سنة 1308 هـ.
(2)
الآية رقم 102 من سورة النساء.
امتنعوا كلهم من إقامتها على ما ذكر قاتلهم الإِمام أو نائبه دون آحاد الناس. وهكذا لو تركها أهل محلة في القرية الكبيرة أو البلد وعلى السنة لا يقاتلون على الأصح ولا يتأكد الندب للنساء تأكده للرجال في الأصح لمزيتهم عليهن. قال الله تبارك وتعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}
(1)
والقول الثاني يتأكد في حقهن لعموم الأدلة وعلى القول الأول يكره تركها للرجال دون النساء. وليست في حقهن فرضا جزما، قال صاحب المنهاج: الأصح المنصوص أنها فرض كفاية لرجال أحرار مقيمين لا عراة في أداء مكتوبة لخبر أبى داود والنسائى السابق فلا تجب على النساء أو مثلهن الخناثى ولا على من فيه رق لإِشتغالهم بخدمة السادة ولا على المسافرين. ونقل السبكى وغيره عن نص الأم أنها تجب عليهم أيضا ولا تجب على العراة إلا أن يكونوا عميا أو في ظلمة فتستحب لهم ولا تجب في مقضية خلف مقضية من نوعها بل تسن أما مقضية خلف مؤداة أو بالعكس أو خلف مقضية ليست من نوعها فلا تسن وفى المنذورة لا تجب ولا تسن وقيل إن الجماعة فرض عين وليست بشرط لصحة الصلاة كما في المجموع لحديث: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلى بالناس ثم أنطلق معى برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". رواه الشيخان، والجماعة في المسجد لغير المرأة والخنثى أفضل منها في غير المسجد كالبيت وجماعة المرأة والخنثى في البيت أفضل منها في المسجد لخبر الصحيحين صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، والصلاة في الجماعة الكثيرة أفضل من الصلاة في الجماعة القليلة في المساجد والبيوت. قال صلى الله عليه وسلم:"صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى" رواه أبو داود وغيره، والصحيح
(2)
إدراك فضيلة الجماعة ما لم يسلم الإِمام وإن لم يقعد معه بأن انتهى سلامه عقب إحرامه وإن بدأ بالسلام قبله كما صرح به بعض المتأخرين لإدراكه ركنا معه لكنه دون فضل من يدركها من أولها وذلك في غير الجمعة كما قال الزركشى فإنها لا تدرك إلا بركعة أما إذا انتهى سلام الإِمام مع إحرام المأموم فلا تحصل له الجماعة لك تنعقد صلاته فرادى، ويسن
(3)
للمصلى وحده صلاة مكتوبة وكذا جماعة في الأصح إعادتها مرة فقط مع جماعة يدركها في الوقت ولو كان الوقت وقت كراهة أو كان إمام الثانية مفضولا لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فرأى رجلين لم يصليا معه فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: صلينا في رحالنا. فقال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصلياها معهم فإنها لكما نافلة. وقوله صلى الله عليه وسلم: ما منعكما أن تصليا معنا صادق بأنهما صليا منفردين أو جماعة. وروى أيضا أنه بعد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم جاء رجل إلى المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يتصدق على هذا فيصلى معه. فصلى معه رجل. رواهما الترمذى وحسنهما، ولا رخصة
(4)
في ترك الجماعة حتى على
(1)
الآية رقم 228 من سورة البقرة.
(2)
انظر مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج جـ 1 ص 230، ص 231 وما بعدها الطبعة السابقة.
(3)
المرجع السابق لمحمد الشربينى الخطيب جـ 1 ص 232 الطبعة السابقة.
(4)
انظر كتاب مغنى المحتاج للشربينى الخطيب جـ 1 ص 233 وما بعدها الطبعة السابقة.
القول بأنها سنة لتأكدها إلا بعذر لخبر من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له أي كاملة إلا من عذر. رواه ابن ماجه. ورخصته ترك الجماعة يكون لعذر عام كمطر أو ثلج يبل الثوب ليلا كان أو نهارا لما رواه أبو داود والنسائى وابن ماجه عن ابن أبي المليح عن أبيه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فأصابنا مطر لم يبل أسفل نعالنا فنادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوا في رحالكم. ويشترط حصول مشقة بالخروج مع المطر ومن الأعذار الريح الشديد بالليل لما روى أن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح فقال ألا صلوا في الرحال، وكذا
(1)
الوحل الشديد الذي لا يؤمن معه التلويث على الصحيح ليلا كان الوحل أو نهارا لأنه أشق بخلاف الخفيف منه وتكون رخصة ترك الجماعة كمرض يشق المشى معه وإن لم يبلغ حدا يسقط القيام في الفريضة لأنه صلى الله عليه وسلم لما مرض ترك الصلاة بالناس أياما كثيرة. أما المرض الخفيف كوجع ضرس وصداع يسير وحمى خفيفة فليس بعذر. وكذلك من الأعذار الحر والبرد الشديدان لأن المشقة فيهما كالمشقة في المطر. والجوع والعطش الظاهران أيضا لعذر خاص المطعون حاضر أو قرب حضوره ونفسه تتوق إليه لخبر الصحيحين إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء ولا يعجلن حتى يفرغ منه. ومن الأعذار مدافعه الحدث من بول أو غائط أو ريح لخبر مسلم لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه بالإِخبثان، وكذلك الخوف من ظالم على معصوم من نفس أو عضو أو منفعة أو مال أو عرض أو حق له أو لمن يلزمه الذب عنه. أما خوفه ممن يطالبه بحق هو ظالم في منعه فليس بعذر بل عليه الحضور وتوفية الحق، ومن الأعذار
(2)
الخاصة خوف ملازمة غريمه. ومحل هذا إذا عسر عليه إثبات إعساره وإلا لم يعذر، وكذا خوف عقوبة كتعزير لله تعالى أو لآدمى وقود وحد قذف مما يقبل العفو وكان يرجى تركها إن تغيب المعسر أياما يسكن فيها غيظ المستحق بخلاف الحد الذي لا يقبلا العفو كحد الزنا أو كان يقبلا العفو ولكن لا يرجى الترك لو تغيب. وكذا العرى وإن وجد ما يستر عورته لأن عليه مشقة في خروجه بغير لباس يليق به. أما من اعتاد الخروج مع ستر العورة فقط فلا يكون معذورا عنه فقد الزائد عليه وكذا التأهب لسفر مباح يريده مع رفقة ترحل ويخاف من التخلف للجماعة على نفسه أو ماله أو يستوحش فقط للمشقة في التخلف عنهم وكذا أكل ذى ريح كرية كبصل أو فجل أو ثوم أو كراث نئ لخبر الصحيحين من أكل بصلا أو ثوما أو كراثا فلا يقربن مسجدنا - وفى رواية المساجد - فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم وهذا إذا تعسر زوال ريحه بغسل ومعالجة بخلاف ما إذا لم يتعسر أما المطبوخ فلا يعذر به، والجذام والبرص يعذر بهما كما قال الزركشى، ومن الأعذار حضور احتضار قريب كزوجة ورفيق وصديق وصهر وإن كان له متعهد لما روى البخارى عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه ترك الجمعة وحضر عند قريبه سعيد بن زيد لما أخبر أن الموت قد نزل به وكذا حضور مريض بلا متعهد له لئلا يضيع سواء كان قريبا أم أجنبيا إذا خاف
(1)
الموجع السابق للشربينى الخطيب جـ 1 ص 234 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
مغنى المحتاج للشربينى الخطيب جـ 1 ص 235 وما بعدها الطبعة السابقة.
هلاكه لو غاب عنه وكذا لو خاف عليه ضررا ظاهرا على الأصح. ومن الأعذار
(1)
السمن المفرط كما ذكره ابن حبان في صحيحه وروى فيه خبرا وكونه منهما وزفاف زوجة في الصلوات الليليلة وغلبه النعاس والنوم إن انتظر الجماعة والبحث عن ضالة يرجوها والسعى في استرداد مغصوب له أو لغيره. قال الأسنوى وإنما يتجه جعل هذه الأمور أعذار لمن لا يتأتى له إقامة الجماعة في بيته وإلا لم يسقط عنه طلبها لكراهة الإنفراد للرجل وإن قلنا إنها سنة قال في المجموع ومعنى كونها أعذار سقوط الإثم على قول الفرض والكراهة على قول السنة لا حصول فضله، وجزم الرويانى بأنه يكون محصلا للجماعة إذا صلى منفردا وكان قصده الجماعة لولا العذر ويدل له خبر أبى موسى إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله صحيحا مقيما. رواه البخارى.
مذهب الحنابلة:
جاء في كشاف القناع
(2)
: الجماعة واجبة وجوب عين لقول الله تبارك وتعالى: {إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}
(3)
الآية. فأمر بالجماعة حال الخوف ففى غيره أولى يؤكده قول الله عز وجل: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}
(4)
. وروى أبو هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا يصلى بالناس ثم انطلق معى برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" متفق عليه. وروى أيضا أن رجلا أعمى قال يا رسول الله ليس لى قائد يقودنى إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلى في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء؟ فقال نعم. قال: فأجب. رواه مسلم وعن ابن مسعود قال لقد رأيتنا وما يتخلص عنا إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. رواه الجماعة إلا البخارى والترمذى، ويقاتل تارك الجماعة. والجماعة واجبة في الصلوات الخمس المؤداة حضرا وسفرا حتى في خوف شديد أو غيره لقول الله عز وجل:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ} الآية. لأنها نزلت في صلاة الخوف والغالب كون الخوف في السفر فمع الأمن وفى الحضر أولى وليست الجماعة شرطا لصحة الصلوات الخمس عدا الجمعة. ويجب على الرجال الأحرار القادرين عليها ولا تجب على النساء والخناثى والصبيان ومن فيه رق أو عذر - يتأتى شأنه - وتستحب
(5)
الجماعة لنساء إذا اجتمعن منفردات
(1)
انظر كتاب مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للشيخ محمد الشربينى الخطيب جـ 1 ص 231 وما بعدها طبع المطبعة اليمنية بمصر سنة 1308 هـ.
(2)
انظر كتاب كشاف القناع عن متن الإقناع للإمام الشيخ منصور بن إدريس الحنبلى وبهامشه منتهى الإرادات للشيخ منصور بن يونس البهوتى جـ 1 ص 294 وما بعدها طبع المطبعة العامرة الشرفية بمصر سنة 1319 الطبعة الأولى.
(3)
الآية رقم 102 من سورة النساء.
(4)
الآية رقم 43 من سورة البقرة.
(5)
كشاف القناع وهامشه منتهى الإرادات جـ 1 ص 295، ص 296 وما بعدها الطبعة السابقة.
عن الرجال سواء كان إمامهن منهن أو لا لفعل عائشة رضى الله عنها وأم سلمة. ذكره الدارقطنى. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم ورقة أن تجعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها. رواه أبو داود والدارقطنى ولأنهن من أهل الفرض أشبهن الرجال، ويكره حضور جماعة الرجال لحسناء شابة أو غيرها لأنها مظنة الافتتان ويباح الحضور لغيرها ئغير الحسناء غير مطيبة بإذن زوجها وبيتها خير لها، والأفضل من المساجد ما كان أكثر جماعة لما روى أبى بن كعب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة الرجل مع الرجل أولى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أولى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله" رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان، وإنا صلى
(1)
فرضه ثم أقيمت الصلاة وهو في المسجد استحب إعادتها ولو كان صلى أو لا في جماعة أو كان وقت نهى أو جاء إلى المسجد غير وقت نهى ولم يقصد بمجيئه المسجد الإعادة وأقيمت الصلاة استحب إعادتها مع إمام الحى وغيره لئلا يتوهم رغبته عنه إلا المغرب فلا تسن إعادتها لأن المعادة تطوع وهو لا يكون بوتر ولو كان صلى وحده. ذكره القاضي وغيره. والأولى فرضه. ولا يكره تكرار الجماعة فإذا صلى إمام الحى ثم حضر جماعة أخرى استحب لهم أن يصلوا جماعة هذا قول ابن مسعود رضى الله عنه لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" ولقوله: "من يتصدق على هذا فيصلى معه" فقام رجل من القوم فصلى معه. رواه أحمد وأبو داود من حديث أبى سعيد وإسناده جيد وصفه الترمذى. وهذا في غير مسجدى مكة والمدينة فقط أما الأقصى فهو كسائر المساجد ففى مسجدى مكة والمدينة لكره إعادة الجماعة وعلله أحمد بأنه أرغب في توفير الجماعة أي لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الراتب في المسجدين إذا أمكنهم الصلاة في جماعة أخرى قلت فعل هذا يكره تعدد الأئمة الراتبين بالمسجدين لفوات فضيلة أول الوقت لمن يتأخر وفوات كثرة الجمع وإن اختلفت المذاهب إلا لعذر كنوم ونحوه عن الجماعة فلا يكره لمن فاتته إذن إعادتها بالمسجدين لما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام من يتصدق على هذا ولأن إقامتها إذن أخف من تركها وإن قصد مسجدا من المساجد للإعادة كره زاد بعضهم ولو كان صلى فرضه وحده وليس للإمام اعتياد الصلاة مرتين وجعل الثانية عن فائتة أو غيرها والأئمة متفقون على أنه بدعة مكروهة
(2)
، ويباح التخلف عن الجماعة للمريض؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لما مرض لخلف عن المسجد وقال مررا أبا بكر فليصل بالناس. متفق عليه. وكذلك من خاف حدوث المرض، لما روى أبو داود عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم فسر العذر بالخوف والمرض وكذا من خاف زيادة المرض أو تباطؤه لأنه مريض ومحل سقوط الجماعة عن المريض ونحوه إن لم يكن في المسجد فإن كان في المسجد لزمته الجماعة
(1)
المرجع السابق لابن ادريس الحنبلى جـ 1 ص 296 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
المرجع السابق وبهامشه منتهى الإرادات لابن يونس البهوتى جـ 1 ص 319 وص 320 وما بعدها الطبعة السابقة والشرح الكبير على المغنى لابن قدامه جـ 2 ص 82، ص 83، ص 84، ص 85 طبع مطبعة المنار بمصر سنة 1345 هـ الطبعة الأولى.
لعدم المشقة ويعذر بترك الجماعة من هو ممنوع من فعلها كالمجوس لقوله تبارك وتعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(1)
وكذا من بدائع الأخبثين - البول والغائط - أو يدافع أحدهما؛ لأن ذلك يمنعه من إكمال الصلاة وخشوعها وكذا من كان يحضره طعام يحتاج إليه لخبر أنس رضى الله عنه في الصحيحين ولا تعجلن حتى تفرغ منه. وكذا خائف من ضياع ماله كغلة في بيادرها ودوام أنعام لا حافظ لها غيره أو خائف تلفه كخبز في تنور وطبيخ على نار أو خائف فواته كالضائع يدل عليه في مكان كمن ضاع له كيس أو أبق له عبد وهو يرجو وجوده أو قدم به من سفر إن لم يقف لأخذه ضاع ولكن قال المجد عبد السلام ابن تيميه الأفضل ترك ما يرجو وجوده ويصلى الجماعة لأن ما عند الله خير وأبقى وربما لا ينفعه حذره وكذا الخائف من ضرر في ماله أو في معيشه يحتاجها أو أحللق الماء على زرعه أو بستانه يخاف إن تركه فسد أو كان مستحفظا على شئ يخاف عليه الضياع إن ذهب وتركه وكذا إن كان عريانا ولم يجد سترة أو لم يجد إلا ما يستر عورته فقط في غير جماعة عراة لما يلحقه من الخجل فإن كانوا عراة كلهم صلوا جماعة وجوبا وكذا الخائف موت رفيقه أو قريبه ولا يحضره أو لتمريضهما إن لم يكن عند المريض من يقوم مقامه وكذا الخائف على حريمه أو نفسه من ضرر أو سلطان ظالم أو سبع أو لص أو ملازمة غريم ولا شئ معه يعطيه أو حبسه بحق لا وفاء له لأن حبس المعسر ظلم وكذا إن كان الدين مؤجلا وخشى أن يطالبه به قبل محله وظاهره أنه إذا قدر على أداء دينه فلا عذر للنص. ومن الأعذار خوف فوات رفقة مسافر سفرا مباحا سواء كان منشئا للسفر - أو مستديما له. لأن عليه في ذلك ضررا وكذا غلبة نعاس يخاف منه فوت الصلاة في الوقت أو يخاف معه فوت الصلاة مع الإِمام لأن رجلا صلى مع معاذ ثم انفرد فصلى وحده عند تطويل معاذ وخوف النعاس والمشقة فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبره. وفى المذهب الوجيز يعذر في الجمعة والجماعة بخوفه نقص الوضوء بانتظارهما، والصبر والتجلد على دفع النعاس - ويصلى معهم جماعة أفضل لما فيه من نبل فضل الجماعة. ومن الأعذار تطويل الإِمام ومن عليه قود إن رجا العفو عنه وظاهره ولو على مال حتى يصالحوا وحد القذف لأنه حق آدمى فإن ذلك يكون عذرا. ومن علليه حد لله تعالى كحد الزنا وشرب الخمر وقطع السرقة فلا يعذر به في ترك الجمعة ولا الجماعة لأن الحدود لا يدخلها المصالحة بخلاف القصاص. ومن الأعذار التأذى بالمطر أو الوحل أو الثلج أو الجليد أو الريح الباردة في ليلة مظلمة لقول ابن عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم ينادى مناديه في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر صلوا في رحالكم. متفق عليه رواه إبن ماجه بإسناد صحيح ولم يقل في السفر وفى الصحيحين عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير وزاد مسلم في يوم جمعة إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حى على الصلاة قل صلوا في بيوتكم قال فكأن الناس استنكروا ذلك فقال ابن عباس أتعجبون من ذلك فقد في فعل هذا من هو خير منى يعنى النبي صلى الله عليه وسلم إن الجمعة غريمة وإنى كرهت أن أخرجكم في الطين والدحض والثلج والجليد والبرد كذلك وإذا
(1)
الآية رقم 286 من سورة البقرة.
تعذر ذلك فالريح الباردة في الليلة المظلمة عذر لأنها فطنة المطر ولو لم تكن الريح شديدة خلافا لظاهر المقنع وذكر أبو المعالى أن كل ما أذهب الخشوع كالحر المزعج عذر ولهذا جعله الأصحاب كالبرد في المنع من الحكم والإِفتاء والزلزلة عذر قاله أبو المعالى لأنها نوع خوف. والمنكر في طريقه إلى المسجد ليس عذرا لأن المقصود الذي هو الجمعة أو الجماعة مقصود لنفسه لا قضاء حق لغيره وكذا المنكر في المسجد كدعاء البغاة ليس عذرا وينكره بحسيه والعمى ليس عذرا مع قدرته فإن عجز الأعمى عن قائد تبرع قائد يقوده ولزمه حضور الجمعة لا الجماعة والجهل بالطريق ليس عذرا إن وجد من يهديه أي يدله على المسجد ويكره حضور المسجد لمن أكل ثوما أو بصلا أو فجلا ونحوه حتى يذهب ريحه ولو خلا المسجد من آدمى لتأذى الملائكة بريحه ولحديث من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مصلانا والمراد حضور الجماعة حتى ولو في غير مسجد أو غير صلاة فيكره حضور مسجد وجماعة مطلقا لمن أكل ثوما أو بصلا نيئين أو فجلا ونحوه كالكراث حتى يذهب ريحه لما فيه من الإيذاء. وكذا جزار له رائحة منتنة ومك له صنان وزيات ونحوه من كل ذى رائحة منتنة لأن العلة الأذى وكذا من به برص أو جذام يتأذى به قياسا على أكل الثوم ونحوه بجامع الأذى.
مذهب الظاهرية:
جاء في المحلى
(1)
: لا تجزئ صلاة فرض أحدا من الرجال إذا كان بحيث يسمع الآذان أن يصليها إلا في المسجد مع الإِمام فإن تعمد ترك ذلك بغير عذر بطلت صلاته فإن كان بحيث لا يسمع الأذان ففرض عليه أن يصلى في جماعة مع واحد فصاعدا ولابد فإن لم يفعل فلا صلاة له إلا أن لا يجد أحدا يصليها معه فيجزئه حينئذ إلا من له عذر فيجزئه حينئذ التخلص عن الجماعة وليس ذلك فرضا على النساء فإن حضرنها حينئذ فقد أحسن وهو أفضل لهن فإن استأذن الحرائر أو الإِماء بعولتهن أو ساداتهن في حضور الصلاة في المسجد ففرض عليهم الإِذن لهن ولا يخرجن إلا تفلات غير متطيبات ولا متزينات وإن تطيبن أو تزين لذلك فلا صلاة لهم. وقد روى عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلى في بيته فرخص له فلما ولى دعاه وقال له هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأجب. وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من سمعت النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر"، ومن العذر
(2)
للرجال في التخلص عن الجماعة في المسجد المرض والخوف والمطر والبرد وخوه ضياع المال وحضور الأكل وخوف ضياع المريض أو الميت وتطويل الإمام حتى يضر بمن خلفه وأكل الثوم أو البصل أو الكراث ما دامت الرائحة باقية ويمنع آكلوها من حضور المسجد ويؤمر بإخراجهم منه ولابد
(1)
انظر كتاب المحلى لأبى سعيد بن حزم الأندلسى جـ 4 ص 188 وما بعدها مسألة رقم 485 طبع مطابع إدارة الطباعة المنيرية بمصر سنة 1348 هـ الطبعة الأولى لصاحبها محمد منير أغا الدمشقى.
(2)
المرجع السابق لابن حزم الأندلسى جـ 4 ص 202 وما بعدها مسألة رقم 486 الطبعة السابقة.
ولا يجوز أن يمنع من المساجد أحد غير هؤلاء لا مجذوم ولا أبخر ولا ذو عاهة ولا امرأة بصغير معها فأما المرض والخوف فلا خلاف في ذلك لقول الله تبارك وتعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(1)
وكذا إضاعة المال. وقد نهى عليه السلام عن إضاعة المال وقد قالت عائشة أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان. وعن نافع قال أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان (موضع خارج مكة) ثم قال ألا صلوا في رحالكم فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنا يؤذن ثم يقول على أثره ألا صلوا في الرحال، ومن أتى
(2)
مسجدا قد صليت فيه صلاة فرض جماعة بإمام راتب وهو لم يكن صلاها فليصلها في جماعة ويجزئه الأذان الذي أذن فيه قبل وكذلك الإِقامة ولو أعادوا أذانا وإقامة فحسن.
مذهب الزيدية:
جاء في شرح الأزهار
(3)
: الأصل في مشروعية الجماعة الكتاب والسنة والإِجماع أما الكتاب فقول الله تبارك وتعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}
(4)
قيل أراد صلاة الجماعة خلفه. وأما السنة فقوله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله. أما قوله فآثار كثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام صلى الله عليه وسلم: صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده أربعة وعشرين جزءا أو قال درجة. وفي البخارى سبعة وعشرين. وأما فعله فظاهر وأما الإِجماع فلا خلاف في كونها مشروعة واختلفت الأمة في حكمها فالمذهب أنها سنة مؤكدة في غير الجمعة وهو تحصيل أبو طالب وقول المؤيد بالله وحكاه في المغنى عن الناصر وزيد بن على، القول الثاني تحصيل أبو العباس وأحد تحصيلى أبو طالب وهو أحد قولى المنصور بالله أنها فرض كفاية، القول الثالث مذهب السيد أبو العباس الحسنى أنها فرض عين ثم اختلف هؤلاء هل هي شرط في صحة الصلاة أم لا فعن السيد أبى العباس أنها ليست بشرط يعنى فإذا صلاها فرادى أثم وأجزأ وعلى القول بأنها واجبة على الكفاية لم يسقط الوجوب إلا بفعلها في موضع لا يخفى على أهل البلد دون البيوت لأنها شعار بخلاف سائر فروض الكفايات فالمقصود حصوله، ويجب على الإمام والمؤتم طلبها في البلد والميل إذا قلنا بوجوبها، والأعذار التي تسقط بها الجماعة بعضها عذر عام وبعضها خاص فالعذر العام كمطر أو بود أو حر أو ريح في ليل لما ورد في ذلك عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مؤذنا يؤذن ثم يقول على أثره ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر، أخرجه البخارى ومسلم والموطأ والعذر الخاص حضور الطعام للجائع لما روى عن أنس رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قدم العشاء فابدءوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم" أخرجه البخارى ومسلم. وفى رواية الترمذى إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء. ومن
(1)
الآية رقم 286 من سورة البقرة.
(2)
المحلى لابن حزم الظاهرى جـ 4 ص 236 وما بعدها مسألة رقم 495 الطبعة السابقة.
(3)
انظر كتاب شرح الأزهار المتنوع من الغيث المدرار فى فقه الائمة الاطهار لأبى الحسن عبد الله بن مفتاح جـ 1 ص 280، ص 281 وما بعدهما، طبع مطبعة حجازى. بالقاهرة سنة 1357 هـ الطبعة الأولى.
(4)
الآية رقم 43 من سورة البقرة.
الأعذار مدافعة الأخبثين والمرض والخوف ولو على مال لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما روى عن بن عباس رضى الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سمع المنادى فلم يمنعه من إتباعه عذر قيل وما العذر؟ قال طوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى" أخرجه أبو داود. ومن الأعذار الخاصة أيضًا السفر وغلبة النوم إن انتظر الجماعة لمنعه الخشوع وضياع من يقوم عليه، وتجهيز ميته أو طلب ضالته، أو كراهة ريح فيه أو عُريه. والعمى عذر وإن وجد قائدا للمنة أو الأجرة وكالمقعد.
مذهب الإمامية:
جاء في العروة الوثقى
(1)
: الجماعة من المستحبات الأكيدة في جميع الفرائض خصوصا في الأدائية ولا سيما في الصبح والعشاء وخصوصا لجيران المسجد أو من يسمع النداء
(2)
، ولا تشرع
(3)
الجماعة في شئ من النوافل الأصلية وإن وجبت بالعارض بنذر أو نحوه إلا في صلاة الاستسقاء. وقد ورد في فضل الجماعة
(4)
وذم تاركها من ضروب التأكيدات ما كاد يلحقها بالواجبات ففى الصحيح: الصلاة في جماعة تفضل على صلاة الفذ أي الفرد بأربع وعشرين درجة وفى رواية زرارة قلت لأبى عبد الله عليه السلام ما يروى الناس أن الصلاة في جماعة أفضل من صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين فقال عليه السلام صدقوا فقلت الرجلان يكونان جماعة. قال عليه السلام: نعم ويقوم الرجل عن يمين الإمام. وفى رواية محمد بن عمارة قال أرسلت إلى الرضى عليه السلام أسأله عن الرجل يصلى المكتوبة وحده في مسجد الكوفة أفضل أو صلاته مع جماعة فقال: الصلاة في جماعة أفضل مع أنه ورد أن الصلاة في مسجد الكوفة تعدل ألف صلاة وفى بعض الأخبار ألفين
(5)
.
بل في خبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتانى جبريل مع سبعين ألف ملك بعد صلاة الظهر فقال يا محمد: إن ربك يقرئك السلام وأهدى إليك هديتين. قلت: ما تلك الهديتان؟ قال: الوتر ثلاث ركعات والصلاة الخمس في جماعة. قلت: يا جبريل ما لأمتى في الجماعة؟ قال: يا محمد إذا كانا اثنين كتب الله لكل واحد بكل ركعة مائة وخمسين صلاة وإذا كانوا ثلاثة كتب الله لكل واحد بكل ركعة ستمائة صلاة وإذا كانوا أربعة كتب الله لكل واحد ألفا ومائتى صلاة وإذا كانوا خمسة كتب الله لكل واحد بكل ركعة ألفين وأربعمائة صلاة وإذا كانوا ستة كتب الله لكل واحد منهم بكل ركعة أربعة آلاف وثمانمائة صلاة وإذا كانوا سبعة كتب الله لكل واحد منهم بكل ركعة تسعة آلاف وستمائة صلاة وإذا كانوا ثمانية كتب الله لكل واحد منهم بكل ركعة تسعة عشر ألفا ومائتى صلاة وإذا كانوا تسعة كتب الله
(1)
انظر كتاب العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائى الحكيم البراوى جـ 1 ص 266 وما بعدها طبع مطبعة دار الكتب الإسلامية لصاحبها الشيخ محمد الأخوندى بطهران سنة 1388 هـ الطبعة الثانية.
(2)
المرجع السابق جـ 1 ص 217 وما بعدها مسألة رقم 1 الطبعة السابقة.
(3)
المرجع السابق للسيد محمد كاظم اليزدى جـ 1 ص 267 مسألة رقم 2 الطبعة السابقة.
(4)
المرجع السابق للسيد محمد كاظم اليزدى جـ 1.
(5)
انظر كتاب العروة الوثقى للسيد محمد كاظم اليزدى جـ 1 ص 266، ص 267 وما بعدهما الطبعة السابقة.
لكل واحد منهم بكل ركعة ستة وثلاثين ألفا وأربعمائة صلاة وإذا كانوا عشرة كتب الله لكل واحد منهم بكل ركعة سبعين ألفا وألفين وثمانمائة صلاة فإن زادوا على العشرة فلو صارت السموات كلها قرطاسا والبحار مدادا والأشجار أقلاما والثقلان مع الملائكة كتابا لم يقدروا أن يكتبوا ثواب ركعة، يا محمد: تكبيرة يدركها المؤمن مع الإِمام خير من ستين ألف حجة وعمرة وخير من الدنيا وما فيها بسبعين ألف مرة، وركعة يصليها المؤمن مع الإمام خير من مائة ألف دينار يتصدق بها على المساكين وسجدة يسجدها المؤمن مع الإمام في جماعة خير من عتق مائة رقبة.
ولا يجوز تركها رغبة عنها أو استخفافا بها ففى الخبر لا صلاة لمن لا يصلى في المسجد إلا من علة ولا غيبة لمن صلى في بيته ورغب عن جماعتنا ومن رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته وسقطت بينهم عدالته ووجب هجر انه وإذا دفع إلى إمام المسلمين أنذره وحذره فإن حضر جماعة المسلمين وإلا أحرق عليه بيته. وفى آخر أن أمير المؤمنين عليه السلام بلغه أن قوما لا يحضرون الصلاة في المسجد فخطب فقال إن قوما لا يحضرون الصلاة معنا في مساجدنا فلا يؤاكلونا ولا يشاربونا ولا يشاورونا ولا يناكحونا أو يحضروا معنا صلاتنا جماعة وإنى لأوشك بنار تشعل في دورهم فأحرقها عليهم أو ينتهون قال فامتنع المسلمون من مؤاكلتهم ومشاربتهم ومناكحتهم حتى حضروا لجماعة المسلمين إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.
مذهب الإباضية:
جاء في الإِيضاح
(1)
: صلاة الجماعة فرض على الكفاية إذا قام بها البعض أجزأ عن الباقين والدليل ما روى من طريق أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة في الجماعة خير من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" فكأنه قال عليه السلام صلاة الجماعة أكمل من صلاة المنفرد والكمال إنما هو شئ زائد على الإِجزاء ويدل أيضا أن للمنفرد صلاة إذا صلى وحده ما روى أن النبي عليه السلام افتقد عليا في صلاة الصبح فدخل على فاطمة فقال ما شغل ابن عمك؟ فقالت: بات يصلى فلما طلع الفجر صلى واضطجع. فقال: لو صلى في الجماعة لكان أفضل فهذا يدل أن صلاة المنفرد تامة غير أن ما روى من طريق أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "هممت أن آمر بحطب يحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا يؤم بالناس ثم أتخلف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم والذي نفسى بيده لو يعلم أحدكم أنه يجد عظما سمينا
(2)
أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء" يدل أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان وكذلك ما روى أن ابن أم مكتوم قال: يا رسول الله انى ضرير شاسع الدار ولا قائد لى فهل لى من رخصة أصلى في بيتى؟ فقال له النبي عليه السلام: هل تسمع النداء؟ قال: نعم. قال:
(1)
انظر كتاب الإيضاح للشيخ عامر بن على الشماخى جـ 1 ص 529 وما بعدها الطبعة الثانية طبع طرابلس ليبيا سنة 1390 هـ، سنة 1970 م.
(2)
العَرْق بفتح المهملة وسكون الراء هو العظم إذا كان عليه لحم والمرماتين تثنية مرماة بكسر الميم وسكون الراء وقد تفتح الميم وهى ما بين ضلع الشاة من اللحم (سبل السلام للصنعانى جـ 2 ص 3).
فأجب، وروى أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يشد له حبل إلى المسجد فهذا يدل على وجوب صلاة الجماعة على من سمع النداء. ويؤيد هذا القول ما روى أنه قال صلى الله عليه وسلم: من سمع النداء فليجب ومن لم يجب فلا صلاة له إلا مر عذر قيل وما العذر يا رسول الله؟ قال: خوف أو مرض. قال صاحب الإيضاح فهذا عندى كل زمان الناس فيه كلهم صالحون والمسلمون هم الغالبون للناس والحاكمون عليهم يأمرون بالمعروف علانية وينهون عن المنكر علانية لا يخافون في الله لومة لائم فعند ذلك ينبغى للمسلم أن لا يعتزل المسلمين ولا يغيب عن جماعتهم لأن المسلمين يومئذ كلمتهم مجتمعة ودينهم واحد، وإن صلى في بيته أو في المسجد منفردا ثم أصاب الناس يصلون تلك الصلاة بالجماعة فليصل معهم ويجعلها نافلة. والدليل على هذا ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم جلس وفى مجلسه رجل يسمى محجنا فأقيمت الصلاة فقام فصلاها فلما فرغ من صلاته نظر إلى محجن وهو في مجلسه فقال النبي عليه السلام: ما صنعك أن تصلى معنا ألست برجل مسلم؟ فقال: بلى يا رسول الله ولكن قد صليت في أهلى. فقال له صلى الله عليه وسلم: إذا جئت والناس يصلون فصل معهم وإن كنت قد صليت فهذا يدل على أنه يجعلها نافلة.
شروط صحة الإمامة في الصلاة:
مذهب الحنفية
(1)
:
إن شروط صحة الإِمامة للرجال الأصحاء ستة شروط، الأول الإسلام، الثاني: البلوغ لأن صلاة الصبى نفل ولو نوى الفرض ونفله لا يلزمه فلا يصح اقتداء بالغ بصبى مطلقا سواء كان في فرض أو في نفل لأن نفله لا يلزمه ونفل المقتدى لازم مضمون عليه بالشروع فيه فيلزم بناء القوى على الضعيف. وقال بعض مشايخ بلخ يصح اقتداء البائغ بالصبى في التراويح والسنن المطلقة والنفل والمختار عدم الصحة بلا خلاف بين أصحابنا. الثالث: أن يكون عاقلا؛ لعدم صحة صلاته بعدم العقل كالسكران وكالمجنون المطبق جنونه وأما الذي يجن ويفيق فتصح إمامته حال افاقته ولا تصح إمامة المعتوه وهو الذي ينسب إلى الخرف كما في المعراج، الرابع: الذكورة المحققة فلا يصح اقتداء الرجل بالمرأة للأمر بتأخيرهن وصلاتها في ذاتها صحيحة، والخنثى امرأة في الحكم فلا يقتدى به غيره لا رجل لاحتمال أنوثته ولا خنثى مثله لاحتمال ذكورة المتأخر وأنوثة المتقدم، وأما المرأة فيصح أن يكون الخنثى إماما لها ويصح اقتداؤها به، الخامس: القراءة بحفظ ما تصح به الصلاة على الخلاف في ذلك بين الإمام وصاحبيه حيث قالا لا تصلح إلا بثلاث آيات. وقال الإمام تصح ولو بحفظ آية قصيرة. فلا يصح اقتداء القارئ بأمى أو بأخرس ولا اقتداء الأمى بأخرس لقوة حال الأمى عنه بكونه يأتى بالتحريمة دونه. وأما إمامة الأمى للأمى، وإمامة الأخرس للأخرس فصحيحة، السادس: السلامة من الأعذار فإن المعذور تصح عملاته للضرورة، فلا يصح اقتداء غيره
(1)
حاشية الطحاوى على مراقى الفلاح شرح نور الإيضاح ص 167 وما بعدها الطبعة السابقة، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار جـ 1 ص 513 وما بعدها الطبعة السابقة، وانظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم جـ 1 ص 381 وما بعدها طبع المطبعة العلمية بمصر الطبعة الأولى سنة 1310 هـ وبدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى جـ 1 ص 142 وما بعدها.
به إذا توضأ مع العذر أو طرأ عليه بعده. أما لو توضأ وصلى خاليا عنه كان في حكم الصحيح، وتصح إمامة المعذور لمثله إن اتحد العذر، وجاء في البحر الرائق
(1)
: أنه إن اختلف العذر فلا يجوز فمن كان به سلس بول لا يصح أن يكون إماما لمن به انفلات ريح. ولا يجوز اقتداء مصلى الظهر بمصلى العصر ولا اقتداء من يصلى ظهرا بمن يصلى ظهر يوم غير ذلك اليوم عندهم لاختلاف سبب وجوب الصلاتين وصفتهما وذلك يمنع صحة الاقتداء. وروى عن أفلح بن كثير أنه قال: دخلت المدينة ولم أكن صليت الظهر فوجدت الناس في الصلاة فظننت أنهم في الظهر فدخلت معهم ونويت الظهر فلما فرغوا علمت أنهم كانوا في العصر فقمت وصليت الظهر ثم صليت العصر ثم خرجت فوجدت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرين فأخبرتهم بما فعلت فاستصوبوا ذلك وأمروا به فانعقد الإجماع من الصحابة رضى الله تعالى عنهم على ذلك وهذا يفيد أنه يشترط في صحة صلاة الجماعة اتحاد صلاة الإمام والمأموم.
وفى النهاية أن الأصل في جنس هذه المسائل أن المقتدى إذا كان أقوى حالا من الإِمام لا تجوز صلاته وإن كان دونه أو مثله جاز. وفى المجتبى: لا تجوز إمامة المستحاضة للمستحاضة ولا إمامة الضالة للضالة كالخنثى المشكل للمشكل. قال صاحب البحر: ولعله لجواز أن يكون الإمام حائضا أما إذا انتفى الاحتمال فينبغى الجواز لأنه قبيل المتحد.
وفى الخلاصة أن إمامة المقتصد لغيره من الأصحاء صحيحة إذا كان يأمن خروج الدم، ومن به فأفأة أو تمتمة أو لثغ لا يصح أن يكون إماما لغيره، ويشترط كذلك في الإمام السلامة من فقد شروط الصلاة كطهارة من حدث أو خبث فإن عدم الطهارة كمن يحمل خبثا لا يعفى فلا تصح إمامته لطاهر وكذلك لا يصح أن يكون العارى إماما لمستور أما لو أم العارى عراة ولابسين فصلاة الإِمام ومن هو في مثله جائزة بلا خلاف، وفى البحر الرائق
(2)
: أنه لا يصح أن يكون المتنفل إماما لمفترض لأن الاقتداء بناء ووصف الفرضية معدوم في حق الإِمام في الأولى والذي صح عند أئمتنا وترجع أن معاذ بن جبل رضى الله تعالى عنه كان يصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم نفلا وبقومه فرضا لقوله صلى الله عليه وسلم حين شكوا تطويله بهم: "يا معاذ إما أن تصلى معى وإما أن تخفف على قومك" كما رواه الإِمام أحمد رحمه الله تعالى فشرع له أحد الأمرين الصلاة معه ولا يصلى بقومه أو الصلاة بقومه على وجه التخفيف ولا يصلى معه فأفاد منعه من الإِمامة إذا صلى الفرض مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا تمتنع إمامته مطلقا بالاتفاق فعلم أنه منعه من الفرض. أما اقتداء المتنفل بالمفترض فإنه يجوز لأنه بناء الضعيف على القوى
(3)
ولا يلزم على الإِمام أن يُعلم الجماعة بحاله ولا يأثم بتركه. وفى معراج الدراية: ولا يلزم على الإِمام الإعلام إذا كانوا قوما غير معينين. وفى المجتبى: ولو أم قوما
(1)
البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم جـ 1 ص 382 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
المرجع السابق لابن نجيم حـ 1 ص 382، ص 383 وما بعدها الطبعة السابقة.
(3)
المرجع السابق جـ 1 ص 388 وما بعدها الطبعة السابقة.
محدث أو جنب ثم علم بعد التفرق يجب الإخبار بقدر الممكن بلسانه أو كتاب أو رسول على الأصح.
مذهب المالكية:
جاء فى الشرح الكبير
(1)
وحاشية الدسوقى عليه: أن من الشروط التي تشترط في الإمام أن يكون مسلما فإن بان في الصلاة أو بعد الصلاة أنه كافر بطلت الصلاة على من ائتم به ولا يحكم بإسلامه إلا إذا علم منه النطق بالشهادتين، وأن يكون متحقق الذكورة فإن بان في الصلاة أو بعدها أنه امرأة ولو لمثلها في فرض أو نفل أو بان خنثى مشكلا ولو لمثله بطلت كذلك لأن شرطه تحقيق الذكورة وصلاة المرأة التي أمت غيرها، والخنثى الذي أم غيره صحيحة ولو نوى كل الإمامة. قال الدسوقي: ومن شروط الإمامة أن يكون عاقلا فإن بان الإمام مجنونا جنونا مطبقا أو يفيق أحيانا وأم حال جنونه بطلت الصلاة كذلك وأما لو أم حال إفاقته فالصلاة صحيحة على التحقيق، ومن الشروط أيضا العدالة فإن بان فاسقا بجارحة كزان وشارب خمر وعاق لوالديه ونحو ذلك بطلت لأن شرطه العدالة. والمعتمد أنه لا تشترط عدالته فتصح إمامة الفاسق بالجارحة ما لم يتعلق فسقه بالصلاة كأن يقصد بتقدمه للصلاة الكبر أو يخل بركن أو شرط أو سنة على أحد القولين في بطلان صلاة تاركها عمدا على أن الإِخلال بما ذكر شرط في صحة الصلاة مطلقًا، ومن الشروط أن لا يكون مأموما فإن بان مأموما بأن ظهر أنه مسبوق أدرك ركعة كاملة وقام يقضى بطلت. أما من أدرك دون ركعة فتصح إمامته وينوى الإِمامة بعد أن كان نوى المأمومية لأن شرط الإِمام أن لا يكون مأموما ومن الشروط أن لا يكون محدثا فإن بان محدثا إن تعمد الحدث في الصلاة أو قبل الصلاة وصلى عالما بحدثه أو تذكره في أثناء الصلاة وعمل عملا منها بطلت الصلاة لا إن نسيه ولم يتذكر حتى فرغ منها أو سبقه أو تذكر في الأثناء فخرج ولم يعمل بمن ائتم به عملا فهي صحيحة لهم ولو جمعة ويحصل لهم فضل الجماعة إن استخلفوا وهو واجب في الجمعة فقط وإذا لم يتعمد الإِمام الحدث ولكن علم مؤتمه بحدثه فيها أو قبلها ودخل معه ولو ناسب بطلت صلاته وليس كالنجاسة إذا علم بها قبلها ونسيها حين الدخول ويشترط في الإِمام كذلك القدرة على الأركان والعلم بما تصح به الصلاة فإن كان الإمام عاجزا عن ركن قولى أو فعلى أو عاجزا عن علم بما لا تصح الصلاة إلا به من كيفية غسل ووضوء وصلاة بطلت الصلاة لأنه فقد شرطا من شروط الإمام والمراد بالعلم هنا أن يعلم كيفية ما ذكر ولو لم يميز الفرض من غيره بشرط أن يعلم أن فيها فرائض وسننا أو يعتقد أن الصلاة مثلا فرض على سبيل الإجمال. وأما إذا اعتقد أن جميع أجزائها سنن أو أن الفرض سنة فلا تصح الصلاة بالنسبة له ولا لهم أما إذا أعتقد أن كل جزء منها فرض فالحكم كذلك على قول والأظهر أنها تصح. وقال الشيخ الدسوقى أنه إذا
(1)
انظر الشرح الكبير لأبى البركات سيدى أحمد الدردير على حاشية الدسوقى على الشرح الكبير للعالم العلامة شمس الدين الشيخ محمد عرفة الدسوقى وبهامشه الشرح المذكور مع تقريرات للعلامة المحقق الشيخ محمد عيسى جـ 1 ص 325، ص 326، ص 327، ص 328، ص 329 طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1219 هـ.
أخذ صفتها عن عالم ولم يميز الفرض من غيره فإن صلاته صحيحة إذا سلمت من الخلل سواء علم أن فيها فرائض وسننا أو أعتقد فرضية جميعها على الإجمال أو أعتقد أن جميع أجزائها سنن أو أعتقد أن الفرض سنة أو العكس أو أنها فضيلة أو أعتقد أن كل جزء منها فرض وإن لم تسلم صلاته من الخلل فهى باطلة في الجميع هذا هو المعتمد ويدل له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتمونى أصلى" فلم يأمرهم إلا بفعل ما رأوا وأهل العلم نوابه صلى الله عليه وسلم فهم مثله في الاقتداء فكأنه قال صلوا كما رأيتمونى أصلى أو رأيتم نوابى يصلون. وبطلان الاقتداء بالعاجز عن الركن إذا كان المأموم غير عاجز فإن كان المأموم يساوى إمامه في العجز كالقاعد يقتدى بمثله لعجز جائز. ولا تصح إمامة أمى ائتم به أمى إن وُجد قبل الدخول في الصلاة قارئ وتبطل عليهما معا على ما قاله سند من أن ظاهر المذهب بطلان صلاة الأمى إذا أمكنه الائتمام بالقارئ فلم يفعل وعلى كلام شهب القائل لا يجب على الأمى الائتمام بالقارئ إن أمكنه كالمريض الجالس لا يجب عليه أن يأتم بالقائم وتكون صلاة كل منهما صحيحة معا وتبطل صلاة المقتدى بقراءة شاذة مخالف لرسم المصحف العثمانى كقراءة فامضوا إلى ذكر الله بدل فاسعوا إلى فكر الله وكقراءة فبرئ والله مما قالوا بدل من قوله تعالى فبرأه الله مما قالوا. أما الشاذ الموافق له فلا تبطل وإن حرمت القراءة به كقراءة أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت بضم التاء فيها وما بعدها بدلا من القراءة بسكون التاء. ولا تصح إمامة عبد في جمعة لعدم وجوبها عليه أو إمامة صبى لبالغين في فرض لأنه متنفل أما في غير الفرض للبالغين فتصح إمامته وإن لم تجز بفتح المثناة الفوقية. وكذلك إمامة الصبى في الفرض للبالغين فتكون صلاتهم باطلة أما الاقتداء بالصبى في النفل للبالغين فقيل تجوز وأما إمامة الصبى لمثله فجائزة في الفرض والنفل.
وأما الاقتداء بمن يلحن في القراءة فإن كان اللحن عن عمد بطلت صلاة الإِمام وصلاة من خلفه باتفاق وإن كان اللحن سهوا صحت صلاته باتفاق وإن كان عن عجز طبيعى بحيث لا يقبل التعليم صحت صلاته باتفاق لأنه ألكن وإن كان عن جهل ويقبل التعليم قال بعضهم تبطل الصلاة مطلقا سواء كان اللحن في فاتحة أو غيرها وسواء غير المعنى أم لا. وقال بعضهم تبطل الصلاة إن كان اللحن في الفاتحة فقط وقال بعضهم تبطل الصلاة إن كان اللحن قد غير المعنى كضم ثاء أنعمت وقال بعضهم تصح الصلاة مطلقا وهو المعتمد.
ثم قال وهل تبطل صلاة مؤتم بغير مميز بين ضاد وظاء أو صاد وسين أو ذال وزاى مطلقا في الفاتحة وغيرها أو في الفاتحة فقط أو تصح صلاة المؤتم به خلاف وأما صلاة الإمام فصحيحة على كل حال ما لم يفعل ذلك اختيارا وهو المعتمد. وأعاد بوقت اختيارى من أئتم بإمام بدعى مختلف في تكفيره والأصح عدم الكفر كحرورى
(1)
وقدرى وكره ترتب إمام
(1)
الحرورية قوم خرجوا على عليّ رضى الله تعالى عنه بحروراء (قرية من قرى الكوفة على ميلين منها نقموا عليه في التحكيم وكفروا بالذنب.
الجهيمية: مذهب ينسب إلى جهم بن صفوان يقول بالجبرية أي الإنسان مسير لا مخير (المنجد ص 143 مادة جهم).
القدرية: مذهب الفلاسفة المعتزلة القائلين أن الإنسان رب =
أغلف وهو من لم يختن والراجح كراهة إمامته ولو كان غير راتب وكره أيضا أن يرتب ولد زنا ومجهول حال أي لا يعلم هل هو عدل أو فاسق ومثله مجهول الأب والنقل أن كراهة المجهول إذ لم يكن راتبا لا إن كان راتبا فلا يكره وإمامة العبد على ثلاث مراتب جائزة ومكروهة وممنوعة، فيجوز
(1)
أن يكون إماما راتبا في النوافل وإماما غير راتب في الفرائض، وكره أن يكون إماما راتبا في الفرائض وكذا في السنن وكالعيدين والكسوف والاستسقاء فإن أم في ذلك أجزأت ولم يؤمروا بالإعادة ويمنع أن يكون إماما في الجمعة راتبا أو غير راتب. وقال ابن القاسم يكره ولو كان أصلح القوم وأعلمهم. وقال عبد الملك بجواز ترتبه في الفرائض كالنوافل وقال اللخمى إن كان أصلحهم فلا يكره، وكره إمامة رجاء بمسجد بلا رداء يلقيه على كتفيه
(2)
.
مذهب الشافعية:
جاء في المهذب
(3)
: أنه إذا بلغ الصبى حدا يعقل وهو من أهل الصلاة صحت إمامته لما روى عن عمرو بن أبى سلمة رضى الله تعالى عنه قال: أممت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام ابن سبع سنين وفى الجمعة قولان للشافعى قال في الأم لا يجوز إمامته لأن صلاته نافلة وقال في الإِملاء يجوز لأنه يجوز أن يكون إماما في غير الجمعة فجاز أن يكون إماما في الجمعة كالبالغ ولا تصح إمامة الكافر لأنه ليس من أهل الصلاة فلا تجوز أن يعلق صلاته على صلاته فإن تقدم وصلى بقوم لم يكن ذلك إسلاما منه لأنها من فروع الإِيمان فلا يصير بفعلها مسلما كما لو صام رمضان أو زكى المال وأما من
_________
= أعماله خلافا للجبرية القائلين أن الإنسان لا مخير (المنجد ص 143 (مادة جهم).
الروافض: الروافض كل جند تركوا قائدهم؛ والرافضة الفرقة بينهم وفرقة من الشيعة بايعوا زيد بن على ثم قالوا له تبرأ من الشيخين فأبى وقال كانا وزيرى جدى فتركوه ورفضوه وأرفضوا عليه والنسبة رافضى (انطرابلسى جـ 2 ص 147 مادة رفض الطبعة الأولى).
الخطابية: طائفة من الشيعة تنتسب إلى أبى الخطاب الأجدع القائل بحلول الألوهية في نفسه كما حلف سابقا في الإمام جعفر الصادق عذب وأحرقت جثته وأرسل رأسه إلى بغداد لم تمت بدعته معه لكنها امتزجت بالاسماعيلية المرجع السابق لطاهر الزاوى جـ 2 ص 71 الطبعة السابقة والمنجد ص 178 مادة خطب.
المشبهة: صنفان: صنف شبهوا ذات البارى بذات غيره، وصنف آخر شبهوا صفاته بصفات غيره، وكل صنف من هذين الصنفين مفترقون على أصناف شتى، وواضح أن الصنف الثاني هم الذين يقصدهم أبو منصور ومنهم الذين شبهوا إرادة الله تعالى بإرادة خلقه (وهو قول المعتزلة البصرية) ومنهم الذين شبهوا كلام الله عز وجل بكلام خلقه.
السفال بالفتح نقيض العلو، وسفالة الريح بالضم: ضد علاوتها، وعلاوتها حيث نهب، وسفالة كل شئ أسفله.
ترتيب القاموس المحيط جـ 2 ص 53، ص 531 طبع مطبعة الرسالة بمصر سنة 1959 م الطبعة الأولى.
(1)
انظر المهذب في فقه مذهب الإمام الشافعي للشيخ الإمام الموفق أبى إسحاق إبراهيم بن على بن يوسف الفيروزابادى الشيرازى وبهامشه النظم المستعذب في شرح غريب المهذب للعلامة محمد بن أحمد بن بطال الركبى جـ 1 ص 97 وما بعدها طبع مطبعة عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر. سنة 1376 هـ.
(2)
حاشية الدسوقى والشرح الكبير عليه جـ 1 من ص 329 إلى ص 332 الطبعة السابقة.
(3)
انظر كتاب المهذب لفقه الإمام الشافعي للشيخ الإمام الموفق أبى إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادي الشيرازى وبهامشه النظم المستعذب في شرح غريب المهذب للعلامة محمد بن أحمد بن بطال الركبى جـ 1 ص 98،97 وما بعدها طبع مطبعة عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1376 هـ.
صلى خلفه فإنه إن علم بحاله لم تصح صلاته لأنه علق صلاته بصلاة باطلة وإن لم يعلم ثم علم نظر فإن كان كافرا متظاهرا بكفره لزمته الإِعادة لأنه مفرط في صلاته خلفه لأنه على كفره أمارة من الغيار هو ما يكون على أهل الذمة من العلامات في ملابسهم ليتميزوا بها عن المسلمين إذا اختلطوا بهم وهو من التغير أو من لفظ غير أي يكون لباسه غير لباس المسلم وإن كان مستترا ففيه وجهان أحدهما لا تصح صلاته لأنه ليس من أهل الصلاة فلا تصح الصلاة خلفه كما لو كان متظاهرا بكفره والثانى تصع لأنه غير مفرط في الائتمام به وتجوز الصلاة خلف الفاسق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وعلى من قال لا إله إلا الله" ولأن ابن عمر رضى الله تعالى عنه صلى خلف الحجاج مع فسقه ولا يجوز للرجل أن يصلى خلف المرأة لما روى جابر رضى الله تعالى عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تؤم امرأة رجلا فإن صلى خلفها ولم يعلم ثم علم لزمه الإِعادة لأن عليها أمارة تدل على أنها امرأة فلم يعذر في صلاته خلفها ولا تجوز صلاة الرجل خلف الخنثى المشكل لجواز أن يكون امرأة ولا صلاة الخنثى خلف الخنثى لجواز أن يكون المأموم رجلا والإمام امرأة، ولا تجوز الصلاة خلف المحدث لأنه ليس من أهل الصلاة فإن صلى خلفه غير الجمعة ولم يعلم ثم علم فإن كان ذلك في أثناء الصلاة نوى مفارقته وأتم وإن كان بعد الفراغ لم تلزمه الإعادة لأنه ليس على حدثه أمارة فعذر في صلاته خلفه وأما الاقتداء بمن يلحن في القراءة لحان اللحن عن عمد بطلت صلاة الإِمام ومن خلفه باتفاق وإن كان اللحن سهوا صحت صلاته باتفاق وإن كان عن عجز طبيعى بحيث لا تقبل التعليم صحت صلاته باتفاق لأنه ألكن، وإن كان عن جهل ويقبل التعليم قال بعضهم تبطل الصلاة مطلقا سواء كان اللحن في فاتحته أو غيرها وسواء غير المعنى أم لا، وقال بعضهم تبطل الصلاة إن كان اللحن في الفاتحة فقط، وقال بعضهم تبطل الصلاة إن كان اللحن قد غير المعنى كضم تاء أنعمت وقال بعضهم تصح الصلاة مطلقا وهو المعتمد فإن كان في الجمعة فقد قال الشافعي رحمه الله تعالى في الأم إن تم العدد به لم تصع الجمعة لأنه فقد شرط الجمعة وإن تم العدد دونه صحت لأن العدد وجد وحدثه لا يمنع صحة الجمعة كما لا يمنع في سائر الصلوات ويجوز للمتوضئ أن يصلى خلف المتيمم لأنه أتى عن طهارته ببدل فهو كغاسل الرجل إذا صلى خلف الماسح على الخف وفى صلاة الطاهرة خلف المستحاضة وجهان أحدهما: يجوز كالمتوضئ خنف المتيمم والثانى: لا يجوز لأنها لم تأت بطهارة عن النجس ولأنها تقوم مقامها فهو كالمتوضئ خلف المحدث ويجوز للقائم أن يصلى خلف القاعد لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى جالسا والناس خلفه قيام ويجوز للراكع والساجد أن يصلى خلف المومى إلى الركوع والسجود لأنه ركن من أركان الصلاة فجاز للقادر عليه أن يأتم بالعاجز عنه كالقيام. وفى صلاة القارئ خلف الأمى وهو من لا يحسن الفاتحة أو خلف الأرت والألثغ قولان أحدهما يجوز لأنه ركن من أركان الصلاة فجاز للقادر عليه أن يأتم بالعاجز عنه كالقيام والثانى لا يجوز لأنه يحتاج أن يتحمل قراءته وهو يعجز عن ذلك فلا يجوز أن ينتصب للتحمل كالإِمام الأعظم إذا عجز عن تحمل أعباء الأمة ويجوز أن يأتم المفترض بالمتنفل والمفترض
بالمفترض في صلاة أخرى لما روى جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنه أن معاذا رضى الله تعالى عنه كان يصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الأخيرة ثم يأتى قومه في بنى سلمة يصلى بهم هي له تطوع ولهم فريضة العشاء ولأن الاقتداء يقع بالأفعال الظاهرة وذلك يمكن مع اختلاف السنة فأما إذا صلى صلاة الكسوف خلف من يصلى الصبح أو الصبح خلف من يصلى الكسوف لم يجز لأنه لا يمكن الائتمام مع اختلاف الأفعال ولا يجوز أن يصلى الجمعة خلف من يصلى الظهر لأن الإِمام شرط في الجمعة والإمام ليس معهم في الجمعة فيصير كالجمعة بغير إمام ومن أصحابنا من قال تجوز كما يجوز أن يصلى الظهر خلف من يصلى العصر وفى فعلها خلف المتنفل قولان أحدهما: يجوز لأنهما متفقان في الأفعال الظاهرة والثانى: لا يجوز لأن من شرط الجمعة الإِمام والإِمام ليس معهم في الجمعة، ويكره أن يصلى الرجل بقوم وأكثرهم له كارهون لما روى ابن عباس رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يرفع الله صلاتهم فوق رءوسهم .. فذكر فيهم رجلا أم قوما وهم له كارهون فإن كان الذي يكرهه الأقل لم يكره أن يؤمهم لأن أحدا لا يخلو ممن يكرهه ويكره أن يصلى الرجل بامرأة أجنبية لما روى أن النبى صلي الله عليه وآله وسلم قال لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان ويكره أن يصلى خلف التمتام والفأفأة لما يزيدان في الحروف فإن صلى خلفهما صحت صلاته لأنها زيادة هو مغلوب عليها
(1)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في كشاف القناع
(2)
: أنه لا تصح إمامة فاسق بفعل كزان وسارق وشارب خمر ونمام ونحوه أو اعتقاد كخارجى ورافضى ولو كان مستورا لقول الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} ولما روى ابن ماجه عن جابر رضى الله تعالى عنهما مرفوعا "لا تؤمن امرأة رجلا ولا أعرابى مهاجرا ولا فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سوطه وسيفه وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم بينكم وبين ربكم" ولأن الفاسق لا يقبل خبره لمعنى في دينه فأشبه الكافر ولأنه لا يؤمن على شرائط الصلاة ولا تصح إمامة فاسق ولو لمثله وسواء علم فسقه ابتداء أو لا ويعيد المأموم إذا علم فسق إمامه واختار الشيخان أن البطلان مختص بظاهر الفسق دون خفيه قال في الوجيز لا تصح خلف الفاسق المشهور فسقه لكن ظاهر كلامه وهو المذهب أنها لا تصح مطلقا قاله في المبدع وتصح الجمعة والجد خلف فاسق بلا إعادة إن تعذرت خلف غيره لأنهما يختصان بإمام فالمنع منهما خلفه يؤدى إلى تفويتهما دون سائر الصلوات وإن خاف أذى بترك الضلاة خلف الفاسق صلى خلفه دفعا للمفسدة وأعاد صلاته لعدم براءته ولو نوى المصلى خلف الفاسق الإِنفراد ووافقه في أفعال الصلاة صح ما صلاه
(1)
انطر كتاب المهذب لفقه الإمام الشافعي للشيخ الإمام الموفق أبى إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادى الشيرازى وبهامشه النظم المستعذب في شرح غريب المهذب للعلامة محمد بن أحمد بن بطال الركبى جـ 1 ص 97، 98 وما بعدها طبع مطبعة عيسى الباج الحلبى وشركاه بمصر سنة 1376 هـ.
(2)
انظر كشاف القناع عن متن الاقناع لابن إدريس الحنبلى وبهامشه منتهى الإرادات لابن يونس البهوتى جـ 1 ص 312 وما بعدها طبع المطبعة العامرة الشرقية بمصر الطبعة الأولى سنة 1319 هـ.
ولم يعد لأنه لم يأتم به، وإذا جهل حال الإمام فلم يعرف عدله أو فسقه صحت الصلاة خلفه لأن الأصل المسلمين السلامة ولم يظهر منه ما يمنع الائتمام به والمستحب أن يصلى خلف من يعرف عدالته ليتحقق براءة ذمته ومن صلى بأجرة لم يصل خلفه. قاله محمد بن تميم قال أبو داوود سمعت أحمد يسأل عن إمام قال أصلى بكم رمضان بكذا وكذا درهما قال أسأل الله العافية من يصلى خلف هذا فإن دفع إلى الإِمام شئ بغير شرط فلا بأس. ولا تصح الصلاة خلف كافر ولو كان كفره ببدعة على ما هو مذكور في الأصول ولو أسر الكفر فجهل المأموم كفره ثم تبين له لا تصح الصلاه خلفه لأن صلاته لا تصح لنفسه فلا تصح لغيره ولعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن فاجر مؤمنا" والكفر لا يخفى غالبا فالجاهل به مفرط، ولو صلى خلف من يعلمه مسلما فقال بعد الصلاة هو كافر لم يؤثر في صلاة المأموم لأنها كانت محكوما بصحتها وهو مسن لا يقبل قوله ولو قال من جهل حاله لمن صلى خلفه بعد سلامه من الصلاة هو كافر وإنما صلى تهزئا أعاد المأموم صلاته كما إذا اعتقد المأموم كفر الإمام أو أنه محدث فبان بخلافه أو ظن أنه خنثى مشكل فبان رجلا فيعيد المأموم لاعتقاده بطلان صلاته ولو علم من إنسان حال إفاقة وحال إسلام وصلى خلفه ولم يعلم في أي الحالين هو وقت الصلاة أعاد ولو علم لإنسان حال إفاقة وحال جنون كره تقديمه في المسألتين لاحتمال أن يكون على الحالة التي لا تصح إمامته فيها، ولا تصح
(1)
الصلاة خلف سكران لأن صلاته لا تصح لنفسه فلا تصح لغيره ولا إمامة الأخرس ولو لأخرس مثله لأنه يترك ركنا وهو القراءة والتحريمة وغيرهما فلا يأتي به ولا يبد له بخلاف الأمى ونحوه فإنه يأتى بالبدل ولا تصح إمامة من به سلس بول ونحوه كنجو وريح ورعاف لا يرقأ دمه وجروح سيالة إلا لمثله لأن في صلاته خللا غير مجبور ببدل لكونه يصلى مع خروج النجاسة التي يحصل بها الحدث من غير طهارة أشبه ما لو أنتم بمحدث يعلم حدثه وإنما صحت صلاته في نفسه للضرورة ولا تصح إمامة عاجز عن ركوع أو رفع منه كأحدب أو عاجز عن سجود أو قعود أو عن استقبال أو اجتناب نجاسة أو عاجز عن الأقوال الواجبة ونحو ذلك من الأركان أو الشروط إلا بمثله لأنه أخل بركن أو شرط فلم يجز كالقاريء بالأمى ولا فرق بين إمام الحى وغيره وتصح إمامتهم بمثلهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في المطر بالإيماء ولا تصح إمامة العاجز عن القيام لأنه عجز عن ركن من أركان الصلاة فلم يصح الاقتداء به كالعاجز عن القراءة إلا لمثله إلا إمام الحى وهو كل إمام مسجد راتب كما في المتفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم إن أجلسوا فلما انصرف قال إنما جعل الإِمام ليؤتم به إلى قوله وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون. قال ابن عبد البر روى هذا مرفوعا من طرق متوافرة ولأن إمام الحى يحتاج إلى تقديمه بخلاف غيره وترك القيام أخف من ترك إمام الحى بدليل سقوطه في النفل يرجى زوال علته التي منعته القيام فإن كان لا يرجى زوال علته
(1)
انظر المرجع السباق لابن إدريس الحنبلى وبهامشه منتهى الإرادات لابن يونس البهواتى جـ 1 ص 308 وما بعدها الطبعة السابقة.
لا تصح إمامته ويصلون وراءه جلوسا لئلا يقضى إلى ترك القيام على الدوام ويصلون أيضا وراء الإِمام الأعظم جلوسا إذا مرض ورجى زوال علته للخبر المتقدم. وإذا صلوا قياما خلف إمام الحى المرجو زوال علته قياما صحت صلاتهم والأفضل لإمام الحى أن يستخلف إذا مرض لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر من صلى خلفه قائما بالإعادة ولأن القيام هو الأصل مرجعه كزوال عليه لأن الناس مختلفون في صحة إمامته مع أن صلاة القائم أكمل وكمالها مطلوب وإذا ابتدأ الإِمام الصلاة قائما ثم حصلت له علة فجلس عجزا أتموا خلفه قياما ولم يجز الجلوس لأن القيام هو الأصل فإذا بدأ به في الصلاة لزمه في جميعها إذا قدر عليه.
ولا تصح إمامة امرأة برجال لما روى ابن ماجه رضى الله تعالى عنه عن جابر رضى الله تعالى عنه مرفوعا "لا تؤمن امرأة رجلا" ولأنها لا تؤذن للرجال فلم يجز أن تؤمهم كالمجنون ولا بخناثى لاحتمال كونهم رجالا ولا إمامة خنثى مشكل برجال لاحتمال كونه امرأة ولا إمامة الخنثى بخناثى مشكلين لاحتمال أن يكون امرأة وهم رجال. وعلى المذهب لا فرق بين الفرض والتراويح وغيرها وعن الإمام أحمد إمامة الخنثى والمرأة تصح في التراويح إذا كانا قارئين والرجال أميون ويقفون خلفها وذهب إليه أكثر المتقدمين فإن لم يعلم الرجل المأموم بكون الإِمام امرأة أو خنثى بعد الصلاة أعاد صلاته لأنه مفرط لأن ذلك لا يخفى غالبا وتصح إمامة المرأة بنساء لما رواه الدارقطنى عن أم ورقة رضى الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها وتصح أيضا إمامة الخنثى بنساء لأن غايته أن يكون امرأة وإمامتها بهم صحيحة، ولا تصح
(1)
إمامة صبى مميز لبالغ في فرض لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا صبيانكم" ولأنها حال كمال والصبى ليس من أهلها أشبه المرأة بل آكد لأنه نقص يمنع التكليف وصحة الإقرار والإمام ضامن وليس هو من أهل الضمان ولأنه لا يؤمن منه الإِخلال بالقراءة حال السر وتصح إمامة المميز للبالغ في نفل ككسوف وتراويح وتصح إمامة مميز بمثله لأنه متنفل يؤم متنفلا ولا تصح إمامة محدث يعلم ذلك ولا إمامة نجس يعلم ذلك لأنه أخل بشرط الصلاة مع القدرة أشبه المتلاعب لكونه لا صلاة له في نفسه فيعيد من صلى خلفه ولو جهل الحدث أو النجس مأموم وعلمه الإمام فيعيدون كلهم ولا فرق بين الحدث الأصغر والأكبر ولا بين نجاسة الثوب والبدن والبقعة وإن جهل الحدث أو النجس الإمام والمأمومون كلهم حتى قضوا الصلاة صحت صلاة المأموم دون الإمام لما روى البراء بن عازب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى الجنب بالقوم أعاد صلاته وتمت للقوم صلاتهم" رواه محمد بن الحسين الحرانى ولما روى أن عمر صلى بالناس الصبح ثم خرج إلى الجرف فاهراق الماء فوجد في ثوبه احتلاما فأعاد الصلاة ولم تعد الناس وروى مثل ذلك عن عثمان وابن عمر. إلا في الجمعة إذا كانوا أربعين بالإمام فإنها لا تصح إذا كان الإِمام محدثا أو نجسا وكذا لو كان أحد المأمومين محدثا أو نجسا في الجمعة وهم أربعون فقط فيعيد الكل لفقد العدد المعتبر في الجمعة لأن المحدث أو النجس وجوده كعدمه فإن كانوا أربعين غير المحدث أو النجس فالإعادة عليه وحده.
(1)
انظر كشاف القناع منتهى الإرادات جـ 1 ص 310 الطبعة السابقة.
ولا تضح إمامة أمى بقارئ (1) - (والأمى اصطلاحا من لا يحسن الفاتحة أي لا يحفظها أو يدغم منها حرفا لا يدغم أو يلحن فيها لحنا بغير المعنى عجزا عن إصلاحه كفتح همزة اهدنا لأنه يصير بمعنى طلب الهدية أو يبدل منها حرفا لا يبدل وهو الألثغ إلا ضاد المغضوب وضاد الضالين بظاء فلا يصير به أميا سواء علم الفرق بينهما لفظ ومعنى أولا فإن تعمد (منتهى الإرادات) غير الأمى إدغام ما لا يدغم وإبدال ما لا يبدل أو اللحن المغير للمعنى أو قدر الأمي على إصلاحه فتركه أو زاد عمدا من يدغم أو يبدل أو يلحن اللحن المغير للمعنى على فرض القراءة وهو الفاتحة وهو عاجز عن إصلاحه لم تصح صلاته لأنه أخرجه بذلك عن كونه قرآنا فهو كسائر الكلام ويكفى إن اعتقد إباحته (أما إن حصلت الزيادة عن فرض القراءة لسهو أو جهل أو لآفة صحت صلاته). مضت السنة على ذلك قاله الزهرى لأن القراءة ركن مقصود في الصلاة فلم يصح اقتداء القادر عليه بالعاجز عنه كالطهارة والسترة وهو يتحملها عن المأموم وليس هو من أهل التحمل، أما أمامة الأمى بمثله فإنها جائزة. وتكره (2) إمامة كثير اللحن الذي لا يغير المعنى كجر دال الحمد ونصب هاء الله ونصب باء رب ونحوه سواء كان المؤتم مثله أو كان لا يلحن لأن مدلول اللفظ باق وهو كلام الرب سبحانه وتعالى قال في الإنصاف وهو المذهب مطلقا المشهور عند الأصحاب وقال ابن منجى في شرحه فإن تعمد ذلك لم تصح صلاته لأنه مستهزئ ومتعمد قال في الفروع وهو ظاهر كلام ابن عقيل في الفصول وعلم من كلامه أن من سبق لسانه باليسير لا تكره إمامته لأنه قل من يخلو من ذلك إمام أو غيره، وتكره إمامة من يصرع بالبناء للمفعول) من الصرع وهو داء يشبه الجنون قأله في الحاشية أو تضحك رؤيته أو صورته أي ئكره إمامته وتصح ومن اختلف في صحة إمامته قاله في الفروع فقد يؤخذ منه كراهة إمامة الموسوس وهو متجه لئلا يقتدى به عامى وظاهر كلامهم لا يكره، وتكره مع الصحة إمامة أقلف أما الصحة فلأنه ذكر مسلم عدل قارئ فصحت إمامته وأما الكراهة فللاختلاف في صحة إمامته وخصه بعضهم بالأقلف المرتتق وهو الذي لا يقدر على فتى قلفته وغسل ما تحتها فأما المفتوق يترك غسل ما تحت القلفة مما يمكنه غسله لم تصح إمامته ولا صلاته لحمله نجاسة لا يعفى عنها مه القدره على إزالتها، قاله بعض الأصحاب ولعل هذا مراد من أطلق من الأصحاب الخلاف وهو ظاهر من تعليلهم، وتكره إمامة أقطع يدين أو أقطع إحداهما أو أقطع رجلين أو أقطع إحداهما مع الصحة قال في شرح المنتهى ولا يخفى أن محل الصحة ما إذا أمكن أقطع رجلين القيام بأن يتخذ له رجلين من خشب أو نحوه وأما إذا لم يمكنه القيام فلا تصح إمامته إلا بمثله، وتكره وتصح إمامة أقطع أنف، وتكره وتصح إمامة الفأفأء الذي يكرر الفاء والتمتام الذي يكرر التاء ومن
لا يفصح ببعض الحروف كالقاف والضاد. وأما صحة إمامته فلإتيانه بفرض القراءة وأما كراهة تقديمه فلزيادته ما يكرر أو عدم فصاحته، ويكره أن يؤم أنثى أجنبية فأكثر لا رجل معهن لأنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يخلو الرجل بالأجنبية ولما فيه من مخالطة الوسواس ولا بأس أن يؤم بذوات محارمة أو أجنبيات معهن رجل فأكثر لأن النساء كن يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ويكره أن يؤم قوما أكثرهم يكرهه بحق لخلل في دينه أو فضله لحديت أبى أمامة مرفوعا ثلاثة لا تجوز صلاتهم وأذانهم العبد الآبق حتى يرجع وامرأة باتت وزوجها علمها ساخط وإمام قوم وهم له كارهون. رواه الترمذى وقال حسن غريب. فإن كرهه بعضهم لا يكره أن يؤمهم لمفهوم الخبر والأولى أن لا يؤمهم إزالة لذلك الاختلاف وإذا كان بين الإِمام والمأموم معادات من جنس معادات أهل الأهواء والمذاهب لا ينبغ أن يؤمهم لعدم الائتلاف والمقصود بالصلاة جماعة إنما يتم بالائتلاف، ولا يكره الائتمام به حيث صلح للإمامة لأن الكراهة في حقه دونهم للأخبار ولا بأس بإمامة ولد الزنا ولقيط ومنفى النسب بلعان وخصى وأعرابى إذا سلم دينهم وصلحوا لها لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤم القوم أقرؤهم وصلى الناس خلف بن زياد وهو ممن في نسبه نظر ولأن كلا منهم حر مرضى في دينه ويصلح للإِمامة كغيره. ويصح ائتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها وائتمام من يقضى الصلاة بمن يؤديها لأن الصلاة واحدة وإنما اختلف الوقت ويصبح ائتمام قاضى ظهر بقاضي ظهر يوم آخر. ويصح ائتمام متوضئ بمتيمم وائتمام ماسح على حائل بغاسل ويصح ائتمام متنفل بمفترض ولا يصح أن يأتم مفترض بمتنفل لقول النبى صلى الله عليه وسلم:"إنما جعل الإِمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" ولأن صلاة المأموم لا تؤدى بننية الإمام أشبه صلاة الجمعة خلف من يصلى الظهر، ولا يصح
(1)
أن يؤم من عدم الماء والتراب أو به قروح لا يستطيع معها مس البشرة بأحدهما بمن تطهر بأحدهما كما تقدم في ائتمام القادر بالعاجز عن شرط الصلاة.
مذهب الظاهرية:
جاء في المحلى
(2)
: أنه يشترط في الإِمام أن يكون مسلما وأن يكون طاهرا فلا تجوز إمامة الكافر ولا المتعمد للصلاة بلا طهارة ولا المتعمد للعبث في صلاته وهذا لا خلاف فيه من أحد من النص الثابت بأن يؤم القوم أقرؤهم وفيه وليؤمكم أحدكم في حديث أبى موسى والكافر ليس أحدنا وليدمر الكافر من المصلين ولا مضافا إليهم وليس العابث مصليا فالمؤتم بواحد منهما إذا كان يدرى ذلك لم يصل كما أمر فصلاته باطلة، فإن
(3)
صلى خلف من يظنه مسلما ثم علم أنه كافر أو أنه عابث أو أنه لم يبلغ فصلاته تامة لأنه لم يكلفه
(1)
انظر كشاف القناع عن متن الإقناع للشيخ منصور بن إدريس الحنبلى جـ 1 ص 313 وما بعدها طبع المطبعة العامرة الشرفية بمصر سنة 1319 هـ الطبعة الأولى.
(2)
انظر المحلى لأبى سعيد محمد بن على بن حزم الظاهرى الأندلسى جـ 4 ص 51 وما بعدها مسألة رقم 411 طبع مطابع مطبعة إدارة الطباعة المنبرية الطبعة الأولى سنة 1351 هـ بالقاهرة لصاحبها محمد منير أغا الدمشقى.
(3)
المرجع السابق جـ 4 ص 51 وما بعدها مسألة رقم 412.
الله تعالى معرفة ما في قلوب الناس. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أبعث لأشق عن قلوب الناس" إنما كلفنا ظاهر أمرهم فأمرنا إذا حضرت الصلاة أن يؤمنا بعضنا في ظاهر أمره فمن فعل ذلك فقد صلى كما أمر وكذلك العابث في نيته أيضا لا سبيل إلى معرفة ذلك منه. والإمام
(1)
الذي تأول في بعض ما يوجب الوضوء فلم ير الوضوء منه فالائتمام به جائز وكذلك من اعتقد متأولا أن بعض فروض صلاته تطوع لأنه معذور بجهله وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة معاوية بن الحكم وهو قد تعمد الكلام في صلاته جاهلا. وإذا صلى
(2)
الإمام جنبا أو على غير وضوء سواء فعل ذلك عامدا أو ناسيا فصلاة من أئتم به صحيحة إلا أن يكون علم ذلك يقينا فلا صلاة له لأنه ليس مصليا فإذا لم يكن مصليا فالمؤتم بمن لا يصلى عابث عاص مخالف لما أمر به ومن هذه صفته في صلاته فلا صلاة له. وقد قال الله سبحانه وتعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(3)
وليس في وسعنا علم الغيب من طهارته وكل إمام يصلى وراءه ففى الممكن أن يكون على غير طهارة عامدا أو ناسيا فصح أننا لم نكلف علم يقين طهارتهم وكل أحد يصلى لنفسه ولا يبطل صلاة المأموم - إن صحت - بطلان صلاة الإمام ولا يصحح صلاة المأموم - إن بطلت - صحة صلاة الإِمام ومن تعدى هذا فهو مناقض فقد روى عن عطاء بن يسار عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يصلون لكم فإن أصابوا فلكم وإن أخطأوا فلكم وعليهم" وعن أبى بكرة رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر فكبر فأومأ إليهم أن مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم فلما قضى الصلاة قال: إنما أنا بشر مثلكم وإنى كنت جنبا، ولا تجوز
(4)
إمامة من لم يبلغ الحلم لا في فريضة ولا في نافلة لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أقرؤكم" فكان المؤذن مأمورا بالأذان والإمام مأمورا بالإمامة بنص هذا الخبر ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن القلم رفع عن الصغير حتى يحتلم" فصح أنه ليس مأمورا بهما فلا يجزئان إلا من مأمور بهما لا ممن لم يؤمر بهما ومن أئتم بمن لم يؤمر أن يأتم به وهو عالم بحاله فصلاته باطلة فإن لم يعلم المؤتم بأنه لم يبلغ وظنه رجلا بالغا فصلاة المؤتم به تامة كمن صلى خلف جنب أو كاقر لا يعلم بهما ولا فرق، وصلاة
(5)
المرأة بالنساء جائزة ولا يجوز أن تؤم الرجال أما منع المرآة الرجال فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن المرأة تقطع صلاة الرجل وأن موقفها في الصف خلف الرجال والإمام لابد له من التقدم أمام المؤتمين أو من الوقوف عن يسار الإمام إذا لم يكن معه غيره فلو تقدمت المرأة أمام الرجل لقطعت صلاته وصلاتها وكذلك لو وصلت إلى جنبه لتعديها
(1)
المحلى لابن حزم الظاهرى جـ 4 ص 52 وما بعدها مسألة رقم 413 الطبعة السابقة.
(2)
انظر المرجع السابق لابن حزم الظاهرى جـ 4 ص 214 وما بعدها مسألة رقم 489 طبع مطبعة إدارة الطباعة المنيرية بمصر سنة 1351 هـ الطبعة الأولى.
(3)
الآية رقم 286 من سورة البقرة.
(4)
المحلى لابن حزم الظاهرى جـ 4 ص 217 وما بعدها مسألة رقم 490 الطبعة السابقة.
(5)
انظر المرجع السابق لابن حزم الظاهرى جـ 4 ص 219. وما بعدها مسألة رقم 491 طبع مطابع إدارة الطباعة المنيرية بمصر سنة 1351 هـ الطبعة الأولى.
المكان الذي أمرت به فقد صلت بخلاف ما أمرت وأما جواز إمامتها للنساء فإن المرأة لا تقطع صلاة المرأة إذا صلت أمامها أو إلى جنبها ولم يأت بالمنع من ذلك قرآن ولا سنة وهو فعل خير وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}
(1)
وهو تعاون على البر والتقوى وقد روى عن تميمة بنت سلمة عن عائشة أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها أنها أمت النساء في صلاة المغرب فقامت وسطهن وجهرت بالقراءة وروى أن أم سلمة أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها كانت تؤم النساء في رمضان وتقوم معهن في الصف، ولا يحل
(2)
ولا يحل لأحد أن يؤم وهو ينظر ما يقرأ به في المصحف لا في فريضة ولا في نافلة فإن فعل عالما بأن ذلك لا يجوز بطلت صلاته وصلاة من ائتم به عالما بحاله عالما بأن ذلك لا يجوز لأن من لا يحفظ القرآن فلم يكلفه الله سبحانه وتعالى قراءة ما لا يحفظ لأن ذلك ليس في وسعه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها فإذا لم يكن مكلفا بذلك فتكلفه ما سقط عنه باطل ونظره في المصحف عمل لم يأت بإباحته في الصلاة نص وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الصلاة لشغلا"، وتصح
(3)
إمامة المتنفل للمفترض وإمامة المفترض للمتنفل وإمامة من يصلى فرضا لمن يصلى فرضا آخر كل ذلك حسن، ومن نسى صلاة فرض أي صلاة كانت فوجد إماما يصلى صلاة أخرى أي صلاة كانت في جماعة ففرض عليه ولابد أن يدخل فيصلى التي فاتته وتجزئه ولا نبالى باختلاف نية الإمام والمأموم ولو وجد المرء جماعة تصلى التراويح في رمضان ولم يكن صلى العشاء الآخرة فليصلها معه ينوى فرضه فإذا سلم الإمام ولم يكن هو أتم صلاته فلا يسلم بل يقوم فإن قام الإِمام إلى الركعتين قام هو أيضا فأئتم به فيهما ثم يسلم بسلام الإِمام وكذلك لو ذكر صلاة فائتة، وجائز أن يصلى إمام واحد بجماعتين فصاعدا في مساجد شتى صلاة واحدة هي لهم فرض وكلها له نافلة سوى التي صلى أولا، وكذلك من صلى فرض في جماعة فجائز له أن يؤم في تلك الصلاة جماعة أخرى وجماعة بعد جماعة وكل ذلك لأنه لم يأت قط قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس يوجب اتفاق نية الإمام والمأموم وكل شريعة لم يوجبها قرآن ولا سنة ولا إجماع فهى غير واجبة. وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به فإنه صلى الله عليه وسلم قد بين في هذا الخبر نفسه المواضع التي يلزم الائتمام بالإمام فيها وهى قوله صلى الله عليه وسلم: فإذا كبر فكبروا وإذا ركم فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا فهاهنا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالائتمام فيه لا في النية التي لا سبيل إلى معرفتها لغير الله سبحانه وتعالى ثم لناويها وحده، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فنص صلى الله عليه وسلم نصا جليا على أن لكل أحد ما نوى فصح يقينا أن للإمام نيته وللمأموم نيته لا تعلق لأحداهما بالأخرى وما عدا هذا فباطل بحت لا شك فيه وقد روى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه أن معاذ بن جبل كان يصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يأتى قومه فيؤمهم فصلى ليلة
(1)
الآية رقم 77 من سورة الحج.
(2)
انظر المحلى لابن حزم الظاهرى 4 ص 223 مسألة رقم 493 الطبعة السابقة.
(3)
انظر المرجع السابق لابن حزم الظاهرى جـ 4 ص 223 وما بعدها طبع إدارة الطباعة المنيرية بمصر سنة 1351 هـ الطبعة الأولى.
مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف فقالوا له أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرته فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا أصحاب نواضح
(1)
نعمل بالنهار وإن معاذ صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال: "يا معاذ أفتان أنت وأقرأ بكذا وأقرأ بكذا" رواه مسلم. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم بالأمر "أقره على حاله ولم ينكرها.
مذهب الزيدية:
جاء في شرح الأزهار
(2)
ما يفيد: أن المهدى عليه السلام حضر من لم تشرع خلفه الصلاة في أحد عشر حالا: الحالة الأولى: حيث يكون الإِمام فاسقا أو في حكمه، فالفاسق ظاهر والذي في حكمه هو من يصر على معصية لا يفعلها في الأغلب إلا الفاسق ولو لم يعلم كونها فسقا. وقد مثل على خليل ذلك بكشف العورة بين الناس والشتم الفاحش غير القذف والتطفيف في الكيل والوزن يعنى باليسير قال المهدى عليه السلام بخلاف ما يرتكبه الفاسق وبعض المؤمنين في العادة وقد مثل مثل ذلك الفقيه يحيى بالغيبة والكذب لكن بشرط أن يتوضأ إن كان مذهبه أنهما ناقضان. قال مولانا المهدى عليه السلام وهذا لا ينبغى إطلاقه بل يقيد بأنه لا يتخذ ذلك خلقا وعادة يعرف به بل غالب أحواله التحرز ويصدر ذلك منه في الندرة وفى الأمور الخفية لأنه إذا لم يكن كذلك فقد صار ذا جرأة ظاهرة في دينه. مثال ذلك أن يجمع بين صلاتين لغير عذر قال المهدى عليه السلام وهذا المثال يفتقر إلى تفضيل أيضا لأنه إذا كان مذهبه جواز ذلك فليس بمعصية وإن كان مذهبه أنه غير جائز نظر فإن كان
(3)
يرى أنه مجز فالمثال صحيح وإن كان يرى أنه غير مجز فهو بمثابة من اجترأ على ترك الصلاة قال المهدى عليه السلام وأقرب ما يصح التمثيل به على الإطلاق ما ذكرناه وهو من يجمع بين الصلاتين ومذهبه أن ذلك مجز غير جائز. نعم ادعى في الشرح إجماع أهل البيت عليهم السلام أن الصلاة خلف الفاسق لا تجزئ وهو قول الجعفرين وقال أبو على ومشايخ المعتزلة أنها تجزئ وتكره، والحال الثاني: حيث يكون الإِمام صبيا فإن إمامة الصبى لا تصح عندنا، الحال الثالث: حيث يكون الإمام قد دخل في تلك الصلاة مؤتما بغيره فإن إمامته بغيره من المصلين معه حينئذ لا تصح عندهم هذا إذا كان غير مستخلف فأما إذا دخل مؤتما ثم استخلفه الإِمام فإن إمامته تصح حينئذ وعند المؤيد بالله أنه يصح الائتمام باللاحق بعد انفراده فيما بقى إذ لا يحتاج إلى نية. والحال الرابع: أن تصلى امرأة برجل فإن ذلك لا يصح مطلقا بالإِجماع إلا عن أبى ثور سواء كان الرجل محرما لها أم لا وإما أن المرأة تؤم النساء فذلك جائز سنة عندنا، وقال الخامس العكس وهو حيث يصلى الرجل بالمرأة فإن ذلك لا يصح عندنا أيضا سواء كان الرجل محرما لها أم لا إلا حيث تكون المرأة المؤتمة مع رجل مؤتم
(1)
الناضح البعير يستقى عليه.
(2)
انظر شرح الأزهار المنتزع من الغيب المدرار في فقه الأئمة الأطهار للشيخ أبى الحسن عبد الله بن مفتاح 1 ص 281 وما بعدها الطبعة الثانية طبع مطابع حجازى بالقاهرة سنة 1357 هـ.
(3)
المرجع السابق لأبى الحسن عبد الله بن مفتاح جـ 1 ص 282 وما بعدها الطبعة السابقة.
بإمامها فإن صلاة الجماعة حينئذ تنعقد بهما فصاعدا لكن المرأة تقف خلف الرجل سواء كان الرجل محرما لها أم لا وكذا إذا كثر الرجال وقفت خلفهم نعم هذا الذي صححه السادة للمذهب أعنى أن الرجل لا يؤم نساء منفردت مطلقا. وقال الهادى عليه السلام أنه يصح أن يؤم الرجل بمحارمه النوافل وقال المنصور بالله أنه يجوز للرجل أن يؤم بمحارمه ولم يفصل بين أن يكون فرضا أو نفلا. والحال السادس: أن يصلى المقيم بالمسافر في الصلاة الرباعية إلا في الركعتين الآخرتين أما الصلاة التي لا قصر فيها فلا خلاف أن للمقيم أن يؤم المسافر والعكس وأما في الرباعية فلا خلاف أيضا أن للمسافر أن يؤم المقيم ويتم المقيم صلاته بعد فراغ المسافر وأما العكس وهو أن يصلى المسافر خلف المقيم ففيه أقوال: الأول: المذهب ذكره القاسم ويحيى عليهما السلام في الأحكام وهو اختيار أبى طالب أنه لا يصح أن يصلى خلفه في الأوليين. وأما في الأخريين فتصح. قال المنصور بالله وأبو مضر وعلى خليل بالإجماع لأنه لا يخرج قبل الإِمام وعن الحقينى أنه لا يجوز على كلام الأحكام. قال مولانا المهدى عليه السلام وفيه ضعف جدا. القول الثاني: للمؤيد بالله والمنصور بالله أنه يجوز في الأوليين أو في الركعات شاء فإن صلى غير الأخيرتين فله أن يسلم قبل الإِمام وإن شاء انتظر فراغه. القول الثالث: لزيد بن على والناصر أنه يجوز أن يصلى معه في الأوليين ويتم الأربع. قال الناصر لأن الترخيص قد بطل بدخوله مع الإمام فلو فسدت صلى أربعا وقال زيد بل لأن الإمام حاكم فإذا أبطلت صلى قاصرا. الحال السابع: حيث يصلى المتنفل بغيره فإن ذلك لا يصح سواء اتفقت صلاة الإِمام والمؤتم أم اختلفت فلا يصح عندنا غالبا احترازا من صلاة الكسوفين والاستسقاء والعيدين على الخلاف فإنه يصح أن تُصلى جماعة. قال المهدى عليه السلام: إلا السنن الرواتب فإنها لا تصح خلف مفترض ولا متنفل. والحال الثامن حيث يصلى من هو ناقص الطهارة أو ناقص الصلاة بضده أما ناقص الطهارة فكالمتيمم ومن به سلس البول وكذا من يمم بعض أعضاء التيمم وأما ناقص الصلاة فكمن يومئ أو يصلى قاعدا أو نحو ذلك فإنه لا يصح أن يصلى بضده وهو كامل الطهارة والصلاة فأما إذا استوى حال الإمام والمؤتم في ذلك جاز أن يؤم كل واحد منهما صاحبه. قال المهدى عليه السلام وقد أشرنا إلى ذلك حيث قلنا بضده إشارة إلى أن من ليس بضده يجوز له الائتمام به ولو كان لا يجوز ذلك لقلنا بغيره كما قلنا فيما سبق. الحال التاسع: حيث يصلى أحد المختلفين فرضا بصاحبه وذلك نحو أن يكون فرض أحدهما الظهر وفرض الآخر العصر فلا يصح أن يصلى أحدهما فرضه خلف الآخر. قال في الكافى وكذا الفرض خلف من يصلى صلاة العيد أو الاستسقاء أو الجنازة أو الكسوف فلا يجوز بالإجماع ثم ذكر المهدى عليه السلام الحال العاشرة بقوله: أو إذا اختلف الشخصان في كون فرضهما ذلك أداءً من أحدهما وقضاءً من الآخر فإنه لا يصح أن يصلى أحدهما بالآخر ذلك الفرض الذي اختلفا فيه وللمؤيد بالله قولان: قال في الشرح الصحيح منهما أنه لا يجوز. فأما إذا كانا جميعا قاضيين والفرض واحد جاز أن يؤم كل واحد منهما صاحبه. وقال أبو طالب لا يصح. ثم ذكر المهدى عليه السلام
الحال الحادى عشر
(1)
بقوله: أو إذا اختلف الإمام والمؤتم في التحرى فإنه لا يصح أن يؤم أحدهما صاحبه سواء تناول اختلافهما وقتا فقال أحدهما قد دخل الوفت وقال الآخر لم يدخل أو اختلفا في القبلة، فقال أحدهما القبلة هنا وقال الآخر بل هنا، أو اختلفا في الطهارة نحو أن تقع نجاسة في ماء ولم تغيره فيقول أحدهما هو كثير فيتطهر به وقال الآخر بل قليل أو نحو ذلك لا إذا اختلف الشخصان في المذهب في مسائل الاجتهاد نحو أن يرى أحدهما أن التأمين في الصلاة مشروع والآخر يرى أنه مفسد أو أن الرعاف لا ينقض الوضوء والآخر يرى أنه ينقضه أو نحو فلك فإن المذهب وهو قول أبى طالب والمنصور بالله أن الإمام حاكم فيصح أن يصلى كل واحد منهما بصاحبه. وقال المؤيد بالله في الإِفادة وحكاه في حواشيها عن زيد بن على أن صلاة المؤتم لا تصح إن علم أن الإِمام يفعل ذلك. قال على خليل هذا الخلاف إذا علم المؤتم قبل الدخول في الصلاة أن هذا الإمام يفعل ما هو عند المؤتم مفسد فأما لو لم يعلم إلا بعد دخوله في الصلاة فلا حلاف في صحة الجماعة وأن الإِمام حاكم ولا تنعقد صلاة الجماعة في هذه الحالات الإِحدى عشرة. وتكره
(2)
الصلاة خلف من عليه صلاة فائتة، قال المهدى عليه السلام وظاهر قول القاسم ولا يؤم من عليه فائتة أن ذلك لا يصح ولم يفرق بين أول الوقت وآخره وبين أن يكون الفائت خمسا أو أكثر لكن حمله الأخوان
على أن الكراهة ضد الاستحباب كما ذكرنا، ومن لم تكن عليه فائتة وهو مستكمل لشروط صحة الإمامة لكن كره
(3)
الصلاة خلفه الأكثر ممن يحضر الصلاة فإن الصلاة خلفه حينئذ تكره لغير الكاره كالكاره بشرط أن يكون الكارهون صلحاء لأنهم إذا كانوا غير صلحاء لم يؤمن أن تكون كراهتهم لذلك تعديا عليه وحسدا ونحو ذلك. وقال المنصور بالله لا تجوز الصلاة خلفه. قال مولانا المهدى عليه السلام والأول أقرب وإنما اعتبرنا الكثرة. قال أبو مضر هذا إذا كانت الكراهة لأمر يرجع إلى الصلاة كتطويل أو نحو وجود أكمل، لا للشحناء. قال يحيى البحبيح لا فرق بين أن يكون للشحناء أو لغير ذلك. قال مولانا المهدى عليه السلام وهذا أصح من قول أبى مضر لأنهم إذا كانوا صلحاء فالأقرب أنهم لا يشحنون عليه إلا من باطل.
مذهب الإِمامية:
جاء في العروة الوثقى
(4)
: يشترط في الإمام البلوغ لما في خبر إسحاق أن عليا عليه السلام كان يقول: لا بأس أن يؤذن الغلام قبل أن يحتلم ولا يؤم حتى يحتلم فإن أم جازت صلاته وفسدت صلاة من خلفه وعن المبسوط والخلاف ومصباح اليد جواز إمامة المراهق وفى موثقى سماعة تجوز صدقة الغلام وعتقه ويؤم الناس إذا كان له عشر سنين، وفى الروضة البهية
(5)
: أنه
(1)
انظر شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار لكمائم الأزهار في الأئمة الأطهار جـ 1 ص 287 وص 288 وما بعدهما طبع مطبعة حجازى بالقاهرة سنة 1357 هـ الطبعة الثانية.
(2)
المرجع السابق لأبى الحسن عبد الله بن مفتاح جـ 1 ص 289، ص 290 وما بعدهما الطبعة السابقة.
(3)
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة رجل أم قوما وهم له كارهون.
(4)
انظر كتاب العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبانى جـ 1 ص 280، 281 وما بعدها وعليها تعليقات لأشهر مراجع العصر وزعماء الشيعة الإمامية طبع مطابع دار الكتب الإسلامية بطهران للشيخ محمد الأخوندى الطبعة الثانية سنة 1388 هـ.
(5)
انظر كتاب الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية للشهيد السعيد زين الدين الحنبلى العامل جـ 1 ص 116 وما بعدها طبع مطابع دار الكتاب العربى بمصر سنة 1338 هـ.
يشترط بلوغ الإمام إلا أن يؤم مثله أو في نافلة، ويشترط
(1)
في الإمام: أن يكون عاقلا لأنه لا عبادة للمجنون لعدم تأتى القصد منه. وفى صحيح زرارة لا يصلين أحدكم خلف المجنون. وفى مصحح أبى بعير خمسة لا يؤمون الناس على كل حال وعد منهم المجنون والمشهور جواز الائتمام به حال أفاقته. وعن التذكرة والنهاية المنع ويشترط
(2)
في الإمام الإيمان والعدالة. وفى الحدائق لا خلاف بين الاصحاب في اشتراط عدالة
(3)
إمام الجماعة مطلقا ويشترط
(4)
أن لا يكون الإمام ابن زنا. وهذا إجماع حكاه جماعة منهم السيدان والشيخ والفاضلان والشهيد. وفى الروضة البهية: أنه يشترط طهارة المولد للإمام فلا تصح إمامة ولد الزنا وإن كان عدلا، ويشترط
(5)
أن يكون الإمام ذكرا إذا كان المأمومون أو بعضهم رجالا بلا خلاف ظاهر. وحكى الإجماع عليه جماعة. وفى الحديث: "لا تؤم امرأة رجلا" ويصح أن تؤم المرأة مثلها على المشهور لما في خبر زياد بن الحسن الصيقل: سئل أبو عبد الله عليه السلام كيف تصلى النساء على الجنائز إذا لم يكن معهن رجل؟ قال: يقمن جميعا في واحد ولا تتقدمهم امرأة قبل نفى صلاة مكتوبة يوم بعضهم بعضا. قال نعم. وفى موثق سماعة سئل عن المرأة تؤم النساء قال لا بأس به ولا تؤم المرأة خنثى لاحتمال ذكوريته ولا يؤم الخنثى غير المرأة لاحتمال أنوثيته وذكورية المأموم ولا يصح أن يكون
(6)
القاعد إماما للقائمين ولا مضطجعا للقاعدين لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه في مرضه جالسا فلما فرغ قال صلى الله عليه واله وسلم: "لا يؤمن أحدكم بعدى جالسا"، أما إمامة القاعد للقاعدين والمضطجع لمثله والجالس للمضطجع فلا بأس بها. وفى الجواهر يجوز ائتمام كل مساو بمساويه نقصا أو كمالا، ولا بأس
(7)
بإمامة المتيمم للمتوضئين وذى الجبيرة لغيره ومستحصب النجاسة من جهة العذر لغيره بل الظاهر جواز إمامة المسلوس والمبطون لغيرهما فضلا عن إمامتهما لمثلهما وكذا إمامة المستحاضة للطاهرة، ولا يصح إماما لقارئ
(8)
أن يكون من لا يحسن القراءة بعدم إخراج الحرف من مخرجه أو إبداله بآخر أو حذفه أو نحو ذلك حتى اللحن في الإعراب حتى ولو كان ذلك لعجز وكذلك لا تجوز إمامة من لا يحسن القراءة لمثله إذا اختلفا في المحل الذي لم يحسناه أما إذا اتحدا في المحل فلا يبعد الجواز كما نص عليه جمهور الاصحاب من غير نفل خلاف وإن كان الأحوط العدم بل لا يترك الاحتياط مع وجود الإمام المحسن وكذا لا يبعد جواز إمامة غير المحسن لمثله مع
(1)
انظر المرجع السابق.
(2)
انظر العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائى اليزوى جـ 1 ص 210 مسألة رقم 1 الطبعة السابقة ومستمسك العروة الوثقى للطباطبائى الحكيم جـ 7 ص 259 وما بعدها الطبعة السابقة.
(3)
انظر العروة الوثقى جـ 1 ص 280 مسألة رقم 2 الطبعة السابقة.
(4)
انظر كتاب مستمسك العروة الوثقى جـ 7 ص 259 وما بعدها الطبعة السابقة.
(5)
انظر المرجع السابق.
(6)
العروة الوثقى المسألة رقم 6 جـ 1 ص 280.
(7)
العروة الوثقى المسألة رقم 17 ص 280.
(8)
انظر المرجع السابق للطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 279 مسألة رقم 33 طبع الشيخ محمد الاخوندى بطهران سنة 1388 هـ، الطبعة الثانية.
اختلاف المحل أيضا لكن الأحوط العدم بل لا يترك مع وجود المحسن ولا بأس بإمامة من لا يحسن القراءة في غير المحل الذي يتحملها الإمام عن المأموم كالركعتين الأخريين على الأقوى وكذا لا بأس بإمامة من لا يحسن ما عدا القراءة من الأذكار الواجبة والمستحبة التي لا يتحملها الإمام عن المأموم إذا كان ذلك لعدم استطاعته غير ذلك، ويجوز إمامة من لا يتمكن من كمال الإفصاح بالحروف أو كمال التأدية إذا كان متمكنا من القدر الواجب فيها وإن كان المأموم أفصح منه. ولا تجوز إمامة الأخرس لغيره نعم تجوز إمامته لمثله وإن كان الأحوط الترك خصوصا مع وجود غيره بل لا يترك الاحتياط والأحوط عدم جواز إمامة الأجذم والأبرص. وحكى عن إمامتهما الأصحاب لما في صحيحة زرارة قال أمير المؤمنين: لا يصلين أحدكم خلف المجذوم والأبرص. وفى رواية ابن مسلم عن أبى جعفر خمسة لا يؤمون الناس ولا يصلون بهم صلاة فريضة في جماعة منهم الأبرص والمجذوم وعن جماعة كراهة إمامتهم ولعله المشهور بين المتأخرين والأحوط عدم جواز إمامة المحدود بالحد الشرعى بعد التوبة وكذلك عدم جواز إمامة الأعرابى وتجوز إمامة هؤلاء لامثالهم، وتحوز
(1)
إمامة أحد المجتهدين أو المقلدين أو المختلفين للآخر مع اختلافهما وفى المسائل الظنية المتعلقة بالصلاة إذا لم يستعملا محل الخلاف واتحدا في العمل مثلا إذا كان رأى أحدهما اجتهادا أو تقليدا أو وجوب السورة ورأى الآخر عدم وجوبها يجوز ائتمام الأول بالثانى إذا قرأها وإن لم يوجبها وكذا إذا كان أحدهما يرى وجوب تكبير الركوع أو جلسة الاستراحة أو ثلاث مرات في التسبيحات في الركعتين الأخيرتين يجوز له الائتمام بالآخر الذي لا يرى وجوبها لكن يأتى بها بعنوان الندب بل وكذا يجوز مع المخالفة في العمل أيضا فيما عدا ما يتعلق بالقراءة في الركعتين الأوليين التي يتحملها الإمام عن المأموم فيعمل كل على وفق رأيه نعم لا يجوز اقتداء من يعلم وجوب شيء بمن لا يعتقد وجوبه مع فرض كونه تاركا له لأن المأموم حينئذ عالم ببطلان صلاة الإمام فلا يجوز له الاقتداء به بخلاف المسائل الظنية حيث إن معتقد كل منهما حكم شرعى ظاهرى في حقه فليس لواحد منهما الحكم ببطلان صلاة الآخر بل كلاهما في مستوى واحد في كونه حكما شرعيا وأما فيما يتعلق بالقراءة في مورد تحمل الإمام عن المأموم وضمانه له فمشكل إذا كان الاقتداء به حال القراءة لأن الضامن حينئذ لم يخرج عن عهدة الضمان بحسب معتقد المضمون عنه، كما إذا كان معتقد الإمام عدم وجوب السورة والمفروض أنه تركها فيشكل جواز اقتداء من يعتقد وجوبها به وكذا إذا كان قراءة الإمام صحيحة عنده وباطلة بحسب معتقد المأموم من جهة ترك إدغام لازم أو مد لازم أو نحو ذلك نعم يمكن أن يقال بالصحة إذا تداركها المأموم بنفسه كان قرأ السورة في الفرض الأول أو قرأ موضع غلط الإمام صحيحا بل يتحمل أن يقال إن القراءة في عهدة الإمام ويكفى خروجه عنها باعتقاده لكنه مشكل فلا يترك الاحتياط بترك الاقتداء وأما إذا كان الاقتداء حال الركوع فلا إشكال فيه. وإذا
(1)
انظر كتاب العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 278 مسألة رقم 31 طبع مطابع دار الكتب.
علم
(1)
المأموم بطلان صلاة الإمام من جهة من الجهات ككونه على غير وضوء أو تاركا لركن أو نحو ذلك لا يجوز له الائتمام به وإن كان الإمام معتقدا صحتها من جهة الجهل أو السهو أو نحو ذلك، وإذا رأى
(2)
المأموم في ثوب الإمام أو بدنه نجاسة غير معفوة عنها لا يعلم بها الإمام لا يجب عليه إعلامه وحينئذ فإن علم أنه كان سابقا عالما بها ثم نسيها لا يجوز له الائتمام به لأن صلاته حينئذ باطلة واقعا ولذا يجب عليه الإعادة أو القضاء إذا تذكر بعد ذلك وإن علم كونه جاهلا بها يجوز الاقتداء لأنها حينئذ صحيحة ولذا لا يجب عليه الإعادة أو القضاء إذا علم بعد الفراغ بل لا يبعد جوازه إذا لم يعلم المأموم أن الإمام جاهل أو ناسى وإن كان الأحوط الترك في هذه الصورة. هذا، ولو رأى شيئا هو نجس في اعتقاد المأموم بالظن الاجتهادى وليس بنجس عند الإمام أو شك في أنه نجس عند الامام أو غير نجس بأن كان من المسائل الخلافية فالظاهر جواز الاقتداء مطلقا سواء كان الإمام جاهلا أو ناسيا أو عالما وإذا
(3)
تبين بعد الصلاة كون الإمام فاسقا أو كافرا أو غير متطهر أو تاركا لركن مع عدم ترك المأموم له أو ناسيا لنجاسة غير معفوة عنها في بدنه أو ثوبه انكشف بطلان الجماعة لكن صلاة المأموم صحيحة إذا لم يزد ركنا أو نحوه مما يخل بصلاة المنفرد للمتابعة وإذا تبين ذلك في الاثناء نوى الانفراد ووجب عليه القراءة مع بقاء محلها وكذا لو تبين كونه امرأة ونحوها ممن لا يجوز إمامته للرجال خاصة أو مطلقا كالمجنون وغير البالغ إن قلنا بعدم صحة إمامته لكن الأحوط إعادة الصلاة في هذا الفرض بل في الفرض الأول وهو كونه فاسقا أو كافر
…
الخ. وإذا نسي
(4)
الإمام شيئا من واجبات الصلاة ولم يعلم به المأموم صحت صلاته حتى لو كان المنسى ركنا إذا لم يشاركه في نسيان ما تبطل به الصلاة أما إذا علم به المأموم نبهه عليه ليتدارك إن بقى محله وإن لم يمكن أو لم يتنبه أو ترك تنبيهه حيث أنه غير واجب عليه وجب عليه نية الانفراد إن كان المنسى ركنا أو قراءة في مورد تحمل الإمام بقاء محلها بأن كان قبل الركوع وإن لم يكن ركنا ولا قراءة أو كانت قراءة وكان التفات الإمام بعد فوت محل تداركها كما بعد الدخول في الركوع فالأقوى جواز بقائه على الائتمام وإن كان الأحوط الانفراد أو الإعادة بعد الإتمام، وإذا تبين
(5)
للإمام بطلان صلاته من جهة كونه محدثا أو تاركا لشرط أو جزء ركن أو غير ذلك فإن كان بعد الفراغ لا يجب عليه إعلام المأمومين وإن كان في الأثناء فالظاهر وجوبه، ولا يجوز الائتمام بإمام يرى نفسه مجتهدا وليس بمجتهد مع كونه عاملا برأيه وكذا لا يجوز الائتمام بمقلد لمن ليس أهلا للتقليد إذا كانا مقصرين في ذلك بل مطلقا على الأحوط إلا إذا علم صلاته موافقة للواقع من حيث أنه يأتى بكل ما هو محتمل بوجوب من الأجزاء والشرائط ويترك كل ما هو محتمل المانعية لكنه فرض بعيد لكثرة ما يتعلق بالصلاة من المقدمات
(1)
انظر كتاب العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 279 مسألة رقم 34 طبع مطابع دار الكتب الإسلامية بطهران سنة 1388 هـ الطبعة الثانية.
(2)
انظر كتاب العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدى 1 ص 279 الطبعة السابقة.
(3)
المرجع السابق للطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 279 وما بعدها مسألة رقم 36 الطبعة السابقة.
(4)
انظر كتاب العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائى جـ 1 ص 279 وما بعدها مسألة رقم 37 الطبعة السابقة.
(5)
انظر المرجع السابق للطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 280 وما بعدها مسألة رقم 38 الطبعة السابقة.
والشرائط والكيفيات وإن كان آتيا بجميع أفعالها وأجزائها ويشكل حمل فعله على الصحة مع ما علم منه حد بطلان اجتهاده أو تقليده أو إذا دخل الإمام في الصلاة معتقدا دخول الوقت والمأموم معتقد عدمه أو شاك فيه لا يجوز الائتمام في الصلاة. نعم إذا علم بالدخول في أثناء صلاة الإمام جاز له الائتمام به. نعم لو دخل في الإمام نسيانا من غير مراعاة للوقت أو عمل بظن غير معتبر لا يجوز الائتمام به وإن علم المأموم بالدخول في الأثناء لبطلان صلاة الإمام حينئذ واقعا ولا ينفعه دخول الوقت في الأثناء في هذه الصورة لأنه مختص بما إذا كان عالما أو ظانا بالظن المعتبر.
مذهب الإباضية:
جاء في شرح النيل
(1)
: أنه لا يصح أن يكون المتنفل إماما لمفترض وقيل بجواز ذلك لأن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه كان يصلى الفرض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يؤم أهله في ذلك الفرض ولا يصح أن يكون مصلى الفرض إماما لمن يصلى فرضا آخر غير فرض الإمام ظهرا خلف إمام يصلى صبحا كأن يكونا مسافرين أو المأموم مسافرا يقضى الظهر خلف مصل صبحا أو مقيمين يصلى الإمام الصبح والمأموم الظهر إذا سلم الإمام قام المأموم للركعتين الباقيتين أو العكس فإذا صلى الإمام ركعتين بالتحيات انتظره المأموم فيسلم إذا سلم سواء كانا قاضيين أو كان أحدهما قاضيا والآخر مؤديا أو مؤديين كأن يكون أحدهما نام أو نسى ثم انتبه كل ذلك لا يجوز وقيل يجوز، ولا يجوز أن يُصلى ظهرا خلف مصل عصرا أو غيره أو عصر خلف مصل ظهرا ولا مثل ذلك وقيل يجوز ذلك مثل أن يصلى ظهرا أخره مع إمام يصلى عصرا في وقت مع إمام يصلى ظهرا أخره لوقت العصر وقبل إن اتحدت الصلاتان فرضا جاز وإن اختلفتا قضاء وأداء ويوما مثل أن يصلى الإمام ظهر أمس والمأموم ظهر اليوم الذي قبل أمس. واختلف الإباضية في إمامة
(2)
العبد للأحرار أو للعبيد على أقوال أولها المنع وثانيها أن إمامته تجوز في الفرض وغيره مما يصليه من غير إذن سيده والقول الثالث الجواز بإذن سيده مطلقا، واختلف في جواز إمامة القاعد بعجز للأصحاء والمختار جواز إمامته بالأصحاء إن كان إماما عدلا اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلون وراءه قياما على الصحيح وقيل يصلون وراءه قعودا، واختلف كذلك في جواز إمامة من لا يفارقه نجس لعلة ولابس ثوب لا يصلى به ولم يجد سواه أو كان بجسده ما يتعذر نزعه مما لا يصلى به فالأرجح الترخيص في ذلك وقيل لا، ويرخص أيضا في إمامة كل ناقص بمثله ولو اختلفت العلة إلا المضطجع فلا يصلى بمثله ومن النقصان العور وقطع الأصبع. وأجاز البعض صلاة الناقص بغير الناقص وصلاة المتيمم بالمغتسل ولم يجعل في الديوان صلاة العليل بالعليل رخصة بل جعله قولا مختارا، ويجوز أن تكون المرأة إماما لنساء في النفل وتكون وسطهن في الصف الأول ولا تبرز عنهن لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة هلا صليت بهن؟ فقالت: أيصح ذلك؟ قال: نعم يكن عن يمينك وشمالك. وهو محمول على النفل لأنه
(1)
انظر كتاب شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد بن يوسف أطفيش جـ 1 ص 433 وما بعدهما طبع مطابع مطبعة صاحب الامتياز محمد بن يوسف البارونى وشركاه بمصر سنة 1343 هـ. وانظر كتاب الإيضاح تأليف العلامة الشيخ عامر بن على الشماخى جـ 1 ص 540 وما بعدها الطبعة الثانية بطرابلس مطبعة طرابلس سنة 1390 هـ، سنة 1970 م.
(2)
انظر كتاب شرح النيل وشفاء العليل لمحمد بن يوسف أطفيش جـ 1 ص 432، 433 وما بعدها الطبعة السابقة، وانظر كتاب الإيضاح لابن على الشماخى جـ 1 ص 542 وما بعدها الطبعة السابقة.
قال لها ذلك في نفل ووجد في كلام بعض أصحابنا ما يجيز إمامتها للنساء في الفرض ووجهه الحمل على الأصل فإن الأصل استواء النكر والأنثى في الأحكام الشرعية وحمل حديث أم سلمة السابق على العموم اعتبار العموم اللفظ لا لخصوص السبب وقيل لا تصلى إماما ولو نافلة ولا تكون إماما للخنثى ويصح أن يكون الخنثى إماما للمرأة قدامها ولا يصح أن يكون إماما للرجال، ويصح أن يكون إماما للخناثى ويكون قدامهم، ولا ينفرد الخنثى بإمامة النساء إن لم يكن فيهن محرم، ولا يصح
(1)
أن يكون الأقلف إماما وتجوز صلاة الطفل الذي لم يختن بطفل مختون أو غير مختون، وإن صلى
(2)
الإِمام بجماعة وهو جنب أو بلا وضوء أو بثوب نجس أو فى مكان نجس ثم علم بالجنابة أو غيرها بعد الفراغ من الصلاة فسدت في الجنابة عند الأكثر وقيل لا تفسد ولو في الجنابة ويعيدون ولو خرج الوقت وإن غابوا فيرجح القول بأنه يجب على الإمام إعلامهم بكتابة أو غيرها ليعبدوا صلاتهم وقيل لا يجب عليه وقيل لا تفسد عليهم إذا علموا بعد افتراق الصف وقيل يعيدون ما لم يخرج الوقت وهذا بالنسبة للجنابة أما بالنسبة لعدم وضوء الإمام أو صلاته في ثوب نجس أو مكان نجس فقيل تفسد صلاتهم أيضا عند الأكثرين مطلقا سواء تعمد الإمام ذلك أو لم يتعمد وقيل تفسد إن تعمد الإمام ذلك أو إن لم يخرج الوقت أو إن لم تفترق صفوفهم وإن علم بالجنابة أو بعدم الوضوء أو بالصلاة في الثوب النجس أو المكان النجس في أثتاء الصلاة فسدت على الكل على قول من قال إن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام. أما من قال إن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام فإنه يقول إن صلاتهم لا تفسد ولو دخل فيها من أول الأمر، ولا تجوز إمامة الكافر فإن بان شرك الإِمام أعادوا صلاتهم ولو خرج الوقت وقيل لا إعادة عليهم إن خرج الوقت، ولا تجوز
(3)
إمامة من يأخذ الأجرة على صلاته. وفى الديوان ولا يصلى خلفه وإن صلى فلا إعادة. وصحت
(4)
الصلاة خلف مخالف في مذهبه إن لم يدخل فيها مفسدا لها في اعتقاده لما روى أن النبى - صلي الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل رضى الله تعالى عنه: "يا معاذ أطع كل أمير وصل خلف كل إمام" يعنى والله أعلم أطع كل أمير في طاعة الله، وذكر أنه كان على المدينة أمير فاسد فقيل لابن عمر تصلى خلفه؟ قال: الصلاة حسنة لا أبالى من شاركت فيها وحج نجدة الحرورى فوادع ابن الزبير فصلى هذا بالناس يوما وليلة، وصلى هذا بالناس يوما وليلة فصلى ابن عمر خلفهما فاعترضه رجال من القوم فقالوا يا عبد الرحمن تصلى خلف نجدة الحرورى
(1)
انظر كتاب شرح النيل وشفاء العليل لأطفيش جـ 1 ص 440 وما بعدها طبع المطبعة الأدبية بمصر سنة 1343 هـ، وانظر كتاب الإيضاح للشماخى جـ 1 ص 544 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب شرح النيل وشفاه العليل لمحمد بن يوسف أطفيش جـ 1 ص 462 وما بعدها طبع مطابع محمد بن يوسف البارونى وشركاه بمصر سنة 1343 هـ، وانظر كتاب الإيضاح للشيخ عامر بن على الشماخى جـ 1 ص 268 وما بعدها طبع مطابع طرابلس الطبعة الثانية بطرابلس ليبيا سنة 1390 هـ، سنة 1970 م.
(3)
انظر كتاب شرح النيل وشفاء العليل لمحمد بن يوسف أطفيش جـ 1 ص 440 وما بعدها طبع المطبعة الأدبية بمصر سنة 1343 هـ 6 وانظر كتاب الإيضاح للشيخ عامر بن على الشماخى جـ 1 ص 540 وما بعدها الطبعة السابقة.
(4)
انظر كتاب الإيضاح للشيخ عامر بن على الشماخى جـ 1 ص 541، ص 542، ص 543 وما بعدهم الطبعة السابقة.
وتصلى خلف ابن الزبير؟ فقال ابن عمر: إذا نادوا حى على الصلاة حى على خير العمل جئنا وإذا نادوا حى على قتل النفس قلنا: لا، لا ورفع صوته وقد كان بعض الصحابة يصلون خلف مروان بن الحكم وكان ابن عباس وجابر بن زيد وأبو عبيدة مسلم والربيع بن حببب رضى الله تعالى عنهم يصلون معهم الجمعة وغيرها ما صلوها لوقتها يرون ذلك عليهم حقا واجبا وفرضا لازما لما جاء في ذلك من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما المنافق من أهل الدعوة فلا تجوز الصلاة خلفه كما لا تجوز شهادته لأنه متهم أن يصلى بما لا يجوز أو ينقص شيئا من شروطها، وكذلك لا يصلى خلف من ضر وقاتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق والقاعد على فراش حرام وقال بعضهم بجواز الصلاة خلف المنافق إن قدمه غيره والدليل على هذا ما روى من طريق ابن عباس رضى الله تعالى عنه أن "النبى صلى الله عليه وسلم قال: الصلاة جائزة خلف كل بر وفاجر ما لم يدخل فيها ما يفسدها وما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أئمتكم وفدكم إلى ربكم فانظروا ما توفدون إلى ربكم".
الأحق بالإمامة ومن تكره إمامته:
مذهب الحنفية:
جاء في البحر الرائق
(1)
: أن الأعلم أحق بالإمامة أي أولى بها. قال الأكثرون هو الأعلم بالسنة باعتبار أن أحكام الصلاة لم تستند إلا من السنة وأما الصلاة في الكتاب فمجملة وقدم أبو يوسف رحمه الله تعالى الأقرأ، لحديث الصحيحيين يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم إسلاما ولا يؤم الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه وفى الهداية أجاب عن الحديث بأن أقرأهم كان أعلمهم لأنهم كانوا يتلقونه بأحكامه فقدم في الحديث وليس كذلك في زماننا فقدمنا الأعلم ولأن القراءة يفتقر إليها لركن واحد والعلم يفتقر إليه لسائر الأركان وذكر صاحب فتح القدير أن أحسن ما يستدل به للمذهب هو حديث: مروا أبا بكير فليصل بالناس وكان هناك من هو أقرأ منه بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرؤكم أبى. وكان أبو بكر رضى الله تعالى عنه أعلمهم بدليل قول أبى سعيد: كان أبو بكر أعلمنا، وهذا آخر الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى الخلاصة: الأكثر على تقديم الأعلم، فإن كان متبحرا في علم الصلاة لكن لم يكن له حظ في غيره من العلوم فهو أولى، وقيد في المجتبى الأعلم بأن يكون مجتنبا للفواحش الظاهرة وإن لم يكن ورعا، وقيد في السراج الوهاج تقديم الأعلم بخير الإمام الراتب وأما الإمام الراتب فهو أحق من غيره وإن كان غيره أفقه منه. وقيد جماعة تقديم الأعلم - بأن يكون حافظا من القرآن قدر ما تقوم به سنة القراءة وقيد في الكافى بأن يكون حافظا قدر ما تجوز به الصلاة وينبغى أن يكون المختار قولا ثالثا وهو أن ليكون حافظا للقدر المفروض والواجب وإذا لم يوجد الأعلم فالأقرأ وهذا يحتمل شيئين أحدهما أن يكون المراد به أحفظهم للقرآن
(1)
انظر البحر الرائق، شرح كنز الدقائق للإمام العلامة الشيخ زين الدين الشهير بابن نجيم وبهامشه الحواشى المسماة بمنحة الخالق على البحر الرائق للسيد، محمد أمين الشهير بابن عابدين جـ 1 ص 367، ص 367 - ص 368 وما بعدهما طبع مطابع المطبعة العلمية بمصر الطبعة الأولى سنة 1310 هـ.
هو المتبادر والثانى أحسنهم تلاوة للقرآن باعتبار تجويد قراءته وترتيلها ثم يقدم الأورع أي الأكثر اجتنابا للشبهات والفرق بين الورع والتقوى أن الورع اجتناب الشبهات والتقوى اجتناب المحرمات ولم يذكر الورع في الحديث السابق وإنما ذكر فيه بعد القراءة الهجرة لأنها كانت واجبة في ابتداء الإسلام قبل الفتح فلما انتسخت بعده أقمنا بالورع مقامها واستثنى في معراج الدراية من نسخ وجوبها بعده ما إذا أسلم في دار الحرب فإنه تلزمه الهجرة إلى دار الإسلام لكن الذي نشأ في دار الإسلام أولى منه إذا استويا فيما قبلها. ثم يقدم الأسن لحديث مالك بن العويرث رضى الله تعالى عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له ولصاحب له: إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبركما وقد استويا في الهجرة والعلم والقراءة وعلل له في البدائع بأن من امتد عمره في الإسلام كان أكثر طاعة وهو يدل على أن المراد بالأسن الأقدم إسلاما ويشهد له حديث الصحيحين المتقدم من قوله: فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم إسلاما فعلى هذا لا يقدم شيخ أسلم قريبا على شاب نشأ في الإسلام أو أسلم قبله وكلام الكنز ظاهر في تقديم الأورع على الأسن، وهكذا في كثير من الكتب وفى المحيط ما يخالفه فإنه قال:"وإن كان أحدهما أكبر والآخر أورع فالأكبر أولى إذا لم يكن فيه فسق ظاهر وأشار صاحب الكنز إلى أنهما لو استويا في سائر الفضائل إلا أن أحدهما أقدم ورعا قدم وقد صرح به في فتح القدير وقد اقتصر صاحب الكنز على هذه الأوصاف الأربعة: وهى العلم والقراءة والورع والسن وقد ذكروا أوصافا أخرى ففى المحيط: فإن استويا في السن قالوا: يقدم أحسنهما خلقا فإن استويا فأحسنهما وجها أولى وفسر الشمتى الخلق بالإلف بين الناس وفسر في الكافى أحسنهم وجها بأكثرهم صلاة بالليل لحديث: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار" وقدم في الفتح الحسب عنى صباحة الوجه، فإن استووا فأشرفهم نسبا وزاد الإمام الاسبيجابى على ذلك أوصافا ثلاثة أخرى وهى: فإن استووا فأكثره مالا أولى حتى لا يطلع على الناس فإن استووا في ذلك فأكثرهم جاها أولى. وزاد في المعراج أنظفهم ثوبا، واختلف في المسافر مع المقيم فقيل هما سواء وقيل المقيم أولى. وينبغى ترجيحه كما لا يخفى وفى الخلاصة: وإن اجتمعت هذه الخصال في رجلين فإنه يقرع بينهما أو الخيار إلى القوم، ولو قدم القوم غير الأقرأ، مع وجوده فإنهم قد أساءوا لكن لا يأثمون وهذا كله إذا لم يكونوا في بيت شخص أما إذا كانوا في بيت إنسان فإنه يكره أن يؤم ويؤذن لأن صاحب البيت أولى، بالإمامة إلا أن يكون معه سلطان أو قاضى فهو أولى لأن ولايتهما عامة كذا ذكر الاسبيجابى ويشهد له حديث الصحيحين السابق وفى السراج الوهاج ويقدم الوالى على الجميع وعلى إمام المسجد وصاحب البيت، والمسأجر أولى من المالك لأنه أحق بمنافعه وكذا المستعير أولى من المعير، وفى تقديم السمتعير نظر لأن للمعير أن يرجع في أي وقت شاء في العارية بخلاف المؤجر، وفى الخلاصة وغيرها: رجل أم قوما وهم له كارهون إن كانت الكراهية لفساد فيه أو لأنهم أحق بالإمامة يكره له ذلك وإن كان هو أحق بالإمامة لا يكره له ذلك. وفى بعض الكتب والكراهة على القوم وهو ظاهر لأنها ناشئة عن الأخلاق الذميمة وينبغى أن تكون الكراهة تحريمية في حق الإمام في صورة الكراهة لحديث أبى داود عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما مرفوعا: ثلاثة لا يقبل الله منهم
صلاة: من تقدم قوما وهم له كارهون ورجل أتى الصلاة دبارا (والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته) ورجل اعتبد محرره (أي اتخذ من أعتقه عبدا)، وتكره
(1)
إمامة العبد والأعرابى والفاسق والمبتدع والأعمى وولد الزنا وهذا بيان للشيئين الصحة مع الكراهة. أما الصحة فمبنية على وجود الأهلية للصلاة مع أداء الأركان وهما موجودان من غير نقص في الشرائط والأركان ومن السنة حديث "صلوا خلف كل بر وفاجر" وفى صحيح البخازى أن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما كان يصلى خلف الحجاج
(2)
وكفى به فاسقا، وإمامة عتبان بن مالك الأعمى لقومه مشهورة في الصحيحين واستخلاف ابن أم مكتوم الأعمى على المدينة كذلك في صحيح ابن حبان، وأما الكراهة فمبنية على قلة رغبة الناس في الصلاة وراء هؤلاء فيؤدى إلى تقليل الجماعة المطلوب تكثيرها تكثيرا للأجر ولأن العبد لا يتفرغ للتعلم والغالب على الإعراب الجهل والفاسق لايهتم لأمر دينه والأعمى لا يتوقى النجاسة وليس لولد الزنا أب يربيه ويؤدبه ويعلمه فيغلب عليه الجهل، وأطلق الكراهة في هؤلاء وقيد كراهة إمامة الأعمى في المحيط وغيره بأن لا يكون أفضل القوم فإن كان أفضلهم فهو أولى وعلى هذا يحمل تقديم ابن أم مكتوم لأنه لم يبق من الرجال الصالحين للإمامة في المدينة أحد أفضل منه حينئذ ولعل عتبان بن مالك كان أفضل من كان يؤمه أيضا وعلى قياس هذا إذا كان الأعرابى أفضل الحاضرين كان أولى ولهذا قال في منية المصلى أراد بالأعرابى الجاهل وهو ظاهر في كراهة إمامة العامى الذي لا علم عنده وينبغى أن يكون كذلك في العبد وولد الزنا إذا كان أفضل القوم فلا كراهة إذا لم يكونا محتقرين بين الناس لعدم العلة للكراهة، والأعرابى من يسكن البادية عربيا كان أو أعجميا وأما من يسكن المدن فهو عربى وفى المجتبى وهذه الكراهة تنزيهية لقوله في الأصل: إمامة غيرهم أحب إلى وهكذا في معراج الدارية، وفى الفتاوى: لو صلى خلف فاسق أو مبتدع ينال فضل الجماعة لكن لا ينال كما ينال خلف تقى ورع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى خلف عالم تقى فكأنما صلى خلف نبى " قال ابن أمير حاج ولم يجده المخرجون، نعم أخرج الحاكم في مستدركه مرفوعا إن سركم يقبل الله صلاتكم فليؤمكم خلاركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم: والفاسق إذا تعذر منعه يصلى الجمعة خلفه وفى غير الجمعة ينتقل إلى مسجد آخر لأنه في غير الجمعة يجد إماما غيره قال في فتح القدير وعلى هذا يكره الاقتداء به في الجمعة إذا تعددت إمامتها في المصر على قول محمد وهو المفتى به لأنه بسبيل من التحول حينئذ وفى السراج الوهاج: فإن قلت فما الأفضلية أن يصلى خلف هؤلاء أو الإنفراد؟ قيل: أما في حق الفاسق فالصلاة خلفه أولى وأما الآخرون فيمكن أن يكون الإنفراد أولى لجهلهم بشروط الصلاة ويمكن أن يكون على قياس الصلاة خلف الفاسق والأفضل أن يصلى خلف غيرهم فالحاصل أنه يكره لهؤلاء
(1)
انظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم جـ 1 ص 369 وما بعدها طبع المطبعة العلمية بمصر سنة 1310 هـ الطبعة الأولى.
(2)
قال عن الحجاج الحسن البصرى: لو جاءت كل أمة بخبئاثها وجيئا بأبى محمد لغلبناهم.
التقدم ويكره الاقتداء بهم كراهة تنزيهية فإن أمكن الصلاة خلف غيرهم فهو أفضل وإلا فالاقتداء أولى من الانفراد وينبغى أن يكون محل كراهة الاقتداء بهم عند وجود غيرهم وإلا فلا كراهة كما لا يخفى ولو اجتمع معتق وحر أصلى فالحر الأصلى أولى بعد الاستواء في العلم والقراءة كما في الخلاصة وأما المبتدع فهو صاحب البدعة وعرفها الشمنى بأنها ما أحدث على خلاف الحق المتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم أو عمل أو حال بنوع شبهة واستحسان وجعل دينا قويما وأطلق المبتدع فشمل كل مبتدع هو من أهل قبلتنا وقيده في المحيط والخلاصة والمجتبى وغيرها بأن لا تكون بدعته تكفره فإن كانت تكفره فالصلاة خلفه لا تجوز وفى الأصل: الاقتداء بأهل الأهواء جائز إلا الجهمية والقدرية والروافض الغالى ومن يقول بخلق القرآن والخطابية والمشبهة وجملته أن من كان من أهل قبلتنا ولم يغل في هواه حتى يحكم بكفره تجوز الصلاة خلفه وتكره ولا تجوز الصلاة خلف من ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وينكر الكرام الكاتبين أو ينكر الرؤية لأنه كافر، ويكره
(1)
للإمام تطويل الصلاة لحديث: "إذا أم أحدكم الناس فليخفف" واستثنى المحقق في فتح القدير صلاة الكسوف فإن السنة فيها التطويل حتى يتخلى الشمى وأراد بالتطويل ما زاد على القدر المسنون كما في السراج الوهاج لا كما قد يتوهمه بعض الأئمة فيقرأ يسيرا في الفجر كغيرها. وفى شرح القدروى لا يزيد على القراءة المستحبة ولا يثقل على القوم ولكن يخفف بعد أن يكون على التمام والاستحباب. وفى فتح القدير علل كراهة التطويل بنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التطويل وكانت قراءته صلى الله عليه وسلم هي المسنونة فلابد من كون ما نهى عنه غير ما كان دأبه إلا لضرورة كما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالمعوذتين في الفجر فلما فرغ قيل له أوجزت. قال: سمعت بكاء صبى فخشيت أن تفتتن أمه. وفى منية المصلى ويكره للإمام أن يعجلهم عن إكمال السنة والظاهر أنها في تطويل الصلاة كراهة تحريم للأمر بالتخفيف وهو الوجوب إلا لصارف ولإدخال الضرر على الغير وأطلقه فشمل ما إذا كان القوم يحصون أو لا، رضوا بالتطويل أو لا لإطلاق الحديث وأطلق في التطويل فشمل إطالة القراءة أو الركوع أو السجود أو الأدعية واختار الفقيه أبو الليثى أنه يطيل الركوع لإِدراك الجائى إذا لم يعرفه فإن عرفه فلا وأبو حنيفة منع منه مطلقا لأنه شرك أي رياء.
مذهب المالكية:
جاء فى الشرح الكبير
(2)
وحاشية الدسوقى عليه: أنه يندب تقديم سلطان أو نائبه ولو كان غيره أفقه وأفضل منه، وقال اللقانى المراد بالسلطان من له سلطنة سواء كان السلطان الأعظم أو نائبه ويدخل في ذلك القاضي ونحوه كما أفاده أشهب، ثم إن لم يكن سلطان ولا نائبه ندب تقديم رب منزل وحكم إمام المسجد الراتب حكم رب المنزل. والمراد بالمنزل الذي يقدَّمُ ربَّه المنزل المجتمع فيه. قال ويقدم رب المنزل ولو كان غيره أفقه وأفضل منه لأنه أحق بداره
(1)
البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم جـ 1 ص 372 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
انظر الشرح الكبير لسيدى أحمد الدردير وحاشية الدسوقى عليه لسيدى محمد عرفه الدسوقى جـ 1 ص 342، ص 343 وما بعدها طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1219 هـ.
من غيره، ولأنه أدرى بقبلتها وعورتها وما يكون الصلاة فيه وندب تقديم المستأجر أو المستعير فيما يظهر على المالك أي لملكه لمنفعتها وخبرته بطهارة إلمكان والندب لا ينافى القضاء له عند التنازع هذا إذا كان رب المنزل حرا بل وإن كان المالك لذاتها أو منفعتها عبدا ما لم يكن سيده حاضرا وإلا قدم عليه لأنه المالك حقيقة والمرأة في منزلها تستخلف ندبا من يصلح للإمامة والأولى أن تستخلف الأفضل ومثلها في ندب الاستخلاف ذكر مسلم لا يصح للإمامة والعال أنه رب منزل ثم إن لم يكن رب منزل ندب تقديم زائد فقه أي علم بأحكام الصلاة على من دونه فيه ولو زاد عليه في غيره ثم زائد حديث - أي - واسع رواية وحُفظ كأن يكون تلقى الكتب الستة مثلا وحفظها فواسع الراوية هو المتلقى لكثير من كتب الحديث سواء حفظ ما تلقاه أم لا. وواسع الحفظ هو الذي يحفظ كثيرا من الأحاديث وهو أفضل من زائد فقه ولكن قدم عليه لزيادة علمه بأحكام الصلاة ثم زائد قراءة أي أدرى بالقراءة وأمكن من غيره في مخارج الحروف فيقدم الأحسن تجويدا ولو كان غير حافظ له بتمامه على غيره ولو كان حافظا له بتمامه. أو أكثر قرآنا أو أشد اتقانا فيقدم حافظ الثلثين على حافظ النصف ويقدم من لا يغلط فيه على من يغلط فيه ثم زائد عبادة من صوم وصلاة وغيرهما ثم التساوى فالتقديم بسن إسلام أي بتقدمه في الإسلام ويعتبر من حين الولادة أو الإسلام فابن العشرين من أولاد المسلمين يقدم على ابن ستين أسلم من منذ خمس عشرة سنة مثلا ثم بنسب فعند التساوى يقدم القرشى على غيره. فمعلوم النسب على مجهوله ثم بخلق بفتح الخاء أي الأحسن فيه وهى الصورة الحسنة لأن العقل الكامل والخير قد يتبعانها غالبا. وقد قالت الحكماء حسن التركيب وتناسب الأعضاء يدل على اعتدال المزاج وإذا اعتدل المزاج ينشأ عنه كل فعل حسن. قال البنانى نقلا عن عياض قرأت في بعض الكتب عن ابن أبي مليكه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتاه الله وجها حسنا واسما حسنا وخلقا حسنا وجعله في موضع حسن فهو من صفوة الله من خلقه" ثم الأكمل في الخلق بضمتين ومن الناس من عكس الضبط واستظهره في التوضيح ثم بلباس حسن شرعا ولو غير أبيض لا كحرير. قال الدسوقى في الحاشية والأولى عرفا الجديد مطلقا من غير الحرير لأن اللباس الحسن شرعا هو البياض خاصة جديدا أو لا فلا يصح قوله ولو غير أبيض وإنما قدم صاحب اللباس الحسن على من بعده لدلالة حسن اللباس على شرف النفس والبعد عن المستقذرات. ومحل استحقاق تقديم من ذكر تقديم إن خلا من نقص مانع من الإمامة كالعجز عن ركن من مرض أو زمانة أو غير ذلك أو خلا من نقص تكره معه الإمامة من قطع وشلل وأبنة وغيرها.
وندب استنابة الناقص نقص منع أو موجب للكراهة إن كان له استحقاق أصلى في الصلاة وهو السلطان ورب المنزل فقط. وأما غيرهما فليس له حق فيها فالأفقه إن قام به مانع سقط حقه وصار كالعدم والحق لمن بعده وهكذا، ويقدم
(1)
الأورع وهو التارك لبعض المباحات خوف الوقوع في الشبهات على الورع وهو التارك للشبهات خوف الوقوع في المحرمات وقدم العدل على مجهول حال كما يقدم الأعدل على العدل ما لم يكن مقابل العدل أزيد فقها وكذا يقال في
(1)
حاشية الدسوقى على الشرح الكبير جـ 1 ص 344، ص 345 وما بعدهما الطبعة السابقة.
الأورع والحر. وأما الفاسق فلا حق له فيها والحر على العبد يقدم والأب على الابن ولو زاد الابن فقها على أبيه وهذا عند المشاحنة وأما عند التراضى فالابن الأفقه أولى من أبيه بالإمامة ويقدم العم على ابن أخيه ولو كان ابن الأخ زائد فقه أو أكبر سنا من عمه وهذا عند المشاحنة وأما عند التراضيه فالأفقه أو الأكبر سنا أولى بالإمامة. وقال سحنون إن كان ابن الأخ زائد فقه أو أكبر سنا قدم على عمه مطلقا. وإن تنازع في طلب التقديم جماعة متساوون في المرتبة لا لكبر بسكون الباء بل لطلب الثواب اقترعوا وأما لو تشاجروا لكبر سقط حقهم لأنهم حينئذ فساق لا حق لهم فيها بل تبطل به صلاتهم، وتكره
(1)
إمامة أقطع وأشل
(2)
يدا أو رجل ولو لمثلهما وإن حسن حاله بعد القطع سواء كان القطع بسبب جناية أو لا يمينا أو شمالا كان القطع باليد أو بالرجل إذا كان لا يضعان العضو المقطوع بالأرض وإلا فلا كراهة، والمعتمد ما جاء في الجواهر من أن المازرى والباجى رويا أن جمهور أصحابنا على رواية ابن نافع عن مالك أنه لا بأس بإمامة الأقطع والأشل لمثلهما ولغير مثلهما ولو في الجمعة والأعياد وسواء، كانا يضعان العضو على الأرض أم لا كذا تكره إمامة الأعرابى
(3)
لغيره من الحضريين ولو في السفر وإن كان الأعرابى أقرأ من مأمومه أي أكثر قرآنا أو أحكم قراءة، وعلة الكراهة ما عند الأعرابى من الجفاء والغلظة والإمام شافع والشافع ذو لين ورحمة وكره إمامة ذو سلس وقروح سائلة لصحيح وكذا سائر المعفوات فمن تلبس بشئ منها كره له أن يؤم غيره ممن هو سالم هذا هو المشهور وإن كان مبنيا على ضعيف وهو أن الأحداث إذا عفى عنها في حق صاحبها لا يعفى عنها في حق غيره ولا يقال مقتضى هذا المنع لأنه لما كان بين صلاة الإِمام والمأموم ارتباط صحت مع الكراهة والمشهورا أنه إذا عفى عنها في حق صاحبها عفى عنها في حق غيره وعلى هذا القول فلا كراهة في إمامة صاحبها لغيره. وأما صلاة غيره بثوبه فاقتصر في الذخيرة على عدم الجواز قائلا إنما عفى عن النجاسة للمعذور خاصة فلا يجوز لغير المعذور أن يصلى به وذكر البرزنى في شرح ابن الحاجب في ذلك فولين، وكره إمامة من كرهه أقل القوم غير ذوى الفضل منهم لتلبسه بالأمور المزرية الموجبة للزهد فيه والكراهة له أو لتساهله في ترك السنن كالوتر والعيدين وترك النوافل وأما إذا كرهه كل القوم أو جلهم أو ذو الفضل منهم وإن قلوا فيحرم هذا هو التحقيق لما روى من لعنه في قول النبي عليه الصلاة والسلام:"لعن الله من أم قوما وهم له كارهون" ولقول عمر رضى الله تعالى عنه لأن تضرب عنقى أحب إليّ من ذلك.
مذهب الشافعية:
جاء في مغنى المحتاج
(4)
: أن العدل أولى
(1)
المرجع السابق لشمس الدين الشيخ محمد عرفة الدسوقى والشرح الكبير عليه جـ 1 ص 329، ص 330 الطبعة للسابقة.
(2)
الشلل ييبس اليد وذلك بحيث لا يضعان العضو على الأرض أي المقطوع أو الأشل بالأرض فإن وضعاه عليها فلا كراهة.
(3)
قال أبو الحسن بن عياض الأعرابى بفتح الهمزة وهو البدوى سواء كان عربيا أو أعجميا أي سكن البادية سواء كان يتكلم بالعربية أو بالعجمية.
(4)
انظر مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للشيخ محمد الشربينى الخطيب جـ 1 ص 241، ص 242 وما بعدهما طبع مطابع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1306 هـ الطبعة الأولى.
بالإمامة من الفاسق وإن اختص الفاسق بصفات مرجحة ككونه أفقه أو أقرأ لأنه لا يوثق به بل تكره الصلاة خلفه وإنما صحت لما رواه الشيخان أن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما كان يصلى خلف الحجاج. قال الإمام الشافعي رضى الله عنه: وكفى به فاسقا، والمبتدع الذي لا يكفر ببدعته كالفاسق بل أولى لأن اعتقاد المبتدع لا يفارقه بخلاف الفاسق والأفقه في باب الصلاة الأقرأ أي الأكثر قرآنا أولى من غيره بزيادة الفقه والقراءة والأصح أن الأفقه في باب الصلاة وإن لم يحفظ قرآنا غير الفاتحة أولى من الأقرأ وإن حفظ جميع القرآن لأن الحاجة إلى الفقه أهم لكون الواجب من القرآن في الصلاة محصورا والحوادث فيها لا تنحصر ولتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة على غيره مع وجود من هو أحفظ منه للقرآن لأنه لم يجمع القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أربعة من الأنصار أبى بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد رضى الله تعالى عنهم كما رواه البخارى. ومقابل الأصح هما سواء لتقابل الفضيلتين وقيل: أن الأقرأ أولى. والأصح أن الأفقه أولى من الأورع أي الأكثر ورعا والورع فسره في التحقيق والمجموع بأنه اجتناب الشبهات خوفا من الله تعالى وفى أصل الروضة بأنه زيادة على العدالة من حسن السيرة والعفة ويدل للأول ما رواه الطبراني في معجمه الكبير عن وائلة بن الأسقع أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الورع قال الذي يقف عند الشبهات ومقابل الأصح يقدم الأورع على الأفقه إذ مقصود الصلاة الخشوع ورجاء إجابة الدعاء والأورع أقرب قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
(1)
. وفى الحديث "ملاك الدين الورع". وأما ما يخاف من حدوثه في الصلاة فأمر نادر فلا يفوت المحقق للمتوهم وأما الزهد فهو تارك ما زاد على الحاجة هو أعلى من الورع إذ هو في الحلال والورع في الشبهة. قال في المهمات ولم يذكروه في المرجحات واعتباره ظاهر حتى إذا اشتركا في الورع وامتاز أحدهما بالزهد قدمناه. وإذا اجتمع الأقرأ والأورع فيقدم الأقرأ كما قاله في الروضة عن الجمهور ويقدم الأفقه والأقرأ على الأسن النسيب فعلى أحدهما من باب أولى لأن الفقه والقراءة مختصان بالصلاة لأن القراءة من شروطها والفقه لمعرفة أحكامها وباقى الصفات لا يختص بالصلاة ويقدم الأورع عليهما أيضًا لأنه أكرم عند الله، ولو كان الأفقه أو الأقرأ أو الأورع صبيا أو مسافرا قاصرا أو فاسقا أو ولد زنا أو مجهول الأب فعنده أولى، نعم إن كان المسافر السلطان أو نائبه فهو أحق وأطلق جماعة أن إمامة ولد الزنا ومن لا يعرف أبوه مكروهة وصورته أن يكون ذلك في ابتداء الصلاة ولم يساوه المأموم فإن ساواه أو وجده قد أحرم واقتدى به فلا بأس وفى الجديد تقديم الأسن على النسيب لخبر الصحيحين عن مالك بن الحويرث رضى الله تعالى عنه "وليؤمكم أكبركم" ولأن فضيلة الأسن في ذاته والنسيب في آبائه وفضيلة الذات أولى والعبرة بالأسن في الإسلام لا بكبر السن فيقدم شاب أسلم أمس على شيخ أسلم اليوم فإن أسلما معا فالشيخ مقدم لعموم خبر مالك قال البغوي ويقدم من أسلم بنفسه على
(1)
الآية رقم 13 من سورة الحجرات.
من أسلم تبعا لأحد أبويه وإن تأخر إسلامه لأنه اكتسب الفضل بنفسه. قال ابن الرفعة: وهو ظاهر إذا كان إسلامه فبل بلوغ من أسلم تبعا أما بعده فيظهر تقديم التابع ولو قبل بتساويهما حينئذ لم يبعد والمراد بالنسيب من ينتسب إلى قريش ثم العربى ثم العجمى ويقدم ابن العالم والصالح على ابن غيره. أما بالنسبة للهجرة وهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى دار الإسلام بعده من دار الحرب فالذى في التحقيق واختاره في المجموع وهو المعتمد تقديم المتصف بها على الأسن والنسيب لخبر مسلم عن أبى مسعود البدرى رضى الله تعالى عنهما "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا وفى رواية مسلم ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه وإذا استوى الشخصان فيما تقدم فيكون التقديم بنظافة الثوب والبدن من الأوساخ وحسن الصوت وطيب الصنعة ونحوها من الفضائل كحسن وجه وسمت وفكر بين الناس لأنها تفضى إلى استمالة القلوب وكثرة الجمع، والذي في الروضة عن المتولى وجزم به الرافعى في الشرح الصغير أي وهو المعتمد أنه يقدم بالنظافة ثم بحسن الصوت ثم بحسن الصورة وفى التحقيق فإن استويا قدم بحسن الذكر ثم بنظافة الثوب والبدن وطيب الصنعة وحسن الصوت ثم الوجه وفى المجموع تقديم أحسنهم ذكرا ثم صوتا ثم هيئة فإن استويا وتشاحا أقرع بينهما والمراد بطيب الصنعة الكسب الفاضل وهذا كله إذا كانوا في موات أو مسجد ليس له إمام راتب أو له وأسقط حقه وجعله لأولى الحاضرين أي وإلا فهو والمقدم ومستحق المنفعة بملك للعين ونحوه أي الملك كأجرة ووقف ووصية وإعارة وأذن من سيد لعبد أولى بالإمامة من الأفقه وغيره من جميع الصفات إذا كان أهلا للإمامة ورضى بإقامة الصلاة في ملكه فإن لم يكن أهلا لإمامة الحاضرين كامرأة أو خنثى لرجال فله التقديم استحبابا لم يكن أهلا، ويقوم السيد لا غيره على عبده الساكن في ملكه بإذنه أو في غير ملكه كما قال الأسنوى أنه المتجه وإن أذن له في التجارة أو ملكه المسكن لرجوع فائدة سكنى العبد إليه وقد يفهم أن المبعض يقدم على سيده فيما ملكه ببعضه الخبر وهو كذلك كما قال الأذرعى أنه الظاهر. والأصح تقديم المكترى على المكرى المالك لأنه مالك للمنفعة ومقابل الأصح يقدم المكرى لأنه مالك للرقبة وملك الوقبة أولى من ملك المنفعة ومقتضى التعليل كما قال الأسنوى جريان الخلاف في الموصى له بالمنفعة مع مالك الرقبة وأن المستأجر إذا أجر لغيره لا يقدم بلا خلاف ويقدم المعير المالك للمنفعة ولو بدون الرقبة على المستعير لأن للمعير حق والرجوع فيها في كل وقت والثانى يقدم المستعير للسكن له في الحال واختاره السبكى لحديث أبى داود ولا يؤمن الرجل في بيته والمراد ببيته مسكنه إذ لو حمل على الملك لزم تقديم المؤجر على المستأجر والأصح خلافه ولو حضر الشريكان أو أحدهما والمستعير من الآخر فلا يتقدم غيرهما إلا بإذنهما ولا أحدهما إلا بإذن الآخر والحاضر منهما أحق من غيره حيث يجوز انتفاعه بجميع المشترك والمستعير أن من الشريكين كالشريكين فإن حضر الأربعة كفى أذن الشريكين والوالى في محل ولايته أولى تقديما أو تقدما من الأفقه والمالك وغيرهما ممن تقدم وإن اختص بفضيلة إذا رضى المالك بإقامة الصلاة في ملكه كما عبر به الإمام وغيره ونقله
في المجموع عن الأصحاب وهو أولى ممن عبر بإقامة الجماعة وذلك لخبر "لا يؤمن الرجل في سلطانه" ولعموم سلطنته مع أن تقدم غيره بحضرته بغير أذنه لا يليق ببذل الطاعة وتقدم أن ابن عمر رضى الله تعالى عنه كان يصلى خلف الحجاج ويراعى في الولاة تفاوت الدرجة فالإمام الأعظم أولى ثم الأعلى فالأعلى من الولاة والحكام. قال الشيخان ويقدم الوالى على إمام المحسجد وهو أحق من غيره وإن اختص غيره بفضيلة لخبر "لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه" وإذا تبطأ استحب أن يبعث له ليحضر أو يأذن في الإِمامة فإن خيف فوات أول الوقت وأمنت الفتنة بتقديم غيره ندب لغيره أن يؤم بالقوم ليحوزوا فضيلة أول الوقت فإن خيفت الفتنة صلوا فرادى وندب لهم إعادتها معه تحصيلا لفضيلة الجماعة ومحل ذلك في مسجد غير مطروق وإلا فلا بأس أن يصلوا أول الوقت جماعة ومحل تقديم الوالى على الإمام الراتب في غير من ولاه السلطان أو نوابه وإلا فهو أولى من والى البلد وقاضيه، وجاء في المهذب
(1)
: أنه إن اجتمع بصير وأعمى فالمنصوص في الإمامة أنهما سواء لأن في الأعمى فضيلة وهو أنه لا يرى ما يلهيه وفى البصير فضيلة وهو أنه يتجنب النجاسة. قال أبو إسحاق المروزى: الأعمى أولى. وقال صاحب المهذب: أن البصير أولى لأنه يتجنب النجاسة التي تفسد الصلاة والأعمى يترك النظر إلى ما يلهيه وذلك لا يفسد الصلاة، وجاء في مغنى المحتاج
(2)
: أنه يكره أن تقام جماعة في مسجد بغير إذن إمامه الراتب قبله أو بعده أو معه خوف الفتنة إلا إن كان المسجد مطروقا فلا يكره إقامتها فيه وكذا لو لم يكن مطروقا وليس له إمام راتب أو له راتب وأذن في إقامتها أولم يأذن وضاق المسجد عن الجميع ومحل الكراهة إذا لم يخف فوات أول الوقت، ويكره تنزيها أن يؤم الرجل قوما أكثرهم له كارهون لأمر مذموم شرعا كوال ظالم أو متغلب على إمامة الصلاة ولا يستحقها أو لا يحترز من النجاسة أو بتعاطى معيشة مذمومه أو يعاشر الفسقة أو نحوهم وإن نصبه لها الإمام الأعظم لخبر ابن ماجه بإسناد حسن "ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرا، رجل أم قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليا ساخط، وأخوان متصادمان. والأكثر في حكم الكل ولا يكره اقتداؤهم به كما ذكره في المجموع. أما إذا كرهه دون الأكثر أو الأكثر لا لأمر مذموم فلا يكره له الإِمامة فإن قيل إذا كانت الكراهة لأمر مذموم شرعا فلا فرق بين كراهة الأكثر وغيرهم أجيب بأن صورة المسألة أن يختلفوا في أنه بصفة الكراهة أم لا فيعتبر قول الأكثر لأنه من باب الرواية. قال في المجموع ويكره أن يولى الإِمام
(1)
انظر من كتاب المهذب للإمام أبى إسحاق إبراهيم بن على بن يوسف الفيروزابادى الشيرازى مع النظم المستعذب في شرح غريب المهذب لابن بطال الركبى جـ 1 ص 97، ص 98 وما بعدهما طبع مطابع مطبعة دار الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى - وشركاه بمصر سنة 1319 هـ.
(2)
انظر كتاب مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للشيخ محمد الشربينى الخطيب جـ 1 ص 243 وما بعدها طبع مطابع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1306 هـ الطبعة الأولى وانظر كتاب حاشية البحرى على منهج الطلاب للشيخ سليمان البحرى في كتاب على هامشه مع الشرح نفائس ولطائف الشيخ محمد المرصفى في شرح العلامة جـ 1 ص 321 وما بعدها طبع مطابع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها مصطفى البابى الحلبى وأولاده بمصر سنة 1345 هـ وأنظر من كتاب حاشيتى قليوبى وعميرة على شرح منهاج الطالبين جـ 1 ص 234 وما بعدها طبع مطبعة محمد على صبيح وأولاده بمصر.
الأعظم على قوم رجلا يكرهه أكثرهم نص عليه الشافعي وصرح به صاحب الشامل والتتمة ولا يكره إن كرهه دون الأكثر بخلاف الإمامة العظمى فإنها تكره إذا كرهها البعض ولا يكره أن يؤم من فيهم أبوه وأخوه الأكبر لأن الزبير كان يصلى خلف ابنه عبد الله وأنس كان يصلى خلف ابنه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن سلمة أن يصلى بقومه وفيهم أبوه وإن اجتمع مسافر ومقيم. فالمقيم أولى لأنه إذا تقدم المقيم أتموا كلهم فلا يختلفون وإذا تقدم المسافر اختلفوا في الصلاة وإن اجتمع حر وعبد فالحر أولى لأنه موضع كمال والحر أكمل وإن اجتمع عدل وفاسق فالعدل أولى لأنه أفضل وإن اجتمع ولد الزنا مع غيره فغيره أولى لأنه كرهه عمر بن عبد العزيز ومجاهد رضى الله تعالى عنهما فكان غيره أولى منه.
ثم قال
(1)
: وإذا خرج الإمام من صلاته بحدث أو غيره انقطعت القدوة به لزوال الرابطة وحينئذ فيسجد لسهو نفسه ويقتدى بغيره وغيره به فإن لم يخرج أي الإمام وقطعها المأموم بنية المفارقة بغير عذر جاز مع الكراهة لمفارقته للجماعة المطلوبة وجوبا أو ندبا مؤكدا بخلاف ما إذا فارقه لعذر فلا كراهة لعذره وصحت صلاته في الحالين.
وجاء في المهذب
(2)
: أنه يكره أن يصلى الرجل بامرأة أجنبية لما روى أن النبى - صلي الله عليه وسلم - قال: "لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان" ويكره أن يصلي خلف التمتام والفأفاء لما يزيدان في الحروف فإن صلى خلفهما صحت صلاته لأنها زيادة هو مغلوب عليها.
مذهب الحنابلة:
جاء في كشاف القناع
(3)
: أن الأولى بالإمامة الأجود قراءة الأفقه لحديث أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كان ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم" رواه مسلم. وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنه مرفوعا" ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم أقرؤكم" رواه أبو داود، ثم الأجود قراءة الفقيه ثم الأقرأ جودة وإن لم يكن فقيها لما تقدم وأما تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر حيث قال:"مروا أبا بكر فليصل بالناس" مع أن غيره في ذلك الزمن كان أقرأ منه وأحفظ كأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت رضى الله تعالى عنهم. فأجاب أحمد رحمه الله تعالى: بأنه إنما قدمه على من هو أقرأ لتفهم الصحابة من تقديمه في الإمامة الصغرى استحقاقه للإمامة الكبرى وتقديمه فيها على غيره. وقال الطبراني لما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بعد قوله يؤم القوم أقرؤهم صح أن أبا بكر أقرؤهم وأعلمهم لأنهم لم يكونوا يتعلمون شيئا من القرآن حتى يتعلموا معانيه وما يراد به كما كما قال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه كان الرجل منا إذا علم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن وإنما قدم الأجود قراءة على الأكثر
(1)
انظر مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للشربينى الخطيب جـ 1 ص 257 وما بعدها طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1306 هـ الطبعة الأولى.
(2)
انظر من كتاب المهذب لأبى إسحاق الشيرازى جـ 1 ص 99 وما بعدها طبع مطابع عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1319 هـ.
(3)
انظر كشاف القناع عن متن الإقناع للعلامة الشيخ منصور بن إدريس الحنبلى وبهامشه شرح لمنتهى الإرادات للشيخ منصور بن يونس البهوتى جـ 1 ص 304، ص 305 وما بعدهما طبع مطابع المطبعة العامرة الشرفية سنة 1319 هـ الطبعة الأولى، ومنتهى الإرادات لابن منصور البهوتى جـ 1 ص 288، ص 289 الطبعة السابقة.
قرآنا لأن المجود لقراءته أعظم أجرا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة" رواه الترمذى وقال حسن صحيح. وقال أبو بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه ثم إن استويا في الجودة أو عدمها فالأولى بالإِمامة الأكثر قرآنا الأفقه ثم الأكثر قرآنا الفقيه ثم إن استويا في القراءة القارئ الأفقه ثم القارئ الفقيه ثم القارئ العارف فقه صلاته ثم الأفقه الأعلم بأحكام الصلاة وإن كان أميا إذا كانوا كلهم كذلك لحديث أبى مسعود البدرى رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه" رواه مسلم ومن شرط تقديم الأقرأ أن يكون عالما فقه صلاته وما يحتاجه فيها لأنه إذا لم يكن كذلك لا يؤمن أن يخل بشئ مما يعتبر فيها حافظا للفاتحة لأن الأمى لا تصح إمامته إلا بمثله ولو كان أحد الفقيهين المستويين في القراءة أفقه أو أعلم بأحكام الصلاة قدم لأن علمه يؤثر في تكميل الصلاه ويقدم قارئ لا يعلم فقه صلاته على فقيه أمى لا يحسن الفاتحة لأنها ركن في الصلاة بخلاف معرفة أحكامها ثم إن استويا في القراءة والفقه يقدم الأسن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم" متفق عليه. ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء ثم إن إستووا فيما تقدم فالأولى الأشرف وهو من كان قرشيا إلحاقا للإمامة الصغرى بالكبرى لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" وقوله: "قدموا قريش ولا تقدموها" والشرف يكون بعلو النسب فتقدم منهم بنو هاشم لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على من سواهم كبنى عبد شمس ونوفل ثم الأقدم هجرة بسبقه إلى دار الإسلام مسلما وعلم منه بقاء حكم الهجرة. وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا هجرة بعد الفتح" فالمعنى لا هجرة من مكة بعد أن صارت دار اسلام ومثله السبق بالإسلام فيقدم السابق به على غيره إذا استويا في عدم الهجرة كما لو أسلما بدار إسلام لأن في بعض ألفاظ حديث أبى مسعود "فإن كانوا في الهجرة فأقدمهم سلما" أي إسلاما ولأنه قربة وطاعة كالهجرة ثم الأتقى والأروع لقول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
(1)
فيقدم على الأعمر للمسجد لأن معقود الصلاة هو الخضوع ورجاء إجابة الدعاء والأفقى والأورع أقرب إلى ذلك. قال القشيرى في رسالته الورع اجتناب الشبهات. زاد القاضي عياض في المشارق خوفا من الله تعالى. ثم إن استووا في ذلك يقلم من يختاره الجيران المصلون أو كان أعمر للمسجد. والمذهب كما في المقنع والمنتهى وغيرهما يقرع ثم بينهم لأن سعدا أقرع بين الناس يوم القادسية في الأذان والإمامة أولى ولأنهم تساووا في الاستحقاق وتعذر الجمع فأقرع بينهم كسائر الحقوق فإن تقدم المفضول على الفاضل بلا أذنه صحت إمامته وكره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال" ذكره الإمام أحمد في رسالته. وإذا أذن الأفضل للمفضول لم يكره أن يتقدم نصا لأن الحق في التقدم له وقد أسقطه ولا بأس أن يؤم
(1)
الآية رقم 13 من سورة الحجرات.
الرجل أباه بلا كراهة إذا كان بإذنه أو فيه مزية يقدم بها عليه كما قدم الصديق على أبيه أبى قحافة وصاحب البيت وإمام المسجد ولو عبدا لأن العبد إذا كان إمام مسجد أو صاحب بيت لا تكره إمامته بالأحرار جزم به غير واحد لأن ابن مسعود وحذيفة وأبا ذر صلوا خلف أبى سعيد مولى أبى أسيد وهو عبد رواه صالح في مسائله إذا كان إمام المسجد أو صاحب البيت ممن تصح إمامته فهو حق بالإمامة وإن كان غيرهما أفضل منهما قال في المبدع بغير خلاف نعلمه لما روى أن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أتى أرضا له عندها مسجد يصلى فيه مولى له فصلى ابن عمر رضى الله تعالى عنه معهم فسألوه أن يؤمهم فأبى وقال صاحب المسجد أحق ولأن في تقديم غيره افتياتا وكسرا لقلبه فيحرم تقديم غيرهما عليهما (أي صاحب البيت وإمام المسجد) بدون إذن لأنه افتيات عليهما ولهما تقديم غيرهما ولا يكره لهما أن يقدما غيرهما لأن الحق لهما بل يستحب تقديمهما لغيرهما إن كان أفضل منهما مراعاة لحق الفضل ويقدم على صاحب البيت وإمام المسجد ذو سلطان وهو الإمام الأعظم ثم نوابه كالقاضى وكل ذى سلطان أولى من جميع نوابه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عتبان بن مالك وأنسا في بيوتهما ولأن له ولاية عامة. وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه" وسيد في بيت عبده أولى الإمامة منه لولايته على صاحب البيت وحر أولى من عبد ومن مبعض لأنه أكمل في أحكامه وأشرف ويصلح إماما في الجمعة والعيد. ومكاتب ومبعض أولى من عبد لحصول بعض الأكملية والأشرفية فيهما وحاضر أي مقيم أولى من مسافر لأنه ربما قصر فيفوت المأمومين بعض الصلاة في جماعة يصير أولى من أعمى لأنه أقدر على اجتناب النجاسات واستقبال القبلة باجتهاده وحضرى
(1)
أولى من بدوى لأن الغالب على أهل البادية الجفاء وقلة المعرفة بحدود الله وأحكام الصلاة لبعدهم عمن يتعلمون منه قال الله تبارك وتعالى في حق الأعراب: {وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}
(2)
ومتوضئ أولى من متيمم لأن الوضوء رافع للحدث بخلاف التيمم فإنه مبيح، ومعير في البيت المعار أولى من مستعير لأنه مالك العين والمنفعة والمستعير إنما يملك الانتفاع ومستأجرا أولى من ضدهم كما تقدم فيكون أولى من المؤجر لأنه مالك المنفعة وقادر على منع المؤجر من دخوله.
مذهب الظاهرية:
جاء في المحلى
(3)
: أن الأفضل أن يؤم الجماعة في الصلاة أقرؤهم للقرآن وإن كان أنقص فضلا فإن استووا في القراءة فأفقههم فإن استووا في الفقه والقراءة فأقدمهم صلاحا فإن حضر السلطان الواجبة طاعته أو أميره على الصلاة فهو أحق بالصلاة على كل حال فإن كانوا في منزل إنسان، فصاحب المنزل أحق بالإمامة على كل حال إلا من السلطان وإن استووا في كل
(1)
الحضرى هو الناشئ في المدن والقرى.
(2)
الآية رقم 97 من سورة التوبة.
(3)
انظر كتاب المحلى لأبى محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسى جـ 4 ص 207 إلى 211 مسألة رقم 478 طبع مطابع مطبعة إدارة الطباعة المنيرية بمصر سنة 1348 هـ الطبعة الأولى.
ما ذكرنا فأسنهم فإن أم أحد بخلاف ما ذكرنا أجزأ ذلك إلا من تقدم بغير أمر السلطان على السلطان أو بغير أمر صاحب المنزل على صاحب المنزل فلا تجزئهم. وفى حديث مالك بن الحويرث رضى الله تعالى عنه إذا خرجتما فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكم أكبركما وكان في القراءة والفقه والهجرة سواء وقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لرجلين أتياه يريدان السفر وعن أبى سعد الخدرى رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة أقرؤهم. وفى رواية أبى مسعود البدرى: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما (أي إسلاما) ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.
وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجوة الباقية أبدا فيما روى عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" ولما قدم المهاجرون الأولون العُصْبة (موضع بقباء) قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبى حذيفة وكان أكثرهم قرآنا فهذا فعل الصحابة رضى الله تعالى عنهم بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مخالف لهم من الصحابة في ذلك وما روى من إن ابن عمر قدم صهيبا فأساسه أن صهيبا صار أميرا مستخلفا من قبل الإمام فهو أحق الناس يومئذ لأنه سلطان. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو سلمة إذا "كانوا ثلاثة في سفر فليؤمهم أقرؤهم وإن كان أصغرهم سنا فإذا أمهم فهو أميرهم، رواه البخارى. قال أبو سلمة: فذاك أمير أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما أجزنا إمامة من أم بخلاف ذلك لما روى عن أبى وائل عن مسروق عن عائشة أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها أن أبا بكر الصديق صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الضف. وعن أنس رضى الله تعالى عنه قال: آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع القوم صلى في ثوب واحد متوشحا به خلف أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه. وفى حديث المغيرة بن شعبة قال: أقبلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى لهم فأدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحدى الركعتين فصلى عليه الصلاة والسلام مع الناس الركعة الآخرة فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتم صلاته فأفزع ذلك المسلمين فأكثروا التسبيح فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاته أقبل عليهم فقال: أحسنتم أو قد أصبتم يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها. رواه مسلم. وبهذين الخبرين يتبين أن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم فإن استووا فأفقههم فإن استووا فأقدمهم هجرة فإن استووا فأقدمهم سنا" ندب لا فرض لأنه عليه الصلاة والسلام أقرأ من أبى بكر وعبد الرحمن بن عوف وأفقه منهما وأقدم هجرة إلى الله تعالى منهما وأسن منهما، وبهذين الأثرين جازت الصلاة خلف كل مسلم وإن كان في غاية النقصان لأنه لا مسلم إلا ونسبته في الفضل والدين إلى أفضل المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقرب من نسبة أبى بكر وعبد الرحمن بن عوف وهما من أفضل المسلمين رضى الله
تعالى عنهما في الفضل والدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج هذا بدليله ولم يوجد في التقدم على السلطان وعلى صاحب المنزل أثر يخرجهما عن الوجوب إلى الندب فبقى على الوجوب بل وجد ما يؤيد الوجوب. فقد روى عن عبد الله بن زمعة قال: لما استعز برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أي اشتد به المرض) وأنا عنده في نفر من المسلمين دعاه بلال إلى الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "مروا أبا بكر يصلى بالناس" فخرج عبد الله بن زمعة فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائبا فقال قم يا عمر فصل بالناس فتقدم وكبر فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوته وكان عمر رجلا مجهرا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون يأبى الله ذلك والمسلمون فبعث إلى أبى بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس. رواه أحمد في المسند وأبى داود. والأعمى
(1)
والبصير والخصى والفحل والعبد والحر وولد الزنا والقرشى سواء في الإمامة في الصلاة كلهم جائز أن يكون إماما راتبا ولا تفاضل بينهم إلا بالقراءة والفقه وقدم الخير والسن فقط، وتجوز إمامة الفاسق كذلك مع الكراهة إلا أن يكون هو الأقرأ والأفقه فهو أولى حينئذ من الأفضل إذا كان أنقص منه في القراءة أو الفقه ولا أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وله ذنوب. وقد قال الله عز وجل:{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}
(2)
وقال سبحانه وتعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}
(3)
فنص الله سبحانه وتعالى على أن من لا يعرف له أب إخواننا في الدين وأخبر أن في العبيد والإِماء صالحين. وقد روى عن شعبة عن الحكم بن عتيبة قال: كان يؤمنا في مسجدنا هذا عبد فكان شريح يصلى فيه.
مذهب الزيدية:
جاء في شرح الأزهار
(4)
: أن الأولى من الجماعة المستويين في كمال القدر الواجب من شروط صحة الإمامة في كل واحد منهم إذا اجتمعوا هو الراتب
(5)
فإنه أقدم من الأفقه وغيره وكذا صاحب البيت أولى من غيره والمستأجر والمستعير أولى من المؤجر والمعير وغيرهما فإن وجد الإمام الأعظم فقال الإِمام يحيى هو أولى من الراتب وعن الإمام محمد بن المطهر: الراتب أولى ثم الأفقه في أحكام الصلاة ثم إذا استووا في الفقه قدم الأورع ثم إذا استووا في الفقه والووع قدم الأقرأ (الأكثر حفظا للقرآن الأعرف بمخارج الحروف وصفاتها ونحو ذلك) ثم إذا استووا في الثلاثة قدم الأكبر سنا على الأشرف نسبا واختار الإِمام يحيى تقديم
(1)
المرجع السابق لابن حزم الظاهرى جـ 4 ص 211 وما بعدها مسالة رقم 488 طبع أداره الطباعة المنيرية بمصر سنة 1348 هـ الطبعة الأولى.
(2)
الآية رقم 5 من سورة الأحزاب.
(3)
الآية رقم 32 من سورة النور.
(4)
انظر كتاب شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار لأبى الحسن عبد الله بن مفتاح وهامشه جـ 1 ص 290، ص 291 وما بعدهما طبع مطابع مطبعة حجازى بالقاهرة سنة 1357 هـ الطبعة الثانية بمصر.
(5)
والمراد بالإمام الراتب من اعتاد الإمامة في مسجد أو موضع مخصوص واستمر على ذلك حتى صار يوصف في العرف بأنه إمام راتب وهذا حيث حضر أو استخلص في الوقت المعتاد وإلا فالأقرب بطلان ولايته.
الأشرف نسبا على الأسن ثم إذا استووا فقها وورعا وقراءة وسنا واختلفوا في الشرف قدم الأشرف نسبا فلا يتقدم العبد على السيد والعجمى على العربى والعربى على القرشى والقرشى على الهاشمى والهاشمى على الفاطمى إلا برضاء الأول. قال المهدى علمه السلام: ومفهوم كلام الأصحاب أنه إذا تقدم غير الأول كره ذلك وصحت الصلاة. وقال على بن يحيى إذا تقدم من دون رضاء الأول احتمل أن لا تصح الصلاة كما ذكر صاحب الكافى في صلاة الجنازة. قال مولانا المهدى عليه السلام والأول أصح للتشديد في الجنائز لا هنا وتحقيقه أن الحق هناك واجب لصاحبه وهنا من باب الأولوية ويكفى في معرفة دين الشخص الذي يؤتم به ظاهر العدالة بمعنى أن يظهر عن حاله ولا يحتاج إلى اختبار كالشاهد والإمام. قال المهدى عليه السلام ولا نعرف في هذا خلافا. قال المؤيد بالله ولو ظهرت عدالته من قريب نحو أن يكون فاسقا فيظهر التوبة فإنه يصح الائتمام به من حينه.
مذهب الإمامية:
جاء في الروضة لبهية
(1)
: أنه يقدم الأقرأ من الأئمة وهو الأجود أداء وإتقانا للقراءة ومعرفة أحكامها ومحاسنها وإن كان أقل حفظا فإن تساووا فالأحفظ فإن تساووا فيها فالأفقه في أحكام الصلاة فإن تساووا فيها فالأفقه في غيرها فإن تساووا في الفقه والقراءة فالأقدم هجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، هذا هو الأصل وفى زماننا قيل هو السبق إلى طلب العلم وقيل إلى سكنى الأمصار مجازا عن الهجرة الحقيقية لأنها مظنة الاتصاف بالأخلاق الفاضلة والكمالات النفسية بخلاف القرى والبادية، وقد قيل إن الجفاء والقسوة في الفدادين بالتشديد (أو حذف المضاف) وقيل يقدم أولا من تقدمت هجرته على غيره فإن تساووا في ذلك فالأسن مطلقا أو في الإسلام كما قيده في غيره فإن تساووا فيه فالأصبح وجها لدلالته على مزيد عناية الله تعالى أو فكرا بين الناس لأنه يستدل على الصالحين بما يجرى الله لهم على ألسنة عباده وزاد بعضهم في المرجحات بعد ذلك الأتقى والأورع، ثم القرعة وفى الدروس جعل القرعة بعد الأصبح وبعض هذه المرجحات ضعيف المستند لكنه مشهورا والإمام الراتب في مسجد مخصوص أولى من الجميع لو اجتمعوا وكذا صاحب المنزل أولى منهم وصاحب الإمارة في أمارته أولى من جميع من ذكر أيضا وأولوية هذه الثلاثة سياسة أدبية لا فضيلة ذاتمة ولو أذنوا لغيرهم انتفت الكراهة ولا يتوقف أولوية الراتب على حضوره بل ينتظر لو تأخر ويراجع إلى أن يضيق وقت الفضيلة فيسقط اعتباره ولا فرق في صاحب المنزل بين المالك للعين والمنفعة وغيره كالمستعير ولو اجتمع مالك الأصل والمنفعة فالثانى أولى ويكره إمامة الأبرص والأجذم والأعمى لغيرهم مما لا يتصف بصفتهم للنهى عنه المحمول على الكراهة جمعا.
وجاء في العروة الوثقى
(2)
: أنه يكره إمامة
(1)
انظر كتاب الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية للشهيد السعيد زين الدين الجبعى العاملى جـ 1 ص 120 وما بعدها طبع مطابع مطبعة دار الكتاب العربى بمصر سنة 1376 هـ.
(2)
انظر كتاب العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدى وعليها تعليقات لأشهر مراجع العصر وزعماء الشيعة الإمامية جـ 1 ص 282 وما بعدها مسألة رقم 1 طبع مطبعة دار الكتب الإسلامية لصاحبها الشيخ محمد الأخوندى بطهران الطبعة الثانية سنة 1388 هـ بطهران.
الأجذم والأبرص والأغلف المعذور في ترك الختان والمحدود بحد شرعى بعد توبته ومن يكره المأمومون إمامته والمتيمم للمتطهر والحائك والحجام والدباغ إلا لأمثالهم بل الأولى عدم إمامة كل ناقص للكامل وكل كامل للأكمل، والإمام
(1)
الراتب في المسجد أولى بالإمامة من غيره وإن كان غيره أفضل منه لكن الأولى تقديم الأفضل وكذا الهاشمى أولى من غيره المساوى له في الصفات.
وإذ اتشاح
(2)
الأئمة رغبة في ثواب الإمامة لا لغرض دنيوى رجع من قدمه المأمومون جميعهم تقديما ناشئا عن ترجيح شرعى لا لأغراض دنيوية، وإن اختلفوا فأراد كل منهم تقديم شخص فالأولى ترجيح الفقيه الجامع للشرائط إذا انضم إليه شدة التقوى والورع فإن لم يكن أو تعدد فالأولى تقديم الأجود قراءة ثم الأفقه في أحكام الصلاة أو مع التساوى فيها فالأفقه في سائر الأحكام غير ما للصلاة الأسن في الإسلام ثم من كان أرجع في سافر الجهات الشرعية والظاهر أن الحال كذلك إذا كان هناك أئمة متعددون فالأولى للمأموم اختيار الأرجح بالترتيب المذكور لكن إذا تعدد المرجع في بعض كان أولى ممن له ترجيح من جهة واحدة والمرجحات الشرعية مضافا إلى ما ذكر كثيرة لابد من ملاحظاتها في تحصيل الأولى وربما يوجب ذلك خلاف الترتيب المذكوف مع أنه يحتمل اختصاص الترتيب المذكور بصورة التشاح بين الأئمة أو بين المأمومين لا مطلقا، فالأولى للمأموم مع تعدد الجماعة ملاحظة جميع الجهات في تلك الجماعة من حيث الإمام ومن حيث أهل الجماعة من حيث تقواهم وفضلهم وكثرتهم وغير ذلك ثم اختيار الأرجع فالأرجح، والترجيحات
(3)
المذكورة إنما هي من باب الأفضلية والاستحباب لا على وجه اللزوم والإيجاب حتى في أولوية الإمام الراتب الذي هو صاحب المسجد فلا يحرم مزاحمة الغير له وإن كان مفضولا من سائر الجهات أيضا إذا كان المسجد وقفا لا ملكا له ولا لمن يأذن لغيره في الإِمامة.
مذهب الإباضية:
جاء في شرح النيل
(4)
أنه يندب وقيل فرض كون الإِمام أقرأ القوم للقرآن العظيم - وبيان كونه أقرأ أن يكون عنده من القرآن أكثر مما عند غيره وهو مجود له وغيره لا يجوده أو هو أكثر تجويدا له من غيره ووجه آخر أن يكون لكل منهما مقدار ما للآخر لكن أحدهما يجوده والآخر لا يجوده أو أحدهما أكثر تجويدا من الآخر، ووجه آخر أن يكون لأحدهما أكثر مما للآخر لكنه دونه في التجويد ثم أعلمهم بالسنة ثم أورعهم ثم أكبرهم سنا ثم أقدمهم إسلاما فإن استووا اختاروا فالمقيم والمتزوج ولو فارق زوجته إلا أنها في عدة الرجعة والبصير والمتوشح وهو لابس الوشاح والمراد هنا ما يشمل الجبة والقميص والمغتسل أولى من المسافر والذي لم يتزوج والأعمى. وهل تجوز
(1)
المرجع السابق للسيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدي جـ 1 ص 281 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
المرجع السابق جـ 1 ص 281 وما بعدها مسألة رقم 18.
(3)
العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 281 وما بعدها مسألة رقم 19 طبع مطبعة دار الكتب الإسلامية بطهران سنة 1388 هـ الطبعة الثانية.
(4)
انظر كتاب شرح النيل وشفاء العليل جـ 1 ص 436، ص 437 وما بعدهما طبع مطابع مطبعة محمد بن يوسف البارونى وشركاه بمصر سنة 1343 هـ.
إمامة الصبى أو تمنع ورجح المنع أو تجوز في النفل والسنة أو تجوز مطلقا إن لم يوجد محسن للقراءة سواه واختاره بعض أصحابنا أقوال ومنع بعضهم إمامة الأعمى ويقدم ذو الوجه الحسن وذو اللباس الحسن على غيره والصحيح جواز إمامة الأعرابى والقروى أولى منه وابن الأب أولى من ابن الأم وقيل لا تجوز إمامة ابن الأم ويحوز ابن الملاعنة وفى الخصى قولان يجوز إمامة المجبوب مع كراهة ولا يجوز المنتسب لغير عشيرته وآخذ الأجرة على صلاته وقيل بكراهته ومنع أبو عبد الله إمامة الأعشى ليلا بمن ليس مثله وجازت إمامة ناقص عضو إن صحت له الصلاة قائما وكرهها بعض من مقطوع اليد كراهة فقط وأجاز أبو الموثر مكسورا لا يعتمد على قدميه ومن بجبهته جرح لا يسجد عليها أو في ركبته أو وركه ضرر لا يستقيم معه.
مذهب الحنفية:
يقدم
(1)
في الصلاة على الميت السلطان إن حضر ثم نائبه وهو أمير المصر ثم القاضي ثم صاحب الشرط ثم خليفته ثم خليفة القاضي ثم إمام الحى قل ابن عابدين وهو إمام المسجد الخاص بالمحلة وإنما كان أولى لأن الميت رضى بالصلاة خلفه في حال حياته فينبغى أن يصلى عليه بعد وفاته. قال في شرح المنية فعلى هذا لو علم أنه كان غير راض به حال حياته ينبغى أن لا يستحب تقديمه. قال ابن عابدين وهذا إن كان عدم رضاه به لوجه صحيح وإلا فلا، وتقديم الولاة واجب لأن في التقديم عليهم إزدراء بهم وتعظيم أولى الأمر واجب. أما تقديم إمام الحى فمندوب فقط بشرط أن يكون أفضل من الولى وإلا فالولى أولى كما في المجتبى وشرح المجمع وفى الدراية إمام المسجد الجامع (وهو إمام الجمعة) أولى من إمام مسجد المحلة. أما إمام مصلى الجنازة الذي شرطه الواقف وجعل له معلوما من وقفه فهل يقدم على الولى كإمام الحى أم لا يقدم عليه؟ استظهر ابن عابدين نقلا عن البحر أنه إن كان مقررا من جهة القاضي فهو كنائبه وإن كان من جهة الناظر فهو كالأجنبى وخالف ذلك صاحب النهر واستظهر المقدسى أنه كالأجنبى مطلقا لأنه إنما يجعل للغرباء ومن لا ولى له وأيد ذلك ابن عابدين لأن الأصل أن الحق للولى وإنما قدم عليه الولاة وإمام الحى للتعليل السابق وهو غير موجود هنا وتقرير القاضي له لاستحقاق الوظيفة لا لجعله نائبا عنهم وإلا لزم أن يكون كل من قرره القاضي في وظيفة إمامة أن يكون نائبا عنه مقدما على إمام الحى ثم بعد ذلك يقدم ولى الميت الذكر البالغ العاقل فلا ولاية لامرأة وصبى ومعتوه. وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى: الأصل أن الحق في الصلاة للولى فيقدم على الوالى والإِمام وهو رواية عن أبى حنيفة لأن هذا حكم يتعلق بالولاية كالانكاح إلا أن الاستحسان وهو ظاهر الرواية تقديم السلطان ونحوه لما روى أن الحسن قدم سعيد بن العاص لما مات الحسن وقال لولا السنة ما قدمتك وكان سعيد واليا بالمدينة وتقديم الولى يكون بترتيب عصوبة الانكاح فلا ولاية للنساء ولا للزوج إلا أن الزوج أحق من الأجنبى والأبعد من الأولياء أحق من الأقرب الغائب بمكان تفوته الصلاة إذا حضر
(1)
انظر الدر المختار شرح تنوير الأبصار مع حاشية العلامة الشيخ محمد أمين الشهير بابن عابدين المسماة رد المحتار على الدر المختار جـ 1 من ص 823 إلى ص 826 طبع مطابع المطبعة العثمانية دار سعادات سنة 1324 هـ.
واستظهر ابن عابدين أن ذوى الأرحام داخلون فى الولاية والتقييد بالعصوبة لإخراج النساء فقط فهم أولى من الأجنبى وهو ظاهر ويؤيده ما في الهداية قال في الدر المختار ما يفيد أنه يستثنى من ترتيب عصوبة النكاح الأب فإنه يقدم على ابنه اتفاقا. قال ابن عابدين نقلا عن البحر أن هذا هو الأصح لأن للأب فضيلة عليه وزيادة سن والفضيلة والزيادة تعتبر ترجيحا في استحقاق الإِمامة كما في سائر الصلوات وقيل هذا قول محمد وعندهما الابن أولى قال في الفتح وإنما قدمنا الأسن بالسنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث القسامة ليتكلم أكبر كما وهذا يفيد أن الحق للابن عندهما إلا أن السنة أن يقدم أباه ولا يبعد أن يقال إن تقديمه على نفسه واجب بالسنة وفى البدائع وللابن في حكم ولايته أن يقدم غيره لأن الولاية له وإنها منع عن التقدم لئلا يستخف بأبيه فلم تسقط ولايته بالتقديم. قال في الدر إن كان الابن عالما والأب جاهلا فالابن أولى ثم إن لم يكن ولى فالزوج ثم الجيران. قال ابن عابدين وهو صريح في تقديم الزوج على الأجنبى ولو جارا، والولى يشمل مولى العتاقة وابنه ومولى المولاة فإنهم أولى من الزوج لإنقطاع الزوجية بالموت أو مولى العبد أولى من ابنه الحر لبقاء ملكه وكذا من أبيه وغيره قال الزيلعى والعبد أولى من قريب عبده على الصحيح والقريب أولى من السيد المعتق والفتوى على بطلان الوصية بغسل الميت والصلاة عليه. فلو أوصى بأن يصلى عليه غير من له حق التقدم فلا يلزم تنفيذ وصيته ولا يبطل حق الولى بذلك. قال في الدر وللولى ومثله كل من يقدم عليه الإذن لغيره في الصلاة على الميت لأنه حقه فيملك إبطاله لتقديم غيره إلا أنه إن كان هناك من يساويه فلذلك المساوى ولو أصغر سنا المنع فلو كانا شقيقين فالأسن أولى لكنه لو قدم أحدا فللأصغر منعه لمشاركته في الحق ولو قدم كل منهما واحدا فمن قدمه الأسن أولى أما بالبعيد من الأولياء فليس له المنع فلو كان الأصغر شقيقا والأكبر لأب فقدم الأصغر أحدا فليس للأكبر المنع وفى البحر إن كان الشقيق غائبا وكتب إلى إنسان ليتقدم فللأخ لأب منعه والمريض في المصر كالصحيح يقدم من شاء وليس للأبعد منعه وفى الحلية أن للسلطان أن يأذن بالصلاة لأجنبى بلا إذن الولى بناء على أن الحق ثابت للسلطان ابتداء واستثنى إمام الحى فليس له الإذن لأن تقديمه على الولى مستحب وإن صلى من ليس له حق التقدم على الولى ولم يتابعه الولى أعاد الولى الصلاة ولو على قبره إن شاء لأجل حقه لا لإسقاط الفرض أما إن صلى السلطان أو إمام الحى لم يعد الولى الصلاة واختلف فيما إذا صلى الولى قبل السلطان فهل للسلطان حق الإِعادة.
قال في النهاية: والعناية للسلطان حق الإِعادة لأن الولى إذا كان له حق الإعادة إذا صلى غيره مع أنه أدنى فالسلطان والقاضى بالأولى. وفى السراج والمستصفى لا حق له في الإِعادة ووفق صاحب البحر بين القولين بحمل الأول على ما إذا تقدم الولى مع وجود السلطان ونحوه وحمل الثاني على ما إذا لم يوجد واستظهر ابن عابدين ما في السراج المستصفى وهو عدم الإِعادة لأن الحق للأولياء وتقديم السلطان ونحوه لعارض وأن دعوى الأولوية غير مسلمة ونظيره الابن فإن الحق له ابتداء ولكنه يقدم أباه لحرمة الأبوة، وإن صلى من له حق التقدم كقاض أو نائبه أو إمام الحى أو صلى من ليس له حق التقدم وتابعه الولى فلا يعيد لأن متابعته إذن بالصلاة.
مذهب المالكية:
الأحق بإمامة الصلاة على الميت وصى أوصاه بالصلاة عليه لرجاء خيره، أما لو أوصاه لإغاظة ولى الميت لعداوة بينهما لم تنفذ وصيته بذلك لعدم جوازها ثم إن لم يكن وصى فالأولى الخليفة لا نائبه في الحكم أن يوليه حكما مع الخطبة للجمعة ثم أقرب العصبة فيقدم ابن الميت ثم ابنه ثم الأب ثم الأخ ثم ابن الأخ ثم الجد ثم العم ثم ابنه وإن تعدد العاصب قدم أفضل ولى بزيادة فقه أو حديث أو غيرهما من المرجحات المتقدمة في باب الإِمامة، فإن تساووا في ذلك وتشاحوا في الصلاة أقرع بينهم فإن أراد الأحق أن يقدم أجنبيا من الناس أو بعيدا من الأولياء على من هو أقرب منه فله ذلك لأنه حقه وله أن يجعله لمن يشاء وهذا قول ابن حبيب وأصبغ وابن الماجشون، وفى الحطاب
(1)
: إن كان الابن عبدا ففى السليمانية لا يتقدم إلا أن يكون الذين معه عبيدا. قال ابن محرز: ينبغى أن يكون أحق بالصلاة على أبيه الميت من الأحرار، وفى التاج والأكليل
(2)
: أنه إذا وجدت جنازتان جنازة رجل وجنازة امرأة فروى ابن القاسم عن مالك أنه لا ينظر في ذلك إلى أولياء المرأة ولا أولياء الرجل ولكن ينظر إلى أهل الفضل والحسن منهم فيقدم وقال ابن الماجشون أولياء الرجل أحق من أولياء المرأة وقد قدم الحسين عبد الله بن عمر للصلاة على جنازة أخته أم كلثوم وابنها زيد ابن عمر. قال ابن رشد: هذا لا حجة فيه إذ يحتمل أنه قدمه لسنة ولا قراره بفضله لا لأنه أحق وإن مات رجل في نساء لا رجال معهن. قال ابن القاسم نقلا عن المدونة: يصلين عليه أفذاذا ولا تؤمهن إحداهن. قال ابن لبابة: يصلين أفذاذا مرة واحدة وإلا كان إعادة للصلاة ورده القابس برواية واحدة بعد واحدة، وفي الخرشى
(3)
: وقيل تؤمن واحدة منهن كما نقله اللخمى عن أشهب لأنه محل ضرورة أو مراعاة لمن يرى جواز إمامة المرأة النساء وصحح ابن الحاجب القول بصحة ترتب صلاة النساء واحدة بعد أخرى ورد تصحيح ابن الحاجب بأن ذلك في معنى التكرار للصلاة وهو خلاف المذهب وأيضا فإنه يؤدى إلى تأخير دفن الميت والسنة بالتعجليل.
مذهب الشافعية:
جاء في مغني المحتاج
(4)
: قال الإمام الشافعي في الجديد الولى أي القريب الذكر أحق بإمامة الصلاة على الميت من الوالى وإن أوصى الميت لغير الولى لأنها حقه فلا تنفذ وصيته بإسقاطها كالإرث وما ورد من أن أبا بكر وصى أن يصلى عليه عمر فصلى وأن عمر وصى أن يصلى عليه صهيب فصلى ووقع لجماعة من الصحابة ذلك فمحمول على أن أولياءهم أجازوا
(1)
انظر كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب جـ 2 ص 252 وما بعدها طبع مطبعة السعادة بمصر سنة 1328 هـ الطبعة الأولى.
(2)
انظر كتاب التاج والأكليل للمواق على مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب جـ 2 ص 252 وما بعدها الطبعة السابقة.
(3)
انظر كتاب شرح المحقق سيدى أبى عبد الله محمد الخرشى على المختصر الجليل للإمام أبى الضياء سيدى خليل جـ 2 ص 143 وما بعدها مع حاشية العلامة الشيخ على العدوى الطبعة الثانية طبع المطبعة الكبرى الاميرية بمصر سنة 1317 هـ.
(4)
انظر كتاب المهذب للإمام أبى إسحاق إبراهيم بن على بن يوسف الفيروزبادى الشيرازى مع النظم المستعذب في شرح غريب المهذب لابن بطال الركبى جـ 1 ص 132 وما بعدها طبع مطابع مطبعة دار الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر.
الوصية وفى القديم أن الوالى أولى ثم إمام المسجد ثم الولى كسائر الصلوات والفرق على الجديد أن المقصود من الصلاة على الجنازة هو الدعاء للميت ودعاء القريب أقرب إلى الإجابة لتألمه وانكسار قلبه ومحل الخلاف كما قاله صاحب المعين إذا لم يخف الفتنة من الوالى وإلا قدم قطعا، ولو غاب الولى الأقرب قدم الولى الأبعد سواء كانت غيبته قريبة أم بعيدة، قاله البغوي. ويقدم من الأولياء الأب أو نائبه كما قاله ابن المقرى ثم الجد أب الأب وإن علا لأن الأصول أكثر شفقة من الفروع ثم الابن ثم ابنه وإن سفل. وخالف ذلك ترتيب الإرث لأن الغرض الدعاء للميت فقدم الأشفق لأن دعاءه أقرب إلى الإجابة، ثم الأخ، والأظهر تقديم الأخ لأبوين لأن الأول أشفق لزيادة قربه ومقابل الأظهر أنهما سواء لأن الأمومة لا مدخل لها في إمامة الرجال فلا يرجح بها. وأجاب صاحب القول الأول بأن الأمومة صالحة للترجيح وإن لم يكن لها دخل في إمامة الرجال إذ لها دخل في الصلاة في الجملة. ويجرى الخلاف في ابنى عم أحدهما أخ لأم ونحو ذلك ثم يقدم ابن الأخ لأبوين ثم لأب ثم بقية العصبة النسبية على ترتيب الإرث فيقدم عم شقيق ثم لأب ثم ابن عم شقيق ثم لأب ثم بعد عصبة النسب تقدم عصبة الولاء فيقدم المعتق بكسر التاء ثم عصبته فتقدم عصباته النسبية ثم معتقه ثم عصبانه النسبية. وهكذا ثم السلطان أو نائبه عند انتظام بيت المال، وبعد العصبة يقدم ذوو الأرحام الأقرب فالأقرب فيقدم أب الأم ثم الأخ للأم ثم الخال ثم العم للأم والقياس أن لا يقدم القاتل كما في الكفاية عن الأصحاب، ولا مدخل للزوج في الصلاة على المرأة لكن محل ذلك إذا وجد مع الزوج غير الأجانب أو لم يشارك الأقارب في القرابة وإلا فالزوج مقدم على الأجانب قال الأذرعى وفى تقديم السيد على أقارب الرقيق الأحرار نظر أساسه أن الرق هل ينقطع بالموت أم لا. ولو اجتمع وليان للميت في درجة واحدة كابنين أو أخوين وكل منهما صالح للإمامة فيقدم الأسن في الإسلام العدل على الأفقه ونحوه نص على ذلك في المختصر بخلاف باقى الصلوات. وفى قول مخرج أن الأفقه والأقرأ مقدمان على الأسن كغيرها من الصلوات والفرق أن الغرض من صلاة الجنازة الدعاء ودعاء الأسن أقرب إلى الإِجابة وأما سائر الصلوات فمحتاجة إلى الفقه لكثرة وقوع الحوادث فيها أما غير العدل من فاسق ومبتدع فلا مدخل له في الإِمامة، ولو استوى اثنان في السن المعتبر قدم أحقهما بالإمامة في سائر الصلوات. ولو كان أحد المستويين زوجا قدم، فإن استويا في الصفات كلها وتنازعا أقرع بينهما كما في المجموع، ولو صلى غير من خرجت قرعته صح ولا استناب أفضل المتساويين في الدرجة اعتبر رضا الآخر في أقيس الوجهين بخلاف الأقرب إذا كان أهلا فله الاستنابة ولا اعتراض للأبعد قاله في المجموع، ويقدم الحى البعيد كعم حر على العبد القريب كأخ رقيق ولو أفقه وأسن لأن الإِمامة ولاية والحر أكمل فهو بها أليق. وقيل العبد أولى لقربه، وقيل هما سواء لتعارض المعنيين ويقدم الرقيق القريب على الحر الأجنبى ويقدم الرقيق البالغ على الحر الصبى لأنه مكلف فهو أحرص على تكميل الصلاة، ولأن الصلاة خلفه مجمع على جوازها بخلافها خلف الصبى كما في المجموع، وتجوز على الجنائز صلاة واحدة برضى أوليائها ويقرع بين الأولياء لأن الغرض منها الدعاء والجمع فيه ممكن سواء أكانت ذكورا أم إناثا أم ذكورا وإناثا لأن أم كلثوم
بنت على بن أبى طالب ماتت هي وولدها زيد بن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنهما فصلى عليهما دفعة واحدة. وجعل الغلام مما يلى الإمام وفى القوم جماعة من كبار الصحابة رضى الله تعالى عنهم أجمعين فقالوا: هذا هو السنة.
مذهب الحنابلة:
جاء في كشاف القناع
(1)
: أن الأولى بالصلاة على الميت إماما وصيه العدل لإجماع الصحابة رضى الله تعالى عنهم فإنهم ما زالو يوصون بذلك ويقدمون الوصى. فقد أوصى أبو بكر رضى الله تعالى عنه أن يصلى عليه عمر وأوصى عمر أن يصلى عليه صهيب وأوصت أم سلمة أن يصلى عليها سعيد بن زيد وأوصى أبو بكرة أن يصلى عليه أبو برزة. حكى ذلك كله أحمد وزاد أن عائشة رضى الله تعالى عنها أوصت أن يصلى علمها أبو هريرة وأن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أوصى أن يصلى عليه الزبير ولأنها ولاية تستفاد بالنسب فصح الإِيصاء بها كالمال وتفرقته فإن كان الوصى فاسقا لم تصح الوصية إليه ثم بعد الوصى السلطان لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه" الحديث. رواه مسلم وغيره ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من بعده كانوا يصلون على الموتى ولم ينقل عن أحد منهم أنه استأذن العصبة وعن أبى حازم قال شهدت حسينا حين مات الحسن وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص أمير المدينة وهو يقول لولا السنة ما قدمتك وهذا يقتضى أنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنها صلاة يسن لها الاجتماع فإذا أحضرها السلطان كان أولى بالتقديم كالجمع والأعياد ثم نائبه الأمير أي أمير بلد الميت إن حضر ثم الحاكم وهو القاضي لكن السيد أولى برفيقه بالصلاة عليه إماما من السلطان ونوابه لأنه مالكه ثم بعد السلطان ونوابه الأولى بالصلاة على الحر أقرب العصبة يعنى الأب ثم الجد وإن علا ثم الابن ثم ابنه وإن نزل ثم الأخ لأبوين ثم لأب وهكذا كالميراث ثم ذوو أرحامه الأقرب فالأقرب كالغسل ثم الزوج ثم الأجانب ومع التساوى كابنين أو أخوين أو عمين يقدم الأولى بالإِمامة فإن استووا في الصفات بحيث لا أولوية لأحدهم على الآخر في الإِمامة أقرع كالأذن ويقدم الحر البعيد كالعم على العبد القريب كالأخ العبد لأنه غير وارث ويقدم العبد المكلف على الصبى الحر لأنه لا تصح إمامته للبالغين وعلى المرأة لأنه لا تصح إمامتها للرجال وهذا التقديم واجب، فإن اجتمع أولياء موتى قدم منهم الأولى بالإِمامة كغيرها من الصلوات ثم إن تساووا في ذلك فقرعة لعدم المرجح، ولولى كل ميت أن ينفرد بصلاته على ميته إن أمن فسادا لعدم المحظور ومن قدمه ولى فهو بمنزلته إن كان أهلا للإِمامة كولاية النكاح. قال أبو المعالى: فإن غاب الأقرب بمكان تفوت الصلاة بحضوره تحولت للأبعد أي فله منع من قدم بوكالة ورسالة لأنه إذا أقام الولى شخصا مكانه ثم غاب الغيبة المذكورة سقط حقه وتحولت الولاية للأبعد فسقط حق الوكيل تبعا لأصله، فإن صلى أجنبى بغير إذن الولى أو صلى البعيد بغير إذن القريب صح لأن مقصود الصلاة الدعاء للميت وقد حصل وليس فيها كبير افتيات تشح بها الأنفس عادة بخلاف ولاية النكاح فإن صلى الولى
(1)
انظر كتاب كشاف القناع على متن الإقناع لأبى منصور بن إدريس الحنبلى وبهامشه منتهى الإرادات للعالم الإمام الشيخ منصور بن يونس الدسوقى جـ 1 ص 393 وما بعدها طبع مطابع المطبعة العامرة الشرفية بمصر سنة 1319 هـ الطبعة الأولى، وانظر كتاب الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل لأبى النجا شرف الدين موسى الحجاوى المقدسى جـ 1 ص 423 وما بعدها طبع مطابع المطبعة المصرية بالأزهر لصاحبها مصطفى محمد سنة 1351 هـ.
خلفه صار إذنا لدلالته على رضاه بذلك كما لو قدمه للصلاة وإلا أي وإن لم يصل الولى وراءه فله أن يعيد الصلاة لأنها حقه ويسن لمن صلى أن يعيد تبعا له ولو مات بأرض فلاة فقال في الفصول يقدم أقرب أهل القافلة إلى الخير والأشفق وإذا سقط فرضها بصلاة مكلف فأكثر سقط التقديم الذي هو من أحكامها لأنه تابع لغرضها فسقط بسقوطه وليس للوصى أن يقدم غيره لتفويته على الموصى ما أمله في الوصى من الخير والديانة فإن لم يصل الوصى انتقل الحق لمن يليه.
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم الظاهرى فى المحلى
(1)
: أحق الناس بالصلاة على الميت والميتة الأولياء وهم الأب وآباؤه والابن وأبناؤه ثم الأخوة الأشقاء ثم الذين لا للأب ثم بنوهم ثم الأعمام للأب والأم ثم للأب ثم بنوهم ثم كل ذوى رحم محرمة إلا أن يوصى الميت أن يصلى عليه إنسان فهو أولى ثم الزوج ثم الأمير أو القاضى فإن صلى غير من ذكرنا أجزأ برهان ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
(2)
وهذا عموم لا يجوز تخصيصه وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن الرجل في أهله يدخل فيه ذو الرحم والزوج فإذا اجتمعا فهما سواء" في الحديث فلا يجوز تقديم أحدهما على الآخر وذو الرحم أولى بالآية ثم الزوج أولى من غيره بالحديث. فقد روى عن قتادة عن سعيد بن المسيب رضى الله تعالى عنهما أنه قال في الصلاة على المرأة: أب أو ابن أو أخ أحق بالصلاة عليها من الزوج. وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة: في الصلاة على المرأة إذا ماتت الأخ أحق من الزوج.
مذهب الزيدية:
جاء في شرح الأزهار
(3)
: أن الأولى بالصلاة على الجنازة هو الإمام الأعظم إذا حضر موضع الصلاة وواليه كالحاكم ولو عبد فإنهما أولى بالصلاة من قرابة الميت. وقال المؤيد بالله: إن ولى الميت أولى من الإِمام، ثم إذا لم يكن ثم إمام أو لم يحضر موضع الصلاة فالأولى بالتقدم الأقرب نسبه إلى الميت من عصبته الصالح للإمامة في الصلاة وذلك على ترتيب ولاية النكاح أذهى ولاية فيكون الجد أولى من الأخ وقيل على ترتيب الإرث فإن استووا في القرب إليه فالأكبر سنا أولى بالتقدم كما في التبصرة. وقال في البحر الأصح: تقديم الأسن على الأفقه لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله يستحى أن ترد للشيخ دعوة" وهذا بخلاف صلاة الجماعة فيقدم فيها الأفقه لأنه أعرف بحقها والعصبة البعيدة أولى من نائب العصبة القريب، والعصبة أولى من الزوج وكذا من السيد وقيل السيد أولى. قال الإِمام المهدى عليه السلام: فإن عدمت العصبة فالأقرب من ذوى رحم الميت والمذهب أنه لا ولاية لذوى الأرحام والأقرب أنه لا يستحب مؤاذنة القريب الفاسق وكذا الذي لا يحسن الصلاة إذ لا ولاية له، ويجب أن تعاد الصلاة إذا صلى بالناس غير
(1)
انظر كتاب المحلى لابن حزم الظاهرى الأندلسى جـ 5 ص 143، ص 144 وما بعدهما مسألة رقم 584 طبع مطابع مطبعة إدارة الطباعة المنيرية سنة 1348 هـ بمصر الطبعة الأولى لصاحبها محمد منير أغا الدمشقى.
(2)
الآية رقم 6 من سورة الأحزاب.
(3)
انظر كتاب شرح الأزهار المتنزع من الغيث المدرار فى فقه الائمة الاطهار جـ 1 ص 427، ص 428 وما بعدهما مع هوامشه طبع مطابع مطبعة حجازى بالقاهرة سنة 1357 هـ الطبعة الثانية.
الأولى بالإِمامة إن لم يأذن له بالتقدم من هو الأولى بها. ذكره أبو جعفر والحكم كذلك إن لم يعرف رضاه قبل الصلاة. أما لو رضى بعد الصلاة فلا حكم لرضاه وتعاد أما لو أوصى الميت أن يصلى عليه فلان قال في الياقوتة كان أولى من سواه. وقال في الانتصار القريب أحق على ظاهر المذهب وهو قول الفقهاء، وندب
(1)
تقديم الابن للأب حيث الابن هو الأولى لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يتقدم الابن أباه ما لم يكن إماما" فإذا كان للميت ابن وأب وهما جميعا صالحان للإِمامة فإن الابن أحق بالصلاة لكونه أقرب إلى الميت من الأب لكن يستحب للابن أن لا يتقدم على أبيه إجلالا وكذا لو كان للميت ابن ابن وجد أب فإن ابن الابن أقرب إلى الميت لكنه يستحب له أن يقدم الجد.
مذهب الإمامية:
جاء في الخلاف
(2)
: أن أولى الناس بالصلاة على الميت أولاهم به (وليه) أو من قدمه الولى فإن حضر الإمام كان أولى بالصلاة عليه ويجب عليه تقديمه دليلنا إجماع الفرقة وأيضا قول الله عز وجل: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}
(3)
وذلك عام في كل شئ وأحق الناس
(4)
من القرابة الأب ثم الولد وجملته من كان أولى بميراثه كان أولى بالصلاة عليه والدليل على ذلك إجماع الفرقة وقول الله تبارك وتعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
(5)
وإذا اجتمع
(6)
جماعة أولياء في زوج يقدم الأقرأ ثم الأفقه ثم الأسن والدليل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يأمكم أقرؤكم" وذلك عام في جميع الصلوات، وجاء في العروة الوثقى
(7)
: أن الزوج أولى بزوجته من جميع أقاربها حرة كانت أو أمة دائمة أو منقطعة (المراد نكاح المتعة عندهم) وإن كان الأحوط في المنقطعة الاستئذان من المرتبة اللاحقة أيضا ثم بعد الزوج المالك أولى بعبده أو أمته من كل أحد وإذا كان متعددا اشتركوا في الولاية ثم بعد المالك طبقات الأرحام بترتيب الإِرث فالطبقة الأولى وهم الأبوان والأولاد مقدمون على الثانية وهم الأخوة والأجداد والثانية مقدمون على الثالثة وهم الأعمام والأخوال ثم بعد بعد الأرحام المولى المعتق ثم ضامن الجريرة ثم الحاكم الشرعى ثم عدول المؤمنين، وفى كل
(8)
طبقة الذكور مقدمون على الإناث والبالغون على غيرهم ومن متَّ إلى الميت بالأب، والأم أولى ممن متّ بأحدهما، ومن انتسب إليه بالأب أولى ممن انتسب إليه بالأم، وفى الطبقة الأولى الأب مقدم على الأم، والأولاد وهم مقدمون على أولادهم،
(1)
انظر كتاب شرح الأزهار المتنزع من الغيث المدرار جـ 1 ص 432 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب الخلاف في الفقه لأبى جعفر بن الحسن الطوسى جـ 1 ص 392 وص 293 وما بعدهما طبع مطبعة طهران سنة 1382 هـ الطبعة الثانية. سورة الأحزاب.
(3)
الآية رقم 6 من سورة الأحزاب.
(4)
المرجع السابق لمحمد بن الحسن الطوسى جـ 1 ص 393 وما بعدها مسألة رقم 71 الطبعة السابقة.
(5)
الآية رقم 6 من سورة الأحزاب.
(6)
انظر كتاب الخلاف في الفقه لأبى جعفر بن الحسن الطوسى جـ 1 ص 392 وص 393 وما بعدهما طبع مطبعة 1382 هـ الطبعة الثانية.
(7)
انظر كتاب العروة الوثقى للعلامة الفقيه السيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 119، ص 120 وما بعدهما طبع مطبعة دار الكتب الإسلامية لصاحبها الشيخ محمد الأخوندى بطهران سنة 1388 هـ الطبعة الثانية مسألة رقم 1.
(8)
المرجع السابق جـ 1 ص 120 مسألة رقم 2.
وفى الطبقة الثانية الجد مقدم على الإخوة، وهم مقدمون على أولادهم وفى الطبقة الثالثة العم مقدم على الخال، وهما على أولادهما، وإذا
(1)
لم يكن في طبقة ذكور فالولاية للإناث وكذا إذا لم يكونوا بالغين أو كانوا غائبين لكن الأحوط الاستئذان من الحاكم أيضا في صورة كون الذكور غير بالغين أو غائبين، وإذا كان
(2)
للميت أم وأولاد فكور فالأم أولى لكن الأحوط الاستئذان من الأولاد أيضا، وإذا
(3)
لم يكن في بعض المراتب إلا الصبي أو المجنون أو الغائب فالأحوط الجمع بين إذن الحاكم والمرتبة المتأخرة لكن انتقال الولاية إلى المرتبة المتأخرة لا يخلو عن قوة وإذا كان للصبى ولى فالأحوط الاستئذان منه أيضا، وإذا
(4)
كان أهل مرتبة واحدة متعددين يشتركون في الولاية فلابد من إذن الجميع ويحتمل تقدم الأسن، وإذا
(5)
أوصى الميت في تجهيزه إلى غير الولى ذكر بعضهم عدم نفوذها إلا بإجازة الولى لكن الأقوى صحتها ووجوب العمل بها والأحوط أذنهما معا ولا يجب قبول الوصية على ذلك الغير وإن كان أحوط، وإذا رجع الولى
(6)
عن إذنه في أثناء العمل لا يجوز للمأذون الإتمام وكذا إذا تبدل الولى بأن صار غير البالغ بالغا أو الغائب حاضرا أو جن الولى أو مات فانتقلت الولاية إلى غيره، وإذا
(7)
حضر الغائب أو بلغ الصبى أو أفاق المجنون بعد تمام العمل من الغسل أو الصلاة مثلا ليس له الإلزام بالإعادة، وإذا
(8)
أدعى شخص كونه وليا أو مأذونا من قبله أو وصيا فالظاهر جواز الاكتفاء بقوله ما لم يعارضه غيره وإلا احتاج إلى البينة ومع عدمها لابد من الاحتياط، وإذا
(9)
أكره الولى أو غيره شخصا في التغسيل أو الصلاة على الميت فالظاهر صحة العمل إذا حصل منه قصد القربة لأنه أيضًا مكلف كالمكره.
مذهب الإباضية:
جاء في شرح النيل
(10)
: أن أولى الناس بالصلاة على الميت أبوه وأبو أبيه وإن علا على الترتيب ثم الزوج ثم الابن ثم الأخ الشقيق ثم الأخ الأبوى ثم العم كذلك لك ثم الأقرب فالأقرب وإن استووا كأخوة أشقاء صلى واحد وإن تنازعوا اقترعوا وإن صلى علية بعيد ولو أجنبيا فصلاته كافية ولا يصلى عليه حتى يستأذن وليه ولو كان الولى إمرأة وإن لم يعرف الولى كيف يصلى وقيل يقدم القوم في الصلاة. أما في الدفن فلا بل لابد من الولى أو إذنه فيه إلا إن لم يتيسر من رضوا به للصلاة عليه كالحكم في غيرها من الصلوات قبل.
(1)
المرجع السابق جـ 1 ص 120 مسألة رقم 3 الطبعة السابقة.
(2)
المرجع السابق جـ 1 ص 120 مسألة رقم 4 الطبعة السابقة.
(3)
المرجع السابق مسألة رقم 5 الطبعة السابقة.
(4)
المرجع السابق جـ 1 ص 120 مسألة رقم 6 الطبعة.
(5)
المرجع السابق مسألة رقم 7 الطبعة السابقة.
(6)
المرجع السابق ص 120 مسألة رقم 8.
(7)
المرجع السابق مسألة رقم 9 الطبعة السابقة.
(8)
المرجع السابق مسألة رقم 11 الطبعة السابقة.
(9)
المرجع السابق جـ 1 ص 120 مسألة رقم 11 الطبعة السابقة.
(10)
شرح النيل وشفاء العليل لمحمد بن يوسف أطفيش جـ 1 ص 679، ص 680، ص 681 وما بعدهم طبع مطبعة صاحب الامتياز محمد بن يوسف البارونى وشركاه بمصر سنة 1343 هـ.
مقام الإمام في الصلاة:
مذهب الحنفية:
جاء في بدائع الصنائع
(1)
: أنه إذا كان سوى الإِمام ثلاثة في الصلاة فإن الإِمام يتقدمهم لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل الأمة بذلك. وروى أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أنه قال: إن جدتى مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الى طعام فقال صلى الله عليه وسلم: "قوموا لأصلى بكم" فأقامنى واليتيم من ورائه وأمى أم سليم من ورائنا ولأن الإِمام ينبغى أن يكون بحال يمتاز بها عن غيره ولا يشتبه على الداخل ليمكنه الاقتداء به ولا يتحقق ذلك إلا بالتقدم، ولو قام في وسطهم أو ميمنة الصف أو في ميسرته جاز وقد أساء أما بالجواز فلأن الجواز يتعلق بالأركان. وقد وجدت وأما الإِساءة فلتركه السنة المتواترة وجعل لنفسه بحال لا يمكن الداخل الاقتداء به وفيه تعريض اقتداء للفساد وإذا كات سواه اثنان يتقدمهما في ظاهر الرواية. وروى عن أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه بتوسطهما لما روى عن عبد الله بن مسعود رضى الله تعالى عنه أنه صلى بعلقمة والأسود وقام وسطهما وقال: هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل ظاهر الرواية ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأنس واليتيم وأقامهما خلفه وهو مذهب على وابن عمر رضى الله تعالى عنهما. وأما حديث ابن مسعود رضى الله تعالى عنه فهذه الزيادة وهى قوله هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ترو في عامه الروايات فلم يثبت وبقى مجرد الفعل وهو محمول على ضيق المكان كذا قال إبراهيم النخعى وهو كان أعلم الناس بأحوال عبد الله ومذهبه ولو ثبتت الزيادة فهى أيضا محمولة على هذه الحالة أي هكذا صنع بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ضيق المكان على أن الأحاديث إن تعارضت وجب المصير إلى المعقول الذي لأجله يتقدم الإِمام وهو أنه يتقدم لئلا يشتبه حاله وهذا المعنى موجود فيما نحن فيه غير أن هاهنا لو قام الإِمام وسطهما لا يكره لورود الأثر
…
وإن كان مع الإِمام رجل واحد أو صبى يعقل الصلاة يقف عن يمين الإمام لما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه أنه قال: بت عند خالتى ميمونة لأراقب صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: نامت العيون وغارت النجوم وبقى الحى القيوم ثم قرأ آخر آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
(2)
الآيات ثم قام إلى شن (الشنة: القربة الخلق الصغيرة) معلق في الهواء فتوضأ وافتتح الصلاة فتوضأت ووقفت عن يساره فأخذ بأذنى وفى رواية بذاؤبتى وأدارنى خلفه حتى أقامنى عن يمينه فعدت إلى مكانى فأعادنى ثانيا وثالثا فلما فرغ قال: ما منعك يا غلام أن تثبت في الموضع الذي أوقفتك فيه فقلت أنت يا رسول الله ولا ينبغى لأحد أن يساويك في الموقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل فإعادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه إلى الجانب الأيمن دليل على أن المختار هو الوقوف على يمين الإمام إذا كان معه رجل واحد وكذا روى عن حذيفة رضى الله تعالى عنه أنه قام عن يسار
(1)
انظر كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين أبى بكر بن مسعود الكاسانى جـ 1 ص 158 وما بعدها طبع مطبعة شركة المطبوعات العلمية بمصر سنة 1327 الطبعة الأولى.
(2)
الآية رقم 190 من سورة آل عمران.
رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله وأقامه عن يمينه وإذا وقف عن يمينه لا يتأخر عن الإمام في ظاهر الرواية وعن محمد أنه ينبغى أن تكون أصابعه عند عقب الإِمام وهو الذي وقع عند العوام ولو كان المقتدى أطول من الإمام وكان سجوده قدام الإمام لم يضره لأن العبرة لموضع الوقوف لا لموضع السجود كما لو وقف في الصف ووقع سجوده أمام الإمام لطوله ولو وقف عن يساره جاز لأن الجواز متعلق بالأركان وهى موجودة ولكنه يكره لأنه ترك المقام المختار له، ولو وقف خلفه جاز واختلف في كراهيته
…
وإذا كان مع الإمام امرأة أقامها خلفه لأن محاذاتها مفسدة وكذلك لو كان معه خنثى مشكل لاحتمال أنه امرأة، ولو كان معه رجل وامرأة أو رجل وخنثى أقام الرجل عن يمينه والمرأة أو الخنثى خلفه ولو كان معه رجلان وامرأة أو خنثى أقام الرجلين خلفه والمرأة أو الخنثى خلفهما. وجماعة النساء وحدهن مكروهة فإن فعلن فالصلاة صحيحة مع الكراهة ويقف الإِمام وسطهن كالعراة لأن عائشة رضى الله تعالى عنها فعلت ذلك حين كانت جماعتهن مستحبة ثم نسخ الاستحباب ولأنها ممنوعة من البروز ولا سيما في الصلاة ولهذا كانت صلاتها في بيتها أفضل. ولو تأخرت لم يصح الاقتداء بها عندنا لعدم شرط الإمام وهو عدم التأخر عن المأموم، أما مقام
(1)
الإِمام بالنسبة لصلاة الجنازة فإنه يقدم من الرجل والمرأة بحذاء الصدر لأنه موضع القلب وفيه نور الإيمان فيكون القيام عنده إشارة إلى الشفاعة لإِيمانه وهذا ظاهر الرواية وهو بيان الاستحباب حتى لو وقف في غيره أجزأه كذا في كافى الحاكم.
وفى الهداية
(2)
وشروحها عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى أن الإِمام يقوم من الرجل بحذاء رأسه ومن المرأة بحذاء وسطها لما روى نافع أبى غالب قال: كنت في سكة المربد فمرت جنازة معها ناس كثير قالوا جنازة عبد الله بن عمير فتبعتها فإذا أنا برجل برجل عليه كساءٌ رقيق على رأسه تقيه من الشمس فقلت من هذا الدهقان قالوا أنس بن مالك قال فلما وضعت الجنازة قام أنس رضى الله تعالى عنه فصلى عليها وأنا خلفه لا يحول بينى وبينه شئ فقام عند رأسه وكبر أربع تكبيرات لم يطل ولم يسرع ثم ذهب يقعد فقالوا يا أبا حمزة المرأة الأنصارية فقربوها وعليها نعش أخضر فقام عند عجزتها فصلى عليها نحو صلاته على الرجل ثم جلس فقال العلاء بن زياد يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى على الجنائز كصلاتك يكبر عليها أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم إلى أن قال أبو غالب فسألت عن صنيع أنس في قيامه على المرأة عند عجيزتها فحدثونى أنه إنما كان لأنه لم تكن النعوش فكان يقوم حيال عجيزتها يسترها من القوم. رواه الترمذى ونافع أبو غالب الباهلى الخياط البصرى.
(1)
انظر كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم المصرى الأفريقى جـ 2 وما بعدهما طبع مطابع المطبعة العلمية بمصر سنة 1310 هـ الطبعة الأولى.
(2)
انظر كتاب الهداية وشروحها فتح القدير للشيخ الإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواس السكندرى المعروف بابن الهمام الحنفى وبهامشه شرح العناية على الهداية للإمام أكمل الدين محمد بن محمود البابرتى وحاشية المولى المحقق سعد الله بن عيسى المفتى الشهير بسعدى جلبى وبسعدى افندى على شرح العناية المذكور وعلى الهداية شرح بداية المبتدى لشيخ الإسلام برهان الدين على بن أبى بكر المرغينانى جـ 1 ص 462 وما بعدها طبع المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1340 هـ الطبعة الثانية.
ولا يجوز
(1)
أن يكون المقتدى متقدما على إمامه بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مع الإِمام من تقدمه، ولأنه إذا تقدم الإمام يشتبه عليه حاله أو يحتاج إلى النظر وراءه في كل وقت ليتابعه فلا يمكنه المتابعة ولأن المكان من لوازمه ألا ترى أنه إذا كان بينه وبين الإِمام نهر أو طريق لم يصح الاقتداء لإِنعدام التبعية في المكان كذا هذا وهذا بخلاف الصلاة فى الكعبة لأن وجهه إذا كان إلى الإمام لم تنقطع التبعية ولا يسمى قَبْلَه بل هما متقابلان كما إذا حازى إمامه وإنما تتحقق القبلية إذا كان ظهره إلى الإِمام ولم يوجد وكذا لا يشتبه حال الإِمام ولا المأموم. ولابد أن يتحد مكان الإِمام والمأموم لأن الاقتداء يقتضى التبعية فى الصلاة والمكان من لوازم الصلاة فيقتضى التبعية فى المكان ضرورة وعند أختلاف المكان تنعدم التبعية في المكان فتنعدم التبعية في الصلاة لإِنعدام لازمها ولأن اختلاف المكان يوجب خفاء حال الإِمام على المقتدى فتتعذر عليه المتابعة التي هي معنى الاقتداء حتى أنه لو كان بينهما طريق عام يمر فيه الناس أو نهر عظيم لا يصح الإقتداء لأن ذلك يوجب اختلافا المكانين عرفا مع اختلافهما حقيقة فيمنع صحة الاقتداء. وأصله ما روى عن عمر رضى الله تعالى عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق أو صف من النساء فلا صلاة له ومقدار الطريق الذي يمنع صحة الاقتداء قيل مقدار ما تمر فيه العجلة وهو قول أبى نصر محمد بن سلام. وقال أبو القاسم الصغار مقدار ما يمر فيه الجمل وأما النهر العظيم فما لا يمكن العبور عليه إلا بعلاج كالقنطرة ونحوها. وذكر الإِمام السرخسى أن المراد من الطريق ما تمر فيه العجلة والمراد بالنهر ما تجرى فيه السفن وما دون ذلك بمنزلة الجدول لا يمنع صحة الاقتداء. فإن كانت الصفوف متصلة على الطريق جاز الاقتداء لأن اتصال الصفوف أخرجه من أن يكون ممر الناس فلم يبق طريقا بل صار مصلى في حق هذه الصلاة وكذلك إن كان على النهر جسر وعليه صف متصل لما كنا ولو كان بينهما حائط. فإن كان الحائط قصيرا بحيث يتمكن كل أحد من الركوب عليه كحائط المقصورة لا يمنع الإقتداء لأن ذلك لا يمنع التبعية فى المكان ولا يوجب خفاء حال الإِسلام ولو كان بين الصفين حائط إن كان طويلا وعريضا ليس فيه ثقب يمنع الإقتداء وإن كان فيه ثقب لا يمنع مشاهدة حال الإِمام لا يمنع بالإجماع وإن كان كبيرا فإن كان عليه باب مفتوح أو خوخة فكذلك وإن لم يكن عليه شئ من ذلك ففيه روايتان إحداهما أن ذلك مانع ووجهه أنه يشتبه عليه حال إمامه فلا يمكنه المتابعة. والرواية الثانية أن الاقتداء صحيح لعمل الناس فى الصلاة بمكة فإن الإمام يقف في مقام إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه وبعض الناس يقفون وراء الكعبة من الجانب الأخر فبينهم وبين الإمام حائط الكعبة ولم يمنعهم أحد من ذلك فدل على الجواز ولو كان بينهما صف من النساء يمنع صحة الاقتداء للحديث المتقدم. ولأن الصف من النساء بمنزلة الحائط الكبير الذي ليس فيه فرجة وذا يمنع صحة الاقتداء كذا هذا لو اقتدى بالإِمام في أقصى المسجد والإمام في المحراب جاز لأن المسجد على تباعد أطرافه جعل في الحكم كمكان واحد ولو وقف على سطح المسجد واقتدى
(1)
انظر كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لأبى بكر بن مسعود الكاسانى جـ 1 ص 145 طبع مطبعة الجمالية بمصر سنة 1358 هـ، سنة 1910 م الطبعة الأولى.
بالإمام فإن كان وقوفه خلف الإمام أو بحذائه أجزأه لما روى عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أنه وقف على سطح المسجد واقتدى بالإمام وهو في جوفه ولأن سطح المسجد تبع للمسجد وحكم التبع حكم الأصل فكأنه في جوف المسجد وهذا إذا كان لا يشتبه عليه حال إمامه فإن كان يشتبه لا يجوز وإن كان وقوفه متقدما على الإمام لا يجزئه لإنعدام معنى التبعية كما لو كان في جوف المسجد وكذلك لو كان على سطح بجنب المسجد متصل به ليس بينهما طريق فاقتدى به صح اقتداؤه لأن السطح إذا كان متصلا بسطح المسجد كان تبعا لسطح المسجد وتبع سطح المسجد في حكم المسجد فكان اقتداؤه وهو عليه كاقتدائه وهو في جوف المسجد إذا كان لا يشتبه عليه حال الإمام ولو اقتدى خارج المسجد بإمام في المسجد إن كانت الصفوف متصلة جاز وإلا فلا لأن ذلك الموضع بحكم اتصال الصفوف يلتحق بالمسجد هذا إذا كان الإمام يصلى في المسجد فأما إذا كان يصلى في الصحراء فإن كانت الفرجة التي بين الإمام والقوم قدر الصفين فصاعدا لا يجوز اقتداؤهم به لأن ذلك بمنزله الطريق العام أو النهر العظيم فيوجب اختلاف المكان. وذكر في الفتاوى أنه سئل أبو النصر عن إمام يصلى في فلاة من الأرض كم مقدار ما بينهما حتى يمنع صحة الاقتداء قال إذا كان مقدار ما لا يمكن أن يصطف فيه جازت صلاتهم فقيل له لو صلى في مصلى العيد قال حكمه حكم المسجد ولو كان الإمام يصلى على دكان والقوم أسفل منه جاز ويكره أما الجواز فلأن ذلك لا يقطع التبعية ولا يوجب خفاء حال الإمام وأما الكراهة فلشبهة اختلاف المكان.
مذهب المالكية:
مرتبة الإمام
(1)
في الصلاة أن يتقدم على المأمومين فإذا كان المأموم واحد صلى عن يمين الإِمام مع تأخره عنه قليلا وإن كان أكثر من واحد صلوا خلفه وقد اختلف المالكية فيما إذا تقدم أحد المأمومين أو كلهم على الإمام فكره بعضهم الصلاة أمام الإمام أو محاذاته بلا ضرورة كضيق ونحوه. وعلة كراهة التقدم خوف أن يطرأ على الإِمام ما لا يعلمونه مما يبطلها وقد يخطئون في ترتيب الركعات إذا تقدموه أما إذا تقدموه لضرورة فلا كراهة. وقال ابن عزم في شرح الرسالة سنة الإِمام التقدم وسنة المأموم التأخر فإن عكس الأمر فالصلاة باطلة في حقهما وإن كان مع الإمام طائفة خلفه فإن اضطرت الطائفة الأخرى إلى التقدم جاز وإلا كره
(2)
.
ورأى بعضهم أن وقوف المأموم أمام الإمام من غير ضرورة مبطل لصلاته وهو ضعيف، ومن المدونة
(3)
قال مالك لا بأس في الصلاة في
(1)
انظر شرح المحقق سيدى أبى عبد الله محمد الخرشى على المختصر الجليل للإمام أبى الضياء سيدى خليل جـ 2 ص 29 وما بعدها وبهامشه حاشية العلامة على العدوى الطبعة الثانية طبع المطبعة الكبرى الاميرية بمصر سنة 1317 هـ وانظر كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر أبى الضياء سيدى خليل المعروف بالحطاب وبهامشه التاج والأكليل لمختصر خليل الشهير بالمواق جـ 1 ص 106 وما بعدها الطبعة الأولى طبع مطبعة السعادة بمصر سنة 1328 هـ، وانظر كتاب بلغة السالك لأقرب المسالك للعالم الشيخ أحمد الصاوى على الشرح الصغير للقطب الشهير سيدى أحمد الدردير جـ 1 ص 148 وما بعدها طبع المكتبة التجارية بمصر.
(2)
حاشية الشيخ على العدوى على شرح الخرشى جـ 2 ص 29 وما بعدها الطبعة السابقة.
(3)
انظر كتاب التاج والأكليل للعلامة المواق على هامش الخطاب جـ 2 ص 106 وما بعدها الطبعة السابقة.
دور محجورة بصلاة الإِمام في غير الجمعة إذا رأوا عمل الإِمام والناس من كوى لها أو مقاصير أو سمعوا تكبيره فيكبروا ويركعوا بركوعه ويسجدوا بسجوده فذلك جائز وقد صلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى محجرهن اقتداء بصلاة الإِمام. قال مالك: ولو كانت الدور بين يدى الإمام كرهت ذلك فإن صلوا فصلاتهم تامة وكره أن يكون الإمام في أسفل السفينة والمأمومون في أعلاها. قال مالك في المدونة: إذا صلى الإِمام في السفينة والناس فوق سقفها فلا بأس إذا كان إمامهم قدامهم ولا يعجبنى أن يكون فوق السقف والناس أسفل ولكن يصلى الذين فوق السقف بإمام والذين أسفل بإمام، وعلة كراهة
(1)
اقتداء الذين بأسفل السفينة بمن بأعلاها عدم تمكنهم من مراعاة الإِمام وقد تدور فيختل عليهم أمر الصلاة. ولذا قال ابن حبيب: يعيد الأسفلون في الوقت. قال ابن يونس وليس ذلك كالدكان حيث يكون فيها مع الإمام قوم وفى أسفلها قوم فافترقا في الحكم، ويجوز
(2)
أن يكون المأموم أعلى من الإمام ولو على سطح بأن يكون المأموم على سطح والإِمام أسفل منه وهذا قول مالك الأول واختيار ابن القاسم. ورجح مالك إلى كراهة ذلك فقد قال في كتاب الصلاة الأول من المدونة: وجائز أن يصلى الرجل في غير الجمعة بصلاة الإمام على ظهر المسجد والإمام في داخل المسجد ثم كرهه. وقال ابن بشير اختلف قول مالك في المدونة في الإمام يصلى في المسجد ويصلى القوم فوق المسجد بصلاته فكرهه مرة وأجازه أخرى وعللت الكراهة بالبعد عن الإِمام. وقيل إن الكراهة لكون المأموم لا يشاهد أفعال الإمام وقيل إن الكراهة لتفريق الصفوف فعلى القول الأول لو كان السطح قريبا لم يكره وعلى القول الثاني إن شاهد المأموم أفعال الإِمام أو شاهد أفعال المأمومين لم يكره. وعلى القول الثالث يكره مطلقا. وتعليل الكراهة بالبعد هو الظاهر لما رأى ابن القاسم أن هذا البعد يمكن معه مراعاة أفعال الإمام بحصول السماع من غير تكليف أجازه، ولذلك كره
(3)
لمن كان بجبل أبى قبيس أن يصلى بصلاة الإمام في المسجد الحرام لكثرة البعد. قال ابن بشير: واختلف الأشياخ في صلاة من فعل ذلك فمنهم من قال بالصحة ومنهم من قال بالبطلان وهو خلاف في حال فإن أمكنهم مراعاة فعل الإِمام صحت وإن تعذر عليهم ذلك بطلت وهذا يعلم بالمشاهدة - هذا بالنسبة لعلو المأموم عن الإمام، أما إذا كان الإمام
(4)
على مكان أعلى من مكان المأموم فقد اختلف في حكم ذلك. قال الحطاب نقلا عن ابن غازى وغيره إن ذلك لا يجوز. قال ابن بشير وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى الإمام على أنشز أي أرفع مما عليه أصحابه. وذكر في الطراز عن عمار بن ياسر أنه كان يصلى بالمدائن فأقيمت الصلاة فتقدم عمار وقام على دكان يصلى والناس أسفل منه فتقدم حُذيفة وأخذ على يديه فتبعه عمار حين أنزله حنيفة فلما فرغ عمار رضى الله تعالى عنه من صلاته قال له حذيفة ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مكانهم أو نحو ذلك؟
(1)
انظر كتاب الخرشى وبهامشه حاشية الشيخ العدوى جـ 2 ص 29 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب الحطاب على خليل جـ 2 ص 117، ص 118 وما بعدهما الطبعة السابقة.
(3)
المرجع السابق جـ 2 ص 106 الطبعة السابقة.
(4)
المرجع السابق جـ 2 ص 118 وما بعدها الطبعة السابقة.
فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدى - خرجه أبو داود - قال ابن فرحون: لأن الإمامة تقتضى الترفع فإذا انضاف إلى ذلك علوه عليهم في المكان دل على قصده الكبر، وقال صاحب التهذيب: لا يصلى الإمام على شئ أرفع مما عليه أصحابه فإن فعل أعادوا أبدا لأنهم يعبثون إلا الارتفاع اليسير فتجز بهم الصلاة. وقال سند: قال مالك رحمه الله تعالى في إمام يصلى بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك قال لا يعجبنى ذلك. وقوله لا يعجبنى ذلك ليس فيه ما ينفى الصحة. وقال ابن القاسم وكره مالك أن يصلى الإمام على شئ هو أرفع مما يصلى عليه من خلفه مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه من الأشياء. قال سحنون قلت له فإن فعل قال عليهم الإعادة وإن خرج الوقت لأن هؤلاء يعبثون إلا أن يكون على دكان يسير مثل ما عندنا بمصر فإن صلاتهم تامة ومقتضى كلام أهل المذهب صحة صلاتهم، ولو افتتح
(1)
الإمام الصلاة على موضع عال منفردا فجاء رجل فأئتم به لم يكره لأن الإمام لم يقصد إلى العبث والتكبر ومحل كراهة علو الإمام على المأمومين إذا لم تدع إلى ذلك الضرورة فأما إن دعت فلا بأس به. قال ابن عزم في شرح الرسالة إن ضاق الموضع ودعت الضرورة إلى صلاة الإمام في مكان مرتفع ولا يسع زيادة عليه جاز وروى عن الإمام مالك رحمه الله تعالى في الإمام يصلى في السفينة وبعضهم فوقه وبعضهم تحته قال فإن لم يجدوا بدا فذلك جائز. قال الحطاب: والظاهر من كلام المدونة وصاحب الطراز إذا لم يقصد الكبر فليس في ذلك إلا الكراهة، وكما اختلف
(2)
المالكية في علو الإِمام على المأموم من عدم الجواز سواء حمل على الكراهة أو على المنع اختلفوا كذلك هل الحكم يشمل ما إذا كان مع الإمام طائفة من المأمومين أو كان وحده؟ اختار ابن الجلاب أنه إن كان مع الإمام طائفة فلا كراهة ويجوز وساق ابن الجلاب ذلك على أنه المذهب وحمل بعضهم كلام مالك المتقدم عليه وقال صاحب الطراز قال بعض أصحابنا إنما يمنع ذلك إذا كان الإمام وحده فأما إن كان مع الإمام طائفة فلا بأس به وهو اختيار ابن الجلاب واعتبر صاحب الطراز أن ظاهر المذهب أن لا فرق في ذلك أي سواء كان مع الإمام طائفة من المأمومين أو كان وحده، ومنع
(3)
خليل والحطاب صلاة الإمام في مكان أعلى من المأمومين إذا كان يصلى معه في مكانه طائفة من أشراف الناس لأن ذلك مما يزيده فخرا وعظمة، وتبطل الصلاة إذا قصد الإمام أو المأموم بعلوه الكبر ولا خلاف في المذهب أن قصد الإمام إلى ذلك محرم وأنه متى حصل بطلت الصلاة عليه وعليهم وكذلك قالوا لو صلى المقتدون على موضع مرتفع قصدا للتكبر عن المساواة فإن صلاة القاصد إلى ذلك باطله، أما بالنسبة لموقف الإمام في صلاة الجنازة فإنه يندب
(4)
وقوف إمام في الوسط بفتح السين - للميت الذكر ومنكبى المرأة ووقوف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط امرأة لأنه معصوم مما يتذكره
(1)
انظر كتاب الحطاب على خليل جـ 2 ص 120 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
الحطاب على خليل جـ 2 ص 121 الطبعة السابقة.
(3)
المرجع السابق جـ 2 ص 11 الطبعة السابقة.
(4)
انظر كتاب حاشية الدسوقى على الشرح الكبير جـ 1 ص 418 وما بعدها الطبعة السابقة.
غيره ويكون رأس الميت عن يمينه ندبا إلا في الروضة الشريفة فإنه يجعل رأس الميت على يسار الإمام جهة القبر الشريف. وفى التاج والأكليل
(1)
من الحطاب. وقال أبو عمر اختلفت الآثار أين يقوم الإمام من الجنازة وليس في ذلك حد لازم من كتاب ولا سنة فلا حرج في فعل كل ما جاء عن السلف وليس قيامه صلى الله عليه وآله وسلم منها في موضع ما يمنع من غيره لأنه لم يوقف عليه. قال ابن عرفة يجعل رأس الميت عن يمين الإمام فلو عكس فقال سحنون وابن القاسم صلاتهم مجزئة عنهم. قال ابن رشد فالأمر في ذلك واسع وكذلك لو أخطأ في ترتيب الجنائز للصلاة عليها فقدم النساء على الرجال والصغار على الكبار لمضت الصلاة ولا إعادة. وفى الحطاب
(2)
: قال في المدخل تقدم المصلى على الإمام والجنازة فيه مكروهان أحدهما تقدمه على الإمام والثانى تقدمه على الجنازة انتهى بالمعنى. فعلى هذا يكون التقدم على الجنازة مكروها فقط وتصح الصلاة سواء كان المتقدم إماما أو مأموما والله أعلم. قال في المدخل في سنن الصلاة على الجنازة أن يكون الميت بين يدى المصلى ورأسه إلى جهه المغرب وهذا بالنسبة إلى بلده. قال القاضي أبو الفضل عن الطبرى أنه قال أجمعوا أن الإمام لا يلاحق الجنازة وليكن بينه وبينها فرجة.
مذهب الشافعية:
جاء في مغنى المحتاج
(3)
: أنه لا يجوز أن يتقدم المأموم على إمامه في الموقف ولا في مكان القعود أو الاضطجاع لأن المقتدين بالنبى صلى الله عليه وآله وسلم وبالخلفاء الراشدين لم ينقل عن أحد منهم ذلك ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به" والائتمام الإتباع والمتقدم غير تابع فإن تقدم عليه في أثناء صلاته بطلت في الجديد الأظهر ولو تقدم عليه عند التحريم لم تنعقد كالتقدم بتكبيرة الإحرام قياسا للمكان على الزمان ولأن المخالفة في الأفعال مبطلة وهذه المخالفة أفحش. وفى القديم لا تبطل مع الكراهة كما لو وقف خلص الصف وحده. نعم يستثنى من ذلك صلاة شدة الخوف فإن الجماعة فيها أفضل وإن تقدم بعضهم على بعض وعلى الجديد لو شك هل هو متقدم أو متأخر كأن كان في ظلمة صحت صلاته مطلقا لأن الأصل عدم المفسد. وقال القاضي حسن إن جاء من خلفه حتى صحت صلاته وإن جاء من أمامه لم تصح عملا بالأصل فيهما والأول هو المعتمد الذي قطع به المحققون وإن قال ابن الرفعة إن الثاني أوجه، ولا تضطر مساواة المأموم لإِمامه لعدم المخالفة لكن مع الكراهة كما في المجموع والتحقيق وإن استبعده السبكى
(1)
انظر كتاب مواهب الجليل على شرح مختصر سيدى أبى الطيب خليل وبهامشه التاج والأكليل لأبى عبد الله بن يوسف الشهير بالمواق جـ 2 ص 227، ص 228 وما بعدهما طبع مطابع مطبعة السعادة بمصر سنة 1328 هـ الطبعة الأولى.
(2)
المرجع السابق مختصر خليل وبهامشه التاج والأكليل للمواق جـ 2 ص 228 وما بعدها الطبعة السابقة.
(3)
انظر كتاب مغنى المحتاج لمعرفة ألفاظ المنهاج للعلامة الخطيب الشربينى جـ 1 ص 244 وما بعدها وبهامشه متن المنهاج لأبى زكريا يحيى بن شرف النووى طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1308 هـ، وانظر كتاب المهذب للإمام أبى إسحاق الشيرازى جـ 2 ص 99، ص 100 على النظم المستندب في شرح غريب المهذب للعلامة محمد بن أحمد بن بطال الركبى طبع مطبعة عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر.
ويندب تخلف المأموم عن الإِمام قليلا إذا كانا ذكرين غير عاريين بصيرين أو كان الإِمام عاريا والمأموم بصيرا ولا ظلمة تمنع النظر استعمالا للأدب ولتظهر رتبة الإِمام على المأموم، والاعتبار في التقدم للقائم بالعقب وهو مؤخر القدم لا الكعب فلو تساويا في العقب وتقدمت أصابع المأموم لم يضر نعم إن كان اعتماده على رءوس الأصابع ضر كما بحثه الأسنوى ولو تقدمت عقبه وتأخرت أصابعه ضر لأن تقدم العقب يستلزم تقدم المنكب والمراد ما يعتمد عليها فلو اعتمد على إحدى رجليه وقدم الأخرى على رجل الإِمام لم يضر ولو قدم إحدى رجليه واعتمد عليهما لم يضر كما في فتاوى البغوي والاعتبار للقاعد بالإلية كما أفتى به البغوي ولو في التشهد. أما في حال السجود فيظهر أن يكون المعتبر رءوس الأصابع ويشمل ذلك الراكب وهو الظاهر والجماعة يستديرون في المسجد الحرام حول الكعبة ندبا لاستقبال الجميع ضاق المسجد أم لا خلافا للزركشى لكن الصفوف أفضل من الاستدارة. ويندب أن يقف الإمام خلف المقام ولو وقف صف طويل في آخر المسجد بلا استدارة حول الكعبة جاز على ما جزم به الشيخان (النووى والرافعى) وإن كانوا بحيث يخرج بعضهم عن سمتها لو قربوا خلافا للزركشى ولا يضر كون المأموم أقرب إلى الكعبة في غير جهة الإِمام في الأصح لأن رعاية القرب والبعد في غير جهة الإمام مما يشق بخلاف جهته ولا يظهر به مخالفة منكرة، ولا يضر لو وقف الإمام والمأموم في داخل الكعبة واختلفت جهتاهما بأن كان وجهه إلى وجهه أو ظهره إلى ظهره. أما إذا اتحدت الجهة بأن يكون ظهر المأموم إلى وجه الإمام فلا تصح في الأصح ولو وقف الإمام في الكعبة والمأموم خارجها لم يضر وله التوجه إلى أي جهة شاء ولو وقف المأموم في الكعبة والإمام خارجها لم يضر لكن لا يتوجه المأموم إلى الجهة التي توجه إليها الإمام لتقدمه حينئذ عليه، ويندب أن يقف المأموم الذكر ولو صبيا إذا لم يحضر غيره عن يمين الإمام لما في الصحيحين أن ابن عباس رضى الله تعالى عنه قال: بت عند خالتى ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلى من الليل فقمت عن يساره فأخذ برأسى فأقامنى عن يمينه، فإن وقف عن يساره أو خلفه سن له أن يندار مع اجتناب الأفعال الكثيرة فإن لم يفعل قال في المجموع سن للإمام تحويله فإن حضر ذكر آخر أحرم ندبا عن يساره ثم يتقدم الإمام أو يتأخران حالة القيام أو الركوع وتأخرهما أفضل من تقدم الإمام لخبر مسلم عن جابر قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت عن يمينه ثم جاء جابر بن صخر فقام عن يساره فأخذ بأيدينا جميعا حتى أقامنا خلفه ولأن الإمام متبوع فلا ينتقل من مكانه ولو حضر مع الإمام ابتداء رجلان أو صبيان أو رجل وصبى قاما صفا خلفه بحيث لا يزيد ما بينه وبينهما على ثلثمائة أذرع وكذا ما بين كل صفين. أما الرجلان فلحديث جابر السابق وأما الرجل والصبى فلما في الصحيحين عن أنس رضى الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام صلى في بيت أم سليم فقمت أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا، فلو وقفا عن يمينه أو يساره أو أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره أو أحدهما خلفه والآخر بجنبه أو خلف الأول كره كما في المجموع نقلا عن الشافعي. وكذا امرأة ولو محرما أو زوجة أو نسوة تقوم أو يقمن خلفه لحديث أنس رضى الله تعالى عنه السابق فإن حضر معه ذكر وامرأة
وقف الذكر عن يمينه والمرأة خلف الذكر. ولو حضرت امرأة وذكران وقفا خلفه وهى خلفهما. ولو حضر ذكر وامرأة وخنثى وقف الذكر عن يمينه والخنثى خلفهما لاحتمال أنوثته والمرأة خلفه لاحتمال ذكورته. وإذا اجتمع الرجال وغيرهم وقف الرجال خلف الإمام لفضلهم ثم الصبيان لأنهم من جنس الرجال ثم الخناثى لاحتمال ذكورتهم ثم النساء لتحقق أنوثتهم، وتقف
(1)
إمامة النساء وسطهن ندبا لثبوت ذلك عن فعل عائشة وأم سلمة رضى الله تعالى عنهما. رواه البيهقى بإسناد صحيح. أما إذا أمهن غير المرأة من رجل أو خنثى فإنه يتقدم عليهن ومثل المرأة في ذلك عار أمَّ بعراء في ضوء. فلو كانوا عراة فإن كانوا عميا أو في ظلمة أو في ضوء لكن أمامهم مكتس استحب أن يتقدم أمامهم بناء على استحباب الجماعة لهم وإن كانوا بعراء بحيث يتأتى نظر بعضهم بعضا فالجماعة في حقهم وانفرادهم سواء فإن صلوا جماعة في هذه الحالة وقف الإمام وسطهم قال ابن الرفعة عن إمام الحرمين والمتولى هذا إذا أمكن وقوفهم صفا وإلا وقفوا صفوفا مع غض البصر. وإذا اجتمع الرجال مع النساء والجميع عراة لا يصلين معهم لا في صف ولا في صفين بل يتنحين ويجلسن خلفهم ويستدبرن القبلة حتى يصلى الرجال. وإذا جمع الإمام
(2)
والمأموم مسجد واحد مع الاقتداء وإن بعدت المسافة بينهما في المسجد وحالت أبنية كبئر وسطح ومنارة تنفذ أبوابها وإن أغلقت فلابد أن يكون لسطح المسجد باب من المسجد لأنه كله مبنى للصلاة فالمجتمعون فيه مجتمعون لإقامة الجماعة مؤدون لشعارها ولابد أن يكون التنافذ على العادة كما قاله بعض المتأخرين وأعلم أن التسمير للأبواب يخرجها عن الاجتماع فإن لم تتنافذ أبوابها إليه أو لم يكن التنافذ على العادة فلا يعد الجامع بها مسجدا واحدًا وإن خالف في ذلك البلقينى فيضر الشباك، فلو وقف من ورائه بجوار المسجد ضر، وعلو المسجد كسفله فهما مسجد واحد وكذا رحبته معه وهى ما كان محجرا عليه لأجله. قال في أصل الروضة ولم يفرقوا بين أن يكون بينهما طريق أم لا. وقال ابن كج إن انفصلت فكمسجد آخر، والمساجد المتلاصقة التي ينفذ أبواب بعضها إلى بعض كالمسجد الواحد في صحة الاقتداء وإن بعدت المسافة واختلفت الأبنية وانفرد كل مسجد بإمام ومؤذن وجماعة نعم إن حال بينهما نهر قديم بأن حفر قبل حدوثها فلا تكون كمسجد واحد بل تكون كمسجد وغيره. أما النهر الطارئ الذي حفر بعد حدوثها فلا يخرجها عن كونها كمسجد واحد، وكالنهر في ذلك الطريق، ولو كان الإِمام والمأموم في مكان واسع كصحراء يشترط أن لا يزيد ما بينهما على ثلثمائة ذراع بذراع الآدمى تقريبا وقيل تحديدا فإن وقف شخصان أو صفان خلف الإِمام أو عن يمينه أو يساره وأحدهما وراء الآخر أو عن يمينه أو يساره اعتبرت المسافة المذكورة بين الأخير والأول لأن الأول في هذه الحالة كإمام الأخيرة، ولا يضر، وإذا كان بين الإِمام
(3)
والمأمومين شارع مطروق أو نهر يحتاج إلى سباحة فالصحيح أن ذلك لا يضر لأن ذلك لا يعد
(1)
مغنى المحتاج لمعرفة ألفاظ المنهاج جـ 1 ص 246 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
مغنى المحتاج لمعرفة ألفاظ المنهاج للخطيب الشربينى جـ 1 ص 247 وما بعدها الطبعة السابقة.
(3)
المرجع السابق للخطيب الشربينى جـ 1 ص 248 وما بعدها الطبعة السابقة.
حائلا في العرف كما لو كانا في سفينتين مكشوفتين في البحر ومقابل الصحيح أن ذلك يقر أما الشارع فقد تكثر فيه الزحمة فيعسر الاطلاع على أحوال الإمام. وأما النهر فقياسا على حيلولة الجدار. ولا يضر جزما الشارع غير المطروق والنهر الذي يمكن العبور من أحد طرفيه إلى الآخر من غير سباحة وذلك بالوثوب فوقه أو المشى فيه أو على جسر ممدود على حافتيه، فإن كان الإمام والمأموم في بناءين كصحن وصفة أو بيت من كان واحد كالمدرسة المشتملة على هذه الأمور مع محاذاة الأسفل للأعلى بجزء منهما فطريقان أصحهما إن كان بناء المأموم يمينا أو شمالا لبناء الإمام وجب اتصال صف من أحد البناءين بالآخر كأن يقف واحد بطرف الصفة وآخر بالصحن متصلا به لأن اختلاف الأبنية يوجب الافتراق. فاشترط الاتصال ليحصل الربط بالاجتماع ولا تضر فرجة لا تسع واقفا في الأصح وإن كان بناء المأموم خلف بناء الإِمام فالصحيح صحة القدوة بشرط أن لا يكون بين الصفين أكثر من ثلاثة أذرع والطريق الثاني أنه لا يشترط إلا القرب لئلا يزيد ما بين الإِمام والمأموم على ثلثمائة ذراع سواء كان موقف المأموم يمينا أم شمالا أم خلف بناء الإِمام فإن حال ما يمنع المرور لا الرؤية كالشباك أو يمنع الرؤية لا المرور كالباب المردود فوجهان أصحهما في أصل الروضة عدم صحة القدوة. أما لو حال جدار أو باب مغلق لم تصح القدوة باتفاق الطريقين لأن الجدار معد للفصل بين الأماكن. ولو وقف
(1)
المأموم في علو في غير مسجد كصفة مرتفعة وسط دار وإمامه في سفل كصحن تلك الدار أو بالعكس اشترط مع وجوب اتصال صف من أحدهما بالآخر محاذاة بعض بدن المأموم ببعض بدن الإمام. والمراد بالعلو البناء أما الجبل الذي يمكن صعوده فداخل في الفضاء فالصلاة على الصفا أم المروة أو على جبل أبى قبيس بصلاة الإمام في المسجد صحيحة وإن كان أعلى منه كما نص عليه الشافعي رضى الله تعالى عنه وله نص آخر فيه بالمنع وحمل على ما إذا بعدت المسافة أو حالت أبنية هناك ولو كان الإِمام والمأموم في سفينتين مكشوفتين في البحر فيصح الاقتداء بشرط أنه لا يزيد على ثلثمائة ذراع تقريبا وإن لم تشد أحداهما بالأخرى فإن كانتا مسقفتين أو أحداهما مسقفة فقط فيشترط مع قرب المسافة وعدم الحائل وجود الواقف بالمنفذ إن كان بينهما منفذ والسفينة التي فيها بيوت كالدار التي فيها بيوت. ولو وقف المأموم في نحو موات كشارع وإمامه في مسجد متصل بالموات فإن لم يحل شئ بين الإمام والمأموم فالشرط التقارب وهو ثلثمائة ذراع ويعتبر ذلك من آخر المسجد لأن المسجد كل شئ واحد لأنه محل للصلاة فلا يدخل في الحد الفاصل وقيل من آخر صف فيه لأنه المتبوع فإن لم يكن فيه إلا الإِمام فمن موقفه. قال الدارمى: ومحل الخلاف إذا لم تخرج الصفوف عن المسجد فإن خرجت عنه فالمعتبر من آخر صف خارج المسجد قطعا، وارتفاع
(2)
المأموم عن الإمام وعكسه مكروه أما ارتفاع الإِمام عن المأموم فللنهى عنه. كما أخرجه أبو داود في سننه والحاكم في المستدرك. وأما ارتفاع المأموم عن الإمام فقياسا على ارتفاع الإمام وهذا إذا أمكن وقوفهما على مستو وإلا فلا كراهة ولا فرق في ذلك بين أن يكونا في مسجد أو لا إلا لحاجة تتعلق بالصلاة كتعليم الإمام المأمومين صفة الصلاة،
(1)
المرجع السابق جـ 1 ص 249 الطبعة السابقة.
(2)
مغني المحتاج لمعرفة ألفاظ المنهاج جـ 1 ص 250 الطبعة السابقة.
كما ثبت في الصحيحين وكتبليغ المأموم تكبير الإمام فيستحب ارتفاعهما لذلك، أما بالنسبة لصلاة الجنازة فالسنة
(1)
أن يقف الإمام فيها عند رأس الرجل وعند عجيزة المرأة. وقال أبو على الطبرى السنة أن يقف عند صدر الرجل وعند عجيزة المرأة والمذهب الأول لما روى أن أنسا رضى الله تعالى عنه صلى على رجل فقام عند رأسه وصلى على امرأة فقام عند عجيزتها فقال له العلاء بن زياد هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى المرأة عند عجيزتها وعلى الرجل عند رأسه قال نعم.
مذهب الحنابلة:
جاء في كشاف القناع
(2)
: السنة وقوف المأمومين خلف الإمام رجالا كانوا أو نساء لفعل النبي صلى الله علمه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قام أصحابه خلفه. فقد روى أن جابرا وجبارا وقف أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فأخذ بأيديهما حتى أقامهما خلفه. رواه مسلم وأبو داود. ولا ينفلهما إلا إلى الأكمل. أما العراة فيقف الإِمام إذا كان منهم وسطهم وجوبا لستر العورة. وأما النساء فإن الإمام منهن يقف وسطهن استحبابا. روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها ورواه سعيد عن أم سلمة ولأنه يستحب لها التستر وهذا أستر لها، وإن وقف المأمومون قدام الإمام ولو بقدر تكبيرة الإِحرام ثم تأخروا لم تصح صلاتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"إنما جعل الإمام ليؤتم به" والمخالفة في الأفعال مبطلة لكونه يحتاج في الاقتداء إلى الالتفات خلفه ولأنه لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام ولا هو في معنى المنقول فلا يصح وإذا تقابل المأموم والإمام في صلاة نفل داخل الكعبة بأن كان وجه الإِمام إلى وجه المأموم أو تدابرا بأن جعل المأموم ظهره إلى ظهر إمامه صحت الصلاة لأنه لا يعتقد خطأه أما إن جعل المأموم ظهره إلى وجه الإِمام فلا تصح الصلاة لتقدم المأموم على إمامه، وإذا استدار الصف حول الكعبة وكان المأموم في غير جهة الإِمام فإن الصلاة صحيحة ولو كان أقرب إلى الكعبة من الإمام لأنه لا يتحقق تقدمه على الإِمام. وفى صلاة الخوف
(3)
إذا أمكن المتابعة لا يضر تقدم المأموم على إمامه للحاجة إليه فإن لم تمكن المتابعة لم يصح الاقتداء وإن وقت المأمومون عن يمين الإمام أو وقفوا من جانبيه فإن كان المأموم واحدا وقف عن يمين الإمام لإدارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن عباس وجابر إلى يمينه لما وقفا عن يساره. رواه مسلم. ويندب تخلفه قليلا خوفا من التقدم ومراعاة للمرتبة فإن وقف المأموم خلف الإِمام أو عن يساره مع خلو يمينه وصلى ركعة كاملة بطلت صلاته لما تقدم في إدارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن عباس وجبارا. وعن أحمد أنه صلاته صحيحة. اختاره أبو محمد التميمى والموفق وكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد جابر أو ابن عباس لا يدل على عدم الصحة
(1)
المهذب لأبى إسحاق الشيرازى جـ 1 ص 132 وما بعدها طبع مطبعة عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر.
(2)
انظر كتاب كشاف القناع على متن الإقناع لأبى منصور بن إدريس الحنبلى وبهامشه منتهى الإرادات للعالم الإمام الشيخ منصور بن يونس البهوتى جـ 1 ص 393 وما بعدهما طبع مطابع المطبعة العامرة الشرفية بمصر سنة 1391 هـ.
(3)
المرجع السابق جـ 1 ص 314 الطبعة السابقة، وانظر الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل لأبى النجا شرف الدين موسى الحجاوى المقدسى جـ 1 ص 170 وما بعدها طبع المطبعة الأزهرية بمصر سنة 1351 هـ.
بدليل رد جابر وجبارا إلى ورائه مع صحة صلاتهما عن جانبيه. وإذا وقف المأموم عن يسار الإمام سواء أحرم أم لا سن للإمام أن يديره من ورائه إلى يمينه ولم تبطل تحريمته وإن وقف مأموم عن يمين الإمام ووقف آخر عن يساره أخرهما خلفه فإن شق عليه تأخيرهما أو لم يمكن تأخيرهما تقدم الإمام عنهما ليصيرا وراءه وصلى بينهما، والاعتبار في التقدم والمساواة بمؤخر القدم وهو العقب فإن لم يتقدم بمؤخر القدم لم يضر كطول المأموم عن الإِمام لأنه لم يتقدم برأسه في السجود فلو استوى الإمام والمأموم في العقب وتقدمت أصابع المأموم لم يؤثر في صلاته لعدم تقدم عقبه على عقب الإمام وإن تقدم عقب المأموم عقب الإمام مع تأخر أصابع المأموم عن أصابع الإمام لم تصح صلاة المأموم لتقدمه على إمامه اعتبارا بالعقب. ولو قدم
(1)
رجله وهى مرتفعة عن الأرض لم يضر لعدم اعتماده عليها وكذا لو تأخر عقب المأموم وإن تقدمت أصابعه فإن صلى قاعدا فالاعتبار بمحل القعود لأنه محل استقراره وهو الإلية فلو مد المأموم رجليه وقدمهما على الإمام لم يضر لعدم اعتماده عليها وإن أم رجل خنثى وقف الخنثى عن يمينه احتياطا لاحتمال أن يكون رجلا فإن كان معهما رجل وقف الرجل عن يمين الإمام والخنثى عن يساره أو عن يمين الرجل ولا يقفان خلفه لجواز أن يكون امرأة وإن كان معهم رجل آخر وقف الثلاثة خلفه صفا وإن أم رجل امرأة وقفت خلفه سواء كان معه رجل أو رجال أو لا وإن أم خنثى امرأة وقفت خلفه لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أخروهن من حيث أخرهن الله". ويكره لها الوقوف في صف الرجال فإن فعلت لم تبطل صلاة من يليها ولا صلاة من خلفها ولا صلاة من أمامها ولا صلاتها والأمر بتأخيرها لا يقتضى الفساد مع عدمه وإن أم رجل رجلا وصبيا استحب أن يقف الرجل عن يمينه لكمال الرجل ويقف الصبى عن يساره ولو أم رجلا وامرأة وقف الرجل عن يمينه والمرأة خلفه لحديث مسلم عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه فأقامنى عن يمينه وأقام المرأة خلفنا وإن اجتمع في الصلاة أنواع من رجال وصبيان ونساء وخناثى سن تقديم الرجال لما روى أبو داود عن عبد الرحمن بن غُنمْ قال: قال أبو مالك الأشعرى ألا أحدثكم بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فأقام الصف فصفف الرجال وصف الغلمان خلفهم، ويقدم الرجال الأحرار على الأرقاء الأفضل ثم الأفضل ثم يليهم الصبيان الأحرار ثم العبيد ثم يليهم الخناثى ثم النساء الأحرار ثم الإماء، ويجوز
(2)
أن يكون المأموم مساويا للإمام وأعلى منه كالذى على سطح المسجد أو على دكة عالية أو رف. وفى ذلك روى عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أنه صلى بصلاة الإمام على سطح المسجد ولأنهما في المسجد فصح أن يأتم به كالمتساويين ولا يعتبر اتصال الصفوف إذا كانا جميعا في المسجد. قال الآمدى: لا خلاف في المذهب أنه إذا كان في أقصى المسجد وليس بينه وبين الإمام ما يمنع المشاهدة أنه يصح اقتداؤه به وإن لم
(1)
كشاف القناع عن متن الاقناع لابن ادريس الحنبلى جـ 1 ص 315 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب المغنى للعلامة أبى محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة على مختصر الإمام أبى القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله أحمد الخرقى جـ 2 ص 38 وما بعدها وبأسفله الشرح الكبير على متن المقفع للإمام شمس الدين أبى الفرج عبد الرحمن أبى عمر محمد بن قدامة المقدسى الطبعة الأولى طبع مطابع المنار بمصر سنة 1345 هـ.
تتصل الصفوف وذلك لأن المسجد بنى للجماعة فكل ما جعل فيه فقد حصل في محل الجماعة لأن هذا لا تأثير له في المنع من الاقتداء بالإمام ولم يرد فيه نهى ولا هو في معنى ذلك فلم يمنع صحة الائتمام به كالفصل اليسير وإذا ثبت هذا فإن معنى اتصال الصفوف أن لا يكون بينهما بعد لم تجر العادة به ولا يمنع إمكان الاقتداء.
فإن كان
(1)
بين الإِمام والمأموم حائل يمنع رؤية الإمام أو ورؤية من وراءه فقال ابن حامد فيه روايتان: أحداهما لا يضع الائتمام به واختارة القاضي لأن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت لنساء كن يصلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام فإنكن دونه في حجاب ولأنه لا يمكنه الاقتداء به في الغالب. والرواية الثانية أنه يصح الائتمام به قال أحمد في رجل يصلى خارج المسجد يوم الجمعة وأبواب المسجد مغلقة أرجو أن لا يكون به بأس وسئل عن رجل يصلى يوم الجمعة وبينه وبين الإمام سترة قال إذا لم يقدر على غير ذلك تصح. وقال في المنبر: إذا قطع الصف لا يضر ولأنه أمكنه الاقتداء بالإِمام فيصح اقتداؤه به من غير مشاهدة كالأعمى ولأن المشاهدة تراد للعلم بحال الإمام والعلم يحصل بسماع التكبير فجرى مجرى الرؤية ولا فرق بين أن يكون المأموم في المسجد أو في غيره. واختار القاضي أنه يصح إذا كانا في المسجد ولا يصح في غيره لأن المسجد محل الجماعة وفى مظنة القرب ولا يصح في غيره لعدم هذا المعنى ولخبر عائشة أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها السابق، وكل موضع اعتبرنا فيه المشاهدة فإنه يكفيه مشاهدة من وراء الإِمام سواء شاهده من باب أمامه أو عن يمينه أو عن يساره أو شاهد طرف الصف الذي وراءه فإن ذلك يمكنه الاقتداء به وإن كانت المشاهدة تحصل في بعض أحوال الصلاة فالظاهر صحة الصلاة لما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلى من الليل وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام أناس يصلون بصلاته وأصبحوا يتحدثون بذلك فقام الليلة الثانية فقام معه أناس يصلون بصلاته. رواه البخارى والظاهر أنهم إنما كانوا يرونه في حال قيامه وإذا كان بين الإمام والمأموم طريق أو نهر تجرى فيه السفن أو كانا في سفينتين مفترقتين ففيه وجهان أحدهما لا يصح أن يأتم به وهو اختيار لأصحابنا لأن الطريق ليست محلا للصلاة، فأشبه ما يمنع الاتصال والثانى يصح وهو رأى ابن قدامه لأنه لا نص في منع ذلك ولا إجماع ولا هو في معنى ذلك لأنه لا يمنع الاقتداء فإن المؤثر في ذلك ما يمنع الرؤية أو سماع الصوت وليس هذا بواحد منهما، ولو كانت صلاة في جنازة أو جمعة أو عيد لم يؤثر ذلك فيها لأنها تصح في الطريق. وقد صلى أنس رضى الله تعالى عنه في موت حميد بن عبد الرحمن بصلاة الإِمام وبينهما طريق، والمشهور
(2)
في المذهب أنه يكره أن يكون الإِمام أعلى من المأمومين سواء أراد تعليمهم الصلاة أو لم يرد. وروى عن أحمد ما يدل على أنه لا يكره مستدلا بما روى عن سهل بن سعد قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام على المنبر فكبر وكبر
(1)
انظر كتاب المغنى لابن قدامة المقدسى والشرح الكبير عليه للإمام أبى عبد الله الخرقى جـ 2 ص 35 وما بعدها طبع مطبعة المنار بمصر سنة 1345 هـ الطبعة الأولى.
(2)
المرجع السابق لابن قدامة المقدسى جـ 2 ص 40 وما بعدها الطبعة السابقة.
الناس وراءه ثم ركع وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال: "أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتموا بى ولتعلموا صلاتى" متفق عليه. قال الإِمام أحمد فلا بأس أن يكون الإِمام أعلى من الناس بهذا الحديث ودليل المشهور في المذهب أن عمار بن ياسر كان بالمدائن فأقيمت الصلاة فتقدم عمار فقام على دكان والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ بيده فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة فلما فرغ من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم؟ فقال عمار: فلذلك اتبتعك حين أخذت على يدى وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أن رجلا تقدم يؤم بقوم على مكان فقام على دكان فنهاه ابن مسعود رضى الله تعالى عنه. وقال للإمام استو مع أصحابك ولأنه يحتاج أن يقتدى بإمامه فينظر ركوعه وسجوده فإذا كان أعلى منه احتاج أن يرفع بصره إليه ليشاهده وذلك منهى عنه في الصلاة. أما حديث سهل بن سعد فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان على الدرجة السفلى لئلا يحتاج إلى عمل كبير في الصعود والنزول فيكون ارتفاعا يسيرا فلا بأس به جمعا بين الأخبار ويحتمل أن يختص ذلك بالنبى صلى الله عليه وآله وسلم لأنه فعل شيئا ونهى عنه فيكون فعله له ونهيه لغيره ولذلك لا يستحب مثله لغير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتم الصلاة على المنبر فإن سجوده وجلوسه إنما كان على الأرض بخلاف ما اختلفنا فيه ولا بأس بالعلو اليسير لحديث سهل ولأن النهى معلل بما يفضى إليه من رفع البصر في الصلاة واليسير مثل درجة المنبر ونحوها. فإن صلى
(1)
الإِمام في مكان أعلى من المأمومين فقال ابن حامد: لا تصح صلاتهم وهو قول الأوزاعى لأن النهى يقتضى فساد المنهى عنه. وقال القاضي (أبو يعلى): لا تبطل لأن عمارا أتم صلاته ولو كانت فاسدة لاستأنفها ولأن النهى معلل بما يفضى إليه من رفع البصر في الصلاة وذلك لا يفسدها فسببه أولى، وإن كان مع الإِمام من هو مساوٍ له أو أعلى منه ومن هو أسفل منه اختصت الكراهة بمن هو أسفل منه لأن المعنى وجد فيهم دون غيرهم ويحتمل أن يتناول النهى الإِمام لكونه منهيا عن القيام في مكان أعلى من مقامهم فعلى هذا الاحتمال تبطل صلاة الجميع عند من أبطل الصلاة بارتكاب النهى، أما بالنسبة لصلاة الجنازة فلا خلاف في المذهب في أن السنة
(2)
أن يقوم الإمام في صلاة الجنازة حذاء وسط المرأة وعند صدر الرجل أو عند منكبيه وإن وقف في غير هذا الموضع خالف سنة الموقف وأجزأه. ودليل وقوف الإِمام كما ذكر ما روى سَمُرة قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها. متفق عليه. وروى عن أنس أنه صلى على رجل عند رأسه ثم صلى على امرأة فقام حيال وسط السرير فقال له العلاء بن زياد وهكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام على الجنازة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه؟ قال نعم. فلما فرغ قال احفظوا، والمرأة تخالف الرجل في الموقف فجاز أن تخالفه هاهنا لأن قيامه عند وسط المرأة ستر لها
(1)
المغنى لابن قدامة المقدسى والشرح الكبير عليه لأبى عبد الله الخرفى جـ 2 ص 41 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
المرجع السابق لابن قدامة المقدسى والشرح الكبير عليه جـ 2 ص 394 وما بعدها الطبعة السابقة.
من الناس فكان أولى فإن اجتمع جنائز رجال ونساء فعن أحمد روايتان إحداهما يسوى بين رءوسهم وهو اختيار القاضي لأنه يروى عن ابن عمر أنه كان يسوى بين رءوسهم. وروى سعيد بإسناده عن الشعبى أن أم كلثوم بنت على وابنها زيد بن عمر توفيا جميعا فأُخرجت جنازتاهما فصلى عليهما أمر المدينة فسوى بين رءوسهما وأرجلهما حين صلى عليهما. والرواية الثانية أن يقف الرجال صفا والنساء صفا ويجعل وسط النساء عند صدور الرجال وهذا اختيار أبى الخطاب ليكون موقف الإمام عند صدر الرجل ووسط المرأة. وقال سعيد: حدثنى خالد بن يزيد عن أبى مالك الدمشقى قال: حدثنى أبى قال: رأيت وائلة بن الأسقع يصلى على جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعت فيصف الرجال صفا ثم يصف النساء خلف الرجال رأس أول امرأة يضعها عند ركبة آخر الرجال ثم يصفهن ثم يقوم وسط الرجال وإذا كانوا رجالا كلهم صفهم ثم قام وسطهم. وما ذكرناه أولى لأنه مدلول عليه بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا حجة في قول أحد خالف فعله أو قوله.
مذهب الظاهرية:
جاء المحلى
(1)
: أن الإمام يتقدم المأمومين في الصلاة ولا يحل لأحد أن يصلى أمام الإِمام إلا لضرورة حبس فقط أو في سفينة حيث لا يمكن غير ذلك لما روى عبادة بن الوليد عن عبادة بن الصامت رضى الله تعالى عنه قال: أتينا جابر بن عبد الله فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ قال جابر فتوضأت من متوضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذهب جبار بن صخر يقضى حاجته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ بيدى فأدارنى حتى أقامنى عن يمينه ثم جاء جبار بن صخر فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بأيدينا جميعا حتى أقامنا خلفه فوجب أن يكون الاثنان فصاعدا خلف الإمام ولابد وأن يكون الواحد عن يمين الإمام ولابد لأن دفع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جابرا وجبارا إلى ما وراءه أمر منه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك لا يجوز تعديه وإداراته جابرا إلى يمينه كذلك فمن صلى بخلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا صلاة له، أو إن صلت
(2)
امرأة إلى جنب رجل لا تأتم به ولا بإمامه فذلك جائز فإن كان لا ينوى أن يؤمها ونوت هي ذلك فصلاته تامة وصلاتها باطالة فإن نوى أن يؤمها وهى قادرة على التأخر عنه فصلاتهما جميعا فاسدة فإن كانا جميعا مؤتمين بإمام واحد ولا تقدر هي ولا هو على مكان آخر فصلاتهما تامة وإن كانت قادرة على التأخر وهو غير قادر على تأخيرها فصلاتها باطلة وصلاته تامة فلو قدر على تأخيرها فلم يفعل فصلاتهما جميعا باطلة لما روى عن أنس بن مالك عن أبيه قال: صلى بى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبامرأة من أهلى فأقامنى عن يمينه والمرأة خلفنا فصح أن مقام المرأة والمرأتين والأكثر إنما هو خلف الرجال ولابد لا مع رجل واحد أصلا ولا أمامه وأن موقف الرجل والرجلين والأكثر إنما هو أمام
(1)
انظر كتاب المحلى لابن حزم الظاهرى الأندلسى جـ 4 ص 66 وما بعدها مسألة رقم 421 طبع مطابع مطبعة إدارة الطباعة المنيرية بمصر سنة 1351 هـ لصاحبها محمد منير أغا الدمشقى.
(2)
انظر المرجع السابق لأبى عبد الله سعد بن حزم الظاهرى الأندلسى جـ 4 ص 17، ص 18 مسألة رقم 387 الطبعة السابقة.
المرأة والمرأتين والأكثر ولابد فمن تعدى موضعه الذي أمره الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلى فيه وصلى حيث منعه الله كذلك فقد عصى الله عز وجل في عمله ذلك ولم يأت بالصلاة التي أمر الله بها والمعصية لا تجزئ عن الطاعة وأما من عجز عن المكان الذي أمر به ولم يقدر على غيره فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}
(1)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وجائز للإمام
(2)
أن يصلى في مكان أرفع من مكان جميع المأمومين وفى أخفض منه سواء في كل ذلك العامة والأكثر والأقل فإن أمكنه السجود فحسن وإلا فإذا أراد السجود فلينزل حتى يسجد حيث يقدر ثم يرجع إلى مكانه لما روى أن سهل بن سعد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام على المنبر فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال يأيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بى ولتعلموا صلاتى. قال على: لا بيان أبين من هذا في جواز صلاة الإمام في مكان أرفع من مكان المأمومين، وإن كان قوم
(3)
في سفينة لا يمكنهم الخروج إلى البر إلا بمشقة أو بتضيعها فليصلوا فيها كما يقدرون بإمام وأذان وأمامة ولابد فإن عجزوا عن إقامة الصفوف وعن القيام لحركة وميل أو لكون بعضهم تحت السطح أو لترجع السفينة صلوا كما يقدرون وسواء كان بعضهم أو كلهم قدام الإمام أو معه أو خلفه إذا لم يقدروا على الأكثر، أما بالنسبة لمقام الإِمام في صلاة الجنازة فقد قال ابن حزم: يقف
(4)
الإِمام إذا صلى على الجنازة من الرجل قبالة رأسه ومن المرأة قبالة وسطها لما روى عن أبى غالب نافع قال: شهدت جنازة عبد الله بن عمير فصلى عليها أنس بن مالك وأنا خلفه فقام عند رأسه فكبر أربع تكبيرات ثم قالوا: يا أبا حمزة المرأة الأنصارية فقربوها وعليها نعش أخضر فقام عليها عند عجيزتها فصلى عليها نحو صلاته على الرجل فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلى على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعا ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم.
مذهب الزيدية:
جاء في شرح الأزهار
(5)
: يقف المؤتم أيمن إمامه غير متقدم عليه ولا متأخر عنه بكل القدمين فأما إذا تقدم أو تأخر عنه ببعض القدمين أو بأحدهما فلا تفسد الصلاة ولا يكون المؤتم الواحد غير منفصل عن إمامه وقد قدر الانفصال المفسد بأن يكون بينهما قدر ما يسع واحدًا فإن لم يقف المؤتم الواحد على هذه الصفة بل تقدم أو تأخر أو انفصل أكثر من قدر المعقد أو وقف
(1)
الآية رقم 119 من سورة الأنعام.
(2)
انظر المحلى لابن حزم الظاهرى الأندلسى جـ 4 ص 84، ص 85 مسألة رقم 441 طبع مطبعة إدارة الطباعة والمنيرية بمصر سنة 1351 هـ الطبعة الأولى.
(3)
المرجع السابق لابن حزم الأندلسى جـ 4 ص 185، وما بعدها مسألة رقم 481 الطبعة السابقة.
(4)
انظر كتاب المحلى لابن حزم الظاهرى الأندلسى جـ 5 ص 155 وما بعدها مسألة رقم 593 طبع مطبعة إدارة الطباعة المنيرية بمصر سنة 1351 هـ الطبعة الأولى.
(5)
انظر كتاب شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار لأبى الحسن عبد الله بن مفتاح وهوامشه جـ 1 ص 293، ص 294 وما بعدها طبع مطابع مطبعة حجازى بالقاهرة سنة 1357 هـ الطبعة الأولى.
على اليسار بطلت صلاته. وقال السيد أبو العباس الحسنى: لا تفسد بالتأخر. وفى حواشى الإِفادة للقاسم ويحيى والناصر يجوز أن يقف المأموم على يسار الإِمام من غير عذر. وروى مثله عن أبى طالب والحقينى أما إذا وقف المؤتم على يسار الإمام أو نحو ذلك لعذر فإن صلاته تصح حينئذ والعذر نحو أن لا يجد متسعا عن يمين الإمام أو يكون في المكان مانع من نجاسة أو غيرها، قال في الياقوتة
(1)
: فإن تعذر عليه الوقوف عن يمين الإِمام وقف عن يساره وقال في شرح أبى مضر يقف خلفه وأما إذا تقدم المؤتم على إمامه فإن صلاته مؤتما متقدما على إمامه لا تصح سواء تقدم لعذر أو لغير عذر لكن هل تفسد صلاة الإِمام لأنه وقف في غير موقفه أم لا فقيل إنها لا تفسد على الإِمام وهو ظاهر الشرح واللمع وقال السيد أبو العباس تفسد لأنه وقف في غير موقفه وقيل إن الأولى التفصيل وهو أنه إن ابتدأ الصلاة على هذه الصفة فسدت صلاته أما إذا تقدم عليه المؤتم في حال الصلاة فلا تفسد، ويقف الاثنان فصاعدا خلف الإمام وأقل التأخر أن يكون طرف أصابع الصف الآخر في أعقاب الصف الأول وهذا موافق للأصول عندهم إذ دون ذلك يكونون صفا واحدًا فتفسد بلا انفصال وقيل قدر ما يسع المصلى ويكون موضع سجوده خلف الصف الأول وهو الأصح ولا يكفى كون الاثنين من خلف الإمام بل لابد أن يكونا محاذيين له ولا يكونا يمينا ولا شمالا إلا لعذر نحو أن يكون المكان ضيقا أو كان
(2)
تقدم الاثنين صف حاذى الإمام مثل أن يتقدم الإمام ويصلى خلفه اثنان فصاعدا محاذين له ثم يأتى اثنان أو أكثر فيقفان خلف ذلك الصف في غير مقابلة الإِمام بل يمينا أو شمالا فإن ذلك يصح وقيل بل حكم هذا الصف حكم الصف الأول إذا لم يحاذى، ونبه صاحب الأزهار على أن حكم الاثنين فصاعدا بعد الإمام حكم الإمام وواحد معه في أنه لا يجوز انفصال أحدهما عن الآخر ولا يجوز تقدم أحدهما ولا تأخره بكل القدمين وكذا سائر في الصفوف وإذا وقف الإِمام في وسط الصف فذكر ابن أبي الفوارس وأبو جعفر أنها تصح. وقال المنصور بالله والشيخ عطية وعلى خليل عن المؤيد بالله أنها لا تصح. وهكذا لو وقفوا جميعا عن يمينه أو يساره لغير عذر أو وقفوا خلفه إلا أنه لا يسامته أحد بل على الميمنة أو على الميسر أدنى الميمنة والميسرة وخلفه خاليا فالخلاف والمختار أنه لا يصح إلا لعذر وقيل إنما وقفوا خلفه غير مسامتين فلعل ذلك لا يغير وإن كره والمختار أنها لا تصح فلو كان
(3)
خلف الإِمام صف ثم جاء صف آخر وقفوا في أحد الجانبين غير مسامتين للصف الأول فقيل هو على الخلاف المتقدم وقيل بل هذا إجماع بصحة الصلاة وإن كرهت وإذا صلى في الحرم حولى الكعبة حلقة فظاهر كلام الهادى عليه السلام أنها لا تجوز إلا لمن خلفه كسائر المساجد وهو المختار. وقال الناصر أنها تجوز مطلقا وقيل إنها تجوز بشرط أن لا يكون المأموم أقرب إلى جدار الكعبة من الإمام. أما لو صلوا في جوف الكعبة فظاهر المذهب أنه لا فرق بين ذلك
(1)
المرجع السابق لأبى الحسن عبد الله بن مفتاح جـ 1 ص 295 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار لأبى الحسن عبد الله بن مفتاح وهوامشه جـ 1 ص 296 وما بعدها طبع مطبعة حجازى بالقاهرة سنة 1357 هـ الطبعة الأولى.
(3)
المرجع السابق جـ 1 ص 297 وما بعدها وهامشه الطبعة السابقة.
المكان وغيره في الاصطفاف. وفى الزوائد عن الناصر والقاسمية أنها تصح إذا لم يكن ظهر المؤتم إلى وجه الإمام ولا يضر ارتفاع المؤتم على إمامه قدر قامة وكذا إذا كان الإمام في مكان مرتفع على المؤتم قدر قامة ولا تفسد الصلاة بذلك وكذا لا يضر قدر القامة فما دونها بعدا بين الإمام والمأموم فلا يضر البعد في المسجد إذا كانوا يعرفون ما يفعله الإمام أما برؤيته أو سماع صوته لا صوت غيره من الصفوف الأولى وكذا لو كان قدر القامة حائلا بين الإمام والمأموم في التأخر فإن ذلك لا يضر. أما لو حال بينهما في الاصطفاف فعلى الخلاف في توسط السارية فقيل توسط السارية يفسد وقيل لا يفسد إذا كان قدر ما يسع واحدا وهو المختار، ولا يضر البعد من الإمام ولا الارتفاع ولا الانخفاض ولا الحائل ولو كان فوق القامة في حالين لا غير أحدهما
(1)
أن يكون ذلك البعد أو الارتفاع أو الانخفاض أو الحائل واقعا في المسجد فإن كان في المسجد لم تفسد الصلاة والحال الثاني: إذا لم يكن ذلك في المسجد فإنه يعفى عن فوق القامة في ارتفاع المؤتم على الإمام. أما لو كان المرتفع هو الإِمام فإنها تفسد سواء كان ذلك في المسجد أم في غيره فإنه إذا ارتفع فوق القامة فسدت على المؤتم والفرق في الحالين أنه إذا ارتفع الإمام فوق القامة كان المؤتمون غير مواجهين بخلاف ما إذا كان المرتفع هو المؤتم فإنه متوجه إلى الإمام ولو كثر ارتفاعا وقال السيد أبو العباس الحسنى وظاهر قول المنتخب أنه لا فرق بين ارتفاع المؤتم أو الإمام فوق القامة فإن ذلك تبطل به الصلاة ويقدم من صفوف الجماعة صف الرجال ثم إذا اتفق خناثى ونساء قدم الخناثى على النساء إذا كانت الخنوثة ملتبسة ثم بعد الخناثى النساء وإن اتفق صبيان مع البالغين فالمسنون أن يلى كلا من الصفوف صبيانه فيلى الرجال الأولاد وبعدهم الخناثى الكبار ثم الخناثى الصغار ثم النساء ثم البنات الصغار وهذا الترتيب في الصبيان مسنون وفى الكبار واجب، وفى البحر الزخار
(2)
: يندب ارتفاع الإِمام على نشز (مكان مرتفع) إن قصد تعليم المأمومين كفعله صلى الله عليه وسلم الوارد في خبر سهل وهو عن سهل بن سعد قال: أرسل رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم إلى امرأة انظرى غلامك النجار يعمل في أعوادا أكلم الناس عليها فعمل هذه الثلاث درجات ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضعت هذا الموضع فهى من طرفاء الغابة ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر فركع فركع الناس خلفه ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال: "يأيها الناس إنما فعلت ذلك لتأتموا بى ولتعلموا صلاتى" أخرجه. مسلم وأبو داود والنسائى وأخرج البخارى نحوه. ويكره ارتفاع الإمام على نشز إذا كان لغير إعلان لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يصلى إمام القوم على أنشز مما هم عليه" وحين أم حذيفة الناس بالمدائن
(1)
شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار جـ 1 ص 298 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار للإمام المهدى لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى ومعه كتاب جواهر الأخبار والآثار المستخرجة من لجة البحر الزخار للعلامة المحقق محمد بن يحيى بن بهران الصفدى جـ 1 ص 324، ص 325 وما بعدها طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية سنة 1368 هـ، سنة 1949 م الطبعة الأولى مكتبة الخانجى بمصر.
على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجذبه فلما فرغ من صلاته قال ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال تذكرت حين جذبتنى. أخرجه أبو داود. أما بالنسبة لصلاة الجنازة فقد جاء في شرح الأزهار
(1)
أن الإمام يستقبل حال صلاته على الجنازة سورة الرجل أي وسطه وهذا دليل على سبيل الندب وقيل وجوبا وهو ظاهر الأزهار لفعل على عليه السلام ويكون رأس الميت عن يمين الإمام ورجلاه عن يساره وإن عكس جاز ويستقبل ندبا ثدى المرأة والمراد حذاء الصدر منها وإذا حضرت جنائز فإن كانوا جنسا واحدًا متساوين في الفضل رتبها كيف شاء وإن كانوا أجناسا أو مختلفين في الفضل فإن صفوفهم ترتب ويليه الأفضل ندبا فالأفضل فتقدم جنائز الرجال الأحرار مما يلى الإمام ثم جنائز الصبيان ثم جنائز العبيد ثم جنائز النساء. ذكر ذلك الهادى عليه السلام في الأحكام وصححه السادة. وقال في المنتخب تقدم جنائز النساء على جنائز العبيد. قال المهدى عليه السلام: والصحيح الأول وهذا إذا وردوا معا وإلا قدم الأول فالأول.
مذهب الإمامية:
جاء في العروة الوثقى والمستمسك
(2)
: أنه لا يجوز أن يكون بين الإمام والمأموم (إذا كان رجلا) حائل يمنع عن مشاهدته لصحيح زرارة عن أبى جعفر عليه السلام المروى في الكافى إن صلى قوم بينهم وبين الإمام ما لا يتخطى فليس ذلك الإمام لهم بإمام وأى صف كان أهله يصلون بصلاة إمام بينهم وبين الصف الذي يتقدمهم قدر ما لا يتخطى فليس تلك لهم بصلاة. فإن كان بينهم سترة أو جدار فليست تلك لهم بصلاة إلا من كان من حيال الباب. وتبطل الصلاة بوجود الحائل ولو في بعض أحوال الصلاة من قيام أو قعود أو ركوع أو سجود من غير فرق في الحائل بين كونه جدارا أو غيره ولو شخص إنسان لم يكون مأموما. أما إن كان المأموم امرأة فلا بأس بالحائل بينها وبين الإِمام أو بينها وبين غيره من المأمومين مع كون الإِمام رجلا بشرط أن تتمكن من المتابعة بأن تكون عالمة بأحوال الإمام من القيام والركوع والسجود ونحوها مع أن الأحوط فيها عدم الحائل لما روى في موثق عمار سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يصلى بالقوم وخلفه دار فيها نساء هل يجوز لهم أن يصلين خلفه قال نعم إن كان الإمام أسفل منهن وبينهن وبينه حائطا أو طريقا فقال عليه السلام لا بأس وإذا كان الإِمام امرأة فالحكم كما في الرجل وكذا لا يجوز أن يكون بين بعض المأمومين والبعض الآخر الواسطة في الاتصال بالإِمام حائل. ولا بأس
(3)
بالحائل القصير الذي لا يمنع من المشاهدة في أحوال الصلاة وإن كان مانعا منها حال السجود كمقدار الشبر بل أزيد أيضا. نعم إذا كان مانعا حال الجلوس ففيه إشكال لا يترك معه الاحتياط، وإذا
(4)
كان
(1)
انظر كتاب شرح الأزهار وهامشه لأبى الحسن عبد الله بن مفتاح جـ 1 ص 435 وما بعدها، ص 436 الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 272 وما بعدها طبع مطبعة دار الكتب الإسلامية بطهران سنة 1388 هـ الطبعة الثانية، وانظر كتاب مستمسك العروة الوثقى للفقيه السيد محسن الطباطبائى الحكيم جـ 7 ص 179 وما بعدها طبع مطابع النجف الأشرف سنة 1378 هـ، سنة 1959 م الطبعة الثانية.
(3)
مستمسك العروة الوثقى جـ 7 ص 191 وما بعدها مسألة رقم 1 الطبعة السابقة والعروة الوثقى جـ 1 ص 273 وما بعدها الطبعة السابقة.
(4)
مستمسك العروة الوثقى جـ 7 ص 191 مسألة رقم 2 الطبعة السابقة.
الحائل مما يتحقق معه المشاهدة حال الركوع لثقب في وسطه مثلا أو حال القيام لثقب في أعلاه أو حال الهوى إلى السجود لثقب في أسفله فالأحوط الأقوى فيه عدم الجواز وكذا لو كان في الجمع لصدق الحائل معه، وإذا كان
(1)
الحائل زجاجيا يحكى من وراءه فالأقوى عدم جوازه لصدق اسم الحائل عليه وعن كشف الغطاء جوازه لتحقق المشاهدة فيه المعتبر عدمها في ظاهر النص وصريح الفتوى، ولا بأس
(2)
بالظلمة والغبار ونحوهما ولا تعد من الحائل وكذا النهر والطريق إذا لم يكن فيهما يعد ممنوع في الجماعة، والشباك
(3)
لا يعد من الحائل وإن كان الأحوط الاجتناب، ولا يقدح
(4)
حيلولة المأمومين بعضهم لبعض وإن كان أهل الصف المتقدم الحائل لم يدخلوا في الصلاة إذا كانوا متهيئين لهما، ولا يقدح
(5)
عدم مشاهدة بعض المأمومين للإمام إذا كان ذلك بسبب حيلولة بعض المأمومين ولو كان الإمام في محراب داخل في جدار ونحوه فلا يصح اقتداء من على اليمين أو اليسار من يحول الحائط بينه وبين الإمام ويصح اقتداء من يكون مقابلا للباب لعدم الحائل بالنسبة إليه بل وكذا من على جانبيه ممن لا يرى الإِمام لكن مع اتصال الصف على الأقوى وإن كان الأحوط العدم وكذا
(6)
الحال إذا زادت الصفوف إلى باب المسجد فأقتدى من في خارج المسجد مقابلا للباب ووقف الصف من جانبيه فإن الأقوى صحة صلاة الجميع وإن كان الأحوط العدم بالنسبة إلى الجانبين، ولا يصح
(7)
اقتداء من بين الاسطوانات
(8)
مع وجود الحائل بينه وبين من تقدمه إلا إذا كان متصلا بمن لم تحل الاسطوانة بينهم كما أنه يصح إذا لم يتصل بمن لا حائل له كما أنه يصح إذا لم يتصل بمن لا حائل له لكن لم يكن بينه وبين من تقدمه حائل مانع. ولو تجدد
(9)
الحائل في الأثناء فالأقوى بطلان الجماعة ويصير منفردا. ولو دخل
(10)
في الصلاة مع وجود الحائل جاهلا به لعمى أو نحوه لم تصح جماعته فإن التفت قبل أن يعمل ما ينافى صلاة المنفرد أتم منفردا وإلا بطلت. ولا بأس
(11)
بالحائل غير المستقر كمرور شخص من إنسان أو حيوان أو غير ذلك نعم إذا اتصلت المارة لا يجوز وإن كانوا غير متقدمين لاستقرار المانع حينئذ. ولو شك
(12)
في حدوث الحائل في الأثناء بنى على عدمه وكذا لو شك قبل الدخول في الصلاة في حدوثه بعد سبق عدمه وأما لو شك في وجوده وعدمه مع عدم سبق العدم فالظاهر عدم جواز الدخول إلا مع الاطمئنان بعدمه. وإذا كان
(13)
الحائل مما لا يمنع عن المشاهدة حال القيام ولكن يمنع
(1)
المرجع السابق للسيد محسن الطباطبانى الحكيم جـ 7 ص 191 مسألة رقم 3 الطبعة السابقة.
(2)
المرجع السابق جـ 7 ص 193 مسألة رقم 5 الطبعة السابقة.
(3)
مستمسك العروة الوثقى جـ 7 ص 194 مسألة رقم 6 الطبعة السابقة.
(4)
المرجع السابق جـ 7 ص 194 مسألة رقم 7 الطبعة السابقة.
(5)
مستمسك العروة الوثقى جـ 7 ص 197 وما بعدها.
(6)
المرجع السابق جـ 7 ص 198 مسألة رقم 9 الطبعة السابقة.
(7)
الاسطوانة السارية والعمود.
(8)
مستمسك العروة الوثقى جـ 7 ص 198 مسألة رقم 10.
(9)
المرجع السابق جـ 7 ص 198 مسألة رقم 11 الطبعة السابقة.
(10)
المرجع السابق جـ 7 ص 199 مسألة رقم 12 الطبعة السابقة.
(11)
المرجع السابق جـ 7 ص 13 الطبعة السابقة.
(12)
المرجع السابق جـ 7 ص 199 مسألة رقم 14 الطبعة السابقة.
(13)
مسألة رقم 20.
عنها حال الركوع أو حال الجلوس والمفروض زواله حال الركوع أو الجلوس فهل يجوز معه الدخول في الصلاة؟ فيه وجهان والأحوط كونه مانعا من الأولى وكذا العكس لصدق وجود الحائل بينه وبين الإمام. وإذا تمت
(1)
صلاة الصف المتقدم وكانوا جالسين في مكانهم أشكل بالنسبة إلى الصف المتأخر لكونهم حينئذ حائلين غير مصلين. نعم إذا قاموا بعد الإتمام بلا فصل ودخلوا مع الإمام في صلاة أخرى فلا يبعد بقاء قدوة المتأخرين والثوب
(2)
الرقيق الذي يرى الشيخ من وراءه حائل لا يجوز معه الاقتداء. وإذا كان
(3)
أهل الصفوف اللاحقة غير الصف الأول متفرقين بأن كان بين بعضهم مع البعض فصل أزيد من الخطوة التي تملأ الفرج فإن لم يكن قدامهم من ليلى بينهم وبينه البعد المانع ولم يكن إلى جانبهم أيضا متصلا بهم من ليس بينه وبين من تقدمه البعد المانع لم يصح اقتداؤهم وإلا صح للاكتفاء بالقرب من إحدى الجهات ولو يتوسط المأمومين. وأما الصف الأول فلابد فيه من عدم الفصل بين أهله ومع الفصل لا يصح اقتداء من بعد عن الإمام أو عن المأموم من طرف الإمام بالبعد المانع، ولو تجدد
(4)
البعد في أثناء الصلاة بطلت الجماعة وصار منفردا وإن لم يلتفت وبقى على نية الاقتداء فإن أتى بما ينافى صلاة المنفرد من زيادة ركوع مثلا للمتابعة أو نحو ذلك بطلت صلاته وإلا صحت وإذا انتهت صلاة الصف المتقدم من جهة كونهم مقصرين أو عدلوا إلى الأنفراد فالأقوى بطلان اقتداء المتأخر للبعد إلا إذا عاد المتقدم إلى الجماعة بلا فصل. وإذا علم
(5)
بطلان صلاة الصف المتقدم تبطل جماعة المتأخر من جهة الفصل أو الحيلولة وإن كانوا غير ملتفتين للبطلان نعم من الجهل بحالهم تحمل على الصحة. ولا يضر كما لا يضر فصلهم إذا كانت صلاتهم صحيحة بحسب تقليدهم وإن كانت باطلة بحسب تقليد الصف المتأخر ولا يضر
(6)
الفصل بالصبى المميز ما لم يعلم بطلان صلاته وإذا شك في حدوث البعد في الأثناء بنى على عدمه وإن شك في تحققه من الأول وجب إحراز عدمه إلا أن يكون مسبوقا بالقرب كما إذا كان قريبا من الإمام الذي يريد أن يأتم به فشك في أنه تقدم عن مكانه أم لا، ولا يجوز
(7)
أن يكون موقف الإمام أعلى من موقف المأمومين علوا معتدا به رأسيا كالأبنية ونحوها لا انحداريا على الأصح لموثق عمار عن الصادق عليه السلام عن الرجل يصلى بقوم وهم في موضع أسفل من موضعه الذي يصلى فيه فقال عليه السلام إن كان الإِمام على شبه الدكان أو على موضع أرفع من موضعهم لم تجز صلاتهم ثم لا فرق
(8)
بين المأموم الأعمى والبصير والرجل والمرأة في عدم جواز ارتفاع الإِمام. وقال أبو على: لا يكون الإمام أعلى في مقامه بحيث لا يرى المأموم فعله إلا أن يكون المأمومون أضراء فإن فرض البصراء الاقتداء بالنظر وفرض الأضراء الاقتداء بالسمع، ولا بأس
(9)
بالارتفاع غير المعتد به
(1)
مستسمك العروة الوثقى جـ 7 ص 199 مسألة رقم 15 الطبعة السابقة.
(2)
المرجع السابق جـ 7 ص 200 مسألة رقم 16 الطبعة السابقة.
(3)
المرجع السابق مسألة رقم 17 الطبعة السابقة.
(4)
المرجع السابق جـ 7 ص 201 مسألة رقم 18 الطبعة السابقة.
(5)
مسألة رقم 20.
(6)
مسألة رقم 21.
(7)
المرجع السابق جـ 7 ص 202 مسألة رقم 22.
(8)
مستمسك العروة الوثقى جـ 7 ص 181 وما بعدها الطبعة السابقة.
(9)
انظر المرجع السابق للسيد محسن الطباطبائى الحكيم جـ 7 ص 183 وما بعدها الطبعة السابقة.
مما هو دون الشبر ولا بالعلو الانحدارى حيث يكون العلو فيه تدريجيا على وجه لا ينافى صدق انبساط الأرض. وأما إذا كان مثل الجبل فالأحوط ملاحظة قدر الشبر فيه. ولا بأس
(1)
بعلو المأموم على الإمام ولو بكثير لما في موثق عمار سئل أبو عبد الله عليه السلام فإن قام الإِمام أسفل من موضع من يصلى خلفه؟ قال عليه السلام: لا بأس. ولو كانت الرجل فوق بيت أو غير ذلك دكانا كان أو غيره وكان الإمام يصلى على الأرض أسفل منه جاز للرجل أن يصلى خلفه ويقتدى بصلاته وإن كان أرفع منه بشئ كثير ولا يجوز أن يتباعد المأموم عن الإمام بما يكون كثيرا في العادة إلا إذا كان في صف متصل بعضه ببعض حتى ينتهى إلى القريب أو كان في صف بينه وبين الصف المتقدم بعد المذكور وهكذا حتى ينتهى إلى القريب والأحوط أن لا يكون بين موقف الإمام ومسجد المأموم أو بين موقف السابق ومسجد اللاحق أزيد من مقدار الخطوة التي تملأ الفرج وأحوط من ذلك مراعاة الخطوة المتعارفة والأفضل بل الأحوط أن لا يكون بين الموقفين أزيد من مقدار جسد الإِنسان إذا سجد بأن يكون مسجد اللاحق وراء موقف السابق بلا فصل ولا يجوز
(2)
أن يتقدم المأموم على الإمام في الموقف فلو تقدم في الابتداء أو الأثناء بطلت صلاته إن بقى على نية الائتمام والأحوط تأخره عنه وإن كان الأقوى جواز المساواة ولا بأس بعد تقدم الإمام في الموقف أو المساواة معه بزيادة المأموم على الإمام في ركوعه وسجوده لطول قامته ونحوه وإن كان الأحوط مراعاة عدم التقدم في جميع الأحوال حتى في الركوع والسجود والجلوس والمراد في التقدم والتساوى هو نظر العرف وإذا تقدم
(3)
المأموم على الإمام في أثناء الصلاة سهوا أو جهلا أو اضطرارا صار منفردا ولا يجوز له تجديد الاقتداء. نعم لو عاد بلا فصل لا يبعد بقاء قدوته ويجوز
(4)
على الأقوى الجماعة بالاستدارة حول الكعبة والأحوط عدم تقدم المأموم على الإِمام بحسب الدائرة وأحوط
(5)
منه عدم أقربيته مع ذلك إلى الكعبة وأحوط من ذلك تقدم الإمام بحسب الدائرة وأقربيته مع ذلك إلى الكعبة، ويستحب
(6)
أن يقف المأموم عن يمين الإمام إن كان رجلا واحد وخلفه إن كانوا أكثر وعن المنتهى: لو وقف الواحد عن يساره فعل مكروها ولو كان المأموم امرأة واحدة وقفت خلف الإمام على الجانب الأيمن بحيث يكون سجودها محاذيا لركبة الإمام أو قدمه ولو كن أزيد وقفن خلفه ولو كان رجلا واحدًا وامرأة واحدة أو أكثر وقف الرجل عن يمين الإمام والمرأة خلفه ولو كان رجالا ونساءا اصطفوا خلفه واصطفت النساء خلفهم لرواية الحلبى عن الصادق عن الرجل يؤم النساء قال: نعم وإن كان معهن غلمان فأقيموهم بين أيديهن وإن كانوا عبيدا، هذا إذا كان الإمام رجلا وأما في جماعة النساء فالأولى وقوفهن صفا واحدًا أو أزيد من غير أن تبرز أمامهن من
(1)
المرجع السابق جـ 7 ص 184 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب مستمسك العروة الوثقى جـ 7 ص 188 الطبعة السابقة.
(3)
المرجع السابق جـ 7 ص 203 مسألة رقم 24 الطبعة السابقة.
(4)
انظر كتاب مستسمك العروة الوثقى جـ 7 ص 203 مسألة رقم 25 الطبعة السابقة.
(5)
المرجع السابق جـ 7 ص 204 وما بعدها الطبعة السابقة.
(6)
انظر كتاب مستمسك العروة الوثقى جـ 7 ص 286، ص 287 وما بعدهما الطبعة السابقة.
بينهم، ويستحب
(1)
أن يقف الإِمام في وسط الصف وأن يكون في الصف الأول أهل الفضل ممن له مزية في العلم والكمال والعقل والورع والتقوى وأن يكون يمينه لأفضلهم في الصف الأول فإنه أفضل الصفوف ويستحب الوقوف في القرب من الإِمام، أما بالنسبة لصلاة الجنازة فقد جاء في العروة الوثقى
(2)
: يستحب إتيان صلاة الجنازة جماعة والأحوط بل الأظهر اعتبار اجتماع شرائط الإمامة فيه من البلوغ والعقل والإيمان والعدالة وكونه رجلا للرجال وأن لا يكون ولد زنا بل الأحوط اجتماع شرائط الجماعة أيضا من عدم الحائل وعدم علو مكان الإمام وعدم كونه جالسا مع قيام المأمومين وعدم البعد بين المأمومين والامام وبعضهم مع بعض ويجوز أن تؤم المرأة جماعة النساء والأولى بل الأحوط أن تقوم في صفهن ولا تتقدم عليهن ويجوز صلاة العراة على الميت فرادى وجماعة ومع الجماعة يقوم الإمام في الصف كما في جماعة النساء فلا يتقدم ولا يبرز ويجب عليهم ستر عورتهم ولو بأيديهم وإذا لم يمكن صلوا جلوسا. وفى الجماعة من غير النساء والعراة الأولى أن يتقدم الإِمام ويكون المأمومون خلفه بل يكره وقوفهم إلى جانبه ولو كان المأموم واحدًا وإذا اقتدت المرأة بالرجل يستحب أن تقف خلفه وإذا كان هناك صفوف الرجال وقفت خلفهم. ويشترط أن يوضع الميت مستلقيا. ويشترط
(3)
أن يكون رأس الميت إلى يمين المصلى ورجله إلى يساره وأن يكون المصلى خلفه محاذيا له لا أن يكون في أحد طرفيه إلا إذا طال صف المأمومين وأن لا يكون بينهما حائل كستر أو جدار وأن لا يكون بينهما بعد مفرط لا يصدق الوقوف عنده إلا في المأموم مع اتصال الصف وأن لا يكون أحدهما أعلى من الآخر علوا مفرطا، وجاء في موضع آخر: ويستحب
(4)
أن يقف الإمام والمنفرد عند وسط الرجل وعند صدر المرأة ويتحيز في الخنثى ولو شرك بين الذكر والأنثى في الصلاة جعل وسط الرجل في قبال صدر المرأة ليدرك الاستحباب بالنسبة إلى كل منهما.
مذهب الإباضية:
جاء في الإيضاح
(5)
: أجمعوا أن من سنة الواحد أن يقوم عن يمين الإِمام والدليل ما روى من طريق ابن عباس رضى الله تعالى عنه أنه أقام عن يسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقامه عن يمينه. رواه أحمد والنسائى وكذلك حديثه حين بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالته قال: "فقام صلى الله عليه وآله وسلم إلى قن معلقا فتوضأ منها وأحسن وضوءه ثم قام يصلى قال فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع صلى الله عليه وآله وسلم يده اليمنى على رأسى وأخذ بأذنى يفتلها" رواه الدارقطنى والبيهقى يدل على هذا وإن قام على يساره أو خلفه أعاد صلاته فهذه
(1)
المرجع السابق جـ 7 ص 289 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائى الحكيم جـ 1 ص 135، ص 136 وما بعدها طبع مطابع مطبعة دار الكتب الإسلامية بطهران سنة 1388 هـ الطبعة الثانية.
(3)
انظر المرجع السابق للسيد محمد كاظم الطباطبائى الحكيم جـ 1 ص 137، ص 138 وما بعدهما الطبعة السابقة.
(4)
المرجع السابق جـ 1 ص 140 وما بعدها الطبعة السابقة.
(5)
انظر كتاب الإيضاح للعالم العلامة الشيخ عامر بن على الشماخى جـ 1 ص 546 وما بعدها طبع مطبعة طرابلس سنة 1390 هـ، سنة 1970 م الطبعة الثانية، وانظر كتاب شرح النيل وشفاء العليل لمحمد يوسف أطفيش جـ 1 ص 441، ص 442 وما بعدهم طبع مطابع صاحب الامتياز محمد بن يوسف البارونى وشركاه بالمطبعة الأدبية سنة 1343 هـ الطبعة الأولى.
الأحاديث وإن كان إنما يصلى برجلين فإنهما يصطفان خلف الإِمام وكذلك إن كان يصلى برجل ثم دخل عليهما ثالت فإنه إن كان في المسجد فليدفع هذا الداخل الإِمام إلى المحراب وإن كان خارجا من المسجد فليجر إلى صاحبه. وإن تأخر أيضا الرجل إلى صاحبه من غير أن يجر، فلا بأس والدليل ما روى أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى وعن يمينه رجل يصلى بصلاته ثم دخل عليهما جابرا بن عبد الله فقام عن يسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأدراهما إلى خلفه وهو في الصلاة. رواه مسلم وأبو داود. وكذلك على هذا الحال إن تقدم الإِمام من غير أن يدفعه فلا بأس بصلاتهم وإن اصطف الرجلان عن يمين الإمام فلا بأس أن يسبقهما بقليل لأنه من سنة الإمام أن يتقدم عن المأموم والله أعلم. وإن صلى الرجلان عن يسار الإمام أعادا صلاتهما لأنهما كالجانب الأيمن الذي هو أفضل من الجانب الأيسر لحديث ابن عباس المتقدم الذي قام عن يسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقامه عن يمينه. وقال بعض لا إعادة عليهما إن صليا على جانب الإمام الأيسر ولعلهم ذهبوا إلى أن الواجب أن يصلوا خلفه فقط والله أعلم. وأما إن كانوا ثلاثة أو أربعة فحاذوه عن يمينه فأحرم عليهم على هذا الحال فإنهم يعيدون صلاتهم. وإن دخل رجل على الإِمام وهو يصلى بقوم ولم يجد موضعا في الصف يقف فيه فإنه يجر رجلا آخر ويصطف معه. وأما المرأة فإنما تقف خلف الإِمام
(1)
ما يقابل كتفه الأيسر ويكون بينهما وبين الإمام مقدار ما يصلى فيه الصف وذلك إذا كانت ذات محرم، وأما إن كانت أجنبية فلا يصلى بها وحدها لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "لا يخلو أحدكم بامرأة ليست معه بذات محرم فإن الشيطان ثالثهما" متفق عليه. وذلك منهما معصية. وقد روى: أن أم سليم صلت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحدها. رواه البخارى. وإن كانت ذات محرم منه وصلت إلى جانبه الأيسر فلا يجاوز سجودها منكبيه. وقال بعض لا نقض عليه ولو ساوى سجودها سجوده والله أعلم. وأنها إنما أنها تقوم خلف الإمام لأنه لا صف على النساء ولا عليهن جماعة والدليل ما روى من طريق أنس رضى الله تعالى عنه حين وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به هو والعجوز قال: فصففت أنا واليتيم والعجوز من ورائنا. رواه أحمد وأبو داود. وكذلك
(2)
ألا يصلى الرجل بالنساء إذا لم يكن غيرهن إلا إن كان فيهن ذات المحارم أو كان معهن رجل وإن صلى بهن على هذا الحال فلا بأس لحديث أم سليم ويجعل بينه وبينهم مقدار ما يصطف فيه الصف والله أعلم. وإذا
(3)
ارتفع الإمام عن المأمومين في مقامه بمقدار ذراع أعادوا صلاتهم إلا إن كان هنالك معه منهم صف وإن كان معه تمت صلاة الجميع والدليل على هذا ما روى أن حذيفة صلى بقوم على دكان فجذبه سلمان وقال: أو ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك. رواه أبو داود، وإن ارتفع
(4)
بأقل من ذراع فلا إعادة عليهم وتحديد الارتفاع بالذراع استحسان وأما إن
(1)
انظر المرجع السابق للشيخ عامر بن على الشماخى جـ 1 ص 554، ص 555 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب الإيضاح للشيخ عامر بن على الشماخى جـ 1 ص 556 وما بعدها طبع مطبعة طرابلس سنة 1390 هـ، سنة 1970 م الطبعة الثانية.
(3)
المرجع السابق للشيخ عامر الشماخى جـ 1 ص 557 وما بعدها الطبعة السابقة.
(4)
انظر كتاب الإيضاح للشماخى جـ 1 ص 559 وما بعدها الطبعة السابقة.
كان القوم فوق وكان الإمام أسفل فلا بأس بصلاتهم ولو لم يكن معه أحد وقال بعض يحتاج إلى من يكون معه على كل حال سواء كان الإمام فوق أو كان أسفل أو خارجا أو داخلا لكى يصيب من يستخلف والله أعلم. وأما إذا كان الإمام في المسجد فلا بأس على من يصلى إليه من خارج المسجد والله أعلم. وإن حال بين القوم وبين إمامهم طريق شارع أو نهر جار أو مقبرة أو مذبلة أو مجزرة أو معاطن الإبل أو كان بينه وبينهم نجس فلا يفعلوا ذلك لأن هذه الأشياء تقطع على المصلى صلاته إذا كانت بينه وبين سترته وإن فعلوا فلا يعبدون صلاتهم وهذا على مذهب الذين لم يعتبروا ما يقطع على المصلى صلاته ما لم يسجد عليه ولا تصلى جماعتان صلاة واحدة في المسجد وذلك لأجل ما يدخل عليهم من الاختلاف في ذلك ألا ترى إلى قوله عليه السلام: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". متفق عليه. أو قال: "صلاة الجماعة مع الإمام" وإن فعلوا فليس عليهم إعادة وكذلك إن أحرم الإمام داخلا في المسجد ثم خرج بعذر فأتم الصلاة خارجا فلا تصلى بالجماعة تلك الصلاة في ذلك المسجد وإما إن أحرم الإمام بالناس خارجا فأتم الصلاة داخلا في المسجد بعذر فلا بأس بتلك الصلاة بالجماعة في ذلك المسجد وإنما ينظر في ذلك إلى موضع أحرم فيه الإِمام، أما بالنسبة لصلاة الجنازة فقد جاء في الإيضاح: من أراد
(1)
أن يصلى على الميت فإنه يستقبل من الذكر رأسه ومن المرأة صدرها وقال بعضهم بعكس هذا وعلى هذا إن صلت المرأة على الميت فإنها تستقبل خلاف ما يستقبل الرجل أعنى تستقبل الرأس في موضع يستقبل فيه الرجل الصدر والصدر في موضع يستقبل فيه الرأس وقال قوم يقوم حيال الصدر رجلا كان أو امرأة. وهذا القول دليله ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى على امرأة فقام نحو وسطها. رواه البيهقى وأبو داود والدارقطنى، والرجل والمرأة في ذلك سواء لأن حكمهما واحد إلا إن ثبت في ذلك فرق شرعى وقد روى أن الحسن البصرى لا يبالى أين قام من الرجل والمرأة والله أعلم.
حكم نية الإمامة والجهر أو السر وحكم تطويل الإمام في الصلاة انتظارا لمن يريد الاقتداء به وحكم ما يفعله بعد الصلاة:
مذهب الحنفية:
جاء في بدائع الصنائع
(2)
: لا يحتاج الإِمام إلى نية إمامة الرجال ويصح اقتداؤهم به بدون نية إمامتهم أما نية إمامة النساء فشرط الصحة اقتداؤهن به عند أبى حنيفة وصاحبيه وعند زفر ليس بشرط قياسا لإمامة النساء على إمامة الرجال وقال أبو حنيفة وصاحباه أنه لو صح اقتداء المرأة بالرجل فربما تحاذيه فتفسد صلاته فيلحقه الضرر من غير اختياره ولأنه مأمور بأداء الصلاة فلابد أن يكون متمكنا من صيانتها عن النواقض. ولو صح اقتداؤها به من غير نية لم يتمكن من الصيانة لأن المرأة تأتى فتقتدى به ثم تحاذيه فتفسد صلاته. وأما في الجمعة
(3)
والعيدين فأكثر المشايخ قالوا إن نية إمامتهن شرط فيهما كغيرهما من الصلاة. ومنهم من قال ليست بشرط لأنها لو شرطت للحقها الضرر لأنها لا تقدر على أداء الجمعة والعيدين وحدها ولا تجد إماما آخر تقتدى به والظاهر أنها
(1)
المرجع السابق جـ 1 ص 755، 756 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى جـ 1 ص 166 الطبعة السابقة.
(3)
المرجع السابق جـ 1 ص 128 الطبعة السابقة.
لا تتمكن من الوقوف بجانب الإِمام في هاتين الصلاتين لازدحام الناس فصح اقتداؤها لدفع الضرر عنها بخلاف سائر الصلوات، ويجب على الإِمام
(1)
مراعاة الجهر فيما يجهر فيه من الصلاة وهى صلاة الفجر والمغرب والعشاء في الأوليين منهما، وكذا في كل صلاة من شرطها الجماعة كالجمعة والعيدين والترويحات ويجب عليه المخافتة فيما يخافت فيه من الصلاة وهى الثالثة من المغرب والأخريان من العشاء وكذا جميع ركعات الظهر والعصر وإن كان بعرفة وإنما كان كذلك لأن القراءة ركن يتحمله الإِمام عن القوم فعلا فيجهر ليتأمل القوم ويتفكروا في ذلك فتحصل ثمرة القراءة وفائدتها للقوم فتصير قراءة الإمام قراءة لهم تقديرا كأنهم قرءوا وثمرة الجهر تفوت في صلاة النهار لأن الناس في الأغلب يحضرون الجماعات في خلال الكسب والتصرف والانتشار في الأرض فكانت قلوبهم متعلقة بذلك فيشغلهم ذلك عن حقيقة التأمل فلا يكون الجهر مفيدا بل يقع تسبيبا إلى الاثم بترك التأمل وهذا لا يجوز بخلاف صلاة الليل لأن الحضور إليها لا يكون في خلال الشغل وبخلاف الجمعة والعيدين لأنه يؤدى في الأحايين مرة على هيئة مخصوصة من الجمع العظيم وحضور السلطان وغير ذلك فيكون ذلك باعثا على إحضار القلب والتأمل ولأن القراءة من أركان الصلاة والأركان في الفرائض تؤدى على سبيل الشهرة دون الإِخفاء ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلوات كلها في الابتداء إلى أن قصد الكفار أن لا يسمعوا القرآن وكادوا يلغون فيه فخافت النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة في الظهر والعصر لأنهم كانوا مستعدين للأذى في هذين الوقتين ولهذا كان يجهر في الجمعة والعيدين لأنه أقامهما بالمدينة وما كان للكفار بالمدينة قوة الأذى. وقد بقيت هذه السنة بعد زوال هذا العذر كالرمل في الطواف ونحوه ولأنه واظب على المخافتة فيهما في عمره فكانت واجبة وكذلك واظب على الجهر فيما يجهر والمخافتة فيما يخافت وذلك دليل الوجوب، وإذا جهر الإِمام فيما يخافت أو خافت فيما يجهر فإن كان عامدا يكون مسيئا وإن كان ساهيا فعليه سجود السهو لأنه وجب عليه إسماع القوم فيما يجهر وإخفاء القراءة عنهم فيما يخافت وترك الواجب عمدا يوجب الإساءة وسهوا يوجب سجود السهو، وذكر في نوادر
(2)
أبى سليمان أنه إن جهر فيما يخافت فيه فعليه سجود السهو قل ذلك أو كثر وإن خافت فيما يجهر فإن كان في أكثر الفاتحة أو في ثلات آيات من غير الفاتحة فعليه السهو وإلا فلا وذلك لأن المخافتة فيما يخافت ألزم من الجهر فيما يجهر فإذا جهر فيما يخافت فقد تمكن النقصان في الصلاة بنفس الجهر فيجب جبره بالسجود فأما بنفس المخافتة فيما يجهر فلا يتمكن النقصان ما لم يكن مقدار ثلاث آيات أو أكثر، وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى التسوية بين الفصلين أنه إن تمكن التغيير في ثلاث آيات أو أكثر فعليه سجود السهو وإلا فلا وذلك لما روى عن أبى قتادة أن
(1)
بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى جـ 1 ص 160 وما بعدها الطبعة السابقة وانظر كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق لموفق الدين بن نجيم المصرى الأفريقى جـ 1 ص 355 وما بعدها طبع مطابع المطبعة العلمية بمصر سنة 1310 هـ الطبعة، الأولى وانظر كتاب رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار وحاشية ابن عابدين للشيخ محمد أمين الشهير بابن عابدين جـ 1 ص 497 وما بعدها طبع مطابع المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1324 هـ الطبعة الثالثة.
(2)
بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى جـ 1 ص 166 الطبعة السابقة.
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمعنا الآيه والآيتين أحيانا في الظهر والعصر وهذا جهر فيما يخافت فإذا ثبت فيه ثبت في المخافتة فيما يجهر لأنهما يستويان لما ورد الحديث مقدرا بآية أو آيتين ولم يرد أزيد من ذلك كانت الزيادة تركا للواجب فيوجب السهو. وروى الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى أنه إن تمكن التغيير في آية واحدة فعليه السجود وذلك بناء على أن فرض القراءة عند أبى حنيفة يتأذى بآية واحدة وإن كانت قصيرة فإذا غير صفة القراءة في هذا القدر تعلق به السهو وعندهما لا يتأدى فرض القراءة إلا بآية طويلة أو ثلاث آيات قصار فما لم يتمكن التغيير في هذا المقدار لا يجب السهو وروى عن أبى يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا جهر بحرف يسجد وذكر ابن عابدين
(1)
: أن جهر الإمام يكون برفع الصوت بحسب الجماعة التي تصلى فإن زاد على ذلك أساء، وفى الزاهدى عن أبى جعفر الطحاوى: لو زاد على الحاجة فهو أفضل إلا إذا أجهد نفسه أو آذى غيره، ولو ائتم به أحد بعد قراءة الفاتحة أو بعد قراءة بعضها سرا أعادها جهرا لأن الجهر فيما بقى صار واجبا بالاقتداء والجمع بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة شفيع ومفاده أنه لو ائتم به بعد قراءة بعض السورة أنه يعيد الفاتحة والسورة ولكن في آخر شرح المنية أنه إن ائتم به بعد الفاتحة يجهر بالسورة إن قصد الإمامة وإلا فلا يلزمه الجهر وهو قول آخر. وقد حكى القولين القهستانى حيث قال إن الإِمام لو خافت ببعض الفاتحة أو كلها أو المنفرد ثم اقتدى به رجل أعادها جهرا كما في الخلاصة وقيل لم يعد وجهر فيما بقى من بعض الفاتحة أو السورة كلها أو بعضها كما في المنية. وكذلك
(2)
يسر الإِمام في صلاته الثناء والتعوذ والتسمية لقول ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أربع يخفيهن الإِمام وهى التعوذ والتسمية وآمين والرابع التحميد والأربعة رواها ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعى وروى عن أبى وائل عن عبد الله أنه كان يخفى بسم الله الرحمن الرحيم والاستعاذة وربنا لك الحمد، وجاء في بدائع الصنائع
(3)
: أنه إذا فرغ الإمام من الصلاة فلا يخلو الحال من أن تكون تلك الصلاة صلاة لا تصلى بعدها سنة أو تكون صلاة تصلى بعدها سنة، فإن كانت صلاة لا تصلى بعدها سنة كالفجر والعصر فإن شاء الإمام قام وإن شاء قعد في مكانه يشتغل بالدعاء لأنه لا تطوع بعد هاتين الصلاتين فلا بأس بالقعود إلا أنه يكره المكث على هيئته مستقبل القبلة لما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة لا يمكث في مكانه إلا مقدار أن يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، وروى أن جلوس الإِمام في مصلاه بعد الفراغ من الصلاة مستقبل القبلة بدعة ولأن مكثه يوهم الداخل أنه في الصلاة فيقتدى به فيفسد اقتداؤه فكان المكث تعريضا لفساد اقتداء غيره به فلا يمكث ولكنه يستقبل القوم بوجهه إن شاء إن لم يكن بحذائه أحد يصلى
(1)
انظر رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار وحاشية ابن عابدين عليه جـ 1 ص 497 وما بعدها طبع مطابع المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1324 هـ الطبعة الأولى.
(2)
انظر كتاب فتح القدير على الهداية وشروحها وبهامشها شرح العناية على الهداية للإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيداسى السكندرى المعروف بابن الهمام جـ 1 ص 204 وما بعدها طبع المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1315 هـ الطبعة الأولى. وانظر كتاب حاشية ابن عابدين للشيخ محمد أمين الشهير بابن عابدين جـ 1 ص 444 وما بعدها الطبعة السابقة.
(3)
انظر كتاب بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى جـ 1 ص 159 وما بعدها الطبعة السابقة.
لما روى أن النبى - صلي الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من صلاة الفجر استقبل بوجهه أصحابه وقال: هل رأى أحدكم رؤيا كأنه كان يطلب رؤيا فيها بشرى بفتح مكة، فإن كان بحذائه أحد يصلى فلا يستقبل القوم بوجهه لأن استقبال الصورة، الصورة في الصلاة مكروه لما روى أن عمر رضى الله تعالى عنه رأى رجلا يصلى إلى وجه غيره فعلاهما بالدرة. وقال للمصلى أتستقبل الصورة وقال للآخر أتستقبل المصلى بوجهك. وإن شاء الإمام انحرف لأن بالانحراف يزول الاشتباه كما يزول بالاستقبال. ثم اختلف المشايخ في كيفية الانحراف، قال بعضهم: ينحرف إلى يمين القبلة تبركا بالتيامن وقال بعضهم ينحرف إلى اليسار ليكون يساره إلى اليمين. وقال بعضهم هو مخير إن شاء انحرف يمنة وإن شاء يسرة وهو الصحيح لأن ما هو المقصود من الانحراف وهو زوال الاشتباه يحصل بالأمرين جميعا، أما إن كانت صلاة بعدها سنة فإن الإمام يكره له المكث قاعدا وكراهة القعود مروية عن الصحابة رضى الله تعالى عنهم. وروى عن أبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما أنهما كانا إذا فرغا من الصلاة قاما كأنهما على الرضف (الحجارة المحماة) ولأن المكث يوجب اشتباه الأمر على الداخل فلا يمكث ولكن يقوم ويتنحى عن ذلك المكان ثم يتنفل لما روى عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيعجز أحدكم إذا فرغ من صلاته أن يتقدم أو يتأخر وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه كره للإمام أن يتنفل في المكان الذي أم فيه ولأن ذلك يؤدى إلى اشتباه الأمر على الداخل فينبغى أن يتنحى إزالة للاشتباه أو استكثارا من شهوده على ما روى أن مكان المصلى يشهد له يوم القيامة.
يسن
(1)
للإمام في الحضر أن يقرأ من طوال المفصل في الفجر والظهر وهى من الحجرات إلى آخر البروج ويقرأ من أوساطه في العصر والعشاء وهى من أول سورة الطارق إلى آخر لم يكن ويقرأ من قصاره في المغرب وقصاره هي باقى السور، ويكره
(2)
له تحريما تطويل الصلاة على القوم زائدا على قدر السنة في القراءة والأذكار سواء رضى القوم أو لا لإطلاق الأمر بالتخفيف وهو ما ورد في الصحيحين: إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، وقال الشيخ إسماعيل: إذا كان القوم محصورين ورضوا بالتطويل فلا كراهة. وتعليل الأمر بما ذكر يفيد ذلك، وفى الشرنبالالية أن الإمام يقرأ بقدر حال القوم مطلقا أي ولو دون القدر المسنون وظاهر حديث معاذ أن الإمام لا يزيد على صلاة أضعفهم مطلقا، وذكر ابن عابدين والكمال بن الهمام أن الإِمام لا ينقص عن القدر المسنون إلا لضرورة لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالمعوذتين في الفجر فلما فرغ قالوا له: أوجزت، قال صلى الله عليه وسلم: سمعت بكاء صبى فخشيت أن تفتن أمه، ولا ينقص عن القدر المسنون لضعف القوم لأن القدر المسنون لا يزيد على صلاة أضعفهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله مع علمه بأنه يقتدى به الضعيف والسقيم ولا يتركه إلا وقت الضرورة، وقراءة معاذ لما شكاه قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أفتان
(1)
الدر المختار شرح تنوير الأبصار على حاشية رد المحتار المعروفة بحاشية ابن عابدين جـ 1 ص 504 طبع المطبعة العثمانية سنة 1324 هـ الطبعة الأولى.
(2)
الدر المختار على حاشية ابن عابدين جـ 1 ص 527، 528 الطبعة السابقة.
أنت يا معاذ؟ إنما كانت زائدة على القدر المسنون لأنها كانت بسورة البقرة على ما في مسلم أن معاذا افتتح بالبقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف. وقال صلى الله عليه وسلم: إذا أممت بالناس فاقرأ بالشمس وضحاها وسبح اسم ربك الأعلى واقرأ باسم ربك والليل إذا يغشى لأنها كانت العشاء وأن قوم معاذ كان العذر متحققا فيهم لا لكسل منهم فأمر فيهم بذلك لذلك، ويكره
(1)
تحريما أن يطيل الإمام الركوع أو القراءة أو القعود الأخير قبل السلام لإدراك الجائى إن عرفه لأن انتظاره حينئذ يكون للتودد إليه لا للتقرب والإِعانة على الخير وإن لم يعرفه فلا بأس به لأنه إعانة على الطاعة لكن يطول مقدار ما لا يثقل على القوم بأن يزيد تسبيحة أو تسبيحتين على المعتاد وتركه أفضل فإن فعل العبادة لأمر فيه شبهة عدم إخلاصها لله تعالى لا شك أن تركه أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ولأنه وإن كان إعانة على إدراك الركعة ففيه إعانة على التكاسل وترك المبادرة والتهيؤ للصلاة قبل حضور وقتها فالأولى تركه، ولو أراد بالانتظار التقرب إلى الله تعالى خاصة من غير أن يتخالج قلبه شئ سوى التقرب حتى ولا الإعانة على إدراك الركعة فيكون حينئذ هو الأفضل لكنه في غاية الندرة ويمكن أن يراد بالتقرب الإعانة على إدراك الركعة لما فيه من إعانة عباد الله على طاعته فيكون الأفضل تركه لما فيه من الشبهة. نقل ابن عابدين ذلك ملخصا عن شرح المنية وقال: قصد الإعانة على إدراك الركعة مطلوب فقد شرعت إطالة الركعة الأولى في الفجر اتفاقا وكذا في غيره على الخلاف إعانة للناس على إدراكها لأنه وقت نوم وغفلة كما فهم الصحابة ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفي المنية: يكره للإمام أن يعجلهم عن إكمال السنة ونقل في الحلية عن عبد الله بن المبارك وإسحاق وإبراهيم والثورى أنه يستحب للإمام أن يسبح خمس تسبيحات ليدرك من خلفه الثلاث، فعلى هذا إذا قصد إعانة الجائى فهو أفضل بعد أن لا يخطر بباله التودد إليه ولا الحياء منه ونحوه ولهذا نقل في المعراج عن الجامع الأصغر أنه مأجور لقول الله سبحانه وتعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} . وفى المنتقى أن تأخير المؤذن وتطويل القراءة لإدراك بعض الناس حرام هذا إذا مال لأهل الدنيا تطويلا وتأخيرا يشق على الناس فالحاصل أن التأخير القليل لإعانة أهل الخير غير مكروه، ويظهر أن من التقرب إطالة الإمام الركوع لإِدراك مكبر لو رفع الإمام رأسه قبل إدراكه يظن أنه أدرك الركعة كما يقع لكثير من العوام فيسلم صح الإمام بناء على ظنه ولا يتمكن الإمام من أمره بالإعادة أو الإتمام ولو انتظر الإمام قبل الصلاة ليدرك الناس الجماعة يجوز ولو كان الانتظار لأجل واحد بعد الاجتماع إلا إذا كان دارعا شريرا.
مذهب المالكية:
جاء فى الشرح الكبير
(2)
وحاشية الدسوقى عليه: أن نية الإمامة ليست شرطا في إمامة الصلاة أما لو نوى الإِمامة ثم رفضها ونوى
(1)
المرجع السابق جـ 1 ص 462 الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب الشرح الكبير لأبى البركات سيدى أحمد الدردير وحاشية الدسوقى عليه للشيخ محمد عرفة الدسوقى جـ 1 ص 338 وما بعدها وبهامشه تقريرات العلامة الشيخ محمد عياش طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر، وانظر كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر سيدى أبى الضياء خليل وبهامشه التاج والأكليل لأبى عبد الله محمد بن يوسف الشهير بالمواق جـ 2 ص 122 وما بعدها طبع مطابع مطبعة السعادة بمصر الطبعة الأولى سنة 1328 هـ.
الفذية فإن الصلاة تبطل لتلاعبه ولأنها من الأمور التي تلزم بالشروع. أما نية الإمامة في صلاة الجنازة فقد اختلف فيها فأوجب ابن رشد فيها نية الإِمامة على الإمام بناء على اشتراط الجماعة فيها فإن صلى عليها فرادى أعيدت ما لم تدفن وإلا فلا إعادة والتحقيق أن الجماعة في صلاة الجنازة مندوبة وقيل سنة وعلى ذلك فليست نية الإمامة فيها واجبة على الإِمام. وأما صلاة الجمعة فإنه يشترط فيها نية الإمامة لأن الجماعة شرط صحة فيها فإذا لم ينو الإمامة فيها بطلت عليه وعليهم لإنفراده والجمع بين الصلاتين ليلة المطر فقط لأنه الذي يشترط فيه الجماعة فلابد فيه من نية الإِمامة في الصلاتين على المشهور وقيل تكون نية الإمامة في الثانية فقط لظهور أثر الجمع فيها ونية الجمع تكون عند الصلاة الأولى وتستصحب للثانية ولا تبطل الصلاة يترك نية الجمع بخلاف نية الإمامة في الصلاتين فإنه يبطلهما أما الأولى فلترك النية فيهما وأما الثانية فلأنها تبع للأولى وإن تركها في الثانية فقط، وقال البنانى إذا ترك نية الإِمامة فيها بطلت الثانية فقط لأن المغرب وقعت في وقتها. قال العدوى والفقه ما ذكره الدردير وهو بطلان الصلاتين وكذلك تشترط نية الإمامة في صلاة الخوف الذي تؤدى فيه الصلاة يقسم المأمومين طائفتين إذ لا يصح ذلك إلا بجماعة فلو لم ينو الإمامة بطلت عليه وعلى الطائفتين قال الدسوقى نقلا عن العدوى والصواب أنها إنما تبطل صلاة الطائفة الأولى فقط لأنها فارقت الإِمام في غير محل المفارقة وأما صلاة الطائفة الثانية وصلاة الإِمام فصحيحة وكذلك تجب نية الإِمامة على المستخلف لأنه كان مأموما فلابد من نية الإمامة ليميز بين النيتين فإن لم ينو الإِمامة فصلاته صحيحة وغايته أنه منفرد ما لم ينو أنه خليفة الإِمام مع كونه مأموما فتبطل صلاته لتلاعبه لأن كونه خليفة ينافى كونه مأموما وكونه مأموما ينافى كونه خليفة ونية الأمرين المتنافيين تلاعب. وأما الجماعة فإن اقتدوا بطلت في الحالين أي إذا لم ينو الإمامة سواء نوى أنه خليفة عن الإمام مع كونه مأموما أو لم ينو ذلك وإن لم يقتدوا به لم تبطل صلاتهم ونية الإِمامة في الصلوات الأربع وهى صلاة الجمعة والجمع والخوف والاستخلاف شرط في صحتها بحيث لا تصح إلا بها، والنية الحكمية كما قال الدسوقى تكفى فتقدم الإمام في الجمعة وفى الجمع والاستخلاف دال على النية فاشتراط نية الإِمامة في صحة الصلاة في هذه الأربع لا فائدة فيه وقد يجاب بأن المراد بأن نية الإمامة فيها عدم نية الانفراد، وفضل
(1)
الجماعة يحصل للإمام وإن لم ينو الإمامة على ما يدل عليه كلام اللخمى لأنه قال لا يعيد في جماعة أخرى. قال مالك فيمن صلى لنفسه ثم أتى رجل فائتم به أنها له صلاة جماعة وكذلك الإمام يصير له صلاة جماعة ولا يعيد في جماعة أخرى وقال الأكثر إنه إذا لم ينو الإمامة لم يحصل له فضل الجماعة ولذلك ألزم ابن عرفة هذا المؤتم به الذي لم ينو الإِمامة أن يعيد الصلاة في جماعة ونقله ابن غازى وسلمة ونقل مثله عن ابن عبد السلام والإمام الراتب إذا صلى وحده فإنه إنما يحصل له فضل الجماعة إذا نوى الإمامة، وأما نية إمامة النساء فقد قال ابن زرقون أنه يجب على الإِمام نية الإمامة إذا أمهن لما ذكر في سماع موسى أن من أم نساء تمت صلاتهن إن نوى إمامتهن وجعل ابن رشد هذا القول مقابلا لمذهب المدونة ويرى ابن رشد وجوب نية الإمامة في
(1)
المرجع السابق المعروف بالخطاب جـ 2 ص 124 الطبعة السابقة.
الرجال والنساء وذلك لأن الإمام ضامن بأنه تحمل القراءة ولا ضمان ولا حمل إلا بنية، ويسن
(1)
للإمام الجهر فيما يجهر فيه من الصلاة وذلك في صلاة الصبح والجمعة وأولتا المغرب والعشاء ويسن له السر فيما عدا ذلك من الصلاة وحدود الجهر بالنسبة له أن يبالغ في رفع صوته بعد سماع من يصلى خلفه. وجاء في الحطاب
(2)
نقلا عن الإرشاد أن الإِمام يحرم بعد استواء الصفوف ويرفق بهم ويشركهم في دعائه. قال الشيخ زروق في شرحه: أما إحرامه بعد استواء الصفوف فمستحب فإن أحرم قبل ذلك فقد ترك المستحب فقط وأما رفقه بهم فلأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ولأنه كان يفعله وأمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يشركهم في دعائه. وروى إن لم يشركهم فيه فقد خانهم. وقال الشيخ زروق: من جهل الإِمام المبادرة للمحراب قبل تمام الإقامة والتعمق في المحراب بعد دخوله والتنفل به بعد الصلاة وكذا الإِقامة لغير ضرورة ولا خلاف في مشروعية الدعاء خلف الصلاة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أسمع الدعاء جوف الليل وإدبار الصلوات المكتوبات". وخرج الحاكم على شرط مسلم من طريق حبيب بن مسلمة القهرى رضى الله تعالى عنه لا يجتمع قوم مسلمون فيدعون بعضهم ويؤمن بعضهم إلا استجاب الله تعالى دعاءهم. وقد أنكر جماعة كون الدعاء بعد الصلاة على الهيئة المعهودة من تأمين المؤذن بوجه خاص وأجازه ابن عرفة والكلام في ذلك واسع. وقال البرزلى في مسائل الجامع وسئل عز الدين عن المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر أمستحبة أم لا والدعاء عقيب السلام مستحب للإمام في كل صلاة أم لا وعلى الاستحباب فهل يلتفت ويستدبر القبلة أم يدعو مستقبلا لها وهل يرفع صوته أو يخفض وهل يرفع اليد أم لا في غير المواطن التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه يرفع يده فيها فأجاب: المصافحة عقيب صلاة الصبح والعصر من البدع إلا لقادم يجتمع بمن يصافحه قبل الصلاة فإن المصافحة مشروعة عند القدوم وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتى بعد السلام بالأذكار المشروعة ويستغفر ثلاثا ثم ينصرف. وروى أنه قال: "رب قنى عذابك يوم تبعث عبادك" والخير كله في إتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال البساطى في المغنى قال في النوادر عن ابن حبيب إذا نزل بالناس نائبة فلا بأس أن يأمرهم الإمام بالدعاء ورفع الأيدى ولا يطيل
(3)
الإِمام الركوع لداخل قال ابن حبيب إن ركع الإمام فحس أحدا دخل في المسجد فلا يمد في ركوعه ليدرك الرجل الركعة. قال اللخمى ومن وراءه أعظم عليه حقا ممن يأتى وفسره ابن رشد بالكراهة وقال سحنون ينتظره وإن طال ذلك ونقل ابن رشد عن بعض العلماء أنه يجوز الانتظار اليسير الذي لا يضر بمن معه. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أطال وقال: إن ابنى ارتحلنى. وكذلك خفف النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سمع بكاء الصبى، وجاء في الشرح
(4)
الكبير وحاشية الدسوقى عليه: يندب
(1)
الحطاب على خليل وبهامشه التاج والأكليل جـ 1 ص 525 وما بعدها الطبعة السابقة والشرح الكبير جـ 1 ص 243 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
الخطاب على خليل جـ 2 ص 126، ص 127 وما بعدهما الطبعة السابقة.
(3)
التاج والأكليل للمواق جـ 2 ص 87 الطبعة السابقة.
(4)
انظر الشرح الكبير وحاشية الدسوقى علية جـ 1 ص 247 وما بعدها الطبعة السابقة.
تطويل القراءة في صلاة الصبح بأن يقرأ فيها من طوال المفصل إلا لضرورة أو خوف خروج وقت والظهر تلى الصبح في التطويل أي دونها فيه فيقرأ في الصبح من أطوال طوال المفصل وفى الظهر من أقصر طوال المفصل وأول المفصل من الحجرات وهذا في غير الإمام أما الإمام فينبغى له التقصير لقول النبى صلى الله عليه وسلم: "إذا أم أحدكم فليخفف فإن في الناس الكبير والمريض وذا الحاجة وإذا أطال الإمام القراءة حتى خرج عن العادة وخشى المأموم تلف بعض ماله إن أتم معه أو فوت ما يلحقه منه ضرر شديد قال المازرى يسوغ له الخروج عن الإِمام ويتم لنفسه وحكى عياض في ذلك قولين عن ابن العربى.
مذهب الشافعية:
جاء في مغنى المحتاج
(1)
: أنه لا يشترط للإمام في صحة الاقتداء به في غير الجمعة نية الإِمامة بل يستحب ليحوز فضيلة الجماعة فإن لم ينو لم تحصل له إذ ليس للمرء عمله إلا ما نوى وتصح نيته لها مع تحرمه وإن لم يكن إماما في الحال لأنه سيصير إماما وفاقا للجوينى وخلافا للعمرانى في عدم الصحة حينئذ وإذا نوى في أثناء الصلاة حاز الفضيلة من حين النية ولا تنعطف نيته على ما قبلها بخلاف ما نوى الصوم في النفل قبل الزوال فإنها تنعطف على ما قبلها لأن النهار لا تتبعض صوما وغيره بخلاف الصلاة فإنها تتبعض جماعة وغيرها. أما في الجمعة فيشترط أن يأتى بها فيها فلو تركها لم تصح جمعته لعدم استقلاله فيها سواء أكان من الأربعين أم زائدا عليهم. نعم إن لم يكن من أهل الوجوب ونوى غير الجمعة لم يشترط ذكر. وظاهر أن الصلاة المعادة كالجمعة إذ لا تصح فرادى فلابد من نية الإمامة فيها فإن أخطأ الإمام في غير الجمعة وما ألحق بها في تعيين تابعه الذي نوى الإِمامة به لم يضر لأن غلطه في النية لا يزيد على تركها. أما إذا نوى ذلك في الجمعة أو ما ألحق بها فيضر لأن ما يجب التعرض له يضر الخطأ فيه، ويستحب
(2)
للإمام الجهر في صلاة الصبح وفى الركعتين الأولين من المغرب والعشاء وفى الجمعة للاتباع. ويسر فيما عدا ذلك وهذا في الصلاة المؤداة وأما الصلاة المقضية فيجهر فيها من مغيب الشمس إلى طلوعها ويسر من طلوعها إلى غروبها ويستثنى كما قال الأسنوى صلاة العيد فإنه يجهر في قضائها كما يجهر في أدائها. وأما النوافل غير المطلقة فيجهر في صلاة العيدين وخسوف القمر والاستسقاء والتراويح والوتر في رمضان وركعتى الطواف إذا صلاها ليلا ويسر فيما عدا ذلك. وأما النوافل المطلقة فيسر فيها نهارا ويتوسط فيها ليلا بين الإسرار والجهر إن لم يشوش على نائم أو حصل وإلا فالسنة الإِسرار فقد نقل في المجموع عن
(1)
انظر كتاب مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشيخ محمد الشربينى الخطيب وبهامشه متن المحتاج لأبى زكريا يحيى بن شرف النووى في كتاب جـ 1 ص 251 وما بعدها طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1308 هـ، وانظر كتاب قليوبى وعميرة للشيخ شهاب الدين القليوبى والشيخ عميرة على شرح العلامة جلال الدين المحلى على منهاج الطالبين للشيخ محيى الدين النووى جـ 1 ص 244 وما بعدها طبع مطابع دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر.
(2)
انظر كتاب مغنى المحتاج للشيخ محمد الشربينى الخطيب جـ 1 ص 164، ص 165 وما بعدهما الطبعة السابقة. وانظر كتاب المهذب للشيخ الإمام الموفق أبى إسحاق إبراهيم بن على بن يوسف الشهير بالفيروزابادى الشيرازى جـ 1 ص 74 وما بعدها طبع مطابع دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1376 هـ.
العلماء أن محل فضيلة رفع الصوت بقراءة القرآن إذا لم يخف رياء ولم يتأنى به أحد وإلا فالإسرار أفضل وهذا جمع بين الأخبار المقتضية لأفضلية الإسرار والأخبار المقتضية لأفضلية الرفع. ويستحب
(1)
للإِمام إذا سلم أن يقوم من مصلاه عقب سلامه إذا لم يكن خلفه نساء. قال الأصحاب لئلا يشك هو أو من خلفه هل سلم أولا ولئلا يدخل غريب فيظنه ما زال في صلاته فيقتدى به. قال الأذرعى والصلتان تنتفيان إذا حول الإمام وجهه إلى المأمومين أو انحرف عن القبلة، قال الخطيب الشربينى: وينبغى كما بحثه بعضهم أن يستثنى من ذلك ما إذا قعد مكانه يذكر الله بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس لأن ذلك كحجة وعمرة تامة، رواه الترمذى عن أنس رضى الله تعالى عنه وأفضل الانتقال للنقل من موضع صلاته إلى بيته لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" رواه الشيخان. ويستوى في هذا المسجد الحرام ومسجد المدينة والأقصى وغيرها والحكمة فيه بعده من الرياء وذلك لحديث مسلم: إذا قضى أحدكم صلاته في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جاعل من صلاته خيرا والمراد صلاة النافلة. وروى: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا. وإذا صلى وراءهم نساء مكث الإمام بعد سلامه ومكث معه الرجال قدرا يسيرا يذكرون الله تعالى حتى ينصرفن. ويندب
(2)
للإمام أن يخفف صلاته مع فعل الإيعاض والهيئات لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إذا أم أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطل ما شاء" رواه الشيخان قال في المجموع نقلا عن الشافعي والأصحاب بأن يخفف القراءة والأذكار بحيث لا يقتصر على الأقل ولا يستوفى الأكمل المستحب للمتفرد من طوال المفصل وأوساطه وأذكار الركوع والسجود ويكره التطويل كما نص عليه في الأم إلا أن يرضى بتطويله محصورون أي لا يصلى وراءه غيرهم وهم أحرار غير أجراء إجارة عين فيسن له التطويل كما في المجموع عن جماعة وعليه يحمل ما وقع من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأوقات فإن جهل حاله أو اختلفوا لم يطول. قال ابن الصلاح: إلا إن قل من لم يرض كواحد أو اثنين ونحوهما لمرض ونحوه فإن كان ذلك مرة ونحوها خفف وإن كثر حضوره طول مواعاة لحق الراضين ولا يفوت حقهم لهذا الفرد الملازم. قال في المجموع وهو حسن متعين. قال الأذرعى تبعا للسبكى وفيه نظر لتخفيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبكاء الصبى ولإنكاره على معاذ التطويل لما شكاه الرجل الواحد وأجيب بأن قضية بكاء الصبى وقضية معاذ لم يكثرا فلا ينافى ذلك كلام ابن الصلاح فيه على ذلك الفزى. أما الأرقاء والأجراء إجارة عين فلا عبرة برضاهم للتطويل إذ ليس لهم التطويل على قدر صلاتهم منفردين بغير إذن فيه من
(1)
انظر كتاب مغنى المحتاج إلى شرح معاني ألفاظ "المنهاج للشيخ محمد الشربينى الخطيب جـ 1 ص 184 وما بعدها الطبعة السابقة: وانظر كتاب المهذب للفيروزبادى الشيرازى جـ 1 ص 81 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب مغنى المحتاج للشربينى الخطيب جـ 1 ص 231 وما بعدها الطبعة السابقة. وانظر كتاب المهذب للشيرازى جـ 1 ص 95، ص 96 وما بعدها الطبعة السابقة.
أرباب الحقوق نبه على ذلك الأذرعى ويكره تطويل الإمام في الصلاة ليلحق به آخرون سواء كان عادتهم الحضور أم لا أو ليلحق به رجل شريف كما في المحرر وغيره للإضرار بالحاضرين ولتقصير المتأخرين ولأن في عدم انتظارهم حثا لهم على المبادرة إلى فضيلة تكبيرة الإِحرام، ولو أحس في الركوع أو التشهد الأخير بداخل محل الصلاة يأتم به لم يكره له انتظاره بل يباح في الأظهر إن لم يبالغ في الانتظار ولم يفرق. نقله الرافعى عن الإمام إمام الحرمين وأقره بين الداخلين في الصلاة بانتظار بعضهم لصداقة أو شرف أو سيادة أو نحو ذلك دون بعض بل يسوى بينهم في الانتظار لا للتودد إليهم واستمالة قلوبهم. والمذهب استحباب انتظاره بالشروط المذكورة وهو القول الثاني ولا ينتظر في غير الركوع والتشهد الأخير من قيام وغيره. أما إذا أحس بخارج عن محل الصلاة أو لم يكن انتظاره لله تعالى أو بالغ في الانتظار أو فرق بين الداخلين أو انتظره في غير الركوع والتشهد فلا يستحب قطعا بل يكره الانتظار في غير الركوع والتشهد الأخير. وأما إذا خالف في غير ذلك فهو خلاف الأولى لا مكروه. ويستثنى من استحباب الانتظار صور منها إذا خشى خروج الوقت بالانتظار ومنها إذا كان الداخل لا يعتقد إدراك الركعة أو فضيلة الجماعة بإدراك ما ذكر إذ لا فائدة في الانتظار ومنها إذا كان الداخل يعتاد البطء وتأخير التحريم إلى الركوع ومنها ما إذا كانت صلاة المأموم يجب عليه إعادتها كفاقد الطهورين بناء على أن صلاة المحدث في جماعة كلا جماعة والمتجه في هذه استحباب انتظاره ولأن الركعة تحسب عن المأموم في إسقاط حرمة الوقف.
مذهب الحنابلة:
جاء في كشاف القناع
(1)
: أن من شرط الجماعة أن ينوى الإِمام الإِمامة وينوى المأموم الائتمام سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى" فينوى الإمام أنه مقتدى به وينوى المأموم أنه مقتد كالجمعة لأن الجماعة تتعلق بها أحكام وجوب الإتباع وسقوط السهو عن المأموم وفساد صلاته بفساد صلاة إمامه وإنما يتميز الإمام عن المأموم بالنية فكانت شرطا لصحة انعقاد الجماعة فلو نوى أحدهما دون صاحبه بأن نوى الإمام دون المأموم أو بالعكس أو نوى كل واحد منهما أنه إمام الآخر أو أنه مأمومه لم يصح لهما لأنه أم من لم يأتم به أو ائتم بمن ليس إماما وكذلك لو نوى إمامة من لا يصح أن يؤمه كأمى نوى أن يؤم قارئا أو امرأة نوت أن تؤم رجلا ونحوه كعاجز عن شرط الصلاة نوى أن يؤم قادرا عليه لم تصح صلاتهما لأن كلا من الإمامة والائتمام فاسدان وكذلك لو نوى الائتمام بأحد الإِمامين لا يعنيه لم تصح صلاته لأنه لم يعين وكذلك لو نوى الائتمام بالإمامين لم تصح صلاته لأنه لا يمكنه الاقتداء بهما وكذلك لو نوى الائتمام
(1)
انظر كتاب كشاف القناع عن متن الإقناع لأبى عبد الله بن منصور بن إدريس الحنبلى وبهامشه منتهى الإرادات لأبى عبد الله بن منصور بن يونس البهوتى جـ 1 ص 313 وما بعدها طبع المطبعة العامرة الشرفية سنة 1316 هـ الطبعة الأولى، وانظر كتاب المغنى للعلامة موفق الدين أبى عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة على مختصر الإمام أبى القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقى جـ 2 ص 60 وما بعدها والشرح الكبير عليه لشمس إلدين أبى الفرج عبد الرحمن بن أبى عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسى طبع مطبعة المنار بمصر سنة 1345 هـ الطبعة الأولى.
بالمأموم أو بالمنفرد لم تصح صلاته لأنه أئتم بغير إمام ولو شك في الصلاة أنه إمام أو مأموم لم تصح صلاته لعدم الجزم بنية الإمامة أو الائتمام ولو أحرم بحاضر فانصرف قبل إحرامه معه ولم يعد ولم يدخل غيره معه قبل رفعه من ركوعه لم تصح صلاته لأنه نوى الإِمامة ولم تتحقق لأنه لم يوجد مأموم. ولو نوى الإِمامة وهو يعلم عدم مجئ أحد أو يشك في حضور أحدا أو غلب على ظنه أنه لا يحضر لم تصح الصلاة ولو حضر من ائتم به. وإن نوى الإمامة ظانا حضور مأموم فلم يحضر لم تصح صلاته لأنه نوى الإمامة بمن لم يأتم به فإن حضر أحد ودخل في الصلات معه ثم انصرف قبل إتمامه صلاته فإن صلاة الإِمام لا تبطل ويتمها منفردا وإن أحرم منفردا ثم نوى الائتمام في أثناء الصلاة أو أحرم منفردا ثم نوى الإِمامة لم يصح سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا كالتراويح والوتر قال في الإنصاف هذا هو المذهب وعليه الجمهور. والمنصوص صحة الإِمامة ممن أحرم منفردا في النفل وهو الصحيح عند الموفق ومن تابعه لحديث ابن عباس رضى الله تعالى عنه قال: بت عند خالتى ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلى من الليل فقمت عن يساره فأخذ بيدى فأدارنى عن يمينه. متفق عليه. وروى مسلم معناه من حديث أنس وجابر ابن عبد الله رضى الله تعالى عنهما. قال صاحب كشاف القناع: ولا دليل في ذلك لاحتمال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نوى الإمامة ابتداء لظنه حضورهم، ويسن
(1)
جهر الإِمام بكل التكبيرات في الصلاة ليتمكن المأموم من متابعته فيه لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فإذا كبر فكبروا" ويسن له الجهر أيضا بالتسميع ليحمد المأموم عقبه لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد" ولا يسن جهر الإمام بالتحميد لأنه لا يتعقبه من المأموم شئ فلا فائدة في الجهر به. ويسن جهر الإمام بالتسليمة الأولى ليتابعه المأموم في السلام فيها ولا يجهر بالتسليمة الثانية لحصول العلم بالسلام بالأولى إذ من المعلوم أن الثانية تعقب الأولى. ويسن جهر الإِمام بالقراءة في الصلاة الجهرية وهى أولتا المغرب والعشاء والصبح والجمعة والعيد ونحوها ويكون الجهر في كل موضع يستحب الجهر فيه بحيث يسمع جميع من خلفه إن أمكن وأدنى جهر الإِمام أن يسمع غيره ولو واحدًا ممن وراءه لأنه إذا سمعه واحد اقتدى به واقتدى بذلك الواحد غيره فيحصل المقصود، وإذا فرغ
(2)
الإِمام من قراءة الفاتحة قال آمين بعد سكتة لطيفة ليعلم أنها ليست من القرآن، ويجهر بها الإِمام والمأموم معا في صلاة الجهر لحديت أبى هريرة رضى الله تعالى عنه مرفوعا: إذ أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له. متفق عليه. وروى أبو وائل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول آمين يمد بها صوته. رواه أحمد وأبو داود والدارقطنى وصححه، ويسن
(3)
للإمام تخفيف الصلاة مع إتمامها لحديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه يرفعه "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم السقيم
(1)
كشاف القناع وبهامشه منتهى الإرادات جـ 1 ص 221 وما بعدها ومنتهى الإرادات لأبى عبد الله بن منصور بن يونس البهوتى جـ 1 ص 173 وما بعدها طبع المطبعة العامرة الشرفية بمصر سنة 1316 هـ الطبعة الأولى.
(2)
المرجع السابق لابن إدريس الحنبلى جـ 1 ص 225، ص 226 وما بعدها الطبعة السابقة.
(3)
كشاف القناع وبهامشه منتهى الإرادات جـ 1 ص 302 وما بعدها الطبعة السابقة.
والضعيف وذا الحاجة وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" رواه الجماعة. وعن أبى مسعود وعقبة بن عامر قالا: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنى لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا. قال فما رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال: "يأيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة" متفق عليه. قال في المبدع ومعناه أن يقتصر على أدنى الكمال من التسبيح وسائر أجزاء الصلاة وهذا ما لم يؤثر المأمومون التطويل وكان عددهم مختصر فإن أثروه كلهم استحب لزوال علة الكراهة وهى التنفير. ويسن للإمام أن يرتل القرآن والتسبيح والتشهد بقدر ما يرى أن من خلفه ممن يثقل لسانه قد أتى به وأن يتمكن في ركوعه وسجوده قدر ما يرى أن الكبير والصغير والثقيل قد أتى عليه ليتمكن كل من المأمومين من متابعته من غير إخلال بسنة، ويسن للإمام إذا عرض في الصلاة عارض لبعض المأمومين يقتضى خروجه من الصلاة أن يخفف كما إذا سمع بكاء صبى ونحو ذلك لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنى لأقوم في الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبى فأتجوز فيها مخافة أن أشق على أمه" رواه أبو داود، وتكره للإمام سرعة تمنع مأموما فعل ما يسن له كقراءة السورة والمرة الثانية والثالثة من تسبيح الركوع والسجود ورب اغفر لى بين السجدتين وإتمام ما يسن في التشهد الأخير لما في ذلك من تفويت المأموم ما يستحب له فعله. وقال الشيخ تقى الدين: يلزم الإمام مراعاة المأموم إن تضرر بالصلاة أول الوقت أو آخره ونحوه. وقال ليس له أن يزيد على القدر المشروع إن تضرر المأموم بذلك وينبغى للإمام أن يفعل غالبا ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله ويزيد وينقص للمصلحة كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزيد وينقص أحيانا، ويسن تطويل قراءة الركعة الأولى أكثر من قراءة الثانية لما روى أبو قتادة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطول في الركعة الأولى. متفق عليه. وقال أبو سعيد: كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضى حاجته ثم يتوضأ ثم يأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الركعة الأولى مما يطولها. رواه مسلم. وليلحقه القاصر إليها لئلا يفوته من الجماعة شئ فإن عكس بأن طول الثانية عن الأولى فيجزئه وينبغى أن لا يفعل لمخالفته السنة وتطويل قراءة الركعة الأولى عن الثانية في كل صلاة ثنائية أوثلاثية أو رباعية إلا في صلاة الخوف في الوجه الثاني فالثانية أطول من الأولى لتتم الطائفة الأولى صلاتها ثم تذهب لتحرس ثم تأتى الأخرى فتدخل معه وإلا في صلاة الجمعة إذا قرأ بسبح والغاشية لوروده ولعل المراد أنه لا أثر لتفاوت يسير أي إذا كانت الثانية أطول بيسير فلا كراهة وإن أحس
(1)
الإمام بداخل في الصلاة وهو في ركوع أو غيره ولو كان الداخل من ذوى الهيئات وكانت الجماعة كثيرة كره للإمام انتظاره لأنه يبعد أن لا يكون فيهم من يشق عليه ذلك وكذلك إن كانت الجماعة يسيرة والانتظار يشق عليهم أو على بعضهم فيكره الانتظار لأن حرمة المأموم الذي نوى معه في الصلاة أعظم من حرمة من يريد الدخول فلا يشق على من معه
(1)
كشاف القناع وبهامشه منتهى الإرادات لابن يونس البهوتى جـ 1 ص 303 وما بعدها الطبعة السابقة.
لنفع الداخل وإن كانت الجماعة يسيرة ولا يشق الانتظار عليهم ولا على بعضهم استحب انتظار الإِمام للداخل في الركوع أو غيره لأن الانتظار ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الخوف لإِدراك الجماعة وذلك موجود هنا ولأن ذلك تحصيل مصلحة بلا مضرة فكان مستحبا كرفع الصوت بتكبيرة الإِحرام، ويكره
(1)
تطوع الإِمام في موضع المكتوبة بعدها نص عليه أحمد وقال كذا قال على بن أبى طالب لما روى المغيرة بن شعبة مرفوعا قال: لا يصلين الإِمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه. رواه أبو داود إلا أن أحمد قال: لا أعرف ذلك من غير على ولأن في تحوله من مكانه إعلاما لمن أتى المسجد أنه قد صلى فلا ينتظره ويطلب جماعة أخرى وكراهة التطوع في مكان المكتوبة إذا كان لغير حاجة كضيق المسجد فإن احتاج إلى ذلك لم يكره، وتكره الحالة القعود للإمام بعد الصلاة لضيق المسجد مستقبل القبلة لقول عائشة رضى الله تعالى عنها: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإِكرام. رواه مسلم ولأنه إذا بقى على حاله ربما سها فظن أنه لم يسلم أو ظن غيره أنه في الصلاة والمأموم والمنفرد على حالهما وكراهه إطالة القعود للإمام بعد الصلاة إن لم يكن هناك نساء ولا حاجة تدعو إلى إطالة الجلوس مستقبلا كما إذا لم يجد منصرفا ولم يمكنه الانحراف فإن أطال الإمام الجلوس مستقبل القبلة انصرف المأموم أذن لمخالفة الإمام السنة وإن لم يطل الإِمام الجلوس استحب للمأموم أن لا ينصرف قبله لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تسبقونى بالانصراف" رواه مسلم ولئلا بذكر سهوا فيسجد له وإن انحرف فلا بأس.
ذكره في المغنى والشرح.
مذهب الظاهرية:
جاء في المحلى
(2)
أنه يستحب أن لا يكبر الإِمام حتى يستوى كل من وراءه في صف أو أكثر فإن كبر قبل ذلك أساء وأجزأه، ويستحب
(3)
له الجهر في ركعتى صلاة الصبح والأوليين من المغرب والأوليين من العتمة وفى الركعتين من الجمعة والإِسرا في الظهر كلها وفى العصر كلها وفى الثالثة من المغرب وفى الآخرتين من العتمة فإن فعل خلاف ذلك كره وأجزأه وذلك أن الجهر فيما يجهر فيه والإسرار فيما يسر فيه إنما هما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس ذلك أمرا منه وأفعاله صلى الله عليه وآله وسلم على الائتساء لا على الوجوب وهو عليه الصلاة والسلام الإِمام. وقد روى عن أبى قتادة رضى الله تعالى عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلى بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ويسمعنا الآية أحيانا. رواه مسلم. فهذا النبي صلى الله علمه وآله وسلم يجهر ببعض القراءة في الظهر وعن أبى إسحاق عبد البراء بن عازب قال: كنا نصلى خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر فيسمعنا الآية بعد الآيات من لقمان والذرايات وكذلك كان عمر
(1)
المرجع السابق لابن ادريس الحنبلى جـ 1 ص 318 وما بعدها الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب المحلى لأبى سعيد بن على بن حزم الظاهرى الأندلسى جـ 4 ص 214 وما بعدها مسألة رقم 449 طبع مطبعة إدارة الطباعة المنيرية بمصر سنة 1348 هـ الطبعة الأولى.
(3)
المرجع السابق لأبن حزم الظاهرى جـ 4 ص 108 مسألة رقم 446 الطبعة السابقة.
بن الخطاب رضى الله تعالى عنه يقرأ في الظهر والعصر بالذاريات ذروا وسورة ق والقرآن المجيد يعلن فيهما، ويجب على الإِمام
(1)
التخفيف إذا أم جماعة لا يدرى كيف طاقتهم. وإن خفف المنفرد فذلك له مباح. وفى البخارى عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا أم أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، وعن ابن أبي حازم قال: أخبرنى أبو مسعود أن رجلا قال: والله يا رسول الله إنى لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ ثم قال عليه السلام: "إن منكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة" قال ابن حزم: وحد التخفيف أن ينظر ما يحتمل أضعف من خلفه وأمسهم حاجة من الوقوف والركوع والسجود والجلوس فليصل على حسب ذلك. وروينا ذلك عن السلف الطيب، وجلوس
(2)
الإِمام في مصلاه بعد سلامه حسن مباح لا يكره وإن قام ساعة يسلم فحسن لما روى البراء بن عازب رضى الله تعالى عنه قال: رفعت الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته وجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء وعن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح فلما صلى انحرف قال ابن حزم: وكلا الأمرين مأثور عن السلف.
مذهب الزيدية:
جاء في شرح الأزهار
(3)
: أنه يجب على الإِمام نية الإِمامة وعلى المؤتم نية الائتمام. قال المهدى: أما المؤتم فلا خلاف في ذلك في حقه وأما الإِمام ففى ذلك ثلاثة أقوال: الأول ما ذكره القاسم ومحمد بن يحيى وخرجه أبو طالب للهادى أن نية الإِمام شرط حتى روى في الكافى عن المرتضى أنه إذا نوى أن يؤم قوما بأعيانهم لا يصح أن يؤم غيرهم. القول الثاني: للمؤيد بالله وهو قول المنصور بالله أن ذلك لا يجب. القول الثالث: ذكره في شرح الابانة للناصر والقاسمية: أن المرأة لا تدخل إلا بنية من الإِمام إذا لم ينو الإمام الإمامة ولم ينو المؤتم الائتمام لم تنعقد صلاة الجماعة وصحت صلاة كل منهما فرادى وإذا نوى المؤتم الائتمام ولم ينو الإِمام الإِمامة بطلت صلاة المؤتم لأنه علق صلاته بمن لا تصح الصلاة خلفه لأجل النية. فإن نوى كل واحد منهما أنه إمام للآخر صحت الصلاة فرادى لأن كل واحد منهما لم يعلق صلاته بصلاة الغير فتلقوا نية الإِمامة، ويجهر
(4)
الإِمام بالبسلمة في الجهرية لجهر
(1)
المحلى لابن حزم الظاهرى الأندلسى جـ 4 ص 98، ص 99 مسألة رقم 444 الطبعة السابقة.
(2)
المرجع السابق لابن حزم الظاهرى الأندلسى جـ 2 ص 260 وما بعدها مسألة رقم 507 طبع مطابع المنيرية بمصر سنة 1348 هـ الطبعة الأولى لصاحبها محمد منير أغا الدمشقى.
(3)
انظر كتاب شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار في فقه الأئمة الأطهار جـ 1 ص 291، ص 292 وما بعدها طبع مطبعة حجازى بالقاهرة سنة 1357 هـ الطبعة الأولى.
(4)
انظر كتاب البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار لأحمد بن يحيى المرتضى جـ 1 ص 248 وما بعدها طبع مطبعة السعادة بمصر سنة 1366 هـ، سنة 1947 م الطبعة الأولى.
جبريل حين أمه صلى الله علية وآله وسلم. روى عن النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "أمنى جبريل عند باب الكعبة فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم" حكاه في الانتصار ولفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "كل صلاة لا يجهر فيها ببسم الله الرحمن الرحيم فهى آية اختلسها الشيطان" حكاه في الشفاء. وأعلم
(1)
أن في صفة القراءة قولين: الأول المذهب وهو أن القدر الواجب من القراءة يجب أن يقرأ سرا في العصرين وهما الظهر والعصر ويجب أن يكون ذلك جهرا في غير العصرين وهى المغرب والعشاء والفجر وصلاة الجمعة والعيدين وركعتا الطواف. القول الثاني: للمؤيد بالله والمنصور بالله أن ذلك الجهر والإسراء غير واجب. وهكذا روى في الكافى عن زيد بن على والناصر وعامة أهل البيت قال واختلفوا هل هو سنة أم هيئة والفرق بين المسنون والهيئات أن المسنونات أمور مستقلة قد تكون أفعالا وقد تكون أقوالا والهيئات أمور إضافية أي مضافات لأفعال وأقوال
(2)
. فقال المؤيد بالله والناصر: هو هيئة ولذلك قالوا سهو لا يسجد إن تركه. وقال زيد بن علي: أنه سنة وكذلك قالوا يسجد لأجله. قال في التقرير: أما في الجمعة فالجهر واجب. قال المهدى عليه السلام: ثم ذكرنا حكما يختص بالجهر وهو أنه يتحمله الإمام بمعنى أنه إذا قرأ الإمام في موضع الجهر سقط فرض الجمهور به عن المؤتم السامع. وإذا أحس
(3)
الإمام بداخل وهو راكع فيندب أن لا يزيد الإمام على القدر المعتاد له في صلاته انتظارا منه للاحق وهذا رواه في شرح أبى مضر عن القاضي زيد لمذهب يحيى عليه السلام لأنه مأمور بالتخفيف. والانتظار الزائد على المعتاد مكروه ولا تفسد الصلاة به وإن كان كثيرا. وقال المؤيد بالله والمنصور بالله يستحب أن ينتظره. قال المنصور بالله حتى يبلغ تسبيحه عشرين. وقيل يجب أن لا يزيد الإمام في الانتظار وهو ظاهر الأزهار، ومن طول في صلاته أو سجوده لفرض لم يضر ذلك. ذكره في الشرح والانتصار. وقال الإِمام المهدى عليه السلام إن كان الانتظار كثيرا فسد ولعل وجهه أن فيه مشاركة بقصد انتظار الغير فأشبه التلقين ولو في موضعه والحق أنه لا يفسد والأحاديث لا تنفى شرعية كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الخوف لنيل الفضيلة وكما رواه في الشفاء وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يطيل القراءة إذا أحس بداخل فكان يقوم في الركعة الأولى من الظهر حتى لا يسمع وقع قدم ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد فارتحل الحسن عليه السلام على ظهره وهو طفل فأطال السجود حتى نزل وقال أطلنا السجود ليقضى وطره وكره أن يزعجه فدل على أن الانتظار لا يفسد بل يكون الأولى وعلى القول الأول لو انتظر فإنه يعتبر الفعل الكثير وعدمه ذكره المهدى عليه السلام، وجاء في البحر الزخار
(4)
: أنه يندب بعد الفراغ اللبث قليلا والدعاء والذكر بالمأثور لفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما ورد عن عائشة
(1)
انظر كتاب شرح الأزهار وهوامشه لأبى الحسن عبد الله بن مفتاح جـ 1 ص 234، ص 235 وما بعدهما طبع مطبعة حجازى بالقاهرة سنة 1357 هـ الطبعة الأولى.
(2)
المرجع السابق لأبى الحسن عبد الله بن مفتاح جـ 1 ص 235 وهامشه الطبعة السابقة.
(3)
شرح الازهار المنتزع من الغيث المدرار وهامشه جـ 1 ص 305، ص 306 الطبعة السابقة.
(4)
انظر كتاب البحر الزخار لأحمد بن يحيى المرتضى جـ 1 ص 283، ص 284 وما بعدهما الطبعة السابقة.
أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" أخرجه مسلم والترمذى إلا إذا كان هناك نساء فلا ينصرف الإمام حتى ينصرف النساء لفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما ورد عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم يمكث في مكانه يسيرا، قالت فيرى والله أعلم لكى تنصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال، ولا يطيل اللبث إذ ربما عرض بسببه الشك في التسليم وينصرف حيث حاجته من يمين أو شمال لفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتحول للنافلة: أيالجهات الأربع لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر وعن يمينه أو عن شماله" الخبر. والتقدم والتأخر أولى لئلا يقطع صلاة من خلفه.
مذهب الإمامية:
جاء في مستمسك العروة الوثقى
(1)
: أنه لا يشترط في انعقاد الجماعة في غير الجمعة والعيدين نية الإمام الجماعة والإمامة بلا خلاف بل الإِجماع عليه محكى صريحا وظاهرا عن جماعة فلو لم ينوها مع اقتداء غيره به تحققت الجماعة سواء كان الإمام ملتفتا لاقتداء الغير به أم لا. نعم حصول الثواب في حقه موقوف على نية الإِمامة، وأما المأموم فلابد له من نية الائتمام فلو لم ينوه لم تتحقق الجماعة في حقه وإن تابعه في الأقوال والأفعال وحينئذ فإن أتى بجميع ما يجب على المنفرد صحت صلاته وإلا فلا. وإذا صلى
(2)
اثنان وبعد الفراغ علم أن نية كل منهما الإمامة للآخر صحت صلاتهما إجماعا. أما لو علم أن كلا منهما أئتم بالآخر فصلاتهما فاسدة وليستأنفا إذا كانت صلاة كل منهما مخالفة لصلاة المنفرد.
وجاء في العروة الوثقى
(3)
: أنه يجب
(4)
على الإمام الجهر بالقراءة في الصبح والركعتين الأولتين من المغرب والعشاء ويجب الإخفات في الظهر والعصر في غير يوم الجمعة وأما فيه فيستحب الجهر في صلاة الجمعة بل في الظهر أيضا على الأقوى، ويستحب
(5)
الجهر بالبسملة في الظهرين للحمد والسورة، وإذا جهر
(6)
في موضع الإخفات أو أخفت في موضع الجهر عمدا بطلت الصلاة، وإن كان ناسيا أو جاهلا ولو بالحكم صحت سواء كان الجاهل بالحكم متنبها للسؤال ولم يسأل أم لا لكن الشرط حصول قصد القربة منه. وإن كان الأحوط في هذه الصورة الإعادة. وإذا تذكر
(7)
الناسى
(1)
انظر كتاب مستمسك العروة الوثقى للسيد حسن الطباطبائى الحكيم جـ 7 ص 143، ص 144 وما بعدهما طبع مطبعة النعمان بالنجف الأشراف سنة 1380 هـ، سنة 1961 م الطبعة الثانية، وانظر كتاب الخلاف في الفقه الإمامى لشيخ الطائفة الإمام أبى جعفر محمد بن الحسن بن على الطوسى جـ 1 ص 218 وما بعدها مسألة رقم 79 طبع مطبعة تابان في طهران إيران سنة 1382 هـ.
(2)
مستمسك العروة الوثقى للطباطبائى الحكيم جـ 7 ص 150 وما بعدها مسألة رقم 13 الطبعة السابقة.
(3)
انظر كتاب العروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 221 وما بعدها طبع مطبعة دار الكتب الإسلامية لصاحبها الشيخ محمد الأخوندى بطهران سنة 1388 هـ الطبعة الثانية.
(4)
المرجع السابق جـ 1 ص 221 مسألة رقم 20 الطبعة
السابقة.
(5)
العروة الوثقى جـ 1 ص 221 وما بعدها مسألة رقم 21 الطبعة السابقة.
(6)
المرجع السابق جـ 1 ص 221 مسألة رقم 22 الطبعة السابقة.
(7)
انظر كتاب العروة الوثقى جـ 1 ص 221 مسألة رقم 23 الطبعة المتقدمة.
أو الجاهل قبل الركوع لا يجب عليه إعادة القراءة بل وكذا لو تذكر في أثناء القراءة حتى لو قرأ آية لا يجب إعادتها لكن الأحوط الإِعادة خصوصا إذا كان في الأثناء، ولا فرق
(1)
في معذورية الجاهل بالحكم في الجهر والإِخفات بين أن يكون جاهلا بوجوبهما أو جاهلا بمحلهما بأن علم إجمالا أنه يجب في بعض الصلوات الجهر وفى بعضها الإِخفات إلا أنه اشتبه عليه أن الصبح مثلا جهرية والظهر إخفائية بل تخيل العكس أو كان جاهلا بمعنى الجهر والإِخفات فالأقوى معذوريته في الصورتين كما أن الأقوى معذوريته إذا كان جاهلا بأن المأموم يجب عليه الإِخفات عند وجوب القراءة عليه، وإن كانت الصلاة جهرية فجهر لكن الأحوط فيه وفى الصورتين الأوليين الإِعادة، وفى الجهر لا يجوز منه ما كان مفرطا خارجا عن المعتاد كالصباح فإن فعل فالظاهر البطلان. وجاء في العروة الوثقى
(2)
: أن يصلى الإمام بصلاة أضعف من خلفه بأن لا يطيل في أفعال الصلاة من القنوت والركوع والسجود إلا إذا علم حب التطويل من جميع المأمومين وأن يطيل ركوعه إذا أحس بدخول شخص ضعف ما كان يركع انتظارا للداخلين ثم يرفع رأسه وإن أحس بداخل، وأن لا يقوم الإِمام من مقامه بعد التسليم بل يبقى على هيئة المصلى حتى يتم من خلفه صلاته من المسبوقين أو الحاضرين لو كان الإِمام مسافرا بل هو الأحوط ويستحب للإِمام المسافر أن يستنيب من يتم بهم الصلاة عند مفارقته لهم.
مذهب الإباضية:
جاء في الذهب الخالص
(3)
: أن الإمام ينوى الصلاة بكل من أتم به ممن تصح صلاته وإن خص أحدا لم تجز لغيره إلا إن خصه في اللفظ أو النية ولم ينو منع غيره كما أجيز الائتمام بمن أحرم لنفسه ولم يستشعر الإمامة، وجاء في شرح النيل
(4)
: أن الإمام لا يحرم على معينين (أي لا ينوى الإِمامة لمعينين فقط) فإن فعل وجاء غيرهم ففى فساد صلاة الغير قولان وعلى القول، يجب على الإِمام أن يخبر من فسدت صلاته أنه لم يعنه. وجاء في موضع آخر
(5)
أجمع الإباضية أن يجهر الإِمام في ركعتى الفجر وأوليي المغرب وأوليي العشاء في الفاتحة والسور
(6)
ويسر بالقراءة في عصر وظهر وآخرة مغرب وآخرتين من العشاء ويجهر بسمع الله لمن حمده والتعظيم والتسبيح والتحيات وقيل يسر في ذلك بالقراءة وغيرها من الأقوال كلها وهو الصحيح كالتكبير لغير الإِحرام والتحيات والتعظيم ويجهر الإمام بالتكبيرات مطلقا وسمع الله لمن حمده باتفاق مطلقا في ركعة الجهر وركعة السر لإعلام المأمومين وأقل الجهر بالنسبة للإِمام أن يسمع من خلفه. وجاء في الإِيضاح
(7)
: أنه ينبغى للإمام أن يرفق بمن
(1)
المرجع السابق للسيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 221 مسألة رقم 24 الطبعة السابقة.
(2)
المرجع السابق للسيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 282 وما بعدها الطبعة السابقة.
(3)
انظر كتاب الذهب الخالص المنوه بالعلم القالص للشيخ محمد بن يوسف أطفيش جـ 1 ص 176 وما بعدها طبع مطابع المطبعة السلفية بمصر سنة 1343 هـ.
(4)
انظر شرح النيل وشفاء العليل لمحمد بن يوسف أطفيش جـ 1 ص 452، ص 453 وما بعدهما طبع مطبعة محمد بن يوسف البارونى وشركاه بمصر سنة 1343 هـ الطبعة الأولى.
(5)
انظر المرجع السابق لابن يوسف أطفيش جـ 1 ص 390، ص 391 وما بعدهما الطبعة السابقة.
(6)
انظر كتاب شرح النيل وشفاء العليل لمحمد بن يوسف أطفيش جـ 1 ص 386 وما بعدها الطبعة السابقة.
(7)
انظر كتاب الإيضاح للعالم العلامة الشيخ عامر بن على الشماخى جـ 1 ص 545، ص 546 الطبعة السابقة.
يصلى خلفه من الناس لأن فيهم الضعيف والمريض ومن له عذر لما روى من طريق أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير وذا الحاجة وإذا صلى لنفسه فليطل ما شاء" رواه الجماعة إلا ابن ماجه وكما روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا جلس الجلسة الأولى للتشهد كأنه على الرضف"(وهى الحجارة المحماة) وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته قصد ودعائه قصد وإن صلى وحده إن شاء طول وإن شاء قصر. متفق عليه، وكذلك لا ينبغى للإمام أن يسر بتكبيره لئلا يخيل على الناس صلاتهم ولكن يسمعهم صوته ويحتسب في ذلك رجاء ثواب ربه وخوفا من عقابه.
حكم أخذ الأجرة على الإمامة
مذهب الحنفية:
جاء في الهداية وشروحها
(1)
: أنه لا يجوز الاستئجار على الأذان والحج وكذا الإِمامة وتعليم القرآن والفقه والأصل أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به" وفى آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن أبى العاص "وإن اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا" ولأن القربة متى حصلت وقعت عن العامل ولهذا تعتبر أهلية فلا يجوز له أخذ الأجر من غيره، وبعض مشايخ بلخ استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن لأنه ظهر التوانى في الأمور الدينية ففى الامتناع تضيع حفظ القرآن وعليه الفتوى وإنما كره المتقدمون الأجر على ذلك لأنه للمعلمين عطيات من بيت المال فكانوا مستغنين عما لابد لهم من أمر معاشهم وقد كان في الناس رغبة في التعليم بطريق الحسبة ولم يبق ذلك. وجاء في العناية عن الذخيرة: أنه يجوز في هذا الزمان أخذ الأجرة للإمام والمؤذن والمعلم والمفتى.
مذهب المالكية:
جاء في الدسوقى: وكره أخذ الأجرة على الإِمامة في الصلاة وحدها فرضا أو نفلا من المصلين لا من بيت المال أو وقف المسجد فلا يكره لأنه من الإِعانة لا من الإِجارة أما أخذ الأجرة على الأذان مع الصلاة صفقة واحدة فهو جائز. وجاء في الحطاب
(2)
: قال في المدونة في باب الأذان: أنه تجوز الإِجارة على الأذان والصلاة جميعا ولا تجوز الإِجارة على الصلاة خاصة وكره مالك الإِجارة في الحج وعلى الإِمامة في الفرض والنافلة في قيام رمضان ومن استأجر رجلا على أن يؤذن لهم ويقيم بهم جاز وكأن الأجر إنما وقع على الأذان والإِمامة والقيام بالمسجد لا على الصلاة. وقال ابن حبيب: لا تجوز الإِجارة على الأذان وعلى الإِمامة في الصلاة. وقال ابن عبد الحكم تجوز الإِجارة فيهما وظاهر كلام ابن حبيب أن المنع على التحريم. وذكر ابن رشد عن بكر القاضي أنه
(1)
انظر كتاب تكملة فتح القدير المسماة بنتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار لشمس الدين المعروف بقاضى زاده وبهامشه العناية على الهداية للبابرنى وحاشية سعد جلبى جـ 7 ص 179، ص 180 وما بعدهما طبع المطبعة الكبرى الأميرية بمصر سنة 1317 هـ الطبعة الأولى.
(2)
الحطاب مع التاج والأكليل للمواق في كتاب جـ 1 ص 555 وما بعدهما طبع مطبعة السعادة بمصر سنة 1329 هـ الطبعة الأولى وحاشية الدسوقى والشرح الكبير عليه جـ 1 ص 198 وما بعدها طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1308 هـ.
روى عن علي أنه لا بأس بالإجارة على الفرض لا على النفل. قال ابن رشد لعدم لزوم النفل ولزوم الفرض. ونقل عن الماذرى أنه قال بجواز الإجارة لمن بعدت داره لا لمن قربت داره. وعند المحققين إن كان يتكلف في ملازمة الصلاة في موضع معين يشق القصد إليه صحت الإجارة وإن كان لا مشقة في ذلك لم تصح. وقال عبد الحق إنها مكروهة لا أنها لا تجوز كما قال ابن حبيب. وروى أشهب أن الاستئجار لقيام رمضان مباح وإن كان بأس فعلى الإمام. وروى ابن القاسم أنه مكروه، وعلى جواز الإِجارة على الأذان والإمامة معا في قول مالك إذا تخلف المؤذن عن الصلاة خاصة من سلس بول ونحوه فقيل لا يسقط من الإجارة حصة الصلاة لأنها تبع كمال العبد وثمرة النخل الذي لم يبد صلاحه لا يجوز على الانفراد ويجوز إذا جمع وقيل بل تسقط حصة الصلاة لأن التبع قد يرتفع عنه التحريم الثابت له منفردا كحلية السيف التابعة له فإنه يحرم بيعها بجنسها ويجوز تبعا. والأحباس الموقوفة على من يؤذن أو يصلى قيل إنها إجارة وقيل إنها إعانة، والصلاة خلف من يأخذ الأجرة على الإمامة جائزة. قال في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب وسئل عن الصلاة خلف من يستأجر لقيام رمضان يؤم الناس فقال لا يكون بذلك بأس وإن كان بأس فعليه قال ابن رشد لأنه لا بأس بالصلاة خلف من استؤجر لقيام رمضان لأن الإجارة عليه ليست حراما فتكون جرحة فيه تقدح في إمامته وإنما هي له مكروهة فتركها أفضل ولا تكره إمامة من فعل ما تركه أفضل كما لا يكره إمامة من ترك ما فعله أفضل من النوافل.
مذهب الشافعية:
جاء في نهاية المحتاج
(1)
: أنه لا تصح إجارة لفعل عبادة يجب فيها النية أو لمتعلقها كالإمامة بحيث يتوقف أصل حصولها عليها ولا يستحق الأجير شيئا لأن كل ما لا يصح الاستئجار له لا أجرة لفاعله وإن عمل طامعا وألحق بذلك الإمامة ولو لنفل لأنه حصل لنفسه فمن أراد اقتدى به وإن لم ينو الإمامة وتوقف فضل الجماعة على نيتها فائدة تختص به وما جرت به العادة من جعل جامكية
(2)
على ذلك فليس من باب الإجارة وإنما هو من باب الأرزاق والإحسان والمسامحة بخلاف الإجارة فإنها من باب المعارضة. أما ما لا تجب له نية كالأذان فيصح الاستئجار عليه، وما يقع لكثير من أرباب البيوت كالأمراء حيث يجعلون لمن يصلى بهم قدرا معلوما في كل شهر من غير عقد إجارة فلا يستحقون معلوما لأن هذه إجارة فاسدة وما كان فاسدا لكونه ليس محلا للصحة أصلا لا شئ فيه للأجير وإن عمل طامعا فطريق من يصلى أن يطلب من صاحب البيت أو غيره أن ينذر له شيئا معينا ما دام يصلى فيستحقه عليه.
(1)
انظر كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين محمد بن أبى العباس أحمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملى المنوانى المصرى الأنصارى الشهير بالشافعى الصغير ومعه حاشية أبى الضياء نور الدين على بن على الشبراملى القاهرى وبالهامش حاشية أحمد بن عبد الرزاق بن محمد بن أحمد المعروف بالمغربى الرشيدى جـ 5 ص 288 وما بعدها طبع مطبعه شركة مكتبه مصطفى البابى الحلبى وأولاده بمصر سنة 1357 هـ، سنة 1938 م.
(2)
الجامكية هي مرتب خدام الدولة من العسكرية والملكية.
مذهب الحنابلة:
جاء في منتهى الإرادات
(1)
: الأعمال التي تقع قربة لفاعلها لكونه مسلما لا تصح الإجارة عليها وذلك كالأذان والإقامة وإمامة الصلاة وتعليم القرآن والفقه والحديث والنيابة في الحج والعمرة لحديث عثمان بن أبى العاص أن آخر ما عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا. قال الترمذى حديث حسن. وعن عبادة بن الصامت قال: علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إليَّ رجل منهم قوسا قال قلت قوس وليس بمال. قال قلت أتقلدها في سبيل الله فذكرت تلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: "إنك لو لبستها ألبسك الله مكانها ثوبا من نار" رواه الأثرم في سننه. ولأن من شرط صحة هذه الأفعال كونها قربة إلى الله تعالى فلم يصح أخذ الأجرة عليها كما لو استأجر إنسانا يصلى خلفه الجمعة أو التراويح ولا يحرم أخذ جعالة على ذلك لأنها أوسع من الإجارة ولهذا جازت مع جهالة العمل والمدة ولا يحرم أخذ على ذلك بلا شرط وحديث القوس والخميصة قضيتان في عين.
مذهب الزيدية:
جاء في التاج المذهب
(2)
: أنه تحرم الأجرة على أمر واجب سواء كان فرض عين أم فرض كفاية، وأما الوصية على إمام المحراب فعادة الفضلاء، أخذها خلفا عن سلف ووجهها أنها لا تؤخذ في مقابلة الصلاة بل في مقابلة تخصيص هذا الموضع بالصلاة فيه أول الوقت وهو غير واجب. وأما المباح والمندوب والمسنون والمكروه فيحل أخذ الأجرة عليه ولو بالشرط.
مذهب الإمامية:
جاء في شرائع الإسلام
(3)
: أن أخذ الأجرة على الأذان حرام ولا بأس بالرزق من بيت المال وكذا الصلاة بالناس.
مذهب الإباضية:
جاء في شرح النيل
(4)
: أن أخذ الأجرة على الصلاة مكروه وفى الديوان لا يصلى خلف من أخذ الأجرة على الصلاة وإن صلى فلا إعادة.
(1)
كشاف عن متن الاقناع لابن ادريس الحنبلى جـ 2 ص 300، 301 طبع المطبعة العامرة الشرفية بمصر سنة 1316 هـ الطبعة الأولى ومنتهى الإرادات بهامش كشاف القناع لابن يونس البهوتى جـ 2 ص 272 الطبعة السابقة.
(2)
انظر كتاب التاج المذهب لأحكام المذهب شرح متن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار للقاضى العلامة أحمد بن قاسم العنس اليمانى الصنعانى جـ 3 ص 126 وما بعدها طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1366 هـ، 1947 م الطبعة الأولى.
(3)
انظر كتاب شرائع الإسلام في الفقه الإسلامي الجعفرى للمحقق الحلى أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن جـ 1 ص 164 وما بعدها طبع مطابع دار مكتبة الحياة ببيروت للطباعة والنشر سنة 1930 م.
(4)
انظر كتاب شرح النيل وشفاء العليل لمحمد بن يوسف أطفيش جـ 1 ص 420 وما بعدها طبع مطبعة محمد بن يوسف البارونى وشركاه بمصر سنة 1343 هـ.
هل الإِمامة أفضل أم الأذان
؟
مذهب الحنفية:
اختلف فقهاء الحنفية
(1)
هل الإِمامة أفضل أم الأذان؟ فقيل إن الأذان أفضل لقول الله تبارك وتعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا}
(2)
وفسرت السيدة عائشة رضى الله تعالى عنها بالمؤذنين ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤذنون أطول أعناقا يوم القيامة" وقيل إن الإِمامة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء من بعده كانوا أئمة ولم يكونوا مؤذنين وهم لا يختارون من الأمور إلا أفضلها، وقيل: هما سواء.
واختار المحقق الكمال بن الهمام أنها أفضل لما ذكرناه وقول عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه: لولا الخليفى لأذنت لا يستلزم تفضيل الأذان على الإِمامة بل مراده لأذنت مع الإِمامة لا مع تركها فيفيد أن الأفضل كون الإِمام هو المؤذن وهنا مذهب الحنفية وعليه كان الإِمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى كما علم من أخباره.
مذهب المالكية:
جاء في الحطاب
(3)
: أن العلماء اختلفوا أيهما أفضل الأذان أو الإمامة؟ فقيل الأذان أفضل واختاره عبد الحق وقيل الإِمامة أفضل وقيل هما سواء وقيل إن كان الإِمام توفرت فيه شرائط الإمامة فهو أفضل وإلا فلا.
مذهب الشافعية:
جاء في مغنى المحتاج
(4)
: أن الإمامة أفضل من الأذان في الأصح لمواظبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه من بعده رضى الله تعالى عنهم ولأن القيام بالشئ أولى من الدعاء واختار هذا السبكى مع قوله إن السلامة في تركها. ونقل في الأحياء عن بعض السلف أنه قال ليس بعد الأنبياء أفضل من العلماء ولا بعد العلماء أفضل من الأئمة المصلين لأنهم قاموا بين الله وبين خلقه هؤلاء بالنبوة وهؤلاء بالعلم وهؤلاء بعماد الدين، قلت الأصح أن الأذان أفضل من الإِمامة والله أعلم لقول الله عز وجل:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا}
(5)
قالت عائشة أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها هم المؤذنون لخبر إن خيار عباد الله
(1)
انظر كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق للشيخ زين الدين الشهير بابن نجيم وبهامشه حواشى منحة الخالق للسيد محمد أمين الشهير بابن عابدين جـ 1 ص 268 وما بعدها طبع المطبعة العلمية بمصر سنة 1316 هـ الطبعة الأولى. وانظر كتاب فتح القدير للشيخ الإمام كمال الدين بن محمد بن عبد الواحد السيداسى السكندرى المعروف بابن الهمام وبهامشه شرح العناية للإمام أكمل الدين بن محمد بن محمود البابرنى وحاشية المولى سعد الله بن عيسى المغنى الشهير بسعدى جلبى وبسعدى افندى جـ 1 ص 178 وما بعدها طبع المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1315 هـ الطبعة الأولى.
(2)
الآية رقم 33 من سورة فصلت.
(3)
انظر كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل وبهامشه التاج والأكليل لأبى عبد الله محمد بن يوسف الشهير بالمواق جـ 1 ص 242 وما بعدها طبع مطبعة السعادة بمصر سنة 1329 هـ الطبعة الأولى.
(4)
انظر كتاب مغنى المحتاج إلى شرح ألفاظ المنهاج للشيخ محمد الشربينى الخطيب وبهامشه متن المنهاج لأبى زكريا يحيى بن شرف النووى جـ 1 ص 144 وما بعدها طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1308 هـ وانظر كتاب قليوبى وعميرة للشيخ شهاب الدين القليوبى والشيخ عميرة على شرح العلامة جلال الدين بن المحلى جـ 1 ص 129 وما بعدها طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر.
(5)
الآية رقم 33 من سورة فصلت.
الذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأظلة لذكر الله تعالى. رواه الحاكم وصحح إسناده ولدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمؤذن بالمغفرة وللإمام بالإِرشاد. والمغفرة أعلى من الإِرشاد كما قاله الرافعى. وقال الماوردى: دعا للإمام بالرشد خوف زيعه وللمؤذن بالمغفرة لعلمه بسلامة حاله وأجيب عن الأول بأن الأذان يحتاج إلى فراغ وكانوا مشتغلين بمصالح الأمة وقيل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أذن لوجب الحضور على من سمعه. وضعف هذا بأن قرينة الحال تصرفه إلى الاستحباب ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن مرة في السفر كما رواه الترمذى بإسناد جيد وقيل أذن مرتين وصحح المصنف في نكته أن الأذان مع الإقامة أفضل من الإِمامة وجرى على ذلك بعض المتأخرين والمعتمد ما في الكتاب تبعا لصاحب التنبيه وإذا كان أفضل من الإمامة فهو أفضل من الخطابة لأن الإِمامة أفضل منها لأن الإِمام يأتى بالمشروط والخطيب يأتى بالشرط والإتيان بالمشروط أولى، وقيل الأذان والإمامة سواء وقيل إن علم من نفسه القيام بحقوق الإِمامة فهو أفضل.
مذهب الحنابلة:
جاء في كشاف القناع
(1)
: أن الأذان أفضل من الإقامة لزيادته عليها وأفضل من الإِمامة ويدل لفضل الأذان أحاديث كثيرة منها حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه" متفق عليه. وحديث معاوية بن أبى سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "المؤذنون أطول أعناقا يوم القيامة" رواه مسلم. ويشهد لفضل الأذان على الإِمامة حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه برفعه "الإِمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين" رواه أحمد وأبو داود والترمذى والأمانة أعلى من الضمان والمغفرة أعلى من الإِرشاد وإنما لم يتول النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده الأذان لضيق وقتهم عنه. قال عمر رضى الله تعالى عنه: لولا الخلفاء لأذنت. قال في الاختيارات هما أفضل من الإقامة وهو أصح الروايتين عن أحمد واختيار أكثر الأصحاب وأما إمامته صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين من بعده فكانت متعينة عليهم فإنها وظيفة الإِمام الأعظم ولم يمكن الجمع بينهما وبين الأذان فصارت الإِمامة في حقهم أفضل من الأذان لخصوص أحوالهم وإن كان لأكثر الناس الأذان أفضل، وله الجمع بين الأذان وبين الإِمامة بل ذكر أبو المعالى أن الجمع بينهما أفضل وقال أيضًا ما صلح له فهو أفضل.
مذهب الزيدية:
جاء في شرح الأزهار
(2)
: أن الأذان أفضل من الإِمامة لما ورد من الأخبار التي تدل على فضل الأذان على الإِمامة منها الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن واختلف في تفسير الضمان قيل لأنه متحمل عنهم القرآن في الجهرية ويتحمل سهو المؤتم عند المؤيد بالله فلا يسجد لسهوه
(1)
انظر كشاف القناع عن متن الإقناع وبهامشه منتهى الإرادات جـ 1 ص 161 وما بعدها طبع المطبعة العامرة الشرفية بمصر سنة 1319 هـ الطبعة الأولى.
(2)
انظر كتاب شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار لأبى الحسن عبد الله بن مفتاح جـ 2 ص 217 وما بعدها وهامشه طبع مطبعة حجازى بمصر سنة 1357 هـ الطبعة الثانية.
وقيل يضمن بمعنى أنه يلزمه ما يلزم الضامن من العقوبة وذلك حيث يخل بشرط منها عالما وأما المؤذن مؤتمن فقيل لأنه دخل فيما لا يجب عليه وبه احتج من قال الأذان ليس بواجب واحتج من فضل المؤذن على الإمام بأن حال الأمين أحسن من حال الضمين. وقال في الانتصار: الإمام أفضل والحديث ليس فيه دلالة على الأفضلية والوصف بالضمان والائتمان باعتبار التحمل وغيره فالاستدلال بالحديث على الأفضلية فيه بعد.
مذهب الإمامية:
جاء في مفتاح الكرامة
(1)
: أن الإمامة أفضل من التأذين. وفى المبسوط والمنتهى والبيان وغيرها لأنهم عليهم السلام كانوا يختارونها خصوصا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولأن الإمام أكمل فالإمامة أكمل إلى غير ذلك مما ذكروا، وأما الإقامة ففى جامع الشرائع والتذكرة والمنتهى أنها أفضل من الأذان ونقله في الذكرى عن الشيخ ساكتا عليه واستندوا في ذلك إلى كثرة الحث عليها واعتناء الشارع بها والاكتفاء بها في أكثر المواضع وغير ذلك مما ذكروه.
الإِمامة: ويرادفها في لسان العلماء .. الخلافة
التعريف في اللغة:
في "مختار الصحاح" في مادة - أَمَمَ - أمَّ القوم في الصلاة يؤُم مثل ردَّ يرائد إذا تقدمهم للصلاة واقتدوا به - وأْتَمَ به اقتدى والإمام الذي يقتدى به - وجمعه أئمة - وقرئ، فقاتلوا أيمة الكفر بالياء وأئمة الكفر بهمزتين .. وتقول: كان أمامه أي قدامه - والإمام أيضًا الطريق. قال الله تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} وأما قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} . فقد قال الحسن: في كتاب مبين.
وفيه أيضا في مادة خَلَف - خَلْف ضد قدام .. والخلْف والخَلَف ساكن اللام ومفتوحها ما جاء من بعد - يقال: هو خلْف سوء من أبيه - وخَلَف سوء من أبيه بالتحريك إذا قام مقامه، وقال الأحفش: هما سواء منهم من يحرك ومنهم من يسكن فيهما جميعا إذا أضاف .. ومنهم من يقول: خلف صدق بالتحريك ويسكن قبل الآخر بينهما. والخلف أيضا بالتحريك ما استخلفته من شئ والخليِّفى بكسر الخاء واللام وتشديد اللام مقصورا - الخلافة والخليفة والسلطان الأعظم والجمع الخلائف على الأصل مثل: كريمة وكرائم وجمعوه أيضا على خلفاء من أجل ألا يقع إلا على مذكر وفيه الهاء فجمعوه على إسقاط الهاء مثل ظريفى وظرفاء لأن فعيله لا يجمع على عقلاء
…
وخَلَف فلان فلانا إذا كان خليفته. يقال: خلفه في قومه من باب كتب ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ .. } وخلفه أيضا جاء بعده.
(1)
انظر كتاب مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة لمولانا السيد محمد الجواد بن محمد بن الحسينى العاملى المجاور بالنجف الأشرف جـ 2 ص 298 وما بعدها وهامشه طبع المطبعة الرضوانية في مصر القاهرة المطرية سنة 1324 هـ.
وفى المفردات في غريب القرآن للأصفهانى يقال: خَلَف فلان فلانا إذا قام بالأمر عنه إما معه وإما بعده - قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ .. } والخلافة - النيابة عن الغير إما لنيبة المنوب عنه وإما لموته وإما لعجزه، وفى القاموس وغيره من كتب الصحاح والخليفة السلطان الأعظم.
في الاصطلاح:
جاء في "حاشية الشيخ عبد السلام"
(1)
على الجوهرة في علم الكلام أن الخلافة وترادفها الإمامة - رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفى "مطالع الأنظار على طوالع الأنوار" للإمام البيضاوى: الإمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول عليه الصلاة والسلام في إقامة القوانين الشرعية وحفظ جوزة الملة على دين يجب إتباعه على كافة الأمة
…
وفى "شرح المقاصد"
(2)
لسعد الدين التفتازانى: والإمامة رياسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم .. وبهذا القيد خرجت النبوة ويفيد العموم خرج مثل القضاء والولاية والرياسة في بعض النواحى وكذا رياسة من جعله الإمام نائبا عنه على الإطلاق فإنها لا تعم الإمامة.
وقال الإمام الرازى: هي رياسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص ..
فإن قيل: الخلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تكون فيمن استخلفه ولا يصدق التعريف على إمامة لبيعة ونحوها فضلا عن رياسة النائب العام للإِمام - قلنا لو سلم فالاستخلاف أعم من أن يكون بوسيط أو بدونه.
وفى "مقدمة ابن خلدون" في حديثه عن معنى الملك والخلافة في الفصل الخامس والعشرين: إن الملك الطبيعى هو عمل الكافة على مقتضى الفرض والشهوة وهو جور وعدوان ومذموم كما هو مقتضى الحكمة والسياسة .. والملك السياسى هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلى في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار وهو مذموم أيضا لأنه بغير نور الله .. ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور .. وأما الخلافة فهى حمل الناس على مقتضى النظر الشرعى في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها ..
وإذ قد بينا حقيقة هذا المنصب وأنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا .. فقد سمى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإماما. وسماه المتأخرون سلطانا حين نشأ التعدد فيه واضطروا بالمباعد وفقدان شروط المنصب إلى عقد البيعة لكل متغلب ..
فأما تسميته إماما فتشبيها له بإمام الصلاة في إتباعه والاقتداء به، ولهذا يقال: الإمامة الكبرى تمييزا لها ..
وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في أمته فيقال خليفة. إطلاق وخليفة رسول الله واختلف في تسميته خليفة الله فأجازه بعضهم اقتباسا من الخلافة العامة التي للآدميين في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} .. وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} .
(1)
حاشية الشيخ عبد السلام ص 242.
(2)
شرح المقاصد لسعد الدين التفتازانى جـ 2 ص 271 وما بعدها.
ومنع الجمهور منه لأن معنى الآيات ليس عليه وقد نهى أبو بكر رضى الله عنه عن ذلك لما دعى به وقال: لست خليفة الله ولكنى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولأن الاستخلاف إنما هو في حق الغائب أما الحاضر فلا. والله تعالى حاضر وليس بغائب.
وفى كتاب "الأحكام السلطانية" لأبى الحسن الماوردى
(1)
: الإِمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
تلك هي التعريفات التي أوردها العلماء للإمامة والخلافة وهى تكاد تكون متفقة في المعانى والألفاظ وإن كان ابن خلدون قد قال إن الخلافة هي حمل الناس على مقتضى النظر الشرعى في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراحبة إليها، وهذا في الواقع أثر الخلافة وعمل الخليفة ومن ثم قفي ابن خلدون على ما ذكر بقوله: فهى في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وهو يجرى في ذلك مع سائر التعاريف.
هل الإِمامة من العقائد وأصول الدين
؟!
اتفق أهل السنة والمنزلة والخوارج وسائر الطوائف عدا الشيعة على أن الإمامة ليست عقيدة شرعية ولا أصلا من أصول الدين ..
وتتابع جميع من ذكرنا في تآليفهم وأبحاثهم وكل ما نقل عنهم على أن هذا الموضوع من الأحكام الفرعية العملية حتى ظهر "كتاب الإِسلام وأصول العلم" للمغفور له الأستاذ على عبد الرازق الوزير السابق وعرض فيه المؤلف لموضوع الخلافة وقرر فيما قرره.
أن العلماء المسلمين اتخذوا الخلافة عقيدة شرعية وحكما من أحكام الدين إذ جاء
(2)
في هذا الكتاب عند مناقشته العلماء الذين تكلموا في موضوع الإِمامة في استدلالهم على حكمها بالسنة فقال: "نفترض أن الأحاديث التي ذكروها كلها صحيحة وأن لفظ الأئمة وأولى الأمر ونحوهما إذا وردت في لسان الشرع فالمراد به أهل الخلافة فأصحاب الإِمامة العظمى.
وأن البيعة معناها بيعة الخليفة وأن جماعة المسلمين معناها حكومة الخلافة الإِسلامية - نفترض ذلك كله ونتنزل كل هذا التنزل ثم لا نجد في تلك الأحاديث بعد كل ذلك ما ينهض دليلا لأولئك الذين يتخذون الخلافة عقيدة شرعية وحكما من أحكام الدين" وجاء فيه
(3)
"وكذلك نشأ بين المسلمين منذ الصدر الأول الزعم بأن الخلافة مقام دينى ونيابة عن صاحب الشريعة عليه السلام.
وكان من مصلحة السلاطين أن يروجوا ذلك الخطأ بين الناس حتى يتخذوا من الدين دروعا تحمى عروشهم وتزود الخارجين عليهم ..
وما زالوا كذلك حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله. ثم إذا الخلافة قد أصبحت تلصق بالمباحث الدينية وصارت جزء من عقائد التوحيد يدرسه المسلم مع صفات الله تعالى وصفات رسله الكرام ويلقنه كما يلقن شهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".
ويظهر أن الذي أوقع صاحب الإِسلام وأصول الحكم في هذا الخطأ ما درج عليه
(1)
الأحكام السلطانية لأبى الحسن الماوردى ص 5 طبع مصطفى الحلبى.
(2)
الإسلام وأصول العلم للمغفور له الأستاذ على عبد الرازق ص 78.
(3)
المصدر السابق ص 101 وما بعدها.
العلماء من دراسة موضوع الإمامة وأحكامها في علم الكلام وضمن كتب العقائد مع أن هؤلاء العلماء قد صرحوا في كتبهم هذه بأن موضوع الإِمامة وأحكامها من أحكام الفروع وأن مكانها هو كتب الفقه وذكرت فعلا في بعض هذه الكتب وأن الذي حملهم على إدماجها في علم الكلام وكتب العقائد ما أثاره بعض الطوائف حولها من أقوال وآراء وعقائد فاسدة وأنها أصل من أصول الدين وركن من أركانه واستباحتهم الطعن في كبار الصحابة وغير ذلك تعصبا واستهتارًا يكاد أن يؤثر على كثير من قواعد الإِسلام وعقائد المسلمين.
قال العلامة
(1)
سعد الدين التفتازانى في شرح المقاصد من الفصل الرابع في مباحث الإِمامة: "أنه لا نزاع في أن مباحث الإِمامة بعلم الفروع أليق لرجوعها إلى أن الإِمامة ونصب الإِمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكنايات. وهى أمور كلية تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية لا ينتظم الأمر إلا بحصولها فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كل أحد ولا خفاء في أن ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية .. وقد ذكرنا في كتبنا الفقهية أنه لابد للأمة من إمام يحمى الدين ويقيم السنة، وينصف المظلومين ويستوفى الحقوق ويضعها مواضعها ..
ولكن لما شاعت بين الناس في باب الإِمامة اعتقادات فاسدة واختلافات، بل اختلافات باردة.
ومالت كل فئة إلى توصيات تكاد تفضى إلى رفض كثير من قواعد الإِسلام ونقض عقائد المسلمين والقدح في الخلفاء الراشدين. لما كان الأمر كذلك الحق المتكلمون هذا الباب بأبواب علم الكلام
…
وقال السيد الشريف في شرح "خطبة المواقف للعضد" أن الإمامة وإن كانت من فروع الدين إلا أنها ألحقت بأصوله دفعا لخرافات أهل البدع والأهواء وصونا للأئمة المهديين عن مطامعهم لئلا يفضى بالقاصرين إلى سواء اعتقادهم فيهم. وقال الكمال من أبى شريف في هوامش السعد على العقائد النسفيه من باب الإِمامة والتحقيق من مباحث الإِمامة الفقهيات. لكن لما شاع بين الناس اعتقادات فاسدة وظهر من أهل البدع والأهواء تعصبات فيها تكاد تفضى إلى رفض كثير من العقائد الإِسلامية، ونقض بعض العقائد الدينية والقدح في الخلفاء الراشدين - ألحقت تلك المباحث بالكلام وجعلت من مقاصده.
وإذا كانت مباحث الإِمامة وما يتعلق بها من أحكام من مسائل الفروع وأحكام فإنه يكفى في الاستدلال على الأحكام فيها الأدلة التي تفيد الظن الراجح على خلاف مسائل العقائد وأحكامها حيث لا يكفى للاستدلال فيها إلا الأدلة القطعية التي تفيد العلم واليقين.
وسنرى عند الكلام على أدلة أهل السنة والطوائف الأخرى على حكم الإِمامة ونصب الإِمام أنها في جملتها من النوع الأول على أن المقرر أن الأدلة الظنية إذا كثرت وتواردت على حكم واحد أفادت في مجموعها العلم.
حكم الإمامة ونصب الإمام:
قال العضد في المواقف: "قد اختلفوا في أن نصب الإِمام واجب أولا، واختلف القائلون بوجوبه في طريق معرفته وعندنا أن نصب
(1)
جـ 2 ص 271 سعد الدين التفتازانى.
الإمام واجب علينا سمعا وقالت المعتزلة والزيدية: بل عقلا.
وقال الجاحظ: الكعبى وأبو الحسين من المعتزلة بل عقلا وسمعا معًا .. وقالت الإِمامية والإسماعيلية: لا يجب نصب الإمام علينا .. بل على الله سبحانه وتعالى ..
وقالت الخوارج: لا يجب نصب الإمام أصلا. بل هو أمر جائز .. والدليل على أن نصب الإمام واجب وأن وجوبه بالشرع من وجهين:
الأول: أنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت من إمام حتى قال أبو بكر رضى الله عنه في خطبته المشهورة عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم: أيها الناس: ألا إن محمدًا قد مات ولابد لهذا الدين ممن يقوم به .. فبادر الكل إلى قبوله وتركوا من أجله أهم الأشياء لديهم وهو دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر.
والثانى: أن في نصب الإمام دفع ضرر محقق .. ودفع الضرر واجب شرعًا .. وبيان ذلك: أننا نعلم علمًا يقارب الضرورة أن مقصور الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات. والجهاد والحدود والمقاصات وإظهار شعائر الدين في الأعياد والجمع .. إنَّما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشا ومعادا.
وذلك لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما يعن لهم فإنهم على اختلاف الأهواء وتشتت الآراء وما بينهم من الشحناء قلما ينقاد بعضهم لبعض فيقضى ذلك إلى التنازع .. وربما يؤدى إلى هلاكهم جميعا. وتشهد لذلك التجربة .. ففى نصب الإمام دفع مضرة لا يتصور أعظم منها، بل نقول: إن نصب الإمام من أتم مصالح المسلمين، وأعظم مقاصد الدين، فحكمة الإيجاب الشرعى سمعًا".
وقال سعد الدين التفتازانى في شرح المقاصد
(1)
: "نصب الإِمام بعض انقراض زمن النبوة واجب سمعًا عند أهل السنة وعامة المعتزلة وعقلا عند الجاحظ والخياط والكعبى وأبو الحسين البصرى .. وقالت الشيعة: هو واجب على الله تعالى فعندهم ليكون معلمًا في معرفة الله تعالى. وعند بعض الشيعة وهم الإمامية ليكون لطفا في أداء الواجبات العقلية .. واجتناب المقبحات العقلية. وعند بعضهم وهم الغلاة لتعليم اللغات وأحوال الأغذية والأدوية والسموم والحرف والصناعات والمحافظة عن الآفات والمخافات.
وقالت النجدات. وهم قوم من الخوارج أصحاب نجدة بن عامر: أنه ليس بواجب أصلا ..
وقال أبو بكر الأصم من المعتزلة: إنه لا يجب عند ظهور العدل والإنصاف بين الناس لعدم الحاجة إليه، ويجب عند ظهور الظلم
…
وقد صرح السعد باسم الأصم. وقد جاء "بكتاب المنية والأمل" شرح الملل والنحل: أنه أبو بكر عبد الرحمن من كيسان المعتزلى. وكذلك ذكره إمام الحرمين في غيات الأمم وقد أخطأ بعض الناس فقال: إنه حاتم الأصم الزاهد البلخى المتوفى سنة 237 هـ وتابع السعد كلامه فقال: وقال هشام القوطى منهم بالعكس أي يجب عند ظهور العدل لإظهار شرائع الشرع لا عند
(1)
شرح المقاصد جـ 2 ص 271 وما بعدها.
ظهور الظلم لأن الظلمة ربما لم يطيعوه فيصير سببا لزيادة الفتن.
لنا على الواجب وجوه:
الأول: وهو العمدة: إجماع الصحابة حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات واشتغلوا به عن دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا عقيب موت كل إمام ..
روى أنه لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أبو بكر رضى الله عنه في المسلمين فقال: أيها الناس: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد رب محمد فإنه حى لا يموت. ولابد لهذا الأمر ممن يقوم به. فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم الله، فتبادروا من كل جانب وقالوا: صدقت. ولكن ننظر في الأمر، ولم يقل أحد: أنه لا حاجة إلى الإمام ..
الثاني: أن الشارع أمر بإقامة الحدود وسد الثغور وتجهيز الجيوش للجهاد وكثير من الأمور المتعلقة بحفظ النظام وحماية بيضة الإسلام مما لا يتم إلا بالإمام .. وما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورًا فهو واجب
…
الثالث: أن في نصب الإمام منافع لا تحصى واستدفاع مضار لا تخفى .. وكل ما هو كذلك فهو واجب .. أما الكبرى فبالإجماع ..
وأما الصغرى فتكاد تلحق بالضروريات ولا تحتاج إلى بيان ولهذا اشتهر أن ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن ..
وذلك لأن الاجتماع المؤدى إلى إصلاح المعاش والمعاد لا يتم بدون سلطان ظاهر يدرأ المفاسد ويحفظ المصالح. ولهذا لا ينتظم أمر أدنى اجتماع كرفقة طريق بدون رئيس يصدرون عن رأيه، ومقتضى أمره ونهيه ..
ولا يقال: إن غاية ذلك أنه يقتضى إقامة رئيس مطاع في كل جماعة يناط به النظام ولا يقتضى إقامة إمام عام ..
لأنا نقول: انتظام أمر عموم الناس على وجه يؤدى إلى صلاح الدين والدنيا يفتقر إلى رياسة عامة فيهما.
ولو تعدد الرؤساء لأدى إلى التنازع والتخاصم مما يوجب اختلال النظام .. ولو اقتصرت رياسته على أمور الدنيا لفات أمر الدين وهو الأهم عند الشارع والمقصود له أولا .. فإن قيل أن تنصيب الإمام يوجد منافسًا كبيرًا يؤدى إلى التنازع والاضطراب والفتن .. وما أمر إنهاء خلافة عثمان وما حدث بعدها إلى عهد العباسيين ببعيد - قلنا - أن منافعه أكبر من مفاسده.
فإن قيل أن القول بأن إقامة الإمام واجب يلزم عليه وقوع الأمة كلها في الخطأ لترك هذا الواجب في كثير من العصور خصوصا بعد الدولة العباسية. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجتمع أمتى على ضلالة".
ويقول: الخلافة بعدى ثلاثون سنة، ثم تصير ملكا عضوضا، قلنا إنما تعتبر الأمة واقعة في المعصية إذا تركت الواجب عن إمكان وقدرة واختيار لا عن عجز واضطرار كما هو الواقع .. والحديث من باب الآحاد أو يحمل على الخلافة الكاملة ويرد على القائلين بوجوب نصب الإمام على الله تعالى بأنه لو صح لما خلا زمان من إمام .. واللازم مناف للواقع.
واحتجت الخوارج القائلون بعدم وجوب نصب الإمام بأن إيجابه يؤدى إلى فتن وحروب وتنافس يؤدى إلى الاضطراب والخراب .. ويرد بأن هناك مرجحات بين الأشخاص بالصفات والشرائط .. وهذا يمنع التخاصم والتنافس
…
وقد ذكر مثل ذلك إمام الحرمين في غياث الأمم.
وظاهر مما جاء في المواقف والمقاصد أنهما اعتمدا في الاستدلال لأهل السنة على الإِجماع والدليل النظرى المبنى على القواعد الشرعية مما سنوضحه فيما بعد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية: "يجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا يقام الدين إلا بها فإن بنى آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالإجماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد من عند الاجتماع من رئيس.
حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم". وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم". فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع. لأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة ..
وكذلك ما أوجبه الدين من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصرة المظلوم وإقامة الحدود .. فالواجب اتخاذ والإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات .. والمقصود بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به عن أمر الدنيا ..
وظاهر من كلام الإِمام ابن تيميه أنه لم يشر إلى الخلاف في وجوب نصب الإِمام وأقوال الفرض فيه .. ولم يستدل على الوجوب إلا بالدليل النظرى المبنى على القواعد الشرعية ولم يشر إلى الإِجماع ولا إلى غيره من الأدلة ..
وقال ابن حزم الظاهرى في كتابه: الفصل في الملل والأهواء والنحل
(1)
: "اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإِمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإِمام عادل يقيم فيهم أحكام الدين ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإِمامة .. وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم .. وهذه فرقة ما ترى بقى منهم أحد وهم المتسربون إلى نجدة الحنيفى من بنى حنيفة باليمامة ..
وقول هذه الفرقة ساقط ويكفى في الرد عليه إجماع من ذكرنا على بطلانه .. والقرآن والسنة قد وردا بإيجاب الإمام ومن ذلك قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة وإيجاب الأمانة .. وأيضا فإن الله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} فوجب اليقين بأن الله تعالى لا يكلف الناس ما ليس في احتمالهم .. وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله تعالى من الأحكام عليهم في الأموال والجنايات والدماء والنكاح والطلاق وسائر الأحكام كلها ومنع الظالم وإنصاف المظلوم وأخذ القصاص على تباعد أقطارهم وشواغلهم واختلاف آرائهم. ممتنع غير ممكن إذ قد يريد واحد أو جماعة أن يحكم عليهم إنسان ويريد آخر أو جماعة أخرى أن لا يحكم عليهم
(1)
الفصل في الملل والأهواء والنحل طبع مطبعة محمد على صبيح المطبوع على هامشه كتاب الملل والنحل للشهرستانى جـ 4 ص 72 وما بعدها.
إما لأنها ترى في اجتهادها خلاف ما رأى هؤلاء وإما خلافا مجردا عليهم ..
وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها .. فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد فاضل عالم حسن السياسة قوى الإنفاذ ..
وظاهر من عبارة ابن حزم أن جميع السنية من أهل السنة في وجوب الإمامة وأن على الأمة الطاعة والانقياد. مع أن عبارات المؤلفين وواقع الأمر أن الشيعة يقولون بوجوب الإمامة. على الله تعالى .. وإن كان من الممكن حمل عبارة ابن حزم على أن المقصود بالاتفاق مجرد الوجوب بدليل مقابلته بالقول بعدم الوجوب أصلا، واستدل ابن حزم بالكتاب والسنة والدليل النظرى المبنى على القواعد الشرعية .. وإن كان لم يشكر شيئا من الأحاديث التي أشار إليها.
وقال ابن خلدون في مقدمته المعروفة في الفصل السادس والعشرين بعد أن بين معنى الخلافة والإمامة: "ثم أن نصب الإمام واجب" قد عرف وجوبته في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته قد بادروا إلى بيعة أبى بكر رضى الله عنه النظر إليه في أمورهم وكذا في كل عصر من بعد ذلك. ولم يترك الناس فوضى في أي عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن من مدرك وجوبه النقل وأن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم الفعل فيه .. قالوا وإنما وجب بالفعل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين. ومن ضرورة الاجتماع التنازع لإزدحام الأغراض فما لم يوجد الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم مع أن حفظ النوع من مقاصد الشرع الضرورية ..
وهذا المعنى بعينه هو الذي لحظه الحكماء في وجوب النبوات في البشر، وقد نبهنا على فساده وأن إحدى مقدماته أن الوازع إنما يكون بشرع من الله تسلم له الكافة تسليم إيمان واعتقاد وهو غير مسلم لأن الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشوكة ولو لم يكن شرع كما في أمم المجوس وغيرهم ممن ليس لهم كتاب أو لم تبلغهم الدعوة.
أو نقول: يكفى في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه بحكم العقل، فادعاؤهم أن التنازع إنما يكون بوجوب الشرع هناك ونصب الإمام. هذا غير صحيح، بل كما يقول بنصب الإمام يكون بوجود الرؤساء وأهل الشوكة أو بامتناع الناس عن التنازع والنظر. إليه فلا ينهض دليلهم العقلى المبنى على هذه المقدمة. فدل على أن مدرك وجوبه إنما هو الشرع وهو الإجماع الذي قدمناه.
وقد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب نصب الإِمام أصلا لا بالعقل ولا بالشرع. منهم الأصم من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم، والواجب عند هؤلاء إنما هو إمضاء الحكم بالشرع فإذا تواطأت الأمة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه.
وهؤلاء ممجوجون بالإجماع ..
والذي حملهم على هذا المذهب إنما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب والاستمتاع بالدنيا لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك والنعى على أهله ومرغبة في رفضه ..
ولكنا نقول لهم إن هذا الفرار عن الملك بعدم وجوب نصب الإِمام لا يغنيكم شيئا لأنكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشريعة وذلك
لا يحصل إلا بالعصبية والشوكة، والعصبية مقتضية بطبعها للملك فيحصل الملك وإن لم ينصب إمام وهو عين ما قررتم منه .. وإذا تقرر أن هذا المنصب واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل الحل والعقد فيتعين عليهم نصبه .. ويجب على الخلق جميعا طاعته لقوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
وظاهر من كلام ابن خلدون أنه اعتمد في الاستدلال لمذهب أهل السنة على الإجماع فقط وقال أنه إجماع الصحابة والتابعين واستمر التصور على ذلك .. ولم يشر إلى باقى الأدلة .. وناقش مذهب القائلين بأن وجوب إقامة الإمام بالعقل. ومذهب القائلين بعدم الوجوب أصلا.
وقال أبو الحسن الماوردى في كتابه الأحكام السلطانية
(1)
: "واختلف في وجوبها (الإمامة). هل وجبت بالعقل أو بالشرع؟.
فقالت طائفة: وجبت بالعقل لما في طبائع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم. ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين وهمجا مضيعين.
وقد قال الأفوه الأودى:
(لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
…
ولا سراة إذا جهالهم سادوا)
وقالت طائفه: بل وجبت بالشرع دون العقل لأن الإمام يقوم بأمور شرعية قد كان محجوزا في العقل أن لا يرد التعبد بها فلم يكن العقل موجبا لها .. وإنما يوجب العقل أن يمنع كل واحد من العقلاء نفسه عن التظالم والتقاطع ويأخذ بمقتضى العقل في التناصف والتواصل فيتدبر بعقله لا بعقل غيره. ولكن جاء الشرع بتفويض الأمور إلى وليه في الدين.
وقال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ففرض طاعة أولى الأمر فينا وهم الأئمة المتآمرون علينا ..
وروى هشام بن عروة عن أبى صالح عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيليكم من بعدى ولاة. فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن ساءوا فلكم وعليهم" وظاهر من كلام الماوردى أنه لم يستوعب الآراء كلها في حكم نصب الإمام، وأنه اقتضى في الاستدلال لأهل السنة على الكتاب والسنة.
وبالنظر في هذه المقتطفات التي سقناها يتضح ما يأتى:
أولا:
أن أهل السنة وجمهور المعتزلة والخوارج يرون أن نصب الإِمام واجب على الأمة لا على الله تعالى وأن وجوبه عرف بالشرع لا بالعقل وأن المزلفين الذين نقلنا عنهم ما نقلناه في هذا الصدد قد استدلوا لهذا الرأى في جملتهم بالإجماع والدليل النظرى المبنى على القواعد الشرعية كما بالكتاب والسنة وسيأتى بيان هذا الاستدلال وتفصيله وما قيل في كل من تلك الأدلة والرد عليه.
(1)
الأحكام السلطانية في باب عقد الإمامة ص 5.
ثانيا:
أن الجاحظ والخياط والكعبى وأبا الحسين البصرى من المعتزلة يرون أن نصب الإمام واجب على الأمة ولكن بطريق العقل لا بطريق الشرع، وأن الإجماع الذي وقع إنما هو قضاء بحكم العقل.
مستندين إلى أن الاجتماع ضرورى للبشر. ومن ضرورة الاجتماع التنازع لتزاحم الأغراض ولو استمر لأدى إلى الفتن المؤذنة بهلاك النوع الإنسانى وبقاء النوع من مقاصد الشرع فلابد من إقامة حاكم يقضى على التنازع.
وقد ناقش ابن خلدون هذا الاحتجاج ورد عليه بما ذكرناه سابقا. وكذلك القاضي أبو الحسن الماوردى على ما سبق النقل عنه.
ثالثا:
أن بعض الخوارج وهم النجدات أصحاب نجدة بن عامر الحنيفى ومنهم الأصم أبو بكر عثمان بن كيسان من المعتزلة يرون أن نصب الإمام ليس واجبا أصلا لا بالشرع ولا بالعقل، وإنما على الأمة أن تتعاطى الحق والعدل فيما بينها وتلتزم في حياتها ومعاملاتها بقوانين الشرع وأحكامه، وإذ يتحقق لهم ذلك لا تبقى بهم حاجة إلى الإِمام .. وأيضا فإن نصب الإِمام يؤدى إلى التنافس والتنازع المفضى إلى الاضطراب والخراب فلا داعى له.
وقد رأيت فيما سبق أن بعض المزلفين صور رأى الأصم بأن نصب الإمام لا يجب عند تحقق العدل في الأمة، ويجب عند قيام الظلم فيها وأن هشام القوطى من المعتزلة يرى عكس ذلك.
وقد قال إمام الحرمين في غياث الأمم في الرد على الأصم: أن رأيه يؤدى إلى ترك الناس أخيافا يلتطمون ائتلافا واختلافا لا يجمعهم ضابط، ولا يربط شتات رأيهم رابط .. وهذا الرجل هجوم على شق العصا ومقابلة الحقوق بالعقوق، لا يهاب حجاب الاتصاف ولا يذكر إلا عند الانسلال والخروج من ربقة الإجماع والحيد عن سنن الاتباع. وهو مسبوق بإجماع من أشرقت عليهم الشمس شارقة وغاربة، واتفاق مذاهب العلماء قاطبة
…
على أن الأصم ومن معه قد قيدوا قولهم بعدم الوجوب وعلقوه على أمر لم تجربه السنن الكونية في هذه الحياة على طولها وامتدادها وهو تواطؤ الأمة على إقامة العدل بينهم وتنفيذ أحكام الله تعالى وقوانين الشرع
…
ولا شك أن اتفاق مجتمع بشرى على إقامة حدود الله وتطبيق أحكام الشريعة فيما بين أفراده دون وازع من إمام عادل يطبق وينفذ هذه الأحكام بما له من قوة وسلطان. مما دلت التجارب والمشاهدات الطويلة على أنه خارج عن طبيعة البشر إلا أن ينقلب الناس ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
أما القول بأن وجوب إقامة الإمام يؤدى إلى التنافس والتنازع المفضى إلى الخراب والدمار .. فقد رد عليه السعد التفتازانى فيما نقلناه عنه سابقا بأن هناك مرجحات بين المتنافسين من الصفات والشروط التي أوجبت الشريعة توافرها في الإمام. وهذا يحد من المنافسة ويمنع التنازع على أن نفعه أكثر من ضرره.
وسنبين فيما بعد إن كان خلاف هؤلاء في الوجوب يؤثر في الإجماع الذي احتج به أهل السنة أو لا يؤثر.
رابعا:
أن إقامة الإِمام واجب على الله تعالى. وأن هذا أصل من أصول الدين وركن من أركانه لا يمكن أن يغفل النبي صلى الله عليه وسلم أمر تعيين الإمام ولا أن يترك ذلك للأمة تختاره وتقيمه لأن الإمام يجب أن يكون معصوما وجوبا عن الصغائر والكبائر وأن يكون أفضل أهل زمانه وأعلمهم بعلوم الدين والشريعة وغيرها. وهذا مما لا يعلمه إلا الله تعالى .. وسيأتى الكلام على مذاهبهم في الإِمامة والإمام وفرقهم وأدلتهم ومناقشتها والرد عليها ..
وإلى هنا بينا المذاهب والآراء في حكم الإِمامة .. وأدلة الفرق التي خالفت أهل السنة. فيما عدا الشيعة .. ومناقشة هذه الأدلة .. وسنبين الآن أدلة أهل السنة.
أدلة أهل السنة:
ذكرنا أن العلماء قد احتجوا لأهل السنة بالإجماع .. والدليل النظرى المبنى على القواعد الشرعية، والكتاب والسنة وقد أثار البعض كلاما حول هذه الأدلة يشكك في وجود بعضها ودلالته وينتهى إلى عدم صحة الاستدلال بشئ منها. وسنبين ذلك مبتدئين بالإجماع الذي اتفق عليه أكثر العلماء.
بالنسبة للإجماع:
أثار البعض كلاما حول الإجماع يتضمن أن بعض الأشخاص أو بعض الفرق قد أنكر حجية الإجماع كدليل شرعى للأحكام وأن البعض أنكر تصور حدوثه وانعقاده على أمر غير ضرورى .. وأن بعض الأئمة ذهب إلى أنه لا إجماع إلا للصحابة أو من عترة الرسول صلى الله عليه وسلم أي قرابته. أو لأهل المدينة.
وأن من الأئمة من قال: من ادعى الإِجماع فهو كاذب .. وإذا سلم فإنه لم يقم إجماع من المسلمين في موضوع حكم الإِمامة: وما ذكر من ذلك هنا أو هناك لا يعتد به ولا يعتبر دليلا لأنه كان وليد الضغط والإكراه، وتحت بريق السيوف من خلال السلاح.
وأخيرا فإن الأصم وبعض الخوارج وغيرهم قد خالفوا في الحكم المدعى الإِجماع عليه وهذا كاف في نقض الإِجماع، فكيف التمسك به مع هذا؟
جاء في كتاب
(1)
الإِسلام وأصول الحكم للمغفور له الأستاذ على عبد الرازق الوزير السابق في حديثه عن استدلال العلماء والمتكلمين من أهل السنة على وجوب الخلافة وإقامة الخليفة ما يأتى: "زعموا وقد فاتهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت من إمام حتى قال أبو بكر رضى الله عنه في خطبته المشهورة حين وفاته عليه الصلاة والسلام: "ألا إن محمدًا قد مات ولابد لهذا الدين ممن يقوم به. فبادر الكل إلى قبوله وتركوا له أهم الأشياء وهو دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر وإلى زماننا من نصب إمام متبع في كل مصر .. فسلم أن الإِجماع حجة شرعية ولا نثير خلافا في ذلك مع المخالفين. وعلق على هذه العبارة في الهامش بقوله: "الإجماع حجة مقطوع بها عند عامة المسلمين".
(1)
كتاب الإسلام وأصول الحكم للمغفور له الأستاد علي عبد الرازق ص 21 وما بعدها طبع شركة مصر سنة 1925.
ومن أهل الأهواء من لم يجعله حجة مثل إبراهيم النظام والقاشانى من المعتزلة والخوارج وأكثر الروافض. ثم نسلم أن الإجماع في ذاته ممكن الوقوع والثبوت وعلق في الهامش على هذه العبارة بقوله: "أنكر بعض الروافض والنظام من المعتزلة تصور النقاد الإجماع على أمر غير ضرورى".
وذهب داود وشيعته من أهل الظاهر. وأحمد بن حنبل فى إحدى الروايتين عنه إلى أنه لا إجماع إلا للصحابة.
وقال الزيدية والإمامية من الروافض: لا يصح الإِجماع إلا من عترة الرسول صلى الله عليه وسلم أي قرابته .. ونقل عن مالك رحمه الله أنه قال: لا إجماع إلا لأهل المدينة. ا. هـ. راجع كتاب كشف الأسرار لليزدوى
(1)
.
ولا نقول مع القائل إن من أدعى الإجماع فهو كاذب. وعلق على هذه العبارة في الهامش بقوله: روى ذلك عن الإِمام أحمد بن حنبل. (راجع تاريخ التشريع الإسلامي لمؤلفه محمد الحضرى
(2)
).
ويتابع المؤلف كلامه فيقول: أما دعوى الإجماع في هذه المسألة (وجوب الخلافة) فلا نجد مساغا لقبولها على أي حال ومحال إذا طالبناهم بالدليل أن يظفروا بدليل.
على أننا مثبتون لك فيما يلى أن دعوى الإجماع غير صحيحة ولا مسموعة سواء أرادوا إجماع الصحابة وحدهم أم الصحابة والتابعين أم علماء المسلمين كلهم بعد أن نمهد لهذا تمهيدا ..
وبعد أن أشار إلى أن تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين يشير إلى أن حظهم من العلوم السياسية كان أقل وأضعف من حظهم في غيرها وأرجع ذلك إلى السلاطين والخلفاء وعملهم على الحيلولة دون نوسعهم في دراسة العلوم السياسية ونقلها عن اليونانيين مع غيرها حرصا على عروشهم ومراكزهم القائمة على القهر والغلبة لأن هذه العلوم تبحث دائما في نظم الحكم ومبادئه وأنواعه وحقوق الشعوب والأمم وحرياتها فيخشى أن تفتح أذهان المسلمين وعيونهم على ما هم عليه من سوء واستبداد.
وقد تكون لذلك أسباب أخرى لا يعنينا أن نستوعبها وإنما الذي يعنينا أن نقرر أن ارتكاز الخلافة على القوة حقيقة واقعة لا ريب فيها.
وتستطيع أن تدرك مثلا لذلك في قصة البيعة ليزيد بن معاوية حين قام أحد الدعاة إلى تلك البيعة خطيبا في الحفل الذي أقيم لذلك فأوجز البيان في كلمات لم تدع لذى إربة في القول جدًّا ولا هزلا - قال هذا الداعى "أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية فإن هلك فهذا (وأشار إلى يزيد) فمن أبى فهذا (وأشار إلى سيفه) فقال معاوية: اجلس فأنت سيد الخطباء ..
إلى أن قال
(3)
: ونعود بك الآن إلى حيث كنا عند قولهم أن الأمة أجمعت على أن نصب الإِمام فكان ذلك إجماعا دالا على وجوبه ..
لو ثبت عندنا أن الأمة في كل عصر سكتت على بيعة الإمامة فكان ذلك إجماعًا سكوتيا - بل لو ثبت أن الأمة بجملتها وتفضيلها قد اشتركت بالفعل في كل عصر في بيعة الإِمامة واعترفت بها فكان ذلك إجماعا صريحا .. لو نقل إلينا ذلك لأنكرنا أن يكون إجماعًا حقيقيا ولرفضنا أن نستخلص منه حكمًا شرعيًا وأن
(1)
كتاب كشف الأسرار لليزدوى طبع دار الخلافة سنة 1317 هـ ص 946 وما بعدها.
(2)
تاريخ التشريع الإسلامي لمؤلفه محمد الحضرى ص 206.
(3)
الموافقات جـ 3 ص 4.
نتخذه حجة في الدين ..
وقد عرفت من قضية يزيد بن معاوية كيف كانت تؤخذ البيعة ويغتصب الإقرار ..
ولو ثبت الإجماع الذي زعموا لما كان إجماعًا يعتد به، فكيف وقد قالت الخوارج لا يجب نصب الإمام أصلا .. وكذلك قال الأمم من المعتزلة وقال غيرهم أيضا كما سبقت الإشارة إليه مثل ذلك وحسبنا في هذا المقام نقضا لهذا الإجماع أن يثبت عندنا خلاف الأصم والخوارج وغيرهم .. وإن قال ابن خلدون بأنهم شواذ. ا. هـ.
المناقشة:
أما عن حجية الإجماع فقد قال المؤلف نفسه في تعليقه في الهامش: إن الإجماع حجة مقطوع بها عند عامة المسلمين ومن أهل الأهواء من لم يجعله حجة.
والواقع أنه لا عبرة بأهل الأهواء ولا مسلك من نازع في حجية الإجماع كدليل. شرعى.
فإن الإسلام قد فتح للاجتهاد والنظر في الأدلة والأحكام طريقا واسعًا وكان من سيرة الصحابة رضوان الله عليهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ومن تابعهم وأتى بعدهم من العلماء الراسخين إلى الوقت الذي ساد فيه القول بإغلاق باب الاجتهاد - كان من سيرتهم ألا يتقبلوا الأحكام والأقوال والآراء التي تثار فيها إلا أن تستند إلى حجة ظاهرة تفيد القطع في مسائل العقائد أو تعتبر الظن الراجح على الأقل في الأحكام الفرعية وكانت مثل هذه المسائل تطرح على بساط البحث وتداولها أنظارهم في دقة بالغة وعمق وأناة حتى يستقرون فيها على حكم يقررونه بإجماع وتصبح المسألة ويصبح الحكم فيها من الثبوت والاستقرار بحيث لا يبقى لمخالف فيها مجال ولا وجه يلتفت إليه.
وخصوصا ما كان من ذلك في عصر الصحابة والذين شهدوا الوحى ووقفوا على روح التشريع ولم يعرفوا في الحق مناصرته هوادة ولا محاباة. ثبت ذلك بالاستقراء والتتبع.
فكل رأى يتهجم مبتدعه على خرق إجماع الصحابة أو أهل العلم الراسخين المؤمنين ساقط لا يكلف نظرًا في دليل .. ولا يستدعى بحثا عن حجة: قال الشاطبى
(1)
: "قلما تقع المخالفة لفعل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطا أو مغالطة"
…
ولم تؤخذ حجية الإجماع من الكتاب والسنة من آيات قليلة أو أحاديث معدودة، بل ثبتت بآيات كثيرة وأحاديث شتى .. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
…
} والإجماع هو عنوان سبيل المؤمنين والمعبر عن طريقهم. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ .. فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} .
فمما فسر به أولو الأمر العلماء وقد أمر الشارع بطاعتهم لأنهم الذين يجتهدون ويستنطبون الأحكام، فإذا أجمعوا على شئ لا تجوز مخالفته ولا الخروج عليه .. وقال تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} .
وفى ذلك دعوة إلى رد ما يختلفون فيه إلى أولى الأمر وهم العلماء .. والمفروض أن الإمام عالم .. ولا معنى للرد إليهم إلا التزام حكمهم وإتباع رأيهم. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
(1)
الموافقات جـ 3 ص 4.
أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} شهد للأمة من حيث هي أمة بالعدالة وأهلية الشهادة. والإجماع عنوان الأمة فيكون إجماعًا على الحق والعدل .. وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} نهى عن التفرق. ومخالفة الإجماع تفرق فيكون محرما وغير جائز لأنه منهى عنه وغير هذه الآيات كثير
…
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجمع أمتى على ضلالة" وفى رواية: "لا تجتمع أمتى على خطأ" وقال أيضا ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن .. " وهذه الأدلة وإن كانت بالنظر إلى مفرداتها فكل واحد منها ظنية وتفيد الظن من حيث الدلالة إلا أنه ظن راجح يكفى لإثبات الأحكام الفقهية .. وهى في اجتماعها على الدلالة على الحكم وتواردها على موضوع واحد تفيد القطع ..
قال الشاطبى في الموافقات
(1)
: الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت القطع.
فإن للإجتماع من القوة ما ليس للافتراق. ولأجله أفاد التواتر القطع، وإذا تأملت كون أدلة الإجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة، فهو راجع إلى هذا المساق لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوق الحصر، فمن خالف في حجية الإجماع فهو محجوج بهذه الأدلة .. ومع ذلك فالمخالفون كما يقول المؤلف من أهل الأهواء. ولا عبرة بهؤلاء.
وأما من أنكر تصور حصول الإجماع على أمر غير ضرورى فليس أبلغ في الرد عليه من الرجوع إلى الواقع فقد وقع الإِجماع بالفعل ونقل إلينا ذلك بالتواتر، ثم يستثنون الأمر الضرورى، ويتصورون الإجماع عليه، وحدود التصور واسعة وتقدير الضرورى وغير الضرورى يتفاوت فيه النظر والتصور.
وأما القول بأن الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه قال: من ادعى الإجماع فهو كاذب .. فإن الإمام أحمد لم يرد بقوله هذا الإجماع الأصولى الذي هو من الأدلة الأصلية، وهو اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فى عصر من العصور على حكم شرعى وإنما يقصد بذلك الرد على بعض العلماء الذين ينظرون إلى المسألة حتى إذا لم يطلعوا على خلاف في حكمها .. قالوا إن الحكم فيها ثابت بالإجماع .. يدل على ذلك ما قاله العلامة ابن القيم
(2)
: "ولا يقدم. يعنى الإمام أحمد عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا ويقدمونه على الحديث الصحيح - وقد كذَّب أحمد من ادعى هذا الإجماع، وكذلك الإمام الشافعي فقد نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه خلاف لا يقال له إجماع وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبى يقول: ما يدعى فيه الرجل الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا، ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا .. إنه استبعاد لوجود الإجماع في ذلك وحصوله بالفعل - فالإمام أحمد إنما يريد بما قال: أن ينكر على الفقيه أن يسمى عدم علمه بالخلاف إجماعًا
…
وعلى مثل هذا جرى ابن حزم الظاهرى في كتاب الأحكام حيث قال: تحكم بعضهم فقال: إن قال عالم لا أعلم هنا خلافا فهو إجماع، وإن قال ذلك غير عالم فليس إجماعًا. وهذا قول في غاية الفساد ولا يكون
(1)
الموافقات جـ 1 ص 12.
(2)
أعلام الموقعين جـ 1 ص 32.
إجماعًا ولو قال ذلك محمد بن نصر المروزى - وهو من علماء الشافعية، وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة فمن بعدهم توفى سنة 202 كما جاء في طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكى
(1)
.
وأما قول المؤلف أنه قد خالف في وجوب الإمامة الخوارج والأصم وغيرهم فلا محل مع هذا الزعم الإِجماع والتمسك به. إذ حسبنا نقضا لدعوى الإجماع أن يثبت عندنا خلاف هؤلاء في الحكم. والواقع أنه لم يخالف في وجوب الإمامة من الخوارج إلا النجدات أصحاب نجدة ابن عامر الحنيفى. وقد نقلنا فيما مضى قول ابن حزم في هذا الصدد واتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة يجب عليها الإنقياد لإِمام عادل حاشا النجدات من الخوارج .. وانضم إليهم الأصم من المعتزلة ..
وقد قال البعض أن أقوال الطوائف التي يراها أهل السنة على غير حق وخلافاتهم تعتبر لاغية ولا وجود لها .. ولكن الذي اختاره الغزالى والآمدى وغيرهما من الأصوليين أن أقوالهم لا تعتبر لاغية وأن خلافهم في الأحكام يمنع من انعقاد الإجماع ..
وإنما يرد على صاحب الإِسلام وأصول الحكم بأن خلاف النجدات والأصم قد وقع بعد انعقاد الإِجماع ممن نقدمهم على وجوب نصب الإمام والمقرر أن حدوث قول بعد انقراض العصر الذي انعقد فيه الإجماع على حكم شرعى لا يؤثر في الإِجماع ولا ينقضه وهو مردود على صاحبه .. ولعل قول إمام الحرمين في الرد على الأصم في غياث الأمم "وهو مسبوق بإجماع من أشرقت عليه الشمس شارقة وغاربة "واتفاق مذاهب العلماء قاطبة" يشير إلى هذا المعنى وهو أن خلافه حدث بعد الإجماع فلا يؤثر فيه على أنهم كما سبق القول قيدوا مخالفتهم وعلقوها على أمر لا يكاد يتحقق فهو خلاف في حكم العدم.
وأما القول بأن الإِجماع الذي يعتبر حجة ويثبت به الحكم لم يقع مطلقا وأن ما وقع من ذلك إنما كان تحت ظلال السيوف وضغط القوة والإِرهاب ومثل ذلك لا يمكن أن يعتبر إجماعًا يبنى عليه حكم ويكون حجة فيما يريد العلماء أن يستدلوا به عليه. والاستشهاد على ذلك بقصة بيعة يزيد بن معاوية هذا القول خروج إلى شئ آخر غير الذي يجرى فيه الخلاف وتدور حوله المناقشة.
فإن العلماء والمتكلمين من أهل السنة إنما يتحدثون عن حكم الإمامة ووجوب نصب الإمام ويقولون إن إجماع الصحابة والتابعين قد تم وانعقد على ذلك إذ لم يحدث أي خلاف بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بأحياء
…
وأما مبايعة إمام خاص كأبى بكر رضى الله عنه أو يزيد بن معاوية أو غيرهما فلا يحتاج انقضاء البيعة فيه بل يكفى في انعقادها اتفاق جماعة من أهل الحل والعقد بحيث تكون كلمتهم العليا على من خالفهم ..
قال إمام الحرمين في كتاب غياث الأمم: "اتفق المنتمون إلى الإسلام على تفرق المذاهب وتباين المطالب على ثبوت الأمانة" ثم قال: "الإِجماع ليس شرطا عند الإِمامة بإجماع" فاستدلال صاحب الإسلام وأصول الحكم على إبطال الإِجماع على حكم الخلافة ووجوب نصب الخليفة بعدم الإجماع على بيعة يزيد
(1)
الشافعية الكبرى لابن السبكى جـ 2 ص 21.
ابن معاوية. أو يكون هذا الإجماع وليد ضغط وإكراه مما يجعله عديم الأثر وغير صحيح شرعا. وهذا الاستدلال في غمر محله وهو جمع بين أمرين كل منهما بعيد عن الآخر. إن الإجماع الذي يستند إليه في تقرير الأحكام هو اتفاق مجتهدى الأمة على حكم شرعى والحكم في موضوعنا هو وجوب نصب الإمام.
أما مبايعة الشخص المعين بالإمامة فإنه لا يشترط فيها اتفاق مجتهدى الأمة بل المدار في انعقادها على جماعة من أهل الحل والعقد وإن لم يكن فيهم مجتهد واحد .. فلا محل للقول بأن مبايعة فلان كانت وليدة القوة الرهيبة فيكون الإجماع المزعوم باطلا لا يبنى عليه حكم ..
ومن باطل القول وزيف الكلام أن يغمز البعض ويشير إلى سكوت الصحابة عن إبداء الرأى في وجوب نصب الإِمام ثم في بيعة أبى بكر بأنه لم يكن عن اقتناع بالأمر ورضاء بما تجرى فيه المشاورة .. ولكن كان مبعثه الخوف والرهبة من البطش .. إذ لم تكن هناك قوة تبطش بلا سلاح يبعث في النفوس الخوف ..
والعصر الذي صدع فيه الأصم ونجدة ابن عامر الحنيفى واتباعه بالقول بعدم وجوب نصب الإمام والجهر به على خلاف إجماع سابق من سادة المسلمين وقادتهم في العلم والرأى والاجتهاد وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان ..
هذا العصر لم تكن حرية الرأى والجهر بالعقيدة فيه بأحسن حالا من عصر الصحابة الذي قام فيه رجل من عامة الناس وجابه الخليفة العظيم عمر بن الخطاب وفى اجتماع عام وقال له: "والله لو رأينا فيك إعوجاجًا لقومناه بسيوفنا" ويتقبل الخليفة منه ذلك. ويعلن أنه يحمد الله تعالى على أن جعل في المسلمين من يقوم إعوجاج عمر بالسيف. ولا محل للقول بأننا لو رجعنا إلى الواقع ونفس الأمر لوجدنا أن الخلافة في الإِسلام لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة وأن تلك القوة كانت إلا في القادر قوة مادية مسلحة .. فلم يكن للخليفة ما يحددا مقامه إلا الرماح والسيوف والجيش المدجج والبأس الشديد، فبتلك دون غيرها يطمئن مركزه ويتم أمره. قد يسهل التردد في أن الثلاثة الأول من الخلفاء الراشدين مثلا أشادوا مقامهم على أساس القوة المادية وبنوه على قواعد الغلبة والقهر ..
ولكن أيسهل الشك في أن عليًّا ومعاوية رضى الله عنهما لم يتبوءأ عرش الخلافة إلا تحت ظلال السيف على أسنة الرمح
…
لا نشك مطلقا في أن الغلبة كانت دائما عماد الخلافة .. ".
وللرد على ذلك نبين فيما يلى كيف تمت بيعة الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم بما في ذلك بيعة على رضى الله عنه:
ففى بيعة أبى بكر الصديق روى البخارى في كتاب الحدود من صحيحه الخطبة التي ألقاها عمر بن الخطاب حاكيا واقعة مبايعة أبى بكر في سقيفة بنى ساعدة، وبعد أن أتى على المناقشة والمحاورة التي دارت بين أبى بكر وبعض الأنصار قال:"" فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف".
فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعته المهاجرون ثم بايعته الأنصار".
وفى باب مناقب أبى بكر من صحيح البخارى أيضا أن أبا بكر الصديق قال للأنصار: "بايعوا عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح. فقال عمر: بل نبايعك أنت .. فأنت سيدنا وخيرنا
وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس".
أفأنت ترى من ذلك كيف بويع أبو بكر الصديق .. وأنه بويع في جو هادئ وباختيار كامل .. وليس حوله قوة مال أثر بها فيمن بايعه ولا جند ولا سلاح بعث بهما الرهبة في قلوب البايعين .. ولم تصدر منه كلمة تؤذن بتهديد أو إكراه .. وقصارى - ما وقع في المحاورة التي جرت في السقيفة قبل البيعة كما رواها الثقات ونقلة الأخبار الأنباء في كتب السيرة والتاريخ.
أن بعض الأنصار قال للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير .. ورد عليهم أبو بكر بأن هذا الأمر لن يعرف إلا لهذا الحى من قريش.
هم أوسط العرب وسطا ودارًا .. ثم أشار عليهم بمبايعة عمر بن الخطاب، أو أبى عبيدة بن الجراح.
ولما كثر اللغط وكثرت الأصوات، أوجس عمر خيفة من أن يحدث اختلاف يؤدى بهم إلى عاقبة سيئة. فلم يتمالك أن بسط يده إلى أبى بكر وبايعه وامتدت أيدى المهاجرين والأنصار على أثره فانعقدت البيعة من أهل الحل والعقد عن اختيار منهم. ولو كفوا أيديهم ولم يتابعوه على المبايعة لما انعقدت البيعة كما نص عليه أبو المعالى في كتاب غياث الأمم ..
ويبدو أن عمر بن الخطاب وهو اللماح الذي كان يبدى الرأى في الملمات فينزل الوحى من السماء مؤيدا لما رأى. لم يبسط يده لمبايعة أبى بكر إلا بعد أن عرف أن معظم المهاجرين والأنصار يرون رأيه في أن أبى بكر الصديق أحق الناس بالخلافة - يؤيد هذا أن الحاضرين بالسقيفة لم يتباطئوا عن متابعة عمر في المبايعة ثم إن الإِمام ابن جرير الطبرى ذكر في تاريخه المعروف
(1)
أن أبا بكر الصديق جلس من السند على المنبر وبايعه الناس البيعة العامة بعد بيعة السقيفة
…
وهؤلاء المبايعون هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وتعلموا من الرسول عليه السلام فضيلة الصراحة وعدم السكوت عن قول الحق مهما ترتب على ذلك، وكذا امتنع سعد بن معاذ سيد الأنصار عن المبايعة في السقيفة بحجة أنه أولى بالإمامة .. ولم يتعرض لشئ مطلقا. وبقى على رأيه حتى مات .. وقد سمى عمر رضى الله عنه مبايعته هذه خلفه وقى الله المسلمين شرها لأنها لم تكن بعد إنهاء المشاورة كما كان متوقعا في مثل هذا الأمر الخطير من أمور المسلمين ..
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب منهاج السنة
(2)
شارحا قول عمر هذا: "ومعناه أن بيعة أبى بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار لكونه كان متعينا لهذا الأمر كما قال عمر: ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبى بكر ..
وكان ظهور فضيلة أبى بكر على من سواه وتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر الصحابة أمرًا ظاهرًا معلوما فكانت دلالة النهى على تعيينه تغنى عن مشاورة وانتظار وتريث بخلاف غيره فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث " .. ومع كونها فلتة كما قال عمر فإنها لا تجعل مبايعة أبى بكر مأخوذة بالقهر والغلبة. وتخلف بعض المهاجرين أو الأنصار عن البيعة حينا من الزمن مثل على والعباس لا يخل بانعقادها ولا ينفى عنها أن تكون مبايعة اختيارية
(1)
التاريخ المعروف للإمام ابن جرير الطبرى جـ 8 ص 828.
(2)
منهاج السنة جـ 3 ص 118.
عن رضا واطمئنان إذ المدار على أن الأغلبية، وهى محل الاعتبار ويدار عليها الحكم في جلائل الأعمال والأمور المصيرية للأمة في سائر القوانين الدستورية ..
ولو جرى الانتخاب بطريق الاقتراع السرى على العادة المألوفة اليوم .. ما فاز بالإمامة غير أبى بكر الصديق رضى الله عنه.
وأما عمر بن الخطاب - فقد استخلفه أبو بكر رضى الله عنه وعهد إليه بالخلافة بعده لما اشتد عليه المرض وأحس بدنو أجله .. والاستخلاف بالعهد طريق من طرق لنعقاد الإمامة بالاتفاق بين العلماء كما سنجيئه عند الكلام على طرق انعقاد الإمامة ..
وتذكر كتب السيرة والتاريخ ومؤلفات العلماء والمتكلمين أن أبا بكر أملى على عثمان بن عفان كتاب العهد والاستخلاف وأن عثمان خرج بالكتاب إلى المسلمين المجتمعين .. وقال لهم: أترضون بمن في هذا الكتاب أن يكون إماما وقرأ عليهم الكتاب فرضوا به وبايعوا عمر وبايعه المسلمون بعد وفاة أبى بكر.
جاء في شرح المقاصد للسعد التفتازانى
(1)
"مرض أبى بكر رضى الله عنه مرضه الذي توفى فيه في جمادى الآخرة سنة ثلاثة عشرة من الهجرة بعد ما انقضت من خلافته سنتان وأربعة أشهر وستة أيام. فشاور الصحابة وجعل الخلافة لعمر. وقال لعثمان رضى الله عنه: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم .. هذا ما عهد أبا بكر بن قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا عنها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها حين يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب. إنى استخلفت عمر بن الخطاب .. فإن عدل فذلك ظنى به ورأيى فيه، وإن بدل ما جاء فلكل امرئ ما اكتسب من الإِثم. والخير أردت ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وعرضت الصحيفة على جملة الصحابة فبايعوا من فيها حتى مرت على عليٍّ رضى الله عنه فقال: بايعت لمن فيها وإن كان عمر .. فانعقدت له الإمامة بنص الإِمام وإجماع أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار ..
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب منهاج السنة
(2)
في هذا الصدد: "وبايعه المسلمون بعد وفاة أبى بكر فصار إماما لما حصلت له القدرة بمبايعتهم" وتم الأمر لعمر رضى الله عنه بإجماع المسلمين ورضاهم دون ضغط ولا إكراه ولا وعيد ولا إغراء ..
وأما عثمان رضى الله عنه فقصة مبايعته أن عمر بن الخطاب لما طعنه الشقى أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وهو في الصلاة وأحس بالموت، قيل له استخلف. فقال: إن استخلف فقد استخلف من هو خير منى - يريد أبا بكر رضى الله عنه - وإن لم استخلف فلم يستخلف من هو خير منى - يريد النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ما أجد الحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعد بن أبى وقاص وعبد الرحمن بن عوف جعل الخلافة شورى بينهم وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شئ .. ثم إنه خرج من الأمر طلحة والزبير وسعد باختيارهم .. "وبقى على وعثمان وعبد الرحمن بن عوف. واتفق الثلاثة على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى ويولى أحد الرجلين وأقام عبد الرحمن ثلاثا حلف
(1)
شرح المقاصد للسعد التفتازانى جـ 2 ص 296.
(2)
منهاج السنة جـ 1 ص 142.
أنه لم يغتمض فيها بكثير نوم بشأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ..
ثم أخذ بيد على رضى الله عنه وقال: تبايعنى على كتاب الله وسنة رسول الله وسيرة الشيخين أبى بكر وعمر؟ فقال على: أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله واجتهد برأيى. ثم قال: مثل ذلك لعثمان. فأجابه إلى ما دعاه وكرر عليهما ثلاث مرات وأجاب كل منهما بما أجاب به أولا .. فبايع عثمان وبايعه الناس ورضوا بإمامته وتمت له البيعة من المسلمين بالرضا والاختيار لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها ..
وقال ابن تيمية في كتاب منهاج السنة
(1)
"لم يصر عثمان إماما باختيار بعضهم بل لمبايعة الناس له. وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد" وقال الإمام أحمد: "ما كان من القوم من بيعة عثمان كانت بإجماعهم".
وقول على رضى الله عنه - واجتهد برأيى ليس خلافا منه في إمامة الشيخين بل ذهابا إلى أنه لا يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر بل عليه إتباع اجتهاده .. وكان من مذهب عثمان وعبد الرحمن أنه يجوز إذا كان الآخر أعلم وأبصر بوجوده القياس ..
وأما على بن أبى طالب رضى الله عنه فقد جاء في تاريخ ابن جرير الطبرى
(1)
بأن المهاجرين والأنصار اجتمعوا بعد مقتل عثمان رضى الله عنه وأتوا عليا وقالوا له: يا أبا حسن: هل نبايعك؟ فقال: لا حاجة لى في أمركم وأنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به - فاختاروا والله. فقالوا: ما نختار غيرك ثم اختلفوا إليه مرارًا. ثم أتوه في آخر ذلك. فقالوا: إنه لا يصلح الناس إلا بهذا الأمر. وفى رواية أخرى: "أنه قال لهم: لا تفعلوا فإنى أكون وزيرا خير من أن أكون أميرًا .. فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففى المسجد فإن بيعتى لا تكون خفيا ولا تكون إلا عن رضا المسلمين. وقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتى المسجد مخافة أن يشغب عليه. وأبى هو إلا المسجد .. فلما دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس .. ".
وفى شرح المقاصد
(3)
: ثم خرج على عثمان بعد اثنتى عشرة سنة من خلافته رعاع وأوباش من كل أدب وأرذال من خزاعة ليس فيهم أحد من كبار الصحابة وأهل العلم ومن يعتد به من أوساط الناس فقتلوه ظلما وعدوانا في ذى الحجة سنة خمس وثلاثين. ولو استحق القتل أو الخلع لما ترك أكابر الصحابة ومن بقى من أهل الشورى ومن المبشرين بالجنة ذلك إلى جمع من الأوباش والأرذال ومن لا سابقة له في الإسلام ولا علم بشئ من أمور الدين ..
ثم اجتمع الناس بعد ثلاثة أيام وقيل خمسة أيام على عليٍّ رضى الله تعالى عنه والتمسوا منه القيام بأمر الخلافة لكونه أولى الناس بذلك وأفضلهم في ذلك الزمان فقبله بعد امتناع كثير ومدافعة طويلة، وبايعه جماعة ممن حضر منهم خزامة بن ثابت وأبو الهيثم بن الشهابى ومحمد بن مسلم وعمار وأبو موسى الأشعرى وعبد الله بن عباس وغيرهم. وكذا طلحة والزبير وكذا بايعه عبد الله بن عمر وسعد بن أبى وقاص
(1)
منهاج السنة لابن تيميه جـ 1 مسألة 1043 ص 152.
(2)
شرح المقاصد جـ 2 ص 217.
ومحمد بن مسلمة - إلا أنهم استعفوا فيما بعد من القتال مع أهل القبلة بقيادته لما رووا في هذا المعنى من الأحاديث .. وانعقدت خلافة على بالبيعة واتفاق أهل الحل والعقد. وقد دلت على خلافته أحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدى ثلاثون سنة"، وقوله عليه السلام لعلى رضى الله عنه:"إنك مقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين" .. وقوله عليه السلام لعمار: "تقتلك الفئة الباغية، وقد قتل يوم صفين تحت راية على رضى الله عنه في حربه مع معاوية وأهل الشام.
ومن المتكلمين من يرى أن هناك إجماعا على خلافته لأنه انعقد الإجماع زمان الشورى بعد عمر على أن الخلافة لعثمان أو على وهو إجماع على أنه لولا عثمان فهى لعلى. فحين خرج عثمان من البين بالقتل بقى الأمر لعلى بالإجماع .. قال إمام الحرمين: لا اكتراث بقول من قال: لا إجماع على إمامة على رضى الله تعالى عنه .. فإن الإمامة لم تجحد له. وإنما هاجت الفتن لأمور أخرى.
ولعل مما يلقى ضوء على هذه الأمور الأخر التي يقول إمام الحرمين إنما هاجت الفتن لأجلها ما ذكره السعد
(1)
التفتازانى في حديثه عن وجوب تعظيم الصحابة رضوان الله عليهم:
"وأما توقف على في بيعة أبى بكر فيحمل على أنه لما أصابه من الكآبة والحزن لفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتفرغ للنظر والاجتهاد ولما انتهى الأمر نظر وظهر له الحق ودخل فيما دخلت فيه الجماعة .. وأما توقفه عن نصرة عثمان رضى الله عنه ودفع الغوغاء عنه. فلأن عثمان لم يرض بذلك ولم يأذن فيه، وكان يتجافى عن الحرب وإراقة الدماء حتى قال: من وضع السلاح من غلمانى فهو حر .. ومع هذا فقد دفع عنه الحسنان أبنا على رضى الله عنهما ولم ينفع وكان ما كان ولم يكن رضا من علي بذلك وأعانه عليه .. ولهذا قال: ما قتلت عثمان ولا مالأت عليه .. وتوقف في قبول البيعة إعظاما لقتل عثمان وإنكارًا .. وكذا طلحة والزبير إلا أن من حضر من وجوه المهاجرين والأنصار أقسموا عليه وناشدوه الله في حفظ بقية الأمة وصيانة دار الهجرة إذ أن قتلة عثمان قصدوا الاستيلاء على المدينة والفتك بأهلها وكانوا جهلة لا سابقة لهم في الإسلام ولا علم لهم بأمر الدين ولا صحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقبل البيعة: وتوقفه عن قصاصى قتلة عثمان رضى الله عنه إما لشوكتهم وكثرتهم وقوتهم وحرصهم على الخروج على من يطالبهم بدمه فاقتضى النظر الصائب تأخير الأمر احترازًا عن إثارة الفتنة .. وأما لأنه رأى أنهم بغاة لما لهم من المنعة الظاهرة والتأويل الفاسد حيث استحلوا دمه بما أنكروا عليه من الأمور ..
وأن الباغى إذا انقاد لإمام أهل العدل لا يؤاخذ بما سبق منه من إتلاف أموالهم وسفك دمائهم على ما هو رأى بعض المجتهدين
…
وامتناع جماعة من الصحابة لسعد بى أبى وقاص وسعيد بن زيد وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وغيرهم عن مناصرة على والخروج معه إلى الحرب لم يكن عن نزاع منهم في إمامته ولا عن إباء عما وجب عليهم من طاعته بل لأنه تركهم واختيارهم في ذلك من غير الزام على الخروج إلى الحرب فاختاروا ذلك بناء على أحاديث رووها على ما قال محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى إذا وقعت الفتنة أن
(1)
شرح المقاصد للسعد التفتازانى ص 304.
أكسر سيفى واتخذ مكانه سيفا من خشب ..
وروى سعد بن أبى وقاص - ستكون بعدى فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشى، والماشى فيها خير من الساعى
…
وأما واقعة الجمل، فإن عليا رضى الله عنه قاتل ثلاث فرق من المسلمين على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك تقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين
…
فالناكثون هم: الذين نكثوا عهد على ونقضوا بيعته وخرجوا إلى البصرة يتقدمهم طلحة والزبير رضى الله عنهما وقاتلوا عليًّا رضى الله عنه بعسكر تتقدمهم أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها في هودج على جمل أخذ بخطامه كعب بن سور فسمى ذلك الحرب حرب الجمل وكان الحامل عليه المطالبة بدم عثمان رضى الله عنه.
والمارقون هم: الذين نزعوا اليد من طاعة على رضى الله عنه بعد ما بايعوه وتابعوه في حرب أهل الشام زعما منهم أنه كفر حيث رضى بالتحكيم وهم الخوارج وذلك أنه لما استمرت محاربة على رضى الله عنه ومعاوية بصفين وطالت.
اتفق الفريقان على تحكيم أبى موسى الأشعرى وعمرو بن العاص في أمر الخلافة وعلى الرضا بما يريانه ..
فاجتمع الخوارج على عبد الله بن وهب المرايسى وساروا إلى النهر وسار إليهم على بعسكره وكسرهم وقتل الكثير منهم .. وذلك حرب الخوارج وحرب النهروان.
والقاسطون هم: معاوية وإتباعه الذين اجتمعوا عليه وعدلوا عن طريق الحق الذي هو بيعة على والدخول في طاعته ذهابا إلى أنه مالأ على قتل عثمان رضى الله، عنه حيث ترك معاونته وجعل قتلته خواصه وبطانته. فاجتمع الفريقان بصفين وهى قرية خراب من قرى الروم على خلوة من الفزات، ودامت الحرب بينهم شهورا فسميت حرب صفين .. والذي اتفق عليه أهل الحق أن المصيب في جميع ذلك على ما ثبت من إمامته بيعة أهل الحل والعقد ..
وتكاثر من الأخبار في كون الحق معه .. وما وقع عليه الاتفاق حتى من الأعداء على أنه أفضل أهل زمانه وأنه لا أحق بالإمامة منه. والمخالفون بناة لخروجهم على الإمام الحق بشبهة هي تركه القصاص من قتلة عثمان رضى الله عنه ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية. وقد قتل يوم صفين على يد أهل الشام. ولقول على رضى الله عنه: إخواننا بغوا علينا وليسوا كفارًا ولا فسقة ولا ظلمة لما لهم من التأويل وإن كان باطلا ..
فغاية الأمر أنهم أخطأوا في الاجتهاد وذلك لا يوجب التضييق فضلا عن التكفير .. ولهذا منع على على أصحابه من لعن أهل الشام. وقال: إخواننا بغوا علينا .. كيف وقد صح ندم طلحة والزبير رضى الله عنهما وانصراف الزبير رضى الله عنه عن الحرب .. واشتهر ندم عائشة رضى الله عنها.
والمحققون من أصحابنا على أن حرب الجمل كانت فلتة من غير قصد من الفريقين، بل كانت تهييجا من قتلة عثمان حيث صاروا فرقتين واختلطوا بالعسكرين وأقاموا الحرب خوفا من القصاص .. وقصد عائشة رضى الله عنها لم يكن إلا الإصلاح الطائفتين وتسكين الفتنة، فوقعت في الحرب.
وما ذهب إليه الشيعة من أن محاربى على
كفرة، وأن مخالفيه فسقة تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم: حربك يا على حربى. وبأن الطاعة واجبة وترك الواجب فسق .. فمن اجتراءاتهم وجهالاتهم حيث لم يفرفوا بين ما يكون بتأويل واجتهاد وما لا يكون كذلك .. نعم .. لو قلنا بتكفير الخوارج بناء على تكفيرهم عليا لم يبعد لكنه بحث آخر ..
فإن قيل لا كلام في أن عليا أفضل وأعلم وفى باب الاجتهاد أكمل .. لكن من أين لكم أن اجتهاده في هذه المسألة وحكمه بعدم القصاص على الباغى أو باشتراط المنعة .. صواب واجتهاد القائلين بالوجوب خطأ ليصح لهم مقاتلتهم؟.
وهل هذا إلا كما إذا خرج طائفة على الإمام، وطلبوا منه الاقتصاص ممن قتل مسلمًا بالثقل؟ قلقا ليس قطعنا بخطئهم في الاجتهاد عائدًا إلى حكم المسألة نفسه، بل اعتقادهم أن عليا يعرف القتلة بأعيانهم ويقدر على الاقتصاص منهم .. كيف وقد كانت عشرة آلاف من الرجال يلبسون السلاح وينادون أننا كلنا قتلة عثمان ..
وبهذا يظهر فساد ما ذهب إليه عمرو بن عبيدة وواصل بن عطاء من أن المصيب إحدى الطائفتين ولا نعلمه على التعيين .. وكذا ما ذهب إليه البعض من أن كلتا الطائفتين على الصواب بناء على تصويب كل مجتهد .. وذلك لأن الخلاف إنما هو فيما إذا كان كل منهما مجتهدا في الدين على الشرائط المذكورة في الاجتهاد لا في كل من يتخيل شبهة واهية ويتأول تأويلا فاسدًا ..
وقد يكون من المفيد أن ننقل باختصار ما قاله العلامة ابن خلدون في هذا الشأن ليظهر واضحا ما ارتكزت عليه خلافة على وقامت على أساسه في نظر العلماء والمحققين
…
قال في الفصل الثامن والعشرين من مقدمته عن نظرة الصحابة إلى الخلافة وإيثارهم أمور الدين على كل شئ: "فهذا عثمان لما حُصِر في الدار جاءه الحسن والحسين وعبد الله بن عمرو وابن جعفر وأمثالهم يريدون المدافعة عنه فأبى ومنع من سل السيوف من المسلمين مخافة الفرفة وحفظا للألفة التي بها حفظ الكلمة ولو أدى إلى هلاكه .. وهذا عليّ أشار عليه المغيرة لأول ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية وطلحة على أعمالهم حتى يجتمع الناس على بيعته وتتفق الكلمة .. وله بعد ذلك ما شاء من أمره وكان ذلك من سياسة المُلْك فأبى على فرارًا من الغسن الذي ينافيه الإِسلام .. وغدا عليه المغيرة من الغداة فقال: لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثم عدت إلى نظرى فعلمت أنه ليس من الحق والنصيحة وأن الحق فيما رأيته أنت .. فقال على: لا والله. بل أعلم أنك نصحتنى بالأمس وغششتنى اليوم. ولكن منعنى مما أشرت به زائد الحق".
وقال في الفصل الثلاثين: فأما واقعة على فإن الناس كانوا عند مقتل عثمان متفرقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة على والذين شهدوا منهم من بايع ومنهم من توقف حتى يجتمع الناس ويتفقوا على إمام .. ومن الذين بايعوه من عدل عن بيعته إلى المطالبة بدم عثمان وتركوا الأمر فوضى حتى يكون شورى بين المسلمين وظنوا بعلى هوادة في السكوت عن نصر عثمان من قاتليه لا في الممالأة عليه فحاش لله من ذلك .. ولقد كان معاوية إذا صرح بملامة على إنما يوجهها عليه في سكوته فقط
…
ثم اختلفوا بعد ذلك فرأى على أن بيعته قد انعقدت ولزمت من تأخر عنها باجتماع من
اجتمع عليها بالمدينة دار النبي صلى الله عليه وسلم وموطن الصحابة وأرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع الناس واتفاق الكلمة فيتمكن حينئذ من ذلك ..
ورأف الآخرون أن بيعته لم تنعقد لإفتراق الصحابة أهل الحل والعقد .. بالآفاق ولم يحضر إلا قليل ولا تكون البيعة إلا باتفاق أهل الحل والعقد .. وأن المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أولا بدم عثمان ثم يجتمعون على إمام ..
وذهب إلى هذا معاوية وعمرو بن العاص وأم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير .. إلا أن أهل الثاني من بعدهم اتفقوا على انعقاد بيعة على ولزومها للمسلمين أجمعين وتصويب رأى على فيما ذهب إليه .. وتعيين الخطأ من جهة معاوية ومن كان على رأيه وخصوصا طلحة والزبير لانتقاضهما على على بعد البيعة له فيما نقل مع وقع التأثيم عن كل من الفريقين كالشأن في المجتهدين. وصار ذلك إجماعا من أهل العصر الثاني على أحد قولى العصر الأول كما هو معروف.
ويتضح من هذا كله أن بيعة على رضى الله عنة بالخلافة تمت في المدينة وبين أهلها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار ووجوه الناس وأهل الحل والعقد فيهم في جو هادئ وبمحض الرضا والاختيار .. ثم ثبتت فتنة المطالبة بدم عثمان رضى الله عنه والقصاص من قتلته واعتبار ذلك في مجال النظر الأول .. والخروج على عليٍّ واتهامه بالسكوت والمماطلة في ذلك.
وليس أدل على بيعة على بالمدينة وأنها تمت من أهل الحل والعقد بالرضا والاختيار من إجماع مجتهدى وعلماء وأهل القرن الثاني على صحتها وسلامتها وكلام ابن حزم صريح وقاطع في أنه لم يكن خلاف ولا قتال على بيعة علي وإمامته وأن إمامته حق لا شك فيه .. وليس الكلام في إمامة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم وكيف تمت وعلى أي أساس قامت وما صاحبها وأحاط بها من ظروف وأحوال وتصرفات من باب الاستطراد في القول أو التزيد في الموضوع - بل هو من صميم الموضوع وقد عرض له وبسطه كل العلماء والمتكلمين الذين كتبوا في موضوع الإمامة.
وإلى هنا تم الكلام على الإجماع واستدلال أهل السنة به على وجوب نصب الإمام وسلامة هذا الاستدلال .. وننتقل بعد ذلك إلى استدلالهم بالدليل النظرى
…
وأما بالنسبة للدليل النظرى المبنى على القواعد الشرعية فقد رأينا مما سبق أن كل العلماء والمتكلمين الذين بحثوا في ذلك قد استدلوا بهذا الدليل وتبعهم في ذلك المغفور له الأستاذ الشيخ محمد بخيت المطيعى مفتى الديار المصرية سابقًا.
إذ قال في كتابه القول المفيد على الرسالة المسماة وسيلة العبيد في علم التوحيد
(1)
: "إن نصب الإمام يتوقف عليه إظهار الشعائر الدينية وصلاح الرعية .. وذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذين هما فرضان بلا شك .. وبدون نصب الإمام لا يمكن القيام بهما وإذا لم يقم بهما أحد لا تنتظم أمور الرعية. بل يقوم التناهب فيما بينهم مقام التواهب ويكثر الظلم وتعم الفوضى .. ولا تفصل الخصومات التي هي من ضروريات المجتمع الإنسانى ..
(1)
العبيد في علم التوحيد ص 100.
ولا شك أن ما يتوقف عليه الفرض فرض .. لكان نصب الإمام فرضا كذلك ..
ومثل الأمر والنهى في التوقف على نصب الإمام الكليات الست التي تجب المحافظة عليها بالزواجر والحدود التي بينها الشارع لا بغير ذلك .. والكليات الست هي: حفظ الدين - وحفظ النفس .. وحفظ العقل .. وحفظ النسب .. وحفظ المال .. وحفظ العرض .. " ا. هـ.
وقد نقل صاحب الإسلام وأصول الحكم هذا الاستدلال بنصه
(1)
: "ولكن المنصفين من العلماء والمتكلفين منهم قد أعجزهم أن يجدوا في كتاب الله تعالى حجة لرأيهم فانصرفوا عنه إلى ما رأيت من دعوى الإجماع تارة ومن الالتجاء إلى أقيسة المنطق وأحكام العقل تارة أخرى" فهو يسمى طريق الاستدلال الذي نحاه الأستاذ الشيخ محمد بخيت ومن تقدمه من علماء الكلام قياسا منطقيا وحكما عقليا ..
وهذا مما يخيل للقارئ أن هذا الدليل خارج عن الأدلة الشرعية .. مع أنه راجع إلى الأدلة الشرعية وقائم على أساسها كما يشهد بذلك قول العلماء أن نصب الإمام عندنا واجب سمعا لوجهين: الوجه الأول: الإجماع، والثانى هذا الدليل.
وبيان أن هذا الدليل قائم على نظر شرعى أن استنباط الأحكام الشرعية يعتمد على نظرين:
أحدهما: يتعلق بالأدلة السمعية التي يقع منها الاستنباط مباشرة في ضوء القواعد التي قررها علماء الأصول واتخذ منها كل مجتهد أساسًا لإِجتهاده واستنباطه ..
وثانيهما: يرجع إلى وجوه الدلالات المعتد بها في الاستعمال اللغوى والشرعى ..
أما الأدلة السمعية فهى الكتاب والسنة والإجماع .. وأما وجوه الدلالات فدلالة بالمنطوق ودلالة بالمفهوم .. ودلالة بالعقول .. ويندمج في دلالة المعقول القياس .. وهو الأصل الرابع في الأدلة .. ونتيجة ذلك انحصار الأدلة الشرعية العالية أو الأصلية في الكتاب والسنة والإجماع والقياس مع أدلة أخرى ترجع إلى هذه الأصول وهى القواعد الشرعية المقطوع بصحتها والتي استنتجها العلماء من الشريعة والنصوص بالتتبع والاستقراء واستقصاء الفروع والجزئيات المتفرعة عن الكليات والأصول العامة كقاعدة "الضرر يزال" وقاعدة "المشقة تجلب التيسير" وقاعدة "العادة محكمة" وقاعدة "ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورًا فهو واجب" وقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" وغير ذلك من القواعد التي اتفق عليها العلماء .. فإن مثل هذه القواعد لم يقررها العلماء بمحض العقل أو مجرد التفريع على كلمة المصلحة والمفسدة إجمالا ودون بحث واستقراء .. بل أنهم رجعوا في كل قاعدة إلى استقراء موارد كثيرة من جليات الشريعة وجزئياتها حتى تحققوا قصد الشارع إليها واعتباره إياها في تقرير الحكم .. وأصبحت بمنزلة الخبر المتواتر في وقوعها موقع اليقين ..
وقال ابن حزم في كتابه: الفصل في الملل والأهواء والنحل
(2)
أنه قد صح ووجب فرض الإمامة بما ذكرنا من الأدلة على ذلك من قبل في إيجاب الإمامة وإذ هي فرض فلا يجوز تضييع الفرض .. وإذ ذاك كذلك فالمبادرة إلى تقديم إمام عند موت الإِمام فرض واجب ..
(1)
الإسلام وأصول الحكم ص 13، 14.
(2)
الفصل في الملل والأهواء والنحل جـ 4 ص 22.
وقد ذكرنا وجوب الائتمام بالإمام، فإذ هذا كله كما ذكرنا .. فإذا مات عثمان رضى الله عنه وهو الإمام ففرض إقامة إمام بدله يأتم به الناس لئلا يبقوا بلا إمام فإذا بادر علي إلى ذلك وبايعه واحد من المسلمين فصاعدا فهو إمام قائم وطاعته فرض لا سيما ولم تتقدم بيعته بيعة لأحد غيره، ولم ينازعه الإِمامة أحد مطلقا .. فهذا أوضح في وجوب إمامته وصحة بيعته ولزوم إمارته للمؤمنين فهو الإِمام بحقه وما ظهر منه قط إلى أن مات رضى الله عنه شئ يوجب نقض بيعته، وما ظهر منه قط إلا العدل والجبر والبر والتقوى ولو سبقت بيعة طلحة والزبير أو من يستحق الإمامة لكانت أيضًا بيعة حق لازمة لعلي ولغيره فعلي مصيب في الدعاء لنفسه والدخول تحت طاعته .. وهذا برهان لا يحيد عنه .. وأما أم المؤمنين عائشة والزبير وطلحة رضى الله عنهم ومن كان معهم فما أبطلوا قط إمامة على ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإِمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا جددوا بيعة لغيره ..
هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذى علم أن كل ذلك كذلك .. فإذ لا شك في هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها .. إنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب على ولا خلافا عليه ولا نقضا لبيعته. ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته، هذا ما لا شك فيه أحد ..
وإنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضى الله عنه ظلما .. وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا .. فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن التدبير عليهم فذهبوا إلى عسكر طلحة والزبير واعملوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن .. ولا شك أن الأخرى بدأتها بالقتال واختلط الأمر اختلاطا لم يقدر أحد فمه أكثر من الدفاع عن نفسه .. والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون عن شن الحرب وإضرامه ..
فكلتا الطائفتين .. أهل الجمل وقوم علي مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها ورجع الزبير وترك الحرب بحالها، وأتى طلحة سهم عابر وهو قائم لا يدرى حقيقة ذلك الاختلاط فصادف جرحا في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف ومات من وقته .. وقتل الزبير رضى الله عنه بوادى السباع على أقل من يوم البصرة .. فهذا كان الأمر، وكذلك كان قتل عثمان إنما حاصره المصريون ومن لف منهم يريدونه على إسلام مروان إليهم وهو يأبى لعلمه أنه إن أسلمه قتلوه دون تثبت. وكان جماعات من الصحابة فيهم الحسن والحسين ابنا على وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وغيرهم في نحو سبعمائة من الصحابة وغيرهم معه في الدار يحمونه وينفلتون إلى القتال فيردعهم إلى أن تسوروا عليه من خوخة في دار ابن حزم الأنصارى جاره وقتلوه غيلة .. فما رضى أحد بقتله ولا علموا أنهم يريدون قتله لأنه لم يأت بشئ يبيح قتله. ودفن من ليلته رضى الله عنه وشهد دفنه طائفة من الصحابة .. وليس صحيحا أن عليا تركه بلا دفن ثلاثة أيام مطروحًا على مزبلة، ولو فعل لكانت جرمة فيه، والكافر الميت لا يفعل به ذلك ..
وأما أمر معاوية رضى الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضى الله عنه لامتناعه عن بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره ممن لم يبايعوا عليا في المدينة .. ولم يقاتل أحدًا
منهم ولكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الامام الواجبة طاعته .. فعلى هو المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل على واستحقاقه الخلافة ولكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ الشهود من قتلة عثمان رضى الله عنه على البيعة .. ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه .. من ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سهل الذي قتل بخيبر حين أراد الكلام في أمر دم أخيه - أمن بالسكوت وقال له كبركبر - ورد - لى الكبر الكبر - فسكت عبد الرحمن - وتكلم مُحَيِّصَهَ وحُرَيِّصَة ابنا مسعود وهما ابنا عم المقتول. لأنهما كانا أكبر سنا من أخيه عبد الرحمن - ومن هنا رأى معاوية أنه أحق بالمطالبة بدم عثمان ولم يطلب إلا ما كان له من الحق أن يطلبه .. وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا .. ولكنه أخطأ في تقديمه هذا الطلب على البيعة لعلى فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما أخطأ فيه كسائر المخطئين في الدين الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم أجرًا واحدًا وللمصيب أجرين ..
ولا عجب أعجب ممن يجيز الاجتهاد في الدماء والفروج والأنساب والأموال والشرائع كالتحليل والتحريم والإيجاب ويعذر المخطئين في ذلك .. ويرى ذلك لليث والبتى وأبى حنيفة والثورى ومالك والشافعى وأحمد وداود وإسحاق وأبى ثور وغيرهم كزفر وأبى يوسف ومحمد والحسن بن زياد بن القاسم وأشهب وابن الماجشون والمزنى وغيرهم .. فواحد من هؤلاء يبيح دم هذا الإنسان وآخر منهم يحرمه كمن حارب ولم يقتل أو عمل عمل دوم لوط .. وواحد منهم يبيح هذا الفرج وآخر منهم يحرمه كبكر أنكحها أبوها وهى بالغة عاقلة بدون إذنها أو رضاها .. ثم يضيفون ذلك على من له الصحبة والفضل والعلم والتقدم والاجتهاد وكمعاوية وعمرو بن العاص ومن معهما من الصحابة.
وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه. فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان منا، أفبهذا قطعنا على صواب على وصحة إمامته وأنه صاحب الحق .. وله أجران .. أجر الاجتهاد وأجر الإصابة .. وقطعنا أن معاوية رضى الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون لهم أجر واحد .. وأيضا ففى الحديث الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر أن مارقة تمرق بين طائفتين من أمته وأن أولى الطائفتين بالحق نقتلها .. وهم الخوارج مرقوا بين أصحاب على وأصحاب معاوية لقتلهم على وأصحابه .. فصح أنهم أولى الطائفتين بالحق. وفى حديث أن عمارًا تقتله الفئة الباغية وقد قتل بصفين من أهل الشام وأصحاب معاوية فهم باغون .. قتله أبو العادية بسار بن سبع السلمى .. وهو صحابى شهير شهد بدرا .. ولكنه مجتهد متأول مخطئ .. الذي لا تخالجه ريبة .. قال الشاطبى في الموافقات: إن المجتهد إذا استقرأ معنى عاما من أدلة خاصة واضطر وله ذلك المعنى لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة بعينها بل يحكم عليها وإن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى الذي انتهى إليه من استقراء الجزئيات والأدلة الخاصة كالنصوص بصيغة عامة ..
والعلماء حين يستدلون على وجوب نصب الإمام بأن ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم عن الباطل وازع. يفضى إلى تبدد الجماعة وإضاعة الدين وإنتهاك
حرمة الأموال والأنفس والأعراض .. ويحول دون القيام بواجب المحافظة على الدين والنوع الإنسانى والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر - العلماء حين يفعلون ذلك إنما يطبقون قاعدة شرعية متفقا عليها وهى قاعدة: "الضرر يزال" أو قاعدة " ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا فهو واجب" وقد صرح الأستاذ الشيخ بخيت في تعبيره عن هذا الدليل بقوله: "ولا شك أن ما يتوقف عليه الفرض فرض" وهى نفس القاعدة. فالدليل في الواقع دليل شرعى أساسه قواعد شرعية متفق عليها.
وأما الاستدلال بالكتاب: فقد قطع صاحب الإسلام وأصول الحكم بأنه لا يوجد دليل ولا شبه دليل في كتاب الله تعالى على وجوب نصب الإمام ولو كان في الكتاب دليل لما تردد العلماء في التنويه والإشادة به .. بل لو كان فيه شبه دليل على ذلك لوجد من يحاول أن يتخذ من شبه الدليل دليلا .. لكنهم لم يجدوا وبالتالى لم يحاولوا أو يستدلوا بشئ من الكتاب ..
ثم قال
(1)
: "هنالك بعض آيات من القرآن كنا نحسب من الحق علينا أن نبين لك حقيقة معناها حتى لا يخيل إليك أنها تتصل بشئ من أمر الإمامة مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} .
ولكنا لم نجد من يزعم أن يجد في شئ من تلك الآيات دليلا ولا من يحاول أن يتمسك بها. لذلك لا نطيل القول فيها تجنبا للغو البحث والجهاد مع غير خصم ..
وأعلم على كل حال أن أولى الأمر قد حملهم المفسرون في الآية الأولى على أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده كما قال البيضاوى ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية .. وقيل علماء الشرع لقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} .
وأما أولوا الأمر في الآية الثانية فهم كبراء الصحابة البصراء بالأمور .. أو الذين كانوا يؤمرون منهم .. وكيفما كان الأمر فالآيتان لا شئ فيهما يصلح دليلا على الخلافة التي يتكلمون فيها .. وغاية ما يمكن إرهاق الآيتين به أن يقال أنهما تدلان على أن للمسلمين قوما ترجع إليهم الأمور .. وذلك معنى أوسع كثيرًا وأعم من تلك الخلافة بالمعنى الذي يذكرون .. بل ذلك معنى يغاير الآخر ولا يكاد يتصل به ..
وفيما نقلناه سابقا من أقوال العلماء في حكم الإِمامة ونصب الإمام أن بعض أهل العلم قد استدل على هذا الحكم بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . كابن حزم في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" وأبى الحسن الماوردى في كتابه "الأحكام السلطانية" .. والبيضاوى في "مطالع الأنظار" .. فإنه قال بعد أن قرر الدليل النظرى .. قيل صغرى هذا الدليل عقلية بين الحسن والقبيح وكبراه أوضح مثلا من الصغرى .. والأولى أن يعتمد فيه على قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ولم يبين هؤلاء العلماء وجه الاستدلال بهذه الآية - وأوردها العلامة سعد الدين التفتازانى في شرح المقاصد، فقال
(1)
نفس المصدر ص 14.
بعد أن ذكر الإجماع والدليل النظرى، وقد يتمسك بمثل قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية .. " فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضى وجوب الحصول ..
ووجه الاستدلال بالآية المذكورة أن أولى الأمر فيها محمول على الأمراء على ما هو الراجح من أقوال العلماء والمفسرين .. ويؤيد ذلك سبب نزول الآية، فقد جاء في فتح البارى شرح صحيح البخارى
(1)
رواية عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدى إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية .. وأيضا فقد وردت هذه الآية بعد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} .
قال ابن عيينة: سألت يزيد بن أسلم عن قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ولم يكن أحد بالمدينة يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله .. فقال: اقرأ ما قبلها تعرف .. فقرأت: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} فقال هذه في الولاة ..
ثم تعقيب الآية بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فإن الخطاب للمؤمنين عامة ومن بينهم أهل الحل والعقد من العلماء وشأن عامة المؤمنين أن ينازعوا أولى الأمر في بعض تصرفاتهم وليس لهم أن ينازعوا العلماء فيما يصدرونه من الفتاوى ..
إذ يراد بالعلماء المجتهدون ومن أين لغيرهم من عامة المؤمنين أن ينازعهم في تقرير حكم أو يعرف كيف يرده معهم إلى كتاب الله وسنة رسوله .. فالله تعالى يأمرنا بطاعة أولى الأمر ويرد ما يقع فيه الخلاف والنزاع إلى كتاب الله وسنة رسوله .. وهذا يستدعى وجوب وجودهم ..
وقد يرى البعض الاستدلال على وجوب نصب الإمام بقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} على أساس أن المراد بأولى الأمر فيها الأمراء كما في الآية التي سبق الكلام فيها، ولكن المفسرين والعلماء يرجحون أن المراد بأولى الأمر كبار الصحابة البصراء بالأمور فلا يتم الاستدلال ..
وأما الاستدلال بالسنة على وجوب نصب الإمام فيقول فيه صاحب الإسلام وأصول الحكم: "ليس القرآن وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة ولم يتصد لها، بل السنة كالقرآن أيضا قد تركتها ولم تتعرض لها .. يدلك على هذا أن العلماء لم يستطيعوا أن يستدلوا في هذا الباب بشئ من الحديث ولو وجدوا لهم في الحديث دليلا لقدموه في الاستدلال على الإِجماع ..
ولكن السيد محمد رشيد رضا يريد أن يجد في السنة دليلا على وجوب الخلافة فإنه نقل عن السعد التفتازانى في المقاصد ما استدل به على وجوب الإمامة .. ولم يكن من بين تلك الأدلة بالضرورة شئ من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام السيد/ رشيد يعترض على السعد بأنه قد غفل هو وأمثاله عن الاستدلال عن نصب الإمام بالأحاديث الصحيحة الواردة في التزام جماعة المسلمين أمامهم .. وفى
(1)
صحيح البخارى جـ 13 ص 91 طبع مطبعة الخشاب.
بعضها التصريح بأن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية .. وسيأتى حديث حذيفة المتفق عليه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم".
وقد سبق السيد رشيد إلى ذلك ابن حزم الظاهرى في الفصل في الملل والأهواء والنحل .. بل قد زعم هذا أن القرآن والسنة قد وردّا بإيجاب الإمامة وساق الآية المتقدمة، وقال مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة وإيجاب الإِمامة .. وأنت إذا تتبعت كل ما يريدون الرجوع إليه من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لم تجد فيها شيئا أكثر من أنها ذكرت الإمامة أو البيعة أو الجماعة مثل ما روى "الأئمة من قريش""تلزم جماعة المسلمين وإمامهم""من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية""من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه"، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر". اقتدوا بالذين من بعدى أبى بكر وعمر" إلى آخر ما ذكروه. وقد ذكرت هذه الأحاديث كلها مفرقة في رسالة الخلافة أو الإمامة العظمى للسيد محمد رشيد رضا وغالبها مخرج ..
وليس في شئ من ذلك كله ما يصلح دليلا على ما زعموه من أن الشريعة اعترفت بوجود الخلافة أو الإمامة العظمى - بمعنى النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم والقيام مقامه من المسلمين - لا نريد أن نناقشهم في صحة الأحاديث التي يسوقونها في هذا الباب وقد كان لنا في مناقشتهم مجال فسيح .. ولكننا نتنزل جدلا إلى افتراض صحتها كلها .. ثم لا نناقشهم في المعنى الذي يريده الشارع من كلمات إمامة وبيعة وجماعة وقد كانت تحسن مناقشتهم في ذلك ليعرفوا أن تلك العبارات وأمثالها في لسان الشرع لا ترمى إلى شئ من المعانى التي استحدثوها بعد. ثم زعموا أن يحملوا عليها لغة الإسلام .. نتجاوز لهم عن كل ذلك، ونتنزل كل هذا التنزل، ثم لا نجد في تلك الأحاديث بعد كل ذلك ما ينهض دليلا لأولئك الذين يتخذون الخلافة عقيدة شرعية، وحكما من أحكام الدين .. إلى آخر ما ذكره في هذا الصدد ..
والواقع أن المتكلمين والعلماء الذين تكلموا في موضوع الإمامة فيما عدا السيد محمد رشيد رضا .. لم يستدلوا على وجوب الإِمامة ونصب الإمام بالحديث .. ومن استدل منهم به .. لم يذكر له حديثا واحدًا كأبى الحسن الماوردى الذي ذكر حديث "سيليكم بعدى ولاة. فيليكم البار ببره .. ويليكم الفاجر بفجوره فاسمعوا لله وأطيعوا كل ما وافق الحق فإن أحسنوا فلكم ولهم .. وإن أساءوا فلكم وعليهم" وكان للسعد التفتازانى في ذكر حديث - "فاقتدوا بالذين من بعدى أبى بكر وعمر".
وقد ذكر ابن حزم في الملل والنحل أن هذا الحديث لم يصح .. ويعيذنا بالله من الاحتجاج بما لا يصح ..
ومنهم من لم يذكر شيئا من الأحاديث مطلقا كابن حزم حيث قال: إن القرآن والسنة قد وردا بإيجاب الإِمام .. وذكر الآية المتقدمة وقال مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة وإيجاب الإِمامة واكتفى بذلك.
ويبدو أن الذي حمل المتكلمين والعلماء على عدم الاستدلال بالحديث على وجوب الإمامة وإقامة الإمام أنه لما انتقل مبحث الخلافه إلى علم الكلام للسبب الذي أشير إليه فيما سبق، ودارت المناظرة فيها مع طائفة الشيعة التي جعلتها من العقائد الأصلية، وركنا في الدين، وألقت عليها شيئا من هذه الصبغة العقائدية رأى أهل العلم أن
هذه الطائفة لا يكف بأسها ولا يسد عليها طرق المشاغبة إلا الأدلة الحاسمة التي تفيد العلم واليقين ..
ومن ثم وقعت عنايتهم على الاحتجاج بالإجماع والقواعد النظرية الشرعية لكونهما من قبيل ما يفيد العلم ولا سبيل إلى إنكاره والطعن فيه والنفى بهذين الدليلين من لم يستند من المتكلمين والعلماء إلى غيرهما. أو لأنه رأى أن أخبار الآحاد في نفسها لا تتجاوز مراتب الظنون ولا يكبر على ذوى الأهواء الغالية أن ينسلخوا منها ويخترعوا منفذا للطعن في صحتها أو صرفها عن وجه دلالتها.
وأما ما أثاره صاحب الإسلام وأصول الحكم من احتمال الأحاديث للمناقشة في صحتها وطرق دلالتها فهو مجرد تشكيك لا يغنى في مقام الاستدلال شيئا ولو كان هناك من المطاعن شئ له أثره لبادر إلى ذكره ولأفاض القول فيه كما فعل في الآيتين التي قال إن البعض قد يستدل بهما في موضوع الجدل ..
وقد خرَّج السيد/ رشيد رضا كثيرا من الأحاديث التي ذكرناها في رسالته وليس فيها مطعن من حديث الثبوت. وألفاظ الإمامة والبيعة والجماعة حققت دلالالتها اللغوية والشرعية ولم يثر حول هذه الدلالات ما يقلل من شأنها أو يشكك في صحتها.
وإذا رجعنا إلى كتب الحديث الصحيحة، التي اتفق المسلمون على أنها المصادر المعتمدة في الحديث .. وفى مقدمتها صحيح البخارى وصحيح مسلم، نجد أنه قد وردت أحاديث كثيرة في أغراض متعددة ومعان مختلفة، وذكر فيها الخليفة والإمام والبيعة والأمير والتزام الطاعة والوفاء للخليفة، ومنع تعدد الخليفة مما يوحى بطلب إقامة الإمام وتأكيد وجود الإمامة كنظام في الدين وأساس لحفظه، وسياسة المسلمين به ..
من ذلك ما جاء في أن الإمام مسئول عما يفرط فيه من حقوق الرعية كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخارى: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته. والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته .. " إلى آخر الحديث.
ومنها ما جاء في ملازمة الإمام وعدم الخروج عنه كحديث: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"
(1)
.
ومنها ما ورد في بيان حكم من حاول الخروج على الإمام كحديث "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه"
(2)
.. وحديث: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر" وحديث: "من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعمه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر"
(3)
.
ومنه ما جاء في مساق الأخبار وعن وجود الخلفاء وقرن ذلك الأخبار بالأمر بالوفاء ببيعة الأول .. كحديث: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبى خلفه نبى. وإنه لا نبى بعدى وسنكون خلفاء فتكثر .. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول"
(4)
.
ومنها ما ورد مورد الإنكار والوعيد عن نكث اليد من طاعة الإمام وأن يموت المسلم وليس في عنقه بيعة كحديث: "من خلع يدا من طاعة لقى
(1)
البخارى جـ 9 ص 62 طبع بولاق.
(2)
المرجع السابق جـ 9 ص 52 ومسلم جـ 6 ص 20، 22.
(3)
مسلم جـ 6 ص 18.
(4)
المرجع السابق جـ 6 ص 17.
الله يوم القيامة لا حجة له" ..
"من مات وليست في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"
(1)
.
وهذا الحديث إن لم يرد فيه ذكر الإمام ولا الخليفة وأن الأحاديث السابقة تفسره.
ومنها ما ورد في وصف خيار الأئمة وشرارهم كحديث: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنوكم".
ومنها ما ذكر فيه الخليفة بجانب النبي وأخبر فيه بما يكون له من بطانتى الخير والشر كحديث: "ما بعث الله من نبى ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه .. وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصمة الله"
(2)
.
ومنها ما جاء لبيان منزلة الإمام العادل وفضله كحديث: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" وصدرها بالإِمام العادل فقال: "إمام عادل" الموطأ بشرح الزرقانى
(3)
. وحديث: "إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر، وأن يأمر بغيره كان عليه منه"
(4)
. فهذه الأحاديث الواردة في أغراض شتى وبأسانيد مختلفة وكلها تدور حول الإمام فتبين مسئوليته وتأمر بالوفاء ببيعته وإطاعته وملازمته وقتل من يحاول الخروج عليه وتصف الأئمة وتفرق بين خيارهم وشرارهم. هذه الأحاديث إذا وقعت في يد مجتهد يتبصر في حكمة أمرها ونهيها ووصفها لا يتردد في ان نصب الإمام أمر حتم وشرع قائم ولا يصح أن يكون هذا الحق إلا من قبيل الواجب.
تلك هي أدلة أهل السنة على وجوب الإمامة ونصب الإمام العام وأن هذا الوجوب على الأمة لا على الله تعالى وقد أشرنا في الحديث عن آراء الفرق الأخرى من غير أهل السنة إلى استدلالهم على ما ذهبوا إليه ومناقشة تلك الأدلة والرد عليها. ولم يبق إلا الشيعة .. وسنبدأ فيما يلى الكلام عن مذاهبهم وفرقهم وأدلتهم والرد عليها ..
الشيعة:
والشيعة كما عرفهم ابن خلدون سلفة الصحب والأتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف. على من تشبهوا لعلى بن أبى طالب وبنيه رضى الله عنهم وقالوا بانحصارا الإِمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وفى بنيه من بعده على ترتيب يختلف باختلاف فرقهم ويكاد يكون موضوع الشيعة ورأيهم في الإمامة وفرقهم ومذهب كل فرقة في ترتيب أشخاص الأئمة وتسلسل الإِمامة في الأشخاص واختلافهم في هذا التسلسل.
ووقوف بعضهم بالإمامة عند بعض الأشخاص ولا يردن نقلها من بعده إلى غيره مع قول بعض منهم إن هذا الشخص الذي وقفوا بالإمامة عليه قد مات ولكنه سيعود. وحول بعض آخر إنه لم يمت ولكنه غائب وسيرجع من غيبته ويستمر في الإمامة، ومنهم من يقول بانتقال الإِمامة من هذا الشخص إلى غيره يختلفون اختلافا كبيرا فيمن تنقل إليه الإِمامة ..
(1)
مسلم جـ 6 ص 22، 24.
(2)
البخارى ص 9 ص 77.
(3)
الموطأ بشرح الزرقانى جـ 4 ص 61 مطبعة بولاق.
(4)
مسلم جـ 6 ص 17.
وينقسمون في ذلك فرقا وطوائف وهكذا .. ولهم في مذاهبهم وآرائهم واعتقاداتهم خلط كثير وخبط لا حد له - يكاد يكون هذا الموضوع أهم ما عرض له العلماء والمتكلمون .. وقد عرض له الشهرستانى في الملل والنحل، وابن حزم في الفصل والأهواء والنحل، وابن خلدون في مقدمته، والعلامة السعد التفتازانى في شرح المقاصد ..
وقد اختلفت مناهج هؤلاء العلماء في تناول هذا الموضوع وأساليبهم في عرضه. فمن من اقتصر على بيان فرقهم ومذهب كل فرقة في أشخاص الأئمة وتسلسل الإمامة بينهم والتوفف وتعدية الإمامة على نحو ما أشرنا إليه دون عناية بذكر الأدلة إلا في القليل ودون منافشة ولا رد لما ذكر منها كالشهرستانى ..
ويقرب منه في ذلك ابن خلدون .. ومنهم من أشار في قصد إلى بيان بعض الفرق ومذاهبهم في أشخاص الأئمة والتسلسل بينهم - وحتى بذكر أدلة الإمامية والرافضة ومناقشتها والرد عليها بتوسع وبسط كابن حزم، ومنهم من اقتصر على ذكر مذهب الشيعة الإمامية وتوسع في ذكر أدلتهم ومناقشتها والرد عليها وهو السعد التفتازانى.
سننقل فيما يلى عن هذه المراجع ما يكفى لبيان الموضوع وإيضاحه وإلقاء الضوء على جوانبه:
قال الشهرستانى في كتابه المذكور
(1)
: والشيعة هم الذين شايعوا عليًّا عليه السلام على الخصوص وقالوا بإمامته نصا ووصاية. إما جليا وإما خفيا. وأعتقد أن الإمامة لا تخرج من أولاده. وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو يتقيه من عنده هو .. قالوا: وليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بتنصيبهم بل هي قضية أصولية وهى ركن في الدين لا يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم إغفاله وإهماله وتفويضه إلى العامة وإرساله .. ويجمعهم القول بوجوب تعيين الإمام والتنصيص عليه وثبوت عصمة الأئمة وجوبا عن الكبائر والصغائر والقول بالتولى والتبرى قولا وفعلا وعقدا إلا في حال التقية .. ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك ولهم في تعدية الإمامة كلام وخلاف كثير وعند كل تعدية وتوقف مغالة ومذاهب وخبط ..
والشيعة خمس فرق:
كيسانية، وزيدية، وإمامية، وغلاة، وإسماعيلية. وبعضهم يميل في الأصول إلى الاعتزال. وبعضهم يميل إلى السنة، وبعضهم يميل إلى التشبيه.
الكيسانية:
فهم أصحاب كيسان - مولى أمير المؤمنين علي رضى الله عنه، وقيل هو تلميذ أو مولى محمد بن الحنفية أحد أولاد علي من غير السيدة فاطمة الزهراء .. وهؤلاء قالوا بإمامة محمد بن الحنفية بعد أبيه على بن أبى طالب رضى الله عنهما، وقيل لا بل بعد الحسن والحسين .. ومن أصحاب محمد بن الحنفية المختار بن أبى عبيد كان خارجيا ثم صار زيديا ثم صار شيعيا وكيسانيا ..
قال بإمامة محمد بن الحنفية بعد أبيه على أو بعد أخويه الحسن والحسين .. وكان يدعو الناس إليه ويظهر أنه من رجاله .. ولكنه كان يتغالى فيه مغالاة شديدة. ويذكر علوما مزخرفة ينوطها به ..
(1)
الملل والنحل للشهرستانى جـ 1 ص 151، جـ 2 ص 2 وما بعدها.
ولما علم محمد بن الحنفية عنه ذلك تبرأ منه وأعلن للناس براءته منه ومن الضلالات والتأويلات الفاسدة التي ابتدعها. وإنما حمله على الانتساب إلى محمد بن الحنفية حسن اعتقاد الناس فيه، وامتلاء قلوبهم بمحبته إذ كان كثير العلم غزير المعرفة وقاد الفكر .. مصيب النظر في العواقب .. وقد أخبره أبوه أمير المؤمنين على عليه السلام من أحوال الملامح وأطلعه على مدارج المعالم.
وقد قيل أنه كان مستودع علم الإمامة حتى سلم الأمانة إلى أهلها، وما فارق الدنيا حتى أقرها في مستودعها وكان من شيعته السيد الحميرى وكثير عزة، الشاعران المعروفان، وكانا يعتقدان أنه لم يمت بل هو في جبل رضوى بين أسد ونمر يحفظانه وعنده عينان نضاختان تجريان بماء وعسل ويعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا. وقد قال كثير عزة في ذلك شعرًا يروى .. وهذا أول حكم بغيبة الإمام ورجوعه بعد الغيبة حكم به الشيعة .. وجرى في بعض جماعاتهم حتى اعتقدوه دينا وركنا من أركان التشيع ..
وبعد انتقال محمد بن الحنفية. اختلف الكيسانية، فمنهم من ساق الإمامة إلى ابنه أبى هاشم الذي أفضى إليه أبوه بأسرار العلوم والمعارف ومن تجتمع له العلوم فهو الإمام حقا ويسمى هؤلاء بالهاشمية .. ثم اختلف الهاشمية بعد أبى هاشم إلى خمس فرق أو أكثر ذكرها الشهرستانى وذكر مذاهبها ومعتقداتها.
قالت فرقة أن أبا هاشم مات منصرفا من الشام بأرض الشراة، وأوصى بالإمامة إلى محمد بن على بن عبد الله بن عباس وأنجزت الوصية في أولاده حتى صارت الخلافة إلى بنى العباس .. ولهم في الخلافة حق لإتصال النسب، وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمه العباس حى وهو أولى بالخلافة ..
وقالت فرقة أخرى أن الإمامة بعد موت أبى هاشم لابن أخيه الحسن بن على بن محمد بن الحنفية.
وقالت فرقة ثالثة: إن أبا هاشم أوصى إلى أخيه علي بن محمد بن الحنفية وعليّ أوصى إلى ابنه الحسن .. فالإِمامة عندهم في بنى الحنفية لا تخرج إلى غيرهم ..
وقالت طائفة: إن أبا هاشم أوصى إلى عبد الله بن عمرو بن حرب. الكندى وإن الإمامة خرجت بذلك من بنى هاشم إلى عبد الله الكندى وتحولت إليه روح بنى هاشم .. وعبد الله هذا ما كان على شئ من العلم ولا من الديانة.
واطلع بعض القوم على حقيقته وخيانته وكذبه، فأعرضوا وقالوا بأمانة عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبى طالب .. وكان من مذهب عبد الله أن الأرواح تتناسخ من شخص إلى شخص، وأن روح الله تناسخت حتى وصلت إليه وحلت فيه، وأدعى الألوهية والنبوة "وأنه يعلم الغيب، فعبده شيعته الحمقى وكفروا بالقيامة لاعتقادهم أن التناسخ يكون في الدنيا .. ولما مات افترق أصحابه فمنهم من قال: إنه ما يزال حيا لم يمت وسيرجع .. ومنهم من قال: إنه مات وتحولت روحه إلى إسحاق بن زيد بن الحارث الأنصارى. وهم الحارثية الذين "يبيحون المحرمات ويعيشون عيش من لا تكليف عليه ..
وهناك خلاف شديد على الإِمامة بين أصحاب عبد الله بن معاوية هذا وبين محمد بن على بن عبد الله بن عباس الذي قالت الطائفة الأولى من الهاشمية: أوصى إليه بالإمامة - كل منهما يدعى أن أبا هاشم أوصى إليه بالإمامة، وليس هنا له ما يثبت هذا أو ذاك، ولا ما يعتمد عليه في الأمر ..
وهناك طائفة من الهاشمية تسمى البنانية أتباع بنان بن سمعان النهدى قالوا بانتقال الإمامة من أبى هاشم إليه وهو من غلاة الشيعة القائلين بإلهية أمير المؤمنين على عليه السلام. قال: حل جزء إلهى في على دائمة بجسده. فبه كان يعلم الغيب إذا أخبر عن الملاحم وصح الخبر ..
وبه كان يحارب الكفار وتتم له النصرة والظفر، وبه قلع باب خيبر .. وعن هذا روى عنه قوله: والله ما قلعت باب خيبر بقوة حسدانية ولا بحركة غذائية ولكن قلعته بقوة ملكوتية بنور ربها مضيئة فالقوة الملكوتية كالمصباح في المشكاة والنور الإلهى كالنور في المصباح .. وربما يظهر على في بعض الأزمان ويأتى في ظلل من الغمام كما تشير الآية "وهل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام" حيث أراد به عليا .. والرعد صوته والغمام تبسمه .. وادعى بنان هذا أنه قد انتقل إليه الجزء الإلهى بنوع من التناسخ فاستحق أن يكون إماما وخليفة ..
وهناك فرقة من الهاشمية تسمى الرزنية اتباع رزام ساقوا الإِمامة من على أمير المؤمنين إلى ابنه محمد بن الحنفية ثم منه إلى ابنه أبى هاشم ثم منه إلى على بن عبد الله بن عباس بالوصية ثم إلى محمد بن على وأوصى محمد إلى ابنه إبراهيم الإمام صاحب أبى مسلم الخراسانى الذي قيل أنه كان من الكيسانية وعرض خدماته على جعفر الصادق فلم يقبل منه، وكان من أكبر الدعاة ضد بنى أمية ولصالح العباسيين ..
الزيدية:
فهم أتباع زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب أمير المؤمنين - ساقوا الإمامة بعد على بن أبى طالب في أولاده من السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم. إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمى عالم زاهد شجاع سخى خرج ينادى بالإِمامة ويسعى لها يكون إماما واجب الطاعة سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين ..
وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال، ويكون كل واحد مبهما إماما واجب الطاعة .. وعن هذا قالت طائفة منهم بإمامة محمد وإبراهيم الإمامين ابنى عبد الله بن الحسن بن الحسين الذي خرجا في أيام المنصور العباسى يدعوان للإمامة وقتلا على ذلك وكان الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر قد أخبرهما بما جرى عليهما قبل أن يجرى أخذًا عن أبائه.
وزيد بن على بن الحسين إمام الزيدية والمنسوبون إليه مذهبه هذا المذهب. ولما أراد أن يحصل العلم في الأصول والفروع حتى يتحلى بالعلم - تتلمذ في الأصول على واصل بن عطاء رأس المعتزلة مع اعتقاد واصل بأن جده على بن أبى طالب في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجمل وأصحاب الشام ما كان على يقين من الصواب فيها وأن أحد الفريقين منهما كان على الخطأ لا بعينه ..
فاقتبس زيد الاعتزال من واصل وصارت أصحابه كلها معتزلة وكان من مذهبه جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل فقال: كان على بن أبى طالت أفضل الصحابة إلا أن الخلافة فوضت لأبى بكر لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها من تسكين ثائرة الفتنة، وتطييب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريبا وسيف أمير المؤمنين عليّ عليه السلام من دماء المشركين من قريش لم يجف بعد، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي. فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد إليه الرقاب كل الانقياد وكانت المصلحة أن يقوم بهذا الشأن من عرفوه باللين والتودد والتقدم بالسن والسبق في الإسلام والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر، ألا ترى أنه لما أراد في مرضه الذي مات فيه تقليدا لأمر عمر بن الخطاب رضى الله عنه. زعق الناس وقالوا: لقد وليت علينا فظا غليظا، فما كان يرضون بأمير المؤمنين عمر لشدة وصلابة وغلظ له في الدين وفظاظة على الأعداء حتى سكتهم أبو بكر رضى الله عنه .. وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماما .. والأفضل قائم فيرجع إليه في الأحكام ويحكم بحكمه في القضايا
…
ولما سمعت شيعة الكوفة هذه المقالة عن زيد وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين أبى بكر وعمر رفضوه حتى أتى عليه قدره فسمت رافضة .. وجرت بينه وبين أخيه محمد الباقر مناظرة لا من هذا الوجه بل من حيث كان يتتلمذ لواصل بن عطاء ويقتبس العلم ممن يجوز الخطأ. على جده في قتال الناكثين والقاسطين ومن يتكلم في القدر على غير ما ذهب إليه أهل البيت.
ومن حيث إنه كان يشترط الخروج شرطا في كون الإِمام إماما حتى قال له يوما: على قضية مذهبك والدك ليس بإمام فإنه لم يخرج قط ولا تعرض للخروج ..
ولما قتل زيد بن على هذا وصلب بكناسة الكوفة بيد هشام بن عبد الملك قام بالإمامة بعده ابنه يحيى بن زيد ومضى إلى خراسان واجتمعت عليه جماعات كثيرة، حتى قتل بجوزجان خراسان بيد أميرها وصلب، وكان قد وصل إليه الخبر من جعفر الصادق بن محمد البادر بن على زين العابدين بن الحسين أنه سيقتل ويصلب كما قتل أبوه زيد وصلب فجرى عليه الأمر كما أخبر، وذكر جعفر أن أباءه أخبروه بذلك كله وأن بنى أمية يتطاولون على الناس حتى لو طاولتهم الجبال لطالوا عليها وأنهم يستشعرون بغض أهل البيت.
ولم ينتظم أمر الزيدية بعد ذلك حتى ظهر بخراسان ناصر الأطروش وأريد قتله فاختفى واعتزل إلى بلاد الديلم والجبل وكان أهلها لم يتحلوا بدين الإسلام بعد، فدعى فيهم بدعوة الإِسلام على مذهب زيد بن على إمام الزيدية فدانوا بذلك ونشأوا عليه، وبقى الزيدية في تلك البلاد وظاهرين، وكان يخرج منهم واحد بعد واحد من الأئمة ويلى أمرهم وخالفوا بنى أعمامهم في مسائل الأصول .. وما أكثر الزيدية بعد ذلك عن القول بإمامة المفضول، مع وجود الأفضل، وطعنوا في الصحابة طعن الإمامية ..
ثم انقسم الزيدية بعد ذلك إلى ثلاث فرق:
الجارودية:
أصحاب أبى الجارود وقد زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قص على عليٍّ رضى الله عنه وعينه إماما من بعده بالوصف لا بالاسم إلا أن الناس قصروا
حيث لم يتعرفوا الوصف ولم يطلبوا الموصوف وإنما نصبوا أبو بكر باختيارهم فكفروا بذلك .. والجارودية يخالفون في هذا إمام الزيدية زيد بن على فإنه لم يعتقد ذلك ولم يقل به ..
وقد اختلفوا في التوقف في الإمامة وفى سوقها .. فمنهم من ساق الإمامة بعد أمير المؤمنين على إلى ابنه الحسن ثم إلى ابنه الحسين ثم إلى أولاد الحسين على ترتيب رأوه، ومنهم آخرون قالوا بغير ذلك ..
والفرقة الثانية من الزيدية، والسليمانية - أصحاب سليمان بن جرير وكان يقول إن الإمامة شورى فيما بين المسلمين ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين وأنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل ..
وأثبت إمامة أبى بكر وعمر حقا باختيار الأمة حقا اجتهاديا .. وربما كان يقول: أن الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود على ولكنه لا يبلغ درجة الفسق لأنه اجتهادى .. غير أنه طعن في عثمان بالأحداث التي أحدثها وكفره لذلك .. وكفر عائشة والزبير وطلحة لإقدامهم على قتال علي في واقعة الجمل .. ثم أنه طعن في الرافضة بأنهم وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهر عليهما أحد.
الأولى القول بالبداء: فإذا أظهروا قولا ثم لم يتحقق. قالوا: بدا لله تعالى في ذلك بداء.
الثانية التقية:
فإذا تكلوا بشئ ثم ظهر فساده، قالوا إنما قلناه تقية ..
وتابع سليمان بن جرير هذا في القول بإمامة المفضول مع وجود الأفضل قوم من المعتزلة وبعض أصحاب الحديث .. قالوا إن الإمامة من مصالح الدين لا يحتاج إليها لمعرفة الله وتوحيده فذلك حاصل بالعقل. بل لإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، وليكون للمسلمين جماعة ولا يكون الأمر فوضى، ومالت جماعة من أهل السنة إلى ذلك حتى جوزوا أن يكون الإمام غير مجتهد ولكن يجب أن يكون معه من أَهل الاجتهاد من يرجع إليه ويعتمد عليه ..
الصالحية:
وقمم الفرقة الثالثة من الزيدية أصحاب الحسن بن صالح. وهم يقولون في الإمامة بما قال به السليمانية إلا أنهم توقفوا في أمر عثمان ولم يحكموا عليه بشئ ووكلوه إلى أحكم الحاكمين .. وأما على فهو أفضل الصحابة وأحقهم بالإمامة ولكنه سلم الأمر راضيا، وفوضه إليهم طائعا فنحن راضون بما رضى، وسلمون لما سلم، وإذا خرج اثنان وطلبا الإمامة فلهم في الترجيع بينهما خبط وخلط كثير، ويجوزون إمامة المفضول، وهم في الأصول كالمعتزلة تماما، ويعظمون أئمة المعتزلة أكثر من تعظيمهم أئمة أهل البيت وفى الفروع على مذهب أبى حنيفة إلا في مسائل قليلة يوافقون فيها الشافعي رحمه الله.
الإمامية:
وهم الفرفة الثالثة من فرق الشيعة - فهم القائلون بإمامة على عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم نصًا ظاهرًا ويقينا صادقا من غير تعويض بالوصف بل إشارة إليه بالعين .. قالوا وما كان في الدين والإِسلام أمر أهم من تعيين الإمام حتى تكون مفارقته الدنيا على فراغ قلب من أمر الأمة .. فإنه إذا بعث لرفع الخلاف.، وتقرير الوفاق فلا يجوز أن يفارق الأمة ويتركهم هملا يرى كل واحد رأيا، ويسلك كل واحد طريقا لا يوافقه في ذلك غيره. بل يجب أن يعين شخصا هو الرجوع إليه، وينص على أحد هو
الموثوق به، والمعول عليه ..
وقد عين عليا عليه السلام في مواضع تعريضا، وفي مواضع تصريحا، أما تعريضاته فمثل أن بعث أبا بكر ليقرأ سورة البراءة على الناس في المشهد ثم بعث بعده عليا ليكون هو القارئ عليهم والمبلغ عنه إليهم، وقال عليه الصلاة والسلام: نزل على جبريل، فقال: يبلغه رجل منك، أو قال: من قومك .. وهو يدل على تقديمه عليا عليه السلام على غيره .. ومثل ما كان يؤمر على أبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة في البعوث فقد أمر عليهما عمرو بن العاص في بعث وأسامة بن زيد في بعث، وما أمَّر عليّ على أحدًا قط.
وأما تصريحاته فمثل ما جرى في نأنأة الإسلام حين قال: من الذي يبايعني على ماله؟ فبايعته جماعة .. ثم قال: من الذي يبايعنى على روحه؟ وهو وصى وولى هذا الأمر من بعدى، فلم يبايعه أحد حتى مدّ أمير المؤمنين على عليه السلام يده إليه فبايعه على روحه ووفى بذلك وحتى كانت قريش تعير أبا طالب بأنه أمر عليك ابنك ..
ومثل ما جرى فى كمال الإِسلام وانتظام الحال حين نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} فلما وصل إلى غدير خم (موقع بين مكة والمدينة بالجحفة) كما جاء في شرح المقاصد ..
وذلك بعد حجة الوداع جمع الرجال ونادوا الصلاة جامعة .. ثم جمعت الرجال وصعد النبي صلى الله عليه وسلم عليها .. وقال مخاطبا المسلمين: من كنت مولاه فعلى مولاة .. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حديث دار، ألا هل بلغت ثلاثا، فادعت الإمامية أن هذا نص صريح فإنا ننظر من كان النبي صلى الله عليه وسلم مولى له وبأى معنى، فذكره ذلك في حق علي ..
وقد فهمت الصحابة من التولية ما فهمناه حتى قال عمر حين استقبل عليا: طوبى لك يا علي، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة. قالوا: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: أقضاكم علي .. نص في الإِمامة، فإن الإِمامة لا معنى لها إلا أن يكون أقضى القضاة في كل حادثة والحاكم على المتخاصمين في كل واقعة .. وهو معنى قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فأولوا الأمر معه إليه القضاء والحكم حتى في مسألة الخلافة لما تخاصمت المهاجرون والأنصار وكان القاضي في ذلك هو أمير المؤمنين على دون غيره .. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما حكم لكل واحد من الصحابة بأخص وصف له فقال: أفوضكم زيد، أقرأكم أبيّ، أعرفكم بالحلال والحرام معاذ، كذلك حكم لعلي بأخص وصف له وهو قوله: أقضاكم علي ..
والقضاء يستدعى كل علم وليس كل علم يستدعي القضاء
…
ثم إن الإمامية تخطت عن هذه الدرجة إلى الوقيعة في كبار الصحابة .. طعنا وتكفيرا وأقله ظلما وعدوانا .. وقد شهدت نصوص القرآن الكريم على عدالتهم والرضا عن جملتهم .. قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وكانوا إذ ذاك ألفا وأربعمائة.
وقال تعالى ثناء على المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} وفى ذلك دليل على عظم قدرهم عند الله وكرامتهم ودرجتهم عند الرسول .. فكيف يستجيز ذو دين الطعن فيهم ونسبة الكفر إليهم وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "عشرة في الجنة" أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبى وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح .. إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في كل واحد منهم على الانفراد .. وإن تفلت هنات عن بعضهم فليتدبر النقل فإن أكاذيب الروافض كثيرة ..
ثم إن الإمامية لم يثبتوا في تعيين الأئمة بعد الحسن والحسين وعلي بن الحسين على رأى واحد .. بل اختلافاتهم أكثر من اختلافات الفرق كلها حتى قال بعضهم: إن نيفا وسبعين فرقة من الفرق المذكورة في الخبر هو في الشيعة خاصة ومن عداهم فهم خارجون عن الأمة وهم متفقون في سوق الإِمامة إلى جعفر الصادق بن محمد الباقر ومختلفون في المنصوص عليه بعده من أولاده .. إذ كان له خمسة أولاد وقيل ستة .. محمد وإسحاق وعبد الله وموسى وإسماعيل وعلى ومن ادعى منهم النص عليه والتعيين محمد وعبد الله وموسى وإسماعيل وعلى ومنهم من مات وأعقب ومنهم من لم يعقب .. ومن الإمامية من قال بالتوقف والانتظار والرجعة عند بعض الأشخاص .. ومنهم من قال بالسوق والتعدية كما سيأتي.
وكانوا في الأول على مذهب أئمتهم في الأصول ثم لما اختلفت الروايات عن أئمتهم وتمادى الزمان اختارت كل فرقة منهم طريقة .. وصارت الإمامية بعضها معتزلة، إما وعيدية وإما تفضيلية .. وبعضها إخبارية .. إما شبهة وإما سلفية .. وهناك منهم طائفة الباقرية والجعفرية أصحاب محمد الباقر وابنه جعفر الصادق .. قالوا بإمامتهما وإمامة والدهما على زين العابدين لأن منهم من توقف على الباقر وقال برجعته، ولم يعد الإمامة بعده ..
ومنهم من توقف على جعفر الصادق وهو ذو علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات .. وقد أقام بالمدينة مدة بغير الشيعة المنتمين إليه ويفيض على الموالين له أسرار العلوم ثم دخل العراق وأقام بها مدة ما تعوض للإمامة قط .. ولا نازع أحدًا في الخلافة .. وهو من جانب الأب ينتسب إلى شجرة النبوة المباركة .. ومن جانب الأم ينتسب إلى أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه وقد تبرأ عما ينسبه إليه بعض الغلاة ولعنهم وتبرأ من خصائص الرافضة وحماقاتهم من القول بالغيبة والرجعة، والبدء والتناسخ، والحلول والتشبيه ..
وهو برئ من ذلك ومن الاعتزال والقدر أيضا .. ولكن الشيعة اختلفوا بعده وتفرقوا وانتحل كل واحد منهم مذهبا وأراد أن يروجه على أصحابه ونسبه إليه وربطه به، وهو برئ من ذلك كله، وممن ظهر بعده طائفة الأفطحية نسبة إلى ابنه عبد الله الأفطح .. قالوا: إن الإمامة بعد جعفر الصادق انتقلت إلى ابنه عبد الله الأفطح وكان أسن أولاده زعموا أنه قال: الإِمامة في أكبر أولاد الإمام ولم يعش عبد الله هذا بعد أبيه إلا سبعين يوما ثم مات ولم يعقب ..
وقالت طائفة: إن الإمامة يعد الصادق انتقلت إلى ابنه موسى نصا عليه بالاسم حيث قال: صاحبكم قائمكم ألا وهو سمى صاحب التوارة
سموا بالموسوية أو المفضلية ..
ولما رأت الشيعة أن أولاد الصادق على تفرق فمن ميت حال حياة أبيه لم يعقب، ومن مختلف في موته ومن باق بعد موته مدَّة يسيرة .. رجعوا إلى موسى الذي تولى الأمر بعد أبيه واجتمعوا عليه، وقالوا: إن أباه قال: هذا سابعكم قائمكم وأشار إليه .. ثم إن موسى هذا لما خرج وأظهر الإمامة حمله الرشيد من المدينة فحبسه عند عيسى بن جعفر ثم أشخصه إلى بغداد فحبسه عند السندى بن شاهل، وقيل إن يحيى بن خالد بن برمك سمه في رطب فقتله وهو في الحبس، ودفن في مقابر قريش ببغداد .. واختلفت الشيعة بعده فمنهم من توقف في موته، ومنهم من قطع بموته ويسمون القطعية .. ومنهم من توقف عليه وقال: إنه غائب وسيرجع ويقال لهم الواقفية ..
ومن الطوائف المعروفة عند الإمامية - الاثنا عشرية - قالوا أن الأئمة من علي وبنيه اثنى عشر إماما أولهم على أمير المؤمنين وآخرهم المهدى المنتظر الذي يعود فيملأ الأرض عدلا .. وأن الإمامة انتقلت بعد جعفر الصادق إلى ابنه موسى الملقب بالكاظم، وقد قطعوا بموته، فقيل لهم القطعية، وآلت الإمامة بعده إلى ابنه على الرضى .. ثم من بعده إلى ابنه محمد التقى ومن بعده إلى ابنه على النقى ومن بعده إلى ابنه الحسن العسكري ومن بعده إلى ابنه القائم المنتظر ويسمى بالمهدى وهو الذي غاب في سرداب في بيته حين هرب مع أمه من القتل وهو المهدى المنتظر الذي سيعود ويملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا ..
ويقول الشهرستانى إن هذا هو طريق الاثنى عشرية في زماننا .. وذكروا أسماء الأئمة الاثنى عشر فقالوا هم: المرتضى والمحتبى والشهيد والسجاب والباقر والصادق والكاظم والرضى والتقى والنقى والعسكرى والقائم المنتظر. إلا أن الاختلافات التي وقعت في حال كلا واحد منهم والمنازعات التي جرت بينهم وبين إخوتهم وبنى أعمامهم كثيرة جدًّا، ومن العجيب أن القائلين بإمامة المهدى المنتظر يدعون فيه أحكام الإلهية ويتناولون قوله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} على أن عالم الغيب والشهادة هو الإمام المنتظر الذي يرد إليه علم الساعة. ويدعون فيه أنه لا يغيب عنهم ويخبرهم بأهوالهم وما يكون من أمورهم إلى غير ذلك من الخلط والخبط والتحكمات الباردة الحمقاء ..
الغلاة:
وأما الغلاة من الشيعة فهم الذين غلوا في حق أئمتهم غلوا كبيرًا حتى أخرجوهم من حدود الخلقية، وحكموا فيهم بأحكام الإلهية فربما شبهوا واحدًا من الأئمة بالإله .. وربما شبهوا الإله بالخلق .. وهم على طرفى الغلو والتقصير وإنما نشأت شبهاتهم من مذاهب الملولية ومذاهب التناسخية ومذاهب اليهود والنصارى
…
إذ اليهود شبهت الخالق بالخلق، والنصارى شبهت الخلق بالخالق؛ فسرت هذه الشبهات في أذهان الشيعة الغلاة حتى حكمت بأحكام إلهية في حق بعض الأئمة .. وكان التشبيه بالأصل والموضع في الشيعة .. وإنما عادت إلى بعض أهل السنة بعد ذلك .. وتمكن الاعتزال فيهم لما رأوا أن ذلك أقرب إلى المعقول من التشبيه والحلول وبدع الغلاة محصورة في أربع: التشبيه والبدء والرجعة والتناسخ .. ولهم ألقاب بكل بلد لقب .. يقال لهم بأصفهان الحزمية
والكودية وبالرى المزوكية والسنباوية وبأذربيجان الذقولية وبما وراء النهر المبيضة ..
ومنشأ الغلو طائفة السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ الذي قال لعلي عليه السلام: أنت أنت .. يعنى الإِله .. فنفاه إلى المدائن .. وزعموا أنه كان يهوديا فأسلم .. وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصى موسى مثل ما قال في على عليه السلام وهو أول من أظهر القول بالفرض بإمامة على ومنه انشعبت أصناف الغلاة وزعموا أن عليا حيّ لم يقتل وفيه الجزء الإلهى ولا يجوز أن يستولى عليه .. وهو الذي يجئ في السحاب والرعد صوته والبرق صوته .. وأنه سينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا كما ملئت جورًا وإنما ظهر ابن سبأ هذه المقالة بعد انتقال علي .. واجتمعت عليه جماعة وهم أول فرقة قالت بالتوقف والغيبة والرجعة وقالت بتناسخ الجزء الإِلهى في الأئمة بعد على.
وقد انقسم الغلاة إلى طوائف:
منها الكاملية: أصحاب أبى كامل .. كفر جميع الصحابة بتركهم بيعة علي وطعن في علي بتركه طلب حقه ولم يقدره في التعود بل كان عليه أن يخرج ويظهر الحق على أنه غلا فيه .. وكان يقول: الإمامة نور يتناسخ من شخص إلى شخص، وهو في شخص نبوة وفى شخص إمامة - وربما تتناسخ الإِمامة فتصير نبوة، وقال: تتناسخ الأرواح وقت الموت والغلاة يتفقون على التناسخ والحدود ومذهبهم أن الله تعالى قائم بكل مكان، ناطق بكل لسان، ظاهر بشخص من البشر .. وهذا هو معنى الحلول وهو قد يكون بكل كظهور ملك يشخص أو يجزء كإشراق الشمس في كوة ..
ومنها العليائية أصحاب العليا ابن ذراع الودسى .. كان يفضل عليا على النبي صلى الله عليه وسلم.
وزعم أنه هو الذي بعث محمدًا وسماه إلها وكان يذم محمدًا لزعمه أنه بعث ليدعو لعلي فدعا لنفسه .. ومنهم من قال بإلهية محمد وعلي ويقدمون عليا ويسمونهم .. العينية .. ومنهم من يقدم محمدًا ويسمونهم الميمية .. ومنهم من قال بألهية محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء ..
ومنهم المغيرية:
أصحاب المغيرة بن سعيد العجلى .. ادعى أن الإمامة بعد محمد بن على بن الحسين آلت لمحمد بن عبد الله بن الحسن الخارج بالمدينة وأنه حى لم يمت ثم ادعى الإمامة لنفسه ثم ادعى النبوة وغلا في حق علي غلوا لا يعتقده عاقل وقال بالتشبيه .. وأن الله صوره وجسمه ذو أعضاء على حروف الهجاء وصوره صورة رجل من نور ..
ومنها المنصورية، والحطابية وطوائف أخرى غالت غلوًا لا يتصور، وذهبت مذاهب غير معقولة .. وقد تكفل أئمة السنية بالرد على هؤلاء الغلاة ونفى مزاعمهم الناس فلا نطيل بذكرها ..
الاسماعيلية:
وأما الاسماعيلية فهم الفرقة الخامسة من فرق الشيعة أثبتوا الإمامة بعد جعفر الصادق لابنه إسماعيل وهو أكبر أبنائه نصا من أبيه جعفر عليه .. ثم اختلفوا في موته حال حياة أبيه، وإنما فاته النص عليه من أبيه عندهم انتقال الإِمامة في هذه الحالة إلى أولاده خاصة كما نص موسى عليه السلام إلى أخيه هارون عليه السلام
وتوفى هارون في حياة موسى وكانت فائدة انتقال الأمر إلى أولاده لأن النص لا يرجع القهقرى والقول بالبدء محال ..
ومنهم من قال أنه لم يمت في حياة أبيه ولكنه أظهر الموت تقية عليه حتى لا يقصد بالقتل .. قالوا وبعد إسماعيل انتقلت الإِمامة إلى ابنه محمد.
ثم ابتدئ بنيه الأئمة المشعورين .. إذ قالوا ولن تخلوا الأرض من إمام قاهر إما ظاهر مكشوف وإما باطن مستور ..
فإذا كان الإمام ظاهرا يجوز أن تكون حجته مستورة .. وإذا كان الإِمام مستورا فلابد أن تكون حجته ودعاته ظاهرين .. ومذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية .. وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة لإِمام مات ميتة جاهلية ..
وكانت لهم دعوة في كل زمان .. ومقالة جديدة بكل لسان، وأشهر ألقابهم الباطنية لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا، ولكل تنزيل تأويلا.
ثم إن الباطنية خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على هذا النهج فقالوا في الله تعالى: إنا لا نقول أنه موجود أو غير موجود .. ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز وهكذا في سائر الصفات فإن الإِثبات الحقيقى يقتضى شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقناها عليه وذلك تشبيه فلم يكن الحكم بالإثبات المطلق والنفى المطلق بل هو إله المتقابلين، خالق الخصمين والحاكم بين المتضادين وهكذا حتى قيل أنهم ثقاة الصفات حقيقة ومعطلة الذات عن جميع الصفات.
وتفرعت من طائفة الاسماعيلية طائفة قيل لها الاسماعيلية الواقفية.
قالوا: إن الإِمام بعد جعفر الصادق ابنه إسماعيل نصا عليه باتفاق من أولاده إلا أنهم اختلفوا في موته في حال حياة أبيه.
فمنهم من قال أنه لم يمت حقيقة وإنما أظهر موته تقية من خلفاء بنى العباس وعقد محضرًا وأشهد عليه عامل المنصور بالمدينة.
ومنهم من قال: إن الموت صحيح وحقيقى والفائدة في النص على إمامة من يموت في حياة أبيه الذي نص عليه بقاء الإِمامة في أولاد المنصوص عليه الذي مات دون غيره. فالإِمام بعد إسماعيل ابنه محمد بمقتضى النص وهؤلاء يقال لهم المباركية ..
ثم منهم من وقف على محمد بن إسماعيل وقال برجعته بعد غيبته ومنهم من قال: الإِمامة بعده في المستورين منهم في القائمين الظاهرين القائمين من بعدهم .. وهذه فرقة الوقف على إسماعيل بن جعفر الصادق ومحمد بن إسماعيل ..
وقال ابن حزم الظاهرى في كتابه المشار إليه: اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإِمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا: لا يلزم الأمة فرض الإِمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم وهذه فرقة ما نرى بقى منهم أحد وهم المتسربون إلى نجدة بن عامر الحنيفى القائم باليمامة .. وقول هذه الفرقة ساقط يكفى في الرد عليه وإبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه والقرآن والسنة
قد وردا بإيجاب الإمامة .. ومن ذلك قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة وإيجاب الإِمامة ثم ذكر الدليل النظرى المبنى على القواعد الشرعية، وأشار بعد ذلك إلى الخلاف في وحدة الإِمام ونقدها مما سنذكره بعد وناقش القول بالتعدد ورد على حجج القائلين به ..
ثم عرض لمن تكون فيهم الخلافة شرعا بعد النبي صلى الله عليه وسلم .. هل تكون في قريش خاصة أو في جميع المسلمين من قريش وغيرهم ومن عرب وغيرهم .. وإذا كانت في قريش خاصة فهل تكون في ولد فهر بن مالك أو تكون في ولد العباس بن عبد المطلب أو في ولد على بن أبى طالب خاصة. ذكر الخلاف والآراء في ذلك وأورد الاستدلال وناقش ورد حجج من رآه مخالفا لرأيه. وأما القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد على بن أبى طالب رضى الله عنه فإنهم انقسموا قسمين ..
فطائفة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على عليِّ بن أبى طالب أنه الخليفة بعده وأن الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم اتفقوا على ظلمه وعلى كتمان نص النبي صلى الله عليه وسلم .. وهؤلاء المسلمون الروافض.
وطائفة قالت: لم ينص النبي صلى الله عليه وسلم على عليّ .. ولكنه كان أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالأمر. وهؤلاء هم الزيدية .. نسبوا إلى زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب .. ثم اختلف الزيدية فرقا .. فقالت طائفة: إن الصحابة ظلموه وكفروا من خالفه من الصحابة .. وهم الجارودية .. وقالت طائفة أخرى أن الصحابة رضى الله عنهم لم يظلموه ولكنه طربت نفسه بتسليم حقه إلى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما وإنهما إماما هدى ووقف بعضهم في عثمان رضى الله عنه .. وتولاه بعضهم
…
وجميع الزيدية لا يختلفون في أن الإِمامة في جميع ولد على بن أبى طالب من خرج منهم يدعوا إلى الكتاب والسنة وجب سل السيف معه.
وقالت الروافض:
الإمامة في علي وحده بالنص عليه .. ثم في الحسن
…
ثم في الحسين .. وادعوا نصا آخر من النبي صلى الله عليه وسلم عليهما بعد أبيهما - ثم على بن الحسين لقول الله عز وجل: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} قالوا: فولد الحسين أحق من أخيه ثم محمد بن على بن الحسين المعروف بالباقر ثم جعفر بن محمد الباقر المعروف بالصادق .. وهذا مذهب جميع متكلميهم
…
ثم افترقت الرافضة بعد موت هؤلاء المذكورين وموت جعفر الصادق بن محمد الباقر .. فقالت طائفة بإمامة ابنه إسماعيل بن جعفر. وقالت طائفة بإمامة ابنه محمد بن جعفر وهم قليل .. وقالت طائفة إن جعفر الصادق لم يمت .. وقال جمهور الرافضة إن الإِمامة بعد جعفر الصادق آلت إلى ابنه موسى (الكاظم) بن جعفر ثم من بعد موسى إلى ابنه على (الرضا) ابن موسى ثم من بعد على (الرضا) ابنه محمد (التقى) بن على ثم من بعد محمد بن على ابنه على (النقى) ثم من بعد على ابنه الحسن (العسكرى) ثم مات الحسن عن غير عقب فافترقوا فرقا.
وأثبت جمهورهم على أنه ولد للحسن ولد فأخفاه، وقيل بل ولد له ولد بعد موته من جارية اسمها صقيل وقيل اسمها سوسن وقيل اسمها نرجس والأظهر أن اسمها صقيل ادعت الحمل
ثم ظهر أن لا حمل بها، وكانت لها قصة طويلة أشار إليها ..
وكانت طائفة قديمة قد بادت كان رئيسهم المختار بن أبى عبيد وكيسان أبا عمرة وغيرهما يذهبون إلى أن الإمام بعد الحسين بن علي بن أبي طالب أخوه محمد المعروف بابن الحنفية .. ومن هذه الطائفة كان السيد الحميدى .. وكثير عزة الشاعران ..
وكانا يقولان إن محمد بن الحنفية حيّ بجبل رضوى .. ولهم من التخليط ما تضيق عنه الصحف ..
وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث موضوعة مكذوبة لا يعجز عن توليد مثلها من لا دين له ولا حياء .. ولا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدقوننا .. ولا معنى لاحتجاجهم علينا .. برواياتهم، فنحن لا نصدقها وإنما يجب أن يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقوم الحجة به سواء صدقه المحتج أو لم يصدقه لأن من صدقه بشئ لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضرورى فيصير الخصم يومئذ مكابرا منقطعا إن ثبت على ما كان عليه.
إلا أن بعض ما يشنبون به أحاديث صحاح نوافقهم على صحتها منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى رضى الله عنه: "أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى". وهذا لا يوجب له فضلا على من سواه ولا استحقاق الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن هارون لم يل أمر بنى إسرائيل بعد موسى عليهما السلام وإنما الذي ولى الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام كما ولى الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة، وإذ لم يكن عليّ نبيا كما كان هارون نبيا ولا كان هارون خليفة بعد موت موسى على بنى إسرائيل .. فقد صح أن كونه رضى الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط .. وأيضا فإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول إذ استخلفه على المدينة في غزوة تبوك فقال المنافقون: استقله فخلفه فلحق علي برسول الله صلى الله عليه وسلم فشكى ذلك إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: أنت منى بمنزلة هارون من موسى، يريد عليه الصلاة والسلام أنه استخلفه على المدينة مختارًا استخلافه كما استخلف موسى عليه السلام هارون عليه السلام أيضا مختارا لاستخلافه ثم قد استخلف عليه الصلاة والسلام قبل تبوك وبعد تبوك على المدينة في أسفاره رجالا سوى على رضى الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلى فضلا على غيره ولا ولاية الأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين.
وعمدة ما احتجت به الإِمامية أن قالوا: لابد من أن يكون إمام معصوم عنده جميع علم الشريعة ترجع الناس إليه في أحكام الدين ليكونوا مما تعبدوا به على يقين وهذا لا شك فيه .. وذلك معروف ببراهينه الواضحة وأعلامه المعجزة .. وآياته الباهرة .. وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا لبيان دينه الذي لزمنا إياه صلى الله عليه وسلم فكان كلامه وعهوده وما بلغ من كلام الله حجة نافذة معصومه من كل آفة إلى من بحضرته وإلى من كان في حياته غائبا عن حضرته وإلى كل من يأتى بعد موته صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم القيامة من جن وإنس ..
قال الله عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} فهذا نص ما قلنا وإبطال اتباع أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وإنما الحاجة إلى فرض الإمامة لتنفيذ الإِمام عهود الله تعالى الواردة إلينا على من عنده فقط لا لأن يأتى الناس بما لا يشاؤونه في معرفته من الدين الذي أتاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
ووجدنا عليّا رضى الله عنه إذ دعى إلى التحاكم إلى القرآن .. أجاب وأخبر أن التحاكم إلى القرآن حق .. فإن كان على أصاب في ذلك فهو قولنا .. وإن كان أجاب إلى الباطل فهذه غير صفته رضى الله عنه .. ولو كان التحاكم إلى القرآن لا يجوز بحضرة الإِمام لقال عليّ حينئذ: كيف تطلبون تحكيم القرآن وأنا الإمام المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فإن قالوا إذا مات رسول صلى الله عليه وسلم فلابد من إمام يبلغ الدين .. قلنا هذا باطل ودعوى بلا برهان، وقول لا دليل على صحته ..
وإنما الذي يحتاج إلية أهل الأرض من رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانه وتبليغه فقط سواء في ذلك من كان بحضرته ومن غاب عنه ومن جاء بعده .. إذ ليس في شخصه صلى الله عليه وسلم إذا لم يتكلم بيان عن شئ فالمراد منه عليه الصلاة والسلام كلام باق أبدًا مبلغ إلى كل من في الأرض .. وأيضا فلو كان ما قالوا من الحاجة إلى إمام موجود أبدًا يبلغ ويعلم لانتفض ذلك بمن كان غائبًا عن حضرة الإمام في أقطار الأرض إذ لا سبيل إلى أن يشاهد الإمام جميع أهل الأرض الذين في المشرق والمغرب من فقير وضعيف وامرأة ومريض ومشغول بمعاشه الذي يضيع إن أغفله فلابد من التبليغ عن الإمام فالتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالإتباع من التبليغ عمن هو دونه .. وهذا ما لا إنفكاك لهم منه ..
وأيضًا فإن الإِمام المعصوم لا يعرف أنه معصوم إلا بمعجزة ظاهرة عليه أو بنص تنقله العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم على كل إمام بعينه واسمه ونسبه وإلا فهى دعوى لا يعجز عن مثلها أحد لنفسه أو لمن شاء ..
وبرهان آخر هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وجمهور الصحابة رضى الله عنهم موجودون من حوله حاشا من كان منهم في الجهات يعلم الناس الدين فما منهم أحد أشار إلى عليّ بكلمة يذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليه ولا ادعى ذلك عليّ قط لا في ذلك الموقف ولا بعده ولا ادعاه له أحد في ذلك الوقت ولا بعده
…
ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن البته أن يتفق أكثر من عشرين ألف إنسان مختلفين على طى عهد عاهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
ووجدنا عليا رضى الله عنه تأخر عن بيعة أبى بكر ستة أشهر فما أكرهه أبا بكر ولا غيره على البيعة حتى بايع طائعا غير مكره .. فكيف حل لعلى رضى الله عنه عند هؤلاء القوم أن يبايع طائعا رجلا إن كان كافرا وإما فاسقا جاحدًا لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعينه على أمره ويجالسه ويواليه إلى أن مات ثم يبايع بعده عمر بن الخطاب مبادرًا غير متردد ساعة فما فوقها غير مكره، بل طائعًا مختارًا وصحبه وأعانه على أمره وأنكحه من ابنته فاطمة رضى الله عنها ثم قيل إدخاله في الشورى أحد ستة رجال فكيف حل لعلى عند هؤلاء الجهال أن يشارك بنفسه في شورى ضلال وكفر وتغر الأمة هذا الغرور .. وهذا في منطقهم يؤدى إلى تكفير على رضى الله عنه لأنه في زعمهم أعان الكفار على كفرهم وأيدهم في كتمان الديانة وفى ما لا يتم الدين إلا به ..
ولا يجوز أن يظن بعلى أنه أمسك عن ذكر النص عليه خوف الموت وهو الأسد شجاعة قد عرض نفسه للموت بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
مرات ثم يوم الجمل وصفين فما الذي أجبته بين هاتين الحالتين .. وما الذي ألف بين بصائر الناس على كتمان حق علي ومنعه ما هو أحق به مذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أن قتل عثمان رضى الله تعالى عنه .. ثم ما الذي جلى بصائرهم في عونه إذا دعا إلى نفسه فقامت معه طوائف من المسلمين عظيمة ..
وبذلوا دماءهم دونه ورأوه حينئذ صاحب الأمر والأولى بالحق ممن نازعه .. ثم ولى علي فما غير حكمًا من أحكام أبى بكر وعمر وعثمان ولا أبطل عهدًا من عهودهم .. ولو كان ذلك عنده باطلا لأنهم كتموا النص واغتصبوا حقه لما كان في سعة من أن يمضى الباطل وينفذه .. وقد ارتفعت التقية .. وأيضًا فإن كان جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اتفقوا على جحد ذلك النص وكتمانه ..
واتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه فمن أين وقع للروافض أمره .. ومن بلغه إليهم ورواه لهم .. وكل هذا محال فبطل أمر النص على عليّ رضى الله عنه بيقين لا إشكال فيه ..
فإن قيل أن عليا رضى الله عنه كان قد قتل الأقارب بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحروب التي جرت في عهده عليه الصلاة والسلام فقوله له بذلك حقد في قلوب جماعة من الصحابة هم الذين قتل أقاربهم ولذلك انحرفوا عنه وكتموا النص عليه. قيل أن هذا تمويه كاذب. لأنه إن كان قد قتل أشخاصا من بعض القبائل فأغرى ذلك من كان من هذه القبائل بالحقد عليه ..
فإنه بالقطع لم يقتل أحدًا من القبائل الأخرى .. وهؤلاء قد وقفوا منه نفس الموقف الذي وقفه أولئك ولم يذكروا نصا عليه كما لم يذكر أولئك .. فما الذي أغرى هؤلاء الذين لم يقتل من قبائلهم أحدًا بالحقد عليه وعدم ذكر النص عليه ثم هؤلاء الأنصار من المقطوع به أنه لم يقتل أحدًا منهم .. بل لم يؤذ أحدًا منهم وقد وقفوا منه نفس الموقف ولم يذكروا نصا عليه. وكانوا مع زعيمهم سعد بن عبادة أولا ثم لما تبين لهم الحق انحازوا جميعا إلى أبى بكر وعمر وعثمان .. فهل أغراهم حقد على عليّ، أو وقف غيظ منه دون معاونتهم له؟ ولا شئ إلا الحق الأبلج
…
ولقد كان لأبى بكر رضى الله عنه في مضادة قريش في الدعاء إلى الإِسلام ما لم يكن لعلى فما منع ذلك من بيعته، وهو أسوأ أثرا عنه كفارهم .. ولقد كان لعمر بن الخطاب رضى الله عنه في مغالبة كفار قريش وإعلانه الإِسلام على رغمهم ما لم يكن لعلى رضى الله عنه ولم يحقد عليه أحد ولم يمتنع من بيعته .. فما الذي أوجب أن ينسى هؤلاء ذلك كله ولا يبقى للحقد أثر في نفوسهم إلا بالنسبة لعلى فقط لا لشئ إلا جهل الرافضة الذي جعلهم يعدون بعض أسماء لكبار الصحابة ويقولون إنهم لم يبايعوا عليا إذ ولى الخلافة ثم بايعوا معاوية ويزيدًا ابنه من أدركه منهم .. وما ذلك إلا لحقدهم وكراهيتهم له
…
ولم يكن هناك شئ مطلقا مما تخيلوه وتخبطوا فيه ..
وإنما كان هؤلاء الصحابة الذين ذكروا أسماءهم لا يردن بيعة في فرقة وكانت فرقة واختلاف في خلافة علي وبيعته فلما اتفق المسلمون على ما اتفقوا عليه كائنا من كان دخلوا في الجماعة
…
وهكذا كان شأنهم مع ابن الزبير رضى الله عنه مروان .. فإنهم قعدوا عن مبايعتهما من أدركهما منهم ولما انفرد عبد الملك بن مروان بايعه منهم من أدركه لا رضا عنه ولا عداوة
لابن الزبير ولا تفضيلا لعبد الملك على ابن الزبير، ولكن لما ذكر من مذهبهم أنه لا بيعة في فرقة.
إن اتفاق جميع الأمة أولها عن آخرها من برقة إلى أول خراسان ومن الجزيرة إلى أقصى اليمن على السكوت عن حق علي بعد أن بلغهم النص عليه، واجتماعهم على ظلمه، ومنعه من حقه، وليس هناك شئ يخافونه لأحدى عجائب المحال الممتنع ..
ثم العجب إذا كان غيظهم عليه هذا الغيظ، واتفاقهم على جحد حقه هذا الاتفاق كيف تورعوا عن قتله ليستريحوا منه، أم كيف أكرموه وبروه وادخلوه في الشورى.
فإن قالوا: قد أقررتم أنه لابد من إمام .. فبأى شئ يعرف الإمام وأنتم خاصة معاشر أهل الظاهر لا تأخذون إلا بنص من قرآن أو خبر صحيح، وهذا أيضا مما سألنا عنه أصحاب الرأى والقياس .. فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على وجوب الإمامة، وأنه لا يحل بقاء ليلة دون بيعة وافترض علينا بنص قوله الطاعة للقرشى إماما واحدًا لا ينازع إذا قادنا بكتاب الله عز وجل. فصح من هذه النصوص النص على صفة الإمام الواجب طاعته لما صح النص على صفة الشهود في الأحكام وصفة المساكين والفقراء الواجبة لهم الزكاة وصفة من يؤم في الصلاة وصفة من يجوز نكاحها من النساء وكذلك سائر الشريعة كلها ولا يحتاج إلى ذكر الأسماء إذ لم يكلفنا الله عز وجل ذلك .. فكل قرشى بالغ عاقل بادر إثر موت الإمام القائم الذي لم يعهد إلى أحد فبايعه واحد فصاعدا فهو الإِمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أمر الكتاب بإتباعها. فإن زاغ عن شئ منهما منع من ذلك .. وأقيم عليه الحد فيما يرتكب من موجباته. فإن لم يكف أذاه ألا يخلعه خلع وولى غيره ..
فإن قالوا: قد اختلف الناس في تأويل القرآن والسنة ومنع من تأديتهما بغير نص آخر .. قلنا إن التأويل الذي لم يقم عليه برهان .. تحريف للكلم عن مواضعه، وقد جاء النص بالمنع من ذلك وليس الاختلاف حجة .. إنما الحجة في نص القرآن والسنة، وما اقتضاه لفظهما العربى الذي خوطبنا به وألزمتنا الشريعة بإتباعه ..
ثم نسألهم فنقول لهم إن عمدة احتجاجكم في إيجاب إمامتكم التي تدعيها جميع فرقكم وجهان ..
أحدهما النص عليه باسمه ..
والثانى شدة الحاجة في بيان الشريعة إذ علمها عنده لا عند غيره .. ولا مزيد على ذلك فأخبرونى بأى شئ صار محمد الباقر بن على بن الحسين أولى بالإمامة من إخوته زيد وعمرو وعبد الله وعلى والحسين ..
فإن ادعوا نصا من أبيه عليه أو من النبي صلى الله عليه وسلم أن الإمام هو الباقر لم يكن ذلك ببدع من كذبهم .. ولم يكونوا أولى بتلك الدعوى من الكيسانية في دعواهم النص على محمد بن الحنفية .. وإن ادعوا أن الباقر كان أفضل من إخوته كانت أيضا دعوى بلا برهان .. والفضل لا يقطع على ما عند الله عز وجل فيه بما يبدو من الإنسان فقد يكون باطنه خلاف ظاهره وكذلك يسألون ما الذي جعل موسى الكاظم بن جعفر الصادق أولى بالإمامة من أخيه محمد أو إسحاق أو على .. فلا يجدون إلى غير الدعوى سبيلا ..
وهكذا يتردد السؤال بالنسبة لمن ادعوا إمامتهم من الأشخاص - ليس لديهم سوى الدعوة التي لو ادعى مثلها مدع لأى واحد من أي قوم
من الناس لساواهم في الحماقة وانعدام الدليل .. فبطل إذن ادعاء النص بالاسم على أئمتهم ..
وأما الوجه الثاني وهو الحاجة إليه في بيان الشريعة التي علمها عنده لا عند غيره فنقول لهم فيه: إنه ما ظهر قط من أكثر من أئمتهم بيان لشئ مما اختلف فيه الناس من الأحكام والمسائل في الأصول أو في الفروع .. وما بأيديهم من ذلك شئ إلا دعاوى مفتعلة قد اختلفوا أيضا فيها كما اختلف غيرهم من الفرق سواء بسواء ..
إلا أنهم أسوأ حالا من غيرهم لأن كل من قلد إنسانا كأصحاب أبى حنيفة لأبى حنيفة، وأصحاب مالك لمالك، وأصحاب الشافعي للشافعى، وأصحاب أحمد لأحمد .. فإن لهؤلاء المذكورين أصحابا مشاهير نقلت عنهم أقوال صاحبهم ونقلوها هم عنه وهى محفوظة تدرس وتنشر ويعمل الناس بها.
ولا سبيل إلى اتصال خبر عند هؤلاء ظاهر مكشوف يضطر الخصم إلى الإعتراف والتسليم بأن هذا قول موسى بن جعفر، ولا أنه قول علي بن موسى وهكذا في أئمتهم إلى الحسن بن علي .. أما من بعد الحسن بن علي فعدم بالكلية وحماقة ظاهرة، وأما من قبل الحسن بن علي بن الحسين فلو جمع كل ما روى في الفقه عن الحسن والحسين رضى الله عنهما لما بلغ أوراقا ..
فما نرى المصلحة التي يدعونها في أئمتهم ظهرت ولا نفع الله بها قط في علم ولا في عمل لا عندهم ولا عند غيرهم. ولا ظهر بعد الحسين رضى الله عنه من هؤلاء الذين سموهم أحد ولا أمر منهم أحد قط بمعروف معلن
…
وقد قرأنا صفة هؤلاء المنتمين إلى الإمامية القائلين بأن الدين عند أئمتهم فما رأيت إلا دعاوى باردة وآراء فاسدة كأسخف ما يكون من الأقوال
…
ولا يخلو هؤلاء الأئمة الذين يذكرون من أن يكونوا مأمورين بالسكوت أو مأمورين بالكلام ..
فإن يكونوا مأمورين بالسكوت فقد أبيح للناس البقاء في الظلال وسقطت الحجة في الديانة على جميع الناس على منطقهم وبطل الدين ولم يلزم فرض الإسلام .. وهذا كفر مجرد وهم لا يقولون بهذا .. وأن يكونوا مأمورين بالكلام فقد عصوا الله إذ سكتوا وبطلت إمامتهم وقد لجأ بعضهم إذ سئلوا عن صحة دعواهم في الأئمة إلى أن ادعوا الإِلهام في ذلك .. فإذ قد صاروا إلى هذا الشغب فإنه لا يضيق عن أحد ولا يعجز خصومهم عن أن يدعوا أنهم ألهموا بطلان دعواهم.
ثم إن بعض أئمتهم الذين يذكرونهم مات أبوه وهو ابن ثلاث سنين وقالوا بإمامة هذا الصغير .. فإذا كان الإمام عندهم واجبا ليعلم الناس دينهم إذ عنده جميع علم الشريعة لا عند غيره، فمن أين علم هذا الصغير جميع علم الشريعة، وقد عدم توقيف أبيه له على ذلك لصغره.
فلم يبق إلا أن يدعوا له الوحى بهذا العلم .. وهذه نبوة وكفر صريح، وهم لا يبلغون إلى حد إدعاء النبوة .. أو أن يدعوا له معجزة تصحح قوله وهى دعوى باطلة ما ظهر منها من شئ أو أن يدعوا له الإلهام .. وهى دعوى فاسدة لا يعجز عن مثلها أحد ..
ثم لو كان الأمر على ما يقولون من أن هناك نصا بالاسم على الإمام لما كان الحسن بن علي بن أبى طالب رضى الله عنهما في سعة من أن
يسلم الإِمامة لمعاوية رضى الله عنه ويتنازل له عنها فيعينه على الضلال وعلى إبطال الحق وهدم الدين فيكون شريكه في كل مظلمة ..
ويبطل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوافقه على ذلك أخوه الحسين رضى الله عنه فإنه سكت على ذلك ولم ينقض قط بيعة معاوية إلى أن مات ..
فكيف استحل الحسن والحسين رضى الله عنهما إبطال نص رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد إليهما طائعين غير مكرهين
…
فلما مات معاوية قام الحسن يطلب حقه إذ رأى أن بيعة يزيد بيعة ضلالة فلولا أنه رأى أن بيعة معاوية حق لما سلمها له ولفعل معه كما فعل بيزيد حين ولى الإِمامة ..
وهذا ما لا يمترى فيه ذو إنصاف .. هذا مع الحسن أزيد من مائة ألف عنان يموتون دونه، فتا الله لولا أن الحسن رضى الله عنه علم أنه في سعة من إسلامها إلى معاوية وفى سعة من أن لا يسلمها وليس هناك نص ولا عهد يبطله بإسلامها ..
لما جمع بين الأمرين فأمسكها ستة أشهر لنفسه وهى حقه وسلمها بعد ذلك لغيره ضرورة وذلك له مباح.
بل هو الأفضل بلا شك قطعا للنزاع وعملا للإصلاح. فإن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خطب بذلك على المنبر بحضرة المسلمين وأراهم الحسن معه على المنبر .. وقال: إن ابنى هذا لسيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين رويناه من طريق البخارى .. وهذا من أعلامه صلى الله عليه وسلم وإنذاره بالغيوب التي لا تعلم البتة إلا بالوحى ..
فإن ادعوا أنه قد كان في ذلك عند الحسن عهد فقد كفروا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر أحدًا بالعون على إطفاء نور الإسلام بالكفر وعلى نقض عهود الله بالباطل من غير ضرورة ولا إكراه .. وهذه صفة الحسن والحسين رضى الله عنهما عند الروافض ..
واحتج بعض الإمامية وجميع الزيدية بأن عليا كان أحق الناس بالإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لبينونة فضله على جميعهم. ولكثرة فضائله دونهم ..
وهذا يفتح الكلام فيه إن شاء الله تعالى في الكلام في المفاضلة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أما الكلام هنا ففى الإمامة فقط .. فنقول لهم: هبكم أنكم وجدتم لعلى رضى الله عنه فضائل معلومة كالسبق إلى الإسلام والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعة العلم والزهد .. فهل وجدتم مثل ذلك للحسن والحسين رضى الله عنهما حتى أوجبتم لهما بذلك فضلا في شئ مما ذكرنا على سعد بن أبى وقاص وسعيد بن زيد وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس؟.
هذا ما لم يقدر أحد على أن يدعى لهما فيه كلمة فما فوقها مما يكونان به فوق من ذكرنا في شئ من هذه الفضائل .. فلم يبق إلا دعوى النص .. فقد بينا فيما سبق أنها دعوى غير صحيحة، ولا برهان لهم عليها .. ولا يعجز عن مثلها أحد .. ولو استجازت الخوارج التوقح بالكذب في دعوى النص على عبد الله بن وهب الراسى لما كانوا إلا مثل الرافضة سواء بسواء ..
ولو استحل بنو أمية أن يجاهروا بالكذب في دعوى النص على معاوية لكان أمرهم في ذلك أقوى من أمر الرافضة لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} .
ولكن كل أمة ما عدا الرافضة والنصارى فإنها تستحى وتصون أنفسها عما لا تصون النصارى والروافض أنفسهم عنه من الكذب الفاضح وقلة الحياء فيما تأتون به ..
وكذلك لا يجد الروافض لعلي بن الحسن مسبوقا في علم ولا في عمل على سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعودة بن الزبير ولا على أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ولا على ابن عمه الحسن بن الحسن، وكذلك لا يجدون لمحمد بن علي بن الحسين مسبوقا في علم ولا في عمل ولا ورع على عبد الرحمن بن القاسم بن محمد ولا على محمد بن عمرو بن أبى بكر بن المنكدر، ولا على أبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ولا على أخيه زيد بن علي، ولا على عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي ولا على عمر بن عبد العزيز.
وكذلك لا يجدون لجعفر بن محمد مسبوقا في علم ولا في دين ولا في عمل على محمد بن مسلم الزهيرى .. ولا على ابن أبي ذؤيب ولا على عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر .. ولا على عبيد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر ولا على ابنى عمه محمد عبد الله بن الحسن بن الحسن .. وعلى بن الحسن بن الحسن بن الحسن ..
بل كل من ذكرنا فوقه في العلم والزهد وكلهم أرفع محلا في الفتيا والحديث لا يمنع أحد منهم من شئ من ذلك ..
وهذا ابن عباس رضى الله عنهما قد جمع فقهه في عشرين كتابا ويبلغ حديثه وفتياه جزءًا صغيرًا .. وكذلك جعفر بن محمد .. وهم يقولون إن الإِمام عنده جميع علم الشريعة .. فما بال من ذكرنا أظهروا بعض ذلك وهو الأقل الأنقص وكتموا سائره وهو أكثر الأعظم .. فإن كان فرضهم الكتمان فقد خالفوا الحق إذا علنوا ما أعلنوا .. وإن كان فرضهم البيان فقد خالفوا الحق إذ كتموا ما كتموا ..
وأما من بعد جعفر بن محمد فما عرفنا لهم علمًا أصلا لا من رؤية ولا من فتيا على قرب عهدهم منا .. ولو كان عندهم من ذلك شئ لعرف كما عرف عن محمد بن علي وابنه جعفر .. وكما عرف عن غيرهم منهم ممن حدث الناس عنه ..
فبطلت دعواهم الظاهرة الكاذبة ..
فإن رحبوا إلى إدعاء المعجزات لهم قلنا لهم إن المعجزات لا تثبت إلا بنقل التواتر لا بنقل الآحاد والثقات فكيف يولد الكذابين الذين لا يدرى عهدهم .. وقد وجدنا من يروى لبشر الحافى وشيبان الراعى ورابعة العدوية أضعاف ما يدعونه من الكذب لأئمتهم وأظهر وأفشى .. وكل ذلك حماقة لا يشتغل ذو دين ولا ذو عقل بها ..
ثم انتقل ابن حزم إلى الكلام على وجوه الفضل بين الصحابة ليبين أن عليا رضى الله عنه ليس أفضلهم جميعا وبالتالى لا يكون أحقهم بالإِمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اختلف المسلمون فيمن هو أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه ..
فذهب بعض أهل السنة وبعض المعتزلة وبعض المرجئة وجميع الشيعة إلى أن أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب رضى الله عنه .. وقد روينا هذا القول نصا عن بعض الصحابة رضى الله عنهم وعن جماعة من التابعين والفقهاء ..
وذهبت الخوارج كلها وبعض أهل السنة وبعض المعتزلة وبعض المرجئة إلى أن أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر ..
وروينا عن أبى هريرة رضى الله عنه أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبى طالب .. وبهذا قال عاصم النبيل وهو الضحاك بن مخلد، وعيسى بن حاضر .. قال عيسى: وبعد جعفر حمزة رضى الله عنه ..
وروينا على نحو عشرين من الصحابة أن أكرم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب والزبير بن العوام .. وروينا عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وثلاث رجال لا يعد أحد عليهم بفضل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير .. وعياد بن بشر ..
وروينا عن أم سلمة أم المؤمنين رضى الله عنها أنها تذكرت الفضل ومن هو خير فقالت: ومن هو خير من أبى سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وروينا عن مسروق بن الأجدع وتميم بن هشام وإبراهيم النخعى وغيرهم أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبيد الله بن مسعود ..
قال تميم وهو من كبار التابعين: رأيت أبا بكر وعمر .. فما رأيت مثل عبد الله بن مسعود ..
وروينا عن بعض من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وأنه أفضل من أبى بكر رضى الله عنهما .. بلغنى عن محمد بن عبد الله الحاكم النيسابورى أنه كان يذهب إلى هذا القول ..
قال داود بن علي الفقيه رضى الله عنه: أفضل الناس بعد الأنبياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة الأولون من المهاجرين ثم الأولون من الأنصار ثم من بعدهم لا نقطع على إنسان منهم بعينه أنه أفضل من آخر من طبقته ولقد رأينا من متقدمى أهل العلم من يذهب إلى هذا القول.
قال أبو محمد: والذي نقول به وندين الله تعالى عليه ونقطع على أنه الحق عند الله عز وجل أن أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر .. ولا خلاف بين أحد من المسلمين في أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم .. لقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وأن هذه قاضية على قوله تعالى لبنى إسرائيل: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} وأنها مبينة أن مراد الله تعالى عالم الأمم حاشا هذه الأمة.
ثم نقول: أن الكلام المهمل دون تحقيق المعنى المراد بذلك الكلام طمس للمعانى وصد عن إدراك الصواب ..
فلنبدأ بتقسيم وجوه الفضل التي بها يستحق التفاضل، فإذا استبان معنى الفضل .. نعلم حينئذ أن من وجدت فيه صفات الفضل أكثر .. فهذا أفضل بلا شك .. ثم أفاض وأسهب في بيان وجوه الفضل وما به يكون التفاضل .. بعد أن قال: إن الفضل قسمان:
فضل اختصاص من الله بلا عمل وفضل مجازاة من الله بعمل ويشترك في الأول جميع المخلوقين من حيوان ناطق وغير ناطق وجماد كفضل الملائكة في ابتداء خلقهم على سائر الخلق .. وكفضل الأنبياء في ابتداء خلقهم على سائر الجن والإِنس ..
ثم قال: فإذ قد صح ما ذكرنا قيل يقينا بلا خلاف من أحد في شئ منه، فبيقين ندرى أنه لا تعظيم يستحقه أحد من الناس في الدنيا
بإيجاب الله تعالى ذلك علينا بعد التعظيم الواجب علينا للأنبياء عليهم السلام .. أوجب ولا أوكد مما ألزمنا الله تعالى به من التعظيم الواجب علينا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ..
فأوجب الله لهن حكم الأمومة على كل مسلم.
هذا سوى حق إعظامهن بالصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كسائر الصحابة إلا أن لهن من الاختصاص في الصحبة ووكيد الملازمة له عليه السلام ولطيف المنزلة عنده، والقرب منه والحظوة لديه عليه السلام ما ليس لأحد من الصحابة .. فهن أعلى درجة في الصحبة من جميع الصحابة .. ثم فضلن سائر الصحابة بحق زائد وهو حق الأمومة الواجب لهن بنص القرآن ثم وجدناهن.
لا عمل من الصلاة والصدقة والصيام والحج والجهاد إلا كان فيهن ..
وقد خيرهن الله عز وجل بنص القرآن بين الدنيا وبين الدار الآخرة والله ورسوله .. فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة .. فهن أزواجه في الآخرة بيقين ومعه في الجنة في درجة واحدة وفى قصوره وعلى سرره .. وأنه لا شك في ذلك ..
فقد علمنا أنهن لم يؤتين ذلك اختصاصا من الله مجردًا دون عمل. ومارية أم إبراهيم معهن .. وقد روى عن أنس بن مالك قال: قيل يا رسول الله: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة .. قال من الرجال: قال: أبوها .. وفى رواية عن عمرو بن العاص .. قلت: ثم من؟ قال: عمر. فعد رجالا .. وفى القرآن الكريم: وما ينطق عن الهوى ..
فكلامه أن عائشة أحب الناس إليه وحى أوحاه الله إليه ليخبر به لاستحقاقها لذلك الفضل .. فهى أفضل نسائه ثم تليها خديجة رضى الله عنها .. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: أفضل نسائها مريم ابنة عمران .. وأفضل نسائها خديجة بنت خويلد مع سابقتها في الإِسلام وثباتها ومؤازرتها النبي صلى الله عليه وسلم ولأم سلمة وسودة وزينب بنت جحش وزينب بنت خزيمة وحفصة سوابق في الإِسلام عظيمة، وأحمال للمشتقات في الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم. والهجرة والغربة عن الوطن .. والدعاء إلى الإِسلام .. والبلاء في الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ولكلهن بعد ذلك الفضل المبين رضوان الله عليهن أجمعين ..
وأما فضلهن على بنات النبي صلى الله عليه وسلم فيقول الله عز وجل: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} .. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ابنته فاطمة: سيدة نساء المؤمنين أو نساء هذه الأمة .. وارد في السيادة لا في الفضل .. والسيادة غير الفضل ..
ثم انتقل إلى الكلام على أفضلية أبى بكر رضى الله عنه على سائر الصحابة بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ثم وجب القول فيمن هو أفضل الصحابة بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم .. فلم نجد لمن فضل ابن مسعود أو عمرًا أو جعفر بن أبى طالب أو أبا سلمة .. والثلاثة الأسهليين على جميع الصحابة حجة يعتمد عليها .. ولم يزد من ذهب إلى ذلك على أنه لم يلح له البرهان على ذلك ولو لاح لقال به ..
وأما القائلون بأن عليا أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قالوا: أولا: إن عليا كان أكثر الصحابة جهادًا وطعنا في الكفار وضربا .. والجهاد أفضل الأعمال .. وقد رد عليهم بأن الجهاد ثلاثة أقسام ..
الأول: الدعاء إلى الله عز وجل باللسان ..
الثاني: الجهاد عند الحرب بالرأى والتدبير ..
الثالث: الجهاد في الطعن والضرب ..
أما الجهاد باللسان فلم يلحق فيه أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر ..
أما أبو بكر فقد أسلم على يديه أكابر الصحابة .. وهذا أفضل عمل وليس لعلى مثل ذلك ..
وأما عمر فإنه من يوم أسلم عز الإسلام بإسلامه. وعبد الله بمكة جهرًا .. وجاهد المشركين بمكة وضَرَب وضُرِبَ حتى ملوه فتركوه .. وليس لعلى مثل ذلك ..
وأما القسم الثاني وهو الرأى والتدبير والمشورة .. فقد وجدناه خالصا لأبى بكر ثم لعمر ..
أما القسم الثالث: وهو الجهاد بالطعن والضرب .. فهو أقل مراتب الجهاد بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المخصوص بكل فضيلة والشجاع الذي لا يبارى كان في أكثر أعماله وأحواله في الجهاد بالقسمين الأولين وأقل عمله الطعن والضرب والمبارزة إذ كان عليه السلام يؤثر الأفضل فالأفضل من الأعمال ..
ثم أن عليا لم ينفرد بهذا القسم الثالث من الجهاد .. فهناك من الصحابة من شاركه في ذلك كطلحة والزبير وسعد وحمزة وسعد بن معاذ وغيرهم .. وأبو بكر وعمر مشاركا في هذا النوع وإن كان بنصيب أقل لإنشغالهما بملازمة النبي وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليا ..
وقالوا ثانيا: إن عليا كان أكثر الصحابة علمًا وناقش ذلك ورد عليه بأن العلم إنما يعرف بكثرة الرواية والفتوى .. ثم بكثرة استعمال النبي للصحابى .. وقد استخلف النبي أبا بكر على الصلاة مدة مرضه واستعمله على الصدقات والحج .. وقلة روايته لقصر مدته بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكثر الصحابة ملازمة ومشاهدة ومعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبعلمه وآثاره ..
وقالوا ثالثا: إن عليا كان أقرأهم ورد هذا بأن استخلاف النبي لأبى بكر على الصلاة يدل على أن أبا بكر كان أقرأهم لقوله صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرأهم.
وقالوا رابعًا وخامسا: إن عليا كان أتقاهم وكان أزهدهم .. وقد رد بأن أبا بكر لم يشى قط في كلمة ولا خالف إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حينما كان يصلى بالناس وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يتأخر فأشار إليه الرسول أن أقم مكانك ولكنه تأخر .. ولما كلمه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أجابه ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدى رسول الله .. فعذره النبي بينما كان على يريد أن يتزوج ابنة أبى جهل .. ولم يمتثل إلا بعد أن تكلم الرسول في ذلك على المنبر .. وأما الزهد فلم يعرف لأبى بكر فيه مثيل .. فقد بذل ماله في سبيل الله وعاش عيش الكفاف قبل الخلافة وبعدها .. وتلاه في هذا الزهد عمر .. وأما على فقد ترك عدة زوجات وأربعة وعشرين ولدًا .. وعددًا من العبيد والإماء وأموالا صار بها أولاده أغنياء ..
وقالوا كان على أسوسهم .. ورد بأن أبا بكر وثبت بعد رسول الله وواجه تفرق العرب وارتدادهم عن الإسلام وساسهم وجاهدهم حتى دخلوا في دين الله أفواجًا كما خرجوا منه
أفواجًا .. ثم ناطح كسرى وقيصر وانتصر عليهم .. على خلاف ما كان في عهد على ..
ثم قال: فإذ قد بطل كل ما ادعاه هؤلاء القائلون بأفضلية عَلِيّ على سائر الصحابة ولم تبق لهم إلا مجرد الدعاوى التي لا دليل عليها.
وصح بالبرهان أن أبا بكر هو الذي فاز بالقدح المعلى والحظ الأسنى في العلم بالقرآن والجهاد والزهد والتقوى والخشية والصدقة والعتق والمشاركة والطاعة والسياسة .. وهذه هي وجوه الفضل كلها .. فهو بلا شك أفضل من جميع الصحابة كلهم بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم ..
ولم نحتج على شيعة على رضى الله عنه بالأحاديث لأنهم لا يصدقون أحاديثنا ولا تصدق أحاديثهم ..
وإنما اقتصرنا على البراهين الضرورية بنقل ما فيه الكفاية فإن كانت الإِمامة تستحق بالتقدم في الفضل .. فأبو بكر أحق الناس بها بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم يقينا .. وإذ قد صحت إمامة أبى بكر رضى الله عنه .. فطاعته فرض في استخلافة عمر رضى الله عنه .. فوجبت إمامة عمر فرضا بما ذكرنا وبإجماع أهل الإسلام عليها دون خلاف من أحد قطعًا .. ثم أجمعت الأمة كلها أيضًا بلا خلاف من أحد منهم على صحة إمامة عثمان والدينونة بها ..
وأما خلافة على فحق لا بنص ولا بإجماع ولكن ببرهان سنذكره إن شاء الله في الكلام في حروبه .. وقد نقلنا عنه فيما سبق ما قاله في صراحة وقطع .. من أن إمامة على كانت حقا وصحيحة، وأنها تمت بالبيعة الصحيحة في هدوء وأن الجميع كانوا متفقين على أحقيته بالإِمامة كما سبق ..
وقال ابن خلدون في مقدمته في الفصل السابع والعشرين في مذاهب الشيعة في حكم الإِمامة: اعلم أن الشيعة لغة هم الصحبة والاتباع ويطلق في عرف الفقهاء ومن المتكلمين من الخلف والسلف على اتباع على وبنيه رضى الله عنهم .. ومذهبهم الذي اتفقوا عليه جميعا أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بها تعيينهم بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز للنبى إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة .. بل يجب عليه تعيين الإِمام لهم ويكون معصوما من الكبائر والصغائر ..
وأن عليا رضى الله عنه هو الذي عينه النبي صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة .. بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة ..
وتنقسم هذه النصوص عندهم إلى جلى وخفى ..
فالجلى مثل قوله: من كنت مولاه فعلى مولاه .. وقالوا: ولم تطرد هذه الولاية إلا في على .. ولهذا قال عمر حين لقيه بعد ذلك: "أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة" ومنها قوله: "أقضاكم على" ولا معنى للإمامة إلا القضاء بأحكام الله .. وهو المراد بأولى الأمر الواجبة طاعتهم بقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ولهذا كان حكما في قضية الإمام يوم السقيفة دون غيره.
ومنه قوله: "من يبايعنى على روحه وهو وصى وولى هذا الأمر من بعدى فلم يبايعه إلا على
…
ومن الخفى عندهم بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا كقراءة سورة براءة في الموسم حين أنزلت وأنه بعث بها أولا أبا بكر ثم أوحى إليه ليبلغه رجل منك أو قال من قومك .. فبعث عليا ليكون القارئ المبلغ .. قالوا: وهذا يدل على تقديم على وأيضا فلم يعرف أنه قدم على عليّ أحد .. وأما أبو بكر وعمر فقدم عليهما في غزوتين .. أسامة بن زيد مرة وعمرو بن العاص مرة أخرى .. وهذه كلها أدلة شاهدة بتعيين على للخلافة دون غيره .. فمنها ما هو غير معروف ومنها ما هو بعيد من تأويلاتهم ..
ثم منهم من يرى أن هذه النصوص تدل على تعيين على وتشخيصه .. وكذلك تنتقل منه إلى من بعده ..
وهؤلاء هم الإمامية ويتبرؤون من الشيخين أبى بكر وعمر حيث لم يقدموا عليا ويبايعوه بمقتضى هذه النصوص ويغمصون ويطعنون في إمامتهما .. ولا يُلْتَفَتْ إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردود عندنا وعندهم
…
ومنهم من يقول أن هذه الأدلة اقتضت تعيين على بالوصف لا بالشخص والناس مقصرون حيث لم يضعوا الوصف موضعه .. وهؤلاء هم الزيدية، ولا يتبرأون من الشيخين ولا يغمصون في إمامتهما مع قولهم أن عليا أفضل منهما لكنهم يجوزون العامة المفضول مع وجود الأفضل .. ثم اختلفت .. تقول هؤلاء الشيعة في مساق الخلافة بعد على فمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنص عليهم واحدًا بعد واحد على ما يذكر بعد .. وهؤلاء يسمون الإمامية نسبة إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام وتعيينه في الإيمان .. وهى أصل عندهم ..
ومنهم من ساقها في ولد فاطمة لكن بالاختيار مع الشيوخ .. ويشترط أن يكون الإمام منهم عالما زاهدًا جوادًا شجاعا ويخرج داعيا إلى إمامته .. وهؤلاء هم الزيدية نسبة إلى صاحب المذهب وهو زيد بن علي بن الحسين السبط ..
وقد كان يناظر أخاه محمد الباقر على اشتراط الخروج في الإمام فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما على زين العابدين إماما لأنه لم يخرج ولا تعرض للخروج وكان مع ذلك ينص عليه مذاهب المعتزلة وأخذه إياها عن واصل بن عطاء رأس المعتزلة ..
ولما ناظر الإمامية زيدًا هذا في إمامة الشيخين ورأوه يقول بإمامتهما لا يتبرأ منهما رفضوه .. ولم يجعلوه من الأئمة وبذلك سموا رافضة .. ومنهم من ساقها بعد على وابنيه السبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهما محمد بن الحنفية ثم إلى ولده وهم الكيسانية نسبة إلى كيسان مولاه.
وبين هذه الطوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصارًا .. ومنهم طوائف يسمون الغلاة تجاوزوا حد العقل والإيمان في القول بألوهية هؤلاء الأئمة .. إما على أنهم بشرًا اتصفوا بصفات الألوهية أو أن الإله حل في ذاته البشرية ..
وهو قول بالحلول يوافق مذهب النصارى في عيسى صلوات الله وسلامه عليه .. ولقد حرق على رضى الله عنه بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم .. وسخط محمد بين الحنفية المختار بن أبى عبيد لما بلغه مثل ذلك عنه فصرح بلعنته والبراءة منه .. وكذلك فعل جعفر الصادق رضى الله عنه بمن بلغه مثل هذا عنه
…
ومنهم من يقول إن كمال الإمام لا يكون لغيره فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخر ليكون فيه ذلك الكمال .. وهو قول بالتناسخ ..
ومن هؤلاء الغلاة من يقف عن واحد من الأئمة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعين لذلك عندهم .. وهؤلاء هم الواقفية .. فبعضهم يقول هو حيّ لم يمت إلا أنه غائب عن أعين الناس ويستشهدون لذلك بقصة الخضر في القرآن ..
قيل مثل ذلك في علي رضى الله عنه وأنه في السحاب والرعد صوته والبرق في سوطه .. وقالوا مثله في محمد بن الحنفية وأنه في جبل رضوى من أرض الحجاز .. وقال مثل غلاة الإمامية وخصوصا الاثنا عشرية منهم يزعمون أن الثاني عشر من أئمتهم وهو محمد بن الحسن العسكرى ويلقبونه المهدى .. ودخل في سرداب بدارهم في الحلَّة (بلد قرب بغداد) وتغيب حين اعتقل مع أمه وغاب هنالك .. وهو يخرج آخر الزمان فيملأ الأرض عدلا يشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذى في "المهدى المنتظر .. وهم إلى الآن ينتظرونه ويسمونه المنتظر لذلك ..
وبعض هؤلاء الواقفية يقول: إن الإمام الذي مات يرجع إلى حياته الدنيا ويستشهدون لذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصة أهل الكهف والذي مر على قرية وقتيل بنى إسرائيل حين ضرب بنظام البقرة التي أمروا بذبحها ..
ومثل ذلك من الخوارق التي وقعت على طريق العجزة ولا يصح الاستشهاد بها في غير مواضعها .. وقد كفانا مؤونة هؤلاء الغلاة أئمة الشيعة فإنهم لا يقولون بها ويبطلون احتجاجاتهم عليها ..
وأما الكيسانية فساقوا الإِمامة بعد محمد بن الحنفية إلى ابنه أبى هاشم وهؤلاء هم الهاشمية ثم افترقوا: فمنهم من ساقها بعده إلى أخيه على ثم إلى ابنه الحسن بن علي .. وآخرون يقولون إن أبا هاشم أوصى إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وأوصى محمد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالإِمام .. وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد الله السفاح رأس الدولة العباسية .. وأوصى السفاح إلى أخيه أبى جعفر المنصور وبقي في العباسيين إلى آخرهم ..
وهذا مذهب الهاشمية القائمين بدولة بنى العباس ومنهم أبو مسلم الخراسانى من أصحاب الفضل الأكبر في قيام دولة بنى العباس .. وأبو سلمة الخلال وغيرهم من شمعة العباسية .. وهم يقولون أنهم أحفي بالإِمامة لأنهم من أولاد العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وأولى الوارثين عنه بالعصبية ..
وأما الزيدية فساقوا الإِمامة على مذهبهم فيها وأنها باختيار أهل الحل والعقد لا بالنص فقالوا بإمامة على ثم ابنه الحسن ثم أخيه الحسين ثم ابنه على زين العابدين ثم ابنه زيد صاحب هذا المذهب .. خرج بالكوفة داعيا إلى الإِمامة فقيل وصلب بكناسة الكوفة .. وأن الأمر بعده إلى ابنه يحيى .. فمضى إلى خراسان وقتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن السبط المعروف بالنفس الزكية ..
وبعض الزيدية ذهب إلى أن الإمام بعد النفس الزكية هو محمد بن القاسم وذهب آخرون إلى أن الإمام بعده هو أخوه إدريس الذي فر إلى المغرب ومات هناك
…
ثم قام بدعوة الزيدية في الديلم الناصر الأطروش وتابعوه وأسلموا على يديه، وظهر شأن الزيدية وتوصل الديلم من نسبهم إلى الملك والاستبداد على الخلفاء ببغداد ..
وأما الإمامية فساقوا الإمامة من على
ابن أبي طالب إلى ابنه الحسن بالوصية ثم إلى أخيه الحسين ثم إلى ابنه على زين العابدين ثم إلى ابنه محمد الباقر ثم إلى ابنه جعفر الصادق ..
ومن هنا افترقوا فرقتين: فرقة ساقوها من بعده إلى ابنه إسماعيل وهم الاسماعيلية ..
وفرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم وهم الاثنا عشرية لوقوفهم عند الثاني عشر وقولهم بغيبته وانتظار عودته وهو المهدى المنتظر ..
وأما الاسماعيلية فقالوا: إن جعفر الصادق نص على ابنه إسماعيل من بعده وإن كان قد مات في حياته ويقتضى النص بقاءها في عنبة .. قالت بعد إسماعيل إلى ابنه محمد المكتوم وهو أول الأئمة المستورين لأن الإِمام قد لا تكون له شوكة فيستتر .. ويكون دعاته ظاهرين إقامة للحجة على الخلق .. وإن كانت له شوكة ظهر وأظهر دعوته ..
ويسمى هؤلاء بالباطنية أيضا نسبة إلى قولهم بالإِمام الباطن أي المستور .. ويسمون بالملحدة لما في مقالاتهم من إلحاد ولهم مقالات قديمة ومقالات جديدة دعا إليها محمد بن الحسن الصباح في آخر المائة الخامسة وملك حصونا بالشام والعراق ولم تزل دعوته هناك إلى أن توزعها الهلاك بين ملوك الترك بمصر وملوك التتر بالعراق فانقرضت.
وأما الاثنا عشرية فربما خصوا باسم الإمامية عند المتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق لوفاة أخيه الأكبر إسماعيل في حياة أبيهما جعفر فقضى على إمامة موسى ثم من بعده إلى ابنه على الرضا الذي عهد إليه المأمون العباسى بن هارون الرشيد الذي اتهم بالتشيع ولكنه مات قبله فلم يتم له أمر .. ثم من بعده إلى ابنه محمد التقى ثم ابنه على الهادى ثم ابنه محمد العسكرى ثم ابنه محمد المهدى المنتظر .. وفى كل واحدة من هذه المقالات للشيعة اختلاف كثير إلا أن هذه أشهر مذاهبهم ومن أراد استيعابها فعليه بكتاب الملل والنحل لابن حزم ثم للشهرستانى وغيرهما ففيها بيان ذلك .. والله يضل من يشاء ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم وهو العلى الكبير
…
وأما العلامة الكبير السعد التفتازانى فإنه لم يعن ببيان طوائف الشيعة ومذاهبهم واختلافاتهم التي لا حد لها في سوق الإِمامة في أولاد على رضى الله عنه بعده وتسلسلها في الأشخاص والقول بالتوقف والغيبة والرحبة وغير ذلك من الخبط والخلط على نحو ما رأينا فيما سقناه عن الشهرستانى في ابن حزم وابن خلدون وإنما عنى بمناقشة هؤلاء الشيعة في آرائهم في ثلاث نقط: الأولى: في إدعائهم أن نصيب الإمام واجب على الله تعالى
…
والثانية: في شروطهم في الإِمام ..
والثالثة: في إدعائهم النص على على ..
وسنبدأ بالكلام في النقطة الأولى ..
قال رحمه الله تعالى: في شرح المقاصد
(1)
:
واحتج القائلون بوجوب نصب الإمام على الله تعالى بأنه لطف من الله في حق العباد أما عند الملاحدة فليتمكنوا به من المعرفة الواجبة إذ نظر العقل غير كاف في معرفة الله .. وأما عند الإِمامية فلأن الرئيس القاهر يمنع من المحظورات ويحث على الواجبات فيكونوا معه أقرب إلى الطاعات وأبعد عن المعاصى. واللطف واجب على الله تعالى لما سبق ..
(1)
ابن حزم الظاهرى جـ 4 ص 72، 76 وما بعدها.
والجواب أنه إنما يكون لطفا إذا خلا عن جميع جهات القبح. وهو ممنوع .. وأداء الواجب وترك القبيح مع عدم الإِمام أكثر ثوابا لكونهما أشق ما قرب إلى الإخلاص لاحتمال الخوف من الإمام .. وأيضا .. فإن اللطف بالإِمام يكون واجبا لو لم يقم مقامه لطف آخر كالعصمة مثلا فلم لا يجوز أن يكون زمان يكون الناس فيه معصومين لا حاجة بهم إلى الإمام .. والقول بأنا نعلم أن اللطف الحاصل بالإمام لا يحصل لغيره. مجرد دعوى .. تعارض بأنا نعلم جواز حصوله لغيره وهذا كدعوى القطع بانتفاذ المفاسد في نصب الإمام وكونه مصلحة خالصة وأيضا إنما يكون لطفا واجبا إذا كان ظاهرًا زاجرًا عن القبائح قادرًا على تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء الإسلام وهذا ليس بلازم عندكم فالإمام الواجب عندكم ليس بلطف والذي هو لطف ليس بواجب.
ورد الشيعة على ذلك بأن وجود الإمام لطف سواء تصرف أو لم يتصرف على ما نقل عن على رضى الله عنه .. لا تخلو الأرض من إمام قائم لله بحجة إما ظاهرًا مشهورًا أو خافيًا مضمورا لئلا يبطل حجج الله وبيناته .. وتصرفه الظاهر لطف آخر .. وإنما عدم من جهة العباد وسوء اختيارهم حيث أخافوه وتركوا تصرفه ففوتوا اللطف على أنفسهم .. ورد على الشيعة ..
أولا: بأنا لا نسلم أن وجوده بدون التصرف لطف .. فإن قيل أن المكلف إذا اعتقد وجوده كان دائما يخاف ظهوره وتصرفه فيمتنع من القبائح - قلنا مجرد الحكم بخلقه وإيجاده في وقت ما كاف في هذا المعنى .. فإن ساكن القرية إذا انزجر عن القبيح خوفا من حاكم من قبل السلطان مختف فيها بحيث لا أثر له كذلك ينزجر خوفا من حاكم علم أن السلطان يرسله إليها البتة حتى شاء وليس في خوفا من المعدوم .. بل من وجود مترقب .. كما أن خوف الأول من ظهور مترقب
…
ثانيًا: بأنه ينبغى أن يظهر لأوليائه الذين يبذلون الأرواح والأموال على محبته وليس عندهم منه إلا مجرد الاسم .. فإن لجل لعله ظهر لهم وأنتم عنه غافلون .. قلنا عدم ظهوره لهم من العاديات التي لا ارتياب فيها العاقل كعدم بحر من المسك .. وجبل من الياقوت .. ولو سلم فألأولياء إذا عرفوا من أنفسهم أنه لم يظهر لهم توجه الإشكال عليهم ..
ثالثا: فقد قال فيها
(1)
: واشترطت الشيعة أمورًا:
منها أن يكون هاشميا. من أولاد هاشم بن عبد مناف أبى عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم .. وليس لهم في ذلك شبهة فضلا عن حجة وإنما قصدهم نفى إمامة أبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم ..
ومنهم من اشترط كونه علويا نفيا لخلافة بنى العباس .. وكفى بإجماع المسلمين على إمامة الأثمة الثلاثة حجة عليهم
…
ومنها .. أن يكون عالما بكل الأمور وأن يكون مطلعا على المغيبات .. وهذه جهالة تفرد بها بعضهم ..
ومنها أن يكون أفضل أهل زمانه لأن قبح تقديم المفضول على الأفضل في إقامة قوانين الشريعة وحفظ حوزة الإسلام معلوم للعقلاء، ولا ترجيح في تقديم المساوى ونقل مثل ذلك عن الأشعرى حتى لا تنعقد إمامة المفضول مع وجود
(1)
شرح المقاصد حـ 2 ص 27 وما بعدها.
الأفضل لأن الأفضل أقرب إلى انقياد الناس له واجتماع الآراء إلى متابعته ولأن الإمامة خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجب أن يطلب من له رتبة أعلى قياسًا على النبوة ..
وأجيب بأن القبح بمعنى استحقاق تاركه الخزم والعقاب عند الله ممنوع .. وبمعنى عدم ملاءمته بمجارى العقول والعادات غير مفيد .. مع أنه أيضا في حيز المنع إذ ربما يكون المفضول أقدر على القيام بمصالح الدين والملك ونصبه أوفق لانتظام حال الرعية وأوفق في اندفاع الفتنة ..
وهذا بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مبعوث من العليم الحكيم الذي يختار من يشاء من عباده لنبوته ويوحى إليه مصالح الملك والملة ويراه أهلا لتبليغ ما أوحى إليه بمشيئته فبدل ذلك قطعا على أفضليته. وإليه الإِشارة بقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ..
وقد يحتج بجواز تقديم المفضول بوجوه:
الأول: إجماع العلماء بعد الخلفاء الراشدين على انعقاد الإِمامة لبعض القرشيين مع أن فيهم من هو أفضل منه.
الثاني: أن عمر رضى الله عنه جعل الإمامة شورى بين ستة من غير تكبر عليها مع أن فيهم عثمان وعليا وهما أفضل من غيرهما إجماعًا. ولو وجب تعيين الأفضل لعينهما.
الثالث: أن الأفضلية أمر خفى قلما يطلع علمه أهل الحل والعقد وربما يقع فيه النزاع ويتشوش الأمر .. وإذا انصفت فتعيين الأفضل متعسر في أقل فرقة من فرق الفاضلين فكيف في قريش مع كثرتهم وتفرقهم في الأطراف، وأنت خبير بأن هذا وأمثاله على تقدير تمامه إنما يصلح للاحتجاج على أهل الحق دون الروافض فإن الإِمام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق.
ومنها أن يكون معصومًا من معظم الخلافيات مع الشيعة اشتراطهم أن يكون الإِمام معصوما .. وقد عرفت معنى العصمة وأنها لا تنافى القدرة على المعصية بل ربما يستلزمها .. وقد احتجوا بوجوه:
الأول: القياس على النبوة بجامع إقامة الشريعة وتنفيذ الأحكام وحماية حوزة الإسلام ورد بأن النبي مبعوثا من الله مقرونة دعواه بالمعجزات الباهرة الدالة على عصمته من الكذب وسائر الأمور المخلة بمرتبة النبوة ومنصب الرسالة وكذلك الإِمام فإن نصبه مفوض إلى العباد الذين لا سبيل لهم إلى معرفة عصمته - واستقامة سريرته فلا وجه لاشتراطها .. وأيضا النبي يأتى بالشريعة التي لا علم للعباد بها إلا من جهته فلو لم يكن معصوما عن الكذب في تبليغها والفسق في تعاطيها وقد لزمنا إمتثاله فيما أمر ونهى واعتقاد إباحة ما جرى عليه ومضى لكانت المعجزة التي أقامها الله تعالى لصحة الرسالة والهدى وانتظام أمر الدين والدنيا مفضية إلى الضلالة والردى واختلال حال العاجلة والعقبى ..
الثاني: أن الإمام واجب الطاعة بالنص والإِجماع .. قال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وكل واجب الطاعة واجب العصمة .. وإلا لجاز أن يكذب في تقرير الأوامر والنواهى وينهى عن الطاعات ويأمر بالمعاصى فيلزم وجوب اجتناب الطاعة وارتكاب العصيان والازم ظاهر البطلان ..
والجواب .. أن وجوب طاعته إنما هو فيما لا يخالف الشرع بشهادة قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ويكفى في عدم كذبه في بيان الأحكام العلم والعدالة والإسلام .. وهذا ما يقال: إنما تجب عصمته لو كان وجوب طاعته بمجرد قوله ..
وأما إذا كان لكونه حكم الله ورسوله فيكفى العلم والعدالة كالقاضى والموالى بالنسبة إلى الخلق. والشاهد بالنسبة إلى الحاكم والمفتى بالنسبة إلى المقلد وأمثال ذلك .. على أن الإِجماع عند الشيعة إنما يكون حجة لاشتماله على قول المعصوم فإثبات العصمة به دونه.
الثالث: أن غير المعصوم ظالم لأن المعصية ظلم على النفس أو على الغير ولا شئ من الظالم بأهل للإمامة لقوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} والمراد عهد الإِمامة بقرينة السياق وهو قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} .
والجواب: أن غير المعصوم أي من ليس له ملكة العصمة لا يلزم أن يكون عاصيا بالفعل فضلا عن أن يكون ظالما فإن المعصية أعم من الظلم وليس كل عاص ظالما على الإِطلاق .. ولو سلم فدلالة الآية على صدق الكبرى لا يتم لجواز أن يكون المراد عهد النبوة والرسالة على ما هو رأى أكثر المفسرين .. نعم يمكن إثباته بالإِجماع وفيه ما مر
…
الرابع: أن الأمة إنما يحتاجون إلى الإِمام لجواز الخطأ عليهم في العلم والعمل ولذلك يكون الإِمام لطفا لهم
…
فلو جاز الخطأ على الإمام لوجب له إمام آخر ويتسلسل
…
والجواب: أن وجوب الإِمام شرعى بمعنى أنه أوجب علينا نصبه لا عقلى مبنى على جواز الخطأ على الأمة كما زعمتم لأن في الشريعة القائمة غنى غنيته لولا إيجاب الشارع والضرر المظنون من عدم وجوده يندفع بعلمه واجتهاده وظاهر عدالته وحسن اعتقاده وإن لم يكن معصوما. لا يرى أن الخطأ جائز على المعصوم أيضا لما عرفت من أن العصمة لا تزيل المحنة .. وإن لم يندفع بذلك فكفى بخبر الأمم وعلماء الشرع مانعا دافعا ..
الخامس: أنه حافظ للشريعة فلو جاز عليه الخطأ لكان ناقضا لها لا حافظا فيعود على موضوعه بالنقض
…
والجواب: أنه ليس حافظا لها بذاته بل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة واجتهاده الصحيح. فإن أخطأ في اجتهاده وارتكب معصية فالمجتهدون يروون .. والآمرون بالمعروف يصدون وإن لم يفعلوا فلا نقض للشريعة القويمة.
السادس: أنه لو أقدم على المعصية فإما أن يجب الإِنكار عليه وهو مضاد لوجوب طاعته فيلزم اجتماع الضدين .. وأما أن لا يجب وهو خلاف النص والإِجماع ..
والجواب: أن وجوب الطاعة إنما هو فيما لا يخالف الشرع وأما فيما يخالفه فالرد والإنكار واجب والسكوت يكون عن اضطرار.
السابع: أنه لابد للشريعة من ناقل ولا يوجد في كل حكم أهل تواتر فلا بد أن يكون إمام معصوم عن الخطأ والجواب بأن الظن كاف في البعض فينقل بطريق الآحاد من الثقات وأما القطعى فإلى أهل التواتر وجميع الأمة وهم أهل عصمة عن الخطأ فلا حاجة إلى معصوم بالمعنى الذي قصدتم وليت شعرى بأى طريق نقلت الشريعة إلى الشيعة من الإِمام الذي لا يوجد
منه إلا الاسم ..
واشتراط الغلاة من الروافض أن يكون الإِمام صاحب معجزة عالما بالغيوب وبجميع اللغات وبجميع الحرف والصناعات وبطبائع الأغذية والأدوية وبعجائب البر والبحر والسماء والأرض .. وهذه خرافات مفضية إلى نفى الإِمام ورفض الشريعة والإِحكام ..
بقيت النقطة الثالثة وهى إدعاء الشيعة النص على عليّ وأنه الإِمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد تكلم السعد في ذلك في موضعين ..
الموضع الأول في الكلام على ما إذا كان هناك نص من النبي على الإِمامة والإِمام بقطع النظر عن شخص الإِمام وهل هو أبو بكر أو على أو لم ينص أصلا ..
والموضع الثاني في كلامه في مناقشة الشيعة في أدلتهم على النص على عليّ رضى الله عنه ففى الموضع الأول تكلم على الخلافة
(1)
وقال إن جمهور أهل السنة والمعتزلة والخوارج قالوا إنه لا نص أصلا على إمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأن البعض قال إنه نص على أبى بكر إماما بعده وإن الشيعة قالوا إنه نص على عليّ نصا خفيا وهو الذي لا يعلم المراد منه بالضرورة وهذا باتفاقهم جميعًا ..
وأما النص الجلي فهو عند الإِمامية دون الزيدية وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سلموا عليه بأمرة المؤمنين" وقوله مشيرًا إلى على وآخذا بيده: هذا خليفتى فيكم من بعدى فاسمعوا له وأطيعوا له" وقوله: "أنت الخليفة من بعدى" وقوله وقد جمع بنى عبد المطلب: "أيكم يبايعنى ويوآزرنى يكن أخى ووصى وخليفتى من بعدى" فبايعه على رضى الله عنه ثم ساق استدلال الجمهور على عدم النص أصلا وفيه رد على الشيعة الإمامية ولذلك سنذكره ..
قال: إنه لو كان نص جلى ظاهر المراد في مثل هذا الأمر الخطير المتعلق بمصالح الدين والدنيا لعامة الخلق - لتواتر ..
واشتهر فيما بين الصحابة وظهر على أجلتهم الذين لهم زيادة قرب بالنبى صلى الله عليه وسلم واختصاص بهذا الأمى بحكم العادة واللازم منتف وإلا لم يتوقفوا عن الإِنقياد له والعمل بموجبه ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بنى ساعدة لتعيين الإِمام ولم يقل الأنصار:
منا أمير ومنكم أمير - ولم تَمِلْ طائفة إلى أبى بكر رضى الله عنه وأخرى إلى على رضى الله عنه، وأخرى إلى العباس رضى الله عنه ولم يقل عمر رضى الله عنه لأبى عبيدة رضى الله عنه أمدد يدك أبايعك - ولم يترك المنصوص عليه محاجة القوم ومخاصمتهم وإدعاء الأمر له والتمسك بالنص عليه.
فإن قيل: علموا ذلك وكتموه لأغراض لهم في ذلك كحب الرياسة والحقد على على رضى الله عنه لقتله أقرباءهم وعشائرهم في حربه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسدهم إياه على ما له من المناقب والكمالات وشدة الاختصاص بالنبى صلى الله عليه وسلم وظنهم أن النص قد لحقه النسخ لما رأوا من ترك كبار الصحابة العمل به إلى غير ذلك من الاحتمالات وترك على رضى الله عنه المجاعة به تقية وخوفا من الأعداء وقلة وثوق بقبول الجماعة.
قوله: من كان له حظ من الديانة والإِنصاف علم قطعا براءة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلالة أقدارهم عن مخالفة أمره في مثل هذا الخطب الجليل ومتابعة الهوى وترك الدليل .. وإن مثل على رضى الله عنه مع صلابته في الدين وبسالته
(1)
الإمام السعد ص 283.
وشدة شكيمته وقوة عزيمته وعلو شأنه وكثرة أعوانه وكون أكثر المهاجرين والأنصار والرؤساء الكبار معه، قد ترك حقه ولم يطلبه كما قام به حين آل الأمر إليه أخيرًا وقاتل من نازعه وأثر على التقية الحمية في الدين والعصبية للإسلام .. ومن ادعى النص الجلى فقد طعن في كبار المهاجرين والأنصار عامة بمخالفة الحق وكتمانه وفى على رضى الله عنه خاصة بإتباعه الباطل وإذعانه .. بل طعن في النبي صلى الله عليه وسلم حيث اتخذ هؤلاء أحبابا وأصحابا وأعوانا وأصهارًا مع علمه بحالهم في ابتدائهم ومآلهم .. بل وفى كتاب الله تعالى حيث اثنى عليهم وجعلهم خير أمة ووصفهم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ..
ومن مكابرات الروافض إدعاؤهم تواتر هذا النص قرنا بعد قرن مع أنه لم يشتهر فيما بين الصحابة والتابعين ولم يثبت ممن يوثق به من المحدثين مع شدة ميلهم إلى على ونقلهم الأحاديث الكثيرة في مناقبه وكمالاته في أمر الدنيا والدين ولم ينقل عنه رضى الله عنه في خطبه ورسائله ومفاخرة إشارة إلى ذلك.
وابن جرير الطبرى مع إتهامه بالتشيع لم يذكر في روايته قصة هذه الزيادة التي يدعيها الشيعة من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنه خليفتى فيكم من بعدى" .. ونعم ما قال المأمون: وجدت أربعة في أربعة: الزهد في المعتزلة، والكذب في الرافضة، والمروءة في أصحاب الحديث، وحب الرياسة في أصحاب الرأى .. والظاهر ما ذكره المتكلمون من أن هذا المذهب أعنى دعوى النص الجلى مما وضعه هشام بن الحكم ونصره ابن الراوتدى وأبو عيسى الوراق وإضرابهم ثم رواه أسلافه الروافض شغفا بتقرير مذهبهم. قال الإمام الرازى: ومن العجائب أن الكاملين من علماء الشيعة لم يبلغوا في كل عصر حد الكثرة فضلا عن التواتر وأن عوامهم وأوساطهم لا يقدرون أن يفهموا كيفية هذه الدعوى على الوجه المحقق وأن غلاتهم زعموا أن المسلمين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق على الإسلام إلا عدد يسير أقل من العشرة فكيف يدعون التواتر في ذلك.
ثم انتقل الإمام السعد إلى الموضوع الثاني وقال
(1)
: للشيعة في إثبات إمامة على رضى الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وجوه من العقل والنقل والقدح فيمن عداه من أصحاب رسول الله الذين قاموا بالأمر ويدعون في كثير من الأخبار الواردة في هذا الباب التواتر بناء على شهرته فيما بينهم وكثرة دوراته على ألسنتهم وجريانه في أنديتهم وموافقته لطباعهم، ولا يتأملون أنه كيف خفى على الكبار من الأنصار والمهاجرين والثقات من الرواة والمحدثين ولم يحتج به البعض على البعض ولم يظهر إلا بعد انقضاء دور الإمامة وطول العهد بأمر الرسالة وظهور التعصبات الباردة وإفضاء أمر الدين إلى علماء السوء ومن العجيب أن بعض المتأخرين من المتشيعين الذين لم يروا أحدًا من المحدثين ولا رووا حديثا في أمر الدين - ملأوا كتبهم من أمثال هذه الأخبار والمطاعن في الصحابة .. وإن شئت فانظر في كتاب التجريد المنسوب إلى الحكيم نصير الطوسى كيف نصر الأباطيل وقرر الأكاذيب ..
والعظماء من عترة النبي صلى الله عليه وسلم وأولاد على المعروفون بالدراية المحفوظون في الرواية ..
(1)
المصدر السابق ص 278 وما بعدها.
لم يكن بينهم هذه الأحقاد ولم ينكروا عن الصحابة إلا الكمالات ..
الوجه الأول: من وجوه استدلال الشيعة على إمامة على رضى الله عنه الدليل العقلى. وتقريره: أنه لا نزاع في أحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إماما وليس هذا الإِمام غير على لأن الإمام يجب أن يكون معصوما ومنصوصا عليه وأفضل أهل زمانه.
ولا يوجد شئ من ذلك في باقى الصحابة. أما العصمة والنص فبالاتفاق .. وأما الأفضلية قلما سيأتي. وهذا يمكن أن يجعل أدلة ثلاثة بحسب الشروط .. والجواب:
أولا: منع الاشتراط.
ثانيا: منع انتفاء الشرائط في أبى بكر رضى الله عنه.
الوجه الثاني: الدليل النقلى من الكتاب الكريم وتقريره أن قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} نزلت بإتفاق المفسرين في علي بن أبي طالب رضى الله عنه حين أعطى السائل خاتمه وهو راكع في صلاته ..
وكلمة إنما للحصر بشهادة النقل والاستعمال والولى كما جاء بمعنى الناصر فقد جاء بمعنى المتصرف والأولى والأحق بذلك.
يقال: أخو المرأة وليها .. والسلطان ولى من لا ولى له، وفلان ولى الدم، وهذا هو المراد ههنا لأن الولاية بمعنى النصرة تعم جميع المؤمنين لقوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فلا يصح حصرها في المؤمنين الموصوفين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة حال الركوع.
والمتصرف من المؤمنين في أمر الأمة يكون هو الإمام فتعين على رضى الله عنه لذلك .. إذا لم توجد هذه الصفات في غيره ..
والجواب: منع كوني الولى بمعنى المتصرف في أمر الدين والدنيا والأحق بذلك على ما هو خاصة للإمام بل الولى بمعنى الناصر والموالى المحب على ما يناسب ما قبل الآية وما بعدها .. وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} .
فإنما الحصر إنما يكون بإثبات ما نفى عن الغير .. وولاية اليهود والنصارى المنهى بحق اتخاذها ليست هي التعرف والإمامة بل النصرة المحبة .. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} لظهور أن ذلك تولى محبة ونصرة لا إمامة ..
وبالجملة لا يخفى على من تأمل في سياق الآية وكان له معرفة بأساليب الكلام - أن ليس المراد بالولى ههنا ما يقتضى الإمامة - بل الموالاة والنصرة والمحبة .. ثم وصف المؤمنين بما ذكر يجوز أن يكون للمدح والتعظيم دون التقييد والتخصيص وأن يكون لزيادة شرف الموصوفين واستحقاقهم أن يتخذوا أولياء وأولويتهم بذلك وقربهم ونظرتهم وشغفتهم الحاملة على النصرة وقوله وهم راكعون كما يحتمل الحال يحتمل العطف بمعنى أنهم يركعون في صلاتهم لا كصلاة اليهود خالية من الركوع ..
أو بمعنى أنهم خاضعون .. على أن ههنا وجوها أخرى من الاعتراض .. منها أن النصرة وإن كانت عامة لكن إذا أضيفت إلى جماعة مخصوصة من المؤمنين فبالضرورة تختص بمن عداهم لأن الإِنسان لا يكون ناصرًا لنفسه .. وكأنه قيل لبعض المؤمنين .. إنما ناصركم البعض الآخر فالخطاب خاص ببعض المؤمنين - والمؤمنون الموصوفون هم من عداهم ومنها أن الذين آمنوا صيغة جمع فلا يصرف إلى الواحد إلا بدليل ..
وقول المفسرين أن الآية نزلت في حق على لا يقتضى اختصاصها به واقتصارها عليه .. ودعوى انحصار الأوصاف فيه مبنى على جعل {وَهُمْ رَاكِعُونَ} حالا من ضمير يؤمنون وليس بلازم. ومنها أنه لو كانت في الآية دلالة على إمامة على رضى الله عنه لما خفيت على الصحابة عامة وعلى على خاصة .. ولما تركوا الانقياد لها والاحتجاج بها ..
الوجه الثالث: ما يدعون فيه التواتر من الأخبار .. أما حديث العذير فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع الناس يوم غذير ضم (موضع بين مكة والمدينة بالجحفة) وذلك بعد رجوعه من حجة الوداع وكان يوما صائفا حتى إن الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر. وجمع الرحالة وصعد عليها عليه السلام وقال مخاطبًا:
"معاشر المسلمين: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: اللهم بلى .. قال: فمن كنت مولاه فعلى مولاه .. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره وأخذل من خذله" .. وهذا حديث متفق على صحته أورده على يوم الشورى عندما حاول ذكر فضائله ولم ينكره أحد ..
ولفظ المولى قد يراد به المعتِق والمعتَق والحليف والجار وابن العم والناصر والأولى بالتصرف .. قال الله تعالى: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} أي أولى بكم .. ذكره أبو عبيدة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن مولاها .. أي الأولى بها والمالك لتدبير أمرها .. ومثله في الشعر كثير وبالجملة استعمال الولى بمعنى المتولى والمالك للأمر والأولى بالتصرف شائع في كلام العرب منقول عن كثير من أئمة اللغة والمراد أنه اسم لهذا المعنى لا صفة بمنزلة الأولى ليعترض بأنه ليس من صيغة التفضيل وأنه لا يستعمل استعماله، وينبغى أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى ليطابق صور الحديث ولأنه لا وجه للمعانى الخمسة الأول وهو ظاهر ولا للسادس لظهوره وعدم احتياجه إلى البيان وجمع الناس لأجله سيما وقد قال الله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} . ولا خفاء في أن الولاية بالناس والتولى والمالكية لتدبير أمرهم والتصرف فيهم بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم هو معنى الإِمامة فتثبت الإِمامة لعلى بذلك.
والجواب: منع تواتر الخبر فإن ذلك من مكابرات الشيعة - كيف وقد قدح في صحته كثير من أهل الحديث. ولم ينقله المحققون منهم كالبخارى ومسلم والواقدى وأكثر من رواه لم يروا المقدمة التي جعلت دليلا على أن المراد بالولى الأولى بالتصرف وبعد صحة الرواية. فمؤخر الخبر. أعنى قوله .. اللهم وال من والاه يشعر بأن المراد بالمولى هو الناصر والمحب بل مجرد احتمال ذلك كاف في دفع الاستدلال .. وما ذكروه من أن ذلك معلوم كظاهر من قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} لا يدفع الاحتمال لجواز أن يكون
الغرض التنصيص على موالاته ونصرته ليكون أبعد عن التخصيص الذي تحتمله أكثر العمومات وليكون أقوى دلاله وأوفى بإفادة زيادة الشرف حيث قرن بموالاة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا القدر من المحبة والنصرة لا يقتضى ثبوت الإِمامة .. وبعد تسليم الدلالة على الإِمامة فلا عبرة بخبر الواحد في مقابلة الإجماع .. ولو سلم فغايته الدلالة على استحقاق الإمامة وثبوتها في المآل لكن من أين يلزم نفى إمامة الأئمة قبله .. وهذا قول بالموجب .. وهو جواب ظاهر لم يذكره القوم ..
وإذا تأولت فيما يدعون من توتر الخبر وجدت أنه حجة عليهم لا لهم لأنه لو كان سوقا لثبوت الإِمامة دالًا عليه لما خفى على عظماء الصحابة فلم يتركوا الاستدلال به ولم يتوقفوا في أمر الإمامة والقول بأن القوم تركوا الانقياد عنادًا وأن عليًا رضى الله عنه ترك الاحتجاج تقية (آية الغواية وغاية الوقاحة).
وأما حديث المعتزلة فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلى رضى الله عنه: أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى وتقريره أن المنزلة اسم جنس أضيف فعم كما إذا عرف باللام بدليل صحة الاستثناء .. وإذا استثنى منها مرتبة النبوة بقيت عامة في بقية المنازل الله من جملتها كونه خليفة له ومتوليا في تدبير الأمر ومتصرف في مصالح العامة ورئيسا مفترض الطاعة لو عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يليق بمرتبة النبوة زوال هذه المرتبة الرفيعة الثابتة في حياة موسى عليه السلام بوفاته.
وإذ قد صرح بنفى النبوة لم يكن ذلك إلا بطريق الإِمامة .. والجواب: منع التواتر - بل هو خبر واحد في مقابلة الإِجماع .. ومنع عموم المنازل بل غاية الاسم المفرد المضاف إلى العلم .. الإطلاق .. وربما يدعى كونه معهودا معينا كغلام زيد .. وليس الإِستثناء المذكور إخراجًا لبعض أفراد المنزلة بمنزلة ذلك إلا النبوة ..
بل منقطع بمعنى لكن على ما لا يخفى على أهل العربية فلا يدل على العموم .. كيف ومن المنازل الإِخوة في النسب ولم تثبت لعلى .. اللهم إلا أن يقال أنها بمنزلة المستثنى لظهور انتفائها ..
ولو سلم العموم فليس من منازل هارون الخلافة والتصرف بطريق النيابة على ما هو مقتضى الإِمامة لأنه شريك لموسى في النبوة. وقوله: أخلفنى في قومى - ليس استخلافا بل مبالغة وتأكيدًا في القيام بأمر القوم .. ولو سلم فلا دلالة على بقائها بعد الموت - وليس انتفاؤها نموت المستخلف عزلا ولا نقصا - بل ربما يكون عودًا إلى حالة أكمل هي الاستقلال بالنبوة والتبليغ عن الله تعالى ولو سلم فتصرف هارون عليه السلام ونفاذ أمره لو بقى بعد موسى إنما يكون لنبوته .. وقد انتفت النبوة في حق على رضى الله عنه فينتفى ما يبنى عليها ويتسبب عنها ..
وأما الجواب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف علما على المدينة فأكثر أهل النفاق في ذلك. فقال على: يا رسول الله: أتتركنى مع الاختلاف؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى ..
وهذا لا يدل على خلافته بعده كابن أم مكتوم رضى الله عنه استخلفه على المدينة في كثير من غزواته .. أما الجواب بذلك فربما يدفع بأن العبرة بعموم اللفظ لا لخصوص السبب. بل ربما يحتج بأن استخلافه على المدينة وعدم
عزله عنها مع أنه لا قائل بالفصل وأن الاحتياج إلى الخليفة بعد الوفاة أشد وأوكد منه حال الغيبة يدل على كونه خليفة ..
الوجه الرابع: من أوجه استدلال الإِمامية على ثبوت إمامة على بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالنص - أخبار يدعون أنها نصوص جلية من النبي صلى الله عليه وسلم على خلافته وهى قوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا أصحابه: "سلموا عليه بأمرة المؤمنين" الضمير لعلى والإمرة بالكسر: الإمارة من أمر الرجل صار أميرًا وقوله صلى الله عليه وسلم لعلى رضى الله عنه: "أنت الحليفة من بعدى". وقوله عليه الصلاة والسلام: "إنه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين". وقوله: وقد أخذ بيد على: "هذا خليفتى عليكم" .. وقوله صلى الله عليه وسلم لعلى رضى الله عنه: "أنت أخى ووصى وخليفتى من بعدى وقاضى دينى بالكسر" ..
والجواب: ما مر من أنها أخبار آحاد في مقابلة الإجماع وأنها لو صحت لما خفيت على الصحابة والتابعين والمهرة المتقين من المحدثين سيما على أولاده الطاهرين ولو سلم فغايته إثبات خلافته لا نفى خلافة الآخرين ..
الوجه الخامس: الاستدلال على إمامة على رضى الله عنه بالقدح في إمامة الأئمة الآخرين، وتقريره أنه لا نزاع في وجود إمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم وغير على من الجماعة الموسومين بذلك لا يصلح لذلك .. إما إجمالا فلظلمهم لسبق كفرهم قبل الإِسلام والكافر ظالم لقوله تعالى:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} والظالم لا يكون إماما لقوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .
والجواب: منع المقدمتين. ومنع دلالة الآية على كون من كان كافرا وأسلم ظالمًا - ومنع كون المراد بالعهد هو الإمامة ..
وأما تفصيلا فيقدح في إمامة أبى بكر بوجوه منها:
إنه خالف كتاب الله تعالى في منع إرث النبي صلى الله عليه وسلم بخبر رواه وهو "نحن معاشر الأنبياء لا نورث - ما تركناه صدقة".
وتخصيص الكتاب إنما يجوز بالخبر المتواتر دون الآحاد .. والجواب: إن خبر الواحد وإن كان ظنى المتن (الثبوت) قد يكون قطعى الدلالة فيخصص به عام الكتاب لكونه ظنى الدلالة وإن كان قطعى المتن جمعا بين الدليلين وتمام تحقيق ذلك في أصول الفقه على أن الخبر المسموع من فم النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يكن فوق المتواتر فلا خفاء في كونه بمنزلته - فيجوز للسامع المجتهد أن يخصص به عام الكتاب ..
ومنها أنه منع فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضى الله تعالى عنها فدك وهى قرية بخيبر .. مع أنها أدعت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحلها إياها ووهبها منها وشهد بذلك على رضى الله عنه وأم أيمن فلم يصدقهم وصدق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في إدعاء الحجرة لهن من غير شاهد .. ومثل هذا الجور والميل لا يليق بالإمام .. ولهذا رد عمر بن عبد العزيز من المرواتية فدك إلى أولاد فاطمة رضى الله تعالى عنها ..
والجواب: أنه لو سلم صحة ما ذكر فليس على الحاكم أن يحكم بشهادة رجل وامرأة وإن فرض عصمة المدعى والشاهد وله الحكم بما علمه يقينا وإن لم يشهد به شاهد ولعمرى إن قصة فدك على ما يرويه الروافض من أبين الشواهد على انهماكهم في الضلالة وافترائهم على الصحابة وكونهم الغاية في الغواية، والنهاية في الوقاحة حيث ظنوا بمثل أبى بكر
وعمر أنهما أخذا حق سلالة النبوة ظلما لينتفع به الآخرون لا هما أنفسهما ولا من يتصل بهما ..
"وبمثل على رضى الله عنه أنه مع علمه بحقيقه الحال لم يدفع تلك الظلامة أيام خلافته وبسائر الصحابة أنهم سكتوا على ذلك من غير تعرض ولا اعتراض ..
والمذكور في كتب التواريخ أن فدك كانت على ما قرره أبو بكر رضى الله عنه إلى زمن معاوية ثم أقطعها مروان بن الحكم من ابنيه عبد العزيز وعبد الملك ثم لما ولى الوليد بن عبد الملك وهب عمر بن عبد العزيز نصيبه للوليد وكذلك سليمان بن عبد الملك فصارت كلها للوليد ثم ردها عمر بن عبد العزيز أيام خلافته إلى ما كانت عليه ..
ثم لما كانت سنة عشرين ومائتين كتب المأمون إلى عامله على المدينة قثم بن جعضم أن يرد فدك إلى أولاد فاطمة رضى الله عنها فدفعها إلى محمد بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب ومحمد بن عبد الله بن زيد بن الحسين ليقوما بها لأهلهما - وعد ذلك من تشيع المأمون - فلما استخلف المتوكل ردها إلى ما كانت عليه ..
ومنها أنه خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الاستخلاف حيث جعل عمر خليفة له والرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه أعرف بالمصالح والمفاسد وأوفر شفقة على الأمة لم يستخلص أحدًا؟ بل عزل عمر بعد أن ولاه أمر الصدقات فاستخلافه وتوليته جميع أمور المسلمين مخالفة للرسول وترك ما وجب من اتباعه ..
والجواب: أنا لا نسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أحدًا بل استخلف إجماعًا أما عندنا فأبا بكر وأما عندكم فعليا ولا نسلم أنه عزل عمر بل انقضت توليته بانقضاء عمله كما إذا وليت أحدًا عملا فأتمه فلم يبق عاملا فإنه ليس من القول في شئ ولا نسلم أن مجرد فعل ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفة له وترك لاتباعه .. وإنما يكون ذلك إذا فعل ما نهى عنه أو ترك ما أمر به، ولا نسلم أن هذا قادح في استحقاق الإمامة ..
ومنها أنه لم يكن عارفا بالأحكام حتى قطع يسار سارق من الكوع لا يمينه .. وقال لجدة سألته ميراثها ما أجد لك شيئا في كتاب الله ولا سنة نبيه - فأخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة أن الرسول عليه الصلاة والسلام أعطاها السدس وقال: أعطوا الجدات السدس ولم يعرف الكلالة - وهى من لا والد له ولا ولد - وكل وارث ليس بوالد ولا ولد .. والجواب بعد التسليم أن هذا لا يقدح في الاجتهاد فكم مثله للمجتهدين ..
ومنها أنه شك عند موته في استحقاقه الإمامة حيث قال: وددت أنى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر فيمن هو وكنا لا ننازعه أهله .. والجواب أن هذا على تقدير صحته لا يدل على الشك بل على عدم النص وأن إمامته كانت بالبيعة والاختيار وأنه في طلب الحق بحيث يحاول أن لا يكتفى بذلك بل يريد اتباع النص خاصة ..
ومنها أن عمر مع كونه وليه وناصره قال: كانت بيعة أبى بكر فلتة وقى الله تعالى المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه يعنى أنها كانت فجأة لا عن تدبر وابتناء على أصل .. والجواب أن المعنى كانت فجأة وبغتة وقى الله المسلمين شر الخلاف الذي يكاد يظهر عندها .. فمن عاد إلى مثل تلك المخالفة الموجبة لتبديد الكلمة فاقتلوه وكيف يتصور منه القدح في إمامة أبى
بكر مع ما علم من مبالغته في تنظيمه وفى انعقاد البيعة له ومن صيرورته خليفة باستخلافه ..
ولهم حكايات تجرى مجرى ذلك أكثرها افتراءات .. وما أقبح بناء المذاهب على الترهات والأحاديث المفتريات ..
وقدحوا في إمامة عمر بوجوه:
منها: أنه لم يكن عارفا بالأحكام حتى أمر برجم امرأة حامل أقرت بالزنا ورجم امرأة مجنونة فنهاه على رضى الله تعالى عنه عن ذلك. فقال: لولا عليّ لهلك عمر .. ونهى عن المغالاة في الصداق فقامت إليه امرأة فقالت: ألم يقل الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} فقال: كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات ..
والجواب بعد تسليم القصة وعلمه بالحمل والجنون ونهيه عن المغالاة في المهور على وجه التحريم .. فإن الخطأ في مسألة أو أكثر لا ينافى الاجتهاد ولا يقدح في الإِمامة .. والاعتراف بالنقصان هضم للنفس ودليل على الكمال ..
ومنها: أنه لم يكن عالما بالقرآن حتى شك في موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسكن إليه حتى تلا عليه أبو بكر قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} فقال: كأنى لم أسمع هذه الآية ..
والجواب: أن ذلك كان لتشويش البال واضطراب الحال والذهول عن جليات الأحوال .. أو لأنه فهم من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} وقوله: {ليستخلفهم في الأرض} أنه يبقى إلى تمام هذه الأمور وظهورها .. وفى قوله: كأنى لم أسمع هذه الآية دلالة على أنه سمعها وعلمها لكن ذهل عنها أو حملها على معنى آخر - أي كأنى لم أسمعها سماع إطلاع على هذا المعنى - بل أنه يموت بعد تمام الأمور المذكورة.
ومنها: أنه تصرف في بيت المال بغير الحق فأعطي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منه مالا كثيرًا حتى روى أنه أعطى عائشة وحفصة كل سنة عشرة آلاف درهم. واقترض لنفسه منه ثمانين ألف درهم ..
وكذلك في أموال الغنائم حيث فضل المهاجرين على الأنصار والعرب على العجم ومنع أهل البيت خمسهم الذي هو سهم ذوى القربى بحكم الكتاب - والجواب: أن من تتبع ما تواتر من أحواله علم قطعا أن حديث التصرف في الأموال محض افتراء ..
وأما التفضيل فله ذلك بحسب ما يرى من المصلحة .. فإنه من الاجتهاديات التي لا قاطع فيها ..
وأما الخمس فقد كان لذوى القربى وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب من أولاد عبد مناف بالنص والإجماع إلا أنه اجتهد فذهب إلى أن مناط الاستحقاق هو الفقر فخصه بالفقراء منهم أو إلى أنها من قبيل الأوساخ المحرمة على بنى هاشم.
وبالجملة فهذه مسألة اجتهادية معروفة في كتب الفقه لا تقدح في استحقاق الإِمامة.
ومنها أنه منع متعة النكاح وهى أن يقول الرجل لامرأة أتمتع بك كذا مدة بكذا درهمًا .. أو متعينى نفسك أياما بكذا ..
أو ما يؤدى هذا المعنى وجوزها مالك والشيعة وفى معناها النكاح إلى أجل معلوم. وجوزه زفر لازما .. أي يجوز العقد عنده ولكن لا يقع مؤقتا بل يقع لازما ومتعة الحج وهى أن يأتى مكة من على مسافة القصر منها محرمًا
فيعتمر في أشهر الحج ويقيم حلالا بمكة وينشئ منها الحج عامة ذلك وقد كان معترفًا بشرعية المتعتين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على ما روى عنه أنه قال: ثلاث كن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهن وأحرمهن .. وهى متعة النساء ومتعة الحج وصى على خير العمل ..
والجواب: أن هذه مسائل اجتهادية وقد ثبت نسخ إباحة متعة النساء بالآثار المشهورة إجماعًا من الصحابة على ما روى محمد بن الحنفية عن على رضى الله عنه أن منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى يوم خيبر: ألا أن الله ورسوله ينهيانكم عن المتعة .. وقال جابر بن زيد: ما خرج ابن عباس من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة، وبعضهم على أنه إنما ثبتت إباحتها مؤقتة بثلاثة أيام ..
ومعنى أحرمهن: أحكم بحرمتهن وأعتقد ذلك لقيام الدليل كما يقال: حرم المثلث الشافعي وأباحه أبو حنيفة رحمهما الله تعالى.
ومنها: أنه جعل الخلافة شورى بين ستة مع الإِجماع على أنه لا يجوز نصب خليفتين لما فيه من إثارة الفتنة ..
والجواب: أن ذلك حيث يكون كلا منهما مستقلا بالخلافة .. فأما بطريق المشاورة وعدم انفراد البعض بالرأى فلا .. لأن ذلك بمنزلة نصب إمام واحد كامل الرأى .. وقد يقال: إن معنى جعل الإِمامة شورى أن يتشاوروا فينصبوا واحدًا منهم ولا تتجاوزهم الإمامة. ولا يعبأ بتعيين غيرهم وحينئذ لا إشكال ومن نظر بعين الإنصاف وسمع ما اشتهر عن عمر في الأطراف علم جلاله محله عما تدعيه، الأعداء وبراءة ساحته عما يفتريه أهل البدع والأهواء وجزم بأنه كان الغاية في العدل والسداد والاستقامة على سبيل الرشاد وأنه لو كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبى لكان عمر، ولو يبعث فينا نبى لبعث عمر، ولكن لا دواء لداء العناء ومن يضلل فما له من هاد ..
وقدحوا في إمامة عثمان: بأنه:
وَلّى أمور المسلمين من ظهر منهم الفسق والفساد كالوليد بن عقبة وعبد الله بن أبى سرح ومروان بن الحكم ومعاوية بن أبى سفيان ومن يجرى مجراهم .. وأنه صرف أموال بيت المال إلى أقاربه حتى نقل أنه صرف إلى أربعة نفر منهم أربعمائة ألف درهم وأنه حمى لنفسه.
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إنه لا حمى إلا لله ولرسوله .. " وعمر إنما حمى لأجل المسلمين العاجزين ولنحو تعم الصدقة والجزية والضوال لا لنفسه .. وأنه أحرق مصحف عبد الله بن مسعود وضربه حتى كسر ضلعين من أضلاعه .. وضرب عمارًا حتى أصابه فتق وضرب أبا ذر ونفاه إلى الربذة وأنه رد الحكم بن العاص وكان قد سيره النبي صلى الله عليه وسلم ..
وأنه أسقط القود عن عبد الله بن عمر وقد قتل الهرمزان .. والحد عن الوليد بن عقبة وقد شرب الخمر، وأن الصحابة خذلوه حتى قتل ولم يدفن إلا بعد ثلاثة أيام ..
والجواب: أن بعض هذه الأمور مما لا يقدح في إمامته كظهور الفسق والفساد من ولاة بعض البلاد إذ لا إطلاع على السرائر .. وإنما عليه الأخذ بالظاهر .. والعزل عن تحقيق الفسق ..
ومعاوية كان على الشام في زمن عمر أيضًا .. والمذهب أن الباغى ليس بفاسق ولو سلم فإنما ظهر ذلك في زمان إمامة على رضى الله عنه وبعض هذه الأمور افتراء محض كصرف ذلك القدر من بيت المال إلى أقاربه وأخذ الحمى لنفسه وضرب الصحابة إلى الحد المذكور ..
وبعضها اجتهاديات مفوضة إلى رأى الإمام حسب ما يراه من المصلحة كالتأديب والتعزير ودرء الحدود والقصاص بالشبهات والتأويلات ..
وبعضها كان بإذن النبي صلى الله عليه وسلم كرد الحكم وبن العاص على ما روى أنه ذكر ذلك لأبى بكر وعمر رضى الله عنهما فقالا: إنك شاهد واحد ..
فلما آل الأمر إليه حكم بعلمه ..
وأما حديث خذلان الصحابة إياه وتركهم دفنه من غير عذر فلو صح كان قدحا فيهم لا فيه .. ونحن لا نظن بالمهاجرين والأنصار رضى الله عنهم عمومًا وبعلى بن أبى طالب رضى الله عنه خصوصًا أن يرضوا بقتل مظلوم في دارهم وترك دفن ميت في جوارهم سيما من هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائما .. وعاكف طول النهار ذاكرا وصائما شرفه رسول الله بتزويجه ابنته وبشره بالجنة وأثنى عليه.
فكيف يخذلونه وقد كان من زمرتهم وطول العمر في نصرتهم وعلموا سابقتهم في الإِسلام وخاتمته إلى دار السلام .. لكنه لم يأذن لهم في المحاربة ولم يرض بما حاولوا من المدافعة تجاميا عن إراقة الدماء ورضا بسابق القضاء .. ومع ذلك لم يدع الحسن والحسين رضى الله عنهما في الدفع عنه مقدورًا وكان أمر قدرًا مقدورًا ..
ثم قال السعد
(1)
: إن الشيعة يزعمون أن الإِمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثم ابنه الحسن ثم أخوه الحسين ثم ابنه على زين العابدين ثم ابنه محمد الباقر ثم ابنه جعفر الصادق ثم ابنه موسى الكاظم ثم ابنه على الرضا .. ثم ابنه محمد الجواد ثم ابنه على الزكى .. ثم ابنه الحسن العسكرى ثم ابنه محمد القائم المهدى المنتظر ..
ويدعون أنه ثبت بالتواتر نص كل من السابقين على من بعده .. ويروون عن النبي أنه قال للحسن رضى الله عنه ابنى هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم ويتمسكون تارة بأنه يجب في الإمام العصمة والأفضلية ..
ولا يوجدان فيمن سواهم .. والعاقل يتعجب من هذه الروايات والمتواترات التي لا أثر لها في القرون السابقة من أسلافهم ولا رواية عن العترة الطاهرة ومن يوثق بهم من المحدثين والرواة وأنه كيف يأتى من زيد بن علي رضى الله عنه مع جلالة قدره دعوى الخلافة ..
وكيف لم تبلغه هذه المتواترات بعد مائة سنة .. وقد بلغت آحاد الروافض بعد سبعمائة سنة ثم لسائر فرق الشيعة في باب الإمامة اختلافات لا تحصى ذكر الإمام في المحصل نبذا منها ..
ثم قال السعد: لما ذهب معظم أهل السنة وكثير من الفرق إلى أنه يتعين للإمامة أفضل أهل العصر إلا إذا كان في نصبه هرج وهيجان فتن احتاجوا إلى بحث الأفضلية ..
فقال أهل السنة: الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على ..
وقد مال البعض منهم إلى تفضيل على رضى الله عنه على عثمان والبعض إلى التوقف فيما بينهما - قال إمام الحرمين ..
مسألة امتناع امامة المفضول ليست بقطعية ثم لا قاطع مشاهد من العقل على تفضيل بعض الأئمة على البعض .. والأخبار الواردة على فضائلهم متعارضة لكن الغالب على الظن أن أبا بكر أفضل ثم عمر .. ثم يتعارض الظنون في عثمان وعلى رضى الله عنهما ..
(1)
الإمام السعد ص 297.
وذهب الشيعة وجمهور المعتزلة إلى أن الأفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على رضى الله - عنه ..
لنا إجمالًا أن جمهور عظماء الملة وعلماء الأمة أطبقوا على ذلك .. وحسن الظن بهم يقتضى أنهم لو لم يعرفوا بدلائل وأمارات لما أطبقوا عليه .. وتفصيلا الكتاب والسنة والأثر والإمارات ..
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} فالجمهور على أنها نزلت في أبى بكر رضى الله تعالى عنه .. والأتقى: الأكرم لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولا يعنى بالأفضل إلا الأكرم وليس المراد به عليا لأن النبي صلى الله عليه وسلم له عنده نعمة تجزى وهى نعمة التربية ..
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر" دخل في الخطاب على رضى الله عنه فيكون مأمورًا بالافتداء ولا يؤمر الأفضل ولا المساوى بالاقتداء سيما عند الشيعة .. وقوله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وعمر هما سيِّدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين ..
وقوله: خير أمتى أبو بكر ثم عمر .. وقوله: ما ينبغى لقوم فيهم أبى بكر أن يتقدم عليه عنده .. وقوله: لو كنت متخذا خليلا دون ربى لاتخذت أبا بكر خليلا .. ولكن هو شريك في دينى وصاحبى الذي أوجبت له صحبته في الغار وخليفتى في أمتى
…
وعن عمرو بن العاص: قلت يا رسول الله: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها. قلت: ثم من؟ قال: عمر .. وقال صلى الله عليه وسلم: لو كان في بعدى نبى لكان عمر.
وأما الأرثر: فعن ابن عمر .. كنا نقول ورسول الله حى: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان. وعن محمد بن الحنفية: قلت لأبى: أي الناس خير بعد النبي صلى الله عليه وسلم .. قال أبو بكر - قلت: ثم من؟ قال: عمر .. وخشيت أن أقول ثم من؟ فيقول عثمان .. فقلت: ثم أنت. قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين .. وعن علي رضى الله عنه: خير الناس بعد النبيين: أبا بكر ثم عمر ثم الله أعلم.
وأما الأمارات: فما تواتر في أيام أبى بكر من اجتماع الكلمة وتآلف القلوب وتتابع الفتوح وقهر أهل الردة .. وتطهير جزيزة العرب من الشرك وإجلاء الروم عن الشام وأطرافها وطرد فارس عند حدود السواد وأطراف العراق مع قوتهم وشوكتهم ووفر أموالهم وانتظام أحوالهم ..
وفى أيام عمر من فتح جانب المشرق إلى أقصى خراسان وقطع دولة العجم وثل عرشهم الراسى البنيان الثابت الأركان ومن ترتيب الأمور وسياسة الجمهور وإفاضة العدل وتقوية الضعفاء ومن إعراضه عن متاع الدنيا وطيباتها وملاذها وشهواتها ..
وفى أيام عثمان من فتح البلاد وإعلاء لواء الإسلام وجمع الناس على مصحف واحد مع ما كان من الورع والتقوى وتجهيز جيوش المسلمين والإنفاق في نصرة الدين والمهاجرة هجرتين وكونه خَتَنًا للنبى صلى الله عليه وسلم على ابنتين .. والاستحياء من أدنى شين
…
وتشرفه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: عثمان أخى ورفيقى في الجنة .. وقوله: ألا استحى ممن تستحى منه ملائكة السماء ..
وقوله: إنه رجل يدخل الجنة بغير حساب ..
وتمسكت الشيعة القائلون بأفضلية على على سائر الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} عنى (بأنفسنا) عليا رضى الله عنه .. وإن كان صيغة جمع لأنه صلى الله عليه وسلم حين دعا وفد نجران إلى المباهلة وهو الدعاء على الظالم من الفريقين خرج ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلى وهو يقول لهم: إذا أنا دعوت فأمنوا .. ولم يخرج معه من بنى عمه غير على رضى الله عنه .. ولا شك أن من كان بمنزلة نفس النبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل .. وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قال سعيد بن جبير: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله: من هؤلاء الذين تودهم؟ قال: على وفاطمة وولداها .. ولا يخفى من وجبت محبته بحكم نص الكتاب كان أفضل. وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} عن ابن عباس أن المراد به على ومن ثبتت له القربة للرسول بالكتاب كان أفضل ..
أما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى على بن أبى طالب". ولا شك أن من ساوى هؤلاء الأنبياء في هذه الكمالات كان أفضل.
وقوله: أقضاكم على .. وقوله: أنت منى بمنزلة هارون من موسى .. ولم يكن عند موسى أفضل من هارون .. وقوله: من كنت مولاه فعلى مولاه، وساقوا أحاديث وآثار لا تحصى.
ثم قال السعد بعد أن ساق الكثير الطويل من ذلك .. والجواب: أنه لا كلام في عموم مناقب على رضى الله عنه ووفور فضائله واتصافه بالكمالات واختصاصه بالكرامات إلا أنه لا يدل على الأفضلية بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله بعدما ثبت من الاتفاق الجارى مجرى الإجماع على أفضلية أبى بكر ثم عمر والاعتراف من على بذلك ..
على أن فيما ذكر مواضع بحث لا تخفى على المحصل .. مثل أن المراد بأنفسنا في آية المباهلة نفس النبي صلى الله عليه وسلم كما يقال: دعوت نفسى إلى كذا ..
فإن وجوب المحبة وثبوت النصرة على تقدير تحققه في حق على رضى الله عنه فلا إختصاص به .. وكذا الكمالات الثابتة للمذكورين من الأنبياء - وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم ائتنى بأحب خلقك إليك يأكل معى من هذا الطير وأنه جاءه على" وقولهم: إن الأحب إلى الله أكثر ثوابا وهو معنى الأفضلية - فإن أحب خلقك إليك يحتمل تخصيص أبى بكر وعمر عملا بأدلة أفضليتهما.
ويحتمل أن يراد أحب الخلق إليك في أن يأكل معى لا على الإِطلاق .. وحكم الإخوة ثابت في حق أبى بكر وعثمان رضى الله عنهما أيضا حيث قال عليه السلام في حق أبى بكر لكنه أخى وصاحبى ووزيرى .. وقال في حق عثمان: أخى ورفيقى في الجنة ..
وأما حديث العلم والشجاعة فلم تقع حادثة إلا ولأبى بكر وعمر - فيه رأى وعند الاختلاف لم
يكن يرجع إلى قول على حتما بل قدوته .. ولم لَكن رباطة الجأش وشجاعة القلب وعدم الاكتراث بالمهالك في أبى بكر أقل من غيره سيما فيما وقع بعد النبي صلى الله عليه وسلم من حوادث تكاد تصيب وهنا في الإسلام .. وأما السبق إلى الإسلام ففيه خلاف - وقيل في التوفيق: أول من آمن من النساء خديجة رضى الله عنها ومن الصبيان على رضى الله عنه ومن الموالى زيد بن حارثة ومن الرجال الأحرار أبو بكر. وقد سجل حسان بن ثابت في شعره سبق أبى بكر إلى الإِسلام ولم ينكر عليه أحد
…
والإنصاف أن مساعى أبى بكر وعمر في الإِسلام أمر على الشأن جلى البرهان غنى عن البيان ..
وما ذكر من أفضلية بعض الأفراد بحسب التعيين أمر ذهب إليه الأئمة وقامت عليه الأدلة ..
قال الإمام الغزالى رحمه الله تعالى: حقيقة الفضل ما هو عند الله وذلك مما لا يطلع عليه رسول الله وقد ورد في الثناء عليهم أخبار كثيرة ولا يدرك دقائق الفضل والترتيب إلا المشاهدون للوحى والتنزيل بقرائن الأحوال فلولا فهموا ذلك لما رتبوا الأمر كذلك إذ كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عن الحق صارف ..
وأما فيمن عداهم فقد ورد النص بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة .. فإن أهل بيعة الرضوان الذين بايعوه تحت الشجرة ومن شهد بدرًا وأحدًا والحديبية من أهل الجنة وحديث بشارة العترة بالجنة مشهور يكاد يلحق بالمتواترات وهم: "أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة بن الجراح ..
وبالإِجمال: قد تطابق الكتاب والسنة والإِجماع على أن الفضل للعلم والتقوى وما ورد من اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بعترته وأهل بيته وأنه أوصى باتقاء الله فيهم فذلك لإِنصافهم بالعلم والتقوى شرف النسب بدليل أنه قرنهم بكتاب الله في كون التمسك بها منقذا من الضلال فقال: إنى تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا .. كتاب الله وعترتى أهل بيتى.
ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعظيم الصحابة وكف اللسان عن الطعن فيهم حيث قال: أكرموا أصحابى فإنهم خياركم .. وقال: لا تسبوا أصحابى فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه .. وقال: الله. الله في أصحابى .. الله. الله في أصحابى، لا تتخذوهم غرضا من بعدى .. من أحبهم فبحبى أحبهم ومن أبغضهم فببغضى أبغضهم ..
وللروافض سيما الغلاة منهم مبالغات في بغض البعض منهم رضى الله عنهم والطعن فيهم بناء على حكايات وافتراءات لم تكن في القرن الثاني والثالث ..
فإياك والإِصغاء إليها فإنها ضالة مضلة وإن كانت لا تؤثر على من استقام على الطريق السوى ومن اهتدى وأما ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمتاجرات على الوجه المسطور في كتب التاريخ والمذكور على السنة الثقات فإنه يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق وبلغ حد الظلم والفسق .. وكان الباعث له على ما فعل الحقد والعناد والحسد وطلب الرياسة والملك إذ ليس كل صحابى معصوما ولا كل من لقى النبي صلى الله عليه وسلم بالخير موسوما .. إلا أن العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا
لهذه الأعمال والأقوال مجامل وتأويلات تليق بها وبهم ..
وذهبوا إلى أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق صونا لعقائد المسلمين من الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة سيما المهاجرين منهم والأنصار والمبشرين بالثواب في الجنة ومن عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه وحضروا معه المواقع والغزوات ..
وأما ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن الظهور بحيث لا مجال لإخفائه ومن الشفاعة بحيث لا اشتباه فيه، فلعنة الله على من باشر أو رضى أو سعى في ذلك ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فإن قيل إن من العلماء من لم يجوز اللعن علي يزيد مع علمهم بأنه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد ..
قلنا إنما ذهبوا إلى ذلك تحاميا عن أن يرتقى بهم السب إلى الأعلى فالأعلى كما هو شعار الروافض على ما يروى عنهم ويتبعونه في أدعيتهم ..
فرأى هؤلاء العلماء المعتنون بأمر الدين منع العوام من ذلك بالكلية طريقا إلى الاقتصاد في الإعتقاد حتى لا تزل الأقدام ولا تضل الأفهام ..
وهذا هو السر فيما نقل عن السلف من المبالغة في مجانبة أهل الضلال وسد طريق لا يؤمن أن يجر إلى الغواية مع علمهم بحقائق الأحواك والمشتكى إلى عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ..
.. وإلى هنا انتهى كلام الشيعة وفرقهم ومذاهبهم وآرائهم في الإمامة والإمام وما يستندون إليه ويستدلون به ومناقشة هذه الأسانيد والرد على تلك الأدلة ..
ولكن يهمس البعض بأن الشيعة الإمامية في هذه العصور لهم اتجاهات وآراء قد لا تتفق في بعض النقط مع ما نقله العلماء والمتكلمون من أهل السنة عن آرائهم ومذاهبهم ..
ومن ثم فقد رأيت أن أنقل فقرات من كتاب حديث ألفه أحد فقهاء الإمامية المعاصرين ليلقى ضوءًا على آرائهم ومعتقداتهم في هذه المسألة.
قال السيد محمد رضا المظفر من كبار فقهاء الشيعة الإمامية وعلمائهم في هذا العصر في كتابه (عقائد الإِمامية)
(1)
قال: نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربين مهما عظموا أو كبروا .. بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة كما نعتقد أنها كالنبوة لطف من الله تعالى ..
فلابد أن يكون في كل عصر إمام هادٍ يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في وظائفه من هدايه البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعاة في المنشأتين ..
وللإمام ما للنبى من العصمة والولاية التامة على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ورفع الظلم والعدوان من بينهم ..
وعلى هذا فالإمامة استمرار للنبوة والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه الذي يوجب أيضا تعيين الإمام بعد الرسول ..
فلذلك نقول: إن الإمامة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان النبي أو على لسان الإمام الذي قبله. أي قبل الإمام المراد تعيينه. وليست هي الاختيار والانتخاب من الناس ..
(1)
عقائد الإمامية للسيد محمد رضا المظفر من ص 49 إلى ص 60.
فليس لهم إذا شاءوا أن ينصبوا أحدًا وإذا شاءوا أن يعينوا إماما عينوه ومتى شاء وأن يتركوا تعيينه تركوه فيصح لهم البقاء بلا إمام. لابد من تعيين الإمام والنص عليه .. من بات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية على ما ثبت ذلك عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بالحديث المستفيض ..
ثم نقول: وعليه .. لا يجوز أن يخلو عصر من العصور عن إمام مفروض الطاعة منصوب من الله تعالى سواء أبى البشر أم لم يأبوا وسواء ناصروه أم لم ينصروه، وسواء أكان حاضرًا أم غائبا عن أعين الناس إذ كما يصح أن يغيب النبي كغيبته في الغار والشعب - صح أن يغيب الإمام، ولا فرق في الفصل بين طول الغيبة وقصرها - قال الله تعالى:{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد} وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} .
ثم يقول: نعتقد أن الإمامة كالنبوة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان رسوله أو لسان الإمام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده ..
وحكمه في ذلك حكم النبوة بلا فرق .. فليس للناس أن يتحكموا فيمن يعينه الله هاديا ومرشدًا لعامه البشر ..
كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية استعداد لتحمل أعباء الإمامة وهداية البشر قاطبة يجب ألا يعرف إلا بتعريف الله .. ولا يعين إلا بتعيينه.
ثم يقول: ونعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على خليفته أو الإِمام بعده في البرية فعيَّن ابن عمه عليَّ بن أبى طالب أميرًا للمؤمنين وأمينا للوحى وإماما للخلق في عدة مواطن .. ونصبه وأخذ البيعة له بأمرة المؤمنين يوم العذير (عند يرخم).
فقال: ألا من كنت مولاه فهذا - وأشار إلى على - مولاه .. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه كيف دار".
ومن أول مواطن النص على إمامته قوله صلى الله عليه وسلم حينما دعا أقرباءه الأدنين وعشيرته الأقربين .. فقال: هذا أخى ووصى وخليفتى .. فاسمعوا له وأطيعوا .. وهو يومئذ صبى لم يبلغ الحلم .. وكرر قوله في عدة مرات ..
وقوله: أنت منى بمنزلة هارون من موسى .. إلا أنه لا نبى بعدى .. إلى غير ذلك من رويات وآيات كريمة دلت على ثبوت الولاية العامة له: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}
(1)
نزلت في على عندما تصدق بالخاتم وهو راكع ..
ثم يعود فيقول: "ونعتقد أن الإمام كالنبى يجب أن يكون معصوما من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من الطفولة إلى الموت عمدًا وسهوًا. كما يجب أن يكون معصوما من السهو والخطأ والنسيان لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه حالهم في ذلك حال النبي ..
والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه الذي يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة بلا فرق .. ثم يستشهد المؤلف بقول أبى نواس:
وليس على الله بمستنكر
…
أن يجمع العالم في واحد
(1)
سورة المائدة (55).
ثم يقول: نعتقد أن الأئمة هم أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وأنهم الشهداء على الناس وأنهم أبواب الله والسبيل إليه والأولاه عليه وأنهم عيبة (حقيبة) علم الله وتراجمة وحيه وأركان توحيده، وخزانة معرفته، ولهذا كانوا أمانًا لأهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء .. وأن مقامهم في هذه الأمة كسفينة نوح عليه السلام من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى وأنهم حسب ما جاء في القرآن المجيد عباد الله المكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ..
بل نعتقد أن أمرهم أمر الله ونهيهم نهيه وطاعتهم طاعته ومعصيتهم معصيته ووليهم وليه وعدوهم عدوه .. ولا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم كالراد على الرسول والراد على الرسول كالراد على الله تعالى .. فيجب الانقياد لأمرهم والأخذ بقولهم ..
ولهذا نعتقد أن الأحكام الشرعية الإِلهية لا تستقى إلا من غير مائهم .. ولا يصح أخذها إلا منهم .. ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى غيرهم ولا يطئمن بينه وبين الله تعالى إلى أنه قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم - أنهم كما قلنا - كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق في هذا البحر المائج الزاخر بأمواج الشبه والضلالات والإِدعاءات والمنازعات.
ونعتقد أن الإمام كالنبى يجب أن يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل .. ومن تدبير وعقل وحكمة وخلق ..
والدليل في النبي هو نفسه الدليل في الإمام .. أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإِلهية وجميع المعلومات عن طريق النبي أو الإِمام قبله ..
وإذا استجد شئ لابد أن يعلمة عن طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله فيه .. فإن توجه إلى شئ وأراد أن يعلمه على وجهه الحقيقى لا يحتاج إلى المذاهب العقلية ولا تلقينات المعلمين ..
ويبدو واضحا هذا الأمر - من التجلى والحدس - في تاريخ الأئمة عليهم السلام كالنبى محمد صلى الله عليه وسلم .. فإنهم لم يتربوا على أحد ولم يتعلموا على يد معلم من مبدأ طفولتهم إلى سن الرشد حتى القراءة والكتابة .. وما سئلوا عن شئ إلا أجابوا عليه في وقته .. ولم تمر عليهم كلمه - لا أدرى - ولا تأجل الجواب إلى المراحبة والتأمل
…
تلك مقتطفات من كتاب عقائد الإِمامية للسيد محمد رضا المظفر نلمس فيها إلى أي مدى ذهب الإِمامية في عقائدهم - في الإِمامة والإِمام .. وإلى أي مستوى رفعوا مكان الإِمامة في الدين .. ومقام الإمام عند الله وعند الناس حتى لا يكاد القارئ يفرق بين الإِمام والنبى. بل أنهم لم يجوزوا على الإمام السهو والخطأ والنسيان بينما وقع ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم إذ نسى في الصلاة كما في حديث ذى اليدين وأخطأ في الاجتهاد ونبهه الوحى ..
ولعل فيما نقلناه سابقا عن العلماء والمتكلمين خاصا بمناقشة آراء الشريعة والرد على أدلتهم ومزاعمهم وما يكفى للرد على ما جاء بهذا الكتاب خصوصا ما نقلناه عن ابن حزم والسعد المفتازانى في رد أدلتهم على النص على على رضى الله عنه.
وليت الشيعة وقد بلغوا النهاية وتسنموا الذروة في إدعاءاتهم، وسلكوا كل طريق لدعم هذه
الإدعاءات وإقامة الأدلة عليها حتى بلغ بهم الأمر أن استباحوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا بأحاديث مكذوبة ظنوها تعينهم وتخدع العلماء عن وجه الحق وأولوا بعضا آخر على غير الوجه الصحيح وليتهم إذ فعلوا ذلك وقفوا عند هذا الحد، ولكنهم عمدوا إلى التاريخ فدسوا في بعض صفحاته رسائل زعموا أنها بقلم أمير المؤمنين على وإملائه وصور لهم الوهم أن يجروا على لسانه من الكلمات ما يفيض بالألم ويطفح بالأنين ويشكو الغلبة والقهر والاستكانة والخضوع ..
وما ذلك والله مكانه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا هو مسلكه مع من ناوروه وحاربوه وصوروا أمر الخلافة وما جرى بشأنها بين المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بأنه عصبيات ثائرة تقذف بالحمم وترمى بالشرر دون مراعاة للدين ولا نظر إلى الحق .. مما جرف عليا - رضى الله عنه - وقذف به بعيدا وسلبه حقه وميراثه كما يزعمون ..
يقول السيد مرتضى العسكرى في كتابه عبد الله بن سبأ
(1)
: "وبرزت العصبية الجاهلية سافرة بعد وفاة الرسول .. فالأنصار بعدما اجتمعوا في سفينة بنى ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة زعيمهم إنما لبُّوا داعى العصبية وحدها، فإنهم كانوا يعلمون أن في المهاجرين من هو أفضل من سعد وأتقى ..
وكذلك الأوس اندفعت بداعى العصبية إلى المبادرة لبيعة أبى بكر لتدفع الإمارة عن الخزرج .. غير أن عليا قد شذ عن هذه الفكرة ولم يرض أن يستولى على الحكم بالنعرة العصبية، وهو الذي اتبع الرسول في حربه للعصبية اتباع الفضيل أثر أمه .. فهو يريدها دينية قرآنية لا قبلية جاهلية وتطلب أنصارًا من قبيل سليمان الفارسى وأبى ذر وعمار بن ياسر ونظرائهم ممن يحدوا بهم المبدأ والعقيدة إلى نصرته .. ويأبى قبول نصرة أبى سفيان بداعى العصبية فإن فيه إحياء أمر الجاهلية ..
وفى تاريخ اليعقوبى
(2)
نقلا عن كتاب عبد اللّه بن سبأ لقد تعصبت قريش على بنى هاشم حتى لا يجتمع لهم شرف النبوة وسلطان الخلافة .. ويروى عن أبى ذر - رضى اللّه عنه - أنه كان يقول في أيام عثمان - رضى الله عنه -: على بن أبى طالب وحى محمد ووارث علمه .. أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها .. أما لو قدمتم من قدم الله .. وأخرتم من أخر الله ..
وأقررتم الولاية والوارثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رءوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولى الله ولا طاش سهم من فرائض الله ولا اختلف اثنان في حكم الله إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيه .. فأما إذ فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبال أمركم .. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ..
وفى الإِمامة والسياسة لابن قتيبة
(3)
أن عليا - رضى الله عنه - كان بالمدينة ينتظر رد معاوية على كتاب له بعث به إليه يطلب منه البيعة له، فتلقى من أخيه عقيل بن أبى طالب كتابا يقول فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم - أما بعد -
يا أخى: كلأك الله. والله مجيرك من كل سوء، وعاصمك من كل مكروه على كل حال .. وإنى خرجت معتمرا فلقيت عائشة معها طلحة والزبير وذووهما وهم متوجهون إلى البصرة قد
(1)
عبد الله بن سبأ ص 83.
(2)
تاريخ اليعقوبى ص 120، عبد الله بن سبأ ص 78.
(3)
الإمامة والسياسة لابن قتيلية ص 55، 60.
أظهروا الخلافة ونكثوا البيعة وركبوا عليك قتل عثمان وتبعهم على ذلك كثير من الناس من طغامهم وأوباشهم .. ثم مر عبد الله بن أبى السرج في أربعين راكبا من أولاد الطلقاء من بنى أمية نقلت لهم وعرفت الفكر في وجوههم ..
أبمعاوية تلحقون؟.
عداوة والله منكم ظاهرة غير مستنكرة تريدون بها إطفاء نور الله وتغيير أمر الله .. فأسمعنى القوم وأسمعتهم ثم قدمت مكة فسمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة واليمامة فأصاب ما شاء من أموالهما ثم انكفأ راجعا إلى الشام ..
فأف لحياة في زمن جرأ عليك الضحاك .. وما الضحاك إلا نقع يفر مرة (مثل في الحقارة) فظننت حين بلغنى ذلك "أن أنصارك خذلوك فاكتب إلى يا ابن أمى برأيك وأمرك .. فإن كنت الموت تريد حملت إليك بنى أخيك وولد أبيك فعشنا ما عشت ومتنا معك إذا مت فوالله ما أحب أن أبقى بعدك ..
فكتب إلينا أمير المؤمنين على - رضى الله عنه - يقول له:
"أما بعد يا أخى:
فكلأك الله كلاءة من يخشاه .. إنه حميد مجيد .. قم عليّ عبد الرحمن الأزدى بكتابك أنك لقيت ابن أبي سرح في أربعين من أبناء الطلقاء من بنى أمية متوجهين إلى المغرب. وابن أبي سرح - يا أخى - طالما كاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصد عن كتابه وسنته وبناها عوجًا .. فدع ابن أبي سرح وقريشا وتراكضهم في الضلال .. فإن قريشا اجتمعت على حرب أخيك اجتماعها على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل اليوم وجهلوا حقى وجحدوا فضلى ونصبوا لى الحرب، وجدوا في إطفاء نور اللّه .. اللهم فاجز قريشا عنى بفعالها فقد قطعت رحمى وظاهرت على وسلبتنى سلطان ابن عمى وسلمت ذلك لمن ليس في قرابتى وحقى في الإِسلام وسابقتى التي لا يدعى مثلها مدع إلا أن يدعى ما لا أعرف .. والحمد لله على ذلك كثيرًا .. وأما ما سألت أن أكتب إليك فيه برأيى .. فإن رأيى جهاد المحققين حتى ألقى الله .. لا يزيدنى كثرة الناس حول عزة .. ولا تفرقهم عنى وحشة .. لأنى محق .. والله مع المحق .. وما أكره الموت على الحق لأن الخير كله بعد الموت لمن عقل ودعا إلى الحق ..
وفى نفس الكتاب
(1)
: من كتاب بعث به أمير المؤمنين على - رضى الله عنه - إلى أهل العراق يقول فيه:
أما بعد: فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم نذيرا للعالمين وأمينا على التنزيل وشهيدا على هذه الأمة .. وأنتم يا معشر العرب على غير دين .. وفى شر دار تسفكون دماءكم .. وتقتلون أولادكم وتقطعون أرحامكم وتأكلون أموالكم بينكم بالباطل .. فمن الله عليكم فبعث محمدًا إليكم بلسانكم فكنتم أنتم المؤمنين وكان الرسول فيكم ومنكم تعرفون وجهه ونسبه فعلمكم الكتاب والحكمة والسنة والفرائض ..
وأمركم بصلة الأرحام وحقن الدماء وإصلاح ذات بينكم .. وأن تؤدوا الأمانات إلى أهلها .. فلما استكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدته من الدنيا توفاه الله وهو مشكور سعيه مرضى عمله، مغفور له ذنبه .. شريف عند الله نَزْلُه .. فيالموته مصيبة خصت الأقربين وعمت المؤمنين ..
فلما تنازع المسلمون الأمر بعده .. فوالله ما كاد يُلْقَى في روعى ولا يخطر على بالى أن العرب تعدل هذا الأمر عنى .. فما راعنى
(1)
المرجع نفسه جـ 1 ص 161.
إلا إقبال الناس على أبى بكر وإجفالهم عليه .. فأمسكت يدى ورأيت أنى أحق بمقام محمد في الناس ممن تولى الأمور على فلبثت بذلك ما شاء الله .. ثم رأيت راجفة من الناس راجعة عن الإسلام يدعون إلى مجودين محمد وملة إبراهيم عليهما السلام فخشيت لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى في الإسلام ثلما وهَدْمًا تكون به المصيبة عليَّ أعظم من فوت ولاية أمركم التي إنما هي متاع أيام قلائل ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب ..
فمشيت عند ذلك إلى أبى بكر فبايعته، ونهضت معه في تلك الأحداث حتى زهق الباطل وكانت كلمة الله هي العليا، وأن يرغم الكافرين .. فتولى أبو بكر - رضى الله عنه - تلك الأمور فيسر وسدَّد وقارب واقتصد فصحبته مناصحًا وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهدًا ..
فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه فسمعنا وأطعنا وبايعنا ونصحنا فتولى تلك الأمور فكان مرضى السيرة ميمون النقيبة أيام حياته فلما احتضر قلت في نفسى ليس يصرف هذا الأمر عنى فجعلها شورى وجعلنى سادس ستة فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره منهم لولايتى لأنهم كانوا يسمعونى وأنا أحاج أبو بكر فأقول:
يا معشر قريش أنا أحق بهذا الأمر منكم ما كان منا من يقرأ القرآن ويعرف السنة فخشوا. إن وليت عليهم ألا يكون لهم في هذا الأمر نصيب .. فبايعوا إجماع رجل واحد حتى صرفوا الأمر عنى لعثمان فأخرجونى منها رجاء أن يتداولوها حين يئسوا أن ينالوها
…
ثم قالوا لى: هلمّ فبايع وإلا جاهدناك فبايعت مستكرها وصبرت محتسبًا وقال قائلهم: إنك يا ابن أبي طالب على الأمر لحريص .. قلت لهم: أنتم أحرص ..
أما أنا إذا طلبت ميراث ابن أبي وحقه .. وأنتم إذا دخلتم بينى وبينه وتضربون وجهى دونه .. اللهم إنى أستعين بك على قريش فإنهم قطعوا رحمى وصغروا عظيم منزلتى وفضائلى واجتمعوا على منازعتى حقا كنت أولى به منهم فسلبونيه، ثم قالوا: أصبر كمدًا وعش متأسِّفا فنظرت فإذا ليس معى رفاقه ولا مساعدًا إلا أهل بيتى وضمخت بهم على الهلاك .. فأغضيت عينى على القذى .. وتجرعت ريقى على الشجى .. وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم طعمًا وألم للقلب من حز الحديد
…
"
إن من قرأ السيرة والتاريخ وعرف روح أمير المؤمنين على - رضى الله عنه - وقوته وشجاعته .. وتذوق أسلوبه البالغ أقصى درجات البلاغة لا يمكن أن يصدق نسبة هذه الكتب إليه فضلًا عما فيها من مجافاة للحق ووقائع التاريخ الصحيح ..
وإلى هنا انتهى الكلام في أمر الشيعة وفرقهم ومذاهبهم وعقائدهم وأدلتهم ومناقشة الأدلة والرد عليها في حدود ما أطلعت عليه من ذلك.
الإمامة خطة دينية ونظام شرعى:
لكى نحكم على الخلافة هل هي من الدين وخطة من خططه التي جاء بها وقرر إحكامها ورسم مناهجها .. أو ليست من اللين ولا هي من خططه وإنما هي ملك سياسى هوت إليه العقول وأوحت به التجارب والسلاسات - ولكى نصل إلى الحكم الصحيح في ذلك يجب أن ينظر إلى الخلافة في ذاتها كنظام له مناهجه وأحكامه ..
بقطع من شغلوها والأشخاص الذين قاموا عليها من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أن توقف أمرها ونفض المسلمون أيديهم منها ثم نبحث من خلال
هذه النظرة - هل للدين حكم في الخلافة وإقامتها ورسم لمناهجها وتوجيه لسياستها .. أو لم يأت فيها بشئ وليس له بها شأن ولا صلة ..
ومن الخطأ الفاحش أن ننظر إلى خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال ورفيقه في الغار وصاحب هجرته والذي ذكره الله تعالى في القرآن الكريم أكثر من مرة. إذ ألقى على الخلافة لونا زاهيا واضحا من الدين وحسن السياسة والتدبير.
وتجاوبت مشاعر المجتمع الإسلامي مع هذه المظاهر الكريمة ونرى في منهج أبى بكر في الخلافة نفس السياسة التي أقام عليها النبي صلى الله عليه وسلم والمجتمع الإسلامي في حياته في الدين والدنيا معا ..
وننظر إلى خلافة عمر وعثمان وعلى - رضى الله عنهم - فنراها دينا قام الخليفة في ظله وعمل بوحيه وقام على المسلمين بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وجاءت الدنيا ومصالح المسلمين تبعا لما يأخذ به الخليفة ويدع من الأمور حسب ما يرشده إليه ويحمله عليه دستور الإِسلام وشريعة الإِسلام ..
ثم ننظر إلى خليفة يزيد بن معاوية أو غيره من الخلفاء الذين انحرفوا عن الدين وجانبوا طريقه في العصور المختلفة فنجد الخلافة وقد شاق وجهها وأسود لونها وبعد عن الدين حتى لم يبق له بها شأن أو كاد ..
وأصبحت سياسة وسلطانا يحكم به الخليفة في الناس ويتحكم في شئونهم ويسوسهم بسياسته هو سواء استقامت على الدين أو تنكبت طريقه وليس من الدين في حياتهم إلا ما يسمح به ويرضاه وقد لا يسمح ولا يرضى بشئ منه.
ثم نقول في النهاية من هذه النظرات:
إن الخلافة من الدين ومن خططه ومناهجه التي قررها ووضع أحكامها .. أو أن الخلافة ليست من الدين ولا صلة له بها .. بل هي ليست خلافة عن النبي أصلا وإنما هي ملك وسلطان انتهجه المسلمون عن النبي بوحى من عقولهم وأخذ من تجارب آخرين ..
وهذا خطأ كبير فإن الخلافة في الحالين واحدة لا تغير فيها .. نظام وخطة ومنهج .. والذي تغير هو شخص الخليفة وسيره وأسلوب حكمه وخضوعه لحكم الدين - سار بها أولا في ظلال الدين وعلى النهج الذي رسمه فكان اللون الزاهى المشرق وانحرف بها ثانيا إلى وهج الصحراء والمحرق فكان اللون الأسود القاتم ..
ولا يصلح هذا ولا ذاك للقول بأن الخلافة كنظام من الدين أو ليست من الدين .. ولكن يصلح للقول بأن فلانا كان صالحًا عظيمًا فأشرق وجه الخلافة في عصره .. وأن فلانا كان فاسدًا تافهًا .. فاكفهر وجه الخلافة في عهده ..
وأول ما يطالعنا من حكم الدين في الخلافة ونصب الخليفة هو ما كان من موقف الصحابة رضوان الله عنهم عندما لحق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى واختار الله له ما عنده من خير.
وقبل أن يوضع جسده الشريف في قبره الكريم
…
حيث اجتمعوا عند منزله وقام فيهم أبو بكر - رضى الله عنه - خطيبا فقال:
أيها الناس! من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات .. ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ..
ولابد لهذا الأمر ممن يقوم به أمرها فانظروا وهاتوا أراءكم رحمكم الله ..
فتبادروا من جانب وقالوا:
صدقت .. ولكن ننظر في الأمر ولم يقل أحد منهم أنه لا حاجة إلى إمام يقوم بهذا الأمر وهو الدين - بل صدقوه وقبلوه .. واشتغلوا باختيار الإمام عن أهم وأقدس الواجبات وهو موراء جثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قبره ..
وانتهى الأمر باختيار أبى بكر ومبايعته بالخلافة .. فكان ذلك إجماعًا من الصحابة رضوان الله عليهم على أنه لابد للمسلمين من إمام يقوم بأمر الدين ..
وكأنهم قالوا: إن نصب الإِمام واجب شرعا وتابعهم على الإِجماع التابعون ومن بعدهم .. ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر
…
وأقام الفقهاء والمتكلمون بالدليل على وجوب الإِمامة ونصب الإِمام وتعيينه من الإِجماع والكتاب والسنة والقواعد الشرعية المقررة ..
ثم فصل الفقهاء أحكام الإِمامة في التعدد والإِنفراد وطرق الاختيار والتعيين والتغلب والقهر والقول والاستقالة والشروط المتغيرة والحقوق والواجبات ومناهج السير والاختصاص وغير ذلك وبينوا أحكام ذلك كله في الدين والشريعة وأقاموا الأدلة على هذه الأحكام، وهذا من بين الدلائل على أن الخلافة نظام دينى أتى به الدين وبين أوضاعه ..
وقد أجمعوا على تعريف الإِمامة أنها نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب الشريعة في حفظ الدين وإقامة أحكامه وشعائره وتنفيذ أحكامه وحدوده وسياسة أمور المسلمين وشئونهم بمقتضى مبادئه .. وهو كما ترى ينطق بأن الخلافة من أمور الدين متلبسة به قائمة على أساسه ..
وقد نقلنا أن أهل السنة والمعتزلة والخوارج يرون أن الخلافة نظام دينى أتى به الدين ورسم مناهجه وأوضاعه وأن الشيعة بجميع فرقهم ومذاهبهم يرون أن الخلافة أركن في الدين وأصل فيه لا يتم الإِيمان إلا بالاعتقاد بها ولا يجوز تقليد الغير من الآباء والمعلمين والمقيد فيها.
بل يجب النظر فيها كما ينظر في التوحيد والنبوة، ولا تثبت باختيار البشر وتعيينهم بل بالنص من الله تعالى على الخليفة وأنها امتداد للنبوة واستدامة لها ..
وفى هذا يقول الإمام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية
(1)
:
يجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين .. بل لا يقام الدين إلا بهذه الولاية فإن بنى آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع في مجتمع يضمهم لحاجة بعضهم إلى بعض .. ولابد عند الاجتماع من رأس يقوم عليهم ويلى أمرهم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:
إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم - وروى الإِمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمر - رضى الله عنهما - أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم - فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع ..
ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجبه الله تعالى من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصرة المظلوم وإقامة الحدود كلها لا تتم إلا بالقوة والإِمارة ..
(1)
السياسة الشرعية لابن تيمية ص 77.
فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله .. فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات ..
فالمقصود بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا .. وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر الدنيا ..
يقول ابن خلدون في مقدمته
(1)
: لما كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضرورى للبشر ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما آثار النصب والحيوانية كانت أحكام صاحبه في الغالب جائرة عن الحق مجحفة بمن تحت يده من الخلق في دنياهم لحمله إياهم ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته .. ويختلف ذلك باختلاف المقاصد .. فتعسر طاعته لذلك وتجئ العصبية المفضية إلى الهرج والقتل .. فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها ..
وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها. سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرًا مقدورًا ..
فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سلاسة عقلية ..
وإذا كانت سياسة مفروضة من الله يشارع ويشرعها كانت سياسة دينية نافعة في الحياة الدنيا والآخرة ..
وذلك أن الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط .. بل المقصود بهم إنما هو دينهم المفضى بهم إلى السعادة في آخرتهم فجاءت الشرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة حتى في الملك الذي هو طبيعى لاجتماع الإنسانى فأجرته على منهاج الدين ليكون الكل محوطا بنظر الشارع ..
فما كان منه بمقتضى القهر والغلبة وإهمال القوة العصبية فجور وعدوان وهو مذموم كما هو مقتضى الحكمة السياسية وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها فمذموم أيضًا لأنه نظر بغير نور الله.
ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور - لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة فيما هو مغيب عنهم من أمور الآخرة .. وأعمال البشر كلها عائدة عليهم في معادهم وآخرتهم ..
قال صلى الله عليه وسلم: إنما هي أعمالكم ترد عليكم - وأحكام السياسة إنما تقتصر على مصالح الدنيا فقط.
ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم. فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم. وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء ..
فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة وأنها هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعى في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة .. فهى في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسلاسة الدنيا به .. فابن خلدون .. يرى كما يرى الفقهاء والمتكلمون أن الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا ومصالح الناس فيها بالدين لأن أحوال الدنيا - كما يقول:
ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة - فإذا قامت في الناس خلافة فهى خلافة
(1)
مقدمة ابن خلدون ص 169 وما بعدها طبع مطبعة الشعب.
عن الرسول وأنها تستظل بشريعة الإسلام وتجرى على أحكامه .. وإلا فإنها تخرج عن معنى الخلافة ونظامها الذي قرره الدين وفصل أحكامه صارت ملكا طبيعيا أو سياسيا ومن ثم فإن ابن خلدون يرى أن انقلاب إلى الملك أمر طبيعى قد جرى ووقع في التاريخ.
ولعلى الأمر قد أصبح من الثبوت والوضوح بحيث لا يحتاج إلى مزيد .. وما كان الظن أن يقوم في هذا العصر من المسلمين من يقرر في مؤلفات ومقالات تنشر على الناس ..
أن الخلافة ليست من الدين في شئ ولا صلة للدين بها .. وإنما هي تجربة سياسية جريئة ومغامرة أجراها العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسبقوا إليها ولم يقلدوا فيها قادهم إليها أبو بكر وعمر - وألفوا حكومة عربية سياسية ليست لها صبغة دينية ولم تقم على أساس من الدين رأسها أبو بكر فكان أول ملك في الإسلام وفتحوا الأمصار والبلاد واستعمروها استعمارًا لخير العرب ومصالحهم ..
وأقام هؤلاء الكتاب رأيهم هذا على أساس أن الدين الإسلامي لم يعرض فيما جاء به لشئ من نظم الحكم وقواعد الدولة ومبادئها وأوضاعها إلا في القرآن ولا في السنة لا إجمالا ولا تفصيلا ..
وزاد بعضهم أن هذا الدين لم يعرض لشئون الحياة الدنيا ومطالبها وشئون الناس فيها وتعاملهم معها بل كانت رسالته أساسًا وعنايته أولا وآخرًا .. إصلاح الناس وتهذيبهم وتنظيم علاقاتهم بربهم وإعدادهم إعدادًا صالحًا للفوز بالسعادةالأخروية والفوز بالنعيم المقيم في الجنة ..
وأن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يشتغل بإرساء قواعد الدولة ولا بإقامة بنائها لأن ذلك من شأن الملوك والزعماء السياسيين وهو لم يكن ملكا ولا زعيما سياسيا، وإنما كان مبلغا عن الله ما أنزل إليه ومنذرًا للناس وداعيًا إلى الله بإذنه. ولم يزد فيما عمل على أن شرع شرعا وجمع الناس على دين ..
يقول الدكتور طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى
(1)
: وأكاد أعتقد أن الخلافة كما فهمها أبو بكر وعمر كانت تجربة جريئة توشك أن تكون مغامرة. ولكنها لم تنته إلى غايتها لأنها أجريت في غير العصر الذي كان يمكن أن تجرى فيه والذي سبق هذا العصر سبقا عظيما!!! وما رأيك في أن الإنسانية لم تستطع على ما جربت من تجارب وبلغت من رقى .. وعلى ما بلغت من فنون الحكم وصور الحكومات أن تنشئ نظاما سياسيا يتحقق فيه العدل السياسى والاجتماعى بين الناس على النحو الذي كان أبو بكر وعمر يريدان أن يحققاه ..
ويقول: فهل كانت السيرة التي سارها النبي صلى الله عليه وسلم ملائمة لما فطر عليه الناس من الأثرة والطمع والحرص على المنافع العاجلة؟
وهل كانت هذه السيرة قادرة على أن تبقى حتى تغير من طباع الناس فترقى بهم إلى المثل العليا التي دعا إليها النبي وصاحباه؟
كان الإسلام وما زال دينا قبل كل شئ وبعد كل شئ .. وجه الناس إلى مصالحهم في الدنيا وفى الآخرة بما بين لهم من الحدود والأحكام التي تتصل بالتوحيد أولا .. وبتصديق النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا .. وبتوخى الخير في السيرة بعد ذلك ..
ولكن الدين لم يسلب الناس حريتهم ولم يلغ إرادتهم ولم يملك أمرهم ..
وإنما ترك لهم حريتهم في الحدود التي رسمها
(1)
الفتنة الكبرى للدكتور طه حسين ص 5 - ص 21 وما بعدها.
لهم، ولم يحصل عليهم كل ما ينبغى أن يفعلوا وكل ما ينبغى أن يتركوا .. وإنما ترك لهم عقولا تستبصر وقلوبا تستذكر وأذن في أن يتوخوا الخير والصواب والمصلحة العامة والمصلحة الخاصة ما وجدوا إلى ذلك سبيلا ..
ويريد الدكتور بعد ذلك أنه بعد فترة الصاحبين أبى بكر وعمر التي سارا فيها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما استطاعا والتي لم تكن هذه السيرة قادرة على البقاء حتى تعتبر من طباع الناس. بعد هذه الفترة دخل العنصر الإِنسانى مع الخلافة وتصرف بمقتضى العقل والحرية التي منحها الدين لأتباعه وترك لهم عقولا تنظر وقلوبا تفقه واستجابت الخلافة لهذا العنصر فتحولت عما كانت عليه في تلك الفترة وصارت إلى حياة الناس وما فيها من خير وشر ..
ويقول الدكتور طه حسين
(1)
: ربما كان من أصدق الأدلة على أنه ليس في الإسلام نظام سياسى أن القرآن لم ينظم أمور السياسة تنظيما مجملا مفصلا، وإنما أمر بالعدل والإِحسان وإيتاء ذى القربى .. ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغى ورسم للمسلمين حدودا عامة وترك لهم تدبير أمورهم كما يحبون على أن لا يتعدوا هذه الحدود.
والنبى صلى الله عليه وسلم لم يرسم بسنته نظاما معينا للحكم ولا للسياسة ولم يستخلف على المسلمين أحدًا من أصحابه بعهد مكتوب أو غير مكتوب حين ثقل عليه المرضى ..
وإنما أمر أبو بكر أن يصلى بالناس فقال المسلمون: رضيه رسول اللّه لأمور ديننا .. فما يمنعنا أن نرضاه لأمور دنيانا .. ولو كان للمسلمين نظام سياسى منزل من السماء لرسمه القرآن ولبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أصوله، ولفرض على المسلمين الإِيمان والإذعان له ..
وليس أقل من هذا نظرا أن أمر الخلافة قام على البيعة فأصبحت الخلافة عقدا بين الحاكمين والمحكومين يعطى الخلفاء من أنفسهم أن يسوسوا المسلمين بالحق والعدل وأن يراعوا مصالحهم وأن يسيروا فيهم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما وسعهم ذلك .. ويعطى المسلمون من أنفسهم العهد أن يسمعوا ويطيعوا وأن ينصحوا ويعينوا ..
ويقول
(2)
: أن الخلافة نظام عربى إسلامى خالص لم تسبق إليه العرب ثم لم يقلدوا فيه بعد ذلك ..
والحكم الإِسلامى إن لم يكن دنيويا أو دينيا .. إلا أن الخلافة قامت على عنصر إضافى تأثر بالدين إلى حد بعيد جدا .. ثم على عنصر الارستقراطية القرشية .. وواضح جدًّا أن هذين العنصرين لم يكن من شأنهما أن يطاولا مرَّ الدهر وتقلب الخطوب، وتتابع الأحداث ..
ولو قد كان للمسلمين هذا اللنظام المكتوب لعرف المسلمون في أيام عثمان ما يأتون من ذلك وما يدعون دون أن تكون بينهم فرقة أو خلافة .. والقرآن لم يعرض لشئ من هذا ..
ولو قد وضع هذا اللنظام لما تفرق المسلمون بعد مقتل عثمان على النحو الذي عرفه التاريخ ..
ولما ذهب فريق من المسلمين مذهب المحافظة الهوجاء على سنة النبي والشيخين وهم الخوارج ..
وفريق آخر مذهب المحافظة على أن تكون
(1)
نفس المصدر ص 25 وما بعدها.
(2)
الفتنة الكبرى للدكتور طه حسين ص 32 - 42.
الخلافة في آل البيت ..
وفريق ثالث على أن تستحيل الخلافة ملكا قيصريا أو كرديا ..
وفريق رابع إلى أن يكون الأمر شورى بين المسلمين دون أن يعرفوا لهذه الشورى نظاما ولا حدودًا ..
ويقول الأستاذ / على عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"
(1)
: التمس بين دفتى المصحف الكريم أثرا ظاهرا أو خفيا لما يريدون أن يعتقدوا من صفة سياسية للدين الإسلامي ..
ثم التمس ذلك الأثر مبلغ جهدك بين أحاديث
النبي صلى الله عليه وسلم: تلك منابع الدين الصافية متناول يدك وعلى كتب منك فالتمس منها دليلا أو شبه دليل .. فإنك لن تجد عليها برهانا إلا ظنا ..
وأن الظن لا يغنى من الحق شيئا .. الإسلام دعوة دينية إلى الله تعالى .. ومذهب من مذاهب الإِصلاح لهذا النوع البشرى وهدايته إلى ما يدينه من اللّه جل شأنه ويفتح له سبيل السعادة الأبدية التي أعدها اللّه لعباده الصالحين هو وحدة دينيه أراد اللّه جل شأنه أن يربط بها البشر أجمعين ..
تلك دعوة قدسية طاهرة لهذا العالم كله أن يعتصموا بحبل اللّه الواحد وأن يكونوا أمة واحدة يعبدون إلهًا واحدًا .. تلك دعوة إلى المثل الأعلى لسلام هذا العالم .. دعوة العالم كله إلى التآخى في الدين دعوة معقولة وفى طبيعة البشر استعداد لتحقيقها .. معقول أن يأخذ العالم بدين واحد ..
وأن تنتظم البشرية كلها وحدة دينية ..
فأما أخذ العالم كله بحكومة واحدة وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة فذلك مما يوشك أن يكون خارجا عن الطبيعة البشرية ولا تتعلق به إرادة اللّه .. على أن ذلك من الأغراض الدنيوية التي خلَّى الله بينه وبين عقولنا وترك الناس أحرارا في تدبيرها على ما تهديهم إليه عقولهم وعلومهم ومصالحهم ونزعاتهم
…
ولا يريبنك هذا الذي ترى أحيانا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيبدو كل كأنه عمل حكومى ومظهر للملك والدولة. فإنك إذا تأملت لم تجده كذلك .. بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي كان عليه أن يلجأ إليها تثبيتا للدين وتأييدا للدعوة ..
وليس عجيبا أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم الوسائل هو وسيلة عنيفة وقاسية .. ولكن لعل الشر ضرورى للخير .. وربما وجب التخريب ليعم العمران ..
ترى من هذا أنه ليس القرآن وحده الذي يمنعنا من اعتقاد أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية وليست السنة وحدها التي تمنعنا من ذلك ولكن مع الكتاب والسنة حكم العقل وما يقضى به معنى الرسالة وطبيعتها ..
إنما كانت ولاية محمد صلى الله عليه وسلم على المؤمنين ولاية الرسالة غير مشوبة بشئ من الحكم .. هيهات .. لم لكن ثمت حكومة ولا دولة ولا شئ من نزعات السياسة ولا أغرض الملوك والأمراء ..
ويقول
(2)
: تلك الوحدة العربية التي وجدت زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن وحدة سياسية بأى وجه من الوجوه ولا كان فيها معنى من معاني الدولة والحكومة .. بل لم تَعْدُ أن تكون وحدة دينية خالصة من شوائب السياسة .. وحدة الإيمان والمذهب لا وحدة الدولة ومذاهب الملك .. يدلك على هذا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فما عرفنا أنه عرض
(1)
الإسلام وأصول الحكم ص 83 وما بعدها.
(2)
ص 76 وما بعدها.
لشئ من سياسة تلك الأمم الشتيتة .. ولا غير شيئا من أساليب الحكم عندهم ولا مما كان لكل قبيلة من نظام إدارى أو قضائى .. ولا حاول أن يمس ما كان بين تلك الأمم بعضها مع بعض ولا ما كان بينها وبين غيرها من صلات اجتماعية أو اقتصادية ..
ولا سمعنا أنه عزل واليا ولا عين قاضيا .. ولا نظم عسسًا ولا وضع قواعد لتجاراتهم وزراعاتهم وصناعاتهم .. بل ترك لهم كل هذه الشئون وقال لهم أنتم أعلم بها ..
وربما يقال إن تلك القواعد والآداب والشرائع التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم للأمم العربية وغيرها كانت كثيرة .. وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة في الأمم فكان فيها بعض أنظمة للعقوبات وللجيش والجهاد وللبيع والمداينة والرهن .. ولآداب الجلوس والمشى والحديث وكثير غير ذلك .. فمن جمع العرب على تلك القواعد الكثيرة ووفق بين مواقفهم وآدابهم وشرائعهم إلى ذلك الحد الواسع الذي جاء به الإسلام فقد وجد أنظمتهم المدنية وجعلهم وحدة سياسية ..
فقد كانوا إذن دولة واحدة وكان النبي عليه السلام زعيمها وحاكمها .. ولكنك إذا تأملت وجدت أن كل ما شرعه الإسلام وأخذ به النبي المسلمين من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في شئ كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسى ولا من أنظمة الدولة المدنية ..
وهو بعد إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزءًا يسيرًا مما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين
…
وكل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هو شرع دينى خالص للّه ولمصلحة البشر الدينية لا غير .. وسيان أن يكون منها للبشر مصلحة مدنية أم لا ..
كانت وحدة العرب وحدة إسلامية لا سياسية
…
وكانت زعامة الرسول فيهم زعامة دينية لا مدنية .. وقد لحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى من غير أن يسمى أحدًا يخلفه من بعده ..
ولا أن يسير إلى من يقوم في أمته مقامه .. بل لم يشر طول حياته إلى شئ يسمى دولة إسلامية أو دولة عربية خلافا للشيعة الذين قالوا: إنه نص على خلافة على بعده ولابن حزم الذي قال إنه استخلف أبا بكر بعده بالنص ..
طبيعي ومعقول أن لا توجد بعد النبي زعامة دينية والذي يمكن أن يوجد هو نوع من الزعامة جدير هو الزعامة المدنية أو السياسية لم يكن خافيا على العرب أن اللّه تعالى قد هيأ لهم أسباب الدولة ومهد لهم مقدماتها.
بل ربما أحسوا بذلك قبل أن يفارقهم الرسول فأخذوا حين قبض يتشاورون في أمر تلك الدولة السياسية التي لابد أن يبنوها على أساس وحدتهم الدينية فكانوا إنما يتشاورون في أمر مملكة تقام ودولة تشاد وحكومة تنشأ إنشاء، ولذلك جرى على لسانهم يومئذ ذكر الإمارة والإشارة وتذاكروا القوة والسيف والعز والثروة والعدد والمنعة والبأس والنجدة حتى تمت البيعة لأبى بكر فكان أول ملك في الإسلام ..
وإذا أنت رأيت كيف تمت البيعة لأبى بكر تبين لك أنها كانت بيعة سياسية ملكية عليها كل طوابع الدولة المحدثة، وأنها إنما قامت كما تقوم الحكومات على أساس القوة والسيف - كانت هذه الدولة دولة عربية قامت على أساس دعوة دينية ولعلها كانت ذات أثر في تلك الدعوة وفى تحول الإسلام وتطوره ولكنها لم تخرج عن أن تكون
دولة عربية أيدت سلطان العرب وروجت مصالحهم ومكنت لهم في أقطار الأرض فاستعمروها استعمارًا واستغلوا خيرها استغلالا شأن الأمم القوية التي تتمكن من الفتح والاستعمار ..
ولذلك استحل العرب الخروج على هذه الحكومة والخلاف لها .. وحسب من يقر أن خلافة أبى بكر خلافة حقيقية خلف فيها النبي وكان ذلك من أسباب الخطأ الذي تسرب إلى عامة المسلمين فخيل إليهم أن الخلافة مركز دينى ..
وكذلك نشأ بين المسلمين الزعم بأن الخلافة مقام دينى ونيابة عن صاحب الشريعة عليه السلام ..
والحق أن الدين الإسلامي برئ من تلك الخلافة .. والخلافة ليست في شئ من الخطط الدينية كلا ولا القضاء ولا من غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة.
وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها فهو لم يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها، ولا نهى عنها .. وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم ولقواعد السياسة ..
ويقول رفيق بك العظم الزعيم السورى المعروف في مقال له منشور بمجلة المنار - المجلد السابع
(1)
: إن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم هي تبليغ الرسالة التي بعث بها إلى الناس وبيان الشريعة التي أخذهم بها .. ووضع أصول الدعوة والإِرشاد إلى ما جاء به من عند الله على وجه يتكفل بسعادة الناس وفوزهم في الآخرة بجنة الخلد ونعيمها المقيم .. وليس من وظيفته ولا من شأن رسالته أن يعرض لشئون الدنيا ومطالب الحياة الأولى لأن ذلك من شأن الملوك والزعماء السياسيين .. وهو لم يكن ملكا ولا زعيما سياسيا .. ولم يزد فيما عمل على أن شرع شرعا وجمع الناس على دين ..
هذه هي أقوال هؤلاء الكتاب المسلمين وتلك هي آراؤهم في الإسلام وفى الرسالة المحمدية التي بعثه اللّه بها رحمه للعالمين .. يرى الأستاذان على عبد الرازق ورفيق العظم أن الإسلام دين مجرد ..
دين يخاطب في الناس الجانب الروحى فقط وينظم علاقاتهم بربهم ويعمل على جمع الناس جميعا على عقيدة واحدة وتحت راية دين واحد ولا علاقة له بشئون الدنيا ومطالب الحياة الأولى ولا يعرض بحكم أو تنظيم أو توجيه فيما يأتى الناس أو يذرون من أعمال وأمور تتصل بهذه الحياة الدنيا .. والأمر فيها أمر العقول وما تفكر به، وتجارب الأمم وما توحى به، والظروف المحيطة وما تقتضيه، ويريان أن الرسالة المحمدية رسالة قدسية طاهرة فجاءت للإصلاح والتهذيب والاتجاه بالناس إلى الملأ الأعلى والحظيرة القدسية والفوز بالسعادة الأبدية لا صلة لها بحياة الناس في دنياهم وما يتعاملون به ويتقلبون فيه من شئون هذه الحياة ..
ويجمع هؤلاء الكتاب على أن الشريعة الإسلامية قد خلت تمامًا من قواعد مبادئ التنظيم السياسى وأن القرآن الكريم والسنة المطهرة لم يعرضا لهذا التنظيم ولا لشئ من مبادئه وأحكامه إجمالا ولا تفصيلا ولو قد أتيا بشئ من ذلك لوجب على المسلمين أن يؤمنوا به وأن يسيروا على نهجه ولما أصابهم ما أصابهم في محنة الخلافة وفتنتها والانقسام وما بلغ من أمره .. وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعن في قليل ولا كثير بشئون السياسة ومبادئ تنظيم
(1)
مجلة المنار - المجلد السابع لرفيق بك العظم ص 663 وما بعدها.
الدولة وإقامة بنائها ولم يشر إلى من يخلفه على أمور المسلمين وشئونهم بعده وإنما استخلف أبا بكر على الصلاة .. فقال المسلمون: رضيه النبي لديننا فما يمنعنا أن نرضاه لدنيانا ..
وأن شئون السياسة وإرساء قواعد الدولة ونظام الحكم - هو من وظائف شئون الملوك والزعماء السياسيين والنبى لم يكن في شئ من ذلك وما كان في عهده أو في عهود المسلمين من بعده من تلك الشئون ومنها الخلافة فإنه لم يؤخذ من الدين ولا صلة له بالدين وإنما خضعوا فيه لوحى الظروف وتجارب الأمم من حولهم ..
وقد قدمنا أن المسلمين بمختلف طوائفهم قد أجمعوا من عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن الخلافة في حكمها وخصائصها ومقوماتها وشروطها وأوضاعها من الدين وقائمة به وعلى أساس عريض واضح من أحكامه ومبادئه ..
وأن ذلك ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والدليل النظرى الشرعى القاطع .. وقد كان يكفى في الرد على موقف هؤلاء الكتاب من الخلافة وتفنيد آرائهم في ذلك والرد عليها أن نحيل بالرد على هذا الذي قدمناه .. ولكن خلافهم ليس قاصرًا على أن الخلافة من الدين أو ليست من الدين حتى يقنعهم في الرد ما قدمنا .. وإنما رأيهم في الخلافة نتيجة لخلافهم في أصل الدين ومفهومه. هل هو رسالة إصلاح وتهذيب فقط ولا شأن له بالدنيا ومطالب الحياة الأولى .. أو أنه عقيدة تسمو بالناس وشريعة ترسم لهم مناهج التعمل في الحياة وتقيم المجتمع الصالح على أساس من أحكامها ومبادئها التي يتعامل بها، وهل عرض لشئون السياسة، وتضمن مبادئ تنظيم كامل ومارس النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشئون ورسم نظام الدولة وقواعدها، وأقامها على أساس من تلك القواعد أو أنه خلا من ذلك ولم يعرض لشئ منه، ولم يعمل النبي في ذلك شيئًا .. ؟
هذا أساس الخلاف. والخلافة فرع علمه ونتيجة له .. فليست إلا بعدا في النظام السياسى باعتبارها رئاسة الدولة العليا وقيادتها المتقدمة ..
إن الإسلام لو كان مجرد دعوة للإصلاح والتهذيب تصل الإنسان بخالقه وتدعوه إلى ملكوت السموات والأرض ليس له مظهر من مظاهر الحياة في المجتمع الإنسانى ولا يلتقى الناس في هذا المجتمع على حكم من أحكامه أو مبدأ من مبادئه كما يقول هؤلاء الناس لو كان الإسلام كذلك لكان من طبيعة هذه الدعوة أن تدع الناس وشأنهم بهذا الدين لأنه يكون دينا شخصيا يخص الإِنسان وحده، ويدر في كيانه الداخلى دون أن يمس مسًّا مباشرًا صلته بالناس أو بالحياة، ولكن دعوة الإسلام ليست على هذا الوجه، بل هي في حقيقتها دعوة تتجه إلى الإنسان بجانبيه المادى والروحى الفردى والاجتماعى ..
مجال المجتمع هو المسرح الحقيقى الذي يتجلى فيه الدين وتظهر حقائقه وتتكشف أحكامه ومبادئه وما يكون له من آثار كبيرة واضحة في تكوين الجماعة وتوجيه حياتها .. فإن الإِسلام إنما اتجه بحقائقه وأحكامه ومبادئه إلى إقامة مجتمع إسلامى فاضل ورفع بنائه شامخًا قويا على أساس منها وإحاطته بسياج قوى منيع ضد عوامل التخريب وتيارات الهدم وبواعث الفساد ..
وكان هؤلاء الذين يرون في الإسلام مجرد دعوة عقائدية لا صلة له بالحياة العملية
لا يؤمنون بقيام هذه الصلة إلا أن يفصل في وقائع الحياة ويحصر جزئياتها ويستوعب أحداثها حدثا حدثا ويضع لكل واقعة ولكل جزئية ولكل حدث حكما خاصا ..
ودون ذلك يبقى بعيدا عن الحياة ولا يكون قد التقى بها، وهيهات هيهات أن يقوم في الناس تشريع سماوى أو وضعى على هذا النحو .. بل إن ذلك لمن المحال.
فإن الوقائع والجزئيات والأحداث متجددة في حلاة الناس ما دامت الحياة ومتوالية مع الزمان ما دام الزمان لا يمكن أن تنقطع ولا أن تقف عند حد إلا أن ينتهى العالم وتنتهى معه الحياة بأحداثها، وإذا وقع في خيال أن يقوم في الناس تشريع على هذا النحو فإنه يكون عبثا لا غناء فيه ويقف جامدًا لا يستطيع مسايرة الحياة ..
إن القرآن الكريم قد نزل في نحو عشرين سنة، وكان معظم ما نزل منه بمكة - كليات الشريعة من تقويم العقائد وإصلاح الأخلاق والعادات إذ نجد السور المكية مليئة بالدعوة إلى الله ورسوله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وإقامة الحجج والبراهين على ذلك، ودفع شبه الجاحدين والأمر بالنظر في ملكوت السموات والأرض والاعتبار بقصص الأمر الخالية، وإيفاء الكيل والميزان، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ومحاربة المزاعم الباطلة والعادات المرذولة والنهى عن العدوان، وقتل النفس والزنا .. وهناك وضعت القاعدة الاجتماعية السياسية وهى قاعدة الشورى والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ..
وبذلك اجتمع حول الرسول صلى الله عليه وسلم وحول مقام الرسالة الكريم قوم مؤمنون يخالفون سائر القبائل العربية بعقائدهم وأخلاقهم وعاداتهم وآدابهم ..
وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جعل الوحى السماوى يشرع أحكاما عملية، وأصولا اجتماعية، ومبادئ سياسية وأنظمة للحكم وقواعد لإقامة الدولة لا يسنها إلا من قصد إلى بناء دولة تسلك في قضائها وسياستها وأنظمتها شرعة خاصة ذات صبغة دينية تسير في هدى من نور الدين وعلى طريق من مبادئه وتعاليمه - فنرى في السور المدنية عقوبة السارق والزانى والقاذف والساعى في الأرض بالفساد وآيات الجهاد ونظام الحرب والأسرى، وآيات القضاء العادل وما يقوم عليه ويستند إليه من حجج وبينات ..
ثم الإرشاد إلى أصول المعاملات المدنية والتجارية مثل البيع والقرض والرهن والإجارة والوصية والتوكيل والحجر على القاصرين من سفيه أو يتيم والولاية والأهلية ..
ثم أحكام النكاح والطلاق والخلع والنفقات والمواريث والإصلاح بين الأفراد والجماعات ..
ثم المعاهدات والاتفاقات بين المسلمين وغير المسلمين في السلم والحرب، وشرعة الزكاة والجزية وموارد أخرى لأموال تصرف في حاجات ومصالح المسلمين .. يجب على الرئيس الأعلى تنظيمها والنظر في شأنها .. وشرع الحج
…
ومن حكمه التلاقى والتعارف بين المسلمين والنظر والتشاور في مصالح الأمم الإسلامية قاطبة ..
ونجد مع هذا في السنة النبوية الصحيحة أصول الشركات ونظمها وأحكامها والشفعة والقسمة والمزارعة والمساقاة وإحياء الموات والهبة والعكس وغير ذلك مما جاء بيانا لما أجمله
الكتاب العزيز في تلك الأبواب وغيرها مما يوجه مصالح الناس ويعالج مشاكلهم ويرتب حياتهم ..
ومن بعد نصوص الكتاب والسنة التي أجمع الفقهاء على اعتبارها أسسًا عامة لاستنباط الأحكام الشرعية العملية كما سنشير إليها ..
وكل هذا من صميم شئون الحياة الدنيا ومطالبها ومصالح المسلمين فيها ومعاملاتهم معها في مختلف المجالات - جاء الشارع بقوانين تنظمها وتبين أحكامها ..
وأن الناظر في كتاب الله العزيز يجده مليئا بما يدل على أن إرشاده وتشريعه لا يقتصر على شئون العقائد والعبادات وما يتصل بحياة الروح والحياة الأخروية .. بل يجد فيه نصوصا فيما يحل أكله أو شربه، وما لا يحل فيه ذلك ..
قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وقال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
ويجد كذلك نصوصا في بيان من يحل نكاحهن من النساء ومن لا يحل ..
وفى تحريم مباشرة الزوجة في بعض الأحوال كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} .
ويجد نصوصا في قسمة تركات المتوفين على ورثتهم كما قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إلى آخر آيات المواريث ..
وفى الوصية والطلاق والرجعة والإيلاء والإِيمان والكفارات وغير ذلك ..
وهذا كله من أعراض الحياة الدنيا ومطالبها ..
وكذلك الناظر في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجدها تفيض بالنصوص المنظمة والمبينة للأحكام في تلك الأغراض وغيرها من شئون مطالب الحياة الدنيا مما يقطع بخطئ القول بأن الإسلام يعرض لشئون الدنيا ومطالب الحياة الأولى ..
وأما حديث أنتم أعلم بأمور دنياكم فإنه قد ورد في واقعة تأبير النخل فحمل على ذلك وما شاكله من شئون الزراعة والصناعة وغيرها من الأمور التي لم تأت الشريعة الإسلامية بتعليمها وكيفية السير بها وما يصلح لها وما لا يصلح ..
وإنما جاءت أحكام التصرفات والأعمال المتصلة بها من حل وحرمة وصحة وفساد كالزراعة والمساقاة مثلا تعرضت الشريعة للعقد فيهما وما يشترط لصحته وما يطرأ عليه فيوجب فساده وهكذا .. أما عملية الزرع والسقاء والحصاد فلا علاقة للشريعة به كعمل ..
.. وأما تعرض الإسلام لشئون السياسة وتنظيم قواعد الدولة وإقامة بنائها .. فقد أشرنا إلى أن التشريع الإسلامي قد توالى بعد هجرة
النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في الكتاب والسنة فشرع أحكاما عملية وأصولا اجتماعية ومبادئ سياسية وأنظمة للحكم وقواعد لإقامة الدولة لا بسنها إلا من قصد إلى بناء دولة تسلك في قضائها وسياستها وأنظمتها شرعة ذات صبغة دينية ..
ولقد أجمع المسلمون على أن من مقاصد الإسلام وأهدافه الأساسية إصلاح السياسة وإقامة دولة للمسلمين على أسس متينة وأن شارع الإسلام قد أتى بالمبادئ العامة في ذلك ووضع للدولة أصولا وأركانا يقوم عليها بناؤها ..
هذا قدر لم يخالف فيه أحد من السابقين .. ولكن لم يزعم أحد أن الإسلام قد رسم للسياسة خطة معينة محددة أو أنه وضع لكل واقعة حكما مفصلا
…
وإنما الذي تفيض به كتب الفقهاء وأبحاث العلماء في جوانب التشريع والأصول ويهدى إليه كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشريعة فصلت بعض أحكام لا تختلف فيها أحوال البشر، ولا يؤثر فيها تغير أحوال الشعوب والأمم وعاداتها ولا اختلاف الأزمنة والأمكنة ثم وضعت الشريعة في جانب آخر أصولا عامة ومبادئ كلية ليسير الناس في تعرف الأحكام على هداها ..
ويراعى في تطبيق تلك الأحكام الأحوال والظروف وما تقتضيه مصالح الناس ويتمشى مع أعرافهم وعاداتهم ..
ومن تلك الأصول العامة القواعد الشرعية مثل قاعدة: "رعاية المصالح المرسلة" وقاعدة: "سد الذرائع" وقاعدة: "المشقة تجلب التيسير" وقاعدة: "دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة" وقاعدة: "العادة محكمة" وقاعدة: "ارتكاب أخف الضررين" وقاعدة: "الضرر يزال" وقاعدة: "ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورًا فهو واجب وغير ذلك من القواعد التي يتعرف عليها المجتهدون الراسخون في العلم من آيات القرآن الكريم كما انتزعوا قاعدة: "ارتكاب أخف الضررين" من مثل قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} وانتزعوا قاعدة سد الذرائع من مثل قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} وقد تكون القواعد نتيجة لاستقرار جانب من القرآن الكريم مع جانب من السنة الشريفة ..
أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ..
والمقدار الذي يجب استقراؤه وتتبعه ليفيد القطع لدى المجتهد بأن هذا المعنى مقصود للشارع فيجعل قاعدة: موكول إلى أنظار المجتهدين والراسخين في العلم بروح التشريع لكثرة تدبرهم في النصوص وبحثهم فيما فصل الشارع من أحكام ..
فالشريعة عنيت في الأكثر بتفصيل ما لا تختلف فيه مصالح الأمم ولا يتغير الحكم فيه بتغير الزمان والمكان .. وذلك ما يرجع إلى العقائد والأخلاق والعبادات وما يتصل برسومها وآدابها وأوضاعها .. ثم جاءت إلى قسم المعاملات بأوسع معانيها والسياسات في جوانبها المختلفة فأتت فيها على شئ قليل من التفصيل وطوت سائره في أصول عامة وقواعد كلية لحكم ثلاث:
إحداها: أن أحكام هذا القسم تختلف بحسب ما يقتضيه حال الزمان وتطور الشعوب .. فإذا وقعت الواقعة أو عرضت الحاجة نظر العالم في منشئها وما يترتب عليها من أثر واستنبط لها حكمًا بقدر ما تسعه مقاصد الشريعة ومبادئها العليا ..
ثانيها: أن وقائع المعاملات والسياسات تتجدد في كل حين والنص على كل جزئية غير متيسر كما قلنا. علاوة على أن تدوين الجزئيات وأحكامها يستدعى جهدًا كبيرًا وأسفارًا لا نهاية لها ولا فائدة للناس في حملها ..
ثالثها: أن الشريعة لا تريد الحجر على العقول ودستورها كتاب الله تعالى دعا العقول إلى النظر والبحث .. ونعى على التقليد والجمود .. ومن ثم فتح لها باب التمتع بالنظر في الأحداث والتسابق في الاجتهاد والبحث عن أحكامها ..
فإذا كان هذا هو مسلك الشارع الإسلامي في التشريع وكانت هذه الودائع هي التي حملته على هذا المسلك ..
فهل من الصواب أن يوجه إلى الشريعة أنها لم تعرض لكذا وكذا .. إن الشريعة ترشد إلى المصالح وتأمر بالعمل على تحقيقها ثم تترك وسائل تحقيق المصالح وإقامتها على الوجه المطلوب إلى اجتهادات العقول ..
ففى قاعدة الشورى وهى من قواعد النظام السياسى في الإسلام أرشد الإسلام إلى الشورى بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ .. } وقصد الشارع إلى إقامة هذه الشورى على وجه ينتفى الاستبداد بأمور الدولة ويجعل الحكام لا يقطعون أمرًا حتى تتناوله آراء أهل الحل والعقد ولكنه ترك النظر في وسائل وكيفية استطلاع الآراء إلى اجتهاد أولى الأمر وتقديرهم حسب الظروف فهم الذين يدبرون النظم التي يرونها أقرب وأكمل في استطلاع الرأى باقتراع سرى أو علنى بالكتابة أو بغيرها ولهم النظر في تعيين من يؤخذ رأيهم وكيفية تعيينهم وانتخابهم.
فالشريعة تحدثت في نظام السياسة وقواعد الحكم ونظمه ولكن بأسلوب أوتى جوامع الكلم وخطاب يفهمه ذوى العقول المفكرة والقلوب الباصرة والنظر النافذ ..
قال أبو إسحاق الشاطبى في الموافقات
(1)
: "وكل دليل شرعى ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وُكِل إلى نظر المكلف ..
وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى .. وكل دليل ثبت في الكتاب مفيدًا غير مطلق وجعل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدى لا يهتدى إليه نظر المكلف لو وُكِلَ إلى نظره .. إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها ..
وقال
(2)
: "واعلم أن ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب لأن الشرع موضوع على أنه دائم ..
وإنما معنى الاختلاف أن العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعى يحكم به عليها ..
وقال شهاب الدين القرافى في قواعده: "إن الأحكام تجرى مع العرف والعادة .. وينتقل القضية بانتقالها ..
ومن جهل المفتى جموده على النصوص في الكتب غير ملتفت إلى تغير العرف ..
فإن القاعدة المجمع عليها أن كل حكم مبنى على عادة .. فإذا تغيرت العادة تغير الحكم
(1)
الموافقات جـ 3 ص 22.
(2)
نفس المصدر.
والقول باختلاف الحكم عند تبدل الأحوال والعادات لا يستلزم القول بتغييره في أصل وضعه والخطاب، به وإنما الأمر تدعو إليه الحاجة عند قوم أو في عصر فيكون مصلحة وتتناوله دلائل الطلب .. فإن لم تقتضه عادتهم ولا تعلقت به مصلحتهم دخل تحت أصل من أصول الإِباحة أو التحريم".
وقال أيضا
(1)
: إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفا للشرع بل تشهد به القواعد ومن جملتها أن الفساد قد كثر وانتشر بخلاف حاله في العصر الأول .. ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع.
ومما يؤيد أن أحكام الشريعة تجرى بحسب اختلاف الزمان والمكان قول عز الدين بن عبد السلام في قواعده: "تحدث للناس أحكام بقدر ما يحدثون من السياسات والمعاملات والاحتياطات".
ولأجل ما بينته الشريعة من بناء الأحكام على رعاية المصالح اشترط جمهور الفقهاء والمتكلمون في الإمام أن يكون عالما بالغا رتبة الاجتهاد ..
وذلك يتحقق بمعرفة جملة القواعد التي نصبتها الشريعة والمتفقة في قسم عظيم من الأبواب التي فصلت الأحكام .. بالقدرة على استنباط الأحكام من أدلتها المبثوثة في الكتاب والسنة ..
وذلك يستدعى معرفة هذه الدلائل وطرق إثباتها وأنواع دلالتها وتفاوت مراتبها وأوجه الترجيح بينها عند التعارض.
وفى النظام السياسى ومبادئ الحكم قرر الإِسلام المبادئ الأساسية العامة لنظام حكم شامل يستهدف صالح الأمة ويكفل إقامة أوضاع الحكم فيها على خير مثال فقرر مبدأ العدل بين الناس جميعا أمام القانون في الحكم والقضاء وفى المعاملة والتكاليف العامة دون نظر إلى جنس أو لون أو دين أو نسب. وأمر به القرآن أمرًا عاما بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} حتى مع الخصوم والأعداء .. {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
وجعل إقرار العدالة بين الناس غرضًا مقصودا من بعث الرسل وإنزال الشرائع {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} .
وقرر مبدأ المساواة المطلقة بين المواطنين جميعا في الحقوق والواجبات وفى التطبيق والتنفيذ .. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربى على أعجمى ولا لأبيض على على أسود إلا بالتقوى".
وقرر مبدأ الشورى وأمر نبيه المعصوم بمشاورة أصحابه في غير ما يأتى به الوحى من شئون الأمة وأمورها المتصلة بالمصلحة العامة {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} .. {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فقرر بذلك مبدأ سيادة الأمة وسلطتها ومشاركتها في تحمل مسئولية الحكم ..
وقرر مبدأ المسئولية العامة مسئولية الحكام عن أعمالهم وتصرفاتهم في شئون الأمة ومصالحها أمام الأمة في الدنيا وأمام الله في
(1)
التبصرة لابن فرحون جـ 2 ص 114.
الآخرة مسئولية مزدوجة تتلاءم في ازدواجها مع جانبى التشريع الإسلامي الروحى المادى أي الدنيوى والأخروى فإن الإسلام قد وضع الأحكام ورسم الحدود في الأداء والتنفيذ في العقائد والعبادات والأخلاق والتربية وفى المعاملات العامة الاقتصادية والاجتماعية وفى كل ما يتعلق بنظام الحكم وتدبير مصالح المسلمين وهذا كله دين يثاب فاعله ومنفذه والقائم به ويعاقب مخالفه ومنكره ومحاده والخارج عليه.
وللإسلام في كل هذه الجوانب سياسة مرسومة وأنظمة محددة تبرز وتظهر في توجيه المجتمع وسياسة أموره ..
وبذلك كله تقوم الدولة .. فالدين والدولة في الإِسلام مرتبطان لا انفصام لهما .. فلا يمكن تصور دولة إسلامية بلا دين ..
كما لا يمكن تصور الدين فارغا من التعامل مع المجتمع وتوجيه شئونه ومصالحه في الحياة الدنيا فكان من ذلك المسئولية المزدوجة في الحديث الصحيح فيما رواه البخارى: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" ..
فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته ويقوم إلى جانب هذه المبادئ ويكملها ما قررته الأصول الإسلامية العامة خاصًّا بنظرية حقوق الأفراد وحرياتهم العامة .. فقد قررت هذه الأصول الحرية الشخصية أي حرية الذات ..
كما قررت من حرمة القتل والاعتداء على الإنسان في نفسه وماله وعرضه ..
وحرية العقيدة في حدود النظام العام إذ لا يقبل الارتداد ولا الخروج على الإسلام ..
وحرية الرأي والإعراب عنه والنقد بهدف الإِصلاح والتوجيه ..
وحرية الاستيطان والإقامة وحرية التنقل وحرية التملك .. يتمتع بهذه الحريات وبغيرها من الحريات في حدود عدم الإِضرار بحريات ومصالح الآخرين أو بمصالح الدين والدولة.
وقررت الحقوق بسائر أنواعها السياسية كحق الانتخاب والتمثيل والعامة كحق تولى الوظائف والخاصة كحق التعليم .. والانتفاع بخدمات الدولة وأباحت الملكية الفردية في العقار والمنقول وسائر أنواع الأموال دون حدود إلا الالتزام في كسبها بالطرق المشروعة وعدم اكتناز الثروة وتجميع المال والاستغلال والاحتكار ..
ووضعت على هذه الملكية أعباء وتكاليف بشروط وأوضاع لمصلحة الطبقات المحتاجة حقا مقررًا وعلاج مشكلة الفقر ..
وقيدت المالك في تصرفاته في أمواله بمراعاة مصالح الآخرين كالورثة أو الدائنين وعدم الإِضرار بهم ..
وأوجبت على الأمة نبذ المنكر ومقاومة الظلم والاستبداد {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} - "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
ثم فرج الشارع هذا النظام بإقامة رئاسة الدولة وهما الإمامة والخلافة فأوجب إقامة الإِمام وبين طريقة إدامته وحدود صفاته والشروط التي ينبغى أن تتوافر فيه كما حدد اختصاصاته وبين ما له من حقوق على الأمة وما عليه لها من واجبات، وجعل الأمة بمثابة موكله ومصدر سلطة ومالكة حق محاسبته وتقويمه وعزله.
تلك إشارات لبيان ما احتواه الإسلام في
الجوانب التي يزعم الكاتبون المسلمون أنه ابتعد عنها ولم يأت فيها بشئ ..
وبقى أن نشير إلى ما عمله النبي صلى الله عليه وسلم وهل اقتصر على تبليغ الرسالة وتنظيم شئون الدعوة إلى الله، ولم يكن له في شئون الأمة ومصالحها وسياسة أمورها حكم أو تدبير، أو أنه أسس دولة المسلمين وأقام حكومة فيها وقام على رأس المسلمين يبلغ إليهم الرسالة ويطبق عليهم أحكام الشريعة ويقيم فيهم حدود الله وينظم أجهزة العمل في الدولة ..
أشرنا إلى أن التشريع الإسلامي العملى بدأ في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وتوالى مع الأيام ..
كما أن المجتمع الإِسلامى بدأ يتكون على صورد بارزة المعالم في المدينة ..
وقد قلنا أن الإسلام وهو دين ودنيا، ودين ودولة لا يعمل تشريعه ولا يبرز عمليا إلا في مجال المجتمع وهو المجال الخصب الذي تعمل فيه القوانين وتظهر آثارها ومدى ما تنتهى إليه نتائج أحكامها ولابد للمجتمع الجديد أن ينمو ويبقى ويتعامل مع الحياة التي يعيش فيها ..
ولابد أن تبرز في حياته مشاكل في كل جوانب الحياة ولابد من حلول لهذه المشاكل ولابد لمصالح المجتمع من سياسة تديرها وتصل إلى تحقيقها ..
والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجتمع هو سيده الأعلى ورئيسه الذي يدين له بالولاء والطاعة ويلقى الله بالقيادة في شئون الدين والدنيا على السواء .. الدين الذي جاءهم به من عند الله ..
والدنيا التي يعيشون فيها ويتعاملون معها، وسلطان الرسول على هذا المجتمع سلطان روحى ومادى ودينى ومعنوى يرعى النفوس ويهذب الأخلاق ويسمو بالأرواح إلى آفاق قدسية طاهرة ويطهر المجتمع من دنس الشرك ورجس الوثنية ويدبر شئون المسلمين ومصالحهم ويطبق أحكام الشريعة وينفذها فيهم ويقيم حدود الله عليهم ويأخذ على أيدى العصاة والخارجين على تلك الأحكام والحدود ويقيمهم على النهج الواضح والطريق السوى ..
وهو مع ذلك كله وقبل ذلك كله يبلغ الناس ما أنزل إليهم من ربهم شاهدهم وغائبهم ويبين ما في التنزيل ..
هذا المجتمع وقد تحددت فيه من سمات الدولة وعناصر قيامها - الشعبى والاقليمى - لابد لإكتمال عناصر الدولة وبروز شخصيتها في المجتمع الدولى أن تقوم فيه سلطة حاكمة وهى بالنسبة له حكوة دينية تدبر شئونه وتنظم أموره وتقيم العدل فيه وتستغل موارده وتنفق حصيلتها في وجوه النفع والصالح العام وتدافع عنه وتحمى حدوده ضد خطر الغزو والاعتداء وتنظم علاقاته بالدول والمجتمعات الأخرى ..
وتبرم الاتفاقات والمعاهدات وتنظم شئون الحرب وتتولى في الداخل تنظيم شئون الإدارة والتنفيذ وأداة الحكم والقضاء ..
كل ذلك على هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبمقتضى أحكام الشريعة ومبادئ الدين ..
وقد قامت هذه الحكومة فعلا وعلى رأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جانبه وزيراه أبو بكر وعمر ومستشاروه من أهل الرأى من أصحابه ونظم أجهزة الدولة والحكومة فأرسل الولاة والعمال إلى الأمصار والأقاليم يعلمون الناس الدين وأحكام الشريعة ويؤمونهم في الصلاة ويجمعون أموال الزكاة وغيرها مما قرره الشارع وما يتصدقون به ويوزعون ما أمروا
بتوزيعه في مصارفه، ويقضون بين الناس ويفصلون في خصوماتهم ويقيمون ما وُكل إليهم إقامته من حدود وينفذون الأحكام ..
وكان من عماله أبو دجانة الساعدى وسباع بن عرقطة عاملاه على المدينة وأبو سفيان بن حرب على نجران ومعاذ بن جبل على الجند ولما ولاه سأله: بم تقضى إذا عرض لك قضاء حديث مشهور ..
وعتاب بن أسيد على مكة وعلى بن أبى طالب على اليمن وقال له: إذا حضر الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع منهما ودعا له بالتوفيق والسداد في القضاء .. واستعمل العلاء بن الحضرمى على البحرين وعزله لما شكاه وفد عبد القيس وولى بدله أسامة بن سعيد وقال له: استوصى بعبد القيس خيرا وأكرم سراتهم ..
وكان يحاسب العمال ويسألهم .. حاسب أحد عمال الصدقات فقال: هذا لكم وهذا أهدى إليّ .. فقال النبي: ما بال الرجل نستعمله على العمل بما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدى إليّ .. أفلا قعد في بيت أبيه وأمه .. فنظر .. أيهدى إليه أم لا؟ .. من استعملناه على عمل ورزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ..
ونظم صلى الله عليه وسلم الموارد المالية وحدد مصارفها طبقًا لما بينه الله تعالى في الكتاب: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} .. {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} .
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} .. {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
وفى شئون الحرب والدفاع نزل قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ .. } وكان الرسول هو الذي يعلن الحرب ويدير شئونها ويرسم لها الخطط بالتشاور مع أولى الرأى من أصحابه ويعين رؤساء البعثات والقواد ..
وكان المسلمون كلهم جندا لله يقاتلون في سبيل الله ويدافعون عن دين الله وأول لواء عقد في الإِسلام لواء عبد الله بن جحش وأول مغنم كان مغنمه. وقد سمع النبي باستخدام النساء في الحروب يقمن من الأعمال بما يقدرن عليه يخدمن الجرحى ويتولين الطعام والإسقاء ويحمسن المقاتلين بالأناشيد والضرب على الدفوف ويأخذن من العطاء ..
وفى شئون القضاء: قضى الرسول صلى الله عليه وسلم بين الناس وفصل في كثير من خصوماتهم بنفسه وولى غيره من أصحابه القضاء ومن هؤلاء عبد الله بن نوفل أول قاض على المدينة ونظرًا لضيق رقعة الإِسلام وقلة الأعمال إذ ذاك جعل القضاء والفصل في الخصومات من أعمال الولاة كما أشرنا في تولية معاذ بن جبل وعلي بن أبى طالب حتى إذا ما اتسعت رقعة الإسلام وعظم شأن المسلمين في عهد عمر بن الخطاب فصل القضاء عن الولاية وجعله ولاية مستقلة ..
أما شئون التشريع فلم تكن لأحد في عهد النبي سواه يتولاها عن طريق الوحى بالكتاب والسنة.
وكما تثبت السيرة النبوية الكريمة وكتب
التاريخ الصحيح .. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان على رأس المسلمين أسس دولتهم وأقام الحكومة الدينية وتولى الزعامة السياسية فيهم يحكم فيما شجر بين الناس ويقيم الحدود والزواجر على من يعتدى أو يجنى على نفس أو مال أو عرض أو عقل وينظم الموارد المالية كما أمر الله والمصارف في وجوه المصالح وإسعاد ذوى الحاجة ويتولى عند التحالف والمعاهدات وإعلان الحرب ورسم خططها مع المشاورة والأخذ بأحسن الآراء وأكفلها بالنجاح. ويسوس المسلمين ويدبر أمورهم الدينية والدنيوية. يتولى كل ذلك بنفسه أو بمن ينيبه ويندبه ممن يرى فيه الكفاية والمقدرة والصححية وأن القول بأن النبي لم يكن من طبيعته إلا تبليغ الرسالة وتنظيم شئون الدعوة إلى الله تعالى قول لا تساعده وقائع التاريخ ولا يتفق مع نصوص الشريعة ..
هذا هو منطق أئمة الشريعة وحملتها وحفاظها. وننقل معه وبجانبه ما فكره مؤرخ مسيحى كان دقيقا وأمينا في ذكر وقائع التاريخ ونقلها وهو جورجى زيدان .. قال في كتابه: "تاريخ التمدن الإسلامي"
(1)
: "ولما ظهر الإِسلام كان النبي صلى الله عليه وسلم هو رئيس المسلمين ومدبر أمورهم في شئون الدنيا والدين .. وهو حاكمهم وقاضيهم وصاحب شريعتهم وإمامهم وقائدهم .. وكان إذا ولى أحد أصحابه بعض الأطراف خوله السلطتين السياسية والدينية وأوصاه أن يحكم بالعدل ويعلم الناس القرآن".
وقد ألف أحد الغربيين من غير المسلمين كتاب أسماه "روح الشرق" وعرض فيه للتشريع الإسلامي في الجوانب التي تناولها هؤلاء الكتاب المسلمون فكان أصفى خاطرًا وأقرب إلى إنصاف الإسلام منهم - هذا المؤلف: هو: "أرغو هارت" وكتابه هذا منقول في كتاب روح الإسلام لأمير على
(2)
..
قال أرغو هارت في كتابه
(3)
: "إن الإِسلام منح الناس قانونا فطريا بسيطا غير أنه قابل لأعظم الترقيات الموافقة لرقى المدنية المادية ..
إنه منح الحكومة دستورًا يلائم الحقوق والواجبات أشد الملاءمة. فقد حدد الضرائب وساوى بين الخلق في نظر القانون وقدس مبادئ الحكم الذاتى وأوجد الرقابة على الحاكم بأن جعل الهيئة التنفيذية منقادة للقانون المقتبس من الدين والواجبات الأخلاقية. إن حسن كل واحد من هذه المبادئ التي يكفى كل واحد منها لتخليد ذكرى واضعه قد ضاعف في أهمية مجموعها وأصبح للنظام المكون منها قوة تفوق أي نظام سياسى آخر ..
إن هذا النظام مع أنه وضع في أيدى قوم أميين استطاع أن ينتشر في ممالك أكثر مما فتحته روما في عهد لا يتجاوز عمر الفرد ..
ولقد استمر منتصرًا لا يمكن إيقافه مدة محافظته على شكله الفطرى ..
أرأيت كيف يقرر البعيدون عن الإِسلام أن الإسلام قد عرف النظام السياسى وقرر فيه مبادئ يكفى كل واحد منها لتخليد ذكرى واضعه وأن هذه المبادئ تفوق أي نظام سياسى آخر .. في حين أن بعض مفكرى المسلمين ينكرون على الإسلام صلاحيته للحياة الدنيا ومعرفته للنظام السياسى وأن نبى الإسلام لم يكن له في شئون الأمة ولا في النظام السياسى وأمور الدولة عمل
(1)
تاريخ التمدن الإسلامي لجورجى زيدان جـ 4 ص 179.
(2)
روح الإسلام لأمير على ص 277 وما بعدها.
(3)
روح الشرق لأرغو هارت جـ 1 ص 38.
ألم يفكر هؤلاء العباقرة أنهم بنشر هذه الأفكار المسمومة وإذاعة هذه الآراء الخطيرة يقدمون لأسرى الثقافة الغربية والمفتونين بآراء وأفكار خصوم الدين حجة يستندون إليها في المطالبة الصريحة بتنحية الدين عن شئون الحياة ومجال الحكم والفصل بين الدين والدولة كما فعل المسيحيون في عهد الدولة الرومانية حينما سيطرت الكنيسة على شئون الدولة وسارت في سياستها سيرًا لا يتفق مع ما وصلت إليه النظريات العلمية الحديثة وقام رجال الدولة ينازعونها وانتهى الأمر بفصل الدين عن الدولة - وكما حاولت بعض الأحزاب السياسية في تركيا في أواخر عهد الخلافة وإنحطاط شأنها ..
بم تنعقد الإِمامة
؟!
جاء في شرح المقاصد للعلامة سعد الدين التفتازانى
(1)
في كلامه على ثبوت الإمامة: "اتفقت الأمة على أن الرجل لا يصير إماما بمجرد صلاحيته للإمامة واجتماع الشرائط المعتبرة شرعا فيه .. بل لابد من أمر آخر به تنعقد الإِمامة .. وهى طرق:
منها متفق عليه ومنها مختلف فيه .. فالمختلف فيه المردود ..
والدعوة بأن يقوم من الناس من هو أهل للإمامة ومستجمع لشروطها ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى اتباعه والانقياد لإِمامته ..
قال به غير طائفة الصالحية من الزيدية ذاهبين إلى أن كل فاطمى نسل فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها خرج شاهرا لسيفه داعيا إلى ربه - فهو إمام ولم يوافقهم على ذلك إلا الجبائى ..
والمختلف فيه المقبول عندنا وعند المعتزلة والخوارج والصالحية من الزيدية خلافا للشيعة هو اختيار أهل الحل والعقد وبيعتهم من غير أن يشترط إجماعهم واتفاق جميعهم في البلاد الإسلامية على ذلك. ولا عدد محدود منهم بل تتم البيعة وتنعقد الإمامة ولو بعقد واحد منهم ..
ولهذا لم يتوقف أبو بكر - رضى الله عنه - بعد أن بايعه من في السقيفة من المهاجرين والأنصار إلى انتشار أخبار البيعة في الأقطار الإِسلامية ليجتمع عليها أهل الحل والعقد. بل اعتبر البيعة قد تمت والإمامة قد انعقدت وباشر الأعمال لم ينكر عليه أحد.
وقال عمر لأبى عبيدة - رضى الله عنهما -: أبسط يدك أبايعك .. فقال أبو عبيدة: القول هذا وأبو بكر حاضر؟ فبايع أبا بكر.
وهذا مذهب الأشعرى إلا أنه يشترط أن يكون العقد بمشهد من الشهود لئلا يدعى آخر أنه عقد عقدًا آخر سرًا متقدما على هذا العقد.
وذهب أكثر المعتزلة إلى اشتراط عدد خمسة ممن يصلحون لإِمامة أخذا من حادثة الشورى التي وقعت في عهد عمر إذ عهد إلى ستة لاختيار واحد منهم بحضور الخمسة الباقين.
لنا على كون الاختيار والبيعة طريقا لإنعقاد الإِمامة .. أن الطريق .. إما النص وإما الاختيار ..
والنص منتف في حق أبى بكر - رضى الله عنه - مع كونه إمامًا بالإِجماع فكانت إمامته بالاختيار ..
(1)
شرح المقاصد للعلامة سعد الدين التفتازانى جـ 2 ص 284.
وكذلك النص منتف في حق علي عند التحقيق ..
وأيضا اشتغل الصحابة - رضى الله تعالى عنهم - بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مقتل عثمان - رضى اللّه عنه - باختيار الإمام وعقد البيعة له من غير نكير من أحد فكان إجماعًا منهم على كون الاختيار طريقا لإنعقاد الإِمامة .. ولا عبرة بمخالفة الشيعة الحادثة بعد الإِجماع ..
وقالت الشيعة إن طريق تعيين الإِمام وثبوت الإِمامة للشخص هو النص .. واحتجوا على ذلك بوجوه ..
الأول: أن الإمام يجب أن يكون معصوما وأفضل رعيته وعالما بأمر الدين كله ولا سبيل لأهل الاختيار إلى معرفة ذلك واجتماعه فيمن يختارونه ..
ورد بمنع المقدمتين فقد سبق عدم اشتراط هذه الأمور في الإِمام .. وعلم بالضرورة حصول الظن لأهل الحل والعقد بالصفات المذكورة ..
الثاني: أن أهل البيعة لا يقدرون على تولية مثل القضاء والاحتساب ولا على التصرف في فرد من آحاد الأمة فكيف يقدرون على تولية الرياسة الكبرى وعلى إقدار الغير على التصرف في أمر الدين والدنيا لكافة الأمة ..
ورد بمنع الصغرى. فإن التحكيم جائز عندنا .. والشاهد يجعل القاضي قادرا على التصرف في الغير ولو سلم فذلك لوجود من إليه التولية وهو الإمام ولا كذلك إذا مات ولا إمام غيره.
الثالث: أن الإمامة لإزالة الفتن وإثباتها البيعة مظنة إثارة الفتن لاختلاف الآراء كما في زمن على ومعاوية - رضى الله عنهما - فتعوض على موضوعها بالنقض .. ورد بأنه لا فتنة عند الانقياد للحق فإن جهات الترجيح من السبق وغيره معلومة من الشريعة ..
ونزاع معاوية لم يكن في إمامة على بل أنه هل تجب عليه بيعته قبل الاقتصاص من قتلة عثمان .. وأما عند الترفع والاستقلال فالفتنة قائمة ولو مع قيام النص ..
ولو سلم فالكلام فيما إذا لم يوجد النص إذ لا غيره بالبيعة والاختيار على خلاف ما ورد به النص ..
ولا خفاء في أن الفتنة عند عدم الإِمام أضعاف الفتنة عند النزاع في تعيينه ..
الرابع: أن الإِمامة خلافة عن الله ورسوله فيتوفف على استخلافهما بوسيط أو بدونه والثابت بالاختيار لا يكون خلافة منهما بل من الأمة.
ورد بأنه لما قام الدليل من قبل الشارع وهو الإِجماع على أن من اختارته الأمة خليفة لله ورسوله كان خليفة فسقط ما ذكرتم ..
ألا ترى أن الوجوب بشهادة الشاهد وقضاء القاضي وفتوى المفتى حكم الله لا حكمهم على أن الإمام ثابت لأمة أيضا ..
الخامس: أن القول بالاختيار يؤدى إلى خلو الزمان عن الإمام وهو باطل بالاتفاق وذلك فيما إذا عقد أهل بلدين لشخصين ولم يعلم السابق منهما فإنه لا يمكن الحكم بصحتهما لإحتمال المقارنة ولا بفسادها لإحتمال السبق ولا يتعين الصحيح لعدم الوقوف على السابق ..
وحينئذ لا يمكن نصب إمام آخر لاحتمال كونه ثانيا ..
ورد بأنه ينصب إمام بعدم العلم بوجود الإِمام على أنه يمكن الترجيح بجهاته ..
السادس: أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته على أنه كان لا يترك الاستخلاف على المدينة وغيرها من البلاد في غيبة مدة قليلة ولا البيان في أدنى ما يحتاج من الفرائض والسنن والآداب حتى في أمر قضاء الحاجة ومسح الخف ونحو ذلك.
فكيف يترك الاستخلاف في غيبة الوفاة والبيان فيما هو من أساس المهمات ..
والجواب: أن ذلك مجرد استبعاد على أن التفويض لاختيار أهل الحل والعقد واجتهاد أولى الألباب نوع استخلاف وبيان كما في كثير من فروع الإيمان ..
السابع: أن النبى صلى الله عليه وسلم كان لأمته بمنزلة الأب الشفيق لأولاده الصغار. وهو لا يترك الوصية في الأولاد إلى واحد يصلح لذلك .. فكذا النبي صلى الله عليه وسلم في حق الأمة ..
الثامن: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} ولا خفاء في أن الإمامة من معظمات أمر الدين فيكون قد بينها وأكملها أما في كتابه أو على لسان نبيه .. والجواب عنهما بمثل ما سبق ..
وجاء في كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهرى ما يأتى
(1)
: "ذهب قوم إلى أن الإِمامة لا تصح إلا بإجماع فضلاء الأمة في أقطار البلاد ..
وذهب آخرون إلى أن الإمامة إنما تصح بعقد أهل حضرة الإِمام والموضع الذي فيه قرار الأئمة.
وذهب أبو على الجبائى إلى أن الإمامة لا تصح بأقل من عقد خمسة رجال ..
ولم يختلفوا في أن عقد الإِمامة يصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته ولم يقصد بذلك هوى ..
ثم قال: أما من قال أن الإمامة لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة في أقطار البلاد فباطل لأنه تكليف ما لا يطاق وما ليس في الوسع وما هو أعظم الجرح وقد قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ولا حرج ولا تعجيز أكثر من تعرف إجماع فضلاء الأمة في أقطار البلاد الإسلامية كلها من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب ..
ولابد من ضياع أمور المسلمين قبل أن يجمع جزء من مائة جزء من فضلاء أهل هذه البلاد فبطل هذا القول ..
وأما قول من قال: إن عقد الإمامة لا يصح إلا بعقد أهل حضرة الإمام وأهل الموضع الذي فيه قرار الأئمة ..
فإن أهل الشام كانوا قد ادعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام وهو قول فاسد لا حجة لأهله وكل قول في الدين عرى عن حجة من القرآن أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من إجماع الأمة المتيقن فهو باطل بيقين .. قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقا فيه فسقط هذا القول أيضا ..
وأما قول الجبائى فإنه تعلق بفعل عمر - رضى الله تعالى - عنه في الشورى إذ قلدها ستة رجال وأمرهم أن يختاروا واحدًا منهم .. فصار الاختيار منهم بخمسة فقط .. وهذا ليس بشئ لوجوه:
(1)
الفصل في الملل لابن حزم الظاهرى جـ 4 ص 129 وما بعدها.
أولها: أن عمر لم يقل إن تقليد الاختيار أقل من خمسة لا يجوز بل قد جاء عنه أنه قال: إن مال ثلاثة منهم إلى واحد وثلاثة إلى واحد فاتبعوا الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف فقد أجاز عقد ثلاثة.
وثانيها: أن فعل عمر - رضى الله عنه - لا يلزم الأمة حتى يوافق نص قرآن أو سنة .. وعمر كسائر الصحابة - رضى الله عنهم - لا يجوز أن يخصه الله بوجوب اتباعه دون غيره من الصحابة - رضى الله عنهم - ..
وثالثها: أن أولئك الخمسة - رضى الله عنهم - قد تبرءوا من الاختيار وجعلوه إلى واحد منهم يختار لهم وللمسلمين من رأوه أهلا للإمامة وهو عبد الرحمن بن عوف .. وما أذكر ذلك أحد من الصحابة الحاضرين ولا الغائبين إذ بلغهم ذلك فقد صح إجماعهم على أن الإمامة تنعقد بواحد ..
فإن قال قائل: إنما جاز ذلك لأن خمسة من فضلاء المسلمين قلدوه. قيل له: إن كان هذا عندك اعتراضا فالتزم مثله سواء بسواء ممن قال لك: إنما صح عند أولئك الخمسة لأن الإمام الميت قلدهم ذلك ولولا ذلك لم يجز عندهم ..
وبرهان ذلك أنه إنما عقد لهم الاختيار منهم لا من غيرهم فلو اختاروا من غيرهم لما لزم الانقياد لهم. فلا يجوز عقد خمسة أو أكثر إلا إذا قلدهم الإمام ذلك أو ممن قال لك، إنما صح عقد أولئك الخمسة لإِجماع فضلاء أهل ذلك العصر على الرضا بمن اختاروه .. ولو لم يجمعوا على الرضا به لما جاز عندهم .. وهذا مما لا مخلص منه أبدًا فبطل هذا القول بيقين ..
فإذا قد بطلت هذه الأقوال فالواجب النظر في ذلك على ما أوجبه اللّه تعالى في القرآن والسنة وإجماع المسلمين كما افترض علينا عز وجل إذ يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فوجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه ..
أولها وأفضلها وأصحها:
أن يعهد الإِمام الميت إلى إنسان يختاره إمامًا بعد موته وسواء فعل ذلك في صحته أو في مرضه وعند موته إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى بكر وكما فعل أبو بكر بعمر وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز.
وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره كما في هذا الوجه من اتصال الإمامة وانتظام أمر الإسلام وأهله ودفع ما يتجذف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ومن انتشار الأمر وارتفاع النفوس وحدوث الأطماع.
وإنما أنكر من أنكر من الصحابة - رضى الله عنهم - من التابعين بيعة يزيد بن معاوية والوليد وسليمان لأنهم كانوا غير مرضيين لا لأن الإمام عهد إليهم في حياته ..
وثانيها: إن مات الإمام ولم يعهد إلى أحد أن يبادر رجل مستحق للإِمامة فيدعو إلى نفسه ولا منازع له ففرض اتباعه والانقياد لبيعته والتزام إمامته وطاعته كما فعل على إذ قتل عثمان رضى الله عنهما وكما فعل ابن الزبير - رضى الله عنهما - .. وقد فعل ذلك خالد بن الوليد إذ قتل الأمراء زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب وعبد الله بن رواحة فأخذ خالدًا لرأيه من غير إمرة
وصوب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بلغه فعله ..
وساعد خالدًا جميع المسلمين رضى الله عنهم .. أو أن يقوم كذلك عند ظهور منكر يراه فتلزم معاونته على البر والتقوى ولا يجوز التأخر عنه لأن ذلك معاونة على الإِثم والعدوان .. وقد قال عز وجل {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقد قال عز وجل {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} كما فعل يزيد بن الوليد ومحمد بن هارون المهدى رحمهما الله ..
وثالثها: أن يصير الإمام عند وفاته اختيار خليفة المسلمين إلى رجل ثقة أو إلى أكثر من واحد كما فعل عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - عند موته وليس عندنا في هذا الوجه إلا التسليم لما أجمع عليه المسلمون حينئذ ..
ولا يجوز التردد في الاختيار أكثر من ثلاث ليال للثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: من بات ليلة وليس في عنقه بيعة ولأن المسلمين لم يجتمعوا على ذلك أكثر من ذلك .. والزيادة على ذلك باطل ولا يحل ..
على أن المسلمين يومئذ من حين موت عمر - رضى الله عنه - قد اعتقدوا بيعة لازمة في أعناقهم لازمة لأحد أولئك الستة بلا شك .. فهم وإن لم يعرفوه بعينه فهو بلا شك واحد من أولئك الستة فبأخذ هذه الوجوه تصح الإِمامة .. ولا تصح بغير هذه الوجوه البتة ..
فإن مات الإِمام ولم يعهد إلى إنسان بعينه فوثب رجل يصلح للإمامة فبايعه واحد فأكثر .. ثم قام آخر ينازعه ولو بطرفة عين بعده فألحق حق الأول وسواء كان الثاني أفضل منه أو مثله أو دونه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوا ببيعة الأول فالأول من جاء ينازعه فأضربوا عنقه كائنا من كان ..
فلو قام اثنان فصاعدا معا في وقت واحد ويئس من معرفة أيهما سبقت بيعته نظر أفضلهما أو أسوسهما فالحق له ووجب نزع الآخر لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ومن البر تقليد الأسوس ..
وليس هذا بيعة متقدمة يجب الوفاء بها ومحاربة من نازع صاحبها فإن استويا في الفضل قدم الأسوس .. نعم وإن كان أقل فضلا إذا كان مؤديا للفرائض والسنن مجتنبا للكبائر مستترا بالصغائر لأن الفرض من الإِمامة حسن السياسة والقوة على القيام بالأمور ..
فإن استويا في الفضل والسياسة أفرغ بينهما أو نظر في غيرهما .. والله عز وجل لا يضيق على عباده هذا الضيق ولايوقفهم على هذا الحرج لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وهذا أعظم الحرج ..
وفى المسايرة في علم الكلام للكمال بن الهمام الحنفى: إن الإمامة تنعقد بأحد طريقين .. إما باستخلاف الخليفة القائم من تتوفر فيه الصفات والشروط للقيام بأمر المسلمين بعد موته كما فعل أبو بكر - رضى اللّه عنه - إذ استخلف عمر - رضى الله عنه - فرضى المسلمون بخلافته فكان إجماعًا على صحة الاستخلاف طريقا لانتفاء الإِمامة ..
وأما ببيعة من أهل الحل والعقد دون اشتراط جميعهم أو عدد معين منهم .. بل يكتفى بجماعة من العلماء أو من أهل الرأى والتدبير وفى الدر المختار شرح تنوير الأبصار وحاشية ابن عابدين عليه:
أن من تولى بالقهر والغلبة بلا مبايعة من أهل الحل والعقد أن استوفى الشروط المقررة تصح سلطنته للضرورة .. والأصل فيها أن تكون بالتقليد ..
وفى الأحكام السلطانية للقاضى أبى الحسن الماوردى: والإمامة تنعقد من وجهين (1):
الأول: باختيار أهل الحل والعقد.
والثانى: بعهد الإمام من قبل ..
فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى:
فقالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد من كل بلد ليكون الرضاء به عاما والتسليم لإمامته إجماعًا، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبى بكر - رضى اللّه عنه - على الخلافة باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها ..
وقالت طائفة: أقل من تنعقد به الإمامة منهم خمسة يجتمعون على عقدها أو بعقدها أحدهم برضاء الأربعة استدلالا بأمرين:
الأول: أن بيعة أبى بكر - رضى الله عنه -: انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها وهم: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وأسيد بن حضير وبشير بن سعد وسالم مولى أبى حذيفة - رضى الله عنهم - ..
والثاني: أن عمر - رضى اللّه عنه - جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة ..
وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكما وشاهدين كما يصح عقد النكاح بولى وشاهدين ..
وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد لأن العباس بن عبد المطلب - رضى اللّه عنه - قال لعلى بن أبى طالب - رضى اللّه عنه -: أمدد يدك أبايعك .. فيقول الناس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان .. ولأنه حكم وحكم واحد نافذ ..
فإذا اجتمع أهل الحل والعقد للاختيار تصفحوا أحوال أهل الإِمامة الموجودة فيهم شروطها فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلا وأكملهم شروطا ومن يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون عن بيعته ..
فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره وعرضوها عليه ..
فإن أجاب إليها بايعوه عليها .. وانعقدت ببيعتهم له الإمامة فلزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته ..
وإن امتنع من الإِمامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها لأنها عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار .. وعدل عنه إلى من سواه من مستحقيها ..
فلو تكافأ في شروط الإِمامة اثنان قدم لها اختيار أسنهما وإن لم تكن زيادة السن مع كمال البلوغ شرطا .. فإن بويع أصغرهما سنا جاز ..
ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعى في الاختيار ما يوجبه حكم الوفت ..
فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لانتشار الثغور وظهور البغاة كان الأشجع أحق ..
وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء وظهور أهل البدع كان الأعلم أحق ..
فإن وقف الاختيار على واحد من الاثنين فتننازعاها فقد قال بعض العلماء يكون ذلك قدحًا فيهما لمنعهما معا ويعدل عنهما إلى غيرهما .. والذي عليه جمهور العلماء والفقهاء أن التنازع فيها لا يكون قدحًا مانعًا، فليس طلب الإِمامة مكروها .. فقد تنازع فيها أهل الشورى فما رد عنها طالب ولا منع منها راغب ..
واختلف العلماء فيما يقطع به تنازعهما مع نكافؤ أحوالهما ..
فقالت طائفة يقرع بينهما ويقدم من خرجت قرعته منهما ..
وقال آخرون: بل يكون أهل الاختيار بالخيار في بيعته أيهما شاءوا من غير فرعة ..
فلو تعين لأهل الاختيار واحد هو أفضل الجماعة فبايعوه على الإِمارة وحدث بعده من هو أفضل منه انعقدت ببيعتهم إمارة الأول ولم يجز العدول إلى غيره مما ليس بأولى كالاجتهاد في الأحكام الشرعية .. وقال الأكثرون من الفقهاء والمتكلمين تجوز إمامته وتصح بيعته ولا يكون وجود الأفضل مانعا من إمامة المفضول إذا لم يكن مقصرا عن شروط الإمامة كما يجوز في ولاية القضاء تقليد المفضول مع وجود الأفضل لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار ..
وليست معتبرة شرطا في الاستحقاق فلو تفرد في الوقت بشروط الإِمامة واحد لم يشرك فيها غيره تعينت فيه الإمامة ولا يجوز أن يعدل بها عنه إلى غيره ..
واختلف أهل العلم في ثبوت إمامته وافتقاد ولايته بغير عقد ولا اختيار .. فذهب بعض فقهاء العراق إلى ثبوت ولايته وانعقاد إمامته وحمل الأمة على طاعته وإن لم يعقدها أهل الاختيار لأن مقصود الاختيار تمييز المولَّى .. وقد تميز هذا بصفته ..
وذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن إمامته لا تنعقد إلا برضاء الاختيار ..
لكن يلزم أهل الاختيار عقد الإمامة له فإن اتفقوا أتموا لأن الإِمامة عقد لا يتم إلا بعاقد .. وكالقضاء إذا لم يكن من يصلح له إلا واحد لم يصر قاضيا حتى يولاه - فركب بعض من قال بذلك المذهب هذا الباب ..
وقال: يصير قاضيا إذا انفرد بصفته كما يصير المنفرد بصفات الإمامة إمامًا .. وفرق بعضهم فقال: لا يصير المنفرد بصفات القضاء قاضيا وإن صار المنفرد بصفات الإمامة إمامًا وفرق بينهما بأن القضاء نيابة خاصة يجوز صرفه عن الشخص مع بقائه على صفته فلم تنعقد ولايته إلا بتقليد مستنيب له .. والإمامة من الحقوق العامة المشتركة بين حق الله تعالى وحقوق الآدميين ولا يجوز صرف من استقرت فيه إذا كان على صفته فلم يفتقر تقليد مستحقيها مع تميزه إلى عقد مستنيب له ..
وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد وإن شذ قوم فجوزوه .. واختلف في الإِمام منهما ..
فقالت طائفة: هو الذي عقدت له الإمامة في البلد الذي مات فيه من تقدمه لأنهم بعقدها أخص وبالقيام أنها أحق .. وعلى كافة الأمة في الأمصار كلها أن يفوضوا عقدها إليهم ويسلموها
لمن بايعوه لئلا ينتشر الأمر باختلاف الآراء وتباين الأهواء ..
وقال آخرون: بل على كل واحد منهما أن يدفع الإِمامة عن نفسه ويسلمها إلى صاحبه طلبا للسلامة وحسما للفتنة ليختار أهل الحل والعقد أحدهما أو غيرهما.
وقال آخرون: بل يقرع بينهما دفعا للتنازع وقطعا للتخاصم فأيهما قرع كان بالإمامة أحق ..
والصحيح في ذلك وما عليه الفقهاء المحققون أن الإِمامة لأسبقهما عقدًا كالوليين في نكاح المرأة إذا زوجاها باثنين كان النكاح لأسبقهما عقدًا فإذا تعين السابق منهما استقرت له الإمامة وعلى المسبوق تسليم الأمر إليه والدخول في بيعته ..
وإن عقدت الإِمامة لهما في حال واحد لم يسبق بها أحدهما فسد العقدان واستؤنف العقد لأحدهما أو لغيرهما وإن تقدمت بيعة أحدهما وأشكل المتقدم منهما وقف أمرهما على الكشف .. فإن تنازعاها وادعى كل منهما أنه الأسبق لم تسمع دعواه ولم يحلف عليها لأنه لا يختص بالحق فيها وإنما هو حق المسلمين جميعا فلا حكم ليمينه ولا لنكوله عنه ..
وهكذا لو قطع التنازع فيها وسلمها أحدهما إلى الآخر لم تستقر إمامته إلا ببينة تشهد بتقدمه ..
ولو أقر له بالتقدم خرج منها المقر ولم تستقر للآخر لأنه مقر في حق المسلمين .. فإن شهد له المقر بتقدمه فيها مع شاهد آخر سمعت شهادته إن ذكر اشتباه الأمر عليه عند التنازع ولم يسمع منه إن لم يذكر الاشتباه لما في القولين من التكاذب ..
وإذا دام الاشتباه بينهما بعد الكشف ولم تقم بينة لأحدهما بالتقدم لم يقرع بينهما لأمرين:
أحدهما: أن الإمامة عقد والقرعة لا مدخل لها في العقود ..
والثانى: أن الإمامة لا يجوز فيها .. والقرعة لا مدخل لها فيما لا يصح الاشتراك فيه كالنكاح وتدخل فيما يصح فيه الاشتراك كالأموال. ويكون دوام هذا الاشتباه مبطلا لعقدى الإِمامة فيهما .. ويستأنف أهل الاختيار عقدها لأحدهما .. فلو أرادوا العدول بها عنهما إلى غيرهما .. فقد قيل بجوازه لخروجهما عنها ..
وقيل: لا يجوز لأن البيعة لهما قد صرفت الإمامة عمن عداهما، ولأن الاشتباه لا يمنع ثبوتها في أحدهما ..
وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الإِجماع على جوازه ووقع الاتفاق على صحته لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما:
الأول: أن أبا بكر - رضى الله عنه - عهد بها إلى عمر - رضى الله عنه - فأثبت المسلمون إمامته بعهده ..
الثاني: أن عمر - رضى اللّه عنه - عهد بها إلى أهل الشورى فقبلت الجماعة دخولهم فيها وهم أعيان العصر اعتقادا لصحة العهد بها وخرج باقى الصحابة منها .. وقال على للعباس - رضى الله عنهما - حين عاتبه على الدخول في الشورى كان أمرًا عظيما من أمور الإِسلام لم أر لنفسى الخروج منه فصار العهد بها إجماعًا في انعقاد الإِمامة فإذا أراد الإمام أن يعهد بها فعليه أن يجتهد رأيه في الأحق بها والأقوم بشروطها فإذا
تعين الاجتهاد في واحد نظر فيه .. فإن ثم يكن ولدا ولا والدًا جاز أن ينفرد بعقد البيعة له وبتفويض العهد إليه وإن لم يستشر فيه أحدا من أهل الاختيار .. لكن اختلفوا .. هل يكون ظهور الرضا منهم شرطا في انعقاد بيعته أولا ..
فذهب بعض علماء أهل البصرة إلى أن رضا أهل الاختيار ببيعته شرط في لزومها للأمة لأنها حق يتعلق بهم فلم تلزمهم إلا برضا أهل الاختيار منهم .. والصحيح أن بيعته منعقدة وأن الرضا بها غير معتبر لأن بيعة عمر - رضى اللّه عنه - لم تتوقف على رضا الصحابة .. ولأن الإِمام القائم أحق بها فكان اختياره فيها أمضى وقوله فيها أنفذ .. وإن كان ولى العهد ولدًا أو والدًا فقد اختلف في جواز انفراده بعقد البيعة له على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: لا يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لولد ولا لوالد حتى يشاور فيه أهل الاختيار فيرونه أهلا لها فيصح منه حينئذ عقد البيعة له لأن ذلك منه تزكية له يجرى مجرى الشهادة .. وتقليده على الأمة يجرى مجرى الحكم وهو لا يجوز أن يشهد لوالد ولا لولد ولا يحكم لواحد منهما للتهمة العائدة إليه بما جبل من الميل إليه ..
الثاني: يجوز أن ينفرد بعقدها لولد ووالد لأنه أمير الأمة، نافذ الأمر لهم وعليهم فغلب حكم المنصب على حكم النسب ولم يجعل للتهمة طريقا على أمانته ولا سبيلا إلى معارضته .. وصار فيها كعهده بها إلى غير ولده ووالده ..
وهل يكون رضا أهل الاختيار بعد صحة العهد معتبرا في لزومه للأمة أولا .. على ما قدمناه من الوجهين ..
الثالث: أنه يجوز أن بنفرد بعقد البيعة لوالده ولا يجوز أن ينفرد بها لولده لأن الطبع يبعث على ممايلة الولد أكثر مما يبعث على ممايلة الوالد ..
ولذلك كان كل ما يقتضيه في الأغلب مذخورًا لولده دون والده .. فأما عقدها لأخيه ومن قاربه من عصبته ومناسبيه فكعقدها للبعداء الأجانب في جواز تفرده بها ..
وإذا عهد الإِمام بالخلافة إلى من يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة فيه كان العهد موقوفا على قبول المولى .. واختلف في زمان قبوله ..
فقيل بعد موت المولي في الوقت الذي يصح فيه نظر المولي ..
وقيل: وهو الأصح - إنه ما بين عهد المولى وموته لتنتقل عنه الإِمامة إلى المولى مستقرة بالقبول المتقدم وليس للإمام المولى عزل من عهد إليه ما لم يتغير حاله.
وإن جاز له عزل من استنابه من سائر خلفائه لأنه مستخلف لهم في حق نفسه فجاز له عزلهم وهو مستخلف لولى عهده في حق المسلمين فلم يكن له عزله كما لم يكن لأهل الاختيار عزل من بايعوه إذا لم يتغير حاله.
فلو عهد الإِمام بعد عزل الأول إلى ثان كان عهد الثاني باطلا والأول على بيعته .. فإن خلع الأول نفسه لم يصح بيعة الثاني حتى يبتدئ وإذا استعفى ولى العهد لم يبطل عهده بالاستعفاء حتى يعنى للزومه من جهة المولى ..
ثم نظر فإن وجد غيره جاز استعفاؤه وخرج من العهد بإجماعهما على الاستعفاء والإعفاء .. وإن لم يوجد غيره لم يجز استعفاؤه
ولا إغفاؤه .. وكان العهد عنى لزومه من جهتى المولى والمولّى ..
ويعتبر شروط الإمامة في المولى من وقت العهد إليه .. فإن كان صغيرا أو فاسقًا وقت العهد وبالغا عدلا عند موت المولى لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته ..
وإذا عهد الإمام إلى غائب هو مجهول الحياة فلم يصح عهده .. وإن كان معلوم الحياة كان موقوفا على قدومه .. فإن مات الإِمام المستخلف وولى العهد على غيبته استقدمه أهل الاختيار ..
فإن بعدت غيبته، واستضر المسلمون بتأخير النظر في أمورهم استناب أهل الاختيار نائبا عنه يبايعونه بالنيابة دون الخلافة.
فإذا قدم الخليفة الغائب انعزل المستخلف النائب .. وكان نظره قبل قدوم الخليفة ماضيا .. وبعد قدومه مردودًا .. ولو أراد ولى العهد قبل موت الخليفة أن يرد ما عهد به الله من ولاية العهد إلى غيره لم يجز لأن الخلافة لا تستقر له إلا بعد موت المستخلف ..
وهكذا لو قال: جعلته ولى عهدى إذا أفضت الخلافة إلى لم يجز لأنه في الحال ليس خليفة فلم يصح عهده بالخلافة .. وإذا خلع الخليفة نفسه انتقلت الخلافة إلى ولى عهده وقام خلعه مقام موته .. ولو عهد الخليفة إلى اثنين لم يقدم أحدهما على الآخر جاز واختار أهل الاختيار أحدهما بعد موته كأهل الشورى فإن عمر - رضى الله عنه - جعلها في سنة ..
حكى ابن إسحاق عن الزهرى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: وجدت عمر ذات يوم مكروبا .. فقال: ما أدرى ما أصنع في هذا الأمر أقوم فيه وأقعد .. فقلت: هل لك في على؟.
فقال: إنه لها لأهل ولكنه رجل فيه دعابة.
وإنى لأراه تولى أمركم لجعلكم على طريقة من الحق تعرفونها .. قال: فقلت: فأين أنت من عثمان؟ فقال: لو فعلت لحمل ابن أبي معيط على رقاب الناس ثم لم تلتفت إليه العرب حتى تضرب عنقه .. والله لو فعلت لفعل .. ولو فعل لفعلوا .. قال: قلت لطلحة .. قال: إنه لزهو ما كان الله ليوليه امرأته محمد صلى الله عليه وسلم مع ما يعلم من زهوه .. قال: فقلت: فالزبير؟.
فقال: إنه لبطل .. ولكنه يسأل عن الصاع والمد بالبقيع بالسوق .. أنذاك يلى أمور المسلمين؟ قال: فقلت: سعد بن أبى وقاص .. قال: ليس هناك: إنه لصاحب مقتد يقاتل عليه .. فأما ولى أمر فلا .. قال: فقلت: فعبد الرحمن بن عوف؟ قال: نعم الرجل ذكرت .. لكنه ضعيف .. إنه والله لا يصلح لهذا الأمر يا ابن عباس إلّا القوى في غير عنف .. اللين من غير ضعف. والممسك من غير بخل .. والجواد في غير إسراف ..
قال ابن عباس: فلما جرحه أبو لؤلؤة وآيس الطبيب من نفسه وقالوا له: أعهد جعلها شورى في ستة .. وقال: هذا الأمر إلى على وبإزائه الزير. وإلى عثمان وبإزائه عبد الرحمن بن عوف .. وإلى طلحة وبإزائه سعد بن أبى وقاص. فلما جاز الشورى بعد موت عمر - رضى الله عنه - ..
قال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم .. فقال الزبير: جعلت أمرى إلى على .. وقال طلحة: جعلت أمرى إلى عثمان .. وقال
سعد: جعلت أمرى إلى عبد الرحمن .. فصارت الشورى بعد الستة في هؤلاء الثلاثة وخرج منها أولئك الثلاثة .. فقال عبد الرحمن: أيكم يبرأ من هذا الأمر ونجعله إليه والله عليه شهيد ليحرص على صلاح الأمة .. فلم يجبه أحد.
فقال عبد الرحمن: أتجعلونه إلى وأخرج نفسى منه .. والله على شهيد على أنى لا آلوكم نصحا .. فقالا: نعم .. فقال: قد فعلت .. فصارت الشورى بعد الستة في ثلاثة .. ثم بعد الثلاثة في اثنين على وعثمان .. ثم مضى عبد الرحمن يستعلم من الناس ما عندهم .. فلما أجنهم الليل استدعى المسور بن مخرمة وأشركه معه .. ثم حضر فأخذ على كل واحد منهما العهود أيهما بويع ليعلمن بكتاب الله وسنة نبيه .. ولئن بويع لغيره ليسمعن وليطيعن .... ثم بايع عثمان بن عفان ..
فكانت الشورى التي دخل أهل الإمامة فيها وانعقد الإجماع عليها أصلا في انعقاد الإِمامة وفى انعقاد البيعة بعدد يتعين فيه الإِمامة لأحدهم باختيار أهل الحل والعقد ..
فلا فرق بين أن نجعل شورى في اثنين أو أكثر إذا كانوا عددًا محصورًا .. ويستفاد منها أن لا نجعل الإِمامة بعده في غيرهم ..
فإذا تعينت بالاختيار في أحدهم جاز لمن أفضت إليه الإِمامة أن يعهد بها إلى غيرهم ..
وليس لأهل الاختيار إذا جعلها الإمام شورى في عدد أن يختار أحدهم في حياة المستخلف العاهد إلا أن يأذن لهم في تقديم الاختار في حياته لأنه بالإِمامة أحق .. فلم يجز أن يشارك فيها ..
فإن خافوا انتشار الأمر بعد موته استأذنوه واختاروا إن أذن لهم .. فإن صار إلى حال إياس نظر .. فإن زال عنه أمره وغرب عنه رأيه فهى كحاله بعد الموت في جواز الاختيار .. وإن كان على تمييزه وصحة رأيه لم يكن لهم الاختيار إلا عن إذنه.
حكى ابن إسحاق أن عمر - رضى الله عنه - لما دخل منزله مجروحًا سمع هذه فقال: ما شأن الناس؟ قالوا: يريدون الدخول عليك .. فأذن لهم ..
فقالوا: أعهد يا أمير المؤمنين .. استخلف علينا عثمان. فقال: كيف بحب المال والجنة .. فخرجوا من عنده ثم سمع لهم هذه ..
فقال: ما شأن الناس؟ .. قالوا: يريدون الدخول عليك .. فأذن لهم ..
فقالوا: استخلف علينا على بن أبى طالب .. قال: إذن يحملكم على طريقة هي الحق ..
قال عبد الله بن عمر: فاتكأت عليه عند ذلك، وقلت: يا أمير المؤمنين .. وما يمنعك منه؟ قال: يا بنى: أتحملها حيا وميتًا .. ويجوز للخليفة أن ينص على أهل الاختيار كما يجوز أن ينص على أهل العهد .. فلا يصح إلا اختيار من نص عليه كما لا يصح تقليدا إلا من عهد إليه لأنهما من حقوق خلافته.
ولو عهد الخليفة إلى اثنين أو أكثر ورتب الخلافة فيهم .. فقال: الخليفة بعدى فلان .. فإن مات فالخليفة بعد موته فلان .. فإن مات .. فالخليفة بعده فلان جاز وكانت الخلافة متنقلة بين الثلاثة على ما رتبها .. فقد استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش مؤته زيد بن حارثة .. وقال: فإن أصيب فجعفر بن أبى طالب .. فإن
أصيب .. فعبد الله بن رواحة .. فإن أصيب .. فليرتض المسلمون رجلا .. فتقدم زيد .. فقتل .. فأخذ الراية جعفر وتقدم فقتل .. فأخذ الراية عبد الله بن رواحة فتقدم .. فقتل ..
فاختار المسلمون بعده خالد بن الوليد .. وإذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في الإِمارة جاز مثله في الخلافة ..
فإن قيل هي عقد ولاية على صفة وشرط .. والولايات لا يقف عقدها على الشروط والصفات ..
قيل هذا من المصالح العامة التي يتسع حكمها على أحكام العقود الخاصة .. فقد عمل بذلك في الدولتين من لم ينكر عليه أحد من علماء العصر ..
هذا سليمان بن عبد الملك عهد إلى عمر بن عبد العزيز ثم بعده إلى يزيد بن عبد الملك .. ولئن لم يكن سليمان حجة فإقرار من عاصره من علماء التابعين ومن لا يخافون في الحق لومة لائم هو الحجة ..
وقد رتبها الرشيد - رضى الله عنه - في ثلاثة من بنيه .. في الأمين ثم المأمون .. ثم المؤتمن عن مشورة من عاصروه من فضلاء العلماء .. فإذا عهد الخليفة إلى ثلاثة رتب الخلافة فيهم ومات والثلاثة أحياء كانت الخلافة بعد موته للأول ولو مات الأول في حياة الخليفة كانت الخلافة بعده للتالى ..
ولو مات الأول والثانى في حياة الخليفة فالخلافة بعده للثالث لأنه قد استقر لكل واحد من الثلاثة بالعهد إليه حكم الخلافة بعده .. ولو مات الخليفة والثلاثة من أولياء عهده أحياء وأفضت الخلافة إلى الأول منهم فأراد أن يعهد بها إلى غير الاثنين مما يختاره لها .. فمن الفقهاء من منعه من ذلك حملا على مقتضى الترتيب إلا أن يستنزل عنها مستحقها طوعًا ..
فقد عهد السفاح إلى المنصور - رضى اللّه عنهما - وجعل العهد بعده لعيسى بن موسى فأراد المنصور تقديم المهدى على عيسى فاستنزله عن العهد عفوًا لحقه فيه ..
وفقهاء الوقت على توافر وتكاثر لم يروا له فسحة في صرفه عن ولاية العهد قسرا حتى استنزل واستطيب ..
والظاهر من مذهب الشافعي رحمه الله وما عليه جمهور الفقهاء أنه يجوز لمن أفضت إليه الخلافة من أولياء العهد أن يعهد بها إلى من شاء ويصرفها عمن كان مرتبا معه ..
ويكون هذا الترتيب مقصورا على من يستحق الخلافة منهم بعد موت المستخلف. فإذا أفضت الخلافة منهم إلى أحدهم على مقتضى الترتيب صار أملك بها بعده في العهد بها إلى من شاء لأنه قد صار بإفضاء الخلافة إليه عام الولاية نافذ الأمر فكان حقه فيها أقوى وعهده بها أمضى ..
وخالف هذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترتيب أمرائه على جيش مؤته لأنه كان ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الحياة حتى تنتقل أمورهم إلى غيره وهذا يكون بعد انتقال الأمر بموته إلى غيره فافترق حكم العهد به.
وأما استطابة المتضرر نفس عيسى بن موسى فإنما أراد به تألف أهله لأنه كان في صدر الدولة والعهد قريب والتكافؤ بينهم منتشر .. وفى أحشائهم نفور موهن ففعله سياسة وإن كان في الحكم سائغا ..
فعلى هذا لو مات الأول من أولياء العهد الثلاثة بعد إفضاء الخلافة إليه ولم يعهد إلى غيرهما كان الثاني هو الخليفة بعده بالعهد الأول .. وقدم على الثالث اعتبارًا بحكم الترتيب فيه
…
ولو مات هذا الثاني قبل عهده صار الثالث هو الخليفة بعده لأن صحة عهد العاهد تقضى بثبوت حكمه في الثلاثة ما لم يجدد بعده عهدًا يخالفه فيصير العهد في الأول من الثلاثة حتما وفى الثاني والثالث موقوفًا لأنه لا يجوز أن يعدل عن الأول فاتحتم ويجوز أن يعدل على هذا المذهب عن الثاني والثالث فوقف ..
ولو مات الأول من الثلاثة بعد إفضاء الخلافة إليه من غير أن يعهد إلى أحد .. فأراد أهل الاختيار أن يختاروا للخلافة غير الثاني لم يجز ..
وكذلك لو مات الثاني بعد إفضاء الخلافة إليه لم يجز أن يختاروا لها غير الثالث وإن جاز أن يعهد بها الثاني إلى غير الثالث لأن العهد نص لا يستعمل الاختيار إلا مع عدمه ..
ولكن لو قال الخليفة: العاهد: قد عهدت إلى فلان فإن مات بعد إفضاء الخلافة إليه .. فالخليفة بعده فلان لم تصح خلافة الثاني ولم ينعقد عهده بها لأنه لم يعهد إليه في الحال وإنما جعله ولى عهده بعد إفضاء الخلافة إلى الأول ..
وقد يجوز أن يموت قبل إفضائها إليه فلا يكون عهد الثاني بها مبرما فلذلك بطل .. وجاز الأول بعد إفضاء الخلافة إليه أن يعهد بها إلى غيره .. وإن مات من غير عهد جاز لأهل الاختيار اختيار غيره ..
ويرى ابن خلدون أن الأصل في انعقاد الإِمامة أن يكون باختيار أهل الحل والعقد .. إذ يقول في الفصل السادس والعشرين من مقدمته
(1)
: "وإذا تقرر أن نصب الإمام واجب بإجماع الصحابة والتابعين .. فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل الحل والعقد .. فيتعين عليهم نصبه ..
ويجب على الخلق جميعا طاعته لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
وكذلك يرى ابن خلدون أن الإمامة تنعقد بالعهد والاستخلاف من الإمام القائم لشخص صالح لإمامية وتتوفر فيه الشروط المعتبرة شرعا إذ يقول في الكلام على ولاية العهد في الفصل الثلاثين من المقدمة
(2)
:
"اعلم أنا قدمنا فالكلام في الإمامة ومشروعيتها لما فيه من المصلحة وأن حقيقتها للنظر في مصالح الأمة لدينهم ودنياهم فهو وليهم والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته .. ويقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويتقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل.
وقد عرف ذلك بإجماع الأمة على جوازه وانعقاده إذ وقع بعهد أبى بكر لعمر بن الخطاب - رضى الله عنهما - وبعهد عمر في الشورى إلى السنة وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين ..
هذه هي أقوال العلماء والمتكلمين فيما تنعقد به الإِمامة ويثبت حكمها للشخص .. وبالنظر في هذه الأقوال يتضح منها ما يأتى:
(1)
مقدمة ابن خلدون، الفصل السادس والعشرين صفحة 172.
(2)
المصدر السابق الفصل الثلاثين ص 187.
أولًا: أن صاحب المقاصد العلامة السعد التفتازانى لم يعد من طرق انعقاد الإمامة طريق العهد والاستخلاف مع أنه طريق ثابت بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم على صحة عهد أبى بكر لعمر - رضى الله عنهما - وإثبات إمامته بذلك والتزام طاعته .. ولم ينكر أحد ذلك ولا خرج عليه ..
ويمكن الجواب بأنه لم يعبر في كلامه بما يفيد انحصار طرق انعقاد الإِمامة فيما ذكره بل عبر بما يدل على أنه ذكر بعض الطرق فقط إذ قال: بل لابد من أمر آخر به تنعقد الإمامة .. وهى طرق .. منها متفق عليه ومنها مختلف فيه .. وساق البيان في الأمرين .. على أن السعد لا يخالف اعتبار العهد طريقا لإنعقاد الإمامة .. فقد تحدث في أكثر من موضع عن عهد أَبى بكر - رضى الله عنهما - وإجماع الصحابة على صحته واعتباره شرعا ..
وقد جعل ابن حزم طريق العهد على رأس الطرق وقال أنه أدلها وأفضلها وأصحها وهو في هذا يتسق مع رأيه في أن خلافة أبى بكر - رضى الله عنه - ثبتت بالاستخلاف من النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي قد عهد إليه بالخلافة بعده بنص صريح على ما سيأتي بيانه ..
ولم يشر ابن حزم فيما عده طرقا لانعقاد الإمامة إلى طريق البيعة والاختيار مع أنه متفق عليه ممن عدا الشيعة من الطوائف أهل السنة والمعتزلة والخوارج وبعض الزيدية ولم يحك أحد فيه خلافا إلا للشيعة القائلين بالنص بل أن السعد التفتازانى قال إن الإجماع قد انعقد على أن الاختيار والبيعة طريق لإِنعقاد الإمامة - لما اشتغل الصحابة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد مقتل عثمان باختيار الإمام وعند البيعة له من غير نكير من أحد ..
ومما يلفت النظر أن ابن حزم قال في ختام بيانه للطرق الثلاثة التي تنعقد بها الإمامة - وليس منها البيعة والاختيار (فبأحد هذه الوجوه تصح الإِمامة ولا تصح بغير هذه الوجوه البتة ..
ثانيًا: قال القاضي أبو الحسن الماوردى في حديثه عن طرق انعقاد الإمامة
(1)
من الأحكام السلطانية: "فلو تفرد في الوقت بشروط الإمامة واحد ولم يشرك فيها غيره تعينت فيه الإِمامة ولم يجز أن يعدل بها عنه إلى غيره ..
واختلف أهل العلم في ثبوت إمامته وانعقاد ولايته بغير عقد ولا اختيار ..
فذهب فقهاء العراق إلى ثبوت ولايته وانعقاد إمامته وحمل الأمة على طاعته وإن لم يعقدها أهل الاختيار لأن مقصود الاختيار تمييز المولى وقد تميز هذا بصفته ..
وذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن إمامته لا تنعقد إلا بالرضا والاختيار .. لكن يلزم أهل الاختيار عند الإمامة له. فإن اتفقوا أتموا لأن الإمامة عقد لا يتم إلا بعاقد ..
وكالقضاء إذا لم يكن من يصلح له إلا واحد لم يصر قاضيا حتى يولاه ..
ويقول السعد التفتازانى في شرح المقاصد في هذا الشأن: "اتفقت الأمة على أن الرجل لا يصير إماما بمجرد صلاحيته للإمامة واجتماع الشرائط المعتبرة شرعًا فيه، بل لابد من أمر آخر به تنعقد الإِمامة .. وهى طرق:
منها متفق عليه.
ومنها مختلف فيه".
وعبارة السعد عامة تشمل ما إذا تفرد الشخص بالصلاحية دون غيره .. بل أنها
(1)
الأحكام السلطانية ص 8.
لا تحمل إلا على ذلك لأنه لا يجيز تعدد الإِمام ..
وهو كما ترى يحكى اتفاق الأمة على ضرورة العقد، ومما يلفت النظر ويستدعى الوقوف عنده عدد من تنعقد بهم البيعة من أهل الحل والعقد ..
وقد رأينا من أقوال العلماء أنهم اختلفوا في ذلك اختلافا كبيرا إلى حد أن بعضهم قد ذهب إلى أنه يجب لإنعقاد الإمامة للشخص أن يبايعه جميع أهل الحل والعقد من المسلمين في جميع البلاد الإِسلامية والجهات التي يقيمون فيها مهما تباعدت أو تناءت ..
واكتفى بعضهم بجمهور أهل الحل والعقد .. وعلق ابن حزم على ذلك بأنه تكليف ما لا يطاق .. وإيقاع للمسلمين في الحرج .. ويؤدى إلى تعطيل مصالح المسلمين بما يستدعيه من طول الزمن .. وذهب بعضهم إلى الاكتفاء بواحد من أهل الحل والعقد .. قيل بثلاثة وقيل بخمسة .. وهى أقوال بالرغم من أن أصحابها قد التمسوا عليها الأدلة من واقع التاريخ أو القياس على بعض العقود .. فإنه يكفى لعدم التعويل عليها أنها لا تغنى في مقام تمثيل الأمة والتعبير عن رأيها في اختيار حاكمها ووكيلها في إدارة شئونها شيئًا بل أن هذه الأعداد لا تمثل إلا رأى أصحابها ..
وقد حاول ابن حزم أن يقيم دليلا من الإجماع في عهد الصحابة على أن الإِمامة تنعقد بواحد ..
فقال أن أهل الشورى الذين عهد إليهم عمر باختيار الإِمام من بينهم قد تبرءوا من الاختيار وجعلوه إلى واحد منهم يختار لهم وللمسلمين من رآه أهلا للإمامة وهو عبد الرحمن بن عوف وما أنكر ذلك أحد من الصحابة الحاضرين ولا الغائبين إذ بلغهم ذلك فقد صح إجماعهم على أن الإِمامة تنعقد بواحد ..
ولا يقال إن الجميع متفقون على اعتبار العهد والاستخلاف طريقا لإِنعقاد الإمامة وقام إجماع الصحابة على صحته .. وهو من شخص واحد وهو الإمام القائم، فكيف لا يعتبر رأى واحد أو ثلاثة أو خمسة في الاختيار والبيعة.
لا يقال ذلك لأن الإمام القائم لا يعتبر وكيلا عن الأمة في التصرف في شئونها كما سيأتي:
يعين الولاة والقضاة بولاية الأمة .. والأمة واثقة به ومفوضة إليه .. فهو حين يعهد يستحلف باسم الأمة وبولاية منها بخلاف من يختار ويبايع فليست لديه هذه الصفة ..
.. وقد علق بعض الكاتبين على البيعة التي جرت في سقيفة بنى ساعدة لأبى بكر الصديق - رضى الله عنه - بأنها لم تكن ممثلة لرأى الأمة الإِسلامية كلها إذ لم يشارك فيها إلا أعداد قليلة من المسلمين لم يتجاوز أهل المدينة .. وربما كان بعض أهل مكة ..
أما المسلمون جميعا في الجزيرة العربية كلها فلم يشاركوا في هذه البيعة ولم يشهدوها ولم يروا رأيهم فيها .. وإنما ورد عليهم الخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم مع الخبر باستخلاف أبى بكر - رضى الله عنه - .. وهذا الأسلوب في اختيار الحاكم لا يعتبر معبرا عن إرادة الأمة حقا ولا يرتفع إلى أنظمة الأساليب الديمقراطية في اختيار الحكام .. لقد فتح هذا الأسلوب في اختيار الحاكم أبوابا للجدل فيه والخلاف عليه ..
وهذه النظرة إلى البيعة نظرة من يرى أن الأسلوب الأمثل في أساليب النظم الديمقراطية هو الانتخاب المباشر الذي يكون الحق فيه مقررًا كحق لكل فرد متمتع بالحقوق السياسية والعامة
من أفراد الأمة متساويًا فيه مع سائر أفراد الأمة ..
ولم يفكر في أمر من الأساليب المعروفة والمقررة في النظم الديمقراطية تعيين رئيس الدولة وحاكمها بواسطة البرلمان المنتخب أو مجلس الشيوخ .. وأن هذا نوع من تمثيل الأمة والتعبير عن رأيها في اختيار الحاكم .. إذ أن أعضاء البرلمان هم ممثلو الأمة والمعبرون عن إرادتها .. في النظام الديمقراطى الآخذ بهذا الأسلوب ..
والنظرة الإِسلامية تجعل اختيار الإِمام وبيعته لأهل الحل والعقد في الأمة وهم في نظرة هذا النظام ممثلوا الأمة والمعبرون عن إرادتها .. وسيأتى بيان من هم أهل الحل والعقد .. ويبقى الكلام في عدد من يلزم اشتراكهم في البيعة من أهل الحل والعقد لتكون البيعة صادرة منهم ومعبرة عن إرادتهم وبالتالى تكون معبرة عن إرادة الأمة، وتنعقد بها الإِمامة شرعا ..
ولعل عبارة المحقق الكمال بن الهمام المتقى في المسايرة تلقى ضوء على هذا الموضوع وترشد إلى وجه الرأى فيه فقد قال: ويثبت عقد الإِمامة باستخلاف الخليفة إياه كما فعل أبو بكر - رضى الله عنه - باستخلاف عمر .. وأما ببيعة جماعة من العلماء أو جماعة من أهل الرأى والتدبر.
وعند الأشعرى يكفى الواحد من العلماء المشهورين من أولى الرأى بشرط كونه بمشهد شهود لدفع الإِنكار إن وقع .. وشرط المعتزلة خمسة .. "وذكر بعض الحنفية اشتراط جماعة دون عدد مخصوص".
هذه هي عبارة المسايرة .. وهى كما ترى تجعل الاختلاف والبيعة لأهل الحل والعقد الذين عبرت عنهم بالعلماء أو بأهل الرأى والتدبير على الخلاف في ذلك كما سيأتي:
وقالت ببيعة جماعة من هؤلاء أو من أولئك دون تحديد عدد معين .. أي جماعة تمثلهم وتعبر عن إرادتهم .. والذي وقع في سقيفة بنى ساعدة في بيعة أبى بكر الصديق - رضى اللّه عنه - كان تطبيقا لهذا الرأى ونموذجا لهذا الاتجاه .. إذ كان في المجتمعين المهاجرون والأنصار من الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا .. والمهاجرون والأنصار هم أكابر الصحابة والذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} .
أهل الحل والعقد:
ولكن من هم أهل الحل والعقد؟
يعطى التعبير في وضوح أنهم هم الذين بيدهم الحل والعقد والإِبرام والنقد في شئون الأمة وأمورها ويمكن الاعتماد عليهم في تدبير مصالحها العامة المتعلقة بمصيرها في شئون السياسة والاقتصاد والاجتماع والمال والحرب والسلم ويميل كثيرون إلى أن أهل الحل والعقد هم أهل الشورى الذين أقر الشارع بمشاورتهم في أمور الأمة الهامة أو أولو الأمر الذين أشار اللّه تعالى إليهم وأوجب طاعتهم في قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
وقد اختلف العلماء والمفسرون في تحديد المراد بأولى الأمر في الآية ..
فقيل أنهم العلماء المجتهدون يستنبطون الأحكام ويفتون الناس ويقضون في خصوماتهم ويعالجون مشاكلهم الدينية فتجب طاعتهم فيما يقررون في ذلك .. وقيل هم الأمراء والأئمة يقومون بحفظ الدين وإقامة حدود الله وينفذون أحكام الشريعة ويسوسون الأمة بأحكام الدين
ويلتزمون حدوده ومناهجه فتجب طاعتهم ..
وقيل هم أولو الرأى والتدبير والنظر في الشئون المختلفة كل في تخصصه واتجاهه يبحثون ويرسمون المناهج والخطط في مجالات الإصلاح وميادين العمل .. فيجب طاعتهم .. وقيل هم هؤلاء جميعا .. أقوال وآراء ..
وقد روى عن المغفور له الإِمام الشيخ محمد عبده أنه قال في تفسير هذه الآية كما جاء في تفسير المنار: "أن المراد بأولى الأمر هم جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم يجب أن يطاعوا فيه بشرط أن يكونوا منا (من المسلمين).
وأن لا يخالفوا كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت بالتواتر. وأن يكونوا مختارين في بحثهم الأمر واتفاقهم عليه .. وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة .. وهو ما لأولى الأمر سلطة فيه ووقوف عليه ..
أما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الدينى فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد .. بل هو مما يؤخذ عن الله ورسوله فقط .. وليس لأحد رأى فيه إلا ما يكون في فهمه".
.. ويقول المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت في كتابه "من توجيهات الإسلام"
(1)
في بيان أهل الحل والعقد: "وليضمن الإِسلام تنفيذ أوامره - أمر أن تكون في الأمة جماعة دائمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .. وهذه الجماعة غالبا ما تكون من أهل العلم والبصر بأمور الدين والدنيا ومن كل ذى رأى وخبرة في ناحية من نواحى الحياة ..
وكل فرد من المسلمين يرى نفسه أهلا للقيام بذلك فحق عليه كالصلاة والزكاة والصيام والحج .. أن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ..
والغرض من ذلك ضمان صلاح المسلمين في دينهم ودنياهم وتقويم المعوج من أمر هم .. وبهذا يتضامن أفراد الأمة جميعا في كفالة مصالحها ودفع الشر عنها، وكل فرد هذا شأنه مسئول عن صالح الأمة مسئولية تامة لا يخلصه منها إلا أداؤها واحتمال تبعاتها بصبر وأمانة ..
ومن هذه المسئولية ينشأ التضامن الجماعى بين الأمة وتنشأ مسئولية الجماعة عن أمورها كافة وتحمل من تبعة فساد أمرها مثل ما يحمله الحاكم الذي جرى الفساد على يديه إن لم تكن مسئولياتها أكبر وأخطر.
والاتجاه في الحديث عن أهل الشورى أو أهل الحل والعقد لا يختلف كثيرًا ويتلاقى في أن هذه أو تلك جماعة من أهل الرأى والتدبير والبصر بشئون الدين والدنيا تقوم إلى جانب الإِمام ويعتمد عليها في التوجيه ورسم مناهج الإِصلاح وخطط السير في مختلف نواحى الحياة بما تضمه من تخصصات ويتمثل فيها من اتجاهات ..
وقد رأينا أن العلماء قد اشترطوا في الإِمام أن يكون من العلم والإطلاع في مرتبة الاجتهاد ليكون على رأس هذه الجماعة يتابع نشاطها ويوجه أعمالها وأبحاثها ..
البيعة:
ثم ما هي البيعة التي عبر عنها عمر بن الخطاب - رضى الله تعالى عنه - بقوله لأبى بكر الصديق - رضى الله تعالى عنه -: "أمدد يدك
(1)
توجيهات الإسلام للشيخ محمود شلتوت، ص 563.
أبايعك" ووضع يده في يده ثم تابعه في ذلك بقية الصحابة الحاضرين في السقيفة والتي جرت على ألسنة العلماء والمؤلفين في هذا الباب واعتبروها طريقا لإِنعقاد الإمامة للشخص ..
يقول العلامة ابن خلدون في الفصل التاسع والعشرين من مقدمته
(1)
:
"اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شئ من ذلك .. ويطيعه فيما يكلف به من الأمر على المنشط والمكره (أي فيما يحبه من الأمر وينشط إليه وفيما يكرهه من ذلك وبتكليف فيه) وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدًا للعهد فاشتبه ذلك فعل البائع والمشترى فسمى بيعة مصدر باع ..
وصارت البيعة مصافحة بالأيدى - وهذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع .. وهو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وعند الشجرة وحيثما ورد هذا اللفظ. ومنه بيعة الخلفاء ومنه إيمان البيعة - كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك فسمى هذا الاستيعاب أيمان البيعة .. وكان الإِكراه فيها أكثر وأغلب ..
ولهذا لما أفتى مالك - رضى الله عنه - بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه ورأوها قادحة في إيمان البيعة ووقع ما وقع من محنة الإِمام - رضى الله عنه -
…
وأمَّا البيعة المشهورة لهذا العهد فهى تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل .. أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازًا لما كان هذا الخضوع في التحية والتزام الآداب من لوازم الطاعة وتوابعها وغلب فيه حتى صارت حقيقة عرفية واستغنى بها عن مصافحة أيدى الناس التي هي الحقيقة في الأصل لما في المصافحة لكل أحد من التنزل والابتذال المنافسين للرياسة وصون المنصب الملوكى إلا في الأقل ممن يقصد التواضع من الملوك فيأخذ به نفسه مع خواصه ومشاهير أهل الدين من رعيته فافهم معنى البيعة في العرف فإنه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حق سلطانه وإمامه ولا تكون أفعاله عبثا ومجانا .. واعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك .. والله القوى العزيز ..
ويشير ابن خلدون بقوله: وهو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة العقبة وعند الشجرة - إلى بيعة العقبة وبيعة الشجرة .. أما بيعة العقبة فكانت ثلاثا .. الأولى وكانت مع نفر من الخزرج من أهل المدينة وفدوا إلى مكة في موسم الحج ولقيهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعرض نفسه على القبائل وعرض عليهم الإسلام فأسلموا ..
والثانية: كانت في العام التالى مع اثنى عشر رجلا من الخزرج والأوس قبل أن يشرع الحرب والقتال فبايعهم بيعة النساء الواردة في سورة الممتحنة ..
والثالثة: وكانت في العام الذي يليه مع سبعين من الخزرج والأوس بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم ولهم الجنة .. ثم هاجر إليهم فيما بعد ..
وقال المحب الطبرى: إن الظاهر أن العقبة التي تضاف إليها الجمرة بمنى والتي جعل رميها مع بقية الجمار من شعائر الحج وهى على يسار
(1)
مقدمة العلامة ابن خلدون ص 186 وما بعدها.
الطريق لقاصد منى
(1)
. وأما بيعة الشجرة فهى بيعة الرضوان الذي نزل فيها قوله تعالى في سورة الفتح {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} .
وكانت هذه البيعة في الحديبية على مقربة من مكة لما نزل بها المسلمون وجرت مفاوضات الصلح مع مشركى مكة وأشيع أنهم قتلوا عثمان بن عفان رسول النبي إليهم .. فعاهد النبي المسلمين على قتالهم .. وأناب عن عثمان في البيعة بوضع يده في اليد الأخرى ..
والشجرة شجرة الطلح أمر عمر - رضى الله عنه - بقطعها لما رأى الناس يقصدون إليها ويصلون عندها وخاف عليهم الفتنة لقرب العهد بعبادة الأوثان ..
وتشير الآية الكريمة وفعل الرسول عليه السلام في تمثيل بيعة عثمان - رضى الله عنه - إلى التصافح بالأيدى عند البيعة وإنهاء العهد على الطاعة كما قال ابن خلدون:
هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع. فالبيعة عهد وميثاق بين طرفين أشبه بما يكون بين البائع والمشترى - الخليفة فيها طرف .. والمسلمون الطرف الآخر والتصافح فيها بالأيدى - تأكيد للعهد وشد للميثاق - يعطى كل من الطرفين من نفسه لصاحبه ويأخذ منه لنفسه كما يعطى المشترى الثمن ويسلم البائع المبيع .. يعطى المسلمين من أنفسهم السمع والطاعة وإخلاص النصح والتقويم والمعاونة والتأييد .. ويعطى الإمام التزام السير في سياسة المسلمين على طريق الدين ونهجه وعلى مقتضى كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والمحافظة على الدين وإقامة حدوده وتنفيذ أحكامه والنظر في المصالح العامة ..
وتصبح البيعة بعد إتمامها قيدًا وثيقا في أعناق الطرفين لا يملكون الفكاك منه أو الرجوع فيه إلا لسبب طارئ يقتضيه .. ومن ثم اختلف الفقهاء فيما إذا عزل الإِمام نفسه بدون سبب هل ينعزل أو لا؟ والأظهر أنه لا ينعزل
(2)
.
وقد روى أن أبا أبكر رضي الله عنه لما ساءه أن تخالفه الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تمام البيعة له قالت: لأدعون عليك عقب كل صلاة .. كان يطوف على الناس يطلب إليهم أن يقيلوه من بيعتهم في عنقه وأن يقيلهم من بيعته في عنقهم .. فلم يقبلوا ولم يعزل نفسه ولو جاز لفعل ..
أما الصورة التي تحولت إليها البيعة في عهد الملوك المكسروية واستمرت حتى صارت البيعة حقيقة عرفية كما يقول ابن خلدون: فهى صورة تتنافى مع أوضاع الدين وأحكامه ولا تتلاءم مع الكرامة الإِسلامية والإنسانية ..
ولاية العهد:
أما ولاية العهد فيقول فيها ابن خلدون: اعلم إنا قدمنا الكلام في الإِمامة ومشروعيتها لما فيها من المصلحة وأن حقيقتها للنظر في مصالح الأمة لدينهم ودنياهم.
فهو وليهم والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته ويتبع ذلك أن ينظره لهم بعد مماته ويقيم
(1)
سيرة الصالحى جـ 3 ص 267.
(2)
المقاصد جـ 2 ص 282.
لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل .. وقد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه وانعقاده إذ وقع بعهد أبى بكر - رضى الله عنه - لعمر - رضى الله عنه - بمحضر من الصحابة وأجازوه .. وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر - رضى الله عنه - وعنهم أجمعين ..
وكذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة بقية العشرة المبشرين بالجنة .. وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين .. ففوض بعضهم إلى بعض حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متفقين على عثمان - رضى الله عنهما - فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إياه على لزوم الاقتداء بالشيخين في كل ما يعن دون اجتهاده .. فانعقد أمر عثمان لذلك .. وأوجبوا طاعته .. والملأ من الصحابة حاضرون للأولى والثانية ولم ينكره أحد منهم ..
فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته .. والإِجماع حجة كما عرف ..
ولا يُتَّهمْ الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمون على النظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعة بعد مماته خلافا لمن قال باتهامه في الولد والوالد أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد - فإنه بعيد عن الظنة في ذلك كله لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقى مفسدة فتنتفى الظنة في ذلك رأسًا ..
كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد .. وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب ..
والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بنى أمية يومئذ لا يرضون سواهم .. وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع وأهل القلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع ..
وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا .. فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك .. وحضور أكابر الصحابة ذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك وعدالتهم مانعة منه، وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شئ من الأمور مباحًا كان أو محظورًا كما هو معروف عنه ..
ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير .. وتدور المخالف معروف ..
ثم أنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بنى أمية. والسفاح والمنصور والمهدى والرشيد من بنى العباس وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنظر إليهم، ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وأخواتهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك ..
فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع دينيا .. فعند كل أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثره على غيره، ووكلوا كل من يسموا ذلك إلى وازعه ..
وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك والوازع الدينى قد ضعف واحتيج إلى الوازع السلطانى والعُصْبَانى .. فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعا وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف
…
سأل رجل عليا رضي الله عنه: ما بال المسلمين اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبى بكر وعمر ..
فقال على: لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلى وأنا اليوم وال على مثلك ..
ويشير بذلك إلى وازع الدين .. أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى على بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا .. وكيف أنكرت العباسية ذلك ونقضوا بيعته وبايعوا لعمه إبراهيم بن المصرى وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعدد الثوار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر (يقضى عليه) حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده ..
فلابد من اعتبار ذلك في العهد، فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات وتختلف باختلاف المصالح ولكل واحد منها حكم يخصه لطفا من الله لعباده ..
وأما أن يكون العهد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية إذ هو أمر من اللّه يخص به من يشاء من عباده وينبغى أن تحسَّن فيه النية ما أمكن خوفا من العبث بالمقاصد الدينية، والملك لله يؤتيه من يشاء ..
وقد عرضت هنا أمور تدعو الضرورة إلى بيان الحق فيها.
منها: ما حدث في يزيد بن معاوية من الفسق أيام خلافته .. فإياك أن تظن بمعاوية - رضى الله عنه - أنه علم ذلك من يزيد قبل العهد إليه فإنه أعدل من ذلك وأفضل. بل كان يعذله (يلومه) أيام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه وهو أقل من ذلك وكانت مذاهبهم فيه مختلفة، ولما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه.
فمنهم من رأى الخروج عليه، ونقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير - رضى الله عنهما - ومن اتبعهما في ذلك ..
ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به لأن شوكة يزيد حينئذ هي عصابة بنى أمية وجمهور أهل الحل والعقد من قريش وتستتبع عصبية مضر أجمع وهى أعظم من كل شوكة ولا تطاق مقاومتهم فاقتصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الوفاء بهدايته والراحة منه ..
وهذا كان شأن جمهور المسلمين والكل مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم في البر وتحرى الحق معروفة .. ونكتفى بهذا القدر مما ذكره ابن خلدون في ولاية العهد ..
هل تنعقد الخلافة بالغلبة والقهر
؟
جاء في شرح المقاصد لسعد الدين التفتازانى
(1)
وتنعقد الإِمامة بطرق:
الأول: بيعة أهل الحل والعقد.
الثاني: استخلاف الإمام وعهده لشخص بالإمامة بعده. وإذا جعل الإِمام الأمر في شأن الإمامة شورى بين جماعة فهو بمنزلة
(1)
شرح المقاصد لسعد الدين التفتازانى جـ 2 ص 271.
الاستخلاف إلا أن الشخص المستخلف في هذه الحالة غير معين - فيتشاور أهل الشورى فيما بينهم ويتفقون على أحدههم - وإذا خلع الإمام نفسه لسبب يقتضيه كان كموته فينتقل الأمر إلى ولى العهد بعده.
الثالث: القهر والاستيلاء .. فإذا مات الإمام وتصدى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة ولا استخلاف وقهر الناس بشوكته .. انعقدت الخلافة له - وكذا إذا كان فاسقا أو جاهلا على الأظهر .. إلا أنه يكون عاصيا بما فعل .. ولا يعتبر الشخص إماما بنفرده بشروط الإمامة ..
وتجب طاعة الإمام ما لم يخالف حكم الشرع سواء كان عادلًا أو جائرًا .. ولا يجوز نصب إمامين في وقت واحد على الأظهر .. وإذا ثبت الإمام بالقهر والغلبة .. ثم جاء آخر فقهره - انعزل وصار القاهر الثاني إمامًا .. وقال في موضع آخر عند حديثه عما ينعزل به الإمام: "ومن صار إماما بالقهر والغلبة ينعزل بأن يقهره آخر ويغلبه".
وجاء في شرح الدر المختار على تنوير الأبصار .. وحاشية ابن عابدين على هذا الشرح: "وتصح سلطنة متغلب للضرورة" .. أي من تولى بالقهر والغلبة بلا مبايعة أهل الحل والعقد وإن استوفى الشروط المارة تصح إمامته للضرورة وتجب طاعته دفعا للفتنة ولقوله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشى أجدع" وأفاد هذا الكلام أن الأصل في الإمامة أن تكون بالتقليد قال في المسايرة للكمال بن الهمام: ويثبت عند الإمامة إما باستخلاف الخليفة القائم إياه كما فعل أبو بكر - رضى اللّه عنه - لما استخلف عمر - رضى الله عنه - .. وإما ببيعة جماعة من العلماء أو جماعة من أهل الرأى والتدبير .. وعند الأشعرى: يكفى الواحد من العلماء المشهورين من أولى الرأى بشرط كونه بمشهد شهود لدفع الإنكار إن وقع .. وشرط المعتزلة خمسة - وذكر بعض الحنفية اشتراط جماعة دون عدد مخصوص ..
ويروى عن الإمام أحمد - رضى الله عنه - قوله: "وعن غلبهم - أي المسلمين - بالسيف صار خليفة. وسمى أمير المؤمنين. ولا يحل لأحد يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه - برًّا كان أو فاجرًا".
ونقل عن القاضي ابن جماعة الدمشقى المتوفى سنة 1333 م قوله: "وتنعقد الإمامة بطرق":
الطريق الأول: البيعة من أهل الحل والعقد دون اشتراط عدد معين على الأظهر ..
الطريق الثالث: استخلاف الإمام القائم وعهده لشخص بالإمامة بعده ومنه جعل الأمر في تعيين الإِمام شورى بين جماعة يتشاورون فيما بينهم ويتفقون على تعيين أحدهم.
الطريق الثالث: الذي تنعقد به الإمامة فهو قهر صاحب الشوكة وغلبته. فإذا خلا الوقت من إمام فتصدى للإمامة من هو من أهلها وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف انعقدت إمامته ولزمت طاعته لينتظم شمل المسلمين وتجتمع كلمتهم ..
ولا يقدح في ذلك كونه جاهلًا أو فاسقًا .. وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد .. ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده انعزل الأول وصار الثاني إمامًا لما قدمناه من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم .. ولذلك قال ابن عمر
رضى اللّه عنه في أيام الحرة: "نحن مع من غلب".
ويرى الفيلسوف ابن خلدون أن الإِمامة تنعقد لمن غلب بالشوكة والعصبية ومن ثم فإنه يرى أن انتقال الخلافة إلى الملك أمر طبيعى إذا كان الملك يستند دائما إلى العصبية التي هي القوة الغالبة في الحياة .. وأن خلافة الأمويين في الأعم الأغلب والعباسيين قامت على العصبية والتغلب والقهر بها. وانعقد الأمر لهم وقيل لهم الخلفاء وأمراء المؤمنين ..
وقد عقد لذلك فصلا طويلا هو الفصل الثامن والعشرون في انقلاب الخلافة إلى الملك (1) بعد أن تحدث عن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماتها وطابعها إلى نهاية عهد الخلفاء الراشدين:
"ولما جاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلنا وحصل التغلب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه والاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التغلب في باطل .. ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة ومذاهب الحق ..
ولما وقعت الفتنة بين على ومعاوية - رضى الله عنهما - وهى مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد .. ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوى أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمه متوهم أو ينزع إليه ملحد ..
وإنما اختلف اجتهادهم في الحق وسفه كل واحد منهما نظر صاحبه باجتهاده في الحق فاقتتلوا عليه وإن كان المصيب عليا فلم يكن معاوية قائما فيها بقصد الباطل .. إنما قصد الحق وأخطأ .. والكل كانوا في مقاصدهم على حق ..
ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به .. ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها واستشعرته ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتضاء الحق بين أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه ..
ولو حملهم معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالإِثم لوقع في افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة.
وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: إذا رأى القاسم بن محمد بن أبى بكر: لو كان لى من الأمر شئ لوليته الخلافة. ولو أراد أن يعهد إليه لفعل .. ولكنه كان يخشى من بنى أمية أهل الحل والعقد فلا يقدر أن يحول الأمر عنهم لئلا تقع الفرقة وهذا كلمه إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية ..
وكذلك كان مروان بن الحكم وابنه وإن كانوا ملوكًا لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغى إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم ..
ثم جاء خلفهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم.
فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم وأدالوا بالدعوة العباسية منهم وولى العباسيون الأمر فكانوا من العدالة بمكان وصرفوا الملك في دعوة الحق ومذاهبه ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد فكان منهم الصالح والطالح ..
ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والترف حقه .. فتأذن الله بحربهم وانتزاع الأمر من يد العرب جملة .. وأمكن سواهم .. والله لا يظلم مثقال ذرة ..
فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولا .. ثم التبست معانيهما واختلطت ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة والله مقدرًا الليل والنهار .. وهو الواحد القهار ..
يقول ابن حزم في كتابه: الفصل في الملل والأهواء والنحل (1): فالواجب النظر في ذلك (فيما تنعقد به الإِمامة) على ما أوجبه الله تعالى في القرآن والسنة وإجماع المسلمين كما افترض علينا عز وجل إذ يقول:
فوجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه:
الأول: وأفضلها وأصحها أن يعهد الإِمام الميت إلى إنسان يختاره إماما بعد موته وسواء فعل ذلك في صحته أو في مرضه وعند موته إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى بكر - رضى الله عنه - وكما فعل أبو بكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره لما في هذا الوجه من اتصال الإِمامة وانتظام أمر الإِسلام وأهله ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ومن انتشار الأمر وارتفاع النفوس، وحدوث الأطماع.
الثاني: إن مات الإمام ولم يعهد إلى أحد أن يبادر رجل مستحق للإمامة فيدعو إلى نفسه ولا منازع له ففرض أتباعه والانقياد لبيعته والتزام طاعته وإمامته كما فعل على إذ قتل عثمان - رضى اللّه عنهما -.
الثالث: أن يصير الإمام عند اختيار خليفة المسلمين إلى رجل ثقة أَو إلى أكثر من واحد كما فعل عمر - رضى اللّه عنه - عند موته وليس عندنا في هذا الوجه إلا التسليم لما أجمع عليه المسلمون حينئذ - وليس في كلام ابن حزم ما يشير إلى اعتباره الغلبة والقهر طريقا لانعقاد الإِمامة ..
ويتساءل البعض هنا .. إذا كان الفقهاء يعتبرون السيف والقوة والغلبة طريقا لانعقاد الخلافة ويرجعون على المسلمين التسليم والخضوع والطاعة لهذا المتغلب - فأين الدين إذن وأين سلطانه ومقرراته وأحكامه إذا كانت الخلافة تخضع لحكم القوة ولا تجد من الدين الذي قررها وقرر أحكامها معتصما تعتصم به وركنا تأوى إليه يحاذره ويرتد عنه كل ذى قوة وذى بطش يريد العبث .. وكيف يراد من مثل هذا المتغلب أن يخضع لحكم الدين في سيره وأحكامه؟ أنه لن ينزل إلا على حكم السيف والقوة والعصبية ..
ويجاب بأن الفقهاء الذين اعتبروا الغلبة والقهر طريقا إنما أرادوا بذلك البعد عن وقوع المسلمين في فتنة قد تؤدى إلى فرقة وانقسام واختلاف وقد تؤدى إلى وقوع قتال وحرب بين المسلمين مما لا يعلم نتائجه إلا الله تعالى ..
وقد صرح صاحب الدر المختار وابن عابدين بأن ذلك للضرورة وخوف الفتنة .. وساق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا ولو ولى عليكم عبد حبشى أجدع" وأشار إلى أن هذا طريق استثنائى أجيز انعقاد الخلافة به دفعا للفتنة والشر
عن المسلمين وأن الأصل في انعقادها التقليد بالبيعة من أهل الحل والعقد أو الاستخلاف والعهد من الإمام القائم.
وافترضوا في هذا المتغلب أنه أهل للخلافه ومستوف لشروطها. وإن كانوا اغتفروا أن يكون فاسقا أو جاهلا لأن البعض لا يرى اشتراط ذلك في الخليفة ..
وقد أشار العلامة السعد التفتازانى في عبارته في المقاصد إلى ما ينعزل به الخليفة وقال: إن المتغلب بالقهر ينعزل إذا تغلب عليه متغلب آخر ويصير هذا المتغلب الآخر هو الخليقة - ولا شك أنه لو تغلبت عليه الأمة وقهرته ينعزل كذلك وتولى إماما بالطريق المقرر - وكلام السعد هذا يشير إلى أن للخليفة المتغلب بالقهر وضعا آخر ..
وفى عبارة القاضي ابن جماعة التي نقلناها سابقا يعلل انعقاد إمامة المتغلب بالقهر والشوكة بقوله: "لينتظم شمل المسلمين وتجتمع كلمتهم" وقوله: "لما قدمناه من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم" أي أن العلة في ذلك اتقاء فتنة تفرق كلمة المسلمين وتمزق شملهم".
ومن القواعد الشرعية التي استنبطها الفقهاء وأصبحت كالخبر المتواتر واتفق على اعتبارها أساسًا شرعيًا لبقاء الأحكام عليها قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" وقاعدة "الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف".
والمفروض أن الوضع في إمامة المتغلب بالقهر والشوكة .. أن لهذا المتغلب شوكة وقوة وعصبية تقف وراءه وتقاتل دونه فليس فيما ذهب إليه الفقهاء من اعتبار خلافة المتغلب والتزامها خروج بالخلافة عن طبيعتها ومكانها في الدين إلى مجال الأوضاع المدنية والنظم السياسية التي أخذت بها الأمم في رياسات الدولة بعيدًا عن مجال الدين وجانب الشرعية .. وليس فيه ما يصلح عذرًا للفرار بالخلافة عن وضعها الشرعى الحقيقى ..
هل نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إمام بعده
؟
جاء في شرح المقاصد لسعد الدين التفتازانى
(1)
:
ذهب جمهور أصحابنا والمعتزلة والخوارج إلى أن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمام بعده مطلقا ..
وقيل نص على أبى بكر - رضى اللّه عنه - .. فقال الحسن البصرى نصا خفيا وهو تقديمه إياه في الصلاة .. وقال بعض أصحاب الحديث نصا جليًا وهو ما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: ائتونى بدواة وقرطاس أكتب لأبى بكر كتابا لا يختلف فيه اثنان .. ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ..
وقيل: نص على عليّ رضي الله عنه وهو مذهب الشيعة ..
أما النص الخفى وهو الذي لا يعلم المراد منه بالضرورة فباتفاق الشيعة الإمامية والزيدية .. وأما النص الجلى عند الإمامية دون الزيدية وهو قوله صلى الله عليه وسلم: سلموا عليه بأمرة المؤمنين .. وقوله صلى الله عليه وسلم مشيرا إلى على وآخذا بيده: هذا خليفتى فيكم من بعدى فاسمعوا له وأطيعوا له .. وقوله: أنت الخليفة من بعدى .. وقوله وقد جمع بنى عبد المطلب: أيكم يبايعنى ويوازرنى يكن أخى ووصى وخليفتى من بعدى فبايعه على رضي الله عنه ثم استدل أهل الحق بطريقين:
(1)
شرح المقاصد جـ 2 ص 283 وما بعدها.
الطريق الأول: أنه لو كان نص جلى ظاهر المراد في مثل هذا الأمر الخطير المتعلق بمصالح الدين والدنيا لعامة الخلق لتواتر واشتهر فيما بين الصحابة وظهر لدى أجلتهم الذين لهم زيادة قرب النبي صلى الله عليه وسلم واختصاص بهذا الأمر بحكم العادة واللازم منتف .. وإلا لم يتوقفوا عن الانقياد لهذا النص والعمل بموجبه ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بنى ساعدة لتعيين الإمام ولم يقل الأنصار منا أمير ومنكم أمير ..
ولم تمل طائفة إلى أبى بكر رضي الله عنه وأخرى إلى على رضي الله عنه .. وأخرى إلي العباس رضي الله عنه .. ولم يقل عمر - رضى الله عنه - لأبى عبيدة رضي الله عنه أمدد يدك أبايعك .. ولما ترك المنصوص عليه محاجة القوم ومخاصتهم وإدعاء الأمر له والتمسك بالنص عليه
…
فإن قيل: علموا ذلك وكتموه لأغراض لهم في ذلك كحب الرياسة والحقد على عليٍّ - رضى اللّه عنه - لقتله أقرباءهم وعشائرهم في حرب المسلمين مع الكفار وحسدهم إياه على ما له من المناقب ولكمالات وشدة الاختصاص بالنبى صلى الله عليه وسلم وأظنهم أن النص قد لحقه النسخ لما رأوا ترك كبار الصحابة العمل به إلى غير ذلك وترك على - رضى اللّه عنه - المحاجة به تقية وخوفا من الأعداء وقلة وثوق بقبول الجماعة ..
قلنا: من كان له حظ من الديانة والإِنصاف علم قطعا براءة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلالة أقدارهم عن مخالفة أمره في مثل هذا الخطب الجليل ومتابعة الهوى وترك الدليل واتباع خطوات الشيطان والضلال عن سواء السبيل .. وكيف يظن بجماعة - رضى اللّه عنهم - وآثرهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة دينه ووصفهم بكونهم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ..
وقد تواتر منهم الإعراض عن متاع الدنيا وطيباتها وزخارفها ومستلزماتها والإقبال على بذل مهجهم وذخائرهم ونقل أقاربهم وعشائرهم في نصرة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإقامة شريعته وإنقياد أمل واتباع طريقته .. كيف يظن بهؤلاء أنهم خالفوه قبل أن يدفنوه وتركوا هداهم واتبعوا هواهم وعدلوا عن الحق الصحيح إلى الباطن الصريح وخذلوا مستحقا من بنى هاشم، وخاص ذوى القربى، إلى غاصب من بنى تميم أو عدى بن كعب ..
وأن مثل على - رضى اللّه عنه - مع صلابته في الدين وبساطته وشدة شكيمته وقوة عزيمته وعلو شأنه وكثرة أعوانه وكون أكثر المهاجرين والأنصار والرؤساء الكبار معه قد ترك حقه وسلم الأمر لمن لا يستحقه من شيخ من بنى تميم ضعيف الحال عديم المال قليل الأتباع والأشياع .. ولم يقم بأمره وطلب حقه كما قام به حين أفضت النوبة إليه وقاتل من نازعه بكلتا يديه حتى فنى الخلق الكثير والجم الغفير ..
وآثر على التقية الحمية في الدين والعصبية للإسلام والمسلمين مع أن الخطب إذ ذاك أشد .. والخصم ألد .. وفى أول الأمر قلوب القوم أرق وجانبهم أسهل وآراؤهم إلى اتباع الحق واجتناب الباطل أميل ..
وعهدهم بالنبى صلى الله عليه وسلم أقوى وهممهم في تنفيذ أحكامه أرغب ..
ومن ادعى النص الجلى فقد طعن في كبار المهاجرين والأنصار عامة بمخالفة الحق وكتمانه وفى على - رضى الله عنه - خاصة بإتباع الباطل وإذعانه .. بل في النبي صلى الله عليه وسلم حيث اتخذ القوم
أحبابا وأصحابا وأعوانا وأنصارا وأختانا وأصهارا مع علمه بحالهم في ابتدائهم ومآلهم .. بل في كتاب الله تعالى حيث أثنى عليهم وجعلهم خير أمة ووصفهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ..
ومن مكابرات الروافض ادعاؤهم تواتر هذا النص قرنا بعد قرن مع أنه لم يشتهر فيما بين الصحابة والتابعين .. ولم يثبت ممن يوثق به من المحدثين مع شدة ميلهم إلى أمير المؤمنين ونقلهم الأحاديث الكثيرة في مناقبه وكمالاته في أمر الدنيا والدين .. ولم ينقل عنه رضي الله عنه في خطبه ورسائله ومفاخره إشارة إلى ذلك وابن جرير الطبرى مع اتهامه بالتشيع لم يذكر في روايته قصة الدار الزيادة التي يدعيها الشيعة .. وهى قوله صلى الله عليه وسلم أنه خليفتى فيكم من بعدى ..
الطريق الثاني: روايات وأمارات ربما تفيد باجتماعها القطع بعدم النص من الرسول على إمام بعده .. وهى كثيرة لقول العباس لعلى - رضى الله عنهما -: أمدد يدك أبايعك .. فيقول الناس: هذا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان ..
وقول عمر - رضى الله عنه - لأبى عبيدة - رضى الله عنه -: أمدد يدك أبايعك .. وقول أبى بكر رضي الله عنه في السقيفة: بايعوا عمر أو أبا عبيدة .. وقوله: وددت أنى سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر فيمن هو ركنا لا ننازعه .. وكدخول على - رضى الله عنه - في الشورى .. فإنه رضاء منه بإمامة أيهم كان ..
وقد احتج المخالف بأنه يستحيل عادة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يهمل مثل هذا الأمر الجليل وقد بين ما هو بالنسبة إليه أقل من القليل .. والجواب أن ترك النص الجلى على واحد بالتعيين ليس إهمالا .. بل تفويض معرفة الأحق الأليق إلى آراء أولى الألباب واختيار أهل الحل والعقد من الأصحاب وأنظار ذوى البصيرة بمصالح الأمور وتدبير سياسة الجمهور مع التنبيه على ذلك بخفيف الإِشارة ولطيف العبارة - نوع بيان لا يخفى حسنة على أهل العرفان ..
وجاء في الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهرى
(1)
: قد اختلف الناس في الإِمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل استخلف إماما بعده أو لا؟ ..
فقالت طائفة: أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدًا ثم اختلفوا فقال بعضهم: لكن لما استخلف أبا بكر رضي الله عنه في الصلاة في مرضه كان ذلك دليلا على أنه أولاهم بالإِمامة والخلافة على الأمور .. وقال بعضهم: لا.
ولكن كان أبينهم فضلا فقدموه لذلك .. وقالت طائفة: بل نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على استخلاف أبى بكر بعده على أمور الناس نصا جليا ..
قال أبو محمد: وبهذا نقول البراهين:
أحدها: أطباق الناس كلهم وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فقد أطبق هؤلاء الذين شهد اللّه لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار - رضى اللّه عنهم - على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هؤلاء يجوز غير هذا البتة في اللغة بلا خلاف: نقول: استخلف
(1)
الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهرى جـ 4 ص 87 وما بعدها طبع محمد على صبيح.
فلان فلانا يستخلفه فهو خليفته ومستخلفه .. فإن قام مكانه دون أن يستخلفه هولم يقل إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف .. ولا يقال: احتمل أن يتصدوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لوجهين ضرورين:
الأول: أنه لا يستحق أبو بكر هذا الاسم على الإِطلاق في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حينئذ خليفته على الصلاة فصح يقينا أن خلافته المسمى بها هي غير خلافته على الصلاة ..
الثاني: أن كل من استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حياته كعلى في غزوة تبوك وابن مكتوم في غزوة الخندق، وعثمان بن عفان في غزوة ذات الرقاع وسائر من استخلفهم على البلاد باليمن والبحرين والطائف وغيرها - لم يستحق أحد منهم قط بلا خلاف من أحد من الأمة أن يسمى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإِطلاق ..
فصح يقينا بالضرورة التي لا محيد عنها أنها للخلافة بعده على أمته ومن الممتنع أن يجتمعوا على ذلك وهو عليه الصلاة والسلام لم يستخلفه نصا .. ولو لم يكن هاهنا إلا استخلافه إياه على الصلاة ما كان أبو بكر أولى بهذه التسمية من غيره ممن ذكرنا ..
وهذا برهان ضرورى نعارض به جميع الخصوم .. وأيضا فإن الرواية قد صحت بأن امرأة قالت: يا رسول الله! أرأيت إن رجعت ولم أجدك كأنها تريد الموت .. فقال لها: إئتِ أبا بكر .. وهذا نص جلى على استخلاف أبى بكر وأيضًا فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة - رضى الله عنها - في مرضه الذي توفى فيه عليه السلام: لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك فأكتب كتابا وأعهد عهدا كليلا .. يقول قائل: أنا أحق .. أو يتمن متمن .. وبأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر .. وروى أيضا: ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر .. فهذا نص جلى على استخلافه صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه على ولاية الأمة بعده.
قال أبو محمد: ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا لطاروا به فرحا أو أبلسوا أسفا لاحتججنا بما روى .. اقتدوا بالذين من بعدى أبى بكر وعمر لكنه لم يصح ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح ..
قال أبو محمد: واحتج من قال: لم يستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا بعده على الإمامة بالخبر المأثور عن عبد اللّه بن عمر عن أبيه أنه قال عندما طعنه أبو لؤلؤة وطلب منه المسلمون أن يستخلف عليهم: أن استخلف فقد استخلف من هو خير منى يعنى أبا بكر ..
وإن لا استخلف فلم يستخلف من هو خير مني .. يعنى: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .. وبما روى عن عائشة: أمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا لو استخلف .. فمن المحال أن يعارض الإِجماع الذي ذكرنا والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من لفظه يمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة - رضى الله عنهما - مما لا يقوم به حجة وما ليس له وجه ظاهر من أن هذا الأثر خفى على عمر - رضى الله عنه - كما خفى عليه كثير من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كالاستئذان وغيره .. أو أنه أراد استخلافا مكتوبا ..
ونحن نقر أن استخلاف أبى بكر لم يكن بكتاب مكتوب .. وأما الخبر في ذلك عن عائشة. فكذلك نصا .. وقد يخرج كلامها على سؤال سائل ..
وإنما الحجة في روايتها لا في قولها .. وأما من ادعى أنه إنما قدم أبو بكر قياسًا على
تقديمه في الصلاة فباطل بيقين لأنه ليس كل من استحق الإمامة في الصلاة يستحق الإمامة في الخلافة .. إذ يستحق الإمامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجميا أو عربيا ولا يستحق الخلافة إلا قرشى فكيف والقياس كله باطل ..
وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية استدلال ابن حزم على استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بعده بأن الخليفة من يستخلفه غيره لا من يخلف غيره وإن لم يستخلفه .. فقال في منهاج السنة
(1)
: أن الخليفة إما أن يكون معناه أن يخلف غيره وإن كان لم يستخلفه كما هو المعروف في اللغة وهو قول الجمهور.
وإما أن يكون معناه من استخلفه غيره كما قاله طائفة من أهل الظاهر والشيعة ونحوهم .. قالوا: والخليفة إنما يقال لمن استخلفه غيره فاعتقدوا أن الفعيل بمعنى المفعول فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف على أمته والذين نازعوهم في هذه الحجة قالوا: الخليفة يقال لمن استخلفه غيره ولمن خلف غيره فهو فعيل بمعنى فاعل ..
وأما ما استدل به ابن حزم من الأثرين اللذين ذكرهما .. فإن ما ذكره السعد التفتازانى في شرح المقاصد فيه الرد الواضح على ذلك ..
وجاء في مقدمة ابن خلدون من الفصل الثامن والعشرين
(2)
: وهكذا كان شأن الصحابة رضى اللّه عنهم في رفض الملك وأحواله ونسيان عوائده حذرا من القياس بالباطل ..
فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرض الذي توفى فيه استخلف أبا بكر رضي الله عنه على الصلاة إذ هي أهم أمور الذين .. وارتضاه الناس للخلافة .. وهى حمل الكافة على أحكام الشريعة ولم يجر للملك ذكر طائفة مظنة للباطل وتحله يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدين
…
فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعا سنن النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام .. ثم عهد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاقتفى أثره .. ثم صارت إلى عثمان بن عفان ثم على رضي الله عنهما والكل متبرءون من الملك متنكبون طريقه".
وجاء فيها من الفصل الثلاثين
(3)
:
"وأما شأن العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم وما تدعيه الشيعة من وصيته لعلى رضي الله عنه فإنه أمر لم يصح .. ولا نقله أحد من أئمة النقل .. والذي وقع في الصحيح من طلب النبي صلى الله عليه وسلم الدواة والقرطاس ليكتب الوصية وأن عمر منع من ذلك - دليل واضح على أنه لم يقع .. وكذا قول عمر رضي الله عنه حين طُعن وسُئل في الدين فقال: إن أعهد فقد عهدت من هو خير منى يعنى أبا بكر رضي الله عنه ..
وإن أترك فقد ترك من هو خير منى يعنى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لم يعهد .. وكذلك قول على للعباس - رضى اللّه عنهما - حين دعاه للدخول إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه عن شأنهما في العهد .. فأبى على من ذلك وقال: إنه إن شئت منها فلا تطمع فيها آخر الدهر .. وهذا دليل على أن عليا علم أنه لم يوصى ولا عهد إلى أحد ..
وشبهة الإمامة في ذلك إنما هي كون الإمامة عندهم من أركان الدين كما يزعمون وليس كذلك .. وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق .. ولو كانت من أركان الدين
(1)
منهاج السنة جـ 2 ص 175.
(2)
مقدمة ابن خلدون ص 182 طبع كتاب الشعب.
(3)
المصدر السابق الفصل الثلاثين ص 189.
لكان شأنها شأن الصلاة ولكان يستخلف فيها كما استخلف أبو بكر في الصلاة ولكان يشتهر ذلك كما أشتهر أمر الصلاة ..
واحتجاج الصحابه على خلافة أبى بكر بقياسها على الصلاة في قولهم: ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ دليل على أن الوصية لم تقع ويدل على ذلك أيضا على أن أمر الإمامة والعهد بها لم يكن مهما كما هو اليوم ..
وشأن العصبية المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجارى العادة لم يكن يؤمئذ بذلك الاعتبار لأن أمر الدين الإسلامي كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه واستماتة الناس دونه ..
وذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم وتردد خبر السماء بينهم وتجدد خطاب الله في كل حادثة تتلى عليهم فلم يُحتَج إلى مراعاه العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة والأحوال الإلهية الواقعة والملائكة المترددة التي وجموا منها ودهشوا من تتابعها فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبية وسائر هذه الأنواع مندرجا في ذلك القبيل كما وقع .. فلما انحسر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثم بفناء القرون الذين شاهدوها فاستحالت تلك الصبغة قليلا قليلا وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان فاعتبروا العصبية ومجارى العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح والمفاسد وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهمًا من المهمات الأكيدة كما زعموا ولم يكن ذلك من قبل ..
فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم غير مهمة فلم يعهد فيها لأحد من بعده، ثم تدرجت الأهمية زمان الخلافة بعض الشئ بما دعت الضرورة إليه في الحماية والجهاد وشأن الردة والفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل والترك كما ذكرناه عن - عمر رضى الله عنه - ..
ثم صارت اليوم "عهد ابن خلدون" من أهم الأمور للألفة على الحماية والقيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبية التي هي سر الوازع عن الفرقة والتخاذل ومنشأ الاجتماع والتوافق الكفيل بمقاصد الشريعة وأحكامها.
إمامة المفضول مع وجود الأفضل:
جاء في شرح المقاصد للسعد التفتنازانى
(1)
في الكلام على شروط الشيعة الإمامية في الإمام .. ومنها أن يكون أفضل أهل زمانه لأن قبح تقديم المفضول على الأفضل في إقامة قوانين الشريعة وحفظ حوزة الإسلام معلوم للعقلاء .. ولا ترجيح في تقديم المساوى ..
ونقل مثل ذلك عن الأشعرى حتى لا تنعقد إمامة المفضول مع وجود الأفضل لأن الأفضل أقرب إلى انقياد الناس له واجتماع الآراء على متابعته .. ولأن الإمامة خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجب أن يطلب لها من له رتبة أعلى قياسا على النبوة ..
وأجيب بأن القبح بمعنى استحقاق تاركه الذم والعقاب عند الله ممنوع .. وبمعنى عدم ملاءمته بمجارى العقول والعادات غير مفيد مع أنه أيضا في حيز المنع إذ ربما يكون المفضول أقدر على القيام بمصالح الدين والملك .. ونصبه أوفق لانتظام حال الرعية .. وأوفق في اندفاع الفتنة .. وهذا بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مبعوث من العليم الحكيم الذي يختار من يختار من عباده
(1)
شرح المقاصد للسعد التفتازانى جـ 2 ص 278.
لنبوته ويوحى إليه مصالح الملك والملة. ويراه أهلا لتبليغ ما أوحى إليه بمشيئته فيدل ذلك قطعا على أفضليته وإليه الإِشارة بقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .. وقد يحتج لجواز تقديم المفضول بوجوه:
الأول: إجماع العلماء بعد الخلفاء الراشدين على انعقاد الإِمامة لبعض القرشيين مع أن فيهم من هو أفضل منه.
الثاني: أن عمر - رضى الله عنه - جعل الإمامة شورى بين ستة من غير تكبر عليه مع أن فيهم عثمان وعليا وهما أفضل من غيرهما إجماعًا .. ولو وجب تعيين الأفضل بينهما.
الثالث: أن الأفضلية أمر خفى قلما يطلع عليه أهل الحل والعقد .. وربما يقع فيه النزاع ويتشوش الأمر .. وإذا أنصفت فيتعين الأفضل متعسر في أقل فرقة من فرق الفاضلين فكيف في قريش مع كثرتهم وتفرقهم في الأطراف .. وأنت خبير بأن هذا وأمثاله على تقدير تمامه إنما يصلح لاحتجاج به على أهل الحق دون الروافض فإن الإِمام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق ..
وجاء في الفصل بين الملل والأهواء والنحل
(1)
الكلام في إمامة المفضول: قال أبو محمد:
ذهبت طوائف من الخوارج وطوائف من المعتزلة، وطوائف من المرجئة منهم محمد بن الطيب الباقلانى ومن اتبعه وجميع الرافضة من الشيعة إلى أنه لا تجوز إمامة من يوجد في الناس من أفضل منه ..
وذهبت طائفة من الخوارج وطائفة من المعتزلة وطائفة من المرجئة وجميع الزيدية من الشيعة وجميع أهل السنة إلى أن الإِمامة جائزة لمن غيره أفضل منه .. قال أبو محمد:
وأما الرافضة فقالوا: إن الإِمامة لواحد معروف في العالم على ما ذكرنا من أقوالهم التي قد تقدم أفادنا لها والحمد لله رب العالمين ..
وربما نعلم لمن قال: إن الإمامة لا تجوز إلا لأفضل من يوجد - حجة أصلا لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من صحة عقل ولا من قياس ولا قول صاحب ..
وما كان هكذا فهو أحق قول بالإِجماع ..
وقد قال أبو بكر - رضى اللّه عنه - يوم السقيفة: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين يعنى أبا عبيدة وعمر .. وأبو بكر خير منهما بلا شك .. فما قال أحد من المسلمين إنه قال من ذلك بما لا يحل في الدين .. ودعت الأنصار إلى بيعة سعد بن عبادة وفى المسلمين عدد كبير كلهم أفضل منه بلا شك.
نصح بما ذكرنا إجماع جميع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز إمامة المفضول .. ثم عهد عمر - رضى الله عنه - إلى ستة رجال ولابد أن بعضهم على بعض فضلا ..
وقد أجمع أهل الإِسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم فهو الإِمام الواجبة طاعته ..
وفى هذا إطباق منهم على جواز إمامة المفضول ثم مات على - رضى اللّه عنه - فبويع ابنه الحسن ثم سلم الأمر إلى معاوية وفى بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن انفق من قبل الفتح وقاتل فكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ورأى إمامته .. وهذا إجماع متيقن بعد إجماع على جواز إمامة من غير أفضل بيقين
(1)
الفصل بين الملل والأهواء والنحل جـ 4 ص 126.
لا شك فيه إلى أن حدث من لا وزن له عند الله تعالى فخرقوا الإِجماع بآرائهم الغابرة ونعوذ بالله من الخذلان ..
قال أبو محمد: والعجب كله يجتمع قول الباقلانى: إنه لا تجوز الإِمامة من غيره من الناس أفضل منه .. وهو قد جوز النبوة والرسالة لمن غيره من الناس أفضل منه فإنه صرح فيما ذكره عنه صاحبه أبو جعفر السمنانى الأعمى قاضى الموصل بأنه جائز أن يكون في الأمة من هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث بعث إلى أن مات ..
قال أبو محمد: ما في خذلان الله عز وجل أحق من هاتين القضيتين لا سيما إذا اقترنتا ..
فإن قال قائل: كيف يحتجون هنا بقول الأنصار - رضى الله عنهم - في دعائهم إلى سعد بن عبادة وهو عندكم خطأ وخلاف للنص من رسول الله صلى الله عليه وسلم (على أبى بكر) وكيف تحتجون في هذا أيضا بقول أبى بكر - رضى الله عنه - .. رضيت لكم أحد هذين الرجلين وخلافة أبى بكر عندكم نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أين له أن يترك ما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قلنا إن فعل الأنصار - رضى الله عنهم - انتظم حكمين تقديم من ليس قرشيا وهذا خطأ وقد خالفهم فيه المهاجرون فسقطت هذه القضية ..
والثانى جواز تقديم من غيره أفضل منه .. وهذا صواب وافقهم عليه أبو بكر وغيره فصار إجماعًا وليس خطأ من أخطأ في قول وخالفه فيه من أصاب الحق بموجب أن لا يحتج بصوابه الذي وافقه فيه أهل الحق وهذا ما لا خلاف فيه ..
وأما ما أمر أبى بكر فإن الحق كان له بالنص وللمرء أن يترك حقه إذا رأى في تركه إصلاح ذات بين المسلمين .. ولا فرق بين عطية أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين منزلة صيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإِنسان فكان له أن يتجافى عنها لغيره إذ لم يمنعه من ذلك نص ولا إجماع ..
قال أبو محمد: برهان صحة قول من قال: إن الإمامة جائرة لمن غيره أفضل منه وبطلان قول من خالف ذلك أنه لا سبيل إلى أن يعرف الأفضل إلا بنص أو إجماع أو معجزة تظهر .. فالمعجزة ممتنعة ههنا بلا خلاف وكذلك الإِجماع وكذلك النص ..
وبرهان آخر .. وهو أن الذي كلفوا به من معرفة الأفضل ممتنع في هذا الوقت لأن قريشا مفترقون في البلاد الإسلامية كلها من أقصى السند إلى أقصى الأندلسى إلى أقصى اليمين وصحارى البربر إلى أقصى أرمينية وأذربيجان وخراسان فيما بمن ذلك من البلاد .. فمعرفة أسمائهم ممتنعة فكيف معرفة أحوالهم فكيف معرفة أفضلهم ..
وبرهان آخر .. وهو أن بالحس والمشاهدة ندرى أنه لا يدرى أحد فضل إنسان على غيره ممن بعد الصحابة - رضى الله عنهم - إلا بالظن .. والحكم بالظن لا يحل .. قال الله تعالى ذما لقوم: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} وقال تعالى: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} وقال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" وأيضًا فإننا وجدنا الناس يتباينون في الفضائل فيكون الواحد أزهد .. ويكون الواحد أورع ويكون الآخر
أسوس ويكون الرابع أشجع ويكون الخامس أعلم وقد يكونون متقاربين في التفاضل لا يبين التفاوت بينهم فبطل معرفة الأفضل وصح أن هذا القول فاسد وتكليف ما لا يطاق وإلزام ما لا يستطاع .. وهذا باطل لا يحل والحمد لله رب العالمين ..
ثم قد وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قلد النواحى وصرف التنفيذ لجميع الأحكام التي تنفذها الأئمة إلى قوم كان غيرهم بلا شك أفضل منهم .. فاستعمل على أعمال اليمن معاذ بن جبل وأما موسى وخالد بن الوليد .. وعلى عمان عمرو بن العاص وعلى نجران أبا سيفان وعلى مكة عتاب بن أسيد وعلى الطائف عثمان بن أبى العاص .. وعلى البحرين العلاء بن الحضرمى .. ولا خلاف في أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وعمار بن ياسر وسعد بن أبى وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة بن الجراح وعبد الله بن مسعود وبلالًا وأبا ذر أفضل ممن ذكرنا ..
فصح يقينا أن الصفات التي يستحق بها الإمامة والخلافة ليس منها التقدم في الفضل.
وأيضا فإن الفضائل كثيرة جدا .. منها الورع والزهد والعلم والشجاعة والسخاء والحلم والعفة والصبر والصرامة وغير ذلك .. ولا يوجد أحد يبين في جميعها. بل يكون بائنا في بعضها ومتأخرا في بعضها .. ففى أيها يراعى الفضل من لا يجيز إمامه المفضول .. فإن اقتصر على بعضها كان مدعيا بلا دليل .. وإن عم جميعها كلف من لا سبيل إلى وجوده أبدًا في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فإذا لا شك فقد صح القول في إمامة المفضول .. وبطل قول من قال غير ذلك ..
وجاء في كتاب الأحكام السلطانية للقاضى أبى الحسن الماوردى
(1)
: فإن وقف الاختيار على واحد من اثنين فتنازعاها فقد قال بعض الفقهاء يكون تنازعهما قد حال منعهما ويعدل إلى غيرهما .. والذي عليه جمهور العلماء والفقهاء أن التنازع فيها لا يكون قدحًا مانعا .. وليس طلب الإمامة مكروها .. فقد تنازع فيها أهل الشورى فما رد عنها طالب ولا منع منها راغب ..
واختلف العلماء فيما يقطع به تنازعهما مع تكافئ أحوالهما .. فقالت طائفة: يقرع بينهما ..
وقال آخرون بل يكون أهل الاختيار بالخيار في بيعة أيهما شاءوا من غير قرعة فلو تعين لأهل الاختيار واحد هو أفضل الجماعة فبايعوه على الإمامة وحدث بعده من هو أفضل منه انعقدت ببيعتهم إمامة الأول ولم يجز العدول عنه إلى من هو أفضل منه .. ولو ابتدءوا بيعة المفضول مع وجود الأفضل نظر.، فإن كان ذلك لعذر دعى إليه من كون الأفضل غانيا أو مريضًا أو كون المفضول أطوع في الناس وأقرب في القلوب انعقدت بيعة المفضول وصحت إمامته ..
"وإن بويع لغير عذر فقد اختلف في انعقاد بيعته وصحة إمامته" فذهبت طائفة منهم الجاحظ إلى أن بيعته لا تنعقد لأن الاختيار إذا دعى إلى أولى الأمرين لم يجز العدول عنه إلى غيره مما ليس بأولى كالاجتهاد في الأحكام الشرعية ..
(1)
الأحكام السلطانية للماوردى ص 7 وما بعدها طبع مصطفى الحلبى سنة 1966.
وقال الأكثرون من الفقهاء والمتكلمين تجوز إمامته وصحت بيعته ولا يكون وجود الأفضل مانعا من إمامة المفضول إذا لم يكن مقصرا عن شروط الإِمامة كما يجوز في ولاية القضاء تقليد المفضول مع وجود الأفضل لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار وليست معتبرة في شروط الاستحقاق .. فلو تفرد في الوقت بشروط الإمامة واحد لم يشرك فيها غيره تعينت فيه الإِمامة ولم يجز أن يعدل بها عنه إلى غيره.
وجاء في الملل والنحل للشهرستانى المطبوع على هامش الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم
(1)
الزيدية - اتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبى طالب عليه السلام ساقوا الإِمامة في أولاد فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يجوزوا ثبوت إمامة في غيرهم إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمى عالم زاهد شجاع شجى خرج يدعو للإمامة يكون إمامًا واجب الطاعة سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين .. وزيد بن علي إمام الزيدية أخذ الفروع والأصول عن واصل بن عطاء رأس المعتزلة فاقتبس منه الاعتزال وصار أصحابه كلهم معتزلة ..
وكان من مذهبه جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل فقال: كان على بن أبى طالب أفضل الصحابة .. إلا أن الخلافة فوضت إلى أبى بكر لمصلحة رأوها وقاعدة دينية راعوها من تسكين ثائرة الفتنة وتطبيب قلوب العامة فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريبا وسيف أمير المؤمنين على عليه السير من دماء المشركين من قريش لم يجف بعد والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد وكانت المصلحة أن يقوم بهذا الشأن من عرفوه باللين والتؤدة والسبق في الإسلام والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماما والأفضل قائم فيرجع إليه في الأحكام وبحكم محكمة في القضايا .. ولما سمعت سنية الكوفة هذه المقالة منه وعرفوا أنه لا يتبرأ عن الشيخين رفضوه حتى آتى عليه قدره فسميت رافضة لذلك ..
وثم ينتظم أمر الزيدية بعد ذلك حتى ظهر بخراسان ناصر الأطروش ولما أريد قتله اختفى واعتزل إلى بلاد الديلم فدعى الناس هناك إلى الإِسلام على مذهب زيد إمام الزيدية فتابعوه وبقيت الزيدية ظاهرين هناك غير أنهم خالفوا إمامهم في مسائل الأصول ومال أكثرهم عن القول بإمامة الفضول مع وجود الأفضل ..
وتفرعت منهم طائفة السليمانية إتباع سليمان بن جرير وكان يقول: إن الإمامة شورى بين الخلق ويضح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين وأنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل ..
وأثبت إمامة أبى بكر وعمر حقا اجتهاديا باختيار الأمة .. وتابعه على القول بجواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل قوم من المعتزلة منهم صقر بن مبشر وجعفر بن حرب وكثير النوى وهو من أصحاب الحديث ..
قالوا: الإمامة من مصالح الدين ليس يحتاج إليها لمعرفة أن الله تعالى وتوحيده فإن ذلك حاصل بالفعل لكن يحتاج إليها لإقامة الحدود والقضاء بين المتحاكمين وولاية اليتامى والأيامى وحفظ البيضة وإعلاء الكلمة ونصب القتال مع
(1)
الملل والنحل للشهرستانى انظر جـ 1 ص 159 على هامش النحل لابن حزم.
أعداء الدين وحتى يكون للمسلمين جماعة ولا يكون الأمر فوضى بين العامة فلا يشترط فيها أن يكون الإِمام أفضل الأمة علما وأقومهم رأيا وحكمة إذ الحاجة تنسد بقيام المفضول مع وجود الفاضل والأفضل ..
ومالك جماعة من أهل السنة إلى ذلك حتى جوزوا أن يكون الإِمام غير مجتهد ولا خبير بمواقع الاجتهاد ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الاجتهاد ويراجعه في الأحكام ويستفتى منه في الحلال والحرام .. ذا رأى وبصر في الحوادث نافذ ..
كما تنزع منهم طائفة الصالحية أصحاب الحسن بن صالح وقولهم في الإمامة كقول السليمانية .. قالوا: إن عليا أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالإمامة لكنه سلم الأمر لهم راضيا وفوض الأمر إليهم طائعا وترك حقه راغبا فنحن راضون بما رضى مسلمون لما سلم لا يحل لنا غير ذلك .. وهم الذين جوزوا إمامة المفضول وتأخير الفاضل والأفضل إذا كان الأفضل راضيا بعد ذلك وقالوا: من شهر سيفه من أولاد الحسن والحسين .. وكان عالما زاهدًا شجاعا فهو الإِمام وشرط بعضهم صباحة الوجه .. وفى أمامين وجد فيهما هذه الشرائط وشهرا سيفيهما بنظر إلى الأفضل ..
فيم يخلف الخليفة رسول الله
؟!
أشرنا فيما سبق إلى أن الإسلام دين وعقيدة يدعو الناس إلى ملكوت السموات والأرض ويجمعهم على عقيدة واحدة هي عقيدة التوحيد التي يهدف الإِسلام إلى أن يرتبط بها البشر أجمعين .. ويحيط بها أقطار الأرض كلها .. وأن يكونوا أمة واحدة تعبد إلها واحدًا لا شريك له وتعتصم بحبل الله المتين دون تفرق أو انقسام ..
وهو أيضا شريعة تهدف إلى إقامة مجتمع إنسانى فاضل وترسم للناس في هذا المجتمع مناهج العمل في الحياة التي يعيشون فيها ويتعاملون معها .. وتضع لهم معالم واضحة على طريق سلوكهم وتعاملهم في هذه الحياة .. وتبين لهم ما يأتون وما يذرون في التعامل سواء مع الله تعالى في العقائد والعبادات المختلفة بأنواعها وأساليبها وأحكامها وطرق أدائها .. أو مع بعضهم البعض بما تضع من قيود على تصرفات الأفراد وما ترسم من حدود وأوضاع لا يجوز لهم أن يتجاوزوها ولا أن يخرجوا عنها في البيع والشراء والإِجارة والرهن والوصية والاستثمار والتجارة وسائر المعاملات والعقود والشئون المدنية وفى الزواج والطلاق وشئون الأسرة في إقامتها وصيانة بنائها وتنظيم علاقات أفرادها ..
وفى مجال الاجتماع والأخلاق والتعاون واحترام حقوق الآخرين وأداء ما لهم من حقوق .. والامتناع عما يخدش شعورهن وشعور المجتمع والتزام السلوك الذي لا يؤذى الآخرين أو يصيب مصالحهم بضرر ..
وفى تنظيم علاقات المجتمع الإِسلامى بغيره من المجتمعات في أوقات الحرب والسلم وإقامة الصلات معهم على أسس تكفل تحقيق المصالح وتوفير الثقة والأمان للجميع ..
والمجتمع كما أشرنا - هو المجال الحقيقى والعملى الذي يتحرك فيه الإسلام بعقيدته وشريعته فيهذب ويصلح ويبنى وينظم وتظهر آثاره وتتكشف تعاليمه وتتحقق ثماره وأهدافه ..
وكلما كبر هذا المجتمع وعظم كيانه المادى والمعنوى واتسعت دائرته كلما كانت حركة الإسلام فيه وعمله معه أكفل بتحقيق أهدافه
وأثاره لخير المجتمع وصالحه ..
وإذا كان من أهداف الإِسلام أن يقيم المجتمع الإسلامي الفاضل المتكامل القوى البناء ..
فإنه لابد أن يضع لهذا المجتمع السياسة الحكيمة التي تنظمه وتكفل له أن يبقى في الحياة سليما معافى من دواعى التفكك والإِنحلال ..
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد هذا المجتمع وقائده ومدبر أموره وصانع سياسته في شئون الدين والدنيا وفي الجانبين المادى والروحى بتوجيه من العناية الإِلهية التي صنعته واختارته للرسالة .. وفى فيض من نور السماء .. وعلى هدى من أحكام الدستور الخالد المنزل عليه من عند الله العزيز الحكيم .. يقيم لهم دينهم الذي جاء به ورضيه الله لهم .. ويدبر لهم شئون دنياهم التي يتغلبون فيها ويتعاملون معها .. يبلغهم ما أنزل إليه من ربه ويبين ما في هذا التنزيل ويفصله تفصيلا بقوله وفعله
…
ويقيم الدعوة إلى الله .. ويرسم مناهجها ويحميها ويؤمن طريقها ويقوم على التنفيذ والتدبير يأمر بالجهاد ويقيم الجيش ويعد له العدة ويقود المجاهدين بنفسه وبمن يختاره ويرسم الخطط الكفيلة بتحقيق النصر ..
يأخذ الزكاة ومقررات الأموال كما أمر الله ويصرف ما جمع في مصارفه ووجوهه كما بين الله يقضى بين الناس ويعالج مشاكلهم وأحداثهم ويقيم عليهم الحدود والتعازير فيما ارتكبوا من مآثم واجترحوا من سيئات، ويرسل الولاة والعمال لتدبير شئون المسلمين وتعليمهم أحكام الدين وإمامتهم والقضاء بينهم والتنفيذ عليهم ..
فكانت لهم عامة السلطة الدينية والدنيوية بالتبليغ والبيان والتشريع والإِلزام والتنفيذ وتدبير الأمور وعلاج شئون الحياة في جوانبها وأحوالها المختلفة ..
وكانت له الولاية العامة على المسلمين ولاية منشئوها إيمان القلب إيمانا عميقًا وخضوعه خضوعا كاملا وفيضان الروح بالإخلاص لله ورسوله ومحبة الله ورسوله والتعلق بهما وإيثارهما على الحياة كلها بما فيها ومن فيها ..
قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وقال: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} والسلطتان ممتزجتان مستمدتان من الله تعالى الذي صنعه على عينه واختاره للرسالة وأمره بالتبليغ والبيان وجعل له وعليه التطبيق والتنفيذ واجب على المسلمين الإيمان به والعمل بما جاءهم به والطاعة والخضوع له ..
فكان بهذا كله إلى جانب أنه نبى مرسل - شرعا وملزما ومنفذا وواجب الطاعة والخضوع .. وكان زعيما وحاكما وقائدا وسياسيًا يسوس الناس بأحكام الله ويدبر شئونهم ومصالحهم على مقتضى شريعة الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} .
ففى أي جانب مما ذكرنا يخلف الخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أين يستمد الخليفة سلطته فيما يخلفه فيه؟.
لا يمكن أن يكون أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو أول خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين بعد وفاته - قد خلف النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان له من سلطان روحى وولاية خالصة على المسلمين أمده الله بهما وفرض على المسلمين الخضوع والتسليم والإذعان بملئ القلب في ذلك وأشار إليه سبحانه بقوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ..
ولا يمكن أن يخلف خليفة رسول الله في شئون التشريع وتقرير أحكام الدين والشريعة عن طريق الوحى .. فقد انتهت الرسالة وانقطع الوحى بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ..
ولم يبق لأحد كائنا من كان أن يدعى الاتصال بالسماء أو يتعرف حكم الدين من الوحى أو الإلهام أو عن طريق غيبى مهما كان نوعه أو تصوره أو أنه يعالج شئون الحكم في مجتمع المسملين بقوة روحية أيا كان مصدرها وإنما خلف أبو بكر وخلف الخلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلطانه المادى الذي كان له على المسلمين - وبمقتضاه يسوس أمور المسلمين ..
ويدبر شئونهم ومصالحهم الدينية والدنيوبة في ظل من أحكام الدين وعلى هدى من أحكام الشريعة وما رسمه كتاب الله وبنيته سنة رسول الله لا يحب عن ذلك ولا يخرج عنه قيد أنملة.
وهم في هذا وبهذا يحافظون على الدين وينفذون أحكامه ويقيمون حدوده ويدافعون عن حوزة الإِسلام ويصدون أطماع أعداء المسلمين ..
انظر إلى تعريف الخلافة الذي أسلفنا الاسشارة إليه ونقلنا أقوال العلماء تجده يحدد مفهوم الخلافة ويبين الإطار الذي يعمل فيه الخليفة والنهج الذي يسير عليه ..
ومن ثم كان اتفاقهم على التعريف بأن الخلافة نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ الدين وسياسة المسلمين بأحكامه ومبادئه ..
يقول المستشرق "جرونيبام"
(1)
في كتابه: "لقد أقام محمد بمعونة أتباعه حكومة دينية وذلك أن تكليفه بأداء الرسالة ناط به السلطة السياسية" ولم تكن الجماعة الإسلامية أي فارق بين ما هو زمنى - أي مادى - وما هو روحى إذا ما أريد تعريف تلك السلطة وتحديدها.
وكان ما حدث من المسيحية من شقاق بين الكنيسة والدولة أمرًا لا محل له في الإِسلام إذا كانت السلطة الزمنية في الإِسلام مندمجة في السلطة الروحية. وما أن توفى النبي صلى الله عليه وسلم ولم تعد العناية الربانية تبعث بوحيها على لسان رسول الله وصفيه حتى اقتصر أمر الدولة على الأعمال التنفيذية.
وبذلك أصبح الدين والسياسة والإِدارة مرتبطان ارتباطا لا تنفصم عراه في واجبات موظفى الدولة ..
فهو يرى أن الأمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم غير ما كان في عهده وحال حياته من حيث السلطة الروحية والتشريع في الأحكام غير أنه يؤخذ عليه أنه جعل مهمة القادة والقائمين على الأمر في المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم قاصرة على مجرد التنفيذ مع أن الشارع قد طلب إلى المسلمين
(1)
حضارة الإسلام لجيرونيبام ص 198.
التفكير واستعمال العقل والبحث والاجتهاد في استنباط أحكام الحوادث المتجددة التي لا يوجد لها حكم في النصوص القائمة من نصوص الكتاب والسنة بعد النهم والتمحيص وعلى مقتضى الأدلة والقواعد التي قررتها الأصول ..
وليس الأمر كما فهم هذا المستشرق وقرر أنهم كانوا أداة تنفيذ فحسب.
من أين يستمد الخليفة سلطته:
سبق القول بأن الشيعة يرون أن الإمامة ركن من أركان الدين وأصل من أصوله لا يقوم ولا يصح إلا بها .. وأن تعيين الإمام وإقامته واجب على الله تعالى بالنص عليه نصا جليا أو خفيا من النبي صلى الله عليه وسلم أو من الإمام قبله أو بوصية منه وأن للإمام ولاية وسلطانا على الأمة يستمدها من الله تعالى بحكم تعيينه كولاية النبي وسلطانه على الأمة يستمدها بحكم النبوة والرسالة من الله بلا شك ولا نزاع عندهم في أن الإمام يستمد سلطته من الله تعالى والإِمامة عندهم كما سبق امتداد للنبوة ..
أما أهل السنة وجمهور المعتزلة والخوارج وبعض الزيدية فإنهم يقولون أن نصب الإِمام وإقامته واجب على الأمة بالإجماع والأدلة التي ذكروها وأشرنا إليها فيما سبق.
والأصل في تعيينه الاختيار والبيعة من أهل الحل والعقد من المسلمين وحتى من أقيم في الإمامة بطريق العهد من الإمام قبله .. مرجعه إلى الاختيار والبيعة لأن الإمام قبله أقيم بهذا الطريق على ما تقدم من أن الراجح عند أهل السنة أن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينص على أحد بعده ولم يستخلف شخصا ما ليكون إمامًا وخليفة بعده .. فالمعين بطريق الاختيار حين يعهد بالإِمامة إنما ينيب عن الأمة شخصا يثق به فيما هو نائب عنها فيكون تعيننه في الحقيقة مستندا إلى عقد الأول وبيعته ..
والذي ينوب عن الغير ويتصرف في شئونه بمقتضى هذه النيابة وبحكم السلطة التي يستمدها منها.
أما أن يكون بإنابة نفس الشخص كالوكيل ينوب عن الموكل بإنابته ويستمد سلطته وصفته في التصريف في شئون الموكل من نفس الموكل وفى حدود التوكيل .. وكوصى الميت .. فإن الميت غائب ووصيه قائم مقامه بإنابته ..
وأما أن يكون بإنابة الشارع كولى الصغير أبيه أو جده في أمور المال أو في غيرها. فإن الشارع هو الذي أعطاهما حق وصف الولاية وخولهما التصرف في شئون الصغير في الحدود التي رسمها .. وكالوصى على اليتيم الذي يعينه القاضي ..
وقد قلنا إن الإِمام يعين بالاختيار والبيعة، وقلنا إن البيعة عقد يجرى بين الطرفين .. المسلمين والمرشح للخلافة يعطى كل منهما من نفسه لصاحبه .. ويأخذ من صاحبه لنفسه وبتمام البيعة يصبح كل من الطرفين وفى عنقه لصاحبه قيد وثيق لا يستطيع له نزعا ..
وبمقتضى هذه البيعة تثبت صفة الإمامة والخلافة ويتوجه على شخصه خطاب التكليف ويصبح مسئولا أمام المسلمين وأمام الله سبحانه وتعالى عن كل ما يناط بالخليفة من واجبات وأعباء ويثبت له من حقوق ..
فعقد البيعة في حقيقته بمثابة عقد وكالة من الأمة للخليفة بأن يتصرف في أمورها وشئونها الدينية والدنيوية في داخل المجتمع وخارجه في الحدود التي رسمها الشارع الإسلامي والنطاق الذي حدده ..
قال العلامة أبو بكر الكاسانى الحنفى ملك العلماء في كتابه
(1)
: "وكل ما يخرج به الوكيل عن الوكالة يخرج به القاضي عن القضاء لا يختلفان إلا في شئ واحد وهو أن الموكل إذا مات أو خلع وزال عنه الوصف الذي وكل بمقتضاه ينعزل الوكيل ..
والخليفة إذا مات أو خلع لا تنعزل قضاته ولا ولاته ..
ووجه الفرق أن الوكيل يعمل بولاية الموكل وفى خالص حقه أيضا وقد بطلت أهلية الولاية ولم يبق الحق فينعزل الوكيل ..
والقاضى لا يعمل بولاية الخليفة ولا في حقه .. بل بولاية المسلمين وفى حقوقهم .. وإنما الخليفة بمنزلة الرسول عنهم في تعيين القضاة والولاة ..
لهذا لم تلحقه العهدة كالرسول في سائر العقود والوكيل في النكاح .. وإذا كان رسولا كان فعله بمنزلة فعل عامة المسلمين .. وولاية المسلمين بعد موت الخليفة باقية فسيبقى القاضي على ولايته بعد موت الخليفة .. وهذا بخلاف العزل ..
فإن الخليفة إذا عزل القاضي أو الوالى ينعزل بعزله ولا ينعزل بموته لأنه في الحقيقة لا ينعزل بعزل الخليفة أيضا بل ينعزل بعزل عامة المسلمين أصحاب الولاية لما ذكرنا أن توليته بتولية العامة .. والعامة حين ولوه الخلافة ولوه الاستبدال والتغير دلالة وضمنا لتعلق مصلحتهم بذلك .. فكانت ولايته منهم معنى في العزل أيضا .. فهو الفرق بين العزل والموت".
فالكاسانى يقرر في دقة وصراحة أن الخليفة في تصرفاته في شئون المسلمين بمنزلة الرسول عنهم لا يرجع إليه شئ من حقوق التصرف وآثاره ما دام لم يسئ التصرف ولم يتجاوز حدوده ..
بل ترجع هذه الآثار والحقوق إلى الأصيل وهو عامة المسلمين .. كالوكيل في عقد النكاح يعتبره فقهاء الحنفية مجرد سفير ومعبر عن الموكل لا يرجع الله بشئ من حقوق العقد .. فإذا كان قاضيا أو أقام واليا ثم مات لا ينعزل القاضي ولا الوالى على خلاف الحكم في موت الموكل يترتب عليه عزل الوكيل وإنما ينعزل القاضي أو الوالى إذا عزله الخليفة مع هذا الوضع لأن العزل في واقع الأمر ليس من الخليفة وإنما هو من عامة المسلمين ..
لأن المسلمين حين ولوا الخليفة وبايعوه وجعلوا له حق استبدال القضاة والولاة ومن في حكمهم لتعلق مصالحهم بذلك فهو يعزلهم بولاية من الأمة فهى التي تعزلهم حقيقة ممثلة فيه ..
وظاهر أن من مقتضى هذا التصوير أن تملك الأمة عزل الخليفة إذا هو خرج على مقتضى التوكيل وصدر منه ما يستوجب العزل .. وهو أيضا من مقتضى المسئولية التي قررها شارع الإِسلام كما أشرنا سابقا لأن من يملك المساءلة يملك العزل وسيأتى بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
ويقول المرحوم محمود فياض
(2)
: وإذن فالبيعة هي عقد وكالة بين الأمة وحاكمها المنتخب من أفرادها المسئولة عنها ..
وظاهر جدًّا أن عقد الوكالة ليس عند تمليك للوكيل ولا يقتضى تمليكا .. وإنما هو عقد إذن
(1)
بدائع الصنائع للعلامة أبو بكر الكاسانى جـ 7 ص 16.
(2)
كتاب الفقه السياسى عند المسلمين للمرحوم محمود فياض ص 26 وما بعدها.
بالتصرف باسم الموكل في حدود ما رسم للوكيل وإذنه بالتصرف فيه ..
وهو عقد مؤقت مشروط فهو خاضع لرقابة الأصيل فإن رأى الوكيل ملتزما للشروط المحددة ورأى استمرار العقد في صالحه أبقى الوكيل إن شاء الله .. وإن رأى الوكيل قد جانب الشرط وخرج من العهدة عزله إن شاء الله إذا لم ينعزل هو من نفسه ..
لهذا اتفق فقهاء الإسلام على أن الحاكم وكيل عن الأمة خاضع لرقابتها .. ولها عليه سلطان التولية والعزل والتوجيه ..
ولكل فرد من أفرادها حق أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر .. وهى السلطة الكبرى التي جعلها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم كما يقول الأستاذ محمد عبده في كتابه "الإِسلام والنصرانية".
ومما يقطع بصحة فكرة وكالة الحاكم عن الأمة وخضوعه لرقابتها وسلطانها أن جميع الفقهاء اعتبروه واحدًا من أفراد الأمة في كل تصرفاته وألزموه بمتالفه وجناياته.
فهو يؤخذ بالقصاص إذا قتل عامدًا أو ظالمًا .. ويلزم بالأموال التي يتلفها .. وتقطع يده إذا سرق .. ويجلد ويرجم إذا زنى .. يقول الإمام القفال من الشافعية .. إذا زنى الخليفة يقيم عليه الحد من ولى الحكم عنه وهو الأمة ..
ويقول الأستاذ الشيخ محمد عبده في كتابه "الإسلام والنصرانية" الذي أشار إليه الأستاذ محمود فياض: "الخليفة عن المسلمين ليس بالمعصوم ولا هو مهبط الوحى ولا من حقه الاستئثار بتفسير كتاب الله تعالى وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو على هذا لا يخصه الدين في فهم الكتاب والسنة والعلم بالأحكام بمزية ولا يرتفع به إلى منزلة بل هو وسائر طلاب الفهم سواء
…
وإنما يتفاضلون بصفاء العقل وكثرة الإصابة في الحكم .. ثم هو مطاع ما دام على المححجة ونهج الكتاب والسنة .. والمسلمون له بالمرصاد فإذا انحرف عن النهج أقاموه عليه .. وإذا أعوج قوموه بالنصيحة والأعذار إليه ..
فالأمة ونائب الأمة هو الذي ينصبه .. والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه .. وهى التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم .. وليس في الإِسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر .. وهى سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم كما خولها لأعلاهم بتناول بها من هو أدناهم".
فالخليفة في الواقع ليس إلا فردًا من أفراد المسلمين لا يرتفع عن أحد منهم درجة ولا يخصه الدين بمزية .. ولكنه انفرد من بينهم بحمل أمورهم والنظر في مصالحهم .. فكان أثقلهم حملا وأعظمهم مسئولية أمام الله ..
والفقهاء يعتبرون المحليفة واحدًا من أفراد الأمة في كل تصرفاته التي تمس حقوق الغير أو تمتد إليه بسوء وفى كل أفعاله واعتداءاته .. فيلزم بالأموال التي يتلفها ويقام عليه الحد إذا ارتكب ما يوجبه .. ويخاصم ويحكم عليه عند الإثبات ..
وفى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والتشريع القائم الملزم .. وفى تاريخ الكامل لابن الأثير: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه الأخير من حجرة عائشة رضى الله عنها إلى المسجد بين الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب رضى الله عنهما حتى جلس على المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم صلى على أصحاب أحد فاستغفر لهم ثم قال: "أيها الناس: من كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهرى فليستعذ منه .. ومن كنت
شتمت له عرضا .. فهذا عرضى فليستعذ منه .. ومن أخذت له مالا فهذا مالى فليأخذ منه ولا يخشى الشحناء من قلى .. فإنها ليست من شأنى .. ألا وأن أحبكم إليّ من أخذ منى حقا إن كان له أو حللنى فلقيت ربى وأنا طيب النفس ..
وفى سيرة عمر بن الخطاب رضى الله عنه لابن الجوزى أن رجلا قال لعمر .. اتق الله يا أمير المؤمنين .. فقيل له: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟ فقال عمر: دعه فليقلها لى .. نعم ما قال - لا خير فيكم إن لم تقولوها .. ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم.
ومما يروى عنه رضى الله عنه أيضًا: إنى لم أستعمل عليكم عمالى ليضربوا أبشاركم ويشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم .. ولكنى استعمللهم ليعلموكم كتاب الله وسنة نبيكم فمن ظلمه عامله بمظلمته فليرفعها إلى حتى أقصه منه. فقال عمرو بن العاص - وكان والى مصر إذ ذاك - يا أمير المؤمنين! أرأيت إن أدب أمير المؤمنين رجلا من رعيته أتقصه منه؟ فقال عمر: ومالى لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه ..
ويثير كثير من الناس أسئلة واستنكارات في هذا الصدد استنادًا منهم إلى ما جرى عليه العمل في واقع الحياة في شأن الخلافة والخلفاء .. وهل عقد البيعة ما جرى عليه العمل في واقع الحياة في شأن الخلافة والخلفاء .. وهل عقد البيعة بمثابة عقد الوكالة .. أو هو يقتضى تمليكا من الأمة للخليفة يصبح به وقد ملك الخلافة وجلس على عرشها ولا يملك أحلى أن يعزله عنه .. بل ولا أن يعترض عليه .. ويسوقون في هذا المجال ما يروى أو يعزى إلى الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضى الله عنه حين طلب منه الثوار الآثمون أن يعزل نفسه - من أنه قال لهم - كيف أنزع قيمصا قمصنيه الله ..
والمقرر أنه لا حجة في عمل أحد من المسلمين إلا في عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وما جرت به سنة الخلفاء الراشدين ..
وما يروى عن عثمان رضى الله عنه إن صح .. فإنه أخذ فيه بحكم الله فيما يرى .. فقد قال الفقهاء .. إن عزل الخليفة نفسه من غير سبب فيه خلاف هل ينحل به عقد الإِمامة أو لا؟.
قال السعد التفتازانى في شرح المقاصد:
"وينحل عقد الإِمامة بما يزول به مقصود الإِمامة كالردة والجنون المطبق
…
وكذا بخلعه نفسه لعجزه عن القيام بمصالح المسلمين وإن لم يكن ظاهرًا بل استشعره في نفسه وعليه يحمل خلع الحسن رضى الله عنه نفسه .. وأما خلعه لنفسه بلا سبب ففيه خلاف
…
".
فمن مذهب عثمان رضي الله عنه أن عزل الخليفة نفسه بدون سبب لا ينحل به عقد الإِمامة كما تشير إليه عبارته إن صحت ..
هذا .. وقد جاء في كتاب "الإِسلام وأصول الحكم"
(1)
: "قد يظهر من تعريفهم للخلافة ومن سياحتهم فيها أنهم يعتبرون الخليفة مقيدا في سلطانه بحدود الشرع لا يتخطاها .. وأنه مطالب حتما بأن يسلك بالمسلمين سبيلا واحدة معينة من بين شتى السبل .. هي سبيل واضحة من غير لبس قد كشف الشرع الشريف عن مبادئها وغاياتها وأقام فيها إماراتها ووضع فيها منازل للسالكين فما كان لأحد أن يضل فيها ولا يشقى ..
(1)
الإسلام وأصول الحكم للمغفور له الأستاذ على عبد الرازق جـ 5 وما بعدها طبع مطبعة مصر الطبعة الثالثة سنة 1925 م.
وما كان خليفة أن يفرط فيها ولا أن يطغى .. هي سبيل الدين الإِسلامي التي قام محمد صلى الله عليه وسلم يوضحها للناس حقبة من الدهر .. والتي حددها كتاب الله الكريم وسنة محمد وإجماع المسلمين ..
نعم هم يعتبرون الخليفة مقيدا بقيود الشرع .. ويرون ذلك كافيا في ضبطه يوما إن أراد أن يجمح، وفى تقويم ميله إذا أخيف أن يجنح ..
وقد ذهب قوم منهم إلى أن الخليفة إذا جار أو فجر العزل من الخلافة .. وقد فرقوا لذلك بين الخلافة والملك على ما بينه ابن خلدون في مقدمتهم في فصل انقلاب الخلافة إلى الملك ..
وقد كان واجبا عليهم إذ أفاضوا على الخليفة كل تلك القوة ورفعوه إلى ذلك المقام أن يذكروا لنا مصدر تلف القوة التي زعموها للخليفة أنى جاءته ومن الذي حياه بها وأفاضها عليه؟ لكنهم أهملوا ذلك البحث على أن الذي يستقرئ عبارات القوم المتصلة يهذا الموضوع يستطيع أن يأخذ منها بطريق الاستنتاج أن للمسلمين في ذلك مذهبين:
المذهب الأول: أن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى وقوته من قوته .. رأى نجد روحه سارية بين عامة العلماء وعامة المسلمين أيضا. وكل كلماتهم عن الخلافة ومباحثهم فيها تنحو ذلك النحو وتشير إلى هذه العقيدة وقد ذكرنا فيما سبق أنهم جعلوا الخليفة ظل الله تعالى ..
وأن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسى زعم في خطبة له بمكة أنه إنما هو سلطان الله في أرضه.
كذلك شاع هذا الرأى وتحدث به العلماء والشعراء منذ القرون الأولى فتراهم يذهبون إلى أن الله جل شأنه هو الذي يختار الخليفة ويسوق إليه الخلافة كما ترى في قول الشاعر:
جاء الخلافة أو كانت له نورا
…
كما أتى ربه موسى على نور
وفي قول الآخر:
ولقد أراد الله إذ ولاكها
…
من أمة إصلاحها ورشادها
وقول الفرذق يمدح هشام بن عبد الملك الخليفة الأموى:
هشام خيار الله للناس والذي
…
به ينجلى عن كل أرض ظلامها
وأنت لهذا الناس بعد نبيهم
…
سماء يرجى للمحمول غمامها
ولقد كان شيوع هذا الرأى وجريانه على الألسنة مما سهل على الشعراء أن يصلوا في مبالغتهم إلى وضع الخلفاء في مواضع العزة القدسية أو قريبا منها .. وأنت إذا رجعت إلى كثير مما ألف العلماء خصوصا بعد القرن الخامس الهجرى وجدتهم إذا ذكروا في أول كتبهم أحد الملوك أو السلاطين رفعوه فوق صف البشر ..
ووضعوه غير بعيد عن مقام العزة الإِلهية .. ودونك مثالا لذلك .. ما جاء في خطبة نجم الدين القزوينى في أول الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية حيث قال: "فأشار إلى من سعد بلطف الحق وامتاز بتأييده من كافة الخلق .. ومال إلى جنابه الدانى والقاصى .. وأفلح بمتابعته المطيع والعاصى" .. وقال شارح تلك الرسالة قطب الدين الرازى في خطبة شرحه: "وخدمت به عالى حضرة من خصه الله تعالى بالنفس القدسية والرياسة الأنسية اللائح من غرته الغراء لوائح السعادة الأبدية والفائح من همته العلياء روائح العناية السرمدية - شرف الحق والدولة والدين رشيد الإِسلام ومرشد المسلمين ..
وقال عبد الحكيم السيالكوتى في حاشيته على الشرح المذكور: جعلته عراضة لحضرة من خصه الله تعالى بالسلطة الأبدية وأيده بالدولة السرمدية .. فروج الملة الحنيفية البيضاء ومؤسس قواعد الشريعة الغراء .. ظل الله في الأرضين .. غياث الإِسلام والمسلمين .. عامر بلاد الله .. خليفة رسول الله .. المؤيد بالتأييد والنصر الربانى".
وجملة القول أن استمداد الخليفة لسلطانه من الله تعالى مذهب جار على الألسنة فأسن بين المسلمين ..
المذهب الثاني:
وهناك مذهب ثان قد نزع إليه بعض العلماء وتحدثوا به .. ذلك هو أن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة فهى مصدر قوته وهى التي تختاره لهذا المقام .. وقد وجدنا ذلك المذهب في كلام العلامة الكاسانى في كتابه البدائع وساق المؤلف عبارة الكاسانى التي نقلناها فيما سبق.
ومن أوفى ما وجدنا في بيان هذا المذهب والانتصار له .. رسالة الخلافة وسلطة الأمة التي نشرتها حكومة المجلس الكبير الوطنى بأنقرة ونقلها من التركية إلى العربية عبد الغنى سنى بك وطبعها بمطبعة الهلال بمصر سنة 1342 هـ - 1924 م.
ومثل هذا الخلاف بين المسلمين في مصدر سلطان الخليفة قد ظهر بين الأوربيين وكان له - أثر فعلى كبير في تطور التاريخ الأوربى ويكاد المذهب الأول يكون موافقا لما اشتهر به الفيلسوف (هُبْز) من أن سلطان الملوك مقدس وحقهم سماوى. وأما المذهب الثاني فهو يشبه أن يكون نفس المذهب الذي اشتهر به الفليسوف (لُكْ) .. هذا كلام صاحب الإِسلام وأصول الحكم ..
ويتضح من هذا أن الأستاذ على عبد الرازق يقرر أن للمسليمن مذهبين في استمداد الخليفة سلطته .. هل يستمدها من الله تعالى .. وهذا رأى ..
يقول الأستاذ: نجد روحه سارية بمن عامة - العلماء وعامة المسلمين أيضا .. وكل كلماتهم عن الخلافة ومباحثهم فيها تنحو ذلك النحو وتشير إلى هذه العقيدة ..
وهذا صريح في أن مؤلفات العلماء من الفقهاء والمتكلمين ومباحثهم في أمر الخلافة وموضوعها تتضمن هذا الرأى وتشير إلى تلك العقيدة .. والمطلع على المؤلفات والمباحث التي عملت في موضوع الخلافة .. والباحث في ذلك لا يجد فيها مطلقا كلمة تنبئ ولو بطريق التلويح أو الإشارة بأن سلطان الخليفة مستمد من سلطان الله وأن قوته من قوته ..
وقصارى ما يؤخذ ويستنتج من كلامهم عنها وبحثهم فيها .. إن الله تعالى أوجب على الناس إقامة إمام وأن ولاية هذا الإِمام تنعقد إما بمبايعة أهل الحل والعقد .. وإما بعهد من الخليفة قبله وأن الخليفة مقيد في تصرفاته في شئون المسلمين وتدبير أمورهم ومصالحهم بأحكام الدين ومبادئ الشريعة .. وأنه إن حاد عن طريق الدين وسعى في سياسته بالفساد كان للأمة انتزاع زمام الأمر من يده ووضعه في يد من هو أشد حزما وأقوم سبيلا ..
وأما ما ورد على ألسنة بعض المؤلفين والباحثين من أن الخليفة ظل الله في الأرض وحمى الله في البلاد .. فقد روى في هذا المعنى وبهذه الألفاظ حديث نبوى:" السلطان ظل الله في الأرض" وينسب إلى الإِمام العظيم عمر بن الخطاب أنه علا سعد بن أبى وقاص بالدرة .. وقال له:" لم تهب سلطان الله في
الأرض فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك، وذلك لما كان عمر يقسِّم مالًا وازدحم الناس من حوله فأقبل سعد رضى الله عنه وهو من السابقين الأولين وزاحم الناس حتى خلص إلى عمر ..
هذه العبارات ليست بمستنكرة بعد ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم: "السلطان ظل الله في الأرض" وهى تخرج مخرج التشبيه حيث أن الخليفة يدفع الأذى عن الناس ويحميهم كما يدفع الظل أذى حر الشمس عمن يأوى إليه ويحميه منه .. وإضافته إلى الله تعالى لأنه أمر بإقامة الخليفة وطاعته .. وأين هذا من استمداد الخليفة سلطانه من سلطان الله .. ؟.
وأما أبيات الشعر التي سيقت للاستدلال على حكم دينى .. فهى أهون من أن تستهوى باحثا في هذا المجال وما كان الشعر ولا الشعراء يوما بحجة في ذلك .. وأقوال العلماء المؤلفين في مفتتح كتبهم ومؤلفاتهم من مديح للملوك والخلفاء المعاصرين لم تصدر عن اعتقاد بأن سلطان الخليفة مستمد من سلطان الله وإنما هو إسراف في المديح وإغراق في القول لا صلة له بحكم من أحكام الدين ولا ينبئ عنه حكم ..
وقد علمنا إن مثل هذا الاعزاب في مديح الملوك والسلاطين والخلفاء وذوى الجاه والثراء من الشعراء والكتاب يصدر عن أحوال نفسية كالرغبة في إحراز جاه أو الحرص على متاع هذه الحياة ..
وكثيرا ما تصدر مثل هذه الكلمات على الألسنة والقلوب تتبرأ منها على أنه إذا قيل أن المعنى المقصود أن الخليفة يستقيم على الجادة ويلزم طاعة الله وإقامة العدل بين الناس ثم يطلب من الله التوفيق والسداد والرشاد والتمكين له في طريق الحق فيمده الله بتوفيقه وعونه ويقوى من سلطانه وهذا هو استمداد السلطان من الله - فأجيب بهذا المعنى وحبذا هو من توجيه. والله تعالى يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ويقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .
أما إذا قيل أن للخليفة سلطة غيبية دينية أمده الله بها وخوله إياها بمقتضى إمامته صلى الناس بتسلطه بها عليهم ويبسط نفوذه ويوزع نفحات الرضا ونظرات الإحسان مستندا في ذلك إلى القوة الغيبية - فهذا منكر من القول وزور لا يقبله الدين ولا تقره الشريعة فليس في الإسلام سلطة روحية لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
تعدد الخليفة:
جاء في كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهرى
(1)
: "فوجب اليقين بأن الله تعالى لا يكلف الناس ما ليس في وسعهم واحتمالهم وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله تعالى من الأحكام عليهم في الأموال والجنايات والدماء والنكاح والطلاق وسائر الأحكام كلها .. ومنع الظالم وإنصاف المظلوم وأخذ القصاص على تباعد أقطارهم وشواغلهم واختلاف آرائهم ومصالحهم .. دون أمير حازم حكيم يزعهم - ممتنع غير ممكن - إذ قد يريد واحد أو جماعة أن يحكم إنسان ويريد آخر أو جماعة أخرى ألا يحكم عليهم إما لأنها ترى في اجتهادها خلاف ما رأى هؤلاء وإما خلافا مجردًا عليهم ..
وهذا الذي لابد منه ضرورة .. وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها .. فإنه لا يقام هناك
(1)
الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهرى جـ 4 ص 72 وما بعدها.
حكم حق ولا حد حتى لقد ذهب الدين في أكثرها .. فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو إلى أكثر من واحد .. فإذ لابد من أحد هذين الوجهين ..
فإن الاثنين فصاعدا بينهما أو بينهم ما ذكر من الاختلاف والتنافس فلا يتم أمر البتة .. فلم يبق وجه تتم به الأمور إلَّا الإِسناد إلى واحد فاضل عالم حسن السياسة قوى على الإنفاذ إلا أنه إن كان بخلاف ما ذكرنا فالظلم والإهمال معه أقل منه مع الاثنين فصاعدا ..
وإذ ذلك كذلك ففرض لازم لكل الناس أن يكفوا عن الظلم ما أمكنهم إن قدروا على كف كله لزمهم ذلك ..
وإلا فكف ما قدروا على كفه منه .. ولو قضية واحدة لا يجوز غير ذلك ..
ثم اتفق من ذكرنا من جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج من يرى منهم فرض الإمامة على أنه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم ..
ولا يجوز إلا إمام واحد .. إلا أن محمد بن كرام السجستانى وأبا الصباح السمرقندى وأصحابهما فإنهم أجازوا كون إمامين وأكثر في وقت واحد ..
واحتج هؤلاء بقول الأنصار أو من قال منهم يوم السقيفة للمهاجرين: "منا أمير ومنكم أمير، فلولا أن التعدد جائز لما قال ذلك قائلهم وهو من الصحابة وسكت الأنصار على قوله .. واحتجوا أيضا بأمر الإِمام على بن أبى طالب وابنه الحسن رضى الله عنهما مع معاوية رضى الله عنه إذا قام أكثر من إمام في وقت واحد ..
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قول الأنصار رضى الله عنهم "منا أمير ومنكم أمير" لم يكن صوابا بل كان خطأ أداهم إليه الاجتهاد وخالفهم فيه المهاجرون .. ولأن إذا اختلف القائلان على قولين متنافيين من أن يكون أحدهما حقا والآخر خطأ ..
وإذ ذلك كذلك فواجب رد ما تنازعوا فيه إلى ما افترض الله عز وجل الرد إليه عند التنازع إذ يقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} فنظرنا في ذلك فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال -:"إذا بويع لإِمامين فاقتلوا الآخر منهما - وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وقال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فحرم الله عز وجل التفرق والتنازع ..
وإذا كان إمامان فقد حصل التفرق المحرم فوجد التنازع ووقعت المعصية لله تعالى وقلنا ما لا يحل لنا ..
وأما من طريق النظر والمصلحة .. فلو جاز أن يكون في العالم إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة وأربعة أو أكثر فإن منع ذلك مانع كان متحكما بلا برهان ومدعيا بلا دليل .. وهذا هو الباطل الذي لا يعجز عنه أحد.
وإن جاز ذلك زاد الأمر حتى يكون في العالم إمام أو في كل مدينة إمام أو في كل قرية أو يكون كل أحد إمامًا وخليفة في منزله .. وهذا هو الفساد والمحض وهلاك الدين والدنيا فصح أن قول الأنصار رضى الله عنهم رهالة وخطأ رجعوا عنه إلى الحق وعصمهم الله تعالى من التمادى عليه فلا محل للتمسك والاحتجاج بقول تركه صاحبه ورجع عنه لما تبين له أنه خطأ
…
وأما أمر على والحسين مع معاوية رضى الله عنه فقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أنذر بخارجة تخرج من طائفتين من الأمة بقتلها أولى الطائفتين بالحق - فكان قاتل تلك الطائفة الخارجة عليًّا رضى الله عنه فهو صاحب الحق بلا شك وكذلك أنذر عليه الصلاة والسلام بأن عمارًا تقتله الفئة الباغية - وقد قتل رضى الله عنه بصفين من أهل الشام بعسكر معاوية رضى الله عنه وقاتله أبو العادية يسار بن سبع السلمى قتله متأولا.
فصح أن عليا هو صاحب الحق وكان السلمى هو السابق إلى الإمامة فصح أنه صاحبها وأن من نازعه فيها فهو مخطئ .. فمعاوية رحمه الله مخطئ مأجور مرة لأنه مجتهد ولا حجة في خطأ المجتهد المخطئ فبطل قول هذه الطائفة ..
وأيضا فإن قول الأنصار رضى الله عنهم "منا أمير ومنكم أمير" يخرج على أنهم أرادوا أن يلى الخلافة وال منهم .. فإذا مات أو عزل .. ولى من المهاجرين وال بدله وهكذا أبدا .. لا على أن يكون إمامان في وقت واحد .. وهذا هو الأظهر من كلامهم ..
وأما على ومعاوية رضى الله عنهما فما سلم قط أحدهما للآخر .. بل كل واحد منهما يرى أنه المحق .. وكذلك كان الحسن رضى الله عنه إلى أن أسلم الأمر إلى معاوية .. فإذ هذا كذلك .. فقد صح الإجماع على بطلان قول ابن كرام وأبى الصباح وبطل أن يكون لهم تعلق في شيء أصلا ..
وجاء في كتاب الأحكام السلطانية للقاضى أبى الحسن الماورى (1): "وإذا عقدت الإِمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد .. وإن شذ قوم فجوزوه .. واختلف الفقهاء في الإِمام منهما ..
فقالت طائفة: هو الذي عقت له الإمامة في البلد الذي مات فيه من تقدمه لأنهم بعقدها أخص وبالقيام بها أحق ..
وعلى كافة الأمة في الأمصار كلها أن يفوضوا عقدها إليهم ويسلموها لمن بايعوه لئلا ينتشر الأمر باختلاف الآراء وتباين الأهواء ..
وقال آخرون: بل على كل واحد منهما أن يدفع الإمامة عن نفسه ويسلمها إلى صاحبه طلبا للسلامة وحسما للفتنة ليختار أهل الحل والعقد أحدهما أو غيرهما ..
وقال آخرون: بل يقرع بينهما دفعا للتنازع وقطعا للتخاصم فأيهما قرع كان بالإمامة أحق .. والصحيح في ذلك وما عليه الفقهاء المحققون أن الإمامة لأسبقهما عقدا وبيعة كالوليين في نكاح المرأة إذا زوجاها باثنين كل واحد منهما في عقد كان النكاح لأسبقهما عقدا .. فإذا تعين السابق منهما استقرت له الإِمامة وعلى المسبوق تسليم الأمر إليه والدخول في بيعته ..
وإن عقدت الإمامة لهما في حال واحد لم يسبق بها أحدهما فسد العقدان واستؤنف العقد لأحدهما أو لغيرهما .. وإن تقدمت بيعة أحدهما وأشكل المتقدم منهما وقف أمرهما على الكشف .. فإن تنازعاها وادعى كل واحد أنه الأسبق لم تشمع دعواه ولم يحلف عليها لأنه لا يختص بالحق فيها وإنما هو حق المسلمين جميعا فلا حكم ليمينه فيه ولا لنكوله عنه ..
وهكذا لو قطع التنازع فيها وسلمها أحدهما
إلى الآخر لم تستقر إمامته إلا ببينة تشهد بتقدمه ..
ولو أقر أحدهما للآخر بالتقدم في العقد خرج منها المقر ولم تستقر للآخر لأن المقر مقر في حق المسلمين .. فإن شهد له المقر بتقدمه فيها مع شاهد آخر سمعت شهادته إن ذكر اشتباه الأمر عليه عند التنازع .. ولم يسمع منه إن لم يذكر الاشتباه لما في القولين من التكاذب .. وإذا دام الاشتباه بينهما بعد الكشف ولم تقم بينة لأحدهما بالتقدم لم يقرع بينهما لأمرين:
الأول: أن الإمامة عقد والقرعة لا مدخل لها في العقود.
الثاني: أن الإِمامة لا يجوز فيها الاشتراك .. والقرعة لا مدخل لها فيما لا يصح الاشتراك فيه كالمناكحات .. وتدخل فيما يصح فيه الاشتراك كالأموال .. ويكون دوام هذا الاشتباه مبطلا لعقدى الإِمامة فيهما ..
ويستأنف أهل الاختيار عقدها لأحدهما .. فلو أرادوا العدول بها عنهما إلى غيرهما .. فقد قيل بجوازه لخروجهما عنها .. وقيل لا يجوز لأن البيعة لهما قد صرفت الإمامة عمن عداها .. ولأن الاشتباه لا يمنع ثبوتها في أحدهما ..
وجاء في شرح المقاصد للسعد التفتازانى أثناء حكايته ما جاء في كتب الفقه والفروع خاصا بالإِمامة لبيان أن الإمامة من مسائل الفروع أصلا لأن حكمها أنها من فروض الكفاية فذكرها في الكتب الفقهية أليق .. وبيان السبب في العدول عن ذلك وذكرها في علم الكلام .. جاء بالمقاصد (1): "ولا يجوز نصب إمامين في وقت واحد على الأظهر".
وجاء في المسايرة للكمال بن الهمام وشرحها لتلميذه الكمال بن أبى شريف:"ولا يولى الإمامه أكثر من إمام واحد لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما، رواه مسلم من حديث أبى سعيد .. والأمر بقتله محمود على ما إذا لم يندفع إلا بالقتل".
وقال الغزالى بعد ذكر الصفات التي يجب توافرها في الإمام: "فإن ولى عدد موصوف بهذه الصفات .. فالإمام من انعقدت له البيعة من الأكثر والمخالف يجب رده إلى الانقياد للحق .. ".
وجاء في المواقف للعضد: ولا يجوز العقد لإِمامين في وضع واحد متضايق الأقطار .. أما في مسمعها بحيث لا يسع الواحد تدبيره .. فهو محل الاجتهاد .. وقال شارحه السيد الجرجانى تعليقا على ذلك:"لوقوع الخلاف".
تلك هي عبارات المؤلفين في موضوع تعدد الإمام أشار أكثرها إلى أن هناك خلافا في جواز تعدد الإمام ولكنه كما يبدو خلاف ضعيف ليس بذى أثر ..
فقد ذكر ابن حزم أسماء المخالفين ورد أدلتهم ووصف القاضي الماوردى المخالفين بأنهم شذرا ولم يشر البعض إلى هذا الخلاف مطلقا كأنهم على ما يظهر لم يعتبروا به .. غير أن من أشار إلى الخلاف قد أطلقه ولم يقيده بحالة ولا موضع فيما عدا العضد في المواقف فإنه فرق بين حالتين ..
حالة الصقع المتضايق الأقطار .. وهذه جعل عدم جواز التعدد فيها محل اتفاق.
وحالة الصقع المتسع الأقطار بحيث لا يسع الإمام الواحد تدبيره والقيام بشئونه .. وهذه جعل إباحة التعدد فيها محل اجتهاد ..
وصرح شارح المواقف السيد الجرجانى بأن الأمر في ذلك محل خلاف ..
وهذا مسلك لم نجده إلا في المواقف وشرحها .. فيحمل الخلاف على حالة اتساع الأقطار وعدم إمكان التدبير فيها من الواحد وقد تأثر بهذا الاجتهاد السيد صديق حسن خان أحمد علماء الهند .. فذهب في كتابه الروضة الندية إلى جواز تعدد الإمام في عصرنا الحاضر بناء على تحقيق ضرورة تقتضى هذا الجواز نظرًا لتعدد الأقطار الإسلامية وتباعد ما بين أطرافها وعدم قيام روابط أو صلات بينها تسهل على أهل كل قطر معرفة ما يجرى في القطر الآخر والأقطار الأخرى والوقوف على الأحوال ومجريات الأمور هناك ..
ذكر ذلك الأستاذ الشيخ محمد رضا في رسالته "الخلافة أو الإمامة العظمى"(1) ولكنه أبدى تردده في تحقيق الضرورة المقتضية لإجازة تعدد الخليفة الآن بعد أن ظهرت المخترعات الحديثة وانتشرت وسهلت طرق المواصلات السريعة في كل نواحى العالم، حتى ربطت أجزاءه ببعضها وصار يشعر من في أقصى الشرق أو الشمال بما يجرى في أقصى الغرب أو الجنوب بعد لحظات من وقوعه وأصبح من الممكن أن ينتقل الإنسان بين أطراف العالم في ساعات ..
وماذا عسى أن يكون الرأى إذا قال قائل: إن الخلافة قد عاشت واحدة قوية فياضة بالحياة يمتد ظلها الوارف على وطن إسلامى لا يقل في اتساع أرجائه ووفرة نشاطه عما عليه حال الأمم الإسلامية الآن .. ولم تكن المخترعات الحديثة والمواصلات السريعة قد ربطت بين أجزاء العالم كما هو الحال الآن .. ولكن هل الإسلام والمسلمون الآن كما كان الإسلام والمسلمون في العصر الذي يشار إليه؟!
إن وجه الخلافة يتغير بتغير الناس .. سأل رجل أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه: ما بال الناس قد اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبى بكر وعمر .. فقال على: لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلى وأنا وال على مثلك ..
هل يجوز للإمام أن ينيب عنه غيره
؟
انتهينا في الفصل السابق إلى أنه لا يجوز في رأى جمهور العلماء وهو الراجح - تعدد الإمام على التفصيل المشار إليه .. ولكن هل يجوز للإمام أن ينيب عنه غيره في تدبير شئون الأمة وتنفيذ ما يحتاج إلى التنفيذ من أمورها. أو لا يجوز؟.
وليس في الشريعة ما يمنع الإمام أن يفوض جانبا من شئون الأمة إلى شخص ذى علم ورأى وشجاعة وعدل يثق به ويطمئن إليه فيمنحه ما كان له من تدبير وتنفيذ ..
وقد جرى الاصطلاح على تسمية من ينيبه الإمام عنه ويفوض إليه جانبا من الشئون وبعضا من الأمور فيقوم معه بالتدبير والتنفيذ أو بأحدهما - بالوزير - وأطلق في كثير من الروايات والكتب على أبى بكر رضى الله عنه أنه كان وزير النبي صلى الله عليه وسلم كما أطلق على عمر رضى الله عنه أنه كان وزير أبى بكر وعلى وعثمان رضى الله عنهما أنهما كانا وزيرى عمر.
ولأهل الحل والعقد أن يطالبوا الخليفة بهذه
الاستنابة متى رأوا المصلحة قاضية بها ولا فرق بين أن يكون المستناب واحدًا أو أكثر حسبما يقتضيه صالح العمل ..
وقد تحدث الفيلسوف ابن خلدون عن الوزارة في مقدمته في الفصل الرابع والثلاثين في مراتب الملك والسلطان واتعابها
(1)
فقال:
"واعلم أن الوظائف السلطانية في هذه الملة الإسلامية مندرجة تحت الخلافة لاشتمال منصب الخلافة على الدين والدنيا كما قدمناه ..
فالأحكام الشرعية متعلقة بجميعها .. وموجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها لعموم تعلق الحكم الشرعى بجميع أفعال العباد .. والفقيه ينظر في مرتبة الملك والسلطان وشروط تقليدها استبدادًا على الخلافة وهو معنى السلطان .. أو تعويضها منها وهو معنى الوزارة عندهم وفى نظره في الأحكام والأموال وسائر السياسات مطلقا أو مقيدًا وفى موجبات العزل إن عرضت وغير ذلك من معاني الملك والسلطان ..
وكذا في سائر الوظائف التي دخلت الملك والسلطان من وزارة أو جباية أو ولاية .. لابد للفقيه من النظر في جميع ذلك لما قدمناه من انسحاب حكم الخلافة الشرعية في الملة الإِسلامية على رتبة الملك والسلطان ..
إلا أن كلامنا في وظائف الملك والسلطان ورتبته إنما هو بمقتضي طبيعة العمران .. ووجود البشر بما لا يخصها من أحكام الشرع فإن هذا ليس من غرض كلامنا فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشرعية مع أنها مستوفاة في كتب الأحكام السلطانية مثل كتاب القاضي أبى الحسن الماوردى وغيره من أعلام الفقهاء .. فإن أردت استيفائها فعليك بمطالعتها هنالك.
وإنما تكلمنا في الوظائف الخلافية وأفردناها لتميز بينها وبين الوظائف السلطانية لا لتحقيق أحكامها الشرعية ..
وإنما نتكلم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنسانى ..
وبعد أن أشار إلى فروع الخطط السلطانية ووجوه حاجة السلطان فيها قال: "وما زال الأمر في الدول قبل الإسلام هكذا حتى جاء الإسلام وصار الأمر خلافة فذهبت تلك الخطط كلها بذهاب رسم الملك إلا ما هو طبيعى من المعاونة بالرأى والمفاوضة فيه فلم يمكن زواله إذ هو أمر لابد منه .. فكان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهماته العامة والخاصة ..
ويخص مع ذلك أبا بكر بخصوصيات أخرى .. حتى كان العرب الذين عرفوا الدول وأحوالها في كسرى وقيصر والنجاشى يسمون أبا بكر وزيره ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام .. وكذا عمر مع أبى بكر .. وعلى وعثمان مع عمر .. ".
وقال القاضي أبو الحسن الماوردى في كتابه الأحكام السلطانية
(2)
: "والوزارة على ضربين: وزارة تفويض .. ووزارة تنفيذ .. فأما وزارة التفويض فهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه .. وإمضائها على اجتهاده .. وليس يمتنع جواز هذه الوزارة".
وقال الله تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي
(1)
مقدمة ابن خلدون، الفصل الرابع والثلاثين ص 210 وما بعدها طبع كتاب الشعب.
(2)
الأحكام السلطانية للقاضى أبو الحسن الماوردى ص 22 وما بعدها.
هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمامة أجوز .. ولأن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستتابة ونيابة الوزير المشارك له في التدبير وذلك أصح في تنفيذ الأمور من تفرده بها ليستظهر بها على نفسه .. وبها يكون أبعد من الزلل وأمنع من الخلل ..
ويعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب وحده .. لأنه محضى الآراء منفذ الاجتهاد فاقتضى أن يكون على صفات المجتهدين .. ويحتاج فيها إلى شرط زائد على شروط الإمامة ..
وهو أن يكون من أهل الكفاية فيما وكل إليه من أمر الحرب والخراج خبرة بهما ومعرفة بتفصيلهما فإنه مباسر لهما تارة ومستنيت فيهما أخرى .. فلا يصل إلى استنابة الكفاة إلا أن يكون منهم كما لا يقدر على المباشرة إذا قصد عنهم .. وعلى هذا الشرط مدار الوزارة وبه تنتظم السياسة ..
وقد كتب المأمون رضى الله عنه في اختيار وزير فقال: "إنى التمست لأمورى رجلا جامعا لخصال الخير ذا عفة في خلائقه واستقامة في طرائقه قد هذبته الآداب .. وأحكمته التجارب .. إن أؤتمن على الأسرار قام بها .. وإن قلد مهمات الأمور نهض فيها .. يسكته الحلم .. وينطقه العلم .. وتكفيه اللحظة .. وتغنيه اللمحة .. له صولة الأمراء .. وأناة الحكماء .. وتواضع العلماء .. وفهم الفقهاء .. إن أحسن إليه شكر وإن ابتلى بالإساءة صبر .. لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده .. ويسترق قلوب الرجال بخلابة لسانه .. وحسن بيانه .. ".
فهذه الأوصاف إذا كملت في الزعيم المدبر .. وقل ما تكمل .. فالصلاح بنظره عام .. وما يناط برأيه وتدبيره تام .. وإن اختلت فالصلاح بحسبها يختل .. والتدبير على قدرها يعتلى .. ولئن لم يكن هذا من الشروط الدينية المحضة فهو من الشروط السياسية الممازحة لشروط الدين لما يتعلق بها من مصالح الأمة ..
واستقامة الملة .. فإذا كملت شروط هذه الوزارة فيمن هو أهل لها فصحة التقليد فيها معتبرة بلفظ الخليفة المستوزر بأن يجمع في لفظه بين تفويض عموم النظر له والنيابة عنه كأن يقول: "قلدتك ما إليّ نيابة عنى" وبالاقتصار على أحدهما لا تنعقد الوزارة ..
ألم تر أن الله تعالى يقول حكاية عن نبيه موسى صلوات الله عليه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} فلم يقتصر على مجرد الوزارة حتى قرنها بشد أزره وأشركه في أمره ..
والنظر في وزارة التفويض معتبر بشرطين يقع بهما الفرق بين الإمامة والوزارة:
الأول: يختص بالوزير وهو مطالعة الإمام لما أمضاه من تدبير وأنفذه من ولاية وتقليد لئلا يصير بالاستبداد بالأمور كالإمام وهو غير مفوض بالإِمامة من قبل من له حق إقامته ..
الثاني: مختص بالإمام وهو أن يتصفح أعمال الوزير وتدبيره الأمور ليقر منها ما وافق الصواب ويستدرك ما خالفه لأن تدبير الأمة إليه موكول .. وعلى اجتهاده محمول ..
ويجوز لهذا الوزير أن يحتكم بنفسه وأن يقلد الحكام كما يجوز ذلك للإمام لأن شروط الإمامة فيه معتبرة .. وكل ما صح من الإمام صح من الوزير إلا ثلاثة أشياء:
الأول: ولاية العهد فإن للإمام أن يعهد بالإمامة إلى من يراه أهلا لها .. وليس ذلك للوزير ..
الثاني: أن للامام أن يستفتى الأمة من الإمامة؟ وليس ذلك للوزير.
الثالث: أن للإمام أن يعزل من قلده الوزير .. وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام ..
وأما وزارة التنفيذ فحكمها أضعف وشروطها أقل لأن النظر فيها مقصور على رأى الإمام وتنفيذه ..
وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة يؤدى عنه ما أمر به .. وينفذ عنه ما ذكر .. ويمضى ما حكم .. ويخبر بتقليد الولاية وتجهيز الجيوش .. ويعرض عليه ما ورد من المهام وحدت من الأمور ليعمل فيه ما يؤمر به .. فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بدال عليها ولا متقلد لها ..
ولا يجوز لوزير التنفيذ أن يستخلف نائبا عنه إلا إذا أذن له الإمام في الاستخلاف على غير الأمر في وزير التفويض فإن له أن يستنيب عنه ولو لم يؤذن في ذلك إلا أن ينهاه الإمام عن الاستخلاف فلا يجوز له وذلك لأن الاستخلاف تقايد نصح من وزير التفويض ولم يصح من وزير التنفيذ على الوجه المذكور.
شروط الخليفة:
جاء في شرح المقاصد للسعد التفتازانى (1): يشترط في الإمام أن يكون مطلقا حرًا ذكرًا عدلا .. لأن غير العادل من الصبى والمعتوه قاصر عن القيام بالأمور على ما ينبغى .. والعبد مشغول بخدمة ألسيد لا يفرغ للأمر مستحقر في أعين الناس لا يهاب ولا يمتثل أمره ..
والنساء ناقصات عقل ودين ممنوعات من الخروج إلى مشاهد الحكم .. ومعارك الحرب .. والفاسق لا يصلح لأمر الدين ولا يوثق بأوامره ونواهيه .. والظالم يختل به أمر الدين والدنيا .. وكيف يصلح للولاية .. وما الوالى إلا لدفع شره .. أليس بعجيب استرعاء الذئب .. وأما الكافر فأمره ظاهر ..
وزاد الجمهور أن يكون شجاعا لئلا يجبن عن إقامة الحدود ومقاومة الخصوم .. مجتهدا في الأصول والفروع ليتمكن من القيام بأمر الدين - ذا رأى في تدبير الأمور لئلا يخبط في سياسة الجمهور ولم يشترطها بعضهم لندرة اجتماعها في الشخص وجواز الاكتفاء فيها بالاستعانة بالغير بأن يفوض أمر الحروب ومباشرة الخطوب إلى الشجعان .. ويستفتى المجتهدين في أمور الدين - ويستشير أصحاب الآراء الصائبة في أمور الملك .. واتفقت الأمة على أن يكون قرشيا من أولاد النضر بن كنانة خلافا للخوارج وأكثر المعتزلة ..
لنا - السنة والإجماع: أما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" - وليس المراد إمامة الصلاة اتفاقا .. فتعينت الإمامة الكبرى .. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الولاة من قريش ما أطاعوا الله واستقاموا لأمره" .. وقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشا ولا تقدموها" ..
وأما الإجماع فهو أنه لما قال الأنصار يوم السقيفة: "منا أمير ومنكم أمير" منعهم أبو بكر رضى الله عنه بعدم كونهم من قريش .. ولم ينكره عليه أحد من الصحاية فكان إجماعًا ..
احتج المخالف بالمنقول والمعقول .. أما المنقول: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشى أجدع" وأجيب بأن ذلك في غير الإمام من الحكام جمعا بين الأدلة ..
وأما المعقول فهو أنه لا عبرة بالنسب في القيام بمصالح الملك والدين .. بل العبرة للعلم والتقوى والبصيرة في الأمور والخبرة بالمصالح والقوة على الأهوال وما أشبه ذلك ..
وأجيب بالمنع .. بل إن لشرف الأنساب وعظيم قدرها في النفوس أثرا تاما في اجتماع الآراء وتآلف الأهواء وبذل الطاعة والانقياد وإظهار آثار الاعتقاد .. ولهذا شاع في الأعصار أن يكون الملك والسياسة في قبيلة مخصوصة وأهل بيت معين حتى أنه ليرى الانتقال عنه من الخطوب العظيمة والاتفاقات العجيبة .. ولا أليق بذلك من قريش الذين هم أشرف الناس سيما وقد اقتصر عليهم ختم الرسالة وانتشرت منهم الشريعة الباقية إلى يوم القيامة.
وأما إذا لم يوجد من قريش من يصلح لذلك أو لم يقتدر على نصبه لإستيلاء أهل الباطل وشوكة الظلمة وأرباب الضلالة .. فلا كلام في جواز تقلد القضاء وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وجميع ما يتعلق بالإمام من كل ذى شوكة .. كما إذا كان الإمام القرشى فاسقا أو جائرا أو جاهلا فضلا عن أن يكون مجتهدا .. وبالجملة معنى ما ذكر في باب الإمامة على الاختيار والاقتدار ..
وأما عند العجز والاضطرار واستيلاء الظلة والكفار والفجار وتسلط الجبابرة الأشرار فقد صارت الرياسة الدنيوية تقلبية .. وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالإمام ضرورة ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشروط .. والضرورات تبيح المحظورات .. وإلى أن المشتكى في النائبات وهو المرتجى لكشف الملمات.
وقال السعد في أول فصل الإمامة
(1)
أثناء حديثه عن أن الإمامة من مسائل الفروع وأن ذكرها في كتب الفقه أليق .. وبيان السبب في نقل الكلام عنها إلى علم الكلام .. قال:
وقد ذكر في كتبنا الفقهية أنه لابد للأمة من إمام يحيى الدين ويقيم السنة وينتصف للمظلومين ويستوفى الحقوق ويضعها مواضعها ..
ويشترط أن يكون مكلفا مسلمًا عدلا حرًّا ذكرًا مجتهدًا شجاعًا ذا رأى وكفاية سميعا وبصيرا ناطقا قرشيا .. فإن لم يوجد من قريش من يستجمع الصفات المعتبرة ولى كنعانى .. فإن لم يوجد فرجل من ولد إسماعيل .. فإن لم يوجد فرجل من العجم .. ولا يشترط أن يكون هاشميا ولا معصوما ولا أفضل من يولى عليهم ..
فإذا مات الإمام وتصدى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف وقهر الناس بشوكته انعقدت الخلافة له .. وكذا إذا كان فاسقا أو جاهلا على الأظهر إلا أنه يعصى بما فعل .. ولا يعتبر الشخص إماما بتفرده بشروط الإمامة .. ويجب طاعة الإمام ما لم يخالف حكم الشرع سواء كان عادلا أو جائرا ..
وجاء في كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهرى
(2)
:
قال أبو محمد: وذكر الباقلانى في شروط
(1)
شرح المقاصد للسعد التفتازاني ص 271.
(2)
الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهرى جـ 4 ص 128 وما بعدها.
الإمامة أنها أحد عشر شرطا: وهذا أيضا دعوى بلا برهان ..
وما كان هكذا فهو باطل فوجب أن ينظر في شروط الإمامة التي لا تجوز الإمامة لغير من هن فيه فوجدناها: أن يكون صليبة قريش لإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإمامة فيهم .. وأن يكون بالغا مميزا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة فذكر الصبى حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق .. وأن يكون رجلا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة، وأن يكون مسلما لأن الله تعالى يقول:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} والخلافة أعظم السبيل ولأمره تعالى بإصفاء أهل الكتاب وأخذهم بأداء الجزية وقتل من لم يكن من أهل الكتاب حتى يسلموا ..
وأن يكون متقدما لأمره عالما بما يلزمه من فرائض الدين متقيا لله تعالى بالجملة غير معاين بالفساد في الأرض لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} لأن من قدم من لا يتقى الله عز وجل ولا في شيء من الأشياء أو قدم معلنا يالفساد في الأرض أو غير مأمون أو من لا ينفذ أمرًا أو من لا يدرى شيئا من دينه فقد أعان على الإِثم والعدوان ولم يعن علي البر والتقوى ..
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وقال عليه السلام: "يا أبا ذر! إنك ضعيف .. لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم" وقال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} فصح أن السفيه والضعيف ومن لا يقدر على شيء فلابد له من ولى .. ومن لابد له من ولى فلا يجوز أن يكون وليًا للمسلمين .. فصح أن ولاية من لم يستكمل هذه الشروظ الثمانية باطلة لا يجوز ولا ينعقد أصلا .. ثم يستحب بأن يكون عالما يخصه من أمور الدين من العبادات والسياسة والأحكام مؤديا للفرائض كلها لا يخل بشئ منها مجتنبًا لجميع الكبائر سرًّا وجهرًا .. مستترا بالصغائر إن كانت منه ..
فهذه أربع صفات يكره أن يلى الأمة من لم ينتظمها فإن ولى فولايته صحيحة ونكرهها .. وطاعته فيما أطاع الله فيه واجبة وسننه معًا لم يطع الله فيه واجب .. والغاية المأمولة فيه أن يكون رفيقا بالناس في غير ضعف شديدا في إنكار المنكر في غير ضعف ولا تجاوز للواجب مستيقظا غير غافل شجاع النفس غير مانع للمال في حقه ولامبذرا له في غير حقه ..
ويجمع هذا كله أن يكون الإمام قائما بأحكام القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. . فهذا يجمع كل فضيلة
…
قال أبو محمد: ولا يضر الإمام أن يكون في خَلْقِهِ عيب كالأعمى والأصم والأجدع والأجذم والأحدب والذي لا يَدَان له ولا رجلان .. ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ولو أنه ابن مائة عام .. ومن يعرض له الصرع ثم يفيق .. ومن بويع إثر بلوغه الحلم وهو مستوف لشروط الإمامة ..
فكل هؤلاء إمامتهم جائزة إذ لم يمنع منها نص قرآنى ولا سنة ولا إجماع ولا نظر ولا دليل أصلا .. بل قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . فمن قام بالقسط والعدل فقد أدى ما أمر الله به ..
ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث في الإمامة ولا في أنها
لا يجوز لمن لم يبلغ .. حاشا الروافض فإنهم أجازوا كلا الأمرين .. ولا خلاف لأحد في أنها لا تجوز لامرأة للحديث النبوى المتقدم ..
وقد قال بن حزم (1): اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله تعالى ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
ثم اختلف هؤلاء القائلون بوجوب الإمامة على قريش ..
فذهب أهل السنة وجميع الشيعة وبعض المعتزلة وجمهور المرجئة إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريس خاصة من كان من ولد فهر بن مالك وأنها لا تجوز فيمن كان أبوه من غير بنى فهر بن مالك وإن كانت أمه من قريش ولا في حليف قريش ولا في مولاها ..
وذهبت الخوارج كلها وجمهور المعتزلة وبعض المرجئة إلى أنها جائزة في كل من قام بالكتاب والسنة قرشيا كان أو عربيا أو ابن عبد ..
وقال ضرار بن عمرو النطفانى:" إذا اجتمع حبشى وقرشى كلاهما قائم بالكتاب والسنة فالواجب أن يقدم الحبشى لأنه أسهل لخلعه إذا حاد عن الطريقة ..
قال أبو محمد: وبوجوب الإمامة في ولد فهر بن مالك خاصة نقول: لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الأئمة من قريش .. وهذه رواية جاءت مجئ التواتر ورواها أنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومعاوية ..
وروى جابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وعبادة بن الصامت معناها .. ومما يدك على صحة ذلك إذعان الأنصار رضى الله عنهم يوم السقيفة وهم أهل الدار والمنعة والعدد والسابقة في الإسلام رضى الله عنهم
…
ومن المحال أن يتركوا اجتهادهم لإجتهاد غيرهم لولا قيام الحجة عليهم بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الحق لغيرهم في ذلك ..
فإن قال قائل: إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش .. يدخل في ذلك الحليف والمولى وابن الأخت لقوله صلى الله عليه وسلم: مولى القوم منهم ومن أنفسهم وابن أخت القوم منهم ..
فالجواب وبالله التوفيق ..
أن الإجماع قد يتقن وصح على أن حكم الحليف والمولى وابن الأخت كحكم من ليس له حليف ولا مولى ولا ابن أخت فمن أجاز الإمامة في غير هؤلاء - جوزها في هؤلاء ومن منعها من غير قريش منعها من الحليف والمولى وابن الأخت .. فإذا صح البرهان بأن لا يكون إلا في قريش لا في من ليس قرشيا صح بالإِجماع أن حليف قريش ومولاهم وابن أختهم كحكم من ليس قرشيا ..
واختلف القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا صلبة قريش ..
فقالت طائفة: هي جائزة في جميع ولد فهر بن مالك فقط .. وهذا قول أهل السنة وجمهور المرجئة وبعض المعتزلة ..
وقالت طائفة: لا تجوز الخلافة إلا في ولد العباس بن عبد المطلب .. وهو قول الراوندية .. وقالت طائفة: لا تجوز الخلافة إلا في ولد على بن أبى طالب ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى
طالب .. وبلغنا عن بعض بنى الحارث بن عبد المطلب أنه كان يقول:
لا تجوز الخلافة إلا في بنى عبد المطلب خاصة .. ويراها في جميع ولد عبد المطلب وهم أبو طالب وأبو لهب والحارث والعباس .. وبلغنا عن رجل كان بالأردن يقول: لا تجوز الخلافة إلا في بنى أمية بن عبد شمس .. وكان له في ذلك تأليف مجموع .. وألف رجل من ولد عمر بن الخطاب كتابا يمنح فيه بأن الخلافة لا تجوز إلا لولد أبى بكر وعمر رضى الله عنهما ..
قال أبو محمد: فأما هذه الفرق فما وجدنا لهم شبهة يستحق أن يشتغل بها إلا دعاوى كاذبة لا وجه لها .. وإنما الكلام مع الذين يرون الأمر لولد العباس أو لولد على بن أبى طالب فقط لكثرة عددهم ..
احتج من ذهب إلى أن الخلافة لا تجوز إلا في ولد العباس فقط بأن العباس عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووارثه .. فإذا كان ذلك كذلك .. فقد ورث مكانه .. وهذا ليس بشئ لأن ميراث العباس رضى الله عنه لو وجب لكان ذلك في المال خاصة .. وأما المرتبة فما جاء قط في الديانات أنها تورث .. فبطل هذا التمويه جملة ..
ولو جاز أن تورث المراتب لكان من ولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: مكانا ما إذا مات وجب أن يرث تلك الولاية عاصبة ووارثه وهذا ما لا يقولون به ..
فكيف وقد صح بإجماع جميع أهل القبلة حاشا الروافض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ..
فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} وبقوله حاكيا عن زكريا عليه السلام أنه قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} .. فكأن الآيتين تدلان على ميراث الأنبياء في المال ..
والجواب عن الأذلي أن سليمان قد صار نبيا كأبيه وليس أنه ورثه في المال إذا الثابت تاريخيا أنه كان لأبيه أولاد كثيرون غيره .. وعن الثانية بأن زكريا إنما دعى ربه وطلب ولدًا نبيًا لا ولدًا يرثه في المال .. بدليل قوله بعد ويرث من آل يعقوب ..
وأيضًا فإن العباس رضى الله عنه لم يكن محيطا بميراث النبي صلى الله عليه وسلم .. وإنما كان يرث ثلاثة أثمان .. أما ميراث المرتبة فقد كان العباس حيا وقت موت النبي صلى الله عليه وسلم فما أدعى لنفسه حقا ولا إرثا في المرتبة أو في غيرها لا حينئذ ولا بعد ذلك وجاءت الشورى في عهد عمر ولم يذكر فيها ولم ينكر هو ولا غيره ترك ذكره فيها.
فصح أن هذا رأى محدث فاسد لا يصح الاشتغال به .. ولم يثر الخلفاء من أولاده والأفاضل منهم في خلافة العباسيين هذه الدعوة ترفعا واعتقادًا بوهنها وسقوطها ..
وجاء في كتاب الأحكام السلطانية للقاضى أبى الحسن الماوردى
(1)
فإذا ثبت وجوب الإِمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم .. فإذا قام بها من هو من أهلها سقط فرضها عن الكافة .. وإذا لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان:
الأول: أهل الاختيار حتى يختاروا إماما للأمة.
والثانى: أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة ..
(1)
الأحكام السلطانية للقاضى أبى الحسن الماوردى ص 5 وما بعدها.
وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم .. وإذا تميز هذان الفريقان من الأمة في فرض الإمامة وجب أن يعتبر كل فريق منهما بالشروط المعتبرة فيه .. فأما أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة:
الأول: العدالة الجامعة لشروطها ..
الثاني: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها ..
الثالث: الرأى والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح .. وبتدبير المصالح أقوم وأعرف ..
وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزية يتقدم بها عليه .. وإنما صار من يحضر ببلد الإمام متوليا لعقد الإمامة عرفا لا شرعا لسبق علمهم بموته .. ولأن من يصلح للخلافة في الأغلب موجودون في بلده ..
وأما أهل الإمامة .. فالشروط المعتبرة فيهم سبعة:
الأول: العدالة على شروطهما الجامعة.
وقد قال في ولاية القضاء
(1)
في شروط ولاية القاضي: والعدالة .. وهى معتبرة في كل ولاية بأن يكون صادق اللهجة .. ظاهر الأمانة. عفيفا عن المحارم .. متوقيا المآثم .. بعيدا عن الريب .. مأمونا في الرضا. والغضب .. مستعملا لمروءة مثله في دينه ودنياه .. فإذا تكاملت في الشخص فهى العدالة التي تجوز بها شهادته .. وتصح بها ولايته .. وإن انخرم منها وصف منع من الشهادة والولاية .. فلم يسمع له قول .. ولم ينفذ له حكم .. وهذه هي شروط العدالة الجامعة ..
الثاني: العلم المؤدى إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام.
الثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها ..
الرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استبطاء الحركة وسرعة النهوض.
الخامس: الرأى المفضى إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح.
السادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو.
السابع: النسب .. وهو أن يكون من قريش لورود النص فيه .. وانعقاد الإجماع عليه .. ولا اعتبار بضرار حين شذ فجوزها في جميع الناس لأن أبا بكر الصديق رضى الله عنه احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة لما بايعوا سعد بن عبادة عليها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش، فأقلعوا عن التفرد بها ورجعوا عن المشاركة فيها حين قالوا:"منا" أمير ومنكم أمير" - تسليما لروايته وتصديقا لخبره ورضوا بقوله: نحن الأمراء وأنتم الوزراء وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قدموا قرشًا ولا تقدموها، وليس مع هذا النص المسلم شبهة النازع فيه ولا قول لمخالف له.
وجاء في مقدمة ابن خلدون المعروفة
(2)
في الفصل السادس والعشرين في اختلاف الأمة في حكم منصب الخلافة وشروطه: "وإذا تقرر أن نصب الخليفة واجب بإجماع فهو من فروض
(1)
ولاية القضاء من الأحكام السلطانية للقاضى أبى الحسن الماوردى ص 69.
(2)
مقدمة ابن خلدون ص 172 طبع كتاب الشعب.
الكفاية وراجع إلى اختيار أهل الحل والعقد فيتعين عليهم نصبه .. ويجب على الخلق جميعا طاعته لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
وأما شروط هذا المنصب فهى أربعة: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثر في الرأى والعمل .. واختلف في شرط خامس وهو النسب القرشى ..
فأما اشتراط العلم فظاهر لأنه إنما يكون منفذا لأحكام الله تعالى إذا كان عالما بها .. وما لم يعلمها لا يصح تقديمه لها .. ولا يكفى من العلم إلا أن يكون مجتهدا لأن التقليد نقص ..
وأما شرط العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها فكان أولى باشتراطها فيه ..
ولا خلاف في انتفاء العدالة بفسق الجوإرح بارتكاب المحظورات وأمثالها .. أما انتفاؤها بالبدع الاعتقادية فهو محل خلاف ..
وأما الكفاية: فهو أن يكون جريئا على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيرا بها كفيلا بحمل الناس عليها عارفا بالعصبية وأحوال الدهاء .. قويا على معاناة السياسة ليصح له بذلك ما جعل إليه من حماية الدين وجهاد العدو وإقامة الأحكام وتدبير المصالح ..
وأما سلامة الحواس والأعضاء من النقص والعطلة كالجنون والعمى والصمم والخرس وما يؤثر فقده من الأعضاء في العمل كنقد اليدين والرجلين والانثيين فنشترط السلامة منها كلها لتأثير ذلك في تمام عمله وقيامه بما جعل إليه ..
وإن كان إنما يشين في النظر فقط كفقد إحدى هذه الأعضاء فشرط السلامة منها شرط كمال ..
ويلحق بفقدان الأعضاء المنع من التصرف ..
وهو ضربان:
ضرب يلحق بهذه في كون اشتراط السلامة ومنه شرط وجوب وهو القهر والعجز عن التصرف جملة بالأسر وشبهه ..
وضرب لا يلحق بهذه وهو الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غير عصيان ولا مشاقَّة .. فينتقل النظر في حال هذا المتولى .. فإن جرى على حكم الدين والعدل وحميد السياسة جاز قراره وإلا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك ويدفع علته حتى ينفَّد فعل الخليفة ..
وأما النسب القرشى فلإجماع الصحابة يوم السقيفة على ذلك .. فقد احتجت قريش على الأنصار - لما همَّوا يومئذ ببيعة سعد بن عبادة .. وقالوا: منا أمير ومنكم أمير - يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" وبأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم ونتجاوز عن مسيئكم ..
ولو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصية بكم فحجوا الأنصار بذلك ورجع الأنصار عن قولهم: "منا أمير ومنكم أمير" وعدلوا عما كانوا همّوا به من بيعة سعد بن عبادة لما ذكره المهاجرون من الحجج ..
وثبت أيضا في الصحيح، لا يزال هذا الأمر في هذا الحى من قريش" وأمثال هذه الأدلة كثيرة .. إلا أنه لما ضعف أمر قريش وتلاشت عصبيتهم بما نالهم من الترف والنعيم وبما فرقتم الدولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة.
وتغلب عليهم الأعاجم .. وصار الحل والعقد
لهم فاشتبه ذلك على كثير من المحققين حتى ذهبوا إلى نفى اشتراط القرشية .. وعوّلوا على ظواهر في ذلك مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا وإن ولى عليكم عبد حبشى ذو زبيبة" وهذا لا تقوم به حجة في ذلك فإنه خرج مخرج التمثيل والفرض للمبالغة في إيجاب السمع والطاعة ..
ومثل قول عمر رضى الله عنه: "لو كان سالم مولى أبى حذيفة حيا لوليته أولما دخلتنى فيه الظنة" وهو أيضا لا يفيد ذلك لما علمت أن مذهب الصحابي ليس بحجة .. وأيضا فإن مولى القوم منهم .. وعصبية الولاء حاصلة السالم في قريش .. وهى الفائدة في اشتراط النسب القرشى .. ولما استعظم أمر الخلافة ورأى شروطها كأنها مفقودة في ظنه عدل إلى سالم لتوفر شروط الخلافة عنده فيه حتى من النسب المفيد للعصبية كما نذكر ..
ولم يبق إلا صراحة النسب فرآه غير محتاج إليه .. إذ الفائدة في النسب إنما هي العصبية .. وهى حاصلة من الولاء فكان ذلك حرصا من عمر رضى الله عنه على النظر للمسلمين وتقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة ولا عليه فيه عهدة ..
ومن القائلين بنفى اشتراط النسب القرشى القاضي أبو بكر الباقلانى لما أدرك ما عليه عصبية قريش من التلاشي والاضمحلال واستبداد ملوك العجم على الخلفاء .. فأسقط شرط القرشية وإن كان موافقا لرأى الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده .. وبقى الجمهور على القول باشتراط القرشية وصحة الإمامة للقرشى ولو كان عاجزًا عن القيام بأمور المسلمين .. وردَّ عليهم بأن هذا يستلزم سقوط شرط الكفاية في الخليفة وهى التي يقوى بها أمره لأنه إذا ذهبت الشوكة بذهاب العصبية فقد ذهبت الكفاية وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرق ذلك أيضا إلى العلم والدين وسقط اعتبار شرط هذا المنصب .. وهو خلاف الإجماع ولنتكلم الآن في حكمة اشتراط النسب القرشى ليتحقق به الصواب في هذه المذاهب فنقول:
إن الأحكام الشرعية كلها لابد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها .. ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشى ومقصد الشارع منه لم يقتصر فيه على التبرك بوصْلَة النبي صلى الله عليه وسلم كما هو في المشهور .. وإن كانت تلك الوصْلة موجودة والتبرك بها حاصلا .. لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت فلابد إذن من المصلحة في اشتراط النسب وهى المقصودة من مشروعية هذا الاشتراط ..
وإذا سيرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الجماعة والمطالبة .. ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملة وأهلها وينتظم حبل الألفة فيها ..
وذلك أن قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم .. وكان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة والعصبية والشرف فكان سائر العرب يعترف لهم تنلك ويستكيفون لغلبهم ..
فلو جعل الأمر في سواهم لكان من المتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم .. ولا يقدر خيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف ولا يحملهم على الملَّة .. فتتفرق الجماعة وتختلف الكلمة ..
والشارع محذر من ذلك حريص على اتفاقهم ورفع التنازع والشقاق بينهم لتحصل اللحمة والعصبية وتحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد من خلاف علمهم ولا فرقة لأنهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع الناس منها فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب وهم أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة ..
وإذا انتظم كلمتهم بانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب ..
وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة ووطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في أيام الفتوحات واستمر بعدها في الدولتين إلى أن اضمحل أمر الخلافة وتلاشت عصبية العرب .. ويعلم من كان لقريش من الكثرة والتغلب على بطون مضر من مارسى أخبار العرب وسيرهم وتفطن لذلك في أحوالهم ..
وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في كتاب السير وغيره ..
فإذا ثبت أن اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب وعلمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إلمها وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية وهى وجود العصبية ..
فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولى عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية .. ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشية ..
إذ الدعوة الإسلامية التي كانت لهم كانت عامة .. ، وعصبية العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم وإنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة ..
وإذا نظرت إلى سر الله في الخلافة لم تعْدُ هذا لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده وليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم والخليفة مخاطب بذلك، ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه ..
ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب (قيل هو الفخر الرازى) في شأن النساء وأنهن في كثير من الأحكام الشرعية جعلن تبعا للرجال ولم يدخلن في الخطاب بالوضع وإنما دخلن عنده بالقياس وذلك لما لم يكن لهن من الأمر شيء وكان الرجال قوامين عليهن .. اللهم إلا في العبادات التي كل أحد فيها قائم على نفسه فخطابهن فيها بالوضع لا بالقياس ..
ثم إن الوجود شاهد بذلك فإنه لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب عليهم .. وقل أن يكون الأمر الشرعى مخالفا للأمر الوجودى .. والله تعالى أعلم ..
وجاء في شرح الدر المختار على تنوير الأبصار وحاشية ابن عابدين على هذا الشرح: "ويشترط في الإمام أن يكون مسلما حرًّا ذكرا عاقلا بالغا قادرًا قرشيا .. لأن الكافر لا يلى على المسلم .. قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} .. وولاية الإمام العام من أعظم السبيل .. ولأن العبد لا ولاية له على نفسه .. فكيف تكون له الولاية على غيره .. ولأن الولاية المتعدية فرع الولاية القائمة وليس للعبد ولاية قائمة .. وهو مستحقر في نظر العامة فلا يستطيع إنفاذ الأحكام ولا إقامة
الحدود .. ومثله الصبى والمجنون لا ولاية لأحدهما على نفسه فلا تكون له ولاية على غيره ولو خاصة فكيف بالولاية العامة ..
ولأن النساء أمرن بالقرار في البيوت فكان مبنى حالهن على الستر وخروجهن إلى المجتمعات يعرضهن للانكشاف والاختلاط والوقوع في المحرم وهو حرام .. وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس ولوا عليهم بنت كسرى فقال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، ففى الفلاح عمن ولوا أمرهم امرأة فهو بمنزلة النهى عن ذلك والأمر عام فيشمل كل أمر عام الإمارة وغيرها .. وقوله: قادرًا .. أي على تنفيذ الأحكام وإنصاف المظلوم من الظالم وسد الثغور وحماية البيضة وحفظ حدود الإسلام وتجهيز الجيش وجر العساكر .. وقوله: قرشيا .. لقوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش، وقد سلمت الأنصار الخلافة لقريش بهذا الحديث ..
وبه يبطل قول الضرارية - إن الإمامة تصلح في غير قريش .. وقول الكعبية: إن القرشي أولى بها .. ولا يشترط أن يكون الإمام هاشميا .. أي من أولاد هاشم ولا علويا .. أي من أولاد على بن أبى طالب كما قال بعض الشيعة نفيا لخلافة بنى العباس ولا معصوما .. كما قالت الاسماعيلية والاثنى عشرية أو الإِمامية كما في شرح المقاصد ..
ويكره تقليد الفاسق .. أشار إلى أنه لا تشترط عدالته .. وعدها في المسايرة للكمال ابن الهمام من الشروط وعبر عنها تبعا للإمام الغزالى بالورع .. وزاد في الشروط العلم والكفاءة وقال:
والظاهر أن الكفاءة أعم من الشجاعة تنتظم كونه ذا رأى وشجاعة كى لا يجبن عن الاقتصاص وإقامة الحدود والحروب الواجبة وتجهيز الجيوش. وهذا الشرط يعنى الشجاعة مما شرطه الجمهور ..
ثم قال: وزاد كثيرون الاجتهاد في الأصول والفروع ..
وقيل لا يشترط الاجتهاد ولا الشجاعة لندرة اجتماع هذه الأمور في واحد .. ويمكن تفويض مقتضيات الشجاعة والحكم إلى غيره وأن يستفتى العلماء ..
وعند الحنفية: العدالة ليست شرطا للصحة .. فيصح تقليد الفاسق الإمامة مع الكراهة .. وإذا قلد عدلا ثم جاز أو فسق لا ينعزل ولكن يستحق العزل إن لم يستلزم عزله فتنه .. وإلا ترك .. ويجب أن يدعو له بالصلاح والاستقامة .. ولا يجب الخروج عليه في هذه الحالة كذا عن أبى حنيفة .. وكلمتهم في توجيه ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم صلوا خلف، بعض بنى أمية وقبلوا الولاية منهم .. وفى هذا نظر .. إذ لا يخفى أن أولئك كانوا ملوكا تغلبوا .. والمتغلب تصح منه. هذه الأمور للضرورة .. وليس من شرط صحة الصلاة خلف إمام أن يكون عدلا .. وصار الحال عند المتغلب كما لم يوجد أو وجد ولم يقدر على توليته لغلبة الجورة .. انتهى كلام المسايرة للمحقق ابن الهمام ..
هذه هي أقوال المؤلفين في موضوع الخلافة من الفقهاء والمتكلمين في بيان الشروط التي يجب أن تتوافر في الشخص ليصح شرعا أن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين يدير شئونهم ويرعى مصالحهم في ظل من كتاب الله وسنة رسوله وأحكام شريعته .. وبالنظر في هذه الأقوال نجد أنهم اختلفوا في كثير من الشروط هل يجب اعتبارها شروطا لا يصلح للخلافة إلا من تتوافر فيه وتجتمع له أو لا تعتبر كذلك
فيرتفع إلى منصب الخلافة من فقدها أو فقد بعضها حتى سلامة الحواس والأعضاء وحتى بلوغ الخليفة في العلم مرتبة الاجتهاد وتوفر الشجاعة والإقدام فيه شملها هذا الخلاف ..
ولكنهم اتفقوا على اشتراط النسب القرشي فيه استنادًا إلى نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"، وحديثه الآخر:" قدموا قريشا ولا تقدموها" وإلى إجماع الصحابة رضوان الله عليهم لما اجمعوا في سقيفة بنى ساعدة وقامت بينهم مناقشة وهمَّ الأنصار بمبايعة سعد بن عبادة ثم قالوا: منا أمير ومنكم أمير.
واحتج عليهم أبو بكر رضى الله عنه بأن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحى من قريش وأشار إلى الحديث: وأذعن الأنصار لهذا الاحتجاج فكان إجماعا على اعتباره شرطا ..
وقد انفرد ابن خلدون بعد أن أشار إلى نص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" وجريانه على لسان أبى بكر رضى الله عنه في احتجاجه على الأنصار .. وإلى الإجماع لما أذعن الأنصار لاحتجاج المهاجرين بذلك.
انفرد ابن خلدون بالحديث عن غاية المشرع من اشتراط النسب القرشي وهى العصبية التي بتوافرها يكتسب الخليفة قوة وإقداما .. وتتوفر له الطاعة والتقدير مما يكفل تحقيق غاية الشارع من إيجاب نصب الخليفة ..
وإذا كانت هذه هي الغاية فحيث تتوفر ينبغى الوقوف هناك - سواء أكانت في قرشى أم في غير قرشى .. بل إن تعبيره قد جرى بما قد يفهم منه إجازة تعدد الإمام إذا توفرت العصبيات لأكثر من شخص كل في قطره ومحيطه فقط إذ يقول في ذلك: "وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية وهى وجود العصبية فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولى عصبية قوية غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا مَنْ هم سواهم وتجمع الكلمة على حسن الحماية .. ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشية إذ الدعوة الإِسلامية التي كانت لقريش إذ ذاك كانت عامة .. وعصبية العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم ..
وإنما يخص لهذا العهد كل قطر بمن تكون له فيه العصبية الغالبة .. " فهذه العبارة تشير إلى التعدد تبعا لوجود العصبيات المحلية ومن يرجع إلى المناقشة التي جرت بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بنى ساعدة بشأن من يكون الإمام على المسلمين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم والأشخاص الذين رشحوا للخلافة من الجانبين والصفات والمزايا التي لوحظت وجرت المفاضلة على أساسها بين الطرفين أولا ثم بين المرشحين ثانيا - يجد أن الدين والتفاضل فيه والسبق إليه والتضحية في سبيل نصرته وتأييده ورفعة شأنه وشد أركانه .. ثم المقدرة والشجاعة - ونلمح مع هذا الاعتبار العصبية التي هي أساس القوة والقدرة على التنفيذ وكفالة الطاعة والانقياد من الناس.
فقد قال قائل الأنصار: أما بعد: فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا .. استمر يقيم أحقيتهم بالخلافة على ما كان لهم في نصرة الإسلام من بلاء وما بذلوا في سبيل إعلاء كلمة الدين والتمكين له من أموالهم وأنفسهم.
وأن هذا الدين قد أدى إليهم .. وانتصر بسيوفهم .. فهم لهذا أولى الناس بالإسلام والمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ورشحوا للإمامة سعد بن عبادة السيد والمطاع فيهم والذي
حكم في اليهود بعد الخندق بحكم الله تعالى من فوق سبع سماوات كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فنظروا إلى جانب الدين والفضل فيه ورشحوا شخصًا ذا رأى سديد وعصبية في قومه ..
قال أبو بكر: لقد أرسل الله ورسوله بالهدى ودين الحق فدعا للإسلام فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعا إليه .. فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلامًا .. ونحن عشيرة رسول الله وأقاربه وذو رحمة .. ونحن أوسط الناس أنسابا في العرب ولدتنا العرب كلها فليس في العرب قبيلة إلا لقريش فيها ولادة ..
"ولن يصلح هذا الأمر إلا لرجل من قريش هم أصبح الناس وجوها. وأسلطهم ألسنة وأفضلهم قولًا .. فالناس لهم تبع .. ".
فهو يذكر السبق إلى الإسلام والخروج من الديار والأموال .. ويشرح الفضل في الدين ثم يذكر أن الخلافة لا تصلح إلا لرجل من قريش لمكانتها في العرب وصلتها بقبائلهم .. وأن الناس لهم تبع .. وتلك هي العصبية في مظهرها الواضح وبقية الصفات التي أشرنا إليها ..
أعباء الخليفة:
أن الخليفة هو الحارس الأمين على جماعة المسلمين والقائم على تدبير شئونهم وحفظ نظامهم وحمايتهم من الاعتداء وحراسة دينهم والمحافظة عليه .. وحملهم على مقتضى مبادئه وتعاليمه وأحكامه يقيم الحدود وينفذ الأحكام .. ويقيم شعائر الدين ويؤمن طريق الدعوة إليه وهو في ولايته عليهم يأخذهم بالسياسة العادلة الرحيمة .. ويرعى مصالحهم .. ويتفقد أحوالهم كما يرعى الأب الصالح شئون أولاده ويتفقد مصالحهم .. كان هذا شعور الخليفة في عهد الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم ..
وكانت تلك سياسته ورعايته في المسلمين .. يعتبر نفسه مسئولا عن جميع المسلمين في دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم وأمنهم واستقرارهم ..
وكان المسلمون كذلك يعرفون موقفهم من الخليفة وصلتهم به وحقهم عليه وواجبهم نحوه .. والكل يعرفون حق الله وحكمه .. ويقفون عند حدوده ..
يؤثر عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضى الله عنه قوله: "لو أن بعيرا ند بأقصى العراق لخشيت أن يسألنى الله عنه .. " وتروى في تاريخه قصة تجواله في المدينة ليلا لتعرف أحوال الناس وما هم عليه ومروره بأعرابية تعلل صغارًا لها بقدر وضعتها على النار وفيها ماء خالص لا شيء فيه .. ولما دنا منها سألها ماذا تصنع؟ وما بال الصغار يتضاعزن .. أجابته بأنهم يتضورون جوعًا وهى تعللهم حتى يناموا .. فقال: لم لا تذهبين إلى عمر ليعينك على أطعامهم؟ فقالت: الله بيننا وبينه .. فجزع عمر جزعًا شديدًا .. وقال في لهفة وحزن: وما يدرى عمر بكم؟ فقالت: يتولى أمرنا ويغفل عنا .. فأسرع عمر يحمل إليها من بيت مال المسلمين عدلا من دقيق وكبة من شحم .. وجهز بنفسه الطعام للصغار ولم ينصرف حتى أكلوا وشبعوا وأخذوا يصطرعون ثم ناموا هادئين .. لست تجد أروع من هذا التصوير لمشاعر الخليفة ومدى فهم الناس لحقوقهم عليه ..
والإسلام يعتبر الحكم أمانة في يد الحاكم سواء أقلد الحكم برضى الناس واختيارهم بالبيعة أو بالعهد والاستخلاف أم اجتمع له الحكم بقوة وسلطان وهو مطالب أمام الله تعالى وأمام جماعة المسلمين وأمام ضميره برعاية هذه الأمامة
ومسئول عما استرعاه الله من مصالح المسلمين وعليه أن يقوم عليها بالحق والعدل ويسير فيها في هدى من مبادئ الدين وأحكامه ..
فإذا جار أو انحرف فقد خان الأمانة وخان الله ورسوله وجماعة المسلمين .. يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
…
} ويقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} .
وليس من غاية الإسلام أن يخلق مجتمعا على أي وضع ويقيم في هذا المجتمع حكمًا على أية صورة وإنما غايته أن يقيم مجتمعا سليما معافى من الأدواء والأمراض الاجتماعية التي تنتاب المجتمعات فتصيبها بالتفكك والانحلال والدمار - أمراض الظلم والطغيان والفساد الخلقى والشهوة الجامحة المدمرة .. مجتمعا مترابطا بمشاعر الأخوة والتراحم والتضامن والتكافل .. وأن يقيم في هذا المجتمع حكمًا صالحا رشيدا رحمما يتجاوب فيه الحاكم مع أفراد المجتمع في المشاعر الكريمة نحو الدين وتقديسه والاعتزاز به ويأخذ أيديهم إلى العمل الجاد المثمر في سبيل إسعادهم والنهوض بمصالحهم ..
ومن مبادئ الإسلام في نظامه السياسى مسئولية الحاكم كما يقررها الحديث الوارد في الصحيحين: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته .. والمرأة راعية فى قال زوجها وهى مسئولة عن رعيتها والولد راع فى مال أبيه وهو مسئول عن رعيته، والعبد راع فى مال سيده وهو مسئول عن رعيته .. ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ..
هذا موقف الإسلام من الحاكم والحكام .. أما موقفه من المحكومين والأمة بصفة عامة فهو نفس الوضع .. طالب كل فرد مكلف في جماعة المسلمين بأن يخشى الله تعالى ويتقيه في كل أعماله وأحواله في السر وفى العلن فيما بينه وبين نفسه وفيما بينه وبين الله تعالى وفيما بينه وبين الناس حاكمين أو محكومين ..
في الحديث: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبها" .. ألا وأن لكل ملك حمى .. ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه .. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه .. ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .. ".
وجعل الفرد مسئولا ومحاسبا عن كل انحراف أو خروج عن حادة الطريق .. فيلزم أن يكون في حياته الخاصة والعامة مستقيما على الجادة وعليه أن يدين نفسه قبل أن يدينه الغير حاكما أو محكومًا .. وأوجب عليه التعاون والتكافل في البر والتقوى والصالح العام .. والإِخلاص والنصح والإرشاد والتقويم والتزام حدود الدين والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ..
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة .. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
وهذا النهج من شأنه أن يخفص كثيرا من أعباء الحاكم ويجعل مهمله في خدمة المجتمع والمحافظة على الدين وتطبيق أحكامه سهلة وميسرة إذ يكون على رأس مجتمع فاضل يعرف الحق والواجب ويلتزم بهما ..
تحدثنا كتب السيرة النبوية عن المجتمع الإسلامي الأول وتبين ما كان علمه من مثالية
وكمال في الدين والخلق والإنسانية وخوف الله تعالى في التعامل والسلوك العام حتى إن القضاء في مشاكلهم كان أشبه بالقتوى تنير الطريق وتحدد الحكم فيلتزمه الجميع ويقفون عند حدوده وينفذونه طواعية واختيارا.
وفى السيرة أن بعضا من الأنواء قد قارف إثما دون أن يطلع أو يعلم أحد بما اقترف وكان في عافية وأمن من أن تمتد إليه يد الحاكم بالعقاب والحد .. ولكنه يخشى الله ويتقيه ويعلم أنه محاسبه غدا .. فيذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويعترف أمامه بذنبه ويطلب تطهيره وإقامة حد الله عليه .. وهو يعلم يقينا أن الحد في ذنبه موته - رجما بالحجارة - أنظر في السيرة قصص: (ماعز الأسلمى) - (والغامدية)(وامرأة العسيف).
هذا شأن الإسلام في الحكم وموقفه من الحاكم والمحكوم .. واضح لا خفاء فيه ومحدد لا اشتباه فيه.
ولعل هذا ما حدا بكثير من العلماء والمتكلمين إلى عدم تحديد أعباء وواجبات الخليفة نحو الأمة .. وتحديد حقوقه على الأمة لأن الطريق في ذلك واضح مستقيم.
وقد حددته وأوضحته النصوص العامة والأحكام المنظمة لسياسة الحكم في الإسلام .. وأيضا فهم قد عرفوا الخلافة تعريفا دقيقا كاد ما أن يتفقوا على ألفاظه فقالوا: إن الخلافة - نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين والمحافظة عليه وسياسة المسلمين في شئون الدين والدنيا بأحكام الدين ومبادئه .. وهذا قول عام جامع لما ذكرنا ..
وفى الكلام على البيعة ومعناها في مفهوم الشرع واصطلاحه وما تنطوى عليه أنها عهد وميثاق بين الخليفة وجماعة المسلمين يعطى كل من الطرفين لصاحبه ما عنده له - في هذا الكلام إشارة إلى حقوق كل منهما وواجباته ..
ويبين القاضي أبو الحسن الماوردى واجبات وأعباء الخليفة ويحصرها في عشرة أمور على الترتيب الآتي:
أولا: حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة - فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبين له الصواب .. وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروسا من خلل وتكون الأمة ممنوعة من زلل.
ثانيا: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم ..
ثالثا: حماية البيضة والذب عن الحريم ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
رابعا: إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك .. وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك ..
خامسا: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظهر الأعداء بقوة ينتهكون فيها محرما أو يسفكون فيها المسلم أو معاهد دما ..
سادسا: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله ..
سابعا: جباية الفئ والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادًا من غير خوف ولا عسف.
ثامنا: تقدير العطايا وما يستحق في بيت
المال من غير سرف ولا تقتير .. ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير ..
تاسعا: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليه من الأعمال ويكله إليهم من الأموال لتكون الأعمال بالكفاءات مضبوطة .. والأموال بالأمناء محفوظة ..
عاشرًا: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة فقد يخون الأمين ويغش الناصح .. وقد قال الله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فلم يقتصر الله سبحانه وتعالى على التفويض دون المباشرة .. ولا عذر في الاتباع حتى وصفه بالضلال وهذا إن كان مستحقا عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة فهو من حقوق السياسة لكل مسترعى. قال النبى صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
حقوق الخليفة على الأمة:
نقلنا عن القاضي أبى الحسن الماوردى في الكلام على وجوب معرفة الخليفة قوله: إذا استقرت الخلافة لمن تقلدها بعهد أو اختيار لزم كافة الأمة أن يعرفوا إفضاء الخلافة إلى مستحقها بصفاته .. ولا يلزم أن يعرفوه بعينه واسمه إلا أهل الاختيار ..
وقال سليمان بن جرير من الزيدية: واجب على الناس كلهم معرفة الإمام بعينه واسمه كما عليهم معرفة الله ومعرفة رسوله ..
والذي عليه حمهور الناس أن معرفة الإِمام تلزم الكافة على الجملة دون التفصيل ..
ثم قال الماوردى: وإذا لزمت معرفته على التفصيل الذي ذكرناه .. فعلى كافة الأمة تفويض الأمور العامة إليه من غير افتيات عليه ولا معارضة له ليقوم بما وكل إليه من وجوه المصالح وتدبير الأعمال
(1)
..
ثم قال
(2)
عقب الكلام على أعباء الخليفة: وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة عليه (أعباء الخليفة) فقد ادعى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم .. ووجب عليهم حقان: الطاعة والنصرة .. ما لم يتغير حاله ..
هاتان هما العبارتان اللتان تحدث فيهما الماوردى عن حقوق الإمام على الأمة والعبارة الأولى تجعل من حقه:
أولا: التفويض إليه والتسليم له بالنظر في شئون المسلمين العامة في الداخل والخارج في أمور الدين والدنيا ليمكنه تدبير المصالح والقيام بالأعمال الكفيلة بحفظ الدين وسياسة الأمة وفقا لأحكامه ..
ثانيا: عدم الافتيات عليه .. وذلك بعدم التدخل في أعماله واختصاصاته وعدم مجاوزة الحد في النقد بقصد إثارة الفننة والشغب وبعث الشك والريبة في سياسته العامة ..
ثالثا: عدم المعارضة بقصد تعطيل الأعمال وإقامة العراقيل في سبيل الإصلاح والبناء
…
أما العبارة الثانية فهى قاطعة في تحديد حقين:
رابعا: الطاعة .. وهو حق أوجبه كتاب الله الكريم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وأوجبته سنة
(1)
الأحكام السلطانية للماوردى فصل (أعباء الخليفة) ص 15، 17.
(2)
الجامع لأحكام القرآن جـ 5 ص 259 وما بعدها طبع دار الكتب المصرية.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا وإن ولى عليكم عبد حبشى أجدع" "من خلع يدا من طاعة لقى الله يوم القيامة ولا حجة له، والمراد طاعة الإمام بدليل سياق الحديث والأحاديث الواردة في شأن الإمام والأئمة غير أن الطاعة الواجبة هي فيما يوافق حكم الدين ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وعلى المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثرةٍ عليه ما لم تؤمر بمعصية .. فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ..
طاعة ولى الأمر: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} .
وقد روى مسلم سبب نزول هذه الآية من عدة طرق في بعضها إجمال وفى بعضها تفصيل .. وقال النووى في شرح مسلم: "قال العلماء: المراد بأولى الأمر من أوجب الله طاعته من الأمراء والولاة" .. هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم .. وقيل: هم العلماء .. وقيل الأمراء والعلماء ..
أما من قال أنهم الصحابة خاصة فقد أخطأ .. ثم قال النووى:
إنه قد أجمع العلماء على وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وعلى تحريمها في المعصية .. وقد نقل الإِجماع على ذلك القاضي عياض وآخرون ..
وقال القرطبي في تفسيره (1): عن تفسير هذه الآية: "لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بين الناس بالعدل - تقدم في هذه الآية إلى الرعية فأمر بطاعته عز وجل أولا .. وهى امتثال أوامره واجتناب نواهيه .. ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه .. ثم بطاعة الأمراء ثالثا على قول الجمهور وأبى هريرة وابن عباس وغيرهم ..
قال سهل بن عبد الله التُّستَرِيّ: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير والمكاييل والأوزان والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد ..
قال سهل: وإذا نهى السلطان العالِمَ أن يُفتِى فليس له أن يُفْتِى فإن أفتى فهو عاصٍ - وإن كان أميرًا جائرًا .. وقال ابن خُوَيزِ مَنْدَاد: وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة ولا تجب فيما كان لله فيه معصية .. ولذلك قلنا:
إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم .. ويجب الغَزْو معهم متى غزَوْا .. والحكم من قِبَلِهِم وتولية الإمامة والحسبة .. وإقامة ذلك على وجه الشريعة .. وإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة العاصى جازت الصلاة معهم .. وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم .. إلا أن يُخَافُوا فَيُصَلَّى معهم تُقْيَةً وتعاد الصلاة ..
قلت: روى عن علي بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: حق على الإمام أن يحكم بالعدل ويؤدى الأمانة .. فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة العدل ثم أمر بطاعته ..
وقال جابر بن عبد الله ومجاهد: - أولوا
الأمر - أهل القرآن والعلم وهو اختيار مالك رحمه الله .. ونحوه قال الضحاك .. قال: يعنى الفقهاء والعلماء في الدين ..
وحكى عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة .. وحكى عن عكرمة أنها إشارة إلى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما خاصة .. وقال ابن كيسان: هم أولوا العقل والرأى الذين يدبرون أمر الناس
…
قلت: وأصح هذه الأقوال الأول (الأمراء) .. والثانى (أهل القرآن والعلم والفقهاء والعلماء في الدين).
أما الأول .. فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم ..
وروى الصحيحان عن ابن عباس قال: نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدى السهمى إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية .. قال ابن عمر .. وكان في عبد الله بن حذافة دعابةٌ معروفة ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّرَهُ على سَرِيَّةٍ فأمرهم أن يجمعوا حطبًا ويوقدوا نارًا فلما أوقدوها أمرهم بالتَّعَمُّمِ فيها (الوقوع فيها) فقال لهم: "ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتى"؟ وقال: "من أطاع أميرى فقد أطاعنى" فقالوا: ما آمنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار .. فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم وقال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وهو حديث صحيح الإسناد مشهور .. وقال ميمون بن مهران ومقاتل والكلبى: "أولوا الأمر" أصحاب السرايا ..
أما القول الثاني .. فيدل على صحته قوله تعالى في الآية: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} فأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم ..
وليس لغير العلماء معرفة بكيفية الرد إلى الكتاب والسنة .. قال سهيل بن عبد الله: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء .. فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم وإذا استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم ..
وأما القول الثالث (أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) فخاص - وأخص منه - القول الرابع (أبو بكر وعمر) وأما الخامس: (أولوا العقل والرأى) فيأباه ظاهر اللفظ وإن كان المعنى صحيحا فإن العقل أسٌّ لكل فضيلة وينبوع لكل أدب ..
وقال الإمام محمد بن جرير الطبرى في تفسيره
(1)
عند تفسير هذه الآية: "واختلف أهل التأويل في أولى الأمر الذين أمر الله عباده بطاعتهم في هذه الآية ..
فقال بعضهم: هم الأمراء .. ذكر من قال ذلك .. حدثنى أبو السائب مسلم بن جناده قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة في قوله {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: هم الأمراء .. وذكر رواية ثانية بسند آخر إلى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمى إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في السرية .. وذكر رواية عن ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال أبيّ: هم السلاطين .. وفى رواية بسندها عن السدى:
(1)
جامع البيان في تفسير القرآن جـ 5 ص 93 وما بعدها.
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد .. وفيها عمار بن ياسر .. فساروا قِبَل القوم الذين يريدون فلما بلغوا قريبا منهم عرَّسُوا وأتاهم ذو العينتين (الجاسوس) فأخبرهم فأصبحوا وقد هربوا غير رجل أمر أهله فجمعوا متاعهم ثم أقبل يمشى في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال: يا أبا اليقظان إنى قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ..
وأن قومى لما سمعوا بكم هربوا وإنى بقيت - فهل إسلامى نافعى غدًا وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك. فأقم .. فأقام .. فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدًا غير الرجل فأخذه وأخذ ماله .. فبلغ عمار الخبر فأتى خالدًا فقال: خلِّ عن الرجل فإنه قد أسلم وهو في أمان منى - فقال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبَّا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أميره .. فاستبَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقال خالد: يا رسول الله! أتترك هذا العبد الأجدع يسبنى؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خالد لا تسب عمارًا فإنه من سبَّ عمارًا سبَّه الله ومن أبغض عمارًا أبغضه الله ومن لهن عمارًا لعنه الله .. فغضب عمار فقام فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضى عنه فأنزل الله تعالى قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
وقال آخرون: إن أولى الأمر هم أهل العلم والفقه - ذكر من قال ذلك - وساق الطبرى روايات عديدة كل بسندها على نحو ما أشرنا عن مجاهد أن الأمر في قوله تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} هم أولوا الفقه والعلم ..
وعن ابن أبي نجيح أن أولى الأمر منكم هم أولوا الفقه في الدين والعقل .. وعن ابن عباس قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني: أهل الفقه والدين .. وعن أبى العالية: هم أهل العلم .. ألا ترى أنه يقول: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم - لعلمه الذين يستنبطونه منهم ..
وقال آخرون: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ذكر من قال ذلك .. وساق الطبرى
(1)
رواية بالسند عن ابن أبي نجيح في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: كان مجاهد يقول: أصحاب محمد - قال: وربما قال: أولى الفضل والفقه ودين الله.
وقال آخرون: هم أبو بكر وعمر رضى الله عنهما - ذكر من قال ذلك .. وساق الطبري رواية بالسند عن عكرمة - أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم - قال: أبو بكر وعمر ..
ثم قال الطبرى: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة لصحة الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان فيه لله طاعة وللمسلمين مصلحة كالذى يروى عن أبى هريرة رضى الله. عنه: حدثنى علي بن مسلم الطوسى قال: حدثنى ابن أبي فديك قال: حدثنى عبد الله بن محمد عروة عن هشام بن عروة عن أبى صالح السمان عن أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"سيليكم بعدى ولاة - فيليكم البِرَّ بِبِرِّه والفاجر بفجوره .. فاسمعوا له وأطيعوا في كل ما وافق الحق وصلوا وراءهم .. فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم".
وكالذى يروى عن ابن عمر: حدثنا ابن
(1)
جامع البيان في تفسير القرآن جـ 5 ص 93 وما بعدها.
المثنى قال حدثنى خالد بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: على المرء الطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا طاعة
…
فإن أمر بمعصية فلا طاعة.
فإذا كان معلومًا أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل .. وكان الله قد أمر بقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} بطاعة ذوى أمرنا - كان معلومًا أن الذين أمر بطاعتهم تعالى ذكره من ذوى أمرناهم الأئمة ومن ولاة المسلمون دون غيرهم من الناس وإن كان فرضا القبول من كل مَنْ أمر بترك معصية الله ودعا إلى طاعة الله وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تَقُم حجة وجوبه إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده بطاعتهم فيما أمورا به رعيتهم مما هو مصلحة العامة الرعية .. فإن على من أمروه بذلك طاعتهم .. وكذلك فيما لم يكن لله معصية .. وإذا كان ذلك كذلك كان معلوما بذلك صحة ما اخترنا من التأويل دون غيره.
وقال أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسى في تفسيره (1) عند تفسير هذه الآية: "بعدما أمر سبحانه ولاة الأمور بالعموم أو بالخصوص بأداء الأمانة والعدل في الحكومة أمر الناس بإطاعتهم في ضمن إطاعته عز وجل وإطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال عز من قائل: {أَطِيعُوا اللَّهَ} أي ألزموا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} المبعوث لتبليغ أحكامه إليكم في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه أيضا ..
وعن الكلبى: أطيعوا الله في الفرائض وأطيعوا الرسول في السنن .. والأول أولى وأعاد الفعل .. وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالى اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام وقطعا لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن وإيذانا بأن له صلى الله عليه وسلم استقلالا بالطاعة لم يثبت لغيره .. ومن ثم لم يعد في قوله سبحانه {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} إيذانا بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم ..
واختلف في المراد بهم:
فقيل: أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده .. ويندرج فيهم الخلفاء الراشدون والقضاة وغيرهم ..
وقيل المراد بهم أمراء السرايا
..
وروى ذلك عن أبى هريرة وميمون بن مهران وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدى وأخرجه ابن عساكر عن أبى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: بعت رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في سرية وفيها عمار بن ياسر .. وساق القصة التي نقلناها سابقا عن تفسير ابن جرير الطبرى .. وقال: فأنزل الله تعالى هذه الآية. ووجه التخصيص على هذا أن في عدم إطاعتهم ولا سلطان ولا حاضرة مفسدة عظيمة ..
وقيل المراد بهم أهل العلم: وروى ذلك غير واحد عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد - والحسن وعطاء وجماعة .. واستدل عليه أبو العالية بقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فإن العلماء هم المستنبطون المستخرجون للأحكام ..
وحمله كثير - وليس ببعيد - على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم لأن للأمراء تدبير أمر الجيش والقتال .. وللعلماء حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز .. واستشكل إرادة العلماء لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ}
فإن الخطاب فيه عام للمؤمنين مطلقا .. والشئ خاص بأمر الدين بدليل ما بعده - والمعنى - فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وأولوا الأمر منكم في أمر من أمور الدين فردوه إلى "الله" أي إلى كتابه (والرسول) أي إلى سنته ..
ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولى الأمر على الأمراء دون العلماء لأن الناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء فيما يصلون إليه من الأحكام باجتهادهم ..
ثم قال الألوسى: ثم إن وجوب الطاعة لهم ما داموا على الحق فلا تجب طاعتهم فيما خالف الشرع فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا طاعة لبشر في معصية الله تعالى" ثم ساق قصة أمير السرية الذي أمر رجاله بجمع الحطب وإيقاد النار .. وقال لهم: إنكم مأمورون بطاعتى من رسول الله فادخلوها فتوقفوا وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك .. وقال: "إنما الطاعة في المعروف" ثم قال الألوسى: وهل يشمل المباح أولا؟ فيه خلاف ..
فقيل أنه لا تجب طاعتهم فيه لأنه لا يجوز لأحد ان يحرم ما حلله الله ولا أن يحلل ما حرمه الله تعالى .. وقيل تجب طاعتهم فيه أيضًا كما نص عليه الحصكفى وغيره ..
وقال بعض محققى الشافعية: تجب طاعة الإِمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرم .. وقال بعضهم: الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرًا فقط بخلاف ما فيه ذلك ..
فإنه يجب باطنًا أيضًا .. وكذا يقال في المباح الذي فيه ضرر للمأمور به ..
ثم هل العبرة بالمباح والمندوب المأمور به باعتقاد الأمر .. فإذا أمر بمباح عنده وهو سنة عند المأمور يجب امتثاله ظاهرًا فقط أو باعتقاد المأمور فيجب امتثاله باطنا أيضًا أو بالعكس فينعكس ذلك؟ كل محتمل ..
وظاهر إطلاقهم في مسألة أمر الإمام الناس بالصوم للاستسقاء - الثاني (أي أن العبرة باعتقاد المأموم) لأنهم لم يفصلوا بين كون الصوم المأمور به هناك مندوبا عند الآمر أو لا ..
وأيد بما قرروه في باب الاقتداء من أن العبرة باعتقاد المأموم لا الإمام .. ولم أقف على ما قاله: أصحابنا في هذه المسألة فليراجع .. وقال أبو بكر الحصاص الحنفى في تفسيره أحكام القرآن
(1)
عند تفسير هذه الآية: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال أبو بكر: اختلف في تأويل أولى الأمر .. فروى عن جابر بن عبد الله وابن عباس في رواية والحسن وعطاء ومجاهد أنهم أولوا الفقه والعلم .. وعن ابن عباس في رواية وأبى هريرة أنهم أمراء السرايا ويجوز أن يكونوا جميعا مرادين بالآية لأن الاسم يتناولهم جميعا لأن الأمراء يلون أمر تدبير الجيوش والسرايا وقتال العدو .. والعلماء يلون حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز. فأمر الناس بطاعتهم والقبول منهم ما عدل الأمراء والحكام وكان العلماء عدولا مرضيين موثوقا بدينهم وأمانتهم فيما يؤدون ..
ومن الناس من يقول: إن الأظهر من أولى الأمر ههنا أنهم الأمراء لأنه قدم ذكر الأمر
(1)
روح المعانى في تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى جـ 2 ص 115 وما بعدها، الطبعه الأولى - الأميرية سنة 1301 هـ.
بالعدل وهذا خطاب لمن يملك تنفيذ الأحكام وهم الأمراء والقضاة .. ثم عطف عليه الأمر بطاعة أولى الأمر وهم ولاة الأمر الذين يحكمون عليهم ما داموا عدولا مرضيين ..
وليس يمتنع أن يكون ذلك أمرًا بطاعة الفريقين من أولى الأمر وهم أمراء السرايا والعلماء إذ ليس في تقدم الأمر بالحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بالأمر بطاعة أولى الأمر على الأمراء دون غيرهم ..
وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أطاع أميرى فقد أطاعنى" وروى الزهرى عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيف من منى فقال: "نضر الله عبدًا سمع مقالتى فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له .. ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .. ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن (في هامش الصفحة أن قوله عليه السلام "لا يغل" فيه روايتان بفتح الياء وكسر الغين .. وبضم الياء وكسر الغين .. ومعنى الأول لا يدخل قليه حقد يزيله عن الحق .. ومعنى الثاني لا يكون في قلبه غش ولكن يكون مخلصًا في هذه الأشياء لله تعالى) إخلاص العمل لله تعالى .. وقال بعضهم: وطاعة أولى الأمر - وقال بعضهم: والنصيحة لأولى الأمر ..
ولزوم جماعة المسلمين .. فإن دعوتهم تحيط من وراءهم - والأظهر من هذا الحديث أنه أراد بأولى الأمر الأمراء .. ثم ناقش ورد قول الروافض أن المراد بأولى الأمر في الآية الإمام المعصوم أو على بن أبى طالب.
هذا ما ورد في القرآن الكريم في شأن طاعة أولى الأمر وتلك هي آراء الفقهاء والمفسرين في تأويل المراد بأولى الأمر في الآية الكريمة وما تجب أو تحرم طاعتهم فيه .. وحذو ذلك وما يراعى فيه ..
أما ما ورد في السنة النبوية الشريفة في هذا الشأن فمنه ما رواه مسلم بسنده إلى أبو هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعنى فقد أطاع الله ومن عصانى فقد عصى الله .. ومن أطاع أميرى فقد أطاعنى ومن عصى أميرى فقد عصانى".
وما رواه بسنده إلى نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" وما رواه بسنده إلى على رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة في معصية الله .. إنما الطاعة في المعروف". وما رواه بسنده إلى عبادة بن الصامت رضى الله عنه أنه قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكروهنا وعسرنا ويسرنا وأثره علينا ولا ننازع الأمر أهله .. وقال: "إلا أن تروا كفرًا بواحا عندكم من الله فيه برهان".
ومنه: "من خلع يدا من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له .. ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" وماروى هشام بن عروة عن أبى صالح عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيليكم بعدى ولاة فيليكم البر ببرِّه ويليكم الفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم .. ".
وقال النووى في شرح مسلم: إن أحاديث هذا الباب التي أطلقت في وجوب طاعة أولى الأمر يجب أن تحمل على ما يوافق الأحاديث
المصرحة بأنه لا سمع ولا طاعة في المعصية وقال في حديث عبادة بن الصامت .. إن معنى الكفر البواح بفتح الباء - الكفر الظاهر. والمراد بالكفر هنا المعصية .. ومعنى عندكم من الله فيه برهان أنكم تعلمون أنه معصية محققة من قواعد الإسلام.
وجاء في كتاب الأحكام السلطانية للقاضى أبى الحسن الماوردى
(1)
: ولو شرط المُوَليَّ وهو حنفى أو شافعى على من ولاه القضاء ألا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبى حنيفة .. فهذا على ضربين:
الضرب الأول: أن يشترط ذلك عموما في جميع الأحكام فهذا شرط باطل سواء كان موافقا لمذهب المُوَلَّى أو مخالفا له .. وأما صحة الولاية فإن لم يحيله شرطا فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهى وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله على وجه الأمر .. أو لا تحكم بمذهب أبى حنيفة على وجه النهى كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدا سواء تضمن أمرًا أو نهيا ويجوز أن يحكم بما أداه اجتهاده إليه سواء وافق شرطه أو خالفه ..
ويكون اشتراط الولى لذلك قدحا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز .. ولا يكون قدحا إن جهل لكن لا يصح مع الجهل أن يكون موليا ولا واليًا .. فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال: قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبى حنيفة .. كانت الولاية باطلة لأنه عقدها وعلقها على شرط فاسد .. وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط ..
الضرب الثاني: أن يكون الشرط خاصا بحكم بعينه .. فلا يخلو الشرط من أن يكون أمرًا أو نهيًا .. فإن كان أمرًا بأن قال له: أقد من العبد بالحر .. ومن المسلم بالكافر واقتص في القتل بغير المحدد كان أمره بهذا الشرط فاسدا .. ثم إن جعله شرطا في عقد الولاية فسدت .. وإن لم يجعله شرطا فيها صحت وحكم في ذلك بما يؤديه اجتهاده إليه
…
وإن كان نهبًا فهو على ضربين:
الضرب الأول: أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد .. ولا يقضى فيه بوجوب قود ولا بإسقاطه فهذا جائز لأنه اقتصر بولايته على ما عداه فصار ذلك خارجا عن نظره.
الضرب الثاني: ألا ينهاه عن الحكم وينهاه عن القضاء بالقصاص ..
فقد اختلف أصحابنا في هذا النهى هل يوجب صرفه عن النظر فيه على وجهين:
الأول: أن يكون صرفا عن الحكم فيه وخارجا عن ولايته فلا يحكم فيه بإثبات فرد ولا بإسقاطه ..
الثاني: أنه لا يقتضى الصرف عنه ويجرى عليه حكم الأمر به ويثبت صحة النظر إن لم يجعله شرطا في التقليد ويحكم فيه بما يؤديه اجتهاده إليه ..
ويجوز
(2)
أن يكون القاضي عام النظر خاص العمل فيقلد النظر في جميع الأحكام في أحد جانبى البلد أو في محلة منه .. فينفذ جميع أحكامه في الجانب الذي قلده والمحلة التي عينت له وينظر فيه بين ساكنيه والطارئين إليه لأن
(1)
الأحكام السلطانية للماوردى ص 68 الطبعة الثانية مطبعة مصطفى الحلبى سنة 1966 م.
(2)
الأحكام السلطانية للماوردى ص 72، 73.
الطارئ كالساكن إلا أن يقتصر به على ساكنيه دون الطارئين إليه ..
ولو قلد الحكم فيمن يرد إليه في داره أو في مسجده صح ولم يجز أن يحكم في غير داره ولا في غير مسجده لأنه جعل ولايته مقصورة على من يرد إلى داره أو مسجده وهم لا يتعينون إلا بالورود إليهما فصار حكمه فيهما شرطا ..
قال أبو عبد الله الزبيرى: لم تزل الأمراء عندنا بالبصرة برهة من الدهر يستقضون قاضيا على المسجد الجامع يسمونه قاضى المسجد يحكم في مائتى درهم وعشرين دينارًا فما دونها ويفرض النفقات ولا يتعدى موضعه ولا ما قدر له ..
ويجوز أن تكون ولاية القاضي مقصورة على حكومة معينة بين خصمين وتكون ولايته في النظر بينهما باقية ما دامت الخصومة قائمة .. فأذابت الحكم بينهما. فيها زالت ولايته .. وإن تحددت بينهما خصومة أخرى لم ينظر فيها إلا بإذن مستجد ..
فلو لم يعين الخصوم وجعل النظر مقصورا على الأيام وقال: قلدتك النظر بين الخصوم في يوم السبت وحده جاز نظره فيه بين الخصوم في جميع الدعاوى وتزول ولايته بغروب الشمس منه .. ولو قال: قلدتك النظر في كل يوم سبت جاز أيضًا وكان مقصورا على النظر فيه .. فإن خرج يوم السبت لم تزل ولايته لبقائها على أمثاله من الأيام وإن كان ممنوعا من النظر فيما عداه من الأيام ..
وفى المغنى لابن قدامة الحنبلى: أنه لا يجوز أن يقلد القضاء الواحد على أن يحكم بمذهب بعينه عند أحمد والشافعى .. ولا أعلم لأحد خلافا فيه لأن الحق لا يتعين في مذهب .. فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط وفى فساد التولية وجهان بناء على الشرط الفاسد في البيع ..
وفى تبصرة الحكام لابن فرحون المالكى: إن جميع تلك التعبيرات لا يجوز للإمام اشتراطها في تقليد القضاء لأنه اشتراط ما لا يجوز .. ومن كان لا يقضى إلا بما أمن به من ولاه فليس بقاض على الحقيقة ..
ويلاحظ أن المذاهب الثلاثة (المالكية والشافعية والحنابلة) يشترطون في القاضي أن يكون مجتهدًا ولا يجيزون تعيين المقلد في القضاء فحديثهم فيما ذكر مقصور على القاضي المجتهد ..
في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار في فقه الحنفية - قضى القاضي في مُجْتَهدٍ فيه بخلاف رأيه لا ينفذ مطلقا ناسيا كان أو عامدًا عند الصاحبين أو الأئمة الثلاثة (مالك والشافعى وأحمد) وبه يفتى.
وفى شرح الرهبانية للشرنبلالى - قضى من ليس مجتهد الحنفية زماننا بخلاف مذهبه عامدا لا ينفذ اتفاقا وكذا ناسيا عند الصاحبين .. ولو قيده السلطان بصحيح مذهبه كزماننا تقيد به بلا خوف لكونه معزولا عن غيره ..
وجاء في حاشية رد المختار لابن عابدين على الشرح المذكور: وحاصل هذه المسألة أنه يشترط لصحة القضاء أن يكون موافقا لرأى القاضي أي مذهبه مجتهدا كان أو مقلدا .. فلو قضى بخلاف رأيه لا ينفذ ..
لكن جاء في البدائع أنه إذا كان مجتهدا وقضى بخلاف رأيه ينبغى أن يصح ويحمل على أنه اجتهد فأداه اجتهاده إلى رأى الغير الذي قضى به .. وهذا في القاضي المجتهد .. أما المقلد فلو ولاه ليحكم مذهب أبى حنيفة فلا يملك المخالفة
لأنه يكون معزولا بالنسبة للحكم بغيره من المذاهب ..
وفى الدر المختار أيضًا - لو أمر السلطان بعدم سماع الدعوى بعد خمس عشرة سنة لا تسمع ولو سمعها قاض لا ينفذ حكمه .. وعلق ابن عابدين فى الحاشية على ذلك بقوله: وذلك في الدعاوى التي مضى عليها خمس عشرة سنة دون أن يطالب صاحب الحق بحقه أمام القضاء مع تمكنه من الدعوى به وعدم العذر والشرع المانع من إقامة الدعوى وإنكار من عليه الحق للحق في تلك المدة .. وسبب هذا النهى قطع الحيل والتزوير ودرء الشر والفساد وإذ أن سكوت الشخص عن طلب حقه طول هذه المدة مع توفر ما ذكر يدل على عدم الحق ظاهرًا .. وهذا إسقاط لحق المطالبة والإدعاء .. أما الحق نفسه فلا يسقط مطلقا مهما طال الزمن .. ولهذا أوجبوا على السلطان أن يسمع هذه الدعوى التي نهى القضاة عن سماعها بنفسه أو يأمر قاضيا بسماعها لكيلا يضيع الحق على صاحبه ..
ويقول ابن عابدين: إن هذا إذا لم يظهر من المدعى أمارة التزوير فلو ظهرت منه أمارة التزوير فلا يسمعها السلطان ولا غيره وليس عليه من إثم في هذه الحالة ..
أما ما قرره الفقهاء من عدم سماع دعوى الوقف والإِرث بعد مضى ثلاث وثلاثين سنة في الأظهر فهو بمقتضى الحكم الفقهى لا بمقتضى النهى السلطانى ..
هذه هي النصوص والأحكام والآراء التي أمكن جمعها في موضوع "طاعة ولى الأمر" وبالنظر والتأمل فيها يمكن القول بما يأتى:
أن الجمهور كما عبر القرطبي في التفسير أو جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم على أن المراد بأولى الأمر في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (الأمراء والولاة) وأن الله تعالى قد أوجب طاعتهم وامتثال أوامرهم في المعروف وما لا معصية لله فيه ..
وكانت الغاية والقصد منه تحقيق مصلحة الأمة وتوفير الخير لها ..
وأن العلماء قد أجمعوا على وجوب طاعة أولى الأمر في غير معصية على التفصيل والبيان الذي قرروه في ذلك وعلى تحريم طاعتهم في المعصية عملا بالحديث الشريف: "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف". صرح بذلك النووى في شرح مسلم ونقل الإجماع على ذلك القاضي عياض وآخرون وأن ولاة الأمور إذا أمروا بما أوجبه الله تعالى كالأمر بأداء الزكاة أو نهوا عما حرمه الله تعالى كالنهى عن الزنا والسرقة والقذف ..
لم يكن أمرهم ولا نهيهم إلا حملا على القيام بما أوجبه الله على اجتناب ما نهى عنه وأنهم لم يأتوا في ذلك بإيجاب ولا تحريم وأن الطاعة في ذلك لله رب العالمين ..
وإذا كان أمرهم - أمرًا أو نهيًا - فيما اختلف الفقهاء المجتهدون في حكمه بأن قال بعضهم أنه واجب أو معصية ..
وقال البعض الآخر إنه ليس بواجب أو ليس بمعصية كالوصية من الشخص لفرع من مات من أولاده حال حياته إذا لم يكن هؤلاء الفروع وارثين في تركة أصلهم الموصى ..
يرى بعض الفقهاء المجتهدين أن هذه الوصية واجبة وأن حكم الوجوب ما يزال قائما على شروط وقيود وتفصيلات ليس مجال الحديث
عنها .. ويرى البعض الآخر أنها ليست واجبة وأن الوجوب الذي كان قد نسخ بآيات المواريث ..
وكصوم يوم النيروز أو يوم المهرجان منفردا تطوعا وهما عيدان عند غير المسلمين يحتفل بهما .. يرى بعض الفقهاء أن هذا الصوم مكروه .. ويرى البعض الآخر أنه غير مكروه .. إذا كان أمر ولى الأمر فيما اختلف فيه الفقهاء المجتهدون .. فأمر بالوصية على نحو ما أشير إليه كما فعل ولى الأمر في مصر إذا أصدر القانون رقم 71 لسنة 1946 في 24 يونية سنة 1946 متضمنا إيجاب هذه الوصية على الوضع وبالتفصيلات والأحكام التي تضمنها .. أو نهى عن صوم يوم النيروز أو يوم المهرجان لم يكن أمره أو نهيه في ذلك إلا تخير الحكم من الأحكام الاجتهادية وأمرًا بما ليس فيه معصية متيقنة فتجب طاعته في ذلك وتنفيذ أمره أو نهيه على وفق الأحاديث التي رويت وذكرها العلماء فيما نقلناه عنهم وأشرنا إلى بعض منها .. بل إن بعض العلماء ذهب إلى أن أمر ولى الأمر في المسألة الاجتهادية المختلف في حكمها يرفع الخلاف كما يرفع قضاء القاضي في المجتهد فيه الخلاف في الحكم .. ومن المقرر والمتفق عليه أن أمر ولى الأمر أو نهيه في ذلك لا ينشئ في الموضوع حكما شرعيا وأن الحكم الشرعى فيه هو ما أدى إليه الاجتهاد ..
وإذا كان أمر ولى الأمر أو نهيه في مباح كما إذا أمر بنظام معين للسير في المشى أو النقل أو الركوب علاجا للزحام والحوادث .. أو نهى عن فتح المحلات العامة أو المقاهى بعد وقت معين من الليل علاجا لمشكلة الأمن وتوفيرًا للراحة .. لم يكن بذلك الأمر أو النهى منشئًا لحكم شرعى في المباح هو الوجوب أو الحرية ..
وإنما حكمه وهو الإباحة باق على ما هو عليه .. وكل ما للأمر أو النهى الصادر من أثر أنه يجب على الرعية أن يطيعوه ويمتثلوا له حيث لا معصية فيه لله .. وتنفيذه يحقق القصد منه وهو تحصيل مصلحة الرعية ودفع الضرر عنهم .. وهذا هو المناط في امتثال أوامر ولى الأمر وعدم امتثالها في ذلك حتى إذا ما كان الأمر أو النهى لمجرد الهوى والتسلط وليس فيه مصلحة ولا خير لا تجب طاعته شرعًا كما إذا أمر بالعمل في الليل دون النهار أو نهى عن أكل نوع من الأطعمة المباحة كما يحكى عن الحاكم بأمره وأنه منع أكل الملوخية ونحو ذلك مما يظهر فيه العبث ولا يظهر فيه وجه للمصلحة ..
وقول بعض الناس إن أمر ولى الأمر في المباح لا يطاع لأنه ليس لأحد من الناس أميرا أو غيره أن يوجب ما لم يوجبه الله ولا أن يحرم ما لم يحرمه الله .. لا محل له بعد أن ذكرنا أن المتفق عليه أن الأمر أو النهى لا ينشئ إيجابا أو تحريما وأن حكم الإباحة باق والجديد هو إيجاب الشارع طاعة هذه الأوامر والنواهى .. ما دامت لا تؤدى إلى معصية وتحقيق مصلحة الناس ..
وما أثاره البعض من تساؤل .. هل العبرة بكون المأمور به المباح مباحًا في اعتقاد الآمر دون المأمور فيجب الامتثال ظاهرًا فقط .. أو في اعتقاد المأمور كذلك فيجب الامتثال ظاهرًا وباطنًا أو بالعكس فينعكس الحكم .. هذا الذي أثير من شأن الأخذ به عدم استقرار الأوضاع في العمل والتفاوت وعدم التساوى بين
الناس في التطبيق وفتح باب للتنصل من وجوب الطاعة والمفروض أن الأمر أو النهى فيما هو مباح في ذاته شرعا ..
والقاعدة الأساسية في الشريعة والتي لا خلاف فيها لأحد مطلقا أن الحكم لله رب العالمين وأن الله لم يجعل لأحد من ولاة الأمر ولا من غيرهم أن يصنع شيئا من الأحكام للناس ..
وأن الغاية من تكليف الأمة بإقامة الإمام وتنصيب ولاة الأمر .. هي سياسة الناس بأحكام الدين وتحقيق مصالحهم في ظل مبادئه وقوانينه.
وأنهم أعطوا حق إصدار الأوامر والنواهى في هذا النطاق لتحقيق هذه الغاية وأنهم إن تجاوزوا هذه الحدود أو خرجوا عنها فقدوا ولايتهم وصفاتهم ولم تكن لأوامرهم ونواهيهم قيمة ولا يجب على أحد امتثالها ..
وفى ظل ما ذكر من تفصيلات وأحكام وقيود وشروط في أوامر ولى الأمر وحدود طاعته .. وقال الفقهاء إن لولى الأمر تخصيص القضاء بالزمان والمكان والحادثة وأن طاعته في ذلك واجبة تحقيقا للمصلحة .. وإنه إذا أمر قضاته بعدم سماع الدعوى إذا مضت عليها مدة معينة وتوفر من الظروف القائمة والقرائن المحيطة ما يوصى بعدم الأحقية فيها ..
وجبت عليهم طاعته بعدم سماعها وإذا سمعها فأمن لا ينفذ حكمه دفعا للضرر ودرءًا لخطر التزوير ..
وإذا أمر قضاته المقلدين بالقضاء بمذهب آخر في مسألة أو مسائل كقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد والقصاص في القتل بغير المحدد وصحة النكاح بغير ولى آو عدم صحته .. أو أمر المفتين بالإفتاء بما ذكر ..
وجبت طاعته وامتثال أمره ولزم القضاء والإفتاء بما أمر به حيث لا معصية فيه ولا مخالفة لحكم الشرع بيقين .. وقد ذكرنا أن طاعة ولى الأمر في هذه الحالة واجبة ..
وفى ضوء ما ذكر يتضح أن ما ينادى به بعض الناس من النساء اللاتى اتخذن شعار حقوق المرأة والرجال الذين تأثروا بالثقافات الغربية ووقفوا وراء هؤلاء النسوة .. من أن الطلاق وتعدد الزوجات من المباح ..
ويصح لولى الأمر أن يأمر بتغيير الأحكام وذلك بما يصدر من تشريعات ..
هذا الذي ينادى به هذا البعض من المسلمين لا يتفق مع ما تقرر من أحكام في هذا الشأن ..
إذ أن مدار أحكام الشرع في الأسرة على المصلحة والاستقرار .. وما ينادون به لا يحقق مصلحة عامة بل يؤدى إلى الاضطراب وزعزعة كيان الأسرة وهز بنائها من الأساس ..
النصرة: وذلك بالنصح المخلص والمتابعة والتأييد والتسديد والجهاد معه في سبيل الله ونصرة الدين وتأمين الدعوة إلى الله .. وكما قلنا في الكلام على البيعة أنها ترتب للإمام على الأمة النصح والإخلاص والسمع والطاعة فيما يطلب في المقسط والمكره وفى العسر واليسر.
ومن حق الإمام على الأمة أن توفر له ولأهله حياة طيبة وعيشا كريما مناسبًا بتحديد راتب شهرى أو سنوى من المالية العامة للدولة ببيت مال المسلمين يكفل له حياة تليق به وبمكانته في الأمة ويفى بالتزامات منصبه ومظاهر مركزه دون إسراف ولا تقتير متى كان في حاجة ..
مما يرويه ابن سعد في الطبقات في هذا الشأن
أنه لما ولى أبو بكر رضى الله عنه الخلافة .. قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرضوا لخليفة رسول الله ما يغنيه - قالوا: نعم - يردان إذا أخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما - وظهر إذا سافر - ونفقة له ولأهله مثل ما كان ينفق قبل أن يستخلف ..
قال أبو بكر: رضيت .. وفى رواية: جعلوا له ألفين من الدراهم .. فقال: زيدون فإن لى عملا .. وقد شغلتمونى عن التجارة فزادوه خمسمائة .. ويقول الراوى: إما أن تكون ألفين فزادوه خمسمائة أو كانت ألفين وخمسمائة فزادوه خمسمائة ..
ومما يرويه ابن الجوزى في سيرة عمر ويرويه ابن سعد في الطبقات أيضا عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه قال: جمع عمر الناس حين انتهى إليه فتح القادسية ودمشق فقال: إنى كنت امرأ تاجرًا وقد شغلتمونى بأمركم فما ترون أنه يحل لى من هذا المال - يقصد مال بيت مال المسلمين؟ فأكثر الناس وعلى ساكت .. فقال عمر: يا على! ما تقول؟ قال على: ما يصلحك ويصلح عيالك بالمعروف .. ليس لك من هذا المال غيره .. فقال عمر: القول ما قال على ..
هذا هو أساس الحكم في راتب الخليفة من مال الدولة في النظام الإِسلامى .. إذًا المقرر أن عمل الخليفة والراشدين وسنتهم يؤخذ بها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى عضوا عليها بالنواجز".
عزل الخليفة:
يقع الكلام في عزل الخليفة في موقعين .. في حق الأمة في عزل الخليفة .. وفى موجبات عزل الخليفة ..
الأول: بينا فيما مضى أن الخليفة يعتبر وكيلا عن الأمة فيما يقوم به من أعمال وأنه يعمل بولايتها وسلطانها ..
ونقلنا في هذا عبارة الكاسانى الحنفى في كتابه بدائع الصنائع التي يقول فيها: وكل ما يخرج الوكيل عن الوكالة يخرج به القاضي من القضاء لا يفترقان إلا في شئ واحد .. وهو أن الموكل إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل .. والخليفة إذا مات أو خلع لا تنعزل قضاته ..
ووجه الفرق أن الوكيل يعمل بولاية الموكل وفى خالص حقه وقد بطلت أهلية الولاية بالموت أو الخلع فينعزل الوكيل ..
والقاضى لا يعمل بولاية الخليفة وفى حقه بل بولاية المسلمين وفى حقوقهم .. وإنما الخليفة بمنزلة الرسول عن المسلمين .. لهذا لم تلحقه العهدة كالرسول في سائر العقود وكالوكيل في النكاح مجرد سفير ومعبر ..
وإذا كان الخليفة رسولا عن المسلمين كان فعله بمنزلة فعل عامة المسلمين .. وولاية المسلمين باقية فيبقى القاضي على ولايته وهذا بخلاف العزل ..
فإن الخليفة إذا عزل القاضي أو الوالى ينعزل بعزله ولا ينعزل بموته لأنه لا ينعزل بعزل الخليفة حقيقة بل ينعزل بعزل عامة المسلمين لما ذكرنا أن توليته بتولية العامة ..
والعامة عمين ولو الخليفة ولوه الاستبداد دلالة لتعلق مصلحتهم بذلك فكانت ولايته منهم معنى في العزل أيضًا .. فهو الفرق بين العزل والموت. ا. هـ.
وإذا كان الخليفة وكيلا عن الأمة ويعمل بولايتها .. فلا شك أن يكون للأمة حق عزله لأن من حق الموكل أن يعزل الوكيل وهذا هو حكم
الشرع غير أن حق الأمة في عزل الخليفة مقيدا بارتكابه ما يقتضى العزل فإن عزلته بدون سبب لا ينفذ كما سنذكره في الموقع الثاني.
وعبارة المرحوم محمود فياض
(1)
في كتابه الفقه السياسى صريحة وقاطعة في أن الخليفة وكيل عن الأمة وأن لها حق عزله إن وقع منه ما يقتضى العزل. والبيعة عقد وكالة بين الأمة وحاكمها المنتخب من أفرادها ..
وهو ليس عقد تمليك ولا يقتضى تمليكا وإنما هو عقد إذن بالتصرف باسم الموكل في حدود ما رسم الدين وأذنه الموكل بالتصرف فيه
…
وهو عقد مؤقت مشروط فهو خاضع لرقابة الأصيل .. فإن رأى الوكيل ملتزما للشروط المحددة ورأى استمرار العقد في صالحه أبقى الوكيل
…
وإن رأى الوكيل قد جانب الشرط وخرج من العهدة عزله إن شاء إذا لم ينعزل هو من نفسه ..
لهذا اتفق الفقهاء على أن الحاكم وكيل عن الأمة خاضع لرقابتها ولها عليه سلطان التولية والعزل والتوجيه ..
ولكل فرد من أفرادها حق أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وهى السلطة الكبرى التي جعلها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم.
وكما يقول الأستاذ/ محمود عبده في كتابه: الإسلام والنصرانية ..
ومما يقطع بصحة فكرة وكالة الحاكم عن الأمة وخضوعه لرقابتها وسلطانها وأن جميع الفقهاء اعتبروه واحدا من أفراد الأمة في كل تصرفاته وألزموه بمتالفه وجناياته فهو يؤخذ بالقصاص إذا قتل عامدًا أو ظالمًا ويلزم بالأموال التي يتلفها بغير حق .. ويقطع يده إذا سرق ويحد أو يرجم إذا زنى .. ".
ويقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عَبده في كتابه: (الإسلام والنصرانية): "الخليفة عن المسلمين ليس بالمعصوم ولا هو مهبط الوحى ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة ..
وهو على هذا لا يخصه الدين في فهم الكتاب والعلم بالأحكام بمزية ولا يرتفع به إلى منزلة .. بل هو وسائر طلاب الفهم سواء .. وإنما يتفاضلون بصفاء العقل وكثرة الإصابة في الحكم .. ثم هو مطاع ما دام على الحجة ونهج الكتاب والسنة والمسلمون له بالمرصاد .. فإذا انحرف عن المنهج أقاموه عليه وإذا اعوج قوموه بالنصيحة والإعذار إليه ..
فالأمة أو نائب الأمة (في حالة الاستخلاف) هو الذي ينصبه .. والأمة صاحبة الحق في السيطرة عليه وهى التي تخليه متى رأت ذلك من مصلحتها .. وليس في الإسلام سلطة دينية لأحد على أحد سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر .. وهى سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم كما خولها لأعلاهم يتناول بها من هو أدناهم .. ".
ومن جهة أخرى فإن نظام الحكم في الإسلام قد جعل الحاكم مسئولا أمام الأمة عن أعماله وتصرفاته في شئونها ومصالحها: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته .. ".
والمقرر أن من ملك المسئولية والمساءلة ليقيم الأمر على النهج الصالح والطريق السوى يملك العزل عند الانحراف والميل وتعرض مصالح
(1)
الفقه السياسى للمرحوم محمود فياض ص 26، 27.
المسلمين للضرر أو الخطر ..
وقد أقر الخلفاء الراشدون هذا المبدأ وأعلنوه .. فها هو ذا الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه يخطب في المسلمين غداة توليه الخلافة ويقول: "أيها الناس: قد وليت عليكم ولست بخيركم .. فإن أحسنت فأعينونى وإن صدفت فقومونى .. أطيعونى ما أطعت الله ورسوله .. فإذا عصيت فلا طاعة لى عليكم .. ".
وكذا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضى الله عنه خطب بعد توليه الخلافة وقال: "أطيعونى ما أطعت الله فيكم .. فإن عصيت فلا طاعة لى عليكم .. " وهكذا بقية الخلفاء (عثمان وعلى) يتتابعون على هذا المبدأ ويعلنونه في المسلمين ..
وأيضًا فإن منصب الخلافة أعلى منصب في الدولة ومركز شاغله أعظم مركز من جهة النظام وقواعد الحكم ..
فإذا ارتكب الخليفة ما يوجب العزل أو انحرف عن النهج القويم الواجب اتباعه والإقامة عليه .. فأية سلطة في الدولة يمكن أن تخلع هذا الخليفة وتعزله .. ليست هناك إلا سلطة الأمة التي ولته بنفسها أو بنائبها هي صاحبة الحق في ذلك تمارسه وتباشره بواسطة أهل الحل والعقد وهيئة الشورى والأمة وإن كانت صاحبة الحق في عزل الخليفة إلا أنه لا يعزل إلا لسبب تقتضيه .. فإن عزلته الأمة بدون سبب لا ينعزل ..
وفى الثاني: قال السعد التفتازانى في شرح المقاصد
(1)
: "لا يجوز خلع الإمام بلا سبب .. ولو خلعوه لم ينفذ .. وإن عزل نفسه .. فإن كان يعجز عن القيام بالأمر انعزل وإلا فلا .. ولا ينعزل الإمام بالفسق والإغماء وينعزل بالجنون وبالعمى والصمم والخرس وبالمرض الذي ينسيه العلوم.
ثم قال في موضع آخر: "ينحل عقد الإمامة بما يزول به مقصود الإمامة كالردة والجنون المطبق والأسر الذي لا يرجى منه الخلاص والمرض الذي ينسيه العلوم والعمى والصمم والخرس وكذا بخلعه نفسه لعجزه عن القيام بمصالح المسلمين وإن لم يكن العجز ظاهرًا بل استشعره في نفسه ويحمل عليه خلع الحسن بن على رضى الله عنهما نفسه من الخلافة ..
وأما خلعه لنفسه من غير سبب ففيه خلاف، وكذلك في انعزاله بالفسق خلاف .. والأكثرون على أنه لا ينعزل به .. وهو المختار من مذهب الشافعي وأبى حنيفة رضى الله عنهما وعن محمد رضى الله عنه روايتان .. ويستحق العزل بالفسق بالاتفاق .. وأما القاضي فينعزل بالفسق على الأظهر .. ومن صار إماما بالقهر والغلبة ينعزل بأن يقهره آخر ويغلبه ..
وقال أبو الحسن الماوردى
(2)
: "والذي لا يتغير به حال الإمام فيخرج به عن الإمامة شيئان:
أحدهما: جرح في عدالته ..
والثاني: نقص في بدنه ..
فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين:
أحدهما: ما تابع فيه الشهوة ..
والثاني: ما تعلق فيه بشبهة ..
الأول: منهما فمتعلق بافتعال الجوارح
(1)
شرح المقاصد للسعد التفتازانى جـ 2 ص 272.
(2)
الأحكام السلطانية لأبى الحسن الماوردى ص 17 وما بعدها.
وهو ارتكابه للمحظورات .. وإقدامه على المنكرات تحكيما للشهوة وانقيادًا للهوى .. فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها .. فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها .. فإن عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد ..
قال بعض المتكلمين: يعود إلى الإمامة بعوده إلى العدالة من غير أن يستأنف له عقد ولا بيعة لعموم ولايته ولحقوق المشقة في استئناف بيعته ..
الثاني: منهما فمتعلق بالاعتقاد المتأول بشبهة تعترض فيتأول لها خلاف الحق - فقد اختلف العلماء فيها .. فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ويخرج بحدوثه منها لأنه لما استوى حكم الكفر بتأويل وغير تأويل وجب أن يستوى حكم الفسق بتأويل وغير تأويل وقال كثير من علماء البصرة: إنه لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج به منها كما لا يمنع من ولاية القضاء وجواز الشهادة ..
وأما ما طرأ على بدنه من نقص فينقسم ثلاثة أقسام:
الأول: نقص الحواس.
الثاني: نقص الأعضاء.
الثالث: نقص التصرف.
فأما نقص الحواس - فينقسم إلى ثلاثة أقسام:
قسم يمنع من الإمامة .. وقسم لا يمنع منها .. وقسم مختلف فيه.
فأما القسم المانع منها فشيئان:
أحدهما: زوال العقل.
الثاني: ذهاب البصر.
فأما زوال العقل فضربان:
أحدهما: ما كان عارضا مرجو الزوال كالإغماء فهذا لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج منها لأنه مرض قليل اللبث سريع الزوال .. وقد أغمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ..
الثاني: ما كان لازما لا يرجى زواله كالجنون والخبل .. فهو على ضربين:
الأول: أن يكون مطبقا دائما لا تتخلله إفاقة .. فهذا يمنع من عقد الإمامة واستدامتها .. فإذا طرأ هذا بطلت به الإمامة بعد تحققه والقطع به ..
الثاني: أن تتخلله إفاقة يعود بها إلى حال السلامة فينظر فيه .. فإن كان زمان الخبل أكثر من زمان الإفاقة فهو كالمستديم يمنع من عقد الإمامة واستدامتها ويخرج بحدوثه منها .. وإن كان زمان الإفاقة أكثر من زمان الخبل منع من عقد الإمامة ابتداء .. واختلف في منعه من استدامتها .. فقيل يمنع من استدامتها كما يمنع من ابتدائها .. فإذا طرأ بعد عقد الإمامة بطلت به لأن في استدامتها اختلالا بالنظر المستحق فيه .. وقيل لا يمنع من استدامة الإمامة وإن منع من عقدها في الابتداء لأنه يراعى في ابتداء عقدها سلامة كاملة ويراعى في الخروج منها نقص كامل ..
وأما ذهاب البصر فيمنع من عقد الإمامة واستدامتها .. فإذا طرأ بعد عقد الإمامة بطلت به لأنه لما أبطل ولاية القضاء ومنع من جواز الشهادة .. فأولى أن يمنع من صحة الإمامة ..
وأما غشاء العين وهو ألا يبصر عند دخول الليل فلا يمنع من الإمامة في عقد ولا في استدامة لأنه مرض في زمان الدعة يرجى
زواله .. وأما ضعف البصر .. فإن كان يعرف منه الأشخاص إذا رآها لم يمنع من الإمامة .. وإن كان يدرك الأشخاص ولكن لا يعرفها منع من الإمامة عقدا واستدامة ..
أما القسم الثاني: من الحواس التي يمكن فقدها في الإِمامة فشيئان:
الأول: الخشم في الأنف الذي لا يدرك منه شم الروائح.
الثاني: فقد الذوق الذي يفرق به بين الطعوم .. فلا يؤثر هذا في عقد الإمامة لأنهما يؤثران في اللذة ولا يؤثران في الرأى والعمل ..
الثالث: من الحواس المختلف فيها فشيئان: (الصم والخرس) فيمنعان من ابتداء عقد الإمامة لأن كمال الأوصاف مع وجودهما مفقود ..
واختلف في الخروج بهما من الإِمامة إذا طرأ بعد انعقادها.
فقالت طائفة: يخرج بهما منها كما يخرج بذهاب البصر لتأثيرها في التدبير والعمل ..
وقال آخرون: لا يخرج بهما من الإِمامة لقيام الإشارة مقامهما فلا يخرج منها إلا بنقص كامل ..
وقال آخرون: إن كان يحسن الكتابة لم يخرج بهما من الإِمامة .. وإن كان لا يحسنها خرج من الإِمامة بهما .. لأن الكتابة مفهومة والإِشارة موهوبة.
والأول من المذاهب الثلاثة أصح .. وأما تمتمة اللسان وثقل السمع مع إدراك الصوت إذا كان عاليا فلا يخرج بهما من الإمامة إذا حدثا واختلف في ابتداء عقدها معهما .. فقيل يمنع ذلك من ابتداء عقدها لأنهما نقص يخرج بهما عن حال الكمال .. وقيل لا يمنع لأن نبى الله موسى عليه السلام لم تمنعه عقدة لسانه عن النبوة فأولى أن لا يمنع ذلك من الإِمامة ..
وأما فقد الأعضاء فينقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: ما لا يمنع من صحة الإمامة في عقد ولا استدامة وهو ما لا يؤثر فقده في رأى ولا عمل ولا نهوض ولا يشين في المنظر ..
وذلك مثل قطع الذكر والأنثيين فلا يمنع من عقد الإمامة ولا من استدامتها بعد العقد إذا طرأ بعده لأن فقد هذين العضوين يؤثر في التناسل دون الرأى والحكمة فيجرى مجرى العنة وهى لا تمنع ..
وكذلك قطع الأذنين لأنهما لا يؤثران في رأى ولا عمل .. ولهما شين خفى يمكن أن يستتر فلا يظهر ..
القسم الثاني: ما يمنع من عقد الإِمامة ابتداء من استدامتها إن طرأ بعد عقدها .. وهو ما يمنع من العمل كذهاب اليدين .. أو من النهوض كذهاب الرجلين فلا تصح معه الإمامة في عقد ولا استدامة لعجزه عما يلزمه من حقوق الأمة في عمل أو نهضة ..
القسم الثالث: ما يمنع من عقد الإِمامة اتفاقا - واختلف في منعه من استدامتها إذا طرأ بعد العقد وهو ما يذهب به بعض العمل أو يفقد به بعض النهوض كذهاب إحدى اليدين أو إحدى الرجلين فلا يصح معه عقد الإِمامة ابتداء لعجزه عن كمال التصرف .. فإن طرأ بعد عقد الإِمامة ففى خروجهما منها مذهبان للفقهاء:
المذهب الأول: يخرج به من الإمامة لأنه عجز يمنع من ابتداء عقد الإِمامة فيمنع من استدامتها كذلك ..
المذهب الثاني: أنه لا يخرج من الإِمامة بعد عقدها وإن منع من العقد ابتداء لأن المعتبر في عقدها كمال السلامة وفى الخروج منها كمال النقص ..
القسم الرابع: ما لا يمنع من استدامة الإمامة واختلف في منعه من ابتداء عقدها وهو ما شان وقبح ولم يؤثر في عمل ولا في نهضة كجدع الأنف وسمل إحدى العينين .. فلا يخرج به من الإِمامة بعد عقدها لعدم تأثيره في شئ من حقوقها. وفى منعه من ابتداء عقدها مذهبان للفقهاء:
أحدهما: أنه لا يمنع من عقدها .. إذ ليس ذلك من الشروط المعتبرة فيها لعدم تأثيره في حقوقها ..
المذهب الثاني: أنه يمنع من عقد الإمامة وتكون السلامة منه شرطا معتبرا في عقدها ليسلم ولاة الملة من شين يعاب ونقص يزدرى .. فتقل به الهيبة وفى فلتها نفور عن الطاعة وما أدى إلى هذا فهو نقص في حقوق الأمة ..
وأما نقص التصرف فضربان: حجر وقهر ..
فأما الحجر: فهو أن يستولى عليه من أعوانه من يستبد بتنفيذ الأمور من غير تظاهر بمعصية ولا مجاهرة بمشاقة .. فلا يمنع ذلك من إمامته .. ولا يقدح في صحة ولايته .. ولكن ينظر في أفعال من استولى على أموره .. فإن كانت جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل جاز إقراره عليها تنفيذا لها وإمضاء لأحكامها لئلا يقف من الأمور الدينية ما يعود بفساد على الأمة .. وإن كانت أفعاله خارجة عن حكم الدين ومقتضى العقل لم يجز إقراره عليها ولزمه أن يستنصر من يقبض يد هذا المستولى ويزيل تغلبه عليه ..
وأما القهر: فهو أن يصير مأسورا في يد عدو قاهر ولا يقدر على الخلاص منه فمنع ذلك من عقد الإمامة له ابتداء لعجزه عن النظر في أمور المسلمين .. وسواء كان العدو الذي أسره مشركا أو مسلمًا باغيا .. وللأمة أن تختار غيره من ذوى القدرة على تدبير أمور المسلمين .. وإن أسر بعد أن عقدت له الإمامة، فعلى كافة الأمة استنقاذه من الأسر لما أوجبته الإِمامة عليها. وهو على إمامته ما كان مرجو الخلاص مأمول الفكاك إما بقتال أو فداء .. فإن وقع اليأس من خلاصة لم يخل حال من أسره من أن يكونوا مشركين أو بغاة من المسلمين .. فإن كان في أسر المشركين خرج من الإمامة لليأس من خلاصه .. واستأنف أهل الاختيار بيعة غيره على الإِمامة .. فإن عهد بالإمامة في حال أسره إلى شخص نظر في عهده .. فإن كان بعد اليأس من خلاصه كان عهده باطلا لأنه عهد صادر بعد خروجه من الإِمامة بوقوع اليأس من خلاصه فلم يصح منه عهد ..
وإن كان قد عهد بالإمامة قبل اليأس من خلاصه في وقت فيه مرجو الخلاص صح عهده لبقاء إمامته حينئذ .. واستقرت إمامة ولى العهد وإن خلص قبل اليأس فهو على إمامته .. ويكون العهد في ولى العهد ثابتا وإن لم يصر إمامًا بالفعل لوجود الإمام الأصلى .. وإن كان مأسورا مع بغاة المسلمين فإن كان مرجو الخلاص فهو على إمامته .. وإن وقع اليأس من خلاصه لم يخل حال البغاة من أحد أمرين:
إما أن يكونوا نصبوا لأنفسهم إمامًا أولم ينصبوا .. فإن كانوا فوضى لا إمام لهم، فالإِمام المأسور في أيديهم على إمامته لأن البيعة له لازمة وطاعتهم له واجبة فصار معهم كمصيره مع أهل العدل إذا صار تحت الحجر ..
وعلى أهل الاختيار أن يستنيبوا عنه ناظرًا يخلفه إن لم يقدر هو على الاستنابة، فإن قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم .. فإن خلع المأسور نفسه أو مات لم يصر المستناب إمامًا لأنها نيابة عن موجود فزالت بعقده أو بزوال صفته ..
وإن كان أهل البغى قد نصبوا لأنفسهم إمامًا وخلوا في بيعته وانقادوا لطاعته. فالإمام المأسور في أيديهم يعتبر خارجا من الإمامة باليأس من خلاصة لأنهم قد انحازوا بدار تفرد حكمها عن الجماعة وخرجوا بها عن الطاعة فلم يبق لأهل العدل بهم نصره ولا للمأمور معهم قدرة ..
وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوه لها .. فإن خلص المأسور بعد ذلك لم يعد إلى الإمامة لخروجه منها ..
وقال ابن حزم
(1)
: "لا يضر الإمام أن يكون في خَلْقِه عيب كالأعمى والأصم والأجدع والأجذم والأحدب والذي لا يدان له ولا رجلان .. ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ولو أنه ابن مائة عام ومن يعرض له الصرع ثم يفيق .. ومن بويع بالخلافة إثر بلوغه الحلم وهو مستوف لشروط الإمامة .. فكل هؤلاء إمامتهم جائزة إذ لم يمنع منها نص قرآنى ولا سنة ولا إجماع ولا نظر ولا دليل أصلًا .. بل قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} فمن قام بالقسط فقد أدى ما أمر به .. ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ حاشا الروافض فإنهم أجازوا كلا الأمرين .. ولا خلاف بين أحد في أنها تجوز لامرأة ..
وظاهر من كلام ابن حزم وإطلاقه الحكم بجواز الإمامة مع ما ذكر أن العمى والصمم وفقد اليدين والرجلين لا يمنع من عقد الإمامة ابتداء ولا يمنع طروء ما ذكر على الإمام من استدامتها ..
وهو يخالف ما ذكره السعد التفتازانى والقاضى أبو الحسن الماوردى في ذلك إذ قال السعد: "ولا ينعزل الإمام بالإغماء ولا بالفسق على رأى الأكثرين من الفقهاء ويستحق العزل بالفسق بالاتفاق .. وينعزل بالجنون وبالعمى والصمم والخرص .. " وقال أبو الحسن الماوردى في فقد الحواس: "وأما ذهاب البصر فيمنع من عقد الإمامة واستدامتها فإذا طرأ بعد عقد الإمامة بطلت به لأنه لما أبطل ولاية القضاء ومنع من جواز الشهادة فأولى أن يمنع من صحة الإمامة ..
وقال في فقد الأعضاء: والقسم الثاني ما يمنع من عقد الإمامة ابتداء من استدامتها طرأ بعد عقدها وهو ما يمنع من العمل كذهاب اليدين. أو من النهوض كذهاب الرجلين .. فلا تصح معه الإمامة في عقد ابتداء ولا في استدامة بعد العقد لعجزه عما يلزمه من حقوق الأمة في العمل أو النهوض له.
الخروج على الإمام:
المقرر شرعا أن طاعة الإمام واجبة شرعا على الأمة ما دام قائما على الحق مقيما للعدل مطبقا لأحكام الدين ومبادئ الشريعة لا يظلم ولا ينحرف .. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وقد ذكرنا فيما مضى أن
(1)
الملل والأهواء والنحل لابن حزم جـ 4 ص 129.
الروايات وأسباب النزول وارتباط الآية بما قبلها .. يرجح أن المراد بأولى الأمر .. الأمراء والولاة .. وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .. وطاعة الإمام العادل ومناصرته من مظاهر التعاون على البر والتقوى ..
قال إمام الحرمين: وإذا ظهر غشمه ولم يرعو لزواجر عن سوء صنيعه بالقول فلأهل الحل والعقد التواطؤ على ردعه ولو بشهر السلاح ونصب الحروب .. وإذا ثبت الإمام بالقهر والغلبة ثم جاء آخر فقهره انعزل وصار القاهر إمامًا ..
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخارى: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" وقال فيما يرويه مسلم: "من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع .. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" .. وقال فيما يرويه مسلم: "من خلع يدا من طاعة لقى الله يوم القيامة ولا حجة له .. ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" .. وقد ورد هذا الحديث ضمن أحاديث أخرى ذكر فيها الإمام والإمامة مما يفسر أنه في هذا السياق ..
ولكن إذا ظلم الإمام أو انحرف عن طريق القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرة .. ولم يرع في مصالح المسلمين وشئونهم إلا ولا ذمة.
فماذا يكون الحكم؟. هل يجب على جماعة المسلمين أن يخرجوا عليه ويقوموا اعوجاجه أو يخلعوه من الإمامة ولو بقوة السلاح وحد السيف .. أو يقوموه بالنصح والإرشاد بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .. فإن استقام وإلا صبروا عليه ودعوا له بالهداية؟ اختلف العلماء في ذلك ..
يقول السعد التفتازانى
(1)
: "قال إمام الحرمين: "وإذا جاوز الإمام مع الوقت فظهر ظلمه وغشمه .. ولم يرعو لزاجر عن سوء صنيعه بالقول .. فلأهل الحل والعقد التواطؤ على ردعه ولو بشهر السلاح ونصب الحروب".
ويقول الإمام أبو الحسن الأشعرى
(2)
: "واختلف الناس في السيف - أي الخروج على الإمام بقوة السلاح ..
فقالت المعتزلة والزيدية والخوارج وكثير من المرجئة: ذلك واجب إذا أمكننا أن نزيل بالسيف أهل البغى ونقيم الحق واحتجوا بقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقوله سبحانه: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وقوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ....
وقال قائلون: السيف باطل ولو قتلت الرجال وسبيت الذرية وأن الإمام قد يكون عادلا وقد يكون غير عادل وليس لنا إزالته وإن كان فاسقا .. وهذا قول أصحاب الحديث.
يقول ابن خلدون
(3)
: وأما الحسين رضى الله عنه فإنه لما ظهر فسق يزيد بن معاوية بعد أن تولى الخلافة - عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره .. فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما ممن له القدرة على ذلك وظنها من نفسه بأهليته للإمامة وشوكته وقدرته على إخراج يزيد.
فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة ..
(1)
شرح المقاصد للسعد التفتازانى جـ 2 ص 272.
(2)
مقالات الإسلاميين للإمام أبو الحسن الأشعرى جـ 2 ص 451 وما بعدها.
(3)
مقدمة ابن خلدون ص 193 طبع كتاب الشعب.
وأما الشوكة والقدرة فغلط يرحمه الله فيها .. لأن عصبية مضر كانت في قريش .. وعصبية عبد مناف إنما كانت في بنى أمية .. تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه .. وإنما نُسِىَ ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحى وتردد الملائكة لنصرة المسلمين فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبية الجاهلية ومنازعها ونسيت ولم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية والدفاع ينتفع بها في إقامة الدين وجهاد المشركين .. والدين فيها محكم والعادة معزولة .. حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة ..
تراجع الحكم بعض الشئ للعوائد فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت .. وأصبحت مضر أطوع لبنى أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك من قبل .. لذلك غلط الحسين رضى الله عنه في ظنه الشوكة والقدرة لنفسه إلا أنه في أمر دنيوى لا يضره الغلط فيه ..
وأما الحكم الشرعى فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه .. وكان ظنه القدرة على ذلك .. وقد عزله (لامه) ابن العباس وابن الزبير وابن عمر وابن الحنفية أخوه في مسيره إلى الكوفة وعلموا غلطه في ذلك ولكنه لم يرجع عما هو بسبيله لما أراده الله ..
وأما الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام والعراق، والتابعون لهم فرأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقا لا يجوز لما ينشأ عنه من الهَرْج (الفتنة والاضطراب) والدماء، فاقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين رضى الله عنه ولا أنكروا عليه ولا أثَّمُوه لأنه مجتهد وهو أسوة المجتهدين ..
وخلاصة ذلك أن الخروج على الإمام الفاسق الجائر مشروع عند وجود الشوكة والقدرة عليه ومع أمن الفتنة والاضطراب والدماء بين المسلمين ..
ويقول العلامة ابن حزم
(1)
: "اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" ثم اختلفوا في كيفيته ..
فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضى الله عنهم فمن بعدهم وهو قول أحمد بن حنبل رضى الله عنه وغيره .. وهو قول سعد بن أبى وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر ومحمد بن سلمة رضى الله عنهم وغيرهم.
ذهب هؤلاء إلى أن الغرض من ذلك - أي من إنكار المنكر - إنما هو بالقلب فقط ولابد أو باللسان إن قدر على ذلك .. ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ورفع السلاح أصلا .. وهو قول أبى بكر بن كيسان الأصم!!! وبه قالت الروافض كلهم .. ولو قتلوا كلهم إلا أنها لم تر ذلك إلا ما لم يخرج الناطق.
فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه وإلا فلا .. واقتدى أهل السنة في هذا بعثمان رضى الله عنه وبمن ذكرنا من الصحابة رضى الله عنهم وبمن رأى القعود منهم عن القتال .. إلا أن جميع القائلين بهذه المقالة من أهل السنة إنما رأوا ذلك ما لم يكن عدلا وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإِمام العدل ..
(1)
الفصل لابن حزم جـ 4 ص 132 وما بعدها.
وقد روينا عن ابن عمر أنه قال: لا أدرى من هي الفئة الباغية .. ولو علمتها ما سبقتنى أنت ولا غيرك إلى قتالها ..
قال أبو حمد: وهذا الذي لا يظن بأولئك الصحابة رضى الله عنهم غيره .. وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك ..
وقالوا: فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييأسون من الظفر ففرض عليهم ذلك، وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك باليد ..
وهذا قول على بن أبى طالب رضى الله عنه وكل من كان معه من الصحابة .. وقول أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وطلحة والزبير وكل ما كان معهم من الصحابة وقول معاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص والنعمان بن بشير وغيرهم ممن كان معهم من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين.
وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن على وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار القائمين يوم الحرَّة رضى الله عنهم أجمعين ..
وقول كل من أقام على الفاسق الحجاج بن يوسف الثقفى ومن ولاه من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين كأنس بن مالك وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل كعبد الرحمن بن أبى ليلى وسعيد بن جبير وابن البحترى الطائى وعطاء السلمى الأزدى والحسن البصرى ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبى الحوراء والشعبى وعبد الله بن غالب وعقبة بن عبد الغافر وعقبة بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة بن شعبة وحنظلة بن عبد الله وطلق بن حبيب وعطاء بن السائب وإبراهيم بن يزيد التيمى وغيرهم ..
ثم من بعد هؤلاء من تابعى التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز بن عمر ومحمد بن عجلان ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم بن بشر ومطر الوراق ومن خرج مع إبراهيم بن عبد الله .. وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء .. كأبى حنيفة والحسن بن حيى وشريك ومالك والشافعى وداود وأصحابهم .. فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث إما ناطق بذلك في فتواه .. وإما فاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رآه منكر ..
قال أبو محمد: احتجت الطائفة المذكورة أولا بأحاديث فيها - أنقاتلهم يا رسول الله؟ قال: لا .. ما صلوا - وفى بعضها .. إلا أن تروا كفرا بواحًا عندكم فيه من الله برهان .. وفى بعضها وجوب الصبر وإن ضرب ظهر أحدنا أو أخذ ماله!! وفى بعضها .. فإن خشيت أن يبهرك السيف فاطرح ثوبك على وجهك وقل: إن أريد أن تبوء بإثمى وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين - وفى بعضها - كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل - وبقوله تعالى:
قال أبو محمد: كل هذا لا حجة لهم فيه لما قد تقصيناه غاية التقصى خبرًا خبرًا بأسانيدها ومعانيها في كتابنا (الاتصال إلى فهم معرفة الخصال) ونذكر هنا جملا كافية:
أما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أخذ المال وضرب
الظهر فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإِمام ذلك بحق .. وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له ..
وإن امتنع الإِمام من ذلك بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فإنه يكون فاسقا عاصيا لله تعالى بتعطيل حكمه ..
وأما إن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك .. برهان ذلك قول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقد علمنا أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام ربه تعالى. قال الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وقال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} فصح أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وحى من عند الله عز وجل لا اختلاف فيه ولا تعارض ولا تناقض
…
فإذا كان هذا كذلك فيقين لا شك فيه يدرى كل مسلم أن أخذ مال مسلم أو ذمى بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم" فإذا لا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين .. فالمسلم ماله للأخذ ظلمًا وظهره للضرب ظلما وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأى وجه أمكنه - معاون لظالمه على الإثم والعدوان .. وهذا حرام بنص القرآن ..
وأما سائر الأحاديث التي ذكرنا وقصة ابنى آدم فلا حجة في شئ منها .. أما قصة ابنى آدم فتلك شريعة أخرى غير شريعتنا .. قال الله عز وجل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا .. " وأما الأحاديث فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "ومن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإِيمان" ليس وراء ذلك من الإيمان شئ .. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة في معصية .. إنما الطاعة في الطاعة .. وعلى أحدكم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية .. فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" وأنه عليه الصلاة والسلام قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد .. والمقتول دون دينه شهيد والمقتول دون مظلمة شهيد .. " وقال عليه الصلاة والسلام: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعذاب من عنده" فكان ظاهر هذه الأخبار معارضا لظاهر الأخبار الأخرى .. فصح أن إحدى هاتين الجملتين ناسخة للأخرى ولا يمكن غير ذلك .. فوجب النظر في أيهما هو الناسخ فوجدنا تلك الأحاديث التي منها النهى عن القتال موافقة لمعهود الأصل ..
ولما كانت عليه الحال في أول الإِسلام بلا شك .. وكانت هذه الأحاديث الأخرى التي فيها الأمر بالقتال واردة بشريعة زائدة وهى القتال .. وهذا ما لا شك فيه .. فقد صح نسخ معنى تلك الأحاديث ورفع حكمها حين نطق صلى الله عليه وسلم بهذه الأحاديث الأخرى بلا شك.
فمن المحال المحرم أن يؤخذ بالمنسوخ ويترك الناسخ وأن يؤخذ الشك ويترك اليقين .. ومن ادعى أن هذه الأخبار بعد أن كانت هي الناسخة فعادت منسوخة - فقد ادعى الباطل وقفا ما ليس له به علم فقال على الله ما لم يعلم .. وهذا لا يحل.
ولو كان هذا لما أخلا الله عز وجل هذا الحكم عن دليل وبرهان يبين به رجوع المنسوخ ناسخا لقوله تعالى: {الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}
وبرهان آخر وهو أن الله عز وجل قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} لم يختلف مسلمان في أن هذه الآية التي فيها فرض قتال الفئة الباغية محكمة غير منسوخة فصح أنها الحاكمة في تلك الأحاديث فما كان موافقا لهذه الآية فهو الناسخ الثابت .. وما كان مخالفا فهو المنسوخ المرفوع ..
وقد ادعى قوم أن هذه الآية وهذه الأحاديث في اللصوص دون السلطان .. قال أبو محمد: هذا باطل بيقين لأنه قول بلا برهان .. وما يعجز مدع أن يدَعى في تلك الأحاديث أنها في قوم دون قوم .. وفى زمان دون زمان .. والدعوى دون برهان لا تصح ..
وتخصيص النصوص بالدعوى لا يجوز لأنه قول على الله تعالى بلا علم ..
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سائلا سأله عمن طلب ماله بغير حق .. فقال عليه الصلاة والسلام: لا تعطه .. قال: فإن قاتلنى؟ قال: قاتله .. قال: فإن قتلته؟ قال: إلى النار .. قال: فإن قتلنى؟ قال: فأنت في الجنة .. أو كلاما هذه معناه ..
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: المسلم أخو المسلم لا يسلبه ولا يظلمه .. وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال في الزكاة: من سألها على وجهها فلا يعطها ومن سألها على غير وجهها فلا يعطيها.
وهذا خبر ثابت رويناه من طريق الثقات عن أنس بن مالك عن أبى بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهذا يبطل تأويل مَنْ تأول أحاديث القتال عن المال على أنه وارد في اللصوص دون السلطان .. لأن اللصوص لا يطلبون الزكاة وإنما يطلبها السلطان .. فاقتصر عليه السلام معها على ما إذا سألها على غير ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم .. ولو اجتمع أهل الحق ما قاومهم أهل الباطل ..
قال أبو محمد: وما اعترضوا به من فعل عثمان رضى الله عنه يرد بأن عثمان ما علم قط أنه يقتل .. وإنما كان يراهم يحاصرون فقط .. وهم لا يرون هذا اليوم للإمام العدل .. بل يرون القتال معه ودونه فرضا فلا حجة لهم في أمر عثمان رضى الله عنه ..
وقال بعضهم: إن في القيام إباحة الحريم وسفك الدماء وأخذ الأموال وهتك الأستار وانتشار الأمر .. فقال لهم الآخرون كلا: إنه لا يحل لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يهتك حريما ولا أن يأخذ مالا بغير حق ولا أن يتعرض لمن لا يقاتله ..
فإن فعل شيئا من هذا فهو الذي فعل من المنكر ما ينبغى أن يغير عليه .. وأما قتله أهل المنكر قلوا أو كثروا فهذا فرض عليه .. وأما قتل أهل المنكر الناس وأخذهم أموالهم وهتكهم حريمهم ..
فهذا كله من المنكر الذي يلزم الناس تغييره .. وأيضا فلو كان خوف ما ذكروا مانعا من تغيير المنكر من الأمر بالمعروف لكان هذا مانعا من جهاد أهل الحرب وهذا ما لا يقوله مسلم وإن أدى ذلك إلى سبى النصارى نساء المسلمين وأولادهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم وهتك حريمهم ..
ولا خلاف بين المسلمين في أن الجهاد واجب مع وجود ذلك كله .. ولا فرق بين الأمرين .. وكل ذلك جهاد ودعاء إلى القرآن والسنة ..
قال أبو محمد: ويقال لهم: ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده وألزم المسلمين الجزية وحمل السيف على أطفال المسلمين وأباح المسلمات للزنا وحمل السيف على كل من وجد من المسلمين وملك نساءهم وأطفالهم وأعلن العبث بهم وهو مع ذلك كله مقر بالإسلام مؤمن به لا يدع الصلاة .. فإن قالوا: لا يجوز القيام عليه .. قيل لهم: إنه لا يدع مسلمًا إلا قتله .. جملة ( .. )
وهذا إن ترك أوجب ضرورة أن لا يبقى من المسلمين إلا هو وحده وأهل الكفر معه .. فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإِسلام وانسلخوا منه ..
وإن قالوا: بل يقام عليه ويقاتل وهو قولهم .. قلنا لهم: فإن قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحدًا منهم وسبى من نسائهم كذلك وأخذ من أموالهم كذلك .. فإن منعوا من القيام عليه تناقضوا .. وإن أوجبوا القيام عليه سألناهم عن أقل من ذلك ولا نزال نحيطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحد أو على امرأة واحدة أو على أخذ مال رجل واحد أو على انتهاك بشرة واحدة بظلم ..
فإن فرقوا بين شئ من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل وهذا ما لا يجوز فتسقط حجتهم ويغلبون .. وإن أوجبوا إنكار كل ذلك رجعوا إلى الحق ..
ونسألهم عمن نصب سلطانه الجائر الفاجر زوجته وابنته وابنه ليفسق بهم أو ليفسق به هو بنفسه .. أهو في سعة من أن يسلم نفسه وامرأته وابنته وابنه للفاحشة أم فرض عليه أن يدفع من أراد ذلك من السلاطين؟.
فإن قالوا عليه أن يسلم نفسه وأهله للفاحشة أتوا بعظيمة لا يقولها مسلم.
وإن قالوا بل فرض عليه أن يمتنع عن ذلك ويقاتل رجعوا إلى الحق ولزم ذلك كل مسلم وفى المال كذلك ..
قال أبو محمد: والواجب إن وقع شئ من الجور وإن قل أن يُكَلَّم الإمام في ذلك ويُمْنَع منه ..
فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء .. ولإِقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه إن وقع منه ما يوجب ذلك فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه ..
فإن امتنع من إنفاذ شئ من هذه الواجبات عليه وجب خلعه وإقامة غيره في منصب الخلافة ممن يقوم بالحق لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ولا يجوز تضييع شئ من واجبات الشرائع وأحكامها ..
وقد ألحق ابن حزم بموضوع الخروج على الإمام الفاسق المنحرف والآراء والأدلة فيه على الوجه الذي نقلناه عنه .. موضوع الصلاة خلف هذا الإِمام والجهاد والحج معه ودفع الزكاة إليه ونفاذ أحكامه من الأقضية والحدود وغير ذلك .. وهو نوع من المقاطعة وعدم التعاون مع هذا الإمام عند من يجيزه وإعلاء السخط عليه وعدم الرضى بإمامته ..
• قال أبو محمد: ذهبت طائفة إلى أنه لا تجوز الصلاة إلا خلف الفاضل وهو قول الخوارج والزيدية والروافض وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة.
وقال آخرون: إلا الجمعة والعيدين وهو قول بعض أهل السنَّة ..
وذهب الصحابة كلهم دون خلاف من أحد منهم وجميع فقهاء التابعين كلهم دون خلاف من أحد منهم وأكثر من بعدهم وجمهور أصحاب الحديث وهو قول أحمد والشافعى وأبى حنيفة وداود وغيرهم إلى جواز الصلاة خلف الفاسق الجمعة والعيدين وغيرها .. وبهذا نقول.
وخلاف هذا القول بدعة محدثة فما تأخر قط أحد من الصحابة الذين أدركوا المختار بن عبيد والحجاج الثقفى، وعبيد الله بن زياد وحبيش بن دلجة وغيرهم عن الصلاة خلفهم وهؤلاء أفسق الفساق .. وأما المختار فكان منهما متهما في دينه مظنونا به الكفر ..
قال أبو محمد: احتج من يقول بمنع الصلاة خلفهم .. يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ويقال لهم في الرد: كل فاسق إذا نوى بصلاته وجه الله تعالى فهو في ذلك من المتقين فصلاته متقبلة بمقتضى النص ..
ولو قيل: إنه لا يكون من المتقين إلا من لا ذنب له أصلا ما استحق أحد هذا الاسم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قال الله عز وجل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} ولا يجوز القطع على الفاسق بأنه لم يرد بصلاته وجه الله تعالى .. ومن قطع بهذا فقد قفا ما ليس به علم .. وقال ما لا يعلم وهذا حرام .. قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال عز وجل: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} وقال بعضهم: إن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإِمام.
قال أبو محمد: هذا غاية الفساد لأنه قول بلا دليل بل البرهان يبطله لقول الله تعالى:
{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} وقول سبحانه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، دعوى الارتباط هاهنا قول بلا برهان لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من معقول .. وهم قد أجمعوا على أن طهارة الإمام لا تنوب عن طهارة المأموم ولا قيامه عن قيامه ولا قعوده عن قعوده ولا سجوده عن سجوده ولا ركوعه عن ركوعه ولا نيته عن نيته .. فما معنى هذا الارتباط الذي تدعونه إذن؟ وأيضا فإن القطع عن سريرة الذي ظاهره الفضل لا يجوز وإنما هو ظن تبنى عليه الأحكام في مثل هذا فاستوى الأمر في ذلك بالنسبة للفاضل والفاسق وصح أنه لا يصلى أحد عن أحد وإنما يصلى كل أحد عن نفسه .. وقال الله تعالى: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} فوجب بذلك ضرورة أن كل داع دعى إلى خير من صلاة أو حج أو جهاد أو تعاون على بر وتقوى .. ففرض على المسلم إجابته وعمل ذلك الخير معه لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وأن كل داع دعى إلى شر فلا تجوز إجابته بل فرض على المسلمين دفاعه ومنعه ..
قال أبو محمد: وأيضا فإن الفسق منزلة نقص عمن هو أفضل منه .. والذي لا شك فيه أن النسبة بين أفجر فاجر من المسلمين وبين أفضل الصحابة رضى الله عنهم أقرب من النسبة بين أفضل الصحابة رضى الله عنهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وما عرى أحد من تعمد ذنب وتقصير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وإنما تفاضل المسلمون في كثرة الذنوب وقلتها وفى اجتناب الكبائر ومواقعتها ..
وأما الصغائر فما نجا أحد بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها .. وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبى بكر وعبد الرحمن بن عوف .. وبهذا صح أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن استووا فأفقههم - ندب لا فرض - فليس لفاضل بعد هذا أن يمتنع من الصلاة خلف من هو دونه في القصوى من الغايات.
قال أبو محمد: وأما دفع الزكاة إلى الإِمام .. فإن كان الإِمام القرشى الفاضل أو الفاسق لم ينازعه فاضل فهى جارية والدفع جائز لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضو مصدقيكم" ولا يكون مصدقا كل من سمى نفسه مصدقا وإنما المصدق هو من قام البرهان على أنه مصدق بإرسال الإمام الواجبة طاعته لَه لجباية الزكاة .. وأما إذا سأَلها وطلب أداءها من هو غير الإِمام المذكور أو غير مصدقه فهو عابر سبيل لا حق له في قبضها فلا يجزئ دفعها إليه لأنه دفعها إلى غير من أمر بالدفع إليه .. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" ..
وهكذا القول في الأحكام كلها من الحدود وغيرها .. إن أقامها الإِمام الواجبة طاعته والذي لابد منه .. فإن وافقت القرآن والسنة نفذت وإلا فهى مردودة لما ذكرنا ..
وإن أقامها غير الإمام المذكور أو واليه فهى كلها مردودة ولا يحتسب بها لأنه أقامها من لم يؤمر بإقامتها .. فإن لم يقدر عليها الإمام فكل من قام بشئ من الحق حينئذ نفذ - لأمر الله تعالى لنا بأن نكون قوامين بالقسط ولا خلاف بين أحد من الأمة أنه إذا كان الإمام حاضرا متمكنا أو أميره أو واليه فإن من بادر إلى تنفيذ حكم هو إلى الإمام .. فإن هذا الحكم أما مظلمة وإما ترد وإما عزل لا ينفذ .. على هذا جرى عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع عماله في البلاد بنقل جميع المسلمين عصرا بعد عصر ثم عمل الصحابة رضى الله عنهم أجمعين ..
وأما الجهاد فهو واجب مع كل أمام وكل متغلب وكل باغ وكل محارب من المسلمين لأنه تعاون على البر والتقوى وفرض على كل أحد أن يدعو إلى الله تعالى وإلى دين الإسلام ومنع المسلمين ممن أرادهم بسوء قال تعالى: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" فهذا عموم لكل مسلم بنص الآية في كل مكان وكل زمان ..
هذا ما قاله ابن حزم وظاهر منه - كما ترى أنه يذهب إلى القول بأن الأحاديث التي تدعو إلى الخروج على الإمام الفاسق المنحرف ومقاومته بالسلاح والتي احتج يها الفريق الثاني ..
هذه الأحاديث قد نسخت الأحاديث التي تدعو إلى الصبر على مثل هذا الإِمام والنصح له بالقول والدعاء له بالصلاح والإِستقامة على الطريق السوى وعدم اللجوء إلى المقاومة بالقوة والتي احتج بها الفريق الأول.
بناء على أن الأحاديث الناسخة قد أثبتت حكمًا جديدًا زائدًا على ما أثبتته وقررته الأحاديث المنسوخة وهو مشروعية قتال الإمام الفاسق الفَاجر فيجب العمل بها دون الأخرى ..
وقد ناقش البعض القول بالنسخ ورأى أنه ليس هناك ما يدعو إليه فإن من المقرر أنه لا يلجأ إلى النسخ إلا عند عدم إمكان الجمع بين المتعارضين وهنا الجمع ممكن بحمل الأحاديث الداعية إلى الصبر والمسالمة على حالة ما إذا كان اللجوء إلى القوة واستعمال السلاح سيؤدى إلى ضرر كبير بالمسلمين بأن كانوا غير قادرين على المقاومة .. أو كانت المقاومة ستؤدى إلى فتنة وانقسام بين المسلمين وينشأ عنها تفرق كلمتهم بحيث يؤدى إلى ضرر شامل لا يحتمل .. وحمل الأحاديث الداعية إلى المقاومة واستعمال القوة على حالة ما إذا كان ذلك مقدورا لجماعة المسلمين في استطاعتهم الوصول إلى غايتهم دون أن يترتب على ذلك ضرر عام ..
وقد تقدم في أقوال العلماء وآرائهم التي نقلناها ما يشير إلى ذلك ويؤيده
…
وفى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده إن استطاع .. فإن لم يستطع فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" أي ليس وراء ذلك من الإيمان شئ كما يقول ابن حزم
…
فالنبى صلى الله عليه وسلم حين أمر في الحديث بتغيير المنكر باليد قيد ذلك بالاستطاعة أي القدرة على التغيير كذلك في أمره بالتغيير في باللسان قيده بالاستطاعة .. ولا شك أن من أحوال عدم الاستطاعة ما إذا كان قادرًا ولكن سيترتب على استعمال القوة فتنة وفرقة يكون من ورائها ضرر عام بما يصيب المسلمين من ضعف نتيجة الانقسام والتفرق.
وهذا في مثل حالة الإِنكار على الإِمام إذا فسق أو انحرف وإلا فالمنكر في لفظ الحديث عام أي منكر كان من فرد أو من جماعة .. من حاكم أو محكوم .. والإِنكار بالقلب أن يدخل في قلب كل مسلم حين يرى المنكر فليس لمسلم عذر في عدم الإِنكار بقلبه لأن ذلك يكون معناه الرضا عن المنكر وهذا إثم إذ يكون قد اطمأن قلبه إلى المنكر ورضى به.
فالإنكار بالقلب فرض عين على كل مسلم يرى المنكر أما الإنكار باليد أو باللسان فذلك متروك لظروف الناس وأحوالهم.
والمراد باللسان الذي جعله الحديث أداة لمحاربة المنكر .. اللسان الذي يقدم النصح ويجادل عن الحق والمعروف بالتى هي أحسن ويتحرك بالحكمة والموعظة الحسنة.
وفى هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" قالوا لِمَنْ يا رسول الله؟ قال: "لله ولرسوله .. ولأئمة المسلمين وعامتهم .. " على خلاف اللسان الذي يتخذ السباب والبذاءة طريقا لمحاربة الباطل .. فإن ذلك باطل يراد به دفع الباطل .. وهو لا ينفع .. بل قد يضر ..
ثم إن الصبر الذي تدعو إليه أحاديث المسالمة ليس المراد به الاستكانة والدعوة إلى الخنوع والانعزال عن الحياة وإنما المراد تسكين النفوس وتطمين القلوب كيلا يستبد بالناس الجزع وتيأس نفوسهم من رحمة الله ..
فهو الصبر الذي يأخذ بقلوب المؤمنين حين تنزل بهم الشدائد فلا تنحل لها عزائمهم ولا تضيق بها طاقاتهم حتى تنجلى الغمة وتنقشع غيومها ..
ومن الحق أن نسوق هنا ما أثر عن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم مما يعتبر أساسًا عريضا في هذا الباب:
روى أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه خطب بعد أن تولى الخلافة فقال: "اعلموا أيها
الناس أنى لم أجعل لهذا المكان أن أكون خيركم .. ولوددت أن بعضكم كفانيه .. ولئن أخذتمونى بما كان الله يقيم به رسوله من الوحى ما كان ذلك عندى .. وما أنا إلا كأحدكم .. فإذا رأيتمونى قد استقمت فاتبعونى .. وإن زغت فقومونى .. أطيعونى ما أطعت الله ورسوله فيكم .. فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم" فهو يدعو الناس إلى تقويمه إن مال عن النهج القويم نهج الله ورسوله .. وإلى خلع طاعته وإعلان العصيان إن عصى الله ورسوله ..
وكذلك يروى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه خطب في المسلمين بعد توليه الخلافة فدعا الناس إلى تقويم اعوجاجه إن رأوا فيه اعوجاجا ويجيبه واحد من الناس بقوله: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا ويقر عمر العظيم هذا القائل على شهر السلاح في وجه أمير المؤمنين لتقويم اعوجاجه ويحمد الله على أن جعل في المسلمين من يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف. ودعاهم كذلك إلى خلع طاعته والخروج عليه بالعصيان إن عصى الله ورسوله فيهم ..
ويروى مثل هذا وذاك عن بقية الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب رضى الله عنهم أجمعين ..
ويلحق بما قاله العلماء والمتكلمون في هذا الباب ما قاله الأستاذ الشيخ محمد عبده في كتابه الإِسلام والنصرانية: "ثم هو - الخليفة - مطاع ما دام على المحجة ونهج الكتاب والسنة والمسلمون له بالمرصاد ..
فإذا انحرف عن النهج أقاموه عليه وإذا اعوج قوموه بالنصيحة والإِعذار إليه ..
فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه ..
والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه .. وهى التي تخلفه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدنى من جميع الوجوه.
وليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر وهى سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم كما خولها لأعلاهم يتناول بها من هو أدناهم ..
هل للخلافة مدة محددة:
لم يحدد نظام الحكم في الإسلام مدة معينة لبقاء الخليفة في منصبه يعتزل بعد منصب الخلافة ليهيئ للأمة فرصة جديدة للإعراب عن رأيها فيمن تختاره لهذا المنصب على ضوء تجارب السنين الماضية وماجرى فيها من أحداث وتم فيها من خطوات وإنجازات في كل نواحى العمل ..
بل الأمر على العكس من ذلك .. تفيد النصوص والأقوال التي ذكرها العلماء والمتكلمون في هذا الباب أن الخليفة. يبقى في منصبه ما دام صالحا للعمل وقادرًا عليه وما دام سائرًا على نهج قويم في ظل كتاب الله الكريم وسنة نبيه الشريفة صلى الله عليه وسلم.
وقد سبق أن نقلنا عن شرح المقاصد للسعد التفتازانى قوله: "ولا يجوز خلع الإِمام بلا سبب لو خلعوه لم ينفذ .. وإن عزل نفسه .. فإن كان لعجز عن القيام بالأمر إنعزل وإلا فلا. " وقوله: "ينحل عقد الإِمامة بما يزول به مقصود الإِمامة" كالردة والجنون المطبق والأسر الذي لايرجى منه الخلاص .. والمرض الذي ينسيه العلوم والعمى والصمم والخرس ..
وكذ بخلعه نفسه لعجزه عن القيام بمصالح المسلمين وإن لم يكن العجز ظاهرا بل استشعره في نفسه ..
وهذا ظاهر في أن الإمام يبقى في منصبه ما دام صالحا وقادرًا ومستقيمًا .. ولاينعزل إلا بسبب يقتضى العزل ويوجبه حتى لو عزلته الأمة أو عزل هو نفسه بلا سبب .. لا ينعزل ..
ونقلنا عن القاضي أبى الحسن الماوردى كثيرا جاء فيه: "والذي يتغير به حال الإِمام فيخرج به عن الإِمامة شيئان:
الأول: جرح في عدالته.
والثانى: نقص في بدنه ..
ثم أفاض في بيان ما يصيبه في ناحية العدالة، ويؤثر فيها وبيان ما يصيبه من النقص في بدنه وتحديد مايستوجب العزل وما لا يستوجبه من هذا وذاك .. وهذا صريح في أنه ما لم يطرأ عليه ما يغيره في الناحيتين فإنه لا يستحق العزل ويبقى في منصبه ..
وعبارة الإمام الشيخ محمد عبده ظاهرة في أن الخليفة ما دام على المحجة ونهج الكتاب فهو خليفة وطاعته واجبة ..
وقد قال أحد العلماء: "ولا يصح أن تكون الخلافة في هيئة تؤلف لأجل مسمى ثم تنفرط .. فإن نصوص العلماء متضافرة علي أن يكون الخليفة فرد يستمر في رياسته ما دام حائزا على رضا الأمة بعيدًا عن الاستبداد في الحكم .. ".
والحمد لله رب العالمين
روعى في ترتيبِ الأعلام أن تكون مجردة من ابن وأب وأم وأل التعريف.
وما نشر من الأعلام بالأجزاء السابقة اكتفينا هنا بالإشارة إلى موضعه فيها.
حرف الألف (أ)
آدم الخرسانى توفى سنة 320 هـ:
هو آدم بن اياس الخرسانى البغدادى شيخ البخارى نزيل عسقلان سمع شعبة وابن أبي ذئب وروى الكثير وكان صالحا قانتا.
الآمدى توفى سنة 632 هـ:
أبو الحسن على بن أبي على محمد الملقب بسيف الدين الآمدي الفقية الأصولي المتكلم كان حنفيا ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، واشهر مؤلفاته كتاب الأحكام في أصول الأحكام.
الأبى توفى سنة 827 هـ:
محمد بن عمر الأبى الوشتاتى المالكى عالم بالحديث من أهل تونس ونسبته إلى (أبة) من قراها كان قاضيا ومن مؤلفاته (إكمال المعلم لفوائد كتاب مسلم وشرح المدونة وغيرهما).
الأبيانى توفى سنة 1936:
هو محمد زيد الابيانى مدرس الشريعة الإسلامية بمدرسة الحقوق بمصر من آل زيد في ابيانه بالغربية في مصر ولد بها وتعلم بالازهر ثم بدار العلوم في القاهرة وتولى تدريس الشريعة في مدرسة الحقوق مدة ثمان وثلاثين سنة توفى بالقاهرة ومن مؤلفاته شرح الاحكام الشرعية في الاحوال الشخصية.
أبي بن كعب توفى سنة 21 هـ:
انظر حـ 1 ص 247
الاتقانى توفى سنة 758 هـ:
انظر حـ 1 ص 247
الاثرم توفى سنة 261 هـ:
أحمد بن محمد بن هانئ الطائى أو الكلبى الاسكافى أبو بكر الاثرم من حفاظ الحديث أخذ عن الامام وآخرين له كتاب في علل الحديثِ وآخر في السنن.
ابن الأثير توفى سنة 606 هـ:
أبو السعادات مجد الدين المبارك بن محمد بن محمد، محدث لغوى أي اصولى له النهاية في غريب الحديث وجامع الأصول وغيرها.
أحمد:
انظر ابن حنبل.
أحمد جودة توفى سنة 1312:
انظر جـ 1 ص 247.
الأخفش توفى سنة 292 هـ:
هارون بن موسى شريك التغلبى أبو عبد الله شيخ القراء بدمشق يعرف بالأخفش الدمشقى أو أخفش باب الجابية (من أحياء دمشق) وكان قيما بالقراءات السبع عارف بالتفسير والنحو والمعانى والغريب والشعر وعنه اشتهر قراءة أهل الشام.
الأذرعى توفى سنة 677 هـ:
سليمان بن أبي العز بن وهيب بن عطاء الأذرعى شيخ الحنفية في زمانة من أهل أذرعات قرب دمشق أقام في دمشق يدرس ويفتى ثم انتقل إلى القاهرة تولى قضاء القضاة في أيام الظاهر بيبرس وعاد إلى دمشق فدرس بالظاهرية وولى القضاء قبيل وفاته ومات بدمشق وله (الوجيز الجامع لمسائل الجامع) في فقه الحنفية وغيره.
الاردبيل توفى سنة 799 هـ:
انظر حـ 1 ص 248.
ابن ارقم:
انظر حـ 1 ص 248
ابن أرقم توفى في سنة 68 هـ:
زيد بن أرقم الخزرجى الانصارى صحابى غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة وشهد صفين مع
على ومات بالكوفة روى له البخاري ومسلم سبعين حديثا.
أسامة بن زيد توفى سنة 54 هـ:
انظر حـ 1 ص 148
إسحاق:
انظر حـ 2 ص 343
أبو إسحاق الشاطبى:
انظر حـ 1 ص 262
أسد بن الفرات توفى سنة 214 هـ:
أسد بن الفرات بن سنان مولى بنى سليم أبو عبد الله قاضى القيروان واحد القادة الفاتحين نشأ بالقيروان ثم بتونس ورحل إلى الشرق في طلب الحديث وكان صاحب رأى صنف الاسدية في الفقه المالكى وتوفى من جراحات أصابته في إحدى المعارك.
الاسفرايينى توفى سنة 406 هـ:
أبو حامد أحمد بن محمد أحمد الاسفرايينى من اعلام الشافعية ولد في اسفرايين بالقرب من نيسابور ورحل إلى بغداد فتفقه فيها وعظمت مكانته والف كتبا، منها مطول في أصول الفقه ومختصر في الفقه سماه الرونق وتوفى ببغداد.
الاسفرايينى توفى سنة 418 هـ:
أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الاسفرايينى الفقيه الشافعي المتكلم الأصولى صاحب أول مدرسة بنيت للفقه الأصولي (بنيسابور) وقد بلغ درجة الاجتهاد.
الاسفرايينى توفى سنة 429 هـ:
عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله البغدادى التميمى الاسفرايينى أبو منصور عالم متفنن من أئمة الأصول كان صدر الإسلام في عصره ولد ونشأ في بغداد ورحل إلى خراسان واستقر في نيسابور ومات في اسفرايين كان يدرس في سبعة عشر فنا وله تصانيف كثيرة منها التحصيل في اصول الفقه ومعيار النظر وغيرها.
الاسنوى توفى سنة 772 هـ:
عبد الرحيم بن الحسن بن على جمال الدين، فقيه اصولى من علماء العربية ولد باسنا وانتقل إلى القاهرة وبقى بها حتى انتهت إليه رياسة الشافعية له مؤلفات منها الاشباه والنظائر ونهاية السول شرح منهاج الوصول وغيرها.
اشهب توفى سنة 104 هـ:
انظر حـ 1 ص 249
أصينع بن الفرج توفى سنة 235 هـ:
انظر حـ 1 ص 249
الاصطخرى توفى سنة 328 هـ:
أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد فقيه شافعى ولى جلسة بغداد واستقضاء المقتدر على سجستان وله كتب منها "ادب القضاء""والفرائض" وغيرها.
اطفيش توفى سنة 1332 هـ:
محمد بن يوسف بن عيسى اطفيش الحفصى العدوى اباضى المذهب مجتهد كان له اثر بارز في قضية بلاده السياسية مولده ووفاته في بلدة يسجن من وادى ميزاب في الجزائر له أكثر من ثلثمائة مؤلف منها شامل الأصل والفرع في علوم الشريعة وشرح النيل في عشرة أجزاء كبيرة في الفقه الاباضى.
امام الحرمين توفى سنة 478 هـ:
انظر حـ 1 ص 249
أمامة بنت ابى العاصي:
امامه بنت ابى العاصى بن الربيع واسمه ابى العاصى مهشمه وقيل لقيط وقيل ياسر وقيل القاسم
مذكور في المهذب في باب طهارة البدن وفى باب ما يفسد الصلاة وهى امامة بنت ابى العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد مناف القريشية امها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها ويحملها في الصلاة وثبت ذلك في الصحيح تزوجها على بن أبي طالب رضى الله عنها بعد وفاة فاطمة رضى الله عنها وكانت فاطمه أوصت عليا ان يتزوجها ثم تزوجها بعد على المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم فولدت له يحيى وبه. يكنى وماتت عند المغيرة وليس لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لرقية ولا لأم كلثوم عقب وإنما العقب لفاطمة رضى الله عنهن.
أبو أمامة الأمير توفى سنة 1232 هـ:
انظر حـ 4 ص 360.: محمد بن محمد بن أحمد السنباوى الازهرى من فقهاء المالكية وعلماء اللغة العربية ولد في ناحية سنبو بمصر وتعلم في الازهر وتوفى بالقاهرة وكانت لحده أحمد امرة بالصعيد فلقب بالامير أكثر كتبه حواشى وشروح ومنها الاكليل شرح مختصر خليل وحاشية على شرح الزرقانى على الغمرية فقه أيضا.
أنس بن مالك توفى سنة 93 هـ:
جده النضر بن ضمضم البخارى الخزرجى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد بالمدينة وتوفى بالبصرة وهو من الستة المكثرين للحديث من الصحابة وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة.
الأوزاعي توفى سنة 157 هـ:
عبد الرحمن بن عمرو يحمد الأوزاعي أبو عمرو امام الديار الشامية في الفقه والزاهد ولد في بعلبك ونشأ في البقاع وسكن بيروت وتوفى بها له كتاب السنن في الفقه.
الاوزجندى:
انظر حـ 4 ص 360
اياس بن معاويه:
انظر حـ 2 ص 244
ايوب السختانى:
انظر حـ 5 ص 364.
حرب الباء (ب)
الباجى: انظر حـ 1 ص 250
الباقر: انظر أبو جعفر حـ 2 ص 347
البخارى: انظر حـ 1 ص 250
البرزلى: انظر حـ 5 ص 365
بروع بنت واثق: انظر حـ 1 ص 250
البساطى: انظر حـ 5 ص 365
بشر: انظر حـ 4 ص 361.
أبو بصير: انظر حـ 3 ص 338.
البغوي: انظر حـ 2 ص 345
أبو بكر: انظر حـ 2 ص 345
أبو بكر بن إسحاق توفى سنة 847 هـ:
أبو بكر بن إسحاق بن خالد زين الدين الكختاوى المعروف بالشيخ باكير نحوى صوفى نسبته إلى "كختا" قال الزبيدى مدينة بنواحى بلاد النترولى تولى قضاء حلب وافتى ودرس فيها واستدعاه الملك الاشرف برسباى إلى مصر وولاه مشيخة الشيخونية له شرح شذور الذهب لابن هشام في النحو.
أبو بكر بن داود بن على الظاهرى توفى سنة 297 هـ:
أبو بكر بن داود على بن خلف الاصفهانى المعروف بالظاهرى كان فقيها اديبا شاعرا ظريفا وكان يناظر ابا العباس بن شريج ولما توفى أبوه جلس ولده أبو بكر المذكور في حلقته وكان على مذهب والده فاستصغروه فدسوا إليه رجلا وقالوا له سله عن حد السكر فأتاه الرجل فسأله عن السكر ما هو ومتى يكون الإنسان سكران فقال إذا عزبت عنه الهموم وباح بسره المكتوم فاستحسن ذلك منه وعلم موضعه من العلم وصنف في عنفوان شبابه كتابه الذي سماه الزهرة وهو مجموع أدب أتى فيه بكل غريبة ونادرة وشعر رائق واجتمع يوما هو وأبو العباس بن سريج في مجلس الوزير ابن الجراح فتناظر في البلاء وكان عالما في الفقه وله تصانيف عديدة منها كتاب الوصول إلى معرفة الأصول وكتاب الانذار وكتاب الاعذار.
أبو بكر بن عبد الرحمن توفى سنة 194 و 95 هـ:
أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشى المخزومى المدنى التابعى احد فقهاء المدينه السبعة قيل اسمه محمد وكنيته أبو بكر وقيل اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن الصحابي وابا مسعود البدرى وابا هريرة وعائشة وغيرهم، روى عنه مجاهد وعكرمه بن خالد وغيرهم قال محمد بن سعد ولد أبو بكر هذا في خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه وكان يقال له راهب فريش لكثرة صلاته وكان مكفوفا واستصغر يوم الجمل هو وعروة بن الزبير فردا قال وكان ثقة فقيها عالما توفى أبو بكر بالمدينة قال يحيى بن بكير سنة أربع أو خمس وتسعين من الهجرة.
أبو بكر محمد بن الفضل:
أبو بكر محمد بن الحسن بن الفضل ثقة مشهور يروى عن أبي بكر بن زياد النيسابورى وطائفة وهو جد أبو الغنائم عبد الصمد.
أبو بكير توفى سنة 388 هـ:
أبو عبد الله، الحسين بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادى الصيرفى الحافظ، روى عن إسماعيل الصفار وطبقته. وكان عجبا في حفظ الحديث وسرده، روى عنه أبو حفص بن شاهين مع تقدمه وتوفى في ربيع الآخر، عن إحدى وستين سنه، وكان ثقة.
أبو بكر الرازي:
انظر الجصاص حـ 1 ص 252
أبو بكر:
انظر حـ 4 ص 361
البلقيني:
انظر حـ 2 ص 346.
بهرام:
انظر حـ 5 ص 365.
البويطى توفي سنة 231 هـ:
يوسف بن يحيى القرشى أبو يعقوب البويطى صاحب الامام الشافعي وواسطة قام مقامه في الدرس والإفتاء بعد وفاته وهو من أهل مصر نسبته إلى بويط "من اعمال الصعيد الادنى" ولما كانت المحنة في قضية خلق القرآن حمل إلى بغداد "في ايام الواثق" محمولا على بغل مقيدا واريد منه القول بأن القرآن مخلوق فامتنع فسجن ومات في سجنه ببغداد قال الشافعي وليس أحد من اصحابى أعلم منه له المختصر في الفقه اقتبسه من كلام الشافعي.
ابن البيطار:
انظر حـ 10 ص 397.
البيهقي:
انظر حـ 1 ص 251
التتائي توفى سنة 942 هـ:
محمد بن إبراهيم بن خليل التتائى فقيه من علماء المالكية نسبته إلى "تتا" من قرى المنوفيه بمصر فقيه القرى قاضى القضاة بالديار المصرية من كتبه "فتح الجليل" شرح به مختصر خليل في الفقه شرحا مطولا، و "جواهر الدرر" في شرحه أيضا "تنوير المقالة" في شرح رساله ابن أبي زيد القروانى وفقهه، وخطط السداد والرشد بشرح نظم مقدمة ابن رشد.
الشرندي: انظر حـ 1 ص 251.
تقي الدين: انظر ابن تيمية حـ 1 ص 251
التمرتاش: انظر حـ 3 ص 338
التونسي: انظر حـ 1 ص 251
ابن تيمية: انظر حـ 1 ص 251
حرف الثاء "ث
"
الثعالبى توفى سنة 875 هـ:
عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبى الجزائرى - أبو زيد - مفسر من كتبه الجواهر الحسان في تفسير القرآن، وجامع الأمهات في احكام العبادات وغيرها.
أبو ثعلبة توفي سنة 75 هـ:
أبو ثعلبة الخشنى مشهور بكنيته ولهذا اختلف في اسمه له ستة واربعين حديثا منها اربعة في الصحيحين.
أبو ثور:
إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبى البغدادى الفقيه صاحب الشافعي صنف الكتب وفرع على السنن مات ببغداد شيخا. ومن كتبه اختلاق مالك والشافعى.
الثوري:
سفيان بن سعيد بن مسروق الثورى من بن ثور من اعلام المحدثين نشأ في الكوفة وراوده المنصور على أن يلى الحكم فأبى وخرج من الكوفة هاربا ثم انتقل إلى البصرة ومات بها مستخفيا وله من الكتب "الجامع الكبير" و "الجامع الصغير" في الحديث وكتاب في الفرائض.
حرف الجيم (ج)
جابر بن عبد الله:
انظر حـ 1 ص 252.
جبير بن مطعم توفى سنة 59 هـ:
جبير بن مطعم بن عدى بن نوفل صحابى جليل كان من علماء قريش وسادتهم توفى بالمدينة وكان عليما بانساب قريش والعرب قاطبة وله في البخارى ومسلم ستون حديثا.
ابن جريج:
انظر حـ 1 ص 252
ابن جرير الطبرى توفى سنة 310 هـ:
محمد بن جرير بن يزيد الطبرى أبو جعفر الفقيه المفسر المؤرخ ولد في آمل طبرستان واستوطن بغداد وتوفى بها امتنع عن القضاء وولاية المظالم له جامع البيان في تفسير القرآن وله اختلاف الفقهاء واخبار الرسل والملوك ويعرف بتاريخ الطبري.
الجصاص توفى سنة 370 هـ:
أحمد بن على الرازى أبو بكر الجصاص سكن بغداد ومات منها انتهت إليه رئاسة الحنفية امتنع عن تولى القضاء ألف كتاب أحكام القرآن وكتابا في أصول الفقه.
أبو جعفر: انظر نسفى.
أبو جعفر الهندوانى: انظر حـ 1 ص 253
الجعفى: انظر حسين الجعفى حـ 1 ص 254.
ابن جلاب توفى سنة 378 هـ:
هو أبو القاسم عبد الله بن الحسن بن الجلاب الفقيه المالكى صاحب القاضي أبو بكر الابهرى الف كتاب التفريع وهو مشهور وكتاب مسائل الخلاف وفى اسمه اقوال في الشذرات "القاسم" بدون "أبو" وفى ترجمته في شجرة النور الذكية ص 92 أبو القاسم عبد الله بن الجلاب.
جلال الدين المحلى:
انظر حـ 1 ص 253.
ابن جنيد:
انظر حـ 1 ص 253.
ابن الجوزي توفى سنة 597 هـ:
عبد الرحمن بن على بن محمد الجوزى القرشى البغدادى أبو الفرج علامة عصره في التاريخ والحديث كثير التصانيف مولده ووفاته ببغداد ونسبته إلى (مشرعة الجوز) له نحو ثلثمائة مصنف منها شذور العقود في تاريخ العهود والمدهش في المواعظ وصوله العقل على الهوى والناسخ والمنسوخ.
حرف الحاء "ح
"
أم حبيبة:
انظر حـ 5 ص 366.
ابن الحاجب توفى سنة 646 هـ:
أبو عمر عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس فقيه مالكى من كبار العلماء بالعربية كردى الأصل ولد في اسنا من صعيد مصر ونشأ في القاهرة وسكن دمشق ومات بالاسكندرية وكان أبوه حاجبا فعرف به. من مؤلفاته "مختصر الفقه" استخرجه من ستين كتابا. (منتهى السول والأمل في علمى الأصول والجدل" وغيرها.
الحارثى توفى سنة 711 هـ:
مسعود بن أحمد بن زيد الحارثى سعد الدين، العراقى ثم المصرى، فقيه حنبلى ولد بمصر وسكن دمشق ثم عاد إلى مصر فدرس بجامع ابن طولون وولى القضاء قبل وفاته بعامين وظل إلى أن توفى من كتبه شرح المقنع لابن قدامة توفى بالقاهرة.
الحاكم الشهيد توفى سنة 334 هـ:
محمد بن محمد بن أحمد أبو الفضل المروزى الشهير بالحاكم وكان وزيرا عالما مروزى وإمام الحنفية في عصره ولى قضاء بخارى ثم وزارة خراسان قتل شهيدا في الرى من اشهر كتبه "الكافي المنقى" في فروع الحنفية.
ابن حبيب توفى سنة 238 هـ:
عبد الله بن حبيب بن سليمان بن هارون السلمى القرطبي أبو مروان عالم الاندلس وفقيهها في عصره. زار مصر ثم عاد إلى الاندلس فتوفى بقرطبة كان رأسا في فقه المالكية. له تصانيف كثيرة منها طبقات الفقهاء والتابعين وتفسير موطأ مالك وغيرهما.
حبيب بن أبي ثابت توفى سنة 119 هـ:
حبيب بن أبي ثابت الكاهلى مولاهم أبو يحيى الكوفى أخذ عن خلق من الصحابة والتابعين وأخذ عنه مسعر والثورى وشعبة وغيرهم له نحو مائتى حديث قيل مات سنة 119 وقيل سنة 122 هـ.
ابن حجر العسقلانى توفى سنة 852 هـ:
أحمد بن على بن محمد الكنانى العسقلاني بن أئمة العلم والتاريخ أصله من عسقلان بفلسطين مولده ووفاته بالقاهرة انكب على الحديث ورحل في طلبه وولى القضاء مرات وتصانيفه كثيرة
منها (الدرر الكامنة في أعيان المائه الثامنة) وأشهرها الفتح البارى في شرح صحيح البخارى.
ابن حجر الهيثمي:
انظر حـ 1 ص 254.
حذيفة بن اليمان:
انظر حـ 1 ص 254.
حرب:
انظر حـ 2 ص 248.
أبو الحر توفى سنة 120 هـ:
هو على بن الحصين بن مالك الخشخاش العنبرى التميمى أبو الحر من فقهاء الإباضية كانت له ثروة في البصرة وسكن قلة وجاهد فيها أيام مروان بن محمد بمناصرة "طالب الحق" وكان هذا قد خلع طاعة مروان وبويع له بالخلافة في اليمن فكتب مروان إلى حامله بمكة يأمر بالقبض على أبى الحر فاعتقل وأوثق بالحديد واشخص إلى المدينة وهو شيخ كبير وادركه في الطريق بعض انصار طالب الحق فانقذوه وعادوا به إلى مكة مستترين ولما دخلها أبو حمره المختار بن عوف كان "أبو الحر" من رجاله وقتل في فتنته بمكة.
ابن حزم:
انظر حـ 1 ص 254.
أبو الحسن:
انظر قدورى.
أبو الحسن:
انظر الكرخى.
الحسن البصري:
انظر حـ 1 ص 254
الحسن بن زياد توفى سنة 204 هـ:
الحسن بن زياد اللؤلؤى الكوفى أبو على واشتهر باللؤلؤى نسبة إلى بيع اللؤلؤ وكان أبوه من موالى الأنصار قاض فقيه من أصحاب أبى حنيفة ولى القضاء بالكوفة ومن كتبه "أدب القاضي" و "معاني الايمان" و "النفقات".
الحسن بن عيسى:
انظر حـ 16 ص 354.
حسين الجعفى:
انظر حـ 1 ص 254.
الحصكفى توفى سنة 1088 هـ:
محمد بن على بن محمد مفتى الحنفية في دمشق ولد وتوفى بها وكان عاكفا على التدريس من كتبه "الدر المختار في شرح تنوير الابصار والدر المنتقى شرح ملتقى الابحر.
الحصيري:
انظر حـ 1 ص 254.
الحطاب:
انظر حـ 1 ص 254.
الحاكم بن عمرو توفي سنة 50 هـ:
الحكم بن عمرو بن مجدع الغفارى صحابي له رواية وحديثة في البخارى وغيره صحب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مات وانتقل إلى البصرة في أيام معاوية فوجهه زياد إلى خراسان كان صالحا فاضلا مقداما فغزا وأقام بمرو ومات بها.
الحكم بن هشام توفى سنة 206 هـ:
الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل والأموى أبو العاص من أفحل ملوك بنى أمية بالاندلس يلقب بالربضى لايقاعه بأهل الربض ولد ونشأ بقرطبة توفى بقرطبة.
حكيم بن معاوية:
هو حكيم بن معاوية بن الحيرة القشيرى البصرى التابعى ثقة معروف روى عنه ابنه والحريرى.
الحلى المحقق:
انظر حـ 5 ص 255.
الحلواني "شمس الأئمة" توفى سنة 448 هـ:
عبد العزيز بن أحمد بن نصر بن صالح الحلوانى البخارى الملقب بشمس الأئمة فقيه الحنفية كان إمام الرأى في وقته ببخارى من كتبه المبسوط في الفقه والنوادر في الفروع والفتاوى وشرح أدب القاضي لأدب يوسف ودفن ببخارى.
حماد بن أبي سليمان توفى سنة 120 هـ:
حماد بن أبي سليمان رواية إبراهيم النخعى ويكنى بأبى إسماعيل مولى إبراهيم بن أبي موسى الأشعري كان استاذ لأبى حنيفة إذ درس عليه ثمانى عشر سنة.
حماد بن سلمة توفى سنة 167 هـ:
أبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار البصرى، الربعى بالولاء مفتى البصرة وأحد رجال الحديث وكان حافظا ثقة مأمونا.
حمزة بن حبيب توفى سنة 156 هـ:
حمزة بن حبيب بن عمارة كان مولى لآل عكرمة التميمى وكان يتجر بالزيت ومات بحلوان بالعراق في خلافة المنصور وهو احد القراء المشهورين.
الحموي:
انظر حـ 2 ص 250.
ابن حنبل:
انظر حـ 1 ص 255.
ابن الحنفية:
انظر محمد بن الحنفية حـ 4 ص 371.
أبو حنيفة توفى سنة 150 هـ:
النعمان بن ثابت التيمى بالولاء الكوفى الفقيه المجتهد أحد الأئمة الأربعة ونسب إليه المذهب الحنفى.
حرف الخاء "خ
"
خالد بن سعيد: انظر حـ 1 ص 255.
الخثعمية: انظر حـ 2 ص 255.
الخرشى: انظر حـ 2 ص 350.
الحزقى: انظر حـ 1 ص 256.
الخشنى: انظر إلى ثعلبة.
الخصاف: انظر حـ 1 ص 256.
الخضرى توفى سنة 380 هـ:
أبو عبد الله محمد بن أحمد الخضرى المروزى الفقيه الشافعي امام مرو ومقدم الفقهاء الشافعية صحب أبا بكر الفارسى وكان من أعيان تلامذة أبي بكر القفال الشاشى وأقام بمرو ناشرا فقه الشافعي وكان يضرب به المثل في قوة الحفظ وقلة النسيان وله في المواهب وجوه غريبة نقلها الخراسانيون عنه.
أبو الخطاب: انظر عمر.
أبو الخطاب: انظر حـ 1 ص 256.
الخطيب الحافظ توفى سنة 772 هـ:
الحافظ بن محمد بن عبد الرحيم بن عبد الوهاب بن على السلمى البعلبكى المعروف باسم تقى الدين أبو ذر بن الخطيب ولد في سنة 709 هـ وكان اماما متفننا وناب في الحكم ببلده وخطب بجامعها وسمع من المزى والذهبى وجمع من المحدثين ومات ببعلبك سنة 772 هـ.
الخطيب الشربيني:
انظر حـ 1 ص 256.
الخفاجي توفى سنة 1069 هـ:
الشهاب أحمد بن محمد بن عمر شهاب الدين الخفاجى المصرى قاضى القضاه وصاحب التصانيف في اللغة والأدب وله حاشية على البيضاوى ولد سنة 177 هـ وتوفى بمصر سنة 1069 هـ تولى القضاء في مصر وغيرها.
الخفاجي توفى سنة 1330 هـ:
نافع بن الجوهرى بن سليمان بن حسن الخفاجى من أهل تلبانة من قرى المنصورة بمصر ولد سنة 1250 هـ، تعلم بالأزهر وله كتب ورسائل ما زالت مخطوطة منها تنوير الاذهان في علم البيان ومطالع الافكار في المنطق والسر المكتوم ومروج. الذهب وغير ذلك مات ببلده سنة 1330 هـ.
الخلال:
انظر غلام خلال حـ 1 ص 270.
الخلال: أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون
توفى سنة 211 هـ مفسر عالم بالحديث واللغة من كبار الحنابلة، من أهل بغداد قال الذهبى عنه: أنه جامع علم أحمد ومرتبه له تفسير الغريب "وطبقات اصحاب ابن حنبل" وغيره.
خليل:
انظر خليل بن إسحاق حـ 1 ص 256.
الخنساء بنت حزام الانصاري:
انظر حـ 1 ص 256.
خواهر زاده توفى سنة 483 هـ: محمد بن الحسين بن محمد أبو بكر البخارى المعروف ببكر خواهر زادة فقيه كان شيخ الأحناف فيما وراء النهر مولده ووفاته في بخارى له المبسوط والمختصر والتجنيس في الفقه.
حرف الدال "د
"
الدارقطني توفى سنة 385 هـ:
على بن عمر بن أحمد بن مهدى أبو الحسن الدارقطنى الشافعي أول من صنف القراءات ولد بدار القطن من احياء بغداد ورحل إلى مصر وعاد إلى بغداد فتوفى بها من تصانيفه كتاب السنن.
الداروردي توفى سنة 186 هـ:
أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن عبيد الداروردى الجهنى بالولاء المدنى محدث روى عنه خلق كثير منهم سفيان وشعبه نسبته إلى داورد من قرى خرسان أصله منها ومولده ووفاته بالمدينة.
أبو الدرداء: انظر حـ 1 ص 257.
أبو داود: انظر حـ 2 ص 257.
الدردير: انظر حـ 1 ص 207.
الدسوقى: انظر حـ 1 ص 257.
ابن دقيق العيد توفي سنة 702 هـ:
محمد بن على بن وهب بن مطيع أبو الفتح تقى الدين القشيرى المعروف كأبيه وجده بابن دقيق العيد قاضى من أكابر العلماء بالاصول مجتهد اصل ابيه منفلوط بمصر وانتقل إلى قوص وتعلم بدمشق والاسكندرية ثم القاهرة ولى قضاء الديار المصرية سنة 695 هـ توفى بالقاهرة له تصانيف منها احكام الاحكام في الحديث.
ابن أبي الدم توفى سنة 642 هـ:
إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم الحموى شهاب الدين أبو إسحاق المعروف بابن أبي الدم، مؤرخ بحاث من علماء الشافعية، مولده ووفاته بحماة في سورية تفقه ببغداد وسمح بالقاهرة وحدث بها وبكثير من بلاد الشام وتولى قضاء حماة، ومن تصانيفه: التاريخ المظفرى، أدب القاضي وغير ذلك.
الدماميني توفي سنة 827 هـ:
محمد بن أبي بكر بن عمر بن أبي بكر بن محمد المخزومى القرشى بدر الدين المعروف بابن الدمامينى عالم بالشريعة وفنون الأدب ولد في الاسكندرية واستوطن القاهرة ولازم ابن خلدون وتصدر لقراء العربية بالازهر ثم تحول إلى دمشق ومنها حج وعاد إلى مصر تولى فيها قضاء المالكية ومن كتبه تحفة الغريب وشرح البخارى والفتح الرباتى.
ديلم:
الحميرى وهو ديلم بن أبي ديلم ويقال ديلم بن فيروز ويقال ديلم بن هوشع صحابى مشهور سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاشربة وغير ذلك ونزل مصر فروى عنه اهلها ونسبه ابن يونس فقال ديلم بن هوشع بن سعد بن أبي حباب بن مسعود وساق نسبه إلى جيشان
قال وكان أول وافد على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن من عند معاذ بن جبل وشهد فتح مصر وروى عنه أبو الخير بن مرتد ثم قال ديلم بن هوشع الاصفر الجيشانى يكنى أبا دهب كذا بقوله أهل العلم بالحديث من العراق وهو عندى خطأ وإنما اسم أبي دهب الجيشانى عبيد بن شرحبيل كذا سماه أهل العلم ببلدنا وحديث ديلم أخرجه أبو داود من طريق أبي الخير مرتد عن ديلم الحميدى قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا واما نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على عملنا وعلى برد بلادنا فقال هل يسكر قلنا نعم قال فاجتنبوه. الحديث.
حرف الذال "ذ
"
الذهبى: انظر جـ 3 ص 344
.
حرف الراء "ر
"
الرازى: انظر حـ 1 ص 258.
الراغب: انظر حـ 1 ص 258.
الرافعى توفى سنة 623 هـ:
أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعى القزوينى فقيه من كبار الشافعية كان له مجلس بقزوين للتفسير والحديث وتوفى بها وله كتاب "المحرر" في الفقه و "فتح العزيز في شرح الوجيز" و "شرح مسند الشافعي".
الرافعى: انظر حـ 1 ص 258.
ربيعة الرأى توفى سنة 136 هـ:
ربيعة بن فروخ التميمى بالولاء المدنى أبو عثمان امام حافظ فقيه مجتهد لقبه بربيعة الرأى لانه كان بعيدا بالرأى والقياس كان صاحب الفتوى بالمدينة وتفقه عليه مالك توفى بالهاشمية.
الرحمتى: انظر حـ 2 ص 352.
ابن رشد: انظر حـ 1 ص 258.
ابن رشد الحفيد توفى سنة 595 هـ:
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الاندلسى أبو الوليد الفليسوف ويلقب بالحفيد تمييزا له عن جده المتوفى سنة 520 هـ توفى بمراكش ودفن في قرطبة وله كتب كثيره منها "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" في الفقه قال ابن الابار كان يفزع إلى فتواه في الخطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه.
الرملى: انظر حـ 1 ص 259.
ريحانة:
بنت شمعون بن زيد وقيل زيد بن عمرو بن قناقه أو خناقة من بنى النضير وقال ابن إسحاق من بنى عمر بن قريظة وقال ابن سعد ريحانه بين زيد ابن عمر بن خناقة بن شمعون بن زيد من بنى النضير وكانت متزوجة رجلا من بنى قريظة يقال له الحكم ثم روى ذلك عن الواقدى قال ابن إسحاق في الكبرى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سباها فأبت إلا اليهودية فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه فبينما هو مع اصحابه أو سمع وقع نعلين خلفه فقال: هذا ثعلبة بن شعبة يبشرنى باسلام ريحانه" فبشره وعرض عليها أن يعتقها ويتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت يا رسول الله بل تتركنى في ملكك فهو اخف على وعليك فتركها وماتت قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة عشر.
حرف الزاى "ز
"
الزاهد: انظر حـ 1 ص 259.
زبان بن العلاء: انظر "أبو عمرو".
الزبير بن العوام توفى سنة 39 هـ:
هو الزبير بن العوام بن خويلد بن اسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وأمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكنى أبا عبيد الله وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة واحد أصحاب الشورى.
الزجاج: انظر حـ 4 ص 363.
الزركشي:
محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشى، أبو عبد الله عالم بفقه الشافعية والأصول تركى الأصل مصرى المولد والوفاة. له تصانيف كثيرة منها "لفظه العجلان" والبحر المحيطـ، والمنثور "ويعرف بقواعد الزركشى".
زروق: انظر حـ 3 ص 344.
زفر توفى سنة 158 هـ:
زفر بن الهذيل بن قيس العنبرى فقيه كبير من أصحاب ابى حنيفه أصله من اصبهان اقام بالبصرة وولى قضاءها وتوفى بها، كان من أصحاب الحديث فغلب عليه الرأى.
زكريا الانصارى: انظر حـ 1 ص 259.
الزهرى توفى سنة 124 هـ:
أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهرى من بنى زهرة بن كلاب من قريش "أول من دوله الحديث واحد كبار الحفاظ الفقهاء تابعى من أهل المدينة كان يحفظ كثيرا جدا بالنسبة لعصره من الأحاديث فإن بشعب آخر حد الحجاز".
ابن أبي زيد: انظر القيروانى.
أبو زيد: انظر دبوسى.
القاضي زيد:
زيد بن محمد الكلاوى الجبلى علامة الزيدية وحافظ أقوالهم وفقيههم قال في الانتصار كان من اتباع المؤيد بالله ولم يعاصره وكان من حفاظ ألفاظ العزة وله العناية العظمى في خدمة المذهب الزيدي.
زيد بن جبير:
زيد بن جبير الجهنى، من الصحابة حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اخرج الاسماعيلى في سند يحيى بن سعيد الانصارى من تأليفه الحديث المروى عن زيد بن جبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت".
زيد بن على توفى سنة 132 هـ:
زيد بن على بن الحسين بن على بن أبي طالب ويقال له زيد الشهيد كانت اقامته بالكوفة وقرأ على واصل بن عطاء رأس المعتزلة وانتقل إلى الشام فضيق عليه هشام بن عبد الله وحبسه خمسة أشهر وعاد إلى العراق ثم إلى المدينة ثم رجع إلى الكوفة سنة 120 هـ فبايعه كثير من اهلها على الدعوة إلى الكتاب والسنة وجهاد الظالمين قتل بالكوفة وحمل رأسه إلى الشام ثم إلى المدينة ثم إلى مصر.
الزيلعى: انظر حـ 1 ص 260.
زينب توفيت سنة 20 هـ:
بنت جحش الاسدية أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبها في ترجمة اخيها عبد الله وأمها أمية عمة النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم سنة ثلاث وقيل سنة خمس ونزلت بسببها آية الحجاب وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة وفيها نزلت "فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها" وكان زيد يدعى ابن محمد فلما نزلت
"ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله" وتزوج النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم امرأته بعده انتفى ما كان أهل الجاهلية بعتقدونه من أن الذي يتبنى غيره يصير ابنه بحيث يتوارثان إلى غير ذلك وقد وصفت عائشة زينب بالوصف الجميل في قصة الافك وإن الله عصمها بالورع قالت وهى التي كانت من ازواج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنها بنت عمته وبأن الله زوجها له وهن زوجهن أولياؤهن وقال الواقدى ماتت سنة عشرين وكانت أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم ماتت بعده قال الواقدي قد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهى بنت خمس وثلاثين سنة وماتت سنة عشرين وهى بنت خمسين ونقل عن عمر بن عثمان الحجبى أنها عاشت ثلاثا وخمسين.
حرف السين "س
"
سالم: انظر حـ 2 ص 352.
الشيخ سالم توفي سنة 1015 هـ:
هو سالم بن محمد عز الدين بن محمد ناصر الدين السنهورى المصرى. فقيه كان مفتى المالكية ولد بسنهور وتعلم في القاهرة وتوفى بها له حاشية على مختصر الشيخ خليل في الفقه ورسالة في ليلة نصف شعبان.
السبكي: انظر حـ 1 ص 260.
ابن السبكى: انظر حـ 1 ص 261.
سحنون توفى سنة 240 هـ:
عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخى - قاضى - فقيه - انتهت إليه رياسة العلم في المغرب حمصى الأصل ومولده في القيروان وولى القضاء بها واستمر إلى أن مات.
سراقة بن مالك توفى سنة 24 هـ:
سراقة بن مالك بن جشعم بن مالك بن عمرو بن تيم بن مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة الكنانى المدلجى. وقد ينسب إلى جده يكنى أبا سفيان كان ينزل قديدا روى البخارى قصته في ادراكه النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وعاد النبي صلى الله عليه وسلم حتى ساخت رجلا فرسه، ثم انه طلب منه الخلاص وإن لا يدل عليه ففعل وكتب له أمانا واسلم يوم الفتح، ورواها أيضا عن طريق البراء بن عازب عن ابى بكر الصديق رضى الله عنه، وفى قصة سراقة مع النبي صلى الله عليه وسلم يقول سراقة مخاطبا لأبى جهل.
ابا حكم والله لو كنت شاهدا
…
لأمر جوادى إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدًا
…
رسول برهان فمن ذا يقاومه
وقال ابن عيينة عن إسرائيل ابى موسى عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك "كيف بك إذا لبست سوارى كسرى قال فلما أتى عمر بسوارى كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة فالبسه وكان رجلا أزب كثير شعر الساعدين فقال له أرفع يديك وقل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز والبسهما سراقة الاعرابى وروى عنه ابن اخيه عبد الرحمن بن مالك بن جشعن، وروى عنه ابن عباس وجابر وسعيد بن المسيب وطاووس قال أبو عمر مات في خلافة عثمان سنه أربع وعشرين وقيل بعد عثمان.
سراقة بن مالك:
سراقة بن مالك الانصارى اخو كعب بن مالك ذكره الحاكم وروى من طريق ابن إسحاق عن الزهرى عن عبد الله بن كعب بن مالك عن ابيه عن أخيه سراقه بن مالك انه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم عن الضالة ترد حوضه فهل له أجر الحديث وفى إسناده ضعف فإن فيه ابن لهيعة قال صاحب الإصابة ولم أر من ذكر سراقة هذا في الصحابة إلا أنه سيأتي في ترجمة سهل بن مالك ذكر شئ رواه الطحاوى من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن عمه ولم يسمه فيحتمل ان يكون هو.
سعد: انظر حـ 3 ص 345.
سعد بن أبي وقاص: انظر حـ 2 ص 353.
سعيد بن جبير توفى سنة 95 هـ:
سعيد بن جبير الإسلامي بالولاء تابعى كان أعلمهم على الاطلاق حبش الأصل من موالى بنى والبه أخذ عن ابن عباس وابن عمر قتله الحجاج بواسط.
أبو سعيد الخدرى: انظر حـ 1 ص 261.
سعيد بن زيد: انظر حـ 1 ص 261.
سعيد بن العاص توفى سنة 59 هـ:
الصحابي رضى الله عنه مذكور في المهذب في الصلاة عن الجنازه وموقف الامام منها هو أبو عثمان وقيل أبو عبد الرحمن سعيد بن العاص بن امية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشى الأموى الحجازى قال محمد بن سعد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسعيد تسع سنن وكان من اشراف قريش وهو احد الذين كتبوا المصحف لعثمان واستعمله عثمان على الكوفة وسكن دمشق ثم تحول إلى المدينة ولما قتل عثمان رضى الله عنه اعتزل الفتن فلم يشهد الجمل ولا صفين وروى سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر وعثمان وعائشة رضى الله عنهم، توفى سنة تسع وخمسين وقيل سنة سبع أو ثمان وخمسين رضى الله عنه.
سعيد بن المسيب: انظر حـ 1 ص 261.
أبو سفيان توفى سنة 31 هـ:
هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس صحابى بن سادات قريش في الجاهلية وهو والد معاوية راس الدولة الاموية اسلم يوم الفتح وابلى بعد إسلامه وشهد حنينا والطائف واليرموك وغيرها وتوفى بالمدينة.
سفيان الثورى: انظر حـ 1 ص 261.
سفينة:
مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكور في المهذب في باب الاطعمة هو لقب له واسمه مهران هذا قول الاكثرين وقيل احمر قاله أبو الفضل وغيره وقيل رومان وقيل بحران وقيل عيسى وقيل قيس وقيل شنبه بعد الشين نون ساكنة ثم باء موحدة وقيل عمير حكاه الحاكم أبو أحمد وكنيته أبو عبد الرحمن هذا قول الاكثرين وقيل أبو البخترى ولقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة روينا عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشى فمررنا بواد أو نهر وكنت اعبر الناس فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنت منذ اليوم إلا سفينة قال ابن حاتم سمعت أبي يقول اشتراه رسول الله فأعتقه وقال آخرون اعتقته أم سلمة فيقال له مولى النبي صلى الله عليه وسلم ويقال مولى أم سلمة روى البخارى في تاريخة أنه بقى إلى زمن الحجاج وفى إسناد هذا نظر ذكره البخارى وابن أبي حاتم في الأسماء المفردة.
ابن الساكت: انظر حـ 4 ص 365.
أم سلمة توفيت سنة 60 هـ:
هند بنت سهيلى بن مغيرة القرشية من زوجات النبي تزوجها في السنة الرابعة وكانت زوجة من قبل لأبي سلمة بن عبد الأسد بن المغيرة وهاجرت معه إلى الحبشة ثم إلى المدينة ولما مات بالمدينة من أثر جرح تزوجها الرسول.
سلمان الفارسي: انظر حـ 3 ص 346.
سليمان بن يسار: انظر حـ 2 ص 366.
ابن سماعة: انظر حـ 4 ص 365.
سند: انظر حـ 3 ص 365.
سودة بنت زمعة: انظر حـ 2 ص 254.
السيد المرتضى: انظر حـ 1 ص 275.
السيوطي: انظر حـ 1 ص 262.
حرف الشين "ش
"
ابن الشاط توفى سنة 723 هـ:
عمدة المحققين سراج الدين أبو القاسم بن عبد الله الانصارى ولد سنة 643 هـ وهو فقيه اصولى.
الشافعي: انظر حـ 1 ص 262
الشبراملسى: انظر حـ 1 ص 262.
ابن شبرمة توفى سنة 144 هـ: عبد الله بن شبرمة البجلى العنبى الكوفى كان قاضيا لأبى جعفر المنصور على سواد الكوفة وكان شاعرا توفى سنة 144 هـ ويظهر من الرديات ذمه وأنه كان يعمل بالرأى والقياس وقال في العبر وفى السنة المذكورة توفى فقيه الكوفة عبد الله بن شبرمة العنبى القاضي، روى عن أنس والتابعين قال أحمد العجلى كان عفيفا صارما عاقلا يشبه النساك شاعرا جوادا.
الشبيبى توفى سنة 695 هـ:
هو أحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان النميرى الحرانى أبو عبد الله فقيه حنبلى أديب ولد ونشأ بحران ورحل إلى حلب ودمشق وولى نيابة القضاء في القاهرة مسكنها وأسن وكف بصره وتوفى بها، من كتبه الرعاية الكبرى والرعاية الصغرى كلاهما في الفقه وصفة المفتى والمستفتى ومقدمة أصول الدين وجامع الفنون وسلوة المحزون.
شرحبيل بن حفة: انظر حـ 7 ص 293.
الشرنبلالى: انظر حـ 1 ص 262
شريح توفى سنة 78 هـ:
شريح بن الحارث بن قيس الكندى من اشهر القضاه الفقهاء اصلا من اليمن ولى قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلى ومعاوية، استعفى زمن الحجاج توفى بالكوفة.
أم شريك:
الأنصارية قيل هي بنت أنس وقيل هي بنت خالد وقيل هي غيرهما وقيل هي أم شريك بنت أبي العكر ابن سمى وذكرها ابن أبي خيثمه من طريق قتادة قال وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم شريك الأنصارية التجارية وقال أني أحب أن اتزوج في الأنصار ثم قال انى اكره غيرة الأنصار فلم يدخل بها "قلت" ولها ذكر حديث صحيح عند مسلم من رواية فاطمة بنت قيس في قضية الجساسة في حديث تميم الدارى قال فيه وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظمة النفقة في سبيل الله عز وجل ينزل عليها العفيفان ولها حديث آخر أخرجه ابن ماجه من طريق شهر بن
حوشب حدثتنى أم شريك الأنصارية قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب ويقال أنها التي أمرت فاطمة بنت قيس أن تعتد عندها ثم قيل لها اعتدى عند ابن أم مكتوم.
الشعبي توفى سنة 105 هـ:
عامر بن شرحبيل ولد بالكوفة وكان يكره الرأى سمع عليه أبو حنيفة الحديث ولى قضاء الكوفة.
الشعبى: انظر حـ 1 ص 263.
الشيخ: انظر الطوسى.
الشيرزاى توفى سنة 476 هـ:
أبو إسحاق إبراهيم بن على بن يوسف ولد في فيروز اباد بفارس وانتقل إلى شيراز فقرأ على علمائها وانصرف إلى البصرة ثم إلى بغداد ونبغ في علوم الشريعة وكان مفتى الأمة في عصره له مؤلفات كثيرة.
حرف الصاد "ص
"
الصادق توفى سنة 148 هـ:
أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر الهاشمى العلوى احد أئمة الزيديه روى عنه مالك والثورى وابن عيينة وقال أبو حنيفة عنه ما رأيت أفقه منه.
الصدوق: انظر حـ 2 ص 355.
صالح بن أحمد توفى سنة 265 هـ:
هو صالح بن الإمام أحمد بن حنبل وكنيته أبو الفضل ولد ببغداد ونشأ بين يدى أبيه الإمام أحمد وأخذ عنه ثم ولى القضاء بأصبهان وتوفى فيها.
صدر الشريعة توفى سنة 747 هـ:
عبد الله بن مسعود بن محمود البخارى الحنفى صدر الشريعة الأصغر من صدر الشريعة الأكبر من علماء أصول الفقه والدين له كتاب التفتيح في أصول الفقه وشرح التوضيح وكتاب شرح الوقاية في فقه الأحناف توفى في بخارى.
الصدر الشهيد: انظر حـ 1 ص 264
الصفدي توفى سنة 764 هـ:
صلاح الدين الصفدى خليل بن ابيك بن عبد الله الصفدى ولد في صفد بفلسطين وتعلم في دمشق وتوفى بها وله تصانيفا كثيرة.
ابن صلاح: انظر حـ 1 ص 264
الصنعانى توفى سنة 1182 هـ:
محمد بن إسماعيل الامير اليمنى الصنعانى صاحب كتاب "سبل السلام" شرح بلوغ المرام لابن حجر الهيثمى وهو من فقهاء الزيدية.
ابن صفوان توفى سنة 73 هـ:
عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحى رئيس مكة وابن رئيسها شجاع من أصحاب عبد الله بن الزبير حارب معه الحجاج بن يوسف ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقتل بمكة يوم مقتل ابن الزبير فبعث الحجاج برأسه إلى عبد الملك بن مروان وعرفه ابن حزم بعبد الله الأكبر عن بن صفوان الأصغر.
ابن صفوان الأصغر توفى سنة 160 هـ:
عبد الله بن صفوان الجمحى وال من الاعيان القادة ولى امرة المدينة في أيام المنصور العباس عرفه ابن حزم بعبد الله الأصفر للتفريق بينه وبين ابن صفوان الأكبر.
الصيرفى توفى سنة 330 هـ:
أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بالصيرفى الفقيه الشافعي البغدادى كان عالما في أصول الفقه حتى قال عنه القفال انه كان اعلم الناس بأصول الفقه بعد الشافعي ومن كتبه "البيان في دلائل الاعلام على أصول الاحكام" كتاب الفرائض والصيرفى نسبة مشهورة لمن يصرف الدراهم والدنانير.
حرف الضاد "ض
"
الضحاك: ابن قيس الفهرى القرشى من صغر الصحابة كان مع معاوية فولاه الكوفة وهو الذي صلى على معاوية وقام بخلافته حتى قدم يزيد واظهر الضحاك بيعة ابن الزبير وهو بدمشق فشد على مروان فانهزم الضحاك ومن معه، وقتل الضحاك.
الضحاك توفى سنة 106 هـ:
ابن مزاحم الهلالى - روى عن ابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد وأنس وغيرهم وقيل لم يثبت سماعه لأحد من الصحابة ثقة مأمون لقى سعيد بن جبير فأخذ عنه التفسير.
حرف الطاء "ط
"
طارق بن سويد:
طارق بن سويد الحضرمى أو الجعفى ويقال سويد بن طارق قال ابن منده وهو وهم وقال ابن السكن والبغوى له صحبة وروى البخارى في تاريخة واحمد وابن شاهين من طريق حماد بن سلمة عن سماك عن علقمة بن وائل عن طارق بن سويد قال قلت يا رسول الله أن بأرضنا أعنابا نعتصرها فنشرب منها قال لا وأخرجه أبو داود من طريق شعبة عن سماك فقال سأل سويد بن طارق أو طارق بن سويد وقال البغوي: رواه غيرهما قال سويد بن طارق والصحيح عندى طارق بن سويد وقد أخرجه ابن شاهين من طريق إبراهيم بن طهمان عن سماك كما قال حماد بن سلمة سواء ونسبة جعفيا وقال أبو زرعة طارق بن سويد أصح وقال ابن منده سويد بن طارق وهم وجزم أبو زرعة والترمذى أيضًا وابن حبان بأنه طارق بن سويد.
طارق بن عبد الله المحاربى:
انظر حـ 9 ص 377.
طاووس: انظر حـ 2 ص 356.
الطبا طبائى:
السيد محسن الطباطبائى الحكيم أية الله العظمى من كبار فقهاء الامامية المعاصرين بالنجف الاشرف له مستمسك العروة الوثقى وغيره.
الطبوسي توفى سنة 548 هـ:
أمين الدين أبو علي الفضل بن
الحسن بن الفضل مفسر محقق لغوى من أجلاء الإمامية منسوب إلى طبرستان له مجمع البيان في تفسير القرآن توفى في "سيزوار" ونقل إلى مشهد الروضة.
الطحاوى: انظر حـ 1 ص 265.
الطحطاوى:
أحمد بن محمد بن إسماعيل فقيه حنفى أشتهر بكتابة حاشية الدر المختار ولد بطهطا بالقرب من أسيوط وتعين بالأزهر ثم تقلد مشيخة الحنفية بمصر وتوفى بالقاهرة.
أبو طلحة: انظر حـ 3 ص 349.
الطوسي توفى سنة 460 هـ:
أبو جعفر محمد بن الحسن بن على الطوسى "مفسر" لفقه السبكى بفقيه الشيعة ومصنفهم انتقل من خراسان إلى بغداد وأقام أربعين سنة ورحل الغرى "بالنجف" فاستقر إلى أن توفى له تصانيف كثيرة منها "تهذيب الأحكام" و "التبيان الجامع لعلوم القرآن" ويطلق عليه في كتب الامامية لقب "الشيخ".
حرف الظاء "ظ
"
ظهير الدين توفى سنة 69 هـ:
محمد بن أحمد بن عمر البخارى، أبو بكر ظهير الدين، فقية حنفى، كان المحتسب في بخارى، من كتبه:"الفتاوى الظهيرية".
حرف العين "ع
"
عائشة: انظر حـ 1 ص 265.
ابن عابدين: انظر حـ 1 ص 265.
عاصم بن أبي النجود توفى سنة 127 هـ:
هو عاصم بن بهدلة المكنى بأبي النجود كوفى السدى بالولاء وهو أحد القراء السبعة تابعى مولده ووفاته بالكوفة.
أبو العالية توفى سنة 93 هـ:
السياحى مات سنة 93 هـ تابعى رفيع بن مهران البصرى الفقيه المقرى مولى رأى أبا بكر وقرأ القرآن على أبي بن كعب وسمع عليا وعائشة وعنه كثيرون.
العاملى: انظر حـ 1 ص 265.
ابن عباد توفى سنة 181 هـ:
عباد بن عابدين حبيب بن المهلب بن أبي صفرة من الأزد ويكنى أبا معاوية وكان معروفا بالطب حسن الهيئة ولم يكن بالقوى في الحديث.
أبو العباس بن عبد المطلب توفى سنة 32 هـ:
جده هاشم بن عبد مناف وكنيته أبو الفضل كان من أكابر قريش في الجاهلية والإسلام وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم وجد الخلفاء العباسيين وأبو صبر الأمة عبد الله بن عباس. أسلم قبل الهجرة وكتم إسلامه وأقام بمكة يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخبار المشركين وله في الصحيحين 35 حديثا توفى بالمدينة.
ابن عباس: انظر عبد الله.
أبو العباس: انظر حـ 1 ص 266.
أبو العباس الشاعر: انظر حـ 1 ص 266.
ابن عبد البر: انظر حـ 1 ص 266.
ابن عبد الحكم: انظر حـ 4 ص 367.
عبد الرحمن بن عوف توفى سنة 32 هـ:
أبو محمد عبد الرحمن بن عوف بن عوف بن عبد الحارث الزهرى القرشى صحابي من أكابرهم وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر الخلافة فيهم شهد المشاهد كلها توفى بالمدينة.
عبد الرحمن المهدي توفى سنة 198 هـ:
هو عبد الرحمن بن مهدى أبو سعيد البصرى. مولى أزد ولد سنة 135 هـ وسمع هشام الدستوائى وشعبة وغيرهما وعنه أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهما وكان من العباد وكان ورده كل ليله نصف القرآن مات في جمادى الآخرة.
ابن عبد السلام: انظر "عز الدين بن عبد السلام" حـ 1 ص 268.
ابن عبد السلام: انظر "محمد بن عبد السلام بن يوسف المالكى" حـ 1 ص 266.
أبو عبد الله: انظر أحمد بن حنبل.
أبو عبد الله: انظر الصادق.
أبو عبد الله الزبيري: انظر حـ 3 ص 350.
عبد الله بن عمر بن الخطاب توفى سنة 73 هـ:
عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوى أبو عبد الرحمن صحابى نشأ في الإسلام وهاجر إلى المدينة مع أبيه وشهد فتح مكة أفتى الناس في الإسلام ستين سنة وغزا أفريقية مرتين وهو آخر من توفى بمكة من الصحابة مولده ووفاته بها.
عبد الله بن مسعود: انظر حـ 1 ص 267.
عبد الله بن أم مكتوم: انظر حـ 3 ص 357.
عبد الملك: انظر بن حبيب.
عبد الوهاب القاضي: انظر القاضي عبد الوهاب.
أبو عبيد توفى سنة 224 هـ:
أبو عبيد بن سلام هو أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادى ولد بهراة وكان أبوه عبدا لبعض أهل هراة وهو ثقة مأمون ومن أعلم أهل زمانه له أكثر من عشرين مصنفا أهمها وأشهرها كتاب الأموال وكتاب غريب الحديث وقد مكث في تصنيفه أربعين سنة.
أبو عبيد توفى سنة 209 هـ: معمر بن المثنى التيمى بالولاء البصرى أبو عبيدة النحوى من أئمة العلم بالأدب واللغه مولده ووفاته بالبصرة استقدمه هارون الرشيد إلى بغداد سنة 188 هـ وقرأ عليه أشياء من كتبه. وكان من حفاظ الحديث.
أبو عثمان سعيد بن مزاحم:
يوجد من اسمه أبو عثمان ولم يعلم لقبه ولا اسمه من كبار الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وكان في زمن أبي يوسف ومحمد.
عثمان بن مظعون توفى سنة 2 هـ:
صحابى جليل من الرهط الذين ذهبوا يسألون عبد عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالوها فنهاهم الرسول عليه الصلاة والسلام عن التبتل، استشهد في غزوة بدر.
العدوى:
أبو البركات أحمد بن محمد بن أحمد العدوى "الدردير" انظر الدردير حـ 1 ص 257.
عدى بن ثابت توفى سنة 116 هـ:
الانصارى الكومى تابعى كوفى روى عن البراء بن عازب وعنه أبو إسحاق السبيعى والاعمشى وشعبة وغيرهم كان من الثقاة مات في ولاية خالد على العراق سنة 116 هـ.
عدى بن حاتم الطائى: انظر حـ 1 ص 268.
ابن عرفة توفى سنة 803 هـ:
محمد بن محمد بن عرفه الورغنى أبو عبد الله إمام تونس ولد وتوفى بها ومن كتبه المختصر الكبير في كتب المالكية ومختصر الفرائض والحدود في التعاريف الفقهية وهو منسوب إلى "ورغمة" قرية بافريقية.
عروة بن الزبير توفى سنة 94 هـ:
عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أزد بن عبد العزى القرشى تابعى وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق روى عن عائشة وأمه وغيرهما وعنه الزهرى وصالح بن كيسان وأبي الزناد وغيرهم من فقهاء المدينة السبعة وقعت في رجله الأكلة فنشرت وكان يقرأ ربع القرآن نظرا في الصمت ما تركه إلا ليلة قطعت رجله. ولد لست خلون من خلافة عثمان وكان بينه وبين اخيه عبد الله عشرون سنة "يعنى عبد الله أكبر": ومات في سنة الفقهاء سنه 94 هـ.
عزمى زادة: انظر حـ 2 ص 357.
عطاء: انظر حـ 2 ص 357.
عطاء بن أبي رباح: انظر حـ 2 ص 358.
عكرمة توفى سنة 107 هـ:
أبو عبد الله عكرمة البربرى مولى بن عباس كان فقيها عالما بالتفسير والسنة إلا أنه يرى رأى الخوارج، ولهذا تجنبه الإمام مالك والإمام مسلم فلم يرويا له، ويقال هو الذي ادخل مذهب الإباضية إلى المعرب توفى بالمدينة.
أبو على: انظر حـ 1 ص 269.
أبو على الدقاق: انظر الدقاق.
أبو علي السرودن ابادي:
أحمد بن محمد البغدادى تلميذ جنيد كان من كبار مشايخ الصوفية وصاحب الكلمات الشطحية أقام بمصر ومات بها سنة 322 هـ. حتى أنه سأل كمن يسمع الملاهى ويقول هي حلال، حلال لأنى قد وصلت إلى درجة لا تؤثر في اختلاق الأحوال فقال نعم قد وصل ولكن إلى شعر.
عمار بن موسى الساباطى:
عمار بن موسى الساباطى كان فطحيا له كتاب كبير جيد معتمد رويناه بالإسناد الأول عن سعد وقد عده الشيخ المفيد رحمه الله في رسالته في الرد على أصحاب العدد من الفقهاء أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله والاعلام الرؤساء والمأخوذ منهم الحلال والحرام والفتيا والاحكام الذين لا يطعن عليهم ولا طريق إلى ذم واحد منهم وهم أصحاب الأصول المدونة والمصنفات المشهورة.
أبو عمر: انظر ابن الحاجب حـ 1 ص 253.
عمر بن الخطاب: انظر حـ 1 ص 269.
أبو عمر المعروف بابن الصلاح:
الحافظ الامام تقى الدين أبو عمر وعثمان بن الصلاح الشهزورى.
ابن الصلاح "ابن عمرو" توفى سنة 643 هـ:
الكردى نزيل دمشق صاحب الكتاب الشهير بمقدمة ابن الصلاح في مصطلح الحديث ولد في شرخان قرب شهر زور في سنة 577 هـ وانتقل إلى الموصل ثم خراسان وقد ولى تدريس الحديث في المدرسة الأشرفية المعروفة بدار الحديث ومن مصنفاته: معزمة أنواع علم الحديث "وهو المقدمة المشهورة، والأمالى والفتاوى وشرح الوسيط في فقه الشافعي. وصك الناسك في صفة المناسك وفؤاد الرحلة وأدب المفتى والمستفتى وطبقات فقهاء الشافعية.
عيسى بن أبان: انظر حـ 4 ص 369.
عيسى: انظر حـ 2 ص 359.
حرف الغين "غ
"
ابن غازى توفى سنة 919 هـ:
محمد بن أحمد بن محمد بن على بن غازى العثمانى المكناس، أبو عبد الله مؤرخ، حاسب، فقيه من فقهاء المالكية من بنى عثمان ولد في مكناس بالمغرب الاقصى وأقام زمنا في كتامة ومات بفارس له: الروض الهتون في اخبار مكانس، الفهرسة المباركة في أسماء محدثى فاس وكتابها، وكليات فقهية على مذهب المالكية، ونظم نظائر رسالة القيروانى.
ابن الغرس: انظر حـ 2 ص 360.
الغزالى توفى سنة 505 هـ:
هو الفيلسوف الفقيه الأصولى أبو حامد محمد بن محمد الغزالى الشافعي ولد في مدينة طوس من أعمال خراسان وتوفى بها تجول في طلب العلوم الشرعية والعقلية حتى نبغ فيها ثم أثر التصوف وغلب عليه وله أكثر من مائتى كتاب ومقالة ورسالة.
الغزى توفى سنة 524 هـ:
أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن عثمان بن محمد الكلبى الاشهبى الشاعر المشهور، رحل إلى بغداد واقام بالمدرسة النظامية سنين كثيرة ثم رحل إلى خراسان، توفى بناحية بلح.
غلام الخلال توفى سنة 363 هـ:
أبو بكر عبد العزيز بن جعفر بن أحمد البغوي مفسر ثقة في
الحديث من أعيان الحنابلة من أهل بغداد كان تلميذا لأبى بكر الخلال فلقب به ومن كتبه "الشافى" و "المقنع في الفقه" كبيران جدا و "تفسير القرآن" و "الخلاف مع الشافعي" و "زاد المسافر" والتنبيه.
حرف الفاء "ف
"
فاطمة توفيت سنة 12 هـ:
فاطمة بنت رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمية القرشية وأمها خديجة بنت خويلد من نايهات قريش وإحدى الفصيحات العاقلات تزوجها علي بن أبي طالب رضى الله عنه ولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب لها 18 حديثا.
فاطمة بنت أبي حبيش:
ابن عبد المطلب بن أسد بن عبد الغزى القرشية الأسدية ورد فيها حديث الاستماضة أخرجه البخارى وأبو داود والنسائى وغيرهم.
الفاكهانى توفى سنة 734 هـ:
عمر بن على بن سالم بن صدقه اللخمى الاسكندرى، تاج الدين الفاكهانى عالم بالنحو من أهل الاسكندرية اجتمع به ابن كثير "صاحب البداية والنهاية" وقال سمعنا عليه ومعه وله كتب كثيرة منها" التحرير والتحبير" في شرح رسالة أبي زيد القيروانى في فقة المالكية. و "المنهج المبين" في شرح الأربعين النووية وغير ذلك.
الإمام فخر الإسلام توفى سنة 482 هـ:
على بن محمد البذدوى سمى "أبو العسر" لصعوبة فهم مؤلفاته له مصنفات كثيرة منها المبسوط في أحد عشر مجلدا وشرح الجامع الكبير وشرح الجامع الصغير، وأصول الفقه المشهور وتفسير القرآن الكريم في مائة وعشرين جزءا ولد في حدود سنه 400 هـ ومات في 5 رجب سنة 482 هـ وحمل موته إلى سمرقند، قال في الجواهر المضيئة وفخر الإسلام يطلق على جماعة وعند الإطلاق يراد به الإمام على البزدوى.
الفراء توفى سنة 458 هـ:
كثيرون أشهرهم: القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلى الشيخ الإمام علامة زمانة ولد في المحرم سنة 380 هـ حضر إلى بغداد عاصمة الخلافة سنة 432 هـ وولى القضاء بها وأهم مصنفاته وأشهرها الأحكام السلطانية ومنها أحكام القرآن. ونقل القرآن. وإيضاح البيان. ورسائل الإيمان والمعتمد والمقتبس، ومختصرهما. وعيون المسائل. والرد على الاشعرية. والرد على الكرامية والرد على السالمية. والرد على المجسمة وابطال التأويلات لأخبار الصفات ومختصره. والكلام في حروف المعجم والقطع على خلود الكفار في النار. وأربع مصنفات في أصول الديانات وإثبات إمامة الخلفاء والأربعة وتبرئة معاوية والخلاف الكبير والرسالة إلى إمام الوقت. والعدة في أصول الفقه. ومختصره. والكفاية في أصول الفقه ومختصره. وفضائل أحمد ومختصره في الصيام. وكتاب الطب. وكتاب اللباس. والأمر بالمعروف وشروط أهل الذمة والتوكل. وذم الغناء. وإبطال الحيل. والمجرد في المذهب. وشرح الخرقى. وشرح المذهب. والخصال. والأقسام.
وتكذيب الخيايرة فيما يدعونه من إسقاط الجزية، والاختلاف في الذبيح. وتفضيل الفقر على الغنى وفضيل ليلة الجمعة على ليلة القدر وكان كثير التعبد يختم الختمة في المسجد كل ليلة جمعة وقد مات في 19 من رمضان سنة 458 هـ ببغداد.
أبو الفرج توفى سنة 390 هـ:
القاضي أبو الفرج بن زكريا بن يحيى بن حميد بن حماد بن داود المعروف بابن طرار الجريرى النهروانى كان فيها أديبا شاعرا عالما بكل فن ولى القضاء ببغداد بباب الطاق نيابة عن ابن صير القاضي وروى عن جماعة من الأئمة منهم أبو القاسم البغوي وأبو بكر بن داود وكان ثقة مأمونا في روايته وكانت ولادته يوم الخميس لسبع خلون من شهر رجب سنة 303، 305 هـ وله تصانيف مقدمة في الأدب وغيره ومات يوم اثنين الثامن عشر من ذى الحجة سنة 390 هـ بالنهروان.
حرف القاف "ق
"
القاسم توفى سنة 244 هـ:
الامام القاسم بن إبراهيم الرسى الحسنى امام من أئمة الزيدية ولد سنة 170 هـ وتوفى بالرسى.
قاسم بن أصبغ توفى سنة 340 هـ:
قاسم بن اصبغ بن محمد بن يوسف القرطبي سكن قرطبة ومات بها وكان جده من موالى بنى أمية له مسند مالك وأحكام القرآن والناسخ والمنسوخ.
ابن القاسم: انظر حـ 1 ص 271.
قاضى خان توفى سنة 572 هـ:
حسن بن منصور بن أبي القاسم محمود بن عبد العزيز فخر الدين المعروف بقاضى خان الاوزدنجى الفرغانى فقيه حنفى من كبارهم له مؤلفات منها الفتاوى في أربعة أجزاء والأمانى والواقعات والاوزدنجى نسبة إلى اوزدنج بنواحى أصبهان.
قاضى زاده:
شمس الدين أحمد بن تودر المعروف بقاضى زاده. له نتائج الافكار في تكملة كتاب فتح القدير لأبن حمام.
ابن قدامة توفى سنة 620 هـ:
عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله المقدسى ثم الدمشقى الحنبلى موفق الدين رحل إلى بغداد وسمع بها من عبد القادر الجيلانى وغيره ثم عاد إلى دمشق وصنف كتاب المفن ورحل إلى بغداد بعد ذلك توفى بدمشق ومن كتبه الكافى في الفقه، مختصر العلل، مختصر الهداية وروضة الناظر وجنه المناظر.
ابن قدامة "شمس الدين": انظر حـ 1 ص 272.
قدامة بن مظعون: انظر حـ 1 ص 272.
القدورى توفى سنة 428 هـ:
أحمد بن محمد بن أحمد القدورى فقيه حنفى ولد ومات في بغداد، انتهت إليه رئاسة الحنفية في العراق وصنف المختصر المعروف باسمه "القدورى" في فقه الحنفية ومن كتبه التجريد في سبعة أجزاء يشتمل على الخلاف بين الشافعية والحنفية وكتاب النكاح.
القرافى توفى سنة 684 هـ:
أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن أبو العباس شهاب الدين الصنهاجى القرافى من علماء المالكية والقرافى نسبة إلى قرافة
محلة مجاورة لقبر الإمام الشافعي بالقاهرة وهو مصرى المولد والمنشأ والوفاة له مصنفات جليلة في الفقه والأصول.
القرطبي:
قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيار الأموى مولاهم البياتى الأندلسي أبو محمد. من علماء الفقهاء المحدثين في الأندلس وهو أحد المجتهدين له كتاب "الإيضاح" ومولده ووفاته بقرطبة رحل إلى مصر رحلتين.
ابن القشيري توفي سنة 465 هـ:
عبد الكريم بن هوزان بن عبد الملك بن طلحة النيسابورى القشيرى من بنى قشير شيخ خراسان في عصره ومن كتبه "التيسير في التفسير" و "لطائف الإشارات" و "الرسالة القيشرية".
الققال: انظر حـ 1 ص 272.
القفال الشاشى توفى سنة 507 هـ:
محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر أبو بكر الشاش القفال الفارقى رئيس الشافعية بالعراق في عصره ولد بميافارقين ورحل إلى بغداد فتولى التدريس بها في المدرسة النظامية واستمر إلى ان توفى. من كتبه "حلية العلماء" في معرفة مذاهب الفقهاء وغيره.
أبو قلابة توفى سنة 104 هـ:
عبد الله بن زيد بن عمرو الجرسى عالم بالقضاء والاحكام ناسك من أهل البصرة رفض القضاء وهرب إلى الشام فمات بها وكان من رجال الحديث الثقات.
القليوبى توفى سنة 1069 هـ:
أحمد بن سلامة أبو العباس شهاب الدين القليوبى فقيه شافعى من أهل قليوب بمصر له حواشى وشروح ورسائل وكتاب في تراجم جماعة أهل البيت سماه "تحفة الراغب".
القيروانى: انظر حـ 1 ص 273.
ابن القيم توفى سنة 386 هـ:
محمد بن بكر بن أيوب بن سعد الزرعى الدمشقى أحد كبار العلماء مولده وصفاته في دمشق تتلمذ لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه الف تصانيف كثيرة منها اعلام الموقعين. الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية وغيرها.
حرف الكاف "ك
"
الكاسانى: انظر حـ 1 ص 273.
الكافى:
أبو عبد الله الزبير - مات قبل سنة 320 هـ أبو عبد الله الزبير بن أحمد بن سلمان بن عبد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام أحد العشرة المقطوع لهم بالجنة رضى الله عنهم هكذا اذكره الشيخ إسحاق في طبقاته كان إمام أهل البصرة في زمانه حافظا للمذهب عارفا بالأدب، صنف كتبا كثيرة منها الكافى في المذهب الشافعي قال الشيخ أبو إسحاق صنف كتاب النية وكتاب ستر العوره وكتاب الهداية وكتاب الاستشارة والاستخارة وكتاب رياضة المتعلم وكتاب الإمارة، قال السمعانى كان ثقة وكان ضريرا مات قبل عشرين وثلثمائة.
الكرخى: انظر حـ 1 ض 273.
الكمال بن أبي شريف توفى سنة 906 هـ:
هو محمد بن محمد بن أبي بكر بن على بن أبي شريف أبو المعالى كمال الدين بن الأمير ناصر الدين عالم بالأصول. من فقهاء الشافعيه. من أهل بيت المقدس مولدا ووفاة نعته ابن العماد الامام شيخ الإسلام ملك العلماء الاعلام درس وأفتى ببلده وبمصر. له
تصانيف منها. الدرر اللوامع لتحرير جمع الجوامع في أصول الفقه، والفرائض في حل شرح العقائد. والمسامرة في المسايرة في التوحيد.
الكمال بن الهمام توفى سنة 861 هـ:
محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسى ثم الاسكندرانى كمال الدين المعروف بابن الهمام امام من علماء الحنفيه عارف بأصول الديانات والتفسير والفرائق والفقه أصله من سيواس ولد بالاسكندرية ونبع في القاهرة وجاور بالحرمين ثم كان شيخ الشيوخ بالخانقاه بالشيخونية بمصر.
حرف اللام "ل
"
أبو لبابة بن عبد المنذر:
الأوس الأنصاري. مختلف في اسمه ذكر في البدريين وقال كان أحد النقباء ليلة العقبة. وهو الذي ارتبط بالساربة لما استشاره بنو قريظة يوم حصارتهم - ومات في خلافة على أو بعد مقتل عثمان.
اللحياني:
هو على بن المبارك وقيل ابن حازم أبو الحسن اللحيانى من بنى لحيان في هزيل مدركة، وقيل سمى به لعظم لحيته: أخذ من الكسائى وأبي زيد والشيبانى والاصمعى. وعمدته الكسائى وأخذ عنه القاسم بن سلام.
اللخمى: انظر حـ 1 ص 274.
الليث توفى سنة 175 هـ:
الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمى بالولاء إمام أهل مصر في عصره حديثا وفقها كانت له مكانة عظمى حتى أن القاضي والنائب من تحت أمره ومشورته أصله من خراسان ومولده في قلقشنده ووفاته بالقاهره.
أبو الليث: انظر جـ 1 ص 274.
السمرقندى
ابن أبي ليلى توفى سنة 148 هـ:
محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفى الفقيه قاضى الكوفة من أصحاب الرأى له اخبار مع الامام أبي حنيفة وغيره مات بالكوفة.
حرف الميم "م
"
المؤيد بالله: انظر حـ 1 ص 275.
ابن الماجشون: انظر حـ 2 ص 263.
مالك توفى سنة 179 هـ:
مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميرى أبو عبد الله، إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة مولده ووفاته في المدينة، كان صلبا في دينه بعيدا عن الامراء والملوك له كتاب الموطأ ورسالة في الوعظ وكتاب في المسائل ورسالة في الرد على القدرية وتفسير غريب القرآن.
المؤيد بالله: انظر حـ 1 ص 275.
المتيطى توفى سنة 570 هـ:
القاضي أبو الحسن على بن عبد الله بن إبراهيم الأنصاري المعروف بالمتيطى السيتى الفاسى الإمام الفقيه العالم اللازم أبا الحجاج المتيطى وبه تفقه ولزم بسبقه القاضي ابا محمد بن عبد الله التميمى. الف كتابا كبيرا في الوثائق سماه النهاية والتمام في معرفه الوثائق والاحكام اختصره ابن هارون وغيره توفى في مستهل شعبان سنة 570 هـ. رحمه الله تعالى.
مجاهد: انظر حـ 3 ص 355.
مجد الدين: انظر حـ 6 ص 382.
محارب بن دثار: انظر حـ 10 ص 402.
مخارق توفى سنة 321 هـ:
مخارق أبو المهنأ بن يحيى الجزار أمام عصره في فن الفناء ومن أطيب الناس صوتا توفى بسر من رأى أخباره كثيره جدا.
المحب الطبري: انظر حـ 3 ص 255.
محب بن عبد الشكور توفى سنة 1119 هـ:
محب الله بن عبد الشكور البهارى الهندى قاضى من الأعيان من أهل "بهار" وهى مدينة عظمة شرقى بورب بالهند مولده في موضع يقال له "كره" بفتحتين ولى قضاء لكهند ثم قضاء حيدر أباد الدكن، ثم ولى صدارة ممالك الهند، ولقب بفاضل خان ولم يلبث أن توفى من كتبه "مسلم البثوت في أصول الفقه والجوهر الفرد رسالة". وسلم العلوم في المنطق.
محمد: انظر حـ 1 ص 275.
محمد بن إسحاق توفى سنة 311 هـ:
محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمى أبو بكر إمام نيسابور في عصره كان فقيها مجتهدا عالما بالحديث مولده ووفاته بنيسابور، رحل إلى العراق والشام والجزيرة ومصر ولقبه السبكى بإمام الأئمة تزيد مصنفاته على 140 منها كتاب "التوحيد وإثبات صفة الرب".
محمد بن إسماعيل العذرى توفى سنة 730 هـ:
محمد بن سليمان بن محمد بن أحمد بن أبي الرجال الصعدى الفقيه العلامة أحد المذاكرين المجتهدين أخذ عن الفقيه يحيى البحبيح عاصر الإمام يحيى ولما وصلت إليه دعود الإمام يحيى إلى صعدة قام خطيبا وحث الناس على طاعة الامام يحيى وقال: والله ما أعلم من على عليه السلام إلى الآن اعلم منه وله مؤلفات منها الروضة وكان يحفظ اللمع غيبا وكان زاهدا ورعا. وسماه السيد صارم الدين امام الذاكرين توفى سنة 730 هـ وقبره عند جبانه صعدة.
محمد بن زكريا توفي سنة 311 هـ:
محمد بن زكريا الرازى أبو بكر فيلسوف من الأئمة في صناعة الطب من أهل الرى ولد وتعلم بها وسافر إلى بغداد بعد سن الثلاثين يسميه كتاب اللاتينية "رازيس" ومات ببغداد وفي سنة وفاته خلاف.
محمد بن سليم توفى سنة 1331 هـ:
محمد بن سليم بن أنيس بن سليم بن حسن القصابى المعروف بقصاب حسن فاضل، له شعر وتواشيح وعناية بالأدب من أهل دمشق أصله من الموصل انتقل منها أحد جدوده إلى دمشق سنة 1180 هـ وبها ولد صاحب الترجمة وتوفى، "له نشأة الصبا" ديوان شعره في صباه وسحر البيان. ديوان ثانى وجهد المستطبع في أنواع البديع.
محمد بن عبد الله الحاكم توفى سنة 405 هـ:
محمد بن عبد الله بن حمدوية بن نعيم الضبى الطهمانى النيسابورى الشهير بالحاكم ويعرف بابن البيع. أبو عبد الله. من أكابر حفاظ الحديث والمصنفين فيه، مولده ووفاته في نيسابور رحل إلى العراق سنة 342 هـ وحج وجال في بلاد خراسان وما وراء النهر وأخذ على نحو ألفى شيخ وولى قضاء نيسابور سنة 359 هـ ثم قلد جرجان فامتنع.
محمد بن عطية: انظر ابن عطيه.
محمد بن على الرازي: انظر الرازى حـ 1 ص 258.
محمد بن على الشوكانى: انظر الشوكانى حـ 1 ص 273.
محمد بن عيسى توفى سنة 253 هـ:
محمد بن عيسى بن سورة السلمى البوغى الترمذى أبو عيسى: من أئمة علماء الحديث وحفاظه من أهل ترمذى "على نهر جيجون"
تتلمذ للبخارى وشاركه في بعض شيوخه وقام برحلة إلى خراسان والعراق والحجاز وعمى في آخر عمره وكان يضرب به المثل في الحفظ مات بترمذ من تصانيفه الجامع الكبير - في الحديث مجلدان والعلل في الحديث.
محمد بن مسلم: انظر حـ 5 ص 378.
المرتضي توفى سنة 310 هـ:
محمد بن الإمام يحيى الهادى بن الحسين الحسنى الإمام المرتضى كان عالما بالفقه وأصول الدين له في الفقه كتابان "الإيضاع والنوازل" وغيرهما.
مرثد بن عبد اليزنى توفى سنة 90 هـ:
مرشد بن عبد الله الحميرى اليزنى، أبو الخير: مفتى أهل مصر من الطبقة الثالثة من التابعين من ثقات أهل الحديث كان أمير مصر عبد العزيز بن مروان يحضره فيجلسه للفتيا نسبته إلى "ذى يزيد" وهو بطن من حمير.
ابن مرزوق: انظر حـ 3 ص 356.
المزنى توفى سنة 264 هـ:
إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل أبو إبراهيم المزنى نسبة إلى مزنية من مصر صاحب الإمام الشافعي من أهل مصر كان زاهدا عالما مجتهدا قوى الحجة له كتاب الجامع الكبير والجامع الصغير المختصر.
ابن مسعود: انظر عبد الله حـ 1 ص 267.
أبو مسعود البدري توفى سنة 40 هـ:
عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة بن عطية بن خدارة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري أبو مسعود البدرى. مشهور بكنيته اتفقوا على أنه شهد العقبة واختلفوا في شهوده بدرا فقال الأكثر نزلها فنسب إليها وجزم البخارى بأنه شهدها واستدل بأحاديث أخرجها في صحيحه في بعضها التصريح بأنه شهدها منها حديث عروة بن الزبير عن بشير بن أبي مسعود أبو مسعود عقبة بن عمرو جد زيد بن حسن وكان شهد بدرا قال المداينى مات سنة 40 هـ والصحيح أنه مات بعدها فقد ثبت أنه أدرك إمارة المغيرة على الكوفة وذلك بعد سنة أربعين قطعا قيل مات بالكوفة وقيل مات بالمدينة.
مسلم: انظر حـ 1 ص 276.
معاذ بن جبل توفى سنة 18 هـ:
معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجى أبو عبد الرحمن صحابى جليل وكان أعلم الأئمة بالحلال والحرام وهو أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم شهد العقبة مع الأنصار السبعين وشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم وبعثه الرسول صلى الله عليه وسلم قاضيا ومرشدا لأهل اليمن توفى بناحية الأردن.
معبد الجهنى توفى سنة 72 هـ:
معبد بن خالد الجهنى أبو ذرعة صحابى من القادة أسلم قديما وكان أحد الأربعة الذين حملوا ألوية "جهينة" يوم فتح مكة وكان يلزم البادية عاش بضعا وثمانين سنة.
معمر توفي سنة 153 هـ:
معمر بن راشد بن أبي العمر الأزدى أبو عروة فقيه حافظ متقن ثقة من أهل البصرة ولد واشتهر فيها وسكن اليمن وهو عند مؤرخى رجال الحديث أول من صنف باليمن.
المغيرة بن شعبة: انظر حـ 3 ص 357.
مكحول: انظر حـ 3 ص 357.
ابن أبي مليكة توفى سنة 117 هـ:
عبد الله بن عبد الله بن أبي مليكة التيمى المكى قاض من رجال الحديث الثقات ولاه ابن الزبير قضاء الطائف.
ابن المناصف توفى سنة 620 هـ:
محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ. أبو عبد الله من المناصف الأزدى القرطبي نزيل افريقية قاض متفنن في العلوم ولى بلنسية ثم قضاء مرسية وصرف فسكن قرطبة وحج وأقام بمصر قليلا وعاد فمات بمراكش له "المذهب في المحلى والشيات" و "تنبيه الحاكم" في سيره القضاء، وقبول الشهادات، وتنفيذ الأحكام، والحسبة، وكتاب في أصول الدين، وآخر في السيرة النبوية.
ابن المنذر: انظر حـ 1 ص 277.
منصور: انظر حـ 2 ص 364.
المنوفى توفى سنة 1042 هـ:
محمد بن ياسين المنوفى الشاعر من أهل مصر في شعره جودة ورقة ولى عدة مناصب في القضاء مولده ووفاته في القاهرة.
الميدانى توفى سنة 1298 هـ:
عبد الغنى بن طالب بن حمادة الغنيمى الدمشقى من فقهاء الحنفية وهو صاحب كتاب اللباب شرح القدوري وشروح ورسائل في الصرف والتوحيد.
أبو ميسرة:
مولى العباس بن عبد المطلب ذكره المستغفرى في الصحابة وتبعه أبو موسى وأورد من طريق محمد بن أحمد بن سعيد البزار الطوسى المعروف بأبى كساء عن أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد بن أبي قرة عن الليث بن سعد عن أبي قبيل عن أبي ميسرة مولى العباسى بن عبد المطلب قال عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عباس انظر هل ترى في السماء شيئا قلت نعم أرى الثريا قال أما أنه يملك هذه الأمة بعد. وهامن صلبك قلت وهذا الحديث معروف بعبيد بن أبي قرة تفرد بروايته عن الليث وسقط من السند العباس بن عبد المطلب فصار ظاهرة أن الصحابي هو أبو ميسرة وليس كذلك فقد أخرجه أحمد في مسنده واتفقت هذه الطرق كلها في سباق السند على أنه عن أبي ميسرة عن العباس بن عبد المطلب فظهر أن الصواب إثباته.
حرف النون "ن
"
الناطفى توفى سنة 446 هـ:
أحمد بن محمد بن عمر أبو العباس الناطفى فقيه حنفى من أهل الرى منسوب إلى عمل الناطف من كتبه الأجناس والفروق والأحكام.
نافع بن الحارث: انظر حـ 3 ص 358.
نجم الدين الزاهدى توفى سنة 767 هـ:
عمر بن يوسف نجم الدين من أكابر اليمن في الدولة الرسولية له أثار منها المدرسة العمرية بتعز.
ابن نجيم توفى سنة 970 هـ:
زين الدين بن إبراهيم بن محمد فقيه حنفى مصرى له تصانيف منها الأشباه والنظائر في أصول الفقه والبحر الرائق في شرح كنز الدقائق وغيرها.
النخعى توفى سنة 96 هـ:
إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود أبو عمران النخعى. من أكابر التابعين صلاحا وحفظا للحديث من أهل الكوفة مات مختفيا من الحجاج.
النسائي توفى سنة 414 هـ:
أحمد بن على بن شعيب أبو عبد الرحمن صاحب السنن أصله من نسا بخراسان واستوطن مصر ثم خرج إلى الرملة فمات بها ودفن ببيت المقدس.
النعمان توفى سنة 325 هـ:
نعمان بن عامر بن هانئ بن مسعود بن أرسلان التنوخى اللخمى أو الحسام أمير عالم بفقه المالكية شاعر من اسلاف آل أرسلان بلبنان تعلم ببغداد ولازم الجاحظ وأخذ عن المبرد سنة 249 هـ وعاد إلى لبنان وولى امارة الساحل وأضيف الله عمل صفد وكانت له وقائع مع المردة سنه 262 هـ ومع الافرنج برأس بيروت سنه 303 هـ وصنف كتاب تيسير المالك إلى مذهب مالك وجمع شعره في ديوان.
النعمان بن بشير: انظر حـ 4 ص 361.
نفيع بن الحارث توفى سنة 52 هـ:
نفيع بن الحارث بن كلده الثقفى أبو بكرة صحابى من أهل الطائف له 132 حديثا توفى بالبصرة وإنما قيل له "أبو بكره" لأنه تدلى ببكرة من حصن الطائف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ممن اعتزل الفتنة يوم الجمل وأيام صفين.
النووى توفى سنة 676 هـ:
يحيى بن شرف بن حسين الحزامى الحوارنى النووى الشافعي علامة بالفقه والحديث مولده ووفاته في نوا "من قرى حوران بسوريا" من كتبه في فقه الشافعيه "تصحيح التنبيه" وله كتب كثيرة في الحديث والتوحيد والفتاوى.
النيسابورى توفى سنة 548 هـ:
محمد بن يحيى بن منصور أبو سعد محيى الدين النيسابورى رئيس الشافعية في نيسابور في عصره تفقه على الإمام الغزالى ودرس بنظامية نيسابور وقتلته الغز ومن كتبه المحيط في شرح الوسيط والانتصاف في سائل الخلاف وغيرها.
حرف الهاء "هـ
"
الهادى توفى سنة 298 هـ:
يحيى بن الحسن بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم - الطباطبائى بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب إمام من أئمة الزيديه كتب في الفقه وغيره كتبا قيمة منها كتاب الأحكام على نمط كتاب الموطأ للامام مالك حيث يذكر اجتهاداته ووجوهها ويربط أكثر المسائل بالأدلة، وقلده في اجتهاده كثير من أهل اليمن.
ابن هاشم الجبالى: انظر حـ 1 ص 380.
ابن هرمز توفى سنة 117 هـ:
عبد الرحمن بن هر، أبو داود من موالى بنى هاشم عرف بالأعرج حافظ قارئ من أهل المدينة، أدرك أبا هريرة وأخذ عنه وهو أول من برز في القرآن والسنن وكان خبيرا بأنساب العرب، واقر العلم، ثقة، رابط بثغر الاسكندرية مدة ومات بها.
أبو هريرة توفى سنة 59 هـ:
عبد الرحمن بن صخر الدوسى الملقب بأبى هريرة كان أكثر الصحابة حفظا للحديث ورواية له نشأ يتيما ثم قدم إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسلم سنة سبع ولزم صحبة النبي فروى عنه 5344 حديثا توفى بالمدينة المنورة.
هشام بن حسان توفى سنة 147 هـ:
هشام بن حسان الازرى، أبو عبد الله القردوس محدث من أهل البصرة كان يكتب حديثه، وهو من المكثرين عن الحسن البصرى.
هشام بن عبد الحكم: انظر حـ 1 ص 280.
هشام بن عروة:
هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، الفقيه أبو المنذر الأسدي المدنى أحد أئمة الحديث أدرك
عمه عبد الله بن الزبير وقال: مسح ابن عمر رأسى ودعا لى.
بن الهمام: انظر الكمال.
هند بنت عتبة توفيت سنة 14 هـ:
جدها ربيعة بن عبد شمس صحابية قرشية عالية الشهرة وهى أم الخليفة معاوية كانت فصيحة جريئة شاعرة أسلمت يوم فتح مكة وقد شهدت اليرموك وحرضت على الروم.
الهندوانى: انظر أبو جعفر حـ 1 ص 253.
الهيثم بن جميل توفى سنة 213 هـ:
الهيثم بن جميل البغدادى الحافظ، نزيل انطاكية، روى عن جرير وطبقته، كان من صلحاء المحدثين وأثباتهم.
حرف الواو "و
"
وائل بن حجر: انظر حـ 4 ص 374.
واقد بن عمر:
هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب روى الحديث عن أبيه. حديث لا تمنعوا النساء المساجد.
الوراق توفى سنة 329 هـ:
محمد بن عبد الله بن محمد بن موسى أبو عبد الله الكرمانى الوراق عالم اللغة والنحو، كان يورق بالاجرة قرأ على ثعلب من كتبه الموجز في النحو والجامع في اللغة ذكر فيه ما أغفله الخليل في العين، وكانت بينه وبين ابن دريد مناقضة.
أبو الوفاء توفى سنة 476 هـ:
أبو الوفاء طاهر بن الحسين بن أحمد يعرف بابن القواس كانت له حلقة بجامع المنصور يفتى ويعظ، وكان يقرأ القرآن ويدرس الفقه في مسجده بباب البصرة، سمع الحديث من هلال الحفار وأبي الحسين بن بشران وغيرهم.
الولوالجى توفى سنة 1310 هـ:
هو ظهر الدين إسحق العالم الفقيه الحنفى صاحب الفتاوى الولوالجية وقد جمع فيه ما لا بد منه لأهل الفتوى وهو مخطوط.
ابن وهب: انظر حـ 2 ص 366.
حرف الياء "ى
"
يحيى بن حمزة توفى سنة 745 هـ:
الإمام يحيى بن حمزة بن على الحسينى العلوى الطالبى من أكابر أئمة الزيدية وعلمائهم في اليمن ولد في صنعاء وتلقب بالمؤيد بالله أو المؤيد برب العزة من تصانيفة الشامل في أصول الدين ونهاية الوصول إلى علم الأصول والحاوى في الفقه وكثير غيرها.
يحيى بن يحيى: انظر حـ 1 ص 281.
يزيد بن أبي سفيان توفى سنة 19 هـ:
يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس القرشى الأموى وأمير الشام وأخو الخليفه معاوية كان من فضلاء الصحابة من مسلمة الفتح واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات بنى فراس وكانوا أخواله قال أبي بكار وقال أبو عمر كان أفضل أولاد أبي سفيان وكان يقال له يزيد الخير وأمه أم الحكم زينب بنت نوفل من خلف من بنى كنانة يكنى أبا خالد وأمره أبو بكر الصديق لما قفل من الحج سنة اثنتى عشرة أحد أمراء الأجناد وأمره عمر على فلسطين ثم على دمشق لما مات معاذ بن جبل وكان استخلفه فأقره عمر قال طاووس عن أبيه قال رأى عمر يزيد بن أبي سفيان كاشفا عن بطنه فرأسى جلده رقيقة فرفع عليه الدرة وقال اجلده كافر وقال أيضا انبأنا إسماعيل بن العباس حدثنى يحيى الطويل عن نافع سمعت بن عمر قال بلغ عمر بن الخطاب أن يزيد بن أبي سفيان يأكل ألوان الطعام
فذكر قصة له معه وفيها يايزيد اطعام بعد اطعام والذي نفسى بيده لئن خالفتم عن سننهم ليخالفن بكم عن طريقتهم قال ابن صاعد تفرد به ابن المبارك وتوفى سنة 19 هـ.
يزيد بن هارون توفى سنة 206 هـ:
يزيد بن هارون بن زادان بن ثابت السلمى بالولاء الواسطى أبو خالد من حفاظ الحديث الثقات كان واسع العلم بالدين ذكيا كبير الشأن أصله من بخارى ومولده ووفاته بواسط. قدر من كان يحضر مجلسه بسبعين ألفا وكان يقول أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بإسناده ولا فخر وأشار البلخى إلى أن له كتابا فيه أحاديثه رآه عبد الرحمن بن مهدى ووجد فيه غلطا فقال عافى الله أبا خالد وكف بصره في كبره قال المأمون لولا مكان يزيد بن هارون لا أظهرت أن القرآن مخلوق فقيل ومن يزيد حتى يتقى؟ قال أخاف أن أظهرته فيرد على فيتخلف الناس ويكون فتنه.
يعقوب: انظر حـ 1 ص 281.
أبو يعلى الصغير توفى سنة 560:
محمد بن محمد بن محمد بن الحسين عماد الدين بن القاضي أبي خازن بن أبي يعلى الكبير قاضى من كبار الحنابلة ببغداد وتوفى بها من كتيه (التعليقة) في مسائل الخلاف و (النكت والإشارات) في مسائل المفردات وغيرها.
يوسف شخت: انظر حـ 1 ص 281.
أبو يوسف توفى سنة 182 هـ:
يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفى البغدادى أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة وتلميذه وأول من نشر مذهبه ولد بالكوفة وولى القضاء ببغداد وكان أول من دعى قاضى القضاة وله كتاب الخراج والآثار وغيره مات ببغداد.
ابن يونس توفى سنة 415 هـ:
أبو بكر بن عبد الله بن يونس الصقلى كان فقيها إماما فرضيا، وكان ملازم للجهاد ألف كتابا في الفرائض وكتابا جامعا للمدونة أضاف إليها غيرها من الأمهات.
يونس بن يعقوب:
يونس بن يعقوب بن قيس أبو على الجلاب البجلى الدهنى أمه منية بنت عمار بن أبي معاوية الدهنى اختص بأبي عبد الله وأبي الحسن كان يسكن العراق له كتاب أخبرنا به جماعة عن أبي الفضل عن أبي بطنه عن غيره.