المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مصطلح "أمر " ‌ ‌معنى الأمر في اللغة: الأمر: نقيض النهى. أمره به وأمره - موسوعة الفقه الإسلامي - الأوقاف المصرية - جـ ٢٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

‌مصطلح "أمر

"

‌معنى الأمر في اللغة:

الأمر: نقيض النهى. أمره به وأمره وأمره إياه على حذف الحرف يأمره أمرًا وإمارًا فاتمر أي قبل أمره وقوله:

وربرب خماص

يأمرن باقتناص

إنما أراد أنهن يشوقن من رآهن إلى تصيدهن واقتناصهن وإلا فليس لهن أمر وقوله عز وجل {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}

(1)

. العرب تقول: أمرتك أن تفعل ولتفعل وبأن تفعل. فمن قال: أمرتك بأن تفعل فالباء للإلصاق والمعنى وقع الأمر بهذا الفعل. ومن قال: أمرتك أن تفعل فعلى حذف الباء ومن قال: أمرتك لتفعل فقد أخبرنا بالعلة التي لها وقع الأمر والمعنى أمرنا للإسلام.

وقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}

(2)

قال: الزجاج: أمر الله ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم من أصناف العذاب والدليل على ذلك قوله تعالى: {فإذا جاء أمرنا وفار التنور}

(3)

أي جاء ما وعدناهم به.

وأمرته بكذا أمرًا والجمع الأوامر. وإذا أمرت من أمر قلت: مر وأصله أُومر فلما اجتمعت همزتان وكثر استعمال الكلمة حذفت الهمزة الأصلية فزال الساكن فاستغنى عن الهمزة الزائدة وقد جاء على الأصل وفى التنزيل: وأمر أهلك بالصلاة. وفيه خذ العفو وأمر بالعرف.

والأمر واحد الأمور يقال أمر فلان مستقيم وأموره مستقيمة والأمر الحادثة والجمع الأمور ولا يفسر على غير ذلك وفى التنزيل: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}

(4)

.

والآمرة: الأمر وهو أحد المصادر التي جاءت على فاعلة كالعافية.

وقالوا في الأمر: أومر ومر ونظيره كل وخذ وقيل لا يقال أومر ولا أوخذ وإنما يقال مر وخذ في الابتداء بالأمر استثقالًا الضمتين فإذا تقدم الكلام واو أو فاء. في الأمر خاصة قلت وأمر فأمر.

"يراجع اللسان"

‌معنى الأمر في الاصطلاح

تمهيد: موضوع علم الأصول عند الجمهور هو الأدلة السمعية الكلية من حيث يتوصل بمعرفتها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية الجزئية.

وأول مصدر لهذه الأدلة هو القرآن الكريم وهو ينقسم إلى خبر وإنشاء، لكن نظر الأصولى إنما هو الإنشاء لأنه الأصل في ثبوت الأحكام دون الخبر لعدم ثبوت الحكم به غالبًا.

فلذلك قسم الأصوليون الكتاب العزيز باعتبار ذاته إلى أمر ونهى. وباعتبار شموله لجميع افراد متعلقه إلى عام وخاص، وباعتبار ظهور دلالته وخفائها إلى مبين ومجمل، وباعتبار كونه رافعًا لحكم آخر أو مرفوعًا به إلى ناسخ ومنسوخ.

واكتفوا بهذه الأبحاث في موضوع الكتاب الكريم عن ذكرها في مباحث السنة استنادًا إلى أن ما ثبت للكتاب يثبت للسنة.

(1)

آية 71 سورة الأنعام.

(2)

آية 1 سورة النحل.

(3)

آية 27 سورة المؤمنون.

(4)

آية 53 سورة الشورى.

ص: 5

ولما كان الأمر هو قسمان من الكتاب العزيز فقد عنى الأصوليون بالمباحث الخاصة به أيما عناية:

والأمر يطلق على اللسانى مثل قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وعلى النفس قبل طلب الصلاة القائم بنفس الآمر سبحانه. والأمر الأول اللسانى هو المراد هنا لأنه من الأدلة السمعية التي يبحث عن أحوالها في علم أصول الفقه. والأمر الثاني النفسى نوع من الأحكام الشرعية التي هي عبارة عن الخطابات النفسية القائمة بذات الله سبحانه. والبحث عنه في علم التوحيد. وإنما تعرض بعض الأصوليين له هنا مع أنه ليس من موضوعهم لغلبة علم الكلام عليه وشدة اهتمامهم به واستكمالًا للبحث.

وقد عرف الأصوليون الأمر بتعريفات عديدة نبينها فيما يأتى:

‌أولًا: معنى الأمر عند المتكلمين:

‌1 - الغزالى:

(1)

الأمر قسم من أقسام الكلام، وحده أنه القول المقتضى طاعة المأمور بفعل المأمور به، وقيل إنه طلب الفعل واقتضاؤه على غير وجه المسألة ممن هو دون الآخر في الدرجة.

والقيد الأخير "ذكره بعضهم" احترازًا عن قوله: "اللهم اغفر لى" وعن سؤال العبد من سيده والولد من والده ولا حاجة إلى هذا الاحتراز، بل يتصور من العبد والولد أمر السيد والوالد وإن لم تجب عليهما الطاعة فليس من ضرورة كل أمر أن يكون واجب الطاعة بل الطاعة لا تجب إلا لله تعالى. والعرب قد تقول فلان أمر أياه والعبد أمر سيده ونحوهما ممن يعلم أن طلب الطاعة لا يحسن منه فيرون ذلك أمرًا وإن لم يستحسنوه. وكذلك قوله "اغفر لي" فلا يستحيل أن يقوم بذاته اقتضاء الطاعة من الله تعالى أو من غيره فيكون آمرًا ويكون عاصيًا بأمره.

(2)

فإن قيل: قولكم الأمر هو القول المقتضى طاعة المأمور أأردتم به القول اللسانى؟ أم كلام النفس؟

قلنا: الناس فيه فريقان:

الفريق الأول هم المثبتون لكلام النفس. وهؤلاء يريدون بالقول ما يقوم بالنفس من اقتضاء الطاعة وهو الذي يكون النطق عبارة عنه ودليلًا عليه. وهو قائم بالنفس وهو أمر بذاته وجنسه ويتعلق بالمأمور به ويُدل عليه تارة بالإشارة والرمز والفعل، وتارة بالألفاظ، وهذه الألفاظ الدالة على معنى الأمر تسمى أمرًا وكأن الاسم مشترك بين المعنى القائم بالنفس وبين اللفظ الدال فيكون حقيقة فيهما. أو يكون حقيقة في المعنى القائم بالنفس وقوله "افعل" يسمى أمرًا مجازًا.

الفريق الثاني هم المنكرون لكلام النفس وهؤلاء انقسموا إلى ثلاثة أصناف وتحزبوا على ثلاث مراتب:

الحزب الأول: قالوا لا معنى للأمر إلا

(1)

المستصفى من علم الأصول حجة الإسلام أبى حامد الغزالى.

الطبعة الأولى المطبعة الأميرية جـ 1 ص 411.

(2)

المصدر السابق ص 412.

ص: 6

حرف وصوت وهو مثل قوله "افعل" أو ما يفيد معناء وإليه ذهب البلخى من المعتزلة وزعم أن قوله "افعل" أمر لذاته وجنسه وانه لا يتصور أن لا يكون أمرًا. وضعف الغزالى هذا القول.

الحزب الثاني: وفيهم جماعة من الفقهاء يقولون: إن قوله "افعل" ليس أمرًا بمجرد صيغته ولذاته بل لصيغته وتجرده عن القرائن الصادقة له عن جهة الأمر إلى التهديد والإباحة وغيره. وضعفه الغزالى أيضًا.

الحزب الثالث: من محققى المعتزلة أنه ليس أمرًا لصيغته وذاته ولا لكونه مجردًا عن القرائن مع الصيغة بل يصير أمرًا بثلاث إرادات: إرادة المأمور به، وإرادة إحداث الصيغة. وإرادة الدلالة بالصيغة على الأمر دون الإباحة والتهديد.

وقال بعضهم: تكفى إرادة واحدة وهى إرادة المأمور به وأفسد الغزالى هذا القول بأمور أوضحها.

‌2 - الآمدى:

(1)

قال: اتفق الأصوليون على أن اسم الأمر حقيقة في القول المخصوص وإنما وقع الخلاف بينهم في إطلاق اسم الأمر على الفعل: هل هو حقيقة أو لا؟

والأكثرون على أنه مجاز واختيار أبى الحسين البصرى أنه مشترك بين الشئ والصفة وبين جملة الشأن والطرائق ووافق على أنه ليس حقيقة في نفس الفعل من حيث هو فعل بل من حيث هو شئ.

وحجة أبى الحسين أن الإنسان إذا قال: "هذا أمر" لم يدر السامع مراده من قوله إلا بقرينة. وهو غير صحيح لكونه مصادرًا بدعوى التردد في إطلاق اسم الأمرء ولا يخفى ظهور المنع من مدعى الحقيقة في القول المخصوص وأنه مهما أطلق اسم الأمر عنده كان المتبادر إلى فهمه القول المخصوص وأنه لا ينصرف إلى غيره إلا بقرينة.

(2)

أما حجة القائلين بأنه مجاز في الفعل وحقيقة في القول فقد أوردها وناقشها ثم اختار أنه مشترك معنوى بين القول المخصوص والفعل. لا أنه مشترك لفظى ولا مجاز في أحدهما

(3)

وبعد أن انتهى الآمدى من الكلام عن هذا الغلاف انتقل إلى الكلام عن حد الأمر فقال:

(4)

وقد اختلف المعتزلة فيه بناء على إنكارهم لكلام النفس. فذهب البلخى وأكثر المعتزلة إلى أن الأمر هو قول القائل لمن دونه "افعل" أو ما يقوم مقامه في الدلالة على مدلوله. وقصد بذلك إدراج صيغة الأمر من غير العربى في الحد.

وعقب عليه بأنه فاسد من ثلاثة أوجه:

الأول: أن مثل ذلك قد يوجد فيما ليس بأمر بالاتفاق كالتهديد في قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} والإباحة في قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} إلى غير ذلك من المحامل التي ترد في معاني الأمر.

(1)

الإحكام في أصول الأحكام للآمدى مطبعة المعارف بالفجالة سنة 1322 هـ 1914 جـ 2 ص 188.

(2)

المصدر السابق ص 189.

(3)

المصدر السابق ص 198.

(4)

المصدر السابق ص 198.

ص: 7

الثاني: أنه يلزم من ذلك أن تكون صيغة افعل الواردة من النبي صلى الله عليه وسلم نحونا أمرًا حقيقة لتحقق ما ذكروه من شروط الأمر فيها، ويلزم من ذلك أن يكون هو الآمر لنا بها، ويخرج بذلك عن كونه رسولًا. لأنه لا معنى للرسول غيرُ المبلغ لكلام المرسل لا أن يكون هو الآمر والناهى كالسيد إذا أمر عبده وسواء كانت صيغته مخلوقة له أو لله تعالى.

الثالث: أنه قد يرد مثل هذه الصيغة من الأعلى للأدنى ولا يكون أمرًا بأن يكون ذلك على سبيل التضرع والخضوع. وقد يرد من الأدنى للأعلى ويكون أمرًا إذا كان على سبيل الاستعلاء لا على سبيل الخضوع والتذلل. لذلك يوصف قائلها بالحمق والجهل بأمره لمن هو أعلى منه رتبة.

(1)

ونقل الآمدى تعريفين آخرين لبعض المعتزلة مؤداهما أن الأمر هو الصيغة وناقشهما وأبطل القول بهما ثم قال:

وما انحسمت عليهم طرق التعريف قال قائلون منهم: الأمر هو إرادة الفعل. وقد أبطله أهل السنة بما لا داعى للإطالة به وموضعه علم الكلام.

وانتقل الآمدى بعد ذلك إلى تعريفات أهل عن بعضهم تعريف الأمر بأنه عبارة عن الخبر على الثواب على الفعل تارة والعقاب على الترك تارة.

كما نقل تعريف الغزالى السابق ونسبه إلى الأكثرين كالقاضى أبى بكر وإمام الحرمين وغيرهم ثم أبطله لما فيه من تعريف الأمر بالمأمور والمأمور به وهما مشتقان من الأمر. والمشتق من الشئ أخفى من ذلك الشيء. وتعريف الشيء بما لا يعرف إلا بعد معرفة ذلك الشئ محال.

(2)

وعن جماعة آخرين أن الأمر هو طلب الفعل على وجه يعد فاعله مطيعًا. وأبطله لما فيه من تعريف الأمر بالطاعة المتعلقة بالفعل والطاعة المتعلقة بالفعل لا تعرف إلا بموافقة الأمر. وهو دور ممتنع.

ثم قال: والأقرب في ذلك إنما هو القول الجارى على قاعدة الأصحاب أهل السنة. أن يقال: الأمر طلب الفعل على جهة الاستعلاء .. احترز بطلب الفعل عن النهى وغيره من أقسام الكلام وبقوله "على جهة الاستعلاء" عن الطلب بجهة الدعاء والالتماس.

‌3 - البيضاوى والإسنوى

قال البيضاوى:

(3)

إن المراد هنا لفظ الأمر المكون من الحروف "أ. م. ر" لا مدلولها وهو "افعل" ولا نفس الطلب وعرفه بأنه "القول الطالب للفعل".

وشرح الإسنوى ذلك بأن لفظ الأمر يطلق إطلاقًا مجازيًا على الفعل والشأن وغيرهما

(1)

المصدر السابق ص 200.

(2)

المصدر السابق ص 204.

(3)

شرح الإمام جمال الدين الإسنوى المسمى بنهاية السول في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضى البيضاوى الطبعة الأولى المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق سنة 1316 جـ 1 ص 247.

ص: 8

ويطلق حقيقة على "القول الطالب للفعل مطلقا" وإنما كان الإطلاق لأنه "هو المعنى الذي يتبادر الفهم إليه عند الإطلاق" ووضح أن كلمة "القول" جنس في التعريف يدخل فيه الأمر وغيره سواء كان بلغة العرب أم لا وسواء كان نفسانيًا أم لا كما صرح الأصفهانى شارح المحصول.

وعنده أن كلمة "القول" أولى من كلمة "اللفظ" لأن اللفظ جنس يعبر لإطلاقه على المهمل والمستعمل بخلاف القول فهو خاص بالمستعمل، ثم إن الكلام أخص من القول. لإطلاق القول على المفرد والمركب وأما الكلام فإنه خاص بالمركب "فالصواب التعبير بالكلام لأن لفظ الأمر وإن كان مفردًا فمدلوله لفظ مركب مفيد فائدة خاصة، واستفدنا من التعبير بالقول أن الطلب بالإشارة والقرائن المفهمة لا يكون أمرًا حقيقة، وقوله "الطالب" احترز به عن الخبر وشبهه وعن الأمر النفسانى فإنه الطلب لا الطالب لكن الطالب حقيقة إنما هو المتكلم؛ وإطلاقه على الصيغة مجاز من باب تسمية المسبب باسم سببه.

(1)

وقوله "للفعل" احترز به عن النهى فإنه قول طالب للترك.

ولقائل أن يقول: النهى قول طالب للفعل أيضا ولكن فعل الضد وسيأتي في كلام البيضاوى حيث قال: مقتضى النهى فعل الضد ولهذا قيده ابن الحاجب بقوله "طلب فعل غير كف" لأن الفعل المطلوب بالنهى هو الكف عن المنهى عنه والكف فعل على الصحيح.

وأيضًا يرد على الحد قول القائل: أنا طالب منك كذا أو أوجبته عليك وإن تركته عاقبتك فإن الحد صادق عليه مع أنه خبر فلابد أن يضاف إليه قيد "بالوضع أو بالذات". وقد زاد في المحصول قيدًا آخر إذ قال في تعريفه: الحق في حده أنه اللفظ الدال على الطلب المانع من النقيض لما سيأتي أن الأمر حقيقة في الوجوب.

وعقب على ذلك بقوله: الصواب ما قاله المصنف فإن الذي هو حقيقة في الوجوب إنما هو صيغة افعل وكلامنا الآن في لفظ الأمر فهما مسألتان.

ثم ذكر البيضاوى

(2)

أن المعتزلة تعتبر العلو قيدًا في تعريف الأمر وإن أبا الحسين اعتبر في تعريفه قيد الاستعلاء. ولم يوافقهما على ذلك فقال: ويفسرهما قوله تعالى {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}

(3)

.

ووضح الإسنوى ذلك فقال:

(4)

شرط المعتزلة في حد الأمر العلو دون الاستعلاء وتابعهم الشيخ أبو إسحق الشيرازى ونقله القاضي عبد الوهاب في الملخص عن أهل اللغة وجمهور أهل العلم واختاره ثم قال: وشرط أبو الحسين الاستعلاء دون العلو واشتراط الاستعلاء صححه الآمدى في الإحكام منتهى السول ثم ابن الحاجب ونقل عن المحصول أنه الصحيح وصححه أيضا في المنتخب وجزم به في المعالم.

(1)

المصدر السابق ص 248.

(2)

المصدر السابق ص 247.

(3)

الآية 110 سورة الأعراف.

(4)

المصدر السابق ص 249.

ص: 9

احتج أبو الحسين ومن تبعه بأن المتضرع لا يصدق عليه أنه آمر بخلاف المستعلى ولهذا يذمونه لكونه يأمر من هو أعلى منه. ولقائل أن يقول: الزم لمجرد الاستعلاء ثم إن الاستعلاء غير متحقق في أمر الله تعالى. فماذا يقولون فيه؟ وشرط القاضي عبد الوهاب العلو والاستعلاء معًا. وأضاف أن أبا الحسين قد نص في المعتمد على أن الشرط هو انتفاء التذلل.

ثم أوضح الإسنوى معنى قول البيضاوى "ويفسرهما" إلخ فقال: إنه سبحانه أطلق الأمر على ما يقوله فرعون لقومه عند المشاورة. ومن المعلوم انتفاء العلو والاستعلاء.

(1)

كما فرق بين العلو والاستعلاء بأن العلو أن يكون الطالب أعلى مرتبة من المطلوب منه وأما الاستعلاء فهو الطلب لا على وجه التذلل بل بغلظة ورفع صوت. فالعلو هيئة في المتكلم والاستعلاء هيئة في الكلام.

وبعد أن عرف البيضاوى الأمر بأنه "القول الطالب للفعل" قال: "إنه ليس حقيقة في غير ما ذكره" وأشار إلى أن بعضهم يرى أنه مشترك بين القول المذكور وبين الفعل لأنه يطلق عليه مثل قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}

(2)

أي فعلنا لأن الأمر القولى مختلف صيغة ومدلولًا وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}

(3)

أي فعله والأصل في الإطلاق الحقيقة. ورد عليهم بأن المراد بالأمر في المثالين الشأن مجازًا.

(4)

وبين الإسنوى فقال: لما ثبت أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص ذكر البيضاوى أنه لا يكون حقيقة في غيره أيضًا إذ لو كان في غيره لكان مشتركًا والأصل عدم الاشتراك. ونقل عن بعض الفقهاء أنه مشترك بين القول المخصوص والفعل. ونقل الأصفهانى في شرح المحصول عن ابن برهان أنه قول عامة العلماء مستدلين بأنه يطلق على الفعل كما يطلق على هذا القول. وذلك كما في قوله تعالى: أوما أمرنا إلا واحدة" أي فعلنا لأن الأمر القولى مختلف صيغة ومدلولًا ولقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ} أي فعله والأصل في الإطلاق الحقيقة.

وجوابه أن المراد بالأمر في الآيتين المذكورتين هو الشأن مجازًا. وهو أولى من الاشتراك.

ووجه المجاز أن الشأن أعم من القول المخصوص والفعل فالتعبير عنه بالقول من باب إطلاق اسم الخاص وإرادة العام.

وقال أبو الحسين البصرى

(5)

إنه مشترك بين خمسة أشياء أحدها القول المخصوص والثانى الشئ كقولنا تحرك هذا الجسم لأمر أي لشئ الثالث الصفة ودليله قول الشاعر:

عزمت على إقامة ذى صباح

لأمر ما يُسَوَّدُ من يسود

أي لصفة عظيمة من الصفات. والرابع الشأن

(1)

المصدر السابق.

(2)

آية 50 سورة القمر.

(3)

آية 97 سورة هود.

(4)

المصدر السابق ص 251.

(5)

المصدر السابق ص 351.

ص: 10

كقولنا: أمر فلان مستقيم أي شأنه. الخامس الفعل كما تقدم في الآيتين:

فإذا تجرد عن القرائن كقول القائل أمر فلان أو هذا أمر ترددنا بين هذه الخمسة والتردد آية الاشتراك وعلامته.

وجوابه أنا لا نسلم حصول التردد بل يتبادر القول الطالب للفعل. والتبادر أمارة الحقيقة ثم تكلم المصنف وشارحه عن مفهوم الطلب الوارد في تعريف الأمر فقالا: إن الطلب بديهى التصور أي أنه لا يحتاج في معرفته إلى تعريف بحد أو رسم كالجوع والعطش وسائر الوجدانيات فإن من لم يمارس العلوم ولم يعرف الحدود والرسوم يأمر وينهى ويدرك تفرقة ضرورية بينهما.

وقالا: إن هناك فرقًا بين الطلب والإرادة كما أن الطلب غير العبارات المختلفة التي تدل عليه، أما مغايرته للعبارات فلأن الطلب معناه واحد لا يختلف باختلاف الأمم والعبارات مختلفة باختلاف اللغات وأما مغايرته للإرادة فقد خالف فيه المعتزلة. ثم قال:

(1)

"والحاصل أن الأمر اللسانى دال على الطلب بالاتفاق لكن الطلب عندنا غير الإرادة وعند المعتزلة عينها أي لا معنى لكونه طالبًا إلا كونه مريدًا".

‌ثانيًا: طريقة الحنفية

يتضح رأى الحنفية بثلاثة مذاهب نذكرها فيما يلى:

‌1 - البزدوى والبخارى:

قال البخارى في تعليقه على كلام اليزدوى في هذا المقام: يلاحظ أن البزدوى لم يعرف الأمر الذي هو بمعنى القول وقد علل البخارى هذا "بأن القوم اختلفت عباراتهم في تعريفه

(2)

وقد أورد عددًا من هذه التعريفات وذكر أن أقربها إلى الصواب هو: اللفظ الدال على طلب الفعل بطريق الاستعلاء.

ثم قال: واختار بعض المتأخرين أن الأمر اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء. فأراد بالاقتضاء ما يقوم بالنفس من الطلب لأن الأمر بالحقيقة هو ذلك الاقتضاء والصيغة سميت به مجازًا.

ثم بين البخارى الفرق بين ما اختاره وبين غيره مما ذكره المخالفون فقال واعلم أن المخالفين وافقونا على أن الأمر اسم لما هو موجب وأن الإيجاب لا يستفاد إلا بالأمر فصارا متلازمين وأن الصيغة المخصوصة تسمى أمرًا فيحصل بها الإيجاب. ولكن الاختلاف في أن الفعل: هل يسمى أمرًا حقيقة حتى يحصل به الإيجاب؟

فعندنا لا يسمى أمرًا على الحقيقة فلا يستفاد منه الإيجاب، وعندهم يسمى أمرًا بطريق الحقيقة فيفيد الإيجاب، فهذا معنى قول الشيخ اليزدوى "وحاصل ذلك" أي حاصل هذا الاختلاف أن أفعال النبي عليه الصلاة والسلام عندهم موجبة كالأمر المتفق عليه وهو صيغة "افعل".

(1)

المصدر السابق ص 252.

(2)

المصدر السابق ص 101.

ص: 11

وصورة المسألة أنه إذا نقل إلينا فعل من أفعاله عليه الصلاة والسلام التي ليست بسهو مثل الزلات ولا طبع مثل الأكل والشرب ولا هي من خصائصه مثل وجوب الضحى والسواك والتهجد والزيادة على الأربع ولا ببيان لمجمل مثل قطعه يد السارق من الكوع فإنه بيان لقوله تعالى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}

(1)

.

هل يسعنا أن نقول فيه: أمر النبي عليه الصلاة والسلام بكذا. وهل يجب علينا اتباعه في ذلك أم لا؟

قال: عند عامة العلماء لا يصح إطلاقه عليه بطريق الحقيقة ولا يجب الاتباع وأما إذا كان بيانًا لمجمل فيجب الاتباع بالإجماع ولا يجب في الأقسام الأخر بالإجماع.

ثم انتقل إلى بيان الاختلاف في لفظ الأمر فقال: بعضهم يرى أن لفظ الأمر مشترك بين الصيغة المخصوصة والفعل بالاشتراك اللفظى كاشتراك لفظ العين بين مسمياته وقال بعضهم: هو مشترك بالاشتراك المعنوى كاشتراك الحيوان بين الإنسان والفرس.

والحاصل أن الإيجاب مع حقيقة الأمر متلازمان يثبت كل واحد بثبوت الآخر وينتفى بانتفائه فيلزم من انحصار الإيجاب على الصيغة انتفاء الإشتراك في لفظ الأمر ومن ثبوته بغير الصيغة ثبوت الاشتراك، فلهذا يتعرض في الدلائل تارة لنفى الاشتراك وإثباته وتارة لنفى الوجوب عن غير الصيغة وإثباته.

ثم نقل حجج من قال بالاشتراك اللفظى ومنها:

(2)

.

- من الكتاب قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}

(3)

أي فعله وطريقته لأنه وصفه بالرشد.

والفعل إنما يوصف به لا القول. وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}

(4)

وقوله عز اسمه: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}

(5)

أي صنعه.

فأطلق لفظ الأمر في هذه الآيات على الفعل والأصل في الإطلاق الحقيقة:

- ومن السنة ما روى أنه عليه الصلاة والسلام شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاها مرتبة وقال: "صلوا كما رأيتمونى أصلى" وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال في حجة الوداع: "خذوا عنى مناسككم فإنى امرؤٌ مقبوض" فجعل" المتابعة لازمة فثبت بالتنصيص أنه فعل موجب وإن لم يكن موجبًا لذاته كما ثبت بالتنصيص وهو قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}

(6)

أن قوله موجب وإن لم يصلح أن يكون موجبًا لذاته لأنه بشر مثلنا.

ومن اللغة أن اختلاف الجمع في لفظ واحد باعتبار معنيين مختلفين يدل على أنه حقيقة في كل واحد منهما. فإن العود بمعنى الخشب يجمع على عيدان وبمعنى اللهو على أعواد. وقد جمع الأمر بمعنى الفعل على أمور وبمعنى القول على أوامر فيكون الأمر حقيقة فيهما.

(7)

(1)

آية 38 سورة المائدة.

(2)

المصدر السابق ص 103.

(3)

آية 97 سورة هود.

(4)

آية 38 سورة الشورى.

(5)

آية 17 سورة المائدة.

(6)

آية 92 سورة المائدة.

(7)

المصدر السابق.

ص: 12

ثم قال: واحتج الجمهور في نفى الاشتراك اللفظى بأن الأمر لو كان مشتركًا بين القول لمخصوص والفعل لما سبق أحدهما إلى الفهم دون الآخر لأن تناول المشترك للمعانى على السواء. والأمر بخلافه وبأنه حقيقة في القول المخصوص فوجب أن يكون حقيقة في غيره دفعًا للاشتراك.

واحتج من قال بالاشتراك المعنوى:

(1)

بأن القول المخصوص والفعل مشتركان في عام كالشيئية والشأن فيجب جعل اللفظ المطلق عليهما وهو الأمر للمشترك بينهما دفعًا للاشتراك اللفظى والمجاز لأن كل واحد منهما خلاف الأصل.

ورأى الجمهور في نفى الاشتراك المعنوى بأنه لو كان مشتركًا بالاشتراك المعنوى لما فهم منه أحدهما عينًا عند الإطلاق لأن مسماه حينئذ أعم من كل واحد منهما ولا دلالة للحيوان على الإنسان.

ثم قال البزدوى:

(2)

"إذا ثبت أصل الموضوع كان الأمر حقيقة" في صيغة أفعل دون الفعل "فتكون الصيغة لازمة إلا بدليل" يدل على استعمال الأمر في غير الصيغة. ألا ترى أن أسماء الحقائق لا يسقط عن مسمياتها أبدًا وأما المجاز فيصح نفيه؛ يقال للأب الأقرب أب لا ينفى عنه بحال ويسمى الجد أب ويصح نفيه. ثم هاهنا صح أن يقال: إن فلانًا لم يأمر اليوم بشئ مع كثرة أفعاله وإذا تكلم بعبارة الأمر لم يستقم نفيه. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام حين خلع نعليه فخلع الناس نعالهم منكرًا عليهم: "ما لكم خلعتم نعالكم" وأنكر عليهم الموافقة في وصال الصوم فقال: "إنى أبيت يطعمنى ربى ويسقينى" فثبت بذلك أن صيغة الأمر لازمة.

ولا ننكر تسميته مجازًا لأن الفعل يجب به فسمى به مجازًا والنبى عليه الصلاة والسلام دعا إلى الموافقة بلفظ الأمر بقوله: "صلوا كما رأيتمونى أصلى" فدل على أن الصيغة لازمة.

(3)

ووضح ذلك فقال:

(4)

إذا ثبت أن لهذا المعنى عبارة موضوعة في أصل اللغة وهى صيغة "افعل" مثلًا كانت حقيقة في هذا المعنى لا محالة فتكون -الصيغة- لازمة له فيمتنع ثبوته بالفعل إلا بدليل يدل على الوجوب بدون الصيغة على خلاف الأصل.

ثم قال المصنف في شرح التقويم: الفعل لا يصلح أن يكون موجبا لأن الأمر لطلب الوجود من الغير والفعل وتحقيق الوجود ليس فيه دليل طلب الوجود فلا يكون سببا لطلب الوجود وإن دام على ذلك لأن ما لا يدل على طلب الوجود أصلا لا يدل عليه وإن كثر.

وعارض البزدوى ما احتج به المخالفون من السنة وهو ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "خلع النبي عليه الصلاة والسلام نعليه وهو يصلى فخلع من خلفه فقال: ما حملكم على خلع نعالكم؟ فقالوا رأيناك خلعت فخلعنا فقال: إن جبريل أخبرنى أن في إحداهما قذرا فخلعتهما لذلك فلا تخلعوا نعالكم".

(1)

المصدر السابق جـ 1 ص 103.

(2)

المصدر السابق جـ 1 ص 118.

(3)

المصدر السابق جـ 1 ص 106.

(4)

المصدر السابق ص 105.

ص: 13

وفى رواية أبى سعيد الخدرى: "بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلى بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك. قال: إن جبريل عليه السلام أتانى فأخبرنى أن فيهما قذرا. إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا فليمسحه وليصل فيهما.

وما روى أنه عليه الصلاة والسلام واصل فواصل أصحابه فأنكر عليهم ونهاهم عن ذلك وقال: وأيكم مثلى؟ يطعمنى ربى ويسقينى.

ففى إنكار النبي عليه الصلاة والسلام عليهم دليل واضح على أن فعله ليس بموجب إذ لو كان موجبا كالأمر لم يكن لإنكاره معنى كما لو كان أمرهم بذلك وامتثلوا به.

(1)

قال الغزالى رحمه الله: إنهم لم يتبعوه في جميع أفعاله فكيف صار اتباعهم في البعض دليلا ولم يصر مخالفتهم في البعض دليلا.

وقول البزدوى: "لا ننكر تسمية الفعل بالأمر مجازا" جواب عن تمسك المخالفين بقوله تعالى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}

(2)

فمعناه أننا لا ننكر تسمية الفعل بالأمر مجازًا لأن الفعل يجب بالأمر فيجوز أن يسمى بالأمر إطلاقًا لاسم السبب على المسبب. على أنه قيل إن المراد من الأمر في الآية يقصد به القول بدليل قوله {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ}

(3)

أي أطاعوه فيما أمرهم والرشد الصواب وقد وصف القول به.

(4)

وقول البزدوى: والنبى عليه الصلاة والسلام دعا إلى الموافقة بلفظ الأمر بقوله "صلوا كما رأيتمونى أصلى" هو جواب عن تمسكهم بأن الحديث يدل على المتابعة والمتابعة إنما وجبت بقوله "صلوا" لا بالفعل ولو كان الفعل موجبًا بنفسه لما احتيج إلى قوله "صلوا" بعد قوله تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}

(5)

كما لا يحتاج قوله افعلوا كذا إلى شئ آخر يوجب الامتثال به. وقد قال الغزالى في جوابه وجواب أمثاله: إن قوله عليه الصلاة والسلام: "صلوا كما رأيتمونى أصلى" وقوله: "خذوا عنى مناسككم" وقوله: "هذا وضوئى ووضوء الأنبياء من قبلى" بيان منه صلوات الله عليه أن شرعه وشرعهم فيه سواء ففهموا وجوب الاتباع بذلك لا بمجرد حكاية الفعل.

ثم قال البخارى: أما قولهم: اختلاف الجمع يدل على اختلاف المسمى فلا تمسك لهم فيه لأن الأمور جمع الأمر بمعنى الشأن والصفة لا بمعنى الفعل والأعواد والعيدان كلاهما جمع عود مطلقًا كذا في الصحاح أم الأوامر فقد ذكر في المعتمد أنها جمع آمرة لا جمع أمر وهو حق لأن فواعل في الثلاثى جمع فاعل اسما كـ كواهل أو فاعلة اسمًا وصفة كـ كوائب وضوارب فأما فعل فلم يجمع على فواعل ألبتة لكنه قيل أوامر جمع أمر مجازًا كأن صيغة افعل جعلت آمرة وجمعت على أوامر كما جمع نهى على نواه بهذا التأويل. ولهذا يقال: ما له ناهية أي نهى.

(1)

المصدر السابق ص 105.

(2)

آية 97 سورة هود.

(3)

آية 97 سورة هود.

(4)

المصدر السابق ص 106.

(5)

آية 92 سورة المائدة.

ص: 14

‌2 - النسفى وابن الملك

عرّف النسفى الأمر بأنه قول القائل لغيره على سبيل الاستعلاء "افعل".

(1)

وقال ابن الملك في شرحه: إنه احترز بالقيد الأول عن الفعل والإشارة وبالقيد الثاني عن الدعاء والالتماس فإن قوله "افعل" بهذين الوجهين لا يكون أمرًا وقيد "بالسبيل" إشارة إلى أن العلو في الواقع ليس بشرط حتى إن صدرت صيفة "افعل" ممن هو أدنى حالًا من المأمور على وجه الاستعلاء يكون أمرًا ولهذا ينسب إلى سوء الأدب.

وقال الرهاوى في حاشيته على هذا الموضوع

(2)

:

إن النسفى يحترز أيضًا بالقيد الأول عن حديث النفس والكلام النفسى فإنه لا يطلق عليه القول في هذا الاصطلاح. كما أن كلمة "السبيل" في تعريف النسفى تعطى معنى القصد والاعتبار فيخرج ما صدر عن غير قصد كما في حال الجنون والإغماء والنوم والسهو.

وعلق الرهاوى أيضًا على قول ابن الملك إن عبارة "على سبيل الاستعلاء" تخرج الدعاء والالتماس فقال: إن الصيغة الدالة على طلب الفعل دلالة وضعية إن قارنت الاستعلاء فهو أمر وإن قارنت التساوى فهو التماس وإن قارنت الخضوع فهو سؤال ودعاء.

وعلى قوله: "إن العلو الواقع ليس بشرط" فقال: بل الشرط أن يعد الآمر نفسه عاليًا سواء أكان عاليًا في نفس الأمر أم لا.

(3)

ثم قال: إنه يترتب على اعتبار الاستعلاء في تعريف الأمر أن يكون قوله تعالى حكاية عن فرعون لقومه {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} مجازًا أي تشيرون لأن قولهم {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ} لم يكن على سبيل الاستعلاء لأنهم ما كانوا مستعلين عليه فهو في قوة "نشير بكذا".

ثم أورد اعتراضا على قيد الاستعلاء في تعريف الأمر بقوله: ولقائل أن يقول: بعد تسليم أن المعتبر فيه الاستعلاء كما اختاره أكثر الأصوليين. هو أن المعرف هو الأمر الذي يجب امتثاله فلا يجب ذلك إلا إذا كان الآمر أعلى رتبة من المأمور في نفس الأمر.

ثم قال ابن الملك:

(4)

إن الأمر يطلق على نفس صيغة "افعل" صادرة عن القائل على سبيل الاستعلاء وعلى نفس التكلم بالصيغة وكذلك القول يطلق بمعنى المقول وبمعنى المصدر ويمكن تطبيق التعريف المذكور على الاعتبارين لكن كونه بمعنى المقول أولى لأن الأمر والنهى من أقسام الإنشاء والإنشاء قسم من اللفظ.

لكن ينقل الرهاوى عن بعض الشراح اختيار أن المراد بالقول المعنى المصدرى لا المقول كما خطر ذلك في بعض الأذهان لأن ذلك هو صيغة الأمر كما صرح به صاحب المفتاح وصاحب الكشاف والإمام الرازى.

(1)

شرح المنار وحواشيه من علم الأصول للعلامة ابن الملك على متن المنار للإمام النسفى مطبعة دار سعاد 1315 جـ 1 ص 108.

(2)

حاشية الرهاوى على شرح المنار جـ 1 ص 108.

(3)

المصدر السابق ص 109.

(4)

المصدر السابق ص 110.

ص: 15

ولهذا قال ابن الحاجب: الأمر اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء. وأريد بالاقتضاء ما يقوم بالنفس من الطلب لأن الأمر في الحقيقة هو ذلك الاقتضاء والصيغة سميت به مجازًا لدلالتها عليه وإذا كان القول بمعنى المقول يكون هذا التعريف مناسبًا لمذهب المعتزلة لأنهم لما أنكروا الكلام النفسى لزمهم أن يحدوه بالكلام اللفظى فقالوا الأمر عبارة عن قول القائل إلخ.

وأما مذهب أهل السنة فالأمر في الحقيقة هو المعنى القائم في النفس فيكون قوله "افعل" عبارة عن الأمر لا حقيقة الأمر.

ويمكن أن يجاب بأن بحث الأصولى ليس في الكلام النفسى وإنما يبحث عن المتكلم ولا يضر كونه مناسبًا لمذهب المعتزلة فإنه في الوقت نفسه مناسب لاعتبارنا للأمر من قبيل الخاص الذي هو من أقسام القرآن والقرآن الكريم عبارة عن النظم والمعنى وبحث الأصولى ليس إلا فيه من هذه الحيثية "الألفاظ ومعانيها"

(1)

ثم أورد ابن الملك اعتراضًا على تعريف النسفى للأمر فقال:

(2)

ولقائل أن يورد عليه أنه إن أراد اصطلاح العربية فالتعريف غير جامع لأن صيغة "افعل" عندهم أمر سواء كان على طريق الاستعلاء أو غيره، وأن أراد اصطلاح أهل الأصول فغير مانع لأن صيغة افعل على طريق الاستعلاء قد تكون للتهديد والتعجيز ونحو ذلك وليست بأمر لأنه لم يستعمل الطلب.

ثم ناقش ما استدلوا به بمثل ما سبق نقله عن اليزدوى والبخارى. ويستدرك عزمى زاده في حاشيته على المنار على القول "بأنه لا خلاف بيننا وبينهم في أن الأمر اسم لما هو موجب" إلخ.

فقال: "وأيضًا لا خلاف في أن الصيغة المخصوصة تسمى أمرًا على الحقيقة فيحصل به الإيجاب".

‌ثالثًا: طريقة المتأخرين

وهم الذين جمعوا بين طريقة المتكلمين كالآمرى وابن الحاجب والبيضاوى والأسنوى وطريقة الحنفية كاليزدوى وعبد العزيز البخارى والنسفى وشراح كتبهم.

من هؤلاء صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود صاحب التنقيح وشراحه والكمال بن الهمام في التحرير وشرحه والسبكى في جمع الجوامع وشرحه للمحلى. وغيرهم.

‌1 - صدر الشريعة

قال:

(3)

الأمر قول القائل استعلاء "افعل"

وفسر التفتازانى الاستعلاء بأنه طلب العلو وعد نفسه عاليًا واحترز بقيد الاستعلاء عن الدعاء والالتماس مما هو بطريق الخضوع أو التساوى ولم يشترط العلو ليدخل فيه قول الأدنى للأعلى "افعل" على سبيل الاستعلاء. ولهذا ينسب إلى سوء الأدب. وعلى هذا يكون قول فرعون لقومه: "ماذا تأمرون" مجازًا أي تشيرون.

والمراد بقوله "افعل" ما يكون مشتقًا من مصدر على طريقة اشتقاق افعل من الفعل.

(1)

المصدر السابق ص 11.

(2)

المصدر السابق.

(3)

شرح التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود وحواشيه. السبعة الأولى بالمطبعة الخيرية 1322 جـ 2 ص 44.

ص: 16

ثم بين صدر الشريعة ما يستعمل فيه لفظ الأمر حقيقة فقال: إنه حقيقة في القول اتفاقًا مجاز عن الفعل عند الجمهور وعند البعض حقيقة فيه.

وأورد أدلة القائلين بالاشتراك بين القول والفعل وناقشها بما لا يختلف في جملته عما سبق إيراده عن كتب الحنفية.

ثم أيد مذهب الجمهور فقال:

(1)

إننا إذا سلمنا -جدلًا- أنه حقيقة في الفعل فإن الدلائل تدل على أن القول للإيجاب لا الفعل وبين ذلك فقال:

إن الدلائل التي تدل على أن الأمر للإيجاب تدل على أن الأمر القولى للإيجاب لا الفعلى فإن تلك الدلائل في غير قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}

(2)

يراد بها الأمر القولى ولا يمكن حملها على الفعلى وأما في الآية الكريمة فالضمير في أمره إن كان راجعًا إلى الله تعالى لا يمكن حمله على الفعل وإن كان راجعًا إلى الرسول فالقول مراد إجماعًا فلا يحمل على الفعل لأن المشترك لا يراد به أكثر من معنى واحد. على أنا لا نحتاج إلى إقامة الدليل على أن الفعل غير مراد بل هو محتاج إلى إقامة الدليل على أن المراد الفعل. ونحن في صدد المنع. فصح ما قلنا إن الدلائل الدالة على أن الأمر للإيجاب لا تدل على أن الفعل للإيجاب.

وقال الغزى تعليقا على قول صدر الشريعة "سلمنا".

لما كان الأصل وهو كون الأمر حقيقة في الفعل بحثا لغويا ربما يمكن إثباته بالنقل عن أئمة اللغة أو الشيوع في الاستعمال سلمه واشتغل بما هو من مباحث الأصول وهو كون الفعل موجبا أو غير موجب فأبطل التشريع أولا والفرع ثانيا والدليل ثالثا.

أما الأول: فلأن الدلائل المذكورة على كون الأمر للإيجاب إنما تدل على أن الأمر بمعنى القول المخصوص للإيجاب ولا تدل على أن الأمر بمعنى فعل النبي عليه الصلاة والسلام للإيجاب. واستدل صدر الشريعة على أن الفعل غير مراد بأن القول مراد إجماعا فلا يراد الفعل لأن المشترك لا عموم له. وما كان من مذهب الخصم عموم المشترك أو أعرض عن الاستدلال إلى المنع لأن الخصم هو الذي يستدل على كون الأمر للإيجاب قولا كان أو فعل فيكفينا أن نقول: لا نسلم أن الأمر بمعنى الفعل مراد من الأدلة الدالة على كون الأمر للوجوب. أما في غير قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} فظاهر وأما في هذه الآية فلتوقفه على عموم المشترك. وهو ممنوع.

وأما الثاني: وهو إبطال كون الفعل موجبًا فلأن تعدد الدال مع اتحاد المدلول خلاف الأصل لحصول المقصود بواحد اتفاقا وهاهنا اللفظ موضوع للإيجاب اتفاقا فالقول بكون الفعل أيضا للإيجاب مصير إلى ما هو خلاف الأصل فلا يرتكب إلا بدليل كما في تعدد المدلول مع اتحاد الدال أعنى الاشتراك. وإطلاق الترادف على توافق القول والفعل في الدلالة على الإيجاب خلاف الاصطلاح لأنه إنما يطلق على توافق اللفظين. ولكن المقصود واضح.

(1)

المصدر السابق جـ 2 ص 49.

(2)

آية 63 سورة النور.

ص: 17

وقد يقال: إن الموضوع للمعانى إنما هي المبارات لا غير وهى وافية بالمقاصد بل زائدة عليها فيكون الدال على الإيجاب هو القول لا الفعل. وأيضًا المقصود بالأمر من أعظم المقاصد لكونه مَبْنَى الأحكام ومناط الثواب والعقاب فيجب أن يختص بالصيغة ولا يحصل بغيرها كمقاصد الماضي والحال والاستقبال لا تحصل إلا بصيغتها. وكلاهما ضعيف لأن انحصار الموضوع في اللفظ ووفاء بالمقاصد في حيز المنع. وعلى تقدير التسليم لا ينافى كون الفعل للإيجاب لأن القائلين به لا يدعون كونه موضوعًا لذلك بل يدعون أنه يجب علينا اتباع النبي عليه الصلاة والسلام في أفعاله التي ليست بسهو ولا طبع ولا مختصة به للدلائل الدالة على ذلك وعظم المقصود لا يقتضى اتحاد الدال عليه. بل تعدده لشدة الاهتمام به وكثرة الاحتياج إليه ولهذا كثرت الألفاظ المترادفة فيما لهم به اهتمام.

وأما الثالث: وهو إبطال احتجاجهم على الفرع فلأن كون فعله موجبًا مستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام "صلوا كما رأيتمونى أصلى" وهو صيغة الأمر لا من نفس الفعل وإلا لما احتيج لهذا الأمر بعد قوله تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}

(1)

.

والأقرب أن يقال: وجوب الاتباع في الصلاة ثبت بهذا الحديث لا بالفعل فالموجب هو القول لا غير.

(2)

‌2 - الكمال بن الهمام

قال:

(3)

إن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص اتفاقًا ثم قيل مجاز في الفعل وقيل مشترك لفظى فيهما وقيل مشترك معنوى وقيل موضوع للفعل الأعم من اللسانى وقيل موضوع لأحدهما الدائر بين القول الخاص والفعل.

وبعد أن ذكر تعريف ابن الحاجب للأمر النفسى وناقشه قال:

(4)

الأليق بالأصولى تعريف الصيغى لأنه بحث علم الأصول عن الأدلة اللفظية السمعية من يوصل العلم بأحوالها العارضة لها من عموم وخصوص وغيرها إلى قدرة إثبات الأحكام الشرعية للمكلفين. وإن كان مرجع الأدلة السمعية إلى الكلام النفسى.

والأمر اللفظى اصطلاحًا صيغته المعلومة سواء كانت على سبيل الاستعلاء أو العلو أولًا.

وهو لغة الصيغة المعلومة في الطلب الجازم أو اسمها كصه ونزال مع استعلاء بخلاف فعل الأمر فإنه لا يشترط فيه الطلب الجازم ولا الاستعلاء فيصدق الأمر بالمعنى اللغوى مع العلو وعدمه. وعليه الأكثر وأهدر الاستعلاء والعلو -أبو الحسن الأشعرى وبه قال أكثر الشافعية- وأما المعتزلة فإنهم يعتبرون في مفهومه العلو إلا أبا الحسين منهم ووافقهم أبو إسحق الشيرازى وابن الصباغ والسمعانى من الشافعية ونقله القاضي عبد الوهاب في الملخص عن أهل اللغة وجمهور أهل

(1)

آية 92 سورة المائدة.

(2)

المصدر السابق جـ 2 ص 49.

(3)

التقرير والتحبير شرح العلامة أمير الحاج على تحرير الإمام الكمال بن الهمام الطبعة الأولى المطبعة الأميرية ببولاق جـ 1 ص 297.

(4)

المصدر السابق جـ 1 من 300.

ص: 18

العلم واختاره مع الاستعلاء. غير أن المصنف قال: إنه لا أمر عند المعتزلة إلا الصيغة لإنكارهم الكلام النفسى وإن نفى الأشعرى العلو يرجح بكون العقلاء يلزمون الأدنى بأمر الأعلى. ونفيه الاستعلاء يترجح بقوله تعالى حكاية عن فرعون {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}

(1)

خطابًا لقومه فإنه أطلق الأمر على قولهم المقتضى له فعل غير كف ولم يكن لهم استعلاء عليه وكيف وهم كانوا يعبدونه والعبادة أقصى غاية الخضوع ثم قال:

(2)

إن القاضي أبا بكر وإمام الحرمين والغزالى قد عرفوا الأمر بأنه "القول المقتضى بنفسه طاعة المأمور بفعل المأمور به" قالوا فالقول احتراز عما عدا الكلام و"المقتضى" احتراز عما عدا الأمر من أقسام الكلام وأن قولهم "بنفسه" لقطع وهم من يحمل الأمر على العبارة فإنها لا تقتضى بنفسها.

وقال: إن هذا الحد يستلزم الدور من ثلاثة أوجه: هي ذكر الطاعة والمأمور والمأمور به في التعريف لأن الطاعة موافقة الأمر والمأمور مشتق من الأمر فيتوقف معرفة كل منهما على معرفة الأمر لأن المضاف من حيث هو مضاف لا يعلم إلا بمعرفة المضاف إليه. ومعنى المشتق منه موجود في المشتق وزيادة والفرض أن الأمر يتوقف معرفته على هذه الثلاثة.

ودفع هذا الاعتراض نقلا عن القاضي عضد الدين بأنا إذا علمنا الأمر من حيث هو كلام علمنا المخاطب به وهو المأمور وما يتضمنه وهو المأمور وفعله وهو الطاعة من غير توقف على معرفة حقيقة الأمر المطلوب بالتعريف.

ثم نقض الدفع بما لا تدعو الحاجة إلى إيراده وأورد تعريفين آخرين أحدهما أن الأمر هو الخبر عن استحقاق الثواب واعترض عليه والثانى تعريف المعتزلة أي جمهورهم وهو قول القائل لمن دونه افعل وناقشه بمثل ما سبق.

(3)

‌رابعا: الزيدية

قال الشوكانى:

(4)

المختار أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص فقط.

وبعد أن نقل مذاهب الأصوليين في هذا ومناقشاتهم أورد التعريفات التي سبق إيرادها وما اعترض به على كل تعريف منها وقال.

(5)

إذا تقرر ما ذكرنا وعرف ما فيه فاعلم أن الأولى بالأصولى تعريف الأمر الصيغى لأن بحث هنذا العلم عن الأدلة السمعية وهى الألفاظ الموصلة من حيث المعلوم بأحوالها من عموم وخصوص وغيرهما إلى قدرة إثبات الأحكام.

والأمر الصيغى في اصطلاح أهل العربية صيغته المعلومة سواء كانت على سبيل الاستعلاء أو لا، وعند أهل اللغة هي صيغته المعلومة المستعملة في الطلب الجازم مع الاستعلاء.

هذا باعتبار لفظ الأمر الذي هو "أ. م. ر" بخلاف فعل الأمر نحو "اضرب" فإنه لا يشترط فيه ما ذكر بل يصدق مع العلو وعدمه. وعلى هذا أكثر أهل الأصول.

(1)

آية 110 سورة الأعراف.

(2)

المصدر السابق جـ ص 301.

(3)

المصدر السابق جـ 1 ص 302.

(4)

إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكانى الطبعة الأولى سنة 1356 هـ مطبعة الحلبى ص 91.

(5)

المصدر السابق ص 93.

ص: 19

‌خامسًا: الشيعة الجعفرية:

قال في قوانين الأصول:

(1)

الأمر على ما ذكره أكثر الأصوليين: هو طلب فعل بالقول استعلاء. والأولى اعتبار العلو مع ذلك كما اختاره جماعة.

والمراد بالتعالى من كان له تفوق يوجب إطاعته عقلا أو شرعًا. وقيل هو الطلب من العالى. وما قيل باشتراكه مع ذلك بين الفعل والشأن وغير ذلك بعيد لعدم تبادرها والمجاز خير من الاشتراك. والاستعمال أعم من الحقيقة. وظنى أن من يقول بأن الأمر. أعنى المركب من "أ. م. ر" حقيقة في الوجوب هو ممن يقول بالقول الأول. ولابد أن يقول به ليناسب تعريفه الاصطلاحى معناه العرفى إذ الاستعلاء ظاهر في الالزام إذ لا معنى لإظهار العلو في المندوب وادعائه كما لا يخفى. وهو الأظهر عندى للتبادر وللآيات والأخبار مثل {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}

(2)

{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}

(3)

"ولولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك" وقوله صلى الله عليه وسلم لبريرة بعد قولها: "أتأمرنى يا رسول الله" حيث طلب مراجعتها إلى زوجها: "لا بل إنما أنا شافع".

فكل ما ثبت كونه أمرًا أو صدق عليه هذا المفهوم يستفاد منه الوجوب لأن كون المشتقات من هذا المبدأ حقيقة في الوجوب وكون المبدأ أعم منه كما ترى. فالوجوب مأخوذ من مفهوم الأمر فالتعريف الأول مناسب لمعناه العرفى المتبادر منه، ومن يقول بعدم إفادته الوجوب ولا يأخذ الوجوب في مفهوم الأمر فهو إما ممن يقول بأن الأمر هو الطلب من العالى لا من حيث إنه مستعل وهو باطل أو يأخذ الاستعلاء في مفهوم الندب أيضا ويجعله أعم من الندب وهو باطل كذلك.

‌سادسًا: الإباضية:

قال صاحب طلعة الشمس:

(4)

اتفق الكل على أن الأمر حقيقة في القول المخصوص. واختلفوا فيما عدا ذلك. وذكر الخلاف السابق بإيجاز. ثم عرف الأمر بأنه "طلب فعل غير كف لا على وجه الدعاء."

يدخل في قوله "طلب فعل" النهى على مذهب من جعل الترك فعلًا لكن خرج النهى بقوله "غير كف" لأن النهى إنما هو طلب فهل هو كف. وبعضهم يرى الترك ليس بفعل فلم يؤكد هذا القيد لحصول التحرز عن النهى بقوله "طلب فعل" ودخل أيضا الدعاء وهو طلب العبد من ربه الهداية أو نحوها لكنه خرج بقوله "لا على وجه الدعاء" فإن الطلب الجارى على وجه الدعاء لا يسمى أمرًا. وزاد بعضهم قيدًا آخر وهو أن يكون على جهة الاستعلاء. وفسروا الاستعلاء بأنه إظهار العلو سواء أكان ذلك موجودا في الآمر في نفس الأمر أم غير موجود فيه واحترزوا بهذا القيد عن قول الرجل لمن يساويه مرتبة "افعل كذا" وهو غير مستعل عليه فإن هذا عندهم

(1)

قوانين الأصول للمحقق الفقيه ميرزا أبو القام القمى ص 81 طبع حجر.

(2)

آية 63 سورة النور.

(3)

آية 12 سورة الأعراف.

(4)

كتاب شرح طلعة الشمس على الألفية لأبى محمد عبد الله بن حميد الساعى. مطبعة الموسوعات بمصر جـ 1 ص 35.

ص: 20

يخص باسم الالتماس. وقد أسقط المصنف هذا القيد لعدم احتياج الآمر إليه، فإن الطلب المخصوص يسمى أمرًا سواء حصل في الآمر صفة الاستعلاء أم لم تحصل وتخصيص الآمر للمساوى بالالتماس لا يمنع من تسميته أمرًا حقيقة.

‌صيغة الأمر

من تتبع كتب الأصول فإنه يجدها لا تعنى بالاهتمام بتحديد صيغة الأمر على مذهب كما سيتبين من عرض النقول في ذلك.

‌قول الغزالى في هذا المقام:

(1)

حكى بعض الأصوليين خلافًا في أن الأمر هل له صيغة؟ وهذه الترجمة خطأ فإن قول الشارع أمرتكم بكذا، وأنتم مأمورون بكذا أو قول الصحابي أمرت بكذا. كل ذلك صيغ دالة على الأمر.

وإذا قال: أوجبت عليكم أو فرضت عليكم أو أمرتكم بكذا، وأنتم معاقبون على تركه فكل ذلك يدل على الوجوب.

ولو قال: أنتم مثابون على فعل كذا ولستم معاقبين على تركه فهو صيغة دالة على الندب فليس في هذا اختلاف. وإنما الخلاف في أن قوله افعل هل يدل على الأمر بمجرد صيغته إذا تجرد عن القرائن فإنه قد يطلق على أوجه. وذكر الأوجه التي سنوردها عند بيان معاني الصيغة.

ويقول الآمدى:

(2)

اختلف القائلون بكلام النفس: هل للأمر صيغة تخصه وتدل عليه دون غيره في اللغة أم لا؟ فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعرى. رحمه الله. ومن تابعه إلى النفى وذهب من عداهم إلى الإثبات. قال إمام الحرمين والغزالى: والذي نراه أن هذه الترجمة عن الأشعرى خطأ.

وذكر في إيجاز ما نقلناه عن الغزالى في وجه التخطئة وصور أن الخلاف في أن صيغة افعل: هل هي خاصة بالأمر أو لا لكونها مترددة بين محامل ومعان كثيرة يأتى ذكرها.

ثم رد الآمدى هذه التخطئة فقال:

واعلم أنه لا وجه لاستبعاد هذا الخلاف. وقول القائل أمرتك؛ وأنت مأمور لا يرفع الخلاف إذ الخلاف إنما هو في صيغة الأمر الموضوعة للإنشاء وما كان مثل هذه الصيغ أمكن أن يقال إنها إخبارات عن الأمر لا إنشاءات وإن كان الظاهر صحة استعمالها للإنشاء فإنه لا مانع من استعمال صيغة الخبر للإنشاء كما في قوله: طلقت، وبعت، واشتريت ونحوه.

(3)

وبيانه أنه إذا قال لزوجته: طلقتك فإن الطلاق يقع عليه إجماعًا ولو كان إخبارًا لكان إخبارًا عن الماضي أو الحال لعدم صلاحية هذه الصيغة للاستقبال ولو كان كذلك لم يخل إما أن يكون قد وجد منه الطلاق أو لم يوجد فإن كان

(1)

المستصفى جـ 1 ص 417.

(2)

الإحكام جـ 2 ص 205.

(3)

المصدر السابق ص 206.

ص: 21

الأول امتنع تعليقه بالشرط في قوله: إن دخلت الدار" لأن تعليق وجود ما وجد على وجود ما لم يوجد محال. وإن كان الثاني وجب أن يعد كاذبا وأن لا يقع الطلاق عليه وهو خلاف الإجماع.

وإن قدر أنه إخبار عن المستقبل مع الإحالة أيضا أن لا يقع به الطلاق كما لو صرح بذلك وقال لها ستصيرين طالقًا في المستقبل فإنه لا يقع به الطلاق مع أنه صريح إخبار عن وقوع الطلاق في المستقبل. فما ليس بصريح أولى. وإذا بطل كونه إخبارًا تعين أن يكون إنشاء إذ الإجماع منعقد على امتناع الخلو منها فإذا بطل أحدهما تعين الآخر.

(1)

ومهما يكن فإن معنى صيغة الشئ اللفظ الذي يستعمل للدلالة عليه. والألفاظ التي تستعمل للدلالة على الأمر لا تعدو خمسة أشياء: صيغة افعل؛ والمضارع المقترن بلام الأمر واسم فعل الأمر. والمصادر الدالة على الطلب. والجملة الخبرية. كما ورد في كتب الأصول والنحو والأصوليون لا يخرجون في استمداد ذلك عن كتب النحو واللغة.

ويقول الإسنوى

(2)

في شرح المنهاج:

"إن البيضاوى شرع في ذكر صيغة الأمر وفى أفعل ويقوم مقامها اسم الفعل والمضارع المقترن باللام".

وكذلك قال ابن السبكى في شرحه له:

(3)

"إن المراد بقوله. افعل ما يكون مشتقا من مصدر على طريقة اشتقاق افعل من الفعل".

ويقول الغزى في التعليق على ذلك:

(4)

"إن أسماء الأفعال الدالة على الطلب ملحقة بالأمر عند الأصوليين وإن المراد بقوله "على طريقة اشتقاق افعل" نوع هذه الطريقة وهى اشتقاق الأمر من المصدر مطلقًا فيتناول أمر المزيدات وأمر الغائب .. ثم يقول: "إن الحق ما جاء في إيضاح المفصل من أن افعل علم جنس لكل ما يدل على الطلب من لغة العرب".

(5)

وخير تعليق في هذا المقام ما ذكره مثلًا خسرو إذ يقول: "إنه لم يرد بالطريقة خصوص هذه الطريقة لفساده بل نوع هذه الطريقة وهو طريقة اشتقاق الفعل من المصدر مطلقًا".

(6)

ويقول النحويون في كتبهم عند تقسيم الأفعال: إن علامة الأمر أن يقبل نون التوكيد مع دلالته على الأمر فإن دل على الأمر ولم يقبل النون فهو اسم فعل كنزال بمعنى انزل ودراك بمعنى أدرك.

(7)

وأما المضارع المقترن بلام الأمر فقد ذكره النحويون في جوازم الفعل المضارع فقالوا: إن من جوازم الفعل المضارع اللام الطلبية سواء كانت آمرًا إيجابيًا نحو: "لينفق ذو سعة من سعته" أو دعاء نحو {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} .

(8)

(1)

المصدر السابق ص 207.

(2)

نهاية السول ص 254.

(3)

التلويح والتوضيح ص 2، ص 45.

(4)

المصدر السابق.

(5)

المصدر السابق.

(6)

المصدر السابق.

(7)

أوضح المسالك ص 7، 8 مطبعة السعادة سنة 1949.

(8)

آية 77 سورة الزخرف.

ص: 22

ولدينا في السنة كثير من ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"

(1)

.

ويقول ابن الملك استدراكًا على من أراد أن يجعل تعريف الأمر شاملًا لكل الصيغ التي على طريقة افعل فقط إن هذا يخرج أمر الغائب عن التعريف .. ثم قال: "والأصوب أن يقال إن مراده من افعل ما يدل على طلب فعل ساكن الآخر"

(2)

.

ويقول الرهاوى: إن بعضهم يرى زيادة قيد آخر هو ما يقوم مقام افعل ليتدرج الأمر من غير العربية وسائر صيغ الأمر.

(3)

وأما اسم الفعل فإن النحويين يعرضون اسم الفعل مطلقًا بأنه ما ناب عن الفعل معنى واستعمالًا ويقسمونه ثلاثة أقسام كالفعل ويقولون إن وروده بمعنى الأمر كثير مثل صه ونزال.

(4)

ويقولون إن منه ما هو متقول من ظرف أو جار ومجرور نحو عليك بمعنى الزم ومنه قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}

(5)

أي الزموا شأن أنفسكم ونحو دونك زيدًا بمعنى خذه ومكانك بمعنى اثبت وأمامك بمعنى تقدم ووراءك بمعنى تنح. ويكون منقولًا من مصدر سواء كان فعله مستعملًا نحو فضرب الرقاب أو كان فعله مهملًا نحو بل زيدًا فإنه في الأصل مصدر فعل مهمل مرادف لدع واترك.

وفى الكتاب والسنة أمثلة عديدة لأسم الفعل لا مجال لذكرها هنا.

ويقول الغزى في تعليقه على التوضيح: إن أسماء الأفعال الدالة على الطلب ملحقة بالأمر عند الأصوليين فلا يضر عدم دخولها في تعريف الأمر.

(6)

وأما المصدر الدال على الطلب فقد نص عليه النحويون في باب المفعول المطلق فقالوا إن المصدر يقوم مقام الفعل. قال ابن هشام: قد يقام المصدر مقام فعله فيمتنع ذكره معه ثم قسمه قسمين منهما ماله فعل ومن هذا النوع ما هو واقع في الطلب سواء كان دعاء نحو سقيا ورعيا أو أمرًا أو نهيًا نحو قيامًا لا قعودًا

(7)

ومنه قوله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} .

(8)

ويقول الألوسى في الآية الكريمة إن ضرب على الآية منصوب على المصدر لفعل محذوف والأصل اضربوا الرقاب ضربًا.

(9)

وأما الخبر الدال على الأمر فقد نص عليه الأصوليون وعلماء البلاغة وهو مجاز في ذلك وقد تعرض له صدر الشريعة ابن مسعود وذكر نكتة التعبير به يدل صيغة افعل فقال:

(10)

"إن إخبار الشارع آكد من الإنشاء في مثل هذا لأنه أدل على الوجود وإنما عدل عن الأمر إلى الإخبار لأن المخبر به إذا لم يوجد يلزم كذب الشارع والمأمور به إذا لم يوجد لا يلزم ذلك فإذا

(1)

صحيح مسلم ص 49 جـ 1 المطبعة المصرية.

(2)

المنار جـ 1 ص 110.

(3)

المصدر السابق.

(4)

أوضح المسالك ص 195.

(5)

آية 105 سورة المائدة.

(6)

التلويح والتوضيح ص 45 جـ 2.

(7)

أوضح المسالك ص 94.

(8)

آية 4 سورة محمد.

(9)

روح المعانى ص 39 جـ 16.

(10)

التلويح والتوضيح ص 44 جـ 2.

ص: 23

أريد المبالغة في وجود المأمور به عدل إلى الإخبار مجازًا".

وعلق التفتازانى على ذلك فقال:

(1)

"ولما كان مدلول الخبر هو الحكم بثبوت مفهوم لمفهوم أو نفيه عنه فالمحكوم به في خبر الشارع إن كان هو الحكم الشرعى مثل قوله سبحانه {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}

(2)

{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فلا يخفى أنه يفيد ثبوت الحكم الشرعى من غير أن يجعل مجازًا عن الإنشاء وإن لم يكن المخبر به هو الحكم الشرعى فوجه إفادته للحكم الشرعى أن يجعل الإثبات مجازًا عن الأمر والنفى مجازًا عن النهى فيفيد ثبوت الحكم الشرعى بأبلغ وجه لأنه إذا لم يتحقق ذلك لزم كذب الشارع وأطال في رد شبهة ترد على ذلك".

وقد تناوله السعد باختصار في شرحه على تلخيص المفتاح عند قوله "ثم الخبر قد يقع موقع الإنشاء" وذكر أسبابًا منها أن ذلك يكون لحمل المخاطب على المطلوب بأنه يكون ممن لا يجب أن يكذب الطالب ومثل له السعد بقولك لصاحبك الذي لا تحب تكذيبه؛ تأتينى غدًا.

(3)

‌ما تدل عليه صيغة الأمر

‌أولًا: مذهب الشافعية ومن وافقهم

‌1 - الغزالى

قال الغزالى:

(4)

الخلاف بين الأصوليين في قول الشارع "افعل" هل يدل على الأمر بمجرد صيغته إذا تجرد عن القرائن فإنه قد يطلق على أوجه منها: الوجوب كقوله {أَقِمِ الصَّلَاةَ}

(5)

والندب كقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}

(6)

والإرشاد كقوله {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}

(7)

والإباحة كقوله {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}

(8)

والتأديب كقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس "كل مما يليك"

(9)

والامتنان كقوله سبحانه {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} والإكرام كقوله {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} والتهديد كقوله {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} والتسخير كقوله {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}

(10)

والإهانة كقوله {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}

(11)

والتسوية {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} والإنذار كقوله {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا} والدعاء كقول القائل "اللهم اغفر لى" والتمنى كقول امرئ القيس "ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى" ولكمال القدرة كقوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ}

(12)

.

ثم قال:

(13)

فهذه خمسة عشر وجها في إطلاق صيغة الأمر فلابد من البحث عن الوضع الأصلى في جملة ذلك ما هو؟ والمتجوز به ما هو؟

وهذه الأوجه عدها الأصوليون شغفا منهم بالتكثير وبعضها كالمتداخل فإن قوله: "كل مما

(1)

المصدر السابق.

(2)

آية 148 سورة البقرة.

(3)

انظر الشرح المطول على تلخيص المفتاح ص 346.

(4)

المستصفى جـ 1 ص 417.

(5)

آية 78 سورة الإسراء.

(6)

آية 33 سورة البقرة.

(7)

آية 282 سورة البقرة.

(8)

آية 2 سورة المائدة.

(9)

المعروف أن هذا الحديث لعمر بن أبي سلمة ربيب النبي عليه السلام وهو مروى في صحيح البخارى في ثلاثة أحاديث كل منها في شأن عمر بن أبى سلمة راجع البخارى بشرح الكرمانى.

(10)

آية 65 سورة البقرة.

(11)

آية 49 سورة الدخان.

(12)

آية 47 سورة آل عمران.

(13)

المستصفى جـ 1 ص 418.

ص: 24

يليك" جعل للتأديب وهو داخل في الندب والآداب مندوب إليها. وقوله "تمتعوا" للإنذار قريب من قوله "اعملوا ما شئتم"

(1)

الذي هو للتهديد.

ومضى في بحثه فقال: "لا تطول بتفصيل ذلك وتحصيله فالوجوب والندب والإرشاد والإباحة أربعة وجوه محصلة ولا فرق بين الإرشاد والندب إلا أن الندب لثواب الآخرة والإرشاد للتنبيه على المصلحة الدنيوية فلا ينقص ثواب بترك الإشهاد في المداينات ولا يزيد بفعله".

"وقال قوم هو مشترك" وقال قوم يدل على أقل الدرجات وهو الإباحة. وقال قوم هو للندب ويحمل على الوجوب بزيادة قرينة وقال قوم هو للوجوب فلا يحمل على ما عداه إلا بقرينة".

"وسبيل كشف الغطاء أن ترتيب النظر في مقامين:

الأول: في بيان أن هذه الصيغة هل تدل على اقتضاء وطلب أم لا؟

الثاني: في بيان أنه إن اشتمل على اقتضاء فالاقتضاء موجود في الندب والوجوب على اختيارنا في أن الندب داخل تحت الأمر. فهل يتعين لأحدهما؟ أو هو مشترك؟

ثم قال: قد أبعد من قال إن قوله افعل مشترك بين الإباحة والتهديد الذي هو المنع وبين الاقتضاء. فإنا ندرك التفرقة في وضع اللغات كلها بين قولهم افعل ولا تفعل وإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل حتى إذا قدرنا انتفاء القرائن كلها وقدرنا هذا منقولًا على سبيل الحكاية عن ميت أو غائب لا في فعل معين من قيام وقعود وصيام وصلاة بل في الفعل مجملًا سبق إلى فهمنا اختلاف معاني هذه الصيغ وعلمنا قطعًا أنها ليست أسامى مترادفة على معنى واحد كما أنا ندرك التفرقة بين قولهم في الأخبار قام زيد ويقوم زيد وزيد قائم في أن الأول للماضى والثانى للمستقبل والثالث للحال. هذا هو الوضع وإن كان قد يعبر بالماضى عن المستقبل وبالمستقبل عن الماضي لقرائن تدل عليه.

وكما ميزوا الماضي عن المستقبل ميزوا الأمر عن النهى وقالوا في باب الأمر افعل وفى باب النهى لا تفعل وأنهما لا ينبئان عن معنى قوله إن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل فهذا أمر نعلمه بالضرورة من العربية والتركية والعجمية وسائر اللغات لا يشككنا فيه إطلاق مع قرينة التهديد ومع قرينة الإباحة في نوادر الأحوال".

‌2 - رأى الآمدى

قال الآمدى:

(2)

"اتفق الأصوليون على اطلاق صيغة الأمر بإزاء خمسة عشر معنى وذكر الوجوب والندب والإرشاد والإباحة والتعجيز والإهانة والتسوية والدعاء والتمنى والتأديب والامتهان والإكرام والتهديد والإنذار والتسخير وكمال القدرة.

ومثل لكل منها وجعل مثال التعجيز -الذي لم يذكره الغزالى قوله سبحانه {كُونُوا حِجَارَةً}

(3)

.

ثم قال: وقد اتفقوا على أن الصيغة مجاز فيما سوى الطلب والتهديد والإباحة غير أنهم اختلفوا فمنهم من قال مشتركة كاشتراك لفظ القرء - بين الطلب للفعل وبين التهديد المستدعى

(1)

آية 40 سورة فصلت.

(2)

الإحكام جـ 2 ص 207.

(3)

آية 50 سورة الإسراء.

ص: 25

لترك الفعل وبين الإباحة المخيرة بين الفعل والترك. ومنهم من قال إنها حقيقة في الإباحة مجاز فيما سواها ومنهم من قال أنها حقيقة فى الطلب ومجاز فيما سواه. وهذا هو الأصح. وذلك لأننا إذا سمعنا أن أحدا قال لغيره افعل كذا وتجرد ذلك عن جميع القرائن وفرضناه كذلك فإنه يسبق إلى الأفهام منه طلب الفعل واقتضاؤه من غير توقف على أمر خارج دون التهديد المستدعى لترك الفعل والإباحة المخيرة بين الفعل والترك ولو كان مشتركًا أو ظاهرًا في الإباحة لما كان كذلك وإذا كان الطلب هو السابق إلى الفهم عند عدم القرائن مطلقًا دل ذلك على كون صيغة افعل ظاهرة فيه.

ثم أورد سؤالًا مقتضاه أنه يحتمل أن يكون دلالته طلب الفعل مبنيًا على عرف طارئ على الوضع اللغوى كما في لفظ الغائط والدابة وإن سلم دلالته ما ذكرتموه على الظهور في الطلب غير أنه معارض بما يدل على ظهوره في الإباحة لكونها أقل الدرجات فكانت مستيقنة.

وعقب على ذلك فقال: جواب الأول أن الأصل عدم العرف الطارئ وبقاء الوضع الأصلى بحاله وجواب الثاني لا نسلم أن الإباحة متيقنة إذ هي مقابلة للطلب والتهديد لكونها غير مستدعية للفعل ولا للترك. والطلب مستدع للفعل والتهديد مستدع لترك الفعل فلا تيقن لواحد منهما.

(1)

ثم انتقل الآمدى إلى تقسيم مدلول الصيغة فقال: إذا ثبت أن صيغة افعل ظاهرة في الطلب والاقتضاء فالفعل المطلوب لابد وأن يكون فعله راجحًا على تركه فإن كان ممتنع الترك كان واجبا وإن لم يكن ممتنع الترك فإما أن يكون لمصلحة أخروية فهو المندوب أو دنيوية فهو الإرشاد.

ثم قال: إن الأصوليين اختلفوا فمنهم من قال إنه مشترك بين الكل وهو مذهب الشيعة ومنهم من قال إنه لا دلالة له على الوجوب والندب بخصوصه وإنما هو حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو ترجيح الفعل على الترك ومنهم من قال إنه حقيقة في الوجوب مجاز فيما عداه وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه والفقهاء وجماعة من المتكلمين كأبى الحسين البصرى وهو قول الجباتى في أحد قوليه. ومنهم من قال إنه بحقيقة في الندب وهو مذهب أبى هاشم وكثير من التكلمين من المعتزلة وغيرهم وجماعة من الفقهاء وهو أيضا منقول عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. ومنهم من توقف وهو مذهب الأشعرى رحمه الله ومن تابعه من أصحابه كالقاضى أبى بكر والغزالى وغيرهما وهو الأصح.

(2)

‌3 - رأى البيضاوى والإسنوى

ذكر البيضاوى

(3)

أن صيغة افعل ترد لستة عشر معنى وقد جعل نحو "كل مما يليك" داخلًا في الندب ومثل التعجيز بقوله سبحانه {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} وجعل من التهديد قوله سبحانه {قُلْ تَمَتَّعُوا} ومثل للإباحة قوله سبحانه {كُلُوا} وذكر مما لم يورده الغزالى والآمدى الاحتقار نحو قوله سبحانه {بَلْ أَلْقُوا} وهو حكاية عن قول

(1)

الإحكام جـ 2 ص 209.

(2)

المصدر السابق ص 210.

(3)

نهاية السول جـ 1 ص 253.

ص: 26

موسى عليه السلام للسحرة حين خيروه بين أن يبدأ بالإلقاء أو أن يبدأوا. وكذلك التكوين نحو قوله سبحانه {كُنْ فَيَكُونُ}

(1)

أيضًا الخبر مثل قوله عليه السلام "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وجعل عكس ذلك قوله سبحانه {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ}

(2)

وقوله عليه السلام "لا تنكح المرأة المرأة".

(3)

ويقول الإسنوى في هذا المقام

(4)

: إن هذه المعانى لصيغ يمتاز بعضها عن بعض بالقرائن ثم يقول: وسيأتي أن إطلاقها على ما عدا الإيجاب من هذه المعانى مجاز والمجاز لابد فيه من علاقة.

واعترض الإسنوى على التمثيل للإباحة بقوله سبحانه {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا}

(5)

فإن الأكل والشرب واجبان لإحياء النفس فالصواب حمل كلام المصنف على إرادة قوله تعالى {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} .

(6)

ثم إنه يجب أنْ تكون الإباحة معلومة من غير الأمر حتى تكون قرينة لحمله على الإباحة كما وقع به العلم هنا والعلاقة هي الإذن وهى مشابهة معنوية أيضا

(7)

وقد أطال الإسنوى بذكر علاقات المجاز واستطرادات أخرى في المقام منها بيان الفرق بين الإباحة والامتنان والكلام في أن الأدب من المندوب أو قريب منه وأن الأكل مما يليه واجب والفرق بين التكوين والتسخير وبين الاحتقار والإهانة.

‌ثانيًا: الحنفية

يقول اليزدوى:

(8)

إن من الناس من قال: إن الأمر مجمل في حق الحكم لا يجب به حكم إلا بدليل زائد، واحتجوا بأن صيغة الأمر استعملت في معان مختلفة: الإيجاب والندب والإباحة والتقريع والتوبيخ فإذا اختلفت وجوهه لم يجب العمل به إلا بدليل.

وعلق البخارى على ذلك بأن المشهور في الوجوه التي تستعمل فيها صيغة الأمر لها ثمانية عشر: الوجوب. والندب. والإرشاد، والإباحة، والإكرام والامتنان، والإهانة، والتسوية، والتعجب، والتكوين وكمال القدرة، والاحتقار والإخبار والتهديد ويقرب منه الإنذار، والتعجيز، والتسخير، والتمنى، والتأديب، والدعاء وقد قال البخارى إن التكوين وكمال القدرة شئ واحد وإن عبر بعضهم بالتكوين وبعضهم بكمال القدرة مع أن التمثيل مشترك وهو قوله تعالى:{كُنْ فَيَكُونُ} .

وقد فرق بين الإرشاد والندب بما فرق به الغزالى مما تقدم ومثل للتعجب بقوله سبحانه {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}

(9)

أي ما أسمعهم وما أبصرهم.

وأما ابن الملك فإنه لم يتعرض لهذا الموضوع إلا على سبيل الاستطراد في بيان أن هذه

(1)

آية 47 سورة آل عمران.

(2)

آية 233 سورة البقرة

(3)

رواه ابن ماجه والدارقطنى بلفظ "لا تزوج المرأة المرأة" كما في بلوغ المرام بشرح سبل السلام ص 120 جـ 2.

(4)

نهاية السول جـ 1 ص 254.

(5)

آية 31 سورة الأعراف.

(6)

آية 51 سورة المؤمنون.

(7)

المصدر السابق من 255.

(8)

كشف الأسرار جـ 1 ص 107.

(9)

آية 38 سورة مريم.

ص: 27

الصيغة قد تكون للتهديد والتعجيز ونحو ذلك.

(1)

‌ثالثًا: المتأخرون

وهم الذين جمعوا بين طريقتى علماء الكلام والفقهاء.

يقول عبيد الله بن مسعود عن بيان مذهب ابن سريج الذي يقول بالتوقف في موجب الصيغة حتى يتبين المراد:

(2)

إن الأمر يستعمل في ستة عشر معنى وأوردها على طريقة المنهاج للبيضاوى ولكنه اعتبر التأديب منفصلًا عن الندب ولم يذكر الدلالة على الخبر.

ويعلق التفتازانى على ذلك

(3)

فيقول:

إنهم اختلفوا المدلول الحقيقى لصيغة "افعل" فذهب ابن سريج من أصحاب الشافعي إلى أن موجب الأمر أي الأثر الثابت به التوقف لأنه يستعمل في معان كثيرة بعضها حقيقة اتفاقًا وبعضها مجاز اتفاقًا فعند الإطلاق يكون محتملًا لمعان كثيرة والاحتمال يوجب التوقف إلى أن يتبين المراد.

فالتوقف عنده في تعيين المراد عند الاستعمال لا في تعيين الموضوع له لأنه عنده موضوع بالاشتراك اللفظى للوجوب والندب والإباحة والتهديد.

وذهب الغزالى وجماعة من المحققين إلى التوقف في تعيين الموضوع له أنه الوجوب فقط أو الندب فقط أو مشترك بينهما لفظًا.

وأما ابن السبكى فإنه يختلف عن غيره في هذا الموضوع

(4)

فقد زاد في صيغة الأمر الإذن كقولك لمن يطرق الباب "ادخل" والتكذيب نحو قوله سبحانه {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

(5)

.

والمشورة كقوله سبحانه حكاية عن قول إبراهيم الخليل عليه السلام {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} . والاعتبار مثل قوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}

(6)

وإرادة الامتثال كقولك لآخر عند العطش "اسقنى ماء"، والتفويض نحو قوله تعالى:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}

(7)

والإنعام كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}

(8)

.

وأوضح العطار في حاشيته على جمع الجوامع معنى إرادة الامتثال في قول العطشان "اسقنى" فقال: إن ذلك العطشان لا غرض له من الطلب إلا إرادة الامتثال وقال: إن ذلك مقيد بما إذا لم يكن الطالب ممن تجب طاعته كالسيد وإلا كانت للوجوب أو الندب بمعنى الطلب الجازم أو غيره لا الوجوب الشرعى.

وعلق على كون الصيغة في مثل قولك للطارق "ادخل" بمعنى الإذن بأن هذا إذا كانت الصيغة من غير الشارع.

وهناك بعض تصويرات وإيضاحات لبعض الفروق فيما يشتبه أحيانا كالتكوين وكمال القدرة والامتنان والإباحة وتصور الإنعام بأنه التذكير بالنعمة وغير ذلك مما لا مجال للإطالة بذكره

(9)

.

(1)

شرح المنار جـ 1 ص 111.

(2)

التلويح على التوضيح جـ 2 ص 51.

(3)

المصدر السابق.

(4)

جمع الجوامع جـ 1 ص 420.

(5)

آية 93 سورة آل عمران.

(6)

آية 99 سورة الأنعام.

(7)

آية 72 سورة طه.

(8)

آية 160 سورة الأعراف.

(9)

جمع الجوامع بشرح المحلى وحاشية العطار جـ 1 ص 425 وما بعدها.

ص: 28

‌رابعًا: الزيدية

يقول الشوكانى بعد أن أوضح الخلاف بين علماء الأصول في صيغة افعل وما في معناه هل هي حقيقة في الوجوب أو فيه مع غيره أو في غيره.

(1)

"اعلم أن هذا النزاع إنما هو في المعنى الحقيقى للصيغة وأما مجرد استعمالها فقد تستعمل في معان كثيرة".

ثم قال بعد أن نقل عن الرازى في المحصول خمسة عشر وجها بأمثلتها:

"فهذه خمسة عشر معنى ومن جعل التأديب والإنذار معنيين مستقلين جعلها سبعة عشر معنى. وجعل بعضهم من المعانى: الإذن نحو {كُلُوا مِنْ الطَيِّبَاتِ} والخبر نحو {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} والتفويض نحو {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}

(2)

والمشورة كقوله {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}

(3)

والاعتبار نحو {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}

(4)

والتكذيب نحو {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}

(5)

والالتماس كقولك لنظيرك "افعل" والتلهيف نحو {مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} والتبصير نحو {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا}

(6)

فتكون جملة المعانى ستة وعشرين معنى.

‌خامسًا: الشيعة الجعفرية والإباضية

يصور الكاظمى مسلك الشيعة الجعفرية في كتابه فوائد الأصول إذ أنهى معاني صيغة الأمر إلى أربعة وعشرين معنى عد منها الطلب والتعجيز والتهديد وغير ذلك مما لا يخرج عما سبق إيراده

(7)

وأما الإباضية فيقول صاحب طلعة الشمس:

"حكم الأمر المعرف بأن طلب فعل غير كف لا على وجه الدعاء هو الوجوب وضعًا وشرعا ما لم تصرفه عن معنى الوجوب قرينة.

(8)

فإن قامت قرينة تمنع الأمر من إرادة الوجوب صرف إلى ما تقتضيه القرينة من المعانى مجازًا كما صرف إلى الندب والإباحة والإرشاد وإرادة الامتثال والإذن والتأديب والامتنان والتهديد ومثل لكل من هذه المعانى.

(9)

‌ما تفيده الصيغة على سبيل الحقيقة

" اتفق الأصوليون على أن صيغة افعل مجاز فيما سوى الطلب والتهديد والإباحة غير أنهم اختلفوا فمنهم من قال إنها مشتركة بين الطلب للفعل وبين التهديد المستدعى لترك الفعل وبين الإباحة المخيرة بين الفعل والترك. ومنهم من قال إنها حقيقة في الإباحة مجاز فيما سواها. ومنهم من قال أنها حقيقة فى الطلب مجاز فيما سواه".

هذا هو تلخيص الآمدى للمسألة وقد علق على الرأى الأخير بقوله: "وهو الأصح"

(10)

وفيما يلى آراء الأصوليين.

(1)

إرشاد الفحول ص 97.

(2)

آية 72 سورة طه.

(3)

آية 102 سورة الصافات.

(4)

آية 99 سورة الأنعام.

(5)

آية 34 سورة الأنبياء.

(6)

آية 83 سورة الزخرف.

(7)

فوائد الأصول ص 66

(8)

طلعة الشمس جـ 1 ص 38.

(9)

المصدر السابق ص 39.

(10)

الإحكام للآمدى جـ 2 ص 208.

ص: 29

‌القائلون بأن صيغة الأمر تفيد الوجوب على سبيل الحقيقة

جاء في المنهاج وشرحه:

(1)

إن مذهب الجمهور في صيغة الأمر أنها إذا تجردت من القرائن تدل على الوجوب حقيقة وقد نقله في المحصول عن أكثر الفقهاء والمتكلمين وقال إنه الحق وفى الإحكام للآمدى والبرهان لإمام الحرمين أنه مذهب الشافعي وفى شرح اللمع للشيخ أبى إسحق الشيرازى أنه الذي أملاه الأشعرى على أصحاب أبى إسحق الإسفرايينى ببغداد.

ولكن هل يدل على الوجوب بوضع اللغة أو الشرع فيه مذهبان محكيان في شرح اللمع:

الأول: وهو كونه بوضع اللغة نقله في البرهان عن الشافعي ثم اختار هو أنه بالشرع وفى المستوعب قول ثالث أنه بالفعل. وفيما يلي مسلك كل فريق من أرباب هذه المذاهب.

‌1 - البيضاوى

يستدل البيضاوى على مذهب الجمهور بخمسة أوجه بينها الإسنوى في شرحه:

(2)

الأول: أن الله سبحانه ذم إبليس على مخالفته قوله {اسْجُدُوا لِآدَمَ} فقال سبحانه {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}

(3)

لأن هذا الاستفهام ليس على حقيقته فإنه تعالى عالم بالمانع فتعين أن يكون للتوبيخ والذم وإذا ثبت الذم على ترك المأمور به ثبت أن الأمر للوجوب إذ لو لم يكن للوجوب لكان لإبليس أن يقول له سبحانه: إنك ما ألزمتنى ففيم ألزم؟

وأيضا لو لم يكن للوجوب لما توجه الذم على أبليس على الترك لأنه غير الواجب لا يذم تاركه.

الدليل الثاني: قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ}

(4)

أي صلوا.

قال الإسنوى: وتقريره كالذى قبله

(5)

.

الدليل الثالث: أن تارك الأمر - أي المأمور به - مخالف لذلك الأمر والمخالف عرضة للعذاب يقول الله سبحانه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

(6)

فقد أمر سبحانه مخالف أمره بالحذر من العذاب ولا يكون ذلك إلا بعد قيام المقتضى لوقوع العذاب فثبت أن تارك الأمر عرضة لوقوع العذاب ولا معنى للوجوب إلا هذا.

الدليل الرابع: أن تارك الأمر عاص لقوله سبحانه حكاية عن قول موسى لهارون {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} وقوله تعالى {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}

(7)

وكل عاص يستحق النار لقوله سبحانه {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}

(8)

عبر بمن التي هي للعموم فدل على ما قلنا فينتج أن تارك الأمر يستحق النار ولا معنى للوجوب إلا ذلك.

الدليل الخامس: أن النبي عليه السلام دعا أبا سعيد الخدرى وهو في الصلاة فلم يجبه فقال الرسول عليه السلام: ما منعك أن تجيب

(1)

هامش التقرير والتحبير جـ 1 ص 258.

(2)

نهاية السول جـ 1 ص 216.

(3)

آية 12 سورة الأعراف.

(4)

آية 48 سورة المرسلات.

(5)

المصدر السابق.

(6)

آية 63 سورة النور.

(7)

آية 6 سورة التحريم.

(8)

آية 23 سورة الجن.

ص: 30

وقد سمعت الله سبحانه يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}

(1)

وهذا الاستفهام ليس على حقيقته لأنه عليه الصلاة والسلام علم أنه في الصلاة فتعين أن يكون للتوبيخ والذم فدل على أن الأمر يفيد الوجوب

(2)

.

وقد ذكر البيضاوى الإسنوى عددًا من الاعتراضات على هذه الأدلة وتولى الرد عليها بما لا تدعو الحاجة إلى ذكره.

‌2 - البزدوي

وأما الإمام البزدوى الحنفى فإنه يستدل على إفادة الأمر الوجوب بقوله

(3)

.

إذا ثبت أن الأمر موضوع لمعناء المخصوص به كان الكمال أصلًا فيه فثبت أعلاه على احتمال الأدنى إذ لا قصور في الصيغة ولا في ولاية المتكلم.

وقد أوضح عبد العزيز البخارى ذلك فقال:

إذا ثبت أن الأمر موضوع لمعناه المخصوص وهو طلب الفعل كان الكمال أصلا في ذلك المعنى لأن الناقص ثابت في وجه دون وجه وكماله بالوجوب لا بالندب لأن استحقاق العقاب لما ترتب على ترك المأمور به كترتب الثواب على فعله دل على أن إتيان الفعل مطلوب من كل وجه فيثبت به كمال الطلب من جانبه. وكذا المطلوب وهو إتيان الفعل يحصل به من جنب المأمور غالبًا. فأما الندب ففيه نقصان في جانب الطلب لعدم ترتب العقاب على تركه وكذا لا يؤدى إلى وجود المطلوب غالبًا وإذا كان كمال الطلب في الوجوب وجب القول به إذ لا قصور في دلالة الصيغة على الطلب لأنها موضوعة لذلك. ولا في ولاية الأمر لأنه مفترض الطاعة يملك الإلزام.

وأيد ذلك بما نقله عن أبى اليسر من أن الأمر لفظ فكان المراد به خاصًّا كاملًا لأن الأصل في الأشياء الكمال والنقصان عارض والكمال إنما يكون بالوجوب لأن الوجوب يحمله على الوجود فكان الوجود بواسطة الوجوب مضافًا إلى الأمر السابق فمن جعل الأمر للإباحة أو الندب جعل النقصان أصلًا والكمال نعارض. وهذا قلب القضية.

ثم قال البزدوى: والحجة لعامة العلماء القائلين بالوجوب من الكتاب والإجماع والدليل المعقول.

أما الكتاب فقوله سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}

(4)

ثم قال: إن هذا مبنى على أنه أريد به ذكر الأمر بكلمة "كن" والتكلم بها على سبيل الحقيقة وقد أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر ولو لم يكن الوجود مقصودًا بالأمر لما استقام قرينة للإيجاد بعبارة الأمر (12).

وأيد البخارى ذلك بقوله: إن الفاء في قوله سبحانه "فيكون" لبيان أنه نتيجة للأول ثابت به كما يقال: أطعمه فأشبعه وسقاه فأرواه فلو لم يكن الوجود مستفادًا بالأمر في قوله "كن" لكان قوله "كن فيكون" بمنزلة قولك: سقيته فأشبعته وأطعمته فأرويته أي أنه لا يكون هناك ارتباط

(1)

آية 23 سورة الجن.

(2)

آية 24 سورة الأنفال.

(3)

المصدر السابق ص 365.

(4)

آية 25 سورة الروم.

ص: 31

للسابق مع اللاحق وهذا لا يجوز من الشارع.

واستدل البزدوى لهم من الكتاب أيضا بقوله سبحانه {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}

(1)

فقد نسب وأضاف القيام إلى الأمر وذلك دليل أن الوجود معقود بالأمر

(2)

.

وقال البخارى: إن المراد بالقيام الوجود في بعض التأويلات فيصير الأمر سببًا للوجود واستدل اليزدوى أيضًا بآية {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}

(3)

الآية وقد سبق إيرادها فيما استدل به البيضاوى وقد وجه البخارى الاستدلال بها يمثل ما وجهه الإسنوى وأشار إلى أن الاستدلال في هذه الآية معترض بعدة اعتراضات لم يذكرها ثم استدل اليزدوى بالإجماع فقال:

(4)

وكذلك دلالة الإجماع حجة لأن من أراد طلب فعل لم يكن في وسعه إلا أن يطلبه بلفظ الأمر.

ويعلق البخارى على ذلك بقوله: إن العقلاء أجمعوا على أن من أراد أن يطلب فعلًا من غيره لا يجد لفظًا موضوعًا لإظهار مقصوده سوى صيغة الأمر فهذا الإجماع يدل على أن المطلوب من الأمر وجود الفعل وأنه موضوع له وإلا لم يستقم طلبهم الفعل من المأمور بهذه الصيغة.

هذا هو المراد بدلالة الإجماع والدلالة تعمل عمل الصريح إذا لم يوجد صريح يخالفه ثم ذكر اليزدوى الدليل المعقول فقال:

(5)

إن تصاريف الأفعال وضعت لمعان على الخصوص كسائر العبارات فصار مغنى المضى للماضى حقًّا لازمًا لا ينصرف عنه إلا بدليل وكذا الحال، واحتمال أن يكون للاستقبال لا يخرجه عن موضوعه وهو الحال، فكذلك صيغة الأمر لطلب المأمورية فتكون المأمورية حقًّا لازمًا بالأمر في أصل الوضع ليفيد الأمر فائدته. فقضية الأمر لغة ألا يثبت إلا بالامتثال.

‌3 - النسفى وابن الملك:

(6)

يصور النسفى وشارحه ابن الملك ذلك الرأى فيقول:

إن موجب الأمر المطلق الوجوب لانتفاء الخيرة عن المأمور بالأمر بالنص وهو قول عامة العلماء واستحقاق الوعيد لتاركه.

وقد بين ابن الملك كلمة "النص" بأن قوله تعالى {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}

(7)

بعد قوله {اسْجُدُوا لِآدَمَ} فإنه ورد في معرض الذم على المخالفة فعلم أنه لا اختيار للمأمور فيما أُمر به وهو دليل الوجوب.

وقيل إن المراد بالنص آية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}

(8)

.

وقد علق على ذلك الرهاوى بقوله:

إن هذا النص هو المناسب للمقام والمعنى: ما صح للمؤمنين والمؤمنات إذا حكم الله ورسوله حكمًا أن يختاروا من أمرهما شيئا ويتمكنوا من تركه بل يجب عليهم المطاوعة في جميع أوامرهما وإذا انتفت الخيرة عن المأمور تُيقّن الوجوب.

(1)

المصدر السابق ص 111.

(2)

المصدر السابق ص 115.

(3)

آية 63 سورة النور.

(4)

المصدر السابق جـ 1 ص 116.

(5)

المصدر السابق.

(6)

المنار وشرحة من 120.

(7)

آية 12 سورة الأعراف.

(8)

آية 36 سورة الأحزاب.

ص: 32

واستدل النسفى وشارحه أيضًا على الوجوب باستحقاق الوعيد لتاركه في قوله "فليحذر الذين يخالفون"

(1)

.

كما استدلا بدلالة الإجماع والمعقول

(2)

ولم يخرجا عما نقلناه عن الإسنوى واليزدوى وشارحه إلا في بعض استطراد غير جوهرى فمن شاء فليرجع إلى ما كتبا.

‌4 - ويقول الكمال بن الهمام:

واختار الكمال بن الهمام أيضًا أن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب فقط وبعد أن استدل على ذلك بما لا يخرج عما سبق إيراده قال:

(3)

لنا على المختار - وهو الأول - "الوجوب" أنه تكرر استدلال السلف بصيغة الأمر مجردة عن القرائن على الوجوب استدلالًا شائعًا بلا نكير. فأوجب العلم العادى باتفاقهم على أنها له كالإجماع القولى على ذلك.

وقد نهج نفس منهجه البهارى في كتابه مسلم الثبوت

(4)

.

‌5 - وقال ابن السبكى والمحلى وصدر الشريعة:

وقد أيد هذا الاتجاه كل من صدر الشريعة وابن السبكى والمحلى فيقول صدر الشريعة

(5)

:

إن أكثرهم على الوجوب ثم يسوق أدلتهم السابقة.

ويقول ابن السبكى والمحلى

(6)

: الجمهور قالوا هي حقيقة في الوجوب فقط واختلفوا في أن ذلك مفاد الصيغة لغة أو شرعًا أو عقلًا: ثم قال المحلى:

وجه أولها الصحيح عند الشيخ أبى إسحاق الشيرازى أن أهل اللغة يحكمون باستحقاق مخالف أمر سيده مثلًا بصيغة افعل للعقاب.

ومن قال إن مفاد الصيغة الوجوب عقلًا قال: إن ما تفيده لغة من الطلب يتعين أن يكون الوجوب لأن حمله على الندب يصير المعنى "افعل إن شئت" وليس هذا القيد مذكورًا وقوبل بمثله في الحمل على الوجوب فإنه يصير المعنى "افعل من غير تجويز ترك".

‌6 - الظاهرية:

يقول ابن حزم في كتاب الإحكام

(7)

:

إن جميع أصحاب الظاهر على أن صيغة الأمر تدل على الوجوب حتى يقوم دليل صارف عن ذلك. وهذا هو الذي لا يجوز غيره.

ثم قال

(8)

:

إن أول الأدلة على أن صيغة الأمر تدل على الوجوب ما لم يقم دليل صارف عن ذلك أنه لا يعقل أحد من أهل كل لغة - أي لغة كانت - من لفظة افعل أو اللفظة التي يعبر بها في كل لغة عن معنى افعل غير الوجوب.

ثم يقول

(9)

:

اعلم أن الوعيد من الله قد اقترن بجميع أوامر نبيه في قوله سبحانه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ

(1)

المصدر السابق ص 125.

(2)

المصدر السابق ص 126.

(3)

التقرير والتحبير جـ 1 ص 304.

(4)

مسلم الثبوت للعلامة البهارى مع منهراته جـ 1 ص 302 المطبعة الحسينية.

(5)

التوضيح والتلويج جـ 2 ص 53.

(6)

جمع الجوامع جـ 1 ص 427.

(7)

الأحكام فى أصول الأحكام جـ 3 ص 2 مطبعة السعادة الطبعة الأولى سنة 1346 هـ.

(8)

المصدر السابق جـ 3 ص 13.

(9)

المصدر السابق جـ 3 ص 14.

ص: 33

يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}

(1)

فاقترن التحذير من الفتنة والوعيد بكل من خالف عن آمره صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: وإن ما خرج من الأوامر عن استحقاق العذاب المنصوص في الآية على تركه بخروجه إلى معنى الندب إنما هو مستثنى من جملة ما جاءت الآية به بمنزلة المنسوخ الخارج عن الوجوب فلا يبطل ذلك بقاء سائر الشريعة على الاستعمال. وكذلك خروج ما خرج بدليله إلى الندب ليس بمبطل بقاء ما لا دليل على أنه ندب على استحقاق العذاب على تركه إلا أن الوعيد قد حصل مقرونًا بالأوامر كلها إلا ما جاء إجماع متيقن أو نص منقول إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا وعيد عليه لأنه غير واجب ولا يسقط شئ من كلام الله تعالى إلا ما أسقطه وحى له تعالى آخر فقط.

(2)

ثم أورد من الأدلة قول النبي عليه السلام: "كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: "من أطاعنى دخل الجنة ومن عصانى فقد أبى".

ثم قال: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}

(3)

ولا عصيان أعظم من أن يقول الله ورسوله افعل كذا فيقول المأمور: لا أفعل إلا إن شئت أن أفعل ومباح لى أن أترك ما أترك ما أمرتمانى به.

واستدل أيضًا بحديث: "إن الله فرض عليكم الحج" فقال رجل: أفى كل عام يا رسول الله؟ وكرر ذلك فقال عليه السلام: "لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها فإذا أمرتكم بالشئ فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه" فبين عليه السلام أن كل ما أمر به فهو واجب ولو لم يقدر عليه. وأطال في بيان ذلك ثم قال:

(4)

وليس يقابل الأمر الوارد إلا بأحد ثلاثة أوجه لا رابع لها نعلم ذلك بضرورة الطبيعة وبيديهة العقل: إما الوجوب وهو قولنا. وإما الندب والتخيير في فعل أو ترك وقد أبطل الله عز وجل هذا الوجه في قوله تعالى {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}

(5)

.

وإما الترك وهو المعصية فأخبر تعالى أن من فعل ذلك فقد ضل ضلالًا مبينا. فارتفع الإشكال كله.

‌7 - الزيدية:

اختار الشوكانى ما ذهب إليه الجمهور من أن صيغة افعل وما في معناه حقيقة في الوجوب

(6)

وأورد أدلتهم على نحو ما سبق للبيضاوى ومما أورد منها:

ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله "لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" وكلمة لولا تفيد انتفاء الشئ لوجود غيره فهنا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة فهذا يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عند كل صلاة والإجماع قائم على أنه مندوب فلو كان المندوب مأمورًا به لكان الأمر قائمًا عند كل صلاة فلما لم يوجد الأمر علمنا أن المندوب غير مأمور به.

وبما وقع في قصة بريرة لما رغبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الرجوع إلى زوجها فقالت: أتأمرنى

(1)

آية 63 سورة النور.

(2)

المصدر السابق ص 15.

(3)

آية 23 سورة الجن.

(4)

المصدر السابق ص 22.

(5)

آية 36 سورة الأحزاب.

(6)

إرشاد الفحول ص 94.

ص: 34

بذلك؟ فقال: "لا إنما أنا شافع" فنفى عليه السلام الأمر منه مع ثبوت الشفاعة الدالة على الندب وذلك يدل على أن المندوب غير مأمور به وإذا كان كذلك وجب أن لا يتناول الأمر الندب.

وبما استدلوا به من أن لفظ افعل إما أن يكون حقيقة في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معًا أو فى غيرهما والأقسام الثلاثة الآخرة باطلة فتعين الأول.

لأنه لو كان للندب فقط لما كان الواجب مأمورًا به فيمتنع أن يكون الأمر للندب فقط ولو كان لهما لزم الجمع بين الراجح فعله مع جواز تركه وبين الراجح فعله مع المنع من تركه والجمع بينهما محال. ولو كان حقيقة في غيرهما لزم أن يكون الواجب والمندوب غير مأمور بهما وأن يكون الأمر حقيقة فيما لا ترجح فيه وهو باطل.

ومعلوم أن الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعًا من الترك.

(1)

.

ثم قال:

إذا تقرر لك هذا عرفت أن الراجح ما ذهب إليه القائلون بأنها حقيقة في الوجوب فلا تكون لغيره من المعانى إلا بقرينة لما ذكرناه من الأدلة. ومن أنكر استحقاق العبد المخالف لأمر سيده للزم وأنه يطلق عليه بمجرد هذه المخالفة اسم العصيان فهو مكابر ومباهت فهذا يقطع النزاع باعتبار الفعل. وأما باعتبار ما ورد في الشرع وما ورد من حمل أهله للصيغ المطلقة من الأوامر على الوجوب ففيما ذكرناه سابقًا ما يغنى عن التطويل. ولم يأت من خالف هذا بشئ يعتد به أصلا

(2)

.

‌8 - الشيعة الجعفرية والإباضية:

يقول صاحب قوانين الأصول:

(3)

إن صيغة افعل مع قطع النظر عن القرائن تفيد الوجوب اللغوى وبضميمة المقام يتم الوجوب الاصطلاحى وهذا هو مراد القائل بكونها حقيقة في الوجوب.

وتكلم عن اختلاف الأصوليين في حكم الصيغة

(4)

واختار أنها للوجوب قائلًا إنها الأقرب ثم قال:

(5)

التحقيق أن لفظ الأمر حقيقة في الطلب الاستعلائى على سبيل الوجوب وهو المتبادر منه عرفًا وصيغة افعل كثيرًا ما تستعمل في غيرها هذا المعنى فكون الأمر حقيقة في الوجوب لا يستلزم كون افعل حقيقة فيه. ولذلك أفردوا البحث في كل منهما فما اخترناه من كون الصيغة الوجوب إنما هو للتبادر في الصيغة لا من أجل كونها مصداقًا للأمر وإن كنا نقول يكون الأمر أيضًا حقيقة في الوجوب.

وساق من الأدلة ما لا يخرج عما سبق إيراده.

وأما الإباضية فيقرر مذهبهم صاحب طلعة الشمس إذ يقول

(6)

:

إن حكم الأمر المعروف بأنه طلب فعل غير كف لا على وجه الوفاء هو الوجوب وضعًا وشرعًا ما لم تصرفه عن معنى الوجوب قرينة فإن القول الطالب وإن كان شاملًا في ذاته للوجوب والندب

(1)

المصدر السابق ص 96.

(2)

المصدر السابق ص 97.

(3)

قوانين الأصول ص 82.

(4)

المصدر السابق ص 83.

(5)

المصدر السابق 84.

(6)

طلعة الشمس جـ 1 ص 28.

ص: 35

لأن كلا منهما مطلوب فالوجوب إنما تعين بأدلة خارجة عن ذات الطلب. واستدل ببعض ما سبق وبنى عليه أنه إذا ثبت ذلك "ثبت المطلوب وهو أن الأمر المطلق "صيغة افعل التي لم تقيد بقرينة" للوجوب بالكتاب والسنة

(1)

ثم قال: إن ذلك هو ما عليه الجمهور

(2)

.

وقد تبين من هذه النقول مذهب الجمهور فيما تفيده الصيغة على سبيل الحقيقة وأدلتهم على اختلاف مناهج الاستدلال مع اتفاقهم على أنها حقيقة في الوجوب ما لم تصرف عن إفادته بعض القرائن.

‌القائلون بأن صيغة الأمر تدل حقيقة على غير الوجوب

وأما غير الجمهور فإنهم يختلفون عنهم في ذلك:

- فمنهم من يرى أن صيغة الأمر حقيقة في الندب.

- ومنهم من يرى أن صيغة الأمر حقيقة في الإباحة.

- ومنهم من يقول إنها مشترك لفظى بين الوجوب والندب.

- ومنهم من يقول إنها مشترك لفظى بين الثلاثة الوجوب والندب والإباحة.

- ومنهم من يقول إنها مشترك لفظى بين هذه الثلاثة وبين التهديد.

- ومنهم من قال إنها مشترك بين الوجوب والندب والإرشاد.

- وقيل هي مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة والتهديد والإرشاد.

- وقيل مشتركة بين الأحكام الخمسة: "الوجوب والندب والتحريم. والكراهة والإباحة".

- ومنهم من قال بالتوقف بين مختلف هذه الدلالات.

- ومنهم من قال إنها مشترك معنوى بين مطلق طلب الفعل الذي يصدق على الوجوب وعلى الندب.

‌1 - القول بأنها حقيقة في الندب:

ينسب هذا إلى أبى هاشم الجبائى وعامة المعتزلة وجماعة من الفقهاء وهو رواية عن الشافعي

(3)

وقد مال إليه اليزدوى في كتابه

(4)

ولخص حجة القائلين به في أن معنى الإباحة أو الندب من الوجوب بعضه في التقرير كأنه قاصر لا مغاير لأن الوجوب ينتظمه. ثم قال: وهذا أصح.

وعلق البخارى على ذلك مشيرًا إلى أن الشيخ قد جمع في قوله بين الإباحة والندب وبين الخلاف فيهما على نمط واحد. ثم نقل شبهة القائلين بأن الأمر حقيقة في الندب وهم بعض أصحاب الشافعي وجمهور أصحاب الحديث فقال:

وشبهتهم أن المندوب بعض الواجب لأن الواجب هو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه والندب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه

(1)

المصدر السابق ص 39.

(2)

المصدر السابق ص 40.

(3)

إرشاد الفحول ص 94 حاشية عزمى زادة على شرح المنار ص 120 الإحكام للآمدى جـ 2 ص 210.

(4)

كشف الأسرار جـ 1 ص 119.

ص: 36

فإذا أريد به الندب فقد أريد بعض ما يشتمل عليه الوجوب فكان حقيقة فيه كما لو أريد من العام بعضه يكون حقيقة فيه وكما لو أطلق لفظ الإنسان على الأعمى والأشل ومقطوع الرجل يكون حقيقة وإن مات بعضه.

وأيضًا فإن من شرط المجاز أن يكون المعنى المجازى مغايرًا للمعنى الحقيقى وهذا هو عين المعنى الحقيقى لأنه جزؤه إلا أنه قاصر فكيف يكون اللفظ فيه مجازًا.

ومن أدلتهم النقلية على ذلك أن النبي عليه السلام قال: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" لأن النبي عليه السلام رد الأمر إلى مشيئتنا وهو معنى الندب

(1)

.

ويرد على الدليل النقلى ابن أمير الحاج

(2)

بأن قوله "رده إلى مشيئتنا" مع روايتهم الحديث بلفظ "ما استطعتم" ذهول عظيم.

ويضيف الآمدى

(3)

في رده: لا يلزم من قوله "ما استطعتم" تفويض الأمر إلى مشيئتنا فإنه لم يقل فافعلوا ما شئتم بل قال ما استطعتم وليس خاصية للندب فإن كل واجب كذلك.

ويرد على حجتهم العقلية بأن المندوب لا يمكن أن يدخل في الواجب فإن الواجب هو المطلوب على سبيل الإلزام وهذا القيد يخرج المندوب لا محالة.

وأيضًا لو كان تنزيل لفظ الأمر على المتيقن لازمًا لكان جعله حقيقة في رفع الحرج عن الفعل أولى لكونه متيقنًا بخلاف المندوب فإنه متميز بِكَوْن الفعل مترجحا على الترك وهو غير متيقن

(4)

.

ولا يخرج كلام ابن الملك في تصوير كون الأمر حقيقة في الندب عما نقله البخارى عنهم

(5)

.

حيث يقول: إن الندب جزء من الواجب لأن الواجب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه والمندوب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه فكان حقيقة فيهما كما لو أريد من العام بعضه.

وفى المسودة لآل تيمية

(6)

عند ذكر القول بأنه حقيقة في الندب قالوا "وهو اختيار أكثر أصحابنا، القاضي أبى يعلى وابن عقيل وهو نص الشافعي حكاه أبو الطيب الطبرى وهو الصحيح من مذهبه".

ثم نقلوا عن أحمد بن حنبل

(7)

أن ما أمر به النبي عليه السلام عنده أسهل مما نهى عنه وقالوا: ظاهر هذا يمنع من الوجوب ويفيد أنه على الندب.

وفى موضع آخر قالوا:

(8)

يحتمل أنه أراد على الندب وهو بعيد لمخالفته منصوصاته الكثيرة. وزعم أبو الخطاب أن هذا يدل على أن إطلاق الأمر مقتضى الندب.

ويقول المحلى تعليقًا على قول ابن السبكى: "وقيل هي حقيقة في الندب":

(9)

(1)

التقرير والتحبير جـ 1 ص 306.

(2)

المصدر السابق.

(3)

الإحكام جـ 2 ص 224.

(4)

المصدر السابق ص 122.

(5)

شرح المنار ص 122.

(6)

المسودة لآل تيمية ص 6.

(7)

المصدر السابق ص 94.

(8)

المصدر السابق ص 5.

(9)

جمع الجوامع جـ 1 ص 439.

ص: 37

إن ذلك لأنه المتيقن من قسمى الطلب. وعلل ذلك العطار في حاشيته على جمع الجوامع بقوله: لأن المنع من الترك المختصَّ بالوجوب أمر زائد لم تتحقق إرادته ثم قال: وعارض هذا القائلون بالوجوب بأن الموضوع للشئ محمول على الكامل إذ الأصل في الأشياء الكمال.

وأيضًا: فالمتيقن أصل الطلب وأما كونه للندب أو الوجوب فأمر زائد على الأصل.

ويصور السعد حجة القائلين بأنه حقيقة في الندب بقوله:

(1)

إن الصيغة لطلب الفعل فلابد من رجحان جانبه على جانب الترك وأدناه الندب لاستواء الطرفين في الإباحة. وكون المنع عن الترك أمرًا زائدًا على الرجحان.

‌2 - القول بأنها حقيقة في الإباحة:

نقل القول بأن صيغة الأمر حقيقة في الإباحة جماعة من الأصوليين منهم الآمدى في الإحكام ولم يعين أصحابه وقال: إنهم يقولون إن صيغة الأمر حقيقة في الإباحة مجاز فيما سواها

(2)

.

ونقل السعد أنه قول بعض أصحاب مالك

(3)

.

وعلل الإسنوى لهذا المذهب بأن الجواز محقق والأصل عدم الطلب

(4)

.

وأكثر الأصوليين لا يتعرض لهذا القول وخير تعليق على أن الأمر حقيقة في الندب أو الإباحة ما أورده الرهاوى حيث قال:

(5)

والمناقشة في أمثال ذلك مما لا يليق بهذه الصناعة ألا نرى أنهم يقولون الأمر حقيقة في الوجوب ليس معناه أن وجوب القيام مثلًا هو المدلول المطابق للفظ "قم" بل معناه أنه لطلب القيام على سبيل اللزوم والمنع عن الترك.

‌3 - القائلون بالاشتراك:

وأما القائلون بالاشتراك فمنهم من يقول بالاشتراك اللفظى ومنهم من يقول بالاشتراك المعنوى.

ويختلف القائلون بالاشتراك اللفظى:

فمنهم من يقول إن الصيغة مشتركة بين الوجوب والندب ونقله أمير باد شاه عن الشافعي

(6)

.

ونقل ابن السبكى هذا المذهب في جمع الجوامع ولم ينسبه هو إلى أحد كما لم ينسبه شارحه المحلى

(7)

.

ودليلهم أن الصيغة تستعمل في لسان العرب في كل من الوجوب والندب والأصل في الإطلاق الحقيقة فتكون الصيغة مشتركًا لفظيًا بينهما.

ومنهم من قال إنها مشترك بين الوجوب والندب والإباحة ونقله الكمال وشارحه ولم ينسباه إلى أحد ونسبه في مسلم الثبوت إلى الروافض

(8)

ودليلهم أن الصيغة تستعمل في لسان العرب في كل من الوجوب والندب والإباحة والأصل في الإطلاق الحقيقة. وهذا القول ينسب إلى بعض الحنابلة

(9)

.

(1)

التلويح على التوضيح جـ 2 ص 54.

(2)

الإحكام جـ 2 ص 208.

(3)

التلويح على التوضيح جـ 2 ص 54.

(4)

نهاية السول جـ 1 ص 258.

(5)

شرح المنار ص 135.

(6)

تيسير التحرير جـ 1 ص 341.

(7)

جمع الجوامع جـ 1 ص 439.

(8)

شرح مسلم الثبوت بهامش المستصفى جـ 1 ص 373.

(9)

المسودة لآل تيمية ص 7،6.

ص: 38

ومن الأصوليين من يقول إن الصيغة مشتركة بين هذه الثلاثة والتهديد وحكاه الكمال عن الشيعة

(1)

وحجتهم الاستعمال في لسان العرب في الأربعة كما سبق.

ومنهم من يقول هي مشتركة بين الوجنوب والندب والإرشاد نقله الآمدى في الإحكام ونسبه إلى الشيعة

(2)

.

وقد رد الشوكانى على القائلين بالاشتراك بأن المجاز أولى من الاشتراك - كما تقرر في مواضعه من كتب الأصول. وأيضًا كان يلزم أن تكون الصيغة حقيقة في جميع معاني الأمر - التي سبق بيانها - لأنه قد أطلق عليها ولو نادرا ولا قائل بذلك.

(3)

‌كذلك يختلف القائلون بالاشتراك المعنوى:

فمنهم من يذهب إلى أن صيغة الأمر موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب الذي يساوى في معناه ترجيح الفعل على الترك. وهو منقول عن أبى منصور الماتريدى ومنسوب إلى مشايخ سمرقند كما بينه أمير باد شاه

(4)

وقد بين المحلى وجهة نظر هؤلاء فقال:

(5)

إنهم ذهبوا إلى ذلك حذرا من الاشتراك والمجاز لأن استعمالها في كل منهما من حيث إنه طلب استعمال حقيقى.

يقول صاحب مسلم الثبوت:

(6)

الاستدلال لمذهبهم بأنه ثبت الرجحان أو الإذن بالضرورة الاستقرائية فلم يثبت الزائد من الحرج في الترك لعدم الدليل عليه فلا مدلول إلا ذلك.

ورد عليهم بأن الزيادة التي ادعوا عدم ثبوتها قد ثبتت بالأدلة التي أوردها أصحاب القول بالوجوب. فعدم الدليل على الزيادة ممنوع.

ومن القائلين بالاشتراك المعنوى من يذهب إلى أن صيغة افعل للقدر المشترك بين الثلاثة - الوجوب والندب والإباحة - يتمثل ذلك في الإذن الذي هو رفع الحرج عن الفعل. نقل ذلك الكمال وشارحه

(7)

ونسب هذا المذهب أمير باد شاه إلى المرتضى من الشيعة.

واحتج أصحاب هذا المذهب - كما في مسلم الثبوت - بدعوى ثبوت الإذن بالضرورة الإستقرائية أيضًا فلم يثبت الزائد. ورد عليهم بأن الزائد ثبت بالأدلة المتقدمة فعدم الدليل منموع أيضًا

(8)

.

وفي هذا المقام يقول البزدوى - من علماء الحنفية بعد بيان أن الصيغة حقيقة في الوجوب:

إنه إذا أريد بالأمر الإباحة أو الندب فهل يكون حقيقة؟. قال الكرخى والجصاص: إنه مجاز لأن اسم الحقيقة لا يتردد بين النفى والإثبات. فلما جاز أن يقال إنى غير مأمور بالفعل دل على أن الأمر به يكون مجازًا.

ثم وجه القول بأنه حقيقة بأن معنى الإباحة والندب من الوجوب بعضه في التقدير. لأن الوجوب ينتظم كلا من الإباحة والندب

(9)

.

(1)

تيسير التحرير جـ 1 ص 272.

(2)

الإحكام جـ 2 ص 210.

(3)

إرشاد الفحول ص 96.

(4)

تيسير التحرير جـ 1 ص 341.

(5)

جمع الجوامع جـ 1 ص 429.

(6)

شرح مسلم الثبوت جـ 1 ص 377.

(7)

تيسير التحرير جـ 1 ص 342.

(8)

شرح مسلم الثبوت جـ 1 ص 377.

(9)

كشف الأسرار جـ 1 ص 119.

ص: 39

وقال البخارى تعليقًا على ذلك ونقلًا عن أبى اليسر: إنه إذا أريد بالأمر الندب فهو مجاز عند أبى حنيفة وأصحابه وعامة الفقهاء. وذهب بعض أصحاب الشافعي وجمهور أصحاب الحديث إلى أنه حقيقة فيه وإليه مال فخر الإسلام.

ويوضح صدر الشريعة وجهة فخر الإسلام في اختباره كون استعمال الأمر في كل من الندب والإباحة حقيقة بقوله:

(1)

إن تأويله أن المجاز في اصطلاحه لفظ أريد به معنى خارج عن الموضوع فإذا أريد به جزء الموضوع له فلا يكون مجازًا.

يدل على ذلك قوله في هذا الموضوع: إن معنى الإباحة أو الندب من الوجوب بعضه في التقدير أما في اصطلاح غيره من العلماء فالمجاز لفظ أريد به غير ما وضع له سواء كان جزءه أو معنى خارجًا عنه. ثم قال:

وحاصل الخلاف في هذه المسألة أن إطلاق الأمر على الإباحة أو الندب أهو بطريق إطلاق اسم الكل على الجزء أم بطريق الاستعارة؟

ومعنى الاستعارة أن تكون علاقة المجاز وصفًا بينًا مشتركًا بين المعنى الحقيقى والمجازى كالشجاعة بين الإنسان الشجاع والأسد.

وقد نقل السعد تأويلًا لكلام فخر الإسلام بأن الأمر حقيقة للوجوب خاصة عند الإطلاق وللندب أو الإباحة عند انضمام القرينة ثم قال

(2)

.

لما كان فساد هذا التأويل ظاهرًا لتأديه إلى إبطال المجاز بالكلية بأن يكون مع القرينة حقيقة في المعنى المجازى ولأنه يجب في الحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له أي دل عليه بلا قرينة ذكروا له تأويلًا آخر وهو أن اللفظ المستعمل في جزء ما وضع له ليس بمجاز بناء على أنه يجب في المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له. واستطرد في هذا ثم قال:

(3)

فيؤول الخلاف إلى أن استعمال صيغة الأمر في الندب أو الإباحة من قبيل الاستعارة ليكون مجازًا أو من قبيل إطلاق اسم الكل على الجزء ليكون حقيقة قاصرة. وأوضحه بمثل ما سبق ثم علق على الموضوع بقوله: والمناقشة في أمثال ذلك مما لا يليق بهذه الصناعة.

‌4 - القائلون بالوقف:

أجمل الشوكانى مذاهب القائلين بالوقف فقال:

(4)

وقال الأشعرى والقاضى الباقلانى بالوقف فقيل إنهما توقفا في أنه موضوع للوجوب والندب وقيل توقفا بأن قالا: لا ندرى بما هو حقيقة فيه أصلًا. وحكى السعد في التلويح عن الغزالى وجماعة من المحققين أنهم ذهبوا إلى الوقف في تعيين المعنى الموضوع له حقيقة. وحكى أيضًا عن ابن سريج الوقف في تعيين المعنى المراد عند الاستعمال لا في تعيين الموضوع له عنده لأنه موضوع عنده بالاشتراك للوجوب والندب والإباحة والتهديد.

(1)

التوضيح جـ 2 ص 63.

(2)

التلويح على التوضيح جـ 2 ص 64.

(3)

المصدر السابق ص 65.

(4)

إرشاد الفحول ص 94.

ص: 40

كما أجمل حجتهم بقوله:

(1)

واحتج القائلون بالوقف بأنه لو ثبت تعيين الصيغة لمعنى من المعانى لثبت بدليل ولا دليل.

وبالرجوع إلى ما كتب وجدنا عبارته هكذا:

(2)

ذهب ابن سريج من أصحاب الشافعي إلى أن موجب الأمر أي الأثر الثابت به التوقف لأنه يستعمل في معان كثيرة بعضها حقيقة اتفاقًا وبعضها مجاز اتفاقًا فعند الإطلاق يكون محتملًا لمعان كثيرة والاحتمال يوجب التوقف إلى أن يتبين المراد فالتوقف عنده في تعيين المراد عند الاستعمال لا في تعيين الموضوع له لأنه عنده موضوع بالاشتراك اللفظى للوجوب والندب والإباحة والتهديد.

وذهب الغزالى وجماعة من المحققين إلى أن التوقف في تعيين الموضوع له أنه الوجوب فقط أو الندب فقط أو مشترك بينهما لفظًا.

ويعلق الفزى على قوله: إن الأمر عند الإطلاق يكون محتملًا لمعان كثيرة فيقول:

(3)

الظاهر أن ليس المراد من احتمال المعانى الكثيرة الاحتمال للمعانى الحقيقية والمجازية لرجحان الحقيقة على المجاز وتعينها عند عدم القرينة كتعينه عندها بل المراد احتمال المعانى الحقيقية ضرورة أنها متعددة أيضًا لأنه عنده موضوع بالاشتراك اللفظى.

وأما الإسنوى فيعلق على قول البيضاوى: "وقيل لأحدهما ولا نعرفه وهو قول حجة الإسلام الغزالى" فيقول:

(4)

السادس من أقوال الأصوليين أنها - الصيغة - حقيقة في أحدهما أي الوجوب أو الندب لكن لا يعرف هل هو حقيقة في الوجوب مجاز في الندب أو بالعكس ونقله المصنف - البيضاوى - عن حجة الإسلام الغزالى تبعًا لصاحب الحاصل. وليس كذلك فإن الغزالى نقل في المستصفى عن قوم أنه حقيقة في الوجوب فقط وعن قوم أنه حقيقة في الندب فقط وعن قوم أنه مشترك بينهما كلفظ العين. ثم نقل عن قوم التوقف بين هذه المذاهب. ونقله في المحصول عنه على الصواب وقال في المنخول: وظاهر الأمر الوجوب وما عداه فالصيغة مستعارة فيه. هذا لفظه وهو مخالف لكلامه في المستصفى.

وأما ابن الملك فيقول في تصويره لمذهب التوقف الوارد في كلام النسفى:

(5)

إن طائفة ذهبت إلى أن الأمر مشترك بين الثلاثة: الوجوب والندب والإباحة لأنه يستعمل في هذه المعانى من غير ترجيح أحدها، والأصل في الاستعمال الحقيقة فإذا صدر أمر لابد أن يتوقف فيه ما لم توجد قرينة تعين أحدها.

ويرى عزمى زادة في تعليقه على هذا التصوير أن الأمر يحتاج إلى بيان أكثر دقة فيقول:

قال أبو الحسن الأشعرى والقاضى الباقلانى والغزالى ومن تبعهم: لا ندرى أنها حقيقة في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معًا

(1)

المصدر السابق ص 96.

(2)

التلويح على التوضيح جـ 2 ص 51.

(3)

المصدر السابق.

(4)

نهاية السول جـ 1 ص 257، 258.

(5)

شرح المنار ص 120.

ص: 41

بالاشتراك فعلى قول هؤلاء جميعًا لا حكم له أصلًا بدون قرينة إلا التوقف.

ويقول الكمال وشارحه:

(1)

توقف الأشعرى والقاضى في أن الأمر موضوع للوجوب أو الندب وقيل توقفا فيه بمعنى لا يدرى مفهومه أصلًا.

وبالرجوع إلى كلام الغزالى في المستصفى وجدناه يصور مذهب الوقف ورأيه فيقول:

(2)

قال قوم يتوقف فيه ثم منهم من قال هو مشترك كلفظ العين ومنهم من قال لا ندرى أهو مشترك أو وضع لأحدهما واستعمل في الثاني مجازًا. والمختار أنه متوقف فيه.

والدليل القاطع فيه أن كونه موضوعًا لواحد من الأقسام لا يخلو إما أن يعرف عن عقل أو نقل ونظر العقل إما ضرورى أو نظرى ولا مجال للعقل في اللغات. والنقل إما متواتر أو آحاد ولا حجة في الآحاد والتواتر في النقل لا يعدو أربعة أقسام فإنه إما أن ينقل عن أهل اللغة عند وضعهم أنهم حرصوا بأنا وضعناه لكذا أو أقروا به بعد الوضع وإما أن ينقل عن الشارع الإخبار عن أهل اللغة بذلك أو تصديق من ادعى ذلك وإما أن ينقل عن أهل الإجماع وإما أن يذكر بين يدى جماعة يمتنع عليهم السكوت على الباطل. فهذه الوجوه الأربعة هي وجوه تصحيح النقل ودعوى شئ من ذلك في قوله افعل أو في قوله أمرتك بكذا أو قول الصحابي أمرنا بكذا لا يمكن فوجب التوقف فيه.

ثم تناول بعض شبه المخالفين بالرد عليها بعد أن أوردها موضحًا أنه لا يقول إن الأمر مشترك لكن يتوقف في كونه مشتركًا وأنه لا يدرى هل وضع لأحدهما وتجوز به عن الآخر أو وضع لهما معًا.

وهو يبطل مذهب القائلين بالندب محتجين بأنه أقل مراتب الاشتراك بين الوجوب والندب فيقول

(3)

.

إن هذا فاسد من ثلاثة اوجه:

الأول: أن هذا استدلال والاستدلال لا مدخل له في اللغات وليس هذا نقلًا عن أهل اللغة أن قول افعل للندب.

الثاني: أنه لو وجب تنزيل الألفاظ على الأقل المستيقن لوجب تنزيل هذا على الإباحة والإذن: إذ قد يقال أذنت لك في كذا فافعله فهو الأقل المشترك. أما حصول الثواب بفعله فليس بمعلوم كلزوم العقاب بتركه لاسيما على مذهب المعتزلة فالمباح عندهم حسن ويجوز أن يفعله الفاعل لحسنه وبأمر به وكذلك يلزم تنزيل صيغة الجمع على أقل الجمع ولم يذهبوا إليه.

الثالث: وهو التحقيق أن ما ذكروه إنما يستقيم أن لو كان الوجوب ندبًا وزيادة فتسقط الزيادة المشكوك فيها ويبقى الأصل ليس كذلك بل يدخل في حد الندب جواز تركه فهل تعلمون أن المقول فيه افعل يجوز تركه أم لا فإن لم تعلموه فقد شككتم في كونه ندبًا وإن علمتموه فمن أين ذلك واللفظ لا يدل على لزوم المأثم بتركه فلا يدل على سقوط المأثم بتركه أيضًا.

(1)

التقرير والتحبير جـ 1 ص 303.

(2)

المستصفى جـ 1 ص 423.

(3)

المستصفى جـ 1 ص 426.

ص: 42

ويرد على الشبهة الثانية التي تمسك بها القائلون بالندب وهى قوله عليه السلام: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فانتهوا" ففوض الأمر إلى استطاعتنا ومشيئتنا وجزم في النهى بطلب الانتهاء: فقال: هذا اعتراف بأنه من جهة اللغة والوضع للندب واستدلال بالشرع ولا يثبت مثل ذلك بخبر الواحد لو صحت دلالته. كيف ولا دلالة له إذ لم يقل فافعلوا ما شئتم بل قال ما استطعتم كما قال: "فاتقوا الله ما استطعتم" وكل إيجاب مشروط بالاستطاعة.

وأما قوله: "فانتهوا" كيف دل على وجوب الانتهاء وقوله "فانتهوا" صيغة أمر وهو محتمل للندب

(1)

.

وأما شبهة الصائرين إلى أن الأمر للوجوب فقد اعتبر في إبطالها جميع ما ذكره في إبطال مذهب الندب وأضاف إلى هذا:

أن الندب داخل تحت الأمر حقيقة ولو حمل على الوجوب لكان مجازًا في الندب وكيف يكون مجازًا فيه مع وجود حقيقته إذ حقيقة الأمر ما يكون ممتثله مطيعًا والممتثل مطيع بفعل المندوب.

وأوضح ما أجمله في هذا الرد فقال:

قولهم إن المأمور في اللغة والشرع جميعًا يفهم وجوب المأمور به حتى لا يستحق الذم والعقاب عند المخالفة ولا الوصف بالعصيان وهو اسم ذم ولذلك فهمت الأمة وجوب الصلاة والعبادات ووجوب السجود لآدم بقوله {اسْجُدُوا} .

ورده على ذلك أن هذا كله نفس الدعوى وحكاية المذهب وليس شئ منه مسلمًا وكل ذلك علم بالقرائن فقد تكون للآمر عادة مع المأمور وعهد وتقترن به أحوال وأسباب بها يفهم الشاهد الوجوب واسم العصيان لا يسلم إطلاقه على وجه الذم إلا بعد قرينة الوجوب لكن قد يطلق لا على وجه الذم كما يقال أشرت عليك فعصيتنى وخالفتني

(2)

.

وقال: إنهم يقولون إن الإيجاب من المهمات في التخاطب فإن لم يكن افعل مثلًا عبارة عنه فلا يبقى له ما يدل عليه ومحال أن يهمل العرب ذلك.

ورد ذلك بأنه منقوض بالمندوب فإن الندب أمر مهم أيضًا فليكن افعل عبارة عنه كذلك.

ومن الشبه التي استندوا إليها أيضًا أن قولة افعل إما أن تفيد المنع أو التخيير أو الدعاء فإذا بطل التخيير والمنع تعين الدعاء والإيجاب ورد عليها بأنه يبقى قسم رابع وهو أن لا يفيد واحدًا من الأقسام إلا بقرينة كالألفاظ المشتركة.

ثم رد على شبهتهم من جهة السنة وقال:

(3)

إن تمسكهم بأخبار آحاد لو كانت صريحة صحيحة لم يثبت بها مثل هذا الأصل وليس شئ منها صريحا. فمنها قوله عليه السلام لبريرة وقد عتقت تحت عبد وكرهته لو راجعتيه فقالت بأمرك يا رسول الله؟ فقال لا إنما أنا شافع فقالت:

(1)

المصدر السابق ص 428.

(2)

المستصفى جـ 1 ص 430.

(3)

المصدر السابق ص 432.

ص: 43

لا حاجة لى فيه. فقد علمت أنه لو كان أمرًا لوجب وكذلك عقلت الأمة.

ورد على هذه الحجة بأن هذا وضع على بريرة وتوهم فليس في قولها إلا استفهام أنه أمر شرعى من جهة الله تعالى حتى تطيع طلبًا للثواب أو شفاعة لسبب الزوج حتى تؤثر غرض نفسها عليه.

فإن قيل شفاعة الرسول: عليه السلام أيضًا مندوب إلى إجابتها وفيها ثواب قلنا:

وكيف قالت لا حاجة لى فيه والمسلم يحتاج إلى الثواب فلا يقول ذلك لكنها اعتقدت أن الثواب في طاعته في الأمر الصادر عن الله تعالى وفيما هو لله لا فيما يتعلق بالأغراض الدنيوية أو علمت أن ذلك في الدرجة دون منا ندبت إليه فاستفهمت أو أفهمت بالقرينة أنها شكت في الوجوب فعبرت بالأمر عن الوجوب فأفهمت.

ومنها قوله عليه السلام "لولا أنى أخاف أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" قول على أنه للوجوب وإلا فهو مندوب.

قلنا لما كان قد حثهم على السواك ندبًا قبل ذلك أفهم أنه أراد بالأمر ما هو شاق أو كان قد أوحى إليه أنك لو أمرتهم بقولك استاكوا لأوجبنا ذلك عليهم فعلمنا أن ذلك يجب بإيجاب الله تعالى عند إطلاقه صيغة الأمر.

ومنها قوله عليه السلام لأبى سعيد الخدرى لما دعاه وهو في الصلاة فلم يجبه: "أما سمعت الله تعالى يقول {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}

(1)

فكان هذا التوبيخ على مخالفة أمره.

قلنا لم يصدر منه أمر بل مجرد نداء وكان قد عرفهم بالقرائن تفهيمًا ضروريًا وجوب التعظيم له وأن ترك جواب النداء تهاون وتحقير بأمره بدليل أنه كان في الصلاة وإتمام الصلاة واجب ومجرد النداء لا يدل على ترك واجب بل يجب تركه بما هو أوجب منه كما يجب ترك الصلاة لإنقاذ الغرقى ومجرد النداء لا يدل عليه.

ومنها قول الأقرع بن حابس: أحجنا هذا لعامنا هذا أم للأبد فقال عليه السلام: "للأبد ولو قلت نعم لوجب" فدل على أن جميع أوامره للإيجاب.

قلنا قد كان عرف وجوب الحج بقوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}

(2)

وبأمور أخر صريحة لكن شك في أن الأمر للتكرار أو للمرة الواحدة فإنه متردد بينهما ولو عين الرسول عليه السلام أحدهما لتعين وصار متعينًا في حقنا ببيانه فمعنى قوله لو قلت نعم لوجب أي لو عينت لتعين.

وآخر الشبه التي تولى الرد عليها من جهة الإجماع قال

(3)

: زعموا أن الأمة لم تزل في جميع الأعصار ترجع في إيجاب العبادات وتحريم المحظورات إلى الأوامر والنواهى كقوله {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} ، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} وأمثاله.

والجواب أن هذا وضع وتقول على الأمة ونسبة لهم إلى الخطأ ويجب تنزيههم عنه نعم يجوز أن يصدر ذلك من طائفة ظنوا أن ظاهر الأمر للوجوب وإنما فهم المحصلون وهم الأقلون

(1)

آية 24 سورة الأنفال.

(2)

آية 97 سورة آل عمران.

(3)

المصدر السابق ص 434.

ص: 44

ذلك من القرائن والأدلة بدليل أنهم قطعوا بوجوب الصلاة وتحريم الزنا والأمر محتمل للندب وإن لم يكن موضوعًا له والنهى يحتمل التنزيه. وكيف قطعوا مع الاحتمال لولا أدلة قاطعة. وما قولهم إلا كقول من يقول الأمر للندب بالإجماع لأنهم حكموا بالندب في الكتابة والاستشهاد وأمثاله لصيغة الأمر. والأوامر التي حملتها الأمة على الندب أكثر فإن النوافل والسنن والآداب أكثر من الفرائض إذ ما من فريضة إلا ويتعلق بها وبإتمامها وبآدابها سنن كثيرة.

أو نقول هي للإباحة بدليل حكمهم بالإباحة في قوله {فَاصْطَادُوا} وقوله {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}

(1)

وإن كان ذلك للقرائن فكذلك الوجوب.

فإن قيل وما تلك القرائن؟ قلنا: أما في الصلاة فمثل قوله تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}

(2)

وما ورد من التهديدات في ترك الصلاة وما ورد من تكليف الصلاة في حال شدة الخوف والمرض إلى غير ذلك. وأما الزكاة فقد اقترن بقوله تعالى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}

(3)

إلى قوله {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} . وأما الصوم فقوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}

(4)

وقوله {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وإيجاب تداركه على الحائض. وكذلك الزنا والقتل ورد فيها تهديدات ودلالات تواردت على طول مدة النبوة لا تحصى.

فلذلك قطعوا به لا بمجرد الأمر الذي منتهاه أن يكون ظاهرًا فيتطرق إليه الاحتمال وقد رأى الآمدى أن التوقف هو الأصح فقال:

(5)

ومنهم من توقف وهو مذهب الأشعرى رحمه الله ومن تابعه من أصحابه كالقاضى أبى بكر والغزالى وغيرهما وهو الأصح.

وذلك لأن وضعه مشتركًا أو حقيقة في البعض مجازًا في البعض إما أن يكون مُدركه عقليًا أو نقليًا: الأول محال إذ العقول لا مدخل لها في المنقول لا ضرورة ولا نظرًا والثاني إما أن يكون قطعيًا أو ظنيًا والقطعى غير متحقق فيما نحن فيه والظنى إنما ينفع أن لو كان إثبات مثل هذه المسألة مما يُقنع فيه بالظن وهو غير مسلم فلم يبق غير التوقف.

ثم قال: إن أبا الحسين البصرى ذكر في الرد على الوقف ما يناهز ثلاثين شبهة دائرة بين غث وسمين.

وقد سلك مسلك الغزالى في إيراد الشبه الشرعية واللغوية والعقلية ونقضها غير أنه أوسع دائرة البحث بما لا يخرج عن مسلك الغزالى فليراجعه من أراد التوسع

(6)

.

وأشهر من تصدى لمذهب الوقفيين ابن حزم فقد ذكر مذهبهم وأطال في الرد عليهم قال:

(7)

قال بعض الحنفيين وبعض المالكيين وبعض الشافعيين إن أوامر القرآن والسنن ونواهيهما على الوقف حتى يقوم دليل على حملها إما على وجوب في العمل أو في التحريم وإما على ندب

(1)

آية 10 سورة الجمعة.

(2)

آية 103 سورة النساء.

(3)

آية 34 سورة التوبة.

(4)

آية 183 سورة البقرة.

(5)

الإحكام للآمدى جـ 2 ص 210.

(6)

المصدر السابق جـ 2 ص 212 - 224.

(7)

الاحكام لابن حزم جـ 2 ص 2.

ص: 45

وإما على إباحة وإما على كراهة.

وعمدة ما موهوا به أن قالوا: لو كان لفظ

الأمر موضوعًا للإيجاب لم يوجد أبدًا إلا كذلك

لكن لما وجدنا بلا خلاف منكم لنا أوامر معناها الندب أو الإباحة ووجدنا نواهى بلا خوف منكم لنا معناها الكراهة وجب أن لا تصرف الألفاظ إلى بعض ما تحتمله من المعانى دون بعض إلا بدليل. قالوا وألفاظ الأوامر عندنا من الألفاظ المشتركة التي لا تختص بمعنى واحد كما بمنزلة رِجْل وعين فإن قولك رجل ليس هو بأن يوقع على العضو أولى منه بأن يوقع على جماعة الجراد وقولك عين ليس بأن يوقع على عين النظر أولى من أن يوقع على عين الماء. فكذلك قول القائل "افعل" لما وجد يراد به الندب ووجد يراد به الإيجاب لم يكن إيقاعه على الإيجاب أولى من إيقاعه على الندب إلا بدليل.

ورد عليهم بقوله: إن لكل مسمى من عرض أو جسم اسما يختص به يتبين به مما سواه من الأشياء ليقع بها التفاهم ولو لم يكن ذلك لما كان تفاهم أبدًا ولبطل خطاب الله تعالى لنا.

وقد قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}

(1)

ولو لم يكن لكل معنى اسم متفرد به لما صح البيان أبدًا لأن تخليط المعانى هو الإشكال نفسه فإذن الأصل - الذي هو اختصاص كل معنى باسمه - ما ذكرنا بضرورة العقل وبنص القرآن.

ومضى في رده فقال:

(2)

ثم نقول لهم يلزمكم إن صححتم دليلكم أنكم قد وجدتم آيات كثيرة وأحاديث كثيرة منسوخات لا يحل العمل بها أن تتوقفوا في كل آية وفى كل حديث لاحتمال كل شئ منها في نفسه أن يكون منسوخًا كاحتمال كل أمر في نفسه أن يكون ندبًا فإن التزمتم ذلك كفرتم وإن أبيتم التزامه أصبتم وكنتم قد أبطلتم دليلكم في أنه لما وجدت أوامر معناها الندب وجب التوقف عن جميع الأوامر حتى يصح أنها إما إيجاب أو ندب.

‌الأمر مع القرينة

مما سبق يتضح أن الخلاف بين الأصوليين إنما يكون إذا تجردت صيغة الأمر عن القرينة أما إذا وجدت القرينة فإنها تعين المعنى المقصود من الأمر.

ولما كان المعنى الحقيقى لا يحتاج إلى قرينة فإن عامة الأصوليين الذين ذهبوا إلى أن الصيغة تفيد الوجوب على سبيل الحقيقة يذهبون هذا المذهب إذا تجردت الصيغة عن القرينة فإذا وجدت قرينة تفيد الوجوب كانت مؤكدة للمعنى الأصلى أما إذا دلت على معنى آخر من المعانى المجازية للصيغة صرفته عن معناه الحقيقى.

ومثل ذلك ينطبق على مذهب القائلين بأن الصيغة حقيقة في الندب أو أنها حقيقة في الإباحة.

وأما القائلون بالاشتراك فهم لا يتوقفون في المعنى الوضعى للصيغة إذ أنها عندهم موضوعة لكل معنى من المعانى التي تدل عليها الصيغة بالاشتراك ولكن المشترك تتوقف دلالته على أحد معانيه الحقيقية بخصوصه على وجود القرينة فالقرينة عند من قال بالاشتراك هي التي تحدد

(1)

آية 4 سورة إبراهيم.

(2)

الإحكام لابن حزم جـ 3 ص 5.

ص: 46

المعنى المقصود.

وأما القائلون بالوقف فإنهم يتوقفون عند عدم وجود القرينة فإذا وجدت زال التوقف.

ويقول الرهاوى في حاشيته على المنار

(1)

.

إن الأمر لا حكم له أصلًا بدون القرينة إلا التوقف مع اعتقاد أن ما أراد صاحب الشرع منها حق لأنها مجملة لازدحام المعانى. وحكم المجمل التوقف.

‌الأمر بعد الحظر

هذا البحث يتصل بمذهب جمهور الأصوليين الذين اتفقوا على أن الأصل في حقيقة الأمر هو الوجوب، وقد تكلم هؤلاء فيما إذا ورد مطلقًا بعد التحريم أي مسبوقًا بتحريم المأمور به وبحثوا عن حقيقته حينئذ ثم اختلفوا في أن الأمر؛ أيفيد الوجوب حينئذ كإفادته إياه قبل التحريم أم يفيد الإباحة أم الندب. ومنهم من توقف ويتضح هذا من تورده بعد.

‌أولًا: رأى الشافعية والمالكية:

‌1 - الغزالى:

ينقل الغزالى في هذه المسألة عن قوم أنهم قالوا: لا تأثير لتقديم الحظر أصلًا على الأمر

(2)

.

وينقل عن قوم آخرين أنهم قالوا: إن تقديم الحظر على الأمر قرينة تصرف الصيغة إلى الإباحة ثم قال: والمختار أنه ينظر فإن كان الحظر السابق عارضًا لعلة وعلقت صيغة افعل بزواله كقوله سبحانه {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}

(3)

فعرف الاستعمال يدل على أنه لرفع الذم فقط حتى يرجع حكمه إلى ما قبله وإن احتمل أن يكون رفع هذا الحظر بندب وإباحة لكن الأغلب ما ذكرناه كقوله تعالى {فَانْتَشِرُوا} وكقوله عليه السلام "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحى فادخروا".

أما إذا لم يكن الحظر عارضًا لعلة ولا صيغة افعل علق بزوالها فيبقى موجب الصيغة على أصل التردد بين الندب والإباحة. ونزيح ههنا احتمال الإباحة ويكون هذا قرينةً تُزِيح هذا الاحتمال وإن لم تعينه إذ لا يمكن دعوى عرف الاستعمال في هذه الصيغة حتى يغلب العرف الوضع أما إذا لم ترد صيغة "افعل" لكن قال فإذا حللتم فأنتم مأمورون بالاصطياد فهذا يحتمل الوجوب والندب ولا يحتمل الإباحة لأنه عرف في هذه الصورة وقوله أمرتكم بكذا يضاهى قوله افعل في جميع المواضع إلا في هذه الصورة وما يقرب منها.

‌2 - الآمدى:

ويصور الآمدى هذه المسألة في قوله:

(4)

إنه إذا وردت صيغة افعل بعد الحظر فمن قال أنها للوجوب قبل الحظر اختلفوا فمنهم من أجراها على الوجوب ولم يجعل لسبق الحظر تأثيرًا كالمعتزلة ومنهم من قال إنها للإباحة ورفع الحجر لا غير وهم أكثر الفقهاء ومنهم من توقف كإمام الحرمين وغيره.

والمختار أنها وإن كانت ظاهرة في الطلب

(1)

المنار ص 120.

(2)

المستصفى جـ 1 ص 435.

(3)

آية 2 سورة المائدة.

(4)

الإحكام للآمدى جـ 2 ص 260.

ص: 47

والاقتضاء وموقوتة بالنسبة إلى الوجوب والندب إلا أنها محتملة للإباحة والإذن في الفعل.

فإذا وردت بعد الحظر احتمل أن تكون مصروفة إلى الإباحة ورفع الحجر كما في قوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}

(1)

{فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا}

(2)

وقوله صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحى فادخروا" واحتمل أن تكون مصروفة إلى الوجوب كما لو قيل للحائض والنفساء: إذا زال عنك المانع فصلى وصومى.

وعند هذا فإما أن يقال بتساوى الاحتمالين أو بترجيح أحدهما على الآخر فإن قيل بالتساوى امتنع الجزم بأحدهما ووجب التوقف وإن قيل بالترجيح وامتناع التعارض من كل وجه فليس اختصاص الوجوب أولى من الإباحة إلا أن يقوم الدليل على التخصيص. والأصل عدمه. وعلى هذا أيضًا فيجب التوقف. كيف وأن احتمال الحمل على الإباحة أرجح نظرا إلى غلبة ورود مثل ذلك للإباحة دون الوجوب. وعلى كل تقدير فيمتتع الصرف إلى الوجوب.

‌3 - البيضاوى والإسنوى:

يصور كل من البيضاوى وشارحه الإسنوى هذا المقام بما يوضحه قول الإسنوى

(3)

إن القائلين إن الأمر للوجوب إذا ورد بعد التحريم ففيه عندهم مذهبان أصحهما عند الإمام الرازى وأتباعه ومنهم البيضاوى أن الأمر يكون أيضًا للوجوب ونقله ابن برهان في الوجيز عن القاضي والآمدى عن المعتزلة.

والثانى أن يكون للإباحة وهو الذي نص عليه الشافعي كما نقله ابن برهان في الوجيز عن أكثر الفقهاء والمتكلمين ورجحه ابن الحاجب وتوقف إمام الحرمين.

واستدل البيضاوى للقائلين بالوجوب بأن الأمر يفيده إذ التفريع عليه ووروده بعد الحرمة ليس معارضًا حتى يدفع ما ثبت له لأن الوجوب والإباحة منافيان للتحريم ومع ذلك لا يمتنع الانتقال من التحريم إلى الإباحة فكذلك الوجوب.

ثم قال الإسنوى: احتج الخصم بورودها للإباحة كقوله سبحان {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وأورد عددًا من الأمثلة المشابهة ثم قال:

وجوابه أن هذه الأدلة معارضة بقوله {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

(4)

فإن القتال فرض كفاية بعد أن كان حراما وكذلك قوله عليه السلام "فإذا أدبرت الحيضة فاغسلى عنك الدم وصلى" فإذا تعارضا تساقطا وبقى دليلنا سالما عن المنع فيفيد الوجوب.

‌ثانيًا: رأى الحنفية:

‌1 - البزدوى والبخارى:

يقول البزدوى:

(5)

إن الأمر بعد الحظر عند الحنفية للإيجاب إلا بدليل استدلالا بأصله وصيغته. ومنهم من قال بالندب والإباحة لقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} لكن ذلك عندنا بقوله تعالى {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}

(6)

لا بصيغة الأمر.

(1)

آية 2 سورة المائدة.

(2)

آية 10 سورة الجمعة.

(3)

شرح نهاية السول جـ 1 ص 268.

(4)

آية 5 سورة التوبة.

(5)

كشف الأسرار جـ 1 ص 120.

(6)

آية 4 سورة المائدة.

ص: 48

وقال البخارى في تعليقه:

(1)

إن جمهور الأصوليين على أن موجب الأمر المطلق قبل الحظر وبعده سواء فمن قال بأن موجبه التوقف أو الندب أو الإباحة قبل الحظر فكذلك يقول بعده ومن قال إن موجبه الوجوب قبل الحظر فعامتهم على أن موجبه الوجوب بعد الحظر أيضًا. وذهبت طائفة إلى أن موجبه قبل الحظر الوجوب وبعده الإباحة وعليه دل ظاهر قول الشافعي في أحكام القرآن. ثم قال: إن هذا هو المشهور المذكور في عامة الكتب. واستدرك على هذا بقوله: رأيت في نسخة من أصول الفقه أن الفعل إن كان مباحًا في أصله ثم ورد حظر معلق بغاية أو بشرط أو لعلة عرضت فالأمر الوارد بعد زوال ما علق الحظر به يفيد الإباحة عند جمهور أهل العلم كقوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} لأن الصيد كان حلالًا على الإطلاق ثم حرم بسبب الإحرام فكان قوله تعالى {فَاصْطَادُوا} إعلامًا بأن سبب التحريم قد ارتفع وعاد الأمر إلى أصله.

وإن كان الحظر واردًا ابتداء غير معلل بعلة عارضة ولا معلق بشرط ولا غاية فالأمر الوارد بعده هو المختلف فيه.

ثم نقل عن المعتمد أن الأمر إذا وجد بعد حظر عقلى أو شرعى أفاد ما يفيده لو لم يتقدمه حظر من وجوب أو ندب. وقال بعض الفقهاء إنه يفيد بعد الحظر الشرعى الإباحة.

واحتج من قال إنه يفيد الإباحة بأن هذا النوع من الأمر يفيد الإباحة في أغلب الاستعمال وساق أمثلة من الكتاب والأحاديث تدل على ذلك ثم أورد مثالًا عرفيًا وهو قول الرجل لعبده ادخل الدار بعد أن قال له لا تدخل فإنه يفهم منه الإباحة دون الوجوب لأن الحظر المتقدم قرينة دالة على أن المقصود رفع الحظر لا الإيجاب. كما أن عجز المأمور قرينة دالة على أن المقصود إظهار عجزه لا وجود الفعل فصار كأن الآمر قال: قد كنت منعتك عن كذا فرفعت ذلك المنع وأذنت لك فيه.

وقال: إن العامة تحتج بأن المقتضى للوجوب قائم وهو الصيغة الدالة على الوجوب إذ الوجوب هو الأصل فيها والعارض الموجود لا يصلح معارضًا لذلك لأنه كما جاز الانتقال من المنع إلى الإذن جاز الانتقال منه إلى الإيجاب. كيف وقد ورد الأمر بعد الحظر للوجوب أيضًا كقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

(2)

وقوله عز وجل {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} وكأمر الحائض والنفساء بالصلاة والصوم بعد زوال المانع وغير ذلك من الأمثلة. ثم قال: فهذا كله يفيد الوجوب وإن كان بعد الحظر.

فثبت بما ذكرنا أن الحظر المتقدم لا يصلح قرينة لصرف الصيغة عن الوجوب إلى الإباحة كما أن الإيجاب المتقدم لا يصلح قرينة لصرف النهى الوارد بعده عن التحريم إلى الكراهة والتنزيه بالاتفاق. وإنما فهمت الإباحة فيما استدلوا به بقرائن غير الحظر المتقدم فإنه لولا الحظر المتقدم لفهم منها الإباحة أيضًا.

وعلق البخارى على قول البزدوى: "ومنهم من قال بالندب والإباحة" فقال:

(3)

إنما جمع الشيخ

(1)

المصدر السابق.

(2)

آية 5 سورة التوبة.

(3)

المصدر السابق.

ص: 49

بين الندب والإباحة وإن لم يوجد القول بالندب في عامة الكتب. وإنما وقع ذلك من البزدوى لتأثره بما قيل في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا}

(1)

أن الأمر للندب حتى قيل إنه يستحب إجراء العقود في هذه الساعة لندب الله إليه. ونقل عن سعيد بن جبير أنه قال: إذا انصرفت من صلاة الجمعة فساوم بشئ وإن لم تشتره.

‌ثالثًا: المتأخرون من الأصوليين:

قال صدر الشريعة:

(2)

إن الأمر بعد الحظر كالأمر قبله للأدلة التي أوردناها قبل ذلك للقائلين بذلك. وهناك رأى يقول إنه بعد الحظر للندب كما يدل عليه قوله سبحانه: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وقيل للإباحة كما في آية {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} .

(3)

ثم رد ذلك بأن كلا من الندب والإباحة في الآيتين ثبت بالقرينة فإن الابتغاء والاصطياد إنما أمر بهما لحق العباد ومنفعتهم فلا ينبغى أن يثبتا على وجه تنقلب المنفعة مضرة بأن يجب عليهم.

وعلق السعد على ذلك فقال:

اختلف القائلون بأن الأمر للوجوب في موجب الأمر بالشئ بعد حظره وتحريمه فالمختار أنه أيضًا للوجوب بالدلائل المذكورة فإنه لا يفرق بين الواردة بعد الحظر وغيره.

ولقائل أن يقول: الدلائل المذكورة إنما هي في الأمر المطلق والورود بعد الحظر قرينة على أن المقصود رفع التحريم لأنه المتبادر إلى الفهم وهو حاصل الإباحة. والوجوب أو الندب زيادة لابد لها من دليل.

وقيل للندب كالأمر بطلب الرزق وكسب المعيشة بعد الانصراف من الجمعة وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه "إذا انصرفت من الجمعة فساوم بشئ وإن لم تشتره".

وقيل للإباحة كالأمر بالاصطياد بعد الإحلال.

وأجيب بأن المثال الجزئى لا يصحح القاعدة الكلية لجواز أن يثبت الندب والإباحة في الآيتين بمعونة القرينة وهى أن مثل الكسب والاصطياد إنما شرع حقًّا للعبد فلو وجب لصار حقًّا لله تعالى عليه فيعود على موضوعه بالنقص.

وذكر الإمام السرخسى أن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} للإيجاب لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طلب الكسب بعد الصلاة فريضةً بعد الفريضة" وتلى قوله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} .

واعلم أن المشهور في كتب الأصول أن الأمر المطلق بعد الحظر للإباحة عند الأكثرين وللوجوب عند البعض وذهب البعض إلى التوقف. وليس القول بكونه للندب مما ذهب إليه البعض.

ولا نزاع في الحمل على ما يقتضيه المقام عند انضمام القرينة.

وأما ابن السبكى والمحلى فيتجهان

(4)

إلى أن صيغة "افعل" إن وردت بعد حظر لمتعلقه فللإباحة حقيقة لتبادرها إلى الذهن في ذلك

(1)

آية 10 سورة الجمعة.

(2)

التنقيح والتوضيح جـ 2 ص 62.

(3)

آية 2 سورة المائدة.

(4)

جمع الجوامع وشرحه جـ 1 ص 431.

ص: 50

لغلبة استعماله فيها حينئذ والتبادر علامة للحقيقة.

ونقلًا عن أبى الطيب والشيرازى والرازى أنه للوجوب حقيقة كما في غير ذلك وأن غلبة الاستعمال في الإباحة لا تدل على الحقيقة فيها.

وأضاف العطار في حاشيته قولًا آخر وهو الندب ومثل له بقوله عليه السلام للمغيرة بن شعبة - وقد خطب امرأة: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" فإنه أمر وارد بعد الحظر وهو تحريم النظر إلى الأجنبية عند خوف الفتنة.

ثم إنهما ذكرا قولا خامسًا وهو إسقاط الحظر والرجوع إلى ما كان عليه من وجوب أو غيره.

ونقل الكمال بن الهمام

(1)

أن أكثر المتفقين على الوجوب لصيغة الأمر حقيقة يرون أن صيغة الأمر بعد الحظر للإباحة باستقراء الاستعمالات الشرعية فوجب الحمل على الإباحة عند التجرد عن الموجب لغيره لوجوب الحمل على الغالب لصيرورته كالأصل بالنسبة إلى غيره ما لم يعلم أن المحمول ليس من الغالب.

ثم قال: "ولا مخلص من القول بأنه للإباحة للاستقراء المذكور إلا بمنع صحة الاستقراء إن تم منع صحته وهو محل نظر. وما قيل من أن أمر الحائض والنفساء بالصلاة والصوم بعد تحريمهما عليهما في الحيض والنفاس يفيد الوجوب لا الإباحة غلط لأن أمرهما بهما مطلق عن الترتيب على سبق الحظر والكلام في أن الأمر بعد الحظر للإباحة إنما هو في المتصل بالنهى على سبيل الإخبار كقوله صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم" وفى الأمر المعلق بزوال سبب الحظر كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ} .

ورد الاعتراض بقوله: "ويدفع هذا التخليط بورود الأمر للحائض في الصلاة معلقًا بزوال سبب الحظر في قوله: "فإذا أدبرت الحيضة فاغسلى عنك الدم وصلى" فعلق الأمر بالصلاة على زوال سبب حرمتها وهو انقطاع الحيض.

وانتهى إلى القول

(2)

: بأن الحق أن الاستقراء دل على أن الأمر بعد الحظر لما كان عليه المأمور به قبل المنع فإن اعترض الحظر على الإباحة ثم وقع الأمر بذاك المباح أولا "كاصطادوا" فالأمر للإباحة أو اعترض على الوجوب "كاغسلى عنك وصلى" فالأمر للوجوب فلنختر ذلك التفصيل.

‌رابعًا: الحنابلة:

إذا وردت صيغة الأمر بعد الحظر اقتضت الإباحة وهو ظاهر قول الشافعي. وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين: تفيد ما كانت تفيده لولا الحظر لعموم أدلة الوجوب ولأنها صيغة أمر مجردة عن قرينة فأشبهت ما لم يتقدمه حظر ولأن صيغة الأمر اقتضت نسخ الحظر وقد ينسخ بإيجاب وينسخ بإباحة. وإذا احتمل الأمرين بقى الأمر على مقتضاه في الوجوب. ولأن النهى بعد الأمر يقتضى ما كان مقتضيًا له فكذلك الأمر بعد الحظر.

(1)

التقرير والتحبير جـ 1 ص 207.

(2)

المصدر السابق 208.

ص: 51

وقال قوم إن ورد الأمر بعد الحظر بلفظة "افعل" يكون للإباحة لأن العرف يقتضى ذلك وإن ورد بغير هذه الصيغة يكون لما قبل الحظر من وجوب أو إباحة

(1)

.

دليلنا أن عرف الاستعمال في الأمر بعد الحظر الإباحة بدليل أكثر أوامر الشرع بعد الحظر للإباحة كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}

(2)

ونحوها من الأمثلة.

فإن قيل فقد قال الله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

(3)

قلنا ما استفيد وجوب القتل بهذه الآية بل بقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} {وَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} .

وأما أدلة الوجوب فإنما تدل على اقتضائه مع عدم القرائن الصادقة له بدليل المندوبات وغيرها وتقدم الحظر قرينة صادقة لما ذكرناه.

وقولهم إن النسخ يكون بالإيجاب قلنا إن النسخ إنما يكون بالإباحة التي تضمنها الإيجاب والإيجاب زائد لا يلزم من النسخ ولا يستدل به عليه

(4)

.

‌خامسًا: الظاهرية:

يصوره قول ابن حزم

(5)

:

إذا نسخ الحظر نظرنا إن جاء نسخه بلفظ الأمر فهو فرض واجب بعد أن كان حرامًا ثم قال:

وقد ادعى بعض من سلف أنه تتبع الأوامر كلها الواردة بعد الحظر فوجدها كلها اختيارًا أو إباحة وذكر من ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}

(6)

و"نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها""وعن الانتباذ في الظروف فانتبذوا" ثم رد ذلك بما يؤيد مذهبه في إفادة الوجوب.

‌سادسًا: الشيعة الجعفرية:

إذا وقع الأمر بعد الحظر في مقام ظنة أو تهمة فاختلف القائلون بدلالته على الوجوب في كونه حقيقة في الوجوب أو مجازًا في الندب أو الإباحة أو التوقف أو تابعيتها لما قبل الحظر إذا علق الأمر بزوال علة عروض النهى

(7)

.

والأقوى كونه للإباحة بمعنى الرخصة في الفعل ويلزمه بينًا رفع المنع السابق للتبادر بمعنى أرجحيته في النظر من الوجوب إذ ما تقدم من تقدم الحقيقة على المجاز اتفاقًا إنما هو إذا دار الأمر المعنى الحقيقى والمجازى إذا خلا المقام عن قرينة مرجحة لأحدهما. وأما مع القرينة الموجبة للجزم بإرادة المجاز فيقدم المجاز اتفاقًا وكذا مع إفادتها الظن به مع كون الأصل الحقيقة في النظر أيضًا فالمقصود أن ملاحظة المقام والالتفات إلى هذه القرينة - أعنى وقوع الصيغة عقيب الحظر - يوجب تقديم إرادة المعنى المجازى وهو الإباحة على الحقيقى فيدور ترجيح المعنى الحقيقى أو المجازى مع القرينة على حصول الترجيح والظهور.

(1)

روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل المطبعة السلفية بمصر جـ 2 ص 57.

(2)

آية 5 سورة المائدة.

(3)

آية 5 سورة التوبة.

(4)

المصدر السابق

(5)

الإحكام لابن حزم جـ 2 ص 77.

(6)

آية 222 سورة البقرة.

(7)

قوانين الأصول ص 89.

ص: 52

ثم رد المصنف على أدلة القائلين بالوجوب وقد سبق إيراد هذه الأدلة ثم قال

(1)

:

إن المراد من الأمر هنا مجرد رفع الحظر لما ذكرنا فلا دلالة فيها على أزيد من ذلك وأن الوجوب ليس من جهة هذا الأمر.

‌سابعًا: الإباضية:

جاء في الألفية

(2)

:

وحكمه إن جاء بعد الحظر والندب حكم ما مضى فلتدر.

ويقول الشارع

(3)

:

حكم الأمر إن ورد بعد الحظر أو بعد الندب هو كحكمه إن ورد ابتداء. أي إذا حرم الله سبحانه شيئًا ثم أمر به فذلك الأمر للوجوب إلا لقرينة تصرفه عن حقيقته وكذا إذا ندب لشئ ثم أمر به فالأمر به للوجوب إلا لقرينة كما كان ذلك في الأمر ابتداء.

ثم تصدى لأدلة القائلين بالوجوب أو بالإباحة وقال:

أما الاستدلال بالأغلبية فهو أمر ظنى يثبت عند عدم الذي هو أقوى منه أما عند الدليل القاطع فإنه يرد إليه فما قامت فيه قرينة أنه للإباحة فهو لها وما لم تقم فيه قرينة رد إلى أصله المعلوم قطعًا.

‌دلالة الأمر على التكرار أو المرة

‌أولًا: طريقة المتكلمين:

‌1 - الإمام الغزالى:

إن قول القائل: صم كما أنه في نفسه يتردد بين الوجوب والندب فهو بالإضافة إلى الزمان يتردد بين الفور والتراخى وبالإضافة إلى المقدار يتردد بين المرة الواحدة واستغراق العمر وقد قال قوم هو للمرة ويحتمل التكرار وقال قوم هو للتكرار والمختار أن المرة الواحدة معلومة وحصول براءة الذمة بمجردها مختلف فيه واللفظ بوضعه ليس فيه دلالة على نفى الزيادة ولا على إثباتها. وقياس مذهب الواقفية التوقف فيه لتردد اللفظ كتردده بين الوجوب والندب. لكنى أقول: ليس هذا ترددًا في نفس اللفظ على نحو تردد اللفظ المشترك بل اللفظ خال عن التعرض لكمية المأمور به لكن يحتمل الإتمام ببيان الكمية كما أنه يحتمل أن تتممه لسبع مرات أو خمس. وليس في نفس اللفظ تعرض للعدد ولا هو موضوع لآحاد الأعداد وضع اللغة كالمشترك

(4)

.

ثم قال

(5)

: والأظهر عندنا أنه إن فسره بعدد مخصوص كتسعة أو عشرة فهو إتمام بزيادة لس تفسيرًا إذ اللفظ لا يصلح للدلالة على تكرر وعدد وإن أراد استغراق العمر فقد أراد كلية الصوم في حقه وكأن كلية الصوم شئ فرد إذ له حد واحد وحقيقة واحدة فهو واحد بالنوع كما أن اليوم الواحد واحد بالعدد فاللفظ يحتمله ويكون ذلك بيانًا للمراد لا استئناف زيادة. ولهذا لو قال: أنت طالق ولم يخطر بباله عدد كانت الطلقة الواحدة ضرورة لفظه فيقتصر عليها ولو نوى الثلاث بعد لأنه كلية الطلاق فهو كالواحد بالجنس أو النوع.

ثم أورد ثلاث شبه للمخالفين القائلين بالتكرار وتولى الرد عليها:

(1)

المرجع السابق.

(2)

طلعة الشمس جـ 1 ص 28.

(3)

المصدر السابق.

(4)

المستصفى جـ 2 ص 2.

(5)

المصدر السابق ص 4.

ص: 53

الأولى: قولهم: قوله {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

(1)

يعم قتل كل مشرك فقوله "صم. وصل" ينيغى أن يعم كل زمان لأن إضافته إلى جميع الأزمان واحد كإضافة لفظ المشترك إلى جميع الأشخاص.

وأجاب عن ذلك: بأننا إن سلمنا صفة العموم فليس هذا نظيرًا له بل نظيره أن يقال: صم الأيام وصل الأوقات. أما مجرد قوله صم فلا يتعرض للزمان لا بعموم ولا بخصوص لكن الزمان من ضرورته كالمكان ولا يجب عموم الأماكن بالفعل وإن كان نسبة الفعل إلى كل مكان على وتيرة واحدة وكذلك الزمان.

الثانية: قولهم: إن قوله "صم" كقوله "لا تصم" وموجب النهى ترك الصوم أبدًا فليكن موجب الأمر فعل الصوم أبدًا.

ورد ذلك بأن قياسهم الأمر على النهى باطل من خمسة أوجه:

‌القياس:

1 -

أن القياس باطل في اللغات لأنها تثبت توقيفًا.

2 -

أنا لا نسلم في النهى لزوم الانتهاء مطلقًا بمجرد اللفظ.

3 -

أنا نقرن بأن الأمر يدل على أن المأمور ينبغى أن يوجد مطلقًا والنهى يدل على أن ينبغى أن لا يوجد مطلقًا والنفى المطلق يعم والوجود المطلق لا يعم فكل ما وجد مرة فقد وجد مطلقًا وما انتفى مرة فما انتفى مطلقًا.

4 -

أنه لو حمل الأمر على التكرار لتعطلت الأشغال كلها وحمل النهى على التكرار لا يفضى إليه إذ يمكن الانتهاء في حالة واحدة عن أشياء كثيرة مع الاشتغال بشغل ليس ضد المنهى عنه.

5 -

أن النهى يقتضى قبح المنهى عنه ويجب الكف عن القبيح كله والأمر يقتضى الحسن ولا يجب الإتيان بالحسن كله وهذا أيضًا فاسد فإن الأمر والنهى لا يدلان على الحسن والقيح فإن الآمر بالقبيح تسميه العرب آمرًا فتقول أمر بالقبيح وما كان ينبغى أن يأمر به. وأما الأمر الشرعى فقد ثبت أنه لا يدل على الحسن ولا النهى عن القبيح فإنه لا معنى للحسن والقبح بالإضافة إلى ذوات الأشياء بل الحسن ما أمر به والقبيح ما نهى عنه فيكون الحسن والقبح تابعًا للأمر والنهى لا علة ولا متبوعًا.

الثالثة: أن أوامر الشرع في الصوم والصلاة والزكاة حملت على التكرار فتدل على أنه موضوع له وأجاب: بأنه قد حمل الحج على الوحدة فليدل على أنه موضوع له.

‌2 - الآمدى:

اختلف الأصوليون في الأمر العرى عن القرائن فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينى وجماعة من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه مقتض للتكرار المستوعب لزمان العمر مع الإمكان، وذهب آخرون إلى أنه للمرة الواحدة ومحتمل للتكرار ومنهم من نفى احتمال التكرار وهو اختيار أبى الحسين البصرى وكثير من الأصوليين، ومنهم من توقف في الزيادة عن المرة ولم يقض فيها بنفى ولا إثبات وإليه ميل إمام الحرمين والواقفية.

(1)

آية 5 سورة التوبة.

ص: 54

والمختار أن المرة الواحدة لابد منها في الامتثال وهو معلوم قطعًا والتكرار محتمل فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه وإلا كان الاقتصار على المرة الواحدة كافيًا

(1)

.

والدليل على ذلك أنه إذا قال له "صل أو صم" فقد أمره بإيقاع فعل الصلاة والصوم وهو مصدر افعل والمصدر محتمل للاستغراق والعدد ولهذا يصح تفسيره به فإنه لو قال لزوجته أنت طالق ثلاثًا وقع به لما كان تفسيرًا للمصدر وهو الطلاق ولو اقتصر على قوله أنت طالق لم يقع سوى طلقة واحدة مع احتمال اللفظ للثلاث. فإذا قال "صل" فقد أمره بإيقاع المصدر وهو الصلاة والمصدر محتمل للعدد فإن اقترنت به قرينةٌ مشعرة بإرادة العدد حمل عليها وإلا فالمرة الواحدة تكون كافية. ولهذا فإنه لو أمر عبده أن يتصدق صدقة أو يشترى خبزًا أو لحمًا فإن يكتفى منه بصدقة واحدة وشراء واحد ولو زاد على ذلك فإنه يستحق اللوم والتوبيخ لعدم القرينة الصادقة إليه. وإن كان اللفظ محتملًا. وإنما كان كذلك لأن حال الأمر متردد بين إرادة العدد وعدم إرادته وإنما يجب العدد مع ظهور الإرادة ولا ظهور إذ الفرض فيما إذا عدمت القرائن المشعرة به فقد بطل القول بعدم إشعار اللفظ بالعدد مطلقًا وبطل القول بظهوره فيه وبالوقف أيضًا. والاعتراض هنا يختلف باختلاف مذاهب الخصوم.

ثم أورد شبه القائلين بالتكرار والقائلين بامتناع احتمال التكرار وشبه القائلين بالوقف ورد عليها بمثل ما نقلناه عن الغزالى في جملته وإن كان قد زاد عليه في عدد من الاعتراضات والردود بما لا يحتمل المقام إيراده

(2)

.

‌3 - مسلك البيضاوى والإسنوى:

إذا ورد الأمر مقيدًا بالمرة أو التكرار حمل عليه وإن ورد مقيدًا بصفة أو شرط فإنه يتكرر قياسًا لا لفظًا وإن كان مطلقًا عن القيود ففيه مذاهب

(3)

.

أحدها: أنه لا يدل على تكرار ولا على مرة بل يفيد طلب الماهية من غير إشعار بتكرار أو مرة إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به لا جرم أنه يدل عليها من هذا الوجه. وهذا المذهب اختاره الإمام الرازى وأتباعه ونقله عن الأقلين واختاره أيضًا الآمدى وابن الحاجب والبيضاوى.

الثاني: أنه يدل على التكرار المستوعب لزمان العمر وهو رأى الأستاذ - أبو إسحاق الإسفرابينى - وجماعة من الفقهاء والمتكلمين لكن بشرط الإمكان كما قاله الآمدى.

الثالث: أنه يدل على المرة وهو قول أكثر أصحابنا "الأشاعرة" ونقل عن أبى حامد أنه مقتضى قول الشافعي.

الرابع: أنه مشترك بين التكرار والمرة فيتوقف إعماله في أحدهما على وجود القرينة.

(1)

الإحكام للآمدى جـ 2 ص 225.

(2)

المصدر السابق من ص 226 - 235.

(3)

شرح نهاية السول جـ 1 ص 269.

ص: 55

الخامس: أنه لأحدهما ولا نعرفه فعلى هذا يتوقف أيضًا واختار إمام الحرمين التوقف ثم قال

(1)

:

والدليل على ما قلناه - الأمر بذاته لا يدل على تكرار أو مرة - من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه يصح أن يقال افعل ذلك مرة أو مرات وليس فيه تكرار ولا نقض إذ لو كان للمرة لكان تقييده بالمرة تكرارًا لما تفيده الصيغة من بالمرة ولكان تقييده بالمرات نقضًا ولو كان للتكرار لكان تقييده به تكرارًا وبالمرة نقضًا.

الثاني: أن الأمر المطلق ورد تارة مع التكرار شرعًا كآية الصلاة وعرفا نحو احفظ دابتى وورد تارة للمرة شرعًا كآية الحج وعرفا كقوله ادخل الدار فيكون حقيقة في القدر المشترك بين التكرار والمرة وهو طلب الإتيان بالفعل مع قطع النظر عن التكرار والمرة لأنه لو كان حقيقة في كل منهما لزم الاشتراك وإن كان في أحدهما فقط لزم المجاز وهما خلاف الأصل.

الثالث: وهو دليل على إبطال التكرار خاصة أنه لو كان للتكرار لعم الأوقات كلها لعدم أولوية وقت دون وقت والتعميم باطل لأنه تكليف بما لا يطاق ولأنه يلزم أن ينسخه كل تكليف يأتى بعده لا يمكن أن يجامعه في الوجود لأن الاستغراق الثابت بالأول يزول بالاستغراق الثابت بالثانى.

ثم أورد البيضاوى والإسنوى أدلة القائلين بأنه يفيد التكرار وردا عليها فقالا

(2)

:

احتج من قال بأن الأمر يفيد التكرار بثلاثة أوجه:

الأول: أن أهل الردة لما منعوا الزكاة تمسك أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وجوب تكرارها بقوله تمالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعًا منهم على أنها للتكرار.

والجواب أنه لعل النبي عليه السلام بين للصحابة أن هذه الآية للتكرار فإن قيل الأصل عدمه قلنا لما أجمعوا على التكرار مع أن الصيغة المجردة لا تقتضى ذلك تعين ما قلناه جمعًا بين الأدلة.

الثاني: النهى يقتضى التكرار فكذلك الأمر قياسًا عليه والجامع أن كلا منهما للطلب.

وجوابه أن الانتهاء عن الشئ أبدًا ممكن لأن فيه بقاء على العدم وأما الاشتغال به أبدًا فغير ممكن.

الثالث: لو لم يدل على التكرار بل دل على المرة لم يجز ورود النسخ لأن وروده إن كان بعد فعلها فهو محال لأنه تكليف وإن كان قبله فهو يدل على البداء وهو ظهور المصلحة بعد خفائها أو بالعكس وهو على الله تعالى محال. لكن ورود النسخ جائز فدل على أنه للتكرار.

وجوابه أن النسخ لا يجوز وروده على الأمر الذي يقتضى مرة واحدة لكن إذا ورد على الأمر المطلق صار ذلك قرينة في أنه كان المراد به التكرار. وحمل الأمر على التكرار لقرينة جائز.

ثم انتقلا إلى دليل القائلين بأنه مشترك بين التكرار والمرة والإجابة عليه فقالا

(3)

:

(1)

المصدر السابق ص 270.

(2)

المصدر السابق 271.

(3)

المصدر السابق 272.

ص: 56

استدل من قال بأن الأمر مشترك بين التكرار والمرة بأنه يحسن الاستفسار فيه فيقال للآمر أردت بالأمر مرة واحدة أم دائمًا؟ ولذلك قال سراقة للنبى عليه السلام: أحجنا هذا لعامنا أم للأبد؟ مع أنه من أهل اللسان وأقره عليه فلو كان الأمر موضوعًا في لسان العرب للتكرار أو للمرة لاستغنى عن الاستفسار.

وجوابه أن ما قاله ممنوع فإنه قد يُستفسر عن أفراد المتواطئ - الصادق بالمرة والتكرار - كما إذا قال اعتق رقبة فتقول: أمؤمنة أم كافرة؟ سليمة أم معيبة؟

‌ثانيًا: الحنفية:

‌1 - البزدوى والبخارى:

اعلم أن القائلين بالوجوب في الأمر المطلق اختلفوا في إفادته التكرار

(1)

:

فقال بعضهم إنه يوجب التكرار المستوعب لجميع العمر إلا إذا قام دليل يمنع منه ويحكى هذا عن المزنى وهو اختيار أبي إسحاق الإسفرايينى من أصحاب الشافعي وعبد القاهر البغدادى من أصحاب الحديث وغيرهم وبعض أصحاب الشافعي يرون أنه لا يوجب التكرار ولكن يحتمله ويروى هذا عن الشافعي. والفرق بين الموجب والمحتمل أن الموجب يثبت من غير قرينة والمحتمل لا يثبت بدونها.

وقال بعض مشايخنا؛ الأمر المطلق لا يوجب التكرار ولا يحتمله. لكن المعلق بشرط كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}

(2)

أو المفيد بوصف كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}

(3)

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}

(4)

يتكرر بتكرره وهو قول بعض أصحاب الشافعي ممن قال إنه لا يوجب التكرار ولكن يحتمله.

وهذا القول يستقيم على أصلهم لأن الأمر لما احتمل التكرار عندهم كان تعليقه بالشرط أو بالوصف قرينة دالة على ثبوت ذلك المحتمل. فأما من قال إنه لا يحتمل التكرار في ذاته فهذا القول منه غير مستقيم لأنه لا أثر للتعليق والتقييد في إثبات ما لا يحتمله اللفظ.

ثم قال البخارى: والمذهب الصحيح عندنا أنه لا يوجب التكرار ولا يحتمله سواء كان مطلقًا أو معلقًا بشرط أو مخصوصًا بوصف إلا أن الأمر بالجنس يقع على أقل جنسه وهو أدنى ما يعد ممتثلًا به ويحتمل كل الجنس بدليله وهو النية وهو قول المحققين من أصحاب الشافعي.

وحاصل هذا القول أن العموم ليس بموجب للأمر ولا بمحتمل ولكنه يثبت في ضمن موجبه بدليل يدل عليه.

ثم ذكر البزدوى دليل القائلين بالتكرار فقال

(5)

:

وجهه أن لفظ الأمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر الذي هو اسم لجنس الفعل والمختصر من الكلام والمطول سواء. واسم الفعل عام لجنسه فوجب العمل بعمومه كسائر الفاظ العموم.

ووضح البخارى معنى الاختصار في كلام البزدوى فقال:

(1)

كشف الأسرار ص 122 جـ 1.

(2)

آية 6 سورة المائدة.

(3)

آية 2 سورة النور.

(4)

آية 38 سورة المائدة.

(5)

المصدر السابق ص 123.

ص: 57

لفظ الأمر مختصر من طلب الفعل بمصدر ذلك الأمر فإن "اضرب" مختصر من قولك "أطلب منك الضرب" كما أن "ضَرَبَ" مختصر من قوله "فعل الضرب في الزمان الماضي" والمختصر من الكلام والمطول في إفادة المعنى سواء فإن قولك: هذا جوهر مضئ محرق وقولك هذا نار سواء.

وانتقل البزدوى إلى دليل القائلين بالاحتمال فقال:

إن دليلهم هو دليل القائلين بالتكرار غير أن المصدر اسم نكرة في موضع الإثبات فأوجب الخصوص على احتمال العموم ألا ترى أن نية الثلاث صحيحة وهو عدد لا محالة فكذلك المثنى. ألا ترى إلى قول أقرع بن حابس في: السؤال عن الحج: ألعامنا هذا أم للأبد؟

وأما القائلون بأن الصيغة لا توجب التكرار ولا تحتمله إلا أن يكون معلقًا بشرط أو مخصوصًا بوصف فاستدلوا بالنصوص الواردة من الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}

(1)

{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}

(2)

.

ثم انتقل بعد ذلك إلى دليل الحنفية فقال

(3)

:

إن لفظ الأمر صيغة اختصرت لمعناها من طلب الفعل لكن لفظ الفعل فرد وكذلك سائر الأسماء المفردة والمصادر مثل قول الرجل لامرأته: طلقى أو أوقعى طلاقًا أو افعلى تطليقًا أو التطليق وهما اسمان فردان ليسا بصيغتى جمع ولا عدد وبين الفرد والعدد تناف. وكما لا يحتمل العدد معنى الفرد لم يحتمل الفرد معنى العدد أيضًا وكذلك الأمر بسائر الأفعال كقولك: اضرب أي اكتسب ضريًا أو الضرب وهو فرد بمنزلة زيد وعمرو فلا يحتمل العدد إلا أنه اسم جنس، له كل وبعض فالبعض منه الذي هو أقله فرد حقيقة وحكما.

وأما الطلقات الثلاث فليست لفرد حقيقة بل هي جزئيات متعددة ولكنها فرد حكما لأنها جنس واحد فصارت من طريق الجنس واحدًا.

وإنما أشكل على الأقرع بن حابس لأنه اعتبر ذلك بسائر العبادات. وعلى هذا يخرج أن كل اسم فاعل دل على المصدر لغة مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} لم يحتمل العدد حتى قلنا لا يجوز إن أراد بالآية إلا الإيمان لأن كل السرقات غير مراد بالإجماع قصار الواحد مرادًا بالفعل الواحد لا يقطع إلا واحد.

وقد أطال البخارى في التعليق على كلام البزدوى وفى إيراد بعض الاعتراضات الواردة والرد عليها بما لا نرى حاجة إلى إيراده

(4)

.

‌2 - النسفى وابن الملك:

أورد النسفى وابن الملك مذاهب الأصوليين بمثل ما جاء في مسلك البزدوى والبخارى ثم قالا

(5)

:

لا يقتضى الأمر المطلق التكرار ولا يحتمله سواء كان معلقًا بالشرط أو مخصوصًا بالوصف أو لم يكن.

لكن مفهوم الأمر يقع على أقل جنس الفعل المأمور به وهو الفرد حقيقة بلا نية ويحتمل كل

(1)

آية 78 سورة الإسراء.

(2)

آية 6 سورة المائدة.

(3)

المصدر السابق من 125.

(4)

كشف الأسرار من 125 - 132 جـ 1.

(5)

شرح المنار ص 187

ص: 58

الجنس من حيث إنه فرد اعتبارى حتى إذا قال الزوج لامرأته "طلقى نفسك" فإنه يقع على الواحدة إلا أن ينوى الزوج الثلاث فيقع الثلاث إن طلقت نفسها ثلاثًا.

وإنما احتيج فيه إلى النية لأنه يحتمل ولا تعمل نية الثنتين فلو نوى الزوج من قوله "طلقى نفسك" طلقتين لا يصح لأنه ليس بفرد حقيقة ولا اعتبارًا.

والحاصل أن الفرد الحقيقى موجبه والاعتبارى محتمله والعدد لا موجبه ولا محتمله والأصل أن موجب اللفظ يثبت باللفظ ولا يفتقر إلى النية ومحتمل اللفظ لا يثبت إلا إذا نوى وما لا يحتمله اللفظ لا يثبت وإن نوى.

إلا أن تكون المرأة أمَة فتصح نية الثنتين لأنهما جنس طلاقها لأن صيغة الأمر مختصرة من طلب الفعل بالمصدر الذي هو فرد سواء فرد معرفًا أو منكرًا.

ثم قال ابن الملك

(1)

:

هذا دليل المذهب المختار وهو أن الأمر لا يوجب التكرار ولا يحتمله وبين الفرد والعدد تناف لأن الفرد ما لا تركيب فيه والعدد مركب فالفرد لا يقع على العدد.

‌ثالثًا: رأى المتأخرين من الحنفية والشافعية:

‌1 - قال صدر الشريعة:

مطلق الأمر عند عامة علمائنا لا يحتمل العموم أو التكرار أصلًا لأن لفظ المصدر فرد إنما يقع على الواحد الحقيقى وهو مستيقن أو مجموع الأفراد لأنه واحد من حيث المجموع وذا محتمل لا يثبت إلا بالنية لا على العدد المحض.

ففى قوله "طلقى نفسك" يوجب الثلاث على مذهب القائلين بأنه يوجب العموم في الأفراد والتكرار في الزمان ويحتمل الاثنين والثلاث عند الشافعي القائل بأنه لا يوجب العموم والتكرار ولكن يحتمله. وعندنا يقع على الواحد ويصح نية الثلاث لا الاثنتين لأن الثلاث مجموع أفراد الطلاق فيكون واحدًا اعتباريًا ولا يصح فيه الاثنان لأن الاثنين عدد محض لا دلالة لاسم الفرد على العدد.

وهذه المسألة لبيان ثمرة الخلاف بين المذاهب الثلإثة. ومسألة أخرى لبيان ثمرة الخلاف بين المذهب وبين القائلين بأن الأمر لا يحتمل التكرار إلا أن يكون معلقًا بشرط وهى قوله: "إن دخلت الدار فطلقى نفسك" فعلى ذلك المذهب ينبغى أن يثبت التكرار لا عندنا

(2)

.

ويعلق السعد على ذلك فيقول

(3)

:

مذهب عامة علماء الحنفية أن الأمر لا يحتمل العموم والتكرار بل هو للخصوص والمرة سواء كان مطلقًا مثل ادخل الدار أو معلقًا بشرط أو وصف مثل إن دخلت السوق فاشتر اللحم لا يقتضى إلا اشتراء اللحم مرة واحدة وإنما يستفاد العموم والتكرار من دليل خارجى كتكرار السبب مثلًا. وهذا معنى قول الإمام السرخسى: المذهب الصحيح عندنا أنه لا يوجب التكرار ولا

(1)

شرح المنار ص 142.

(2)

التوضيح والتلويح جـ 2 ص 69.

(3)

المصدر السابق ص 72.

ص: 59

يحتمله سواء كان مطلقًا أو معلقًا بشرط أو مخصوصًا بصفة إلا أن الأمر بالفعل يقع على أقل جنسه وهو أدنى ما يعد به ممتثلًا ويحتمل كل الجنس بدليل وهو النية.

وذلك لأن الأمر يدل على مصدر مفرد والمفرد لا يقع على العدد بل على الواحد حقيقة.

وهو المتيقن فيتعين، أو اعتبارًا أعنى المجموع من حيث هو مجموع فإنه يقال: الحيوان جنس واحد من الأجناس والطلاق جنس واحد من التصرفات وكثرة الأجزاء أو الجزئيات لا تمنع الوحدة الاعتبارية وهو محتمل فلا يثبت إلا بالنية.

‌2 - الكمال بن الهمام:

إن الصيغة لمطلق الطلب لا يقيد مرة ولا تكرار ولا تحتمله وهو المختار عند الحنفية

(1)

ثم نقل أن كثيرًا من الأصوليين قال إنه للمرة وعلق على ذلك ابن أمير الحاج بأنه منسوب إلى أكثر الشافعية وأن الإسفراييني يقول "إنه مقتضى كلام الشافعي وأنه الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء" ثم يستدرك عليه بما يقوله السبكى من أن "النقلة لهذا المذهب عن أصحاب الشافعي لا يفرقون بينه وبين الرأى المختار. وليس غرضهم إلا نفى التكرار والخروج عن العهدة بالمرة ولهذا لم يحك أحد منهم المذهب المختار مع حكاية هذا فهو عندهم هو هو".

وبعد أن استوفى الكمال وشارحه نقل المذاهب المختلفة بمثل ما سبق إيراده انتقل إلى إيراد أدلة المذهب المختار فقال:

دليلنا "إطباق أهل العربية على أن هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان وخصوص المطلوب من قيام وقعود وغيرهما إنما هو من المادة ولا دلالة لها على غير مجرد الفعل فلزم من مجموع ذلك أن تمام مدلول الصيغة طلب الفعل فقط والبراءة بمرة لوجوده أي والخروج عن عهدة الأمر بفعل المأمور به مرة واحدة لضرورة إدخاله في الوجود لأنه لا يوجد بأقل منها فاندفع دليل المرة وهو أن الامتثال يحصل بالمرة فيكون الأمر موضوعًا لها بهذا.

‌3 - ابن السبكى والمحلى:

أورد ابن السبكى وشارحه المحلى مذاهب العلماء التي سبق إيرادها ثم قال المحلى

(2)

:

"ومنشأ الخلاف استعمال الأمر فيهما كأمر الحج والعمرة وأمر الصلاة والزكاة والصوم فهل هو حقيقة فيهما لأن الأصل في الاستعمال الحقيقة أو في أحدهما حذرًا من الاشتراك ولا نعرفه أو هو للتكرار لأنه الأغلب أو المرة لأنها المتيقن أو في القدر المشترك بينهما حذرًا من الاشتراك والمجاز وهو الأول الراجح".

وهو يشير بذلك إلى القول الذي أورده مع المصنف من أن الأمر لطلب الماهية لا لتكرار ولا مرة والمرة ضرورية إذ لا توجد الماهية بأقل منها فيحمل عليها.

‌رابعًا: الحنابلة:

بعد أن أورد صاحب روضة الناظر مذاهب

(1)

التقرير والتحبير جـ 1 ص 311.

(2)

جمع الجوامع.

ص: 60

الأصوليين في هذا المجال تكلم عن مذهب الحنابلة فقال

(1)

:

الأمر خال عن التعرض لكمية المأمور به إذ ليس في نفس اللفظ تعرض للمسدد ولا هو موضوع لآحاد الأعداد كوضع اللفظ المشترك لكنه محتمل للإتمام ببيان الكمية فهو كقوله "اقتل".

لا تقول هو مشترك بين زيد وعمرو ولا فيه تعرض لهما فتفسيره بهما أو بأحدهما زيادة على كلام ناقص بإتمامه بلفظ دل على تلك الزيادة لا بمعنى البيان فحصل من هذا أنه ذمته تبرأ بالمرة الواحدة لأن وجوبها معلوم والزيادة لا دليل عليها ولم يتعرض اللفظ لها فصار الزائد كما كان قبل الأمر فإنا كنا نقطع بانتقاء الوجوب فقوله "صم" أزال القطع في مرة واحدة فصار كما كان.

ويقصد هذا باليمين والنذر والوكالة والخبر بيانه أنه لو قال: والله لأصومن أو لله على أن أصوم بر بصوم يوم.

وعلق صاحب نزهة الخاطر على الدليل الذي ساقه المصنف فقال

(2)

:

حاصل ما ذكره من الدليل على عدم التكرار وجهان:

أحدهما: أن صيغة الأمر لا دلالة لها إلا على مجرد إدخال ماهية الفعل في الوجود ولا دلالة لها على كمية أي على مقداره من حيث العدد. فإذا قال له صل فإنما اقتضى ذلك إيقاع حقيقة الصلاة لا على عدد معين ولا مطلق حتى يجب لأجله التكرار وحقيقة الصلاة تحصل بالمرة الواحدة فيخرج بها عن العهدة فلا يجب ما زاد عليها وذلك معنى قولهم أنه لا يقتضى التكرار.

الثاني: أن الأمر لو اقتضى التكرار لكان قول القائل "صل مرة" تناقضًا لأن "صل" بوضعه يقتضى التكرار وبقوله مرة قد نقض مقتضاء في التكرار وكذا لو قال صل مرارًا لكان تكرارًا لان صل بوضعه يقتضى التكرار فقوله مرارًا لم يفد فائدة زائدة فكان تكرارًا لكن قوله صل مرة أو مرارًا ليس نقضًا ولا تكرارًا.

‌4 - الظاهرية:

قال ابن حزم

(3)

:

إذا ورد اختلف الناس في الأمر بفعل ما هل يخرج من فعله مرة واحدة عن اسم المعصية؟ أم يتكرر عليه الأمر أبدًا فيلزمه التكرار ما أمكنه؟

ثم قال والصواب أن المطيع غير العاصى ومحال أن يكون الإنسان مطيعًا عاصيًا من وجه واحد.

فمن أمر بفعل ما ولم يأت نص بإيجاب تكراره ففعله فقد استحق اسم المطيع وارتفع عنه اسم عاص بيقين وكل شئ بطل بيقين فلا يعود إلا بيقين من نص أو إجماع.

ثم يقول: إن الذي تكلم في هذه المسألة هم القائلون بقول الشافمى رحمه الله في تكرار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل صلاة لأجل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}

(4)

ولو كان ما احتجوا به من

(1)

روضة الناظر جـ 2 من 80.

(2)

المصدر السابق جـ 2 من 80.

(3)

الأحكام لابن حزم جـ 3 ص 70.

(4)

آية 56 سورة الأحزاب.

ص: 61

وجوب التكرار صحيحًا لما كان موضع الجلوس الآخر من الصلاة أحق به من القيام والسجود وسائر أحوال الإنسان. وهم إنما أوجبوا ذلك بعد التشهد الأخير من الصلاة فقط مما يدل على أنه لا صلة بين التكرار وبين الوجوب في التشهد الأخير.

ولو كان قوله صحيحًا لزمك أن ترد السلام على من حياك ردًا متكررًا ابدًا عملًا بقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}

(1)

ولا خلاف أنه بمرة واحدة يخرج من فرض الرد.

ثم قال

(2)

وصحيح القول في هذه المسألة هو ما قلنا من أن يفعل مرة واحدة يؤدى المرء ما عليه ولا يلزمه تكرار الفعل. إلا أن ترتفع تلك الحال التي فيها ذلك الأمر ثم تعود فإن الأمر يعود ولا بد كمرض المسلم تجب عيادته فبمرة واحدة يخرج من الفرض ما دام في تلك العلة. فإن أفاق ثم مرض عاد حكم العيادة أيضًا.

‌5 - الزيدية:

لخص الشوكانى أقوال أصحاب المذاهب المختلفة في هذه المسألة ثم قال

(3)

:

"إذا عرفت جميع ما حررناه تبين أن القول الأول هو الحق الذي لا محيص عنه وأنه لم يأت أهل الأقوال المخالفة له بشئ يعتد به".

والقول الأول الذي اختاره الشوكانى والذي بدأ به بحثه هو

(4)

: "أن صيفة الأمر باعتبار الهيئة الخاصة موضوعة لمطلق الطلب من غير إشعار بالوحدة والكثرة إلا أنه لا يمكن تحصيل المأمور به بأقل من مرة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به لا الأمر يدل عليها بذاته".

‌6 - الجعفرية:

استعرض صاحب قوانين الأصول مذاهب العلماء في دلالة الصيغة فقال

(5)

: المشهور أن صيغة افعل لا تدل إلا على طلب الماهية وقيل تدل على التكرار مدة العمر إن أمكن عقلا وشرعا ويكون تركه إثما وقيل على المرة.

ويظهر من بعضهم أن مراد القائلين بالمرة هو الدلالة على الماهية المقيدة بالوحدة لا بشرط التكرار ولا عدمه. فالزائد على المرة لا يكون امتثالًا ولا مخالفة.

ثم استطرد في الكلام عن هذا الخلاف وثمرته وقال

(6)

:

والأقرب عندى أنها لا تدل إلا على طلب الماهية وأن الامتثال إنما يحصل بالمرة الأولى لأن الأمر يقتضى الإجزاء والإتيان به ثانيا وثالثا تشريع محرم لكون أحكام الشرع توقيفية موقوفة على التوظيف دليلنا أن الأوامر وسائر المشتقات مأخوذة من المصادر الخالية عن اللام والتنوين وهى حقيقة في الطبيعة لا بشرط شئ اتفاقًا كما صرح به السكاكى. وما قيل من أن اسم

(1)

آية 86 سورة النساء.

(2)

المصدر السابق جـ 3 ص 74

(3)

إرشاد الفحول ص 99.

(4)

المصدر السابق ص 97.

(5)

قوانين الأصول من 80.

(6)

المصدر السابق 91.

ص: 62

الجنس موضوع للماهية مع قيد الوحدة المطلقة فإنما يسلم إذا كان مع التنوين. والوحدة والتكرار مثل سائر صفات الطبيعة قيود خارجة عنها فلا دلالة للفظ الدال على الطبيعة الكلية على شئ من قيودها لأن العام لا يدل على الخاص والهيئة العارضة لهذه المادة لا تفيد أزيد من طلبها بحكم العرف والتبادر بعنوان الإيجاب والإلزام والأصل عدم إرادة شئ آخر معها.

وأطال في استدلالهم والتعرض لأدلة المخالفين والرد عليها بما لا يخرج في جملته عما سبق إيراده.

‌7 - الإباضية:

يقول صاحب طلعت الشمس

(1)

:

إذا تجرد الأمر عن القيود والقرائن دل على طلب حقيقة الفعل المأمور به ولا يدل على طلب إيقاعه مرة واحدة ولا على طلبه متكررًا لكن يدل على طلب حقيقة المأمور به فقط. وهذه الأشياء إنما تستفاد من القيود والقرائن.

واحتج البدر الشماخى على أن الأمر المجرد عن القيود والقرائن لا يدل إلا على طلب الحقيقة بأن مدلولات الفعل أجناس والأجناس لا تشعر بالوحدة ولا بالكثرة. ومن ثم لم تثن ولم تجمع وحسن استعمالها في القليل والكثير بلفظ واحد.

ثم قال: وهذا المذهب هو قول كثير من أهل التحقيق.

(1)

طلعت الشمس جـ 1 ص 51.

ص: 63

‌دلالة الأمر على الفور أو التراخى

‌أولا: المتكلمون:

‌1 - الغزالى

(1)

:

مطلق الأمر يقتضى الفور عند قوم ولا يقتضيه عند قوم وتوقف فيه من الواقفية قوم ثم منهم من قال: التوقف في المؤخِّر. هل هو ممتثل أم لا؟ وأما المبادر فممتثل قطعا. ومنهم من غلا فقال: يتوقف في المبادر أيضا.

والمختار أنه لا يقتضى إلا الامتثال ويستوى فيه البدار والتأخير.

وبرهن على بطلان الوقف، فوجه الكلام إلى المتوقف فقال: هل المبادر يعد ممتثلا عندك أم لا؟ فإن توقفت فقد خالفت إجماع الأمة قبلك فإنهم على أن المسارع إلى الامتثال مبالغ في الطاعة مستوجب جميل الثناء، والمأمور إذا قيل له قم فقام يعلم نفسه ممتثلا ولا يعد به مخطئا باتفاق أهل اللغة قبل ورود الشرع وقد أثنى الله تعالى على المسارعين فقال:"وسارعوا إلى مغفرة من ربكم" وقال جل شأنه: "يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون".

وإذا بطل هذا التوقف فتقول: لا معنى للتوقف في المؤخر لأن قوله: اغسل هذا الثوب مثلا لا يقتضى إلا طلب الغسل والزمان من ضرورة الغسل كالمكان وكالشخص في القتل والضرب والسوط والسيف في الضرب؛ ثم لا يقتضى الأمر بالضرب مضروبا مخصوصا ولا سوطا ولا مكانا للأمر. فكذلك الزمان لأن الآمر ساكن عن التعرض للزمان والمكان فهما سيان.

ثم قال

(2)

: إن مدعى الفور متحكم وهو محتاج إلى أن ينقل عن أهل اللغة أن قولهم "افعل" للبدار ولا سبيل إلى نقل ذلك لا تواترا ولا آحادا. ولهم شبهتان:

الأولى: أن الأمر للوجوب وفى تجويز التأخير ما ينافى الوجوب إما بالتوسع وإما بالتخيير في فعل لا بعينه من جملة الأفعال الواقعة في الأوقات. والتوسع والتخيير كلاهما يناقض الوجوب. قلنا قد بينا في القطب الأول أن الواجب المخير والموسع جائز ويدل عليه أنه لو صرح وقال: اغسل الثوب أي وقت شئت أوجبته عليك لم يتناقض. ثم لا نسلم أن الأمر للوجوب ولو كان للوجوب إما بنفسه أو بقرينة فالتوسع لا ينافيه.

الشبهة الثانية: أن الأمر يقتضى وجوب الفعل واعتقا الوجوب والمزم على الامتثال ثم وجوب الاعتقاد والعزم على الفور فليكن كذلك الفعل.

قلنا القياس باطل في اللغات ثم هو منقوض بقوله: افعل أي وقت شئت. فإن الاعتقاد والعزم فيه على الفور دون الفعل. ثم تقول: وجوب الفور في العزم والاعتقاد معلوم بقرينة وأدلة دلت على التصديق للشارع والعزم على الانقياد له ولم يحصل ذلك بمجرد الصيغة.

‌2 - الآمدى

استعرض الآمدى مذاهب الفقهاء في هذه المسألة فقال:

(3)

(1)

المستصفى جـ 2 ص 9.

(2)

المستصفى ص 10.

(3)

الإحكام ص 242 جـ 2.

ص: 64

ذهب الحنفية والحنابلة وكل من قال بحمل الأمر على التكرار إلى وجوب التعجيل، وذهبت الشافعية والقاضى أبو بكر وجماعة من الأشاعرة والجبائى وابنه وأبو الحسين البصرى إلى التراخى وجواز التأخير عن أول وقت الإمكان.

وأما الواقفية فقد توقفوا لكن منهم من قال: التوقف إنما هو في المؤخر هل هو ممتثل أم لا؟ وأما المبادر فإنه ممتثل قطعا. لكن هل يأثم بالتأخير؟ اختلفوا فيه فمنهم من قال بالتأثيم وهو اختيار إمام الحرمين. ومنهم من لم يؤثمه. ومنهم من توقف في المبادر أيضا وخالف في ذلك إجماع السلف.

ثم قال: والمختار أنه مهما فعل كان مقدما أو مؤخرا كان ممتثلا للأمر ولا إثم عليه بالتأخير والدليل على ذلك أن الأمر حقيقة في طلب الفعل لا غير، فمهما أتى بالفعل في أي زمان كان: مقدما أو مؤخرا كان آتيا بمدلول الأمر فيكون ممتثلا للأمر ولا إثم عليه بالتأخير لكونه آتيا بما أمر به على الوجه الذي أمر به.

وبيان أن مدلول الأمر طلب الفعل لا غير وجهان:

الأول: أنه دليل على طلب الفعل بالإجماع والأصل عدم دلالته على أمر خارج. والزمان وإن كان لابد منه من ضرورة وقوع الفعل المأمور ولا يلزم أن يكون داخلا في مدلول الأمر فإن اللازم من الشئ أعم من الداخل في معناه؛ ولا أن يكون متعينا كما لا تتعين الآلة في الضرب. ولا الشخص المضروب وإن كان ذلك من ضرورات امتثال الأمر بالضرب.

الثاني: أنه يجوز ورود الأمر بالفعل على الفور وعلى التراخى. ويصح مع ذلك أن يقال بوجود الأمر في الصورتين. والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا مشترك بين الصورتين سوى طلب الفعل لأن الأصل عدم ما سواه؛ فيجب أن يكون هو مدلول الأمر في الصورتين دون ما به الاقتران من الزمان وغيره. نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ.

تم تكلم عن خمس شبه تؤيد القائلين بدخول الوقت في مقتضى الأمر

(1)

الأولى: أنه إذا قال السيد لعبده "اسقنى الماء" فإنه يفهم منه تعجيل السقى حتى أنه يحسن لوم العبد وذمه في نظر العقلاء بتقدير التأخير ولولا أنه من مقتضيات الأمر لما كان كذلك إذ الأصل عدم القرينة.

الثانية: أن مدلول الأمر وهو الفعل المأمور به لا يقع إلا في وقت وزمان فوجب أن يكون الأمر مقتضيا للفعل في أقرب زمان كالمكان.

وكما لو قال لزوجته أنت طالق ولعبده أنت حر فإن مدلول لفظه يقع على الفور في أقرب زمان.

الثالثة: أن الأمر مشارك للنهى في مطلق الطلب والنهى مقتض للامتثال على الفور فوجب أن يكون الأمر كذلك.

(1)

الإحكام جـ 2 ص 243.

ص: 65

الرابعة: الأمر بالشئ نهى عن جميع أضداده والنهى عن أضداد المأمور به مقتض للانتهاء عنها على الفور وذلك متوقف على فعل المأمور به على الفور، فكان الأمر مقتضيا له على الفور.

الخامسة: أنه تعالى عاتب إبليس ووبخه على مخالفة الأمر بالسجود لآدم في الحال بقوله {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}

(1)

ولو لم يكن الأمر بالسجود مقتضيا له في الحال لما حسن توبيخه عليه ولكان ذلك عذرا لإبليس في تأخيره.

وأجاب عن هذه الشبه عن الأولى بما يفيد أن مسألة فهم التعجيل من أمر السيد مستفاد من العرف إذا الظاهر أنه لا يطلب سقى الماء من غير حاجة إليه وعن الثانية أن تعيين أقرب الأماكن والأزمنة دعوى لا دليل؛ وعن الثالثة والرابعة أن تشبيه الأمر بالنهى قياس في اللغة وهو ممتنع؛ وعن الخامسة أن توبيخه لإبليس إنما كان لإبائه واستكباره ويدل عليه قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ}

(2)

ولتخيره على آدم بقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}

(3)

ولا يمكن إضافة التوبيخ إلى مطلق الأمر من حيث هو أمر لأنه منقسم إلى أمر يجاب واستحباب ولا توبيخ عن مخالفة أمر الاستحباب إجماعا.

‌3 - البيضاوى والإسنوى

يقول البيضاوى إن الأمر المطلق لا يفيد الفور خلافا للحنفية ولا التراخى خلافا لقوم وقيل مشترك

(4)

وحكى الإسنوى في توضيح كلام البيضاوى أربعة مذاهب

(5)

.

أحدها: أنه لا يدل لا على الفور ولا على التراخى بل يدل على طلب الفعل. قال في البرهان: وهذا ما ينسب إلى الشافعي وأصحابه وقال في المحصول: إنه الحق واختاره الآمدى وابن الحاجب والمصنف.

الثاني: أنه يفيد الفور وجوبا وهو مذهب الحنفية.

الثالث: أنه يفيد التراخى جوازا ونقل عن الشيخ أبى إسحق أنه غلط وعن البرهان أنه لفظ مدخول فإن مقتضى إفادته التراخى أنه لو فرض الامتثال على الفور لم يعتد به وليس هذا معتقد أحد. نعم حكى ابن برهان عن غلاة الواقعية أنا لا نقطع بامتثاله بل يتوقف فيه إلى ظهور الدلائل لاحتمال إرادة التأخير.

قال: وذهب المعتقدون منهم إلى القطع بامتثاله وحكاه في البرهان أيضا.

الرابع: وهو مذهب الواقعية أنه مشترك بين الفور والتراخى ومنشأ الخلاف في هذه المسألة من كلامهم في الحج.

واستدل لما ذهبا إليه بما سبق أن أوضحه من أن الأمر المطلق لا يقتضى التكرار. وأشار إلى أمرين أحدهما أنه يصح تقييده بالفور وبالتراخى من غير تكرار ولا نقض.

(1)

آية 12 سورة الأعراف.

(2)

آية 34 سورة البقرة.

(3)

آية 76 سورة ص.

(4)

نهاية السول على هامش التقرير والتحبير من 274 حـ 1

(5)

المصدر السابق ص 275.

ص: 66

والثانى أنه ورد الأمر مع الفور ومع عدده فيجعل حقيقة في القدر المشترك وهو طلب الإتيان به دفعا للاشتراك والمجاز.

ثم ناقش أدلة القائلين بالفور بما لا يخرج في جملته عما جاء في كلام الآمدى.

‌ثانيا: الحنفية

‌1 - البزدوى والبخارى

يقول البزدوى:

(1)

الأمر المطلق عن الوقت على التراخى خلافا للكرخى.

وتولى البخارى توضيح ذلك فاستعرض مذاهب العلماء بما لا يخرج عما سبق إيراده.

ثم قال: ومعنى قولنا على الفور أنه يجب تعجيل الفعل في أول أوقات الإمكان. ومعنى قولنا على التراخى انه يجوز تأخيره عنه عن أول أوقات الإمكان وليس معناه أنه يجب تأخيره عنه حتى لو أتى به فيه لا يعتد به لأن هذا ليس مذهبا لأحد.

ونعرض لأدلة القائلين بالفور فقال:

تمسك القائلون بالفور بأن الأمر يقتضى وجوب الفعل في أول أوقات الإمكان بدليل أنه لو أتى به فيه يسقط الفرض عنه بالاتفاق، فجواز تأخيره عنه نقض لوجوبه إذ الواجب ما لا يسع تركه. ولا شك أن تأخيره ترك لفعله في وقت وجوبه ولأن التأخير تفويت لأنه لا يدرى أيقدر على الأداء في الوقت الثاني أو لا يقدر وبالاحتمال لا يثبت التمكن من الأداء إلا على وجه يكون معارضا للمتيقن به فيكون تأخيره عن أول أوقات الإمكان تفويتا ولهذا يستحسن ذمه على ذلك إذا عجز عن الأداء.

ثم انتقل إلى أدلة القائلين بالتراخى فقال:

تمسك القائلون بالتراخى بأن صيغة الأمر ما وضعت إلا لطلب الفعل بإجماع أهل اللغة فلا تقيد زيادة على موضوعها كسائر الصيغ الموضوعة للأشياء. وهذا لأن قوله افعل ليس فيه تعرض للوقت بوجه كما لا تعرض لقوله "فعل ويفعل" على زمان قريب أو بعيد؛ ومتقدم أو متأخر. فكما لا يجوز تغيير الماضي والمستقبل بزمان لا يجوز تغيير الأمر به أيضا. لأن التغيير في المطلق يجرى مجرى النسخ ولهذا لم يتغير بمكان دون مكان.

ويزيد ما قلنا إيضاحا أن مدلول الصيغة طلب الفعل. والفور والتراخى خارجيان إلا أن الزمان من ضرورات حصول الفعل لأن الفعل لا يوجد من العباد إلا في زمان والزمان الأول والثاني والثالث في صلاحيته الحصول واحد فاستوت الأزمنة كلها وصار كما لو قيل افعل في أي زمان شئت فيبطل تخصيصه وتقييده بزمان دون زمان. ألا ترى أنه لو أمره بالضرب مطلقا لا يتقيد بآلة دون آلة وشخص دون شخص وإن كان ذلك من ضروراته فكذا الزمان. فثبت أن الأمر بصيغته لا يفيد الفور.

وكذا الحكم وهو الوجوب لأن الفعل يجوز أن يكون واجبا وإن كان المكلف في أول الوقت مخيرا بين فعله وتركه فيجوز له التأخير ما لم يغلب على ظنه فواته. إن لم يفعله فيكون هذا الأمر مقتضيا طلب الفعل في مدة عمره بشرط أن لا يخلى زمان العمر منه فيثبت الوجوب عليه بوصف التوسع لا بوصف التطبيق.

(1)

كشف الأسرار ص 254 حـ 1.

ص: 67

واستشعر اعتراضا على هذا بعدم جواز التكليف فأثبت جوازه بالدليل العقلى والشرعى ثم انتقل إلى الرد على القائلين بالفور فقال:

(1)

قولهم: في جواز التأخير نقض الوجوب إذ الواجب ما لا يسع تركه.

قلنا: ما ذكرتم حكم الواجب المضيق فأما الموسع فحكمه جواز التأخير إلى وقت مثله بشرط أن لا يخلى الوقت عنه ولو أخلى عصى وأثم. فلا يلزم من التأخير نقض الوجوب.

وقولهم: في التأخير تفويت وذلك حرام.

قلنا: الفوات لا يتحقق إلا بموته. وليس في مجرد التأخير تفويت لأنه يتمكن من الأداء في جزء يدركه من الوقت بعد الجزء الأول حسب تمكنه في الجزء الأول. وموت الفجاءة نادر لا يصلح لبناء الأحكام عليه، فيجوز له التأخير إلي إذا يغلب علي ظنه بأمارة أنه إذا أخر بفوت المأمور به. والظن عن أمارة دليل من دلائل الشرع كالاجتهاد في الأحكام فيجوز بناء الحكم عليه.

فإن قيل: في قولكم فيمن مات بغتة أيموت عاصيا أم غير عاص؟ فإن قلتم يموت عاصيا فمحال لأنا إذا أطلقنا له التأخير واختر منه المنية من غير أن يحس بحضورها لم يتصور إطلاق وصف العصيان عليه؛ لأن العصيان بالتأخير مع إطلاق التأخير محال، وإن قلتم يموت غير عاص فلم يبق للوجوب فائدة.

قلنا: اختلف الأصوليون فيه فمنهم من قال: إذا مات بعد تمكنه من الأداء يموت عاصيا لأن التأخير إنما أبيح له بشرط أن لا يكون تفويتا وتغيير المباح بشرط مستقيم في الشرع كالرمى إلى الصيد يباح بشرط أن لا يصيب آدميا؛ وهذا لأنه متمكن من ترك الترخص بالتأخير بالمسارعة إلى الأداء التي هي مندوب إليها فقلنا بأنه يتمكن من البناء على الظاهر ما دام يرجو الحياة عادة وإن مات كان مفرطا لتمكنه من ترك الترخص بالتأخير.

ومنهم من قال: لا يموت عاصيا ولكنه لا يدل على بطلان فائدة الوجوب وهذا لما بينا أن التأخير عن الوقت الأول إلى وقت مثله لم يحرم عليه لأنه ليس فيه تفويت المأمور به ثم إذا أحس بالفوات بظهور علامات الموت منعناه من التأخير لأنه تفويت بعد ذلك، فإذا مات بغتة وفجأة فهو غير مفوت للمأمور به لأنه أخر عن وقت إلى وقت مثله. وقد أطلقنا له ذلك فصار الفوات عند موته بغتة من غير ظهور أمارت الموت مضافا إلى صنع الله تعالى لا إلى العبد لأنه قد فعل ما كان مطلقا له فلم يصح وصف فعله بالتفويت فلم يجز أن يوصف بالعصيان. ثم عدم وصفه بالعصيان لم يدل على فوات فائدة الوجوب لأنا فحققنا صفة الواجبية فيما يرجع إلى فعل العبد من منعه من التفويت فبوجود الفوات من الله تعالى لا تبطل فائدة الوجوب.

على أننا تقول يجب اعتقاد وجوبه على التوسع كما يلزم فعله على التوسع فإذا وجب الفعل عل حسب ما يعتقده من الوجوب ووجب

(1)

المصدر السابق ص 255.

ص: 68

الاعتقاد على حسب ما يلزمه من الفعل لم يقع الفرق بينهما بوجه.

‌2 - النسفى وابن الملك

يقول النسفى:

(1)

الأمر نوعان مطلق عن الوقت كالزكاة وصدقة الفطر. وهو على التراخى خلافا للكرخى لئلا يعود على موضوعه بالنقض. ومقيد به وهو إما أن يكون الوقت ظرفا للمؤدى وشرطا للأداء وسببا للوجوب كوقت الصلاة. وهو إما أن يضاف إلى الجزء الأول أو إلى ما يلى ابتداء الشروع أو إلى الجزء الناقص عند ضيق الوقت أو إلى جملة الوقت أو يكون معيارا له وسببا لوجوبه كشهر رمضان أو يكون معيارا لا سببا كقضاء رمضان والنذر المطلق فيشترط فيه نية التعيين أو يكون مشكلا يشبه المعيار والظرف كالحج.

ويعلق ابن الملك على قول المصنف "لئلا يعود على موضوعه بالنقض" فيقول:

(2)

هذا دليل على أنه للتراخى يعنى أن الأمر وضع لطلب الفعل فقط بالإجماع وذلك إنما يوجد في الزمان والزمان الأول والثانى في صلاحية حصول الفعل سواء ولو اقتضى الفور يصير كأنه قال: افعل الساعة فلم يكن مطلقا فيعود على موضوعه بالنقض أي يكون ناقضا لما وضع له وهو الإطلاق.

وإشار إلى دليل الكرخى في أن الأمر المطلق عنده للفور بأن الأمر يقتضى وجوب الفعل في أول وقت الإمكان ولهذا لو أتى به سقط عنه الفرض اتفاقا فتأخيره عنه نقض لوجوبه إذ الواجب لا يجوز تركه عن وقته.

‌ثالثا: المتأخرون

‌1 - صدر الشريعة والتفتازاتى من الحنفية

يقول صدر الشريعة:

(3)

المأمور به نوعان مطلق ومؤقت. أما المطلق فعلى التراخى لأنه جاء للفور وجاء للتراخى فلا يثبت الفور إلا بالقرينة وحيث عدمت يثبت التراخى لا أن الأمر يدل عليه.

وعلل التفتازانى لذلك بأن المراد بالفور الموجوب في الحال والمراد بالتراخى عدم التغيير بالحال لا التغيير بالمستقبل حتى لو أداه في الحال يخرج عن العهدة فالفور يحتاج إلى القرينة لا التراخى.

ويعلق الفزى على أن الأمر المطلق على التراخى

(4)

فيقول:

اختلفوا في موجب الأمر فذهب كثير إلى أن حقه الفور والمختار أنه لا يدل على الفور ولا على التراخى بل كل منهما بالقرينة. وهؤلاء يعنون بالفور امتثال المأمور به عقب ورود الأمر وبالتراخى الإتيان به متأخرا عن ذلك الوقت.

(1)

المنار ص 222.

(2)

المنار ص 223.

(3)

التوضيح والتلويح ص 188 حـ 2.

(4)

المصدر السابق.

ص: 69

والصحيح من مذهب العلماء الحنفية أنه التراخى إلا أن مرادهم بالتراخى عدم التغيير بالحال لا التغيير بالاستقبال فالتراخى عندهم أعم من الفور وغيره وذلك لأنه لما استدل على كون مطلق الأمر للتراخى بأن الأمر جاء للفور وجاء للتراخى فلا يثبت الفور إلا بالقرينة فعند الإطلاق وعدم القرينة يثبت التراخى بضرورة عدم قرينة الفور لا بد لالة الأمر.

‌2 - الكمال بن الهمام وابن أمير الحاج

(1)

الفور للأمر ضرورى للقائل بالتكرار له لأنه من لازم استغراق الأوقات بالفعل المأمور به مرة بعد أخرى وأما غير القائل بالتكرار: فإما أن يكون المأمور به مقيدا بوقت يفوت الأداء بفوته أو غير مقيد بوقت الأداء بفوته وإن كان واقعا في وقت لا محالة.

فغير المقيد المذكور لمجرد الطلب فيجوز التأخير على وجه لا يفوت المأمور به أصلا كما يجوز البدار به وهو الصحيح عند الحنفية وعزى إلى الشافعي وأصحابه واختاره الرازى والآمدى وابن الحاجب والبيضاوى وقال ابن برهان: لم ينقل عن الشافعي وأبى حنيفة نص وإنما فروعهما تدل على ذلك.

وقد يعبر عنه بالتراخى والمراد به أنه جائز كالبدار لا أن البدار لا يجوز فإنه خلاف الإجماع.

وقيل يوجب الفور أول أوقات الإمكان للفعل المأمور به وهو معزو إلى المالكية والحنابلة وبعض الحتفية والشافعية. وقال القاضي الباقلانى: الأمر يوجب فعل المأمور يه على الفور أو العزم عليه في ثانى الحال وتوقف إمام الحرمين في إنه لغة للفور أم لا فيجوز التراخى ولا يحتمل وجوب التراخى فيمتثل بكل من الفور والتراخى مع التوقف في إثمه بالتراخى. وقيل بالوقف في الامتثال إن بادر به للتوقف فيه كما يتوقف في الفور لاحتمال وجوب التراخى.

واستدل للمختار الذي ذهبا إليه وهو أنه لمجرد الطلب. بأنه لا يزيد دلالة على مجرد الطلب من فور أو تراخ لا بحسب المادة ولا بحسب الصيغة بالوجه السابق: بأن إطباق العربية على أن هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب وكونه دالا على الفور أو التراخى خارج عن مدلوله.

‌رابعا: ابن الحاجب

يستعرض العضد. شرحا لكلام ابن الحاجب.

مذاهب الفقهاء في ذلك ثم يقول

(2)

.

وهو لا يدل على الفور ولا على التراخى بل على مطلق الفعل وأيهما حصل كان مجزئا. وهذا هو الصحيح.

ويستدل للمذهب بمثل ما استدل به أصحاب هذا الرأى ويرد على أدلة المعارضين بما لا يخرج عما سبق إيراده.

‌خامسا: الحنابلة

يقول صاحب روضة الناظر

(3)

:

الأمر المطلق المجرد عن القرينة يقتضى فعل المأمور به على الفور في ظاهر المذهب خلافا لأحمد فإنه قد نقل عنه أن الحج على التراخى مع أنه مأمور به وهو يدل على الخلاف في هذا الأصل.

(1)

التقرير والتحبير ص 315 جـ 2

(2)

مختصر المنتهى من 84 حـ 2

(3)

روضة الناظر ص 85 جـ 2

ص: 70

وقد سبق إيراد الأدلة على هذا الرأى. ومما ذكره منها:

أنه لابد من زمان يقع الفعل فيه وأول الأزمنة ما كان عقب الأمر لأنه يكون ممتثلا يقينا وسالما من الخطر قطعا. ولأن الأمر سبب للزوم الفعل فيجب أن يتعقبه حكمه كالبيع والطلاق وسائر الإيقاعات. ولذلك يعقبه العزم على الفعل وإيجاده.

‌سادسا: الظاهرية

قال ابن حزم:

(1)

فرض الأوامر البدار إلا ما أباح التراخى فيه نص آخر أو إجماع. وهذا هو الذي لا يجوز غيره.

ووضح في استدلاله بالآيتين "وسارعوا""فاستبقوا الخيرات" رأيه فقال:

إن أحدا لا يؤتى المغفرة إلا بعمل صالح يقتضى له وعد الله تعالى بالرحمة والمغفرة. وعلمنا ذلك يقينا أن مراد الله تعالى بالآية الأولى إنما هو سارعوا إلى الأعمال الموجبة للمغفرة من ربكم إذ لا سبيل إلى المسارعة إلى المغفرة إلا ذلك. وهذا من الحذف الذي دلت عليه الحال. وإنما قلت هذا لوجهين:

أحدهما: النص الجلى الوارد في أنه لا يجزى أحد بمغفرة ولا غيرها إلا بحسب عمله.

الثاني: النص الوارد بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وليس في وسع أحد المسارعة إلى نيل المغفرة المجردة دون توسط عمل صالح فهذان الظاهران نصا أن في تلك الآية حذفا دلت عليه الحال. فما كان مرتبطا بوقت واحد كصيام رمضان فقد جاء النص بإيجاب تأخيره إلى وقته، فإذا خرج الوقت فقد ثبت العجز عن تأديته كما أمرنا إلا بأن يأتى في شئ من ذلك نص آخر فيوقف عنده. وما كان مرتبطا بوقت فيه مهلة فقد جاء النص بإباحة تأخيره إلى آخر وقته وإيجاب تأخيره إلى أول وقته؛ فإذا خرج الوقت فالكلام فيه كما قلنا في الذي قبله ولا فرق. وذلك كأوقات الصلاة. وما لم يأت مرتبطا بوقف ففرضه البدار في أول أوقات الإمكان إلا أن الأمر به لا يسقط عن المأمور به لعصيانه في تأخيره. وكذلك ما كان مرتبطا بوقت له أول محدود ولم يحد آخره أو ما كان مرتبطا بوقت محدود متكرر.

فالنوع الأول كقضاء صيام المريض والمسافر لأيام رمضان فذلك لازم في أول أوقات القدرة عليه فإن بادر المرء إليه فقد أدى ما عليه وإن أخره لغير عذر كان عاصيا بالتأخير وكان الأمر عليه ثابتا أبدا.

والنوع الثاني كوجوب الزكاة فإن لوقتها أولا وهو انقضاء الحول وليس قبل ذلك أصلا. وليس الآخر وقتها آخر محدود بل هو باق أبدا إلى وقت العرض على الله عز وجل لأن النص لم يأت في ذلك بانتهاء.

(1)

الإحكام ص 45 جـ 3

ص: 71

النوع الثالث كالحج فإنه مرتبط بوقت من العام محدود وليس ذلك على الإنسان في عام بعينه بل هو ثابت على كل مستطيع إلى وقت العرض على الله عز وجل.

وقد أطال ابن حزم في استنباط الاعتراضات والرد عليها وعلى أدلة مخالفيه كما استطرد إلى أدلة أخرى من الكتاب والسنة تحيل من شاء الاستقصاء إليها في كتابه.

‌سابعا: الزيدية

استقصى الشوكانى المذاهب المختلفة في هذا المقام ولخص أدلة كل فريق وما ناقض به مخالفيه وأنهى البحث بقوله

(1)

: الحق قول من قال إن الأمر لمطلق الطلب من غير تقييد بفور ولا تراخ ولا ينافى هذا اقتضاء بعض الأوامر للفور كقول القائل "اسقنى. أطعمنى" فإنما ذلك من حيث إن مثل هذا الطلب يراد منه الفور فكان ذلك قرينة على إرادته به. وليس النزاع في مثل هذا إنما النزاع في الأوامر المجردة عن الدلالة على خصوص الفور أو التراخى كما عرفت.

‌ثامنا: الإباضية:

يقول صاحب طلعت الشمس

(2)

إذا تجرد الأمر عن القيود والقرائن دل على طلب حقيقة الفعل المأمور به ولا يدل على طلب إيقاعه مرة واحدة ولا على طلبه متكررا ولا على طلب إيقاعه فورا أي في أقرب ما يمكن من الوقت ولا على طلب إيقاعه متراخيا أي في أي وقت يكون. لكن يدل على طلب حقيقة المأمور به فقط. وهذه الأشياء إنما تستفاد من القيود والقرائن لأن

(3)

مدلولات الفعل أجناس والأجناس لا تشعر بالوحدة ولا بالكثرة ومن ثم لم تثن ولم تجمع وحسن استعمالها في القليل والكثير بلفظ واحد.

وهذا المذهب هو قول كثير من أهل التحقيق.

ثم ذكر المذاهب التي سبق ذكرها كما ذكر أدلة كل مذهب وناقض مخالفيه بما لا يخرج عما سبق.

‌تاسعا: الجعفرية:

قال الفقيه أبو القاسم الغمى:

(4)

لا دلالة لصيغة الأمر على وجوب الفور كما ذهب إليه جماعة؛ وليست مشتركة بينه وبين جواز التراخى كما ذهب إليه بعض علماء المذهب. بل هي لطلب الماهية وأيهما حصل حصل الامتثال كما ذهب إليه جماعة من المحققين. وأما القول بتعيين التراخى فلم نقف على مصرح به.

واستدل بمثل ما استدل به القائلون بهذا الرأى وبما سيذكره في مبحث الأمر المعلق بشرط أو صفة وأطال في مناقشة أدلة القائلين بالفور. ومما جاء في رده عليهم قوله:

(5)

(1)

إرشاد الفحول ص 101

(2)

طلعت الشمس ص 51 حـ 1

(3)

نقل المصنف هذا الرأى عن البدر الشماخى

(4)

قوانين الأصول من 95

(5)

المصدر السابق 96

ص: 72

وأما وجوبه فورا فيحتاج إلى دليل. نعم يتم ذلك على القول بوجوب الاحتياط مع احتمال وجوب الفور أما اشتراطه في الصحة أو في مجرد حصول الإثم فهو ممنوع وكيف كان فهذا الدليل مع تمامه لا يدل على كون الصيغة للفور بل يدل على وجوب العمل بالفور من الخارج.

وفى رده على استدلالهم بالاستقراء وأن مقتضى النسب الخبرية والإنشائية قَصد الحال فكذا الأمر إلحاقا له بالأعم الأغلب. قال:

(1)

التحقيق أن مطلوب المستدل إن كان حصل له من الاستقراء أن النسب الخيرية والإنشائية الصادرة عن المتكلم حاصلة في الحال الحاضر فهو لا يجريه لأنه لا إشكال في أن النسبة الإنشائية في الأمر وهى الطلب القائم بنفس المتكلم حاصلة في الحال فلا يمكن النزاع فيه.

وإن كان أن مفاد تلك الجمل ومدلولاتها حاصلة في الحال كقيام زيد وطلاق هند فهو مع أنه متقوض بمثل كان زيد قائما وعمرو سوف يجئ وموقوف على كون المشتق حقيقة في الحال المقابل للاستقبال لا حال التلبس كائنا ما كان. والتحقيق خلافه. لا يمكن الوقوف على مثل هذا الاستقراء في إثبات اللغة.

وأشار إلى أن هناك طريقا آخر يمكن إثبات الفور به وهو أن النحاة ذكروا أن الأمر للحال وغرضهم من اقتران معنى الفعل بأحد الأزمنة هو المعنى الحدثى؛ وإن شئت قلت انتسابه إلى الفاعل مقترن بأحد الأزمنة وأما نسبة المتكلم فكلها واقعة للحال لغة فيثبت الفور. ولكنه مرفوع بأن كلام النحاة مع أنه لم يثبت اتفاقهم على ذلك يضعفه خلاف علماء الأصول والبيان فالظاهر أن نظرهم إلى الأغلب مع إمكان حصول الطبيعة في الحال.

والحاصل أن الأمر مأخوذ من المضارع ولا فرق بينهما في الاشتراك بين الحال والاستقبال.

وأطال بعد ذلك في مناقشة الاستدلال بالآيات المتقدمة واختتم البحث بما نقله عن اختلاف القائلين بأن الأمر للفور في ثبوت التكليف على من ترك الامتثال فورا في الزمان المتأخر وعدمه وأنهم فرعوا على ذلك أن معنى افعل هو افعل في الزمان الثاني وإن لم تفعل ففى الثالث وهكذا أو معناه افعل في الزمان الثاني مع السكوت عما بعده. وأما كون عدم الفعل في الزمان المتأخر فلم تقف على مصرح به.

‌الأمر بالشئ نهى عن ضده والخلاف في ذلك:

ذهب الجمهور من أهل الأصول ومن الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشئ المعين إذا أمر به كان ذلك الأمر نهيا عن الشئ والمعين المضاد له؛ سواء كان الضد واحدا كما إذا أمره بالإيمان فإنه يكون نهيا عن الكفر وإذا أمره بالحركة فإنه يكون نهيا عن السكون. أو كان الضد متعددا كما إذا أمره بالقيام فإنه يكون نهيا عن العقود والاضطجاع والسجود وغير ذلك

(2)

.

وفى المسألة مذاهب مختلفة تتضح مما يلى

(1)

المصدر السابق من 97.

(2)

إرشاد الفحول للشوكاني ص 101.

ص: 73

‌أولا: المتكلمون:

‌1 - يصوره قول الآمدى:

(1)

.

الأمر بالشئ على التعيين: هل هو نهى عن أضداده؟ اختلفوا فيه وتفصيل المذاهب أما أصحابنا فالأمر عندهم هو الطلب القائم بالنفس. وقد اختلفوا: فمنهم من قال: الأمر بالشئ بعينه نهى عن أضداده وإن طلب الفعل بعينه طلبُ ترك أضداده. وهو قول القاضي أبى بكر في أول اقواله.

ومنهم من قال: هو نهى عن أضداده بمعنى أنه يستلزم النهى عن الأضداد لا أن الأمر هو عين النهى. وهو آخر ما اختاره القاضي.

ومنهم من منع من ذلك مطلقا وإليه ذهب إمام الحرمين والغزالى.

وأما المعتزلة فالأمر عندهم نفس صيغة "افعل" وقد اتفقوا على أن عين صيغة "افعل" لا تكون نهيا لأن صيغة النهى "لا تفعل" وليس إحداهما عين الأخرى. وإنما اختلفوا في أن الأمر بالشئ هل يكون نهيا عن أضداده من جهة المعنى؟

فذهب القدماء من مشايخ المعتزلة إلى منعه ومن المعتزلة من صار إليه كالعارضى وأبى الحسين البصرى وغيرهما من المعتبرين منهم.

ومعنى كونه نهيا عن الأضداد من جهة المعنى عندهم أن صيغة الأمر تقتضى إيجاد الفعل والمنع من كل ما يمنع منه.

ومنهم من فصل بين أمر الإيجاب والندب وحكم بأن أمر الإيجاب يكون نهيا عن أضداده ومقبحا لها لكونها مانعة من فعل الواجب بخلاف المندوب. ولهذا فإن أضداد المندوب من الأفعال المباحة غير منهى عنها لا نهى تحريم ولا نهى تنزيه.

والمختار إنما هو التفصيل وهو إما أن نقول بجواز التكليف بما لا يطاق أولا نقول فإن قلنا بجوازه. على ما هو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى. رحمة الله عليه. كما سبق تقريره فالأمر بالفعل لا يكون بعينه نهيا عن أضداده ولا مستلزما للنهى عنها. بل جائز أن تؤمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة فضلا عن كونه لا يكون منهيا عنه.

وإن منعنا ذلك فالمختار أن الأمر بالشئ يكون مستلزما للنهى عن أضداده. لا أن يكون عين الأمر هو عين النهى عن الضد. وسواء كان الأمر أمر إيجاب أو ندب.

أما أنه مستلزم للنهى عن الأضداد فلأن فعل المأمور به لا يتصور إلا بترك أضداده. وما لا يتم فعل المأمور به دون تركه فهو واجب الترك إن كان الأمر للإيجاب؛ ومندوب إلى تركه إن كان الأمر للندب على ما سبق تقريره. وهو معنى كونه منهيا عنه. غير أن النهى عن أضداد الواجب يكون نهى تحريم وعن أضداد المندوب نهى كراهة وتنزيه.

وأما أنه لا يكون عينَ الأمر هو عين النهى

(1)

الإحكام للآمدى حـ 2 ص 251

ص: 74

فظاهر على ما سبق:

فإن قيل: لو كان الأمر بالفعل مستلزما للنهى عن أضداده لكان الأمر بالعبادة مستلزما للنهى عن جميع المباحات المضادة لها والتي لا يمكن التلبس بها أثناء فعلها، ويلزم من ذلك أن تكون حراما إن كان النهى نهى تحريم أو مكروهة إن كان النهى نهى تنزيه؛ وأن يخرج المباح عن كونه مباحا كما ذهب إليه الكعبى من المعتزلة. بل ويلزم منه أن يكون ماعدا العبادة المأمور بها من العبادات المضادة لها منهيا عنها أيضا ومحرمة أو مكروهة وهو محال.

كيف وأن الآمر بالفعل قد يكون غافلا عن أضداده، والغافل عن الشئ لا يكون ناهيا عنه لأن النهى عن الشئ يستدعى العلم به، والعلم بالشئ مع الذهول عنه محال.

سلمنا أنه مستلزم للنهى عن الأضداد لكن يمتنع أن يكون النهى عن الأضداد غير الأمر بل يجب أن يكون هو هو بعينه. كما قاله القاضي أبو بكر في أحد قوليه.

ومأخذه أنه إذا وقع الاتفاق على أنه يلزم من الأمر بالفعل النهى عن أضداده فذلك النهى إن كان هو غير الأمر فإما أن يكون ضدا له أو مثلا أو خلافا.

لا جائز أن يقال بالمضادة ولا لما اجتمعا وقد اجتمعا.

ولا جائز أن يكون مثلا لأن المتماثلات أضداد على ما عرف في الكلاميات.

ولا جائز أن يكون خلافا وإلا جاز وجود أحدهما دون الآخر كما في العلم والإرادة ونحوهما. ولجاز أن يوجد أحدهما مع ضد الآخر كما يوجد العلم بالشئ مع الكراهة المضادة لإرادته. ويلزم من ذلك أنه إذا أمر بالحركة المضادة للسكون إذا كان النهى عن السكون مخالفا للأمر بالحركة أن يجتمع الأمر بالحركة والأمر بالسكون المضاد المنهى عنه. وفيه الأمر بالضدين معا. وهو ممتنع على ما وقع به الفرض. وإذا بطلت المغايرة تعين الاتحاد. وعلى هذا فالحركة عين ترك السكون، وشغل الجوهر بحيز هو عين تفريقه لغيره. وعين القرب من المشرق بالفعل الواحد هو عين البعد من المغرب، فطلب أحدهما بعينه طلب الآخر لاتحاد المطلوب.

فالجواب عن السؤال الأول: أنا لا نمنع من كون المباحات بل الواجبات المضادة المأمور بها منهيا عنها من جهة كونها مانعة من فعل المأمور به لا في ذاتها كما تقول في فعل الصلاة في الدار المغصوبة فإنه في ذاته غير منهى عنه وإن كان منهيا عنه من جهة ما يتعلق به من شغل ملك الغير. ولا التفات إلى ما يهول من خروج المباحات. عن كونها مباحة فإن ذلك إنما يلزم أن لو قيل بكونها منهيا عنها في ذواتها وأما إذا قيل بكونها منهيا عنها من جهة كونها مانعة من فعل المأمور به فلا.

وقولهم: إنه قد يأمر بالفعل من هو غافل عن أضداده.

ص: 75

قلنا: لا نسلم أن الآمر بالشئ عند كونه آمرا به يتصور أن يكون غافلا عن طلب ترك ما يمنع من فعل المأمور به من جهة الجملة وإن كان غافلا عن تفصيله. ونحن إنما نريد بقولنا إن الأمر بالشئ يستلزم النهى عن الأضداد من جهة الجملة لا من جهة التفصيل.

وقولهم: إنه يمتنع أن يكون النهى عن الأضداد غير الأمر. قلنا: دليله ما سبق.

وما ذكره القاضي أبو بكر من الدليل فالمختار منه إنما هو قسم التخالف ولا يلزم من ذلك جواز انفكاك أحدهما عن الآخر لجواز أن يكونا من قبيل المختلفات المتلازمة كما في المتضايفات. وكل متلازمين من الطرفين. وبه يمتنع الجمع بين وجود أحدهما وضد الآخر. ولا يلزم من جواز ذلك في بعض المختلفات جوازه في الباقي.

وإذا بطل ما ذكره من دليل الاتحاد بطل ما هو مبنى عليه.

‌2 - ابن الحاجب:

حكى العضد في شرحه لمختصر ابن الحاجب المذاهب المختلفة في هذه المسألة وبين محل النزاع فقال:

(1)

"وليس الكلام في هذين المفهومين - مفهوم الأمر والنهى - لتغايرهما لاختلاف الإضافة قطعا. ولا في اللفظ، إنما النزاع في أن الشئ المعين إذا أمر به فهل ذلك الأمر نهى عن الشئ المعين المضاد له؟ أو لا فإذا قال: تحرك فهل هو في المعنى بمثابة أن يقول: لا تسكن؟.

ثم أورد مذاهب العلماء في ذلك وأدلة كل منهم فيما ذهب إليه. وأضاف إلى ما ذكره الآمدى استدلالا لما ذهب إليه أبو بكر الباقلانى وتفصيلا لما أورد ابن الحاجب في هذا المقام. من القول بأن الأمر بالشئ يتضمن النهى عن ضده فقال:

القائلون بأن الأمر بالشئ يتضمن النهى عن ضده لهم حجتان:

الأولى: أن أمر الإيجاب طلب فعل يذم على تركه اتفاقا؛ ولا ذم إلا على فعل لأنه المقدور وهو هنا الكف عن الضد أو فعل ضده؛ وكلاهما ضد للفعل. والذم بأيهما كان. فالأمر بالشئ يستلزم النهى عن ضده إذ لا ذم بما لم ينه عنه لأن الذم معناه النهى كما فسره السعد في حاشيته على العضد وقال: معنى ذلك أن النهى عنه ما يذم فاعله وإلا فحقيقة النهى طلب الكف عن الفعل الثانية: أنه لا يتم الواجب وهو فعل المأمور به إلا يترك ضده. وهذا الترك إما أن يكون الكف عن الضد أو نفى الضد على الرأيين. "المطلوب بالنهى الكف عن الفعل أو نفى الفعل". وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فالكف عن الضد أو نفى الضد واجب وهو معنى النهى عنه.

‌ثانيا: الحنفية

نكتفى بالبحث الذي عقده الكمال بن الهمام وشارحه ابن أمير الحاج لهذه المسألة وفيه

(2)

(1)

شرح العضد علي المختصر المنتهي حـ 2 ص 85

(2)

التقرير والتحبير ط ص 320

ص: 76

اختلف القائلون بالنفسى فاختيار الإمام الغزالى وابن الحاجب أن الأمر بالشئ فورا ليس نهيا عن ضده ولا يقتضيه عقلا والمنسوب إلى العامة من الشافعية والحنفية والمحدثين أنه نهى عنه إن كان الضد واحدا وإلا فهو نهى عن الأضداد كلها.

وقيل نهى عن واحد غير معين من أضداده وهو بعيد ظاهر البعد وأن النهى أمر بالضد المتحد؛ فالنهى عن الكفر أمر بالإيمان. فإذا كان له أضداد فقال بعض الحنفية والمحدثين هو أمر بأضداده كلها.

وفيه بعد، والعامة من الحنفية والشافعية والمحدثين هو أمر بواحد غير معين من أضداده، وحكى قولى القاضي أبى بكر الباقلانى وقد سبقا في كلام الآمدى والعضد. ثم قال:

ومنهم من اقتصر على الأمر فقال: الأمر بالشئ نهى عن ضده وسكت عن النهى، وهو معزو إلى أبى الحسن الأشعرى ومتابعيه وعمم الأمر في إنه نهى عن العضد في الإيجابى والندبى. فالأمر الإيجابى نهى تحريمى عن الضد والأمر الندبى نهى تنزيهى عن الضد.

ومنهم من خص أمر الوجوب فجعله نهيا تحريميا عن الضد دون الندب.

واتفق المعتزلة - لنفيهم الكلام النفسى على نفى العينية فيهما بمعنى أن الأمر بالشئ ليس نهيا عن ضده ولا بالعكس لعدم إمكان ذلك فيهما لفظا واختلفوا:

هل يوجب كل من صيغتى الأمر والنهى حكما في الضد؟.

قال أبو هاشم وأتباعه: لا بل الضد مسكوت عنه.

وقال أبو الحسين وعبد الجبار: الأمر يوجب حرمة الضد.

وتفيد عبارة طائفة: أن الأمر يدل على حرمة الضد.

كما تفيد عبارة طائفة أخرى: أن الأمر يقتضى حرمة ضده.

ووضح ابن أمير الحاج ذلك فقال:

(1)

والحاصل أن حرمة الضد لما لم تكن عندهم من موجبات صيغة الأمر فرارا من أن يكون الأمر نهيا عن ضده تنوعت إشارتهم إلى ذلك على ما قالوا:

فمن قال يوجب أشار إلى أن حرمة الضد تثبت ضرورة تحقق حكم الأمر. كالنكاح أوجب الحل في حق الزوج بصيغته والحرمة في حق الغير بحكمه دون صيغته.

ومن قال بدل أشار إلى أنها تثبت بطريق الدلالة لأن الصيغة تدل على الحرمة وإن لم تكن الحرمة من موجباتها كالنهى عن التأفيف يدل على حرمة الضرب وإن لم تكن حرمته من موجبات لفظ التأفيف.

ومن قال يقتضي أشار إلى أنها تثبيت بطريق الضرورة المنسوبة إلى غير لفظ الأمر لأن المقتضى يثبت زيادة على اللفظ بطريق الضرورة.

(1)

المصدر السابق: 221

ص: 77

وأضاف إلى المذاهب السابقة قول فخر الإسلام والقاضى أبى زيد وشمس الأئمة السرخسى وصدر الإسلام واتباعم من المتأخرين أن الأمر يقتضى كراهة الضد ولو كان إيجابا، والنهى يقتضى كون الضد سنة مؤكدة ولو كان النهى تحريما.

وعلق الشارح عليه بقوله: والظاهر أن اللفظى هو المراد لفخر الإسلام ومن معه ومراده غير أمر الفور لتنصيصه على تحريم الضد المفوت. يعنى إذا كان الأمر للوجوب. ونقل عن الفخر قوله: "وفائدة هذا الأصل أن التحريم إذا لم يكن مقصودا بالأمر لم يعتبر إلا من حيث يفوت الأمر، فإذا لم يفوته كان مكروها كالأمر بالقيام. ليس بنهى عن المقصود قصدا حتى إذا قعد لم تفسر صلاته بنفس القعود ولكنه يكره".

ولو كان مراده أمر الفور إما بناء على أنه له كما ذهب إليه الرازى أو لأنه مضيق ابتداء كما في صوم رمضان أو بسبب ضيق الوقت كالأمر بالصلاة عند ضيق الوقت لم يتأت القول بكراهية الضد لأنه ما من ضد إلا والاشتغال به مفوت للمأمور به حينئذ

(1)

.

وعلى هذا الذي تحرر مرادا لفخر الإسلام ينبغى تقييد الضد بالمفوت ثم إطلاق الأمر عن كونه فوريا فيقال: الأمر بالشئ نهى عن ضده المفوت أو يستلزمه فيئول في المعنى إلى قول صدر الشريعة: إن الصحيح أن الضد إن فوت المقصود بالأمر يحرم وإن فوت عدمه المقصود بالنهى يجب وإن لم يفوت فالأمر يقتضى كراهته.

وحاصل هذا الكلام كما قال التفتازانى: أن وجوب الشئ يدل على حرمة تركه وحرمة الشئ تدل على وجوب تركه وهذا مما لا يتصور فيه نزاع.

ثم علق المصنف وشارحه على هذا الخلاف بما يلى:

"وحرر أن المسألة في أمر الفور لا التراخى ذكره شمس وصدر الإسلام وصاحب القواطع وغيرهم وفى الضد الوجودى المستلزم للترك لا الترك ذكره الشيخ سراج الدين الهندى والسبكى وغيرهما. ثم قالوا: وليس النزاع في لفظهما بأن يطلق لفظ أحدهما على الآخر ولا في أن مفهوم أحدهما عين مفهوم الآخر أو في ضمنه للتغاير للقطع بأن مفهوم كل منهما غير مفهوم الآخره بل النزاع في أن طلب الفعل الذي هو الأمر عين طلب ترك ضده الذي هو النهى.

فالجمهور يقول: نعم فالمتعلّق واحد والمتعلق شيئان متلازمان. فهو عندهم كالعلم المتعلق بمعلومين متلازمين. فكما يستحيل أن يتحقق العلم بأحدهما ويجهل الآخر يستحيل أن يتحقق الاقتضاء النفسى لفعل دون اقتضائه لترك ضده.

والقاضى أبو بكر الباقلانى آخرا يقول: لا، إلا أنه يثنى المتعلّق والمتعلق به جميعا فيرى أن الأمر النفسى يقارنه نهى نفسى أيضا، فيكون وجود القول النفسى الذي هو اقتضاء القيام ويعبر عنه

(1)

المصدر السابق 323

ص: 78

"بقم" متضمنا وجود قول آخر في النفس يعبر عنه "بلا تقعد" ويكون القول المعبر عنه بقم متضمنا للقول الثاني ومقارنه حتى لا يوجد منفردا عنه ويجرى مجرى الجوهر والعرض من حيث إنه لا يمكن انفصالهما.

والإمام والغزالى ومن وافقهما يقولان: لا أيضا إلا أنهم يوحدون المتعلِّق والمتعلق به هذا وذهب الغزالى أيضا ووافقه أبو نصر القشيرى إلى أن غيرية أحدهما للآخر إنما هي في غير كلام الله تعالى فقال: طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود؟ وهذا لا يمكن فرضه في حق الله تعالى فإن كلامه واحد وهو أمر ونهى ووعد ووعيد فلا تتطرق الغيرية إليه فليفرض في المخلوق وهو أن طلبه للحركة هل هو بعينه كراهة السكون وطلب لتركه.

وأجيب بأنه لا شك في أنه في ذاته واحد ولكنه متعدد باعتبار المتعلقات وكلامنا في الغيرية بهذا المعنى.

وذيلا ذلك بقولهما:

(1)

وفائدة الخلاف في كون الأمر بالشئ نهيا عن ضده أو يستلزمه أو لا تظهر إذا ترك المأمور به وفعل ضده الذي لم يقصد بنهى من حيث استحقاق العقاب بترك المأمور يه فقط كما هو لازم القول بأنه ليس نهيا عن ضده ولا يستلزمه أو استحقاق العقاب بترك المأمور به وبفعل الضد حيث عصى أمرا ونهيا كما هو لازم القول بأنه نهى عن ضده أو يستلزمه. كما تظهر فائدة الخلاف في كون النهى عن الشئ أمرا بضده على هذا النحو.

ثم سار في الاستدلال والرد إلى ما لا يخرج عن كلام الآمدى السابق في جملته وانتهى إلى القول

(2)

بأن الأوجه أن الأمر بالشئ مستلزم للنهى عن تركه غير مقصود استلزاما بالمعنى الأعم فيه وإن الأمر بالشئ نهي عن الضد المفوت لخطوره كذلك على معنى أن تعقل مفهوم الضد المفوت وتعقل معنى طلب الترك حكم به فيه وبلزومه له؛ فإن العقاب بفعل الضد لتفويته المأمور به لا مطلقا فأما ضد بخصوصه إذا كان للمأمور به ضد غيره فليس لازما عادة وذلك للقطع بعدم خطور الأكل "مثلا" من تصور الصلاة في العادة.

‌ثالثا: الظاهرية:

قال ابن حزم:

(3)

الأمر نهى عن فعل كل ما خالف الفعل المأمور به وعن كل ضد له خاص أو عام فإنك إذا أمرته بالقيام فقد نهيته عن القعود والاضطجاع والاتكاء والانحناء والسجود وعن كل هيئة حاشا القيام بخلاف النهى عنده.

وإنما كان هكذا لأن ترك أفعال كثيرة مختلفة في وقت واحد واجب موجود ضرورة لأن من قام

(1)

المصدر السابق ص 223

(2)

المصدر السابق 324

(3)

الإحكام لابن حزم حـ 3 ص 68

ص: 79

فقد ترك كل فعل خالف القيام في حال قيامه.

ألا ترى أن من سافر فإنما يمشى إلى جهة واحدة وهو تارك لكل جهة غير التي توجه نحوها ولا يمكنه أن يتوجه إلى جهتين في وقت واحد بفعله نفسه.

ومن أورده اعتراضا على مذهبه قول القائل: قد يرد أمر ليس فيه نهى عن شئ أصلا وهو أمر الإباحة.

(1)

وأجاب بأن أمر الإباحة معناه إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل فليس مائلا إلى الأمر إلا كميله إلى النهى ولا فرق.

‌رابعا: الزيدية:

نقل الشوكانى في إرشاد الفحول مذاهب الفقهاء في هذه المسألة

(2)

وحرر الخلاف بين المعتزلة الذي حكاه الآمدى وابن الهمام فقال:

(3)

واتفق المعتزلة على أن الأمر بالشئ ليس نهيا عن ضده والنهى عن الشئ ليس أمرا بضده وذلك لنفيهم الكلام النفسى. ومع اتفاقهم على نفى كون كل واحد منهما عينا لإثبات ضده أو نفيه اختلفوا:

هل يوجب كل من الصيغتين حكما في الضد أم لا؟ أبو هاشم الجباتى ومتابعوه قالوا: لا يوجب شئ منها حكما في الضد بل الضد مسكوت عنه وأبو الحسين وعبد الجبار قالا: الأمر يوجب حرمة الضد. وفى عبارة أخرى عنهم يدل عليها وفى عبارة ثالثة عنهم يقتضيها.

وبعد أن حكى أقوال الرازى وموافقيه والقاضى أبى زيد وموافقيه قال:

وفائدة الخلاف في كون الأمر بالشئ نهيا عن ضده استحقاق العقاب بترك المأمور به فقط إذا قيل بأنه ليس نهيا عن ضده؛ أو استحقاقه بتركه وبفعل الضد إذا قيل بأنه نهى عن فعل الضد لأنه خالف أمرا ونهيا وعصى بهما. وهكذا في النهى.

ثم استوفى الشوكاني الكلام عن أدلة كل فريق وانهى البحث بقوله:

(4)

إذا عرفت ما حررناه من الأدلة والردود بها فاعلم أن الأرجح في هذه المسألة أن الأمر بالشئ يستلزم النهى عن ضده بالمعنى الأعم فإن اللازم بالمعنى الأعم هو أن يكون تصور الملزوم واللازم معا كافيا في الجزم باللزوم؛ بخلاف اللازم بالمعنى الأخص فإن العلم بالملزوم هناك يستلزم العلم باللازم. وهكذا النهى عن الشئ فإنه يستلزم الأمر بضده بالمعنى الأعم.

‌خامسا: الإباضية:

يقول صاحب طلعة الشمس:

(5)

لا يدل الأمر بالشئ على النهى عن ضد ذلك الشئ المأمور به فلا يكون الأمر بالشئ نهيا عن ضده.

(1)

المصدر السابق ص 70

(2)

إرشاد الفحول من 101

(3)

المصدر السابق 102

(4)

المصدر السابق ص 104

(5)

طلعة الشمس حـ 1 من 56

ص: 80

وحكى المذاهب المخالفة وشبه القائلين بأن الأمر يدل على النهى عن ضدء دلالة التزام باعتبارها أقوى الشبه وتولي الرد عليها بما ملخصه أن الاستلزام لا يدل على العينية. ثم قال (1).

اعلم أن المذهب الذي اخترناه هو مذهب كثير من الأصوليين ونسب إلى الغزالى والجوينى واعلم أيضا أن قول من قال إن الأمر بالشئ نهى عن ضده لا يخلو إما أن يكون المراد أنه نهى عن ضده من طريق اللفظ وهو باطل لاتفاق أهل اللغة على أن الأمر بالشئ لا يسمى نهيا عن ضده وإما أن يريدوا أن الأمر بالشئ نهى عن ضده في المعنى بحيث يكون ضد المأمور به مكروها للآمر وقبيحا عنده. وهذا باطل أيضا لأن النوافل مأمور بها وضدها ليس بمنهى عنه.

فإن قيل إن الأمر بالنوافل أمر مجازى والكلام في الأمر الحقيقى قلنا: لا نسلم ذلك بل الأمر بالنوافل خقيقى أيضا وأطال في ذلك بما ليس من غرض البحث.

‌سادسا: الجعفرية

ذهب صاحب قوانين الأصول إلى الرأى الذي قال به الجمهور فقال: (2)

الحق أن الأمر بالشئ لا يقتضى النهى عن ضده الخاص وأما الضد العام فيقتضيه التزاما.

وأوضح ذلك بعدة مقدمات أهمها:

1 -

أن الضد الخاص للمأمور به وهو كل واحد من الأمور الوجودية المضادة له عقلا أو شرعا. وأما العام فتارة يطلق على أحد هذه الأضداد الوجودية لا بعينه. وهو بهذا المعنى لا يختلف عن الضد الخاص. وتارة يطلق على الترك. إما بجمله مرادفا للكف أو مجازا للمناسبة والمجاورة.

والمراد في هذا البحث هو المعنى الثاني وهو الضد بالمعنى العام مرادا به الترك.

2 -

أن ترك الضد مما يتوقف عليه فعل المأمور به لاستحالة وجود الضدين في محل واحد، فوجود أحدهما يتوقف عليه انتفاء الآخر عقلا.

واتجه إلى قصر الكلام في مقامين:

الأول: أن الأمر بالشئ يقتضى النهى عن ترك المأمور به التزاما لا تضمنا كما توهم بعضهم.

فالصيغة تدل عليه التزاما بينا بالمعنى الأعم. والقول بعدم الدلالة منقول عن بعض علماء المذهب محتجين بأن الآمر قد يكون غافلا فلا يتحقق النهى.

ورد ذلك بأن الغفلة مطلقا حتى إجمالا ممنوع وهذا كاف ولذلك قلنا؛ يكون اللزوم بينا بالمعنى الأعم وكما أن القول بالعينية في الضد الخاص إفراط فهذا القول تفريط.

الثاني: الحق عدم دلالة الأمر بالشئ علي النهى عن الضد الخاص. والمثبتون بين من يظهر

ص: 81

منه الالتزامية اللفظية ومن يظهر منه الالتزامية العقلية.

ثم استدل لمن يقول بعدم دلالته على الضد الخاص فقال:

إننا إذا قلنا أزل النجاسة عن المسجد فإنه لا يدل على قولنا لا تصل ونحوه بإحدى الدلالات الثلاث. وأطال في بيان ذلك ثم قال:

واحتج المدعون للدلالة اللفظية بأن أمر الإيجاب طلب فعل يذم على تركه اتفاقا. ولا ذم إلا على فعل لأنه المقدور وهو ليس إلا الكف أو فعل ضده. والذم بأيهما كان يستلزم النهى عنه إذ لا ذم بما لم ينه عنه لأنه معناه.

ورد ذلك بمنع انحصار الذم على الفعل بأن مطلق ترك الفعل مقدور بسبب القدرة على استمراره ولا يحتاج إلى الكف. وأطال في ذلك.

كما احتج القائلون بالدلالة العقلية بوجوه منها:

أن ترك الضد لا يتم فعل المأمور به إلا به فيكون فعله حراما وهو معنى النهى وأن فعل الضد مستلزم لترك المأمور به المحرم والمستلزم للمحرم محرم.

وتعرض المصنف لأبحاث لا يحتمل المقام ذكرها.

ص: 82

‌الأمر المعلق بشرط أو صفة

‌أولا: طريقة المتكلمين

‌1 - الغزالى

(1)

اختلف الصائرون إلى أن الأمر ليس للتكرار في الأمر المضاف إلى شرط: فقال قوم لا أثر للإضافة وقال قوم يتكرر بتكرر الشرط. والمختار أنه لا أثر للشرط. لأن قوله "اضريه" أمر ليس يقتضى التكرار فقوله "اضربه إن كان قائما. أو إذا كان قائما" لا يقتضيه أيضا بل لا يريد إلا اختصاص الضرب الذي يقتضيه الإطلاق بحالة القيام. وهو كقوله لوكيله "طلق زوجتى إن دخلت الدار" لا يقتضى التكرار بتكرر الدخول. بل لو قال "إن دخلت الدار فأنت طالق" لم يتكرر بتكرر الدخول إلا أن يقول "كما دخلت الدار". وكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا زالت الشمس فصل" كقول الرجل لزوجاته: فمن شهدت منكن الشهر فهى طالق. ومن زالت عليها الشمس فهى طالق وللقائلين بالتكرر شبهتان:

الأولى: أن الحكم يتكرر بتكرر العلة والشروط كالعلة فإن علل الشرع علامات.

وأجاب عن ذلك: بأن العلة إن كانت عقلية فهى موجبة لذاتها ولا يعقل وجود ذاتها دون المعلول. وإن كانت شرعية فلسنا نسلم تكرر الحكم بمجرد إضافة الحكم إلى العلة ما لم تقترن به قرينة أخرى وهو التعبير بالقياس. ومعنى التعبير بالقياس الأمر باتباع الملة وكأن الشرع يقول: الحكم يثبت بها فاتبعوها.

الشبهة الثانية: أن أوامر الشرع إنما تتكرر بتكرر الأسباب كقوله تعالي {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} .

وأجاب بأن ذلك ليس بموجب اللغة ومجرد الإضافة بل بدليل شرعى في كل شرط فقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ولا يتكرر الوجوب بتكرر الاستطاعة. فإن أحالوا ذلك على الدليل أحلنا ما يتكرر أيضا على الدليل كيف ومن قام إلى الصلاة غير محدث فلا يتكرر عليه ومن كان جنبا فليس عليه أن يتطهر إذا لم يرد الصلاة فلم يتكرر مطلقا لكن اتبع فيه موجب الدليل.

‌2 - الآمدى

الأمر المعلق بشرط كقوله إذا زالت الشمس فصلوا أو صفة كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} هل يقتضى تكرار المأمور به بتكرر الشرط والصفة أم لا؟

(2)

من قال إن الأمر المطلق يقتضى التكرار فهو هنا أولى. ومن قال إن الأمر المطلق لا يقتضى التكرار اختلفوا هنا فمنهم من أوجبه ومن من نفاه.

ولخص محل النزاع فقال:

(3)

ما علق به المأمورية من الشرط أو الصفة إما أن يكون قد ثبت كونه علة في نفس الأمر لوجوب الفعل المأمور به كالزنا أو لا يكون كذلك بل الحكم متوقف عليه من غير تأثير له فيه كالإحصان الذي يتوقف عليه الرجم في الزنا. فإن كان الأول فالاتفاق واقع على تكرر الفعل بتكرره نظرا إلى تكرر العلة ووقوع الاتفاق على

(1)

المستصفي جـ 2 ص 7

(2)

الإحكام للآمدى جـ 2 ص 235

(3)

المصدر السابق 336

ص: 83

التعبير باتباع العلة مهما وجدت فالتكرار مستند إلى تكرار العلة لا إلى الأمر. وإن كان الثاني فهو محل خلاف.

ثم قال: والمختار أنه لا تكرار.

ولم يقتنع الآمدى بحجج القائلين بالرأى الذي اختاره فذكر منها ثلاث حجج تولى هو الرد عليها ثم قال:

والمعتمد في ذلك أن يقال: لو وجب التكرار لم يخل إما أن يكون المقتضى له نفس الأمر أو الشرط أو مجموع الأمرين.

لا جائز أن يقال بالأول لما سبق في دلالة الأمر على التكرار أو المرة - ولا بالثانى لأن الشرط غير مؤثر في المشروط بحيث يلزم من وجوده وجوده بل إنما تأثيره في انتفاء المشروط عند انتفائه. وحيث قيل بملازمة المشروط لوجود الشرط في قوله لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق. إنما كان لضرورة وجود الموجب وهو قوله "أنت طالق لا لنفس دخول الدار وإلا كان دخول الدار موجبا للطلاق مطلقا وهو محال.

ولا جائز أن يقال بالثالث أجمعنا على انه لوقال لعبده: إذا دخلت السوق فاشتر لحما أنه لا يقتضى التكرار وذلك إما أن يكون مع تحقق الموجب للتكرار أولا مع تحققه. لا جائز أن يقال بالأول وإلا فانتفاء التكرار إما لمعارض أولا لمعارض والأول ممتنع لما فيه من المعارضة وتعطيل الدليل عن إعماله وهو خلاف الأصل. والثانى أيضا باطل لما فيه من مخالفة الدليل من غير معارض فلم يبق سوى الثاني وهو المطلوب.

ثم تناول حجج المعارضين وتولى الرد عليها وهى:

‌الحجة الأولى:

أنه قد وجد في كتاب الله تعالى أوامر متعلقة بشروط وصفات وهى متكررة بتكررها كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} الآيات ولو لم يكن ذلك مقتضيا للتكرار لما كان متكررا.

وأجاب عن ذلك بأنه إذا ثبت بما ذكرناه أن الأمر المعلق بالشرط أو الصفة غير مقتض للتكرار فحيث قضى بالتكرار إما أن يكون الشرط والصفة علة للحكم المكرر في نفس الأمر كما في الزنا والسرقة أو لا يكون علة له. فإن كان الأول فالتكرار إنما كان لتكرر العلة الموجية للحكم ولا كلام فيه وإن كان الثاني فيجب اعتقاد كونه متكررا لدليل اقتضاه غير الأمر المعلق بالشرط والصفة لما ذكرناه من عدم اقتضائه. كيف وإنه كما قد يتكرر الفعل المأمور به يتكرر الشرط فقد لا يتكرر كالأمر بالحج فإنه مشروط بالاستطاعة وهو غير متكرر بتكررها.

‌الحجة الثانية:

إن العلة بتكرر الحكم بتكررها إجماعا والشرط أقوى من العلة لانتفاء الحكم بانتفائه بخلاف العلة فكان اقتضاؤه للتكرار أولى.

وأجاب: إنه لا يلزم من تكرر الحكم بتكرر العلة لكونها موجبة للحكم تكرره بتكرر الشرط مع أنه غير موجب للحكم كما تقرر.

‌الحجة الثالثة:

أن نسبة الحكم إلى أعداد الشرط المعلق عليه نسبة واحدة ولا اختصاص له بالموجود الأول منها

ص: 84

دون ما بعده وعند ذلك فإما أن يلزم من انتفاء الحكم مع وجود الشرط ثانيا وثالثا انتفاؤه مع وجود الشرط الأول أو من وجوده مع الأول الوجود مع الثاني وما بعده ضرورة التسوية. والأول خلاف الإجماع والثانى هو المطلوب.

‌الحجة الرابعة:

أنه لو لم يكن الأمر مقتضيا لتعليق الحكم بجميع الشروط بل بالأول منها فيلزم أن يكون فعل العبادة مع الشرط الثاني دون الأول قضاء وكانت مفتقرة إلى دليل آخر وهو ممتنع.

وأجاب: عنهما معا: بأنه إنما يلزم القائلين بالوجوب على الفور وليس كذلك عندنا بل الأمر مقتض للامتثال مع استواء التقديم والتأخير فيه إذا علم تجدد الشرط وغلب على الظن بقاء المأمور ويكون الأمر قد اقتضى تعلق المأمور به على الشروط كلها على طريق البدل من غير اختصاص له ببعضها دون البعض.

وأما إن لم يغلب عن الظن تجدد الشرط ولا بقاء المأمور إلى حالة وجود الشرط الثاني فقد تعين اختصاص المأمور بالشرط الأول لعدم تحقق ما سواه.

‌الحجة الخامسة:

أن النهى المعلق بالشرط مفيد للتكرار كما إذا قال: إن دخل زيد الدار فلا نعطه درهما. والأمر ضد النهى فكان مشاركا له في حكمه ضرورة اشتراكهما في الطلب والاقتضاء.

وأجاب: بأن حاصله يرجع إلى قياس الأمر على النهى في اللغة وهو باطل عندنا كيف وإنا لا نسلم أن النهى المضاف إلى الشرط يتكرر بتكرر الشرط بل ما اقتضاه النهى إنما هو دوام المنع عند تحقق الشرط الأول سواء تجدد الشرط ثانيا أو لم يتجدد.

‌الحجة السادسة:

أن تعليق الأمر على الشرط الدائم موجب لدوام المأمور به بدوامه كما لو قال:

إذا وجد شهر رمضان فصمه فإن الصوم يكون دائما بدوام الشهر وتعليق الأمر على الشرط المتكرر في معناء فكان دائما.

وأجاب: عن ذلك بأن الشرط المستشهد به وإن كان له دوام في زمان معين والحكم موجود معه فهو واحد والمشروط به غير متكرر بتكرره وعند ذلك فلا يلزم من لزوم وجود المشروط عند تحقق شرطه من غير تكرر لزوم التكرر بتكرر الشرط في محل النزاع.

‌3 - البيضاوى والإسنوي

يقول البيضاوى: (1)

رد الأمر المعلق بشرط أو صفة مثل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} لا يقتضى التكرار لفظا ويقتضيه قياسا.

أما الأول فلأن ثبوت الحكم مع الصفة أو الشرط يحتمل التكرار وعدمه ولأنه لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق لم يتكرر.

وأما الثاني فلأن الترتيب يفيد العلية فيتكرر الحكم بتكررها، وإنما لم يتكرر الطلاق لعدم اعتبار تعليله.

1 - نهاية السول بهامش التقرير والتحبير جـ 1 ص 373.

ص: 85

وعلق على ذلك الإسنوى فقال:

(1)

الأمر المعلق بشرط أو بصفة يقتضى تكرار المأمور به عند تكرر شرطه أو صفته. إن قلنا الأمر المطلق يقتضيه فإن قلنا إنه لا يقتضيه ولا يدفعه فهل يقتضيه هنا؟

فيه ثلاثة مذاهب.

أحدها: يقتضيه من جهة اللفظ أي أن هذا اللفظ قد وضع للتكرار.

الثاني: لا يقتضيه أي لا من جهة اللفظ ولا من جهة القياس وهذا هو القائل بأن ترتيب الحكم على الوصف لا يدل على العلية.

الثالث: أنه لا يقتضيه لفظا ويقتضيه من جهة ورود الأمر بالقياس، واختاره في المحصول فلذلك جزم به المصنف. واختار الآمدى وابن الحاجب أنه لا يدل عليه قالا: ومحل الخلاف فيما لم يثبت كونه علة كالإحصان فإن ثبت كالربا فإنه يتكرر بتكرر علته اتفاقا.

وهذا مناف لكلام الإمام الرازى حيث مثل بالسرقة والجنابة مع أنه قد ثبت التعليل بهما ثم قال الإسنوى: الدليل على الأول وهو أنه لا يقتضي التكرار لفظا من وجهين:

أحدهما: أن ثبوت الحكم مع الصفة أو الشرط يحتمل التكرار وعدمه فإن اللفظ إنما دل على تعليق شئ على شئ وهو أعم من تعليقه عليه في كل الصور أو في صورة واحدة. بدليل صحة تقسيمه إليها والأعم لا يدل على الأخص بخصوصه فلزم من ذلك أن التعليق لا يدل على التكرار.

الثاني: أنه لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق فإن الطلاق لا يتكرر بتكرر الدخول. ولو كان يدل عليه من جهة اللفظ لكان يتكرر. كما لو قال "كلما".

وأما الدليل على الثاني - وهو أنه يقتضي التكرار قياسا - فلأن ترتب الحكم على الصفة أو الشرط يفيد عليه الشرط أو الصفة لذلك الحكم كما سيأتي في القياس في مباحث الإيماء فيتكرر الحكم بتكرر ذلك لأن المعلول يتكرر بتكرر علته.

وعلق الإسنوى على قول البيضاوى السابق "وإنما لم يتكرر الطلاق" فقال: إن هذا جواب عن سؤال مقرر توجيهه أن يقال:

لو كان تعليق الحكم بالشرط دالا على تكراره بالقياس لكان يلزم تكرار الطلاق بتكرار القيام فيما إذا قال: إن قمت فأنت طالق. وليس كذلك.

وجوابه أن تعبيره بذلك دال على أنه جعل القيام علة للطلاق ولكن المعتبر تعليل الشارع لأن وقوع الطلاق حكم شرعى وأحاد الناس لا عبرة بتعليلهم في أحكام الله تعالى لأن من نصب علة لحكم فإنما يتكرر حكمه بتكرر علته لا حكم غيره فلذلك لم يتكرر الطلاق منه. ألا ترى أنه لو صرح بالتعليل فقال طلقها لقيامها لم تطلق امرأة أخرى له قامت.

‌ثانيا: طريقة الحنفية

‌1 - البزدوى والبخارى

يقول البزدوى:

(2)

إن بعض مشايخ المذهب يقول بأنه يوجب التكرار وعامة مشايخه لا يوجبه ولا يحتمله.

(1)

المصدر السابق.

(2)

كشف الأسرار جـ 1 ص 122.

ص: 86

ويعلق البخارى على هذا فيقول:

(1)

قال بعض مشايخنا إن الأمر المعلق بشرط كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أو المقيد بوصف كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} يتكرر بتكرره وهو قول بعض أصحاب الشافعي ممن قال إن الأمر المطلق لا يوجب التكرار ولكن يحتمله. والمذهب الصحيح عندنا أنه لا يوجب التكرار ولا يحتمله سواء كان مطلقا أو معلقا بشرط أو مخصوصا بوصف.

وعلل البخارى للمذهب ورد على القائلين بالتكرار بما لا يخرج عما جاء في كلام الغزالى والآمدى بقوله:

(2)

إنه لا أثر للشرط في التكرار لأن قوله، اضربه إن لم يقتض التكرار فقوله: اضربه قائما أو إن كان قائما لا يقتضيه أيضا بل لا يزيده إلا اختصاص الضرب إلى يقتضيه الإطلاق بحالة القيام وهو كقوله لوكيله: طلق زوجتى دخلت الدار لا يقتضى التكرار بتكرر الدخول فكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله عليه السلام: "وإذا زالت الشمس فصل، كقول الرجل لزوجاته "من شهدت منكن الشهر فلتطلق نفسها. فمن زالت عليها الشمس فلتطلق نفسها.

وأما تكرار أوامر الشرع فليس من موجب اللغة بل بدليل شرعى في كل شرط فقد قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ولا يتكرر الوجوب بتكرر الاستطاعة. فإن أحالوا ذلك على الدليل أحلنا ما تكرر أيضا على الدليل. كيف ومن كان جنبا فليس عليه أن يطهر إذا لم يرد الصلاة فلم يتكرر مطلقا لكن اتبع فيه موجب الدليل كذا ذكر الغزالى رحمه الله

وأما اعتبارهم الشرط بالعلة فضعيف لأن العلة موجبة للحكم والموجب لا ينفك عن الموجب. قأما الشرط فليس بموجب. ولهذا يوجد الشرط بدون المشروط والمشروط بدون الشرط عندنا.

يوضح الفرق بينهما أن الحكم يقتصر ثبوته على العلة ولا يحتاج إلى أمر آخر. وثبوت المشروط لا يقتصر على الشرط بل يحتاج إلى موجب يوجبه وهو العلة. وأما الشروط المذكورة فيما استشهدوا فعلل أو في معنى العلل فلهذا تكررت الأوامر يتكررها.

‌2 - النسفى وابن الملك

.

لا يخرج مسلكهما عن مسلك البزدوى والبخاري

(3)

.

‌ثالثا: المتأخرون

‌1 - صدر الشريعة:

يقول صدر الشريعة:

(4)

"إذا كان الأمر معلقا بشرط أو مخصوصا بوصف فهو يقتضى التكرار والعموم عند بعض علمائنا - الحنفية" وعلل ذلك بأنه لتجدد السبب لا لمطلق الأمر. ثم قال: "وعند عامة علمائنا لا يحتملهما أصلا".

ويعلق على ذلك التفتازانى فيقول عن المذهب الأول:

(5)

.

(1)

المصدر السابق.

(2)

المصدر السابق ص 128.

(3)

يراجع المنار ص 138.

(4)

التوضيح على التنقيح جـ 2 من 69.

(5)

المصدر السابق ص 71.

ص: 87

ظاهر عبارة المصنف أن المعلق بالشرط أو الوصف يحتمل التكرار، والحق أنه يوجبه على هذا المذهب حتى لا ينتفى إلا بدليل كما صرح به المصنف في مسألة "إن دخلت الدار فطلقى نفسك" ولهذا عبر في التقديم عن هذا المذهب: بأن الأمر المطلق لا يقتضى تكرارا لكن المعلق بشرط أو وصف يتكرر بتكرره.

كما علق على مذهب عامة علماء الحنفية بقوله: (1)

مذهب عامة علماء الحنفية أن الأمر لا يحتمل العموم والتكرار بل هو للخصوص والمرة سواء كان مطلقا أو معلقا بشرط أو وصف. وإنما يستفاد العموم والتكرار من دليل خارجى كتكرار السبب.

‌2 - الكمال بن الهمام وابن أمير الحاج:

(2)

القائل بأن الأمر المعلق على شرط أو صفة يدل على التكرار يستدل بأنه قد تكرر المأمور به في نحو: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فتكرر وجوب الإطهار بتكرر الجنابة.

وأجاب عن ذلك: بأن الشرط هنا علة فيتكرر موجب الأمر بتكررها اتفاقا ضرورة تكرر المعلول بتكرر علته بالصيفة. وأما غيره مما لا يكون علة "كإذا دخل الشهر فاعتق" فخلاف في كونه للتكرار. والحق نفى التكرار فيه.

وقد أورد اعتراضا هنا على الحنفية وأجاب عنه فقال:

(3)

كيف نفى تكرر الحكم بتكرر الوصف الذي هو علته بعض الحنفية في {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فلم يقطعوا في المرة الثالثة يد السارق اليسرى إذا كان قد قطع في الأولى يده اليمنى والثانية رجله اليسرى مع أن السرقة علة القطع. وجلدوا الزانى بكرا أبدا مع أن الزنا علة الجلد؟ ومضى فقال:

فالجواب: أما مانعوا تخصيص العلة فلم يعلق القطع عندهم بعلة هي السرقة لأن عدم قطع يده في الثانية إجماعا نقض لكونها علة لتخلف حكمها عنها فوجب عدم الاعتبار لها علة له. فيفى موجبه أي النص "القطع مرة مع السرقة: بخلاف الجلد في الزنا فإنه علق بعلة هي الزنا فتكرر بتكرره.

والوجه العام أي على القول بجواز تخصيص العلة بعدم جوازه بين هذين أن نص القطع مؤول إذ حقيقته قطع اليدين بسرقة واحدة وهى غير معمول بها إجماعا، بل صرف النص عنه إلى واحدة هي اليمنى بالسنة وقراءة ابن مسعود:"فاقطعوا أيمانهما" على ما في غير موضع من تَفسير البيضاوى أو: "والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم" على ما في تفسير الزجاج والكشاف. والقراءة الشاذة حجة على الصحيح. وبدليل الإجماع.

فظهر بهذه الأدلة أن المراد من النص انقسام الآحاد على الآحاد: أي كل سارق فاقطعوا يده اليمنى بموجب حمل المطلق على المقيد.

على أنا نقول: فلو فرضت السرقة علة للقطع تعذر القطع في الثانية لفوت محل الحكم الذي هو القطع وهو اليمنى في الثانية لقطعها في الأولى. بخلاف الجلد فإنه يتكرر بتكرر الزنا لعدم فوت محله وهو البدن بالجلد السابق.

1 - المصدر السابق ص 72.

(2)

التقرير والتحبير جـ 1 ص 312.

(3)

المصدر السابق ص 313.

ص: 88

ثم أورد سؤال الأقرع بن حابس في مسألة الحج وناقشه بما لا يخرج عما سبق إيراده.

‌رابعا: ابن الحاجب:

يقول ابن الحاجب:

(1)

الأمر إذا علق على علة ثابتة وجب تكرره بتكررها اتفاقا للإجماع على اتباع العلة لا الأمر فإن علق على غير علة فالمختار لا يقتضى:

لنا القطع بأنه إذا قال "إن دخلت السوق فاشتر كذا" عد ممتثلا بالمرة مقتصرا قالوا: ثبت ذلك في أوامر الشرع: "إذا قمتم - الزانى والزانية - وإن كنتم جنبا".

قلنا: في غير العلة بدليل خاص.

قالوا: تكرار للعلة فالشرط أولى لانتفاء المشروط.

قلنا: العلة مقتضية معلولها.

وشرح العضد ذلك فقال:

(2)

القائلون بأن الأمر لا يدل على التكرار اتفقوا على أن الأمر إذا علق على علة ثابتة عليتها بالدليل مثل أن يقول: "إن زنى فاجلدوه" فالاتفاق على أنه يجب تكرر الفعل بتكرر العلة للإجماع على وجوب اتباع العلة، وإثبات الحكم بثبوتها، فإذا تكررت تكرر. وليس التكرار هاهنا مستفادا من الأمر لما ذكرنا. فإن علق على غير علة أي أمر لم تثبت عليته مثل أن يقول "إذا دخل الشهر فأعتق عبدا من عبيدى" فالمختار أنه لا يقتضى تكرار الفعل بتكرار ما علق به.

لنا: أن السيد إذا قال لعبده "إن دخلت السوق فاشتر كذا" فاشتراه مرة مقتصرا عليها غير مكرر لها بتكرار دخول السوق غير ممتثل. وذلك معلوم قطعا. ولو وجب تكرار الفعل بتكرر ما علق به لما كان كذلك.

القائلون بأنه يتكرر في غير العلة قالوا: مستدلين ثبت ذلك أي تكرر الفعل بتكرر ما علق به في أوامر الشرع نحو، "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا - الزانية والزانى فاجلدوا والسارق والسارقة فاقطعوا - وإن كنتم جنبا فاطهروا" والاستقراء يدل على أنه فهم التكرار من نفس التعليق.

الجواب: أما ما ثبت عليه مثل الزنا والسرقة والجنابة فليس محل النزاع. وأما غيره فلا يثبت فيه التكرار إلا بدليل خاص. ولذلك لم يتكرر الحج وإن علق بالاستطاعة.

القائلون بأنه لا يتكرر في العلة قالوا: لو تكرر الفعل بتكرر العلة لتكرر بتكرر الشرط بالطريق الأولى. إذ الشرط يلزم من عدمه عدم المشروط يخلاف العلة لجواز أن يخلفها علة أخرى كما يجئ في تعليل الحكم بعلتين مستقلتين.

الجواب: التكرر في العلة إنما كان باعتبار أن وجوده مقتض لوجود المعلول وذلك منتف في الشرط فإن وجوده لا يقتضى وجود المشروط، واقتضاء انتفائه بانتفائه لا يوجب التكرر بتكرره.

‌خامسًا: الزيدية

‌يقول الشوكانى:

(3)

إذا كان الأمر معلقا بعلة أو صفة أو شرط، فإن كان معلقا على علة فقد وقع الإجماع على وجوب اتباع العلة وإثبات الحكم بثبوتها فإذا تكررت تكرر وليس التكرار مستفادا ههنا من الأمر.

(1)

شرح العضد على مختصر المنتهى جـ 2 ص 83.

(2)

المصدر السابق.

(3)

إرشاد الفحول ص 99.

ص: 89

وإن كان معلقا على شرط أو صفة فقد ذهب كثير ممن قال إن الأمر لا يفيد التكرار إلى أنه مع هذا التعليق يقتضى التكرار لا من حيث الصيغة بل من حيث التعليق لها على ذلك الشرط أو الصفة إن كان في الشرط أو الصفة ما يقتضى ذلك وإلا فلا تكرار كقول السيد لعبده "اشتر اللحم إن دخلت السوق" وقول الرجل لامرأته "إن دخلت الدار فأنت طالق" وكذا لو قال "أعط العالم درهما أو أعط الرجل الفقير درهما".

ويختتم البحث في هذا وفى كون صيغة الأمر موضوعة لمطلق الطلب من غير إشعار بالوحدة والكثرة فقال:

(1)

والحاصل أنه لا دلالة للصيغة على التكرار إلا بقرينة تفيد وتدل عليه فإن حصلت حصل التكرار وإلا فلا، فلا يتم استدلال المستدلين عن التكرار بصورة خاصة اقتضى الشرع أو اللغة أن الأمر فيها يفيد التكرار لأن ذلك خارج عن محل النزاع، وليس النزاع إلا في مجرد دلالة الصيغة مع عدم القرينة فالتطويل في مثل هذا المقام بذكر الصور التي ذكرها أهل الأصول لا يأتى بفائدة.

‌سادسا: الجعفرية:

يقول صاحب قوانين الأصول:

(2)

الأمر المعلق على شرط أو صفة يتكرر الشرط والصفة عند القائلين بدلالته على التكرار قولا واحدا لوجود المقتضى وعدم المانع. غاية الأمر تقليل التكرار بالنسبة إلى الأمر المطلق.

وأما غيرهم فذهبوا إلى أقوال ثالثها دلالته عليه مع فهم العلية يعنى كون الشرط أو الوصف علة فيكون من باب المنصوص العلة خلافا للمرتضى حيث لا يرى التكرار مطلقا لعدم اعتباره المنصوص العلة مطلقا. والأقرب التفصيل.

وتحرير المقام أن كل ما دل على العموم من أدوات الشرط مثل "كلما ومهما" ونحوهما فلا ينبغى التأمل في تكرر الأمر بتكرر الشرط.

وأما ما لم يدل على العموم مثل "إن وإذا" فلا يقيد التكرار أصلا إلا أن يقال بحملهما على العموم لوقوعهما في كلام الحكيم وكون الشرط لغوا لولاه.

وأما الصفة فهى أيضا لما لم تدل على العلية على ما هو التحقيق إلا أن فيها إشعارا بالعلية والمعتبر هو العلة الثابتة كما صرحوا به فلا اعتبار بها أيضا. وأما إذا أفهم العلية الثابتة بمعونة الخارج فيفيد العموم والتكرار العلة سواء كان في الشرط أو الصفة مثل "الزانية والزانى فاجلدوا""وإن زنا فاجلدوا" ونحوهما.

واحتج القائلون بالتكرار مطلقا بالاستقراء فإن قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} إلى غير ذلك من الآيات والأخبار التي يتكرر الأمر فيها بتكرر الشرط فكذا فيما يحصل الشك إلحاقا بالغالب.

وفيه أن حمله على التكرار فيما ذكر إنما هو لأجل فهم العلية وهو مسلم عندنا.

والاحتجاج بمثل: "إن دخلت السوق فاشتر اللحم أو أعط هذا درهما إن دخل الدار" فلا

(1)

المصدر السابق.

(2)

قوانين الأصول ص 92.

ص: 90

يفهم منه التكرار. وفيه أن ذلك لعدم فهم العلية.

وذلك لا يستلزم الاطراد.

وقيل إن ذلك للقرينة فإن من قال لعبده، إذا شبعت فاحمد الله فهم منه التكرار. وهو مغلوب عليه بل ذلك أيضا لفهم العلية.

‌سابعًا: الإباضية:

(1)

إذا علق الأمر على وصف اعتبر ذلك الوصف الذي علق عليه الأمر، فإن كان من الأوصاف المؤثرة في الحكم الثابتة بالدليل فإن الأمر يتكرر بتكرارها، وذلك كما في قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وكما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فإن عرف أهل الشرع قد اقتضى تكرار الأمر المعلق بنحو ما ذكر في الآيتين لقيام الدليل على طلب تكراره.

وإن كان من الأوصاف غير الثابتة بالدليل فلا يفيد الأمر المعلق بها تكرارا إلا بدليل آخر يقتضى التكرار. وذلك نحو: حج بيت الله راكبا، واصعد السطح إن كان السلم مركوزا. فإن الحج لا يتكرر بتكرار الركوب. وصعود السطح لا يتكرر بتكرار ركوز السلم.

أما المعلق على صفة ثابتة بالدليل فلا خلاف فيه بين أحد من العلماء، وأما المعلق على الصفة غير الثابتة بالدليل فالأكثر على أنه لا يتكرر وهو اختيار البدر الشماخى - رحمه الله تعالى - وقال الإسفرايينى: بل يجب تكرره - وحجته في ذلك قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية قال هو ومن تابعه على ذلك إنه يجب الوضوء على من أراد القيام للصلاة وهو محدث.

وأجيب بأن تكرره في الآية بدليل خاص لا بمجرد الأمر ولا بنفس تعلقه بذلك الوصف. وهو على هذا داخل تحت ما علق على صفة ثابته بالدليل، وكلامنا فيما علق على غير الثابت بالدليل.

وأجاب أيضا عن استدلالهم بآية الزنا بان هذا من القبيل الأول أيضا وكلامنا في غيره فالتكرار عنده بدليل والدليل أعم من القرينة فيشملها وغيرها وهو يشترط في الدليل أن يكون مقصودا في كونه مقتضيا تكرار الأمر فيخرج بذلك النائم والساهى والمجنون فإنه لا يعتبر بأمرهم فكيف بقرائنه. وذلك أن تخرج أيضا ما قامت القرينة الحالية أو المقالية على تخصيصه من ذلك فإن قول القائل كلما دخلت السوق فاشتر اللحم يعلم من حاله أنه إذا دخل كل ساعة أو في أوقات لا يوجد فيها اللحم مثلا أو في أوقات ليست محلا لشراء اللحم أن هذا كله غير مراد للقائل، فيثبت تكراره بحسب ما قصد من دليل التكرار.

‌قضاء الواجب بالأمر الأول والخلاف في ذلك

إذا ورد الأمر بعبادة في وقت مقرر فلم تفعل فيه لعذر أو لغير عذر أو فعلت فيه على نوع من الخلل. اختلف العلماء في وجوب قضائها بعد ذلك الوقت. هل هو بالأمر الأول؟ "أمر الأداء" أو بأمر مجدد؟

(2)

ويتضح الخلاف فيما نورده بعد:

‌أولا: طريقة المتكلمين

‌1 - الغزالى

(3)

مذهب بعض الفقهاء أن وجوب القضاء

(1)

شرح طلعت الشمس على الألفية 49/ 1.

(2)

الإحكام للآمدى جـ 2 ص 262.

(3)

المستصفى جـ 2 ص 10.

ص: 91

لا يفتقر إلى أمر مجدد، ومذهب المحصلين أن الأمر بعبادة في وقت لا يقتضى القضاء، لأن تخصيص العبادة بوقت الزوال أو شهر رمضان كتخصيص الحج بعرفات، وتخصيص الزكاة بالمساكين وتخصيص الضرب والقتل بشخص وتخصيص الصلاة بالقبلة، فلا فرق بين الزمان والمكان والشخص فإن جميع ذلك تقييد للمأمورية بصفة والعارى عن تلك الصفة لا يتناوله اللفظ. بل يبقى على ما كان قبل الأمر.

فإن قيل: الوقت للعبادة كالأجل للدين فكما لا يسقط الدين بانقضاء الأجل لا تسقط الصلاة الواجبة في الذمة بانقضاء المدة "الوقت المحدد للأداء".

قلنا: مثال الأجل الحول في الزكاة لا جرم لا تسقط الزكاة بانقضائه لأن الأجل مهلة لتأخير المطالبة حتى ينجز بعد المدة. أما الوقت فقد صار وصفا للواجب كالمكان والشخص، ومن أوجب عليه شئ بصفة. فإذا أتى به لا على تلك الصفة لم يكن ممتثلا. نعم يجب القضاء في الشرع إما بنص كقوله "من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها" أو بقياس، فإنا نقيس الصوم إذا نسيه على الصلاة إذا نسيها ونراه في معناها. ولا نقيس عليه الجمعة ولا الأضحية فإنهما لا يقضيان في غير وقتهما، وفى رمى الجمار تردد، أنه بأى الأصلين أشبه، ولا نقيس صلاه الحائض على صومها في القضاء لفرق النص، ولا نقيس صلاة الكافر وزكاته على صلاة المرتد وإن تساويا في أصل الأمر والوجوب عندنا.

‌2 - الآمدي:

يجب القضاء بالأمر الأول عند الحنابلة وكثير من الفقهاء

(1)

، والفقهاء بأمر مجدد هو مذهب المحققين من أصحابنا - أهل السنة والمعتزلة ونقل عن أبى زيد الديدس "من الحنفية" أنه قال بوجوب القضاء بقياس الشرع وإن ورد مطلقا غير مقيد بوقت.

فمن قال بحمله على الفور اختلفوا فيما إذا وقع الإخلال به في أول وقت الإمكان: هل يجب قضاؤء بنفس الأمر الأول؟ أو بأمر مجدد؟.

والمختار أنه مهما قيد الأمر بوقت فالقضاء بعده لا يكون إلا بأمر مجدد وبيانه من وجوه:

الوجه الأول: أنه لو كان الأمر الأول مقتضيا للقضاء لكان مشعرا به، وهو غير مشعر به فإنه إذا قال صم في يوم الخميس أو صل في وقت الزوال فإنه لا إشعار له بإيقاع الفعل في غير ذلك الوقت لغة.

الوجه الثاني: أنه إذا علق الفعل بوقت معين فلابد أن يكون ذلك لحكمة ترجع إلى المكلف إذ هو الأصل في شرع الأحكام سواء ظهرت الحكمة أم لم تظهر وتلك الحكمة إما أن تكون حاصلة من الفعل في غير ذلك الوقت أو غير حاصلة. وليست حاصلة لثلاثة أمور ذكرها الوجه الثالث: أن العبادات المأمور بها منقسمة إلى ما يجب قضاؤة كالصوم والصلاة وإلى ما لا يجب قضاؤه كالجمعة والجهاد. فلو كان الأول مقتضيا للقضاء لكان القول بعدم القضاء فيما فرض من الصور على خلاف الدليل وهو ممتنع.

(1)

الأحكام للآمدى جـ 2 ص 262.

ص: 92

الوجه الرابع: قوله: صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" أمر بالقضاء ولو كان مأمورًا به بالأمر الأول لكانت فائدة الخبر التأكيد ولو لم يكن مأمورا به لكانت فائدة الأمر التأسيس وهو أولى من التأكيد لعظم فائدته ثم ذكر معارضة المخالفين من عدة أوجه:

أولها: قوله صلى الله عليه وسلم: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ومن فاته الوقت الأول فهو يستطيع الفعل في الثاني:

وأجاب عن ذلك بأن الخبر دليل على وجوب الإتيان بما أستطيع من المأمور به وهذا إنما يفيد لو كان الفعل في الوقت الثاني داخلا تحت الأول وهو محل النزاع.

الوجه الثاني: أن الأمر إنما يدل على طلب الفعل وليس الزمان مطلوبا به فاختلاله لا يؤثر في مقتضى الأمر وهو الفعل.

وأجاب: بأن الأمر اقتضى مطلق الفعل أو فعلا مخصوصا بصفة وقوعه في وقت معين. الأول ممنوع والثانى مسلم.

الوجه الثالث: أن الغالب من المأمورات في الشرع إنما هو القضاء بتقدير فوات أوقاتها المعينة ولابد لذلك من مقتض والأصل عدم كل ما سوى الأمر السابق فكان هو المقتضى.

وأجاب: بأن القضاء فيما قيل بقضائه إنما كان بناء على آدلة أخرى لا بالأمر الأول. وأما قولهم "الأصل عدم ما سوى الأمر الأول" فمردود بأن الأصل عدم دلالة الأمر الأول عليه.

الوجه الرابع: أنه لو وجب القضاء بأمر مجدد لكان آداء كما في الأمر الأول وما كان لتسميته اقضاء معنى.

وأجاب: بأنه إنما سمى قضاء لكونه مستدركا لما فات من مصلحة الفعل المأمور به أولا أو مصلحة وصفه كما تقدم تحقيقه.

الوجه الخامس: أن العبادة حق لله تعالى والوقت المفروض كالأجل لها ففوات أجلها لا يوجب سقوطها كما في الدين للآدمى، ولأنه لو سقط وجوب الفعل بفوات الوقت لسقط المأثم لأنه من أحكام وجوب الفعل ولأن الأصل بقاء الوجوب فالقول بالسقوط بفوات الأجل على خلاف مقتضى الأصل.

وأجاب بمنع كون الوقت أجلا للفعل المأمور به إذ الأجل عبارة عن وقت مهلة وتأخير المطالبة الواجب من أوله إلى آخره كما في الحول بالنسبة إلى وجوب الزكاة ولذلك لا يأتم بإخراج وقت الأجل عن قضاء الدين وإخراج الحول عن أداء الزكاة فيه ولا كذلك الوقت المقدر للصلاة بل هو صفة الفعل الواجب ومن وجب عليه فعل بصفة لا يكون مؤديا له دون تلك الصفة.

‌3 - ابن الحاجب:

قال العضد توضيحا لكلام ابن الحاجب في هذا المقام

(1)

.

إن الأمر بفعل في وقت معين لا يقتضى فعله فيما بعد ذلك الوقت لا أداء ولا قضاء، فلو ثبت قضاء فبأمر مجدد نحو "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها". وقال بعض الفقهاء القضاء بالأمر الأول.

دليلنا: أنه لو وجب القضاء بالأمر الأول لكان

(1)

شرح مختصر المنتهى جـ 2 ص 92.

ص: 93

مقتضيا للقضاء واللازم منتف. أما الملازمة فبينة إذ الوجوب أخص من الاقتضاء وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم.

وأما انتفاء اللازم فلأنا قاطعون بأن قول القائل صم يوم الخميس لا يقتضى صوم يوم الجمعة بوجه من وجوه الاقتضاء ولا تعرض له به ولا تداول أصلا.

ولنا أيضا لو وجب به لاقتضاه ولو اقتضاه لكان أداء وكان بمشابة أن بقول صم إما يوم الخميس وإما يوم الجمعة وهو تخيير بينهما. والثانى أداء برأسه لا قضاء للأول.

ولنا أيضا يلزم أن يكونا سواء فلا يعصى بالتأخير.

وللخصم أن يقول: إنى أدعى أنه أمر بالصلاة أو بإيقاعها في يوم الخميس، فلما فات إيقاعها فيه بقى الوجوب مع نقص فيه فلا يلزم اقتضاء خصوص الجمعة ولا كونها أداء ولا كونهما سواء.

قالوا: أولا، الزمان ظرف من ضرورة المأمور به فلا يؤثر اختلاله في سقوطه.

الجواب: أن الكلام في الفعل المقيد بوقته بحيث لو قدم لم يعتد به كالصلاة. والوقت في مثله داخل في المأمور به وقيد له وإلا لجاز التقديم.

قالوا ثانيا: الوقت المأمور به كالأجل للدين فكما أن الدين لا يسقط بألا يؤدى في أجله ويجب الأداء بعده فكذا المأمور به إذا لم يؤد في وقته وجب الأداء بعده.

الجواب أنا لا نسلم كونه كأجل الدين لما تقدم أنه لو قدم لم يعتد به بخلاف أداء الدين.

قالوا ثالثا: لو وجب بأمر جديد لكان أداء لأنه أمر بالفعل بعد الوقت فيكون مأتيا به في وقته لا بعده وهو الأداء.

والجواب أنه إنما سمى قضاء لأنه استدراك مصلحة ما فات أولا حاصله منع للملازمة إذ يشترط في الأداء ألا يكون استدراكا لمصلحة فاتت.

ثم قال العضد:

إن هذه المسألة مبنية على أن المقيد هو المطلق والقيد وهما شيئان كما في التعقل والتلفظ أو ما صدقا عليه وهما شئ واحد يعبر عنه بالمركب من متعدد.

‌ثانيا: طريقة الحنفية

.

صور البزدوي المسألة بقوله:

(1)

اختلف المشايخ في القضاء: أيجب بنص مقصود "قصد به إيجاب القضاء ابتداء" أم بالسبب "الأمر" الذي يوجب الأداء؟.

فقال بعضهم بنص مقصود لأن القربة عرفت قرية بوقتها، وإذا فاتت عن وقتها ولا يعرف لها مثل إلا بالنص كيف يكون لها مثل بالقياس وقد ذهب وصف فضل الوقت. وقال عامتهم يجب بذلك السبب.

وبيان ذلك أن الله تعالى أوجب القضاء في الصوم بالنص فقال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وجاءت السنة بالقضاء في الصلاة قال النبى صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها".

فقلنا نحن: وجب القضاء في هذا بالنص وهو مفعول فإن الأداء كان فرضا فإذا فات فات

(1)

كشف الأسرار جـ 1 ص 138.

ص: 94

مضمونا وهو قادر على تسليم مثله من عنده لكون الفعل مشروعا له من جنسه أمر يصرف ما له إلى ما عليه. وسقط فضل الوقت إلى غير مثل وإلى غير ضمان إلا بالإثم إن كان عامدا للعجز فإذا عقل هذا وجب القياس به في قضاء المنذورات المتعينة من الصلاة والصيام والاعتكاف وهذا أقيس وأشبه بمسائل أصحابنا.

‌وقال البخارى تعليقا على قول البزدوى:

(1)

يدل على صحة الوجه الأول ما ذكره الشيخ رحمه الله في شرح التقويم: "ثم اختلف أصحابنا قال بعضهم القضاء يجب بأمر مبتدأ "مجدد" من الله تعالى. وقال بعضهم لا يحتاج إلى أمر مبتدأ بل يجب المثل إذا فات المضمون بالكتاب والسنة والإجماع". ويدل على ذلك أيضا ما ذكره صاحب الميزان فيه حيث قال: "اختلف مشايخنا في الأمر المؤقت إذا خرج الوقت قبل تحصيل الفعل حتى وجب القضاء أنه يجب بالأمر السابق أو يجب بأمر مبتدأ. قال بعضهم يجب بالأمر السابق وقال بعضهم يجب بأمر مبتدأ. وعليه يدل سياقه كلام شمس الأئمة السرخى رحمه الله أيضا. وذكر صدر الإسلام أبو اليسر: قال عامة الفقهاء إن الوقت متى فات لا يبقى المأمور به دينا في الذمة ويجب القضاء في وقت آخر بدليل أخر. وقال بعض الناس يبقى دينا في الذمة بعد خروج الوقت بحكم ذلك الأمر.

والحاصل أن وجوب القضاء لا يتوقف على أمر جديد. وإنم يجب بالأمر الأول عند القاضي الإمام أبى زيد وشمس الأئمة والمصنف ومن تابعهم وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي والحنابلة وعامة أصحاب الحديث. وعند العراقيين من أصحابنا وصدر الإسلام أبى اليسر وصاحب الميزان أنه لا يجب بالأمر الأول بل بأمر آخر وبدليل آخر وهو مذهب عامة أصحاب الشافعي وعامة المعتزلة.

والخلاف إنما هو في القضاء بمثل معقول، فأما القضاء بمثل غير معقول فلا يمكن إيجابه إلا بنص جديد بالاتفاق

(2)

احتج من قال بأنه يجب بأمر مبتدأ بأن الواجب بالأمر الأول أداء العبادة ولا مدخل للرأى في معرفتها وإنما يعرف بالنص، فإذا كان الأمر مقيدا بوقت كان كون المأمور به عبادة مقيدا به أيضا ضرورة توقفة على الأمر. فإن العبادة مفسرة بأنها فعل يأتى به المرء على وجه التعظيم لله تعالى بأمره. وإذا كان كذلك لا يكون الفعل في توفت آخر عبادة بهذا الأمر لعدم دخوله تحت الأمر كمن قال لغيره: افعل كذا يوم الجمعة لا يتناول هذا الأمر ما عدا الجمعة بحكم الصيغة كما لو كان مقيدا بالمكان بأن قيل اضرب من كان في الدار لا يتناول من لم يكن فيها، وإذا لم يتناوله الأمر كان الفعل بعد الوقت وقبله سواء فيحتاج إلى أمر آخر ضرورة. ولا يمتتع أن يكون الفعل مصلحة في وقت دون غيره، ولهذا كانت الصلوات مخصوصة بأوقات والصوم كذلك.

ولا يقال نحن لا ندعى أنه يتناوله من حيث الصيغة لأنه لو كان كذلك لما سمى قضاء. ولكنا

(1)

المصدر السابق جـ 1 ص 139.

(2)

لكن في مسلم الثبوت طبق على قوله إن الخلاف مطلق كما هو الظاهر من كلام الأئمة وذكر شارحه أن نقل صاحب الكشف بعيد، مسلم الثبوت وشرحه الهامش المستصفى جـ 1 ص 89.

ص: 95

نقول: المأمور به لما فات يضمن بالمثل من غير توقف على أمر آخر كما في حقوق العباد. لأنا نقول من شرط إيجاب الضمان المماثلة ولا مدخل للراى في مقادير العبادات وهيأتها فلا يمكن إثبات المماثلة فيها بالرأى. وكيف يمكن ذلك والأداء مشتمل على الفعل وإحراز فضيلة الوقت. ولهذا لم يجز قبل الوقت، وقد فاتت فضيلة الوقت بحيث لا يمكن تداركها. قال صلى الله عليه وسلم:"من فاته صوم يوم من رمضان لم يقضه صيام الدهر كله" فكيف يكون الفعل بعد الوقت مثلا للفعل في الوقت. ولما لم يمكن إيجابه بالأمر الأول توقف على دليل آخر ضرورة.

قال أبو اليسر رحمه الله: إن إقامة الفعل في الوقت إنما عرفت قرية شرعا بخلاف القياس فلا يمكننا إقامة مثل هذا الفعل في وقت آخر مقام هذا الفعل بالقياس عند الفوات كما في الجمعة فإن أداء الركمتين لما عرف قرية بحلاف القياس لا يمكننا أن نقيم مثل هاتين الركعتين مقامهما في وقت آخر بالقياس عند الفوات وكما في تكبيرات التشريق فإنها لما عرفت قرية في تلك الأيام شرعا بخلاف القياس لا يمكننا أن نقيم مثل هذه التكبيرات في غير تلك الأيام مقامها عند الفوات.

واحتج من قال بأنه يجب بالأمر الأول بالقياس وهو أن الشرع ورد بوجوب القضاء في الصوم والصلاة قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فأفطر فعليه عدة من أيام آخر وقال صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" وما ورد فيه معقول المعنى فوجب إلحاق غير المنصوص به.

وبيانه أن الأداء قد صار مستحقا عليه بالأمر في الوقت ومعلوم بالاستقراء أن المستحق لا يسقط عن المستحق عليه إلا بالأداء أو بالإسقاط أو بالعجز ولم يوجد الكل فبقى كما كان قبله. أما عدم وجود الأداء فظاهر وكذا عدم الإسقاط لأنه لم يوجد صريحا بيقين ولا دلالة الأنه لم يحدث إلا خروج الوقت وهو بنفسه لا يصلح مسقطا، لأن بخروج الوقت تقرر ترك الامتثال وذلك لا يجوز أن يكون مسقطا بل هو تقرر ما عليه من العهدة. وإنما يصلح الخروج مسقطا باعتبار العجز ولم يوجد العجز إلا في حق إدراك الفضيلة لبقاء القدرة على أصل العبادة لكونه متصور الوجود منه حقيقة وحكما فبقدر السقوط بقدر العجز فيسقط عنه استدراك شرف الوقت إلى الإثم إن تعمد التفويت إلى عدم الثواب "أي ثواب الأداء" إن لم يكن تعمد العجز ويبقى أصل العبادة الذي هو المقصود مضمونا عليه لقدرته عليه فيطالب بالخروج عن عهدته بصرف المثل إليه كما في حقوق العباد.

فإن قيل: لا نسلم أن القدرة على أصل الواجب تبقى بعد فوات الوقت لأن الأمر مقيد بالوقت بحيث لو قدم الأداء عليه لا يصح فيكون الواجب فعلا موصوفا بصفة، ومن وجب عليه فعل موصوف بصفة لا يبقى بدون تلك الصفة كالواجب بالقدرة الميسرة لا تبقى بعد فوات تلك القدرة لفوات وصفه وهو اليسر.

قلنا: هذا إذا كان الوصف مقصودا ونحن نعلم أن نفس الوقت ههنا ليس بمقصود لأن معنى

ص: 96

العبادة في كون الفعل عملا بخلاف هوى النفس أو في كونه تعظيما لله تعالى وثناء عليه. وهذا لا يختلف باختلاف الأوقات كما لا يختلف باختلاف الأماكن.

وأما عدم صحة الأداء قبل الوقت فليس لكونه مقصودا بل لكونه سببا للوجوب والأداء قبل السبب لا يجوز. ولما كان الوقت تبعا غير مقصود لم يجز أن يسقط بسقوطه ما هو المقصود الكلى وهو أصل العبادة.

ثم قال:

(1)

ونا ثبت أن النص معقول المعنى تعدى الحكم وهو وجوب القضاء به إلى الفروع وهى الواجبات بالنذر المؤقت من الصلاة والصيام والاعتكاف وغيرها.

وبما ذكرنا خرج الجواب عن قولهم: "إن مثل العبادة لا يصير عبادة إلا بالنص" لأنا قد سلمنا ذلك ولكن الكلام في أن الفعل الذي قد شرع عبادة في غير هذا الوقت حقا للعبد. هل يجب مقام الفعل الواجب في الوقت عند فواته؟ فنقول بأنه يجب لأن الشرع قد أقامه في الصوم والصلاة بمعنى معقول فيقاس عليها غيرهما.

وقد خرج الجواب أيضا عن الجمعة وتكبيرات التشريق لأن سقوطهما لعجز لأن إقامة الخطبة مقام ركعتين غير مشروع للعبد بعد مضى الوقت وكذا الجهد بالتكبير دبر الصلوات: غير مشروع للعبد في غير أيام التكبير بل هو منهى عنه لكونه بدعة فبمضى الوقت يتحقق الفوات فيه فيسقط كما قال شمس الأئمة رحمه الله ولا يقال: لما وجب القضاء في الصلاة والصوم بالنص - إذ لولاه لما عرف وجوب القضاء فكيف يستقيم قولكم القضاء بالأمر الذي يوجب الأداء.

لأنا نقول: قد عرفنا بالنص الموجب للقضاء أن الواجب لم يكن سقط بخروج الوقت. وأن هذا النص طلب لتفريغ الذمة عن ذلك الواجب بالمثل ولهذا سمى قضاء، ولو وجب به ابتداء لما صح تسميته قضاء حقيقة. وهذا كمن غصب شيئا وهلك عنده يجب الضمان لورود النصوص الموجبة له ولكنه يضاف إلى الغصب السابق الموجب للأداء وهو رد العين والنصوص لطلب التفريغ عن ذلك الواجب هكذا هنا.

ثم قال البخارى:

(2)

إن كلام فخر الإسلام يشير إلى أن ثمرة الخلاف تظهر فيما ذكره من المنذورات المتعينة فعند العامة يجب قضاؤها بالقياس وعند الفريق الأول لا يجب لعدم وجود نص مقصود فيه. لكن ذكر أبو اليسر في أصوله أنه إذا نذر صوم هذا الشهر أو نذر أن يصلى هذا اليوم أربع ركعات فمضى اليوم والشهر ولم يف فالقضاء واجب بالإجماع بين الفريقين لكن على قول الفريق الأول بسبب آخر مقصود غير النذر وهو التفويت وعلى القول الآخر بالنذر ثم قال، واعلم أن التفويت إنما يوجب القضاء عندهم لأنه بمنزلة نص مقصود فكأنه إذا فوت فقد التزم المنذور ثانيا.

فعلى هذا إذا فات لا بالتفويت بأن مرض أو جن في الشهر المنذور صومه أو أغمى عليه في اليوم المنذور فيه الصلاة يجب أن لا يقضى عندهم لعدم النص المقصود صريحا أو دلالة. فيظهر ثمرة الخلاف ثم استدرك على ما أورده فقال:

(1)

المصدر السابق ص 141.

(2)

المصدر السابق.

ص: 97

ولكن ما ذكره شمس الأئمة من أن وجوب القضاء بدليل آخر وهو تفويت الواجب عن الوقت على وجه هو معذور فيه أو غير معذور يشير إلى أن الفوات بمنزلة التفويت عندهم في إيجاب القضاء. فحينئذ لا يظهر فائدة الاختلاف في الأحكام بين أصحابنا وإنما يظهر في التخريج.

‌ثالثا: الحنابلة

.

قال في روضة الناظر

(1)

:

الواجب المؤقت لا يسقط بفوات وقته ولا يفتقر القضاء إلى أمر جديد وهو قول بعض الفقهاء وقد أورد الرأى المخالف في المسألة ودليله ثم برهن على اختيار المذهب الأول فقال:

(2)

دليلنا أن الأمر اقتضى الوجوب في الذمة فلا يبرأ منه إلا بأداء أو إبراء كما في حقوق الآدميين وخروج الوقت ليس بواحد منهما - بمعنى لا بعدة أداء ولا إبراء.

وعلق على هذا شارح الروضة بقوله:

وتقديره أن الذمة إذا شغلت بواجب للشرع أو لآدمى لم تبرأ منه إلا بامتثال وهو الأداء أو إبراء عنك هذه العبادة. أو الآدمى أبرأتك من هذا الدين وإذا كانت الذمة مشغولة بالواجب ما لم يوجد أداء له أو إبراء من مستحقه فقد أجمعنا على أن الذمة مشغولة بالواجب المؤقت في وقته. والأصل بقاء ما كان فيه على ما كان. والتقدير أن المكلف لم يوجد منه أداء ولا من الشرع إبراء فوجب القول ببقاء شغل الذمة به فتكون براءتها منه موقوفة على الأداء أو الإبراء لكن الإبراء صار بعد انقراض زمن التراخى ممتنع فتعين الأداء لبراءة الذمة لكن وقت الأداء اصطلاحًا قد فات بالتأخير فتعين القضاء فيما بعد لإبراء الذمة وذلك يقتضى أن يكون بالأمر الأول لأنه يدل عنه.

ثم قال المصنف:

(3)

والفرق بين الزمان والمكان أن الزمن الثاني تابع للأول فما ثبت فيه لسحب على جميع الأزمنة التي بعده بخلاف الأمكنة والأشخاص.

وعلق على ذلك الشارح فقال:

هذا إبطال لقياسهم تعلق الفعل بالزمان على تعلقه بالمكان. وبيانه أن الزمان حقيقة سبالة غير قارة فالمتأخر منه تابع للمتقدم فما ثبت فيه ثبت فيما بعده بطريق التبع له بخلاف الأمكنة والأشخاص والجهات فإنها حقائق قارة ليس بعضها تابعا لبعض حتى يتعلق بعضها بما تعلق بغيره.

وحاصل مأخذ المسألة أننا تقول إن الواجب الواقع في زمن القضاء، هو جزء الواجب في زمن الأداء والخصم يقول: هو غيره.

‌رابعا: الظاهرية

قال ابن حزم:

(4)

الأمر المرتبط بوقت لا قسمة فيه غير جائز تعجيل أدائه قبل وقته ولا تأخيره عن وقته، وذلك مثل صيام شهر رمضان. فإن جاء نص بالتعويض عنه وأدائه في وقت آخر وقف عنده وكان ذلك عملا آخر مأمورا به، وإن لم يأت بذلك نص

(1)

روضة الناظر جـ 2 ص 91.

(2)

المصدر السابق جـ 56.

(3)

المصدر السابق جـ 2 ص 93.

(4)

الاحكام لابن حزم جـ 3 ص 52.

ص: 98

ولا إجماع فلا يجوز أن يؤدى شئ منه في غير وقته. وكذلك كل عمل مرتبط بوقت محدود الطرفين كأوقات الصلوات وما جرى هذا المجرى فلا يجوز أداء شئ من ذلك بل دخول وقته، ولا بعد خروج وقته. ومن شبه ذلك ديون الآدميين لزمه أن يجيز صيام رمضان في شعبان قياسا على تعجيل ديون الناس قبل حلول أوقاتها، ولزمه أن يجيز تقديم الصلوات قبل وقتها قياسا على ذلك، وعلى ما أجازوا من تعجيل الزكاة قبل حلول وقتها.

ولا فرق بين من أجاز أداء الأمر بعد انقضاء وقته وبين من أجازه قبل دخول وقته هذا على أن بعضهم قد أجاز للمريض الذي يخاف تغير عقله تعجيل الصلاة قبل وقتها. فإن ادعوا أن الإجماع منعهم من ذلك عارضهم قول ابن عباس فإنه يجيز أداء الصلاة قبل دخول وقتها. وصلاة الظهر قبل زوال الشمس. ولا فرق في ديون الناس بين أدائها بعد وقتها وحلول أجلها وبين آدائها قبل وقتها وحلول أجلها.

وأطال ابن حزم في المقارنة بين الواجبات الشرعية وبين ديون الناس ثم قال

(1)

:

فإذا كان حكم الأموال والعبادات ما ذكرنا فلا خلاف في أن الوقت إنما معناه زمان العمل. وأنه لا يفهم من قول الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم: اعملوا عمل، كذا في وقت كذا. وصلوا صلاة كذا من حين كذا إلى حين كذا. إلا أن هذا الزمان المحدود هو الذي أمرنا فيه بالعمل المذكور فنقول حينئذ للمخالف: ما معنى خروج الوقت؟ فلابد ضرورة من أنه انقضاء زمن العمل فإذا ذهب زمان العمل فلا سبيل إلى العمل إذ لا يتشكل في العقول كون شئ في غير زمانه الذي جعله الله تعالى زمانا له ولم يجعل له زمانا غيره.

وقد يقال إنا وجدنا أوامر معلة

(2)

بزمان ينوب عنها تأدية ذلك العمل في زمان آخر فنقول إذا جاء بذلك نص أو إجماع فقد علمنا أن الله عز وجل مد ذلك الوقت وعلق ذلك الأمر بذلك الزمان الثاني وجعله وقتا له.

ونحن لا ننكر ذلك بل نقر به إذا أمرنا به لا إذا نهينا عنه وقد جاء مثل ذلك في الأمكنة كمن نذر صلاة في بيت المقدس فإنه إن صلى بمكة أجزاء للنص في ذلك: ولا يجزئ ذلك فيما لم يرد فيه نص.

‌خامسا: الزيدية

.

صور الشوكانى ما قاله الأصوليون فيما فيه أداء وقضاء واختار مذهب الجمهور وأيد أدلته وقال إنه الحق ثم أبرز مسألة في الأمر غير المقيد بوقت فقال

(3)

:

الأمر المطلق وهو أن يقول افعل ولا يقيده بزمن معين فإذا لم يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان فهل يجب فعله فيما بعد أو يحتاج إلى دليل؟. فمن لم يقل بالفور يقول: إن ذلك الأمر المطلق يقتضى الفعل فلا يخرج المكلف عن العهدة إلا بفعله. ومن قال بالفور قال إنه يقتضى الفعل بعد أول أوقات الإمكان وبه قال أبو بكر الرازى. ومن القائلين بالفور من يقول إنه لا يقتضيه بل لابد في ذلك من دليل زائد.

(1)

المصدر السابق ص 56.

(2)

المصدر السابق 58.

(3)

إرشاد الفحول ص 106.

ص: 99

قال في المحصول: ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره افعل: هل معناه افعل في الزمان الثاني فإن عصيت ففى الثالث فإن عصيت ففى الرابع ثم كذلك أبدًا، أو معناء في الثاني من غير بيان حال الزمان الثالث والرابع. فإن قلنا بالأول اقتضى الأمر الأول الفعل في سائر الأزمان وإن قلنا بالثانى لم يقتضه.

والحق أن الأمر المطلق يقتضى الفعل من غير تقييد بزمان فلا يخرج المكلف عن عهدته إلا بفعله وهو أداء وإن طال التراخى لأن تعيين بعض أجزاء الوقت له لا دليل عليه. واقتضاؤه الفور لا يستلزم أنه بعد أول أوقات الإمكان قضاء بل غاية ما يستلزمه أن يكون المكلف آثما بالتأخير عنه إلى وقت آخر.

‌سادسا: الإباضية:

قال صاحب طلعت الشمس:

(1)

إذا فات وقت الفرض المؤقت بعذر كان في تأخير الفعل أو المكلف الفعل بلا عذر منه فإنه يجب عليه تداركه بالقضاء اتفاقا. واختلفوا في الدليل الذي وجب به القضاء.

فذهب أكثر العلماء والبدر الشماخى إلى أن الدليل الذي وجب به القضاء هو شئ غير الدليل الذي وجب به الأداء. واستدلوا بآية الصوم وحديث النوم عن الصلاة ونسيانها.

ثم قال: فقوله تعالى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} دليل لوجوب القضاء وهو غير الدليل الذي وجب به الصوم ابتداء فإن وجوب الصوم ابتداء إنما وجب بقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}

(2)

وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "فليصلها إذا ذكرها"، فإن هذا الأمر دليل لوجوب القضاء للصلاة وهو غير الأمر الذي وجب به أداء الصلاة فإن أداءها وجب بقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}

(3)

ونحوه. فظهر أن الأمر الذي وجب به القضاء هو غير الأمر الذي وجب به الأداء وحكى رأى المخالفين ونقض أدلتهم.

‌سابعا: الجعفرية:

ذكر صاحب قوانين الأصول للمذهب المختار له وهو رأى الجمهور فقال:

(4)

الحق أن الأمر لا يقتضى إلا الإتيان بالمأمور به في الوقت ووجوب القضاء يحتاج إلى أمر جديد. ثم ساق ما بنى عليه العضد المسألة في شرحه للمختصر. فقال:

بلى العضد المسألة على أن قولهم صم يوم الخميس مركب في اللفظ والزمن من شيئين:

هل المأمور به فيه شيئان يبقى أحدهما بعد انتفاء الآخر؟ أو شئ واحد؟

وقال: إن هذا الخلاف مبنى على الخلاف في أن الجنس والفصل متمايزان في الوجود الخارجى أم لا وعلق على ذلك بقوله: الظاهر أن مراد العضد التنظير لأن قيد الزمان في قولنا صم الخميس خارج عن الماهية ثم قال:

ورده بعض المحققين بأن كونهما شيئين في الخارج لا يقتضى كون القضاء بالفرض الأول ولا يتنافى كونه بفرض جديد لاحتمال أن يكون غرض الآمر الإتيان بهما مجتمعين، فمع انتفاء أحدهما ينتفى الاجتماع. وكذلك لا يجدى كونهما

(1)

طلعت الشمس جـ 1 ص 45.

(2)

آية 185 سورة البقرة.

(3)

آية 20 سورة المزمل.

(4)

قوانين الأصول ص 132.

ص: 100

شيئا واحدا في نفى كون القضاء بالفرض الأول. وإثبات كونه بفرض جديد لاحتمال كون المراد المطلق لا بشرط الخصوصية. وذكر الخاص يكونه محصلا للمطلق بلا نظرٍ إلى خصوصية الشئ المذكور فلا ينتفى المطلق بانتفاء هذا القيد. فمن نفى كون القضاء بالفرض الأول مستظهر لثبوت الاحتمال غير المستلزم للقضاء. وعلى المثبت نفى ذلك الاحتمال.

ثم أورد احتمالات عدة لنصرة كل فريق يطول المقام بذكرها.

وأورد بعد ذلك على العضو أيضا أن مجرد التحايز بين الجنس والفصل في الخارج لا يؤيد كون القضاء بالفرض الأول إلا إذا ثبت جواز انفكاك أحدهما عن الآخر.

وبعد أن أطال في هذه المناقشة انتهى إلى أن التحقيق

(1)

أن الفرق بين ما نحن فيه وبين الجنس والفصل واضح ولا يصح التنظير ولا التفريع. أن المتبادر أن القيد هو شئ واحد والتبادر هو الحجة فلا نفهم من قول الشارع صم الخميس إلا شيئًا واحدا والزائد منفى بالأصل.

‌الإتيان بالمأمور به يدل على الإجزاء

الإتيان بالمأمور به على وجه الذى أمر به الشارع قد وقع الخلاف فيه بين أهل الأصول: أيوجب الإجزاء أم لا؟ ويتضح الخلاف مما يلى:

‌أولا: طريقة المتكلمين

‌1 - الغزالى:

قال:

(2)

ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر يقتضى وقوع الإجزاء بالمأمور به إذا امتثل. وقال بعض المتكلمين لا يدل على الإجزاء لا بمعنى أنه لا يدل على كونه طاعة وقرية وسبب ثواب وامتثالا. لكن بمعنى أنه لا يمنع الامتثال من وجوب القضاء ولا يلزم حصول الإجزاء بالأداء بدليل أن من أفسد حجه فهو مأمور بالإتمام ولا يجزئه بل يلزمه القضاء. ومن ظن أنه متطهر فهو مأمور بالصلاة وممتثل إذا صلى ومطيع ومتقرب ويلزمه القضاء فلا يمكن إنكاره كونه مأمورا ولا إنكار كونه ممتثلا حتى يسقط العقاب. ولا إنكار كونه مأمورا بالقضاء فهنه أمور مقطوع بها.

والصواب عندنا أن نفصل ونقول إذا ثبت أن القضاء يجب بأمر متجدد وأنه مثل الواجب الأول فالأمر بالشئ لا يمنع إيجاب مثله بعد الامتثال وهذا لا شك فيه ولكن ذلك المثل إنما يسمى قضاء إذا كان فيه تدارك لفائت من أصل العبادة أو وصفها، وإن لم يكن فوات وخلل استحال تسميته قضاء. فنقول الأمر يدل على إجزاء المأمور به إذا أدى بكمال وصفه وشرطه من غير بخلل، وإن تطرق إليه خلل كما في الحج الفاسد والصلاة غلى غير الطهارة فلا يدل الأمر على إجزائه بمعنى إيجاب القضاء.

فإن قيل: فالذى ظن أنه متطهر مأمور بالصلاة على تلك الحالة أو مأمور بالطهارة فإن كان مأمورا بالطهارة مع تتجز الصلاة فينبغي أن يكون عاصيا وإن كان مأمورا بالصلاة على حالته فقد امتثل من غير خلل. فيم عقل إيجاب القضاء؟ وكذلك المأمور بإتمام الحج الفاسد أتم كما أمر؟

قلنا: هذا مأمور بالصلاة مع الخلل بضرورة نسيانه فقد أتى بصلاة مختلة فاقدة شرطها

(1)

المصدر السابق 134.

(2)

المستصفى جـ 2 ص 12.

ص: 101

لضرورة حاله فعقل الأمر لتدارك الخلل. أما إذا لم يكن الخلل لا عن قصد ولا عن نسيان فلا تدارك فيه فلا يعقل إيجاب قضائه، وهو المعنى بإجزائه. وكذلك مفسد الحج مأمور بحج خال عن فساد وقد فوت على نفسه ذلك فيقضيه.

‌2 - الآمدى:

حقق الآمدى معنى الإجزاء فقال:

(1)

كون الفعل مجزئا قد يطلق بمعنى أنه امتثل به الأمر إذا أتى به على الوجه الذى أمر به وقد يطلق بمعنى أنه مسقط للقضاء. ثم قال:

(2)

اتفق الكل على أن الإتيان بالمأمور به على الوجه الذى أمر به يكون مجزئا بمعنى كونه امتثالا للأمر. وخالف القاضي عبد الجبار في كونه مجزئا بمعنى أنه لا يسقط القضاء، ولا يمتنع مع فعله من الأمر بالقضاء.

وانتقل إلى صاحب المسألة فقال:

(3)

الفعل المأمور به لا يخلو إما أن يكون قد أتى به المأمور على نحو ما أمر به من غير خال ولا نقص في صفته وشرطه أو أتى به على نوع من الخلل.

والقسم الثاني لا نزاع في كونه غير مجزئ ولا مسقط للقضاء. وإنما النزاع في القسم الأول وليس النزاع فيه أيضا من جهة أنه يمتنع ورود أمر مجدد بعد خروج الوقت نفعل مثل ما أمر به أولا. وإنما النزاع في ورود الأمر بالفعل متصفا بصفة القضاء. والحق نفيه لأن القضاء عبارة عن استدراك ما فات من مصلحة الأداء أو مصلحة صفته أو شرطه. وإذا كان المأمور به قد فعل على وجهة الكمال والتمام من غير نقص ولا خلل فوجوب القضاء استدراكا لما قد حصل تحصيل للحاصل. وهو مخال. ومن ينفى القضاء إنما ينفيه بهذا التفسير وهذا مما يتعذر مع تحقيقه المنازعة فيه. وإن كان لا ينكر إمكان ورود الأمر خارج الوقت بمثل ما فعل أولا. غير أنه لا نسميه قضاء، ومن سماء قضاء فحاصل النزاع معه آئل إلى اللفظ دون المعنى.

ويتضح الرأى مما أجاب به على شبه الخصوم وهى:

الأولى: أن من صلى وهو يظن أنه متطهر ولم يكن متطهرا مأمور بالصلاة فإن كان مأمورا بها مع الطهارة حقيقة فهو عاص آثم بصلاته حيث لم يكن متطهرا. وإن كان مأمورا بالصلاة على حسب حاله فقد أتى بما أمر به على الوجه الذي أمر به ومع ذلك يجب عليه القضاء إذ لم يكن متطهرا وكذلك المفسد للحج مأمور بمضيه في حجة الفاسد ويجب عليه القضاء.

ومما أجاب به عن ذلك أن القضاء إنما تم استدراكا لمصلحة ما أمر به أولا من الصلاة مع الطهارة والحج العرى عن الفساد.

الثانية: أن الأمر لا يدل على غير طلب الفعل ولا دلالة له على امتناع التكليف بمثل فعل ما أمر به فلا يكون مقتضيا له.

وأجاب بأنا لا نمنع من ورود أمر يدل على مثل ما فعل أولا وإنما المدعى انه إذا أتى المأمور يفعل المأمور به على نحو ما أمر به امتنع وجوب القضاء.

الثالثة: أن الأمر مثل النهى في الطلب والنهى لا دلالة فيه على فساد المنهى عنه فالآمر لا يدل على كون المأمور به مجزئا.

(1)

الأحكام للآمدى جـ 2 ص 256.

(2)

المصدر السابق ص 257.

(3)

المصدر السابق ص 258.

ص: 102

واجاب بأنه قياس في اللغة وقد أبطلناه وإن سلم صحته فإنا لا نقول بأن الأمر يدل على الإجزاء بمعنى امتناع وجوب القضاء بل امتثال الأمر هو المانع من وجوب القضاء على ما تقرر وفرق بين الأمرين.

‌3 - ابن الحاجب:

صور ابن الحاجب المسألة تصوير الآمدى لها وقال العضد في تعليقه عليه:

(1)

المختار أن الإتيان بالمأمور به يستلزم الإجزاء على معنى سقوط القضاء لأنه لو لم يستلزمه لم يعلم امتثال أبدا وهو باطل.

واستدل للملازمة بأنه على تقدير الصحة يجوز أن يأتى بالمأمور به ولا يسقط عنه القضاء وهو باطل وذلك شئ معلوم قطعا واتفاقا.

ثم ناقش أدلة المخالفين بما لا يخرج عما سبق.

‌ثانيا: الحنفية:

‌1 - الكمال بن الهمام وابن أمير الحاج:

تناول الكمال وشارحه هذا البحث في تتمة لمباحث الحكم

(2)

عرف فيها الصحة وتطرق إلى أن فعل المأمور به مستجمعا لما يتوقف عليه هو معنى الإجزاء. ويقول الفقهاء إن معناه اندفاع وجوب القضاء كمن الصحة.

ثم قال:

(3)

إن صلاة ظان الطهارة مع عدمها مجزئة على قول المتكلمين لموافقة الأمر على ظن المكلف المعتبر شرعا بقدر وسمه وليست مجزئة على قول الفقهاء لعدم سقوط القضاء لها مع الاتفاق على وجوب القضاء عند ظهور عدم الطهارة.

وأورد أن الإجزاء لا يوصف به وبعدمه إلا ما يحتمل الإجزاء وعدمه من العبادات كالصلاة والصوم والحج بخلاف معرفة الله تعالى فإنها لا تحتمل وجهين.

ونقل عن بعضهم أن مقتضى كلام الفقهاء أن الإجزاء لا يختص بالواجب بدليل حديث أبى بردة في ذبح وقع منه قبل الصلاة فقال النبى - صلي الله عليه وسلم -: "لا يُجزئ عنك".

وفى نهاية البحث تطرق الشارح إلى إيراد مناقشات بين المتكلمين والفقهاء لا تخرج عما نقلناه عن الغزالى والآمدى.

‌2 - صاحب مسلم الثبوت وشارحه:

قالا:

(4)

الإتيان بالمأمور على وجهه: هل يستلزم الإجزاء أم لا؟ فإن فسر الإجزاء بالامتثال فيستلزمه اتفاقا لأن الامتثال الإتيان بالمأمور به على وجه لا غير وإن عرف الإجزاء بسقوط القضاء عن الذمة فالمختار عند جمهور الأصوليين أنه يستلزمه ولا قضاء على الذمة وقال القاضي عبد الجبار لا يستلزمه.

واستدل لذلك بوجوه:

أولا: لا بقاء للاقتضاء بعد الإتيان في اللغة والعرف بالضرورة في المعاملات كأداء الديون والمعاملات فكذا في غيرها من العبادات فلا يبقى الطلب بعد الإتيان لأن الوضع واحد في الأوامر كلها.

(1)

شرح مختصر المنتهى جـ 1 ص 91.

(2)

التقرير والتحبير جـ 2 ص 153.

(3)

المصدر السابق ص 154.

(4)

فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت بهامش المستصفى جـ 1 ص 393.

ص: 103

وثانيها: لو لم يستلزم سقوط القضاء لم يعلم امتثال أبدا وهو باطل اتفاقًا.

وثالثا: لو لم يسقط القضاء لزم تحصيل الحاصل فإن المأمور به قد حصل فأى شئ يطلب بعده.

ورابعا: القضاء استدراك لما فات والمفروض أنه حصل المطلوب بتمامه ولم يفت منه شئ وقد ذكر عدة مناقشات لهذه المقدمات وأورد أدلة المخالفين وردها بما لا يتسع المقام لإيراده.

‌ثالثا: الحنابلة:

قال صاحب روضة الناظر:

(1)

ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر يقتضى الإجزاء بفعل المأمور به إذا امتثل المأمور بكمال وصفه وشروطه وقال بعض المتكلمين لا يقتضي الإجزاء ولا يمتنع وجوب القضاء مع حصول الامتثال بدليل المضى في الحج الفاسد مع وجوب القضاء وأن من ظن أنه متطهر فإنه مأمور بالصلاة وإذا صلى فهو ممتثل مطيع ويجب عليه القضاء ولأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، والأمر بالشئ لا يمنع إيجاب مثله. بدليل أن الأمر إنما يدل على اقتضاء المأمور وطلبه لا غير. والإجزاء أمر زائد لا يدل عليه الأمر ولا يقتضيه.

واستدل للمختار عنده ان امرأة سنان بن مسلمة الجهنى أمرت أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزى عنها أن تحج عنها قال نعم ولو كان على أمها دين فقضته ألم يكن يجزى عنها فلتحج عنها وهذا يدل على أن الإجزاء بالقضاء كان مقررا عندهم. ولأن الأصل براءة الذمة. وإنما اشتغلت بالمأمور به وطريق الخروج عن عهدته الإتيان به. فإذا أتى به يجب أن تعود ذمته بريئة كديون الآدميين. ولأنه لو لم يخرج عن العهدة للزمه الامتثال أبدا فإذا قال له: صم يوما فصامه فالأمر يتوجه إليه بصوم يوم كما كان قبل منه ذلك أبدا وهو خلاف الإجماع.

‌رابعا: الزيدية:

صور الشوكانى في هذه المسألة تبعا للآمدى وغيره ونقل عن صاحب المحصول قوله، إن فعل المأمور به يقتضى الإجزاء. واختار هذا الرأى وساق أدلته وعارض أدلة مخالفيه.

(2)

‌خامسا: الإباضية:

قال صاحب طلعت الشمس:

(3)

يدل الأمر دلالة التزام على أن فاعل المأمور به يجزئه ذلك الفعل ويكون ممتثلا، ويتحقق بفعله ذلك أن ليس عليه قضاء بعد ذلك سواء في هذه الدلالة كان الأمر مفيدا بأحد القيود المتقدم ذكرها أم خاليا عنها لأن الإجزاء إنما هو ثمرة الأمر ونتيجته مع قطع النظر عن كونه مطلقا أو مقيدا. هذا مذهب الأكثر من العلماء وصححه البدر الشماخى وقال بعده: هو مبنى على قول من قال: إن القضاء بأمر مجدد أي أن القول بأن الأمر يستلزم سقوط القضاء مبنى على أن القضاء بأمر ثان غير الأمر الذي وجب به الأداء.

واعترض المصنف على تعليل البدر الشماخى ثم قال:

وجه ترتبه على القول بأنه وجب بأمر ثان هو أن القائلين بهذا الرأى معترفون بأن القضاء إنما

(1)

روضة الناظر جـ 2 ص 93.

(2)

إرشاد الفحول ص 105.

(3)

طلعت الشمس جـ 1 ص 53.

ص: 104

هو فعل الفرض بعد وقته المقدر له استدراكا لمسافات أو فوت الوقت. فذلك الفائت أو المفوت سبب لوجوب هذا القضاء وإن كان القضاء بأمر ثان.

وساق أدلة المخالفين ونقضها وعقب بأدلة المذهب بما لا يخرج في جملته عما سبق.

‌سادسا: الجعفرية:

قال صاحب قوانين الأصول:

(1)

الحق أن الأمر يقتضى الإجزاء وتحقيق هذا الأصل يقتضى رسم مقدمات:

الأولى: تكلم فيها عن معنى الإجزاء والاختلاف في تقديره.

الثانية: تناول فيها كيف يكون الأمر مقتضيا للإجزاء وبين ذلك بأن اقتضاءه للإجزاء يتحقق إذا أتى به المكلف على ما هو مقتضى الأمر مستجمعا لشرائطه الشرعية بحسب فهمه وعلى مقتضى تكليفه، لكن الإشكال في حقيقة الأمر وتعيينه فإن التكليف قد يكون بشئ واحد في نفس الأمر وقد حصل العلم به للمكلف واستجمع جميع الأمور المعتبرة فيه على سبيل اليقين. وقد يكون كذلك ولكن المكلف لم يحصل له سوى الظن به. وباستجماع تلك الأمور كما يحصل للمجتهد في الفتاوى. وقد يكون كذلك ولكن الشارع نص بالخصوص على كفاية الظن عن اليقين كالطهارة المظنونة بسبب الشك في حصول الحدث. وكذلك قد يكون التكليف بشئ أولا مع الإمكان وببدله ثانيا مع الإمكان كالتيمم عن الماء.

والإشكال في أن المكلف بالعمل بالظن ما دام غير متمكن من اليقين ومحكوم بإجراء عمل كذلك أو مطلقًا.

ثم قال: إن الظاهر أن التكليف يتعدد بحسب اختلاف الأزمان والأحوال. والمكلف به في الأوامر المطلقة إنما هو الطبيعة لا بشرط المدة ولا التكرار. والطبيعة تتحصل بوجود فرد منها.

وأطال في ذلك.

الثالثة: تحرير محل النزع.

الرابعة: بيان معنى القضاء.

ثم قال:

(2)

إذا تمهد ذلك فتقول: اختلف الأصوليون في أن إتيان المأمور به على وجهه هل يقتضى الإجزاء بمعنى سقوط القضاء بعد اتفاقهم على اقتضائه الامتثال على قولين:

المشهور نعم. وخالف فيه أبو هاشم الجبانى والقاضى عبد الجبار.

واستدل للمشهور بأن الأمر لا يقتضى إلا طلب الماهية المطلقة بدون اعتبار مرة ولا تكرار ومعناه أن المطلوب به إيجاد الطبيعة وهو يحصل بإيجاد فرد منه والمفروض حصوله فحصل المطلوب فلا يبقى طلب آخر، فقد سقط الوجوب بل المشروعية أيضا.

واستكمال الأدلة في هذ المقام بما لا يخرج عما تقدم.

‌تعاقب الأوامر

‌أولا: طريقة المتكلمين:

‌1 - الآمدى

. قال:

(2)

الأمران المتعاقبان إما ان لا يكون الثاني معطوفا على الأول أو يكون معطوفا:

(1)

قوانين الأصول ص 129.

(2)

الإحكام للآمدى جـ 2 ص 271.

ص: 105

فإن كان الأول، فإما أن يختلف المأمور به أو يتماثل.

فإن اختلف فلا خلاف في اقتضاء المأمورين.

على اختلاف المذاهب في الوجوب والندب والوقف وسواء أمكن الجمع بينهما كالصلاة مع الصوم، أم لا يمكن الجمع كالصلاة في مكانين. أو الصلاة مع أداء الزكاة.

وإن تماثل: فإما أن يكون المأمور به قابلا للتكرار أو لا يكون قابلا له، فإن لم يكن قابلا له كقوله:"صم يوم الجمعة. صم يوم الجمعة" فإنه للتأكيد المحض. وإن كان قابلا للتكرار، فإن كانت العادة مما تمنع من تكرره كقول السيد لعبده:"اسقنى ماء. اسقنى ماء" أو كان الثاني منهما معرفا كقوله: "أعط زيدا درهما. أعط زيدا الدرهم" فلا خلاف أيضا في كون الثاني مؤكد للأول وإنما الخلاف فيما لم تكن المادة مانعة من التكرار والثانى غير معرف كقوله: "صل ركعتين صل ركعتين" فقال القاضي عبد الجبار: إن الثاني يعتبر غير ما أفادة الأول ويلزم الإتيان بأربع ركعات مصيرا منه إلى أن الأمر الثاني لو انفرد أفاد اقتضاء الركعتين. فكذلك إذا تقدمه أمر آخر، لأن الاقتضاء لا يختلف. وخالفه أبو الحسن البصرى بالذهاب إلى الوقف والتردد بين حمل الأمر الثاني على الوجوب أو التأكيد للأول.

والأظهر أنه إذا لم تكن المادة مانعة من التكرار ولم يكن الثاني معرفا أن مقتضى الثاني غير مقتضى الأول. وسواء قلنا إن مقتضى الأمر الوجوب أم الندب أم هو موقوف بين الوجوب والندب. لأنه لو كان مقتضيا عين ما اقتضاه الأول لكانت فائدته التأكيد ولو كان مقتضيا غير ما اقتضاه الأول لكانت فائدته التأسيس، والتأسيس أصل. والتأكيد فرع وحمل اللفظ على الفائدة الأصلية أولى.

فإن قيل إلا أنه يلزم منه تكثير مخالفة النفى الأصلى، ودليل براءة الذمة من القدر الزائد وليس أحد الأمرين أولى من الآخر، فهو معارض بما يلزم من التأكيد من مخالفة ظاهر الأمر فإنه إما أن يكون ظاهرا في الوجوب أو الندب أو هو متردد بينهما على وجه لا خروج له عنهما على اختلاف لمذاهب. وحمله على التأكيد خلاف ما هو الظاهر من الأمر. وإذا تعارض الترجيحان سلم لنا ما ذكرناه أولا. كيف وإنه يحتمل أن يكون للوجوب في نفس الأمر وفى تركه محذور فوات المقصود من الواجب وتحصيل مقصود التأكيد.

ولا يخفى أن تفويت مقصود التأكيد وتحصيل مقصود الواجب أولى.

وأما إذا كان الأمر الثاني معطوفا على الأول، إن كان المأمور به مختلفا فلا نزاع أيضا في اقتضائهما للمأمورين. أمكن الجمع بينهما أو لم يمكن. وإن تماثلا فالمأمور به إن لم يقبل التكرار فالأمر الثاني للتأكيد من غير خلاف كقول:"صم يوم الجمعة وصم يوم الجمعة" وإن كان قابلا للتكرار فإن لم تكن العادة مانعة من التكرار وليس الثاني معرفا فالحكم على ما تقدم فيما إذا لم يكن حرف عطف، ويزيد آخر وهو موافقة الظاهر من حروف العطف وذلك كقوله "صل ركعتين وصل ركعتين". وأما إن كانت العادة تمنع من التكرار كقوله "اسقنى ماء واسقنى ماء" أو كان الثاني معرفا كقوله:"صل ركعتين وصل الركعتين" فقد تعارض الظاهر من حروف العطف

(1)

شرح طلعت الشمس على الألفية 1/ 49.

ص: 106

مع اللام المعرف أو مع منع العادة من التكرار. ويبقى الأمر على ما ذكرنا فيما إذا لم يكن حرف عطف ولا ثم تعريف ولا عادة مانعة من التكرار. وقد عرف ما فيه.

وأما إن اجتمع التعريف والعادة المانعة من التكرار في معارضة حرف العطف كقوله "اسقنى ماء واسقنى الماء" فالظاهر الوقف لأن حرف العطف مع ما ذكرناه من الترجيح السابق الموجب لحمل الأمر الثاني على التأسيس واقع في مقابلة المادة المانعة من التكرار ولام التعريف ولا يبعد ترجيح أحد الأمرين بما يقترن به من ترجيحات آخر.

‌2 - الإسنوى والبيضاوى:

أورد الإسنوى هذه المسألة باختصار ضمن فروع عقب بها على مباحث الأمر فقال:

(1)

إذا كرر الأمر فقال "صل ركعتين" فقيل يكون أمرا بتكرر الصلاة ونقله في المستوعب عن عامة أصحاب الشافعي وقال الصيرفى الثاني تأكيد وقال الآمدى بالوقف.

وانظر أيضا شرح مختصر المنتهى للعضد جـ 2 ص 94.

‌ثانيًا: الحنفية:

‌1 - الكمال بن الهمام وابن أمير الحاج

.

ذكر التقسيمات السابقة في كلام الآمدى لكنه رجح اعتبار التأكيد فيما إذا اجتمع التعريف والعادة المائعة من التكرار فقال:

(2)

إنه في العطف كصل ركعتين وصل ركعتين يعمل بهما مما لأن التأكيد بواو العطف لم يعهد إلا أن يترجح التأكيد بمرجح عادى من تعريف أو غيره ولا معارض يمنع منه فيعمل بالتأكيد أو يوجد التعادل بين ترجيح كونه تأسيسا أو تأكيدا فيعمل بمقتضى خارج عنهما إن وجد وإلا فالوقف كاسقنى ماء واسقنى الماء لأن العادة والتعريف في مقابلة العطف والتأسيس.

وأطال في رد ترجيح التأسيس ثم قال:

لكن ذكر الفرانى أن الثاني إذا كان ضد الأول يشترط فيه أن يكون في وقتين نحو أكرم زيدا وأهنه فإن اتحد الوقت حمل على التخيير ولا يحمل على الفسخ لأن من شرطه التراخى حتى يستقر الأمر الأول ويقع التكليف والامتحان به ويكون الواو حينئذ بمعنى أو حتى يحصل التخيير ثم نقل عن المحصول أنه إن كان أحدهما عاما والآخر خاصا نحو صم كل يوم صم يوم الجمعة فإن كان الثاني غير معطوف كان تأكيدًا وإن كان معطوفا فهو محل خلاف.

ثم قال: هذا كله في المتعاقبين فإن تراخى أحدهما عن الآخر عمل بهما سواء تماثلا أو اختلفا وسواء كان الثاني معطوفا أو غير معطوف.

وانظر أيضا مسلم الثبوت وشرحه فواتح الرحموت ج 1 ص 741 بهامش المستصفى للغزالى.

‌ثالثا: الظاهرية:

قال ابن حزم:

(3)

قد يعطف أوامر مفروضات على غير مفروضات. ويعطف غير مفروضات على

(1)

نهاية السول بهامش التقرير والتحبير جـ 1 ص 277.

(2)

التقرير والتحبير جـ 1 ص 319.

(3)

الاحكام لابن حزم جـ 2 ص 94.

ص: 107

مفروضات. والأصل في ذلك أن كل أمر فهو فرض إلا ما خرج عن ذلك بضرورة حس أو بنص أو إجماع. فإذا كانت أوامر معطوفات فخرج بعضها بأحد الدلائل التي ذكرنا عن الوجوب بقى سائرها على حكم المفهوم من الأوامر في الجملة. ولا نبالى كان الخارج عن معهود حكمه هو الأمر الأول في الذكر أو الآخر أو الأوسط كل ذلك سواء. وهو بمعزلة ما لو خرج بنسخ فإن سائرها يبقى على حكم الوجوب والطاعة. ضمن ذلك قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}

(1)

فلولا الإجماع على أن الأكل من الثمر ليس فرضا لقلنا إنه فرض. ولكن لما خرج عن أن يكون فرضا بدليل الإجماع بقى الفعل المعطوف عليه على حكم الوجوب وهو قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} . ومن ذلك: أيضا: "فانتبزوا ولا تشربوا مسكرا""وزوروها - يعنى القبور ولا تقولوا هجرا" الأمر الأول ندب بالإجماع والثانى فرض، وكذلك قوله تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}

(2)

كان السعى خاصا للرجال دون النساء ولم يمنع ذلك الأمر بترك البيع من أن يكون فرضا على ظاهره وعاما لكل أحد من رجل أو امرأة. ومثل هذا كثير ووافقنا على ذلك أصحاب مالك.

‌رابعا: الزيدية:

ذكر الشوكانى الخلاف في المسألة فقال:

(3)

اختلفوا إذا تعاقب أمران بمتماثلين: هل يكون الثاني للتأكيد فيكون المطلوب الفعل مرة واحدة أو للتأسيس فيكون المطلوب الفعل مكررا فقال الجبائى وبعض إنه للتأكيد ذهب الأكثر إلى أنه للتأسيس. وقال أبو بكر الصيرفى بالوقف في كونه تأسيسا وتأكيدا وبه قال أبو الحسين البصرى وأورد الشوكانى أدلة القائلين بأنه للتأكيد ونقضها ورجح أدلة أكثر الأصوليين ثم قال:

أما لو لم يكن الفعلان من نوع واحد فلا خلاف أن العمل بهما متوجه نحو صل ركعتين صم يوما وهكذا إذا كانا من نوع واحد ولكن قامت القرينة الدالة على أن المراد التأكيد نحو صم اليوم صم اليوم ونحو صل ركعتين صل الركعتين فإن التقييد باليوم وتعريف يعتبران أن المراد بالثانى هو الأول. وهكذا إذا اقتضت العادة أن المراد التأكيد كقوله اسقنى ماء واسقنى ماء وهكذا إذا كان التأكيد بحرف العطف نحو صل ركعتين وصل كتين لأن التكرار المقيد للتأكيد لم يعهد إيراده خرف العطف وأقل الأحوال أن يكون قليلا والحمل على الأكثر أولى. أما لو كان الثاني مع العطف معرفا فالظاهر التأكيد نحو صل ركعتين وصل الركعتين لإن دلالة اللام على إرادة التأكيد أقوى من دلالة حرف العطف على إرادة التأسيس.

‌خامسا: الإباضية:

قال صاحب طلعت الشمس:

(4)

إذا تكرر الأمر فإما أن يتفق المأمور به "كصل ركعتين. صل ركعتين" وإما أن يختلف المأمور به نحوه صل ركعتين. صل أربع ركعات "فإن اختلف المأمور به فكلا الأمرين واجب اتفاقا وإن اتفق المأمور به ففى وجوبهما معا مذاهب.

اختار المصنف القول بأن كلا الأمرين واجب

(1)

آية 114 سورة الأنعام.

(2)

آية 9 سورة الجمعة.

(3)

إرشاد الفحول ص 108.

(4)

طلعت الشمس جـ 1 ص 60.

ص: 108

فيجب الامتثال لكل واحد منهما، فالواجب في قول القائل "صل ركعتين. صل ركعتين" أربع ركعات، وجوب كل ركعتين بالأمر إلا إذا صرفته عن ذلك قرينة. والقرينة إما عقلية "كاقتل زيدا اقتل زيدا" فإن العقل يأبى تكرر القتل فهو قرينة في أن الثاني تأكيد للأول. وإما شرعية نحو "صم اليوم. صم اليوم""واعتق عبدك أعتق عبدك" فإن الشرع لم يجعل في اليوم الواحد صومين، ولم يجعل للرقبة الواحدة عتقين. وإما عادية وذلك أن يعلم من أحد عادة في تكرير الكلام فإن تكراره يحتمل على عادته. وإما حالية نحو قول السيد لعبده "اسقنى ماء. اسقنى ماء" فإن المعلوم من حال الآمر أنه لم يرد تكرر السقى وإنما كرر الأمر تأكيدا لتعجيل الامتثال. وإما أن تكون القرينة تعريفا وذلك أن يعاد الأمر الثاني لتفهم المأمور وتبين المطلوب منه مخافة أن لا يكون فهيمه من الأمر الأول وقد تجئ القرينة لفظية وذلك نحو صل ركعتين صل الركعنتين إذ المعلوم أن الركعتين الأخيرتين هما الركعتان الأوليان بقرينة "أل" وهى لفظ كما ترى.

ثم قال:

(1)

وذلك: "أن حكم الأمر هو الوجوب حقيقة وأن هذا الحكم لا بفارقة سواء كان مفردا أو مكررا إلا بدليل ولا دليل لغير الوجوب في الحالين أي في الأمر الأول والثانى إذ ليس تكراره دليلا على انتقاله عن حكمه الأصلى الثابت بالدليل القطعى. وكون التكرار محتملا للتأكيد فهو احتمال لا يكفى أن تترك الحقائق لأجله. وأيضا فالتأكيد اللفظى قليل الدوران في كلام العرب فقلما يؤكدون زيدا بلفظه فإن أرادوا تأكيده أكدوه بالنفس أو العين. وبقلة دورانه على السنة العرب يغلب في الظن أنه غير مراد. فإن وجد بين الأمرين عطف نحو صل ركعتين وصل ركعتين ازداد الحمل على التأكيد ضعفا فوق ضعفه الأول لأن ما بعد العاطف مغاير لما قبله إذ لا يصح أن يعطف الشئ على نفسه فلا تقول جاء زيد وزيد إلا إذا كان زيد الثاني غير الأول نعم إن اختلف اللفظان جاز العطف وإن اتحد المعنى تنزيلا للثانى منزلة التفسير للأول نحو: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}

(2)

وإذا لحظت ما بين المتعاطفين هنا رأيت المغايرة موجودة فيهما قطعًا فإن المفسر غير المفسر واللفظ الثاني غير الأول وباعتبار هذه المغايرة جاز العطف. وما نحن بصدده هو شئ غير هذا: لا يقال إن الخاص بعض العام وشئ منه وصح عطفه عليه ولا مغاية بينهما نحو قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}

(3)

. لأنا نقول إن الخاص الذي عطف على العام هو غير العام المعطوف عليه، وذلك أن خصوصيته بالذكر وعطفة على ما قبله دليل على أن المراد بالعام هو ما عدا هذا المعطوف فصح التغاير بهذا الاعتبار.

‌الأمر بالأمر: هل يكون أمرا

؟

‌أولا: طريقة المتكلمين

.

‌1 - الغزالي:

(4)

الأمر بالأمر بالشئ وليس أمرا بالشئ ما لم يدل عليه دليل. مثاله قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ}

(5)

(1)

المصدر السابق 61.

(2)

آية 238 سورة البقرة.

(3)

آية 34 سورة المعارج.

(4)

المستصفى جـ 2 ص 12.

(5)

آية 103 سورة التوبة.

ص: 109

لا يدل على وجوب الأداء بمجردة على الأمة.

وربما ظن ظان أنه يدل على الوجوب وليس الأمر كذلك، لكن دل الشرع على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم واجب الطاعة وأنهم لو كاتوا مأذونين في المنع لكان ذلك تحقيرا للنبى صلى الله عليه وسلم وتنفيرًا للأمة عنه. وذلك يغض من قدره، ويشوش مقصود الشرع وإلا فلا يستحيل أن يقال للزوج الشافعي إذا قال لزوجته أنت بائن على نية الطلاق راجعها وطالبها بالوطء، ويقال للحنفية التي ترى أنها بائنة يجب عليك المنع، ويقال للولى الذي يرى أن لطفله على طفل غيره شيئا: طلبه، ويقال للمدعى عليه إذا عرف أنه لا شئ على طفله: لا تعطه ومانعه ويقول السيد لأحد العبدين: أوجبت عليك أن تأمر العبد الآخر ويقول للآخر أوجبت عليك العصيان له. وبهذا تعرف أن قوله عليه الصلاة والسلام: "مروهم بالصلاة لسبع" ليس خطابا من الشرع مع الصبى ولا إيجايا علي مع أن الأمر واجب على الولى.

فإن قيل: فلو قال للنبى أوجبت عليك أن توجب على الأمة، وقال للأمة أوجبت عليكم خلافه.

قلنا: ذلك يدل على أن الواجب على النبي أن يقول أوجبت لا على حقيقة الإيجاب، فإن أراد حقيقة الإيجاب فهو متناقض بخلاف قوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}

(1)

فإن ذلك لا يناقضه أمرهم بالمنع.

فإن قيل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والتسلم لا يتم إلا بالتسليم.

قلنا: لا يجب التسلم بل يجب الطلب فقط ثم إن وجب التسلم فذلك يتم التسليم المحرم وإنما يناقض التسليم انتفاء التسليم في نفسه لانتفاء علته وحكمه.

وبالجملة كما أن من أمر زيدا بضرب عمرو فلا يطلب من عمرو شيئا فكذلك إذا أمره بأمر عمدا فلا يطلب من عمرو شيئا.

‌2 - الآمدى

سار الآمدى على منهج الغزالى في هذه المسألة وضمن كلامه بعض الإضافات. فقد صور الاستدلال بقوله

(2)

"إنه لو كان أمرا لذلك الغير لكان ذلك مقتضاء لغة"، ولو كان كذلك لكان أمره صلى الله عليه وسلم لأولياء الصبيان بقوله "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع" أمرا للصبيان بالصلاة من الشارع وليس كذلك لوجهين.

الأول أن الأمر الموجه نحو الأولياء أمر تكليف ولذلك يدم الولى بتركه شرعا فلو كان ذلك أيضا أمرا للصبيان لكانوا مكلفين بأمر الشارع فيلحقهم الذم بالمخالفة وهو غير متصور في حقهم لعدم فهمهم لخطاب الشارع بدليل الحديث "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبى حتى يبلغ" وأضاف أنه يمكن رد ذلك بأن يقال الأمر للولى والصبى وإن كان واحدا غير أن نسبته إليهما مختلفة فلا يمتنع اختلافهما في الذم بسبب ذلك.

"الثاني: أنه لو كان أمرا للصبى لم يخل إما أن يكون أهلا لفهم الخطاب أولا. فإن كان الأول فلا حاجة لأمر الولى له إلا أن يكون أحد الأمرين تأكيدا. وهو خلاف الأصل. وإن لم يكن أهلا فأمره وخطابه ممتنع بالإجماع.

(1)

آية 103 سورة التوبة.

(2)

الإحكام للآمدى جـ 2 ص 267.

ص: 110

‌ثانيا: عامة الأصوليين وغيرهم ما عدا الجعفرية

.

لا يخرج ما أورده بقية الأصوليين فيما عدا الجعفرية في استدلالهم ومناقشاتهم عما أورده الغزالى والآمدى في هذه المسألة. ويرجع في ذلك إلى:

1 -

مختصر المنتهى لابن الحاجب بشرح العضد جـ 2 ص 93.

التقرير والتحبير للكمال بن الهمام وابن أمير الحاج جـ 1 ص 319.

روضة الناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل جـ 2 ص 96.

4 -

إرشاد الفحول للشوكانى ص 107.

5 -

شرح طلعت الشمس على ألفية الأصول للإباضية جـ 1 ص 58 وقد أوجز المقام في نهاية بحثه جامعا للمعتمد من رأيهم بقوله

(1)

: "حاصل المقام أننا لا نمنع من أن يكون الأمر بالأمر بالشئ أمر بذلك الشئ إذا دلت القرينة على ذلك وإنما نمنع ذلك عند عدم القرائن".

‌ثالثا: الجعفرية:

قال صاحب قوانين الأصول:

(2)

الأظهر أن الأمر بالأمر أمر فإذا قال القائل لغيره: مر فلانا أن يفعل كذا أو قل له أن يفعل كذا فهذا أمر للثالث مثل أن يقول: ليفعل فلان كذا لفهم العرف والتبادر. واحتمال أن يكون المراد أوجب عليه من قبل نفسك بعيد مرجوح.

ويؤيدة أنا مأمورون بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى بل إذا اطلع الثالث على الأمر قبل أن يبلغه الثاني ولم يفعل واطلع الآمر على ذلك فيصح أن يعاقبه على الترك وأن يذمه العقلاء على ذلك.

وذكر أنه احتج المخالفون بقوله صلى الله عليه وسلم: "مروهم بالصلاة" الحديث فإنه لا وجوب على الصبيان إجماعا. وبأن القائل لو قال لغيره مر عبدك بأن يتجر لم يتعد، ولو قال لذلك العبد لا تتجر لم يناقض كلامه الأول.

والجواب عن الأول أن الإجماع أوجب الخروج عن الظاهر وعن الثاني أن القرينة دالة على أنه للإرشاد. ولذلك نقول باستحباب عبارة الصبى ونضعف كونها محض التحريم.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين.

(1)

شرح طلعت الشمس جـ 1 ص 59.

(2)

قوانين الأصول ص 135.

ص: 111

‌مصطلح "إمساك

"

‌تعريف الإمساك لغة:

الإمساك مصدر أمسك، تقول: أمسك الشئ يمسكه إمساكا أي حبسه وأمسك عن الأمر كفّ عنه، وأمسك عن الكلام سكت ...... ومسك بالشئ وأمسك به وتمسّك وتماسك واستمسك وامتسك كله بمعنى احتبس واعتصم به. وفى التنزيل:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ}

(1)

أي يؤمنون به ويحكمون بما فيه.

وأمسكت واستمسكت وتماسكت أن أقع عن الدابة وغيرها. والمُسّك والمُسْكة ما يتمسك به وما يمسك الأبدان من الطعام والشراب أوما يتبلغ به منهما.

ومُسْك جمع مُسّكة كهُمَزَةِ وهو يقال لمن إذا أمسك بالشئ لم يقدر أحد على تخليصه منه ومن المجاز: به إمساك، وهو ممسك ومِسّيك بخيل

(2)

.

‌تعريفه شرعا:

لم يخرج استعمال الفقهاء لكلمة الإمساك عن استعمال أهل اللغة لها، فقد عرفوا الإمساك الذي هو ركن الصوم الشرعى بأنه الكف عن المفطرات. وفى ذلك قال صاحب المجموع من الشافعية:"الصوم هو الإمساك لغة وشرعا، ولا يتميز الشرعى عن اللغوى إلا بالنيّة"

(3)

.

وعبروا عن حبس الجوارح من السباع أو الطير للصيد بإمساكها له على صاحبه، متابعة لما جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}

(4)

.

وعبروا أيضا عن حبس المحرِم للصيد في يده أو في ملكه بإمساكه له. ومثل ذلك إمساك الشخص شخصا آخر لمن يجنى عليه في نفسه أو ماله. وإمساك الزوج زوجته مع الإضرار في معاشرتها حتى تفتدى نفسها بما يريده الزوج من مال أو غيره في مقابل طلاقها متابعة لقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}

(5)

وقوله سبحانه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}

(6)

. كما عبروا أيضا بالإمساك في حبس المعقود عليه لاستيفاء الثمن أو الأجرة أو للحفظ وغيره وغير ذلك كثير سيأتي تفصيل أحكامه في هذا البحث

(7)

.

(1)

الآية رقم 170 من سوة الأعراف.

(2)

لسان العرب جـ 42 ص 487 - 288 ماد "مسك" طبعة دار صادر بيروت. القاموس المحيط الفيروزابادى جـ 3 ص 309 مادة "المَسْك" الطبعة الثالثة بالطبعة الأميرية سنة 1301 هـ، أساس البلاغة للزمخشرى جـ 1/ ص 365 طبعة دار الكتب المصرية سنة 1372 هـ.

(3)

المجموع شرح المهذب للنووى جـ 6 ص 301 طبع مطبعة التضامن الأخوى سنة 1344 هـ.

(4)

الآية رقم 4 من سورة المائدة.

(5)

الآية رقم 231 من سورة البقرة.

(6)

الآية رقم 229 من سورة البقرة.

(7)

المراجع الآتية خلال هذا البحث.

ص: 112

‌حكم الإمساك عن تناول المفطرات في رمضان وغير رمضان:

‌مذهب الحنفية

اتفق الحنفية على أن الإمساك - أي الكف والامتناع - عن الأكل والشرب والجماع حقيقة أو حكما هو ركن الصوم الشرعى، لأن الله تعالى أباح الأكل والشرب والجماع في ليالى رمضان بقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي حتى حتى يتبين لكم ضوء النهار من ظلمة الليل من الفجر ثم أمر بالإمساك عن هذه الأشياء في النهار بقوله عز وجل: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}

(1)

فدل على أن ركن الصوم هو الإمساك فلا يوجد الصوم بدونه

(2)

.

والإمساك عن المفطرات المذكورة في أول النهار يقع صوما عندهم سواء وجدت فيه النية أو لم توجد، لأن وقت النية إنما يكون وقت وجود ركن الصوم وهو الإمساك وقت الغداء المتعارف، والإمساك في أول النهار شرط وليس بركن. لأن ركن العبادة ما يكون شاقا على البدن مخالفا للعادة وهوى النفس وذلك هو الإمساك وقت الغداء المتعارف فأما الإمساك في أول النهار فمعتاد فلا يكون ركنا بل يكون شرطا. لأنه وسيلة إلى تحقيق معنى الركن إلا أنه لا يعرف كونه وسيلة في الحال لجواز ألا ينوى وقت الركن. فإذا نوى ظهر كونه وسيلة من حين وجوده، والنية تشترط لصيرورة الإمساك الذي هو ركن عبادة لا لما يصير عبادة بطريق الوسيلة

(3)

.

ويجرى هذا في كل صوم فرضا كان أن نفلا، لأن الصوم لا يتجزأ، ويصير الصائم صائما أول النهار لكن بالنية الموجودة وقت الركن وهو الإمساك وقت الغداء المتعارف. لما ذكرنا أما إذا نوى بعد زوال الشمس فقد خلا بعض الركن عن الشرط فلا يصير صائما شرعا.

(4)

هذا كله فيما إذا كان الصوم عينا لصوم رمضان وصوم التطوع خارج رمضان والمنذور المعين. أما إذا كان الصوم دينا كقضاء رمضان وقضاء ما أفسده من نفل وصوم الكفارات بأنواعها والنذر المطلق فلا بد فيه من تعيين النية وتلبيتها ليلا أو وقت طلوع الفجر لتعتبر وما عن ذلك وإلا كان تطوعا

(5)

ويجب الإمساك بقية اليوم تشبها بالصائمين ونفيا للتهمة على كل من كان له عذر في صوم رمضان في أول النهار مانع من الوجوب أو قبيح للفطر ثم زال عذره في أثناء النهار وصار بحال لو كان عليه في أول النهار لوجب عليه الصوم ولا يباح له الفطر، وذلك كالحائض والنفساء يطهران بعد طلوع الفجر أو معه.

وكذلك يجب الإمساك على الصبى إذا بلغ والكافر إذا أسلم والمريض إذا برأ من مرضه في خلال نهار رمضان. كما يجب الإمساك على

(1)

الآية رقم 187 من سورة البقرة.

(2)

بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى جـ 2 ص 9 الطبعة الأولى مطبعة شركة المطبوعات العلمية سنة 1327 هـ.

(3)

المرجع السابق ص 86.

(4)

المرجع السابق ص 85.

(5)

مراقى الفلاح وحاشية الطحطاوى ص 376 الطبعة الثانية.

ص: 113

المسافر في رمضان إذا أقام بعد نصف النهار أو قبله بعد الأكل. أما إذا أقام قبل فوات نصف النهار وقبل الأكل فيه فإنه يجب عليه الصوم وإن كان نوى الفطر.

ومثل ذلك المجنون إذا أفاق بعد الأكل أو بعد فوات وقت النية فإنه يجب عليه الإمساك وأما إذا أفاق قبل الأكل وقبل فوات النية فإنه يجب عليه أن يصوم كل من وجب عليه الصوم في أول النهار لوجود سبب الوجوب والأهلية ثم تعذر عليه المضى فيه بأن أفطر متعمدا أو خطأ أو مكرّها أو أصبح يوم الشك مضطرا ثم تبين أنه من رمضان، أو تسحر على ظن أن الفجر لم يطلُع ثم تبين له أنه طلع، أو أفطر وهو يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين له خلافه فإنه يجب عليه الإمساك في بقية اليوم تشبها بالصائمين.

لأنه إذا لم يمسك وأكل ولا عذر به اتهمه الناس بالفسق. والتحرز عن مواضع التهم واجب، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن الله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم".

وقيل: إمساكهم مستحب لا واجب، ذكر هذا محمد بن شجاع وبعض المشايخ، لقول أبى حنيفة في الحائض تطهر نهارا: لا يحسن أن تأكل وتشرب والناس صيام، ولأنهم مفطرون فعلا فكيف يجب عليهم الكف عن المفطرات والصحيح هو وجوب الإمساك عن المفطرات في كل ذلك، قال ذلك الإمام الصفّار وبعض مشايخ المذهب، لأن محمد بن الحسن ذكر في كتاب الصوم: فليصم بقية يومه والأمر للوجوب، وقال في الحائض إذا طهرت في أثاء النهار: فلتدع الأكل والشرب وهذا أمر أيضا.

ومعنى قول أبى حنيفة: "لا يَحْسُنُ لها أن تأكل" تعليل للوجوب: أي لا يحسن بل تَقْبُح. وترك القبيح شرعا من الواجبات، وهذا هو الموافق للدليل. وهو ما ثبت من أمره قل بالإمساك لمن أكل في يوم عاشوراء حين كان صومه فرضا

(1)

. وأجيب عن المعقول: بأن زمان رمضان وقت شريف فيجب تعظيم هذا الوقت بالقدر الممكن إذا كان الشخص أهلا للتشبه. ونفيا لتعريض نفسه للتهمة والإمساك الواجب هنا لا يجب خلفا عن الصوم حتى ينافى الإفطار المتقدم بل يجب قضاء لحق الوقت وحرمته بالتشبه بالصائمين.

أما المسافر والمريض فلهما الأكل جهرا رواية واحدة.

وفيما عدا هذا لا يجب الإمساك بل يستحب.

فقد أجمعوا على أن الإمساك لا يجب على الحائض والنفساء والمريض والمسافر حال قيام الحيض والنفاس والمرض والسفر.

وهل تأكل الحائض والنفساء سرا أو جهرا؟. قيل سرا. وقيل: جهرا ولا يجب عليها التشبه بالصائم حال قيام العذر، لأن صومها حرام والتشبه بالحرام حرام.

وكذلك يجب الإمساك على الصبى إذا بلغ والكافر إذا أسلم والمريض إذا برأ من مرضه في

(1)

رواه البخارى ومسلم عن الربيّع بنت مُعَوِّذ (انظر: نيل الأوطار للشوكانى جـ 4 ص 198) الطبعة الأولى الطبعة العثمانية سنة 1357 هـ.

ص: 114

خلال نهار رمضان. كما يجب الإمساك على المسافر في رمضان إذا أقام بعد نصف النهار أو قبله بعد الأكل. أما إذا أقام قبل فوات نصف النهار وقبل الأكل فيه فإنه يجب عليه الصوم وإن كان نوى الفطر.

ومثل ذلك المجنون إذا أضاق بعد الأكل أو بعد فوات وقت النية فإنه يجب عليه الإمساك وأما إذا أضاق قبل الأكل وقبل فوات وقت النية فإنه يجب عليه الصوم في الظاهر كالمسافر، فينوى من وقته هذا ويصوم.

وقيل: إمساك هؤلاء مستحب لا واجب. ذكر هذا محمد بن شجاع وبعض المشايخ. لقول أبى حنيفة في الحائض تطهر نهارًا: لا يحسن أن تأكل وتشرب والناس صيام، ولأنهم مفطرون فعلا فكيف يجب عليهم الكف عن المفطرات.

والصحيح هو وجوب الإمساك عن المفطرات عليهم. قال ذلك الإمام الصفار وبعض مشايخ المذهب، لأن محمد بن الحسن ذكر في كتاب الصوم فليصم بقية يومه والأمر للوجوب، وقال في الحائض إذا طهرت في أثاء النهار: فلتدع الأكل والشرب، وهذا أمر أيضا. ومعنى قول أبى حنيفة: لا يحسن لها أن تأكل. تعليل للوجوب، أي لا يحسن بل يقبح. وترك القبيح شرعًا من الواجبات وهذا هو الموافق للدليل. وهو ما ثبت من أمره صلى الله عليه وسلم بالإمساك لمن أكل في يوم عاشوراء حين كان صومه فرضا.

وأجيب عن المعقول - وهو كونهم مفطرين فعلا - بأن زمان رمضان وقت شريف فيجب تعظيم هذا الوقت بالقدر الممكن إذا كان الشخص أهلا للتشبه ونفيا لتعريض نفسه للتهمة.

والإمساك الواجب هنا لا يجب خلفا عن الصوم حتى ينافى الإفطار المتقدم. بل يجب قضاء لحق الوقت وحرمته تشبها بالصائمين.

وكذلك يجب الإمساك عن المفطرات في بقية اليوم تشبها بالصائمين بدون خلاف على كل من وجب عليه الصوم في أول النهار لوجود سبب الوجوب والأهلية ثم تعذر عليه المضيّ فيه بأن أفطر متعمدا أو خطأ أو مكرها أو أصبح يوم الشك مضطرا ثم تبين أنه من رمضان أو تسحر على ظن أن الفجر لم يطلع ثم تبين له أنه طلع، أو أفطر وهو يظن أن الشمس قد غربت ثم تبين له عدم غروبها، لأنه إذا لم يمسك وأكل ولا عذر به اتهمه الناس بالفسق والتحرز عن مواضع التهم واجب. لقوله صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم".

وفيما عدا هذا لا يجب الإمساك. فقد أجمعوا، على أن الإمساك لا يجب على الحائض والنفساء والمريض والمسافر أثاء قيام الحيض والنفاس والمرض والسفر ووجه ذلك بالنسبة للحائض والنفساء أن الصوم عليها حرام والتشبه بالحرام حرام.

وأما المريض والمسافر فلأن الرخصة في حقهما باعتبار الحرج في الصوم فلو لزمناهما التشبه بالصائم عاد ذلك على موضمه بالنقض.

ولا يجب الإمساك بقية اليوم تشبها بالصائمين على من قال: لله على أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم بعد ما أكل الناذر فيه. لأن الوقت لا يستحق التعظيم حتى يجب قضاء حقه بإمساك بقية اليوم.

ص: 115

وكل من لزمه الإمساك ممن سبق ذكره يجب عليه قضاء ما فاته، سواء أمسك فيه أو لم يمسك إلا الصبى إذا بلغ والكافر إذا أسلم فإنهما إذا أفطرا في يوم البلوغ والإسلام فلا قضاء عليهما لهذا اليوم الذي لم يمسكا بقية نهاره في الظاهر. لأن الصوم غير واجب فيه عليهما بل الإمساك هو الواجب ولا قضاء إلا للصوم.

وسواء زال الصبا أو الكفر عنهما قبل الزوال أو بعده في الظاهر. لأن الصوم. لا يتجزأ.

وقال أبو يوسف: إذا زال الكفر أو الصبا قبل الزوال فعليه القضاء، لأنه أدرك وقت النية

(1)

.

ولا يجب الإمساك على من قال لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يُقْدُم فيه فلان، فَقَدَمَ بعد ما أكل الناذر فيه، فلا يجب عليه إمساك بقية اليوم، لأن الوقت لا يستحق التعظيم حتى يجب قضاء حقه بإمساك بقية اليوم.

‌مذهب المالكية:

الإمساك عن شهوتى الفم والفرج أو ما يقوم مقامهما في جميع أجزاء النهار مع النية قبل الفجر أو معه إن أمكن هما ركنا الصوم الشرعى. وإذا ثبت رمضان في أثناء النهار كان يثبت بالنقل أنه رأى الهلال في الليلة الماضية عدلان أو جماعة مستفيضة أو حكم حاكم بثبوته وجب الإمساك على المكلف والإمساك، هو المنع والكف عن المفطرات في حق من أفطر فعلا في ذلك اليوم، وكذلك في حق من لم يفطر فيه، لحرمة الزمن.

ثم يجب عليه القضاء حتى ولو كان قد نوى الصيام من الليل ولم يفطر لعدم الجزم بالمنوى وإذا ثبت رمضان نهارا وأمسك المكلف عن المفطرات فإنه يمسك من غير نية صوم لأن وقت نية الصوم لابد أن يكون بعد الغروب، فإن نوى نهارا كانت كالعدم فعلى هذا لو أمسك بعد ثبوت رمضان نهارا ونوى صوم رمضان في ذلك الوقت عند إمساكه ولم يُجَدِّد تلك النية لبقية الشهر في وقتها كان صومه كله باطلا.

فإن لم يمسك وأفطر متعمدا بأكل أو جماع فإنه يلزمه أن يكفر إن انتهك حرمة رمضان مع علمه بوجوب الإمساك. أما إن كان غير منتهك ذلك بأن اعتقد أنه لما لم يجزه صومه جاز له فطره فلا كفارة عليه. لأن اعتقاده هذا - وإن كان فاسدا - تأويل قريب يرفع عنه عقوية التكفير.

ويستحب للمكلف أن يمسك عن الإفطار في أول يوم الشك وهو صبيحة ليلة الثلاثين من شعبان إذا كانت السماء مغيّمة ليلتها ولم تثبت رؤية الهلال فيها - ويستمر على إمساكه هذا بقدر ما جرت العادة فيه بثبوت شهر رمضان من المارِّين في الطريق من المسافرين ونحوهم، وذلك بارتفاع النهار، لأجل أن يتحقق الأمر فيه فإن

(1)

فتح القدير والعناية والهداية جـ 2 ص 87 - 88، 93 طبعة مصطفى محمد سنة 1356.

بدائع الصنائع للكاسانى جـ 2 ص 102 - 103 الطبعة السابقة.

شرح الجوهرة على القدورى جـ 1 ص 144. الطبعة الأولى.

الطبعة الخيرية سنة 1222.

حاشية اين عابدين على الدر المختار جـ 2 ص 407 - 408 مطبعة الحلبى الطبعة الثانية سنة 1386.

الأشباه والنظائر لابن نجيم جـ 1 ص 97 من القاعدة السادسة في تعارض العرف مع الشرع طبع مطبعة الحلبى سنة 1387.

ص: 116

ثبت أنه من رمضان وجب الإمساك والقضاء. وإن لم يثبت أنه من رمضان فإنه يفطر.

ولو شهد اثنان عند القاضي برؤية هلال رمضان واحتاج الأمر إلى تزكيتهما والكشف عن حالهما فإنه لا يستحب الإمساك لأجل تزكية الشهود زيادة على الإمساك السابق للتحقق المذكور وهذا مقيد بما إذا كان الكشف عن حالهما يتأخر بعض الوقت. وأما إذا كان ذلك قريبا فاستحباب الإمساك متعين كما قال الحطاب. بل هو آكد من الإمساك في الفرع السابق.

قال الدسوقي فى حاشيته على الشرح الكبير: "واعلم أنه إذا كانت الشهادة بالرؤية نهارا أو ليلا وكانت السماء مصحية وأُخر أمرّ التزكية للنهار فلا إمساك أصلا، ولا يجب تبييت نية الصوم وإن كانت السماء مغيِّمة وأخر أمر التزكية للنهار فالمنفى إنما هو الإمساك الزائد على ما يتحقق فيه الأمر. وإن زكيا بعد ذلك أمر الناس بالإمساك والقضاء".

وكذلك لا يستحب الإمساك لمن كان مفطرا لأجل عذر يباح لأجله الفطر مع العلم برمضان ثم زال عذره. وذلك مثل ما إذا قدم المسافر من سفره الذي يجوز له الفطر فيه نهارا حالة كونه مضطرا، أو طهرت الحائض أو النفساء في أثناء نهار رمضان فإنه يباح لهم الأكل في بقية يومهم ولا يستحب لهم الإمساك فيه.

وكذلك مجنون ومغمى عليه أفاقا ومُرْضِعُ مات ولدُها خلال نهار رمضان. ومريض صح من مرضه؛ ومضطرٌ لفطر بسبب جوع أو عطش فأفطر لذلك. وصبي بلغ في أثاء النهار وكان قد بيّت نية الفطر أو بيت نية الصوم وأفطر عمدا قبل بلوغه أو لم ينو صوما ما ولا فطرا، فكل هؤلاء لا يستحب لواحد منهم الإمساك ويجوز لهم التمادى على تعاطى المفطر، سواء كان أكلا أو شربا أو جماعا.

أما لو بيّت الصبى نية الصوم واستمر صائما حتى بلغ أو أفطر ناسيا وأمسك فإنه يجب عليه الإمساك في هاتين الصورتين. ولا قضاء عليه فيهما ولا قضاء عليه أيضا في الصور الثلاث السابقة التي لا يستحب إمساكه فيها.

وكذلك يجب الإمساك على من أفطر مكرها ثم زال الإكراه فإذا أفطر المكرّه بعد زوال الإكراه وجب عليه القضاء والكفارة إلا أن يتأوَّل.

كما يجب الإمساك على من أفطر ناسيا أو لكون اليوم يوم شك ثم ثبت أنه من رمضان لأن كلا من النسيان والشك عذر يباح لأجله الفطر لكن لا مع العلم برمضان وإذا أسلم الكافر في أثناء نهار رمضان فإنه يستحب له الإمساك في بقية ذلك اليوم لتظهر علامة الإسلام بسرعة، وإنما لم يجب عليه الإمساك ترغيبا للإسلام، ويستحب له أيضا قضاء هذا اليوم، سواء أمسك بقية اليوم أو لم يمسك، وهو الظاهر من كلامهم.

ومن أكل أو شرب فتبين أنه فعل ذلك وقت طلوع الفجر يمسك عن الأكل والشرب ويجزيه الصومُ فلا يكون عليه قضاء هذا اليوم على المشهور.

وهذا كله في إمساك المفطر لعذر ثم زال عذره.

ص: 117

أما إذا كان الشخص صائما فعلا وأفطر لغير عذر فإنه يترتب على إفطاره هذا عدة أمور: منها الإمساك. وغير المعذور هو من أفطر عمدا أو غَلبَةٌ أو نسيانا.

وحكم إمساك هذا الشخص يختلف باختلاف الصوم الذي أفطر فيه. فإما أن يكون نفلا أو فرضاء والفرض إما معين أو غير معيّن؛ وغير المعيّن إما واجب التتابع أو غير واجب التتابع.

فالصوم التطوع والنفل يجب فيه الإمساك إن كان الفطر فيه غلبة أو نسيانا. وكذا إن كان عمدا على قول مرجوح أنكره ابن عرفة. قال: لا يجب الإمساك إن أفطر فيه عمداء وهو الراجح، لعدم الفائدة مع وجوب القضاء.

والفرض المعين كرمضان والنذر المعين يجب فيه الإمساك بقية اليوم مطلقا اتفاقا، سواء كان عمدا أو سهوا وإن كان فرضا لم يتعين وقته فإن وجب تتابعه ككفارة الظهار والقتل ولم يتعمد الفطر بأن أفطر غلبة أو نسيانا في أول يوم فإنه يستحب له الإمساك بقية يومه ثم يستأنف صيام الشهرين، لعدم الفائدة، إذ هو يجب قضاؤه ولا يؤدى إفطاره لفساد شئ أما إن أفطر ناسيا في أثناء الشهرين فبناء على قول من قال: إن الفطر ولو نسيانا يقطع التتابع ويُسقط حكمٌ الصوم الماضي له أن يفطر. والأولى الإمساك.

وأما على القول الآخر بأن الفطر نسيانًا لا يقطع تتابع هذه الصوم - وهو الراجح فيجب الإمساك كالفطر نسيانا في التطوع.

فإن تعمد الفطر لم يكن عليه إمساك لا وجوبا ولا ندبا لفساد جميع صومه الذي فعله ولو كان فطره في آخر يوم منه؛ فلا فائدة في إمساكه حينئذ.

أما إذا كان الصوم فرضا لم يتعين وقته ولم يجب تتابعه ككفارة اليمين والنذر المضمون أي غير المعين وقضاء رمضان وجزاء الصيد وفدية الأذى فإنه يكون بالخيار بين الإمساك وعدمه وإن كان يستحب له الإمساك بقية اليوم في الظاهر.

وسواء في كل هذا أن يكون عمدا أو نسيانا أو غلبة؛ لأنه يجب عليه القضاء في الجميع هذا ويجب قضاء الفرض من كل هذا على تفصيل ينظر في (مصطلح صوم).

(1)

‌مذهب الشافعية:

إمساك المسلم المميز عن المفطرات من أول النهار إلى آخره بالنية سالما من الحيض والنفاس ومن الإغماء والسكر في بعضه من أركان الصوم الشرعى

(2)

.

وجاء في تحفة المحتاج. أن الإمساك هذا يعتبر أيضا شرطا لصحة الصوم

(3)

ويجب إمساك جزء من الليل بعد غروب الشمس ليتحقق به استكمال النهار

(4)

. والأصح أن الإمساك يجب على من أفطر يوم الشك - وهو يوم الثلاثين من

(1)

شرح الخرشى بحاشية العدوى جـ 3 ص 300،391،281،378،276 الطبعة الأولى بالطبعة الأميرية سنة 1299، الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقى ج 1 ص 498،497،487،485،480 الطبعة الأول بمطبعة السعادة سنة 1329، الشرح الصغير للدردير بحاشية الصاوى ج 1 ص 282،281 الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية سنة 1289، حاشية العدوى على شرح أبي الحسن ج 1 ص 376،374 طبعة أولى مطبعة عبد الحميد أحمد حنفى.

(2)

أسنى المطالب شرح روض الطالب لزكريا الأنصاري بحاشية الرملي الكبير جـ 1 ص 408 المطبعة الميمينية الطبعة الأولى سنة 1312.

(3)

تحفة المحتاج شرح المنهاج لابن حجر بحاشية عمر البصرى ج 1 ص 402، الطبعة الأولى. المطبعة الوهبية سنة 1282.

(4)

المجموع شرح المهذب ج 6 ص 304.

ص: 118

شعبان إذا ثبت في أثناء النهار كونه من رمضان، لأن صومه كان واجبا عليهم إلا انهم جَهِلوه فيلزمهم الإمساكُ وجوبا بقية النهار.

وقيل: لا يجب عليهم الإمساك؛ لأنهم أفطروا لعذر، فلم يلزمهم الإمساك بقية النهار كالحائض إذا طهرت خلال نهار رمضان.

ولو ثبت أن يوم الشك من رمضان قبل الأكل فحكى المتولى في وجوب الإمساك القولين وجزم الماوردى بوجوب الإمساك قولا واحدا، وبوجوبه أيضا قطع الأكثرون من العراقيين والخراسانيين.

ويستحب لهم نية الصيام إن ثبت أن يوم الشك من رمضان قبل إفطارهم:

قال المتولى: "وإذ أوجبنا الإمساك فأمسك فهل هو صوم شرعى أم لا؟. فيه وجهان حكاهما صاحب الحاوى وصاحب الشامل وآخرون، واتفقوا على أن الصحيح أن الإمساك ليس بصوم شرعى وإنما هو إمساك شرعى لأنه لا يجزئه عن صوم رمضان ولا عن غيره، فالمعتمد وجوب قضاء هذا اليوم فورا عقب يوم العيد.

قال صاحب الشامل: وحكى الشيخ أبو حامد عن أبى إسحاق المروزى: إنه إذا لم يكن أكل ثم أمسك يكون صائما من حين أمسك. ويكون إمساكه صوما شرعيا وذكر مثل ذلك أيضا صاحب الحاوى.

ولا يجب الإمساك على أحد برؤية الهلال نهارا يوم الثلاثين من شعبان ولو قبل زوال الشمس؛ لأن رؤيته نهارا تكون لليلة المستقبلة لا الماضية، فلا يمسك من رآه عن المفطرات.

ومن أصبح معيّدا في بلد رؤى فيه هلال شوال ثم سافر إلى بلد مَطلَعُه مخالف لمطلع بلده فوجد أهلها صائمين لأنهم لم يروا الهلال فإنه يجب عليه الإمساك بقية اليوم في الأصح لأنه بالانتقال إليهم صار منهم.

وقيل: لا يجب عليه الإمساك، لأنه لزمه حكم البلد الأول فيستمر عليه.

قال الرافعى: وتتصور هذه المسألة في صورتين؛

(إحداهما) أن يكون ذلك اليوم هو يوم الثلاثين من صوم أهل البلدين لكن المنتقل إليهم لم يروا هلال شوال.

(والثانية) أن يكون هذا اليوم هو التاسع والعشرين من صوم المنتَقَلَ إليهم لتأخر ابتداء صومهم بيوم عن صوم أهل البلد التي سافر منها.

ولو كان الأمر عكس ذلك بأن أصبح صائما فسارت به سفينة أو نحوها إلى قوم معيِّدين لرؤيتهم هلال شوال فإن عممنا الحكم أو قلنا له حكم البلد المنتقل إليها أفطر وعَيَّد معهم ولزمه قضاء يوم، لأنه لم يصم إلا ثمانية وعشرين يوما. وإن قلنا له حكم البلد الأول ولم نعمم الحكم لزمه الصوم.

ومن أفطر في نهار رمضان من غير عذر عامدا مختارا عالما بالتحريم بأن أكل أو شرب أو باشر فيما دون الفرج وانزل أو استمنى فأنزل أو ارتد يجب عليه إمساك بقية النهار، لحرمة الوقت وتشبيها بالصائمين مع عدم العذر فيه. ولأنه بعض ما كان يجب عليه. وذلك مع الاثم ووجوب القضاء وكذلك يجب الإمساك على من نوى الخروج من الصوم على القول بأن الصائم

ص: 119

يخرج من صومه إذا نوى ذلك ولو لم يفطر فعلا.

وكذلك من نسى نية صوم يوم من رمضان ليلا حتى طلع الفجر فإنه يلزمه الإمساك أيضا على الأظهر لأن نسيانه النية يشعر بعدم الاهتمام بأمر العبادة فهو نوع تقصير، ويجب قضاء هذا اليوم لأنه لم يصمه.

وكذلك يجب الإمساك على من ظن بقاء الليل فأكل أو جامع ثم ظهر أنه فعل ذلك بعد طلوع الفجر.

ويستحب الإمساك بقية النهار لمريض شفى من مرضه في أثناء نهار رمضان، ولمسافر قدم من سفره كذلك حالة كونهما مفطرين، لحرمة الوقت.

وإنما لم يجب عليهما الإمساك، لأن الفطر مباح لهما مع العلم بحال اليوم؛ وزوال العذر بعد الترخص لا أثر له.

فإن لم يمسكا يستحب لهما إخفاء الإفطار لثلا يتعرضا إلى التهمة أو العقوبة ومحل هذا فيمن يخشى عليه ذلك دون من ظهر سفره أو مرضه الزائل بحيث لا يخشى عليه ذلك.

ولو زال عذرهما قبل أن يتناولا مفطرا ولم ينويا الصيام بالليل فكذلك لا يجب عليهما الإمساك في المذهب. لأن من أصبح تاركا للنية فقد أصبح مفطرا حقيقة فكان كمن أكل فعلا.

وقيل: يجب عليهما الإمساك، حرمة لليوم.

ومنهم من قطع بالأول، وهو عدم وجوب الإمساك عليهما. قال ذلك القاضي أبو الطيب في المجرد والدارمى والماوردي وآخرون.

أما إذا نويا الصيام ليلا فالأصح عند القاضي أبى الطيب وجمهور الأصحاب أنه يجب عليهما إتمام صومهما ولا يجوز لهما الفطر فيه.

ومن أفطر لجوع أو عطش خاف ضرره فنقل بعضهم عن بعض شروح الحاوى الصغير: أنه يلزمه الإمساك بعد إفطاره لدفع ذلك الضرر.

وقيل: لا يلزمه الإمساك كالمسافر والمريض بجامع عدم التعدى بالفطر، وعدم التقصير وهذا هو ما يؤخذ من كلام مشايخ المذهب.

ولو بلغ الصبى مفطرا أو أضاق المجنون أو أسلم الكافر في أثناء نهار يوم من رمضان لم يلزمه الإمساك في الأصح، لعدم التزامهم بالصوم، والإمساك تبع له ولأن غير الكافر منهم أفطر بعذر فأشبه المريض المسافر. وكذلك الكافر وإن أفطر لغير عذر إلا أنه لما أسلم جعل كالمعذور فيما فعل في حال الكفر.

وكذلك لا قضاء عليهم أيضا في الأصح، لأنهم لم يُدركوا زمنا يسع الأداء وإتمامه خارج الوقت غير ممكن.

وقيل: يلزمهم الإمساك والقضاء.

وقيل: يلزمهم الإمساك دون القضاء.

وقيل: يلزمهم القضاء فقط. أما الإمساك فلا يلزمهم.

ويستحب لهم الإمساك والقضاء خروجا من الخلاف.

وكذلك إن طهرت الحائض والنفساء في أثناء نهار رمضان فإنه يستحب لكل منهما الإمساك عن المفطرات بقية النهار ولا يلزمهما ذلك. لما سبق ذكره من دليل.

هذا هو المذهب في حكم إمساكهما. وبه قطع

ص: 120

الجمهور. ونقل إمام الحرمين وغيره اتفاق الأصحاب عليه.

وحكى صاحب العدة في وجوب الإمساك عليهما خلافا كالمجنون والصبى. وهو شاذ مردود.

هذا في حال ما إذا طهرت في خلال نهار رمضان أما في حال الحيض أو النفاس فيحرم عليها الصوم ويجب قضاؤه بالإجماع. ولو أمسكت عن المفطرات حال الحيض أو النفاس بدون نية الصوم لم تأثم. وإنما تأثم إذا نوت الصوم وإن كان لا ينعقد. والقادر على صوم بعض يوم دون كله لا يلزمه إمساكه.

وإذا كان لا يلزم الإمساك واحدا من هؤلاء المذكورين فإنه يستحب له ألا يأكل أمام من لا يعرف عذره، لأنه إذا تظاهر بالأكل عرّض نفسه للتهمة وعقوية الحاكم. ولو بلغ الصبى في خلال نهار رمضان صائما بأن نوى الصيام ليلا وأصبح صائما فعلا فإنه يلزمه إتمامه. ويستحب قَضاؤه، لأنه صار من أهل الوجوب في أثثاء العبادة فلزمه إتمامها، فإن أفطر فيه بعد بلوغه لزمه قضاؤه.

وقيل: يستحب له إتمامه، لأنه صوم نفل فاستحب إتمامه، ويجب قضاؤه والإمساك عن المفطرات بقية النهار تشبيها بالصائمين من خواص شهر رمضان. لشرف وقته ولأن وجوب الصوم فيه بطريق الأصالة بخلاف صوم النذر والقضاء والكفارة ونحوه. فلا إمساك على صائم ذلك بقية النهار حتى ولو أفطر بدون عذر لانتفاء شرف الوقت عنه، ولذا لم تجب في إفساد صوم ذلك كفارة. وهذا كله متفق عليه.

ولو أصبح الشخص ممسكا فنذر صوم يومه هذا ففى لزوم الوفاء بهذا النذر قولان:

قال إمام الحرمين: والذي أراه لزوم الوفاء، وأقره الشيخان - الرافعى والنووى والممسك عن المفطرات خلال نهار رمضان ليس في صوم شرعى، ومع ذلك يثبت له أحكام الصائمين. فيكره له شم الرياحين ونحوهاء ويؤيده كراهة السواك في حق الممسك بعد زوال الشمس على المعتمد.

والمأمور بالإمساك عن المفطرات تشبيها بالصائمين يشاب على فعله وإن لم يكن في صوم بشرعى فإن ارتكب خلال الإمساك محظورا أو تضاف فلم يمسك فلا شئ عليه في ذلك، بلا خلاف سوى الإثم، لمخالفته الواجب.

(1)

وذلك إذا كان الإمساك واجبا.

‌مذهب الحنابلة:

الإمساك عن المفطرات مع النية هما الصوم الشرعى. فمن نوى الصوم ليلا ثم جن أو أغمى عليه جميع النهار لم يصح صومه لأن الصوم عبارة عن الإمساك مع النية، ولم يوجد إمساك عن قصد، كما دل عليه قوله في الحديث القدسى:"إنه ترك طعامه وشرابه من أجلى" فلم تعتبر النية متفردة عن الإمساك. وإن أفاق

(1)

أسنى المطالب شرح روض الطالب السابق جـ (1) ص 423،411،409 - 424 الطبعة السابقة.

تحفة المحتاج بشرح المنهاج ج 1 ص 412 - 413 الطبعة السابقة.

المهذب لأبى إسحاق الشيرازى جـ 1 ص 117 - 179 طبع مطبعة الحلبى.

شرح المحلى للمنهاج بحاشية قليوبى وعميرة ج 2 ص 66،65،51 طبع مطبعة الحلبى.

شرح المنهاج بحاشية البجرمى جـ 2 ص 73،60 الطبعة الثالثة المطبعة الأميرية سنة 1309.

الأشباه والنظائر للإمام جلال الدين السيوطى جـ 1 ص 165،160 طبع مطبعة الحلبى سنة 1278.

المجموع شرح المهذب للنووى جـ 6 ص 329،255 الطبعة السابقة.

ص: 121

المجنون أو المغمى عليه جزءا من اليوم الذي بيّت له النية صح صومه، لقصد الإمساك في جزء من النهار كما لو نام بقية يومه.

وإذا قامت البينة برؤية هلال رمضان في أثناء النهار ولو في موضع آخر فإنه يجب الإمساك بقية النهار عن كل ما يفسد الصوم على كل من يجب عليه الصوم ولو لم يبيتوا النية أو أفطروا فيه جهلا، وذلك لتعذر إمساك جميع النهار فوجب أن يأتوا بما يقدرون عليه، لحديث:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".

ويلزمهم القضاء لثبوته من رمضان، ولم يأتوا فيه بصوم صحيح فلزمهم قضاؤه. وهذا الإمساك خاص بشهر رمضان، لحرمة وقته. أما إن نذر صوم شهر معين فلا يجب عليه الإمساك إذا ثبتت رؤية هلاله في أثناء النهار على من أكل فيه أو لم يبيت النية. ويلزم الإمساك كلّ من أفطر والصوم واجب عليه كالفطر لغير عذر، ومن ظن أن الفجر لم يطلع ثم تبين أنه طلع، أو أن الشمس قد غابت ولم تغب، والناسي للنية ونحوهم بغير خلاف بينهم.

وإن بلغ الصغيرُ ذكرا كان أو أنثى - في أثناء يوم من رمضان وهو مفطر أو أفاق المجنون أو أسلم الكافر في خلال النهار فإنه يلزمهم الإمساك في إحدى الروايتين، لأنه معنى لو وجد قبل الفجر أو جبال الصيام فإذا طرأ بعد الفجر أوجب الإمساك كقيام البينة برؤية الهلال.

والثانية - لا يلزمهم الإمساك لأنه أبيح له الفطر أول النهار ظاهرا وباطنا، فإذا أفطر كان استدامة الفطر كما لو دام العذر.

وهل يجب عليهم قضاء هذا اليوم؟ فيه روايتان أيضا.

وذلك ما لم يبلغ الصبي صائما وقد نوى الصيام من الليل فيتم صومه ويجزي عنه، فلا قضاء عليه عند القاضي، لأنه نوى الصيام من الليل فأجزأه كالبالغ، ولا يمتنع أن يكون أوّله نفلا وباقيه فرضا.

واختار أبو الخطاب وجوب القضاء عليه، لأنها عبادة بدينة بلغ في أثنائها بعد مضى بعض أركانها فلزمه إعادتها كالصلاة والحج.

وكذلك كل من صار في أثناء يوم من رمضان أهلا لوجوب الصوم عليه، فإنه يلزمه إمساك ذلك اليوم وقضاؤه لحرمة الوقت، ولإدراكه جزءا من وقته.

وإن طهرت الحائض أو النفساء أو قدم المسافر مفطرا فعليهم القضاء. وفي الإمساك روايتان سبق ذكر وجهيهما والاختلاف في ذلك كالاختلاف في مسألة الصبي إذا بلغ مفطرا والكافر إذا أسلم والمجنون إذا أفاق فكذلك الحكم في هؤلاء.

وإن تعمد مقيم الفطر، أو تعمدت طاهرة الفطر فسافر المقيم بعد فطره هذا أو حاضت أو نفست الطاهرة بعد فطرها هذا فإنه يلزم كل

ص: 122

منهما إمساك ذلك اليوم مع السفر والحيض والنفاس نصا عقوبة، وكذلك يلزمهما القضاء.

وكل من لزمه الإمساك - كمن لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر أو نسى النية أو أكل عامدا - إذا جامع فعليه الكفارة لهتكه حرمة زمن رمضان بذلك. فإذا كفّر ثم أعاد الجماع في نفس اليوم الذي لزمه الإمساك فيه فإنه تلزمه كفارة أخرى. والإمساك عن المفطرات وكلِّ ما يفسد الصوم خاص بشهر رمضان، فلا يلزم الإمساك من أفطر في صوم واجب غير رمضان. لعدم حرمة الوقت.

والإمساك عن المفطرات دون الصوم الشرعى خصوصا فيما فيه خلاف في وجوبه.

(1)

‌مذهب الظاهرية:

قال ابن حزم: الإمساك عن الأكل والشرب وتعمد القئ وعن الجماع والمعاصى مع النية هما الصوم الشرعى.

(2)

ولا معنى للإمساك عن المفطرات في يوم الشك - وهو اليوم الأخير من شهر شعبان انتظارا لظهور كونه من رمضان أم لا، لأنه إن كان إمساكه بنية الصوم فقد خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك صومه وواقع النهى. فقد روى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتقدمّن أحدُكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجلٌّ كان يصوم صوما فليصمه"

(3)

.

وإن كان انتظاره وإمساكه بغير نية الصوم فهو عناء لا مُعنى له. وترك المفطرِ الأكلّ عمل فارغا

(4)

.

ومن نسى أن ينوى الصيام من الليل في رمضان فأى وقت ذكر من النهار التالى لتلك الليلة - سواء أكل وشرب وجامع أو لم يفعل شيئا من ذلك فإنه ينوى الصوم من وقت تذكره، ويمسك عما يمسك عنه الصائم، ويجزئه صومه ذلك تاما. ولا قضاء عليه حتى ولو لم يبق عليه من النهار إلا مقدار النية فقط فإن لم ينو كذلك لا صوم له، وهو عاص لله تعالى متعمد لإبطال صومه ولا يقدر على القضاء.

وكذلك من جاءه الخبر بأن هلال رمضان رؤى البارحة أو اليوم قبل زوال الشمس فسواء أكل وشرب وجامع أو لم يفعل شيئا من ذلك، في أي وقت جاء الخبر من ذلك اليوم ولو في آخره كما

(1)

المغنى لابن قدامة مع الشرح الكبير ج 3 ص 71،15،14. الطبعة الأولى، مطبعة المنار.

كشاف القناع عن متن الإقناع لابن إدريس، وبهامشه شرح منتهى الإرادات لابن يونس البهوتى جـ 1 ص 507 - 511 - 518 - 554 - 555، 574. الطبعة الأولى بالمطبعة العامرة الشرفية سنة 1319.

الروض المربع شرح زاد المستقنع جـ 1 ص 122 - 127 الطبعة السادسة بالمطبعة السلفية سنة 1380 هـ

(2)

المحلى لابن حزم جـ 1 ص 322 مسألة رقم 728. الطبعة الأولى لمطبعة دار الاتحاد العربى سنة 1388 هـ.

(3)

الحديث رواه الجماعة (انظر نيل الأوطار جـ 4 صـ 259) الطبعة السابقة.

(4)

المحلى لأبن حزم السابق جـ 1 ص 452 مسألة رقم 799، الطبعة السابقة.

ص: 123

سبق - فإنه ينوى الصوم ساعة صح الخبر عنده ويمسك عما يمسك عنه الصائم ويجزئه صومه. ولا قضاء عليه فإن لم يفعل فصومه باطل وكذلك أيضا من عليه صوم نذر معين في يوم بعينه فنسى النية وتذكرها بالنهار فكما قلنا ولا فرق.

وكذلك من نسى النية في ليلة من ليالى الشهرين المتتابعين الواجبين ثم تذكر بالنهار وكذلك من نام قبل غروب الشمس في رمضان فلم ينتبه إلا بعد طلوع الفجر أو في شئ من نهار ذلك اليوم ولو في آخره فكما قلنا أيضا آنفا سواء بسواء ولا فرق في شئ أصلا.

وبرهان ذلك قول الله تعالى: {ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم}

(1)

وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن آمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وكل مَنْ ذكر ناسٍ أو مخطئ غير عامد فلا جناح عليه.

ولِمَا روى عن الرُبَيِّع بنت مُعَوِّذ قالت: "أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة "من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه"

(2)

.

ولما روى عن سلمة بن الأكوع قال: "أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذن في الناس: أن من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء".

(3)

وروى أن قوما شهدوا بالهلال بعد ما أصبحوا فقال عمر بن عبد العزيز: "من أكل فليمسك عن الطعام، ومن لم يأكل فليصم بقية يومه".

ورُوى مثل هذا عن عطاء وغيره

(4)

.

ومن أسلم بعد ما تبين الفجر له أو بلغ كذلك أو رأت المرأة الطهر من الحيض أو من النفاس كذلك أو أفاق المجنون أو برأ المريض أو قدم المسافر بعد الفجر فإنهم يأكلون باقى نهارهم ويجامعون من نسائهم من لم تبلغ أو من طهرت في يومها ذلك، ويستأنفون الصوم من غدٍ، لأنه صح أنهم في هذا اليوم غيرُ صائمين أصلا، وإذا كانوا غير صائمين فلا معنى لإمساكهم ولا أن يُؤمَروا بصوم ليس صوما أصلا ولا هم مؤدون به فرضا لله تعالى ولاهم عاصون له بتركه.

(1)

الآية رقم 5 من سورة الأحزاب.

(2)

سبق تخريج هذا الحديث في مذهب الحنفية.

(3)

رواه البخارى جـ 1 ص 138. الطبعة الأولى بالمطبعة الشرفية سنة 1304.

(4)

المحلى لابن حزم جـ 6 ص 238 - 239 مسألة رقم 729، وص 357 رقم 758 الطبعة السابقة.

ص: 124

ولا قضاء على من أسلم أو بلغ أما غيرهما ممن ذكر فيجب عليهم قضاء هذا اليوم وغيره مما سبق خلال قيام عذرهم.

(1)

ومن تعمد الفطر في يوم من رمضان عاصيا لله تعالى فإنه يلزمه الإمساك عن المفطرات في باقى ذلك اليوم فلا يحلّ له أن يأكل ولا أن يشرب ولا أن يجامع في باقيه وهو عاص لله تعالى إن فعل .. وهو مع ذلك غير صائم بخلاف من ذكر قبل هذاء لأنه إما شخص منهى عن الصوم وإما مباح له ترك الصوم فهم في إفطارهم مطيعون لله تعالى غير عاصين له بذلك.

وأما من تعمد الفطر عاصيا فهو مفترض عليه بلا خلاف صوم ذلك اليوم ومحرم عليه فيه كل ما يحرم على الصائم، ولم يأت نص ولا إجماع بإباحة الفطر له إذا عصى بتعمد الفطر، فهو باق على ما كان حراما عليه، وهو متزيّد من المعصية متى تزيد فطرا، ولا صوم له مع ذلك

(2)

.

‌مذهب الزيدية:

الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية من شرائط الصوم الشرعى

(3)

. ولا يجب الإمساك عن المفطرات في يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان مع الغيم فإن انكشف يوم الشك من رمضان بأى سبب من الأسباب أمسك من حصل له هذا الانكشاف عن المفطرات وجوبا في بقية يومه وإن كان قد أفطر بناء على أنه يوم الشك وإنما وجب الإمساك ولو قد أفطر. لأنه بمنزلة من أفطر ناسيا في وسط النهار، والجامع بينهما أنهما مخطئان بالأكل في علم الله، وعليه أن يقطع بالنية. إذ لا يكفى الإمساك بدون قطع.

وأما إذا لم يكن قد أفطر فإنه يلزمه إتمام الصوم وينوى أنه من رمضان مهما بقى جزء من النهار يسع النية، ويجزيه ذلك عن رمضان ولو كان قد نواه عن غيره. وهذا عند من لم يشترط تبييت نية الصوم.

أما عند من شرط ذلك فوجهان: (أحدهما) - يلزمه الإمساك، إذ لا عذر له، ولا يجزيه إمساكه هذا عن رمضان بناء على وجوب تبييت النية، كال ذلك المؤيد بالله.

(والثانى) لا يلزمه الإمساك أيضا كحائض طهرت في خلال نهار رمضان.

(4)

وكل من جاز له الإفطار لعذر فزال ذلك العذر وفى اليوم بقية فإنه يستحب له أن يمسك عن المفطرات بقية اليوم وإن كان قد أفطر قبل ذلك، رعاية لحرمة شهر رمضان. ولئلا تلحقه تهمة المفطر عمدا، وذلك كالحائض أو النفساء إذا طهرت في خلال نهار رمضان فإنها تمسك استحبابا، إذ بطل صوم أول اليوم؛ ويلزمها قضاء الصوم.

وكذلك الصبى إذا بلغ في خلال نهار رمضان والمجنون الأصلى إذا أفاق والكافر إذا أسلم لا

(1)

المرجع السابق ص 362،360 مسألة رقم 760.

(2)

المرجع السابق ص 363 مسألة رقم 761.

(3)

شرح الأزهار جـ 2 ص 2 الطبعة الثانية مطبعة حجازي سنة 1357. البحر الزخار جـ 2 ص 238 الطبعة الأولى بمطبعة أنصار السنة المحمدية سنة 1397 هـ.

(4)

شرح الأزهار السابق ص 8 الطبعة السابقة.

البحر الزخار السابق ص 243، 247 الطبعة السابقة.

ص: 125

يلزمهم الإمساك وإن كان يستحب لهم.

وقال الإمام يحيى: يلزم الكافر فقط إذا أسلم الإمساكُ تشبها بالصائم. لأنه ترك أول اليوم بدون عذر.

ولا يقضى الصبى هذا اليوم الذي بلغ في خلاله على المذهب، إذ القضاء فرع الوجوب واليوم لا يتبعض.

وقال أبو طالب: وكذا كافر أسلم في خلال يوم من رمضان لا يجب عليه أن يقضيه وقال الإمام يحيى: يجب على الكافر قضاء اليوم الذي أسلم في خلاله إذ كان مكلفا كالحائض.

وكذلك يستحب الإمساك عن المفطرات لمن أكره على الفطر فأفطر؛ ومن خشى العطش فأفطر ومن أفطر عمدا في خلال نهار رمضان فإنه يلزمه الإمساك عن المفطرات بقية اليوم للحرمة وكذلك إذا أفطر ناسيا أو جامع ناسيا فإنه يجب عليه الإمساك عن المفطرات بقية اليوم؛ لحرمة الوقت، وعدم فساد صومه.

وقيل: لا يجب عليه الإمساك. لفساد صومه. لأنه لم يمسك عن المفطرات، وإذا لم يمسك عنها لم يكن صائما، ويلزمه قضاء الصيام.

أما من يقضى صوما وأفطر عمدًا أو نسيانا في خلال نهار صومه فلا يلزمه الإمساك عن المفطرات بقية يومه الذي أفطر فيه، لأنه لا حرمة لوقته .. وصيام النذر الممين كرمضان في كل ذلك.

وكذلك يلزم الإمساكُ عن المفطرات مسافرا

ومريضا لم يفطرا في أول اليوم حتى زال عذرهما وهما ممسكان. لإمكان الإنشاء.

وكذلك من جن جنونا طارئا أول اليوم يلزمه الإمساك إذا أفاق في أثنائه قبل أن يفطر لأن الجنون العارض يشبه المرض.

وكذلك كل من رخص له في الإفطار ولو صام صح منه الصوم كالمرتد إذا ارتد بعد عقد الصوم فإنه يلزمه الإمسااك إذا أسلم قبل أن يفطر: لانعقاد الصوم منه في أول اليوم، وكذلك المكرَه إذا زال عذره قبل أن يفطر.

وأما المرضعة أو الحامل إذا خافت الضرر في

أول اليوم على الرضيع أو الجنين وأمنت عليهما في آخره ولم تفطر فإنه يلزمها الإمساك عن المفطرات وتنويه عن رمضان مع أنه لا يصح منها الصوم في أول اليوم.

وإذا خرج المسافر من العمران فلو خرج من الميل فأفطر ثم أضرب عن السفر لم يلزمه الإمساك عن المفطرات بقية اليوم بل يستحب فقط، ذكر هذا السيد يحيى لأنه بمنزلة المسافر الذي انقطع سفره في خلال نهار رمضان فإنه لا يلزمه الإمساك بقية اليوم الذي انقطع فيه سفره إذا كان قد أفطر بالفعل، لأنه غير مخطئ في علم الله. وإنما يستحب له ذلك.

وكذلك يستحب الإمساك للمريض إذا صح من مرضه في خلال نهار رمضان بعد إفطاره.

وإذا أمسك المكلف عن المفطرات بنية صوم الوصل كان ذلك الصوم - أي صوم اليوم الثاني - محظورا.

ص: 126

والإمساك عند من شرطه وجعله واجبا في بعض المواضع ليس صوما شرعيا. وفى الثواب على الإمساك عن المفطرات بدون نية الصوم وجهان.

(1)

‌مذهب الإمامية:

الإمساك عن المفطرات من أول طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس مع النية هو الصوم الشرعى وتجب نية الإمساك عن جميع المفطرات فإن نوى الإمساك عن بعض المفطرات دون البعض بطل صومه وإن تخيل أن هذا البعض غير مفطر.

وإذا أصبح المكلف يوم الشك - وهو يوم الثلاثين من شعبان - بنية الإفطار ثم ثبت أنه من شهر رمضان لقيام البينة على ذلك فإن كان بعد. زوال الشمس وجب عليه الإمساك بقية النهار، ويجب عليه قضاء هذا اليوم وإن لم يتناول شيئا من المفطرات المذكورة.

وإن ثبت ذلك قبل زوال الشمس وقبل أن يتناول شيئا من المفطرات المذكورة فإنه ينوى الصيام من وقت ثبوت ذلك ويصوم، ويجزئه صيامه فلا يجب عليه قضاؤه.

أما إذا أصبح يوم الشك مفطرا ثم ظهر أن هذا اليوم من رمضان فإنه يجب عليه إمساك باقيه؛ ويجب عليه قضاؤه.

(2)

ولو أصبح المكلف بنية الإفطار مع علمه بأن هذا اليوم من شهر رمضان ووجوبه عليه ثم جدد نية الصوم خلال النهار لم يجزئه ذلك سواء كان ذلك قبل الزوال أو بعده ووجب عليه الإمساك هذا اليوم؛ سواء أفطر فيه أو لم يفطر.

ولو ترك المكلف النية عامدا حتى زالت الشمس وجب عليه الإمساك والقضاء قال صاحب تحرير الأحكام: وهل يثاب على الإمساك؟، الوجه عندى أنه يثاب ثواب الإمساك لا ثواب الصوم.

ولو منع مكلفٌ مكلفًا عما يجب الإمساك عنه من المفطرات فإن نوى الصوم مع ذلك كان في حكم الصائم، وإن لم ينوه وجب القضاء

(3)

.

ولو قدم المسافر بلده أو بلدا نوى الإقامة فيه عشرا قبل الزوال. أو برئ المريض قبل الزوال وهما ممسكان لم يتناولا شيئا من مفسدات الصوم فإنه يجب عليهما إتمام الصوم ويجرئهما.

(4)

ولو عرف المسافر أنه يصل بلده أو موضعَ إقامته قبل زوال الشمس جاز له الإفطار وإن أمسك حتى دخل بلده وأتم صومه كان أفضل.

(5)

والإمساك عن المفطرات تشبيها بالصائمين واجب أيضا على كل متعمد بالإفطار في شهر رمضان وإن كان إفطاره للشك؛ وذلك لحرمة الوقت.

(6)

(1)

شرح الأزهار ص 26،23،30. الطبعة السابقة.

البحر الزخار ص 234، 243 الطبعة السابقة.

(2)

الخلاف في الفقه للطوسى جـ 1 ص 382 رقم 20 ص 393 رقم 56 طبع مطبعة رنكين بطهران.

(3)

تحرير الأحكام ليوسف بن مطهر الحلى جـ 1 ص 76 - 77 طبعة حجر سنة 1314.

(4)

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية السابق ص 147

(5)

تحرير الأحكام السابق ص 83.

(6)

قواعد الأحكام للعلامة الحلى جـ 1 ص 66 طبعة حجر سنة 1329.

ص: 127

ويستحب الإمساك عن المفطرات بقية النهار في سبعة مواطن:

(الأول) المسافر إذا قدم بلده أو بلدا يعزم الإقامة فيه عشرا فما زاد بعد الزوال أو قبله وكان قد تناول مفطرا.

(الثاني) المريض إذا برأ قبل الزوال أو بعده وقد أفطر.

وكذلك يستحب لهما الاستمرار على الإمساك إذا زال عذرهما بعد زوال الشمس وهما ممسكان بدون نية الصوم. أما إذا كانا قد نويا صيام ذلك اليوم فبالنسبة للمسافر يجب عليه الإمساك ويعتد بصومه هذا. أما المريض فيستحب له الإمساك أيضا، لأن صومه لا يصح، وفى كل الأحوال يلزمهما القضاء فيما عدا الصورة التي يعتد بصوم المسافر فيها.

(الثالث) و (الرابع) الحائض والنفساء إذا طهرتا في أثاء نهار رمضان. سواء كان قبل زوال الشمس أم بعده، وسواء كانتا قد تناولتا مفطرا قبل الطهر أم لا وكذلك يستحب الإمساك تأدبًا للطاهرة إذا جاءها أحد الدمين ولو في آخر جزء من النهار ويبطل صوم ذلك اليوم،؛ فلو أمسكت إحداهما ونوت الصوم لم ينعقد؛ سواء علمت بالتحريم أم لم تعلم، ويجب عليهما القضاء عن الطهر في كل الأحوال وإن أمسكتا.

(الخامس) الصبى إذا بلغ بعد طلوع الفجر الثاني، ويستحب له الإمساك سواء كان مفطرا أو صائما، ولا قضاء عليه، ذكر هذا صاحب تحرير الأحكام.

وقال صاحب الخلاف في الفقه: إن كان الصسبى نوى الصوم من أول اليوم الذي بلغ في أثنائه وجب عليه الإمساك.

(السادس) المجنون أو المغمى عليه إذا أفاق بعد طلوع الفجر وإن لم يتناول مفطرا.

(السابع) الكافر إذا أسلم بعد طلوع الفجر. وقيل: إذا أسلم الكافر قبل الزوال وجب عليه الصوم. فإن تركه قضى. والأول وهو استحباب الإمساك له - أشبه

(1)

.

‌مذهب الإباضية:

إمساك المكلف بالنية من الليل عن تناول الطعام والشراب وكل ما يصل الجوف، والاستمناء والجماع والكبائر من الفجر إلى المغرب تقربا إلى الله تعالى هو الصوم الشرعى.

(2)

ويستحب الإمساك يوم الشك عما يفسد الصوم إلى رجوع الرّعاة ضحى، لعله يوجد خبر من راع أو غيره يزيل الشك عن هذا اليوم.

(1)

شرائع الإسلام للمحقق الحلى جـ 1 ص 107 طبعة دار مكتبة الحياة ببيروت.

الخلاف في الفقه للطوسى ص 393 رقم 57

تحرير الأحكام جـ 1 ص 81 - 84.

(2)

شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد بن يوسف أطفيش جـ 2 ص 76، الطبعة الأولى بالمطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1243

ص: 128

والإمساك إلى ذلك الوقت هو من السنّة اتفاقا وليس بواجب.

وقيل: يندب الإمساك عن المفطرات المذكورة يوم الشك إلى أن يشتد وقع الشمس على الدواب.

وقيل: يندب الإمساك يوم الشك كلّه.

وإذا أمسك المكلف يوم الشك ثم ثبت أن ذلك اليوم من رمضان ففى صحة صومه وعدم قضائه بعد ذلك قولان:

(الأول) يصح صومه ولا يقضيه بعد ذلك، سواء ثبت أنه من رمضان في أول النهار أو في آخره.

(الثاني) لا يصح صومه حتى ولو ثبت أنه من رمضان في أول النهار فيقضيه بعد ذلك وهو الصحيح.

ومن لم يمسك يوم الشك وفعل فيه ما يفسد الصوم بعد مجئ الخبر بأنه من رمضان فإنه يهلك بذلك وتلزمه الكفارة والإعادة.

وإن شهد في يوم الشك شهود بأنه من رمضان فلم يمسك وأكل قبل أن تعرف عدالتهم قضى هذا اليوم.

(1)

وكذلك يجب الإمساك عن كل ما يفسد الصوم على الصبى إذا بلغ في خلال نهار رمضان. وعلى الكافر إذا أسلم والمجنون إذا أفاق نهارا وقد بقى من النهار بقية، فيمسكون بقية النهار لكن لا يكفى هذا الإمساك الواجب في صوم هذا اليوم فيجب عليهم إعادته.

وقيل: لا يعاد.

وقيل: يجوز الأكل بقية اليوم والمختار المنع.

وبناء على المختار إذا لم يمسك هؤلاء عن المفطرات هلكوا وتلزمهم الكفارة والإعادة.

(2)

ويستحب لحائض أو نفساء طهرت في خلال نهار رمضان أن تمسك بقية اليوم عن المفطرات، تعظيما لشهر رمضان. فإن لم تمسكا فلا بأس" وعليهما إعادة ذلك اليوم؛ سواء أمسكتا أم لم تمسكا.

(3)

ويكره لمسافر أصبح على نية الإفطار ثم قدم بلده أن يأكل بقية يومه بمنزله أو يفعل ما لا يجوز للصائم فعله كالشرب والجماع.

وظاهره أن ذلك يكره فقط خارج الأميال في يومه.

والمشهور أنه يجب عليه الإمساك عن كل ما يفسد الصوم إن لم يأكل خارج الأميال فإن لم يمسك عن ذلك هلك ولزمته الكفارة والإعادة.

ولا بأس - أي لا كراهة - في أكله بقية يومه إن كان قد أكل أو شرب في ذلك اليوم خارج أمياله. وغير الأكل والشرب مثلهما كالجماع.

(1)

المرجع السابق ص 188.

الموضع ص 157، الطبعة الأولى بمطبعة الفجالة.

(2)

شرح النيل ص 227 والموضع السابق ص 157.

(3)

شرح النيل جـ 7 ص 228 والموضع السابق ص 157.

ص: 129

وقيل: يأكل سرا. لئلا يبيح البراءة من نفسه، وهو مباح له الفطر وجوز البعض أن يأكل بقية يومه في منزله إن أكل داخل الأميال قبل دخول المنزل وكذلك إذا صح من مرضه في خلال نهار رمضان وكان قد أفطر قبل ذلك فلا بأس عليه في الأكل فيما بقى من ذلك النهار كالمسافر.

وعليهما الإعادة أيضا لذلك اليوم، سواء أمسكا فيه أم لم يمسكا.

(1)

‌إمساك المال أو الإنسان للجناية عليه وأثره:

‌مذهب الحنفية:

لو أمسك شخص شخصا هاربا من عدوه حتى لحق به عدوه وقتله عمدا وهو ممسك به فالقصاص على الذي باشر القتل. أما الممسك فلا قصاص ولا ضمان عليه؛ لأنه تسبب في القتل فقط لكن يحبس في السجن ويعاقب.

(2)

ولو قتل وليُّ القتيل الممسك فعليه القصاص سواء قضى القاضي بسقوط القصاص عن الممسك أولم يقض به، لأن عصمة دم الممسك وحرمة قتله أمر لا يخفى على أحد من الناس ولا يشكل عليهم.

(3)

وإن قَمَطَ شخص شخصا - أي أمسكه وشد يديه ورجليه - وطرحه أمام أسد أو سبع من السباع فقتله السبع لم يكن على الذي فعل ذلك قصاص ولا دية ولكنه يعزر ويضرب ويحبس حتى يموت.

وجاء في الفتاوى البزازية: أنه روى عن الإمام أبى حنيفة لزوم الدية على عاقلته. وكذلك لو قمطه فنهشته حيّة أو لسعته عقرب أو ألقاه في الشمس أو البرد حتى مات. ولو قمطه وألقاه في البحر فرسب وغرق كما ألقاه فعلى عاقلة الملقى الدية مغلظة عند أبى حنيفة لأنه غرق بطرحه في الماء ولو سبح ساعة ثم غرق أو كان يُعرف بإجادة السباحة فلا دية، لأنه غرق بعجزه، ولو أنه رسَب في الماء حين طُرح ولا يدرى مات أو خرج ولم ير له أثر فلا شئ على من أمسكه وطرحه ما لم يعلم أنه مات.

(4)

ولو أن رجلا أمسك رجلا فقيده وحبسه في بيت حتى مات جوعا أو عطشا فقال محمد بن الحسن: أوجعه عقوبة والدية على عاقلته، والفتوى على قول أبى حنيفة أنه لا يضمن شيئا

(5)

. وجاء في شرح الحموى عن خزانة المفتين: أن قول محمد هو المختار في زماننا لمنع الظلمة من الظلم.

(6)

وإن أخذ رجل بيد إنسان وأمسكها ليصافحه فجذب يده من يد الممسك فانقلب فمات فلا شئ على الممسك، لأنه غير متعد في الإمساك للمصافحة بل هو مقيمُ سنّة. وإنما الجاذب هو

(1)

شرح النيل السابق جـ 2 ص 207 والوضع السابق ص 157

(2)

حاشيه ابن عابدين على الدر المختار شرح تنوير الأبصار جـ 6 ص 748. الطبعة الثانية بمطبعة الحلبى سنة 1286 (مسائل شتى) الفتاوى الهندية جـ 1 ص 88 الطبعة الثانية بالمطبعة الأميرية سنة 1210.

(3)

حاشية بن عابدين على الدر المختار السابقة ص 541. (باب الجنايات) مبحث شريف.

(4)

المرجع السابق ص 544.

(5)

الفتاوى الهندية السابقة جـ 6 ص 6.

(6)

حاشية ابن عابدين على الدر المختار السابقة جـ 3 ص 543.

ص: 130

الذي تعدى على نفسه حيث جذب يده لا لدفع ضرر لحقه من الممسك بها.

وإن كان أمسك يده ليَعُصِرَها فآذاه فجر يده فانقلب فمات ضمن الممسك ديته. لأنه هو المعتدى وإنما صاحب اليد دفع الضرر عن نفسه بجريده وله ذلك فكان الضمان على المتعدى.

وإن انكسرت يد الممسك وهو الآخذ بالجذب لم يضمن الجاذب، لأن التعدى من الممسك فكان جانيا على نفسه فلا ضمان على غيره وكذلك إذا كان طفل في يد أبيه فجذبه شخص من يده والأب يمسكه حتى مات فديته على الذي جذبه ويرثه أبوه، لأن الأب محق في إمساكه. والجاذب متعد في الجذب فالضمان عليه.

(1)

ولو تجاذب رجلان صبيا وأحدهما يدعى أنه ابنه والآخر يدعى أنه عبده فمات من جذبهما فعلى الذي يدعى أنه عبده ديته، لأنه متعد في الجذب. لأن المتنازعين في الصبى إذا زعم أحدهما أنه أبوه فهو أولى به من الذي يدعى أنه عبده فكان إمساكه بحق وجذب الآخر بغير حق فيضمن.

(2)

ولو أمسك رجل كلبه في داره فعقر من دخلها بإذن أو بغير إذن لا يضمن صاحب الكلب شيئا، لأن فعل الكلب هدر، ولم يوجد من صاحبه التسبيب إلى العقر، إذ لم يوجد منه إلا الإمساك في البيت وهو مباح، قال الله تبارك وتعالى:

{أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم}

(3)

ولو أن رجلا أعطى صبيا سلاحا ليمسكه فعطب الصبى بذلك تجب دية الصبى عاقلة المعطى وإن لم يقل له أمسكه لى المختار أنه يضمن أيضا وليس المراد تعطب الصبى أن الصبى قتل نفسه وإنما المراد به أنه سقط من يده على بعض بدنه وعطبت به أما لو دفع السلاح إلى الصبى فقتل الصبى نفسه أو غيره لا يضمن الدافع بالإجماع

(4)

.

وإذا حمل رجل صبيا حرا على دابة وقال له: أمسكها لى - والحامل ليس بولى الصغير - فسقط الصبى عن الدابة ومات بدون أن يحدث منه تسيير للدابة كان على عاقلة من حمله ديته، سواء كان الصبى ممن يركب مثله عليها أم لا، لأنه صار مستعملا للصبى في عمل من أعماله. وهو إمساك الدابة بغير إذن وليه، ومن استعمل صبيا بغير إذن وليه وهلك بسبب استعماله يضمن.

وكذا إن سقط عنها وهى تسير بسير صاحبها فديته على عاقلة صاحبها الذي حمله عليها،

(1)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين أبى بكر بن مسعود الكاسانى جـ 7 من 274 الطبعة الأولى بمطبعة الجمالية سنة 1328.

(2)

بدائع الصنائع السابقة جـ 7 ص 274.

(3)

آية 4 سورة المائدة.

(4)

الفتاوى الهندية السابقة جـ 6 ص 32.

ص: 131

سواء كان الصبى يستمسك عليها أو لا يستمسك. لأن السير مضاف إلى صاحبها حينئذ وكذا لو حمله عليها مع نفسه وسقط ومات. سواء كان يستمسك أم لا، وسواء سقط حال سيرها أو قبله أو بعده

(1)

.

أما إذا حمله على الدابة وهى واقفة وقال له: امسكها لى، ثم سيرها الصبيُّ فوقع ومات فلا ضمان على من حمله عليها، لأن السير رمضاف إلى الصبى لا إلى حمله على الدابة لأنه لم يأمره بتسييرها بل أمره بإمساكها فقط.

وكذلك لا ضمان على الحامل إذا سارت الدابة بنفسها. لأن المتلف حينئذ هي فيكون هدرا

(2)

.

ومن أمسك رجلا حتى جاء آخر وأخذ ما معه من مال فضمان المال على الآخذ لا على الممسك.

(3)

وكذلك لو أمسك رجل مدينا له فأطلقه إنسان من يده لم يضمن. لأنه قد تسبب بين المُطْلِق وبين ضياع حق الدائن فعلُ فاعل مختار وهو هروب المدين، فلا يضاف التلف إلى مُطَلِقه من يد دائنه.

(4)

ولو أن رجلا في يده ثوب فأمسكه آخر وتشبث به فجذبه صاحب الثوب من يده فخرق الثوب ضمن الممسك نصف الخرق، لأن حق صاحب الثوب في دفع الممسك وعليه دفعه لغير جذب؛ فإذا جذب فقد حصل التلف من فعلهما فانقسم الضمان عليهما

(5)

ومن ذبح شاة غيره ونحوها مما يؤكل لحمه خير المالك بين إمساكها وتضمين الغاصب النقصان وإنشاء تركها على الغاصب وضمنه قيمتها.

وكذلك يثبت الخيار للمالك بين الإمساك والترك إذا قطع يدها أو طرفا من أطرافها ويثبت له هذا الخيار أيضا في غير مأكولة اللحم وإن كان بينهما فرق من حيث أنه إذا أمسك المأكولة له أن يُضمِّن الغاصب النقصان، لأنه إتلاف من وجه لفوات بعض المنافع كالحمل والدر والنسل وبقاء بعضها وهو اللحم، بخلاف غير المأكولة إذا اختار مالكها إمساكها لا يُضمِّنُه شيئا، وعليه الفتوى، لوجود الاستهلاك من كل وجمل

(6)

.

وإن فقأ عينى مأكول اللحم خير المالك كذلك فإن شاء تركه على الفاقئ وضمنه قيمته وإن شاء أمسكه وضمنه النقصان

(7)

.

ويكره إمساك الحمامات ولو في برجها إن كان يضر بالناس بنظر أو جلب حمامات أخر مملوكة لغيره وإذ جلب حماما ولم يَدْرِ صاحبها فالاحتياط أن يتصدق بها ثم يشتريها أو توهب

(1)

الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية السابقة جـ 6 ص 386.

جامع أحكام الصغار السابق ص 348 - 349.

(2)

المرجع السابق ص 349.

(3)

الفتاوى الهندية جـ 6 ص 88 الطبعة السابقة.

(4)

حاشية ابن عابدين على الدر المختار السابقة ج 6 ص 748 "مسائل شتى".

(5)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع السابق جـ 7 ص 374.

(6)

حاشية ابن عابدين على الدر المختار السابقة جـ 6 ص 193 كتاب الغصب.

(7)

المرجع السابق ص 610 باب الجناية على البهيمة.

ص: 132

له. وإن أمسكها ليطيِّرها فوق السطح مطلِعًا على عورات المسلمين ومكسرا زجاجات الناس برميه تلك الحمامات عزر ومنع أشد المنع فإن لم يمتنع بذلك ذبحها المحتسب ثم يلقيها مالكها.

وأما إمساك الطيور للاستئناس بها فمباح كشراء عصافير ليعتقها؛ وممسكها لذلك عدل مقبول الشهادة قال في المجتبى: لا بأس بحبس الطيور والدجاج في بيته؛ ولكن يعلفها وهو خير من إرسالها في السكك. وجاء في القنية؛ لو حبس بلبلا في القفص وعلفها لا يجوز.

وفى فتاوى العلامة قارئ الهداية: سئل هل يجوز حبس الطيور المفردة، وهل يجوز عتقها، وهل في ذلك ثواب؟ فأجاب: يجوز حبسها للاستئناس بها، وأما إعتاقها فليس فيه ثواب.

وعلق على ذلك ابن عابدين فى حاشيته على الدر المختاز بقوله: ولعل الكراهة في الحبس في القفص لأنه سجن وتعذيب دون غيره كما يؤخذ من مجموع ما ذكر، وبه يحصل التوفيق.

وإذا أمسك الطيور ليعتقها فلا تخرج عن ملكه بإعتاقه. فإذا وجدها بعد الإعتاق في يد غيره فله أخذها إلا إذا كان قال: من أخذها فهى له.

يكره لمن أمسك طيرا ونحوه أن يعتقه أو يسيّبه، لأنه تضييع المال، جاء ذلك في جامع الفتاوى.

(1)

ولكل من أهل السكة غير النافذة إمساك الدواب على باب داره، لأن إمساك الدواب في بلادنا من السكنى إذ الرسم في بلادنا إمساك الدواب على الأبواب ولو نافذة. فلكل من أهلها إمساك الدابة على باب داره بشرط السلامة.

(2)

ومن له دعوى على آخر فلم يجده فأمسك أهله للظَّلمة فحبسوهم وغرَّموهم عذِّر الممسك.

(3)

. ولو فرّ شخص من ظالم فأمسكه رجل حتى أدركه الظالم وغرّمه ففى قول يضمن الممسك. والمفتى به هو عدم الضمان. أما لو فر من سلطان أو اختفى فأمسكه رجل حتى أخذ وغرِّم لا يضمن الممسك في ظاهر الرواية.

(4)

ولو دخل بيت شخص بإذنه فأمسك إناء لينظر إليه فوقع لا يضمن وإن أخذه بلا إذنه بخلاف ما لو دخل في سوق يباع فيه بالإناء فأخذ إناء بلا إذن فوقع ضمن.

(5)

وفى إمساك الحاكم للمال وأخذ الحاكم له من مالكه تعزيرا اختلاف ائمة المذهب، فقال أبو حنيفة ومحمد: لا يجوز للحاكم ولا للقاضى ذلك وقال أبو يوسف: يجوز.

قال في المجتبى: ولم يذكر كيفية الأخذ، وأرى أن يأخذ كل منهما المال فيمسكه. فإن أَيس من

(1)

المرجع السابق ص 401 من باب "الحظر والإباحة" والفتاوي الهندية جـ 3 ص 467 الطبمة الثانية بالطبعة الأميرية سنة 1310 هـ.

(2)

جامع الفصولين لابن قاضى سماوة جـ 2 ص 271 الطبعة الأولى بالمطبعة الأزهرية.

(3)

حاشية ابن عابدين على الدر المختار جـ 4 ص 81 من باب

"التعزير" الطبعة الثانية بمطبعة الحلبى سنة 1386 هـ

(4)

جامع الفصولين السابق جـ 2 ص 115

(5)

المرجع السابق ص 160.

ص: 133

توبته صرفه إلى ما يرى. وجاء في الفتاوى البزازية: أن معنى التعزير بأخذ المال على القول به إمساك شئ من مال المعزَّر مدة لينزجر ثم يعيده الحاكم إليه لا أن يأخذه الحاكم لنفسه أو لبيت المال كما يتوهمه الظلمة. إذ لا يجوز لأحد من المسلمين أخذ مال أحد بغير سبب شرعى. واستظهر ابن عابدين فى حاشيته على الدر المختار ضعف تلك الرواية عن أبى يوسف. ونقل عن صاحب الشرنبلالية قوله: ولا يفتى بهذا أي بما روى عن أبى يوسف. لما فيه من تسليط الظلمة على أخذ مال الناس فيأكلونه. ومثله في شرح الوهبانية عن ابن وهبان. وجاء في شرح الآثار: أن التعزير بأخذ المال وإمساكه عن مالكه كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ.

(1)

ولو أمسك الحاكم من اعتاد القتل بالخنق وتكرر ذلك منه فإن كان إمساكه له قبل توبته قتله سياسة ولا تقبل توبته بعد ما أمسكة الحاكم ووقع في يده. أما إن تاب قبل إمساكه فتقبل توبته ولا يقتل.

(2)

ويجرى هذا على كل من كان كذلك كاللوطيّ والساحر والزنديق والسارق ونحو ذلك من الجرائم التي لا قتل فيها وتعظم بالتكرار وشرع القتل في جنسها

(3)

.

وفى إمساك الزانى المحصن حال إقامة الحد عليه بالرجم قال صاحب البدائع: لا ينبغى أن يربط المرجوم ولا أن يمسك ولا أن يحضر له إذا كان رجلا يقام عليه الحد قائما؛ لأن ما عزا لم يربط ولم يمسك ولا حفر له؛ ألا يرى أنه هرب من أرض قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة الحجارة. ولو ريط أو أمسك أو حفر له لما قدر على الهرب وإن كان المرجوم امرأة فإن شاء الإمام حفر لها، لأنه أستر لها وإن شاء لم يحفر لأنها مستورة بثيابها التي لا تجرد منها عند إقامة الحد عليها.

(4)

وكذلك لا يمسك المحدود بالجلد حال توقيع العقوبة عليه ولا يربط لكنه يترك قائما إلا أن يعجزهم فيشد ويمسك حينئذ

(5)

.

‌مذهب المالكية

إذا أمسك شخص شخصا ليقتله آخر فقتله فإنه يقتص من القاتل لمباشرته القتل. كما يقتص من الممسك أيضا بقيود ثلاثة وهى:

(أولا) أن يمسكه لأجل القتل.

(ثانيا) أن يعلم أن الطالب قاصد قتله لرؤيته آلة القتل بيده مثلا.

(ثالثا) وإن تبين أنه لولا إمساكه لما قدر القاتل على قتله أما إن أمسكه لأجل أن يضربه ضربا معتادا أو لم يعلم أنه يقصد قتله، أو كان قتله لا يتوقف على إمساكه له فإنه يقتل المباشر للقتل

(1)

حاشية ابن عابدين على الدر المختار السابق جـ 4 ص 61 من "التعزير".

(2)

المرجع السابق جـ 6 ص 543 - 544 من باب "الجنايات".

(3)

المرجع السابق جـ 4 ص 62،118 من باب "قطع الطريق والتعزير".

(4)

بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى جـ 7 ص 59 - 60 الطبعة السابقة.

(5)

الفتاوى الهندية السابق جـ 2 ص 146 الطبعة السابقة.

ص: 134

وحده وأما الممسك فإنه يعاقب أشد العقوبة بالضرب وغيره، ويحبس سنة.

وقيل: يحبس باجتهاد القاضي، وقيل: يجلد مائة فقط

(1)

.

ومن طرح إنسانا معصوم الدم في نهر وهو لا يحسن العوم في نفس الأمر على وجه العداوة والقتل فإنه يقتل به ولا قسامة خلافا لابن الحاجب. وسواء علم الطارح أن المطروح يحسن العوم أم لا.

وإن لم يكن الطرح عداوة بل كان على وجه اللعب وشبهه وهو لا يحسن العوم، أو كان يحسنه سواء كان على وجه العداوة أو اللعب فلا يقتل به.

وله عليه دية مخففة لا مغلظة

(2)

.

ولو ألقى شخص شخصا للسبع ونحوه فقتله فإن الملقى يقتل به بلا خلاف

(3)

.

وأن اتخذ شخص كلبا عرف عنه العَقْر بقِصِد قتل شخص معيّن وقتله فعلا فإنه يقتص ممن أمسكه لذلك. سواء تقدم له إنذار عن اتخاذه هذا الكلب من حاكم أو غيره أم لا أما إن قتل الكلب شخصا آخر غير المعيّن فلا قصاص على ممسكه وإنما تجب الدية فقط وكذلك تجب الدية إن اتخذ الكلب بقصد قتل غير معين وقتل شخصا، سواء تقدم له فيه إنذار أم لا وأما إذا اتخذه ولم يقصد بذلك ضرر أحد فقتل إنسانا فإن كان اتخذه لوجه جائز كدفع سبع أو حيوان صائل فلا شئ عليه إن لم يتقدم له فيه إنذار فإن تقدم له فيه إنذار قبل القتل ضمن الدية. وإن أمسكه واتخذه لا لوجه جائز ضمن ما أتلف سواء تقدم له فيه إنذار أم لا حيث عرف أنه عقور وإلا لم يضمن لأن فعله حينئذ كفعل العجماء.

(4)

ولا يختص ذلك بالكلب بل يشاركه فيه كل حيوان مؤذ أمسكه صاحبه واتخذه لذلك.

(5)

ومن يقام عليه حد الزنا أو القذف أو الشرب لا يُمسك حال إقامة الحد عليه ولا يربط ولا تشد يداه إلا أن يضطرب المضروب اضطرابا يجعل الضرب لا يصل إلى موضعه فيربط أو يُشد حينئذ ولا يجوز التعزير بأخذ مال المعزّر إجماعا. إلا أن يكون المال ثمنًا لما باعه مغشوشا فيجوز حينئذ أخذه والتصدق به جبرا

(6)

.

وإن أمسك شخص وثيقة بمال أو بعفو عن دم من صاحبها فضاع الحق بسبب ذلك فإن الممسك لا يضمنه بلا خلاف. وهذا إذا كان شاهدُ الوثيقة لا يشهد إلا بها أو نسى الشاهد ما تشهد به ولا يذكر الواقعة إلا بالوثيقة.

ومحل ذلك كله إذا لم يكن لها سجل يتيسر إخراج نظيرها منه وإلا لم يضمن ممسكها إلا ما

(1)

الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل بحاشية الدسوقى ج 4 ص 217 الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية سنة 1324.

شرح الخرشى على مختصر خليل بحاشية العدوى جـ 8 ص 9 الطبعة الثانية بالمطبعة الأميرية سنة 1317.

(2)

شرح الخرشى السابق ص 8.

(3)

شرح الخرشى السابق ص 11.

(4)

حاشية الدسوقى على الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل جـ 4 ص 216.

(5)

شرح الخرشى بحاشية العدوى السابق جـ 8 ص 8.

(6)

حاشية الدسوقى على الشرح الكبير السابق جـ 4 ص 314 - 315.

ص: 135

يغرمه صاحبها على إخراجها من السجل فقط.

(1)

‌مذهب الشافعية:

لو أمسك شخص إنسانا ولو للقتل فقتله آخر فالقصاص على القاتل فقط دون الممسك وذلك لما روى ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجلُ الرجلّ وقتله الآخر يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك"

(2)

. ولأن المباشرة أقوى من الشرطة وهو الإمساك - لأنه أي الإمساك لا يؤثر في الهلاك ولا يحصِّله بل يحصل التلف بغيره ويتوقف تأثير ذلك الغير عليه ولأن فعل المباشر يقطع أثر فعل الممسك لكن على الممسك الإثم والتعزير، لأنه فعل معصية لا حَدَّ فيها ولا كفارة.

وهذا كله إذا كان القاتل أهلا للضمان. أما إن كان القاتل غير أهل لذلك أو منع مانع من تعلق القصاص به كأن كان القاتل مجنونا هائجا أو سبعا ضاريا أو حية فلا أثر له في قطع فعل الممسك. لأن القاتل حينئذ يعتبر كالآلة في يد الممسك، فيتعلق القصاص بالممسك، لأنه يعد قاتله عرفا، ولأن المباشرة هنا غير مستقلة لوجود الإمساك معها.

(3)

فإن كان المجنون هادئا أو كل من السبع والحية غير ضارٍ فلا قصاص على الممسك ولا دية ولا كفارة ويضمن المجنون في ماله ويُهدَر المقتول عند قتل الحية أو السبع له لأن عدم الضراوة في واحد من المذكورين لا يجعله كالآلة في يد الممسك.

وهذا إذا كان المقتول حرا. أما إذا كان عبدا وأمسكه شخص ليقتله آخر فإن الممسك للعبد يضمنه حينئذ إذا مات بسبب إمساكه له. إلا أن استقرار الضمان في النهاية يكون على من باشر القتل. فيطالبه به الممسك إذا دفعه من ماله

(4)

.

ولو أمسك شخص شخصا وحبسه ومنعه الطعامَ والشرابَ أو أحَدَهما مدة يموت مثله فيها غالبا من الجوع أو العطش ومات فعلا فإنه يجب القصاص على الحابس. لظهور قصد الإهلاك به فيكون قتلا عمدا. وتختلف المدة باختلاف الممسك المحبوس قوة وضعفا والزمان حرا وبردا، ففقد الماء في الحر ليس كفقده في البرد.

(5)

وإن أمسك شخصًا وكتفه وطرحه في أرض مَسْبَعة - أي كثيرة السباع - أو طرحه بين يدى سبع فقتله لم يجب القصاص، سواء كان المقتول كبيرا أم صغيرا، لأنه لم يلجئه إلى قتله وإنما قتله السبع باختياره، فصار لمن أمسكه على من يقتله فقتله؛ ولأن السبع ينفُر بطبعه من الآدمى في الموضع المتسع فجعل إغراؤه له كالعدم" نعم إن كان السبع المغرى ضاريا شديد العدّوِ ولا يتأتى الهرب منه

(1)

الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل مع حاشية الدسوقى جـ 2 ص 113 الطبعة الأولى، بمطبعة السعادة سنة 329.

(2)

الحديث رواه الدارقطنى. وأخرجه من طريق الثورى عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر وأخرجه أيضا البيهقى ورجح إرساله (انظر نيل الأوطار جـ 7 ص 22 - 23) الطبعة السابقة.

(3)

أسنى المطالب شرح روض الطالب للأنصارى بحاشية الرملى الكبير جـ 4 ص 604، الطبعة الأولى، بالمطبعة الميمنية سنة 1312.

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين محمد الرملى بحاشية الشبراملسى جـ 7 ص 11، طبع المطبعة الأميرية.

(4)

أسنى المطالب شرح روض الطالب السابق ص 6.

(5)

أسنى المطالب شرح روض الطالب جـ 4 ص 4.

ص: 136

وجب القصاص على ما نقله الرافعى عن القاضي حسين وغيره وهو المعتمد وكذلك يجب القصاص إن طرحه ولو غير مكتوف في مضيق مع سبع يقتل غالبا كنمر وذئب أو حبسه مع السبع في بيت صغير أو بئر فقتله أو جرحه جرحا يقتل غالبا ومات به؛ لأنه ألجأ السبع إلى قتله، لأن الحيوان الضارى حينئذ يصير كالآلة.

وإن كتفه وتركه في موضع فيه حيَّات فعضته فمات لم يجب القصاص سواء كان المكان ضيقا أو متسعا، لأن الحية تهرب بطبعها من الآدمى فلم يكن تركه معها ملجئا إلى قتله بخلاف السبع فإنه يثبت عليه في المضيق دون المتسع

(1)

.

وإن أمسك شخصا وكتفه وألقاء مكتوفا في ماء مغرق فمات وجب القصاص، لأن إلقاءه فيه مع عدم تمكنه من النجاة مهلك غالبا. وسواء كان يجيد السباحة أم لا، لأنه لا يقدر عليها مكتوفا. وكذلك الحكم إن كان الماء لا يعد غرقا ويمكنه الخلاص منه عادة إذا مات بدون تقصير منه.

وكذلك يجب القصاص إن ألقاه غير مكتوف وهو لا يحسن السباحة أو كان زمنا أو ضعيفا فمات. وإن منعه من السباحة التي يحسنها عارض بعد الإلقاء كريح وموج مات فشبه عمد تترتب عليه آثاره. وإن أمكنه السباحة فتركها خوفا أو عنادا فلا دية ولا كفارة في الأظهر لأنه المهلك لنفسه، إذ الأصل عدم الدهشة.

ولو ألقاه مكتوفا بالساحل فزاد الماء وأغرقه فإن كان بمحل تعلم زيادته فيه غالبا فقتل عمد يوجب القصاص، وإن كانت الزيادة نادرة فشبه عمد؛ وإن كان لا يتوقع زيادة فيه فاتُّفِق سيلٌ نادرٌ فخطأ محض تجب فيه الدية مخفّفة.

(2)

وإن أمسك شخصٌ كلبا عقورا أو نحوه كدابة رموح

(3)

وربطه بباب داره أو دِهْليزها

(4)

ودعا إليه رجلا فعقره الكلب أو رفسته الدابة فمات فلا ضمان على من أمسك الكلب لا بقصاص ولا دية ولا كفارة. لأن الكلب ونحوه ظاهر يمكن دفعه بعصا ونحوها

(5)

.

وكذلك إن أمسك الكلبّ أو الدابة بداخل داره ودخلها رجل بغير إذن أو بإذن ولكنه أعلمه بحال الكلب أو الدابة فعضه الكلب أو رفسته الدابة فلا ضمان على الممسك لأن الداخل حينئذ هو المتسبب: في هلاك نفسه.

أما إن دخل الدار بإذن صاحبها ولم يعلمه بحال الكلب أو الدابة فعضّه الكلب أو رفسته الدابة فإنه يضمن وإن كان الداخل بصيرا كما لو وضع بين يديه طعاما مسموما فأكله

(6)

.

ويجوز إمساك الخمر المحترمة وهى التي يقصد بعصيرها الخل فإذا استحكمت الخمرة

(1)

أسنى المطالب شرح روض الطالب السابق جـ 4 ص 9 - 10 الطبعة السابقة.

المهذب للشيرازى السابق جـ 2 ص 176 طبعة مطبعة الحلبى سنة 1376 الطبعة السابقة.

(2)

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج بحاشية الشبراملسي السابق ص 10 الطبعة السابقة.

(3)

رموح من رمح كمنع يقال: رمحه الفرس أي رفسه (انظر القاموس المحيط جـ 1 ص 222 الطبعة الثالثة بالطبعة الأميرية).

(4)

الدهليز بالكسر ما بين الباب والدار. وجمعه الدهاليز (انظر القاموس المحيط جـ 2 ص 174).

(5)

أسنى الطالب السابق جـ 4 من 10 الطبعة السابقة

(6)

المرجع السابق ص 173 الطبعة السابقة

ص: 137

المحترمة وأيس أهل الصنعة من عودها خلّا إلا بصنع آدمى قال ابن الرفعة: الأشبه فيما نظنه أنه لا يجوز إمساكها.

وقال الرملى الكبير في حاشيته على أسنى المطالب: قد يقال: لما كانت محترمة لا يمتنع إمساكها لمنافع قد تعرض من إطفاء نار وعجن طين ونحوه

(1)

.

وإذا أمسك شخص خمرا عمدا مع علمه بحرمتها فإن ذلك لا يوجب رد شهادته لأنه ربما قصد بإمساكها التخليل أو التخلل.

(2)

وإذا أمسك شخص امرأة ليزنى بها آخر فإن الزانى هو الذي يحد دون الممسك

(3)

ولا تشديدا المجلود حال إقامة الحد عليه ليتمكن من الاتقاء بيديه، لما روى عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال: ليس في هذه مدّ ولا تجريد ولا غَلّ ولا صفد"

(4)

.

وظاهر كلامهم حرمة ذلك إن تأذى به المجلود وإلا كان مكروها.

(5)

وإمساك الحمام للبيض أو الفرخ أو الأنس به أو حمل الكتب مباح. ويكره إمساكه للعب به بالتطيير والمسابقة، ولا ترد شهادة الشخص بإمساكه لأجل ذلك إلا إذا انضم إليه قمار أو نحوُه فترد به الشهادة حينئذ

(6)

وسئل القفال عن حبس الطيور وإمساكها في أقفاص لسماع أصواتها وغير ذلك فأجاب بالجواز إذا تعهدها مالكها بما تحتاج إليه، لأنها كالبهيمة تربط

(7)

والراجح في إمساك الحيّات ونحوها ولو لِلّعب بها الحلّ إن غلبت السلامة في ذلك وإلا حرم.

(8)

ولو أمسك شخص شخصا وحبسه ولو ظلما عن ماشيته فهلكت جوعا أو عطشا بسبب حبسه فلا ضمان على الحابس وإن قصد منعه عنها، إذ لم تثبت يده على الماشية. ويجرى هذا الحكم على غير الماشية من الأموال.

(9)

وليس للغاصب إمساك العين المغصوبة وحبسها عن مالكها إذا عادت إليه بعد ضياعها أو سرقتها من يده وبعد أداء قيمتها لمالكها - لاسترداد القيمة التي دفعها للمالك. بل يلزمه أن يرد العين لمالكها أولا. لأنه عين حقه ثم يسترد قيمته كما أن المالك عليه أن يرد القيمة ويسترد عين حقه.

(10)

(1)

أسنى المطالب السابق جـ 2 ص 158 الطبعة السابقة.

(2)

أسنى المطالب شرح روض الطالب السايق جـ 4 ص 346 الطبعة السابقة.

(3)

حاشية الرملى الكبير على أسنى المطالب السابق جـ 4 ص 6 الطبعة السابقة.

(4)

المهذب لأبى إسحاق الشيرازى السابق جـ 2 ص 164 الطبعة السابقة.

(5)

حاشية البجرمى على الإقناع المسماة "تحفة الحبيب على شرح الخطيب جـ 4 ص 164 طبعة المطبعة الميمنية سنة 1310 هـ

(6)

أسنى المطالب شرح روض الطالب السابق جـ 4 ص 344 الطبعة السابقة.

(7)

مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للخطيب جـ 4 ص 192 طبعة المطبعة الميمنية سنة 1308 هـ

(8)

حاشية البجرمى على الإقناع للخطيب جـ 4 ص 370 المطبعة السابقة.

(9)

أسنى المطالب شرح روض الطالب السابق جـ 2 ص 239 الطبعة السابقة.

(10)

المرجع السابق جـ 2 ص 348 الطبعة السابقة.

ص: 138

‌مذهب الحنابلة:

إن أمسك شخص إنسانًا لآخر فقتله الآخر فلا خلاف أن القاتل يقتل قصاصًا لأنه قتل من يكافئه عمدًا بغير حق.

وأما الممسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه، لأنه متسبب والقائل مباشر فسقط حكم المتسبب بالمباشر.

وإن أمسكه ليقتله مثل أن أمسكه حتى ذبحه فاختلفت الرواية فيه عن أحمد:

فروى عنه أنه يحبس الممسك حتى يموت، ولا قصاص على الممسك ولا دية، لما روى الدارقطنى بإسناده عن ابن عمر مرفوعًا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "إذا أمسك الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل؛ ويحبس الذي أمسك".

(1)

وروى الشافعي عن علي رضى الله عنه أنه قضى في رجل قتل رجلًا متعمدًا وامسكه آخر قال: "يقتل القاتل ويحبس الآخر في السجن حتى يموت".

(2)

ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات فإنه يفعل به ذلك حتى يموت.

قال صاحب كشاف القناع: "ومقتضى كلام المصنف. أي صاحب فن الإقناع. أن الممسك يطعم ويسقى في حبسه؛ وفى المبدع: يحبس عن الطعام والشراب حتى يموت".

وروى عن أحمد أيضا: أن الممسك يقتل أيضا، قال سليمان بن أبى موسى: الاجتماع فنيا أن يقتل الممسك، لأنه لو لم يمسكه ما قدر القاتل على قتله. وبإمساكه تمكن من قتله فالقتل حاصل بفعل القائل والممسك فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه. وكذا لو أمسك شخص إنسانًا وفتح فمه فسقاه آخر سمًا فيقتل الساقى. ويحبس الممسك حتى يموت ولو قتل وليّ القتيل الممسك قال القاضي أبو يعلى: يجب عليه القصاص، لأنه تعمد قتله بغير حق في قتله وخالفه المجد في ذلك وصحح سقوط القصاص، لأن له شبهة في قتله، وهى اختلاف العلماء بناء على الروايتين السابقتين عن أحمد.

(3)

وإن كتف شخص شخصًا وطرحه في أرض ذات سباع أو أرض ذات حيّات فقتلته السباع أو الحيات فحكمه حكم الممسك أي يلزمه القصاص، لأنه فعل ما يقتل غالبًا. ذكر هذا القاضي والصحيح أنه لا قصاص فيه؛ وتجب فيه الدية؛ لأنه فعل فعلا متعمدًا لا يقتل غالبًا فتلف به فهو شبه عمد.

(4)

(1)

سبق تخريج هذا الحديث في مذهب الشافعية.

(2)

رواه الشافعي من طريق سفيان عن جابر عن عامر عن علي رضى الله عنه (انظر: نيل الأوطار للشوكانى جـ 7 ص 23) الطبعة السابقة.

(3)

كشاف القناع على متن الإقناع لابن إدريس الحنبلى وبهامشه شرح المنتهى لابن يونس البهوتى جـ 3 ص 372،244 الطبعة الأولى بالمطبعة العامرة الشرفية المغنى لابن قدامة وبهامشه الشرح الكبير جـ 9 ص 478،477. المطبعة الأولى بمطبعة دار المنار 1948.

(4)

المغني والشرح الكبير السابق ص 345.

كشاف القناع وشرح المنتهى جـ 3 ص 344.

ص: 139

أما إن أمسكه وكتفه وألقاه في أرض غير كثيرة السباع أو الحيات فأكله سبع أو نهشته حية فمات فشبه عمد بالاتفاق فيضمنه بالدية على عاقلته والكفارة في ماله. لأنه فعل فعلا تلف به وهو لا يقتل مثله غالبًا.

وكذلك إن ألقاء مشدودًا في موضع لم يعهد وصول زيادة الماء إليه أو موضع تحتمل زيادة الماء وعدمها فيه فوصلت الزيادة ومات بها فشبه عمد، لما سبق ذكره.

وإن كان يعلم زيادة الماء في ذلك الوقت وألقاه مشدودًا فمات فهو عمد يوجب القصاص لأنه يقتل غالبًا.

وكذلك إن ألقاه في ماء يغرقه أو نار لا يمكنه التخلص منهما إما لكثرتهما أو لعجزه عن التخلص لمرض أو ضعف أو صغر أو كان مربوطًا ونحو هذا فمات فعمد يوجب القصاص، لأن الموت حصل بعد فعل يغلب على الظن إسناد القتل إليه فوجب كونه عمدًا.

وكذا لو حبسه في بيت وأوقد فيه نارًا وسد المنافذ التي للبيت حتى اشتد الدخان وضاق به النفس فمات فعمد أيضا يوجب القصاص.

ويجب القصاص أيضا إن حبسه ومنعه الطعام والشراب أو أحدهما أو منعه الدفء في الشتاء ولياليه الباردة حتى مات جوعًا أو عطشًا أو بردًا في مدة يموت في مثلها غاليًا بشرط أن يتعذر عليه الطلب؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بالموت عند ذلك فإذا تعمده الإنسان فقد تعمد القتل. فإن لم يتعذر على المحبوس الطلب وتركه حتى مات فهدر؛ لأنه المهلك لنفسه. وإن كان حبسه مع منعه الطعام والشراب في مدة لا يموت فيها غالبا فهو عمد الخطأ لا يوجب القصاص وتختلف المدة التي يموت فيها غالبا باختلاف الناس والزمان والأحوال. وفى حالة الشك في كون المدة يموت فيها غالبا أم لا لم يجب القصاص، لعدم تحقق موجبه.

(1)

وإن حبس صغيرًا حرًا عن أهله فنهشته حية أو أصابته صاعقة ففيه الدية؛ لأنه تلف في يده العادية. وإن كان قَنًا ففيه القيمة.

وإن قيد حرا مكلفا وغله حتى مات بصاعقة أو حية وجبت الدية. كما تقدم في الصغير

(2)

.

وإن أمسك مقاتل مسلم في أثناء الحرب كافرًا محاربًا أو عانقه حتى جاء مسلم آخر فقتله فالسلب للقاتل فقط. لأنه هو الذي المسلمين شره فأشبه ما لو لم يعانقه الآخر

(3)

.

وإمساك الحيّة محرم وجناية توجب التعزير

(1)

المرجع السابق ص 235.

(2)

المرجع السابق ح 4 ص 4.

(3)

المغني والشرح الكبير السابق جـ 10 ص 323 الطبعة السابقة.

ص: 140

لمن يمسكها. لأنه إلقاء بالنفس إلى الهلاك، وقال تعالى:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"

(1)

.

ولو قتلت الحية ممسكها من مدعى المشيخة ونحوه فهو قاتل نفسه، لأنه فعل بها ما يقتل غالبا.

(2)

وكذلك يحرم إمساك الحمام لمن يلعب به بتطييره أو ليصيد به حمام غيره أو يراهن به، وترد شهادته بذلك. لأنه سفه ودناءه وقلة مروءة، ويتضمن أذى الجيران بطيره وإشرافه على دورهم ورميه إياهم بالحجارة، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يتبع حمامًا فقال:"شيطان يتبع شيطانة". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.

كما يكره إمساك طير وحبسه لنغمته، لأنه نوع تعذيب له. وقال مهنا؛ سألت أبا عبد الله عن بروج الحمام التي تكون بالشام فكرهها.

أما إن اتخذ الحمام لطلب فراخها أو لحمل الكتب أو للأنس بصوتها من غير أذى يتعدى إلى الناس فيباح له ذلك ولا ترد شهادته به. وقد روى عبادة بن الصامت أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الوحشة فقال: "اتخذ زوجا من الحمام".

(3)

ولا يربط المحدود حال إقامة الحد عليه ولا تشديده ولا يمسك. لقول ابن مسعود: "ليس في ديننا قد ولا قيد ولا تجريد". وهذا إذا كان المحدود رجلا. أما إذا كان امرأة فتمسك يداها وتشد عليها ثيابها، لأن المرأة عورة وهذا أستر لها لئلا تنكشف.

(4)

وإمساك مال الشخص الذي وجب عليه التعزير أو أخذه أو إتلافه عليه لا يجوز لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عن أحد يقتدى به، ولأن الواجب بالتعزيز أدب والأدب لا يكون بالإتلاف.

(5)

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "التعزير بالمال سائغ إتلافا وأخذا، وهو جاز على أصل أحمد لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها. وقول الشيخ أبي محمد المقدسى لا يجوز أخذ مال المعزر فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة".

(6)

"وقد استدل ابن تيمية على جواز ذلك في

(1)

الآية رقم 195 من سورة البقرة.

(2)

كشاف القناع وشرح المنتهى بهامشه جـ 3 ص 339 ج 76 الطبعة السابقة.

(3)

المرجع السابق جـ 4 ص 256 - 257، 324 نيل الأوطار للشوكانى جـ 8 ص 92 الطبعة السابقة المغني والشرح الكبير جـ 12 ص 37.

(4)

كشاف القناع السابق جـ 4 ص 94، 110.

(5)

المرجع السابق جـ 4 ص 74

(6)

الاختيارات العلمية بنهاية الفتاوى لابن تيمية جـ 4 ص 178 الطبعة الأولى بمطبعة كردستان العلمية بمصر 1329.

ص: 141

كتابه الحسبة في الإسلام. بأدلة متعددة منها أمر عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب رضى الله عنهما بأخذ شطر مال مانع الزكاة، وأمرهما أيضا بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر. وما فعله عمر بن الخطاب حيث رأى رجلا قد شاب اللبن بالماء للبيع فأراقه عليه.

(1)

وإن غضب شخص شخصًا حرا وحبسه مدة فعليه أجرة مثله ولو كان ذا صنائع وجب له أجرة أعلاها، لأن منفعة مال يجوز أخذ العوض عنها فضمنت كمنافع العبد

(2)

ولا يضمن الغاصب مهر الأمة لو أمسكها وحبسها عن النكاح حتى فات نكاحها لكبرها، لأن النفع إنما يضمن بالتفويت إذا كان مما تصح المعاوضة عليه بالإجارة والبضع ليس كذلك.

(3)

ولا يضمن الغاصب ربحا فات بإمساك مال تجارة وحبسه عن مالكه مدة يمكن أن يربح فيها لأنه لا وجود له.

(4)

وليس للغاصب إمساك العين المنصوبة وحبسها عن مالكها إذا عادت إليه بعد ضياعها وبعد أداء قيمتها لاسترداد القيمة بل يدفعان المغصوب وقيمته إلى عدل ينصبه القاضي يسلم كل واحد ماله قطعا للنزاع كما سيأتي في إمساك المبيع لاستيفاء الثمن.

(5)

ولو أمسك شخص شخصا وحبسه عن رعاية دوابه التي يملكها مثلا فتلفت الدواب بسبب ذلك لم يضمن حابسه الدواب. قال في المبدع: وينبغى أن يفرق بين الحبس بحق أو غيره.

(6)

وإن دخل طير مملوك لإنسان برج شخص فأغلق صاحب البرج عليه الباب ناويا إمساكه لنفسه ضمن لتعديه وإن لم يغلق عليه أو أغلقه غير ناوٍ إمساكه لنفسه بأن لم يعلم به أو نوى إمساكه لصاحبه فلا ضمان عليه لعدم تعديه. لكن عليه إعلام مالكه فورا إن علمه.

(7)

ولو أزال يد إنسان عن حيوان فهرب ضمنه إذا كان الحيوان مما يذهب بزوال اليد عنه كالطير والبهائم الوحشية والبعير الشارد. وكذا لو ضرب إنسان يد آخر وهو ممسك فيها دينارا مثلا فضاع الدينار ضمنه الضارب. لتسببه في إضاعته.

(8)

‌مذهب الظاهرية:

(1)

الحسبة في الإسلام ص 31 - 35 طبع المطبعة السلفية بالقاهرة 1387.

(2)

كشاف القناع السابق جـ 2 ص 341، 362 الطبعة السابقة.

(3)

المرجع السابق جـ 2 ص 340 المطبعة السابقة.

(4)

المرجع السابق جـ 2 ص 348 الطبعة السابقة

(5)

المرجع السابق جـ 2 ص 360 - 3610

(6)

المرجع الصابق جـ 2 ص 366

(7)

المرجع السابق جـ 2 ص 367

(8)

المرجع السابق جـ 2 ص 365.

ص: 142

قال ابن حزم: إذا أمسك شخص إنسانا للقتل فلا قصاص على الممسك، وذلك لأن النبي صلى عليه وسلم قد نص على أنه "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل ترك دينه، أو زنى بعد إحصان أو قتل نفسا"

(1)

والممسك لا يسمى في اللغة ولا في الشريعة قاتلا.

فالممسك ليس قاتلا لكنه حبس إنسانا حتى مات، وقد قال الله تعالى:{والحرمات قصاص}

(2)

فكان الممسك للقتل سببا ومتعديا فعليه مثل ما فعل فواجب أن يفعل به مثل ما فعل فيمسك محبوسا حتى يموت.

وهو قول على بن أبى طالب ولا يعرف له مخالف من الصحابة. ولا عبرة بطول المدة أو قصرها إذا لم يأت بمراعاة ذلك نص ولا إجماع.

وقد روى في ذلك أثر مرسل عن إسماعيل بن أمية قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل يمسكه رجل لآخر فقتله بأن يقتل القاتل، ويحبس الممسك"

(3)

كما روى أيضا خبرا أثبته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" يحبس الصابر للموت كما حبس ويقتل القاتل"

(4)

يعنى يحبس الذي أمسك. وتفريق الرسول صلى الله عليه وسلم بين حكم الحابس وبين حكم القاتل بيان جليّ

(5)

.

ومن أمسك آخر حتى فقئت عينه أو قطع عضوه أو ضرب فإن القصاص يكون على من باشر ذلك منه بمثل ما فعل أما الآخر الذي أمسكه فيعاقب عقوبة موجعة منكلة ويسجن على ما يراه القاضي. لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده"

(6)

. ولأمره بالتعزير في كل ما دون الحد عشرة أسواط فأقل.

ولا يخالف هذا شيئا مما سبق في الإمساك للقتل، لأن الحكم في هذا قول الله تعالى:{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}

(7)

فكل من فعل فعلا يوصف به وكان به متعديا فإنه يجب أن يعتدى عليه بمثله بأمر الله تعالى. فالممسك آخر حتى قتل ممسك له وحابس حتى مات وليس قاتلا فالواجب أن يحبس حتى يموت فهو مثل ما اعتدى به

(8)

وإذا أمسك شخص امرأة حتى يزنى بها غيره أقيم الحد على من باشر الزنى أما من أمسك المرأة فليس زانيا ولا يسمى زانيا ولا يقام عليه حد الزنى. لأن الممسك لا يسمى باسم الفاعل على ما أمسك له

(9)

.

ولو أمسك شخص شخصا لأسر فقتله، أو

(1)

رواه الجماعة عن ابن مسعود (انظر: نيل الأوطار للشوكانى جـ 7 ص 5) الطبعة السابقة.

(2)

الآية رقم 194 من سورة البقرة.

(3)

رواه إسماعيل عن سعيد بن المسيب (انظر نيل الأوطار للشوكانى جـ 7 ص 23) الطبعة السابقة.

(4)

رواه ابن المبارك عن معمر عن سفيان عن إسماعيل (انظر نيل الأوطار للشوكانى جـ 7 ص 23) الطبعة السابقة.

(5)

المحلى لأبن حزم جـ 10 ص 511، 513 - 514 رقم المسألة 2090 طبع المطبعة المنيرية.

(6)

رواه أبو سعيد الخدرى عن الرسول صلى الله عليه وسلم انظر: المحلى لابن حزم جـ 1 ص 32 مسألة رقم 48)

(7)

الآية 194 من سورة البقرة

(8)

المحلى لابن حزم السابق جـ 10 ص 427 - 428 مسالة رقم 2029

(9)

المرجع السابق ص 513 مسألة رقم 2090

ص: 143

لمجنون فقتله فالممسك هنا هو القاتل فعليه القصاص بخلاف إمساكه إياء ليقتله من يعقل.

وكذلك يلزمه القصاص إن أمسكه وطرحه إلى الأسد أو الكلب

(1)

.

وإن حبس شخص شخصا بلا طعام ولا شراب حتى يموت حبس حتى يموت لا يطعم ولا يسقى ولا تراعى المدة أصلا

(2)

.

وإن خرج رجل في طلب دابة فنادى رجلا: أمسكها أو احبسها على، فصدمته فقتلته فلا ضمان على الذي أمره بحبسها، لأنه لم يتعد عليه ولا باشر إتلافه بذلك.

وكذلك من ضم صغيرا إلى دابة - أي أمسكها بجوارها - فرفسته الدابة فقتلته فلا ضمان عليه لأنه لم يباشر إتلافه و "جرح العجماء جبار".

وكذلك لا ضمان على من حمل صبيا فسقط في مهواة فمات الصبى إن كان موته من الوقعة لا من وقوع حامله عليه.

(3)

ولا ضمان على صاحب البهيمة فيما جنته فى مال أو دم ليلا أو نهارا لكن يؤمر صاحبها بضبطها فإن ضبطها فذاك. وإن عاد ولم يضبطها بيعت عليه

(4)

.

ومن ترك دابته بفلاة ضائعة فأخذها إنسان فقام عليها فصلحت، أو عطب في بحر أو نهر فرمى البحر متاعه فأخذه إنسان أو غاص عليه إنسان فاخذه فكل ذلك لصاحبه الأول ولا حق فيه لمن أخذ شيئا منه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام"

(5)

.

من وجد متاعه إذا أخذه أن يؤدى إلى الذى وجده عنده ما أنفق عليه، لأنه لم يأمره فهو متطوع بما أنفق.

(6)

وإذا أمسك الرجل حبلا يتعلق به آخر في بئر ونحوه فإن انقطع الحبل أو ضعف الممسك عن إمساكه فسقط المتعلق فمات فلا شَيْء على الممسك في كل ذلك. لأن المتعلق في انقطاع الحبل جان على نفسه بجذب الحبل فإنما انقطع من فعله لا من فعل الممسك الواقف على البئر. وأما انفلات الحبل من يد الممسك الواقف على رأس البئر فإنه لم يتول إلقاءه لكن غلب عليه فلم يباشر فيه شيئا أصلا.

وكذلك لو كان يمسك بالحبل ليستقى من البئر فغلب فلم يقدر على إمساك الدَلو ففتح يديه فوقع الدلو على إنسان يعمل في البئر فقتله فلا شيء عليه في ذلك. لأنه لم يباشر قتله ولا

(1)

المرجع السابق جـ 12 ص 347 مسألة رقم 2115 الطبعة السابقة.

(2)

المرجع السابق جـ 12 ص 54 مسألة رقم 2027 الطبعة السابقة.

(3)

المرجع السابق جـ 12 ص 348 مسألة رقم 2116 الطبعة السابقة.

(4)

المرجع السابق جـ 8 ص 584 مسألة رقم 1266 الطبعة السابقة.

(5)

المرجع السابق جـ 9 ص 103 - 104 مسألة رقم 1253 الطبعة السابقة

(6)

المرجع السابق جـ 9 ص 105 مسألة رقم 1254 الطبعة السابقة.

ص: 144

عمل شيئا. أما إن كان ذلك لضعف الحبل فهو قاتل خطأ والدية على العاقلة. وعليه الكفارة لأنه مباشر لقتله.

(1)

‌مذهب الزيدية:

لو أمسك رجل رجلا أو صبره - أي حبسه - حتى جاء غيره ممن تضمن خبايته كالآدميّ فقتله فالقصاص على من باشر القتل لا على الممسك والحابس، لقوله تعالى:{فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}

(2)

ولحديث: "يقتل القاتل ويصبر الصابر"

(3)

.

هذا ويجب على الممسك والحابس التوبة من ارتكاب هذا الإثم. كما يجب على الإمام تأديبهما إذا كانا متعديين. لقوله صلى الله عليه وسلم "من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقى الله مكتوبا بين عينيه آيس من رحمه الله" رواه ابن ماجة والأصبهانى، وروى البيهقى نحوه.

وأما لو أمسكه أو حبسه حتى قتله من لا تضمن جنايته كالسبع ونحوه فيضمن الممسك أو الحابس دية المقتول إذا لم يلجئ السبع إليه، ويلزمه القصاص إذا ألجأه إليه بأن جمع بينه وبين السبع في مكان ضيق.

(4)

ومن أمسك غريقا يريد إنقاذه فثقل عليه وخشى إن أتم الإمساك أن يتلفا معا فأرسله من يده لخشية تلفهما معا فهلك فإنه يضمن وإن كان في الأصل محسنا بإرادة إنقاذه. لأنه مباشر في هذه الجنايه بالإرسال. ولا يجوز له أن يستفدى نفسه بقتل غيره، ولهذا وجب الضمان للفريق ذكر ذلك الفقيه حسن.

قال مولانا عليه السلام: وهو موافق للقياس قياسا على المكره. إلا أنا نقول: إن كان قد أخرج رأسه من الماء فلما أرسله انغمس فهلك فذلك صحيح. وإن أرسله قبل أن يخرج رأسه من الماء ففى تضميته نظر، لأنه لم يهلك بإرسال الممسك حينئذ بل برسوبه في الماء وانسداد منافسه وهو حاصل من قبل إمساكه وإرساله. فالأقرب عندى أنه لا يضمن بإرساله بعد إمساكه في هذه الصورة.

فإن كان الفريق هو الممسك (بكسر السين) واستفدى نفسه بالإرسال فلا ضمان مطلقا. فإن هلك الممسك (بفتح السين) بإمساك الفريق ضمنه من ماله في تركته.

أما إن هلك الممسك (بفتح السين) ونجى الفريق فإنه يقتل به:

وفى جواز إرسال الفريق بعد إمساكه رأيان:

قيل: يجوز إرساله ويضمن. لأنه صار هالكا بكل حال فجاز له الارسال لئلا يهلكا معا.

وقيل: لا يجوز كالمكره على قتل الغير.

قال صاحب الأثمار: يجوز إرسال الغريق بعد إمساكه لخشية تلفهما بل لا يبعد وجوبه

(1)

المرجع السابق جـ 12 ص 330 - 321 مسألة رقم 2111

(2)

الآية رقم 194 من سورة البقرة

(3)

سبق تخريج هذا الحديث في مذهب الظاهرية

(4)

شرح الأزهار جـ 4 ص 409 الطبعة الثانية. مطبعة حجازى 1358 والتاج المذهب جـ 4 ص 287 طبعة أولى مطبعة دار إحياء الكتب العربية، البحر الزخار ح 5 ص 228 مطبعة السنة المحمدية، طبعة أولى 1368.

ص: 145

ولا ضمان مطلقا، لأن الإمساك لم يكن منجيا له من الغرق.

(1)

ومن حبس شخصا حتى مات جوعا أو عطشا أو بردا أو حرا فإنه يجب عليه القصاص لأنه قاتل عمدا عدوانا وإن لم يكن القتل بفعله.

والفرق بين هذا وما سبق أن في الأول قد وجد من يتعلق به الضمان بالمباشرة وهو القاتل. ولا شيء على المسبب مع وجود المباشر. وأما هنا فإنه لم يوجد من يتعلق به الضمان إلا المسبب وهو الحابس.

ومن ربط غيره بين يدى سبع فقتله السبع أو في أرض مسبعة فقتلته السباع فلا قصاص عليه، لأن من طبع السبع النفور عن الإنسان فأكله له حينئذ باختياره فهو مباشر كالقاتل مع الممسك. ولا دية عليه أيضا في هذه الحالة.

وقيل: يضمن الدية؛ إِذْ لم يوجد من يتعلق به الضمان.

أما إذا ربطه وجمع بينه وبين السبع في موضع ضيق فإنه يلزمه القصاص. لأنه ألجأ السبع إليه.

هذا في السبع. أما الحيَّة ونحوها فلا قصاص على من ربط غيره بين يديها أو في أرض تكثر بها أو جمع بينه وبينها في مضيق فقتلته، لأن الحية لا تشجع في مضيق بخلاف السبع.

(2)

ولو ضم شخص صبيًا ضمًا غير معتاد فمات فهو مباشر لقتله غير مسبب فيجب القصاص عليه أو الدية إن عفا عنه، وذلك حيث قصد القتل أو لم يقصد القتل أو لم يقصده لكن مثله يقتل في العادة. وأما إذا ضمه ضمًا معتادًا فهلك الصبى فهى جناية خطأ مضمونة.

(3)

وكذلك يضمن الصبى إذا أعطاه شخص شيئًا كسكين أو نار فجنى على نفسه.

(4)

وإن أمسك شخص بدابة وجنت جناية برأسها أو فمها فعلى الممسك ضمان ذلك

(5)

ويجب على متولى الحفظ -أي الممسك- للحيوان من مالك أو مستأجر أو مستعير أو مرتهن لزمه الحفظ ضمان جناية غير الكلب ليلًا لا نهارًا. فإذا جنى الحيوان في الليل سواء كان عقورًا أم ضمن متولى الحفظ حيث فرط، لأن الحفظ في الليل واجب عليه حيث جرى العرف بحفظها في الليل وإرسالها في النهار، فإن جرت العادة بعكس ذلك انعكس الحكم.

ولا شيء من الضمان إذا جرت العادة بعدم

(1)

شرح الأزهار جـ 4 ص 419 التاج المذهب السابق جـ 4 ص 299.

(2)

شرح الأزهار السابق جـ 4 ص 410 الطبعة السابقة. البحر الزخار السابق جـ 5 ص 229 الطبعة السابقة.

(3)

شرح الأزهار السابق جـ 4 ص 425 الطبعة السابقة، التاج المذهب. السابق جـ 4 ص 306 الطبعة السابقة.

(4)

شرح الأزهار السابق جـ 4 ص 424 الطبعة السابقة

(5)

المرجع السابق جـ 4 ص 427 الطبعة السابقة

ص: 146

حفظ الدواب.

وأما الكلب فإنه لا يمسك في الليل بل يرسل فيه؛ فلا يضمن ما جناء ولو في الطريق ونحوها؛ لأنه محتاج إلى إرساله بالليل للحفظ دون النهار فيجب حفظه بربطه في النهار فإن جنى خلال النهار ضمنت جنايته ولو غير عقور حيث لا يعتاد إرساله في النهار وعلى متولى الحفظ ضمان جناية البهيمة العقور من كلب أو فرس أو ثور أو نحوه وإنما يضمن حيث كان مفرطًا في حفظه حفظ مثله مع علمه بأنه عقور مطلقًا أي سواء كانت الجناية في مرعاها أم في غيره ليلا أم نهارًا في غير الكلب حتى ولو جنى ذلك العقور على أحد في ملك صاحبه وكان داخلًا بإذن المالك، لأنه مع الإذن غار له بالدخول إذ لم يخبره أن العقور فيه. فإن كان المالك جاهلًا وجوده في ذلك المكان أو جاهلًا كونه عقورًا أو دخل الداخل بغير إذن لم يضمن ذو الحفظ - أي الممسك.

(1)

ولا تشد يدا المجلود حدًا أو تعزيرًا إلى عنقه بل ترسل عند الضرب. وكذا لا تقيد رجلاه. ولا يمد على بطنه. وسواء في ذلك الرجل والمرأة.

وكذلك تترك لهما -أي المرأة والرجل- أيديهما يتوقِيان بها الحجارة في حال إقامة حد الزنى بالرجم بالحجارة.

(2)

ويجوز إمساك الحمام واتخاذه للأنس برنّته وهديله. "لأمره صلى الله عليه وسلم منْ شكا الوحشة باتخاذ زوج حمام"

(3)

.

وقول الهادى والناصر بأن إمساك الشخص للحمام يجرح عدالته محمولٌ على إمساكها واتخاذها للمسابقة على جهة القمار.

وكذلك يجوز إمساكها بفرض استنتاجها لأكل أولادها وللتجارة كغيرها.

(4)

وليس لمن تعذر عليه استيفاء حقه إمساك وحبس حق خصمه ولا استيفاؤه إلا بحكم لقوله صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك".

(5)

(1)

التاج المذهب جـ 4 ص 321 - 322 الطبعة السابقة.

(2)

شرح الأزهار السابق جـ 4 ص 239، 347 الطبعة السابقة

(3)

لم أعثر على تخريج لهذا الحديث

(4)

البحر الزخار السابق جـ 5 ص 26

(5)

البحر الزخار السابق جـ 3 ص 296 والحديث رواه عن أبى هريرة أبو داود والترمذى وقال: حديث حسن وأخرجه أيضا الحاكم وصححه (انظر: نيل الأوطار جـ 5 ص 297).

ص: 147

‌مذهب الإمامية:

من أمسك إنسانًا حتى جاء آخر فقتله فالقصاص على القاتل دون الممسك، لكن يحبس الممسك أبدا حتى يموت.

ولو أمسكه وكتفه وألقاه في أرض مسبعة فافترسه الأسد فلا قصاص ويضمن ديته اتفاقًا

(1)

والمجنون الضارى كالسبع.

ولو حبسه عن الطعام وجوّعه حتى مات جوعًا وجب القصاص. وكذا لو حبسه مدة عن الشراب لا يحتمل مثله الصبر عنه فمات لزمه القصاص.

(2)

وإذا أخذ صغيرًا فحبسه ظلمًا فوقع عليه حائط أو قتله سبع أو لسعته حية أو عقرب فمات كان عليه ضمانه. وأما إذا مات حتف أنفه فلا ضمان عليه.

وإذا طرح شخصًا في النار على وجهه لا يمكنه الخروج منها فمات كان عليه القصاص بلا خلاف فإن طرحه بحيث يمكنه الخروج فلم يخرج حتى مات لم يكن عليه قصاص.

وكذا إذا ألقاه في لُجَّة البحر فهلك وجب عليه القصاص؛ سواء كان يحسن السباحة أو لم يكن يحسنها.

وإن ألقاه بقرب الساحل وكان مكتوفًا فمثل ذلك. سواء كان يحسن السباحة أم لا

(3)

وإن ألقاه في ماء فأمسك نفسه تحت الماء مع القدرة على الخروج حتى مات فلا قصاص ولا دية على من ألقاه

(4)

.

وإن أمسك يد إنسان وعضها فأنتزع المعضوض يده فسقطت أسنان العاض كانت هدرًا. ولو عدل إلى تخليص نفسه بلكمة أو جرحه إن تعذر التخلص بالأخف جاز ولو تعذر ذلك جاز أن يبعجه بسكين أو خنجر. ومتى قدر على التخلص بالأسهل فتخطى إلى الأشق بضمن.

(5)

وإذا دخل رجل دار قوم بإذنهم فعقره كلبهم - الممسك بدارهم - كان عليهم ضمانه.

(6)

ولو أمسك شخص صانعًا وحبسه عن مزاولة صنعته لم يضمن الممسك أجرته ما لم ينتفع به لأن منافعه في قبضته.

ولو حبس مالك الماشية عن حراستها فاتفق تلفها ففى الضمان تردد؛ وكذا لو غصب شاة فمات ولدها جوعًا

(7)

(1)

الخلاف في الفقة للطوسي جـ 2 ص 354 رقم 7 الطبعة الثانية بمطبعة تابان بطهران 1352 هـ شرائع الإسلام في الفقة الإسلامي الجعفرى جـ 2 ص 266 طبعة دار مكتبة الحياة ببيروت لبنان.

(2)

تحرير الأحكام ليوسف بن مطهر المحلى جـ 2 ص 242،241 طبعة حجر 1314.

(3)

الخلاف في الفقة السابق جـ 2 ص 348 مسألة رقم 19، 20، 21. الطبعة السابقة.

(4)

شرائع الإسلام السابق جـ 2 ص 265

(5)

المرجع السابق جـ 2 ص 263.

(6)

الخلاف في الفقه السابق جـ 2 ص 499.

(7)

المرجع السابق جـ 2 ص 150 - 151 الطبعة السابقة.

ص: 148

‌مذهب الإباضية:

يقتص ممن أمسك إنسانًا لواحد أو جماعة ليقتلوه وهو يعلم ذلك. كما يقتص أيضا ممن باشر القتل واحدًا كان أو جماعة.

أما إن أمسكه واحد يظن أنهم يؤدبونه فقتلوه فلا يقتل الممسك

(1)

وإن ربط شخص شخصًا أو حبسه حتى قتله سبع أو حية أو عقرب أو نحوهما من الهوام القاتلة. أو قتله بردٌ أو عطشٌ أو نحوهما كحرق وغرق وهدم فعليه ديته ولا يقتل وكذا إن حصل بذلك زوال عضو من أعضائه فعليه أرش ذلك العضو ولا قصاص. وإن أمسكه ورماه على حيّة ونحوها أو على سبع أو في بئر أو في بحر أو من عمال فمات من ذلك قتل به.

ومن أعطى لطفل أو مجنون ونحوه من كل من لا يعرف ما يضر حيّة فلسعته أو عقربًا أو نحوها فمات لزمته الدية لا القصاص.

ومن أركب طفل غيره أو نحوه على الداية فهلك ضمنه.

(2)

ويكره للذابح أن يمسك الذبيحة بعد ذبحها بل يدعها تتحرك حتى تموت إلا إن رجالها سلامة في ذلك أكثر من تركها فلا يكره.

وإن كان الإمساك يعين على موتها عادة فهو من المفسدات وإلا فلا تفسد به فتؤكل.

ومن المحفوظ: أنه إن أمسك أرجل الذبيحة كلها فسدت فلا تؤكل. أما إن أطلق بعضها فلا تفسد

(3)

ومن ذبح شاة أو غيرها وأمسكها حتى ماتت فسدت إن لم تتحرك بعد ترك إمساكها، سواء كانت مريضة أم لا؛ لاحتمال أنها قد ماتت قبل الذبح. فإن تحرك ما أمسكه منها أو غيره حلت. وإن لم يتحرك احتمل أنه منع من تحرك ما أمسكه منها إمساكه؛ واحتمل أنه لا يتحرك حتى ولو أطلقه فلم يتيقن تحركه ولا عدمه فلم يحكم بحلها.

والمختار: أن تؤكل إن كانت صحيحة مطلقا، سواء تحركت بعد الإطلاق أم لا.

وسواء أمسكها أم لم يمسكها أصلا ما دام قد ذكاها. أما إن كانت مريضة فلا تؤكل حتى تتحرك، سواء أمسكها أم لم يمسكها.

(4)

‌إمساك المحرم الصيد وإمساكه الصيد بالجوارج

‌مذهب الحنفية:

لو أصاب الحلال صيدًا ثم أحرم فإن كان ممسكًا إياه بيده وجب عليه إطلاقه ليعود به إلى الأمن الذي استحقه بالإحرام. فإن لم يرسله حتى هلك في يده يضمن قيمته وإن أرسله إنسان من يده ضمن له قيمته في قول أبى حنيفة. لأنه أتلف صيدًا مملوكًا للمحرم لأنه أخذه وهو حلال فيضمن المرسل كما لو أتلفه قبل الإحرام.

(1)

شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد اطفيش جـ 8 ص 97 - 98 طبع الطبعة السلفية في القاهرة سنة 1243.

(2)

المرجع السابق جـ 8 ص 177 - 171

(3)

المرجع السابق جـ 2 ص 529 طبع مطبعة الباروني وشركاه.

(4)

المرجع السابق جـ 2 ص 525 - 526 الطبعة السابقة.

ص: 149

وعند أبى يوسف ومحمد: لا يضمن لأن الإرسال كان واجبًا على الملحرم حقًّا لله فإذا أرسله الأجنبى فقد احتسب بالإرسال فلا يضمن كما لو أخذه وهو محرم فأرسله إنسان من يده.

وإن كان ممسكًا إياء في قفص معه أو في بيته لا يجب إرساله حتى أنه لو لم يرسله فمات لا يضمن. لأن ملكه لم يزل عنه بطروء الإحرام.

وهذا التفصيل فيما إذا كان طيرًا أو وحشًا وإلا فيجب إرساله للحلّ على وجه غير مضيع له كأن يودعه أو يرسله في قفص ونحوه.

وهذا كله فيما إذا أمسكه وهو حلال ثم أحرم أو دخل الحرم ممسكًا به ولو حلالًا أما إذا أمسكه في الحلّ أو الحرم وهو محرم أو في الحرم وهو حلال فإنه يجب عليه إطلاقه بالإجماع؛ سواء كان ممسكًا إياه في يده أو في قفص معه أو في بيته، لأن الصيد استحق الأمن بإحرامه وفى الحرم؛ وقد فوت عليه الأمن بالأخذ فيجب عليه إعادته إلى حالة الأمن التي كان عليها وذلك بإطلاقه وإرساله.

ولو لم يرسله حتى هلك فعليه الجزاء. وإن أرسله محرم من يده فلا شيء على المرسل لأن الصائد لم يملك الصيد بإمساكه له فلم يصر بالإرسال متلفًا ملكه وإنما وجب عليه الإرسال ليعود إلى حالة الأمن فإذا أرسله فقد فعل ما وجب عليه.

وإن قتله فعلى كل واحد منهما جزاء أما القاتل فلأنه محرم من قتل صيدًا وأما الآخر فلأنه فوت الأمن على الصيد بالأخذ وإنه سبب لوجوب الضمان. إلا أنه يسقط بالإمساك فإذا تعذر الإرسال، ويسقط وللآخذ أن يرجع بما ضمن على القاتل عند أصحابنا الثلاثة. وأما الممسك فلأنه فوت الأمن على الصيد بإمساكه له وهو سبب لوجوب الضمان. إلا أنه يسقط بالإرسال فإذا تعذر الإرسال لم يسقط والممسك أن يرجع بما ضمن على القاتل عند أبى حنيفة وصاحبه خلافًا لزفر.

وإذا ملك الصيد وهو حلال وأرسله لإحرامه أو دخوله الحرم فإنه يكون له إمساكه في الحل. وله أخذه من إنسان أخذه من الحل أو الحرم، لأنه لم يخرج عن ملكه لأنه ملكه وهو حلال بخلاف ما لو أخذه وهو محرم فليس له إمساكه بعد إرساله وليس له أخذه منه؛ لأنه لم يملكه ولأنه لم يرسله عن اختيار لأن الشرع ألزمه بإرساله فكان مضطرًا شرعًا إليه.

(1)

(1)

بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى جـ 2 ص 206 الطبعة الأولى بمطبعة شركة المطبوعات العلمية بالقاهرة 1327 هـ. حاشية عابدين المسماة: رد المختار على المختار شرح تنوير الأبصار جـ 2 ص 572، 574، 576 الطبعة الثانية بمطبعة الحلبى سنة 1286 هـ.

ص: 150

هذا في إمساك الصيد في الحرم أو للمحرم ولو في الحلّ.

وأما بالنسبة لإمساك الصيد بواسطة الجوارح من الحيوانات التي يصطاد بها لغير المحرمين فهذه تنقسم إلى قسمين: (الأول منهما) ذو الناب من السباع كالكلب والفهد.

(والثانى) ذو المخلب من الطير كالصقر والبازى فأما الأول وهو الكلب ونحوه فيشترط في حل الصيد به ليؤكل صيده أن يكون معلمًا إمساك الصيد لصاحبه. فإذا تحقق ذلك دل على أنه قد صار معلمًا فيحل أكل صيده ودليل ذلك من القرآن قوله عز وجل: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}

(1)

ففى الآية الكريمة إشارة إلى أن حدّ تعليم الكلب وما هو في معناه ما ذكر وهو الإمساك على صاحبه وترك الأكل منه؛ لأنه شرط التعليم ثم أباح أكل ما أمسك علينا فكان هذا إشارة إلى إن التعليم هو أن يمسك علينا الصيد ولا يأكل منه.

ومن السنّة ما روي عن عديّ بن حاتم الطائي عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل. فإنى أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه"

(2)

.

وأما المعقول فمن وجهين: (أحدهما) أن أخذ الصيد وقتله مضافٌ إلى صاحبه وإنما الكلب آلة الأخذ والقتل. وإنما يكون مضافا إليه إذا أمسك لصاحبه لا لنفسه؛ لأن العامل لنفسه يكون عمله مضافا إليه لا إلى غيره والإمساك على صاحبه أن يترك الأكل منه.

(الثاني) أن تعليم الكلب ونحوه هو تبديل طبعه وفطامه عن العادة المألوفة ولا يتحقق ذلك إلا بإمساك الصيد لصاحبه وترك الأكل منه لأن الكلب ونحوه من السباع من طبعه أنه إذا أخذ صيدًا فإنما يأخذه لنفسه ولا يصبر على عدم التناول منه، فإذا أخذ الصيد ولم يتناول منه دل ذلك على أنه ترك عادته حيث أمسك لصاحبه ولم يأكل منه فإذا أكل منه دل على إنه على عادته فثبت أن معنى التعليم لا يتحقق إلا بما ذكر وهو أن يمسك الصيد لصاحبه ولا يأكل منه.

ونظرًا لأن حال الكلب ونحوه في إمساك التقتيد وترك الأكل منه يختلف فقد يمسك للتعليم وقد يمسك للشبع لم يدر فيه الإمام أبو حنيفة تقديرًا معينًا بل قال في الرواية المشهورة عنه: يرجع في ذلك إلى أهل الصناعة.

وقال أبو يوسف ومحمد: إذا أمسك لصاحبه وترك الأكل ثلاث مرات دلّ على أنه معلم فيؤكل ما أمسكه من صيد بعد ذلك.

ولو أمسك الكلب الصيد وجرحه وشرب من دمه يؤكل. لأنه قد أمسك الصيد على صاحبه وذلك من غاية تعلمه حيث تناول ما لا يصلح لصاحبه وامسك عليه الطيّب الذي يصلح له.

(1)

الآية رقم 4 من سورة المائدة.

(2)

رواه البخاري وأحمد. انظر: نيل الأوطار للشوكائى جـ 1 ص 133 الطبعة الأولى بالمطبعة العثمانية 1357.

ص: 151

وكذلك يؤكل الصيد لو أخذه صاحب الكلب بعد إمساك الكلب له ثم وثب الكلب على الصيد فأخذ منه قطعة فأكلها والصيد في يد صاحبه؛ لأن الأكل بعد ثبوت يد الآدمى عليه بمنزلة الأكل من غيره فلا يقدح في تعليمه ولا في إمساكه على صاحبه.

وأما النوع الثاني وهو الصقر ونحوه من كل ذى مخلب فلا يشترط لحل أكل صيده الإمساك على صاحبه حتى لو أخذ الصيد فأكل منه فلا بأس بأكل صيده. لأن التعليم يترك العادة والطبع والصقر من عادته التوحش من الناس والتنفر منهم بطبعه فألفه الناس وإجابته صاحبه إذا دعاه يكفى دليلًا على تعلمه بخلاف الكلب فإنه ألوف بطبعه فلابد من زيادة أمر فيه وهو ترك الأكل. (1)

ولا يعتبر إمساك الكلب وغيره للصيد بدون الإثخان أي الجرح حتى لو أرسل شخص صقره فأمسك الصيد بمخلبه ولم يثخنه فأرسل آخر فقتله فهو للثانى، لأن يد الصقر ليست بيد حافظة لتقام مقام يد المالك. (2)

‌مذهب المالكية:

لا يجوز للمحرم إمساك الصيد حالة الإحرام، وإذا أحرم وكان معه صيد فإنه يجب عليه إرساله؛ سواء كان بيده ولو في قفص أو غيره أو كان يقوده أو مع رفقته في السفر والمشهور أن ملك صاحبه يزول عنه حالًا وما لا بنفس الإحرام فلو أرسله صاحبه فأخذه غيره وظل في يده حتى حل صاحبه من إحرامه فليس لصاحبه أخذه ممن أخذه وهو لآخده.

وإن أمسك المحرم الصيد وأبقاء بيده حتى حل من إحرامه فكذلك يجب عليه إرساله.

وإن أمسكه وأبقاه بيده حتى مات أو ذبحه فإنه يلزمه جزاؤه.

وهذا إذا كان ممسكًا بالصيد معه على الوجه المذكور.

أما من أحرم وفى بيته صيد فلا شيء عليه ولا يرسله؛ سواء أحرم من منزله أو من ميقاته وهو المذهب.

والفرق بين إمساكه للصيد في بيته حيث يجوز وبين إمساكه في قفص بيده حيث لا يجوز أن القفص حامل له وينتقل بانتقاله وحينئذ فالصيد الذي فيه كالصيد الذي في يده وأما بيته فهو مرتحل عنه وغير مصاحب له.

وإذا أمسك المحرم الصيد ليرسله لا ليقتله فعدا عليه غيره فقتله فإن كان القائل محرمًا أو حلالًا في الحرم فجزاؤه على القاتل ولا شيء على الممسك.

وإن كان القاتل له حلالًا في الحلّ فجزاؤه على المحرم الذي أمسكه لئلا يخلو الصيد الذي مع المحرم من جزاء؛ ويغرم القاتل للمحرم الممسك الأقل من قيمة الصيد طعامًا.

ص: 152

ومثله يرجع عليه به إن أطعم أو أخرج المثل. أما إن صام المحرم الممسك فلا رجوع له على الحلال القاتل بشيء.

وإن أمسك المحرم الصيد لأجل أن يقتله فقتله محرم آخر فهما شريكان في قتله وعلى كل منهما جزاء كامل نظرًا إلى التسبب والمباشرة.

وأما لو قتله خلال فإما أن يقتله في الحل أو في الحرم فإن قتله في الحرم فعلى كل منهما جزاء كامل وإن قتله في الحلّ فجزاؤه على المحرم الذي أمسكه؛ ويغرم الحلال له قيمته طعامًا إن كانت قيمته أقلّ من جزائه.

(1)

هذا في إمساك الصيد بالنسبة للمحرم أو في الحرم مطلقًا.

أما بالنسبة لإمساك الصيد بواسطة الجوارح التي يرسلها أصحابها عليه فلا يشترط في إمساك الجارح للصيد وإباحة أكله أن يمسكه على صاحبه، فليس من شرط الجارح سواء كان كلبًا أو غيره ألا يأكل من الصيد بعد إمساكه؛ وذلك لما روى عن عيد الله بن عمر، أن أبا ثعلبة الخشنى قال: يا رسول الله إن لى كلابا مكبلة فافتنى في صيدها، قال: إن كانت لك كلاب مكبلة فكل مما أمسكت عليك، فقال: يا رسول الله ذكى وغير ذكى؟ قال: ذكى وغير ذكى. قال وإن أكل منه؟ قال: وإن أكل منه"

(2)

.

وقال بعض متأخرى المالكية: إن مجرد إرسالنا الكلب إمساك علينا؛ لأن الكلب لا نية له فليس الأكل بدليل على أنه لم يمسك لصاحبه. ولا الإمساك لصاحبه شرط في الذكاة؛ لأن نية الكلب غير معلومة. وقد يمسك لصاحبه ثم يبدو له فيمسك لنفسه.

(3)

وإذا أرسل الصائد كلبه على صيد فأمسكه ثم أرسل صقرا أو كلبا بعد إمساك الأول للصيد فقتل الثاني الصيد فلا يؤكل. لأنه بعد أن أمسكه الأول صار أسيرا مقدورا عليه.

وكذا لو قتلاه جميعا في هذه الصورة لا يؤكل أيضا للشك في المبيح.

أما لو أرسل الجارح الثاني بعد إمساك الأول فقتله الأول قبل وصول الشانى إليه فلا شك أنه يؤكل للعجز عنه حين إرسال قاتله.

وكذلك لو أرسل الثاني قبل إمساك الأول له فقتله الثاني قبل إمساك الأول أو بعده أو قتلاه مما ولو أمسك صيدا بحباله مثلا وصار تحت يده ثم رماه آخر بسهم فقتله فلا يؤكل لأنه بالأمساك صار أسيرا مقدورا عليه. وحينئذ فلا يؤكل إلا بزكاة شرعية كالشاة ويضمن هذا الذي رماة فقتله للأول قيمته مجروحا.

وإذا أمسك كلب المسلم الصيد وعاونه في إمساكه كلب الكافر فإنه يؤكل وذلك لأنه الممسك كلبه بعد إمساك كلب الكافر الصيد.

(4)

(1)

الشرح الكبير الدردير على مختصر خليل بحاشية الدسوقى حـ 2 ص 74، 79 الطبعة الأولى بمطبعة السعادة بالقاهرة 1329 هـ شرح الخرشي على مختصر خليل بحاشية العدوى جـ 2 ص 422، 429، 430 الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية 1299 هـ.

(2)

رواه أحمد وأبو داود. وأخرجه أيضا النسائي وابن ماجه وأعله البيهقى (انظر: نيل الأوطار للشوكانى جـ 8 ص 133).

(3)

بداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام ابن رشد الحفيد جـ 1 ص: 777 - 77 الطبعة الأولى بالمطبعة الجمالية يمصر 1329 هـ.

(4)

الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي السابق جـ 2 ص 105 - 108 الطبعة السابقة، شرح الخرشى على مختصر خليل بحاشية العدوى السابق جـ 3 ص 14، 16 الطبعة السابقة.

ص: 153

‌مذهب الشافعية:

يحرم إمساك صيد الحرم على المحرم وغيره فلو أمسكه شخص لزمه إرساله فإن ظل ممسكا به حتى تلف في يده ضمنه كالغاصب، لحرمة إمساكه.

(1)

أما إن اصطاد الحلال صيدا في الحل وأدخله الحرم فإنه يجوز له إمساكه فيه وذبحه والتصرف فيه كيف شاء؛ لأنه من صيد الحل فلم يمنع من التصرف فيه.

قال الشافعي في الإملاء: إذا أمسك الحلال صيدا في الحل وله فرخ في الحرم فمات الصيد في يده ومات الفرخ ضمن الممسك الفرخ، لأنه مات في الحرم بسبب من جهته ولا يضمن الأم، لأنه صيد في الحل مات في يد الحلال

(2)

ولو أمسك محرم صيدا فقتله محرم آخر ضمن القاتل. لأنه مباشر ولا أثر للإمساك مع المباشرة.

وإذا أحرم الشخص وفى ملكه صيدا. أي مأكول برى وحشى ولو في بلده زال ملكه عنه بإحرامه ولزمه إرساله. لأنه لا يراد للدوام فتحرم استدامته.

فإن ظل ممسكا به حتى تحلل من إحرامه فإنه يلزمه إرساله أيضا ويضمن إن مات في يده؛ لأن الملك لا يعود بعد التحلل. بخلاف من أمسك خمرا غير محترمة حتى تخللت لا يلزمه إراقتها والفرق أن الخمرة انتقلت من حال إلى حال. فإن مات الصيد في يد المحرم قبل إرساله ضمنه ولو لم يتمكن من إرساله قبل موته لأنه كان يمكنه إرساله قبل الإحرام.

وإذا زال ملكه عنه صار مباحا لآخذه. فلا غرم له إذا قتله الغير أو أرسله.

ومن أخذه ولو قبل إرسال مالكه له وليس لآخذ محرما فإنه يملكه.

وإذا أمسك المحرم الصيد وأخذه تخليصا له من سبع ونحوه أو مداويا له فمات في يده لم يضمن لأنه قصدا المصلحة فجعلت يده وديعة

(3)

.

وأما إمساك الصيد بواسطة الجوارح من السباع أو الطير ككلب وفهد وصقر فإن من شروط حل أكل ما قتله الجارح منها أن يمسك الصيد المرسل عليه -أي يحبسه- لصاحبه فإذا جاء صاحبه خلى بينه وبينه من غير مدافعة، ولا يأكل منه بعد إمساكه قبل قتله أو بعده.

وظاهر كلامهم -على ما ذكره ابن حجر في تحفة المحتاج- أنه لا فرق بين أكله عقب إمساكه أو بعده وإن طال الفصل.

(1)

شرح المحلى على المنهاج بحاشيتي قليوبي وعميرة جـ 2 ص 139 طبعة الحلبى. شرح منهج الطلاب بحاشية البجرمي جـ 2 ص 128 الطبعة الثالثة بالطبعة الأميرية 1309 هـ.

(2)

المهذب للشيرازى جـ 1 ص 218 طبعة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة 1376 هـ

(3)

أسنى المطالب شرح روض الطالب للشيخ زكريا الأنصارى بحاشية الرملي الكيبير جـ 1 ص 515 - 516 طبع المطبعة الميمنية 1312 هـ شرح منهج الطلاب بحاشية البجرمي السابق ص 138.

ص: 154

وقال البلقينى: إذا أكل الجارح من الصيد عقب قتله له أو قتله مع حصول القتل لم يحل. أما إذا كان بعد أن أمسكه وقتله. أو أكله ولم يقتله فإن هذا لا يضر في التعليم كما لا يؤثر في تحريم ما أكل منه فيحل أكله.

واشتراط إمساك الصيد لصاحبه مع عدم الأكل منه هو ما نص عليه الشافعي كما نقله البلقينى وغيره؛ ثم قال ولم يخالفه أحد من الأصحاب. إلا أن ظاهر كلام المنهاج والروضة يخالف ذلك حيث خص ذلك بجارحة السباع فقط. أما جارحة الطير فيشترط فيها ترك الأكل من الصيد فقط؛ أما إمساك الصيد لصاحبها فلا تشترط فيها.

ولو أراد الصائد أخذ الصيد من الجارح بعد إمساكه له وقبل أن يأكل منه فامتنع وصار يقاتل دونه فإنه يعتبر أنه أمسك على نفسه فلا يحل أكله. أما إن لعق من دم الصيد فلا يضر.

ولو أمسك الجارح صيدا أرسل عليه ثم عَن له آخر ولو بعد الإرسال فأمسكه حل أكله في الأصح، سواء كان الصيد موجودا حالة الإرسال أم لا، لأن المعتبر أن يرسله على صيد وقد وجد.

ولو تحاملت الجارحة على صيد فقتلته بقوة إمساكها حل أكله في الأظهر؛ لإطلاق قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ولأنه يعسر تعليم الجارح ألّا يقتل إلا جرحًا ويحرم أكل الصيد إذا أمسكه كلب مجوسيّ ونحوه ممن لا تحل ذبيحته؛ وكذا إذا شارك كلب أحدهم كلب المسلم أو شاركه كلب غير معلم أو كلب معلمٌ عدا بنفسه.

وإن أمسك مجوسى لمسلم صيدًا فذبحه لم يحرم أكله، لأن المقصود الفعل وقد حصل ممن يحل ذبحه فلا يؤثر فيه الإمساك

(1)

.

‌مذهب الحنابلة:

إن أمسك الصيد محرم بالحرم أو الحلّ؛ أو أمسكه حلال بالحرم فذبحه المحرم ولو بعد حلّه من إحرامه، أو ذبحه ممسكه ولو بعد إخراجه من الحرم إلى الحلّ ضمنه؛ لأنه تلف بسبب كان في إحرامه أو في الحرم.

إن أمسك المحرم صيدًا حتى تحلل من إحرامه لزمه إرساله لعدوان يده عليه. فإن تلف الصيد من يده قبل إرساله ضمنه لما ذكر.

ومن أمسك صيدًا في الحلّ فأدخله الجرم المكى لزمه إرساله؛ لأنه صار صيد حرمٍ بحلوله فيه.

وكذلك من أمسك صيدًا في الحرم فأخرجه إلى الحل لزمه إرساله اعتبارًا بحال السبب. فإن تلف في يده ضمنه كصيد الحل في حق المحرم إذا أمسكه حتى تحلل.

(1)

أسنى المطالب بحاشية الرملى السابق جـ 1 ص 553، 556 - 557. الطبعة السابقة.

تحفة المحتاج شرح المنهاج لابن حجر جـ 4 ص 181، 187 - 188 الطبعة الأولى بالمطبعة الوهبية 1282 هـ

نهاية المحتاج شرح المنهاج للرملي بحاشية الشبراملي جـ 7 ص 245 - 246 الطبعة الأولى بالطبعة الأميرية.

شرح منهج الطلاب بحاشية البجرمي جـ 4 ص 264 - 265 الطبعة السابقة.

ص: 155

وإن أمسك حلال طائرًا في الحل فهلك فراخه في الحرم فإنه يضمن الفراخ في أصح الروايتين لأنه بإمساكه أتلف صيدًا حرميًا فيضمنه كما لو كان في الحرم، ولا يضمن الأم لأنها من صيد الحلّ وهو حلال.

أما إن أمسك حمامة مثلًا في الحرم فهلك فراخها في الحل فلا ضمان عليه. لأن الأصل الإباحة وليس من صيد الحرم فليس بمعصوم.

وإن أمسك المحرم الصيد ليخلص من رجله خيطًا فتلف بذلك لم يضمنه لأنه فعل أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمنه.

ولو أمسك المحرم الصيد ليداويه فهو وديعة عنده فلا ضمان عليه إن تلف بلا تعد ولا تفريط لأنه محسن.

وإن أحرم الشخص وفى يده صيد أو دخل الحرم المكيّ بصيد لم يزل ملكه عنه؛ فيرده من أخذه منه لاستدامة ملكه عليه؛ ويضمنه من قتله كسائر الأموال المحترمة.

إلا أنه يلزم من أحرم وفى يده صيد أو دخل الحرم وفى يده صيد إرساله في موضع يمتنع فيه لأن في عدم ذلك إمساكًا للصيد فلم يجر كحالة الابتداء.

ويلزمه إزالة يده المشاهدة عنه مثل ما إذا كان في قبضته أو رحله أو خيمته أو قفصه أو كان مربوطًا بحبل معه ونحوه.

أما إن كان الصيد في يده الحكمية فلا يلزمه إزالتها مثل أن يكون الصيد في بيته أو بلده أو في يد نائبه الحلال في غير مكانه؛ لأنه لم يفعل في الصيد فعلًا فلم يلزمه شيء كما لو كان في ملك غيره وعكس هذا إذا كان في يده المشاهدة، لأنه فعل الإمساك في الصيد فكان ممنوعًا منه كحالة الابتداء فإن استدامة الإمساك إمساك بدليل أنه لو حلف لا يمسك شيئًا فاستدام إمساكه حنث.

ولا يضمنه إذا تلف بيده الحكمية، لأنه لا تلزمه إزالتها ولم يوجد منه سبب في تلفه وللمحرم نقل الملك في الصيد الذي بيده الحكمية بالبيع وغيره كسائر أملاكه. ومن غصبه لزمه رده إلى مالكه. لاستمرار ملكه عليه.

ولو تلف الصيد في يد المحرم المشاهدة قبل التمكن من إرساله لم يضمنه لعدم ما يقتضيه من تعد وتقصد. أما إن تمكن من إرساله ولم يرسله فتلف فإنه يضمنه. لأنه تلف تحت يده المعتدية فلزمه الضمان كمال الآدمى.

وإن أرسل الصيد إنسان من يد المحرم المشاهدة قهرًا لم يضمنه. لأنه فعل ما تعين على المحرم فعله في هذه العين خاصة. لأن اليد قد زال حكمها وحرمتها.

ص: 156

ولو أمسك المحرم الصيد المملوك له قبل إحرامه بيده المشاهدة حتى تحلل من إحرامه فإن ملكه يظل باقيًا عليه؛ واعتبره في المغنى والشرح الكبير كعصير تخمر ثم تخلل قبل إراقته وفى الكافى وجزم به في الرعايه؛ أنه يلزمه إرساله بعد حلّه كما لو أمسكه حال إحرامه ومن أدخل المدينة صيدًا فله إمساكه وذبحه نصًا، لقول أنس "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا وكان لى أخ يقال له أبو عمير قال أحسبه فطيمًا وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير ما فعل النّغير"

(1)

متفق عليه.

وإن اشترك جماعة في قتل صيد وكان بعضهم ممسكًا للصيد والآخر قاتلًا فعليهم جزاء واحد

(2)

هذا في إمساك الصيد في الحرم أو في حالة الإحرام.

أما إمساك الصيد بواسطة الجوارح المعلمة فيشترط فيما يصيد بنابه منها كالكلب أنه إذا أمسك الصيد لم يأكل منه لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أكل فلا تأكل فإنى أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه"

(3)

فإن أكل منه حرم لأنه إنما أمسكه على نفسه وإن أمسكه وشرب من دمه ولم يأكل منه لم يحرم؛ لأنه لم يأكل منه.

أما ما يصيد بمخلبه كالصقر فلا يشترط فيه هذا.

ولو أمسك الصائد الصيد وثبتت يده عليه ثم انفلت منه فإن ملكه لا يزول عنه بانفلاته.

ولو أمسك كلب مجوسيّ الصيد فقتله كلب المسلم حل أكله لانفراد جارح المسلم بقتله كما لو أمسك مجوسيّ شاة فذبحها مسلم. وكذلك لو ذبح مسلم صيدًا أمسكه له مجوسيّ بكلبه وقد جرحه كلب المجوسيّ جرحًا غير قاتل حلّ لحصول ذكاته المعتبرة من المسلم.

(4)

‌مذهب الظاهرية:

قال ابن حزم: كل من أحرم وفى يده صيد قد ملكه قبل ذلك أو فى منزله قريبا أو بعيداً أو فى قفص معه فهو حلال له - كما كان - أكله وذبحه وملكه وبيعه.

وإنما يحرم عليه ابتداء التصيد للصيد وتملكه وذبحه حينئذ فقط؛ ولو أنتزعه حلال من يده لكان للذى انتزعه منه ولا يملكه المحرم وإن أحل من إحرامه إلا بأن يحدث له تملكًا بعد إحلاله وكل

(1)

النغر كصرد: البلبل وفراخ العصافير وبتصغيرها جاء الحديث. (انظر: القاموس المحيط جـ 2 ص 144) والحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي.

(2)

كشاف القناع وشرح المنتهى بهامشه جـ 1 ص 581 - 583، 599= 600، 603، 649 الطبعة الأولى بالمطبعة العامرة الشرفية، المغنى لابن قدامة ومعه الشرح الكبير جـ 2، 359 - 361، 547 - 548 الطبعة الأولى بمطبعة دار المنار.

(3)

سبق تخريج هذا الحديث في مذهب الحنفية من هذا البحث.

(4)

كشاف القناع وشرح المنتهى بهامشه جـ 4 ص 122، 195،134 الطبعة السابقة.

ص: 157

ما صاده المحل في الحل فأدخله في الحرم أو وهبه لمحرم أو اشتراه محرم فحلال للمحرم ولمن فى الحرم ملكه وذبحه وأكله.

(1)

هذا بالنسبة لإمساك الصيد للمحرم بالحج أو في الحرم مطلقًا.

أما بالنسبة لإمساك الصيد بواسطة الجوارح المعلمة فقال ابن حزم: إذا أمسك الجارح الصيد ولم يأكل منه شيئًا فحلال أكل ما أمسكه مما أطلقه عليه صاحبه. لأن الله سبحانه لم يبح لنا ما أمسكن فقط ولا ما أمسكن على أنفسهن بل ما أمسكن علينا فقط وبالمشاهدة ندرى أنه إذا أكل منه فعلى نفسه أمسك ولها صاد فهو حرام وسواء في ذلك الكلب وغيره من سباع الدواب والبازى وغيره من سباع الطير ولا فرق

(2)

.

وإن شرب الجارح من دم الصيد لم يضر ذلك شيئًا وحل أكل ما قتل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم علينا أكل ما قتل إذا أكل وإذا لم يأكل من الصيد فقد أمسكه على مرسله.

(3)

وإن أمسك الجارح الصيد ونازع صاحبه إلى الأكل منه لم يحلّ أكل الصيد أصلًا لأننا على يقين حينئذ من أنه أمسك على نفسه لا على صاحبه

(4)

.

ولو أمسك الجارح الصيد وقتله ولم يأكل منه شيئًا وهو قادر على الأكل منه ثم أكل منه فباقيه حلال، لأننا على يقين من أنه لم يأكل منه وهو قادر على الأكل منه فلم يمسك على نفسه وإنما أمسك على مرسله وما كان بهذه الصفة فهو حلال بنص القرآن والسنة. وإذ قد صح تحليله بذلك وتمت ذكاته فلا يضره أن يأكل منه بعد ذلك؛ لأنه قد بدا له أن يأكل مما قد صح أنه أمسكه على مرسله وقد يحدث له جوع يأكل به ما وجد وإنما المراعى إمساكه على صاحبه فيؤكل وإن قتل. أو إمساكه على نفسه فلا يؤكل ما قتل فقط كما أمر الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنن الثابتة

(5)

.

وكذلك لو أمسكه وقتله ولم يأكل ثم أخذه صاحبه فقطع له قطعة فأكلها أو خلاه بين يده يأكله فأكل منه فالباقى حلال، لأنه صح إمساكه على صاحبة فتمت ذكاته بذلك

(6)

.

‌مذهب الزيدية:

من محظورات الإحرام إمساك الصيد وقتله بسبب هذا الإمساك نحو أن يمسكه المحرم حتى مات عنده أو حتى قتله غيره؛ ويلزمه حينئذ الجزاء والإثم.

وإذا أمسك المحرم صيدًا ثم أرسله لزمه أن يتصدق بطعام يرجع في تقديره قلّة وكثرة إلى قدر ما رأى من إفزاعه.

(1)

المحلى لابن حزم جـ 7 ص 385 مسألة رقم 892 الطبعة الأولى دار الاتحاد العربى للطباعة 1388 هـ

(2)

المحلى لابن حزم جـ 8 ص 210، 213 مسألة رقم 1082 الطبعة السابقة.

(3)

المحلى لابن حزم جـ ص 221 مسألة رقم 1084 الطبعة السابقة.

(4)

المحلى لابن حزم جـ 8 ص 222 مسألة رقم 1087 الطبعة السابقة.

(5)

المحلى لابن حزم جـ 4 ص 222 مسألة رقم 1088 الطبعة السابقة.

(6)

المحلى لابن حزم جـ 8 ص 223 مسألة رقم 1089 الطبعة السابقة.

ص: 158

وإذا أمسك المحرم الصيد استخلاصًا له من فم هرة أو سبع فتلف في يده فوجهان:

أصحهما لا ضمان عليه. إذ ما على المحسنين من سبيل.

قال في البحر الزخار: إلا أن يكون قد تمكن من إرساله على وجه يسلم به ولم يفعل ثم مات فإنه يلزمه الجزاء.

وإذا أمسك المحرم صيدًا وحمله إلى بلده لزمه رده ورد ما أخذه معه من أولاد وبيض إلى موضعه الذي أخذه فيه. سواء كان في الحرم أو في الحلّ، وإذا مات شيء من الأولاد لزمه الجزاء ولو كان الموت بعد إحلال المحرم من إحرامه.

(1)

ومن أمسك صيدًا وحبسه في الحل فمات فرخه في الحرم ضمن الممسك الفرخ.

وفى عكس ذلك يضمنهما جميعًا إن كان مُحرمًا وإلا سقط ضمان الذي في الحلّ ولو أخذ الحلال الصيد من ممسكه المحرم فأرسله فلا شيء عليهما سوى التصديق بطعام ولو قتل الحلال ما أمسكه المحرم ضمنه المحرم، لأن قتله محرّم فقرار الضمان عليه إذ هو مباشر والممسك ذو سبب.

قال صاحب البحر الزخار: وقياس المذهب تضمنهما جميعًا

(2)

.

وبناء على أنه لا يجوز للمحرم إمساك الصيد بعد الإحرام فإنه يخرج عن ملكه إن كان ممسكًا له قبل الإحرم؛ سواء كان في يده أم في بيته ويجب عليه إرساله فإن تلف في يده أو في بيته بعد التمكن من إرساله لزمه الجزاء.

والصيد يخرج عن ملك ممسكه المحرم حال إحرامه فقط فإذا حل من إحرامه رجع في ملكه فلو أمسكه غيره أو أخذه آخذ غير محرم قبل أن يحلّ مالكه الأول من إحرامه جاز ذلك. فإن حل مالكه الأول من إحرامه قبل أن يتلفه الآخذ له رجع إلى ملكه، لأن له فيه حقًّا يعيده في ملكه. وإن أتلفه الآخذ قبل إحلال الأول فلا ضمان عليه.

(3)

وكما لا يجوز إمساك الصيد في حرم مكه لا يجوز في حرم المدينة والاستفهام في حديث "يا أبا عمير ما فعل النُغيْر"

(4)

ليس بتقرير لجواز إمساك الصيد في حرم المدينة.

(5)

هذا بالنسبة لإمساك الصيد في الحرم وللمحرم.

أما بالنسبة لإمساك الصيد بواسطة الجوارح المعلمة فإنه يحرم ما أمسكه الجارح على نفسه ويعرف ذلك بقرائن من أقواها الأكل من مصيده. وذلك قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فظاهره يدل على أنه إذا أكل فقد أمسك على نفسه.

(1)

شرح الازهار المنتزع من الغيث المدرار فى فقة الأئمة الأطهار جـ 2 ص 92 - 95، 98 - 99 الطبعة الثانية بمطبعة حجازى 1358 هـ.

(2)

البحر الزخار الجامع لمذهب علماء الأمصار للمرتضى جـ 2 ص 313 - 314 طبع مطبعة السعادة بمصر، طبعة أولى 1366 هـ.

(3)

شرح الأزهار السابق ص 100، الطبعة السابقة.

(4)

سبق تخريج هذا في مذهب الحنابلة من هذا البحث.

(5)

البحر الزخار السابق 316، 319 الطبعة السابقة.

ص: 159

وما روى الشعبي عن عدى بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما علمت من كلب أو بازٍ ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك قلت وإن قتل قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئًا فإنما أمسكه عليك"

(1)

.

وفى رواية شاذة عن علي عليه السلام: أنه يحل ما أمسكه إذا أكل منه بعد أن ثبت تعليمه من قبلء واحتج أهل هذا القول الثاني بحديث أبى ثعلبة الخشنى قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب: إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك"

(2)

(أي كل ما صدته بيدك لا بشئ من الجوارح ونحوها).

وجمع بعضهم بين أدلة القولين بأن حديث عديّ محمول على كراهة التنزيه. وحديث أبى ثعلية لبيان أصل الجواز. قيل ويناسبه أن عديًا كان موسرًا فاختير له الأولى بخلاف أبى ثعلبة فإنه كان من الأعراب المعسرين.

وإطلاق قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} يتناول ما قتله بنابه أو ظفره أو بثقله ولو بالفم الرصن أو نحوه؛ إذ يصدق عليه أنه قتله ممسكًا له على صاحبه ولم يذكر فيه بجراحة ولا غيرها.

ولما في حديث عدى في رواية عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله إن أمسك عليك فأدركته حيًا فاذبحه. وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة، وهو دليل على الإباحة سواء قتله الكلب جرحًا أو خنقًا

(3)

.

وهو مذهب الحسن بن زياد.

وذهبت القاسمية إلى اشتراط الخرق بناب أو ظفر.

(4)

وإذا أمسك الجارح الصيد وقتله بدون إرسال لم يحل أكله. لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ، وهذا ممسك لنفسه لا على صاحبه.

ولو أمسك الصيد ذو ناب من الجوارح غير معلم حتى قتله ذو ناب معلم لم يحل أكله.

وفارق هذا ما إذا أمسك الكافر حيوانًا حتى ذبحه المسلم فإنه يحل. لأنه ذكاة محققة بخلاف ذلك

(5)

وإن أمسك الصيد كلبان لمسلم وكافر حرم أكله أيضا تغليبًا للخطر، إذ هو الأصل في الحيوان فلا ينتقل عنه بالشك.

وإن انفلت الصيد من الكلب مثلًا بعد إمساكه له فوجهان:

(1)

رواه أحمد وأبو داود. وأخرجه أيضا البيهقي. وهو من رواية مجالد عن الشعبي عن عدي (انظر: نيل الأوطار جـ 8 ص 130.

(2)

رواه أبو داود، قال الحافظ: لا بأس بإسناده، وفى إسناده داود بن عمرو الأودى الدمشقي عامل أواسط قال أحمد بن عبد الله العجلي: ليس بالقوى وقال أبو زرعة: هو شيخ. وقال يحيى بن معين: ثقة (انظر: نيل الأوطار السابق ص 133.

(3)

رواه البخارى ومسلم (انظر نيل الأوطار السابق ص 130) الطبعة الأولى بالمطبعة العثمانية سنة 1257 هـ.

(4)

الروض النضير في شرح مجموعة الفقه الكبير جـ 2 ص 195 - 197 الطبعة الأولى بمطبعة السعادة بالقاهرة 1248 هـ.

(5)

شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار جـ 4 ص 74 الطبعة السابقة.

ص: 160

(أحدهما) - يملكه الصائد إن كان قد أمكنه أخذه؛ إذ قد حازه.

(وثانيهما) - لا يملكه؛ إن لم تثبت له يد عليه ولا أزال امتناعه.

(1)

وما وقع من الصيد في الشبكة والحظيرة وانفلت قبل لبثه فيها قدرًا يمكن إمساكه فهو لمن أخذه

(2)

.

‌مذهب الإمامية:

لو أمسك المحرم صيدًا في الحل فذبحه محرم آخر لزم كلّ واحد منهما فداء كامل.

ولو كانا في الحرم تضاعف الفداء، ولو كانا حلالين في الحرم لم يتضاعف، ولو كان أحدهما محرمًا تضاعف الفداء في حقه.

ولو أمسكه المحرم في الحل فذبحه الحلال ضمن فداءه المحرم خاصة.

ومن دخل الحرم وهو ممسك بصيد وجب عليه إرساله.

ومن كان معه صيد فأحرم زال ملكه عنه ووجب إرساله، فلو مات قبل إرساله لزمه ضمانه. وهذا إذا أمسكه معه في يده ونحوها. أما إن كان بعيدًا عنه في منزله أو بلده فلا يزول ملكه عنه.

وإذا أمسك المحرم صيدًا له فرح فتلف الفرخ بإمساكه لأمه ضمن. وكذلك لو أمسك الحلال صيدًا له فرخ في الحرم

(3)

.

هذا بالنسبة لإمساك الصيد في الحرم وللمحرم.

أما إمساك الصيد بواسطة الكلب فمن شرائط حلّ أكل صيده أنه إذا أمسك الصيد وقتله بالجرح لا بالصدم ونحوه ألا يأكل منه. فإن أكل نادرًا لم يقدح ذلك في إباحة ما يقتله وكذا لو شرب من دم الصيد واقتصر.

وهذا الشرط خاص بالكلب المعلم دون غيره من الجوارح السباع والطير.

فلو اصطاد بغيره - سواء كان سبعًا أو طيرًا - لم يل منه إلا ما يدرك ذكاته بعد إمساكه وقبل قتله له وسواء كان معلمًا أو غير معلم.

وإذا أمسك الصائد الصيد بيده أو بما يعتاد الاصطياد به فإنه يملكه ولا يخرج عن ملكه بانفلاته أو إطلاقه من يده بعد إمساكه.

وإذا أمكن الصيد التحامل طائرًا أو عاديًا بحيث لا يقدر عليه إلا بالاتباع المتضمن للإسراع لم يملكه الأول وكان لمن أمسكه

(4)

.

(1)

البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار السابق جـ 4 ص 296، 300 الطبعة السابقة.

(2)

التاج المذهب لأحكام المذهب شرح متن الأزهار في فقة الأئمة الأطهار لأحمد بن قاسم الصنعاني جـ 4 ص 459 الطبعة الأولى بمطبعة دار إحياء الكب العربية سنة 1947.

(3)

شرائع الإسلام في الفقه الإسلامي الجعفري للمحقق الحلي جـ 1 ص 140، 142 من منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت، المختصر النافع في فقة الإمامية للمحقق الحلي جـ 1 ص 104 طبع مطابع دار الكتاب العربى بمصر سنة 1276 هـ. الخلاف في الفقه للشيخ أبي جعفر الطوسي جـ 1 ص 484 رقم 276، 487 رقم 393 الطبعة الثانية مطبعة رنكين بطهران.

(4)

شرائع الإسلام السابق جـ 2 ص 125، 140، 142.

ص: 161

‌مذهب الإباضية:

يحرم على الحلال والمحرم تناول صيد البر في الحرم بالإمساك.

وإذا أحرم الإنسان وفى يده صيد وجب عليه أن يرسله من يده

(1)

.

هذا بالنسبة لإمساك الصيد في الحرم وللمحرم.

أما بالنسبة لإمساك الصيد بواسطة الجوارح المعلمة فيشترط في الجارحة أن تمسك الصيد لصاحبها بألا تأكل الجارحة من الصيد.

قال صاحب شرح النيل: ويستثنى عندى ما إذا أمسك الصيد وانتظر صاحبه مدة ثم أكل منه لأن انتظاره علامة أنه لم يصد لنفسه بل لصاحبها.

(2)

وإذا أمسك الكلب الصيد وولغ في دمه -أي لحسه بلسانه- فلا يؤكل ما أمسك خلافًا للبعض. أما إن ولغ في الدم المنصب في الأرض أكل ما أمساك

(3)

.

وإن وجد الصائد الصيد حيًّا ولم يستطع ذكاته لإمساك إنسان أو غيره له؛ فلا يؤكل إن مات في يد ممسكه. لأنه قد قدر عليه فلم يذبحه ولم ينحره

(4)

.

وإن أمسك الصائد صيدًا بجارحة غيره فالصيد لصاحب الجارحة.

وإن دخل صيدٌ بيتًا فأمسكه فيه صاحب البيت فهو له ولا يحل لغيره أخذه.

ولا يحل ساقط من شبكة صياد أو وعائه بعد إمساك صاحب الشبكة أو الوعاء له. هذا الإمساك في الشبكة قبض فلا يحل ما فيها إلا بإذنه.

وهذا في شبكه البحر خاصة بخلاف شبكة الأرض إذا ذهب ما فيها بعد إمساكه

(5)

.

‌إمساك الزوجة مع الإضرار بها لأجل الخلع وغيره

‌مذهب الحنفية:

أن أمسك الزوج زوجته مسيئًا عشرتها لأجل الخلع فخالعته على مال نفذ الخلع واستحق المال وكذلك إن أمسكها لأجل إرثها ورثها

(6)

.

ولو اختلعت الزوجة من زوجها على أن تمسك ولده منها إلى وقت البلوغ صح هذا إذا كان أنثى. أما إذا كان غلامًا فلا يصح. لأن الغلام يحتاج إلى معرفة آداب الرجال والتخلق بأخلاقهم فإذا طال مكثه مع الأم بأخلاق النساء، وفى ذلك من الفساد ما لا يخفى.

(1)

شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد اطفيش جـ 2 ص 329 طبع مطبعة البارونى وشركاه بالقاهرة.

(2)

المرجع السابق ص 560 الطبعة السابقة

(3)

المرجع السابق 563 الطبعة السابقة

(4)

مرجع السابق ص 567 الطبعة السابقة

(5)

المرجع السابق ص 572، 575 الطبعة السابقة

(6)

الأشباء والنظائر على مذهب أبى حنيفة لابن نجيم جـ 1 ص 159 من القاعدة 15 من النوع الثاني من القواعد؛ طبعة مطابع سجل العرب 1287 هـ.

ص: 162

أما بالنسبة للأنثى فلا يتحقق فيها ذلك إذا أمسكتها أمها عندها إلى البلوغ.

فإذا تزوجت الأم فللأب أن يأخذ الولد منها ولا يتركه عندها وإن اتفقا على ذلك لأنه حق الولد؛ لأن إمساكها له عند زوجها الأجنبى مضر بالولد ولذا سقط حقها في الحضانه.

وينظر إلى أجر مثل إمساك الولد في تلك المدة فيرجع الأب عليها به.

وإن خلع امرأته وبينهما ولد صغير على أن يكون الولد عند الأب يمسكه سنين معلومة صح الخلع ويبطل الشرط؛ لأن كون الولد الصغير عند الأم حق الولد فلا يبطل بإبطالهما.

وجاء في الخلاصة والفتاوي الهندية: أن الزوجة لو اختلعت من زوجها على مهرها ونفقة عدتها وعلى أن تمسك ولدها منه ثلاث سنين أو عشر سنين بنفقة صح الخلع ويجب ذلك وإن كان قدر النفقة مجهولا. فإن تركت الولد على زوجها وهربت ووارت نفسها حتى تمت المدة ثم ظهرت رجع الزوج عليها بقيمة نفقة الولد في المدة التي لم تمسك الولد؛ لأنها امتنعت عن إيفاء بدل الخلع فيجب قيمته.

وكذا لو أمسكت الولد سنة أو سنتين ثم ردت الولد على الزوح فإنها تجبر على أن تمسك الولد بنفقته ما بقيت المدة؛ وإن لم تفعل كان عليها أجر إمساك الولد إلى نهاية المدة المتفق عليها.

ولها أن تطالبه بكسوة الصبي، إلا إن اختلعت على إمساكه بنفقته وكسوته فليس لها أن تطالبه بالكسوة وإن كانت الكسوة مجهولة. وسواء كان الولد رضيعًا أو فطيمًا.

ولو اختلعت على دراهم ثم استأجرها ببدل الخلع على إمساك الفطيم بنفقته وكسوته لا يجوز، وإن استأجرها به على إمساك الرضيع في مقابل إرضاعه جاز.

وإنما يصح الخلع على إمساك الولد إذا بين المدة فإن لم يبين لا يصح، سواء كان الولد رضيعًا أو فطيمًا.

وفى المنتقى: إن كان الولد رضيعًا صح وإن لم المدة وترضع الحولين

(1)

.

(1)

الفتاوى الهندية وبهامشها الفتاوى الخانية جـ 1 ص 490. 491، 529 الطبعة الثانية بالمطبعة الأميرية 1310 هـ؛ وانظر أيضا الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى جـ 4 ص 211 الطبعة الثانية بالمطبعة الأميرية 1310 هـ وانظر أيضا فتح القدير على الهداية للكمال بن الهمام جـ 2 ص 217 - 218 طبع مطبعة مصطفى محمد 1356 هـ وانظر أيضا حاشية ابن عابدين المسماة: رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار جـ 2 ص 456 - 457 الطبعة الثانية بمطبعة مصطفى البابى الحلبي 1386 هـ.

ص: 163

وإذا اختلعت الزوجة الذمية من زوجها الذمي أمسكها وأقام معها من غير عقد فرفعته إلى القاضي فإنه يفرق بينهما. لأن إمساكها ظلم وما أعطيناهم العهد على تقريرهم على الظلم وكذا إذا طلقها ثلاثًا ثم أمسكها قبل أن يتزوج بها آخر وقبل تجديد عقد النكاح عليها فإنه يفرق بينهما أيضا إذا رفعته إلى القاضي. لأنهم يعتقدون أن الطلاق مزيل للملك وإن لم يعتقدوا خصوص عدد.

ونقل صاحب البحر عن المحيط: أنه لا يشترط توقف التفريق بينهما في المسألتين على المرافعة فيفرق بينهما ون لم يترافعا إلى القاضي

(1)

.

وإن وهبت امرأة لزوجها مهرها علي أن يمسكها ولا يطلقها فقبل الزوج ذلك.

قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل: "إن لم تكن وقتت للإمساك وقتًا فلا يعود مهرها على الزوج إن طلقها. وإن وقتت وقتًا فطلقها قبل ذلك الوقت كان المهر عليه على حاله.

فقيل له: إذا لم توقت لذلك وقتًا كان قصدها أن يمسكها ما عاش، قال: نعم إلا أن العبرة لإطلاق اللفظ"

(2)

.

‌مذهب المالكية:

لا يحل للزوج إمساك زوجته مع مضاررتها. حتى ولو علم زناها. لأجل أن تفتدى. ولا يحل له ما أخذ منها عند مضاررتها بضرر يجوز لها التطليق به. أما إن كان الضرر مما لا يجوز لها التطليق به كتأديبها على ترك الصلاة والغسل من الجنابة فإنه يكون بالخيار بين إمساكها وتأديبها وبين أن يفارقها ويحل له حينئذ ما أخذ منها

(3)

.

ويجوز إعطاء الزوجة شيئًا لزوجها على إمساكها في عصمته وعدم طلاقها، أو على حسن عشرته معها إذا أساء عشرته معها، فيجوز هذا وليس من أكل أموال الناس بالباطل.

وكذلك يجوز العكس. أي يجوز للزوج أن يعطى زوجته شيئًا لأجل أن تمسكه ولا تفارقه عند إرادتها الفراق أو لأجل أن تحسن عشرته

(4)

.

ويجوز للزوج أن يخالع زوجته على أن تمسك ولدها منه وتتفق عليه مدة الرضاع فقط. لأن الرضيع قد لا يقبل غير أمه خلال هذه الفترة أما إذا خالعها على شرط أن تتفق على ولدها الرضيع مدة بعد مدة الرضاع فإنه يسقط عنها ذلك الزائد سواء كانت المدة معينة أو غير معينة، وسواء وقع الشرط من الزوج أو منها

(5)

.

(1)

شرج فتح القدير على الهداية السابق جـ 2 ص 505 الطبعة السابقة "باب نكاح أهل الشرك".

حاشية ابن عابدين على الدر المختار السابق جـ 2 ص 188 الطبعة السابقة "باب نكاح الكافر".

(2)

الفتاوى الهندية السابق جـ 4 ص 397 الطبعة السابقة "باب الهبة".

(3)

شرح الخرشى على مختصر خليل بحاشية العدوى جـ 4 ص 24 الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية 1299 هـ "باب الخلع".

(4)

الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل السابق ص 348.

الشرح الصغير للدردير على مختصر خليل بحاشية الشيخ أحمد الصاوى جـ 1 ص 489 الطبعة الأولى بالطبعة الأميرية 1289"باب القسم".

(5)

الشرح الكبير للدردير السابق ص 264.

ص: 164

ويجوز للمرأة أن تخالع زوجها على إسقاط حضانة ولدها وإمساكه للأب؛ لأن المعتمد أن التفرقة بين الأم وولدها الصغير حق للأم، فيسقط حقها من الحضانة وينتقل الحق فيها للأب ولو كان هناك من يستحقها قبله. إلا أن هذا مقيد بألا يخشى على المحضون ضررًا ما بعلوق قلبه بأمه؛ أو لأن مكان الأب غير حصين فلا يسقط حينئذ ذلك اتفاقًا؛ ويقع الطلاق مع هذا. وقيده بعضهم بألا يكون الأب على صفة من لا يستحق الحضانة لمانع قام به.

وهذا بخلاف ما إذا أعتق السيد أمته على أن تسلم له ولدها منه فيمسكه هو بدلا منها فإنه يلزم العتق ولا يلزمها ذلك، لتشوف الشارع إلى الحرية المترتبة على إعتاقه لها بخلاف الطلاق المترتب على الخلع فإنه أمر مبغوض شرعا

(1)

.

وإذا ادعت المرأة بعد المخالعة أنها ما خلعت زوجها إلا عن ضرر يجوز لها التطليق به كأن يوقعه بها إمساكه لها في عصمته حتى تفتدى نفسها وأقامت بينة سماع أو قطع على ذلك فإن الزوج يلزمه أن يرد لها ما خلعها به وقد بانت منه؛ وكذا يسقط عنها ما التزمته من رضاع أولدها ونفقة حمل أو إسقاط حضانة.

(2)

‌مذهب الشافعية:

لو أمسك الزوج زوجته مسيئا عشرتها لأجل إرثها ورثها في الأصح وكذلك لو كرهها. لا لزناها. فأمسكها مسيئا عشرتها بمنع حقها لأجل الخلع حتى اختلعت نفذ الخلع في الأصح إلا أنه يكون مكروها ويأثم بفعله ذلك.

أما إن كرهها لزناها ونحوه من كل محرم فأمسكها في عصمته وأساء عشرتها حتى اختلعت لم يكره الخلع وإن أثم بفعله، وعليه حمل قوله تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}

(3)

.

ويصح الخلع أيضا على إمساك الزوجة ولد الزوج منها أو من غيرها لإرضاعه وحضانته مدة معلومة، سواء كانت طويلة أو قصيرة. فإن امتنع الطفل من الارتضاع أو مات انفسخ العقد في الباقى من المدة فقط ويرجع الزوج عليها بقسْط الباقى من مهر مثلها

(4)

ومن خولعت بحضانة ولدها من زوجها وإمساكه سنة مثلا ثم تزوجت في أثنائها لم ينزع الولد منها لأن ذلك إجارة والإجارة عقد لازم

(5)

(1)

شرح الخرشي على مختصر خليل بحاشية العدوى السابق جـ 4 ص 15، 16 وانظر أيضا الشرح الكبير بحاشية الدسوقى جـ 2 ص 355.

(2)

الشرح الكبير بحاشية الدسوقى جـ 2 ص 262.

(3)

الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية للسيوطى ص 152 القاعدة الثلاثون. مطبعة مصطفى البابي الحلبي الطبعة الأخيرة سنة 1378.

وانظر أيضا أسنى المطالب شرح روض الطالب للأنصارى بحاشية الرملى الكبير جـ 2 ص 241 طبعة المطبعة الميمنية بمصر سنة 1313.

(4)

أسنى المطالب السابق جـ 2 ص 252.

(5)

المرجع السابق ص 263.

ص: 165

‌مذهب الحنابلة:

ينبغى للزوج إمساك زوجته مع الكراهة لها، لقوله تعالى {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}

(1)

قال ابن عباس: ربما رزق منها ولدا فجعل الله فيه خيرا كثيرا

(2)

.

وإن أمسك الزوج زوجته وعضلها أو ضارها بالضرب والتضييق عليها أو منعها حقوقها من القسم والنفقة ونحو ذلك كما لو نقصها شيئا من ذلك ظلما لتفتدى نفسها فالخلع باطل والعوض مردود والزوجة بحالها، لقوله تعالى:{لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}

(3)

. ولأن ما تفتدى به نفسها مع ذلك عوض أكرهت على بذله بغير حق فلم يستحق أخذه منها للنهى عنه؛ والنهى يقتضى الفساد.

وإن أجابها بلفظ طلاق أو لفظ خلع مع نية الطلاق يقع الطلاق رجعيا ولا تبين منه لفساد العوض.

وهذا كله إن أمسك الزوج زوجته وفعل معها ذلك لتفتدي نفسها.

أما إن أمسك الزوج زوجته وفعل معها ما ذكر من المضارة بالضرب والتضييق والمنع من الحقوق لا لتفتدى منه فالخلع صحيح. لأنه لم يعضلها ليذهب ببعض مالها، ولكن عليه إثم الظلم.

وكذلك يكون الخلع صحيحا لو أمسكها وفعل معها ما ذكر تأديبا لها بسبب زناها أو نشوزها أو تركها فرضًا كصلاة أو الصوم، لقوله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ويقاس الباقى عليها؛ ويباح له عوضه. لأنه بحق.

(4)

.

لو خالعت الزوجة زوجها على إمساك ولده المعين -منها أو من غيرها- لإرضاعه مطلقا أو كفالته والإنفاق عليه مدة معينه كعشر سنين ونحوها صح الخلع ولو لم يصف النفقة، ويرجع إلى العرف والعادة في ذلك والأولى أن يذكر مدة الرضاع من تلك المدة وأن يذكر صفة النفقة في تلك المدة؛ فلو لم تنته المدة حتى ماتت من خالعته على إرضاع ولده أو كفالته أو الإنفاق عليه؛ أو جفّ لبنها أو مات الولد رجع الزوج ببقية حقه أنه عوض معين تلف قبل قبضه فوجب بدله.

ولو أراد الزوج أن يأتيها لطفل آخر تمسكه لترضعه أو تَكْفله بدلا من الذي مات وأبت ذلك أو أرادت هي أن يأتيها برضيع آخر ترضعه أو تكفله فأبى لم يلزم المخلوعة ذلك في الأولى ولا المخالع في الثانية لأن ما يستوفى من اللبن أو الكفالة إنما يتقدر بحاجة الصبى وحاجة الصبيان تختلف ولا تنضبط فلم يجز أن يقوم غيره مقامه.

(5)

.

‌مذهب الظاهرية:

قال ابن حزم: لا يحل الافتداء -وهو الخلع- إلا بأحد أمرين أو باجتماعهما).

(1)

الآية رقم 19 من سورة النساء.

(2)

كشاف القناع على متن الإقناع للشيخ منصور بن إدريس وبهامشه شرح المنتهى للبهوتي جـ 2 ص 110 الطبعة العامرة الشرقية 1219.

(3)

الآية السابقة.

(4)

المرجع السابق ص 126، 127، 1985، 186.

(5)

المرجع السابق ص 131 - 132، 192 - 193.

ص: 166

أحدهها - إذا كرهت المرأة زوجها فخافت ألا توفيه حقه.

الثاني - إذا خافت أن يبغضها فلا يوفيها حقها.

فلها أن تفتدى منه ويطلقها إن رضى هو وإلا لم يجبر هو ولا أجبرت هي إنما يجوز تراضيهما.

فإن وقع بغيرهما كما إذا أمسك الزوج زوجتة وهو مضاربها لتبذل له فداءها فبذلته ليطلقها فطلقها فالخلع باطل. ويرد عليها ما أخذ منها، وهى امراته كما كانت ويبطل طلاقه؛ ويمنع من ظلمها ومضاررتها فقط.

واحتج لذلك كله بقول الله عز وجل: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(1)

.

‌مذهب الزيدية:

إذا أمسك الزوج زوجته وضارها لتعطيه شيئا من مالها لأجل الخلع كان الخلع محظورًا لقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}

(2)

، فيقع الطلاق رجعيا وهذا إن لم يكن سبب مضارته لها هو ارتكابها الفاحشة.

أما إن ارتكبت فاحشة فأمسكها في ذمته ومنعها حقها فخالعته فوجهان:

أحدهما - يصح الخلع؛ لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}

(3)

.

والثانى - لا يصح وهو الأصح، لأن الخلع عقد فلا يصح مع الإكراه. وما ذكر منسوخ بقوله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}

(4)

وقد جعل الله لهن سبيلا بالجلد والرجم.

(5)

. ويحرم على الزوج إمساك زوجته التي ثبت أنها فسقت بالزنى،؛ كما يحرم عليه مداناتها ويجب عليه تطليقها مع تيقنه بالزنى لا بمجرد التهمة وكلام الناس فيندب طلاقها فإن أمسكها في ذمته مع رضاه بذلك صار ديوثا أي قوادًا يجوز قتله وذلك ما لم تتب عن الزنى فإن تابت لم يجب عليه تطليقها وهذا كله إذا فسقت بالزنى خاصة أما إذا فسقت بغير الزنى فإنه يجوز له إمساكها ولا يجب عليه تطليقها

(6)

.

ويصح الخلع على إمساك الأولاد لتربيتهم ونفقتهم ونفقة العدة؛ وتغتفر الجهالة في ذلك لصحة الخلع على مهر المثل على جهالة فيه. وإذا أطلق الرضاع فحولان والتربية سبع سنين أو ثمانى سنين، إذ لا يستقل الصبى بنفسه دونها.

(1)

المحلى لابن حزم جـ 11 ص 584، 598، 599 مسألة رقم 1982 الطبعة الأولى بمطبعة دار الاتحاد العربي 1290 والآية رقم 229 من سورة البقرة.

(2)

الآية رقم 19 من سورة النساء.

(3)

الآية السابقة.

(4)

الآية رقم 15 من سورة النساء.

(5)

البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار للمرتضى جـ 2 ص 178 طبع مطبعة السعادة بمصر طبعة أولى سنة 1366 هـ

(6)

التاج المذهب لأحكام المذهب شرح متن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار لأحمد بن قاسم الصنعاني جـ 4 ص 459 الطبعة الأولى بمطبعة دار إحياء الكتب العربية سنة 1947 م.

ص: 167

وإن مات الصبى خلال إمساكها له أو ماتت هي خلال ذلك فللأب أجرة ما بقى من الحضانة وقدر نفقتها

(1)

.

وإن نشز الزوج عما يعتاده من طيب عشرته لزوجته وهو ممسك لها فلها استرضاؤه بترك بعض حقوقها المالية له؛ لقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}

(2)

ويطيب له ذلك ما لم يخل بواجب

(3)

.

‌مذهب الإمامية:

لو أمسك الزوج زوجته ومنعها شيئا من حقوقها أو أغارها -تزوج عليها- لتبذل له مالا ليخلعها فبذلت أثم وصح الخلع وصح قبوله للمال، ولم يكن ذلك إكراها نعم لو أمسكها وأكرهها على الفدية فعل حراما، ولو طلق به وقع الطلاق. ولم تسلم إليه الفدية بالبذل منها فعليه رد ما أخذه عوضا لبطلان تصرف المكره. وطلاقها في هذه الحالة يكون رجعيا، لبطلان الفدية. ولا ينافى في هذا إنه قد يكون بائنا من جهة أخرى ككونها غير مدخول بها أو كون الطلقة ثالثة إن اتفقت.

نعم لو أتت بفاحشة مبينة - وهى الزنا، وقيل: ما يوجب الحد مطلقا، وقيل: كل معصية - جاز له إمساكها وعضلها - وهو منعها من بعض حقوقها أو جميعها - من غير أن يفارقها لتفتدى نفسها، لقوله تعالى:{وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}

(4)

والاستثناء من النفى إباحة. ولأنها إذا زنت لم يأمن أن تُلحق به ولدا من غيره وتفسدّ فراشه فلا تقيم حدود الله تعالى في حقه فيدخل في قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}

(5)

وقيل: لا يصح ذلك، ولا يستبيح المبذول مع العضل، لأنه في معنى الإكراه؛ ولقوله تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}

(6)

وقيل: إن الآية الأولى منسوخة بآية الحد. وأجيب بأن ذلك لم يثبت إذ لا منافاة بين الآيتين والأصل عدم النسخ.

وللزوجة ترك بعض حقوقها الواجبة لها على أزوجها من قسم ونفقة استمالة له لأجل إمساكها أو ليحسن عشرتها خلال إمساكه لها في ذمته. ويحل للزوج قبول هذا ولو كان الفداء إمساكها لولده لإرضاعه أو الإنفاق عليه صح بشرط تعيين مدة الرضاع وقدر النفقة التي يحتاج إليها ولو مات الولد قبل تمام المدة كان للمطلق استيفاء ما بقى فإن كان رضاعا رجع بأجرة مثله. وإن كان إنفاقا رجع بمثل ما كان يحتاج إليه في تلك المدة مثلا أو قيمة. ولا يجب عليها دفعه دفعة بل أدوارا في المدة كما كان يستحق عليها خلال إمساكها له لو بقى حيا.

وفى حالة موت الطفل خلال إمساكها يكون من حق المطلق أن يأتى بغيره لتمسكه للرضاع أو النفقة.

(1)

البحر الزخار السابق ص 183 - 184 الطبعة السابقة.

(2)

الآية رقم 128 من سورة النساء.

(3)

البحر الزخار السابق ص 89.

(4)

الآية رقم 19 من سورة النساء.

(5)

الآية رقم 229 من سورة البقرة.

(6)

الآية رقم 4 من سورة النساء.

ص: 168

ولو لم يحمل المطلق الصبى إليها للرضاع مع إمكانه حتى انقضت المدة ففى استحقاقه العوض نظر

(1)

!!

‌مذهب الإباضية:

من أمسك زوجته في ذمتة وتغلب عليها فحملها مالا تطيقه من تضييع حقوق وضيق معيشة وسوء معاشرة بلسان أو بدن أو نحو ذلك حتى افتدت منه لم يحل له أخذ هذا الفداء فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، سواء كان تحميله إياها ما لا تُطيق لتفتدى منه أو لغير ذلك لكن افتدت منه بسبب تحميله أو لذلك جميعا.

أما في الحكم والقضاء فيجوز له أخذ الفداء كما في الديوان.

وقيل: لا يجوز ذلك في الحكم والقضاء أيضًا كما ذكر ابن وصاف. ويلزمه رد ما أخذ من الفداء بسبب ذلك إن تاب وإلا لزمه الرد والتوبة جميعًا ولها أن تأخذه من ماله خفية.

وفى بعض الآثار: لا حد لكثرة الضرر وقلّته وإذا وجد الضرر منه وأصر عليه حل لها الفداء؛ وكذا هي إن ضرته

(2)

فإن قالت: لا أصلى ولا أصوم ولا أغتسل من جنابة حل له الفداء.

ويثبت الضرر بالشهود لمجاورتهم أو لكونهم أقارب أو بحيث تحققوا الشهادة والشهرة عن الجيران والخدم والأهل.

وإن افتدت فطلقها ثم ادعت أنه ضرها خلال إمساكه لها حتى افتدت رده لها وصح الطلاق، وذلك إن صح الضرر ببينة أو إقرار وإلا فلا يرده وإذا بينت أو أقرّ فلتحلف أنها إنما افتدت للإضرار.

وقيل: لا يلزمها يمين

(3)

.

‌إمساك المعقود عليه لاستيفاء الثمن أو الأجرة أو غيرهما وما يترتب عليه:

‌مذهب الحنفية: "إمساك المبيع

"

للبائع حق إمساك المبيع وحبسه عن المشترى لاستيفاء الثمن؛ لأن المعاوضات مبناها على المساواة عادة وحقيقة؛ ولا تتحقق المساواة إلا بتقديم تسليم الثمن لأن المبيع متعين قبل التسليم أما الثمن فلا يتعين إلا بالتسليم فلابد من تسليمه أولا تحقيقا للمساواة.

ويشترط لثبوت هذا الحق للبائع شيئان:

(أحدهما) - أن يكون أحد البدلين عينا والآخر دينا فإن كانا عينين أو دينين فلا يثبت حق إمساك المبيع وحبسه للبائع بل يسلمان معا.

(الثاني) - أن يكون الثمن حالا، فإن كان مؤجلًا لا يثبت حق الحبس للبائع، لأن ولاية الحبس تثبت حقا للبائع لطلبه المساواة عادة؛ ولما باع بثمن مؤجل فقد أسقط حق نفسه فبطلت ولاية الحبس.

(1)

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية لعلى بن أحمد العاملي جـ 2، 132، 165، 166، الطبعة الأولى مطبعة دار الكتاب العربى 1276.

- شرائع الإسلام للمحقق الحلى جـ 2 ص 42، 70، 71 طبعة دار مكتبة الحياة بيروت.

قواعد الأحكام للعلامة الحلبي ج 2 ص 77، 80 طبعة حجر سنة 1329 هـ.

(2)

شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد اطفيش ج 2 ص 499 طبع مطبعة البارونى وشركاه بالقاهرة.

(3)

المرجع السابق ص 500.

ص: 169

ولو كان الثمن مؤجلا في العقد فلم يقبض المشترى المبيع حتى حل الأجل فله أن يقبضه قبل نقد الثمن؛ وليس للبائع حق حبس المبيع وإمساكه عنه لأنه أسقط حق نفسه بالتأجيل والساقط متلاشى فلا يحتمل العود.

وكذلك لو طرأ الأجل على العقد بأن أخّر الثمن بعد العقد فلم يقبض المشترى المبيع حتى حل الأجل له أن يقبضه قبل نقد الثمن ولا يملك البائع حبسه. لما ذكر.

ولو كان بعض الثمن حالًا وبعضه مؤجلا فالبائع حق حبس المبيع حتى يستوفى الحال. وأما بيان ما يبطل به حق الحبس بعد ثبوته وما لا يبطل به فذكروا فضلا عما سبق أنه إذا نقد المشترى الشمن كله أو أبرأه البائع عن كله بطل حق الحبس، لأن حق الحبس لاستيفاء الثمن واستيفاء الثمن ولا ثمن محال ..

ولو نقد الثمن كله إلا درهما أو أقل كان له حق حبس المبيع جميعه لاستيفاء الباقى. لأن المبيع في استحقاق الحبس بالثمن لا يتجزأ.

وكذا لو باع شيئين صفقة واحدة وسمى لكل واحد منهما ثمنًا ففقد المشترى حقه أحدهما أو أبرأه منها كان للبائع حبسهما حتى يقبض ثمن الآخر.

وكذلك لو باع لاثنين فنقد أحدهما حصته كان للبائع حق حبس المبيع حتى يقبض ما على الآخر. في ظاهر الرواية. وروى عن أبى يوسف في النوادر: أنه إن نقد أحدهما نصف الثمن يأخذ نصف المبيع لأن الواجب على كل واحد منهما نصف الثمن فإذا أدى نصف الثمن فقد أدى ما وجب عليه فلا معنى لتوقف حقه في قبض المبيع على أداء صاحبه.

ووجه ظاهر الرواية: أن المبيع في حق الاستحقاق لحبس الثمن لا يحتمل التجزى فكان استحقاق بعض الثمن استحقاقه كله. ولأن الصفقة واحدة فلا تحتمل التفريق في البعض.

فإن كان أحدهما حاضرًا والآخر غائبًا فدفع الحاضر كل الثمن وقبض المبيع قال أبو حنيفة ومحمد: للحاضر أن يحبس المبيع عن الشريك الغائب حتى يستوفى ما نقد عنه ولا يكون متبرعا لأنه قضى دين صاحبه بأمره دلالة؛ ولو هلك في يده قبل الحبس يرجع على شريكه بنصف الثمن وقال أبو يوسف: ليس له أن يحبسه عن شريكه؛ لأنه قضى دين غيره بغير أمره فكان متبرعًا والرهن بالثمن والكفالة به لا يبطلان حق الحبس؛ لأنهما لا يسقطان الثمن عن ذمة المشترى ولا حق المطالبة به فكانت الحاجة إلى تعيينه بالقبض قائمة فيبقى حق الحبس لاستيفائه.

وأما الحوالة بالثمن فتبطل حق الحبس عند أبى يوسف. سواء كانت الحوالة من المشترى بأن أحال المشترى البائع بالثمن على إنسان وقبل المحال عليه الحوالة. أو من البائع بأن أحال دائنا له على المشترى وقال محمد: إن كانت الحوالة من المشترى لا يبطل حق الحبس فللبائع أن يحبس المبيع حتى يستوفى الثمن من المحال عليه. وإن كانت من البائع فإن كانت مطلقة لا تبطل حق الحبس أيضا. وإن كانت مقيدة بما عليه تبطله. فأبو يوسف اعتبر بقاء الحبس على بقاء الدين في ذمة المشترى وذمته برئت من الدين بالحوالة فيبطل حق الحبس. ومحمد اعتبر بقاء حق

ص: 170

المطالبة لبقاء حق الحبس وحق المطالبة لم يبطل بحوالة المشترى.

والصحيح اعتبار محمد؛ لأن حق الحبس في الشرع يدور مع حق المطالبة بالثمن لا مع قيام الثمن في ذاته بدليل أن الثمن إذا كان مؤجلا لا يثبت حق الحبس والثمن في ذمة المشترى قائم وإنما سقطت المطالبة؛ فدل هذا على أن حق الحبس يتبع حق المطالبة بالثمن لا قيام الثمن في ذاته.

ولو أعار البائع المبيع للمشترى أو أودعه بطل حق الحبس، حتى لا يملك استرداده وحبسه في ظاهر الرواية؛ لأن العارية والوديعة أمانة في يد المشترى وهو لا يصلح نائبا عن البائع في اليد لأنه أصل في الملك فكان أصلا في اليد فإذا وقعت العارية أو الوديعة في يده وقعت بجهة الأصالة وهى يد الملك؛ ويد الملك لازمة فلا يملك إبطالها بالاسترداد وروى عن أبى يوسف أن حق الحبس لا يبطل، وللبائع أن يسترده ليحبسه عنه لأن عقد الإعارة والإيداع ليس بعقد لازم فكان له ولاية الاسترداد.

ولو قبض المشترى المبيع بإذن البائع بطل حق الحبس، لأنه أبطل حقه بالإذن بالقبض وكذا إذا قبضه والبائع يراه ولا ينهاه ليس للبائع أن يسترده ليحبسه.

أما إن قبضة بغير إذن البائع لم يبطل حق الحبس وللبائع أن يسترده ليحبسه. لأن حق الإنسان لا يجوز إبطاله عليه من غير رضاه.

ولو كان المشترى تصرف فيه نظّر في ذلك إن كان تصرفا يحتمل الفسخ كالبيع والهبة والرهن ونحوه فسخه البائع واسترده؛ لأنه تعلق به حقه. وإن كان تصرفا فلا يحتمل الفسخ كالإعتاق والتدبير والاستيلاء بطل حق الحبس أصلا فلا يملك الاسترداد والإعادة إلى الحبس؛ لأن هذه التصرفات لا تحتمل النقض.

وفى المنتقى: اشترى بابا فقبضه بغير إذن البائع وسمره بمسامير حديد أو كان ثوبا فصبغه أو أرضا فبناها وغرسها فلبائع أن يأخذها ويحبسها.

فإن قال البائع: أنا أنزع المسمار وأقلع الكرم لتصير الأرض كما كانت فإن لم يكن في نزعه ضرر فله أن ينزعه وإن كان في نزعه ضرر فلا، فإذا هلك في يد البائع ضمن البائع قيمة المسمار والصبغ: ولو نقد المشترى الثمن فوجده البائع زيوفا أو رصاصا أو مستحقا ونحوه؛ أو وجد بعضه. كذلك فهذا لا يخلو إما أن يكون المشترى قبض المبيع وإما أن يكون لم يقبض فإن كان لم يقبضه كان له حق الحبس في الفصول كلها؛ لأنه تبين أنه ما استوفى حقه وإن كان قبضه المشترى بغير إذن البائع فللبائع أن يسترده ويحبسه في الفصول كلها وإن كان قبضه بإذن البائع فينظر إن وجده زيوفا فردها لا يملك استرداد المبيع وحبسه عند أبي حنيفة وصاحبه. لأنه استوفى جنس حقه من حيث الأصل وإنما الفائت صفة الجودة.

(1)

الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية للشهيد السعيد زين الدين الجبصى العاملى جـ 2 ص 117 طبع مطبعة دار مكتبة الحياة ببيروت سنة 1379 هـ سنة 1960 م.

(2)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين أبى بكر بن مسعود الكاسائي جـ 7 ص 276، ص 277 طبع مطبعة الجمالية بمصر سنة 1328 هـ سنة 1910 م الطبعة الأولى.

ص: 171

وعند زفر: له أن يسترد المبيع ويحبسه عن المشترى. لأنه ما رضى بزوال حق الحبس إلى بوصول حقه إليه؛ وحقه في الثمن السليم لا في المعيب.

وإن وجده رصاصا أو مستحقا وأخذ منه له أن يسترد المبيع ويحبسه بخلاف الزيوف لأن البائع لم يستوف حقه أصلًا ورأسًا لأن الرصاص ليس من جنس حقه

(1)

وما لم يسلم المبيع فهو في ضمان البائع في جميع زمان حبسه وإمساكه؛ فلو هلك في يد البائع بفعله أو بفعل المبيع نفسه بأن يكون حيوانا فقتل نفسه أو بأمر سماوى بطل البيع فإن كان قبض الثمن أعاده إلى المشترى، وإن كان بفعل المشترى فعليه ثمنه إن كان البيع مطلقا أو بشرط الخيار للمشترى. وإن كان الخيار للبائع أو كان البيع فاسدا لزمه ضمان مثله إن كان مثليا وقيمته إن كان قيميا. وإن هلك بفعل أجنبى فالمشترى بالخيار إن شاء فسخ البيع وعاد المبيع إلى ملك البائع ويضمن له الجاني في المثليّ المثل وإلا فالقيمة. فإن كان الضمان من جنس الثمن وفيه فضل لا يطيب له؛ وإن كان من خلافه طاب وإن شاء اختار إمضاء البيع وَدَفْعَ الثمن واتبع الجانى في الضمان فإن له ذلك فإن كان في الضمان فضل فعلى ذلك التفضيل

(2)

.

وإذا اطلع المشترى على عيب في المبيع فليس له أن يمسكه ويأخذ نقصان العيب. لأن الأوصاف لا يقابلها شيء من الثمن في مجرد العقد. وهو بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء رده، لأن مطلق العقد يقتضى وصف السلامة فعند فواته يتخير

(3)

وذلك ما لم يتعين إمساكه وعدم رده فإذا وجد ما يمنع الرد تعين الإمساك وذلك كما إذا اشترى أحد الجلالين من الآخر صيدا ثم أحرما أو أحدهما ثم وجد المشترى به عيبا امتنع رده ورجع بالنقصان، ونحو ما إذا اشترى من آخر حيوانا وباعه لغيره ثم اشتراه من ذلك الغير فرأى عيبا كان عند البائع الأول أمسكه ولم يرده على الذي اشتراه منه؛ لأنه غير مفيد؛ إذ لو رده يرده الآخر عليه ولا يرده أيضا على البائع الأول لأن هذا الملك غير مستفاد من جهته؛ وكذا يتعين إمساكه لو وهبه البائع الثمن ثم وجد بالمبيع عيبا

(4)

. وكذلك يجوز للمشترى أن يمسك المبيع ويحبسه في البيع الفاسد حتى يسترد الثمن الذي دفعه لأن المبيع مقابل به فيصير محبوسا به. وعلى هذا الإجارة الضاسدة والرهن الفاسد اعتبارًا بالمقد الجائز إذا تفاسخا فللمستأجر أن يمسك ما استأجر حتى يأخذ الأجرة التي دفعها للمؤجر، وكذا المرتهن حتى يقبض الدين. لأن هذه عقود معاوضة فتجب التسوية بين البدلين.

وهذا إذا كان قد أقبض الثمن فملا. أما إذا اشترى من مدينة حصانا مثلا بدين سابق شراء فاسد وقبضه بالإذن فأراد البائع أخذه بحكم الفساد ليس للمشترى إمساكه وحبسه لاستيفاء

(1)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام الكاساني جـ 5 ص 249 الطبعة الأولى بمطبعة الفجالة 1328 وانظر أيضا الفتاوى الهندية جـ 3 ص 15، 16 الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية 1310 هـ.

(2)

شرح فتح القدير للكمال بن الهمام على الهداية جـ 5 ص 109 طبع مطبعة مصطفى محمد بالقاهرة سنة 1356 هـ

(3)

نفس المرجع السابق ص 151 - 152.

(4)

حاشيه ابن عابدين على الدر المختار شرح تنوير الأبصار المسماة "رد المحتار" ج 5 ص 6 الطبعة الثانية بمطبعة الحلي 1386.

ص: 172

دينه. وكذلك لو آجر من داينه إجارة فاسدة.

(1)

وإذا أصر البائع والمشترى على إمساكهما للثمن والمبيع في البيع الفاسد نفاذًا للعقد وعلم به القاضي فسخه جبرا عليهما حقا للشرع. أما إذا أصر أحدهما فقط على إمساكه للثمن أو المبيع فللآخر أن يفسخ البيع بعلم الممسك لا برضاه، وفسخه هذا لا يحتاج إلى حكم القاضي لأنه يجب على كل واحد منهما فسخه قبل القبض أو بعده ما دام المبيع بحاله في يد المشترى إعداما للفساد؛ لأنه معصية فيجب شرعا رفعها

(2)

.

‌الوكيل بالشراء

إذا نقد الثمن من مال نفسه أن يمسك المبيع ويحبسه عن الموكل إلى أن يعطيه جميع الثمن ولو بقى منه درهم، لأن الوكيل بمنزلة البائع للموكل، وللبائع حق إمساك المبيع لقبض الثمن، وسواء كان الوكيل دفع الثمن إلى البائع أو لم يدفع على الصحيح وقال زفر: ليس له إمساك المبيع وحبسه عن الموكل. لأن الموكل صار قابضا بقبض الوكيل فكأنه سلمه إليه فيسقط حق الحبس.

فإن أمسكه وحبسه - بناء على القول الأول - فهلك كان مضمونا ضمان الرهن عند أبى يوسف لأنه مضمون بالحبس للاستيفاء بعد أن لم يكن وهو الرهن بعينه.

وضمان المبيع عند أبى حنيفة ومحمد. لأنه بمنزلة البائع من الموكل فكان حبسه لاستيفاء الثمن فيسقط بهلاكه.

وضمان الغصب عند زفر لأنه إمساك ومنع بغير حق. مثله أو قيمته بالغة ما بلغت

(3)

. هذا في إمساك المبيع لاستيفاء الثمن.

‌إمساك العين للأجرة

أما إمساك العين لاستيفاء الأجرة فقالوا: إن كل صانع لعمله أثر ظاهر في العين كالخياط والقصار والصباغ والإسكاف له أن يمسك العين ويحبسها حتى يستوفى الأجر لأن المعقود عليه هو ذلك الأثر وهو صيرورة الثوب مخيطا أو مقصورا؛ وهو وصف قائم في الثوب وهو ظاهر والمعقود عليه جاز حبسه لاستيفاء البدل كما في المبيع؛ والوصف لا ينفك عن العين فجاز حبسها لذلك. ولو حبسه فضاع لا ضمان عليه عند أبى حنيفة لأنه غير متعد في الحبس فبقى أمانة كما كان عنده. ولا أجر له لهلاك المعقود وعليه قبل التسليم وعند أبى يوسف ومحمد: العين كانت مضمونة عليه قبل الحبس فبعد الحبس أولى لكنه بالخيار إن شاء ضمنه قيمته غير معمول ولا أجر له وإن شاء ضمنه معمولا وله الأجر وإن لم يكن لعمل الصانع أثر ظاهر في العين كالحمال والملاح والمكارى فليس له أن يمسك العين ويحبسها لاستيفاء الأجرة. لأن المعقود عليه هنا هو نفس العمل وهو غير قائم بالعين فلا يتصور حبسه، فليس له ولاية الحبس.

ولو حبسه فهلك قبل التسليم لا تسقط الأجرة ويضمن لأنه حبسه بغير حق فصار غاصبا

(1)

شرح فتح القدير على الهداية السابق جـ 5 ص 234 الطبعة السابقة. وانظر أيضا جامع الفصولين لابن قاضى سماوه ج 2 ص 50 الطبعة الأولى بالمطبعة الأزهرية سنة 1200 هـ.

(2)

حاشية ابن عابدين على الدر المختار السابق ج 5 ص 91 الطبعة السابقة.

(3)

نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار لقاضى زادة والهداية والعناية "تكملة فتح القدير" ج 6 ص 37 - 39.

جامع الفصولين السابقة جـ 2، 81.

ص: 173

بالحبس؛ ونص محمد على الغصب فقال: فإن الحبس الحمال المتاع في يده فهو غاصب ووجهه: أن العين كانت أمانة في يده فإذا حبسها بدينه فقد صار غاصبا

(1)

.

وليس للمؤجر حبس الدار المستأجرة لاستيفاء الأجرة؛ كذا ذكره الإمام التمرتاشى

(2)

. ولو مات المؤجر وعليه ديون فللمستأجر حبس الدار المستأجرة له و هو أحق بثمنها من سائر الدائنين وذلك إذا كانت الدار بيد المستأجر وكان قد دفع الأجرة وانفسخ عقد الإجارة بموت المؤجر.

بخلاف ما إذا عجل الأجرة ولم يقبض الدار حتى مات المؤجر فإنه لا يكون له إمساك الدار وحبسها حتى يستوفى ما دفعه من أجرة بل يكون أسوة لباقى الدائنين

(3)

.

ولو أمسك المستأجر العين المستأجرة - حيوانًا كانت أو غيره - بعد انتهاء الإجارة في بيته أو غيره لم يضمن إن هلكت، لأنه لا يجب عليه ردها للمؤجر بل على المؤجر أخذها

(4)

.

ولو استأجر دابة ليركبها إلى مكان كذا فأمسكها في بيته لا يجب الأجر وضمن لو هلكت وكذلك الحكم لو أمسكها في المصر. ولو استأجرها ليركبها في المصر يوما إلى الليل فأمسكها ولم يركب يجب الأجر ولا يضمن. كذا في الفتاوى الصغرى. وفى الذخيرة: لو استأجرها من بلد إلى بلد فأمسكها في بيته فهلكت فلو أمسكها قدر ما الناس ليهيؤا أمورهم يبرأ من الضمان ويجب الأجر ولو أمسكها أكثر من ذلك ضمن ولو استأجرت قميصا لتلبسه فأمسكته ووضعته في بيتها حتى مضى اليوم يجب الأجر ولا تضمن لو هلك ولو استأجرت حليا لتلبسه يوما إلى الليل فحبسته أكثر من يوم وليلة صارت غاصبة قالوا: هذا لو حبسته بعد الطلب أو حبسته مستعملة. أما لو حبسته حفظ لا تصير غاصبة قبل الطلب، إذا أنه بقى أمانة فلا تضمن إلا باستعمال أو بمنع بعد الطلب.

والفاصل بين إمساك الحفظ وإمساك الاستعمال أنه لو أمسك في موضع يمسك للاستعمال فهو استعمال. ولو أمسك في موضع لا يمسك فيه للاستعمال فهو حفظ فعلى هذا لو تسورت بخلخال؛ أو تخلخلت بسوار؛ أو تعمم بقميص، أو وضع العمامة على عاتقه. فهذا كله إمساك حفظ لا استعمال

(5)

.

‌إمساك الوديعة:

إذا شرط المودع "بكسر الدال" على المودع "بفتح الدال" أن يحفظ الوديعة بيده ليلا ونهارا أولا يضمها من يده فالشرط باطل حتى لو وضعها في بيته أو فيما يحرز فيه ماله عادة فضاعت لا ضمان عليه، لأن إمساك الوديعة بيده بحيث لا يضعها أصلا غير مقدور له عادة

(1)

نتائج الأفكار "تكملة فتح القدير" والهداية والعناية جـ 7 ص 162، 163. الطبعة السابقة.

وانظر أيضا بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع السابق جـ 4 ص 204.

(2)

حاشية ابن عابدين على الدر المختار السابق جـ 5 ص 231 من المتفرقات بعد السلم. الطبعة السابقة.

(3)

المرجع السابق جـ 4 من 564.

(4)

جامع الفصولين لابن قاضى سماوه جـ 2 ص 165.

(5)

المرجع السابق ص 168، 169، 178.

ص: 174

فكان شرطا لا يمكن مراعاته فيلغو

(1)

.

ولا يجوز للمودع "بفتح الدال" أن يمسك الوديعة ويحبسها عن صاحبها في مقابل دين له عليه؛ فإن أمسكها لذلك ضمنها إن هلكت

(2)

.

وكذلك لا يجوز له إمساكها عن صاحبها بعد طلبها فإن أمسكها بعده فضاعت ضمن

(3)

.

أما إذا أمسك المودع الوديعة بعد مضى المدة المحددة لها في عقد الإيداع فلا يضمن لأن الإمساك في الوديعة لمصلحة الملك. سواء كان قبل مضى الوقت المحدد أم بعده لأنه بعد مضى الوقت بنى على القبض السابق وهو كان لمصلحة المالك؛ بخلاف العارية كما سيأتي ولأن مؤنة رد الوديعة على المالك فالتقصير منه

(4)

.

وإن غاب رب الوديعة ولا يدرى أحى هو أو ميت فلا يؤثر هذا في إمساك المودع للوديعة بل يظل ممسكًا لها. وإن أنفق عليها خلال إمساكه لها بدون أمر القاضي فهو متطوع. ويسأله القاضي البينة على كونها وديعة عنده وعلى كون المالك غائبا؛ فإن برهن على ذلك فلو كانت الوديعة مما يؤجر وينفق عليها من غلتها أمره به. وإلا يأمره بالإنفاق يوما أو يومين أو ثلاثة رجاء أن يحضر المالك لا أكثر. فإن لم يحضر أمره بالبيع وإمساك الثمن لحين حضور مالكها وإن أمره بالبيع ابتداء فلصاحبها الرجوع عليه به إذا حضر. ولو اجتمع عنده خلال إمساكه لها من ألبانها مثلًا شيء كثير أو كانت أرضا فأثمرت وخاف فساده فباعه بلا أمر القاضي فلو في المصر أو موضع يتوصل إلى القاضي قبل أن يفسد ذلك ضمن

(5)

.

‌إمساك اللقطة:

وللملتقط إمساك اللقطة وحبسها عن صاحبها ليستوفى النفقة التي أنفقها عليها بأمر القاضي، لأنها ظلت حية فصار كأنه استفاد الملك من جهته فأشبه إمساك المبيع لاستيفاء الثمن فإن لم يعطه باعها القاضي وأعطى الملتقط نفقته ورد على صاحبها الباقى. فإن ملكت اللقطة بعد إمساك الملتقط وحبسه لها عن صاحبها لم يضمن وسقطت النفقة لأنها تصير بالحبس كالرهن من حيث تعلق حقه به. ذكر هذا صاحب الكافى تبعا لصاحب الهداية ولم يحك فيه خلافا فيفهم أنه المذهب، وجعله القدورى قول زفر، قال في التقريب "قال أصحابنا لو أنفق على اللقطة بأمر القاضي وحبسها بالنفقة فهلكت لم تسقط النفقة خلافا لزفر، لأنها دين غير بدل عن عين ولا عن عمل منه فيها، ولا يتناولها أي العين. عقد يوجب الضمان، أي أن الدين ثابت وليست العين الملتقطة رهنا ليسقط الدين بهلاكها إذ لم يتناولها عقد رهن. وصرح في الينابيع بعدم سقوط النفقة عند الأئمة الثلاثة أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد خلافا لزفر.

(1)

بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى ج 6 ص 209 الطبعة السابقة.

(2)

المرجع السابق ج 4 ص 204.

(3)

المرجع السابق ج 6 ص 210.

(4)

حاشية قرة عيون الأخبار تكملة رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين جـ 8 ص 400 الطبعة السابقة.

وانظر أيضا جامع الفصولين السابق ج 2 ص 158.

(5)

حاشية قرة عيون الأخبار السابق جـ 8 ص 271.

ص: 175

قال ابن عابدين: وظاهر فتح القدير اعتماد ما ذكره القدورى فإنه قال: إنه المنقول. وكذا نقل في الشرنبلالية عن خط العلامة قاسم أن ما في الهداية ليس بمذهب لأحد من علمائنا الثلاثة، وإنما هو قول زفر. ثم نقل عن المقدسى أنه يمكن أن يكون عن علمائنا فيه روايتان؛ أو اختار في الهداية قول زفر، وعلى ما في الهداية جرى في الملتقى والدرر والنقاية وغيرها

(1)

.

‌إمساك الآبق:

إذا أخذ شخص عبدا آبقا لصاحبه فإن شاء الآخذ أمسكه على صاحبه حتى يجئ فيأخذه وإن شاء ذهب به إلى صاحبه فرده عليه.

فإن فأمسكه حتى يجئ صاحبه فجاء شخص وادعى أنه عبده دفعه إليه إن أقام البينة، أو أقر العبد بذلك. وأخذ منه كفيلا. لجواز أن يجئ آخر فيدعيه ويقيم البينة. إذا جاء بالآبق إلى صاحبه فله أن يمسكه لاستيفاء الجعل، أنه إذا جاء به فقد استحق الجعل على مالكه فكان له حق إمساكه وحبسه بالجعل كما يحبس المبيع لاستيفاء الثمن.

فإن مات في يده خلال إمساكه فلا ضمان عليه لكن يسقط الجعل وسواء مات بعدما قضى له القاضي بإمساكه في مقابل الجعل، أم مات قبل المرافعة إلى القاضي وللقاضى أن يحبسه عن صاحبه لدين نفقته التي أنفقها عليه مدة حبسه من بيت المال

(2)

.

‌إمساك العارية:

لو كانت العارية مؤقتة فأمسكها المستعير بعد انقضاء الوقت مع إمكان الرد ضمن حتى ولو لم يستعملها بعد الوقت هو المختار، وسواء توقتت نصا أو دلالة حتى أن من استعار قدوما ليكسر حطبا فكسره وأمسك القدوم حتى هلك يضمن ولو لم يوقت. وكذلك من استعار قدرًا لغسل الثياب فغسل وأمسكه حتى سرق ليلا ضمن، والمكث المعتاد عفو، وذلك لأن إمساك العارية بعد مضي الوقت لنفسه لأنه بنى على القبض السابق وذاك كان لنفسه وعدم الضمان في الوقت كان للإذن فلم يوجد بعد مضيه بخلاف إمساك الوديعة بعد الوقت على ما سبق.

واختار صاحب المحيط وشيخ الإسلام أنه إنما يضمن إذا أمسكها واستعملها بعد الوقت أما إذا لم يستعملها فلا ضمان. كما في الشرنبلالية عن المجمع

(3)

.

وكذلك يضمن المستعير العارية إذا أمسكها بعد طلب المعير لها ولو قبل انقضاء المدة المنصوص عليها عند عقد الإعارة. وذلك لأن العارية واجبة الرد في هاتين الحالتين، لقول صلى الله عليه وسلم "العارية مؤداة"

(4)

. وقوله تؤديه"

(5)

. ولأن حكم العقد انتهى بانقضاء المدة أو الطلب فصارت العارية بإمساكها في يده بعد ذلك كالمغصوب. والمغصوب مضمون الرد حال قيامه. ومضمون القيمة حال هلاكه

(6)

.

(1)

حاشيه ابن عابدين على الدر المختار شرح تنوير الأبصار جـ 4 ص 242 الطبعة السابقة وانظر أيضا فتح القدير للكمال بن الهمام والهداية ج 4 ص 430، وجامع الفصولين جـ 2 ص 81.

(2)

بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع السابق ج 6 من 203

وحاشية ابن عابدين على الدر المختار شرح تنوير الأبصار ج 4 ص 292.

(3)

جامع الفصولين السابق جـ 2 ص 159

حاشية قرة عيون الأخبار تكمله رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين جـ 8 ص 387، 400، 404

(4)

رواه أحمد وأبو داود عن يَعْلى بن أمية (انظر: نيل الأوطار جـ 5 ص 269) الطبعة الأولى بالمطبعة العثمانية سنة 1357.

(5)

رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الحاكم عن الحسن عن سمرة (انظر: نيل الأوطار السابق جـ 5 ص 298).

(6)

بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع السابق جـ 6 ص 218، 412.

ص: 176

وإن طلبها المعير من المستعير فقال: نعم أدفع ومضى شهر حتى هلكت فإن كان قادرا وقت الطلب على الرد وصرح المعين بالكراهة والسخط في الإمساك وأمسك المستعير يضمن وكذا إن سكت. وإن صرح المعير بالرضا بالإمساك بأن قال: لا بأس مثلا لا يضمن. وكذا لا يضمن إن كان عاجزا وقت الطلب عن الرد

(1)

.

ولو قيد المعير الإعارة بالاستعمال بأن قال: على أن يستعمل العارية فأمسكها المستعير ولم يستعملها حتى هلكت يضمن. لأن الإمساك من خلاف فيوجب الضمان

(2)

.

ولو استعار دابة للذهاب فأمسكها في بيته فهلكت ضمن. لأنه أعارها للذهاب لا للإمساك في البيت فكان به متعديا. وعلق على ذلك ابن عابدين فى حاشيته على الدر المختار بقوله: لكن قد يقال: إنه خالف إلى خير لا إلى شر فكان الظاهر أن لا يضمن. إلا أن يقال: إن إمساك الدابة في المكان ضرر بها عادة. ثم قال ولعل في المسألة روايتين

(3)

.

ولو نزل المستعير عن الدابة المستعارة ليصلى في الصحراء وأمسكها فانفلتت منه لم يضمن وهذه المسألة دليل على أن المعتبر في إمساكها ألا يغيبها عن بصره كذا في الظهيرية ولو دفعها إلى رجل ليمسكها حتى يصلى ضمن لو شرط أن يركب بنفسه وإلا فلا يضمن

(4)

وهلاك المستعار (العارية) بسبب سوء إمساكه باليد موجب للضمان. فلو دخل رجل الحمام فسقطت قصعة الحمام من يده وانكسرت في الحمام أو انكسر كوز الفقاعيّ من يده قال أبو بكر البلخى: لا يكون ضامنا، قيل: هذا إذا لم يكن من سوء إمساكه فإن كان من سوء إمساكه يكون ضامنا كذا في فتاوى قاضيخان

(5)

.

‌إمساك متاع المضاربة:

إذا اشترى المضارب بالمال متاعا فقال المضارب: أنا أمسكه حتى أجد ربحا كثيرا وأراد رب المال بيعه فهذا على وجهين:

إما أن يكون في مال المضاربة فضل بأن كان رأس المال ألفا فاشترى به متاعا يساوى ألفين أو لم يكن في المال فضل بأن كان رأس المال ألفا واشترى به متاعا يساوى ألفا.

ففى الوجهين جميعا لا يكون للمضارب حق إمساك المتاع من غير رضا رب المال إلا أن يعطى لرب المال رأس المال إن لم يكن فيه فضل، ورأس المال وحصته من الربح إن كان فيه فضل فحينئذ له حق إمساكه.

فإن لم يعط ذلك ولم يكن له حق إمساكه فإن كان في المال ربح أجبر على البيع إلا أن يدفع للمالك رأس ماله مع حصته من الربح.

وإن لم يكن في المال ربح لا يجبر على البيع ويقال لرب المال: المتاع كله خالص ملكك فأما أن تأخذه برأس مالك أو تبيعه حتى تصل إلى رأس مالك.

أما إذا أراد المالك أن يمسك المتاع والمضارب يريد بيعه فله بيعه ولا يملك المالك فسخ المضاربة ولا تخصيص الإذن لأنه عزل من وجه. وإنما لا يملك ذلك لأن للمضارب حقا في الربح

(6)

.

(1)

حاشية قرة عيون الأخيار تكملة رد المختار على الدر المختار لابن عابدين 1 جـ 8 ص 418 الطبعة السابقة.

(2)

بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى ج 6 ص 216 الطبعة السابقة.

(3)

حاشية قرة عيون الأخيار السابق جـ 8 ص 414، 416

(4)

جامع الفصولين لابن قاضى سماوه جـ 2 ص 156

وانظر أيضا تكملة حاشية ابن عابدين جـ 8 ص 417

(5)

المرجع السابق نفس الصفحة.

وانظر أيضًا القتاوى الهندية جـ 4 ص 368 طبعة المطبعة الأميرية سنة 1210 هـ

(6)

تكملة حاشية ابن عابدين على الدر المختار جـ 8 ص 325، 309 الطبعة السابقة.

ص: 177

‌مذهب المالكية: "إمساك المبيع

"

يجوز للبائع إمساك المبيع وحبسه عن المشترى لأجل قبض الثمن. وذلك إذا كان الثمن حالا. كما يجوز له حبس المبيع عن المشترى لأجل أن يشهد على تسليم المبيع للمشترى، أو على أن الثمن حالّ في ذمته ولم يقبضه منه أو مؤجل.

وإذا حبس البائع المبيع لكل ذلك فإنه يضمنه إذا هلك خلال ذلك ضمان الرهن أي فيفرق بين ما يغاب عليه وهو ما يمكن إخفاءه. وما لا يغاب عليه. فما لا يغاب عليه لا ضمان عليه فيه إذا ادعى تلفه أو هلاكه إلا أن يظهر كذبه. وما يغاب عليه هو في ضمانه إلا أن يقيم بينة أنه تلف بغير سببه فإنه لا ضمان عليه حينئذ.

وأما إذا كان الثمن مؤجلًا فليس للبائع حينئذ حبس المبيع عن المشترى كما قال ابن بشير وبناء عليه لو حبسه عن المشترى بغير رضاه لكان متعديا فيضمن مطلقا.

وإذا كان الثمن مؤجلا وحلّ والمبيع في يد البائع لم يقبضه المشترى فقيل: ليس له حبسه كذلك، لأنه رضى ابتداء بتسليمه دون قبض الثمن، وقيل: له حبسه، ويعتبر الثمن كالحال حينئذ.

وإذا تنازع البائع والمشترى في التسليم أوَّلًا بأن قال البائع للمشترى: لا أدفع المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشترى للبائع: لا أدفع لك الثمن حتى أقبض المبيع فإن المشترى يجبر على تسليم الثمن أوَّلًا. قال ابن رشد: "من حق البائع ألا يدفع ما باع حتى يقبض ثمنه، لأن ذلك في يده كالرهن بالثمن فمن حقه ألا يدفع إليه ما باع منه ولا يزنه ولا يكيله له إن كان مكيلا أو موزونا حتى يقبض ثمنه".

وهذا إذا بيع عرض أو مثليّ بنقد. أما إن كان بيع دراهم بدراهم أو دنانير بدنانير مراطلة أو مبادلة أو دراهم بدنانير على وجه الصرف أو بيع عرض بعرض أو مثلى بمثليّ أو عرض بمثليّ لم يجبر واحد على التبدئة، بل يوكل القاضي. إن كان بحضرته. في المراطلة شخصا يمسك الميزان ثم يأخذ كل منهما مال الآخر. وفى الصرف يوكل من يقبض لهما ويفسد العقد بالتراخى في النقود، وفى بيع العرض بمثله يوكل أيضا أو يتركا حتى يصطلحا، لأن العقد لا يفسد بالتراضى إن كانا عرضين أو مثليين.

وإذا استحق من المبيع جزء شائع يثبت للمشترى الخيار بين إمساك الباقى والرجوع بحقه المستحق وبين الرد والرجوع بجميع الثمن. وسواء قل الجزء المستحق أو كثر. ولا يحرم عليه إمساك الأقل. أما إذا استحق من المبيع جزء معين فينظر في الباقى بعد الاستحقاق فإن كان النصف فأكثر لزم إمساكة بحصته من الثمن إن تعدد المبيع وإن كان أقل من النصف وجب رده عندئذ وحرم إمساك الأقل الباقى، لاختلال البيع باستحقاق أكثره فإمساك المشترى باقيه عندئذ يكون كانشاء عقد بثمن مجهول، إذا لا يعلم ما يخص الباقى إلا بعد تقويم الجميع ثم النظر فيما يخص كل جزء على انفراده. وهذا إذا كان المبيع غير مثلى. أما إذا كان مثليا فلا يحرم على المشترى إمساك الأقل لكن التخيير يكون بين الفسخ وإمساك الباقى بحصته من الثمن، لأن منابه من الثمن معلوم

(1)

.

(1)

شرح الخرشى على مختصر خليل بحاشية العدوى جـ 5 ص 182، 185 الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية 1299 هـ.

وانظر أيضا الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل بحاشية الدسوقى جـ 2 ص 144 - 147 الطبعة الأولى بمطبعة السعادة 1328 هـ.

ص: 178

وكذلك يخير المشترى بين إمساك الدابة المصرّاة وبين ردها على البائع مع صاع من غالب قوت محل المشترى عوضا عن اللبن الذي حلبه المشترى منها ولو كثر، وذلك لما روى أبو هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"لا تُقُّدو الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردّها وصاعا من تمر" متفق عليه وللبخارى وأبى داود: "من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففى حَلبتها صاع من تمر"

(1)

. والتصرية هي ترك حلب الناقة أو الشاة أو البقرة حتى يجتمع لبنها فيكثر فيظن المشترى أن ذلك عادتها فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها.

ويثبت له هذا الخيار إن لم يعلم أنها مصراة، أما إن اشترَاها وهو عالم أنها مصراة لم يكن له رد إلا أن وجدها تحلب دون المعتاد. ولو علم بعد شرائها وقبل حلبها وأمسكها ليختبر حلابها حلف أنه لم يرد إمساكها رضا بها وكان له ردها، ولو أشهد أنه أمسكها للاختبار لم يحلف وكذا لو علم بعد حلابها وأمسكها ليحلبها ثانيا لأجل أن يعلم عادتها.

وكذلك الحكم في كل مبيع وقع فيه تغرير فِعْلى من تصرية وغيرها يرد لبائعه أو يمسك لكن ما وقع فيه التصرية من الأنعام فقط يرد مع صاع من غالب قوت محل المشترى

(2)

. على تفصيل ينظر في مصطلح "بيع" و"خيار".

‌إمساك الوديعة:

إذا قال المودع (بكسر الدال) للمودع (بفتحها): اربط الوديعة في كمك فأمسكها في يده أو وضعها في جيبه فلا ضمان عليه إن سقطت أو أخذها غاصب من يده، لأن إمساكها في اليد أحفظ من الكم إلا أن يكون المودع (بكسر الدال) أراد إخفاءها عن عين الغاصب فرآها لما جعلها المودع (بفتح الدال) في يده.

وكذلك لا ضمان على المودَع إن سقطت أو غصبت من جيبه اللهم إلا أن يكون شأن السُرَّاق قصد الجيوب.

وعدم الضمان هنا بناء على ما اختاره اللخمى ورجحه ابن عبد السلام خلافا لما في الزاهى لابن شعبان من أنه يضمن

(3)

.

‌إمساك اللقطة:

إذا أمسك الملتقط اللقطة سنة ولم يعرفها ثم عرفها في الثانية فهلكت ضمنها وكذلك إذا أمسكها ولم يعرفها وهلكت في السنة الأولى ضمنها إذا تبين أن صاحبها من أهل الموضع الذي وجد فيه وإن كان من غيره فغاب بقرب ضياعها ولم يقدم في الوقت الذي ضاعت فيه لم يضمن

(4)

.

وللملتقط إمساك اللقطة وحبسها لصاحبها بعد تعريفها السنة، أو التصدق بها أو تملكها. هذا إذا كان الملتقط غير الإمام. وأما الإمام

(1)

الحديث الأول رواه أحمد والبخارى ومسلم، وروى مثله الجماعة إلا البخارى (انظر ك: نيل الأوطار جـ 5 ص 214) الطبعة السابقة.

(2)

الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل بحاشية الدسوقى السابق جـ 3 ص 114، 115.

وشرح الخرشى أيضا بحاشية العدوى جـ 5 ص 152، 153.

(3)

شرح الخرشى جـ 6 ص 129

الشرح الكبير جـ 3 ص 427.

(4)

مواهب الخليل لشرح مختصر خليل للحطاب وبهامشه التاج الإكليل جـ 6 ص 72، 73 الطبعة الأولى بمطبعة السعادة بمصر 1329 هـ.

ص: 179

فليس له إلا حبسها أو بيعها لصاحبها وإمساك ثمنها في بيت المال

(1)

.

وللملتقط إمساك اللقطة وحبسها عن صاحبها حتى يستوفى النفقة التي أنفقها عليها قال الدسوقي فى حاشيته على الشرح الكبير: لو أنفق اللمتقط على اللقطة من عنده كل النفقة أو بعضها كما لو أكراها فنقص الكراء عن نفقتها وكمل الملتقط نفقتها من عنده فصاحبها مخير بين أن يسلم له اللقطة في نفقته، أو يفتديها من الملتقط بدفع ماله من النفقة. وذلك لأن النفقة في ذات اللقطة لا في ذمة صاحبها

(2)

.

‌إمساك العبد الآبق:

جاء في المدونة: ومن أخذ آبقا رفعه إلى الإمام ويوقفه - أي ليمسكه ويحفظه - سنة، وينفق عليه ويكون الإمام فيما أنفق عليه كالأجنبى فإن جاء صاحبه أخذ منه النفقة وألا باعه وأخذ من ثمنه ما أنفق وحبس بقية الثمن لصاحبه في بيت المال وللملتقط ألا يرفعه إلى الإمام وأن يفعل ما يفعله الإمام، وكذلك جاء فيها بالنسبة لضوال الإبل ونحوها أنها تحبس ثم تباع فتمسك أثمانها لأصحابها وهذا. أي حبس الضوال والآبق ثم بيعهما وإمساك الثمن. أو لى من إرسالهما كما قال البعض، لئلا يأبق ثانية أو يضيع الحيوان علي صاحبه

(3)

.

انظر مصطلح "جعالة"

‌إمساك العين المستأجرة:

يضمن المستأجر إن أمسك الدابة المستأجرة له وحبسها عند صاحبها بعد انقضاء المدة المشترطة في الإجارة، وصاحبها حينئذ مخير بين أمرين:

أحدهما) - أن يأخذ أجرتها عن المدة الزائدة التي حبسها فيها مع الأجر الأول، سواء استعملها المستأجر خلال حبسه هذا أم لا.

الثاني) - أن يأخذ قيمتها يوم تعدي المستأجر بحبسها عنه مع الأجر الأول وسواء تغيرت الدابة أو لم تتغير له أخذ القيمة أو الأجرة على المشهور انظر مصطلح إجارة، ومحل خياره هذا فيما إذا حبسها المستأجر كثيرا كشهر ونحوه، أو حبسها حتى تغير سوقها الذي تراد له إجارة أو بيعا كحبسها عن صاحبها عند خروج القوافل إلى الشام مثلا.

أما إذا حبسها المستأجر زمنا يسيرا كاليوم ونحوه فليس لصاحبها سوى أجرة هذا اليوم الزائد مع الأجر الأول

(4)

.

‌مذهب الشافعية

"‌

‌ إمساك المبيع والثمن

"

لكل من العاقدين إمساك عوضه وحبسه حتى يقبض مقابله إن خاف فوته يهرب أو غيره سواء كان الثمن معينا أو في الذمة.

(1)

الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل بحاشية الدسوقى جـ (4) ص 108 المطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية.

(2)

المرجع السابق جـ 4 ص 110.

(3)

مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب السابق جـ 6 ص 83، 84 الطبعة السابقة.

(4)

العقد المنظم للحكام فيما يجرى بين أيدهم من العقود والأحكام لابن سلمون على هامش تبصرة الحكام لابن فرحون جـ 2 ص 3 طبعة المطبعة البهية بالقاهرة سنة 1302 هـ.

وانظر أيضا شرح الخرشى بحاشية العدوى جـ 7 ص 43 الطبعة الثانية بالمطبعة الأميرية سنة 1317 هـ.

انظر أيضا الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقى جـ 4 ص 38 الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية سنة 1324 هـ.

ص: 180

فإن لم يخف فوته فإن تنازعا في الابتداء بالتسليم فقال كل منهما: لا أسلم عوضى حتى يسلمنى عوضه أجبر الحاكم كلا منهما بإحضار عوضه إليه أو إلى عدل فإن فعل كل منهما ذلك سلم الثمن للبائع والمبيع للمشترى يبدأ بأيهما شاء وهذا إذا كان الثمن عينا كالمبيع أما إذا كان الثمن في الذمة فالبائع يجبر على الابتداء بالتسليم لأنه رضى بتعلق حقه بالذمة. فإذا سلم البائع المبيع أجبر المشترى على تسليم الثمن إن كان الثمن حاضرا في مجلس العقد والمراد من حضور الثمن حضور عينة إن كان معينا أو نوعه الذي يقضى منه إن كان في الذمة فإن ما في الذمة قبل قبضه لا يسمى ثمنا إلا مجازا.

وإن لم يكن الثمن حاضرا فإن أعسر المشترى به بأن لم يكن له مال يفى بثمنه وحكم بإفلاسه فللبائع حقّ الفسخ وأخذ المبيع. وإن كان المشترى موسرا فإن لم يكن ماله بمسافة قصر حجر عليه القاضي في أمواله كلها حتى يسلم الثمن لئلا يتصرف في أمواله بما يبطل حق البائع. وإن كان ماله بمسافة قصر فللبائع حق الفسخ وأخذ المبيع لتعذر تحصيل الثمن لا يكلف الصبر إلى إحضار المال لتضرره بذلك فإن صبر إلى إحضاره حجر القاضي على المشترى في أمواله.

أما الثمن المؤجل فليس للبائع حبس المبيع به لرضاه بتأخيره ولو حل قبل التسليم فلا حبس له أيضا.

ولو كان أحد العاقدين وكيلا أو وليا أو ناظر وقت أو عامل مضاربة فلا يجبر على التسليم بل لا يجوز له ذلك حتى يقبض الثمن الحال ولو تبايع نائبان عن الغير لم يتأت إجبارهما أيضا.

وإن اشترى بوكالة اثنين شيئا ووفَّى نصف الثمن عن أحدهما فللبائع إمساك المبيع حتى يستوفى كل الثمن، بناء على أن الاعتبار بالعاقد. أما إن باع لهما ولكل منهما نصف فأعطى أحدهما البائع نصف الثمن سلم إليه البائع حصته من المبيع، لأنه سلمه جميع ما عليه فليس له أن يمسكه عنه.

وليس للبائع استرداد المبيع من المشترى وحبسه عنه لاستيفاء الثمن إن كان قد سلمه له متبرعا ولو عارية لسقوط حقه في حبسه عنه بالتسليم. إلا إن أودعه له فله استرداده وحبسه إذ ليس له في الإيداع تسليط بخلاف الإعارة وهذا إذا حصل الإيداع بعد البيع أما لو كان المتبيع مودّعا عنده حالة البيع ففى التتمة أنه لا حبس للبائع.

وله استرداد المبيع وحبسه عن المشترى أيضا إذا خرج الثمن زيوفا ذكره ابن الرفعة وغيره وجزم به في الأنوار

(1)

.

وفى خلال إمساك البائع للمبيع وحبسه عنه لاستيفاء الثمن ينفذ من المشترى قبل القبض العتق والاستيلاء والتزويج والوقف إن لم يحتج قبولا سواء كان للبائع حق الحبس أم لا ويصير المشترى قابضا بتصرفه هذا ما عدا التزويج. فإن لم يرفع البائع يده بعد الوقف ضمنه بالقيمة لا بالثمن

(2)

.

(1)

أسنى المطالب شرح روض الطالب السابق جـ 2 ص 90.

(2)

المرجع السابق ص 83.

ص: 181

وللمشترى إمساك المبيع وحبسه عن البائع بعد الإقالة لاسترداد الثمن، سواء أقلنا إنها فسخ أم بيع صرح به الأصل ونقله السبكى عن القاضي حسين: لأنا إن قلنا إنه بيع فللبائع الحبس، وإن إنه فسخ فكالرد بالعيب وله الحبس أيضا.

وهذا يخالف ما نقله النووى في مجموعة في الخيار عن الرويانى وأقره من أنه ليس لواحد من العاقدين بعد التفاسخ في مدة الخيار الحبس بل إذا طالب أحدهما الآخر لزم الآخر الدفع إليه ثم يدفع كان بيده بخلاف اختلافهما في البداءة في البيع فإن لكل حبس ما بيده حتى يدفع إليه الآخر لأن الفسخ هنا رفع حكم العقد وبقى التسليم بحكم اليد وهى توجب الرد، وهناك التسليم بالعقد وهو يوجب التسليم من الجانبين.

وإن ضمن شخص الثمن مثلا للبائع بالإذن وأداه له ثم انفسخ العقد بتلف المبيع قبل القبض أو برده بعيب أو غيرهما رجع الضامن علي الأصيل بما أداه ورجع الأصيل علي البائع بما أخذه بأن يرجع فيه بعينه إن كان باقيا ويبدله إن كان تالفا، وليس للبائع إمساك ما أخذه ورد بدله كما لو رَد المبيع بعيب وعَين ثمنه عند البائع فأراد البائع إمساكه ورد مثله

(1)

. وليس للوكيل إذا دفع الثمن من ماله أن يمسك المبيع ويحبسه عن الموكل لاستيفاء الثمن منه وإن كان يستحق الرجوع عليه به، لأن العقد يقع ابتداء للموكل

(2)

.

ولو وجد وليّ الصغير أو المجنون بما اشتراه لهما عيبا وبه غبطة. أي فائدة كنقصان ثمنه عن ثمن مثله. جاز له إمساكه، لما فيه من الغبطة

(3)

.

والمبيع خلال إمساك البائع له وقبل قبضه من ضمان البائع، فإن تلف بآفة سماوية انفسخ البيع وسقط الثمن عن المشترى. إلا إذا أتلفه المشترى قبل قبضه ولو جاهلا به فإنه يكون قبضا منه

للمبيع.

ولا ينفسخ البيع أيضا إذا أتلفه أجنبى لقيام بدله مقامه، بل يتخير المشترى بين الفسخ والرجوع عليه بالقيمة أو المثل، وحيث أجاز المشترى العقد ليس للبائع طلب القيمة أو المثل لإمساكه في مقابل الثمن كالمشترى إذا أتلف المبيع لا يغرم القيمة ليحبسها البائع، ولأن الحبس غير مقصود بالعقد حتى ينتقل إلى البدل

(4)

.

وإذا اشترى ناقة أو شاة أو بقرة مصراة ثم علم أنها مصراة فهو بالخيار بين أن يمسك وبين أن يرد، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تَصَرُّوا الإبل والغنم للبيع فمن ابتاعها بعد ذلك فهو يخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثا إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر"

(5)

.

وكذلك يثبت للمشترى الخيار بين إمساك المبيع وبين ردّه على بائعه إذا وجد به عيبا لم يعلم به وقت شرائه، لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له ذلك فثبت له الرجوع بالثمن. وإن قال البائع للمشترى: أمسك المبيع وأنا أعطيك أرش العيب لم يجبر المشترى علي قبوله، لأنه لم يرض إلا بمبيع سليم بجميع الثمن فلا يجبر على إمساك معيب ببعض الثمن. وإن

(1)

المرجع السابق ص 250

(2)

المرجع السابق ص 281

(3)

المرجع السابق ص 78

(4)

المرجع السابق ص 78، 79

(5)

سبق تخريج هذا الحديث في مذهب المالكية من هذا المبحث.

ص: 182

قال المشترى للبائع: اعطنى الأرش لأمسك المبيع لم يجير البائع على دفع الأرش، لأنه لم يبذل المبيع إلا بجميع الثمن فلا يجبر على تسليمه ببعض الثمن وإن وجد العيب وقد زاد المبيع زيادة منفصلة كما إذا كان المبيع بهيمة فحملت عند المشترى وولدت أو شجرة فأثمرت عنده كان للمشترى أن يرد الأصل ويمسك الولد والثمرة لأنه نماء منفصل حدث في ملكه فجاز أن يمسكه ويرد الأصل

(1)

ولتفصيل هذا انظر مصطلح بيع وخيار.

‌إمساك العين المستأجرة والأجرة:

لكل من المؤجر والمستأجر إمساك عوضه حتى يقبض مقابله علي التفصيل السابق في إمساك المبيع، وتعتبر العين المستأجرة بمنزلة المبيع، وتعتبر الأجرة بمنزلة الثمن

(2)

.

ولو تفاسخا الإجارة كان للمستأجر أن يحبس العين المستأجرة لقبض الأجرة

(3)

وإن أمسك المؤخر أو غيره حتى انقضت المدة انفسخت الإجارة لفوات المعقود عليه قبل قبضه. وإن أمسكها حتى انقضى بعض المدة ثم سلمها انفسخ العقد في الماضي، ويثبت الخيار في الباقى كما لو تلف بعض المبيع قبل قبضه ولا يبدل زمان بزمان

(4)

.

ولو استأجر صباغا أو قصارا لعمل ثوب وسلمه له كان للمستأجر إمساك الثوب وحبسه عن صاحبه لاستيفاء الأجرة. وكذلك يكون له إمساكه لتمام العمل أيضا.

وليس لصاحب الثوب أن يبيعه خلال فترة إمساكه هذه ما لم يكن سلم الأجرة

(5)

ولو أمسك المستأجر الدابة المستأجرة وترك الانتفاع بها وقت الانتفاع بها كالنهار فتلفت بسبب لو انتفع بها فيه لسلمت كانهدام سقف عليها خلال إمساكه لها فإنه يضمن لتقصيره بترك استعماله لها فيه بخلاف ما إذا تلفت بإمساك لا يُعد مقصرا فيه كأن انهدم عليها السقف في ليل لم تجر العادة باستعمالها فيه.

ولو أمسكها وترك الانتفاع بها في وقت الانتفاع لمرض أو خوف قد عرض له فتلفت بذلك فالظاهر الذي اقتضاه التعليل السابق عدم الضمان كما بحثه الأذرعيّ في الخوف أخذا من كلام إمام الحرمين

(6)

.

‌إمساك الوديعة:

إن قال صاحب الوديعة للمودّع: اربط الدراهم في كمك فأمسكها في يده فتلفت فالمذهب أنه إن ضاعت أو سقطت منه بسبب نوم أو نسيان ضمن، لأنه لو ربطها لم تضع بهذا السبب فالتلف حاصل بالمخالفة، وإن تلفت بأخذ غاصب فلا ضمان لأن اليد أحرز وأمنع من الربط بالنسبة إلى الغصب، والربط أمنع وأحرز بالنسبة إلى التلف بالضياع أو السقوط، وسواء كان قد نهاه صراحة عن إمساكها في يده أم لا، ذكر ذلك الرملى الكبير في حاشيته على أسنى

(1)

المهذب لأبى إسحاق الشيرازى جـ 1 ص 282، 284 - 285 الطبعة السابقة.

(2)

المرجع السابق ص 90 وانظر حاشية الرملى الكبير عليه.

(3)

حاشية الرملى الكبير على أسنى المطالب شرح روض الطالب جـ 2 ص 75.

(4)

أسنى المطالب المذكور جـ 2 ص 433.

(5)

المرجع السابق ص 84. وانظر أيضا نهاية المحتاج بحاشية الشبراملى جـ 2 ص 148 - 149 الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية.

(6)

أسنى المطالب السابق جـ 2 ص 425.

ص: 183

المطالب شرح روض الطالب وجاء في تحفة المحتاج: أنه إن نهاه عن إمساكها في يده ضمن مطلقا. وإن امتثل أمره وربطها في كمه لم يضمن، لأنه احتاط في الحفظ، بخلاف ما إذا ربطها فيه ولم يمسكها بيده فيضمن إن تلفت

(1)

وإن أمسكها في يده بلا ربط في كمه فأخذها غاصب لم يضمن، وإن ضاعت في غفلة أو نوم ضمن

(2)

.

وإن أخّر المودّع (بفتح الدال) ردّ الوديعة - أي أمسكها - بعد طلب صاحبها لها ضمن لتقصيره. وهذا إذا كان إمساكه لها بدون عذر.

أما إن أخره بعذر كاحتياجه إلى الخروج مما هو فيه وهو في ظلام والوديعة بخزانة لا يتأتى فتحها إذ ذاك، أو في حمام أو مطر أو على طعام ونحوه مما لا يطول زمنه غالبا كصلاة وقضاء حاجة وطهارة وملازمة مدين يخاف هربه فلا يضمن حينئذ لعدم تقصيره

(3)

.

ولو قال له مالكها بلا طلب لها: لى عندك وديعة، فأنكر أو سكت لم يضمن، لأنه لم يمسكها لنفسه بهذا الإنكار، وقد يكون له في الإنكار غرض صحيح كما إذا أمر ظالم مالكها بطلبها من الوديع فطلبها منه وهو يحب جحودها فجحدها المودع (بفتح الدال) بخلافه بعد طلبها

(4)

.

ولو اشترى شخص عينا وأمسكها البائع على الثمن ثم أودعها عند المشترى فتلفت ولو من غير تعد منه فإنها من ضمانه ويتقرر عليه الثمن. قال ذلك الزركشيّ وقال الرملى الكبير في حاشيته علي أسنى المطالب: الأصح خلافه. فإن تلفه في يد المشترى حينئذ كتلفه في يد بائعه

(5)

.

‌إمساك الوكيل العين الموكل بقبضها:

لو كان لإنسان عين معارة أو مؤجرة أو مغصوبة فوهبها لآخر فقبلها وأذن له الواهب في قبضها ثم إن الموهوب له وكّل في قبضها المستعير أو المستأجر أو الغاصب اشترط قبوله للوكاله لفظا ولا يكتفى بالفعل وهو الإمساك، لأنه استدامة لما سبق فلا دلالة فيه على الرضا بقبضه عن الغير

(6)

.

‌إمساك متاع المضاربة:

إن اقتضت مصلحة عقد المضاربة إمساك ما اشتراه عامل المضاربة معيبا فليس للمالك ولا للعامل ردّه في الأصح، لإخلاله بمقصود العقد.

وقيل: للعامل الرد كالوكيل.

وجوابه أن الوكيل ليس له شراء المعيب بخلاف عامل المضاربة إذا رأى فيه ربحا فيمسك ما فيه المصلحة ولا يرده بخلاف الوكيل.

فإن فقدت المصلحة في إمساكه ولو مع فقد المصلحة في الرد أيضا فلكل منهما رده وإن رضى بإمساكه الآخر وإنما لم يُؤثر رضى المالك بإمساكه، لأن العامل صاحب حق في المال بخلاف الوكيل. وإن اختلف العامل والمالك في

(1)

المرجع السابق جـ 2 ص 80، 81.

تحفة المحتاج بشرح المنهاج لابن حجر جـ 3 ص 75، 76 الطبعة الأولى، المطبعة الوهبية سنة 1282 هـ.

(2)

حاشية البيجرمى على الإقناع للخطيب جـ 3 ص 235 الطبعة الأولى بمطبعة دار الكتب العربية.

(3)

أسنى المطالب شرح روض الطالب بحاشية الرملى الكبير جـ 2 من 84.

(4)

المرجع السابق ص 83

(5)

المرجع السابق ص 87

(6)

مغنى المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للخطيب جـ 2 ص 222 طبع مطبعة مصطفى محمد بالقاهرة.

ص: 184

الرد والإمساك رفع الأمر إلى القاضي ليعمل بالمصلحة، لأن لكل منهما حقا

(1)

.

ويجب على العامل في المضاربة إمساك المبيع حتى يقبض الثمن الحال، فإن سلم المبيع قبل قبض الثمن ضمن إلا أن يأذن له المالك في ذلك فلا يضمن للإذن

(2)

ولو حبس المالك العامل ومنعه التصرف لم يكن ذلك فسخا لعقد المضاربة بينهما لعدم دلالة ذلك على الفسخ

(3)

.

‌إمساك المتعاقد على رده لاستيفاء الجعل والنفقة:

إذا رد العامل في الجعالة لشئ المتعاقد على رده من ضالة أو عبد أو نحوهما من الأعمال فليس له إمساكه وحبسه عن الجاعل لاستيفاء الجعل، لأن استحقاق العامل الجعل إنما يكون بتسليمه المتعاقد عليه للجاعل فلا يكون له حبسه قبل الاستحقاق وكذلك لا يحق للعامل أن يحبس المردود عن الجاعل لاستيفاء ما أنفقه عليه وإن كان إنفاقه بإذن المالك أو القاضي

(4)

.

‌إمساك اللقطة:

لو أمسك الملتقط لقطة الحيوان وأراد الإنفاق عليه ليرجع به على صاحبه عند ظهوره فيشترط لذلك أخذ الإذن بالإنفاق من القاضي إن كان هناك قاض. فإن لم يجده أشهد أن ينفق عليه غير متبرع، وكان له أن يرجع حينئذ

(5)

.

وإن رأى الشخص لقطة مطروحة فدفعها برجله وتركها ولم يمسكها حتى ضاعت لم يضمنها لأنها لم تحصل في يده.

ولو قال الملتقط للمالك بعد تلف اللقطة: كنت أمسكتها لك وقلنا أنه لا يملكها إلا باختيار التملك لم يضمنها

(6)

.

‌مذهب الحنابلة: "إمساك المبيع والثمن

"

ليس للبائع إمساك المبيع وحبسه لاستيفاء ثمنه من المشترى وكذلك من اشترى شراء فاسدا أو قبض المبيع وسلم الثمن فليس للمشترى حبس المبيع لاسترداد الثمن فإن تنازع المتعاقدان أيهما يسلم أولًا فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أتسلم الثمن، وقال المشترى: لا أسلم الثمن حتى أتسلم المبيع، فإن كان الثمن معينا في العقد من نقد أو عرض جُعل بينهما عدلٌ ينصبه القاضي فيقبض منهما ثم يسلم إليهما قطعا للنزاع، لأنهما استويا في تعلق حقهما بعين الثمن والمثمن، فيسلّم العدلُ المبيعَ أوّلًا للمشترى ثم يسلم الثمنَ للبائع، لأن قبض المبيع من تتمات البيع في بعض الصور واستحقاق الثمن مرتب على تمام البيع، ولجريان العادة بذلك.

ومن امتنع منهما من تسليم ما عقدا عليه من مبيع أو ثمن مع إمكان تسليمه حتى تلف ضمنه كغاصب، لتعديه بإمساكه ومنعه. وأيهما بدأ بالتسليم أجبر الآخر.

وإن كان الثمن دينا حالًا فنص أحمد على أنه لا يحْبِس البائع المبيع على قبض ثمنه، لأن حق المشترى تعلق بعين المبيع وحق البائع تعلق بالذمة

(1)

المرجع السابق ص 316.

وانظر أيضا أسنى المطالب السابق جـ 2 ص 385.

(2)

مغنى المحتاج السابق جـ 2 ص 315 الطبعة السابقة.

(3)

المرجع السابق ص 319.

(4)

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج بحاشية الشبراملى جـ 4 ص 350 الطبعة الأولى المطبعة الأميرية.

(5)

أسنى المطالب شرح روض الطالب بحاشية الرملى، جـ 2 ص 490 الطبعة السابقة.

(6)

مغنى المحتاج السابق جـ 2 ص 416، 417.

ص: 185

فوجب تقديم ما تعلق بالعين كحق المرتهن على سائر الدائنين. فيجبر بائع على تسليم مبيع ثم يجبر مشتر على تسليم ثمنه الحالّ إن كان معه في المجلس. وإن كان الثمن غائبا عن المجلس في البلد حجر القاضي على المشترى في المبيع وفى بقية ماله من غير فسخ للبيع حتى يحضر الثمن كله ويسلمه للبائع، لئلا يتصرف في ماله تصرفا يضر البائع. وكذلك الحكم إن كان مال المشترى خارج البلد دون مسافة القصر، لأنه في حكم البلد.

أما إن كان ماله ببلد بعيد مسافة قصر فصاعدا أو كان المشترى معسرا ولو ببعض الثمن فللبائع الفسخ في الحال ولو بدون حكم قاض، لأن في التأخير ضررا عليه؛ وله الرجوع في عين ماله بعد الفسخ كمفلس باع له البائع جاهلًا بالحجر عليه.

وإن كان المشترى موسرا مماطلا بالثمن فليس للبائع الفسخ. لأن ضرره يزول بحجر القاضي عليه ووفائه من ماله. وقال الشيخ -ابن تيمية-: للبائع الفسخ إذا كان المشترى مُماطلا دفعا لضرر المخاصمة قال في الإنصاف: وهو الصواب. وقال صاحب كشاف القناع: خصوصا في زماننا هذا، هذا إذا كان الثمن حالا. أما إذا كان مؤجلا فلا خلاف أيضا أنه ليس للبائع إمساك المبيع لاستيفاء الثمن، فيجبر البائع على تسليم المبيع ولا يطالب بالثمن حتى يجيء أجله

(1)

.

وإذا وجد المشترى البهيمة المشتراة مصراة -أي محبوسة اللبن- ولم يعلم بذلك حال الشراء ثبت له الخيار ثلاثة أيام منذ علم بين إمساكها بلا أرش وبين ردها مع صاع من تمر لقوله عليه الصلاة والسلام: "من اشترى مُصَرَّاة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردّها ومعها صاعا من تمر"

(2)

.

وكذلك يثبت للمشترى الخيار بين إمساك المبيع وبين رده إذا وجد بالمبيع تدليسا يزيد به الثمن أو وجد به عيبا إلا أنه إذا أمسك المبيع في خيار التدليس أمسكه مجانا بدون أرش. أما في خيار العيب فيمسكه مع أرش العيب على البائع، سواء رضى البائع بدفع الأرش أو سخطه. وذلك ما لم يفض الإمساك مع الأرش إلى ربا كشراء حلي بزنته دراهم أو شراء قفيز مما يجرى فيها الربا بمثله ثم وجد معيبا قله الرد أو الإمساك مجانًا من غير أرش، لأن أخذ الأرش مع الإمساك يؤدى إلى ربا الفضل

(3)

.

مصطلح "بيع" و "خيار" والوكيل بالبيع يجب عليه إمساك المبيع وحبسه عن المشترى فلا يسلمه له قبل قبض ثمنه حيث جاز له قبض الثمن، لأنه إذا لم يمسكه لذلك يعد مُفرِّطا فيضمنه. وكذا وكيل في شراء وقبض مبيع لا يسلم الثمن حتى يتسلم المبيع. فإن أخر الوكيل تسليم الثمن وأمسكه بلا عذر ضمنه إذا تلف، لتفريطه بإمساكه

(4)

.

(1)

كشاف القناع عن متن الإقناع لابن إدريس وبهامشه شرح المنتهى للبهوتى جـ 2 ص 48، 49، 77، 78، 361 الطبعة الأولى بالمطبعة العامرية سنة 1319 هـ.

وانظر أيضا كتاب الاختيارات العلمية لابن تيمية بنهاية مجموعة فتاوى ابن تيمية جـ 4 ص 74 طبعة مطبعة كردستان العلمية بمصر 1329 هـ.

(2)

كشاف القناع السابق جـ 2 ص 56، 57.

والحديث المذكور رواه الجماعة إلا البخارى (انظر: نيل الأوطار للشوكاني جـ 5 ص 214) الطبعة الأولى بالمطبعة العثمانية 1357 هـ.

(3)

المرجع السابق جـ ص 56، 60

(4)

المرجع السابق جـ 2 ص 344

ص: 186

‌إمساك العين المستأجرة:

وكذلك ليس للمؤجر بنقد حال إمساك العين المستأجرة لاستيفاء الأجرة فإن تنازعا أيهما يسلم قبل الآخر فالحكم على التفصيل السابق في تنازع البائع والمشترى

(1)

وفى خلال إمساك المالك للعين المستأجرة إن تصرف فيها قبل تسليمها أو امتنع من التسليم حتى انقضت المدة انفسخت الإجارة بذلك، لأن العاقد قد أتلف المعقود عليه قبل تسليمه فأشبه تلف الطعام قبل قبضه وإن سلمها إلى المستأجر في أثناء المدة - أي بعد إمساكها عنه فترة انفسخت الإجارة فيما مضى من مدة الإجارة وتجب أجرة الباقى بالقسط من المسمى

(2)

.

وكذا لو انهدم البعض من الدار المتسأجرة ونحوها وأمسك المتسأجر البقية التي لم تهدم فبالقسط من الأجرة. أي تقسم الأجرة على ما انهدم وعلى ما بقى ويلزمه قسط الباقى

(3)

.

وإمساك المستأجر للدابة المستأجرة وحبسها مدة الإجارة يوجب الأجرة

(4)

. قال صاحب كشاف القناع: وتستقر الأجرة أيضا ببذل تسليم عين العمل في الذمة إذا مضت مدة يمكن الاستيفاء فيها كما لو قال: اكتريت منك هذه الدابة لأركبها إلى بلد كذا بكذا ذهابا وإيابا وسلمها إليه المؤجر ومضت مدة يمكن فيها ذهابه إلى ذلك البلد ورجوعه على العادة ولم يفعل، نقل ذلك في المغنى عن الأصحاب، لأن المنافع تلفت تحت يده باختياره فاستقر الضمان عليه

(5)

.

ويلزم المؤجر إمساك البعير ونحوه للمستأجر لينزل لقضاء حاجة الإنسان من بول أو غائط ويلزمه أيضا إمساكه له لينزل لأجل الطهارة، ويدع البعير واقفا حتى يفعل ذلك، أي يقضى حاجته ويتطهر ويصلى الفرض، لأنه لا يمكنه فعل شي من ذلك على ظهر الدابة ولابد له منه بخلاف نحو أكل وشرب مما يمكنه راكبا. فإن أراد المستأجر إتمام الصلاة فطالبه الجمّال بقصرها لم يلزمه القصر، لأنه رخصة بل تكون الصلاة خفيفة في تمام جمعا بين الفرضين

(6)

.

وإن أمسك الصانع الثوب وحبسه عن صاحبه لاستيفاء أجرته بعد عمله -أي بعد قصره أو خياطته أو صبغه ونحوه- فتلف ضمنه، لأن صاحبه لم يرهنه عنده ولا أذن له في إمساكه فلزمه الضمان كالغاصب.

إلا أنه يحق له إمساكه وحبسه عن صاحبه في صورة ما لو اشترى شخص ثوبا مثلا ودفعه لصانع ليعمل فيه شيئا فعمله ثم أفلس المشترى وجاء بائعه له يطلبه بعد فسخه البيع لوجود متاعه عند من أفلس فللصانع في هذه الصورة إمساك الثوب وحبسه لاستيفاء أجرته. لأن العمل الذي هو عوضها موجود في عين الثوب فملك حبسه مع ظهور عسرة المستأجر كمن أجر دابته أو نحوها لإنسان بأجرة حالة ثم ظهر إعسار المستأجر فإن للمؤجر إمساكها وحبسها عنه وفسخ الإجارة. ثم إن كانت أجرته أكثر مما زادت.

(1)

المرجع السابق جـ 2 ص 49، 78

(2)

المرجع السابق جـ 2 ص 308

(3)

المرجع السابق جـ 2 ص 310

(4)

المغنى لابن قدامة ومعه الشرح الكبير جـ 6 ص 126 طبعة دار المنار.

(5)

كشاف القناع السابق جـ 2 ص 318

(6)

المرجع السابق جـ 2 ص 305

ص: 187

به قيمته أخذ الزيادة وقاسم الدائنين بما بقى له من الأجرة

(1)

.

وفى جواز إمساك المستأجر لنماء العين المستأجرة كالولد بدون إذن المالك وجهان: فقيل: بجواز إمساكه بدون إذن المالك تبعا لأصله. وقيل: لا يجوز ذلك. خرج ذلك القاضي وابن عقيل.

وإن أمسك المستأجر العين المستأجرة بعد انقضاء مدة الإجارة وبعد طلب المؤجر لها بغير عذر صارت مضمونة عليه كالمغصوبة. وكذلك الحكم إذا أمسك نماء العين المستأجرة بعد طلب المالك له

(2)

. وقال أبو الحارث عن أحمد في رجل استأجر دابة في عشرة أيام بعشرة دراهم فإن حبسها أكثر من ذلك فله بكل يوم درهم فهو جائز

(3)

.

‌إمساك مال المضاربة والشركة:

للمضارب أن يشترى المعيب -وله إمساكه- إذا رأى المصلحة فيه، لأن المقصود الربح وقد يكون الربح في المعيب. فإن اشتراه يظنه سليما فبان معيبا فله فعل ما يرى المصلحة فيه من رده بالعيب أو إمساكه وأخذ أرش العيب.

وإن اختلف العامل وصاحب المال في الإمساك والرد فعل ما فيه النظر والحظ لأن المقصود تحصيل الحظ فيحمل الأمر على ما فيه الحظ والمصلحة.

وأما الشريكان إذا اختلفا في رد معيب وإمساكه فإنه يكون لطالب الردّ رد نصيبه وللآخر إمساك نصيبه إلا أن يكون البائع لم يعلم أن الشراء لهما جميعا فلا يلزمه قبول رد بعضه، لأن ظاهر الحال أن العقد لمن وليه فلم يجز إدخال الضرر على البائع بتبعيض الصفقة عليه.

ولو أراد الذي ولى العقد رد بعض المبيع وإمساك البعض كان حكمه حكم ما لو أراد شريكه ذلك على ما فصلناه

(4)

.

‌إمساك الشقص المشفوع:

وإذا أخذ الشفيع بالشفعة فللمشترى إمساك الشقص المشفوع وحبسه عن الشفيع. حتى يقبض الثمن، فإن كان موجودا سلمه، وإن تعذر في الحال قال أحمد في رواية حرب: ينظر الشفيع يوما أو يومين بقدر ما يرى القاضي فإن كان أكثر فلا

(5)

انظر مصطلح شفعة.

‌إمساك الوديعة:

إن عين صاحب الوديعة جيب المودَع (بفتح الدال) لحفظ الوديعة بأن قال له: اجعلها في جيبك ضمن إن ضاعت وقد أمسكها في يده أو جعلها في كمه، لأن الجيب أحرز وربما نسى فسقطت من يده أو كمه، ولا يضمن في عكسه بأن عيّن له إمساكها في يده أو كمه فجعلها في جيبه، لأنه أحرز.

وإن قال صاحب الوديعة للمودّع: اجعلها في كمك فأمسكها في يده ضمنها، لأن اليد يسقط منها الشئ بالنسيان بخلاف الكمّ.

وكذلك يضمن في عكسه بأن قال له: أمسكها في يدك فجعلها في كمه، لأن الكم

(1)

المرجع السابق جـ 2 ص 315، 316.

والمغنى لابن قدامة مع الشرح الكبير جـ 6 ص 116 الطبعة السابقة.

(2)

كشاف القناع السابق جـ 3 ص 321.

(3)

المغنى لابن قدامة السابق جـ 6 ص 86.

(4)

المغنى لابن قدامة جـ 5 ص 154، 155 الطبعة الثالثة بمطبعة دار المنار سنة 1367 هـ.

(5)

المرجع السابق ص 509.

ص: 188

يتطرق إليه البسط بخلاف اليد فكل منهما أدنى من الآخر حفظا من وجه فضمن لمخالفته.

وقال صاحب المغنى: إن أمره بشدها في كمه فأمسكها في يده عند المغالبة لم يضمن وإن فعل ذلك عند غير المغالبة ضمن.

وقال القاضي أبو يعلى أيضا: اليد أحرز عند المغالبة والكم أحرز عند عدمها.

هذا إذا عيّن طريقة حفظها أما إذا أطلق فلم يأمره بوضعها في شيء بعينه فتركها المودَع في جيبه وكان مزرورا أو ضيق الفم أو أمسكها في يده أو شدها في كمه أو في عضده أو تركها في وسطه وشد عليها سراويله لم يضمن إن ضاعت، لأنه لا يعد مفرّطا

(1)

وإن جاءه بالوديعة في السوق مثلا فقال له: احفظها في بيتك فأمسكها في دكانه أو ثيابه ولم يحملها إلى بيته مع إمكانه فتلفت ضمنها. ويحتمل أنه متى تركها عنده إلى وقت مضيّه إلى منزله في العادة فتلفت لم يضمنها، لأن العادة أن الإنسان إذا أودع شيئًا وهو في دكانه أمسكه في دكانه أو في ثيابه إلى وقت مضيه إلى منزله فيستصحبه معه

(2)

.

وإن مات شخص وعنده وديعة معلومة بعينها فليس لورثته إمساكها لأن صاحبها لم يأتمنهم عليها وإنما حصل مال غيرهم في أيديهم ويجب عليهم تمكين صاحبها من أخذها إن كان عالما بموته فإن لم يعلم وجب عليهم إعلامه فإن أخروا الإعلام مع الإمكان ضمنوا

(3)

وإن أمسك المودَع الوديعة وحبسها عن صاحبها بعد طلبه لها بدون ضرورة فتلفت ضمنها، لأنه صار غاصبا لكونه أمسك مال غيره بغير إذنه بفعل محرم فأشبه الغاصب.

أما إن طلبها في وقت لم يمكن دفعها إليه لبعدها أو لمخافة في طريقها أو للعجز عن حملها أو غير ذلك لم يكن متعديا في إمساكها وترك تسليمها، لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وإن تلفت في خلال إمساكه هذا لم يضمنها لعدم عدوانه. وإن قال: امهلونى حتى أقضى صلاتى أو آكل فإنى جائع أو أنام فإنى ناعس أو ينهضم عنى الطعام فإنى ممتلئ أمهل بقدر ذلك

(4)

.

‌إمساك اللقطة والضالة:

إذا ردّ العامل - في الجعالة - اللقطة أو الحيوان الضائع ونحوه كالعبد الآبق لم يكن له إمساك المردود وحبسه عن الجاعل لاستيفاء الجعل، فإنْ حَبَسَه لاستيفاء ذلك وتلف ضمنه

(5)

ويحرم التقاط وإمساك الضوال التي تمتنع من صغار السباع لكبر جثتها كإبل وخيل أو لطيرانها أو لسرعة عدوها كظباء، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها".

وهذا النوع لا يملكه ملتقطه بتعريفه، لأنه متعد بأخذه كالغاصب لعدم إذن المالك والشارع وإن أنفق الملتقط على ما ذكر لم يرجع على ربه بما أنفق عليه، لتعديه بالتقاطه وإمساكه

(6)

.

(1)

المغنى لابن قدامة مع الشرح الكبير جـ 7 ص 287 طبعة بمطبعة المنار سنة 1348 هـ.

كشاف القناع وشرح المنتهى بهامشة جـ 2 ص 398، 414 الطبعة السابقة.

(2)

المغنى لابن قدامة والشرح الكبير جـ 7 ص 287 طبعة أولى لمطبعة المنار.

(3)

المغنى لابن قدامة جـ 6 ص 394 طبعة ثالثة طبعة المنار.

(4)

المرجع السابق ص 392 طبعة ثالثة لمطبعة المنار.

(5)

كشف القناع السابق جـ 20 ص 418 الطبعة السابقة.

(6)

المرجع السابق ص 421، 422 والحديث المذكور رواه البخارى ومسلم عن زيد بن خالد (انظر: نيل الأوطار للشوكانى جـ 5 ص 238) الطبعة الأولى بالمطبعة العثمانية المصرية سنة 1357 هـ

ص: 189

‌مذهب الظاهرية:

قال ابن حزم: ومن باع شيئا فقال المشترى: لا أدفع الثمن حتى أقبض ما ابتعت وقال البائع: لا أدفع حتى أقبض أجبرا معا على دفع المبيع والثمن معا، لأنه ليس أحدهما أحقَّ بالإنصاف والانتصاف من الآخر وبيد كل واحد منهما حق للآخر وفرض على كل واحد منهما أن يعطى الآخر حقه، فلا يجوز أن يخص أحدهما بالتقدم، وفعل ذلك جور وحيف وظلم.

فإن أبى المشترى من أن يدفع الثمن على هذا الوجه. أي مع قبضه لما اشترى وقال: لا أدفع الثمن إلا بعد أن أقبض ما اشتريت لا معه. فللبائع أن يمسك ما باع ويحبسه حتى ينتصف وينصف معا. فإن تلف المبيع عنده خلال حبسه هذا له من غير تعد منه فهو من مصيبة المشترى وعليه دفع الثمن. ولا ضمان على البائع فيما هلك عنده من غير تعديه، لأنه احتبس بحق قال الله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}

(1)

. إلا أن يكون في بعض ما حبس وفاء بالثمن فإنه يضمن ما زاد على هذا المقدار، لأنه متعد باحتباسه أكثر مما تعدى عليه فيه الآخر.

هذا إذا كان مما يمكن أن ينقسم. فإن كان مما لا يمكن قسمته إلا بفساده أو حط ثمنه فلا ضمان عليه أصلا.

ولو قال البائع: لا أدفع المبيع إلا بعد قبض الثمن ودعاه المشترى إلى أن يقبض ويدفع معا فأبى فهو هنا ضامن، لأنه متعد باحتباسه ما حبس وقد دُعِى إلي الإنصاف فأبى

(2)

.

ومن اشترى سلعة على السلامة من العيوب فوجدها معيبة فهى صفقة مفسوخة لا خيار له في إمساكها إلا بأن يجددا فيها بيعا آخر بتراض منهما، لأن المعيب غيرُ السالم، وهو إنما اشترى سالما فأعطى معيبا فالذى أعطى غير الذي اشترى فلا يحل له إمساكه ما لم يشتر لأنه أكل مال بالباطل

(3)

.

فإن لم يشترط السلامة ولا بين له معيب فوجد عيبا فهو مخير بين إمساك الصفقة كلها أو ردها فإن أمسك فلا رجوع له بشيء، لأنه قد رضى بعين ما اشترى فله أن يستصحب رضاه وله أن يرد جميع الصفقة، لأنه وجد خديعة وغشا وغبنا، والغش والخديعة حرامان وليس له أن يمسك ما اشترى ويرجع بقيمة العيب، لأنه إنما له ترك الرضا بما غبن فقط ولأنه لم يُوجب له حقا في مال البائع قرآن ولا سنةٌ بل ماله عليه حرام وليس له رد البعض وإمساك البعض، لأن نفس المعامل لم تطب له ببعض ما باع له دون البعض.

ولا يحل مال أحد إلا بتراض أو بنص يوجب إحلاله لغيره، وسواء كان المعيب وجه الصفقة أو أكثرها أو أقلّها، لأنه لم يأت بالفرق بين شئ من ذلك قرآن ولا سنة

(4)

.

وهذا حكم كل معيب حاشا المُصَرَّاة فقط فإن حكمها أن من اشترى مصراة. وهى ما كان يحلب

(1)

الآية رقم 194 من سورة البقرة.

(2)

المحلى لابن حزم جـ 9 ص 397، 398 مسألة رقم 1441، 1442 الطبعة الأولى بمطبعة دار الاتحاد العربى للطباعة 1389 هـ

(3)

المرجع السابق ص 719 مسألة رقم 1570.

(4)

المرجع السابق ص 720 مسألة رقم 1571، ص 576 مسألة رقم 1497.

ص: 190

من إناث الحيوان وهو يظنها لبونا فوجدها قد رُبط ضَرْعُها حتى اجتمع اللبن فلما حلبها افتضح له الأمر فله الخيار ثلاثة أيام فإن شاء أمسك ولا شيء له، وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر،

(1)

. انظر مصطلح بيع وخيار، ومن وكل وكيلا ليبتاع له شيئًا سماه فابتاعه له بغبن لا يتغابن الناس في مثله أو وجده معيبا عيبا يحط به من الثمن الذي اشتراه به فكذلك له الرد أو الإمساك، على ما ذكر من قبل سواء بسواء، لأن يد وكيله هي يده

(2)

.

ومن اشترى من اثنين فأكثر سلعة واحدة صفقة واحدة فوجد عيبا فله أن يرد حصة من شاء ويتمسك بحصة من شاء وله أن يرد الجميع إن شاء، أو يمسك الكل كذلك لأن بيع كل واحد منهما أو منهم حصته هو عقد غير عقد الآخر

(3)

.

وكذلك لو اشترى اثنان فصاعدا سلعة من واحد فوجدا عيبا فأيهما شاء أن يرد ردّ وأيهما شاء أن يمسك أمسك، لأن صفقة كل واحد منهما غير صفقة الآخر

(4)

.

ومن اطلع فيما اشترى على عيب يجب به الرد فله أن يرد ساعة يجد العيب، وله أن يمسك ثم يرد متى شاء طال ذلك الأمد أم قرب، ولا يسقط ما وجب له من الرد إلا أحد خمسة أوجه منها نطقه بالرضا بإمساكه، أما استخدامه للمبيع خلال إمساكه له أو ركوبه أو لبسه أو سكناه أو عرضه للبيع أو محاولة إزالة العيب فلا يسقط ما وجب له من الرد ولو بعد علمه بالعيب

(5)

.

ومن قال حين يبيع أو يبتاع: لا خلابة. فله الخيار ثلاث ليال بما في خلالهن من أيام إن شاء أمسك المبيع، وإن شاء رده بعيب أو بغير عيب، أو بخديعة أو بغير خديعة وبغبن أو بغير غبن، فإذا انقضت الليالى الثلاث بطل خياره ولزمه البيع فيمسكه ولا رد له إلا من عيب إن وجده

(6)

.

‌مذهب الزيدية: "إمساك المبيع

"

للبائع إمساك المبيع حتى يستوفى ثمنه من المشترى أو من غيره نيابة أو تبرعا عنها

(7)

وهذا عند أبى العباس قال: يقدم تسليم الثمن على تسليم المبيع، لأنه قد تعين حق المشترى وهو المبيع، فيعيّن حق البائع أيضا في الثمن، وهو المذهب. وقال المنصور بالله: يقدم تسليم المبيع، لأن البائع مسلط على التصرف في الثمن فيسلط المشترى على المبيع

(8)

.

وهذا إذا كان الثمن حالا ولم يأذن البائع في قبض المبيع. أما إن كان مؤجلا فليس له حبسه وللمشترى أن يقبضه سواء أذن البائع أم لا، وهذا في العقد الصحيح دون الفاسد فلابد فيه من الإذن. ولا يمنع منه حينئذ إلا ذو حق في المبيع كالمستأجر فإن له منعه حتى تنقضى مدة الإجارة

(1)

المرجع السابق ص 720، 721 مسألة رقم 1572

(2)

المرجع السابق ص 731 مسألة رقم 1580

(3)

المرجع السابق ص 732 مسألة رقم 1582

(4)

المرجع السابق ص 732 مسألة رقم 1583

(5)

المرجع السابق ص 733 مسألة رقم 1586

(6)

المرجع السابق ص 398 مسألة رقم 1442

(7)

شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار فى فقه الائمة الاطهار جـ 2 ص 53 الطبعة الثانية بمطبعة حجازى بالقاهرة سنة 1357 هـ.

وانظر أيضا التاج المذهب لأحكام المذهب جـ ص 263 - 364 الطبعة الأول بمطبعة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة.

(8)

البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار للمرتضى جـ 2 ص 269 الطبعة الأولى بمطبعة السعادة بمصر سنة 1266 هـ

ص: 191

أما الغاصب والسارق والمستعير الذي ليس له حبس المستعار والوديع فليس لهؤلاء إمساك المبيع وحبسه عن المشترى بعد علمهم بالبيع وتوفير الثمن في البيع الصحيح أو لإذن من البائع بالقبض. وأما إذا لم يكن قد سلم المشترى الثمن أو سلمه والعقد فاسد ولم يكن قد أذن له البائع بالقبض فلكل ممن هو في يده أن يحبسه ويمنعه منه، سواء كان في يده بحق أم لا كالغاصب، لأنه مأمور بحفظه ورده إلى البائع

(1)

.

وكذلك للبائع إمساك الفوائد الحادثة بعد البيع وقبل التسليم كالولد ونحوه مع إمساك المبيع حتى يقبض الثمن. وذلك تبعا للأصل وهو المبيع.

فلو تلفت في يد البائع ولم يتلف المبيع لم تكن مضمونة عليه، لأنها لم تشارك المبيع في جزء الثمن وهو السبب الموجب للضمان.

قال صاحب الوافى: إن استعمل البائع المبيع خلال إمساكه له فلا تلزمه أجرة للمشترى. والصحيح أنها تلزمه الأجرة إلا إذا تلف المبيع قبل القبض النافذ فلا تلزم، لأنه يبطل البيع.

ولو امتنع البائع بعد توفير الثمن له من تسليم المبيع ثم سلمه لزمته الأجرة أيضا كالغاصب ولو لم يستعمله.

وإن تعيب المبيع خلال إمساكه قبل القبض سواء كان باستعمال أم بغيره ثبت الخيار للمشترى فإن شاء فسخ، وإن شاء قبضه ولا أرش له إلا إذا كان العيب بفعل غير البائع رجع بالأرش على الجانى

(2)

.

وإن أمسك البائع المبيع لاستيفاء الثمن من المشترى وتعذر قبض الثمن منه لإعساره أو تمرده أو الحجر عليه فللبائع فسخ البيع وفسخ تصرفات المشترى التي لا تنفذ إن كان قد تصرف ويبطل العقد ويعود للبائع. أمّا إذا تعذر قبض الثمن بعد أن وقف المشترى المبيع قبل قبضه استغل البائع الموقوف حتى يستوفى القيمة فإن كان الثمن أزيد منها يبقى الزائد للبائع في ذمة المشترى. ويرجع ناظر الوقف وبما أخذ من الغلة على الواقف هذا إذا لم يكن الوقف مسجدا أو مقبرة قد قبر فيها وإلا بقى الثمن في ذمة المشترى إلى أن يمكن استيفاؤه منه، وذلك لتعذر استغلالها

(3)

.

وإذا فسخ البيع الفاسد فللمشترى إمساك المبيع وحبسه حتى يعود له الثمن، وإذ هو أحق به إذا أفلس، قال هذا الإمام يحيى، وهو المذهب.

وقال الناصر: ليس له إمساكه، بناء على أن الفاسد باطل

(4)

.

والوكيل بالبيع يلزمه إمساك المبيع حتى يقبض الثمن فلا يسلمه قبل ذلك، إذ قد تعين المبيع فلزم تعيين الثمن، وله تقديم تسليمه إذا جرت العادة بذلك إلا أن ينهاه الموكل صراحة عن فمل ذلك، أو كان المشترى داعرا

(5)

.

هذا وأما إمساك المشترى للمبيع إذا وجد فيه عيبا أو غشا ونحوهما فيه تفصيل طويل ينظر في مصطلح "بيع" و "خيار".

‌إمساك النصيب المشفوع:

إن لم يكن المشترى قد سلم ثمن الشيء المشفوع فللبائع حبس المبيع عن الشفيع حتى يوفر الثمن إليه أو إلى المشترى، لأنه يرجع عليه

(6)

.

(1)

التاج المذهب السابق جـ 2 ص 362، 264 الطبعة السابقة.

(2)

المرجع السابق جـ 2 ص 444 - 445

(3)

التاج المذهب السابق جـ 2 ص 261 الطبعة السابقة.

(4)

البحر الزخار السابق جـ 3 ص 348 الطبعة السابقة.

(5)

المرجع السابق جـ 5 ص 59 الطبعة السابقة.

(6)

المرجع السابق جـ 4 ص 16،14 الطبعة السابقة.

ص: 192

وكذلك للمشترى حبسه حتى يسلم له الشفيع الثمن. ومثلهما في استحقاق ذلك كل من كان المبيع في يده ويجوز له حبسه كالوديع

(1)

.

وإذا طلب الشفيع الشفعة كان للمشترى مطالبة الشفيع ومرافقته إلى القاضي ليضرب له أجلا إلى ثلاثة أيام أو أزيد حسبما يراه القاضي كافيا لتحصيل الثمن، أو يأخذ منه كفيلا بذلك ويشترط القاضي على الشفيع بطلان شفعته إن لم يأت بالثمن في الوقت المضروب فإن عجز عن تحصيل الثمن أبطل القاضي شفعته ولو لم يقبل الشرط

(2)

.

أما إن دفع الشفيع الثمن فلا حق لأحد في حبسه وإمساكه عنه فله أخذه من المشترى إجماعا وكذا لو كان بيد البائع عند القاسمية. إذ الحق يتعين فيه فيؤخد من حيث وجد. وقال الناصر: بل يجبره القاضي على تسليمه للمشترى والمشترى على التسليم للشفيع، إذ قد ملكه المشترى فلا يكون الأخذ إلا منه. وجوابه أن الحق متعين في المبيع ولا حق لأحد بجبسه فجاز اخذه قسرا من حيث وجد كالغصب والوديعة

(3)

.

والمبيع في يد المشترى بعد الحكم بالشفعة كالأمانة مع صاحبها في أنه يجب على المشترى تسليمه إلا أن له حبسه حتى يسلم له الشفيع الثمن على ما سبق

(4)

.

‌إمساك العين المستأجرة:

لو أمسك المستأجر العين المستأجرة ولم ينتفع بها حتى مضت المدة المعينة في عقد الإجارة ضمن الأجرة، لتلف المنافع في يده

(5)

.

وللأجير سواء كان خاصا أو مشتركا إمساك العين -لا فوائدها- لاستيفاء الأجرة، ولا يحتاج في ذلك إلى حكم من القاضي، لأنها عين تعلق بها حق فأشبهت الرهن، وسواء في ذلك المصنوع والمحمول، لأنه لا وجه للفرق وفى خلال حبس العين لاستيفاء الأجرة إن غرم الحابس عليها شيئا من نفقة ونحوها فله الرجوع بما غرمه على المؤجر إن نوى ذلك.

وإن تلفت العين خلال حبسها فلا ضمان علي الحابس ولا أجرة له. وهذا كله إذا كانت الأجرة حالة. فإن كانت مؤجلة فليس له حبسها. فإن حبسها فتلفت فعليه قيمتها.

وكذلك كل عين تعلق بها حق كالمزارعة الفاسدة فإن له الحبس في هذه الصورة حتى يسلم ما هو له من ثمرة أو أجرة

(6)

.

ولا يجوز للمستأجر إمساك العين المستأجرة بعد استيفاء الحق منها أو بعد انقضاء مدتها ويجب عليه ردها فورا بعد ذلك، إذ لا وجه لإمساكها بعد ذلك كالعارية وقال المؤيد: لا يجب عليه ردها. إذ هي أمانة كالوديعة وجوابه أن الموْدَع (بفتح الدال) يمسكها للمودع (بكسر الدال) لا لمصلحة فافترقا.

وبناء على الأول إن أمسكها ولم يردها ضمنها وضمن أجرتها وأن لم ينتفع، لتعديه في الإمساك بدون حق كالغاصب، إلا إن كان الإمساك لعذر كغيبة المالك أو المستأجر أو لعذر خوف ونحوه. لأنه لا تعدى حينئذ، لكن يفرغها حيث أمكن ويُشْهد

(7)

.

‌إمساك مال المضاربة

للمضارب شراء المعيب وإمساكه، إذ قد يربح فيه بخلاف الوكيل. وله الفسخ بالخيارات بشرط

(1)

التاج المذهب السابق جـ 3 ص 57

(2)

المرجع السابق جـ 3 ص 13 الطبعة السابقة.

(3)

البحر الزخار السابق ج 4 ص 14

(4)

التاج المذهب السابق ج 3 ص 55.

(5)

البحر الزخار السابق جـ 4 ص 36 الطبعة السابقة.

(6)

المرجع السابق ص 57 الطبعة السابقة.

(7)

البحر الزخار السابق جـ 4 ص 22، 41.

ص: 193

المصلحة. فإن نازعه المالك فأراد إمساك العين المشتراة وأراد المضارب ردها أو العكس رجع إلى نظر القاضي في الأصلح، لاشتراكهما وإذا مات المضارب فلا يجوز لوارثه إمساك أموال المضارية بل يجب عليه ردها فورًا وإلا ضمن لأنه ليس مأذونًا بالإمساك إلا لعذر.

فإن غاب المالك رد الوارث إلى الحاكم أو أمسكه بإذنه

(1)

.

‌إمساك الوديعة:

إذا غاب مالك الوديعة أمسكها المودَع إلى انقضاء العمر الطبيعى ثم تكون للوارث ثم للفقراء، قال هذا الهادى وأبو طالب.

وقال المؤيد بالله والإمام يحيى: بل يصرفها عند ظنه الموت أو إياسه من معرفته ولو عاد، لئلا تفوت منفعتها.

قال صاحب البحر الزخار: وهو قوى رعاية للمصلحة.

وللوديع إمساك الوديعة - عن مالكها - حيث خشى من ردها أن يأخذها الظالم، قاله قاضى القضاة أبو رشيد

(2)

.

وإمساك الوديعة من الدراهم ونحوها في اليد حال التصرف في البلد يعتبر حرزًا وحفظًا وليس بتفريط لو ضاعت. ومثل اليد في ذلك إمساكها في الكم والجيب

(3)

.

ويعتبر من التعدى على الوديعة الموجب لضمانها إن تلفت - إمساكُها بعد طلب ردها من مالكها والمراد بالردّ هنا التخلية بينها وبين مالكها

(4)

.

وقال أبو جعفر: لو نهى المودع الوديع عن إمساك الوديعة ولم يعلم الوديعة بنهيه حتى تلفت لم يضمن، لثلا يحصل الضرر في التعامل

(5)

.

وإذا مات الوديع فليس لورثته إمساك الوديعة، ويلزمهم ردها فورًا، إِذْ لم يؤذنوا بإمساكها وإلا ضمنوا

(6)

.

‌إمساك المال المردود واللقطة:

إذا أنفق على الضالة ممسكُها كان له أن يرجع بما أنفق بنيته ولو كان المالك حاضرًا وكذا يرجع بأجرة الحفظ إذا كان لمثله أجرة، ولا يحتاج إلى أمر الإمام ولا القاضي والقول قوله في المعتاد، إذ لا يعرف إلا من جهته وعليه اليمين إن طلبت.

وله حبسها عن مالكها حتى يستوفى ذلك منه، ولا يصير ضامنًا بالحبس بل تظل أمانة كما كان عليه الحال قبل حبسها، لأنه غير متعد بحبسها لذلك

(7)

.

وكذا للملتقط حبس اللقطة لاستيفاء ما أنفقه عليها

(8)

.

والعبد الآبق في حبسه عن سيده لاستيفاء النفقة كاللقطة، وذلك إن لم يكن له كسب ينفق عليه منه

(9)

.

(1)

المرجع السابق ص 86 - 87

(2)

المرجع السابق جـ 4 ص 170 - 171 الطبعة السابقة.

(3)

المرجع السابق جـ 4 ص 169 الطبعة السابقة.

(4)

التاج المذهب السابق جـ 3 ص 237 الطبعة السابقة.

(5)

البحر الزخار السابق جـ 5 ص 64 الطبعة السابقة.

(6)

المرجع السابق جـ 4 ص 171 الطبعة السابقة.

(7)

التاج المذهب السابق جـ 3 ص 447 الطبعة السابقة.

(8)

البحر الزخار السابق جـ 4 ص 283 الطبعة السابقة.

(9)

المرجع السابق جـ 4 ص 279 - 280.

ص: 194

‌مذهب الإمامية: "إمساك المبيع والثمن

":

يجوز للبائع إمساك المبيع وحبسه عن المشترى ليتقابضا أو ليقبض الثمن حيث شرط تقدم قبضه. وكذلك يجوز للمشترى ذلك بالنسبة للثمن

(1)

.

وإذا أطلق المتعاقدان عقد البيع عن شرط تأخير أحد العوضين أو تأخيرهما إذا كانا عينين أو أحدهما اقتضى ذلك وجوب تسليم المبيع والثمن فيتقابضا معًا لو تمانعا من التقدم، سواء كان الثمن عينًا أو دينًا. وإنما لم يكن أحدهما أولى بالتقدم لتساوى الحقين عند وجوب تسليم كل منهما إلى مالكه. فإن امتنع أحدهما أجبره القاضي وإن امتنعا أجبرا معًا من غير أولوية في تقديم الإجبار.

وقال الطوسى: على القاضي أن يجبر البائع على تسليم المبيع أولًا، لأن الثمن تابع للمبيع ثم يجبر المشترى على تسليم الثمن بعد ذلك إن كان موسرًا. وإن كان معسرًا فللبائع فسخ البيع بغير قضاء القاضي. وإن كان غائبًا عن البلد احتفظ على السلعة فإن تأخر فللبائع فسخ البيع أو الصبر إلى أن يحضر. والرأى الأول أشبه ويضعف الثاني باستواء العقد في إفادة الملك لكل منهما. ولو تلف المبيع خلال إمساك البائع له وقبل قبض المشترى فمن ضمان البائع مطلقًا مع أن النماء المنفصل المتجدد بين العقد والتلف للمشترى.

وإن تلف البعض أو تعيّب من قبل الله سبحانه أو من قبل البائع تخير المشترى بين الإمساك مع أرش العيب وبين الفسخ. ولو كان العيب من قبل أجنبى فالأرش عليه للمشترى إن أمسك المبيع وللبائع إن فسخ البيع؛ وإن كان من قبل المشترى استقر الثمن في ذمته إن لم يكن البائع قبضه، وإن كان قبضه لم يرجع به المشترى ويضمن البائع أجرة المبيع إذا أمسكه عن المشترى بغير حق. أما لو أمسكه وحيسه عنه ليتقابضا أو ليقبض الثمن الذي شرط تقدم قبضه فلا أجرة عليه، وذلك للإذن في إمساكه شرعًا.

وحيث يكون الإمساك سائغًا فالنفقة على المبيع خلال إمساكه تكون على المشترى، لأنه ملكه. فإن امتنع من الإنفاق رفع البائع آمره إلى القاضي ليجبره عليه. فإن تعذر أنفق بنية الرجوع ورجع كنظائره

(2)

.

ولو اشترى شخص شيئين صفقة واحدة فوجد بأحدهما عيبًا لم يكن له رد المعيب وإمساك الآخر بل يتخير في ردهما معًا أو إمساكهما وأخذ أرش العيب، سواء كانا مما ينقصهما التفريق أم لا، وسواء حصل القبض أم لا

(3)

.

ولو اشترى اثنان شيئا صفقة فوجداه معيبًا كان لهما الرد بالعيب جميعًا. وإن أراد أحدهما

(1)

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية لعلى بن أحمد العاملى جـ 1 ص 336 الطبعة الأولى بمطبعة دار الكتاب العربى.

(2)

المرجع السابق جـ 1 ص 335 - 336 الطبعة السابقة.

تحرير الأحكام ليوسف بن مطهر الحلى جـ 1 ص 175 - 176 طبعة حجر سنة 1314 هـ.

الخلاف في الفقه للطوسى جـ 1 ص 571 رقم 239 طبع مطبعة رنكين بطهران.

(3)

تحرير الأحكام السابق جـ 1 ص 183 الطبعة السابقة.

ص: 195

أن يرد نصيبه وأراد الآخر إمساكه لم يكن لمن أراد الرد أن يرد نصيبه حتى يتفقا

(1)

ولو باعه أرضًا على أنها مساحة معلومة فنقصت تخير المشترى بين الرد والإمساك ولا يبطل البيع، فإن رد استرجع الثمن، وإن أمسك فللشيخ الطوسى فيه قولان:

(أحدهما) الإمساك بجميع الثمن، (والثانى) الإمساك بما يخصه من الثمن. وبناء على القول الثاني قيل: يتحير البائع وفيه قوة ولو أمسكه المشترى بجميع الثمن سقط خيار البائع

(2)

.

وتصرية الشاة والناقة والبقرة تدليس يثبت به الخيار بين الرد والإمساك. ويرد معها مثل لبنها أو قيمته مع التعذر

(3)

.

وكذلك إذا حدث عيب في السلعة قبل القبض والتمكين منه كان المشترى بالخيار بين الرد والإمساك، وفى الأرش مع الإمساك تردد

(4)

.

في هذا الموضوع تفصيل انظر مصطلح "بيع" و "خيار".

‌إمساك العين المستأجرة:

إذا استأجر شخص دابة مثلًا لقطع مسافة فأمسكها قدر قطعها من غير تسيير استقرت الأجرة عليه، ولا ضمان عليه خلال إمساكه لها بدون انتفاع طوال مدة الإجارة حتى ولو تلفت الدابة بوقوع سقف الإصطبل أو انهدام جدرانه عليها.

أما إذا أمسكها بعد انقضاء مدة الإجارة ففى وجوب ضمانها إذا تلفت ومؤنتها ومؤنة ردها إشكال؟ ويلوح من كلام الشيخ - الطوسى - وجوب ذلك كله عليه.

ولو طلب العين المستأجرة صاحبُها بعد المدة وجب ردها مع المكنة، فإن امتنع ضمنها، وعليه أجرة المثل من وقت الإمساك وإن لم يستعملها.

ولو استأجر دابة عشرة أيام بعشرة دراهم فإن أمسكها أكثر من ذلك فللمؤجر بكل يوم درهم لم يجز ذلك ويكون له أجرة المثل بعد العشرة أيام.

ولو أمسك الصانع الثوب وحبسه عن صاحبه لاستيفاء الأجرة فتلف ضمنه إلا أن يجعله صاحبه رهنًا

(5)

.

وإن امتنع المؤجر من تسليم العين المستأجرة وحبسها عن المستأجر مدة الإجارة بطلت الإجارة. ولو منع الظالم المستأجر من الانتفاع بعد القبض لم تبطل وكان للمستأجر الدرك على الظالم

(6)

.

‌إمساك النصيب المشفوع:

يجوز للمشترى إمساك الشقص المشفوع حتى يسلمه الشفيع الثمن الذي وقع عليه العقد فإن امتنع الشفيع لم يجب على المشترى التسليم حتى

(1)

المرجع السابق الطبعة السابقة.

الخلاف في الفقه السابق جـ 1 ص 553 رقم 179 الطبعة السابقة

(2)

تحرير الأحكام السابق جـ 1 ص 176 الطبعة السابقة.

(3)

شرائع الإسلام السابق جـ 1 ص 176 الطبعة السابقة.

(4)

المرجع السابق ص 185، وتحرير الأحكام السابقة ص 176 الطبعة السابقة.

(3)

تحرير الأحكام السابق جـ 1 ص 250، 352 - 254 الطبعة السابقة.

(4)

المختصر النافع في فقه الإمامية لجعفر بن الحسن الحلى جـ 1 ص 153 طبعة مطابع دار الكتاب العربى.

(5)

تحرير الأحكام السابق جـ 2 ص 148 الطبعة السابقة.

شرائع الإسلام السابق جـ 2 ص 160، 162، 164 الطبعة السابقة.

(6)

المرجع السابق ص 163 الطبعة السابقة.

ص: 196

يقبض فإن عجز الشفيع عن الثمن أو ماطل بطلت الشفعة

(1)

.

ولو ظهر في المبيع عيب فأمسكه المشترى معيبًا ولم يطالب بالأرش أخذه الشفيع بالثمن أو ترك وإن أخذ المشترى أرشه أخذه الشفيع بما بعد الأرش

(2)

.

‌إمساك متاع المضاربة:

إطلاق الإذن للمضارب في عقد المضاربة يبيح له شراء المعيب وإمساكه مع الحظ - أي المصلحة - بخلاف الوكيل.

فإذا اشترى المضارب شيئًا فبان معيبًا كان له الرد بالعيب والإمساك بأرش أو بدون أرش فإن كان الحظ في الإمساك لم يرد وإن كان الحظ في الرد لم يمسك.

ولو حضر المالك واختلفا في الرد والإمساك قدم القاضي قول من الحظ معه

(3)

.

‌إمساك الوديعة:

لو قال المودِع [بكسر الدال] للمودَع [بفتحها]: ضع الوديعة في جيبك أو كمك فأمسكها في يده ضمن إن سقطت. ولو غصبت فكذلك على إشكال!!!

ولو أمره بحفظها مطلقًا فوضعها في جيبه أو أمسكها في يده لم يضمن إلا أن تسقط من يده لاسترخائه بنوم أو نسيان.

ومما يوجب ضمان الوديعة إمساك المودَع لها بعد مطالبة صاحبها لها وإمكان الدفع.

أما إن كان إمساكه لها بعد الطلب لعدم إمكان دفعها لبعدها أو لمخافة في طريقها أو للعجز عن حملها أو غير ذلك لم يكن متعديًا بإمساكها فلا يضمنها إن تلفت ولو مات شخص وعنده وديعة معلومة بعينها فعلى ورثته تمكين صاحبها من أخذها، ولو لم يعلم المالك بالموت وجب على الورثة إعلامه. وليس لهم إمساكها، لعدم الإذن وكذا لو أطارت الريح إلى دار شخص ثوبًا مثلًا وعلم به فعليه إعلام المالك وليس له إمساكه

(4)

.

‌إمساك اللقطة والضوال:

لا يجوز لأحد إمساك الضوال في العمران، سواء كانت ممتنعة كالإبل الكبيرة أو لم تكن كالصغير من الإبل والبقر. فإن أخذها كان بالخيار بين إمساكها لصاحبها أمانة، وعليه نفقتها من غير رجوع بها على المالك، وبين رفعها إلى الحاكم، فإن لم يجد حاكمًا أنفق ورجع بالنفقة وإن كان شاةً أمسكها ثلاثة أيام فإن لم يأت صاحبها باعها الواجد وتصدق بثمنها

(5)

.

‌مذهب الإباضية: "إمساك المبيع

":

جاء في شرح النيل: يجبر البائع أوَّلًا بأن يسلم المبيع للمشترى ثم يجبر المشترى على قبضه ونقد الثمن - أي إحضاره للبائع حينئذ - إن كان حالًا. أما إن كان مؤجلًا فلا يجبر على نقده للبائع إلا حين يحل الأجل

(6)

.

(1)

تحرير الأحكام السابق جـ 7 ص 148 الطبعة السابقة.

شرائع الإسلام السابق جـ 2 ص 160، 162، 164 الطبعة السابقة.

(2)

المرجع السابق ص 163 الطبعة السابقة.

(3)

تحرير الأحكام السابقة جـ 1 من 276 الطبعة السابقة.

(4)

المرجع السابق جـ 1 ص 267 - 268 الطبعة السابقة.

(5)

المرجع السابق جـ 2 ص 125 الطبعة السابقة.

(6)

شرائع الإسلام السابق جـ 2 ص 176 الطبعة السابقة.

ص: 197

ويُحْبَس البائع حتى يسلّم المبيع، والمشترى حتى يقبضه إن امتنعا.

وقيل: لا يحكم بتسليم العروض حتى يوفى المشترى الثمن.

وقيل: لا يحكم على المشترى بإحضار الثمن للبائع حتى مشتراه.

وقيل: يحكم بتسليم المبيع ونقد الثمن معًا لا قبل ولا بعد فيهما - أي في التسليم والقبض مع نقد الثمن

(1)

.

وإذا أمسك البائع المبيع حتى يقبض الثمن أو يشهد أو يثبت أو نحو ذلك فتلف المبيع خلال ذلك فإنه يتلف عليه كالرهن. إلا أن الظاهر أن عليه للمشترى مثله أو قيمته، لانعقاد البيع ودخول المبيع في ملك المشترى، وعلى المشترى حينئذ نقد الثمن للبائع

(2)

.

وإذا وجد المشترى بالمبيع عيبًا خيّر بين إمساكه ولا شئ له من أرش العيب، وبين أن يرده ويأخذ ثمنه من البائع إن كان قد دفعه له، والدليل على هذا حديث المصراة المشهور الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من اشترى شاة مُحَفَّلة فهو فيها بالخيار والنظر إلى ثلاثة أيام فإن شاء ردّها وردّ على صاحبها صاعًا من تمر" متفق عليه. فقد جعل صلى الله عليه وسلم له الخيار إن شاء ردها وإن شاء أمسكها ورضى بعيبها ولا شيء له.

وذلك التخيير بين الإمساك والرد إن لم يتغير المبيع بعيب حادث عند المشترى في قول الأكثر ولا حد لردّه ما لم يقبله ولو مكث أيامًا إن لم يستعمله ولم يعمل ما يدل على رضاه بعد اطلاعه على العيب

(3)

.

وإذا اشترى المشترى أنواعًا من المبيعات في صفقة واحدة فوجد في أحدها عيبًا فالمختار أنه إن لم يسم لكل واحد من تلك الأنواع ثمنًا يكون بالخيار بين إمساك الكل بلا أرش أو رد الكلّ.

وقال قوم: له أن يرد المعيب فقط بحصته من جملة الثمن إن أراد الرد وإلا أمسك الكل بلا أرش

(4)

.

وكذلك يخير المشترى بين إمساك الكل بلا أرش أو رد الكل إن اشترى أشياء من بائعين متعددين بعقد واحد فوجد عيبًا في البعض وقد اتحدت الصفقة واتحد الثمن. أما إن عيّن لمعيب ثمنًا فله ردّه وحده أو إمساكُه بلا أرش.

وكذلك إن اشترى رجلان أو أكثر من رجل أو أكثر شيئًا فخرج معيبًا قليس لأحدهما رد سهمه دون الآخر.

وقيل: له أن يرد سهمه إن شاء بقيمته.

وإن عُيِّن سهمُ كلٍّ في الصفقة بالحد من كذا إلى كذا لا بالتسمية فله ردّ سهمه

(5)

.

ومن بيده حرام غصبه أو سرقه أو دخل يدَه وقد علمه حرامًا ولا يعرف صاحبه ندب له بيعه

(1)

شرح النيل وشفاء العليل محمد بن يوسف اطفيش جـ 4 ص 37 طبع مطبعة البارونى وشركاه بالقاهرة.

(2)

المرجع السابق جـ 4 ص 35، 188، 189.

(3)

المرجع السابق جـ 4 ص 258.

وانظر أيضًا الإيضاح لعامر بن علي الشماخى جـ 2 ص 241. الطبعة الأولى. مطبعة دار الفتح للطباعة ببيروت سنة 1390 هـ.

(4)

المرجع السابق جـ 3 ص 252 - 253.

انظر أيضًا شرح النيل السابق جـ 4 ص 268 وما بعدها الطبعة السابقة.

(5)

شرح النيل السابق جـ 4 ص 269 الطبعة السابقة.

ص: 198

في موضع لا يُعرف فيه أنه حرام، وينفقُ ثمنه على الفقراء قصدًا لصاحبه

(1)

.

ويحرم على مشتريه إمساكه إن علم وقت البيع أنه حرام، ويلزمه ردّه لصاحبه الأول - أي المغصوب منه ونحوه

(2)

. أما إن علم المشترى بعد الشراء أن المبيع مسروق مثلًا وقد غرم السارق ثمنه لصاحبه فهل يحل له إمساكُه أو يردُّه على السارق ويأخدُ منه ثمنه ويَفْسَدُ البيعُ قولان؟

وقيل فيمن اشتراه وهو يعلم أنه حرام: إنه يمسكه إذا علم أن البائع غرم قيمته لصاحبه.

وإخراج المتعدى بالسرقة أو بالغصب ونحوِه ذلك من يده بهبة أو صداق أو أجرة ونحوه كإخراجه بالبيع في الفصل كله. ففى الديوان: وكل ما كان في يده ففعل ما يضمنه به فضاع فغرم قيمته لصاحبه فرجع الشئ في يده فلا يمسكه ويرده لصاحبه ويسترد منه ما أعطاه سواء كان في يده أوّلًا بالتعدى أو بغيره.

وقيل: يمسكه حيث أعطى قيمته

(3)

.

ومن راب مبيعًا - أي ظن حرمته - بعد شرائه فقيل: يمسكه ولا يبالى.

وقيل: يبيعه ويمسك قدر الثمن الذي دفعه وينفق الباقى على الفقراء.

قال البراء: وهذا هو الأقيس، لأنه علم بالريبة فلا يكون كمن لم يعلمها.

وإن كان المبيع ثمنًا أبدله بثمن آخر أو مثمن وأمسك قدر الثمن الذي دفعه فقط

(4)

.

‌إمساك الأجير محل عمله:

يجوز للأجير إمساك ما بيده ومنعُه من صاحبه حتى يأخذ أجرته، فللراعى مثلًا منع الضأن والمعز وإمساكُها عن صاحبها حتى يأتيه بالأجرة عند تمام الشهر مثلًا.

وإذا أمسك الأجير ذلك بعد تمام العمل وحبسه عن صاحبه حتى يأخذ أجرته فتلف بأمر غير غالب لا يعذر فيه فإنه يضمن قيمته معمولا لصاحبه. ويأخذُ أجرة عمله. لأنه تلف وهو معمول والعمل نفع لصاحبه.

وقيل: يضمن قيمته غير معمول، لأن عمله لم يتصل بيد صاحبه، ولم يخرج من يد عامله بل أبطله عامله فكأنه لم يكن من أول الأمر، ولا أجرة له حينئذ.

وقيل: إن تلف بلا تعد وقد حبسه لأجرته ضمنه وذهب أجره من القيمة، ويدفع ما بقي من القيمة.

أما إن تلف بأمر غالب يعذر فيه كسرقة أو حرق أو سيل أو مكابرة فلا ضمان عليه وله أجرته حتى ولو كان قد حبسه لاستيفاء أجرته، لأن ذلك مصيبة نزلت بصاحبه.

جاء هذا في شرح النيل كما جاء فيه أن هذا هو الأصح لأنه كان في يد الأجير بأمر صاحبه، وتلف بما لا سبب له فيه ولا طاقة له عليه فلا يذهب عمله باطلًا

(5)

.

(1)

المرجع السابق جـ 4 ص 269 الطبعة السابقة.

(2)

المرجع السابق جـ 1 ص 312 - 313 الطبعة السابقة.

(3)

المرجع السابق جـ 4 ص 315 الطبعة السابقة.

(4)

المرجع السابق جـ 4 ص 314 الطبعة السابقة.

(5)

المرجع السابق جـ 5 ص 181 - 182 الطبعة السابقة.

ص: 199

وجاء في حاشية ابن السعيد على الإيضاح: أن الظاهر أنه إن حبسه لأجل استيفاء أجرته فتلف فلا أجرة له لأنه حيث حبسه لذلك صار بمنزله الرهن عنده قياسًا على السلعة إذا حبسها البائع في شئ من الثمن فإنهم ذكروا أنها بمنزلة الرهن

(1)

.

وإن حبسه عن صاحبه بعد قبض الأجرة بدون عذر مانع من إيصاله فإنه يلزمه ضمانه حتى ولو سرق أو أحرق أو كوبر عليه ونحو ذلك من الأمور الغالبة، لأنه قد أخذ عليه الأجرة ولا وجه لإمساكه عنده وقد انفصل عنه بتمام العمل وقبض الأجرة فكان في ضمانه.

ومعنى إمساكه له في هذه المسألة أنه لم يوصله إلى صاحبه ولم يقبضه صاحبه وكان قد أخذه من دار صاحبه وليس المعنى أنه طليه صاحبه فمنعه منه، ولو كان هذا فمن باب أولى الضمان

(2)

. وكذلك لا يجوز للأجير أن يحبس ما بيده لأمر آخر غير الأجرة - التي لم يقبضها - فإن حبسه لغيرها وضاع ولو بلا تعد ضمنه غير معمول ولا أجرة له.

وقيل: يجوز للأجير حبس ما بيده في مقابل دين له جحده صاحب المال أو تباعة كذلك فإن ضاع حسب من دينه أو تباعته معمولًا.

وإن تلف ما بيد الأجير قبل العمل ضمنه غير معمول على قول الضمان، سواء نوى حبسه بعد تمام العمل لاستيفاء أجرته أم لم ينو ذلك

(3)

.

‌إمساك العين المستأجرة:

وإن استأجر شخص من شخص دابة مثلًا لعمل معين كحرث أو طحن أو ما أشبه ذلك من الأعمال، أو استأجرها للعمل مطلقًا كذا يومًا فذهب بها المستأجر إلى بيته فحبسها أيامًا في داره ولم يعمل بها شيئًا ولم يعلم بذلك صاحبها - أي لم يعلم بأنه حبسها وتركها بلا عمل - فله على المستأجر أجرة مثلها في تلك الأيام التي حبسها فيها في داره ينظر أهل العدل وهذا الراجح، لأنه عطل صاحبها عن الانتفاع بها خلال تلك الفترة وقد أخذها على الإجارة. وقال بعض: ليس على المستأجر شئ من أجرتها إذا لم يكن استعملها، لأنه استأجرها للعمل ولم يحصل من ذلك، ونسبه صاحب التاج إلى الأكثر.

وقيل: لصاحبها الأجر كلُّه سواء حبسها المستأجر بلا عمل أو عمل بها، لأن ذلك جاء من قبله.

وإن استعملها المستأجر بعد حبسها فترة فلصاحبها الأجر كله أيضًا.

أما إن علم صاحبها بأن المستأجر حبسها بلا عمل فلا أجر له ويعد راضيًا بعدم الأجر حيث علم وسكت

(4)

.

ولا يجوز للمستأجر أن يمسك على الدابة المستأجرة شيئًا من أموال الناس كالسلاح كما لا يمسك عليها مصحفًا ولا كتابًا ليقرأه

(5)

.

(1)

الإيضاح بحاشية بن سعيد السدويكش جـ 3 ص 615 الطبعة السابقة.

(2)

شرح النيل السابق جـ 5 ص 183 الطبعة السابقة.

(3)

المرجع السابق جـ 5 ص 181 الطبعة السابقة.

(4)

المرجع السابق جـ 5 ص 157 - 158 الطبعة السابقة.

وانظر أيضًا الإيضاح جـ 3 ص 597 - 598 الطبعة السابقة.

(5)

شرح النيل السابق جـ 5 ص 90 الطبعة السابقة.

ص: 200

‌بحث مصطلح "أمن

"

‌التعريف في اللغة:

أمن مصدر الفعل أمن جاء في لسان العرب

(1)

أمن: الأمان والأمانة بمعنى وقد أمنت فأنا آمن وأمنت غيرى من الأمن والأمان. والأمن ضد الخوف والأمانة ضد الخيانة والإيمان ضد الكفر. والإيمان بمعنى التصديق ضده التكذيب يقال: آمن به قوم وكذب به قوم. فأما آمنته المتعدى فهو ضد أخفته. وفى التنزيل العزيز. {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ

(2)

}. ابن سيده: الأمن نقيض الخوف، أمن فلان بأمن أمَنًا وأمْنا، حكى هذه الزجاج وأمَنةً وأمانا فهو أمِنْ. والأمنة: الأمن ومنه: أمنة نعاسا. {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}

(3)

نصب أمنةً لأنه مفعول له كقولك: فقلت ذلك حذر الشر، قال ذلك الزجاج وفى حديث نزول المسيح، على نبينا وعليه الصلاة والسلام: وتقع الأمنة في الأرض أي الأمن، يريد أن الأرض تمتلئ بالأمن فلا يخاف أحد من الناس والحيوان.

وفى اصطلاح الفقهاء: لا يخرج عن معناه في اللغة، وقد تحدث الفقهاء عن الأمن المقصود به إعطاء الأمان لأهل الحرب وينظر ذلك في مصطلح أمان، وتحدثوا كذلك عن الأمن باعتباره شرطًا لمريد الحج وبيان المذاهب في ذلك على الوجه الآتى:

‌أمن الطريق بالنسبة لمريد الحج

.

‌مذهب الحنفية:

أمن الطريق من شرائط فرضية الحج جاء في بدائع الصنائع عند تعداد شرائط فرضية الحج قال

(4)

: ومنها أمن الطريق وإنه من شرائط الوجوب عند بعض أصحابنا بمنزلة الزاد والراحلة وهكذا روى ابن شجاع عن أبى حنيفة وقال بعضهم إنه من شرائط الأداء لا من شرائط الوجوب وفائدة هذا الاختلاف تظهر في وجوب الوصية إذا خاف الغوث فمن قال إنه من شرائط الأداء يقول إنه تجب الوصية إذا خاف الغوث ومن قال إنه شرط الوجوب يقول لا تجب الوصية لأن الحج لم يجب عليه ولم يصر دينًا في ذمته فلا تلزمه الوصية ووجه قول من قال إنه من شرائط الأداء ما روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة ولم يذكر أمن الطريق ووجه من قال إنه شرط الوجوب وهو الصحيح أن الله سبحانه وتعالى شرط الاستطاعة ولا استطاعة بدون أمن الطريق كما لا استطاعة بدون الزاد والراحلة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين الاستطاعة بالزاد والراحلة بيان كفاية ليستدل بالمنصوص عليه على غيره لاستوائهما في المعنى وهو إمكان الوصول إلى البيت ألا ترى أنه كما لم يذكر أمن الطريق لم يذكر صحة الجوارح وزوال سائر الموانع الحسية وذلك شرط الوجوب على أن الممنوع عن الوصول إلى البيت لا زاد له ولا راحلة معه فكان شرط الزاد والراحلة شرطًا

(1)

لسان العرب للإمام العلامة أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقى المصرى جـ 54 طبعة بيروت سنة 1956. سنة 1375 طبع مطبعة دار صادر للطباعة والنشر جـ 21.

(2)

الآية رقم 4 من سورة قريش.

(3)

الآية رقم 11 من سورة الأنفال.

(4)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين أبى بكر بن مسعود الكاسانى جـ 2 ص 123 ص 124 طبع مطبعة الحملة بمصر.

ص: 201

لأمن الطريق عند الضرورة ثم قال الكاسانى: أما الذي يخص النساء أن يكون مع المرأة زوجها أو محرم لها والمحرم هو أن يكون ممن لا يجوز له نكاحها على التأبيد إما بالقرابة أو الرضاع أو لأن الحرمة المؤبدة تزيل في الخلوة فإن لم يوجد أحدهما لا يجب عليها الحج بدليل ما روى عن ابن عباس - رضى الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا لا تحجن امرأة إلا ومعها محرم. ولأنها إذا لم يكن معها زوج ولا محرم لا يؤمن عليها إذ النساء لحم على وضم

(1)

إلا مازب عنه وقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}

(2)

لا تتناول النساء حال عدم الزواج والمحرم لأن المرأة لا تقدر على الركوب والنزول بنفسها فتحتاج إلى من يركبها وينزلها ولا يجوز ذلك لغير الزوج والمحرم فلم تكن مستطيعة في هذه الحالة فلا يتناولها النص فإن امتتنع الزوج أو المحرم عن الخروج فلا يجبرانه على الخروج ولو امتنع من الخروج لإرادة زاد وراحلة هل يلزمها ذلك ذكر القدورى في شرحه مختصر الكرفى أنه يلزمها ذلك ويجب عليها الحج وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوى أنه لا يلزمها ذلك ولا يجب الحج عليها وجه ما ذكره القدورى أن المحرم أو الزوج من ضرورات حجها بمنزلة الزاد والراحلة إذ لا يمكنها الحج بدونه كما لا يمكنها الحج بدون الزاد والراحلة ولا يمكن إلزام ذلك الزوج أو المحرم من ماله نفسه فيلزمها ذلك كما يلزمها الزاد والراحلة لنفسها ووجه ما ذكره القاضي أن هذا من شرائط وجوب الحج عليها ولا يجب على الإنسان تحصيل شرط الوجوب بل إن وجد الشرط وجب وإلا فلا. ألا ترى أن الفقير لا يلزمه تحصيل الزاد والراحلة فيجب عليه الحج ولهذا قالوا في المرأة التي لا زوج لها ولا محرم أنه لا يجب عليها أن تتزوج من يحج بها كذا هذا ولو كان معها محرم فلها أن تخرج مع المحرم في حجة الفرض من غير إذن زوجها عند الحنفية.

وجاء في حاشية ابن عابدين على الدر المختار

(3)

أنه اختلف في سقوط الحج إذا لم يكن بد من ركوب البحر فقيل يسقط وقال الكرمانى إن كان الغالب فيه السلامة من موضع جرت العادة بركوبه يجب وإلا فلا وهو الأصح قال في الفتح والذي يظهر أنه يعتبر مع غلبة السلامة عدم غلبة الخوف حتى لو غلب لوقوع النهب والغلبة من المحاربين مرارًا أو سمعوا أن طائفة تعرضت للطريق ولها شوكة والناس يستضعفون أنفسهم عنهم لا يجب وما أفتى به الرازى من سقوطه عن أهل بغداد وقول الاسكافى في سنة ست وثلاثين وستمائة لا أقول إنه فرض في زماننا وقول الثلجى ليس على أهل خراسان منذ كذا كذا سنة حج إنما كان وقت غلبة النهب والخوف في الطريق ثم زال ولله تعالى المنعة.

وقال السيد أبو السعود إن قتل بعض الحجاج في كل عام أو في غالب الأعوام عذر وحينئذ فلا تكون السلامة غالبة. قال ابن عابدين فيه نظر فإن غلبة السلامة ليس المراد بها لكل واحد بل

(1)

الوضم: محركة ما وقيت به اللحم والأرض من خشب وحصير. وتركهم لى على وضم أوقعهم فذللهم وأوجعهم ترتيب القاموس. المحيط جـ 4 ص 564 مادة وضم.

(2)

الآية رقم 97 من سورة آل عمران.

(3)

حاشيه ابن عابدين على الدر المختار شرح تنوير الأبصار جـ 2 ص 198 طبع دار سعادات بالقاهرة طبعة أولى سنة 1324 هـ.

ص: 202

للمجموع وهى لا تنتفى إلا بقتل الأكثر أو الكثير أما قتل اللصوص لبعض قليل من جمع كثير سيما إذا كان بتقريطه بنفسه وخروجه من بينهم فالسلامة فيه غالبة. نعم إذا كان القتل بمحاربة القطاع من الحجاج فهو عذرا إذا غلب الخوف.

‌مذهب المالكية:

جاء في الحطاب يجب الحج باستطاعة وبإمكان الوصول بلا مشقة عظمت وأمن على نفس ومال

(1)

وقال في الشامل

(2)

: وعلى المال من لصوص على المشهور

(3)

وما ذكر أن يعتبر الأمن على المال استثنى من ذلك ما إذا كان عدم الأمن عليه إنما هو لأن في الطريق مكاسا يأخذون من المال شيئًا قليلًا ولا ينكث بعد أخذه لذلك القليل. فذكر أن في ذلك قولين أظهرهما عدم سقط الحج والثانى سقوطه قال في التوضيح

(4)

إن كان ما يأخذه المكاس غير معين أو معينًا لحجنا سقط الوجوب وفى غير المجحف قولان أظهرهما عدم السقوط وهو قول الأبهرى واختاره ابن العربى وغيره والآخر ابن القصار عن بعض الأصحاب وظاهر الكلام في التوضيح أنه إذا كان المكاس يأخذ ما يجحف سقط الحج من غير خلاف وظاهر ما نقله التادلي عن ابن العربى أنه يختار عدم السقوط سواء طلب ما يجحف أم لا يجحف خلاف ما نقله عنه في التوضيح ونصه قال صاحب السراج فإن طلب منه الظالم في طريق أو في دخول مكة مالًا فقال بعض الناس لا يدخل ولا يعطيه وليرجع والذي أراه أن يعطيه ولا ينبغى أن يدخل في ذلك خلاف فإن الرجل بإجماع الأمة يجوز له أن يمنع عرضه ممن يهتكه بحاله قالوا كل ما وقى به المرء عرضه فهو صدقة فكذلك أن يشترى دينه ممن يمنعه إياه ولو أن ظالمًا قال لرجل لا أمكنك من الوضوء والصلاة إلا بجعل لوجب عليه أن يعطيه إياه وصاحب السراج هو ابن العربى فظاهر كلامه هذا أنه لم يفرق بين ما يجحف وما لا يجحف كما نقله صاحب التوضيح وفى كلام ابن عبد السلام ميل إلى هذا فإنه قال وتقدم أنه لا يعتبر بقاؤه فقيرًا أو أنه يبيع عروضه وأنه يترك ولده للصدقة وذلك يقتضى أنه لا يراعى ما يجحف فضلًا عما لا يجحف قال المصنف في التوضيح بعد نقله كلام ابن عبد السلام وقد يفرق بأن في الإعطاء هنا إعانة للظالم على ظلمه وبغيه ويمكن أن يفرق بأن تلك الأمور لابد منها ولا يمكن الوصول إلا بها بخلاف هذه فتأمله وظاهر كلام المصنف هنا أن محل الخلاف إذا كان المأخوذ قليلًا وأما إن كان المكاس يطلب الكثير فإنه يسقط الحج ولو كان ذلك الكثير لا يجحف بالمأخوذ منه وهو ظاهر كلام اللخمى أو صريحه وظاهر كلام المصنف في توضيحه ومناسكه أن محل الخلاف ما لا يجحف ولو كان في نفسه كثيرًا وهو ظاهر كلام القاضي عبد الوهاب والقرافى وغيرهما. قال النادلى قال

(1)

مواهب الجليل لشرح مختصر خليل المعروف بالحطاب جـ 2 ص 491 طبع مطبعة السعادة بمصر سنة 1328 هـ الطبعة الأولى.

(2)

المرجع السابق جـ 2 ص 494 نفس الطبعة السابقة.

(3)

المرجع السابق جـ 2 ص 495 نفس الطبعة المتقدمة.

(4)

مواهب الجليل لشرج مختصر أبى الضياء سيدى خليل لأبى عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربى الأصل المكى المولد الرعينى المعروف بالحطاب جـ 2 ص 495، ص 496 في كتاب بهامشه التاج والإكليل لمختصر خليل لأبى عبد الله سيدى محمد بن يوسف بن أبى القاسم العبدرى الشهير بالمراقى طبع مطبعة السعادة بمصر الطبعة الأولى سنة 1328 هـ.

ص: 203

القرافى يسقط فرض الحج إذا كان في الطريق عدو يطلب النفس أو من المال ما لا يتحدد أو يتحدد ويجحف وفى غير المجحف خلاف ولا شك في تغاير العبارتين لأن المجحف وغير المجحف يختلفان باختلاف الناس فرب شخص يجحف به الدينار وآخر لا يجحف به العشرة ولهذا قال ابن عرفة لا يسقط بعدم اليسير قال وظاهر قول القاضي ولا بكثير لا يجحف وممن قال بسقوط الحج بغير المجحف أبو عمران الفاسى فإنه أفتى جماعة مشوا معه للحج فطلب منهم أعرابى على كل جمل ثمن درهم بأن يرجعوا فرجعوا ذكره الزناتى في شرح الرسالة ونقله ابن فرحون والنادلى وغيرهما ولما ذكر

(1)

أن المعتبر في الاستطاعة إمكان الوصول خشى أن يتوهم أن ذلك خاص بالبر فقال: والبحر كالبر يعنى أن البحر طريق إلى الحج كالبر فيجب سلوكه إذا تعين ولم يكن ثمة طريق سواه ثم ذكر المصنف أنه يشترط في كون البحر طريقًا إلى الحج أن لا يطلب العطب فيه لأن من شرط الاستطاعة الأمن على النفس والمال فإذا غلب العطب فيه حرم ركوبه قال في التوضيح فيحرم ركوبه إذا عرض الخوف على النفس أو الدين.

‌مذهب الشافعية:

جاء في المجموع

(2)

: قال أصحابنا يشترط لوجوب الحج أمن الطريق في ثلاثة أشياء:

النفس والمال والبضع، فأما البضع فمتعلق بحج المرأة والخنثى قال إمام الحرمين: وليس للأمن المشترط أمنًا قطعيًا قال ولا يشترط الأمن الغالب في الحضر بل الأمن في كل مكان بحسب ما يليق به فأما النفس فمن خاف عليها من سبع أو عدو كافر أو مسلم أو غير ذلك لم يلزمه الحج إن لم يجد طريقًا آخر آمنًا فإن لزمه سواء كان مثل طريقه أو أبعد إذا وجد ما يقطعه به وفيه وجه شاذ ضعيف أنه لا يلزمه سلوك الأبعد حكاه المتولى والراضعى والصحيح الأول وبه قطع الجمهور وأما المال فلو خاف على ماله في الطريق من عدو أو رصدى أو غيره لم يلزمه الحج سواء طلب الرصدى شيئًا قليلًا أو كثيرًا إذا تعين ذلك الطريق ولم يجد غيره سواء كان العدو إلى يخافه مسلمين أو كفارًا لكن قال أصحابنا إن كان العدو كفارًا وأطاق الحاج مقاومتهم استحب لهم الخروج إلى الحج ويقاتلونهم لينالوا الحج والجهاد جميعًا وإن كانوا مسلمين لم يستحب الخروج ولا القتال. قال أصحابنا ويكره بذل المال للرصديين لأنهم يحرضون على التعرض للناس بسبب ذلك. هكذا صرح به القاضي حسين والمندلى والبنوى ونقله الرافعى وغيرهم ولو وجدوا من يخفرهم بأجر وغلب على الظن أمنهم ففى وجوب استئجاره ووجوب الحج وجهان حكاهما إمام الحرمين أصحهما عنده

(1)

المرجع السابق جـ 2 ص 511، 512 ص 513 نفس الطبعة السابقة.

(2)

المجموع شرح المهذب للإمام العلامة الفقيه الحافظ أبى زكريا محيى الدين بن شرف النووى جـ 7 ص 80، ص 81، ص 82، ص 83، ص 84 في كتاب معه فتح العزيز شرح الوجيز للإمام الجليل أبى القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعى ومعه تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعى الكبير للإمام أبى الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلانى طبع مطبعة التضامن الأخوى إدارة الطباعة المنيرية لصاحبها ومديرها محمد منير عبده أغا الدمشقى.

ص: 204

وجوبه لأنه من جملة أهب الطريق فهو كالراحلة. والوجه الثاني: لا يجب لأن سبب الحاجة إلى ذلك خوف الطريق وخروجها عن الاعتدال وقد ثبت أن أمن الطريق شرط هكذا ذكر الوجهين إمام الحرمين وتابعه الغزالى والرافعى والذي ذكره المصنف وجماهير الأصحاب من العراقيين والخراسانيين أنه إذا احتاج إلى خفارة لم يجب الحج فيحمل على أنهم أرادوا بالخفارة ما يأخذه الرصديون في المراصد وهذا لا يجب الحج معه بلا خلاف ولا يكونون متعرضين لمثله قال إمام الحرمين ويحتمل أنهم أرادوا الصورتين فيكون خلاف ما قاله ولكن الاحتمال الأول أصح وأظهر في الدليل فيكون الأصح على الجملة وجوب الحج إذا وجدوا من يصحبهم الطريق بخفارة ودليله ما ذكره الإمام وقد صححه إمامان من محققى متّأخرى أصحابنا أبو القاسم الرافعى وأبو عمرو بن الصلاح مع اطلاعهما على عبارة الأصحاب التي ذكرناها والله أعلم ولو امتنع محرم المرأة من الخروج معهما إلا بأجرة قال إمام الحرمين هو مقيس على أجرة الخفير واللزوم في المحرم أظهر لأن الداعى إلى الأجرة معنى في المرأة فهو كمؤنة المحمل في صد المحتاج إليه والله أعلم. ثم قال المصنف رحمه الله تعالى وإن لم يكن له طريق إلا في البحر فقد قال في الأم لا يجب عليه وقال في الإملاء إن كان أكثر معاشه في البحر لزمه. فمن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما يجب لأنه طريق مسلوك فأشبه البر والقول الثاني لا يجب لأن فيه تغريرًا بالنفس والمال فلا يجب كالطريق المخوف ومنهم من قال إن كان الغالب منه السلامة لزمه وإن كان الغالب من الهلاك لم يلزمه كطريق البر ومنهم من قال إن كان له عادة بركوبه لزمه وإن لم يكن له عادة بركوبه لم يلزمه لأن من له عادة لا يشق عليه ومن لا عادة له يشق عليه واختلفت نصوص الشافعي في ركوب البحر فقال في الأم والإملاء ما ذكره المصنف.

وقال في المختصر ولا يتبين لى أن أوجب عليه ركوب البحر قال أصحابنا إن كان في البحر طريق يمكن سلوكه قريب أو بعيد لزمه الحج بلا خلاف وإن لم يكن ففيه طرق أصحها وبه قال أبو إسحاق المرندى وأبو سعيد الاصطخرى وغيرهما فيما حكاه صاحب الشامل والتتمة وغيرهما أنه إن كان الغالب منه الهلاك إما لخصوص ذلك البحر وإما لهيجان الأمواج لم يجب الحج وإن غلبت السلامة وجب وإن استويا فوجهان أصحهما أنه لا يجب.

‌مذهب الحنابلة:

في الكشاف

(1)

أن من شروط وجوب الحج والعمرة الاستطاعة ثم قال

(2)

ومن الاستطاعة أمن طريق يمكن سلوكه لأن إيجاب الحج مع عدم بيان ذلك ضرر وهو منفى شرعًا ولو كان الطريق الممكن سلوكه بحرًا لحديث "لا تركبوا البحر إلا حاجًا أو معتمرًا أو غازيًا في سبيل الله" رواه أبو داود وسعيد ولأنه يجوز ركوبه مع غلبة السلامة للتجارة فيه حتى بأموال اليتامى وما روى عن النهى عن ركوبه محمول على ما إذا لم تغلب فيه السلامة أو كان الطريق غير معتاد لأن

(1)

شرح المنتهى لشيخ الإسلام الشيخ منصور بن يونس البهوتى على كشاف القناع جـ 1 ص 610 الطبعة الأولى طبع مطبعة العامرة الشرقية سنة 1219 هـ.

(2)

المرجع السابق جـ 1 ص 612 الطبعة السابقة.

ص: 205

قصاراه أنه مشقة وهو لا يمنع الوجوب كبعد البلد جدًّا ويشترط في الطريق إمكان سلوكه بلا خفارة فإن لم يمكن سلوكه إلا بها لم يجب ولو يسيره في ظاهر كلامه لأنها رشوة ولا يتحقق الأمن ببذلها وأن يوجد فيه الماء والعلف على المعتاد بالمنازل في الأسفار لأنه لو كلف حمل مائه وعلف بهائمه فوق المعتاد من ذلك أدى إلى مشقة عظيمة فإن وجد على العادة ولو بحمل من منهل إلى آخر أو العلف من موضع إلى آخره لزمه لأنه معتاد.

‌مذهب الزيدية:

جاء في شرح الأزهار

(1)

: يجب الحج على المكلف الحر بالاستطاعة التي شرطها الله تعالى بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}

(2)

ثم قال

(3)

ومن الاستطاعة أمن الطريق وحد الأمن أن يكون بحيث لا يخشى على نفسه تلفًا ولا ضررًا ولا يخشى أن يؤخذ منه فوق معتاد الرصد ونحوه فأما ما يعتاد من الجباء فلا يسقط الوجوب والبحر كالبر عندنا. وجاء في شرح الأزهار وحاشيته أن من أركان الاستطاعة في الحج أمن الطريق وحد الأمن أن يكون بحيث لا يخشى على نفسه تلفًا ولا ضررًا قال في الحاشية يعنى ماله الذي هو الزاد لا مال التجارة إذ مال التجارة يمكن تركه ثم قال في شرح الأزهار: ولا يخشى أن يؤخذ منه فوق معتاد الرصد ونحوه قال في الحاشية: فإن امتنع الرصد أن يأخذوا إلا بزائد على المعتاد سقط الحج حتى تثبت لهم العادة في سنتين أو في سنة وأخذت مرتين والرصد هم الذين يحفظون الطريق بأجرة المارة والجباء هو الذي يؤخذ من المارة على غير حفظ الشئ والرفيق الذي يمضى مع المارة بأجرة، قال الإمام ولا يجب بذل المال لطلب الأمن بخلاف ما إذا كان يجد طريقا آمنًا وهى بعيدة تحتاج فيه إلى زاد كثير وهو يجده فإنه يجب عليه الحج وذكر في كشف المعضلات عن السيدين أن أمن الطريق من شرائط الأداء لا من شرائط الوجوب ورواه في شرح الإبانة وقال في الزوائد إن الخلاف فيه كالمحرم أما بالنسبة للبحر فهو كالبر لابد فيه من اشتراط الأمن أما بالنسبة للمرأة

(4)

فلابد من محرم مسلم وسواء كان من نسب أو رضاع ولابد أن يكون مميزًا فلا يكفى طفل صغير ولا يشترط المحرم إلا للشابة فأما العجوز التي من القواعد فلا يعتبر المحرم في حقها عندنا.

‌مذهب الإمامية:

جاء في العروة الوثقى

(5)

أنه يشترط في الحج الاستطاعة السربية بأن لا يكون في الطريق مائع لا يمكن معه الوصول إلى الميقات أو إلى تمام

(1)

شرح الازهار المنتزع من الغيث المدرار فى فقه الأئمة الأطهار للعلامة أبى الحسن عبد الله بن مفتاح جـ 2 ص 61 طبع مطبعة حجازى بالقاهرة سنة 1357 هـ الطبعة الثانية.

(2)

آية 97 سورة آل عمران.

(3)

المرجع السابق جـ 2 ص 62 الطبعة السابقة.

(4)

شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار جـ 2 ص 65 نفس الطبعة المتقدمة.

(5)

العروة الوثقى للعلامة الفقيه السيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 471، ص 472 مسألة رقم 62 وعليها تعليقات لأشهر مراجع العصر وزعماء الشيعة الإمامية طبعة دار الكتب الإسلامية لصاحبها الشيخ محمد الأخدندى بطهران الطبعة الثانية سنة 1388.

ص: 206

الأعمال وإلا لم يجب وكذا لو كان غير مأمون بأن يخاف على نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله وكان الطريق منحصرًا فيه أو كان جميع الطرق كذلك ولو كان هناك طريقان أحدهما أقرب ولكنه غير مأمون وجب الذهاب من الأبعد المأمون ولو كان جميع الطرق مخوفًا إلا أنه يمكنه الوصول إلى الحج بالدوران في البلاد مثل ما إذا كان من أهل العراق ولا يمكنه إلا أن يمشى إلى كرمان ومنه إلى خراسان ومنه إلى بخارى ومنه إلى الهند ومنه إلى بوشهر ومنه إلى جدة مثلًا ومنه إلى المدينة ومنها إلى مكة فهل يجب أو لا وجهان أقواهما عدم الوجوب لأنه يصدق عليه أنه مخلى السرب وجاء في شرائع الإسلام

(1)

أن الحاج إن كان له طريقان فمنع من إحداهما سلك الأخرى سواء كانت أبعد أو أرب ولو كان في الطريق عدو لا يندفع إلا بمال قيل يسقط وإن قل ولو قيل يجب التحمل مع المكنة كان حسنًا ولو بذل له باذل وجب عليه الحج كزوال المائع نعم لو قال له اقبل وادفع أنت لم يجب، وطريق البحر كطريق البر فإن غلب ظن السلامة وإلا سقط ولو أمكن الوصول بالبر والبحر فإن تساويا في غلبة السلامة كان مخيرًا وإن اختص أحدهما تعين وإن تساويا في رجحان العطب سقط الفرض وجاء في العروة الوثقى

(2)

أنه لو توقف الحج على قتال العدولم يجب حتى مع ظن الغلبة عليه والسلامة وقد يقال بالوجوب في هذه الصورة ولو انحصر الطريق في البحر وجب ركوبه إلا مع خوف الفرق أو المرض أو استلزامه الإخلال بصلاته أو إيجابه لأكل البخس أو شريه. ولو حج مع هذا صح حجه لأن ذلك في المقدمة وهى المشى إلى الميقات كما إذا ركب دابة عضبية إلى الميقات.

‌مذهب الإباضية:

ذهبت الإباضية إلى أن من لا يجد أمان الطريق إلا بغرم المال سقط عنه الحج وكذا إن كان يؤخذ منه بعض ماله قهرًا وقيل يلزمه الحج في الوجهين إلا إن كان يؤخذ من ماله حتى يجحف به وهو الظاهر إن كان ماله يقوم بذلك

(3)

.

(1)

شرائع الإسلام في الفقه الإسلامي الجعفرى للمحقق الحلى جـ 1 ص 114 طبع مطبعة منشورات دار مكتية الحياة بيروت 1295 هـ.

(2)

العروة الوثقى للطباطبائى البزدى جـ 1 من 474 مسألة 67 ومسألة رقم 68 نفس الطبعة المتقدمة.

(3)

من كتاب شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد بن يوسف أطفيش جـ 2 ص 273 طبع مطبعة البارونى وشركاء بمصر الطبعة السابقة.

ص: 207

‌بحث مصطلح إمهال

‌تعريفه:

مهَّله تمهيلا: تأنى به ولم يعجل عليه. وأمهله إمهالا: مَهَّله

(1)

.

ويقال: أمهله الله: لم يعاجله. ومشى على مُهلته. يضم فسكون. أي على رسله

(2)

.

وأمهلته ومهَّلته -بتشديد الهاء- انظرته ولم أعاجلها

(3)

.

ومهَّله تمهيلًا: أجَّله والاستمهال: الاستنظار

(4)

والمَهل -بفتحتين- التؤدة والتباطؤ. والاسم: المهلة. بضم الميم.

ويقال مهَّلته وأمهلته: أي سكنته وأخرته

(5)

.

أما تعريف الإمهال في اصطلاح الفقهاء فهو لا يخرج عن المعنى اللغوى.

‌إمهال الخصم لرفع الدعوى والإثبات فيما قدم للإثبات

‌مذهب الحنفية:

جاء في "البحر الرائق" لابن نجيم: ولو قال المدعى لى بينة حاضرة. وطلب اليمين. لم يستحلف، وقيل لخصمه: إعطه كفيلا بنفسك ثلاثة أيام فإن أبى لازمه، أي دار معه حيث دار، وفى حاشية "منحة الخالق على البحر الرائق" لابن عابدين: "لكى لا يغيب نفسه فيضيع حقه. وأخذ الكفيل بمجرد الدعوة استحسانا لأن فيه نظرا للمدعى، وليس فيه كثير ضرر بالمدعى عليه .. والتقدير بثلاثة أيام يروى عن ابن حنيفة، وهو الصحيح كذا في الكافى. وصحح في الخانية أنه إلى جلوس القاضي مجلسا آخر .. كما جاء بالحاشية المذكورة. ولو قال المدعى لا بينة لى أو شهودى غيب لا يكفل لعدم الفائدة كذا في الهداية وفى المجتبى لو قال المشترى لى بينة على الإيفاء لا يجبره على الإيفاء بل يمهله ثلاثة أيام بشرط أن يدعى حضور الشهود، ولو قال شهودى غيب يقضى عليه بغير إمهال ولو ادعى الإبراء وقال لى بينة حاضرة يمهله ثلاثة أيام وقال الطواديس يؤجله إلى آخر المجلس، ولو أدعى القاتل أن له بينة حاضرة على العفو أجل ثلاثة أيام فإن مضت ولم يأت بالبينة أو قال لى بينة غائبة يقضى بالقصاص قياس كالأموال في الاستحسان يؤجل استفطاما لأمر الدم.

‌مذهب المالكية:

إذا كان هناك امرأة خالية من الموانع الشرعية، ادعى عليها رجل أنه تزوج بها، وأكذبته في ذلك

(6)

وزعم أن له بذلك بينة غائبة غيبة قريبية؛ لا ضرر على المرأة في انتظارها ورأى الحاكم لدعواء وجها، بأن ادعى نكاح امرأة تشبة نساءه، فإن الحاكم بأمر المرأة بانتظاره ليأتى ببينته، فإن أتى بها عمل بمقتضاها، ويثبت النكاح، وإن لم يأت بها. أو كانت بعيدة الغيبة، فإن المرأة لا تؤمر بانتظاره للضرر الذي يلحقها في الانتظار، وتتزوج متى شاءت

والمدعى على هذه المرأة قال: لى بينة قريبة، وأنره الحاكم ليأتى بها، ثم عجَّزه بعد التلوم والإعذار. أي حكم بعدم قبول بينته حالة كونه مدعيًا أن له حجة، ثم أتى ببينة. فإنها لا تسمع منه، ولا يلتفت إليهاء وسواء تزوجت المرأة أم لا

(7)

.

(1)

معجم ألفاظ القرآن الكريم، عمل مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

(2)

معجم مقاييس اللغة لأبى الحسين أحمد بن فارس حـ 5 ص 283.

(3)

أساس البلاغة. لأبى القاسم محمود بن عمر الزمخشرى ص 2 من 407.

(4)

لسان العرب مادة "مهل".

(5)

النهاية في غريب الحديث لابن الأثير.

(6)

البحر الرائق لزين الدين بن إبراهيم بن محمد الشهير بابن نجيم المتوفى سنة 970 هـ ج 7 ص 230 الطبعة الأولى المطبعة العلمية بالقاهرة المعزية سنة 1211 هـ.

(7)

شرح الخرشى على مختصر خليل ج 2 ص 295 الطبعة الثانية الطبعة الكبرى الأميرية، ببولاق مصر المحمية. سنة 1317 هـ.

ص: 208

"ومن استمهل: أي طلب المهلة، لدفع بينه أقيمت عليه. بحق أو لحساب ونحوه، كما لو طلب المهلة ليفتش على الوثيقة. أو دفتر الحساب بينهما، أو ليسأل من كان حاضرا بينهما، ليكون على بصيرة في جوابه بإقراره أو إنكاره؛ أو طلب المدعى المهلة لإقامة شاهد ثان، وأبى أن يحلف وقع الأول الذي أقامه. أمهل الطالب بالاجتهاد من الحاكم، ولا يتقيد بجمعة، بكفيل بالمال في جميع ما تقدم؛ ولا يكفى حميل بالوجه أن أبى المطلوب:

وأما لو طلب المدعى إقامة بينة على أصل دعواه، وطلب من المدعى عليه حميلا، فيكفى حميل الوجه اتفاقا. وفيها أيضا: أنه لا يجاب المدعى لحميل بالوجه، وهو الراجع

(1)

".

‌مذهب الشافعية:

في كتاب "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب":

"فإن لم يحلف المدعى يمين الرد -ولا عذر- سقط حقه في اليمين والمطالبة، لإعراضه عن اليمين، ولكن تسمع حجته .. فإن أبدى عذرا، كإقامة حجة وسؤال فقيه ومراجعة حساب .. أمهل ثلاثة أيام فقط، لئلا تطول مدافعته، والثلاثة مدة مغتفرة شرعا، وهل هذا الإمهال واجب أو مستحب: وجهان.

ولا يمهل خصمه لذلك - أي لعذر - حين يستحلف، إلا برضا المدعى، لأنه مقهور بطلب الإقرار، أو اليمين، بخلاف المدعى.

وإن استمهل الخصم - أي طلب الإمهال - في ابتداء الجواب لذلك. أي لعذر. أمهل إلى آخر المجلس إن شاء المدعى أو القاضي

(2)

.

‌مذهب الحنابلة:

جاء

(3)

في الملقى لابن قدامه: إن قال المدعى لى بينة غائبة قال له الحاكم لك يمينه فإن شئت فاستحلفه وإن شئت أخرته إلى أن تحضر ببينتك وليس لك مطالبته بكفيل ولا ملازمته حتى تحضر البينة قضى عليه أحمد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك" فإن أحلفه ثم حضرت بينته حكم بها ولم تكتم يمينه مزيلة للحق لأن اليمين إنما يصار إليها عند عدم البينة فإذا وجدت البينة بطلت اليمين وتبين كذبها. وأن قال لى بينة حاضرة وأريد يمينه ثم أقيم بينتى لم يملك ذلك والدليل وقوله صلى الله عليه وسلم "شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك".

‌مذهب الظاهرية:

كل من ادعى على أحد، وأنكر المدعى عليه، فكلف المدعى البينة، فقال: لى بينة غائية. أو قال: لا أعرف لنفسى بينة. أو قال: لا بينة لى. قيل له: إن شئت فدع تحليفه حتى تحضر بينتك، أو لعلك تجد بينة، وإن شئت حلَّفته، وقد سقط حكم بينتك الغائية جملة، فلا يقضى لك بها أبدًا، وسقط حكم كل بينة تأتى بها بعد هذا عليه. ليس لك إلا هذا فقط. فأى الأمرين اختار قضى له به، ولم يلتفت له إلى بينة في تلك الدعوى بعدها، إلا أن يكون تواتر يوجب صحة العلم ويقينه أنه حلف

(1)

كتاب الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، تأليف العلامة أبي البركات أحمد بن محمد أحمد الدردير، طبعة دار المعارف بمصر سنة 1974 م ج 4 ص 212.

(2)

شرح منهج الطلاب على حاشية البيجرمى تأليف شيخ الإسلام أبى يحيى زكريا الأتصارى المتوفى سنة 925 هـ ج 4 ص 404.

(3)

المعنى للعلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمود بن قدامة على مختصر الإمام أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقى والشرح الكبير على متن المقنع للشيخ الإمام شمس الدين أبى الفرج عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن قداحة المقدس ج 11 ص 455 طبع بمطبعة المنار بمصر 1340 هـ.

ص: 209

كاذبا فيقضى عليه بالحق أو يقر بعد أن يكون قد حلف فيلزمه ما أقر به.

(1)

‌مذهب الزيدية:

جاء في كتاب (التاج المُذهب):

"ولا يوقف خصم لمجئ بينة عليه غائبة إلا لمصلحة، فإذا ادعى رجل على رجل حقاء فأنكره المدعى عليه؛ فزعم المدعى أن له بينة غائبة عن مجلس الحكم؛ وطلب منع المدعى عليه عن السفر حتى يأتى ببينة؛ فإن الحاكم لا يجيبه إلى توقيف المدعى عليه لأجل ذلك. ولا يجب عليه إلا اليمين فقط. إلا أن يرى الحاكم في ذلك صلاحا، والصلاح أن يظهر صدق المدعى بقرينة تظهر إما بحجة فيها ثبوت الحق، وخط الشهود. أو بحضور شاهد واحد. ولأجل أن المدعى فاضل. ورع، لا يدعى إلا الحق. أو نحو ذلك، كأن يكون البينة وقفه، أو يطلب منه الكفيل بوجهه؛ فيكفل عشرة أيام في دعوى المال. ومن دعوى المال النفقة؛ وشهرا في النكاح وتوابعه كالظهار والإيلاء والطلاق. وهذا إذا كان توقيفه قبل حلفه، وأما إذا كان بعد أن حلف فمقدار مجلس الحكم فقط، لأن الحق قد ضعف باليمين.

وتحديد المدة في الأزهار إنما هي على سبيل التقريب لا التحديد. فإلى نظر الحاكم ويحتاط في النكاح ما لا يحتاط في غيره؛ وأما في القصاص وحد القذف فقرر المجلس فقط

(2)

.

الشهود فسته وغلب الظن بصدقهم وله شهود آخرون. فإذا رأى الحاكم مصلحة في توقيفه حتى تحضر. مذهب الإمامية قيل مذهب الإباضية.

‌مذهب الإمامية:

جاء فى كتاب "شرائع الاسلام":

"لو كان للمدعى بينة لم يقل الحاكم له أحضرها لأن الحق للمدعى في ذلك إحضار بينته وقيل: يجوز للحاكم أن يطلب منه إحضارها وهو حسن ومع حضورها لا يسألها الحاكم ما لم يلتمس المدعى سؤالها ومع الإقامة للشهادة لا يحكم بها إلا بطلب المدعى أيضا، وبعد أن يعرف عدالة البينة يقول للمدعى عليه هل عندك جرح؟ فإن قال: نعم، وسأل الإنظار في إثباته انظره ثلاثًا فإن تعذر الجرح حكم بعد سؤال المدعى

(3)

.

‌ذهب الإباضية:

جاء في

(4)

شرح النيل: أن من ادعى حقا بيد أحد وله شاهد واحد أمهل لأجل حتى يأتى بشاهد آخر ويترك الحق في يد من هو في يده لا يخرجه عن ملكه ولا يصدمه ولا يغيره إلا بإصلاح الفساد وتوقف غلته كذلك وإن خيف فسادها بيعت وحفظ ثمنها وقيل يؤجل بشاهد واحد وإن كان المدعى فيه مما يسرع إليه الفساد كالفاكهة الرطبة واللحم بيع ووقف ثمنه إن لم

(1)

المحلى، لأبي محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم المتوفى سنة 456 هـ، ج 9 ص 271، الطبعة الأولى، مطبعة النهضة بمصر، سنة 1347 هـ.

(2)

كتاب التاج المذهب لأحكام المذهب، شرح متن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار، تأليف القاضي أحمد بن قاسم العنسى اليمانى مطبعة دار إحياء الكتب العربية، لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه. مصر.

(3)

شرائع الإسلام في الفقه الجعفرى الإمامى. تأليف جعفر بن الحسين بن أبي زكريا الهذلى، الملقب بالمحقق الحلى المتوفى سنة 676 هـ ج 2 ص 212. منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت، مطابع دار مكتبة الحياة.

(4)

شرح النيل وشفاء العليل الشيخ محمد بن يوسف اطفيش جـ 6 ص 707، 708 وما بعدهما طبع المطبعة الأدبية بمصر سنة 1344 هـ طبع على ذمة صاحب الامتياز محمد بن يوسف البارونى وشركاه بمصر.

ص: 210

يقبل التأخير وإن قبله وقف حتى يخاف عليه الفساد فيباع ويوقف الثمن؛ ومن وجد عبدا أو غيره بيد أحد وادعى أنه له وأقام بينة أنه كان ينشد عبدا أو غيره أو قامت بينة ولو بالسماع أنه ابن له عبد أو ضل له كذا وادعى أن له بينة وطلب التوقيف ليأتى ببينة غير بعيدة أجل له الأجل اليسير كالخمسة والستة والسبعة أو دون ذلك لا أكثر وإن طلب بينة بعيدة حلف المدعى عليه أنه لايعلم له فيه حقا ويترك بيده وكذا أن قال أن لى شهادة بعيدة تشهد لى بأنى أنشد عبدا أو غيره حلف المدعى عليه ما يعلم فيه حقا له وإن كانت قريبة أجل له الأجل اليسير.

‌إمهال المرتد

‌مذهب الحنفية:

جاء في بدائع الصنائع

(1)

في أحكام المرتدين أنه يستحب أن يستتاب المرتد ويعرض عليه الإسلام لاحتمال أن يسلم لكن لا يجب لأن الدعوة قد بلغته فإن أسلم فمرحبا وأهلا بالإسلام وإن أبى نظر الإمام في ذلك فإن طمع في توبته أو سأل هو التأجيل أجله ثلاثة أيام وإن لم يطمع في توبته ولم يسأل هو التأجيل قتله من ساعته والأصل فيه ما روى عن سيدنا عمر رضى الله عنه أنه قدم عليه رجل من جيش المسلمين فقال هل هندكم من مغرية خبر قال نعم رجل كفر بالله تعالى بعد إسلامه فقال سيدنا عمر رضى الله عنه ماذا فعلتم به قال قريناه فضربنا عنقه فقال سيدنا عمر رضى الله عنه هلا طينتم عليه بيتا ثلاثًا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى اللهم إنى لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغنى وهكذا روى عن سيدنا على كرم الله وجهه أنه قال كان يستتاب المرتد ثلاثا وتلا هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا}

(2)

ولأن من الجائز أنه عرضت له شبهة حملته على الردة فيؤجل ثلاثا لعلها تتكشف في هذه المدة فكانت الاستتابة ثلاثا وسيلة إلى الإسلام عسى تندب إليها فإن قتله إنسان قبل الاستتابة يكره له ذلك ولا شئ عليه لزوال عصمته بالردة وتوبته أن يأتى بالشهادتين ويبرأ عن الدين الذي انتقل إليه فإن تاب ثم ارتد ثانيا فحكمه في المرة الثانية كحكمه في المرة الأولى أنه إن تاب في المرة الثانية قبلت توبته وكذا في المرة الثالثة والرابعة لوجود الإيمان ظاهرا في كل كرة لوجود ركنه وهو إقرار العاقل وقال الله تبارك وتعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} فقد أثبت سبحانه وتعالى الإيمان بعد وجود الردة منه والإيمان بعد وجود الردة لا يحتمل الرد إلا انه إذا تاب في المرة الرابعة يضربه الإمام ويخلى سبيله وروى عن أبى حنيفة رضى الله عنه أنه إذا تاب في المرة الثالثة حبسه الإمام ولم يخرجه من السحن حتى يرى عليه أثر خشوع التوبة والإخلاص. وأما المرأة فلا يباح ومنها إذا ارتدت ولا تقتل عندنا ولكنها تجبر على الإسلام وإجبارها على الإسلام أن تحبس وتخرج في كل يوم فتستتاب ويعرض عليها الإسلام فإن أسلمت وإلا حُبست ثانيا هكذا إلى أن تسلم أو تموت.

(1)

بدائع الصنائع للكاسانى ج 7 ص 134 ص 125 طبع مطبعة الجمالية بمصر الطبعة الأولى 1228 هـ

(2)

الآية 137 من سورة النساء.

ص: 211

‌مذهب المالكية:

جاء في شرح الخرشى على مختصر خليل:

المرتد عن الإسلام - أصليا أو طارئا - يجب على الإمام. أو على نائبه أن يستتيبه ثلاثة أيام بلا جوع ولا عطش، وبلا معاقبة، وإن لم يتب قتل بغروب الشمس من اليوم الثالث. لا فرق بين الحر والعبد، والذكر والأنثى ..

ولا يحسب اليوم الأول ثم إن الثلاثة تحسب من يوم ثبوت الكفر عليه، لا من يوم الكفر، ولا من يوم الرفع إلى الحاكم.

وعلى هذا لا يحسب اليوم الذي وقع فيه الثبوت، كما أن الأيام هنا لا تلفق.

وإنما كانت الاستتابة ثلاثة أيام، لأن الله تبارك وتعالى آخّر قوم صالح ذلك القدر، فكونها ثلاثة واجب، فلو حكم الإمام بقتله قبل الثلاثة أيام مضي، لأنه حكم مختلف فيه ..

والمرأة إذا ارتدت وكانت متزوجة أو مطلقة طلاقًا رجعيًا -أو كانت سرية- فإنها لا تقتل حتى تُستبرأ بحيضة واحدة، وما زاد عن الحيضة بالنسبة إلى الحرة. فإنه تعبد لا يحتاج إليه؛ وأما إذا ارتدت وهى ترضع، فإنها لا تقتل حتى يوجد من يرضع ولدها، ويقبل غير أمه.

(1)

وجاء في مواهب الجليل:

يستتاب المرتد ثلاثة أيام، وظاهر المذهب أن تأخيره ثلاثة أيام واجب. وقال ابن العربي: ألا ترى أن المرتد استحب له العلماء الإمهال تعله إنما ارتد لريب، فيتريص به مدة لعله أن يراجع الشك باليقين. والجهل بالعلم؛ ولا يجب ذلك لحصول العلم بالنظر الصحيح أولًا.

وقال القاضي عبد الوهاب: عرض التوبة واجب على الظاهر من المذهب

(2)

.

وجاء في كتاب (بلغة السالك):

يستتاب المرتد وجوابا ثلاثة أيام بلياليها، وابتداء الثلاثة من يوم الحكم، أي ثبوت الردة عليه لا من يوم الكفر، ولا من يوم الرفع؛ ويلغى يوم الثبوت إن سبق بالفجر .. فإن تاب تُرك، وإلا يتب قُتل بغروب الثالث. أي بعد غروب شمس اليوم الثالث

(3)

.

‌مذهب الشافعية:

في "الأشباه والنظائر" للسيوطى في باب "ما افترق فيه المرتد والكافر الأصلى": أن المرتد لا يمهل في الاستتابة

(4)

.

وفى "فتح الوهاب":

لو ارتد فجُنَّ أمهل احتياطا، فَلا يُقَتَلَ في جنونه؛ لأنه قد يعقل ويعود للإسلام؛ فإن قُتل فيه هُدر دمه؛ لأنه مرتد، لكن يعزر قاتل لتفويته الاستتابة الواجبة

(5)

.

‌مذهب الحنابلة

في كتاب "المغنى" لابن قدامة:

المرتد لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا، فقد روى أن

(1)

شرح الخرشى على مختصر خليل ج 8 ص 66،65. الطبعة الثانية، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المحمية، سنة 1317 هـ.

(2)

كتاب مواهب الجليل شرح مختصر خليل، لأبى عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب المتوفى سنة 954 هـ، ج 6 ص 281، الطبعة الأولى مطبعة السعادة بمصر سنة 1228 هـ. وبهامشه. التاج والإكليل لمختصر خليل لمحمد بن يوسف الشهير بالمواق المتوفى سنة 897 هـ.

(3)

بلغة السالك لأقرب المسالك على الشرح الصغير للدردير، للشيخ أحمد الصاوى، ج 2 ص 287 نشر المكتبة التجارية الكبرى بشارع محمد على بالقاهرة.

(4)

الأشباه والنظائر لجلال الدين عبد الرحمن السيوطى، ص 526. طبعة مصطفى البابي الحلبى وأولاده بمصر سنة 1278 هـ - 1959 م.

(5)

فتح الوهاب لشرح منهج الطلاب. تأليف شيخ الإسلام أبى يحيى زكريا الأنصارى ج 2 ص 155 طبع دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر.

ص: 212

رجلا قدم على عمر من قبل أبى موسى؛ فسأله عمر: هل كان من مغرية خبر؟. قال: نعم رجل كفر بعد إسلامه. فقال: ما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه.

فقال عمر: هلا حبستموه ثلاثا، فأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله؟ اللهم إنى لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغنى.

وذلك لأن الردة إنما تكون لشبهة؛ ولا تزول في الحال. فوجب أن ينتظر مدة يرتضى فيها، وأولى ذلك ثلاثة أيام، للأثر فيها؛ وأنها مدة قريبة. وينبغى أن يضيق عليه في مدة الاستتابة، ويحبس لقول عمر: هلا حبستموه وأطعمتموه كل يوم رغيفًا ويكرر دعايته، لعله يتعاطف قلبه، فيراجع دينة

(1)

.

وفى "المغنى" أيضا: أن الصبى إذا أسلم قبل البلوغ، ثم ارتد لا يقتل حتى يبلغ ويجاوز بعد بلوغه ثلاثة أيام، فإن ثبت على كفره قتل.

وجملته أن الصبى لا يقتل سواء قلنا بصحة ردته، أو لم نقل، لأن الغلام لا يجب عليه عقوبة بدليل أنه لا يتعلق به حكم الزنى والسرقة وفى سائر الحدود؛ ولا يقتل قصاصا.

فإذا بلغ فثبت على ردته ثبت حكم الردة، فيستتاب ثلاثا، فإن تاب وإلا قُتل. سواء قلنا إنه كان مرتدا قبل بلوغه، أو لم نقل، وسواء كان مسلما أصليا فارتد، أو كان كافرا فأسلم صبيا ثم ارتد

(2)

.

‌مذهب الظاهرية

جاء في "المحلى"

(3)

أما من قال يستتاب (أي المرتد) فإنهم انقسموا أقساما، فطائفة قالت: نستتيبه مرة، فإن تاب وإلا قتلناه، وطائفة قالت: نستتيبه ثلاث مرات. فإن تاب وإلا قتلناه. وقالت طائفة نستتيبه شهرا، فإن تاب وإلا قتلناه، وطائفة قالت نستتيبه ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتلنا، وطائفة قالت: نستتيبه مائة مرة، فإن تاب وإلا قتلناه، وطائفة قالت: يستتاب أبدا ولا يقتل

(4)

.

‌مذهب الزيدية:

أما بالنسبة لإمهال المرتد: جاء في

(5)

الأزهار وأما بيان حكم المرتدين فهو أن يقتل مكلفهم ولو من أحد السبعة غير الصبى. إن طولب بعد الردة بالرجوع إلى الإسلام ثم لم يسلم وسواء كان المكلف رجلًا أو إمرأة.

‌مذهب الإمامية:

من أسلم عن كفر، ثم ارتد فهذا يستتاب، فإن امتنع قتل، واستتابته واجبة، وكم يستتاب؟ قيل ثلاثة أيام؛ وقيل القدر الذي يمكن معه الرجوع، والأول مروى وهو حسن لما فيه من التأنى لإزالة

(1)

المغنى، لعبد الله بن أحمد بن محمود بن قدامة الحنبلى، على مختصر الخرقى، ج 10 ص 76. 78. الطبعة الأولى مطبعة المنار. سنة 1348. بالقاهرة.

(2)

المرجع السابق، ج 10 ص 92.

(3)

المحلى، لأبى محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم جـ 11 ص 188، 189،192. الطبعة الأولى، مطبعة النهضة بمصر سنة 1347 هـ.

(4)

المرجع السابق، ص 194.

(5)

شرح الازهار المنتزع من الغيث المدرار فى فقه الأئمة الأطهار للعلامه أبو الحسن عبد الله بن مفتاح ج 4 ص 578. الطبعة الثانية طبع مطبعة حجازى بالقاهرة 1257 هـ.

ص: 213

عذره

(1)

وولده في حكم المسلم فإن بلغ مسلما فلا بحث فإن اختار الكفر بعد بلوغه استتيب، فإن تاب قبلت توبته وإلا قتل ولو ولد بعد إمهال المدين الردة وكانت أمه مسلمة كان حكمه حكم الأول.

‌مذهب الإباضية:

جاء في شرح النيل

(2)

أنه يقتل مرتد إن لم يتب ذكرا كان أو أنثى وقيل يستتاب ثلاثة فإن لم يتب قتل وقال على يستتاب شهرا وقال بعض يستتاب أبدا فإن تاب وإلا قتل والمرأة كالرجل تقتل وجاء به حديث وقيل عن علي تسترق وجاء في موضع آخر

(3)

قال ابن عباس رضى الله عنه قال صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه" وعن معاذ جيل في رجل أسلم ثم تهود لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله فأمر به فقتل وفى رواية أبي داود وكان قد استتيب قبل ذلك وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهى فلمًا كان ذات يوم أخذ المعول فجعله في بطنها واتكأ عليها فقتلها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ألا اشهدوا أن دمها هدر.

‌إمهال المدين

‌مذهب الحنفية:

جاء في شرح تنوير الأبصار

(4)

على حاشية ابن عابدين لو قال من يراد حبسه أبيع عرضى وأقضى دينى أجله القاضي يومين أو ثلاثة أيام ولايحبسه لأن الثلاثة أيام مدة ضربت لإبلاء الأعذار وعلق على هذا صاحب حاشية ابن عابدين على قوله أبيع عرضى بقوله ما فائدة التقييد بالعرض فإن القضاء كذلك فيما يظهر وكذلك لو قال أمهلنى ثلاثا لأدفعه وهذا أعم من أن يدفعه ببيع عرض أو عقار أو باستقراض أو استيهاب أو غير ذلك.

‌مذهب المالكية:

أجمعت الأمة على أن صاحب الدين على المعسر مخير بين النظرة والإبراء. وأن الإبراء أفضل في حقه وأحدهما واجب حتما، وهو ترك المطالبة والإبراء ليس بواجب والسبب في هذا أن الإبراء يتضمن النظرة وترك المطالبة فصار من باب الأقل والأكثر.

(5)

‌مذهب الشافعية:

وجاء في كتاب التفليس من كتاب المهذب جـ 1 صـ 319، 220 ما نصه إذا كان على رجل دين فإن كان مؤجلا لم يكن يجز مطالبته لأن لو جوزنا مطالبته سقطت فائدة التأجيل فإن أراد سفرا قبل حلول الدين للغريم منعه ومن أصحابنا من قال إن كان السفر مخوفا كان له منعه لأنه لا يأمن أن يموت فيضيع دينه والصحيح هو الأول لأنه لا حق له عليه قبل حلول الدين وجواز أن يموت لا يمنع من التصرف في نفسه قبل الحلول كما يجوز في الحضر أن يهرب ثم لا يملك حبسه

(1)

شرائع الإسلام، تأليف جعفر بن الحسن بن أبى زكريا الهذلى الملقب بالمحقق الحلى ج 2 ص 259 منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت. مطابع دار مكتبة الحياة.

(2)

كتاب شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد بن يوسف أطفيش جـ 7 ص 643 وما بعدها طبع مطبعة محمد بن يوسف البارونى وشركاه بمصر سنة 1343 هـ.

(3)

المرجع السابق جـ ص 489 وما بعدها بنفس المطبعة المتقدمة.

(4)

حاشية ابن عابدين جـ 4 ص 222 للشيخ محمد أمين الشهير بابن عابدين على الدر المختار شرح تنوير الأبصار الطبعة الثالثة طبع المطبعة الكبرى الأميرية بمصر 1336 هـ.

(5)

كتاب الفروق للإمام العلامة شهاب الدين أبى العباس أحمد بن عبد الرحمن الصنهاجى الشهير بالقرافى جـ 2 ص 10 طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة الطبعة الأولى سنة 1235 هـ.

ص: 214

بجواز الهرب وإن قال أقم لى كفيلا بالمال لم يلزمه لأنه لم يحل عليه الدين فلم يملك المطالبة بالكفيل كما لو لم يرد السفر وإن كان الدين حالا نظر فإن كان معسرا فلم يجز مطالبته لقوله تعالى "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" ولا يملك ملازمته لأن كل دين لا يملك المطالبة به لا يملك الملازمة كالدين المؤجل فإن كان يحسن صنعه فطلب الغريم أن يؤجر نفسه ليكسب ما يعطيه لم يجبر على ذلك لأنه إجبار على التكسب فلم يجز كالإجبار على التجارة وإن كان موسرا جازت مطالبته لقوله تعالى "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" دلت على أنه إذا لم يكن ذا عسرة لم يجب إنظاره، فإن لم يقضه ألزمه الحاكم فإن امتتع فإن كان له مال ظاهر باعه عليه.

وإذا استمهل من قامت عليه البينة -أي طلب الإمهال- ليأتى بدافع، من نحو أداء أو إبراء، أمهل ثلاثة أيام، لأنها مدة قريبة لا يعظم فيها الضرر

(1)

.

‌مذهب الحنابلة:

في كتاب "المغنى" لابن قدامة:

من وجبت عليه نفقة امرأته، وكان له عليها دين، فأراد أن يحتسب عليها بدينه مكان نفقتها، فإن كانت موسرة فله ذلك، لأن من عليه حق فله أن يقضيه من أي أمواله شاء، وهذا من ماله.

وإن كانت معسرة لم يكن ذلك، لأن قضاء الدين إنما يجب في الفاضل من قوته، وهذا لا يفضل عنها، ولأن الله تعالى أمر بإنظار المعسر بقوله سبحانه "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة

(2)

" فيجب إنظارها بما عليها

(3)

.

جاء في كشاف القناع

(4)

إن كان للمدين سلعة فطلب من رب الحق أن يمهله حتى يبيعها ويوفيه الدين من ثمنها أمهل بقدر ذلك أي بقدر ما يتمكن من بيعها والوفاء وكذا إن طولب بمسجد أو سوق وماله بداره أو مودع ببلد أخر فيمهل بقدر ما يحضره فيه وكذلك إن أمكن المدين أن يحتال لوفاء دينه باقتراض ونحوه فيمهل بقدر ذلك ولا يحبس لعدم امتناعه من الأداء ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وإن خاف رب الحق هربه احتاط بملازمته أو كفيل وإن طلب المدين أن يرسم عليه حتى يفعل ذلك أي ما يتمكن به من الوفاء وجبت إجابته إلى ذلك دفعا لضرره ولم يجز منعه من الوفاء بحبسه لأنه عقوبة لا محوج إليها وكذا إن طلب شخص محبوس تمكينه من الوفاء فيمكن أو حضر وكيل عنه في وفاء الدين كما يمهل الموكل ولو مطل المدين رب الحق حتى شكى عليه فما غرمه رب الحق فعلى المدين المماطل إذا كان غرمه على المعتاد ذكره في الاختيارات لأنه تسبب في غرمة بغير حق.

‌مذهب الظاهرية:

من كان له دين حال أو مؤجل فحلَّ، فرغب إليه الذى عليه الحق فى أن ينظره أيضا إلى أجل مسمى ففعل أو أنظره كذلك بغير رغبة، وأشهد أو لم يشهد ولم يلزمه من ذلك شئ، والدين حال، يأخذه به متى شاء. وكذلك لو أن امرأ عليه

(1)

حاشية البيجرمى، على شرح منهج الطلاب، جـ 4 ص 397 طبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر 1320 هـ.

(2)

سورة البقرة، الآية 280.

(3)

كتاب المغنى تأليف موفق الدين أبى معمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الطبعة الأولى، ممطبعة المنار بمصر سنة 1347 هـ.

(4)

كشاف القناع عن متن الإقناع للملامة منصور بن إدريس الحنبلى وبهامشه شرح المنتهى للعلامة الشيخ منصور بن يوسف البهوثى الحنبلى جـ 2 ص 20، ص 207 طبع مطبعة العامرة الشريفة سنة 1319 هـ الطبعة الأولى.

ص: 215

دين مؤجل: فاشهد على نفسه. أنه قد أسقط الأجل وجعله حالا، فإنه لا يلزمه ذلك. والدين إلى أجله كما كان

(1)

.

‌مذهب الزيدية:

في "التاج المذهب"

من صور الريا أن يكون لرجل دَيْن على غيره، فيزيد من عليه الدين شيئا ليمهله. أو يكون إذا جنى عبد المفلس فكان المجنى عليه أولى به ولو أراد مولاه فكه كان للغرماء منعه ويلحق بذلك النظر في حقه ولا يجوز حيس المعسر مع ظهور إعساره يثبت ذلك بموافقة الغريم أو قيام البينة وإن تناكرا وكان له مال ظاهر أمر بالتسليم فإن امنتع فالحاكم بالخيار بين حبسه حتى يوفى ويبيع أمواله وقسمتها بين غرمائه.

له دراهم فيقول: إن لم تسلمها لوقت كذا، كان عليك بكل قدر من الدراهم كذا من الطعام أو غيره

(2)

.

وفى "التاج المذهب" أيضا:

من أحكام القرض أنه لا يصح الإنظار فيه، فإذا قال المقرض للمستقرض: قد أنظرتك مدة كذا لم يلزمه، فإذا طلبه بعد ذلك فورًا وجب رد مثله. ولا حكم لإنظاره، وسواء أنظره حال القرض أم بعده، وكذا لو نذر عليه بالتأجيل أو أوصى له به، فإنه لا يصح ولا يلزمه، ولكن يجوز له الإنظار، ويستحب الوفاء بما أنظر فيه.

وكذلك لا يلزم الإنظار في كل دين لم يلزم بعقد كأروش الجنايات

(3)

وقيم المتلفات والغصب، لأنه لا يدخلها التأجيل. وإنما يدخل ويلزم فيما لزم بعقد صحيح كالثمن والمهر والأجرة، إذا كان الإنظار إلى وقت معلوم. لا ما لزم بعقد فاسد، فلا يصح إلا الإنظار فيه، ولا يلزمه لو أنظر

(4)

.

‌مذهب الإمامية:

لو ادعى المدين الإعسار كُشف عن حاله. فلئن استبان فقره انظره القاضي، وفى تسليمه إلى غرمائه للعمل أو لمؤاجرة روايتان، أشهرهما الإنظار حتى يوسر

(5)

. وجاء في كتاب المفلس وينظر العسر ولا يجوز إلزامه ولا مؤاجرته وفى رواية أخرى مطروحة لما جاء بنفس المرجع.

‌مذهب الإباضية:

جاء في شرح النيل

(6)

: أنه يجوز لزوم غريم بدين وإن كان لزوم لوكيل خليفة أو مأمور من جانب اللازم أو من جانب الملزوم والمراد بالجواز مقابل المع فيصدق بالإباحة والوجوب كما إذا كان صاحب الحق نائبا عن غيره بخلافة أو وكالة أو أمر يجب عليه اللزوم إذا تكفل الوكيل أو المأمور بالقبض بعد حلول أجله إن أيسر أي حصل له ما يجب به الخلاص بسهولة بلا وقوع في تهلكة. ثم قال روى

(7)

مسلم عن أبى اليسر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أنذر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله بل أخبرنا الله الرحمن الرحيم أن الصدقة على المعسر بما في

(1)

المحلى، لأبى محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم جـ 8 ص 84. الطبعة الأولى. مطبعة النهضة بمصر سنة 1347 هـ.

(2)

التاج المذهب لأحكام المذهب، شرح فن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار، تأليف القاضي أحمد بن قاسم المنسى اليمانى الصنعانى. ج 2 ص 484 الطبعة الأولى سنة 1366 هـ. 1947 م مطبعة دار إحياء الكتب العربية، لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر.

(3)

في الهامش: إلا الدية.

(4)

المرجع السابق: من 486.

(5)

شرائع الإسلام ج 2 ص 211 جـ 1 ص 202.

(6)

شرح النيل وشفاء العليل للفقيه محمد يوسف أطفيش جـ 4 ص 454، 455 وما بعد طبع على ذمة صاحب الامتياز محمد بن يوسف البارونى وشركاء بمصر 1343 هـ الطبعة الأولى.

(7)

المرجع السابق جـ 4 ص 456 ص 457 وما بعدها نفس الطبعة السابقة.

ص: 216

ذمته خير من إنذاره إلى ميسرة لقوله تعالى {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}

(1)

وجاء في موضع

(2)

آخر: أن من عليه دين وليس له ما يقضى به إلا ما يساوى قيمة أصله من الأعيان فإنه يؤجل شهرا أو شهرين لبيعه وذلك مظنة بلوغ الخبر لمن يريد الشراء غالبا ويجوز للحاكم أن يجمع الآجال ويفصله شيئا فشيئًا وإن ادعى رجل عبدا فأنكر العبودية أو قال لست عبدك أو امرأة زوجة فأنكرت ذلك فأجل له حاكم أجلا لبيانه فلم يبين عند الأجل فحجر عليه الحاكم؛ أن لا يقرب مدعاه، لا يقرب العبد بالاستخدام أو البيع أو التملك أو الإمساك ولا المرأة بالجماع أو المس أو النظر ولا بالإمساك ولم ينفعه بيانه بعد الأجل والتحجر ولو بين بعدول أنه عبده وأنها زوجة فهو أي التحجير أي لأن التحجير كحكم الحاكم ولا يقبل البيان بعد التأجيل والحكم وقيل حتى تتم ثلاثة آجال ويعجز عنه كل منها وقيل أربعة.

‌إمهال الزوجة لدعوى التطليق

‌مذهب المالكية

إذا ملك الزوج زوجته طلاقها، أو خيَّرها في طلاقها. فإنها لا تُمهل، بل يحال بينها وبينه. حتى تجيب بما تقتضى. ردا أو أخذًا

(3)

.

‌إمهال الزوج لعدم الإنفاق

‌مذهب الحنفية:

جاء في المبسوط

(4)

: كل امرأة قضى لها بالنفقة على زوجها وهو صغير أو كبير معسر لا يقدر على شئ فإنها تؤمر بأن تستدين ثم ترجع عليه ولا يحبسه القاضي إذا علم عجزه وعسرته لأن الحبس إنما يكون في حق من ظهر ظلمه ليكون زاجرا له عن الظلم وقد ظهر هنا عذره فلا يحبسه ولكن ينظر لها بأن يأمرها بالاستدانة فإذا استدانت بأمر القاضي كان كاستدانتها بأمر الزوج فترجع بذلك عليه إذا أيسر وإن كان القاضي لا يعلم من الزوج عسره فسألت المرأة حبسه بالنفقة لم يحبسه القاضي في أول مرة لأن الحبس عقوبة لا يستوجبها إلا الظالم ولم يظهر حيفه وظلمه في أول مرة فلا يحبسه ولكن يأمره بأن ينفق عليها ويخبره أنه يحبسه إن لم يفعل فإن عادت إليه مرتين أو ثلاثا حبسه لظهور ظلمه بالامتناع من ايفاء ما هو مستحق عليه فإن علم أنه محتاج خلى سبيله لأنه مستحق للنظره إلى ميسرة بالنص وليس بظالم في الامتناع من الإيفاء مع العجزه وينبغى للقاضى

(5)

إذا حبس الرجل شهرين أو ثلاثة في نفقة أو دين أن يسأل عنه وفى بعض المواضع ذكر أربعة أشهر وفى رواية الحسن عن أبى حنيفة رحمه الله تعالى قدر ذلك بستة أشهر وذكر الصحادى عن أبى حنيفة رحمهما الله تعالى أن أدنى المدة فيه شهر والحاصل أنه ليس فيه تقدير لازم لأن الحبس للاضجار وذلك مما تختلف فيه أحوال الناس عادة فالرأى فيه إلى القاضي حتى إذا وقع في أكبر رأيه أنه يضجر بهذه المدة ويظهر مالًا إن كان فله أن يسأل عن حاله بعد ما حبسه ولم يعتبر في ذلك مدة فإذا سأل عنه فأخبر أنه معسر خلى سبيله لأن ما صار معلوما بخبر المدول فهو بمنزلة الثابت بإقرار الخصم ولا يحول بين الطالب وبين ملازمته

(1)

الآية 280 من سورة القرة.

(2)

المرجع السابق جـ 6 ص 703، ص 704.

(3)

شرح الخرشى على مختصر خليل جـ 4 ص 70 الطبعة الثانية المطبعة الكبرى الأميرية 1317 هـ

(4)

المبسوط لشمس الدين السرخسى جـ 5 صـ 187 طبع مطبعة السعادة بمصر طبعة أولى 1324 هـ

(5)

المرجع السابق جـ 5 ص 188 نفس الطبعة المتقدمة.

ص: 217

عندنا وكان إسماعيل بن حماد رحمه الله تعالى يقول ليس للطالب أن يلازمه وبه أخذ الشافعي رحمه الله لأنه منظر بإنظار الله تعالى فهو بمنزلة ما لو أجله الخصم أو أبرأه منه كما لا يلازمه هناك فكذلك لا يلازمه هنا ولكنا نستدل بما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم اشترى من أعرابى بعيرًا بثمن مؤجل فلما حل الأجل طالبه الإعرابى فقال: ليس عندنا شئ فقال الإعرابى: واغدراه فهمّ به الصحابة رضى الله تعالى عليهم فقال صلى الله عليه وسلم دعوه فإن لصاحب الحق اليد واللسان والمراد باللسان التقاضى وباليد الملازمة ولأن قضاء الدين مستحق على المديون من كسبه وماله فكما أنه إذا كان له مال كان للطالب أن يطالبه بقضاء الدين منه فكذلك إذا كان له كسب كان له أن يطالبه بقضاء الدين من كسبه وذلك إنما يتحقق بالملازمة حتى إذا فضل من كسبه شئ عن نفقته أخذه بدينه ولسنا نعنى بهذه الملازمة أن يقعده في موضع فإن ذلك حبس ولكن لا يمنعه من التصرف بل يدور معه حيثما دار، وإن كان الرجل غنيا لم يخرجه القاضي من السجن أبدا حتى يؤدى النفقة والدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ولأنه حال بين صاحب الحق وبين حقه مع قدرته على إيفائه فيجازى بمثله وذلك بالحيلولة بينه وبين نفسه وتصرفه حتى يوفى ما عليه وإن كان له مال حاضر آخذ القاضي الدراهم والدنانير من ماله وأدى منها النفقه والدين لأن صاحب الحق إذا ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه فللقاضى أن يعينه على ذلك أيضا وكذلك إذا ظفر بطعامه في النفقة لأنه عين ما عليه من الحق والمرأة تتمكن من أخذه إذا قدرت عليه فيعينها القاضي على ذلك، ولا يبيع القاضي عروضه في النفقة والدين في قول أبى حنيقة رحمه الله تعالى وفى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ببيع ذلك كله وهو بناء على مسألة الحجر فإن عند أبى حنيفه رحمه الله تعالى القاضي لا يحجر على المدين بسبب الدين، وبيع المال عليه نوع حجر فلا يفعله القاضي. وعندهما القاضي يحجر عليه بسبب الدين فيبيع عليه ماله واستدلا في ذلك بما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ رضى الله تعالى عنه وباع عليه ماله وقسم ثمنه على غرمائه بالحصص، ولأبى حنيفة: ما روى أن رجلا من جهينة أعتق جزءا من عبد بينه وبين آخر فحبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى باع غنيمة له وأدى ضمان نصيب شريكه ومعلوم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان قد علم بيساره حين ألزمه بضمان العتق ثم اشتغل بحبسه ولم يبع عليه ماله فلو كان ذلك جائزا لاشتغل به ثم قال صاحب المبسوط

(1)

وإذا كان لرجل نسوة فرضت النفقة لهن عليه بحسب الكفاية فإن كانت إحداهن كتابية أو: أمة قد بوأها مولاها معه بيتا فرض عليه لكل واحدة منهن ما يكفيها ولا تزاد الحرة المسلمة على الأمة والذمية شيئا لأن النفقة مشروعة للكفاية وهذا لايختلف باختلاف الدين ولا باختلاف الحال في الرق والحزية فإن فرض ذلك وهو ميسر وعلم القاضي ذلك منه أمرهن بالاستدانة عليه ففى هذا يعتدل النظر من الجانبين وإن كان الزوج غائبا فقد كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أولا: يأمرهن بالاستدانة عليه إذا كان يعلم النكاح بينه وبينهن وهو قول زفر رحمه الله تعالى كما يفعل ذلك عند حضرته ثم رجع فقال لا يأمر بذلك وهو قولهما لأن فيه قضاء على الغائب وليس له ذلك وإن أمرهن بالاستدانة فلم يجدن ذلك لم يفرق بينه وبينهن

(1)

المرجع السابق جـ 5 ص 190 - 191 نفس المطبعة المتقدمة.

ص: 218

ولم يجبره على طلاقهن عندنا

(1)

وحجتنا في ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}

(2)

فهذا تنصيص على أن المعسر منظر ولو أجلته في ذلك لم يكن لها أن تطالب بالفرقة فكذلك إذا استحق النظرة شرعا إلا أن المستحق بالنص التأخير فلا يلحق به ما يكون إبطالا لأن ذلك فوق المنصوص وفى حق المملوك يكون إبطالا لأنه لا يثبت للمملوك على مولاه دين فإما في حق الزوجية يكون تأخيرا لا إبطالا وبهذا يتبين أنه غير عاجز عن معروف يليق بحاله وهو الالتزام في الذمة فإن المعروف في النفقة على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وهو الإلتزام في الذمة.

‌مذهب المالكية:

في "الفروق" للقرافى: المعسر يفسخ عليه نكاحه بطلاق في حق من ثبت لها الإنفاق جناء في التاج والإكليل

(3)

أن ابن الحاجب قال في المختصر: ويثبت للمرأة حق الفسخ بالعجز عن النفقة الحاضرة لا الماضية حرين كان الزوجان أو عبدين أو مختلفين ما لم تكن عرفت فقره ورضيت به قبل العقد أو عرفت أنه من السؤال فيأمره الحاكم بالإنفاق أو الطلاق فإن أبى طلق عليه بعد التلوم ومدة التلوم شهر وروى ثلاثة والصحيح أنه يختلف برجاء يسره وجاء في الحطاب

(4)

أنه إن أثبت الزوج عسره تلوم له القاضي باجتهاده قال في التوضيح ولا يمين على الرجل إن صدقته المرأة على عسره إذ لا يحتاج إلى إقامة بينه وأما إن لم تصدقه فلابد من بينة على الإعسار واليمين ثم يتلوم له القاضي على القول المشهور المعمول به وقيل: يُطلق عليه من غير تلوم وعلى المشهور اختلف في مقدار التلوم فلمالك في المبسوط أنه اليوم ونحوء مما لا يُضر بها الجوع، ولمالك في الواضحة الثلاثية الأيام والصحيح أنه يختلف بالرجاء وعدمه (أي رجاء يسره وعدمه) وهو مذهب المدونة قال فيها ويختلف التلوم فيمن يرجى له وفيمن لا يرجى له ثم قال في الحطاب

(5)

: من لم يثبت عسره وامتنع من الإنفاق والطلاق فتارة يقر بالملاءة وتارة يدعى العسر فإن ادعى العسر تلوم له وإن أقر بالملاءة حكى بن عرفه في ذلك قولين أحدهما أنه يعجل عليه الطلاق والثانى أنه يسجن حتى ينفق وعليه إن كان له مال ظاهر أخذت النفقة منه كرها وقال المنبطى وغيره من الموثقين: إن ادعى العدم وصدقته نظر في تأجيله وإن كذبته فبعد إثبات عدمه وحلفه. وحكم الغائب في الطلاق بعدم النفقة كحكم الحاضر قال في التوضيح وهو المشهور وقال القابس لا يطلق على غائب لأنه لم يستوف حجته وعلى الأول فلابد أن تكتب الزوجة وأنه قد دخل بها أو دعا إلى الدخول والغيبة بحيث لا يعلم موضعه أو علم ولم يمكن الإعذار إليه فيه وأما إن علم وأمكن الإعذار إليه فإنه يعذر إليه ولابد أن تشهد لها البينة بأنها لا تعلم أن الزوج ترك لها نفقه ولا كسوة ولا أنه بعث إليها بشئ وصل إليها في علمهم إلى هذا الحين ثم بعد ذلك يضرب لها أجلا على حسب ما يراه ثم يحلفها على ما شهدت لها البينة وحينئذ إن دعت إلى الطلاق طلقها هو أو أباح لها التطليق وفى الإعسار بالمهر جاء في الحطاب

(6)

إن كان الزوج الذي منعته إليه.

(1)

المرجع السابق جـ 5 صـ 191 نفس الطبعة المتقدم.

(2)

آية 82 سورة البقرة.

(3)

التاج والإكليل بهامش الحطاب جـ 4 ص 194. ص 195 طبع مطبعة السعادة بمصر طبعة أولى سنة 1319 هـ.

(4)

الحطاب وبهامشه التاج والإكليل جـ 4 ص 195 نفس المطبع المتقدمة.

(5)

المرجع السابق جـ 3 ص 55 الطبعة السابقة.

(6)

المرجع السابق جـ 3 ص 505.

ص: 219

‌مذهب الشافعية:

إذا أعسر الزوج فلا فسخ قبل ثبوت إعساره، بإقراره أو بينة عند قاض. فيمهله ولو بدون طلبه ثلاثة ليتحقق إعساره

(1)

.

وفى كتاب "فتح الوهاب":

ولا فسخ قبل ثبوت إعساره - أي الزوج - بإقراره أو بينة عند قاض فلا بد من الرفع إليه فيمهله ولو بدون طلبه ثلاثة أيام ليتحقق إعساره وهى مدة قريبة يتوقع فيها القدرة بقرض أو غيره

(2)

.

وجاء في كتاب "الرسائل الذهبية في المسائل الدقيقة المنهجية":

إذا أثبت القاضي إعسار الزوج أمهله - وإن لم يستمهله. ثلاثة أيام ليتحقق العجز، وإن لم يُرج فيها يسار، فإذا مضت رفعت إليه صبيحة اليوم الرابع ليفسخ. أو يأذن لها فيه

(3)

.

وفى كتاب "الأم":

إذا وجد نفقة امرأته يوما بيوم، لم يفرق بينهما، وإذا لم يجدها لم أكثر من ثلاث ولا يمنع المرأة في الشلاث أن تخرج فتعمل أو تسأل، فإن لم يجد نفقتها خيرت بين المقام معه وفراقه، فإن كان يجد نفقتها بعد ثلاث - يوما ويعوز يوما - خيرت - وإذا مضت ثلاث فلم يقدر على نفقتها بأقل ما وصفت للنفقة على المقتر خيرت في هذا القول

(4)

.

وجاء في مغنى المحتاج:

(5)

"أنه إذا أعسر الزوج أو من يقوم مقامه من فرع أو غيره بنفقة زوجته المستقبلة كتلف ماله فإن صبرت بها وأنفقت على نفسها من مالها أو مما اقترضته صارت دينا عليه وإن لم يقرضها القاضي كسائر الديون المستقرة؛ هذا إذا لم تمنع نفسها منه فإن امتنعت لم تصر النفقة دينا عليه قاله الرافعى في الكلام على الإمهال وإلا بأن لم تصبر فلها الفسخ بالطريق الآتى في الأظهر وقطع به الأكثرون لقوله تعالى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}

(6)

فإذا عجز عن الأول تعين الثاني وأخبر البيهقى بإسناد صحيح أن سعيد بن المسيب سئل عن رجل لا يجد ما ينفق على أهله قال يفرق بينهما فقيل له سنة فقال نعم سنة تقال الشافعي رحمه الله تعالى ويشبه أنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولأنها إذا فسخت بالجُب والعنة فبالعجز عن النفقة أولى لأن البدن لا يقوم بدونها بخلاف الوطء والثانى المنع وهو قول المزنى لعموم قوله تعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}

(7)

ولأنه إذا لم يثبت له الخيار بنشوزها وعجزها عن التمكن فكذلك لا يثبت لمعجزه عن مقابله أما لو أعسر بنفقة ما مضى فلا فسخ على الأصح ولا فسخ لها أيضا بالإعسار بنفقة الخادم سواء أخدمت نفسها أم استأجرت أم

(1)

حاشية سليمان البيجرمى على شرح منهج الطلاب جـ 4 ص 118 طبعة دار إحياء الكتب العربية الكبرى بمصر سنة 1320 هـ.

(2)

فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب تأليف شيخ الإسلام أبى يحيى زكريا الأنصارى ج 2 ص 120 طبع دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر.

(3)

على هامش كتاب فتح الوهاب (انظر المرجع السابق) جـ 2 ص 121

(4)

كتاب الأم للإمام أبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 ج 5 ص 81 طبعة دار الشعب بالقاهرة سنة 1388 هـ

(5)

مغنى المحتاج إلى معاني ألفاظ المنهاج للشيخ الشربينى الخطيب جـ 3 ص 406: 407 في كتاب بهامشة فن المنهاج لأبى زكريا يحيى بن شرف النووى طبع المطبعة اليمنية بمصر سنة 1308 هـ

(6)

الآية رقم 299 من سورة البقرة.

(7)

الآية رقم 280 من سورة البقرة.

ص: 220

أنفقت على خادمها نعم تثبت في ذمته على المشهور وينبغى كما قال الأذرعى أن يكون هذا في المخدومة لرتبتها أما من تخدم لمرضها ونحوه فالوجه عدم الثبوت والأصح أن لا فسخ بامتناع موسر عن الإنفاق بأن لم يوفها حقها منه سواء حضر زوجها أو غاب عنها لتمكنها من تحصيل حقها بالحاكم أو بيدها إن قدرت وعند غيبته يبعث الحاكم بلده إن كان موضعه معلوما فليزمه بدفع نفقتها فإن لم يعرف موضعه. أو انقطع خبره فهل لها الفسخ أو لا نقل الزركشى عن صاحبى المهذب والكافى وغيرهما أن لها الفسخ ونقل الرويانى في التجربة عن نص الأم أنه لا فسخ ما دام الزوج موسرا وإن غاب غيبة منقطعة وتعذر استيفاء النفقة من ماله قال الأذرعى وغالب ظنى الوقوف على هذا النص في الأم والمذهب قال فإن ثبت له نص يخالفه فذاك وإلا فمذهبه المنع بالتعذر كما رجحه الشيخان وهذا أحوط والأول أيسر. إلى أن قال: ويجوز للزوجة إذا أعسر الزوج وله دين على غيره مؤجل بقدر مدة إحضار مال الغائب من مسافة القصر الفسخ بخلاف تأجيله بدون ذلك ولها الفسخ أيضا لكون حاله عروضا لا يرغب فيها ولكون دينه حالا على معسر ولو كان الدين عليها لأنها في حاله الإعسار لا تصل إلى حقها والمعسر ينظر بخلافها في حال اليسار وبخلاف ما إذا كان دينه على موسر حاضر غير مماطل ولو غاب المديون الموسر وكان ماله بدون مسافة القصر فهل لها الفسخ أولًا وجهان أوجههما الثاني وكلام الرافعى يميل إليه فإن كان المديون حاضرا وماله بمسافة القصر كان لها الفسخ كما لو كان مال الزوج غائبا ولا يفسخ يكون الزوج مديونا وإن استطرقت الديون ماله حتى يصرفه إليها ولا تفسخ بضمان غيره له بإذنه نفقة يوم بيوم بأن تجدد ضمان كل يوم وأما ضمانها جملة لا يصح فتفسخ به وقدرة الزوج على الكسب كالمال أي كالقدرة عليه فلو كان يكسب كل يوم قدر النفقة لم يفسخ لأنها هكذا تجب وليس عليه أن يدخر للمستقبل فلو كان يكسب في يوم ما يكفى لثلاثة أيام متصلا ثم لا يكسب يومين أو ثلاثة ثم يكسب في يوم ما يكفى للأيام الماضية فلا فسخ فإنه ليس بمعسر وليس المراد أن يصبرها هذه المدة بلا نفقة بل المراد كما قاله الماوردى والرديانى وغيرهما أن هذا في حكم الواجد لنفقتها وتنفق مما استدانه لإمكان القضاء فلو كان يكسب في يوم كفاية أسبوع فتعذر العمل فيه لعارض فسخت لتضررها ويكون قدرته على الكسب بمنزلة دين مؤجل له على غيره بقدر ما مر فيه ولو امتنع من الكسب مع قدرته عليه لم تفسخ كالموسر الممتنع إلى أن

(1)

قال: ثم على ثبوت الفسخ بإعسار الزوج بالنفقة لا يمهل بها في قول ونسب إلى القديم بل ينجز الفسخ عند الإعسار وقت وجوب تسليمها لأن سبيه الإعسار وقد حصل ولا تلزم الإمهال بالفسخ والأظهر إمهاله ثلاثة أيام وإن لم يطلب الزوج الإمهال لتحقق عجزه فإنه قد يعجز لعارض ثم يزول وهى مدة قريبة يتوقع فيها القدرة بقرض أو غيره وللزوجة بعد الإمهال الفسخ صبيحة اليوم الرابع بعجزه عن نفقته بلا مهلة إلى بياض النهار لتحقق الإعسار إلا أن يسلم نفقته أي الرابع فقط فلا تفسخ لما مضى

(1)

مغنى المحتاج لمعرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربينى الخطيب جـ 2 ص 409 نفس الطبعة المتقدمة.

ص: 221

حينئذ لتبين زوال العارض الذي كان الفسخ لأجله وإن عجز بعد أن سلم نفقة الرابع عن نفقة الخامس بنت على المدة ولم تستأنفها كما يعلم من قوله ولو مضى على زوجها يومان بلا نفقة وأنفق الثالث بأن سلم زوجته نفقته وعجز الرابع أي عجز فيه عن تسليم نفقته بنت على اليومين الأولين لها ولها الفسخ صبيحة اليوم الخامس في الصورتين لتضررها بالاستئناف وقيل تستأنف مدة كاملة لأن العجز الأول قد زال وليس لها أن تأخذ نفقة يوم قدر فيه عن نفقة يوم قبله عجز فيه عن نفقته لتفسخ عند تمام المدة لأن العبرة في الأداء بقصد المؤدى فإن تراضيا على ذلك فيه احتمالان أحدهما لها الفسخ عند تمام الثلاث بالتلفيق وثانيهما لا وتجعل القدرة عليها مبطلة للمهلة قال الأذرعى والمتبادر ترجيح الأول ورجح ابن الرفعة الثاني بناء على أنه لا فسخ بنفقة المدة الماضية وأجيب عنه بأن عدم فسخها بنفقة المدة الماضية قبل أيام المهلة لا فيها ولها الخروج من بيتها زمن المهلة نهارا لتحصل النفقة بكسب أو تجارة أو سؤال وليس له منعها سواء كانت فقيرة أم غنية لأن التمكين والطاعة في مقابلة النفقة فإذا لم يوفها ما عليه لم يستحق عليها حجرا، "قضية كلامه أنه لو أمكنها الإنفاق من مالها أو كسب في بيته امتنع عليها الخروج وهو وجه والصحيح المنصوص الأول" وعليها الرجوع إلى بيتها ليلا لأنه وقت الإيواء دون العمل والاكتساب ولها منعه من الاستمتاع بها نهارًا ولا تسقط نفقتها بذلك فكذا ليلا لكن تسقط نفقتها عن ذمة الزوج مدة منعها وظاهره عبارة ابن المقرى سقوطها حيث منعته والمعتمد الأول ففى الحادى أنه يستحق التمتع بها ليلا لا نهارا من المهلة فإن أبت نهارا فليست بناشزة أو ليلا فناشزة ولا نفقة لها وتبعه في الكفاية ولو رضيت بإعساره لعارض أو نكحته عالمة بإعسارة فلها الفسخ بعد الرضا في الصورتين لأن الضرر يتجدد كل يوم ولا أثر لقولها رضيت بإعساره أبدا فإنه وعد لا يلزم الوفاء به، ويستثنى من إطلاقه يوم الرضا فإنه لا خيار لها فيه كما قاله النبرنجى والبقرى ويتجدد الإمهال إذا طلبت الفسخ بعد الرضاء ولو رضيت بإعساره بالمهر فلا فسخ لها بذلك بعد الرضا لأن الضرر لا يتجدد والحاصل مرضى به.

‌مذهب الحنابلة:

جاء في "كشاف القناع"

إن أعسر الزوج بنفقة الزوجة الواجبة. أو أعسر الزوج ببعضها -أي بعض النفقة- بأن أعسر عن نفقة المعسر، فلها الفسخ. ولا يفسخ إذا أعسر بما زاد عنها، أي عن نفقة المعسر. لأن الزيادة تسقط بإعساره. وأعسر الزوج بالكسوة أو ببعضها، أو أعسر بالسكنى، أو أعسر بالمهر بشرطه، خيرت على التراخى بين الفسخ من غير انتظار، أي تأجيل ثلاثا. خلافا لابن البناء. وبين المقام معه على النكاح

(1)

.

‌مذهب الظاهرية:

جاء بالمحلى عن الحسن أنه قال في الرجل يعجز عن نفقة امرأته قال: تواسيه وتتقى الله عز وجل وتصبر، وينفق عليها ما استطاع

(2)

.

(1)

كشاف القناع عن متن الإقناع، تأليف الشيخ منصور بن إدريس الحنبلى جـ 2 ص 310 الطبعة الأولى المطبعة العامرية الشرقية بمصر، سنة 1319 هـ.

(2)

المحلى، لأبى محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم جـ 10 ص 97. الطبعة الأولى. مطبعة النهضة بمصره سنة 1347 هـ.

ص: 222

وفى "المحلى" أيضًا:

(1)

من قدر على بعض النفقة والكسوة، فسواء قل ما يقدر عليه أو كثر - الواجب يقضى عليه بما قدر ويسقط عنه ما لا يقدر، فإن لم يقدر على شئ من ذلك سقط عنه، ولم يجب أن يقضى عليه بشئ.

فإن أيسر بعد ذلك قضى عليه من حين يوسر، ولا يقضى عليه بشئ مما أنفقته على نفسها من نفقة أو كسوة مدة عسره. لقول الله عز وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

(2)

. وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} .

(3)

فصح يقينًا أن ما ليس في وسعه. ولا أتاه الله تعالى إياه، فلم يكلفه الله عز وجل إياه، وما لم يكلفه الله تعالى فهو غير واجب عليه وما لم يجب عليه فلا يجوز أن يقضى عليه به أبدًا: أيسر أو لم يوسر.

وهذا بخلاف ما وجب لها من نفقة أو كسوة فمنعها إياها وهو قادر عليها، فهذا يؤخذ به أبدًا: أعسر بعد ذلك أو لم يعسر لأنه قد كلفه الله تعالى إياه، فهو واجب عليه، فلا يسقطه عنه إعساره.

لكن يوجب الإعسار أن ينظر به إلى الميسرة فقط، لقوله عز وجل:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} .

(4)

‌مذهب الزيدية:

بالنسبة لإمهال الزوج لعدم الإنفاق:

جاء في البحر الزخار

(5)

إنه إن كان الزوج ذا حرفة فمرض أو عجز لم تفسخ إن رجت صحته في يومين أو ثلاثة إذ لا ضرر وإن نكحته عالمة بعجزه لم يبطل خيارها إذ يجوز أن تعترض أو يحتال ولوجوبها يومًا فيومًا فإن تمرد فلا فسخ إن أمكن اجباره وإلا فسخ وكذا غائب لم يعلم خبره دفعًا للضرر لهم والفسخ إلى الزوجة إذ يختص بها وفى وقت الفسخ وجوه من وسط النهار إذ لا يعتاد التأخير إليه أو بعد يوم وليلة ليستقر الحق إذ تراد النفقة لليوم أو بعد الثلاث ليتحقق العجز أو موضع اجتهاد للحاكم إن كان ولا بعد مضى وقت الفذاء إذ لا تصير أكثر ولا فائدة للإمهال إن لم يرج يساره في مدته.

‌مذهب الإمامية:

إمهال الزوج لعدم الاتفاق: جاء في الخلافا

(6)

: أنه إذا أعسر الزوج فلم يقدر على النفقة على زوجته لم تملك زوجته الفسخ وعليها أن تصبر إلى أن يوسر وبه قال من التابعين الزهرى وعطاء بن بشار وإليه ذهب أهل الكوفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة والدليل عليه قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}

(7)

ولم يفصل، وقال تعالى:

(1)

المرجع السابق، جـ 10 ص 91، 92.

(2)

آية 286 سورة البقرة.

(3)

آية 7 سورة الطلاق

(4)

آية 280 سورة البقرة.

(5)

كتاب البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار للإمام المهدى لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى ويليه كتاب جواهر الأخبار والآثار المستخرج من لجة البحر الزخار للعلامة المحقق محمد بن يحيى بن بهران الصمدى جـ 3 ص 276، 277 وما بعدهما طبع مطبعة أنصار السنة المحمدية مكتبة الخانجى بمصر سنة 1267 هـ 1948 م، الطبعة الأولى.

(6)

كتاب الخلاف في الفقة لشيخ الطائفة الإمام أبى جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسى جـ 2 ص 329 مسألة رقم 15 طبع مطبعة تابان في طهران الطبعة الثالثة سنة 1381 هـ.

(7)

الآية 280 سورة البقرة.

ص: 223

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

(1)

فندب الفقراء إلى النكاح فلو كان الفقر سببًا تملك به فسخ النكاح ما ندب إلى النكاح من يملك الفسخ عقيب النكاح وأخبار أصحابنا واردة بذلك، وجاء في الروضة البهية:

(2)

أنه يجبر الحاكم الممتنع عن الإنفاق مع وجوبه عليه وإن كان له علم يجب صرفه في الدين باعه الحاكم إن شاء والفعل منه وفى كيفية بيعه وجهان. أحدهما أن يبيع كل يوم جزءًا بقدر الحاجة والثانى أن لا يفعل ذلك لأنه يشق ولكن يقترض عليه إلى أن يجتمع ما يسهل بيع العقار له والأقوى جواز الأمرين. ولو تعذرا فلم يوجد راغب في شراء الجزء اليسير ولا مقرض ولا بيت مال يقترض منه جاز له بيع أقل ما يمكن بيعه وإن زاد عن قدر نفقة اليوم لتوقف الواجب عليه.

‌مذهب الإباضية:

جاء في شرح النيل:

(3)

أنه إن طلق الزوج زوجته فأحسن ذلك بعد ثبوت إعساره وإن لم يثبت فهو مأمور بأحد أمرين إما بالنفقة والكسوة وأما بالطلاق وسواء الأحرار والعبيد المختلفون وإن علمت فقره قبل العقد أمره بالإنفاق أو الطلاق فإن أبى طلق عليه بعد التلوم بشهرين مثلًا وقيل يتلوم بشهر وقيل بثلاثة أيام وإن علم له مال وظهر عناده سجنه السلطان ولا أجل لذلك ولا يحال بينهما إذا كان التأجيل ولا نفقة لها في الأجل ولا تطالبه بها بعد فإن وجد في خلال الأجل ما يتفق عليها بطل الأجل وبقيت زوجة وإن أعسر بعد الدخول أو قبله أو بان ذلك بعده أو قبله فأرادت فراقه أجل له الحاكم ثلاثة أيام أو جمعة وقيل شهرًا وقيل شهرين والراجح أن ذلك إلى نظر الحاكم ويطلق الحاكم تطليقة واحدة رجعية فإن أيسر في عدتها فله رجعتها إلا إن لم يوسر وإما إن لم يدخل بها فلا عدة ولا رجمعة وزعموا أنه إن طلبته بالصداق قبل الدخول فعجز عنه دون النفقة فإنه يؤجل له سنتان وقيل ينظر الحاكم وقيل يتلوم له بعد تلوم ثم يفرق بينهما بالطلاق ولها نصف الصداق وقيل لا وللمرأة منع نفسها من الدخول والسفر معه حتى يقضى لها صداقها ويختلف التلوم فيما يرجى له ومن لا يرجى وقيل يؤجل له اثنا عشر يومًا ثم أحد وعشرون ثم ستة ثم ستة ثم ثلاثة وقيل ستة أشهر ثم أربعة أشهر ثم شهران ولها أن تطالبه بحميل ولها سجنه لأن الصداق كسائر الديون ومن غاب ولم يترك نفقتها فأرادت فراقه أجلت شهرًا فإذا مضى خيرت في البقاء وفى أن تطلق نفسها بعد يمينها ما ترك لها نفقة ولا حميلًا ولا أرسل إليها ولا رضيت بالمقام بلا نفقة ولا قام لها قائم بذلك ولا علمت له مالًا وقيل يطلقها الحاكم بعد الأجل ويتلوم عليه في الأجل فلو بعد أكثر من شهر ذهابًا ورجوعًا أجل أكثر من شهر.

(1)

الآية 32 سورة النور.

(2)

الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية للشهيد السعيد زين الدين الجعلى العاملى جـ 2 ص 145 طبع مطبعة منشورات دار الحياة ببيروت سنة 1379 هـ 1960 م.

(3)

شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد بن يوسف أطفيش جـ 3 ص 587، ص 588 وما بعدهما طبع على ذمة صاحب الامتياز محمد بن يوسف البارونى وشركاء بمصر طبع المطبعة الأدبية بمصر سنة 1343 هـ.

ص: 224

‌إمهال المظاهر والمولى

‌مذهب الحنفية:

جاء في بدائع الصنائع:

(1)

مضى مدة الإيلاء شرط وقوع الطلاق حتى لا يقع الطلاق قبل مضى المدة لأن الإيلاء في حق أحد الحكمين. وهو البر طلاق معلق بشرط ترك الفئ في مدة الإيلاء لقول الله عز وجل: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

(2)

وروى عن ابن عباس وعدة من الصحابة رضى الله تعالى عنهم أن عزم الطلاق ترك الفئ إليها أربعة أشهر فقد جعل ترك الفئ أربعة أشهر شرط وقوع الطلاق في الإيلاء ثم قال صاحب البدائع

(3)

أما المدة في الإيلاء هي أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدًا في الحرة أو يحلف مطلقًا أو مؤيدًا حتى لو حلف على اقل من أربعة أشهر لم يكن موليًا في حق الطلاق وهذا قول عامة العلماء وعامة الصحابة رضى الله تعالى عنهم وقال بعض أهل العلم إن مدة الإيلاء غير مقدرة يستوى فيها القليل والكثير حتى لو حلف لا يقريها يومًا أو ساعة كان موليًا حتى لو تركها أربعة أشهر بانت وكذا روى عن ابن مسعود رضي الله عنه وقال ابن عباس رضى الله عنهما إن الإيلاء على الأبد والدليل عليه قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}

(4)

ذكر الإيلاء في حكم الطلاق مدة مقدرة فلا يكون الحلف على ما دونها إيلاء في حق هذا الحكم وهذا لأن الإيلاء ليس بطلاق حقيقة وإنما جعل طلاقًا معلنًا بشرط البر شرعًا بوصف كونه مانعًا من الجماع أربعة أشهر قصاعدًا فلا يجعل طلاقًا بدونه ولأن الإيلاء هو اليمين التي تمنع الجماع خوفًا من لزوم الحنث وبعد مضى يوم أو شهر يمكنه أن يطأها من غير حنث يلزمه فلا يكون هذا إيلاء كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك فوقته الله أربعة أشهر فمن كان إيلاؤه اقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء ولأنه ليس في النص شرط الأبد فيلزمه إثبات حكم الإيلاء في حق الطلاق عند تربص أربعة أشهر فلا تجوز الزيادة إلا بدليل وسواء كان الإيلاء في حال الرضا أو الغضب أو أراد به إصلاح ولده في الرضاع أو الإضرار بالمرأة عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضى الله تعالى عنهم وهو الصحيح لأن الإيلاء لا يفصل بين حال وحال ولأن الإيلاء يمين فلا يختلف حكمه بالرضا والغضب وإرادة الإصلاح والاضرار كسائر الأيمان وأما مدة إيلاء الأمة المنكوحة فشهران فصاعدًا عندنا لأن مدة الإيلاء ضربت أجلًا للبينونة عندنا فأشبه مدة العدة فيتنصف بالرق كمدة العدة.

‌مذهب المالكية:

جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليها

(5)

أن الإيلاء يمين ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر للحر أو أكثر من شهرين للعبد جاء في حاشية الدسوقى أنه إذا قال لزوجته

(1)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين أبى بكر بن مسعود الكاسانى جـ 3 ص 161 طبع مطبعة الجمالية بمصر طبعة أولى سنة 1338 هـ 1910 م

(2)

آية 227 سورة البقرة.

(3)

المرجع السابق ج/ 3 ص 171، 172 نفس الطبعة المتقدمة.

(4)

آية 226 سورة البقرة.

(5)

الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقى جـ 2 من 428 طبع دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر.

ص: 225

المطلقة طلاقًا رجعيًا والله لا أرجعك فإنه يكون موليًا ويضرب له أجل الإيلاء أربعة أشهر من يوم الحلف فإن لم يف بعدها طلق عليه طلقة أخرى وهذا إذا لم تنقض العدة من الطلاق الأول قبل فراغ الأجل وإلا فلا شئ عليه وإذا قال لها والله لا أطؤك حتى تسألينى الوطء أو حتى تأتينى للوطء فإنه يكون موليًّا ويضرب له أجل الإيلاء من يوم الحلف فإن فاء في الأجل أو بعده بأن كفر عن يمينه ووطئها بدون سؤال منها فالأمر ظاهر وإلا طلق عليه وهذا قول ابن سحنون ومقابله قول سحنون وهو أنه لا يكون موليًا بذلك وقال ابن رشد لا وجه لقول سحنون واستصوب ما قاله ولده نظرًا لمشقة سؤال الوطء من النساء وإتيانهن إليه فالغالب عدم حصوله من المرأة ثم قال في حاشية

(1)

الدسوقى: وإذا قال لزوجته إن وطئتك فأنت طالق ثلاثًا أو البتة فقال ابن القاسم ومالك لا يكون موليًا وينجز عليه الثلاث من يوم الرفع ولا يضرب له أجل الإيلاء واستحسنه سحنون وغيره لأنه لا فائدة في ضرب الأجل لأنه يحنث بمجرد الملاقاة وباقى الوطء حرام فلا يمكن من وطئها وحكى اللخمى وابن رشد أنه لا يعجل عليه الحنث ويضرب له أجل الإيلاء وتستمر من غير طلاق عليه إلى أن يفرغ الأجل فإن رضيت بالإقامة معه من غير وطء فلا يطلق عليه ولا يطؤها وإن لم ترض طلقت عليه واحدة للإيلاء وقد نص في المدونة على القولين وفى حاشية الدسوقى

(2)

أيضًا: من حلف ليعزلن عن زوجته زمنًا يحصل به ضررها أو حلف لا يبيت عندها أو ترك وطأها ضررًا من غير حلف أو أدام العبادة وتضررت الزوجة من ترك الوطء وأرادت الطلاق فإن الحاكم يجتهد في طلاقها عليه ومعنى الاجتهاد في الطلاق عليه أن يجتهد في أن يطلق عليه فورا بدون أجل أو يضرب له أجلًا ويجتهد في قدره من كونه دون أجل الإيلاء أو قدره أو أكثر منه فإن علم توَدَهُ وإضراره طلق عليه فورًا وإلا أمهله باجتهاده لعله أن يرجع عما هو عليه فإذا اكتفى أجل التلوم ولم يرجع عما هو عليه طلق عليه وكل هذا إذا أرادت الطلاق وأما إن رضيت بالإقامة بلا وطء فلا تطلق عليه وجاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه

(3)

بأن المظاهر إن قيد الظهار بوقت كانت على كظهر أمى في هذا الشهر تأبد فلا ينحل إلا بالكفارة أو علقه بعدم زواج كإن لم أتزوج عليك وأطلق أو فلانة فأنت كأمى فلا يكون مظاهر إلا عند إليأس من الزواج يموت المعينة أو بعدم قدرته على الوطء أو عند العزيمة على عدم الزواج إذ العزم على الضد الحنث ويمنع منها حتى قبل اليأس والعزيمة ويدخل عليه الإيلاء ويضرب له الأجل من يوم الحكم.

‌مذهب الشافعية:

قال الإمام الشافعي: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يذكرون أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بثلاث: الظهار والإيلاء والطلاق. فأقر الله تعالى الطلاق طلاقًا، وحكم في الإيلاء بأن

(1)

حاشية الدسوقى على الشرح الكبير جـ 2 ص 430 الطبعة السابقة.

(2)

المرجع السابق ج 2 ص 421 الطبعة السابقة.

(3)

الشرح الكبير ج 2 ص 440، ص 441 الطبعة السابقة.

ص: 226

أمهل المولى أربعة أشهر، ثم جعل عليه أن يفئ أو يطلق، وحكم في الظهار بالكفارة.

(1)

‌مذهب الحنابلة:

جاء في الكشاف

(2)

: وإذا صح الإيلاء لاجتماع شروطه الأربعة ضربت للمولى مدة أربعة أشهر ولا يطالب بالوطء في الأربعة أشهر تقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}

(3)

وابتداء المدة من حين اليمين.

وقال ابن مسعود وابن عباس إذا مضت أربعة أشهر فهى تطليقة بائنة وقال لكحول والزهرى تطليقة رجعية ورد بظاهر الآية فإن الفاء للتعقيب ثم قال وإن عزموا الطلاق ولو وقع بمضى المدة لم يحتج إلى عزم عليه وقوله سميع عليم يقتضى أن الطلاق مسموع ولا يكن المسموع إلا كلامًا ذكره في المبدع ملخصًا فإن كان بالمولى عذر في المدة يمنع الوطء ولو طارئا بعد يمينه كحبسه واحرامه ونحوه احتسب عليه بمدة العذر لأن المانع من جهته.

وإن كان العذر احتسب المانع من وطئها من جهتها كصغره ومرضها وحبسها وصيامها واعتكافها الفرضين وإحرامها ونفاسها وغيبتها ونشوزها وجنونها ونحوه كالإغماء عليها وكان ذلك العذر موجودًا حال الإيلاء فابتداء المدة من حين زواله لأن المدة تضرب لامتناعه من وطئها والمنع هنا من قبلها فإن كان العذر طارئًا في اثناء المدة استؤنفت الأربعة أشهر من وقت زواله ولم تبن علي ما مضى لقول الله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وظاهره يقتضى أنها متوالية فإذا قطعتها وجب استئنافها كمدة الشهرين في صوم الكفارة إن كان قد بقى من المدة التي حلف لا يطؤها فيها أكثر من أربعة أشهر. وإن لم يكن بقى منها أكثر من أربعة أشهر بل أربعة فأقل سقط حكم الإيلاء كما لو حلف على ذلك ابتداء ولا تبنى على ما مضى إذا حدث عذر مما سبق كمدة الشهرين في صوم الكفارة إذا انقطع التتابع يستأنفها إلا الحيض فإنه يحتسب على المولى مدته إذا كانت حائضًا وقت الإيلاء ولا يقطع الحيض مدته إن طرأ في أثنائها.

وإن آلى من زوجته بعد الدخول في الردة أي أردته أو ردتها أو ردتهما فابتداء المدة من حين رجوع المرتد منهما إلى الإسلام إن كان ذلك في العدة فإن طرأت الردة في أثناء المدة انقطعت وحرم الوطء فإذا عاد إلى الإسلام استؤنفت المدة سواء كانت الردة منهما أو من أحدهما وكذلك إن أسلم أحد الزوجين الكافرين بعد الدخول وكان قد آلى منها فابتداء المدة من حين يسلم الآخر في العدة لأنه صار ممنوعًا من وطئها من غير يمين.

وإن كان

(4)

المولى غائبًا لا يمكنه القدوم لخوف بالطريق أو نحوه فاء فيئة المعذور لأنه معذور فيقول متى قدرت جامعتها وإن أمكنها القدوم فلها أن توكل من يطالبه بالمسير إليها أو حملها إليه ليوفيها حقها من الفيئة أو يطالبه بالطلاق إن لم يفعل لأنه غير معذور إذن وإن كان المولى

(1)

كتاب الأم للإمام أبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعي جـ 5 ص 262 طبعة دار الشعب بالقاهرة.

(2)

كشاف القناع جـ 3 ص 222، 222، 224 الطبعة السابقة.

(3)

الآية 226 سورة البقرة.

(4)

المرجع السابق جـ 3 ص 224 ص 225 الطبعة السابقة.

ص: 227

مظاهرا لم يؤمر بالوطء لأنه محرم عليه قبل التكفير فهو عاجز عنه شرعًا أشبه المريض ويقال له إما أن تكفر وتفئ وإما أن تطلق إزالة لضررها فإن طلب الإمهال ليطلب رقبة يعتقها أو طعامًا يشتريه ويطعمه للمساكين إن كان عاجزًا عن العتق والصوم أمهل ثلاثة أيام لأنها مدة قريبة وإن علم أن المظاهر قادر على التكفير في الحال وإنما قصده المدافعة لم يمهل لأنه إنما يمهل للحاجة ولا حاجة هنا وإن كان فرضه الصيام لقدرته عليه وعجزه عن العتق وطلب أن يمهل ليصوم لم يمهل حتى يصوم شهرين متتابعين لأنه كثير بل يؤمر أن يطلق وإن كان قد بقى على المظاهر من الصيام مدة يسيرة عرفًا أمهل فيها كسائر المعاذير.

‌مذهب الظاهرية:

في "المحلى" لابن حزم: من حلف بالله عز وجل، أو باسم من أسمائه تعالى، أن لا يطأ امرأته أو أن يسوءها، أو أن لا يجمعه وإياها فراش أو بيت، سواء قال ذلك في غضب أو في رضا، لصلاح رضيعها أو لغير ذلك، استثنى في يمينه أو لم يستثن. فسواء وقت وقتًا: ساعة فأكثر إلى جميع عمره، أو لم يوقت: الحكم في ذلك واحد، وهو أن الحاكم يلزمه أن يوقفه ويأمره بوطئها، ويؤجل له في ذلك أربعة أشهر من حين يحلف، سواء طلبت المرأة ذلك أو لم تطلب، رضيت بذلك أو لم ترض.

فإذا فاء في داخل الأربعة الأشهر فلا سبيل عليه، وإن أبى لم يعترض حتى تنقضى الأربعة الأشهر، فإذا تمت أجبره الحاكم بالوطء على أن يفئ فيجامع أو يطلق. حتى يفعل أحدهما كما أمره الله عز وجل؛ أو يموت قتيل الحق إلى مقت الله تعالى، إلا أن يكون عاجزرًا عن الجماع. لا يقدر عليه أصلًا، فلا يجوز تكليفه ما لا يطيق، لكن يكلف أن يفئ بلسانه، ويحسن الصحبة، والمبيت عندها، أو يطلق، لابد من أحدهما.

(1)

‌مذهب الزيدية:

العاجز عن الوطء يكلفه الحاكم متى قدر على الوطء، أو زوال عذره من غير العجز، كالتحريم لحيض أو نفاس. أو إحرام، أو نحو ذلك.

ولا يجوز للحاكم إمهال العاجز. إذا كانت مدة الإيلاء باقية بعد أن قدر على الوطء، أو زال العذر، إلا أن يزول عذر العجز أو التحريم، بعد مضى ما قيد به الإيلاء، فإنه يمهله حينئذ يومًا أو يومين، أو أقل أو أكثر، على ما يراه الحاكم، لأن المسألة اجتهادية، وبعدها يحبس.

(2)

‌مذهب الإمامية:

في كتاب "شرائع الإسلام": إن صبرت المظاهرة فلا اعتراض، وإن رفعت أمرها إلى الحاكم خيَّره بين التكفير والرجعة، أو الطلاق، وانظره ثلاثة أشهر من حين المرافعة، فإن انقضت المدة ولم يختر أحدهما ضيق عليه في المطعم والمشرب. حتى يختار أحدهما، ولا يجبره على الطلاق تضييقًا، ولا يطلق عنه.

(3)

(1)

المحلى، لأبى محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم جـ 10 ص 42. الطبعة الأولى. مطبعة النهضة بمصر سنة 1347 هـ.

(2)

كتاب التاج المذهب لأحكام المذهب جـ 2 ص 257، الطبعة الأولى سنة 1266 هـ. 1947 م.

(3)

شرائع الإسلام جـ 2 ص 76 من منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت. مطابع دار مكتبة الحياة.

ص: 228

‌مذهب الإباضية:

في "شرح النيل": إن حلف الرجل باسم من أسماء الله تبارك وتعالى، أو صفة من صفاته، أن لا يمس امرأته، فإنه يمهل مدة أربعة أشهر، فإن مس زوجته خلال ذلك متى شاء، يكفر كفارة يمين، وإن لم يمسها حتى مضت مدة الأربعة الأشهر بانت الزوجة منه.

(1)

وإن حلف لها بالله لا يمسها، أو بطلاقها، أو ظهارها، أو بعتق عبده: أو بماله للمساكين، أو بمشى للبيت الحرام، فلم يمس حتى مضت أربعة أشهر بانت.

والقائل: هي عليه حرام، أو كميتة من محرم شرعًا، إن لم يمسها حتى مضت بانت منه، فإن مس فيمين.

(2)

‌إمهال العنين

‌تعريف العنين:

قال الفقهاء إن العنين هو من لا يقدر على إتيان النساء مع قيام الآلة. من عُنَّ، إذا حبس في العنة، أي حظيرة الإبل.

وفى "تهذيب الأسماء واللغات: وقولهم في عيوب الزوج العُنَّة - بضم العين وتشديد النون - والرجل عنين - بكسر العين والنون - قال الأزهرى: قال أبو الهيثم: سمى العنين عنينًا لأنه يعن ذكره عن قبل المرأة من عنّ يمينه وشماله فلا يقصده. قال أبو عبيد عن الأموى: امرأة عنينة وهى التي لا تريد الرجال .. والعنين الذي لا يأتى النساء.

(3)

‌مذهب الحنفية:

إذا كان الزوج عنينًا أجَّله الحاكم سنة من وقت الخصومة، فإن وصل إليها، وإلا فرق بينهما إذا طلبت المرأة ذلك، لأن عمر كتب إلى شريح أن يؤجل العنين سنة من يوم يرفع إليه.

وكذلك أتت عمر امرأة فأخبرته أن زوجها لا يصل إليها، فأجله حولًا، فلما انقضى حول ولم يصل إليها خيَّرها. فاختارت نفسها: ففرق بينهما عمر، وجعلها تطليقة بائنة.

وذلك لأن الحق ثابت لها في الوطء، ويحتمل أن يكون الامتناع لعلة معترضة، ويحتمل أن يكون لآفة أصلية، فلابد من مدة معرفة لذلك، وقدرناها بسنة لاشتمالها على الفصول الأربعة.

فإِذا مضت المدة ولم يصل إليها، تبين أن العجز. بآفة أصلية، ففات الإمساك بالمعروف، ووجب عليه التسريح بإحسان، فإذا امتنع ناب القاضي منابه ففرق بينهما، وقيل: ينبغى أن يقدر السنة شمسية، أخذًا بالاحتياط، لأنه ربما يكون موافقة العلاج في الأيام التي يقع فيها التفاوت فيها بين السنة القمرية والشمسية.

(4)

ولو وجدت كبيرة زوجها الصغير عنينًا، ينتظر بلوغه. لأن للصبا أثرًا في عدم الشهوة. ولو

(1)

كتاب شرح النيل وشفاء العليل، لمحمد بن يوسف أطفيش، جـ 3 ص 443 طبع محمد بن يوسف البارونى وشركائه.

(2)

المرجع السابق، جـ 3 ص 446.

(3)

تهذيب الأسماء واللغات للإمام العلامة الفقيه الحافظ أبى زكريا محيى الدين بن شرف النووى جـ 3 ص 48 إدارة الطباعة المنيرية بمصر.

(4)

شرح فتح القدير تأليف الشيخ الإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسى ثم السكندرى المعروف بابن الهمام الحنفى جـ 3 ص 263 مطبعة مصطفى محمد صاحب المكتبة التجارية الكبرى بمصر.

ص: 229

وجدت زوجها المجنون عنينًا. فخاصم عنه وليه. يؤجل لسنة لأن الجنون لا يعدم الشهوة.

والخنثى إذا كان يبول من مبال الرجال، فتزوج امرأة فهو جائز. فإن وصل إليها. وإلا أجل كالعنين.

(1)

‌مذهب المالكية:

جاء في التاج والإكليل:

(2)

أنه يؤجل المعترض

(3)

سنة قال ابن عرفه من ثبت اعتراضه ولم يكن قد وطئ امرأته ولو مرة قال في المدونة وغيرها يؤجل سنة لعلاجه قال ابن القاسم إن رفعته مريضًا يؤجل حتى يصح الرواية في كتاب محمد ابتداء السنة من يوم ترفعه قال الباجى تحقيقه من يوم الحكم إذ قد يطول زمن إثباته قال ابن القاسم أن رفعته صحيحًا فلما أجله مرض لم يزد في أجله لمرضه لأنه حكم قد مضي والعبد يؤجل نصف سنة وصدق أن أدعى المعترض الوطء في السنة بيمينه فإن لكل حلفت وإلا بقيت قال ابن عرفة لو ادعى وطأه في السنة وصدقته بقيت زوجته وإن أكذبته صدق بيمين قال اللخمى قولًا واحدًا قال الباجى هو المشهور قال غير بن القاسم فإن نكل حلفت وفرق بينهما فإن نكلت بقيت زوجة.

قال ابن عرفة إذا ثبت عدم إصابته بعد الأجل وطلبت فراقه لم يكن لها أن تفارق ولكن يطلق عليه السلطان قال ابن حبيب وقال الباجى حكم الطلاق أن يأمر الزوج به فيوقع منه ما شاء فإن لم يفعل حكم عليه ولها فراقه بعد الرضا بلا أجل فقد روى من اعترض فأجل سنة فلما تمت قالت لا تطلقونى أنا أتركه لأجل آخر فلها ذلك ثم تطلق متى شاءت.

‌مذهب الشافعية:

في كتاب "الأم" للإمام الشافعي: الرجل إذا عجز عن إصابة زوجته. وإن كان يصيب غيرها أجل سنة، ثم يفرق بينهما القاضي إن شاءت

(4)

.

قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولم أحفظ عن مفتٍ لقيته خلافًا في أن تؤجل امرأة العنين سنة، فإن أصابها وإلا خُيِّرت في المقام معه أو فراقه.

ومن قال هذا قال: إذا نكح الرجل المرأة فكان يصيب غيرها ولا يصيبها، فلم ترتفع إلى السلطان فهما على النكاح. وإذا ارتفعت إلى السلطان فسألت فرقته أجله السلطان من يوم يرتفعان إليه سنة، فإن أصابها مرة واحدة فهى امرأته، إن لم يصبها خيرها السلطان. فإن شاءت فرقته فسخ نكاحها .. وإن شاءت المقام معه أقامت معه.

(5)

‌مذهب الحنابلة:

في كتاب "المغنى" لابن قدامة: العنين هو العاجز عن الإيلاج، فإذا كان الرجل كذلك فهو عيب به، ويستحق به فسخ النكاح، بعد أن تضرب له مدة يختبر فيها ويعلم حاله بها .. روى عن عمر أنه أجل العنين سنة.

(1)

المرجع السابق ص 264 و 266.

(2)

مواهب الجليل لشرح مختصر أبى الضياء سيدى خليل لأبى عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالمواق جـ 3 ص 488 وص 489 وما بعدها طبع مطبعة السعادة بمصر الطبعة الأولى سنة 1329 هـ.

(3)

يعرف المقرض هو الذي لا يقدر على الوطء لعارض وهو بصفة من يمكنه الوطء، وربما كان بعد وطء تقدم منه وربما كان الاعتراض عن امرأة دون أخرى اهـ. وجاء في ترتيب القاموس اعترض عن امراته أصابه عارض من الجن أو من مرض يمنعه عن إتيانها.

(4)

كتاب الأم جـ ص 96 طبعة دار الشعب.

(5)

المرجع السابق جـ 5 ص 35.

ص: 230

وإذا ادعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إليها أجل سنة منذ ترافعه، فإن لم يصبها فيها خيرت في المقام معه أو فراقه.

(1)

ومن علم أن عجزه عن الوطء لعارض من صغر أو مرض مرجو الزوال. لم تضرب له المدة، لأن ذلك عارض يزول. والعنة خلقة وجبلة لا تزول. وإن كان لكبر أو مرض لا يرجى له زواله ضربت له المدة لأنه في معنى من خُلق كذلك. وإن كان لجب أو شلل ثبت الخيار في الحال. لأن الوطء ميئوس منه، ولا معنى لانتظاره. وإن كان قد بقى من الذكر ما يمكن الوطء به؛ فالأولى ضرب المدة، لأنه في معنى العنين خلقة.

(2)

‌مذهب الظاهرية:

في "المحلى": من تزوج امرأة فلم يقدر عن وطئها، سواء كان وطئها مرة أو مرارًا أو لم يطأها قط، فلا يجوز للحاكم ولا لغيره أن يفرق بينهما أصلًا؛ ولا أن يؤجل له اجلًا، وهى امرأته، إن شاء طلق. وإن شاء أمسك.

(3)

ونقل ابن حزم أنه يؤجل عشرة أشهر، وفى رواية يؤجل سنة، فإن وصل إليها وإلا فرق بينهما ثم نقل القول في الرجل يتزوج المرأة، ثم يعرض له الداء، قال: هي امرأته لا تنزع عنه.

‌مذهب الزيدية:

جاء في التاج المذهب

(4)

قال المؤيد بالله وزيد بن علي والصادق والباقر وغيرهم من علماء الزيدية ويفسخ العنين وهو الذي تعذر عليه الجماع لضعف في إحليله وقد يكون من ابتداء الخلقة وقد يكون عارضا. وذهب القاسم والهادى وأبناء الهادى وأبو العباس وأبو طالب أنه لا يفسخ العنين وهو المختار للمذهب.

واختلف القائلون بفسخ العنين في تقدير تأجيله فقال المؤيد بالله لا يفسخ إلا بعد إمهاله سنة شمسية غير أيام العذر يعنى إذا عرض في تلك السنة التي أمهلها عذر يمنع من الوطء في العادة لم يحسب عليه مدة حصول ذلك بل يجب أن تُستكمل سنة لم يعرض في شئ منها عذر مانع ولا تحتسب أيام المرض والغيبة والنشوز بل يمهل مثل تلك المدة في الفصول الأربعة.

وجاء في شرح الأزهار

(5)

: أنه اختلف في تقدير التأجيل فقال الناصر يؤجل مدة يتبين حاله فيها ولم يقدر بسنة وقال المؤيد بالله وذكره للناصر في موضع آخر لا يفسخ إلا بعد إمهاله سنة شمسية غير أيام العذر لا قمرية والشمسية تزيد على القمرية بأحد عشر يومًا وإنما قدر بسنة لأنها تشتمل على الفصول الأربعة وهى الشتاء والربيع والصيف والخريف والطبائع

(1)

كتاب المغنى ج 7 ص 653 الطبعة الثالثة طبعة دار المنار بالقاهرة.

(2)

المرجع السابق، ص 670.

(3)

كتاب المحلى ج 10 ص 58 مطبعة النهضة بمصر سنة 1347 هـ.

(4)

التاج الذهب لأحكام المذهب شرح متن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار للقاضى العلامة أحمد بن قاسم العنسى اليماني الصنعانى ج 2 ص 66 ص 67 الطبعة الأولى سنة 1366 هـ 1947 م طبع مطبعة دار إحياء المكتبة العربية لعيسى البابى الحلبى وشركاه.

(5)

شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار للعلامة أبو الحسن عبد الله بن مفتاح ج 2 ص 200، ص 301 الطبعة الثانية طبعة مطبعة حجازى بالقاهرة سنة 1357 هـ.

ص: 231

تختلف باختلافها فلعلها تزول العنة في بعضها قال الفقيه يوسف بن أحمد بن عثمان فالشتاء بارد يابس والربيع حار لين والصيف حار يابس والخريف بارد لين غير أيام العذر يعنى إذا عرض في تلك السنة التي أمهلها عذر يمنع من الوطء في العادة لم يحسب عليه مدة حصول ذلك بل يجب أن يستكمل سنة لم يعرض في شئ منها عذر مانع ذكر معنى ذلك في الانتصار حيث قال ولا يحتسب بأيام المرض والغيبة والنشوز ويحتسب بأيام رمضان لأنه يمكنه الوطء ليلًا فإذا انقضت المدة ولم يطأها فهل يكفى فسخ المرأة أم لابد من فسخ حاكم فحكى في الزوائد عن المؤيد بالله واحد قول الناصر أنه يحتاج إلى حكم حاكم ولا يكفى فسخها قال الفقيه يوسف بن أحمد بن عثمان وهو الأقرب لأن المسألة خلافية وقال في الكافى عن زيد بن علي والناصر والمؤيد بالله لا يحتاج إلى حكم حاكم قال مولانا المهدى عليه السلام وهو الأقرب عندى لأنه عند هؤلاء من جملة العيوب وقد ذكر في فسخ العيوب أنه لا يحتاج إلى حاكم مع التراضى.

‌مذهب الإمامية:

جاء في كتاب "فقيه من لا يحضره الفقيه":

روى صفوان بن يحيى عن أبان بن غياث عن أبى عبد الله عليه السلام قال: في العنين إذا علم أنه عنين لا يأتى النساء فرق بينهما، وإذا وقع عليها وقعة واحدة لم يفرق بينهما.

(1)

‌مذهب الإباضية:

جاء في شرح النيل

(2)

: أن من العيوب التي يؤجل صاحبها من زوج أو زوجة لعلاج "الفتل وهو استرخاء الذكر بحيث يكون كالفتيلة ويجوز تقسيره بانسداد في ذكره وهو أولى" والرتق وهو التحام فرج المرأة كالصفاة لا شق فيه ولا يكون فيه جماع وفى القاموس الرتقة مصدر قولك امرأة رتقاء بينة الرتق لا يستطاع جماعها أي لضيق في فرجها أو لا خرق لها إلا المبال ويعالجان سنة بموسى أو غيرها وإذا فسرنا الفتل باسترخاء فعلاجه بغير القطع إلا إن ظهر للطبيب قطع شئ والمرأة تعالجها النساء أو زوجها وهو أولى وإنما تعالجها منهن أمها أو أختها وإن لم تحسنان فأجنبية، والرجل تعالجه الرجال ومن تعدى المعتاد ضمن وإنما أحل لهما سنة استيفاء لمرور الأزمنة الأربعة عليهما حرارة الصيف وبرودة الشتاء واعتدال الربيع والخريف، والعنين يؤجل سنة وقيل عشرة أشهر وقيل ستة وقيل سنة بالنون إن كان حديث عهد وخمسة أشهر أو شهرين إن قدم والأجل في ذلك كله من يوم الحكم.

(1)

كتاب "من لا يحضره الفقيه" تأليف أبى جعفر الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمى جـ 3 ص 357 الطبعة الخامسة. الناشر دار الكتب الإسلامية. طهران بازار سلطاني سنة 1390 هـ.

(2)

شرح النيل وشفاء العليل محمد بن يوسف أطفيش جـ 3 ص 244، ص 245، ص 246، وما بعدها طبع المطبعة الأدبية الطبعة الأولى سنة 1344 هـ طبع على ذمة صاحب الامتياز محمد بن يوسف البارونى وشركاء بمصر.

ص: 232

‌الإمهال في أحكام أخرى

‌التمهل في إنفاذ الحكم:

جاء في "المحلى": لا يحل التأنى في إنفاذ الحكم إذا ظهر، وهو قول الشافعي وأبى سليمان وأصحابنا.

وقال أبو حنيفة: إذا طمع القاضي أن يصطلح الخصمان فلا بأس أن يردهما المرة والمرتين فإن لم يطمع في ذلك فصل القضاء.

وقال مالك: لا بأس بترديد الخصوم، ثم رأى أن يجعل للمشهود عليه أو المدعى بينة غائبة أجل ثمانية أيام، ثم ثمانية أيام، ثم ثمانية أيام، ثم تلزم ثلاثة أيام، فذلك ثلاثون يومًا، لا يعد في الثمانية يوم تأجيل الحكم.

ثم رد ابن رحزم على مخالفيه ثم قال:

فمن حكم بالحق حين يبدو إليه فقد قام بالقسط، وأعان على البر والتقوى. وسارع إلى مغفرة من ربه. ومن تردد في ذلك فلم يسارع إلى مغفرة ربه، ولا قام بالقسط، ولا أعان على البر والتقوى

(1)

.

‌إمهال جاحد الصلاة:

كتاب في "المغنى" من كتب الحنابلة: من ترك الصلاة دعى إليها ثلاثة أيام، فإن صلى وإلا قتل، جاحدًا تركها أو غير جاحد.

(2)

‌إمهال الزوجة في الدخول على الزوج:

في كتاب "الأم" للشافعى: كل امرأة تحتمل ان تجامع تجبر على الدخول على زوجها، فإن كانت مع هذا مضناة من مرض لا يُجامع مثلها أُمهلت حتى تصير إلى الحال التي يجامع مثلها، ثم تجبر على الدخول، ومتى أمهلتها بالدخول لم أجبره على دفع الصداق.

(3)

‌إمهال الولى في الزواج إذا كان غائبًا:

في كتاب "المغنى" لابن قدامة الحنبلى عن الولى في الزواج:

"وظاهر كلام أحمد أنه إذا كانت الغيبة منقطعة أنه ينتظر ويراسل، حتى يقدم أو يوكل".

(4)

(1)

المحلى، جـ 9: ص 422 و 423، الطبعة الأولى.

(2)

كتاب المغني، ج 10 ص 85. الطبعة الأولى، مطبعة المنار بمصر سنة 1248 هـ.

(3)

كتاب الأم للإمام أبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعي جـ 5 ص 85 طبعة دار الشعب 1288 هـ - 1968 م.

(4)

كتاب المغنى على مختصر الخرقى، جـ 6 ص 479. الطبعة الثالثة، مطبعة دار المنار بمصر. سنة 1367 هـ.

ص: 233

‌بحث مصطلح "أمين

"

‌المعنى اللغوى:

أمين هو الاسم الذي مادته أمن: جاء في لسان العرب:

(1)

الأمان والأمانة بمعنى وقد أمنت فأنا آمن وأمنت غيرى من الأمن والأمان. والأمن ضد الخوف. والأمانة ضد الخيانة والإيمان ضد الكفر، والإيمان بمعنى التصديق ضده التكذيب يقال آمن به قوم وكذب به قوم، فأما آمنته المتعدى فهو ضد أخفته وفى التنزيل العزيز قال الله تعالى {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}

(2)

قال ابن سيده الأمن نقيض الخوف، والأمنة: الأمن ومنه قول الله تبارك وتعالى {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}

(3)

في الحديث الشريف "النجوم آمنة السماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد" وأنا أمنة لأصحابى فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابى أمنة لأمتى فإذا ذهب أصحابى أتى الأمة ما توعد، أراد بوعد السماء انشقاقها وذهابها يوم القيامة وذهاب النجوم تكويرها وانكدارها واعدامها وأراد بوعد أصحابه ما وقع بينهم من الفتن وكذلك أراد بوعد الأمة، قال ابن الأثير: والأمنة في هذا الحديث جمع أمين وهو الحافظ وقول الله عز وجل: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}

(4)

، قال أبو إسحاق أراد ذا أمن وعن اللحيانى: رجل أمن وأمين بمعنى واحد وفى القرآن الكريم {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}

(5)

أي الآمن، والأمين المؤتمن والأمين المؤتمن من الأضرار وفى الحديث المؤذن مؤتمن بمعنى أن المؤذن أمين الناس على صلاتهم وصيامهم.

‌التعريف عند الفقهاء:

لم يخرج الفقهاء في استعمالهم للفظ أمين بمعنى المؤتمن على الشيء عن المعنى اللغوى ومن ذلك ما جاء في المهذب

(6)

: في باب الوكالة: الوكيل أمين فيما في يده من مال الموكل فإن تلف في يده من غير تفريط لم يضمن لأنه نائب عن الموكل في اليد والتصرف فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد الموكل فلم يضمن، ومن ذلك ما جاء في كشاف القناع:

(7)

في باب العارية: أنه لو غطى ضيفه بنحو لحاف فتلف لم يضمنه وكذا رديف رب الدابة بأن أركب إنسانًا خلفه فتلفت الدابة تحتهما، لم يضمن الرديف شيئا لأن الدابة بيد مالكها وكذا مروض الدابة وهو الذي يعلمها السير إذا تلفت تحته لم يضمنها لأنه أمين وكذا وكيل رب الدابة إذا تلفت في يده لم يضمنها ومن ذلك ما جاء في بدائع الصنائع

(8)

: في باب اللقطة أن للقطة بعد الأخذ حالين. في حال هي أمانة وفى حال هي مضمونة أما حالة الأمانة

(1)

لسان العرب للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقى المصرى جـ 54 ص 21 وما بعدها طبع مطابع دار صادر دار بيروت للطباعة والنشر الطبعة الأولى سنة 1357 هـ سنة 1956 م.

(2)

الآية رقم 4 من سورة قريش.

(3)

الآية رقم 11 من سورة الأنفال.

(4)

الآية رقم 125 من سورة البقرة.

(5)

الآية رقم 3 من سورة التين.

(6)

المهذب للشيخ الإمام الموفق أبى إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز ابادى الشيرازى جـ 1 ص 357 في كتاب وضع بأسفله النظم المستعذب في شرح غريب المهذب للعلامة. محمد بن أحمد بن بطال الركبى طبع بمطبعة عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1295 هـ.

(7)

كشاف القناع على متن الإقناع جـ 2 ص 336، ص 237.

(8)

بدائع الصناع في ترتيب الشرائع للكاسانى جـ 6 ص 211.

ص: 234

فهى أن يأخذها لصاحبها لأنه أخذها على سبيل الأمانة فكانت يده يد أمانة كالمودع، ومن ذلك ما جاء في الخرشى:

(1)

في باب الرهن أن للأمين الموضوع تحت يده الرهن أن يستقل ببيع الرهن إذا أذن له الراهن في بيعه عند عقد الدين الذي بسببه الرهن أو بعده لأنه محض توكيل سالم عن توهم إكراه فيه، ومن ذلك ما جاء في الروضة البهية

(2)

في باب الشركة: أن الشريك أمين على ما تحت يده من المال المشترك المأذون له في وضع يده عليه لا يضمن إلا بتعد وهو فعل ما لا يجوز فعله في المال أو تفريط وهو التقصير في حفظه وما يتم به صلاحه ويقبل يمينه في التلف لو ادعاه بتفريط وغيره.

‌الأمين في الوكالة

‌مذهب الحنفية:

جاء في بدائع الصنائع

(3)

عند الكلام على أحكام الوكالة أن المقبوض في يد الوكيل بجهة التوكيل بالبيع والشراء وقبض الدين والعين وقضاء الدين أمانة بمنزلة الوديعة لأن يده يد نيابة عن الموكل بمنزلة يد المودع فيضمن بما يضمن في الودائع ويبرأ بما يبرأ فيها ويكون القول قوله في دفع الضمان عن نفسه، ولو دفع إليه مالا وقال: اقضه فلانا عن دينى فقال الوكيل: قد قضيت صاحب الدين فادفعه إلى، وكذبه صاحب الدين فالقول قول الوكيل في براءة نفسه عن الضمان والقول قول الطالب في أنه لم يقبضه حتى لا يسقط دينه عن الموكل لأن الوكيل أمين فيصدق في دفع الضمان عن نفسه ولا يصدق على الغريم في إبطال حقه وتجب اليمين على أحدهما لا عليهما لأنه لابد للموكل من تصديق أحدهما وتكذيب الآخر فيحلف المكذب منهما دون المصدق، فإن صدق الوكيل في الدفع يحلف الطالب بالله عز وجل ما قبضه فإن حلف لم يظهر قبضه ولم يسقط دينه وإن نكل ظهر قبضه وسقط دينه عن الموكل وإن صدق الطالب أنه لم يقبضه وكذب الوكيل يحلف بالله تعالى لقد دفعه إليه فإن حلف برئ وإن نكل لزمه ما دفع إليه، وفى المبسوط:

(4)

إذا أمر الرجل رجلا ببيع عبد له ودفعه إليه فقال الوكيل قد بعته من هذا وقبضت الثمن وهلك عندى وادعى المشترى ذلك فهو جائز والوكيل مصدق فيه مع يمينه لأنه مسلط على البيع وقبض الثمن وقد أخبر بما جعل مسلطا عليه في حال قيام التسليط ولا تتمكن التهمة في خبره وهو أمين بما دفع إليه فإذا أخبر بأداء الأمانة فيه كان القول قوله مع يمينه، وإن كان الآمر قد مات وقال ورثته لم نسمع وقال الوكيل قد بعته من فلان بألف درهم وقبضته وهلك عندى وصدقه المشترى فإن كان العبد قائما بعينه لم يصدق الوكيل بالبيع لأنه أخبر به في حال لا يملك إنشاءه فإنه قد انعزل بموت الآمر ولأن العبد صار ملك الوارث في

(1)

الخرشي علي مختصر خليل جـ 5 ص 253، ص 254.

(2)

الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية للشهيد السيد زين الدين الجعلى العاملى جـ 1 ص 379، ص 380.

(3)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين أبى بكر بن مسعود الكاسانى جـ 6 صـ 34 وما بعدها طبع مطبعة الجمالية بمصر.

(4)

المبسوط للإمام شمس الدين السرخسى جـ 19 من 49 طبع مطبعة السعادة بمصر الطبعة الأول.

ص: 235

الظاهر ولم يسلطه الوارث على إزالة ملكه فلا قول له في ذلك بخلافه حال حياة الآمر ولكن إن أقام المشترى البينة على الشراء في حياة الآمر كان العبد له وإلا فهو للورثة مع يمينهم على العلم فإذا أخذت الورثة العبد ضمن الوكيل المال للمشترى بإقراره يقبضه منه عوضا عن اليمين وقد استحق العبد من يد المشترى فكان ضامنا له ما قبض من الثمن وإن كان العبد مستهلكا فالوكيل يصدق بعد أن يحلف استحسانا وفى القياس لا يصدق لأنه قد ينعزل بموت الآمر ووجه الاستحسان أن الوكيل بما يخبر هنا ينفى الضمان عن نفسه وهو كان أمينا في هذا العبد فيكون قوله مقبولا مع يمينه فيما ينفى الضمان به عن نفسه. ولو وكل رجل رجلا ببيع عدل

(1)

فباعه وقبضه المشترى ثم رده على البائع بخيار الرؤية فقال الآمر ليس هذا عدلى فالقول قول الوكيل مع يمينه لأنه كان أمينا فيه وبعد ما رد عليه بخيار الرؤية عاد أمينا كما كان فالقول في تعيين الأمانة قوله، ولو وكله ببيع شئ مما يكال أو يوزن فباع بعضه دون بعض جاز لأن هذا مما لا يضره التبعيض فلا ضرر على الموكل في بيع بعضه، وضمان الوكيل ثمن ما باعه للآمر باطل لأن حق القبض في الثمن للوكيل فلو صح ضمانه عن المشترى كان ضامنا لنفسه إذ لا حق للموكل على المشترى وضمان المرء لنفسه باطل ولأنه أمين فيما يقبض من الثمن فيما بينه وبين الآمر فلو صحت كفالته للآمر صار ضامنا، وبين كونه أمينا وبين كونه ضامنا في الشئ الواحد منافاة، وكذلك المضارب وكل مال أصله الأمانة

(2)

. وإذا وكل الوصى وكيلا بدفع دين على الميت أو وصية إلى صاحبها فهو جائز لأنه يملك مباشرة الدفع بنفسه فيستعين فيه بغيره أيضا ولو وكل وكيلا وسماه في هذا الكتاب فدفع بغير بينة ولم يكتب براءة فلا ضمان عليه لأنه أمين في المال المدفوع والقول قول الأمين في براءة ذمته مع اليمين إلا أن يكون مما لا يدفع إلا بشهود فحينئذ يضمن إذا دفع بغير شهود لأنه نهاه عن الدفع واستثنى دفعا بصفة وهو أن يكون بشهود فإذا دفع بغير شهود فهذا الدفع لم يكن مأمورا به فصار غاصبا ضامنا وإن قال الوكيل قد أشهدت وجحد الطالب أن يكون قبض ولم يكن للوكيل شهود إلا يقوله أشهدت كان الوكيل بريئا من الضمان بعد أن يحلف على ذلك لأنه أخبر بأداء الأمانة فالقول قوله مع يمينه.

‌مذهب المالكية:

(3)

جاء في الخطاب أن كل من يصدق في دعواه الرد من وكيل أو مودع فليس له أن يؤخر الدفع إذا طولب بدفع ما عنده ويعتذر بالإشهاد لأنه مصدق في دعواه الرد من غير إشهاد وقوله صدق في الرد أي مع يمينه وسواء كان بقرب ذلك بالأيام اليسيرة أو طال سواء كان مفوضا إليه أم لا هذا قول مالك من سماع ابن القاسم من كتاب الوكالات ومذهب المدونة قاله في آخر كتاب الوكالات وفى المسألة أربعة أقوال ذكرها ابن رشد في كتاب الوديعة من المقدمات ونقله

(1)

المرجع السابق جـ 19 صـ 52 الطبعة السابقة.

(2)

المرجع السابق جـ 19 ص 71 الطبعة السابقة.

(3)

من كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل وبهامشه التاج والإكليل لمختصر خليل أيضا جـ 5 ص 210 طبع مطبعة دار السعادة بمصر سنة 1328 هـ.

ص: 236

ابن عرفة وابن عبد السلام والمصنف في كتاب التوضيح ونص كلام ابن رشد اختلف في الوكيل يدعى أنه دفع إلى موكله ما قبض له من الغرماء أو ما باع به متاعه على أربعة أقوال أحدها أن القول قوله مع يمينه جملة من غير تفصيل وهو قوله في هذه الرواية. والثانى أنه إن كان بقرب ذلك بالأيام اليسيرة فالقول قول الموكل أنه ما قبض شيئا وعلى الوكيل البينة وإن تباعد الأمر كالشهر ونحوه فالقول قول الوكيل مع يمينه وإن طال الأمر جدا لم يكن على الوكيل بينة وهو قول مطرف. والثالث إن كان بحضرة ذلك في الأيام اليسيرة صدق الوكيل مع يمينه وإن طال الأمر جدا صدق دون يمين وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم. والرابع تفرقة أصبغ بين الوكيل عل شئ بعينه غارم حتى يقيم البينة طال الأمر والوكيل المفوض يصدق في القرب مع يمينه وفي البعد دون يمين وقال القاضي عبد الوهاب في شرح قول الرسالة ومن قال رددت إليك ما وكلتنى عليه هذا لأن الوكيل والمودع والرسول مؤتمنون فيما بينهم وبين الموكل والمودع والمرسل فإذا ذكروا أنهم ردوا ما دفع إليهم إلى أربابه قبل ذلك منهم لأن أرباب الأموال قد ائتمنوهم على ذلك فكان قولهم مقبولا فيما بينهم وبينهم وكذلك العامل في القراض مؤتمن في رد القراض ما بينه وبين المالك إلا أن يكون واحدا منهم أخذ المال ببينة فلا تبرئه دعوى رده إلا أن يكون له بينة لأن رب المال حينئذ لم يأتمنه لما استوثق منه بالبينة ونقله عنه الزناتى وهو نص كتاب الوديعة من المدونة إلا الوكيل ونص عليه أيضا الفاكهانى والمشذالى وأما العارية فقال ابن رشد في المقدمات إن له أن يشهد على المعير في رد العارية عليه وإن كان دفعها إليه بلا إشهاد لأن العارية تضمن والوديعة لا تضمن وفى الخرشى

(1)

قال إن الوكيل غير المفوض إذا وكل على قبض حق فقال قبضته وتلف منى فإنه يبرأ لموكله من ذلك لأنه أمين وأما الغريم الذي عليه الدين فإنه لا يبرأ من الدين إلا إذا أقام بينة تشهد له أنه دفع الدين إلى الوكيل المذكور ولا تنفعه شهادة الوكيل لأنها شهادة على فعل نفسه وإذا غرم الغريم فإنه يرجع بذلك على الوكيل إلا أن يتحقق تلفه من غير تفريط منه وأما الوكيل المفوض إليه ومثله الوصى إذا أقر كل منهما بأنه قبض الحق لموكله أو ليتيمه ثم قال بعد ذلك تلف منى فإنه يبرأ من ذلك وكذلك الغريم يبرأ من الدين ولا يحتاج إلى إقامة بينة لأن المفوض جعل له الإقرار والوصى مثله وللغريم تحليف الموكل على عدم العلم بدفعه إلى الوكيل وعدم وصول المال إليه.

‌مذهب الشافعية:

جاء في المهذب:

(2)

أن الوكيل أمين فيما في يده من مال الموكل فإن تلف في يده من غير تفريط لم يضمن لأنه نائب عن الموكل في اليد والتصرف فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد الموكل فلم يضمن وإن وكله في بيع سلمة وقبض ثمنها فباعها وقبض ثمنها وتلف الثمن واستحق

(1)

من كتاب الخرشى لأبى عبد الله محمد الخرشى على مختصر خليل وبهامشه حاشية الشيخ العدوى جـ 6 صـ 81، صـ 82 طبع الطبعة الكبرى الأميرية ببولاق سنة 1217 هـ الطبعة الثانية.

(2)

المهذب للإمام الزاهد الموفق أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز ابادى الشيرازى جـ 1 ص 357 في كتاب وضع بأسفله النظم المستعذب في شرح غريب المهذب للعلامة محمد بن أحمد بن بطال الركبى طبع مطبعة عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1295 هـ

ص: 237

المبيع رجع المشترى بالثمن على الموكل لأن البيع له فكان الرجوع بالعهدة عليه كما لو باع بنفسه ولا ينعزل

(1)

الوكيل: بالتعدى بغير إتلاف الموكل فيه في الأصح لأن الوكالة إذن في التصرف والأمانة حكم يترتب عليها ولا يلزم من ارتفاعها ارتفاع أصلها كالرهن والثانى ينعزل كالمودع ورد بأن الوديعة محض ائتمان ومحل هذا الوجه بالفعل فإن تعدى بالقول كما لو باع بغبن فاحش ولو بسلم لم ينعزل جزما لأنه لم يتعد فيما وكل فيه ونحوه في الكفاية عن البحر نعم لو كان وكيلا عن ولى أو وصى انعزل كما بحثه الأذرعى وغيره كالوصى يفسق إذ لا يجوز إبقاء مال محجور بيد غير عدل وهو محمول على عدم بقاء المال في يده أما بالنسبة إلى عدم بقائه وكيلا فلا لعدم كونه وليا فلا يمتنع عليه الإتيان بالتصرف الموكل فيه ولا ينافيه ما مر من أن الولى لا يوكل في مال المحجور عليه فاسقا لأن ذاك بالنسبة للابتداء ويغتفر هنا طروء فسقه إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ويزول ضمانه عما تعدى فيه ببيعه وتسليمه ولا يضمن ثمنه لانتفاء تعديه فيه فلو رد عليه بعيب مثلا بنفسه أو بالحاكم عاد الضمان مع أن العقد قد يرتفع من حينه على الراجح غير أنا لا نقطع النظر عن أصله بالكلية فلا يشكل بما لو وكل مالك المغصوب غاصبه في بيعه طباعه فإنه يبرأ ببيعه وإن لم يخرج من يده حتى لو تلف في يده قبل قبض مشتريه لم يضمنه لوضوح الفرق بينهما وهو قوة يد الوكيل الذي طرأ تعديه لكونه نائبا عن الموكل في اليد والتصرف مع كونها يد أمانة فكأنها لم تزل وضعف يد الغاصب لتعديه فليست بيد شرعية فانقطع حكمها بمجرد زوالها وتقدم أنه لو اعتدى بسفره بما وكل فيه وباعه فيه ضمن ثمنه إن تسلمه وعاد من سفره فيستثنى مما مر، ولو امتنع الوكيل من التخلية بين الموكل والمال بعذر، يضمن وإلا ضمن كالمودع ولو قال له بع هذا ببلد كذا واشتر لى بثمنه قنا جاز له إيداعه في الطريق أو المقصد عند حاكم أمين ثم أمين إذ العمل غير لازم له ولا تغرير منه بل المالك هو المخاطر بماله ومن ثم لو باعه لم يلزمه شراء القن ولو اشتراه لم يلزمه رده بل له ايداعه عند من ذكر وليس له رد الثمن حيث لا قرينة ظاهرة تدل على رده فيما يظهر لأن المالك لم يأذن له فيه فإن فعل فهو في ضمانه إلى وصوله لمالكه. وجاء في موضع آخر

(2)

أنه لو أذن الموكل في التوكيل وقال للوكيل وكل على نفسك ففعل فالثانى وكيل الوكيل على الأصح لأنه مقتضى الإذن وللموكل عزله أيضا كما أفهمه وجعله وكيل وكيله إذ من ملك عزل الأصل ملك عزل فرعه بالأولى وعبارة الشيرازى تفهم ذلك فلا اعتراض عليه والأصح على الأصح السابق أنه أي الثاني ينعزل بعزله أي الأول إياه وانعزاله بنحو موته أو

(1)

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج جـ 5 صـ 48، ص 49، ص 50 لشمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملي المصرى الأنصارى والشهير بالشافعي الصغير في كتاب بحاشيته حاشية أبي الضياء نور الدين على بن علي الشبراملسى القاهرى وبالهامش حاشية أحمد بن عبد الرازق بن محمد بن أحمد المعروف بالمغربي الرشيدى طبع مطبعة شركة مكتبة ومطبعة البابى الحلبى وأولاده بمصر سنة 1357 هـ سنة 1938 م.

(2)

المرجع السابق جـ 5 ص 39، ص 40 نفس الطبعة المتقدمة.

ص: 238

جنونه أو عزل الموكل له لأنه نائبه وسيعلم من كلامه فيما ينعزل به الوكيل أنه ينعزل بغير ذلك والثانى لا ينعزل بذلك بناء على أنه وكيل عن الموكل وإن قال وكل عنى وعين الوكيل أولا ففعل فالثانى وكيل الموكل لأنه مقتضى الإذن وكذا إن أطلق بأن لم يقل عنك ولا عنى في الأصح إذ توكيله للثالث تصرف تعاطاه بإذن الموكل وجب وقوعه عنه والثانى أنه وكيل الوكيل وكأنه قصد تسهيل الأمر عليه كما لو قال الإمام أو القاضي لنائبه استنب فاستناب فإنه نائب عنه لا عن منيبه وفرق الأول بأن الوكيل ناظر في حق موكله فحمل الإطلاق عليه وتصرفات القاضي للمسلمين فهو نائب عنهم ولذا نفذ حكمه لمستنيبه وعليه فالفرض بالاستنابة معاونته وهو راجع له قلت وفي هاتين الصورتين وهما إذا قال عنى أو أطلق لا يعزل أحدهما الآخر ولا ينعزل بانعزاله لانتفاء كونه وكيلا عنه وحيث جوزنا للوكيل التوكيل عنه أو عن الموكل يشترط أن يوكل أمينا كافيا لذلك التصرف وإن عين له الثمن والمشترى إذ شرط الاستنابة عن الغير المصلحة إلا أن يعين الموكل غيره أي الأمين فيتبع تعيينه لإذنه فيه نعم لو علم الوكيل فسقه دون موكله لم يوكله فيما يظهر كما بحثه الإسنوى كما لا يشترى ما عينه موكله ولم يعلم عيبه والوكيل يعلمه فإن عين له فاسقا فزاد فسقه امتنع توكيله أيضا كما بحثه الزركشى أخذا مما مر في نظيره في عدل الرهن لو زاد فسقه ومحل ما تقرر فيمن وكل عن نفسه فإن وكل عن غيره كولي لم يوكل إلا عدلا ومقتضى كلام المصنف عدم توكيل غير الأمين وإن قال له وكل من شئت وهو كذلك خلافا للسبكى وفارق ما لو قالت لوليها زوجنى ممن شئت حيث جاز له تزويجها من غير كفء بأن المقصود هنا حفظ المال وحسن التصرف فيه وغير الأمين لا يتأتى منه ذلك ومن ثم مجرد صفة كمال هي الكفاءة وقد يتسامح بتركها بل قد يكون غير الكفء أصلح ولو وكل الوكيل أمينا في شئ من الصورتين المتقدمتين ففسق لم يملك الوكيل عزله في الأصح والله أعلم لأنه أذن في التوكيل دون العزل والثانى نعم لأن الإذن في التوكيل يقتضى توكيل الأمناء فإذا فسق لم يجز استعماله فيجوز عزله.

‌مذهب الحنابلة:

جاء في كشاف القناع

(1)

: الوكيل أمين لا ضمان عليه فيما تلف في يده من ثمن ومثمن وغيرهما بغير تفريط ولا تعد لأنه نائب المالك في اليد والتصرف فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد المالك كالمودع سواء كان بجعل أم لا حتى لو كان له دين ولآخر عليه دين فوكله في قبض دينه وأذن له أن يستوفى حقه منه فتلف المال قبل استيفائه فإن لا يضمنه فلو قال الوكيل بعت الثوب وقبضت الثمن فتلف فأنكر البيع الموكل أو قال الوكيل بعته ولم أقبض شيئا فالقول قول الوكيل بيمينه لأنه لا يملك البيع والقبض فقبل قوله فيهما كالولى ولأنه أمين وتتعذر اقامة البينة على ذلك فلا يكلفها كالمودع، أو اختلف الوكيل والموكل في تعديه أو تفريطه في الحفظ

(1)

كشاف القناع عن متن الإقناع للشيخ منصور بن إدريس الحنبلى وبهامشه شرح المنتهى للشيخ منصور بن يونس البهوتى جـ 2، ص 245، ص 246، ص 247 طبع المطبعة العامرة الشرقية سنة 1319 هـ الطبعة الأولى.

ص: 239

أو اختلفا في مخالفة الوكيل أمر موكله فقول وكيل بيمينه لأن الأصل براءته فدعوى التعدى والتفريط مثل أن يدعى الموكل أنك حملت على الدابة فوق طاقتها أو حملت عليها شيئًا لنفسك أو فرطت في حفظها أو لبست الثوب ونحو ذلك أو قال الموكل للوكيل أمرتك برد المال فلم تفعل ذلك أو يدعى الوكيل الهلاك من غير تفريط ونحو ذلك وأنكره الموكل فقول وكيل مع يمينه لأنه أمين، وكذا. أي كالوكيل في ذلك كل من كان بيده شئ لغيره على سبيل الأمانة كالأب والوصى وأمين الحاكم والشريك والمضارب والمرتهن والمستأجر والمودع يقبل قولهم في التلف وعدم التفريط والتعدى ويقبل إقرار الوكيل بأنه تصرف في كل ما وكل فيه لأن من ملك شيئا ملك الإقرار به ولو كان وكل في عقد نكاح وأقر بالعقد قبل منه كغيره، ولو وكل بشراء عبد فاشتراه واختلف في قدر الثمن فقال الوكيل اشتريته بألف فقال الموكل بل بخمسمائة فقول الوكيل لأنه أمين وأدرى بما عقد عليه وإن اختلفا في ردعين وكل فيها أو في رد ثمنها إلى موكل فقول وكيل مع يمينه إن كان الوكيل مبتدعا بعمله لأنه قبض المال لنفع مالكه فقط فقيل قوله فيه كالوصى والمودع المتبرع وكذا وصى وعامل وقف وناظره إذا كانوا متبرعين فالقول قولهم بيمينهم لا إن كانوا يجعل فيهن أي في مسائل دعوى الوكيل والوصى وعامل الوقف وناظره وأجير ومستأجر ونحوه من كل من قبض العين لحظه فلا تقبل دعواه الرد وتقدم: إذا ادعوا رد العين في الرهن كالمستعير ولا يقبل قول وكيل في رد ما ذكر من العين أو الثمن إلى ورثة موكل لأنهم لم يأتمنوه ولا يقبل قول ورثة وكيل في دفعه إلى موكل لأنه لم يأتمنهم ولا يقبل قول ورثة الوكيل في الرد إلى ورثة الموكل لما تقدم ولا يقبل قول وكيل في دفع مال الموكل إلى غير من ائتمنه بإذنه بأن دفع إليه دينارا مثلا ليقرضه لزيد ويقول الوكيل دفعته إلى زيد وينكره لأنه ليس أمينا للمأمور بالدفع إليه فلا يقبل قوله في الدفع إليه كالأجنبى قال في الفروع فلا يقبل قوله في دفع المال إلى غير ربه وإطلاقهم ولا في صرفه في وجوه عينت له من أجرة لزمته. وذكره الآمدى واليعداوى انتهى. وفى القواعد يقبل قول الوكيل على الصحيح من المذهب. واختاره أبو الحسن التميمى. وكذا ولا يقبل قول كل من ادعى الرد إلى غير من ائتمنه جزم به في الرعاية الكبرى. ومن ادعى من وكيل ومرتهن ومضارب ومودع التلف بحادث ظاهر كحريق ونهب جيش ونحوه لم يقبل قوله إلا ببينة تشهد بوجود الحادث في تلك الناحية لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه غالبا ولأن الأصل عدمه ثم يقبل قول من ذكر من وكيل ومرتهن ومضارب ومودع في التلف بيمينه بخلاف ما لو ادعى أحدهم التلف وأطلق أو أسنده إلى خفى كنحو سرقة. ولا ضمان على وكيل بشرط بأن قال له وكلتك بشرط ضمان ما يتلف منك فإذا تلف منه شئ بغير تفريط لم يضمنه لأنه أمين والشرط لاغ لأنه ينافى مقتضى العقد وإن قال وكيل أو مضارب لرب المال أذنت لي في البيع نساء أي إلى أجل أو قال أذنت لي في الشراء بكذا أو قال وكيل أذنت لي في البيع بغير نقد البلد فأنكره الموكل أو قال الوكيل وكلتنى في شراء عبد فقال الموكل بل وكلتك في شراء أمة فقول وكيل. أو

ص: 240

اختلف الوكيل والمضارب مع رب المال في صفة الإذن في الوكالة أو المضاربة فقول الوكيل والمضارب بيمينهما لأنهما أمينان في التصرف فقبل قولهما كالخياط ولو وكله في بيع نحو عبد فباعه الوكيل نسيئة فقال الموكل ما أذنت لك في بيعه إلا نقدا فصدقه الوكيل والمشترى في ذلك فسد البيع للمخالفة وللموكل مطالبة من شاء من الوكيل والمشترى للعبد إن كان باقيا وبقيمته إن تلف أما طلبه للوكيل فلكونه حال بينه وبين ماله وأما المشترى فلوضعه يده على ماله بغير حق القرار على المشترى فإن أخذ الموكل القيمة من الوكيل رجع الوكيل على المشترى بها أي بالقيمة لحصول التلف في يده وإن أخذ الموكل القيمة من المشترى لم يرجع المشترى على أحد بها لاستقرارها عليه، وإذا قبض الوكيل ثمن المبيع حيث جاز له فهو أمانة في يده لا يلزمه تسليمه قبل طلبه ولا يضمنه إذا تلف بتأخيره كالوديعة بخلاف الثوب الذي أطارته الريح إلى داره لأن الوكيل مأذون في القبض صريحًا أو ضمنًا بخلاف صاحب الدار فإن أخر الوكيل رد الثمن بعد طلب الموكل الثمن مع امكان الرد فتلف الثمن ضمنه الوكيل لتعديه بإمساكه بعد الطلب وتمكنه منه وإن تلف قبل التمكن من رده لم يضمنه لأنه لا يعد مفرطا وإن طلب الموكل الثمن من الوكيل ووعده الوكيل رده ثم ادعى الوكيل أنى كنت رددته قبل طلب الموكل أو أن الثمن كان تلف قبل طلبه لم يقبل قوله لأنه رجوع عن إقرار بحق آدمى فلم يقبل، ولو كان ببينة أقامها الوكيل لأن وعده برده يتضمن تكذيبها وإن صدقه الموكل في أنه كان رده أو تلف برئ الوكيل لاعتراف رب الحق ببراءته وإن لم يعد الوكيل الموكل برد الثمن لكنه منعه الوكيل أو مطله بالثمن مع إمكانه ثم ادعى الرد أو التلف لم يقبل قوله لأنه صار كالغاصب فلا يبرأ بدعواء ذلك لكن في دعوى التلف يقبل منه ويغرم القيمة كالغاضب إلا أن يدعى الوكيل ذلك ببينة فيعمل ببينته إذا شهدت بالرد مطلقا أو بالتلف قبل المنع أو المطل وإلا ضمن كالوديع، وإن أنكر الوكيل قبض المال ثم ثبت القبض ببينة أو اعتراف الوكيل به فادعى الوكيل الرد أو التلف لم يقبل قوله ولو أقام بالرد والتلف بينة لأنه كذبها بإنكار القبض ابتداء: فإن كان جحود الوكيل القبض بقوله إنك لا تستحق على شيئا أو بقوله مالك عندى شئ أو نحوه مما ليس بصريح في إنكار القبض ابتداء سمع قول الوكيل في دعوى التلف أو الرد لأنه لا ينافى جوابه المذكور إلا أن يدعى الوكيل رده أو تلفه بعد قوله ما لك عندي شيء فلا يسمع قوله لمنافاته جوابه لكن في مسألة التلف يقبل قوله بيمينه بالنسبة لغرم البدل، وإن قال وكلتني أن أتزوج لك فلانة ففعلت أي تزوجتها لك وصدقته المرأة أنه تزوجها له فأنكر المدعى عليه أن يكون وكله بأن قال ما وكلتك فقول المنكر لأنهما اختلفا في أصل الوكالة فقبل قول المنكر لأن الأصل عدمها ولم يثبت أنه أمينه

(1)

حتى يقبل قوله عليه بغير يمين نص عليه لأن الوكيل يدعى حقا لغيره ومقتضاه أنه يستحلف إذا ادعته المرأة صرح به في المغني لأنها تدعى الصداق في ذمته فإذا حلف لم يلزمه شئ ويلزم الموكل تطليقها إذا لم يتزوجها لإزالة الاحتمال لأنه يحتمل صحة دعواها فيتنزل منزلة

(1)

المرجع السابق جـ 2 ص 248 الطبعة السابقة.

ص: 241

النكاح الفاسد ولا يلزم الوكيل شئ من الصداق لتعلق حقوق العقد بالموكل هذا إن لم يضمنه فإن ضمنه فلها الرجوع عليه بنصفه لضمانه عنه. ولو مات أحدهما لم يرثه الآخر لأنه لم يثبت نكاحها فترثه وهو منكر إنها زوجته فلا يرثها فإن ادعت النكاح المرأة فأنكره المدعى عليه حلف المدعى عليه وبرئ لأن الأصل عدمه وإنما حلف لأنها تدعى الصداق في ذمته وهو يذكره ولو ادعى إنسان أن فلانا الغائب وكله في تزويج امرأة فتزوجها له ثم مات الغائب لم ترث الغائب المرأة لعدم تحقق صحة النكاح إذ لا يقبل قوله أنه وكله إلا بتصديق الورثة أو إلا أن يثبت ببينة أنه وكله فترثه وإن أقر الموكل بالتوكيل في التزويج وأنكر الموكل أن يكون الوكيل تزوج له فالقول قول الوكيل فيثبت التزويج لأنه مأذون له أمين قادر على الإنشاء وهو أعرف. وإن وكله أن يتزوج له امرأة فتزوج الوكيل له غيرها لم يصح العقد للمخالفة أو تزوج إنسان له أي لآخر بغير إذنه فالعقد فاسد لو أجازه المعقود له كبيع الفضولى.

‌مذهب الظاهرية:

جاء فى المحلى لابن حزم الظاهرى:

(1)

لا يحل للوكيل تعدى ما أمره به موكله فإن فعل لم ينفذ فعله فإن فات ضمن لقول الله تعالى:

(2)

{ولا تعتدوا إنه لا يحب المعتدين} ولقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}

(3)

فوجب من هذا أن من أمره موكله بأن يبتاع له شيئا بثمن مسمى أو يبيعه له بثمن مسمى فباعه أو ابتاعه بأكثر أو بأقل ولو بفلس فما زاد لم يلزم الموكل ولم يكن البيع له أصلا ولم ينفذ البيع لأنه لم يؤمر بذلك فلو وكله على أن يبيع له أو يبتاع له فإن ابتاع له بما يساوى أو باع بذلك لزم وإلا فهو مردود وكذلك من ابتاع لآخر أو باع له بغير أن يأمره لم يلزم في البيع أصلا ولا جاز للآخر إمضاؤه لأنه إمضاء باطل لا يجوز وكان الشراء لازما للوكيل وما عدا هذا فقول بلا برهان.

‌مذهب الزيدية:

جاء في شرح الأزهار:

(4)

لو اشترى الوكيل من يعتق عليه أو على الأصل المطلق أو هو أن يأمره الموكل بشراء عبد أو أمة وأطلق ولم يقل لاستخدمه أو نحو ذلك فاشترى أباه أو أخاه أو أي أرحامه المحارم أو اشترى رحما للموكل صح الشراء وعتق ذلك الرق وإذا عتق فهل يضمن الوكيل للموكل قيمة ذلك الذي عتق في الضمان تردد قال في الكافى لا يضمن شيئا وعن المنصور بالله يضمن مع العلم قال مولانا المهدى عليه السلام. ولعل هذا حيث اشترى من يعتق على الموكل وأما إذا اشترى من يعتق عليه فالأقرب أنهم يتفقون على تضمينه والله أعلم. وما لزمه كثمن المشترى أو تلف في يده نحو أن يأمره بشراء شئ ويعطيه ثمنه فيتلف الثمن في يده وقد اشترى ذلك الشئ فعلى الأصل غرامة ذلك الثمن الذي تلف في يده لأنه أمين ولذلك لو كان

(1)

المحلى للإمام أبي محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم جـ 8 ص 245 مسألة رقم 1664 طبعة إدارة الطباعة المنيرية بمصر طبعة أولى.

(2)

الآية 190 سورة البقرة.

(3)

آية 194 سورة البقرة.

(4)

شرح الأزهار جـ 4 ص، ص 248، ص 249.

ص: 242

وكيلا بالبيع فباع وقبض الثمن فضاع ذلك الثمن في يده ثم رد عليه ذلك المبيع بعيب بحكم أو تلف ذلك المبيع في يده قبل تسليمه وكان قد قبض الثمن فضاع فإنه يلزم الموكل غرامة الثمن في الطرفين جميعا إذا كان الوكيل عاملا بغير أجرة أما إذا كان مستأجرا على ذلك فالضمان عليه إلا أن يتلف. بأمر غالب إلا ثمنا قبضه الوكيل منه بعدما اشترى فإنه لا يلزم الموكل بل يلزم الوكيل فقط نحو أن يأمره الموكل بشراء شئ فيشتريه لفظا قبل أن يعطيه الموكل الثمن ثم يقبض الوكيل من الموكل ذلك الثمن بعدما اشترى ذلك الشئ فيضيع الثمن في يد الوكيل فإنه لا يلزم الموكل غرامة حينئذ بل يغرمه الوكيل من ماله، ولا يضمن الوكيل للموكل قيمة عين وكل ببيعها إن جحد المشترى عقد البيع فقال ما بعت منى شيئا وجحد عين المبيع فقال ولا عندى هذه العين التي ذكرت بيعها لا عن بيع ولا عن غيره ولا بينة للوكيل. قال الفقيه يحيى وإنما يسقط الضمان عنه بشرطين أحدهما ألا يكون أجيرا. الثاني أن يكون المشترى أمينا. قال الفقيه على وهذا إذا جحد المشترى بعد القبض أما لو جحد قبل القبض فإن الحاكم يأمر الوكيل بقبض المبيع إن كانت دعواه صحيحة ثم يبيعه ويقبض الثمن.

‌مذهب الإمامية:

جاء في شرائع الإسلام:

(1)

: أن الوكيل أمين لا يضمن مما تلف في يده إلا مع التفريط أو التعدى، وإذا كان أذن لوكيله ويجب على الوكيل تسليم ما في يده إلى الموكل مع المطالبة وعدم العذر فإن امتنع من غير عذر ضمن وإن كان هناك عذر لم يضمن ولو زال العذر فأخر التسليم ضمن، ولو ادعى بعد ذلك إن تلف المال قبل الامتناع أو ادعى الرد قبل المطالبة قيل: لا تقبل دعواه، ولو أقام بينة والوجه أنها تقبل، وكل من في يده مال لغيره أو في ذمته فله أن يمتنع عن التسليم حتى يشهد صاحب الحق بالقبض ويستوى في ذلك ما يقبل قوله في رده وما لا يقبل إلا ببينة هربا من الجحود المفضى إلى الدرك أو اليمين وفصل آخرون بين ما يقبل قوله في رده وما لا يقبل فأوجبوا التسليم في الأول وأجازوا الامتناع في الثاني إلا مع الإشهاد والأول أشبه، والوكيل في الإيداع إذا لم يشهد على الإيداع لم يضمن ولو كان وكيلا في قضاء الدين فلم يشهد بالقبض ضمن وفيه تردد وإذا تعدى الوكيل في مال الموكل ضمن ولا تبطل وكالته لعدم التنافى، ولو باع الوكيل ما تعدى فيه وسلمه إلى المشترى برئ من ضمانه لأنه تسليم مأذون فيه فجرى مجرى قبض المالك، ولو اختلفا في التلف فالقول قول الوكيل لأنه أمين وقد يتعذر إقامة البينة بالتلف غالبا فاقتنع بقوله دفعا لالتزام ما تعذر غالبا، ولو اختلفا في التفريط فالقول قول منكره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: واليمين على من أنكر". وإذا اختلف في دفع المال إلى الموكل فإن كان بجعل كلف البينة لأنه مدع وإن كان بغير جعل قيل: القول قوله كالوديعة وهو قول مشهور. وقيل القول قول المالك وهو الأشبه وكذا الشريك والمضارب ومن حصل في يده ضالة، وإذا ادعى

(1)

شرائع الإسلام في الفقه الإسلامي الجعفرى الإمامى للمحقق الحلى جـ 1 ص 243، ص 244، ص 245 طبع مطبعة دار منشورات مكتبة الحياة ببيروت إشراف العلامة الشيخ محمد جواد فقيه سنة 1930 م.

ص: 243

الوكيل التصرف وأنكر الموكل مثل أن يقول بعت وقبضت قيل: القول قول الوكيل لأنه أقر بماله أن يفعله: القول قول الموكل أمكن لكن الأول أشبه، وإذا اشترى إنسان سلعة وادعى أنه وكيل لإنسان فأنكر كان القول قوله مع يمينه ويقضى على المشترى بالثمن سواء اشترى بعين أو في ذمة إلا أن يكون ذكر أنه يبتاع له في حالة العقد، ولو قال الوكيل: ابتعت لك فأنكر الموكل أو قال: ابتعت لنفسى فقال الموكل بل لي فالقول قول الوكيل لأنه أبصر بنيته، وإذا زوجه امرأته فأنكر الوكالة ولا بينة كان القول قول الموكل مع يمينه ويلزم الوكيل مهرها، وروى نصف مهرها، وقيل يحكم ببطلان العقد في الظاهر، ويجب على الموكل أن يطلقها إن كان يعلم صدق الوكيل وأن يسوق إليها نصف المهر وهو قوى. وإذا وكله في ابتياع عبد فاشتراه بمائة فقال الموكل اشتريت بثمانين فالقول قول الوكيل لأنه مؤتمن. ولو قيل: القول قول الموكل كان أشبه لأنه غارم. وإذا اشترى لموكله كان البائع بالخيار إن شاء طالب الوكيل وإن شاء طالب الموكل والوجه اختصاص المطالبة بالموكل مع العلم بالوكالة واختصاص الوكيل مع الجهل بذلك. وإذا طالب الوكيل فقال الذي عليه الحق لا تستحق المطالبة لم يلتفت إلى قوله لأنه مكذب لبينة الوكالة، ولو قال عزلك الموكل لم يتوجه عليه اليمين إلا أن يدعى عليه العلم، وكذا لو ادعى أن الموكل أبرأه، وتقبل شهادة الوكيل لموكله فيما لا ولاية له فيه، ولو عزل قبلت في الجميع ما لم يكن أقام بها أو شرع في المنازعة، ولو وكله بقبض دينه من غريم له فأقر الوكيل القبض وصدق الغريم وأنكر الموكل فالقول قول الموكل وفيه تردد وأما لو أمره ببيع سلعة وتسليمها وقبض ثمنها فتلف من غير تفريط فأقر الوكيل بالقبض وصدق المشترى وأنكر الموكل فالقول قول الوكيل لأن الدعوى هنا على الوكيل من حيث إنه سلم المبيع ولم يسلم الثمن فكأنه يدعى ما يوجب الضمان، وهناك الدعوى على الغريم وجاء في اللمعة الدمشقية:

(1)

أن الوكيل أمين لا يضمن إلا بالتفريط أو التعدى وهو موضع وفاق، ويجب عليه تسليم ما في يده إلى الموكل إذا طولب به سواء في ذلك المال الذي وكل في بيعه وثمنه والمبيع الذي اشتراه وثمنه قبل الشراء وغيرها ونبه بقوله إذا طولب على أنه لا يجب عليه دفعه إليه قبل طلبه بل معه ومع إمكان الدفع شرعا وعرفا كالوديعة فلو آخر مع الإمكان أي إمكان الدفع شرعًا بأن لا يكون في صلاة واجبة مطلقا ولا مريدا لها مع تضييق وقتها ونحو ذلك من الواجبات المنافية أو عرفا بأن لا يكون على حاجة يريد قضاءها ولا في حمام أو أكل طعام ونحوها من الأعذار العرفية ضمن وله أن يمتنع من التسليم حتى يشهد على الموكل بقبض حقه حذرا من إنكاره فيضمن له ثانيا أو يلزمه اليمين. ثم قال

(2)

، ولو اختلفا في رد المتاع الذي كان بيد الوكيل فالوكيل يدعى رده والموكل ينكره حلف الموكل لأصالة عدمه سواء كانت الوكالة بجعل أم لا وقيل يحلف الوكيل إلا أن تكون بجعل فالموكل، أما الأول وهو حلف الوكيل، إذا لم تكن الوكالة

(1)

اللمعة الدمشقية للشهيد السعيد محمد جمال الدين مكى العاملى المعروف بالشهيد الأول جـ 4 ص 383، ص 384 الطبعة الأولى طبع مطبعة النجف سنة 1378 هـ.

(2)

المرجع السابق جـ 4 ص 386، ص 387، ص 388 نفس الطبعة المتقدمة.

ص: 244

بجعل فلأنه أمين وقد قبض المال لمصلحة المالك فكان محسنا محضًا كالودعى وأما الثاني فلما مر ولأنه قبض لمصلحة نفسه كعامل القراض والمستأجر ويضعف بأن الأمانة لا تستلزم القبول كما لا يستلزمه في الثاني مع اشتراكها في الأمانة وكذلك الإحسان والسبيل المنفى مخصوص فإن اليمين سبيل، ولو اختلفا في التلف أي تلف المال الذي بيد الوكيل كالعين الموكل في بيعها وشرائها أو الثمن حلف الوكيل لأنه أمين وقد يتعذر إقامة البينة على التلف فقنع بقوله وإن كان مخالفا للأصل ولا فرق بين دعواه التلف بأمر ظاهر وخفى وكذا يحلف لو اختلف في التفريط والمراد به ما يشمل التعدى لأنه منكر وكذا يحلف لو اختلفا في القيمة على تقدير ثبوت الضمان لأصالة عدم الزائد.

‌مذهب الإباضية:

جاء في النيل وشرحه

(1)

من أنه لا يبرأ غريم وكل من عليه حق بإرسال دين أو حق لربه بلا أمره أو أمر من صحت نيابته عنه وإن مع أمين أو أمينين أو أمناء وإن لم يصل أو لم يعلم أنه وصل أو لم يصل ويحتمل دخول هذا في قوله إن لم يصل بمعنى إن لم يكن له علم بالوصول وعدم العلم بالوصول صادق بما إذا لم يعلم أو وصل أو لم يصل وبما إذا علم أنه لم يصل ولزمه البحث عن الوصول ثبوتا وعدم ما لزمه أن يبحث هل وصل فيبرأ أو لم يصل فيؤدى وإذا سأل الرسول الأمين فقال وصلت فذلك بحث يجزئه كما قال وبرئ فيما بينه وبين الله تعالى لا في الحكم إن قال الأمين أوصلت وأما في الحكم فلا يبرأ إلا بشهادة عادلة أو إقرار صاحب الحق ولا يقل أوصلت فلا يبرأ في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى حتى يعلم به أي بالوصول فلو كان الحق على يتيم أو مجنون أو غائب فأرسله من تصح نيابته عنه مع أمين ولم يقل أوصلت فلينظر بيانا أو إقرارا فإن جحد صاحب الحق الوصول ضمن النائب من ماله وحلفه إن اتهمه وقيل برئ إن أرسله مع الأمين ولو امرأة أو عبدا أو أمة فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يسأله حتى يقول إنى لم أوصل أو ينكر صاحب الحق الوصول فإذا أنكر لم يقبل قول الأمناء ولو كثروا إنا أوصلنا لإدعائهم إيصال ما بأيديهم وعلى هذا القول يلزم الرسول إعلام بتلفه إن تلف القولان معا مبنيان على أن الأمين حجة فيما بينك وبين الله تعالى ولو أمينا واحدا ولا فرق بين الواحد والمتعدد هنا لأنهم ادعوا وصول ما بأيديهم فلو قال أمينان إن صاحب المال أمرك أن تعطى ماله فلانا كانا حجة نطق في الحكم وفيما بينك وبين الله تعالى ومختار كلام الشيخ أن الأمين حجة فيما بينك وبين الله تعالى ولو كان الإيصال بيده ووجه ذلك أن البراءة عن الحق به إنما هي أمر غير حكمى بل أمر ضرورى فهو كالعبادة فلا فرق بين أن يكون الإيصال بيده أو بغيره لأنه لم يتهمه ولذلك اقتصر المصنف كالشيخ على قول أنه حجة ولو لم يسأله وقول أنه حجة إن قال إنى أوصلت وكذلك جزما في باب الزكاة بأنه يبرأ بقول الأمين أنه أوصلها ولم

(1)

من كتاب شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد بن يوسف أطفيش جـ 4 ص 495، ص 496، ص 497 طبع مطبعة يوسف البارونى وشركاء الطبعة السابعة.

ص: 245

يعتبر كونه مدعيا البراءة مما في يده وقيل إن الأمين الواحد أو المتعدد لا يكون حجة ولو قال أوصلت لإدعائه البراءة مما في يده قال أبو ستة ظاهر كلام الشيخ أنه يبرأ بقول الأمين قولا واحدا وفيه تأمل قلت وجه التأمل أنه قد تخيل في الأمين أنه لا يكون حجة ولو تعدد في يكون الواسطة فعله لأنه مدع وأنه لا يكون حجة إن لم يتعدد فيما لم يكن بواسطة فعله فأجاب بأن الشيخ جرى على الراجح عنده من كون الأمين حجة ولو فيما بواسطته وليس مراد أبي ستة أنه كان هناك قول بالفرق بين الواحد والمتعدد فيما بواسطة فعلهم كما توهمه بعض تلاميذه فاستشكله وصحح القول الأول وهو أنه لا يبرأ بالأمين حتى يقول أوصلت ووجه تصحيح أنه لا يلزم الرسول إعلان بتلفه إن تلف فقد يتلف قبل إيصاله ولم يخبر مرسله بتلفه لأن الإعلام غير واجب فلم يبرأ المرسل حتى يقول له الرسول أوصلت لعله قد تلف فلم يخبره بتلفه والذي عندى أنه يلزمه الإعلام لأنه من باب النصح لأنه لو لم يخبره لم يكن صاحب الحق يصله حقه ممن كان عليه وإذا أخبره أوصل إليه حقه ولعل هذا هو علة القول بأنه يبرأ بالأمين من الحق ولو لم يقل أوصلت ما لم يقل لم أوصل وذلك أنه ائتمنه على إبراء الذمة وصدقه فلو لم تبرأ لأخبره وإن قلت قوله يلزمه البحث على الوصول يقتضى أنه لا يبرأ بقول الأمين أوصلت وقد يقال أنه يبرأ به قلت أراد البحث ما يشمل البحث عن أن يقول أوصلت فإذا قال هل أوصلت فقال نعم فقد بحث بحثا يجزئه وإنما أجزاء قوله أوصلت مع أنه مدع البراءة مما في يده لأن البراءة بقوله أضروبة مقرونة بعدم الاتهام وبالتصديق والائتمان ولا حاجة والله أعلم إلى أن يقال عدم مطالبة صاحب الحق بحقه دليل على أنه قد أوصل الأمين لأن صاحب الحق قد يموت وقد ينسى وقد ينتظر وقد يتوهم أنه قد أخذ حقه وإن أرسل من عليه الحق مع غير أمين لم يبرأ حتى يعلم بوصوله بشهادة تامة أو إقرار صاحب الحق وقيل إن قال أوصلت وصدقه كان تصديقه حجة فيما بينه وبين الله تعالى.

‌الأمين في العارية

‌مذهب الحنفية:

جاء في بدائع الصنائع

(1)

أن المستعار أمانة في يد المستعير في حال الاستعمال بالإجماع فأما في غير حال الاستعمال فكذلك عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى مضمون واحتج بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان درعا يوم حنين فقال صفوان أغصبا يا محمد فقال عليه الصلاة والسلام: بل عارية مضمونة ولأن العين مضمونة الرد حال قيامها فكانت مضمونة القيمة حال هلاكها كالمغصوب وهذا لأن العين اسم للصورة والمعنى وبالهلاك إن عجز عن رد الصورة لم يعجز عن رد المعنى لأن قيمة الشئ معناه فيجب عليه رده بمعناه كما في الغصب ولأنه قبض مال الغير لنفسه فيكون مضمونا

(1)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإسلام علاء الدين أبو بكر مسعود الكاسانى جـ 6 ص 217 طبع مطبعة الجمالية بالقاهرة طبعة أولى.

ص: 246

كالمقبوض على سوم الشراء، ودليلنا أنه لم يوجد من المستعير سبب وجوب الضمان فلا يجب عليه الضمان كالوديعة والإجارة وإنما قلنا ذلك لأن الضمان لا يجب على المرء بدون فعله وفعله الموجود منه ظاهرا هو العقد والقبض وكل واحد منهما لا يصلح سببا لوجوب الضمان أما العقد فلأنه عقد تبرع المنفعة تمليكا أو إباحة على اختلاف الأصلين وأما القبض فلوجهين أحدهما أن قبض مال الغير بغير إذنه لا يصلح سببا لوجوب الضمان فبالإذن أولى وهذا لأن قبض مال الغير بغير إذنه هو إثبات اليد على مال الغير وحفظه وصيانته عن الهلاك وهذا إحسان في حق المالك قال الله تبارك وتعالى:{هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}

(1)

وقال تبارك وتعالى: {ما على المحسنين من سبيل}

(2)

، دل على أن قبض مال الغير بغير إذنه لا يصلح سببا لوجوب الضمان فمع الإذن أولى، والوجه الثاني أن القبض المأذون فيه لا يكون تعديا لأنه لا يفوت يد المالك ولا ضمان إلا على المتعدى قال الله تبارك وتعالى:{فلا عدوان إلا على الظالمين}

(3)

بخلاف قبض الغضب وأما الاستدلال بضمان الرد. قلنا: إن وجب عليه رد العين حال قيامها لم يجب عليه رد القيمة حال هلاكها وقوله: قيمتها معناه. قلنا ممنوع وهذا لأن القيمة هي الدراهم والدنانير. والدراهم والدنانير عين أخرى لها صورة ومعنى غير العين الأولى فالعجز عن رد أحد العينين لم يوجب رد العين الأخرى وفى باب النصب لا يجب عليه ضمان القيمة بهذا الطريق بل بطريق آخر وهو إتلاف المغصوب معنى لما علم وهنا لم يوجد حتى لو وجد يجب الضمان ثم نقول: إنما وجب عليه ضمان الرد لأن العقد متى انتهى بانتهاء المدة أو بالطلب بقيت العين في يده كالمغصوب والمغصوب مضمون الرد حال قيامه ومضمون القيمة حال هلاكه وعندنا إذا ملكت في تلك الحالة ضمن، وأما قوله: قبض مال الغير لنفسه فنعم لكن قبض مال الغير لنفسه بغير إذنه لا يصلح سببا لوجوب الضمان لما ذكرنا فمع الإذن أولى، والمقبوض على سوم الشراء غير مضمون بالقبض بل بالعقد بطريق التعاطى بشرط الخيار الثابت دلالة لما علم ولا حجة للشافعى رحمه الله تعالى في حديث صفوان لأن الرواية قد اختلفت فقد روى أنه هرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فأمنه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد حنينا فقال: هل عندك شئ من السلاح فقال: عارية أو غصبا فقال عليه الصلاة والسلام: عارية فأعاره ولم يذكر فيه الضمان والحادثة حادثة واحدة مرة واحدة فلا يكون الثابت إلا إحداهما فتعارضت الروايتان فسقط الاحتجاج مع إنه إن ثبت فيحتمل ضمان الرد وبه نقول فلا يحمل على ضمان الغير مع الاحتمال، يؤيد ما قلنا ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: العارية مؤداة. ثم قال صاحب البدائع

(4)

وأما بيان تغير حالها فالذى يغير حال المستعار من الأمانة إلى الضمان

(1)

الآية رقم 60 من سورة الرحمن.

(2)

الآية رقم 93 من سورة البقرة.

(3)

الآية رقم 193 من سورة البقرة.

(4)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاسانى في جـ 6 ص 218 الطبعة السابقة ص 218 الطبع.

ص: 247

ما هو المغير حال الوديعة وهو الإتلاف حقيقة أو معنى بالمنع بعد الطلب أو بعد انقضاء المدة وبترك الحفظ وبالخلاف حتى لو حبس العارية بعد انقضاء المدة أو بعد الطلب قبل انقضاء المدة يضمن لأنه واجب الرد في هاتين الحالتين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: العارية مؤداة. وقوله - صلى الله علية وسلم -: على اليد ما أخذت حتى ترده. ولأن حكم العقد انتهى انقضاء المدة أو الطلب فصارت العين في يده كالمغصوب والمغصوب مضمون الرد حال قيامه ومضمون القيمة حال هلاكه، ولو رد العارية مع ابنه أو عبده أو بعض من في عياله أو مع عبد المعير أو ردها بنفسه إلى منزل المالك وجعلها فيه لا يضمن استحسانا والقياس أن يضمن كما في الوديعة وكذا إذا ترك الحفظ حتى ضاعت وكذا إذا خالف إلا أن في باب الوديعة إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق يبرأ عن الضمان عند أصحابنا الثلاثة رضى الله تعالى عنهم وهنا لا يبرأ، ولو تصرف المستعير وادعى أن المالك قد أذن له بذلك وجحد المالك فالقول قول المالك حتى يقوم للمستعير على ذلك بينة لأن التصرف منه سبب لوجوب الضمان في الأصل فدعوى الإذن منه دعوى أمر عارض فلا تسمع إلا بدليل.

‌مذهب المالكية:

(1)

ومن المدونة قال ابن القاسم: العارية مضمونة فيما يغاب عليه من ثوب أو غيره من العروض فإن ادعى المستعير أن ذلك هلك أو سرق أو تحرق أو انكسر فهو ضامن وعليه فيما أفسد فسادا يسيرا ما نقصه وإن كان كثيرا ضمن قيمته كله إلا أن يقيم بينة أن ذلك هلك بغير سببه فلا يضمن إلا أن يكون منه تضييع أو تفريط بين فيضمن قال ابن رشد: وإن شرط المستعير أن لا ضمان عليه فيما يغاب فشرطه باطل وعليه الضمان قاله ابن القاسم وأشهب في العتبية وهو عن ابن القاسم أيضا في بعض روايات المدونة قال ابن عرفة: ونقله الجلاب عن المذهب وفى غير نسخة من اللخمى قال ابن القاسم وأشهب: إن شرط أنه مصدق في تلف الثياب وشبهها له شرطه ولا شئ عليه ومن المدونة قال ابن القاسم: كل ما علم بالبينة أنه هلك أو نقص فيما استعير له فلا يضمنه ولا يضمن ما لا يغاب عليه من حيوان أو غيره وهو مصدق في تلفه ولا يضمن شيئا مما أصابه عنه إلا أن يكون بتعديه ولو بشرط قال ابن رشد، إن اشترط المعير على المستعير الضمان فيما لا يغاب أوسع قيام البينة فيما يغاب عليه فقول مالك وجميع أصحابه أن الشرط باطل جملة من غير تفصيل حاشا مطرف وقال

(2)

ابن رشد في أول سماع عيسى من كتاب الرواحل والدواب الأشياء المقبوضة من أربابها على غير وجه الملك إن قبضت لمنفعة القابض خاصة كالموارى والرهون فالقابض ضامن لما يغاب عليه إلا أن يقيم البينة على التلف ومصدق فيما لا يغاب عليه أنه قد تلف مع يمينه إلا أن يتبين كذبه وإن قبضت لمنفعة أربابها خاصة كالبضائع والودائع فالقابض لها مصدق في دعوى التلف دون يمين إلا أن يتهم فيحلف عينا كان أو عرضا أو حيوانا وإن قبضت لمنفعة الجميع كالقراض والشئ

(1)

من كتاب مواهب الجليل لشرح خليل على الحطاب جـ 6 ص 269 الطبعة السابقة.

(2)

المرجع السابق جـ 6 ص 272 الطبعة السابقة.

ص: 248

المستأجر فكذلك لأنه يعقب منفعة أربابها من جهة أنها ملك لمتاعه ولو شاء لم يدفعه وما يصدق فيه في دعوى التلف من الوديعة والبضاعة والقراض والشئ المستأجر وما لا يغاب عليه من الرهون والعوارى فالقول قوله في دعوى الرد مع يمينه إلا أن يكون قبضه ببينة.

‌مذهب الشافعية:

(1)

أنه إذا قبض العين ضمنها لما روى صفوان رضى الله تعالى عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعا يوم حنين فقال أغصبا يا محمد فقال بل عارية مضمونة ولأنه مال لغيره أخذه لمنعة نفسه لا على وجه الوثيقة فضمنها كالمغصوب فإن هلكت نظرت فإن كان مما لا مثل له ففى ضمانها وجهان أحدهما يضمنها بأكثر مما كانت قيمتها من حين القبض إلى حين التلف كالمغصوب وتصير الأجزاء تابعة للعين إن سقط ضمانها بالرد سقط ضمان الأجزاء وإن وجب ضمانها بالتلف وجب ضمان الأجزاء والثانى أنها تضمن بقيمتها يوم التلف وهو الصحيح لأنا لو ألزمناه قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف أوجبنا ضمان الأجزاء التالفة بالإذن وهذا لا يجوز ولهذا لو كانت العين باقية وقد نقصت أجزاؤها بالاستعمال لم يجب ضمانها وإن كان مما له مثل فإن قلنا فيما لا مثل له أنه يضمن بأكثر ما كانت قيمته لزمه مثلها وإن قلنا إنه يضمن بقيمته يوم التلف ضمنها بقيمتها واختلفت أصحابنا في ولد المستعارة فضمنهم أنه مضمون لأنها مضمونة فضمن ولدها كالمغصوبة ومنهم من قال لا يضمن لأن الولد لم يدخل في الإعارة فلم يدخل في الضمان ويخالف المغصوبة فإن الولد يدخل في الغصب فدخل في الضمان فإن غصب عينا فأعارها من غيره ولم يعلم المستعير وتلفت عنده فضمن المالك المستعير لم يرجع بما غرم على الغاصب لأنه دخل على أنه يضمن العين وإن ضمنه أجرة المنفعة فهل يرجع على الغاصب فيه قولان بناء على القولين فيمن غصب طعاما وقدمه إلى غيره أحدهما يرجع لأنه غره والثانى لا يرجع لأن المنافع تلفت تحت يده.

‌مذهب الحنابلة:

جاء في كتاب نيل المآرب

(2)

: إن العارية لا ضمان فيها في أربع مسائل بالتفريط الأول فيما إذا كانت العارية وقفا ككتب علم وأدراع موقوفة على الغزاة إذا استعارها لينظر فيها أو ليلبسها عند قتال الكفار وسلاح كسيف ورمح، والثانية. فيما إذا اعارها المستأجر والثالثة ما أشار إليها بقوله أو بليت فيما أعيرت له باستعمال بمعرف كما لو تلف الثوب المستعار بلبسه أو ذهب حمل المنشفة أو القطيفة والرابعة ما أشار إليها بقوله أو أركب إنسان دابته إنسانا منقطعا لله تعالى فتلفت الدابة تحت المنقطع لم يضمن تلفها لأنها بيد صاحبها لكون الراكب لم ينفرد بحفظها أشبه ما لو غطى ضيفه بلحاف

(1)

المهذب لأبى إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن أحمد الفيروزابادى الشيرازى جـ 1 ص 362 طبع مطبعة دار الجهاد للكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1388 هـ.

(2)

نيل المآرب بشرح دليل الطالب للشيخ الإمام عبد القادر بن عمر الشيبانى على مذهب: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل - 1 ص 168 طبع مطبعة محمد على صبيح وأولاده بميدان الأزهر بمصر سنة 1374 هـ سنة 1954 م.

ص: 249

فحرق عليه فإنه لا يضمنه كرديف ربها أي كما لو أردف إنسانا خلفه على دابته فتلفت تحتهما، ومن استعار ليرهن فالمرتهن أمين لا يضمن إلا بالتعدى أو التفريط ويضمن العين المستعير سواء تلفت تحت يده أو تحت يد المرتهن.

‌مذهب الظاهرية:

قال ابن حزم الظاهرى فى المحلى

(1)

: العارية غير مضمونة إن تلفت من غير تعدى المستعير وسواء ما غيب عليه من العوارى وما لم يغب عليه منها فإن إدعى عليه أنه تعدى أو أضاعها حتى تلفت أو عرض فيها عارض فإن قامت بذلك بينة أو أقر ضمن بلا خلاف وإن لم تقم بينة ولا أقر لزمته المين وبرئ لأنه مدعى عليه وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين على المدعى عليه، وقد روى

(2)

عن عمر وعلى كما روينا من طريق ابن أبي شيبة حدثنا وكيع عن علي بن صالح بن حى عن عبد الأعلى عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبى طالب قال: العارية ليست بيعا ولا مضمونة إنما هو معروف إلا أن يخالف فيضمن وهذا صحيح عن علي ومن طريق عبد الرزاق حدثنا قيس بن الربيع عن الحجاج بن أرطأة عن هلال الوزان عن عبد الله بن حكيم قال عمر بن الخطاب: العارية بمنزلة الوديعة ولا ضمان فيها إلا أن يتعدى وهو قول إبراهيم النخعى وعمر بن عبد العزيز والزهرى وغيرهم وهو قول أبي سليمان. قال أبو محمد: قال الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ألا أن تكون تجارة عن تراض منكم}

(3)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام فصح أن مال المعير محرم إلا أن يوجبه نص قرآن أو سنة ولم يوجبه قط نص منهما" وقال الله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل}

(4)

وقال تعالى: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق}

(5)

. والمستعير ما لم يتعد ولا ضيع محسن فلا سبيل عليه بنص القرآن والغرم سبيل بيقين فلا غرم عليه.

‌مذهب الزيدية:

(6)

جاء في التاج المذهب العارية هي كالوديعة في جميع أحكامها إلا في أمرين أحدهما: لزوم ضمان ما ضمن منها ونحوه وهو أن يستعير العين ليرهنها وكذا طلب الرهن وسواء كان الشارط للضمان المعير أو المستعير فيضمن العين بعد قبضها إن تلفت بأوفر القيم من يوم القبض إلى التلف إن قارن التضمين وإلا ضمن يوم التضمين. وأن جهله المستعير أي وإن جهل التضمين لم يسقط عنه الضمان. وصورة ذلك: أن يرسل رسولا يستعير له فيستعير ويشرط، عليه المعير الضمان فيضمن المرسل سواء أداها إليه أم لا أخبره بالضمان أم لا لأن قبض الرسول

(1)

المحلى للإمام أبي محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم ج 9 ص 169 مسألة رقم 1650 طبع مطبعة إدارة الطباعة المنبرية الطبعة الأولى سنة 1351 هـ

(2)

المرجع/ السابق جـ 9 ص 173 الطبعة السابقة.

(3)

الآية رقم 39 من سورة النساء.

(4)

الآية رقم 93 من سورة البقرة.

(5)

الآية رقم 42 من سورة الشورى.

(6)

التاج المذهب لأحكام المذهب شرح متن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار للقاضى العلامة أحمد بن قاسم العنس اليمانى الصفات جـ 3 ص 255، ص 256 ص 257 طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه 1266 هـ سنة 1947 م الطبعة الأولى.

ص: 250

كاف فإن جنى أو فرط كان الضمان بخلاف الوديعة فلا تضمن بالتضمين. وإذا ولدت العارية المضمنة لم يدخل أولادها في الضمان ولا في العارية بل يكون أمانة كما يلقيه طائر في ملك. والأمر الثاني وجوب الرد على المستعير للعارية متى انقضت مدة العارية وتكفى التخلية ومدتها من مدة العارية بخلاف الوديعة فإنه لا يجب عليه ردها فإن شرط في العارية عدم الرد صح الشرط.

‌مذهب الإمامية:

جاء في شرائع الإسلام:

(1)

أن العارية أمانة لا تضمن إلا بالتفريط في الحفظ أو التعدى أو اشتراط الضمان وتضمن إذا كانت ذهبا أو فضة و إن لم يشترط سقوط الضمان. وإذا رد العارية إلى المالك أو وكيله برئ ولو ردها إلى الحرز لم يبرأ ولو استعار الدابة إلى مسافة فجاوزها ضمن. ولو أعادها إلى الأولى لم يبرأ، ويجوز للمستعير بيع غروسه وأبنيته في الأرض المستعارة للمعير وبقره على الأشبه، وإذا حملت الأهوية أو السيول حبا إلى ملك إنسان فنبت كان لصاحب الأرض إزالته ولا يضمن الأرض كما في أغصان الشجرة البارزة إلى ملكه، ولو نقصت بالاستعمال ثم تلفت وقد شرط ضمانها ضمن قيمتها يوم تلفها لأن النقصان المذكور غير مضمون. وإذا قال الراكب أعرتنيها وقال المالك أجرتكها فالقول قول الراكب لأن المالك مدعى الأجرة وقيل القول قول المالك في عدم العارية فإذا حلف سقطت دعوى الراكب وتثبت عليه أجرة المثل، لا المسمى، وهو أشبه ولو كان الاختلاف عقيب العقد من غير انتفاع كان القول قول الراكب لأن المالك يدعى عقدا وهذا ينكره، وإذا استعار شيئا لينتفع به في شئ فانتفع به في غيره ضمن، وإن كان له أجرة لزمته أجرة مثله، وإذا جحد العارية بطل استئمانه ولزمه الضمان مع ثبوت الإعارة. وإذا ادعى التلف فالقول قوله مع يمينه ولو ادعى الرد فالقول قول المالك مع يمينه. ولو فرط في العارية كان عليه قيمتها عند التلف إذا لم يكن لها مثل وقيل: أعلى القيم من حين التفريط إلى وقت التلف والأول أشبه. ولو اختلفا في القيمة كان القول قول المستعير، وقيل قول المالك. والأول أشبه ثم قال:

(2)

أنه لو نقصت العين المعارة بالاستعمال لم يضمن المستعير النقص لاستناد التلف - أي تلف البعض الذي هو النقص - إلى فعل مأذون فيه ولو من جهة الإطلاق - أي إطلاق الإذن وتقييده بالنقص قد يفهم أنها لو تلفت به - أي بالاستعمال - ضمنها وهو أحد القولين في المسألة لعدم تناول الإذن للاستعمال المتلف عرفا وإن دخل في الإطلاق فيضمنها آخر حالات التقويم، وقيل: لا يضمن أيضا كالنقص لما ذكر من الوجه وهو إطلاق الإذن في التصرف وهو الوجه أي وهو الصحيح. ويضمن العارية

(1)

شرائع الإسلام في الفقه الإسلامي الجعفرى الإمامى ج 1 ص 231. ص 232 المحقق المحلى طبع مطبعة منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت سنة 1930 م إشراف الشيخ محمد جواد فقيه.

(2)

اللمعة الدمشقية للشهيد السعيد محمد بن جمال الدين مكى العاملى المعروف بالشهيد الأول جـ 4 ص 263، ص 264 ص 265 طبع مطبعة جامعة النجف الدينية الطبعة الأولى بالنجف الاشرف بالعراق سنة 1382 هـ باشراف السيد محمد كلانتر.

ص: 251

باشتراط الضمان عملا بالشرط المأمور بالكون معه - في قوله صلى الله عليه وسلم "المؤمنون عند شروطهم" أي كائنون مع شروطهم لا يفارقونها بالتخلف - سواء شرط ضمان العين أم الأجزاء أم هما معا فيتبع شرطه، ويضمن العارية إذا كانت ذهبا أو فضة من غير اشتراط الضمان. سواء كانا دنانير ودراهم أم لا على أصح القولين لأن فيه جمعا بين النصوص المختلفة. وقيل يختص الضمان بالنقدين استنادا إلى الجمع - أي الجمع بين النصوص المختلفة أيضا وإلى الحكمة الباعثة على الحكم وهى ضعف المنفعة المطلوبة منهما بدون الإنفاق. فكانت عاريتهما موجبة بالذات كما يوجب التلف فيضمنان بها. . أي بعاريتهما - ويضعف بأن الشرط الانتفاع بهما مع بقائهما، وضعف المنفعة حينئذ لا مدخل له في اختلاف الحكم وتقدير منفعة الإنفاق وحكم بغير الواقع، أي هو فرض على خلاف الواقع لأن الحكم بكون عارية الذهب والفضة موجبة بالذات للتلف حكم بغير الواقع، لأن الواقع بقاء العين في عاريتهما أيضا - ولو ادعى المستعير التلف حلف لأنه أمين فيقبل قوله فيه - أي في التلف كغيره - أي كغير المستعير من بقية الأمناء. . سواء ادعى التلف بأمر ظاهر كالاحراق والفرق والتخيُّس أو ادعى التلف بأمر خفى كالسرقة. ولا مكان صدقه فلو لم يقبل قوله لزم تخليده في الحبس، بيان ذلك أن المالك يطلب عين ماله ويدعى بقاءها، فلو لم يقبل الحاكم قول المستعير في تلفها معناه مطالبته برد العين مع أنها تالفة إما بالتلف الظاهرى كالإحراق، أو الخفى كالسرقة، ومن الجائز صدقه في التلف فيلزم حينئذ أي حين عدم قبول الحاكم قوله حبسه اللازم منه تخليده في الحبس.

‌مذهب الإباضية:

جاء فى النيل وشرحه

(1)

إن حكم العارية إذا تلفت في يد المستعير بآفة سماوية أو أتلفها هو أو غيره ولو بلا تقصير الضمان بحديث "العارية مضمونة" رواه أبو داود وغيره ولأنها مال يجب رده لمالكه فيضمن عند تلفه كالمأخوذ بجهة السوم، فإن تلفت باستعمال مأذون فيه كاللبس والركوب المعتادين لم يضمن لحصول التلف بسبب مأذون فيه والصحيح أن لا ضمان على المستعير بآتٍ من قبل الله وبما لا طاقة عليه منه ولا تضييع فيه فيؤول إليه حديث أبي داود وغيره كما أول حديث الاستعارة من صفوان على خلاف كما قال المصنف (فقيل ليس فيه) أي في الحديث بالرواية الأخيرة وهى مضمونة مؤداة ولا سيما الأولى في قوله مضمونة مؤداة، موجب ضمان لأنها كأمانة ومعنى كونها مضمونة مؤداه أنه لزم مستعيرها حفظها لدخولها يده فلا يهملها كما يهمل غيره مما لم يدخل يده، حتى إنه إن لم يحفظها لزمه غرمها فهذا معنى كونها مضمونة، وردها لربها لا يتملكها ولا يحبسها عنه ولا يتلفها فهذا معنى كونها مؤداة. . والمختار أن المستعير متى شرط هو على نفسه الرد أو شرط عليه أو تعدى فيها ضمنها إن تلفت وهو الموافق للسنة من أن المؤمنين على شروطهم وأنه لا ضمان في الأمانة إلا بتعد والعارية من باب الأمانة وزادت قوة على الأمانة من حيث إنه يأخذها للانتفاع

(1)

من كتاب النيل وشرح العليل جـ 6 ص 75، ص 77 طبع مطبعة يوسف البارونى وشركاه.

ص: 252

فكان يلزمه غرمها إذا شرط الرد أو شرطه المستعير ولا يضمن الأمانة ولو شرط عليه ضمانها إلا بتعد أو تضييع وقيل: يضمنها. وكذا الخلاف في كل ما لا يلزم ضمانه في الشرع إذا شرط الضمان وبالعكس، ومقابل المختار عدم ضمان العارية إن لم يتعد ولم يضيع ولو كان الضمان مشروطًا بينهما أو شرط الرد بينهما وهذا بناء على أن أصلها غير الضمان وما أصله غير الضمان لا يوجب اشتراط الضمان فيه ضمانه، كما أن أصل ما كان مضمونا لا يبطل ضمانه بالشرط، والأكثر أنه إذا اشترط الضمان ضمن ويقابل المختار أيضا قول آخر: أنه يلزم ضمان العارية ولو لم يشترط ضمانها ولم يتعد ولم يضع، واستدل على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم "كل يد ترد ما أخذت".

‌الأمين في اللقطة

‌مذهب الحنفية:

(1)

جاء في الهداية وشروحها أن اللقطة أمانة إذا أشهد الملتقط أنه يأخذها ليحفظها ويردها على صاحبها لأن الأخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعا بل هو الأفضل عند عامة العلماء وهو الواجب إذا خاف الضياع على ما قالوا، وفى بدائع

(2)

الصنائع أن للقطة بعد الأخذ حالين. في حال هي أمانة وفى حال هي مضمونة. أما حالة الأمانة فهى أن يأخذها لصاحبها لأنه أخذها على سبيل الأمانة فكانت يده يد أمانة كيد المودع وأما حالة الضمان فهى أن يأخذها لنفسه لأن المأخوذ لنفسه مغصوب وهذا لا خلاف فيه وإنما الخلاف في شئ آخر وهو أن جهة الأمانة إنما تعرف من جهة الضمان إما بالتصديق أو بالإشهاد عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما بالتصديق أو باليمين حتى لو هلكت فجاء صاحبها وصدقه في الأخذ له لا يجب عليه الضمان بالإجماع وإن لم يشهد لأن جهة الأمانة قد ثبتت بتصديقه، وإن كذبه في ذلك فكذلك عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أشهد أو لم يشهد ويكون القول قول الملتقط مع يمينه وأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإن أشهد فلا ضمان عليه لأنه بالإشهاد ظهر أن الأخذ كان لصاحبه فظهر أن يده يد أمانة وإن لم يشهد يجب عليه الضمان. ولو أقر الملتقط أنه أخذها لنفسه يجب عليه الضمان لأنه أقر بالغصب والمغصوب مضمون على الغاصب ووجه قول أبي يوسف ومحمد أن الظاهر أنه أخذه لا لنفسه لأن الشرع إنما مكنه من الأخذ بهذه الجهة فكان إقدامه على الأخذ دليلا على أنه أخذ بالوجه المشروع فكان الظاهر شاهدا له فكان القول قوله ولكن مع الحلف لأن القول قول الأمين مع اليمين ولأبى رحمه الله تعالى وجهان أحدهما أن أخذ مال الغير بغير إذنه سبب وجود الضمان في الأصل إلا أنه إذا كان الأخذ على سبيل الأمانة بأن أخذه لصاحبه فيخرج من أن يكون سببا وذلك إنما يعرف بالإشهاد فإذا لم يشهد لم

(1)

الهداية للإمام برهان الدين على ابن أبي بكر المرغينانى مع شرح فتح القدير للكمال بن الهمام جـ 4 ص 423 وما بعدها في كتاب على هامشه شرح العناية على الهداية للإمام كمال بن محمد بن محمد البابرتى وحاشيته المولى المحقق سعد الله بن عيسى المفتى الشهير بسعدى حلبى الطبعة الأولى طبع الطبعة الأميرية بمصر سنة 1316 هـ.

(2)

بدائع الضائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين أبي بكر سعود الغساسانى جـ 6 ص 201 طبع مطبعة الجمالية بمصر طبعة أولى سنة 1328 هـ - 1910 م.

ص: 253

يعرف كون الأخذ لصاحبه فبقى الأخذ سببا في حق وجوب الضمان على الأصل، والوجه الثاني أن الأصل أن عمل كل إنسان له لا لغيره بقوله سبحانه وتعالى:{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}

(1)

وقوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}

(2)

فكان أخذه اللقطة في الأصل لنفسه لا لصاحبها وأخذ مال الغير بغير إذنه لنفسه سبب لوجوب الضمان لأنه غصب وإنما يعرف الأخذ لصاحبها بالإشهاد فإذا لم يوجد أن الأخذ لنفسه فيجب عليه الضمان. ولو أخذ اللقطة ثم ردها إلى مكانها الذي أخذها منه لا ضمان عليه في ظاهر الرواية وكذا نص عليه محمد في الموطأ وبعض مشايخنا رحمهم الله تعالى قالوا، هذا الجواب فيما إذا رفعها ولم يبرح عن ذلك المكان حتى وضعها في موضعها فأما إذا ذهب بها عن ذلك المكان ثم ردها إلى مكانها يضمن وجواب ظاهر الرواية مطلق عن هذا التفضيل مستغن عن هذا التأويل وقال الشافعي رحمه الله تعالى يضمن سواء ذهب عن ذلك المكان أو لم يذهب ووجه قوله أنه لما أخذها من مكانها فقد التزم حفظها بمنزلة قبول الوديعة فإذا ردها إلى مكانها فقد ضيعها بترك الحفظ الملتزم فأشبه الوديعة إذا لقاها المودع على قارعة الطريق حتى ضاعت ودليلنا أنه أخذها محتسبا متبرعا ليحفظها على صاحبها فإذا ردها إلى مكانها فقد فسخ التبرع من الأصل فصار كأنه لم يأخذها أصلا وبه تبين أنه لم يلزم الحفظ وإنما تبرع به وقد رده بالرد إلى مكانها فارتد وجعل كأن لم يكن. هذا إذا كان أخذها لصاحبها ثم ردها إلى مكانها فضاعت وصدقه صاحبها فيه أو كذبه لكن الملتقط قد كان أشهد على ذلك فإن كان لم يشهد يجب عليه الضمان عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما لا يجب عليه الضمان سواء أشهد أو لم يشهد ويكون القول قوله مع يمينه أنه أخذها لصاحبها على ما ذكرنا ثم تفسير الإشهاد على اللقطة أن يقول الملتقط بمسمع من الناس: إنى التقطت لقطة أو عندى لقطة فأى الناس أنشدها فدلوه عليّ أو يقول: عندى شئ فمن رأيتموه يسأل شيئا فدلوه عليّ، فإذا قال ذلك ثم جاء صاحبها فقال الملتقط: قد هلكت كان القول قوله ولا ضمان عليه بالإجماع وإن كان عنده عشر لقطات لأن اسم الشئ واللقطة منكرا إن كان يقع على شئ واحد ولقطة واحدة لغة لكن في مثل هذا الموضع يراد بها كل الجنس في العرف والعادة لا فرد من الجنس إذ المقصود من التعريف إيصال الحق إلى المستحق ومطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف والمعتاد فكان هذا إشهادا على الكل بدلالة العرف والعادة ولو أقر أنه كان أخذها لنفسه لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد على المالك لأنه ظهر أنه أخذها غصبا فكان الواجب عليه الرد إلى المالك لقول النبي - صلى الله علية وسلم - على اليد ما أخذت حتى ترده فإذا عجز عن رد العين يجب عليه بدلها كما في الغصب وكذلك إذا أخذ الضالة ثم أرسلها إلى مكانها الذي أخذها منه

(1)

الآية 39 من سورة النجم.

(2)

الآية رقم 286 من سورة البقرة.

ص: 254

فحكمها حكم اللقطة لأن هذا أحد نوعى اللقطة وقد روينا في هذا الباب عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال لواجد البعير الضال: أرسله حيث وجدته وهذا يدل على انتفاء وجوب الضمان.

‌مذهب المالكية:

لو ادعى

(1)

صاحب اللقطة على الملتقط أنه التقط اللقطة ليذهب بها فالقول قول الملتقط أنه التقطها ليعرف بها بغير يمين وهذا ما قاله ابن عبد السلام وأشهب وما عزاه لأشهب هو في المدونة ونصها وإن ضاعت اللقطة من الملتقط لم يضمن قال ابن يونس قال أشهب وابن نافع وعليه اليمين ومذهب الكتاب في هذا لا يحق عليه إلا أن يتهم وقال ابن رشد وهذا من كلام أبي الحسن ونحوه في التوضيح ثم قال في المدونة وإن قال له ربها أخذتها لتذهب بها وقال الملتقط بل لأعرفها صدق المتقط قال ابن يونس قال أشهب بلا يمين، وقال ابن رشد في المقدمات ولا يعرف الوجه الذي التقطها عليه إلا من قبله فإن تلفت عنده أو ادعى تلفها وادعى أنه أخذها ليحرزها على صاحبها فهو مصدق دون يمين إلا أن يتهم وسواء أشهد حين التقطها أو لم يشهد على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه

(2)

ثم قال والعبد إذا أبق من الذي هو في يده فلا ضمان عليه ثم بالغ فقال وإن كان الذي هو في يده أخذه من ربه على جهة الرهن لكن يحلف في مسألة الرهن لأنه إذا أبق منه قال الوجداجى فلا يخلو من أن يهرب من الدار أو يرسله إلى بعض حوائجه فإن أبق من داره فإن ظهر ذلك واشتهر قبل قوله بلا يمين قولا واحدا كان ممن يتهم أم لا فإن لم يكن إلا دعواه هل يحلف أم لا المذهب على ثلاثة أقوال أحدها أنه لا يمين عليه وهو ظاهر المدونة والثانى أنه يحلف لقد انفلت منه غير تفريط وهو قول ابن الماجشون والثالث إن كان من أهل التهمة حلف وإلا فلا وإن أرسله في حاجة خفيفة فلا ضمان عليه وإن أرسله في حاجة يأبق في مثلها فهو ضامن وهو قول أشهب في كتابه.

‌مذهب الشافعية:

جاء في نهاية

(3)

المحتاج: أنهم أجمعوا على جواز أخذ اللقطة في الجملة لأحاديث فيها يأتى بعضها مع أن الآيات الشاملة للبر والإحسان تشملها. وفى اللقَّط معنى الأمانة إذ لا يضمنها. والولاية الدلالة على حفظها كالولى في مال المحجور والاكتساب بتملكها بشرطه وهو المغلب فيها ويستحب الالتقاط لواثق بأمانة نفسه لما فيه من البر بل قال جمع يكره تركه لئلا تقع في يد خائن وقيل يجب حفظ المال لآدمى كنفسه ورد بأنها أمانة أو كسب وكل منهما غير واجب ابتداء وما ذكره بعضهم من وجوبها حيث لم يكن ثم غيره: ثم قال

(4)

: ولا يستحب لغير واثق بأمانة نفسه مع عدم فسقه خشية الضياع أو طرد الخيانة ويجوز له مع ذلك الالتقاط في الأصح لأن خيانته لم تتحقق وعليه الاحتراز أما إذا علم من نفسه الخيانة فيحرم عليه قبولها كالوديعة وقد صرح بذلك ابن سراقة، والثانى لا يجوز خشية استهلاكها.

(1)

من كتاب مواهب الجليل لشرح خليل ج 6 ص 77 الطبعة السابقة.

(2)

المرجع السابق جـ 6 ص 85 الطبعة السابقة.

(3)

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج جـ 5 ص 243 للإمام شمس الدين محمد أبي العباس أحمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملى المنوفى المصري الأنصارى الشهير بالشافعى الصغير في كتاب معه حاشية أبي الضياء نور الدين على بن علي الشيراملى القاهرى وبالهامش حاشية أحمد بن عبد الرازق بن محمد أحمد المعروف بالمغربى الرشيدى طبع مطبعة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده بمصر سنة 1357 هـ، سنة 1938 م

(4)

المرجع السابق جـ 5 ص 424 نفس الطبعة المتقدمة.

ص: 255

وجاء في المذهب

(1)

: هل يجب أخذ اللقطة روى المزنى أنه قال لا أحب تركها وقال في الأم لا يجوز تركها فمن أصحابنا من قال فيه قولان أحدهما لا يجب لأنها أمانة فلم يجب أخذها كالوديعة والثانى يجب لما روى ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال حرمة مال المؤمن كحرمة دمه ولو خاف على نفسه لوجب حفظها فكذلك إذا خاف على ماله وقال أبو العباس وأبو إسحاق وغيرهما إن كانت في موضع لا يخاف عليها لأمانة أهله لم يجب عليه لأن غيره يقوم مقامه في حفظها وإن كان في موضع يخاف عليها لقلة أمانة أهله وجب لأن غيره لا يقوم مقامه فتعين عليه وحمل القولين على هذين الحالين فإن تركها ولم يأخذها لم يضمن لأن المال إنما يضمن باليد أو بالإتلاف ولم يوجد شئ من ذلك ولهذا لا يضمن الوديعة إذا ترك أخذها كاللقطة ثم قال

(2)

: وإذا أخذ اللقطة فهو بالخيار بين أن يمسكها ويتطوع بالإنفاق عليها ويعرفها حولا ثم يملكها وبين أن يبيعها ويحفظ ثمنها ويعرفها ثم يملك الثمن وبين أن يأكلها ويغرم بدلها ويعرفها، فإن أراد البيع ولم يقدر على الحاكم باعها بنفسه لأنه موضع ضرورة وإن قدر على الحاكم ففيه وجهان أحدهما ألا يبيع إلا بإذنه لأن الحاكم له ولاية ولا ولاية للملتقط والثانى يبيع من غير إذنه لأنه قد قام مقام المالك فقام مقامه في البيع وإن أكل فهل يلزمه أن يعزل البدل مدة التصريف فيه وجهان أحدهما لا يلزمه لأن كل حالة جاز أن يستبيح أكل اللقطة لم يلزمه عزل البدل كما بعد الحول ولأنه إذا لم يعزل كان البدل قرضا في ذمته وإذا عزله كان أمانة والقرض أحوط من الأمانة والثانى يلزمه عزل البدل لأنه أشبه بأحكام اللقطة فإن من حكم اللقطة أن تكون أمانة قبل الحول وقرضا بعد الحول فيصير البدل كاللقطة إن شاء حفظها له وإن شاء عرفها ثم تملك ثم قال:

(3)

وإن وجد المحجور عليه لسفه أو جنون أو صغر لقطة صح التقاطه لأنه كسب بفعل فصح من المحجور عليه كالاصطياد وعلى الناظر في أمره أن ينتزعها منه يعرفها لأن اللقطة في مدة التعريف أمانة والمحجور عليه ليس من أهل الأمانة إن كان ممن يجوز الاقتراض عليه تملكها له وإن كان ممن لا يجوز الاقتراض عليه لم يتملك له لأن التملك بالالتقاط كالتملك بالاقتراض في ضمان البدل وإن وجد الفاسق لقطة لم يأخذها لأنه لا يؤمن أن لا يؤدى الأمانة فيها فإن التقطها ففيه قولان أحدهما لا تقر في يده وهو الصحيح لأن الملتقط قبل الحول كالولى في حق الصغير والفاسق ليس من أهل الولاية في المال والثانى أن تقر في يده لأنه كسب بفعل فأقر في يده كالصيد فعلى هذا يضم إليه من يشرف عليه وهل يجوز أن ينفرد بالتعريف فيه قولان أحدهما يجوز لأن التعريف لا يفتقر إلى الأمانة والثانى لا يجوز حتى يكون معه من يشرف عليه لأنه لا يؤمن أن يفرط في التعريف فإذا عرفه ملكه لأنه من أهل التملك.

(1)

المذهب للشيخ الإمام الزاهد الموفق أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادى الشيرازى ج 1 ص 429 في كتاب بأسفله النظم المستعذب في شرح قريب المهذب للعلامة محمد بن أحمد بن بطال الركبى طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1295 هـ.

(2)

المرجع السابق جـ 1 ص 421، ص 432 نفس الطبعة المتقدمة.

(3)

المرجع السابق جـ 1 ص 433، ص 434 نفس الطبعة المتقدمة.

ص: 256

مذهب الحنابلة:

(1)

جاء في المغنى أن اللقطة في الحول أمانة في يد الملتقط إن تلفت بغير تفريطه أو نقصت فلا ضمان عليه كالوديعة ومتى جاء صاحبها فوجدها أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة لأنها نماء ملكه وإن أتلفها الملتقط أو تلفت بتفريطه ضمنها بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال وبقيمتها إن لم يكن لها مثل لا أعلم في هذا خلافا وإن تلفت بعد الحول ثبت في ذمته مثلها أو قيمتها بكل حال لأنها دخلت في ملكه وتلفت من ماله وسواء فرط في حفظها أو لم يفرط وإن وجد العين ناقصة وكان نقصها بعد الحول أخذ العين وإن نقصها لأن جميعها مضمون إذا تلفت فكذلك إذا نقصت وهذا قول أكثر العلماء الذين حكموا بملكه لها بمضى حول التعريف وأما من قال لا يملكها حتى يتملكها لم يضمنه اياها حتى يتملكها وحكمها قبل تملكه إياها حكمها قبل مضى حول التعريف.

‌مذهب الظاهرية:

جاء في المحلى

(2)

: من وجد مالا فى قرية أو مدينة أو صحراء فى أرض العجم أو أرض العرب العنوة أو الصلح مدفونا أو غير مدفون إلا أن عليه علامة أنه من ضرب مدة الإسلام أو وجد مالا قد سقط أى مال كان فهو لقطة وفرض عليه أخذة وأن يشهد عليه عدلا واحدا فأكثر ثم يعرضه ولا يأتى بعلامته لكن تعريفه هو أن يقول في المجامع الذي يرجو وجود صاحبه فيها أولا يرجوه من ضاع له مال فليخبر بعلامته فلا يزال كذلك سنة قمرية فإن جاء من يقيم عليه بينة أو من يصف عفاصه ويصدق في صفته ويصف وعاءه ويصدق فيه ويصف رباطه ويصدق فيه ويعرف عدده ويصدق فيه أو يعرف ما كان له من هذا. دفعها إليه كانت له بينة أولم تكن ويجبر الواحد على دفعه إليه ولا ضمان عليه بعد ذلك، ولو جاء من يثبته ببينة. فإن لم يأت أحد يصدق في صفته بما ذكرنا ولا بينة فهو عند تمام السنة مال من مال الواجد غنيا كان أو فقيرا يفعل فيه ما شاء ويورث عنه إلا أنه متى قدم من يقيم فيه بينة أو يصف شيئا مما ذكرنا فيصدق ضمنه له إن كان حيا أو ضمته له الورثة إن كان الواجد له ميتا فإن كان ما وجد شيئا واحدا لدينار واحد أو درهم واحد أو لؤلؤة واحدة أو ثوب وأحد أو أي شئ كان كذلك لا رباط له ولا وعاء ولا عفاص فهو الذي يجده من حين يجده ويعرفه أبدا طول حياته فإن جاء من يقيم عليه بينة فقط ضمنه له فقط هو أو ورثته بعده وإلا فهو له أو لورثته يفعل فيه ما شاء من بيع أو غيره وكذلك ورثته بعده ولا يرد ما أنفذوا في فإن كان ذلك في حرم مكة - حرمها الله تعالى - أو في رفعة قوم ناهضين إلى العمرة أو الحج عرف أبدا ولم يحل له تملكه بل يكون موقوفا فإن يئس بيقين عن معرفة صاحبه فهو في جميع

(1)

المغنى لابن قدامة لأبى محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسى على مختصر أبى القاسم عمر بن حسين بن عبد الله بن أحمد الخرقى جـ 5 ص 647، 648، 649 طيع مطبعة المنار سنة 1367 هـ الطبعة الثالثة.

(2)

المحلى لأبن حزم الظاهرى جـ 1 ص 257 مسألة رقم 1383 طبع إدارة الطباعة المنبرية بمصر طبعة أولى سنة 1350 هـ.

ص: 257

مصالح المسلمين، ثم قال ابن حزم: أما الضوال

(1)

من الحيوان فلها ثلاثة أحكام أما الضأن والمعز فقط كبارها وصفارها توجد بحيث يخاف عليها الذئب أو من يأخذها من الناس ولا حافظ لها ولا هي بقرب ماء منها فهى حلال لمن أخذها سواء جاء صاحبها أو لم يجئ وجدها حية أو مذبوحة أو مطبوخة أو مأكولة لا سبيل له عليها، وأما الإبل القوية على الرعى وورود الماء فلا يحل لأحد أخذها وإنما حكمها أن تترك ولا يد فمن أخذها ضمنها إن تلفت عنده بأى وجه تلفت وكان عاصيا بذلك إلا أن يكون شئ من كل ما ذكرنا من لقطة أو ضالة يعرف صاحبها فحكم كل ذلك أن ترد إليه ولا تعريف في ذلك وأما كل ما عدا ما ذكرنا من إبل لا قوة بها على ورود الماء والرعى وسائر البقر والخيل والبغال والحمير والصيود كلها المتملكة والأباقى من العبيد والإماء وما أضل صاحبه منها والغنم التى تكون ضوال بحيث لا يخاف عليها الذئب ولا إنسان وغير ذلك كله ففرض أخذه وضمه وتعريفه أبدا فإن يئس من معرفة صاحبها أدخلها الحاكم أو واجدها في جميع مصالح المسلمين.

‌مذهب الزيدية

(2)

:

جاء في التاج المذهب أن اللقطة حكمها حكم الوديعة إلا في أحد عشر حكما.

الأول: جواز وضع في المريد. والثانى أنه يجوز للملتقط الإيداع للضالة والسفر بها بلا عذر يقتضى الإيداع والسفر بها بخلاف الوديعة فلا يجوز إيداعها ولا السفر بها الموجب للقصر إلا لعذر، الثالث: أنه لو غصبها غاصب فأتلفها أو أتلفها متلف وهى في يده وجب عليه مطالبة الغاصب والجانى بالقيمة للقيمى ومثل للمثلى والأرش ويبرأ الجانى بالرد إليه بخلاف الوديعة. والرابع: أنه إذا أنفق على الضالة كان له أن يرجع بما أنفق بنيته. الخامس: إذا ضلت انقطع حقه. السادس إذا وطئ الجارية لحقه نسبه ولا حد مع الجهل، السابع، نية الرد. الثامن، يمين العلم، التاسع وجوب التعريف، العاشر: وجوب التصدق. الحادى عشر: اشتراط الحرية في الوديعة لا هنا. وقال بعد ذلك: ثم بعد التعريف بها سنة ولم يجد مالكها تصرف إذا كانت دون نصاب في فقير من فقراء المسلمين إن أحب وإلا بقيت عنده لأنه لا يحب الدخول فيما عاقبته التضمين أو في مصلحة ولو زادت على النصاب بالمسجد أو منهل أو طريق أو مقبرة أو مفت أو مدرس أو حاكم أو إمام أو في الفقراء لكل فقير دون النصاب وله أن يصرفها في نفسه إذا كانت مصلحة أو دون النصاب إذا كان فقيرا وإنما تصرف إذا مضت السنة بعد اليأس من وجود

(1)

المرجع السابق جـ ص 270 الطبعة السابقة.

(2)

التاج المذهب لأحكام المذهب شرح متن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار للقاضى أحمد بن قاسم العنسي اليمانى الصنعانى جـ 3 ص 446، ص 447، ص 449، ص 450 طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى اليمانى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1366 هـ سنة 1947 م الطبعة الأولى.

ص: 258

المالك أو معرفته أو عودة ولا عبرة بمضى العمر الحقيقى فإن كان راجيا له فلا يصرفها ولو عرف بها، وأن لا يصرف بعد التعريف واليأس بل صرفها قبل اليأس ضمن لبيت المال لأنه متعد بالصرف قبل ذلك وأما الضمان للمالك فهو يضمن مطلقا سواء صرفها قبل اليأس أو بعده قيل القول للمؤيد بالله ومعناه أنه يضمن لبيت المال لو صرفها قبل اليأس وأن أيس بعد الصرف فلا ينفع الملتقط اليأس بعد أن صرف قبل اليأس إذ العبرة عند المؤيد بالله بالابتداء والمختار أن العبرة بالانتهاء على أصل الهادوية وهى قاعدة أصل المذهب اعتبار الانتهاء في العبادات والابتداء في المعاملات فلا يضمن لبيت المال شيئا لحصول اليأس بعد الصرف.

وجاء في شرح الأزهار: والوديعة أمانة فلا تضمن إلا بتعد من الوديع كأن يتصرف فيها لنفسه باستعمال نحو أن يلبس الثوب أو يركب الدابة ونحو إعارة أو تأجير أو رهن فإنه يصير ضامنا بذلك لأجل التعدى ومن التعدى وقوع تحفظ لها فيما لا يحفظ مثلها في مثله فلو وضع الوديعة في موضع ليس مثله حرزا لمثلها فإنه يضمنها بذلك.

جاء في التاج المذهب إنه لا يشترط أن يكون الملتقط مسلما عدلا بل يصح التقاط الفاسق والكافر كالمستأمن والذمى مع الأمانة كالاستيداع لا الحرب أو من لا أمانة لهم فلا يصح التقاطها. قيل صاحب الوافى ويشترط أن يلتقطه وهو حر أو مكاتب وهذا خلاف المقرر للمذهب، والمختار للمذهب هو أن للعبد أن يلتقط ولو بغير إذن سيده، وولاية ذلك إليه لا إلى سيده. وحاصل المذهب أن نقول إن تلفت منه بغير تفريط فلا ضمان على السيد ولا على العبد، وإن تلفت بتفريط أو جناية وهو مأذون بالالتقاط ضمن السيد ضمان المعاملة وذلك بأن يسلمه أو يفديه بقدر قيمته وإن لم يكن مأذونا له فالضمان في ذمته حتى يعتق لأنه مأذون له من جهة الشرع وإن يأخذها بمجرد نية الرد فقط أو ليعرف بها فلو أخذها من غير نية الرد أو للرد إن وجد المالك وإلا فلنفسه بغير الصرف المعتبر أو أخذها بغير نية على وجه الغفلة ضمن ضمان الغصب ولو نوى بعد ذلك الرد لم يخرج عن الضمان وزاد أبو حنيفة شرطا وهو الاشهاد عند الأخذ وعندنا والشافعى ليس بشرط لأنه يقبل قوله بعد التلف أنه أخذها للحفظ إذ لا يعرف قصده إلا من جهته وهو المذهب إذا ادعى المالك أنه أخذها لا للحفظ. وإذا توفرت شروط الالتقاط ضمن الملتقط ضمان غصب للمالك أن كان أو لبيت المال إن لم يكن لها مالك ولا ضمان عليه إن ترك اللقطة ولم يلتقطها وأخذها آخذ، ولا يلتقط لنفسه ما تردد في إباحته كما يجره السيل عما فيه ملك ولو مع مباح.

‌مذهب الإمامية:

إن اللقطة كل مال ضائع أخذ فلا يد عليه فما كان دون الدرهم جاز أخذه والانتفاع به بغير

ص: 259

تعريف وما كان أزيد من ذلك فإن وجد في الحرم قيل يحرم أخذه وقيل يكره وهو أشبه ولا يحل إلا مع نية الإنشاد ويجب تعريفها حولا فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها أو استبقاها أمانة وليس له تملكها ولو تصدق بها بعد الحول فكره المالك ففيه قولان أرجحهما أنه لا يضمن لأنها أمانة وقد دفعها دفعا مشروعا وإن وجدها في غير الحرم عرفها حولا إن كانت عما يبقى كالثياب والأمتعة والأثمان ثم هو مخير بين تملكها وعليه ضمانها وبين الصدقة بها عن مالكها، ولو حضر المالك فكره الصدقة لزم الملتقط ضمانها إما مثلا وإما قيمة وبين إبقائها في يد الملتقط أمانة لمالكها من غير ضمان ولو كانت مما لا يبقى كالطعام قومه على نفسه وانتفع به وإن شاء دفعه إلى الحاكم ولا ضمان، ولو كان بقاؤها يفتقر إلى العلاج كالرطب المفتقر إلى التجفيف يرفع خبرها إلى الحاكم ليبيع بعضها وينفقه في إصلاح الباقى وإن رأى الحاكم الحظ في بيعه وتعريف ثمنه جاز. ثم قال

(1)

: قيل ولا يجب التعريف إلا مع نية التملك وفيه إشكال ينشأ من خفاء حالها عن المالك ولا يجوز تملكها إلا بعد التعريف ولو بقيت في يده أحوالا وهى أمانة في يد الملتقط في مدة الحول لا يضمنها إلا بالتفريط أو التعدى فتلفها من المالك وزيادتها له متصلة كانت الزيادة أو منفصلة وبعد التعريف يضمن إن نوى التملك. ولا يضمن إن نوى الأمانة، ولو نوى التملك فجاء مالك لم يكن له الانتزاع وطالب بالمثل أو القيمة إن لم تكن مثلية، ولو رد الملتقط العين جاز له النماء المنفصل، ولو عابت بعد التملك فأراد ردها ردها مع الأرش جاز وفيه إشكال لأن الحق تعلق بغير العين فلم يلزمه أخذها معيبة، وإذا التقط العبد ولم يعلم المولى فعرف حولا ثم أتلفها تعلق الضمان برقبته يتبع بذلك إذا أعتق كالفرض الفاسد، ولو علم المولى قبل التعريف ولم ينتزعها منه ضمن لتفريطه بالإهمال إذا لم يكن أمينا وفيه تردد ولو عرفها العبد ملكها المولى إن شاء وضمن ولو نزعها المولى لزمه التعريف وله التملك بعد الحول أو الصدقة مع الضمان أو إبقائها أمانة.

(1)

المرجع السابق جـ 2 ص 179 نفس الطبعة السابقة.

ص: 260

‌مذهب الإباضية:

جاء في النيل

(1)

وشرحه أنه وجب على قادر بالغ عاقل حر عند الجمهور وهو القول الصحيح وهو قول أصحابنا رحمهم الله تعالى أخذ ضالة غنم ضأنًا أو معزًا وحفظها لربها من تلف إن وجدت بحيث لا يرجع إليها قبله أي قبل التلف بأكل سبع أو عطش أو جوع أو سرقة ويضمنها لربها إن عرفه وللفقراء إن لم يعرفه إذا لم يأخذها لأن حفظها واجب عليه ويؤديها آخذها لربها إن عرفه وإلا حفظها وعرفها وكانت عنده أمانة كما هي في حين أخذها أمانة حتى يجئ أو تموت على المختار عند بعض فإن مات أوصى بها هذا هو الأحوط ولا يضمنها إن ماتت بلا تعد منه ولا تضييع وله ثواب الواجب على ذلك وبيعها وأنفق ثمنها فإن بان صاحبها خيره بين الثواب والغرم فليس هذا القول المختار منافيًا لقوله هي لك أو لأخيك ونحوه من الأحاديث لأن إثباتها لواجدها بعد التعريف ليس إيجابًا بل إباحة بالإجماع ثم إنه رآها تموت بنحو مرض فليذبحها ويحفظ لحمها وجلدها وإن خاف فسادًا باعهما وحفظ ثمنهما لربها.

‌الأمين في الرهن

‌مذهب الحنفية:

جاء في المبسوط

(2)

: إذا وُضِع الرهن عند عدل فدفعه العدل إلى الراهن أو المرتهن كان ضامنًا له لأنه خالف فيما صنع وكل واحد منهما منعه من دفعه إلى الآخر بغير رضاه فيكون الدفع خيانة في حقه، وكذلك لو استودعه رجل أجنبى لأن العدل أمين في حفظ الرهن كالمستودع، والمودع إذا أودع أجنبيًا صار ضامنًا وإن أودعه بعض من في عياله لم يضمنه لأنه يحفظ الوديعة على الوجه الذي يحفظ مال نفسه فكذلك العدل وكذلك المرتهن لو كان الرهن عنده فدفعه إلى من في عياله لم يضمنه وإن دفعه إلى أجنبى كان ضامنًا للعين، وإذا كان العدل رجلين والرهن مما لا يقسم فوضعاه عند أحدهما كان جائزًا ولا ضمان فيه كالمودعين لأنه لما أودعهما مع علمه بأنه لا يتهيأ لهما الاجتماع على حفظه آناء الليل وأطراف النهار فقد صار راضيًا بترك أحدهما إياه عند صاحبه وإذا كان مما يقسم اقتسماه فكان عند كل واحد منهما نصفه فإن وضعاه عند أحدهما ضمن الذي وضع حصته عند صاحبه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما لا ضمان عليه لأن كل واحد منهما مؤتمن فيه، ولو سافر العدل أو انتقل من البلد فذهب بالرهن معه لم يضمنه لأنه أمين في العين كالمودع وللمودع أن يسافر بالوديعة عندنا ثم قال في المبسوط

(3)

تحت عنوان الرهن الذي لا يضمن صاحبه. وإذا ارتهن عبدًا بألف درهم وقبضه وقيمته ألف درهم ثم وهب المرتهن المال للراهن أو أبرأه منه ولم يرد عليه الرهن حتى هلك عنده من غير أن يمنعه إياه فهو ضامن في القياس قيمته للراهن وهو قول زفر رحمه الله تعالى وفى الاستحسان لا ضمان عليه وهو قول علمائنا

(1)

من كتاب شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد بن يوسف أطفيش باب اللقطة.

(2)

المبسوط جـ 20 ص 78، ص 79.

(3)

المرجع السابق جـ 20 ص 89، ص 90.

ص: 261

الثلاثة رحمهم الله تعالى ثم قال

(1)

: ولو منعه العبد بعد ما أبرأه عن الدين حتى مات في يده ضمن قيمته لأنه كان أمينًا فيه فبالمنع بعد طلب الحق يصير غاصبًا كالمودع، ولو ارتهن المرأة رهنًا بصداقها وهو مسمى وقيمته مثله ثم أبرأته أو وهبته له ولم يقبضه حتى هلك عندها فلا ضمان عليها في الاستحسان وكذلك لو اختلعت منه قبل أن يدخل بها ثم لم يقبضه حتى مات لأن مقصود الزوج هو براءة ذمته عن الصداق بالخلع من غير أن يلزمه شئ آخر وقد حصل وكذلك لو طلقها قبل أن يدخل بها وقد أبرأته عن الصداق، ولو لم تبرئه من الصداق قبل الطلاق ولكن أبرأته من حقها قبل الطلاق أو لم تبرئه حتى هلك فلا ضمان عليها فيه أما إذا أبرأته فلحصول مقصود لقول الزوج وإذا لم تبرئه فقد حصل مقصود الزوج في النصف بالطلاق قبل الدخول وإنما بقى ضمان الرهن في النصف الذي هو حقها فبهلاك الرهن يصير مستوفيًا ذلك القدر خاصة فلهذا لا يلزمها رد شئ.

‌مذهب المالكية:

جاء في بلغة السالك

(2)

أن القول عند تنازع الراهن والمرتهن عند تنازعهما لطالب حوزه عند أمين لأن الراهن قد يكره وضعه عند المرتهن والمرتهن قد يكره وضعه عند خوف الضمان إذا تلف أو غير ولو اتفقا على وضعه عند أمين واختلفا في تعيينه نظر الحاكم في الأصلح منهما فيقدمه وإن سلمه الأمين لأحدهما بلا إذن من الآخر فأسلمه للراهن ضمن للمرتهن الدين أو القيمة أي قيمة الرهن أي الأقل منهما وإن سلمه الأمين للمرتهن وتلف عنده ضمنها أي القيمة للراهن أي تعلق بها ضمانها فإن كانت قدر الدين سقط الدين وبرئ الأمين وإن زادت على الدين ضمن الزيادة للراهن ورجع بها على المرتهن إلا أن تقوم بينة بضياعه بلا تفريط قال أبو الحسن لا فرق هنا بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه لأن الأمين والمرتهن متعديان وجاء في موضع

(3)

آخر وحد مرتهن وطئ أمة مرهونة عنده بلا إذن من راهنها في الوطء إذ لا شبهة له فيها وإلا بإذن أذن له راهنها في وطئها فلا يحد نظرا لقول عطاء بجواز إعارة الفروج فهو شبهة تدرأ الحد قال في المدونة لو اشترى المرتهن هذه الأمة وولدها لم يعتق الولد عليه لأنه لم يثبت نسبه له وهذا إذا لم يأذن له الراهن في الوطء إذ لو أذن فيه كانت به أم ولد ولذا قال وقومت الموطوءة بإذن عليه أي على المرتهن الواطئ بلا ولد حملت أم لا لأن حملها انعقد على الحرية بالإذن فلا قيمة له ويلزم الواطئ قيمتها للراهن وقد ملكها وأما الموطوءة بلا إذن فتقوم بولدها لأنه رقيق وتقويمها لأجل علم ما نقصها الوطء والحمل وترجع لربها مع ولدها للأمين الذي وضع الرهن تحت يده لبيعه أي الرهن في الدين إن أذن له في بيعه أي أذن له الراهن فيه ولو في عقد الرهن وسواء أذن له في بيعه قبل الأجل أو بعده

(1)

المرجع السابق ج 2 ص 92.

(2)

بلغة السالك لأقرب المسالك للعالم العلامة الشيخ أحمد الصاوى على الشرح الصغير للقطب الشهير سيدى أحمد الدردير وبهامشه شرح القطب الشهير سيدى أحمد الدردير جـ 2 من 107 طبع المطبعة الأميرية الكبرى بمصر.

(3)

المرجع السابق للصاوى جـ 2 ص 111، ص 112 الطبعة السابقة.

ص: 262

لأنه وكيل عن ربه حينئذ ما لم يقل إن لم آت بالدين وقت كذا فإن قال ذلك لم يجوز له البيع كالمرتهن يجوز له بيع الرهن إن أذن له بعد العقد الصادق ببعد الأجل لا في حالة العقد ومحل الجواز لهما إن لم يقل الراهن لواحد منهما أو إن لم آت بالدين وإلا بأن قال ما ذكر لواحد منهما أو أذن للمرتهن في صلب العقد قال أو لم يقل لم يجز البيع في الصور الخمسة وأولى إن لم يأذن أصلًا إلا بإذن الحاكم وهو معنى قوله فبإذن الحاكم ليثبت عنده العسر أو المطل أو الغيبة للراهن وإلا يستأذن الحاكم وباع الأمين أو المرتهن بلا رفع للحاكم مضى بيعه من الأمين أو المرتهن وإن لم يجز ابتداء وباع الحاكم الرهن إن امتنع ربه من بيعه بعد الأجل ومن وفاء الدين فيما إذا لم يأذن وكذا يبيع الحاكم إن غاب الراهن أو مات إلا أنه في الغيبة لابد من يمين الاستظهار وإن قال الأمين للمرتهن بعت الذات المرهونة بمائة مثلًا وسلمتها لك فأنكر المرتهن ضمن الأمين فلا يصدق في التسليم إلا ببينة وأمانته لا تسرى على تسليم الثمن وجاء

(1)

في موضع آخر وضمن الرهن مرتهن إن كان الرهن بيده وهو مما يغاب عليه أي يمكن إخفاؤه عادة كالحلى والثياب والسلاح والكتب لا إن كان بيد أمين أو كان مما لا يغاب عليه كالحيوان وادعى ضياعه أو تلفه ولم تقم على هلاكه بينة لا إن قامت فشروط ضمانه ثلاثة كونه بيده وكان مما يغاب عليه ولم تقم على هلاكه بينة بضياعه بغير تفريط فيضمنه المرتهن ولو اشترط البراءة من الضمان ولا متطوع به وهو المشترط في العقد وعلم احتراق محله وادعى احتراقه أو سرقة محله وادعى أنه سرق من جملة المتاع فيضمن ولا ينفعه ذلك إلا ببقاء بعضه لم يحرق وإلا بأن كان بيد أمين أو كانا مما لا يغاب عليه أو قامت على ضياعه بينة أو كان مقطوعًا به بعد العقد واشترط عدم الضمان على ما قاله اللخمى والمازنى أو علم احتراق محله وبقى البعض بلا حرق مع ظهور أثر الحرق فلا ضمان على المرتهن أن ضمانه ضمان تهمة وقد زالت فلا ضمان ولو اشترط ثبوت الضمان إلا أن تكذبه البينة الشاملة العدل.

‌مذهب الشافعية:

جاء في

(2)

نهاية المحتاج: أن المرهون أمانة فى يد المرتهن لخبر "الرهن من راهنه أي من ضمانه له غنمه وعليه غرمه فلا شرط كونه مضمونًا لم يصح الرهن واستثنى البلقينى تبعًا للمحاملى ثمانى مسائل ما لو تحول المغصوب رهنًا أو تحول المرهون غصبًا أو تحول المرهون عارية أو تحول

(3)

المستعار رهنًا أو رهن المقبوض ببيع فاسد أو رهن مقبوض بسوم أو رهن ما بيده بإقالة أو فسخ قبل قبضه أو خالع على شئ ثم رهنه قبل قبضه ممن خالعه ولا يسقط بتلفه شيء من دينه كموت الكفيل بجامع التوثق ولأنه لو سقط بتلفه لكان تضييعًا له.

(1)

المرجع السابق للدردير جـ 2 ص 113 الطبعة السابقة.

(2)

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين محمد بن أبي العباسى أحمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملى المتوفى المصرى الأنصارى الشهير بالشافعى الصغير جـ 4 ص 273 في كتاب بحاشيته حاشية أبي الضياء نور الدين على بن علي الشبراملسى القاهرى وبالهامش حاشية أحمد بن عبد الرزاق بن محمد بن أحمد المعروف بالمغربى الرشيدى طبع مطبعة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده بمصر سنة 1357 هـ سنة 1938 م.

(3)

المرجع السابق جـ 4 ص 274 نفس الطبعة المتقدمة.

ص: 263

‌مذهب الحنابلة:

جاء في المغنى

(1)

: إنه إذا تعدى المرتهن في الرهن أو فرط في الحفظ للرهن الذي عنده حتى تلف فإنه يضمن لا نعلم في وجوب الضمان عليه خلافًا ولأنه أمانة فى يده فلزمه ضمانه إذا تلف بتعديه أو تفريطه كالوديعة. وأما إذا تلف من غير تعد منه ولا تفريط فلا ضمان عليه وهو من مال الراهن يروى ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال عطاء والزهرى والأوزاعى ويروى عن شريح والنخعى والحسن أن الرهن يضمن بجميع الدين وإن كان أكثر من قيمته لأنه لا يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال "الرهن بما فيه" وقال مالك إن كان تلفه بأمر ظاهر كالموت والحريق فمن ضمان الراهن وإن ادعى تلفه بأمر خفى لم يقبل قوله وضمن. وقال الثورى وأصحاب الرأى يضمنه المرتهن بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واحتجوا بما روى عطاء أن رجلًا رهن فرسًا فنفق عند المرتهن فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال "ذهب حقك ولأنها عين مقبوضة للاستيفاء فيضمنها من لذلك أو من قبضها نائبه لحقيقة المتوفى ولأنه محبوس بدين فكان مضمونًا كالبيع إذا حبس لاستيفاء ثمنه. ولنا ما روى ابن أبي ذئب عن الزهرى عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يغلق الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه" رواه الأشرم عن أحمد بن عبد الله بن يونس عن ابن أبي ذئب ورواه الشافعي عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب ولفظه "الرهن من صاحبه الذي رهنه" وباقيه سواء قال ووصله ابن المسيب عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم مثله أو مثل معناه من حديث أبى أنيسة ولأنه وثيقة بالدين فلا يضمن كالزيادة على قدر الدين وكالكفيل والشاهد ولأنه مقبوض بعقد واحد بعضه أمانة فكان جميعه أمانة كالوديعة وعند ما لك أن لا ما لا يضمن به العقار لا يضمن به الذهب كالوديعة. فأما حديث عطاء فهو مرسل وقول عطاء يخالف. قال الدارقطني: يرويه إسماعيل بن أمية وكان كذابًا وقيل يرويه مصعب بن ثابت وكان ضعيفًا، ويحتمل أنه أراد ذهب حقك من الوثيقة بدليل أنه لم يسأل عن قدر الدين وقيمة الفرس. وحديث أنس إن صح فيحتمل أنه محبوس بما فيه، وأما المستوفى فإنه صار ملكًا للمستوفى وله نماؤه وغنمه فكان عليه ضمانه وغرمه بخلاف الرهن والبيع قبل القبض ممنوع.

‌مذهب الظاهرية:

قال ابن حزم الظاهرى

(2)

فى المحلى: هلاك الرهن بغير فعل الراهن ولا المرتهن للناس فيه خمسة أقوال قالت طائفة: يترادان الفضل وتفسير ذلك أن الرهن إن كانت قيمته وقيمة الدين سواء فقد سقط الدين عن الذي كان عليه ولا ضمان عليه في الرهن فإن كانت قيمة الرهن أكثر سقط الدين بمقداره من الرهن وكلف المرتهن أن يؤدى إلى الراهن مقدار ما كان تزيده قيمة الرهن على قيمة الدين وإن كانت قيمة

(1)

المغنى: جـ 1 ص 442، ص 443 الطبعة المذكورة.

(2)

المحلى للإمام أبي محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم جـ 8 ص 96 وما بعدها مسألة رقم 1214 طبع إدارة الطباعة المنبرية تحقيق محمد منير الدمشقى طبعة أولى سنة 1350 هـ.

ص: 264

الرهن أقل سقط من الدين بمقداره وأدى الراهن إلى المرتهن فضل ما زاد الدين على قيمة الرهن روينا من طريق الحكم وقتادة أن على بن أبي طالب قال: يتراجعان الفضل، يعنى في الرهن يهلك، وروى أيضًا عن ابن عمر وهو قول عبيد الله بن الحسن وأبى عبيد وإسحاق بن راهويه، وقالت طائفة: إن كانت قيمة الرهن أكثر من قيمة الدين أو مثلها فقد بطل الدين كله ولا غرامة على المرتهن في زيادة قيمة الرهن على قيمة الدين فإن كانت قيمة الرهن أقل من قيمة الدين سقط من الدين بمقدار قيمة الرهن وأدى الراهن إلى المرتهن ما بقى من دينه، روينا هذا من طريق الوراق عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عمر بن الخطاب ومن طريق وكيع عن علي بن صالح بن حى عن عبد الأعلى بن عامر عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب ومن طريق قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن علي ومن طريق وكيع عن إدريس الأودى عن إبراهيم بن عمير قال: سمعت ابن عمر يقول: مثل ذلك وهو قول إبراهيم النخعى وقتادة وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه، وقالت طائفة: ذهب الرهن بما فيه سواء كان كقيمة الدين أو أقل أو أكثر. إذا تلف سقط الدين ولا يغرم أحدهما للآخر شيئا، صح هذا عن الحسن البصرى وإبراهيم النخعى وشريح والشعبى والزهرى وقتادة وصح عن طاووس في الحيوان يرتهن، وروينا عن النخعى والشعبى فيمن ارتهن عبدًا فاعور عنده قالا: ذهب بنصف دينه، وقالت طائفة، إن كان الرهن مما يخفى كالثياب ونحوها فضمان ما تلف منها على المرتهن بالغة ما بلغت ويبقى دينه بحسبه حتى يؤدى إليه بكماله، وإن كان الرهن مما يظهر كالعقار والحيوان فلا ضمان فيه على المرتهن ودينه باق بكماله حتى يؤدى إليه وهو قول مالك، وقالت طائفة: سواء كان مما أو مما لا يخفى لا ضمان فيه على المرتهن أصلًا ودينه باق بكماله حتى يؤدى إليه وهو قول الشافعي وأبى ثور وأحمد بن حنبل وأبى سليمان وأصحابهم، روينا من طريق الحجاج بن المنهال حدثنا همام بن يحيى حدثنا قتادة عن خلاس أن على بن أبي طالب قال في الرهن: يترادان الفضل فإن أصابته جائحة برئ، فصح أن على بن أبي طالب لم ير تراد الفضل إلا فيما تلف بجناية المرتهن لا فيما أصابته جائحة بل رأى البراءة له مما أصابته جائحة. وصح عن عطاء أنه قال: الرهن وثيقة إن هلك فليس عليه غرم بأخذ الدين الذي له كله، وعن الزهرى أنه قال في الرهن يهلك أنه لم يذهب حق هذا إنما هلك من رب الرهن له غنمه وعليه غرمه. قال أبو محمد

(1)

: والواجب الرجوع إلى القرآن والسنة، فوجدنا ما حدثناه أحمد بن قاسم. . . حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهرى عن سعيد بن المسيب وأبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يغلق الرهن. الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه، فهذا مسند من أحسن ما روى في هذا الباب، قال أبو محمد: وقد صح في ذم قوم في القرآن قوله تعالى: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما} ،

(2)

أي يراء هالكًا بلا منفعة. قال أبو محمد: ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، فلم يحل لغريم المرتهن

(1)

المرجع السابق جـ 8 ص 99 الطبعة السابقة.

(2)

الآية رقم 98 من سورة التوبة.

ص: 265

شيئًا ولا أن يضمن الرهن بغير نص في تضمينه إلا أن يتعدى فيه أو بأن يضيعه فيضمنه حينئذ باعتدائه في كلا الوجهين. وكذلك الدين قد وجب فلا يسقطه ذهاب الرهن، فصح يقينًا من هذين الأصلين الصحيحين بالقرآن والسنة والإجماع أن هلاك الرهن من الراهن ولا ضمان على المرتهن، وأن دين المرتهن باق بحسبه لازم للمراهن وبالله تعالى التوفيق.

‌مذهب الزيدية:

جاء في التاج المذهب أن

(1)

الرهن مع المرتهن كالوديعة في يد الوديع في تحريم الانتفاع به والتصرف من رهن وتأجير وبيع ونحو ذلك من التصرفات خلا بيع ما خشى فساد فيجوز إلا انه يخالف الوديعة في أمرين: أحدهما جواز الحبس.

والثانى أن الرهن في العقد الصحيح مضمون على المرتهن لا في الفاسد.

وجاء في موضع آخر

(2)

. ويضمن المرتهن ضمان الجناية إن أتلف الرهن بتعد منه كذبح للحيوان وغير ذلك من وجوه التعدى فيضمن ضمان جناية إن أحب المالك وإلا فضمان الرهن. فعرفت من هذا أن لا فرق بين ضمان الرهن سواء كان بجناية أم لا. وإنما المراد الإشارة إلى الفرق بين الضمانين. وفى نقصان

(3)

الرهن في يد المرتهن بغير السعر نحو أن ينقص لأجل جناية أو آفة سماوية أو هزال أو نحو لك نقصانًا يسيرًا وهو نصف قيمته فما دون لزم الأرش على المرتهن وهو ما بين قيمته ناقصًا وبين أوفر القيم من يوم القبض إلى حين النقصان غالبًا احتراز من صورة فإن المرتهن لا يضمن الأرش لأنه يؤدي إلى الربا إذ هو ضمان معاملة لا ضمان جناية فكان كالبيع نحو: أن يرهن منجد أو دملوج فينخدش أو يتهشم من دون جناية من المرتهن ولا من غيره ولا نقص في وزنه فلا ضمان على المرتهن في هذه الصورة لأن الراهن إذا أخذ مع الدملوج أرش ما نقص من قيمته ولم ينقص من وزنه فذلك ربا. وإن كان النقص كثيرًا وهو ما فوق نصف القيمة ثبت التخيير للراهن بين قبض العين المرهونة مع الأرش أو يتركها للمرتهن ويأخذ أوفر القيم لها قبل النقص.

‌مذهب الإمامية:

جاء في

(4)

شرائع الإسلام: أنه يجوز للمرتهن ابتياع الرهن والمرتهن أحق باستيفاء دينه من غيره من الغرماء سواء كان الراهن حيًّا أو ميتًا على الأشهر، ولو أعوز ضرب مع الغرماء بالفاضل والرهن أمانة في يده لا يضمنه لو تلف، ولا يسقط به شيء من حقه ما لم يتلف بتفريطه، ولو تعرف فيه بركوب أو سكنى أو إجادة ضمن ولزمته الأجرة. ثم قال

(5)

: والرهن لازم من جهة

(1)

التاج المذهب جـ 3 ص 234 الطبعة السابقة.

(2)

المرجع السابق جـ 3 ص 235 الطبعة السابقة.

(3)

المرجع السابق جـ 2 ص 237 الطبعة السابقة.

(4)

شرائع الإسلام في الفقه الإسلامي الجعفرى الإمامى جـ 1 ص 196 طبع مطبعة دار منشورات مكتبة الحياة ببيروت سنة 1295 هـ.

(5)

المرجع السابق جـ 1 ص 197 نفس الطبعة السابقة.

ص: 266

الراهن، ليس له انتزاعه إلا مع اقباض الدين أو الإبراء منه أو تصريح المرتهن بإسقاط حقه من الارتهان وبعد ذلك يبقى الرهن أمانة في يد المرتهن، ولا يجب تسليمه إلا مع المطالبة.

‌مذهب الإباضية:

جاء فى النيل وشرحه

(1)

إن المرتهن مصدق في دعوى ذهاب الرهن كله أو بعضه بأن قال ذهب قبل الفك أو الفسخ إن ادعاه أي ادعى الذهاب وإن كان الإدعاء بعد استيفاء حقه أو الإبراء منه أو فكه بنسخ ونحوه فإن ادعى أن ذلك بعد كان ضامنًا له لأنه في يده حينئذ على غير الأمانة إلا إن امتنع من أخذه أو غاب فلا ضمان وإن ادعى أن ذلك قبل فإنه يذهب بماله فإن كان فضل فهو أمين في الفضل ولزمه رد ما قبض من دينه قبل الوقت الذي قال إنه ذهب فيه وفيه الأقوال المتقدمة في ذهاب الرهن أو بعضه وفى كلام الشيخ ما نصه وإن ذهب الرهن من يد المرتهن بعد ما استوفى حقّه وأما ذهابه قبل أخذ حقه فقد قال الجمهور أنه يضمن قدر دينه ويكون أمينًا في الزايد وهو المشهور وظاهر قوله مصدق أنه لا يمين عليه لأن اليمين إنما هو عن تكذيب أو ريبة والتصديق لا تكذيب فيه ولا ريب وهو كذلك لا يمين عليه وهو قول من قال المؤتمن أمين ولا يمين عليه وكذلك الحكم إذا اختلف الراهن والمرتهن بأن القول قول المرتهن مع يمينه وهو قول آخر وهو قول من قال المؤتمن أمين وعليه يمين وذلك قولان جزمًا لكن لا مانع أن يحمل قوله مصدق على إذا لم يتهمه الراهن فلا يمين ويحمل قوله مع يمينه على ما إذا اتهمه فإنه إذًا يتهمه في قلبه فلا يجوز له فيما بينه وبين الله تحليفه وإذا أقر أنه لم يتهمه فلا يحكم له بالتحليف ويحتمل أن يريد بقوله مصدق أنه محكوم عليه بحكم الصادق في أنه لا ضمان عليه ولو كان عليه يمين.

‌الأمين في المضاربة

‌مذهب الحنفية:

جاء في الهداية

(2)

وشروحها بأن المال المدفوع إلى المضارب أمانة في يده لأنه قبضه بأمر مالكه لا على وجه البدل والوثيقة وهو وكيل فيه لأنه يتصرف فيه بأمر مالكه وإذا ربح فهو شريك فيه لتملكه جزءًا من المال بعمله فإذا فسدت ظهرت الإجارة حتى استوجب العامل بأجر مثله وإذا خالف كان غاصبًا لوجود التعدى منه على مال غيره وقال صاحب الكافى المضارب أمين لأنه قبض المال بإذن مالكه لا على جهة المبادلة والوثيقة بخلاف المقبوض على سوم الشراء لأنه قبضه بدلًا وبخلاف الرهن لأنه قبضه وثيقة ثم قال

(3)

: ولابد أن يكون المال مسلما إلى المضارب ولابد لرب المال فيه لأن المال أمانة في يده فلابد من التسليم إليه وهذا بخلاف الشركة لأن المال في المضاربة من أحد الجانبين والعمل من الجانب الآخر فلابد أن يخلص المال للعامل ليتمكن من التصرف فيه، أما العمل في الشركة

(1)

من كتاب شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد بن يوسف اطفيش ج 5 ص 550 طبع مطبعة يوسف البارونى وشركاه الطبعة السابقة سنة 1348 هـ.

(2)

الهداية وشروحها فتح القدير ج 7 ص 58 في كتاب بهامشه شرح العناية على الهداية وحاشية سعدى حلبى.

(3)

المرجع السابق ج ص 13 الطبعة السابقة.

ص: 267

فهو من الجانبين، فلو شرط خلوص اليد لأحدهما لم تنعقد الشركة، وشرط العمل على رب المال مفسد للعقد لأنه يمنع خلوص يد المضارب فلا يتمكن من التصرف فلا يتحقق المقصود سواء كان المالك عاقدًا أو غير عاقد كالصغير لأن يد المالك ثابتة له وبقاء يده يمنع التسليم إلى المضارب، ولا يجوز

(1)

للمضارب أن يضارب إلا أن يأذن له رب المال أو يقول له اعمل برأيك لأن الشئ لا يتضمن مثله لأن المضاربة تضمنت الأمانة أولًا والوكالة ثانيًا وليس للمودع والوكيل الإيداع والتوكيل فكذا المضارب لا يضارب غيره؛ وإذا دفع المضارب المال إلى غيره مضاربة ولم يأذن له رب المال لم يضمن بالدفع ولا يتصرف المضارب الثاني حتى يربح يكون ما اشتراه على المضاربة وبدأ من الضمان لأن الأمر بالشراء لم يرتفع بالجحود بل هو قائم مع الجحود لأن الضمان لا ينافى الأمر بالشراء.

‌مذهب المالكية:

جاء في التاج والإكليل للحطاب

(2)

أنه إن مات العامل في مال القراض فلوارثه الأمين أن يكمله وإلا أتى بابن كالأول وإلا سلموا هدرا ومن المدونة قال مالك من أخذ قراضا فعمل به ثم مات العامل فإن كان ورثته مأمومين قيل لهم تقاضوا الديون وبيعوا السلع وأنتم على سهم وليكم فإن لم يؤمنوا وأتوا بأمين ثقة كان ذلك لهم وإن لم يأتوا بأمين ولم يكونوا مأمونين سلموا ذلك إلى ربه ولا ربح لهم والقول للعامل في تلفه وخسره قال ابن الحاجب والعامل أمين فالقول قوله في ضياعه وخسرانه قال اللخمى إن اختلفا في تلفه فقال العامل ضاع أو سقط منى أو سرق أو غرق أو ما أشبه ذلك كان القول قول العامل في الجميع لأنه أمين والأمين مصدق في أمانته مأمونًا كان أو غير مأمون لأن رب المال رضيه أمينًا.

‌مذهب الشافعية:

جاء في

(3)

المهذب: أن العامل أمين فيما في يده فإن تلف المال في يده من غير تفريط لم يضمن لأنه نائب عن رب المال في التصرف فلم يضمن من غير تفريط كالمودع فإن دفع إليه ألفا فاشترى عبدًا في الذمة ثم تلف الألف قبل أن ينقده في ثمن العبد انفسخ القراض لأنه تلف رأس المال بعينه وفى الثمن وجهان أحدهما أنه على رب المال لأنه اشتراه له فكان الثمن عليه كما لو اشترى الوكيل في الذمة ما وكل في شرائه فتلف الثمن في يده قبل أن ينقده والثانى أنَّ الثمن على العامل لأن رب المال لم يأذن له في التجارة إلا في رأس المال فلم يلزمه ما زاد وإن دفع إليه الفين فاشترى بهما عبدين ثم تلف أحدهما ففيه وجهان أحدهما يتلف من رأس المال ينفسخ فيه القراض لأنه بدل عن رأس المال فكان هلاكه كهلاكه والثانى أنه يتلف من الربح

(1)

شرح العناية مع الهداية ج 7 ص 64 الطبعة السابقة.

(2)

من كتاب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل وبهامشه التاج والإكليل لمختصر خليل أيضًا جـ 5 ص 369، ص 570 طبع مطبعة دار السعادة بمصر سنة 1328 هـ.

(3)

المهذب للشيخ الإمام الزاهد الموفق أبى إسحاق بن إبراهيم بن على بن يوسف الفيروزاياى الشيرازى جـ 1 ص 388 في كتاب بأسفله النظم المستعذب في شرح غريب المهذب للعلامة محمد بن أحمد بن بطال الركبى طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاء بمصر سنة 1140 هـ.

ص: 268

لأنه تصرف في المال فكان في القراض وإن قارضه رجلان على مالين فاشترى لكل واحد منهما جارية ثم أشكلتا عليه ففيه قولان أحدهما تباعان فإن لم يكن فيهما ربح قسم بين ربى المال وإن كان فيهما ربح شاركهما العامل في الربح وإن كان فيهما خسران ضمن العامل ذلك لأنه حصل بتفريطه والقول الثاني أن الجاريتين للعامل ويلزمه قيمتهما لأنه تعذر ردهما بتفريطه فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما.

‌مذهب الحنابلة:

جاء في

(1)

الكشاف: إن العامل أمين في مال المضاربة لأنه يتصرف فيه بإذن مالكه على وجه لا يختص بنفعه فكان أمينًا كالوكيل وفارق المستعير لأنه يختص بنفع العارية. لا ضمان عليه فيما تلف من مال المضاربة بكير تعد ولا تفريط. كالوديع والمرتهن والقول قول العامل في قد رأس، المال لأن رب المال يدعى عليه قبض شئ وهو ينكر والقول قول المنكر فلو جاء بألفين وقال رأس المال ألف والربح ألف فقال رب المال بل الألفان رأس المال فالقول قول العامل في قدر الريح لأنه أمين وفى أنه ربح أو لم يربح وفيما يدعيه من الهلاك والخسران لأن تأمينه يقتضى ذلك ومحل ذلك إن لم تكن لرب المال بينة تشهد بخلاف ذلك وإن ادعى الهلاك بأمر ظاهر كلف بينة تشهد به ثم حلف أنه تلف به، والقول قوله فيما اشتراء لنفسه أو للقراض لأن الاختلاف هنا في نية المشترى وهو أعلم بما نراه لا يطلع عليه أحد سواه ومثله وكيل وشريك عنان ووجوه ويقبل أيضًا قول العامل في نفى ما يدعى عليه من خناية أو جناية أو مخالفته شيئًا مما شرطه رب المال عليه لأن الأصل عدم ذلك.

‌مذهب الظاهرية:

قال ابن حزم الظاهرى فى المحلى

(2)

: لا ضمان على العامل فبما تلف من المال ولو تلف كله ولا فيما خسر فيه ولا شئ له على رب المال إلا أن يتعدى أو يضيع فيضمن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، وإن تعدى

(3)

العامل فريح فإن كان اشترى في ذمته ووزن من مال القراض فحكمه حكم الغاصب وقد صار ضامنًا للمال إن تلف أو لما تلف منه بالتعدى ويكون الريح له لأن الشراء له؛ وإن كان اشترى مال القراض نفسه فالشراء فاسد مفسوخ فإن لم يوجد صاحبه البائع منه فالريح للمساكين لأنه مال لا يعرف له صاحب وهذا قول النخعى والشعبى وحماد بن أبى سليمان وابن شبرمة وأبى سليمان. وأيهما مات

(4)

بطل القراض وعقد الذي له المال إنما كان مع الميت لا مع وارثه إلا أن عمل العامل بعد موت صاحب المال ليس تعديًا وعمل الوارث بعد موت العامل إصلاح للمال وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ

(1)

كشاف القناع على متن الإقناع للعلامة الشيخ منصور بن إدريس الحنبلى وبهامشه شرح المنتهى للشيخ منصور بن يونس البهوتى الحنبلى جـ 2 ص 269 ص 270 طبع المطبعة العامرة الشرفية سنة 1319 الطبعة الأولى.

(2)

المحلى لأبن حزم الظاهرى ج 8 ص 248 مسألة رقم 1372 طبع إدارة الطباعة المنبرية طبعة أولى سنة 1350 هـ.

(3)

المرجع السابق جـ 8 ص 249 مسألة رقم 1375 الطبعة السابقة.

(4)

المرجع السابق جـ 8 ص 249 مسألة رقم 1376 الطبعة السابقة.

ص: 269

وَالتَّقْوَى}

(1)

: فلا ضمان على العامل ولا على وارثه إن تلف المال بغير تعد ويكون الربح كله لصاحب المال أو لوارثه ويكون للعامل ههنا أو لورثته أجر مثل عمل فقط لقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}

(2)

فحرمة عمله يجب أن يقاضى بمثلها لأنه محسن معين على بر، وإن اشترى العامل من مال القراض جارية فوطئها فهو زان وعليه حد الزنا لأن أصل الملك لغيره وولده منها رقيق لصاحب المال. وكذلك ولد الماشية وثمر الشجر وكرى الدور لأنه شئ حدث في ماله وإنما للعامل حظه من الريح فقط ولا يسمى ربحًا إلا ما نمى بالبيع فقط.

‌أمين المضاربة

‌مذهب الزيدية:

إن المضاربة في

(3)

الاصطلاح: دفع المال إلى الغير ليتجر فيه والربح بينهما حسب الشرط وهى عند العقد وكالة دائمة؛ وبعد الدفع أمانة. وبعد التصرف بضاعة؛ أي يرتجى الربح فيها. وبعد الريح شركة فإن فسدت فإجارة وإن خالف فغرامة أي يضمنها والأصل فيها فعل لا بينة فيما أقرضهما أبو موسى من بيت المال ولم ينكر وفعل عثمان وابن مسعود وحكيم بن حزام.

وقول عبد الله بن عمر وحكيم بن حزام، وقول على رضي الله عنه "لا ضمان عليه" الخبر وكانت قبل الإسلام فأقرها والقصد بها حصول النماء. فلا إذن فيما لا يؤثر فيه.

‌مذهب الإمامية:

وجاء في العروة

(4)

الوثقى: أن العامل أمين فلا يضمن إلا بالخيانة كما لو أكل بعض مال المضاربة أو اشترى شيئًا لنفسه فأدى الثمن من ذلك أو وطئ الجارية المشتراة أو نحو ذلك أو التفريط بترك الحفظ أو التصدى بأن خالف ما أمره به أو نهاه عنه، كما لو سافر مع نهيه عنه أو عدم إذنه في السفر أو اشترى ما نهى عن شرائه أو ترك شراء ما أمره به فإنه يصير بذلك ضامنًا للمال لو تلف ولو بآفة سماوية وأن بقيت المضاربة كما مر والظاهر ضمانه للخسارة الحاصلة بعد ذلك أيضًا، وإذا رجع عن تعديه أو خيانته فهل يبقى الضمان أولا به وجهان مقتضى الاستصحاب بقاؤه كما ذكروا في باب الوديعة أنه لو أخرجها الودعى عن الحرز بقى الضمان وإن ردها بعد ذلك إليه، ولكن لا يخلو عن إشكال لأن المفروض بقاء الإذن وارتفاع سبب الضمان. ولو اقتضت المصلحة بيع الجنس في زمان ولم يبع ضمن الوديعة إن حصلت بعد ذلك، وهل يضمن بنية الخيانة مع عدم فعلها به وجهان من عدم كون مجرد النية خيانة ومن صيرورة يده حال النية بمنزلة يد الغاصب والأقوى العدم ويمكن الفرق بين الغرم عليها فعلًا وبين الغرم على أن يخون بعد ذلك. والظاهر عدم الفرق بينهما.

(1)

الآية رقم 2 من سورة المائدة.

(2)

آية 194 سورة البقرة.

(3)

البحر الزخار جـ 4 ص 79، ص 80 الطبعة السابقة.

(4)

العروة الوثقى للعلامة الفقيه السيد محمد كاظم الطباطبائى اليزدى جـ 1 ص 564 مسألة رقم 39 في كتاب عليه تعليقات لأشهر مراجع العصر وزعماء الشيعة الإمامية طبع مطبعة دار الكتب الإسلامية بطهران لصاحبها الشيخ محمد الأخوندى الطبعة الثانية سنة 1288 هـ.

ص: 270

‌مذهب الإباضية:

جاء في شرح النيل

(1)

: باب في شروط المضاربة وما يجوز منهما وما لا يجوز ضمن المضارب رأس المال إن شرط الربح كله لنفسه أو لمجنونه أو ابنه الطفل ويكون الربح له أو لمن شرطه له من طفل أو مجنون ورأس المال دين عليه بعد أن تلفظوا فيه بلفظ المضاربة أو لفظ القراض وهذا على قول من قال بتحول المضاربة قرضًا، وأمَّا من قال لا يتحول أحدهما إلى الآخر ويبقيان الأمر الأول حتى يقبضه ويرده إليه كما أراد فإن ذلك يكون قراضًا كما لفظا به فيكون الربح إنصافًا بينهما عند بعض، ويكون لصاحب المال والعناء للمقارض على قول، ولا ضمان على هذين القولين وقد ذكرهما بقوله بعد: والأول قيل قرض؛ فصح بأنه قرض وأشار إلى الثاني بالتعبير بقيل وبقى عليه قول ثالث هو أن المال والربح لصاحب المال وللعامل عناءه والمضاربة فاسدة. وإن شرطه رب المال فهو بضاعة فربحه لصاحبه ولا عناء للمضارب ولا ضمان عليه ولا مضاربة هناك. وفى الديوان أن له عناءه أي لأنه ذكر لفظ القراض

ولا ضمان على المضارب ولم يذكره المصنف استغناء بقوله بضاعة لأن البضاعة من باب الأمانة، ومعلوم أن المؤتمن لا يضمن إلا إن تعدى وكذلك المضارب، وقد ادعيا أن ذلك مضاربة وإنما ذكر المصنف أنه لا ضمان مع أنه لا حاجة إليه، لأنه معلوم لزيادة البيان ولمقابلة قوله يكون قرضًا على المضارب والربح له بما ضمن، وقد أجمعوا أنه لا ضمان ولا خسارة على المضارب ما لم يتعد وكل من له الربح كله فالضمان عليه لما روى: الربح بالضمان وكذلك ذكروا في الديوان أنه لا ضمان إلا أن تعدى.

‌الأمين في الشركة

ينظر مصطلح أمانة الجزء 26 من الموسوعة الصفحات من 28 إلى 46.

‌الأمين في الوصية (الإيصاء)

‌مذهب الحنفية:

جاء في

(2)

جامع الصغار: لا ينصب القاضي وصيا إلا عدلا أمينا كافيا - أي قادرًا - ولا ينصب غريبًا لا تعرف عدالته وجاء في تبيين

(3)

الحقائق أن من أوصى إلى عبد أو كافر أو فاسق أخرجهم القاضي واستبدل غيرهم مكانهم وذكر القدورى رحمه الله تعالى أن القاضي يخرجهم عن الوصية وهذا يدل على أن الوصية صحيحة لأن الإخراج يكون بعد الدخول وذكر محمد رحمه الله تعالى في الأصل أن الوصية باطلة - قيل معناه ستبطل، وقيل: في العبد باطلة لعدم الولاية على نفسه وفى غيره معناه ستبطل وقيل في الكافر باطلة أيضًا لعدم ولايته على المسلم، ووجه الصحة ثم الإخراج أن أصل النظر ثابت لقدرة العبد حقيقة وولاية الفاسق على نفسه

(1)

من كتاب شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد بن يوسف أطفيش جـ 5 ص 215 طبع مطبعة يوسف البارونى وشركاه.

(2)

جامع الصغار بهامش جامع الفصولين جـ 2 ص 100 طبع المطبعة الأزهرية بالقاهرة سنة 1300 هـ الطبعة الاولى.

(3)

تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للإمام فخر الدين عثمان بن على الزيلعي جـ 1 ص 206 وما بعدها في كتاب بهامشه حاشية الشيخ الشلبى طبع المطبعة الكبرى الأميرية بمصر سنة 1315 هـ

ص: 271

وعلى غيره على ما عرف من أصلنا وولاية الكافر في الجملة إلا أنه لم يتم النظر لتوقف ولاية العبد على إجازة مولاه وتمكنه من الحجر بعدها، والمعاداة الدينية الباعثة على ترك النظر في حق المسلم، واتهام الفاسق بالخيانة فيخرجهم القاضي عن الوصية ويقيم غيرهم مقامهم إتمامًا للنظر وشرط في الأصل أن يكون الفاسق مخوفا منه على المال لأنه يكون عذرًا في إخراجه وتبديله بغيره، ومن عجز عن القيام بالوصية ضم القاض إليه غيره لأن في الضم رعاية لحقين حق الموصى وحق الورثة لأن تكميل النظر يحصل به لأن النظر يتم بإعانة غيره، ولو شكا الوصى إليه ذلك فلا يجيبه حتى يعرف ذلك حقيقة لأن الشاكى قد يكون كاذبًا تخفيفًا على نفسه. ولو ظهر لقاض عجزه أصلًا استبدل به غيره للنظر من الجانبين ولو كان قادرًا على التصرف وهو أمين فيه ليس للقاضى أن يخرجه لأنه مختار الميت، ولو اختار غيره كان دونه فكان إبقاؤه أولى ألا ترى أنه يقدم على أب الميت مع وفور شفقته فأولى أن يقدم على غيره وكذا إذا شكت الورثة أو بعضهم الموصى إليه لا ينبغى له أن يعزله حتى يبدو له منه خيانة لأنه استفاد الولاية من الميت غير أنه إذا ظهرت الخيانة فاتت الأمانة والميت إنما اختاره لأجلها وليس من النظر إبقاؤه بعد فواتها وهو لو كان حيا لأخرجه منها فينوب القاضي منابه عند عجزه ويقيم غيره مقامه كأنه مات ولا وصى له وجاء في المبسوط

(1)

: لو كان الورثة صغارًا فقال الوصى أنفقت عليهم كذا درهمًا فإن كان ذلك نفقة مثلهم في تلك المدة أو مع زيادة شئ قليل فهو مصدق فيه وعليه اليمين إن اتهموه لأنه أمين فالقول قوله في المحتمل مع اليمين ثم هو مسلط على الإنفاق عليهم بالمعروف وبالقليل من الزيادة لا يخرج إنفاقه من أن يكون بالمعروف لأن التحرز عن ذلك القدر غير ممكن والمسلط على الشئ إذا أخبر فيما سلط عليه بما لا يكذبه الظاهر فيه يجب قبول قوله كالمودع يدعى رد الوديعة وإن اتهموه عليه اليمين لدفع التهمة، وإذا كان في الورثة صغير وكبير فقاسم الوصى الكبير وأعطاء حصته وأمسك حصة الصغير فهو جائز لأنه قائم مقام الصغير في التصرف في ماله والمقاسمة مع الكبير من التصرف في ماله لأنه تميز به ملكه عن ملك فيكون فعله كفعل الصغير بعد بلوغه. وإذا غيره فيكون فعله كفعل الصغير بعد بلوغه، وإذا كانت الورثة صغارًا فقال الوصى أنفقت على هذا كذا وعلى هذا كذا وكانت نفقة أحدهما أكثر فهو مصدق فيما يعرف من ذلك لأن النفقة للحاجة وربما تكون حاجة أحدهما أكثر لأنه كان أكبر سنًا أو لأن الناس يتفاوتون في الأكل فباختياره مع التفاوت لا يزول احتمال الصدق في كلامه ولا يخرج الظاهر من أن يكون شاهدًا له فيقبل قوله في ذلك وإذا قال الوصى للوارثين وهما كبيران قد أعطينكما ألف درهم وهو الميراث فقال أحدهما صدقت وقال الآخر كذبت فإن الذي صدقه ضامن لمائتين وخمسين درهمًا يؤديها إلى شريكه بعدما يحلف شريكه ما قبض الخمسمائة ولا ضمان على الوصى في ذلك لأنه أمين أخبر بأداء الأمانة وقد أقر الذي صدقه بقبض خمسمائة وأنكر الآخر أن يكون قبض وقول

(1)

المبسوط للإمام شمس الدين السرخسى جـ 28 ص 29 وما بعدها طبع مطبعة السعادة بمصر الطبعة الأولى.

ص: 272

الوصى غير مقبول عليه في وصول الخمسمائة إليه وإن كان مقبولًا في براءته عن الضمان وإنما بقى من التركة الخمسمائة التي أقر المصدق بقبضها فيلزمه أن يدفع نصفها إلى شريكه بعد أن يحلف شريكه ما قبض شيئًا لأن المصدق يدعى الاختصاص بهذه الخمسمائة والوصى يشهد له بذلك ولا يثبت الاختصاص بقولهما وما زاد على هذه الخمسمائة من التركة كالبادى، وإذا قضى

(1)

الوصى دينًا على الميت بشهود فلا ضمان عليه وإن كان قضى ذلك بغير أمر القاضي لأنه قائم مقام الموصى في حوائجه وتفريغ الذمة بقضاء الدين من حوائجه وقد كان لصاحب الدين أن يأخذ دينه إذا ظفر بجنس حقه من التركة فللوصى أن يعطيه ذلك أيضًا وإن لم يأمره به القاضي. والوصى

(2)

مصدق في كفن الميت فيما يكفن به مثله لأنه مسلط على ذلك أمين منصوب له ولو اشترى الوصى الكفن من ماله ونقد له الثمن كان له أن يرجع في مال الميت لأنه كفن ومعنى هذا أن الكفن لا يمكن تأخيره وقد لا يكون مال الميت حاضرًا يتيسر الأداء منه في الحال فيحتاج الوصى إلى أن يؤدى ذلك من مال نفسه ليرجع به من مال الميت وكذلك الوارث قد يحتاج إلى ذلك فلا يكون متبرعًا فيما أداه من مال نفسه وكذلك لو قضى الوصى أو الوارث من ماله دينًا كان على الميت بشهود فله أن يرجع به من مال الميت لأنه هو المأخوذ وهو الذي يخاصم في دين الميت معناه قد ثبت عليه الدين في حال لا يتيسر عليه أداؤه من مال الميت فيحتاج إلى الأداء من مال نفسه ليرجع به في مال الميت ولا فرق في حق الميت بين أدائه من ماله وبين أدائه من مال نفسه ليرجع به في ماله، وكذلك الوصى يشترى لليتيم الطعام والكسوة من ماله بشهادة الشهود أو يؤدى من مال نفسه خراجهم بشهود فله أن يرجع بذلك في مال الميت لأن شراء ما يحتاج إليه الصبى لا يقبل التأخير وفى الخراج بعدما طولب بالأداء لا يتمكن من التأخير فيؤدى من مال نفسه لعدم تيسر الأداء من مال الميت في ذلك الوقت فلا يصدق على أداء الإخراج ولا شراء شئ من ماله إلا بشهادة شهود على ذلك لأنه يدعى لنفسه دينًا في مال الميت وهو لم يجعل أمينًا في ذلك، وإن كان للميت عنده مال فقال: أديت منه وأنفقت منه عليه فهو مصدق في ذلك بالمعروف لأنه أمين فيما في يده من المال فهو ينفى الضمان عن نفسه بما يخبر به مما هو محتمل فيقبل قوله في ذلك وهو نظير المودع إذا أمره المودع بقضاء دينه من الوديعة فزعم أنه قضى صاحب الدين دينه كان القول قوله مع اليمين في براءة نفسه عن الضمان بخلاف ما إذا أمره بقضاء دينه من مال نفسه فقال قد قضيت لا يقبل قوله في إثبات حق الرجوع له عليه إلا ببينة. وإذا قبض الوصى دينًا كان للميت على إنسان كتب له البراءة بما قبض ولم يكتب البراءة من كل قليل أو كثير لأنه لا يدرى لعل للميت مالًا سوى ذلك فيكون بما يكتب عليه البراءة من كل قليل وكثير مبطلًا لحق الميت ولأنه أمين فيما يقبضه فإنما يكتب له البراءة عما هو أمين فيه وهو ما وصلت إليه يده ولو أقر

(1)

المبسوط للإمام شمس الدين السرخسى جـ 28 ص 31 وما بعدها الطبعة السابقة.

(2)

المرجع السابق جـ 28 ص 31 الطبعة السابقة.

ص: 273

الوصى أن هذا جميع ما له عليه لم يصدق على الورثة لأنه مجازف في هذا الإقرار لا طريق له إلى معرفة كون المقبوض جميع ما له للميت عليه بخلاف ما إذا أقر الموصى بذلك لأنه عالم بما أقر به ولأنه مسقط لما وراء ذلك من جهته وهو يملك الإسقاط فأما الوصى فلا يملك إسقاط شئ من حق الورثة وإنما يملك الاستيفاء ثم هذا من الوصى إقرار على الغير ومن الموصى إقرار على نفسه وكذلك إبراء الوصى الغريم لا يجوز، وإذا

(1)

نفذ الوصى أمور الميت وسلم الباقى إلى الوارث وأراد أن يكتب على الوارث كتاب براءة للوصى من كل قليل أو كثير فللوارث أن يمتنع من ذلك لأنه لا يدرى أن ما سلم إليه جميع حقه فلعله أخفى بعض ذلك أو أتلفه فإن الخيانة من الأوصياء ظاهرة وأداء الأمانة منهم نادر فلا يجب على الوارث أن يكتب له البراءة إلا بما أخذ منه بعينه فهذا هو العدل بينهما.

‌مذهب المالكية:

جاء في الدسوقى

(2)

وحاشيته أنه يشترط في الوصى أن يكون عدلًا فيما ولى عليه فلا يصح لخائن أو لمن يتصرف بغير المصلحة الشرعية إلى أن قال وطرؤ الفسق على الوصى يعزله إذ تشترط عدالته ابتداء ودوامًا أي يكون موجبًا لعزله عن الوصية لا أنه ينعزل بمجرده فتصرفه بعد طرؤ الفسق وقبل العزل ماض وإن أوصى لاثنين بلفظ واحد كجعلتكما وصيين أو بلفظين في زمن واحد أو زمنين من غير تقييد باجتماع أو افتراق حمل على قصد التعاون فلا يستقل أحدهما ببيع أو شراء أو نكاح أو غير ذلك بدون صاحبه إلا بتوكيل منه أما إن قيد الموصى في وصيته بلفظ أو قرينة باجتماع أو انفراد عمل به قال ابن عبد السلام ولم يجعلوا وصيته للثانى ناسخة للأول وإن مات أحدهما أو اختلفا في أمر كبيع أو شراء أو تزويج أو غير ذلك فالحاكم ينظر فيما فيه الأصلح هل يبقى الحى منهما أو يجعل معه غيره في الأولى أو يرد فعل أحدهما أو يردهما معًا في الثانية ثم قال ولا يجوز لأحدهما إيصاء في حياته دون إذن صاحبه وأما بإذنه فيجوز ولا يجوز لهما قسم المال بينهما ليستقل كل بقسم منه يتصرف فيه على حدته وإلا بأن اقتسماه ضمنًا لما تلف منه ولو بسماو للتفريّط فيضمن كل ما تلف منه أو من صاحبه لرفع يده عما كان يجب وضعها عليه.

‌مذهب الشافعية:

وجاء في

(3)

"المهذب": أنه لا تجوز الوصية إلا إلى بالغ عاقل حر عدل فأما الصبى والمجنون والعبد والفاسق فلا تجوز الوصية إليهم لأنه لا حظ للميت ولا للطفل في نظر هؤلاء ولهذا لم تثبت لهم الولاية وأما الكافر فلا تجوز الوصية إليه في حق المسلم لقول الله عز وجل: {لا

(1)

المرجع السابق جـ 28 ص 34 الطبعة السابقة.

(2)

حاشية الدسوقى على الشرح الكبير للعالم العلامة شمس الدين الشيخ محمد عرفة الدسوقى على الشرح الكيير لأبى البركات سيدى أحمد الدردير وبهامشه الشرح المذكور مع تقديرات للمحقق سيدى الشيخ محمد عليش جـ 4 ص 452 ص 453 ص 454 طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبى وشركاه.

(3)

المهذب للشيخ الإمام الزاهد الموفق أبى إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزاباى الشيرازى جـ 1 ص 463 في كتاب بأسفله النظم المستعذب في شرح غريب المهذب للعلامة محمد بن أحمد بن بطال الركبى طبع مطبعة عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1295 هـ.

ص: 274

تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ}

(1)

ولأنه غير مأمون على المسلم ولهذا قال الله تبارك وتعالى {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}

(2)

وفى جواز الوصية إليه في حق الكافر وجهان أحدهما أنه يجوز لأنه يجوز أن يكون وليًا له فجاز أن يكون وصيًا له كالمسلم والثانى لا يجوز كما تقبل شهادته للكافر على المسلم، وإن وصى إلى رجل فتغير حاله بعد موت الموصى فإن كان لضعف ضم إليه معين أمين وإن تغير بفسق أو جنون بطلت الوصية إليه ويقيم الحاكم من يقوم مقامه.

‌مذهب الحنابلة:

جاء في

(3)

المحرر أنه لا تصح الوصية إلا إلى عاقل بالغ عدل فإن وجدت هذه الشروط عند الموت دون الوصية فعلى وجهين. الصحيح الصحة. وعنه تصح الوصية إلى المراهق وإلى الفاسق ويضم إليه أمين.

‌مذهب الظاهرية:

لم أجد هذه المسألة في المذهب الظاهرى.

‌مذهب الزيدية

(4)

:

جاء في التاج أن الوصى يضمن بأحد أمور أربعة: الأول. بالتعدى منه بعد قبضه كالوديعة ليضمن ما جن أو فرط نحو أن يضعه مع غير ثقة أو في موضع لا يليق لحفظ مثله ومن التعدى الاستعمال لنفسه نحو أن يلبس الثوب ويركب الدابة حيث لم يجر عرف بذلك ولا ظن الرضا فإنه يضمن ولو زال التعدى في الاستعمال. ومن التعدى أيضًا أن يخون في شئ من التركة أو بأن يخالف ما أوصى به الميت أو بأن يبيع من دون حاجة ولا مصلحة فإذا فعل شيئًا من هذه فلا يصح البيع ويبقى في حق اليتيم موقوفًا على إجازته بعد بلوغه ويضمن ما تلف مما كان التعدى فيه وغيره ويلزمه استرداد ما كان باقيًا فإن تعذر فالقيمة وينعزل مع العلم ببطلان ولايته باختلال عدالته لا مع الجهل فلا ينعزل. ولا يضمن الوصى بتركه الاستغلال لأرض اليتيم والدور والحوانيت والحيوان والسفن والسيارات ونحو ذلك. وأما ولايته فتبطل بذلك. الأمر الثاني يضمن الوصى مع قبض المال والتراضى منه عن إخراج ما أوصى بإخراجه تفريطًا منه أي لا لعذر يسوغ تراخيه من خوف أو نحوه من حبس أو مرض أو غير ذلك مما يتعذر معه الإخراج حتى تلف المال فإذا تراضى على هذا الوجه ضمن ما أوصى به حيث تلف المال وقد كان يقبضه ولا مانع من الإخراج ولا ينعزل بتراخيه تفريطًا ولو تراخى عن إصلاح جدار علم بإشرافه على السقوط وتمكن من الإصلاح أو النقل حتى جنى بسقوطه على نفس أو مال فإنه يضمن المال وعاقلته تضمن الدابة الأمر الثالث يضمن الوصى

(5)

(1)

الآية رقم 118 من سورة آل عمران.

(2)

الآية رقم 10 من سورة التوبة.

(3)

المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل تأليف الشيخ مجد الدين أبى البركات ومعه النكت والفوائد السنية للشيخ شمس الدين بن مفلح الحنبلى المقدسى جـ 1 ص 376 طبع مطبعة السنة المحمدية سنة 1369 هـ سنة 1950 م.

(4)

التاج المذهب لأحكام المذهب شرح متن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار للقاضى العلامة أحمد بن قاسم العنسي اليمانى الصنعانى جـ 4 ص 396، ص 297 ص 298 طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه سنة 1266 هـ سنة 1947 م الطبعة الأولى.

(5)

المرجع السابق جـ 4 من 400 الطبعة السابقة.

ص: 275

بمخالفته ما عين له الموصى لتعديه بالمخالفة. الأمر الرابع

(1)

من أسباب ضمان الوصى أنه يضمن بكونه أجيرًا مشتركًا قابضًا للتركة إلا إذا كان خاصًّا أو متبرعًا بها أو لم يقبض التركة فلا يضمن وهو يصير أجيرًا مشتركًا بأن يشترط لنفسه أجرة أو كان يعتاد أخذ الأجرة على الوصايا أو غيرها فإنه يضمن ما تصرف فيه ضمان الأجير المشترك مع قبضه للتركة.

‌مذهب الإمامية:

جاء في شرائع

(2)

الإسلام: أنه يعتبر في الوصى العقل والإسلام وهل يعتبر العدالة؟ قيل نعم، لأن الفاسق لا أمانة له وقيل: لا، لأن المسلم محل الأمانة كما في الوكالة والاستيداع ولأنها ولاية تابعة لاختيار الموصى فيتحقق بتعيينه، أما لو أوصى إلى العدل ففسق بعد موت الموصى أمكن القول ببطلان وصيته لأن الوثوق ربما كان باعتبار صلاحه فلم يتحقق عند زواله فحينئذ يعزله الحاكم ويستتيب مكانه، ولا تجوز الوصية إلى المملوك إلا بإذن مولاه، ولا تصح الوصية إلى الصبى منفردًا وتصح منضمًا إلى البالغ، لكن لا يتصرف إلا بعد بلوغه، ولو أوصى لاثنين أحدهما صغير تصرف الكبير منفردًا حتى يبلغ الصغير وعند بلوغه لا يجوز للبالغ التفرد، ولو مات الصغير أو بلغ فاسد العقل كان للعاقل الانفراد بالوصية ولم يداخله الحاكم لأن للميت وصيا، ولو تصرف البالغ ثم بلغ الصبى لم يكن له نقص شئ مما أبرمه إلا أن يكون مخالفًا لمقتضى الوصية، ولا تجوز الوصية إلى الكافر ولو كان رحما، نعم يجوز أن يوصى إليه مثله. وتجوز الوصية إلى المرأة إذا جمعت الشرائط وجاء في موضع آخرا

(3)

: (أما الوصى فالقول قوله في الإنفاق لتعذر البينة فيه دون تسليم المال إلى الموصى له، وكذا القول في الأب والجد والحاكم وأمينه مع اليتيم إذا أنكر القبض عند بلوغه ورشده).

‌مذهب الإباضية:

جاء في

(4)

شرح النيل: أن صاحب الوصية يستخلف عليها إنسانًا ذكرًا أو أنثى والذكر أولى بالغًا أمينًا في المال والدين متولى عالمًا بالإنفاذ كيف ينفق وعلى من ينفق حرًا عاقلًا قويًا على الوارث لا ضعيفًا يستضعفه الوارث ولا يشتغل بتوثيق فيما تكتب فيه الوصية من ورثة صحيحة لا تمترش

(5)

أو نحو ذلك كالجلد ربما يكتب به من مداد لا يمتحى وفى خط مفهوم على طريقة الخط الجيد وفى قراءة لا تلتبس ولا إجمال فيها وإشهاد شهود أمناء ممن يحكم به ويعرف كيف يقول وكيف يؤدى لو كان يؤدى بلسانه وإن لم يجد

(1)

المرجع السابق جـ 4 ص 400 الطبعة السابقة.

(2)

شرائع الإسلام في الفقه الإسلامي الجعفرى الإمامى جـ 1 من 264، ص 265 للمحقق الحلى طبع مطبعة منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت سنة 1930 م إشراف الشيخ محمد جواد مغنية.

(3)

المصدر السابق جـ 1 ص 243 والروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية للشهيد السعيد زين الدين الجعلى العاملى جـ 4 ص 58، ص 59 طبع مطبعة دار مكتبة الحياة ببيروت.

(4)

من كتاب النيل وشفاء العليل للشيخ محمد بن يوسف اطفيش جـ 6 ص 437، ص 438 طبع مطبعة البارونى وشركاه الطبعة السابقة.

(5)

لا تمترش: الامتراش الانتزاع والاختلاس والاكتساب ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة للأستاذ طاهر أحمد الزاوى الطرابلسى جـ 4 ص 204 مادة مرش الطبعة الأولى سنة 1959 م طبع مطبعة الرسالة بمصر.

ص: 276

كل ذلك فليعمد إلى خير ما وجد وينبغى للمسلم أن يمين أخاه في الله إذا احتاج إليه وتقبل خلافته على الوصية وقد قيل أنه من ضيع حقوق أخيه في الله وحقوق أبويه فأنفذ وصاياهم من بعدهم فقد أدى حقوقهم ولو أنه قطعهم في حياته فمن وجد له الاختيار فلا يجوز له الإيصاء إلا إلى ثقة لأمره صلى الله عليه وسلم بحفظ الأموال ونهيه عن إضاعتها ومن لم يجده وقد لزمته الوصية أو لم تلزمه فأقل ما يكتفى به المأمون على ما يستأمنه عليه ويفوضه إليه من مال الورثة والغرماء أنه يجعله في وجهه ويعمل فيه بالعلم ويسأل عما جهل فيه وجاء في موضع آخر

(1)

: أن في استخلاف العشيرة على الحمل قولان الأول لزوم الاستخلاف لأن له نصيبًا في المال لا يقسم حتى يولد وإن قسم عزل له أكثر ما يكون كما يذكر في الميراث فيكون بيد خليفته والثانى عدم اللزوم لأنهم ليسوا على يقين من كونه يرث لإمكان أن لا يولد أو أن يولد ميتًا وأن لا يكون جنينًا بل ضررًا أو شحمًا أو لحمًا أو مريحا وعليهم استخلاف أمين إن لم يستخلف ذلك الميت وإن من غيرهم أي من غير العشيرة في المال والولد وإن استخلفوا أمين الأموال جاز وهو عندى مقدم على المتولى الذي لا يقوم بالمال أو الولد ولا يجد معينًا وضمن الذي أريد استخلافه لتأهله للخلافة ومن هو معه كذلك قال الشيخ أحمد وإن استخلفوا غير الأمين فلا يبرءون وإن استخلفوا الأمين برئوا ما لم تظهر منه الخيانة وكان ما يفوق طاقته ولا يصل إلى حفظه وحياطته بمعنى من المعانى فعليهم حرز ما قدروا عليه من ذلك وفيهم من يرخص أن يستخلفوا غير المتولى إذا كان أمينًا في المال على اليتيم وماله ومال الغائب ولا شئ عليهم ما لم تظهر منه الخيانة وكذا إن قام اليتيم أو ماله أو مال الغائب من تعنى بذلك ما لم تصلهم الضيعة وليًا له أو أجنبيًا من العشيرة أو غيرها حرًا أو عبدًا ذكرًا كان أو أنثى معهم من العشيرة إن ضيع بأن امتنع عن الخلافة أو قبلها وضيع وعلموا بتضييعه أو ضيعوا الاستخلاف ولو كان المال في يد غيرهم وهو ضامن معهم بل هو الضامن لأنه تلف المال بيده مضيعًا له وإن لم يغرم فعلى الورثة لأنهم ضيعوا الاستخلاف.

(1)

شرح النيل وشفاء العليل جـ 1 ص 474 طبع المطبعة الأدبية بمصر سنة 1343 هـ.

ص: 277

‌مصطلح "الإنابة

"

‌الإنابة لغة:

إقامة الإنسان غيره مقامه في فعل أو تصرف وهى مصدر الفعل أناب وهو الفعل ناب بعد تعديته بالهمزة يقال ناب عنه نوبا ومنابا إذا قام مقامه وعند تعديته يقال أناب فلانا عنه

(1)

. وفى المصباح ناب الوكيل عنه في كذا ينوب نيابة فهو نائب وزيد منوب عنه ويقال ناب عنى نيابة إذا قام مقامى وأنبته أنا عنى واستنبته

(2)

. إذا أنبته عنك في أمر من الأمور.

‌الإنابة شرعا:

إقامة الإنسان غيره في عمل أو تصرف على وجه يعد فعلا منه في أمر مطلوب فيكون له أثره وتسقط به العهدة والطلب إن كان ذلك في أمر مطلوب ومثلها في المعنى الاستنابة وقد يكون له حتى الاستنابة ما لم يمنع من ذلك كوصي القاضي له حق الاستنابة وأن لم يؤذن بالاستنابة ما لم يمنعه القاضي من أن يستنيب عنه في ولايته وقد يكون له حق الاستنابة وإن منع من ذلك كالوصى المختار.

‌الإنابة والتوكيل:

التوكيل شرعا هو إقامة الإنسان غيره مقامه في تصرف أو عمل معلومين جائزين له شرعا حال الحياة. ولذا لا يعد الوصى وكيلا لأن نيابته تكون بعد الوفاة ويعد نائبا لأن نيابته عن الموصى كما يعد الوكيل نائبا عن الموكل لأن كلا منهما يقوم مقام غيره فيما يباشره من عمل في حدود ولايته وبذلك تتحقق نيابته عمن أقامه إذ لا يشترط في النيابة أن تكون في زمن معين ولذا كانت النيابة أعم من الوكالة فكل وكيل نائب وليس كل نائب وكيل وعلى هذا تنفرد النيابة عن الوكالة في الوصى على الصغار والوصى على الشركة وناظر الوقف بعد وفاة الواقف ولا تنفرد الوكالة عن النيابة وكما تنفرد الإنابة عن الوكالة بثبوتها بعد الوفاة تنفرد كذلك عنها بثبوتها في بعض الولايات كما في استخلاف القاضي غيره في أعمال القضاء إذا جعل له حق الاستخلاف فقط إذ يكون المستخلف نائبا لا وكيلا عن القاضي ولذا لا يملك القاضي عزله إذا لم يجعل له حق العزل ولا ينعزل كذلك بموت القاضي الذي استنابه

(3)

راجع مصطلح وكالة.

‌الإنابة والتفويض:

التفويض هو التوكيل مع ترك الأمر الموكل فيه لإرادة الوكيل ومشيئته دون تقييده بإرادة الموكل عند مباشرته لما فوض إليه فيه إلا أن يصدر من الموكل ما يفيده في عمله بإرادة الموكل وعند ذلك ينتهى بهذا التقيد التفويض الذي أعطى له من قبل وعلى هذا فالتفويض هو التوكيل على صورة عامة مطلقة وإذن يكون أخص من التوكيل وعلى هذه الصورة كثر استعماله في كتب الفقه الإسلامي فهو توكيل مطلق عام في أمر معين من الأمور فإذا قيل إنه قد فوض إلى فلان في هذا الأمر كان معنى ذلك أنه ترك وإرادته في مباشرة هذا الأمر ومن ثم جاز له أن ينيب فيه غيره وإن لم يؤذن بالإنابة فيه صراحة وجاز له إذا أتاب غيره أن يعزله وإن لم يؤذن في ذلك بخلاف الوكيل إذ لا يوكل غيره ولا ينيب إلا بإذن أو تفويض وعلى هذا المعنى كانت الإنابة أعم من

(1)

القاموس المحيط.

(2)

تاج العروس جـ 4 طبعة الكويت.

(3)

ابن عابدين جـ 4 كتاب القضاء.

ص: 278

التفويض فكل تفويض إنابة. ويلاحظ أن التفويض بهذا المعنى وعلى هذا الاستعمال لا يختص بالتوكيل بل يكون في الإيصاء فيجوز أن يفوض إلى الوصى في وصايته كما يجوز أن يقيد في وصايته على رأى من ذهب إلى ذلك من الفقهاء وهذا ما لا يخرج بالتفويض في معنى الإنابة العامة أما الإنابة فتنفرد من التفويض في وكالة خاصة مقيدة كأن يوكل شخص آخر في بيع فزاد لفلان بمبلغ كذا من المال فإن هذا لا يعد في عرف الفقهاء تفويضا لما في التفويض من معنى العموم. ويستعمل الحنفية التفويض في تمليك الزوج حق تطليق زوجته لها أو لآخر وذلك ما يعبر عنه في كتاب الطلاق بتمليك الطلاق أو التفويض وكذلك يطلق على تفويض المرأة نفسها في الزواج وإذا زوجت نفسها بلا بيان مهر وتسمى المفوضة وذلك استعمال خاص للفظ التفويض وفى أقرب المسالك أن التفويض تحته ثلاثة أنواع التوكيل والتخيير والتمليك والتخيير والتمليك يكونان في الطلاق إذ يعطى الزوج لزوجته حق تخييرها في أمر نفسها أو حق تمليكها أو تمليك غيرها من التطليق

(1)

راجع مصطلح تفويض.

‌الإنابة والاستخلاف:

يقول الله تعالى في كتابه {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ}

(2)

ويقول: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا}

(3)

ويقول: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}

(4)

ومعنى ذلك جعلهم خلفا من الذين سبقوهم ولم يكونوا على حالهم فهم مستخلفون غير أن الاستخلاف وهو بمعنى إقامة خليفة لا يختص بحال حياة المستخلف ولا بحال وفاته فالخليفة كما يكون حال الحياة كما هو الحال في استخلاف القاضي غيره إذا جعل له حق الاستخلاف وذلك بإقامة من يقوم مقامه وفى استخلاف الخليفة أمرا على قطر من الأقطار وكما في استخلاف مسافر من يقوم مقامه في أهله مدة سفره يكون بعد الوفاة كما في استخلاف الصحابة أبا بكر خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلاف أبى بكر لعمر أو جعله خليفة له من بعده وكما في استخلاف الأب من يقوم على تعهد أولاده بعد وفاته من وصى وعلى ذلك يكون معنى الاستخلاف بحسب استعماله إقامة شخص محل شخص في أمر من الأمور حال الحياة أو بعد الوفاة على وجه التفويض له في ذلك الأمر أو على وجه خاص ولذا يكون التفويض أعم من الاستخلاف من وجه إذ قد يكون المستخلف مقيدا وليس ذلك حال المفوض له ومن ثم يكون الاستخلاف نوعا من الإنابة في بعض حالاته التي يعد فيها المستخلف مستمدا ولايته ممن نصبه ولا يكون من الإنابة حيث لا يستمد ولايته من أحد ولا يعد نائبا عمن سبقه كاستخلاف قوم محل قوم واستخلاف خليفة محل خليفة إذ لا يمد نائبا عنه وفى مثل هذا ينفرد الاستخلاف عن الإنابة كما تنفرد الإنابة عن الاستخلاف في إنابة مشترك مع النائب من ناب عنه فيما عهد به إليه - وكذلك ينفرد عن الإنابة في استخلاف إمام الصلاة من يحل محله فيها إذا سبقه حدث إذ لا يعد في ذلك نائبا عنه

(1)

بلغه السالك لأقرب المسالك جـ 2 ص 306.

(2)

آية 123 سورة الأنعام.

(3)

آية 57 سورة هود.

(4)

آية 129 سورة الأعراف.

ص: 279

ولا مستمدا ولايته منه

(1)

. وقد جاء في شرح النيل: ما يفيد أن في توقف الاستخلاف على القبول قولين وأن الاستخلاف أعم من الوكالة فكل وكالة استخلاف ولا عكس ومعنى ذلك أنه أعم من الإنابة وجاء فيه ما يفيد أن الخيار في العقد يرثه الخليفة عن الميت ولا يرثه الوكيل ويقال في الاستخلاف أقمتك مقامى في كل شئ وأنبتك عنى في كل شئ أما الوكالة فيكفى أن يقال فيها وكلتك في كذا

(2)

. راجع مصطلح خلافة واستخلاف.

‌من له الإنابة:

كل من له حق مباشرة فعل أو تصرف لنفسه يثبت له حق الإنابة فيه فيستنيب فيه من هو أهل لمباشرة فيما يريد أن يستنيب فيه من تصرف معلوم جائز له وعندئذ يكون من أنابه وكيلا عنه فيه ولتصرفه في حكم تصرف من استنابه أن لو صدر منه (انظر مصطلح وكالة) وكذلك يكون كل من له حق مباشرة فعل أو تصرف لغيره حق الإنابة فيه إذا ما كان مفوضا فيه أو مأذونا بالإنابة فيه كالوكيل يستنيب غيره فيما وكل فيه إذا ما فوض إليه أو أذن بذلك أما إذا لم يكن المستناب مفوضا ولم يؤذن له بالإنابة فلا يكون له حق الإنابة فيما عهد إليه فيه كما في الوكيل ليس له استنابة غيره بدون إذنه بذلك إذا منع أو قيد على ما ذهب إليه بعض الفقهاء كان له حق الإنابة أو على هذا إذا كانت نيابة المتصرف مطلقة فإن حكم استنابة غيره في بعض ما عهد إليه فيه يختلف باختلاف الأحوال فحيث يتبين أن مستنيبه لا يرضى برأيه لم يجز له أن يستنيب كالوكيل في أكثر الأحوال وكالقاضى يعينه الخليفة أو الأمير وحيث يتبين خلاف ذلك وإن الغرض من ولايته مجرد حصول العمل الذي عهد إليه فيه منه أو من غيره جاز له أن يستنيب فيه وذلك كالوكيل يوكل فيما لا يستطيع القيام به وحده عادة لكثرته أو يوكل فيما لا يقوم مثله بمثله وكالقيم على عديم الأهلية أو ناقصها وكالخليفة يقيمه المسلمون وكقاضى القضاة وناظر الوقف ونحو ذلك مما لا يتسع هذا المقام لبيانه على التفصيل وإنما يرجع إليه في مواضعه المختلفة حيث تذكر أحكام هؤلاء النواب على وجه التفصيل ففى بيان ما يخص الوكيل من هذه الأحكام يرجع إلى مصطلح وكالة وفى بيان ما يخص الولى والقيم يرجع إلى ولى وفى بيان ما يخص القاضي يرجع إلى مصطلح قضاء وفى بيان ما يخص ناظر الوقف يرجع إلى مصطلح وقف وهكذا.

‌أسباب الإنابة:

للاستنابة أسباب عديدة منها المرض يصيب الشخص فلا يستطيع مباشرة ما يريده من عمل أو تصرف ومنها منعه عن القيام بالعمل لسبب من الأسباب كحبسه أو منعه من مباشرة العمل بنفسه ومنها كثرة أعماله على صورة مرهقة إن باشرها كلها ومنها عدم إحسانه ما يريده من عمل فيجد من يحسنه سواه ومنها حقارة العمل بالنظر إلى مكانته في المجتمع ومنها النظر إلى الراحة والترفيه عن نفسه ومنها السفر وغير ذلك من الأسباب التي يختلف أثرها باختلاف ما يراد الاستنابة فيه مما يستبين حكمه في مواضع الاستنابة المختلفة.

(1)

بلغة السالك لأقرب المسالك جـ 2 ص 206.

(2)

شرح النيل حـ 4 ص 693.

ص: 280

‌ما تجوز فيه الإنابة:

تجوز الإنابة في كل عمل تجوز فيه النيابة شرعا أما مالا تجوز فيه النيابة شرعا فلا تجوز فيه الإنابة والأصل في النيابة أن يكون أثر الفعل فيها من فعل له نتيجة قيام النائب بالفعل نيابة عمن أنابه وكأن الفعل قد صدر من المنيب فكان له أثره فالإنابة إذا حدثت وكانت في محل تجوز فيه النيابة شرعا ترتبت عليها النيابة وفى هذه الحال قد يكون تقدم الإنابة شرطا في صحة النيابة وهذا هو الأصل وقد لا يكون شرطا في صحتها كما في النيابة للضرورة أو للعرف كما في بناء صاحب العلو السفل إذا انهدم لضرورة إحياء حقه وكما في إنفاق الإنسان مالا لاستنقاذ مال لغيره من التلف دون إذن من صاحب المال إذ يعتبر نائبا عرفا وإن لم تكن في محل تجوز فيه النيابة شرعا لم تصح كإنابة الغير بالنسبة لصلاة الفرض والخروج عن العهدة فإنها إنابة باطلة لا يترتب عليها أثر وليس من لازم ذلك ألا تكون نيابة عن الغير بدون إنابة عنه بل قد ينوب الإنسان عن غيره بدون إنابة منه بل بحكم الشارع كما في نيابة الأب عن ولده الصغير.

‌مذهب الحنفية:

الضابط في الإنابة أن من الأفعال ما لا يعد فعله عبادة ولا قربة. وهذا النوع من الأفعال تجوز فيه الإنابة بشروطها وهو يعم كل ما للإنسان أن يقوم به ويعد أهلا له وذلك كالعقود على اختلاف أنواعها والأعمال على اختلافها من حمل وبناء وهدم وزرع وتجارة وصياغة ودفع صدقة ودفع مال الزكاة إلى الفقراء وتسليم الودائع إلى أربابها وما إلى ذلك. وفى الأفعال ما يعد عبادة وقربة طلب الشارع أداءه أو ندب إليه فشغلت ذمة المكلف به وطلب إليه أداؤه وكانت نية المكلف به في فعله امتثالا للأمر به شرطا في خروجه عن العهدة وبراءة ذمته من المطالبة به حتى إذا فعل من غير نية لم يجزه ذلك ومن هذه الأفعال ما هو عبادة بدنية محضة كالصلاة والصوم والجهاد والاعتكاف وقراءة القرآن ومنها ما هو مالية محضه كالصدقات والأضحية وذبح الهدى والكفارات بالإطعام والإعتاق والنفقات ومنها ما يشمل الأمرين كالحج والعمرة وهذه الأفعال قد شرعت عبادة وقربة إلى الله تعالى وطلب من المكلف فعلها ولذا لا يكون الخروج من العهدة فيها إلا بنية فعلها. وقد وجبت فيها جميعها النية اتفاقا عند الامتثال سواء أفعلها المكلف بنفسه أم فعلها نائب عنه فيما تجوز فيه النيابة وأمكنت فيه النية بأن كانت ذلك حال حياة المكلف. ولما كان المقصود من التكاليف جملة الابتلاء والمشقة وذلك في البدنية بإتعاب النفس والجوارح بالأفعال التي تقوم بها تلك العبادة وليس يتحقق ذلك بفعل النائب عن المكلف إذ أن مشقته ليست مشقة للمكلف لم تجز النيابة مطلقا في العبادات البدنية سواء في ذلك حال العجز وحال القدرة ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلى أحد عن أحد ومثل ذلك سائر العبادات البدنية أما في المالية فالمقصود نقص المال المحبوب إلى النفس بدفعه إلى الفقراء وذلك ما يتحقق بفعل النائب عن المكلف فجازت فيه النيابة في الدفع والأداء لا في النية والامتثال وقد ورد في هذا أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين

ص: 281

أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته وأن سعد بن أبى وقاص سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمى كانت تحب الصدقة أفأتصدق عنها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم وكان مقتضى ذلك ألا تجرى النيابة في الحج لتضمنه القصد إلى المشقتين البدنية والمالية والبدنية لا تتحقق بفعل النائب غير أنه تعالى قد رخص في إسقاطه بتحمل المشقة الثانية وهى إخراج المال وذلك عند العجز المستمر إلى الموت رحمة وفضلا بأن تدفع نفقة الحج إلى من يحج بالنيابة بخلاف حال القدرة فلم يعذر المقتدر لأن تركه العبادة عندئذ ليس إلا للإيثار رحمة بنفسه عن أمر ربه فلم يستحق لذلك التخفيف بإسقاط الطلب عنه وقد جاءت الأحاديث دالة على جواز النيابة في الحج فقد روى ابن عباس أن امرأة خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوى على ظهر بعيره أفأحج عنه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحجى عنه رواه الجماعة. وفى رواية عن علي أنها سألت فقالت إن أباها كبر وقد أفند أي خرف وقد أدركته فريضة الحج ولا يستطيع أداءها أفيجزى عنه أن أؤديها عنه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم رواه أحمد والترمذى وصححه. وعن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمى نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: فحجى عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقض الله فإنه أحق بالوفاء. رواه البخارى وإذا جازت الإنابة في العبادة المالية مطلقا فالعبرة لنية المنيب لا لنية النائب. وسواء أنوى المنيب وقت الدفع إلى النائب أو وقت دفع النائب إلى الفقراء أو فيما بينهما ولهذا جاء في الفتاوى الظهيرية من دفع مالا إلى آخر ليتصدق به على الفقراء تطوعا نيابة عنه فلم يتصدق النائب حتى نوى الآمر الزكاة المفروضة عليه ولو لم يتلفظ بذلك ثم تصدق النائب جاز في الزكاة ولهذا لا تعتبر أهلية النائب حتى لو أناب المسلم ذميا في دفع زكاة إلى الفقراء جاز كما في كشف الأسرار والأصل الذي ذهب إليه الحنفية وأسسوا عليه مذهبهم في الإنابة وقبولها في الأفعال مطلقا كما بينا سابقا هو جواز الإنابة إلى كل ما للإنسان أن يفعله لنفسه وأن يفعله لغيره نيابة عنه كالعقود على اختلافها والضحايا والزكاة والصيد ودفع الودائع ورد المغصوب والعاريات وأداء الديون ودفع النفقات وما إلى ذلك من الأعمال كالأعمال التي تختص بالأوصياء والقوام والأولياء والقضاء والشهادة وقبض الهبات وما أشبه ذلك ما لم يمنع من ذلك مانع ولذلك استثنوا من هذا الأصل فيما ليس عبادة مسائل دعا إلى استثنائها أسباب منها عدم الإضرار بالغير حين رأوا في الإنابة إضرارا بكير المنيب كما في الإنابة في الخصومة عند الإمام وكما في الإنابة في تنفيذ الحدود والقصاص وذلك مراعاة لاحتمال العفو من ولى الدم في القصاص إذا كان حاضرا ولذا جازت الإنابة عند حضوره التنفيذ وليس للوكيل أن لا يوكل فيما وكل فيه إلا بإذن من الموكل أو تفويض منه والمرتهن ليس له أن يحفظ الرهن عند غيره ممن لا يحفظ ماله لديه والوديع لا يودع الوديعة عند غيره إلا بإذن من المودع. والأب والجد إذ يجوز لهما شراء مال موليهما الصغير ولا يملكان التوكيل في ذلك إذ

ص: 282

أن جواز ذلك كان بناء على كمال شفقتهما وليس ذلك لنائبهما وكذلك المقترض يملك الاستقراض لنفسه ولا ينيب عنه غيره فيه وإذا فعل كان القرض للنائب إذا ضافه لنفسه لا لالتزامه أمام المفوض. وما ينبغى الالتفات له أن الحنفية في مجال العبادات البدنية المحضة منعوا الإنابة فيها عند قدرته عليها وعند عجزه عنها على السواء لما تقدم في بيان الضابط غير أن جمهورهم أجازوا بكون ثوابها لغير المؤدى سواء أكان ذلك حال الحياة أم بعد الوفاة لورود الآثار بما يفيد ذلك وذلك تفضلا من الله سبحانه وتعالى ورحمة منه بعباده ولم يعد ذلك من قبيل النيابة بل من قبيل هبة الثواب من استحقه على فعل الطاعة كما أجازوا أخذ الأجرة على بعض هذه العبادات للضرورة كما في تعليم العلم وتعليم القرآن والأذان وإمامة الصلاة والإقامة وذلك لانصراف الناس عن أداء ذلك إلا أن يؤجروا على قيامهم به فأجازوا لذلك الإجازة فيه خوفا من الضياع والإهمال. ذلك ما يتعلق بالنوعين الأولين من العبادات أما ما يقوم منها بالبدن والمال وهو الحج فيما يلى بيان المذهب. ذهب الحنفية إلى أن الحج ما تجوز فيه الإنابة وتثبت فيه النيابة وهو إما أن يكون فرضا وإما أن يكون نفلا فإذا كان فرضا فالشرط في جواز الإنابة فيه عجز المنيب واستمرار عجزه إلى الموت لأن الحج فرض العمر فيجب أن يقوم به المكلف في أول سن الإمكان فإذا أخره أثم وتقرر عليه أداؤه في ذمته مدة عمره وإن كان فقد بعد ذلك بعض شروط وجوبه كلها فإذا عجز عن ذلك في مدة عمره رخص له الاستنابة رحمة به فإذا قدر عليه وقتا من عمره بعد استنابته لعجز لحقه وفى فتح القدير التفصيل بين مرض يرجى زواله أولا يرجى زواله فإن كان لا يرجى زواله فاستناب فيه ثم برئ سقط الفرض عنه استمر ذلك العذر أو زال فلا تبطل استنابت وإن كان يرجى زواله فاستناب فيه ثم برئ لم يسقط الغرض عنه ووجب عليه الحج وإن استمر إلى الموت فقد سقط عنه الفرض بأداء من أنابه وإذا لم تجد المرأة محرما لم تخرج إلى الحج حتى إذا جاء وقته والأمر على ذلك استنابت فيه وإذا دام ذلك حتى ماتت سقط عنها الفرض وإن لم يدم حتى وسعها الحج مع محرم حجت. ويشترط في صحة الإنابة أن يكون المنيب حال الإنابة عاجزا عن الأداء بنفسه وأن يصدر من المنيب ما يدل على الإنابة من لفظ أو إشارة فلا يجوز الحج عن الغير بدون استتابة إلا لوارث فإنه يحج عن مورثه ويجزئه ذلك كما يشترط في سقوط الفرض نية الحج عن المنيب ويكفى في ذلك النية بالقلب وأن يكون أكثر نفقة النائب من مال المنيب فلا يجزئ حج تبرع غير الآمر به ولكن إذا لم يوص به الآمر فيتبرع أحد الورثة أو غيرهم فإنه يرجى القبول ولا يجوز اشتراط أجرة له وإلا كانت الإجارة باطلة. وأن يكون كل من الآمر والمأمور مسلما عاقلا وأن يكون النائب مميزا ولذا يصح من المراهق إذ يحج عن غيره وهذه كلها شروط في حج الفرض أما حج النفل فلا يشترط في صحته إلا الإسلام والعقل في في المستنيب والتائب وتمييز النائب وعدم الاستئجار وارجع في تعريف بقية الإحكام إلى

ص: 283

مصطلح (حج) وتجب الوصية بالحج إذا أخر بعد وجوبه فإن بين الموصى فيها مالا أو مكانا بيد آمنة فالأمر على ما بين في وصيته فإن عين مالا حج عنه من حيث يبلغ وإن بين مكانا حج عنه منه وإن لم يبين حج عنه من بلده وذلك إذا كان في ثلث تركته وفاء بذلك فإن لم يكن فيه وفاء حج عنه من حيث يبلغ استحسانًا ومن شرع في أداء الحج وهو قادر عليه له الإنابة في رمى الجمرات على العجز فقط مع القدرة وجاء في المبسوط أن المريض الذي لا يستطيع رمى الجمار.

يوضع الحصى في كفه حتى يرمى به لأنه فيما يعجز عنه يستعين بغيره وإن رمى عنه من استعان به أجزأه بمنزلة المغمى عليه فإن النيابة تجزى في الشك كما في الذبح ونقل إمام الحرمين عند الحنفية صحة استنابة العاجز عن الرمى ولو استناب فأغمى عليه النيابة وذلك خلاف الأصل في سقوط الإذن بخروج الإذن عن أهليته ولكنه خولف لأن الغرض إقامة النائب مقام العاجز.

‌الإنابة في العمرة:

يرى الحنفية في الإنابة بالعمرة ما رأوه في الإنابة في الحج وما كانت سنة ولم تكن فرضا عندهم لم يشترطوا في صحة الإنابة فيها عجز المنيب ذلك لأن المقصود منها يحدث بفعل النائب إذ المقصود منها الثواب وللمستنيب تركها أصلا فكان تحمله مشقة دفع النفقة فيها للنائب أولى من تركها بتاتا وما لم يشترطوا عجز المنيب في الحج نفلا لم يشترطوا كذلك عجز المنيب في العمرة وذلك ما يدل عليه إطلاقهم في الكلام على العمرة يراجع مصطلح حج وعمرة والنيابة فيها لتعرف بقية الأحكام.

‌تطبيق على الضابط المتقدم عند الحنفية:

1 -

ويجوز للوكيل في تصرف أو عمل أن يستنيب غيره فيه إذا ما أذن بذلك من موكله أو فوض إليه فإذا لم يؤذن بذلك ولم يفوض إليه لم تجز استنابته لأن الموكل ما رضى بغير رأيه.

2 -

ويجوز للولى أن يستنيب غيره عنه في حدود ولايته سواء أكان وليا على النفس أم على المال لأنه يتصرف بأهليته وارجع في تفصيل أحكام ذلك إلى مصطلح ولى.

3 -

الوصى والقيم وناظر الوقف لكل من هؤلاء أن يستنيب غيره في حدود ولايته من التصرفات كما يجوز للوصى المختار أن يوصى إن غيره وارجع إلى مصطلح وصى في تفصيل أحكام ذلك.

4 -

لإمام المسلمين أن ينيب غيره في الولاية من بعده وفى أية ولاية من ولاياته حال حياته بحكم إمامته وذلك على تفصيل في أحكام ذلك يرجع إليه في مصطلح خلافه.

‌إنابة القاضي غيره:

جاء في البحر الرائق: وابن عابدين عليه: ولا يستخلف قاض غيره إلا إذا فوض إليه ذلك لأنه إنما فوض إليه القضاء دون التقليد به فلا يتصرف في غير ما فوض إليه كالوكيل لا يوكل فيما وكل فيه بدون إذن الموكل. ولا فرق في هذا بين أن يكون عذر يستوجب ذلك أم لا كما في النيابة فإن استخلف غيره دون أن يكون مأذونا بذلك فقضى كان قضاؤه موقوفا على إجازته ذلك الغير ممن استخلفه القاضي وكان الخليفة

ص: 284

أهلا لذلك القضاء أما إن كان القاضي مأذونا بالاستخلاف من الخليفة فإن خليفته يكون نائبا عن الخليفة لا عن المستخلف وهو القاضي المأذون له بالاستخلاف ولذا لا يملك عزله إلا الخليفة ولا فرق في هذا الحكم بين أن تكون الإنابة في القضاء وبين أن تكون فيما يتوقف عليه القضاء كسماع الشهود وتحليف الخصم لأن مباشرة ذلك من اختصاص القاضي حتى يكون حكمه عن بينة قامت لديه "باب القضاء في الدر المختار وابن عابدين عليه" والإذن بالاستخلاف قد يكون صريحا إذا كان بعبارة تدل على ذلك مثل ول من شئت وقد يكون به بطريق الدلالة كأن يقول الخليفة لمن يوليه جعلتك قاضى القضاة إذ المعروف أن التولية بل والعزل من اختصاص قاضى القضاة. وفى الخلاصة إذا إذن الخليفة للقاضى في الاستخلاف فاستخلف رجلا وإذن له في الاستخلاف جاز له أن يستخلف كما يجوز لمن استخلفه أن يستخلف إذا إذن له وهكذا ويصح لمن إن بالاستخلاف أن يستخلف ابنه وارجع إلى أحكام النيابة عن القاضي في مصطلح نيابة وفى البحر في الموضع نفسه.

‌إنابة الشاهد:

لمن تحمل شهادة في حادثة ودعى إلى الشهادة أن يستنيب غيره في أداء هذه الشهادة أمام مجلس القضاء على أن يقول المنيب لمن استنابه أشهد على شهادتى بكذا وعلى أن يقول النائب عند أدائه الشهادة في مجلس القضاء أشهد أن فلانا أشهدنى على شهادته بكذا. وقال لى اشهد على شهادتى بذلك وهذه مسألة على الشهادة وارجع في بقية أحكامها إلى مصطلح شهادة.

‌إنابة الإمام في الصلاة:

أجاز الحنفية للإمام في الصلاة إذا حدث له أثناء الصلاة عذر يمنعه المضى فيها كحدث أن يستخلف غيره من المأمومين وارجع إلى تفصيل أحكام ذلك في مصطلح استخلاف الإمام في الصلاة.

وكذلك يجوز استخلاف الإمام في خطبة الجمعة وصلاتها.

‌الإنابة في الأضحية:

الأضحية قربة مالية محضة كالزكاة والصدقة فتجوز فيها الإنابة مع ملاحظة اشتراط النية ممن هي عليه لأنها عبادة ولا عبادة بلا نية ولذا يجوز لمن أراد الضحية أن يستنيب في ذلك غيره ليذبح عنه ولو كان النائب كتابيا غير أن إنابته مكروهة لأنه ليس من أهل القرب ويكفى في الإنابة الدلالة فمتى عين شاة للأضحية فذبحها غيره عنه يوم النحر أجزأه ذلك ولا ضمان على الذابح خلافا لزفر. وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ساق مائة بدنة فنحر بيده نيفا وستين ثم أعطى المدية عليا كرم الله وجهه فنحر باقيها يراجع مصطلح أضحية في تعريف بقية الأحكام.

‌الإنابة في إقامة الحدود واستيفاء القصاص:

لا تجوز الإنابة في استيفاء القصاص في حال غيبة المستنيب لجواز أن يكون قد عفا ولم يصل خبر عفوه ولأن في حضوره عند استيفاء القصاص احتمال العفو ورجاؤه منه وذلك عند معاينة وسائل التنفيذ والله يقول {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}

(1)

. أما إقامة الحدود فهى للإمام على التعيين قصدا إلى تحقيق مصالح العباد بصيانة أنفسهم وأعراضهم وأموالهم لأن

(1)

آية 237 سورة البقرة.

ص: 285

القضاة قد يمتنعون من التعرض لذلك خوفا على أنفسهم ممن يقام الحد عليه أو من ذويه خلافا للإمام لما له من الشوكة والقوة والمنعة فلا يخشى تبعة الجناة وأتباعهم وهذا إلى أن تهمة الميل والمحاباة والتوانى في التنفيذ منفية عن الإمام فلا يحصل المقصود من الحدود إلا بإقامته وله الاستخلاف في إقامتها وذلك على نوعين: تنصيص وتولية أما التنصيص فهو أن ينص الإمام صراحة في استنابة على إقامة الحد فيجوز لخليفة إقامتها من غير شك وأما التولية فعلى ضربين عامة وخاصة فالعامة أن يولى رجلا ولاية عامة مثل إمارة أقليم أو بلد عظيم فيملك المولى إقامة الحدود وإن لم ينص عليها في ولايته لأن تقليده ولاية الإقليم أو البلد تعد تفويضا في القيام بمصالح أهله وإقامة الحدود من أهم مصالحهم (يراجع مصطلح حد في تعرف بقية الأحكام) والخاصة أن يولى رجلا ولاية خاصة مثل جباية الخراج فلا يملك بهذه الولاياة إقامة الحدود ولا يملكها إلا بالنص عليها ومن كان له ولاية إقامة الحد في بلد فخرج بأهله غازيا ملك عليهم في سيره إقامة الحد وأما إذا أخرج غازيا وجعل له إمارة أو فرقة ابتداء فلا يملك عليهم إقامة الحدود فيما بينهم لأنه ولاية خاصة لم تكن في ولايته من قبل.

‌الإنابة في الوظائف: الخاصة بالوقف:

اختلف فقهاء الحنفية في استنابة أرباب الوظائف كالإمامة والخطبة والأذان والقراءة والتعليم ونحو ذلك مما يشترطه الواقفون في أوقافهم وفيما وقفوه على المساجد فذهب فريق إلى أن الاستنابة من أرباب هذه الوظائف لا تجوز إلا لعذر اقتضاهم الاستنابة فيها ومن الفقهاء كالطوسى من ذهب إلى عدم جوازها ولو مع العذر معللا ذلك بأن هذا هو غرض الواقف وإلا لشرط أن يقوم مقامه عند العذر من يستنيبه واعترض صاحب البحر وذلك قائلا أن الخصاف وصاحب الإسعاف أجازا للقيم على الوقف الإنابة ويجوز أن يجعل له من المرتب أجر عن عمله وليس أرباب الوظائف بأقل شأنا من القيم وقال إن هذا كالتصريح بجواز الاستنابة مطلقا والمتأخرون على جواز الاستنابة في الوظائف قال ابن عابدين والذي تحرر من النقول العمل بفتوى المتأخرين من جواز الاستنابة في الوظائف. يراجع مصطلح وقف في تعرف بقية الأحكام.

‌الإنابة في قبض الهبة:

قبض الهبة شرط لتمامها وثبوت ملك الموهوب له وهو حق للموهوب له إذا كان من أهل التصرف وله الإنابة فيه لأنه من الأفعال المتعلقة بالعقود تجوز فيها الإنابة فإن لم يكن الموهوب أهلا للتصرف كان قبضها للولى عليه أو لمن هو في عياله فله عندئذ الاستتنابة في ذلك لأن فيه مصلحة الموهوب له ويرجع إلى تفصيل ذلك في مصطلح هبة.

‌مذهب المالكية:

من الأفعال ما هو قلبى محض كالإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله والإيمان بالغيب وهذا النوع لا تجوز فيه الإنابة ولا النيابة واستثنى من ذلك بعض النوايا كإحجاج الصغير أو يقوم وليه عنه في النية وسائر نيات الأعمال التي

ص: 286

تصح فيها النيابة واشترط فيها النية على حسب الخلاف في ذلك بين فقهاء المذهب ومن الأفعال ما ليس بقلبى محض بل هو من أفعال الجوارح أو مركب من عمل القلب والجارحة فالأول كرد العوارى والودائع والمغصوبات وقضاء الديون وتفريق الصدقات والكفارات وتقسيم لحوم الأضاحى وذبح النسك ورد التالف إلى ما كان عليه قبل إتلافه وتسليم اللقطة إلى صاحبها وما إلى ذلك ولا خلاف في صحة الإنابة في هذا النوع لأنها أفعال مالية محضه والثانى وهو ما كان مركبا من عمل القلب والجوارح سواء أدخله المال أم لم يدخله كالصلاة والحج والزكاة وقراءة القرآن والذكر والصدقة وصدقة الفطر فقد اختلف فيه الفقهاء فمنهم من حكى الخلاف في جواز النيابة والإنابة فيها ما عدا الصلاة الحكى الإجماع على عدم جواز النيابة والإنابة فيها ومنهم من أطلق فحكى الخلاف فيها أيضًا ومنهم من ذهب إلى أن الفعل المطلوب شرعا إن اشتمل على مصلحة يتوقف تحققها على مباشرة من طلب منه الفعل له وكان النظر إليها لذات الفاعل بحيث لا تحصل إلا بمباشرته ولا تحصل مصلحة إلا لمن باشره كاليمين فإن مصلحته في دلالته على صدق الحالف وهذه مصلحة لا تحصل بحلف غيره عنه وهذا لا تجوز فيه الإنابة إجماعا. ولذلك لم يكن من السنة أن يحلف أحد عن أحد فيستحق المحلوف عنه يمين الحالف وكالدخول في الإسلام مصلحته إجلال الله وتعظيمه وإظهار العبودية له فلا تحصل ذلك من الشخص إلا بمباشرته نفسه لا بمباشرة غيره وكوطء الزوجة مصلحته الإعفاف وتحصيل الولد الذي ينسب إليه شرعا وذلك لا يحصل بفعل غيره في هذا النوع تفوت المصلحة التي طلبها الشارع بفعل غير من طلب منه الفعل ولا توصف حينئذ بكونها مشروعة في حقه ومن هذا النوع أيضا أيمان اللعان والشهادات إذ المقصود منها الموثوق بصدق المدعى وبعدالة المتحمل وذلك يفوت بأداء الغير وجملة القول في ذلك أن مقصود الشارع من الفعل متى كان يحصل من عمل النائب كما يحصل من عمل المستنيب وهو مما يجوز الإقدام عليه جازت فيه الإنابة وإلا فلا مع قطع النظر عن فاعله وإن اشتمل ذلك الفعل على مصلحة لا يتوقف تحققها على شخص فاعلها بل على حدوث الفعل نفسه صحت فيه الإنابة قطعا بلا خلاف وذلك كرد الودائع والعوارى والمخصوبات وقضاء الديون لأنه المقصود منها انتفاع أهلها بها وذلك حاصل ممن هي عليه بحصولها من نائبه ولذا لم تشترط النية في أكثرها وإن اشتمل على مصلحة يتوقف تحققها على حدوث الفعل من فاعله المطلوب منه ومباشرته فكان النظر فيها لجهة الفعل ولجهة الفاعل وهى مترددة بينهما فقد اختلف الفقهاء في اعتبار أي الناحيتين تغلب على الفعل وينظر إليها فيه وذلك كالحج فإن مصلحته تتمثل في تأديب النفس بمفارقة الأوطان وتهذيبها بالخروج عن المعتاد من المخيط وغيره ولتذكر المعاد والاندراج في الأكفان وتعظيم شعائر الله في تلك البقاع وإظهار الانقياد من الحاج لما لا يعلم حقيقته كرمى الجمار والسعى بين الصفا والمروة والوقوف في مكان خاص وغير ذلك من المصالح التي لا تحصى ولا تحصل إلا للمباشر له كما هو

ص: 287

الحال في الصلاة بالنسبة إلى المصلى وكذلك تتمثل في إنفاق المال في سبيل الله إذا لا يعرى الحاج عن الإنفاق في سفره وفى ترحاله وما إلى ذلك فمن الفقهاء من غلب مصلحة الأولى على مصلحة الثانية لأنها أقوى المصلحتين وأوثقها صلة بالحج لحصولها بذات الحج بخلاف الثانية فإنها إنما تحصل فيه بطريق العرض وقد تتخلف عنه بدليل أن المكى يصح أن يحج دون أن يتكلف إنفاق مال وبناء على ذلك ذهب إلى عدم جواز الإنابة في الحج كمالك وأصحابه كما لم تجز الإنابة في صلاة الجمعة لمن يكلف الانتقال إليها مالا بسبب بعد محل إقامتها اتفاقا ومن الفقهاء من غلب مصلحته الثانية فأجاز في الحج كما تجوز الإنابة في الزكاة ويستند أرباب هذا الرأى إلى ما ورد من الأحاديث في الحج عن الصبيان والمرضى وجواز أن يحرم عنهم غيرههم ويفعل أفعال الحج عنهم ولا شك أن ذلك من العبادات التي أوردها على الاتباع. وقد اعترض به على هذا الضابط بأنه منقوض بالصوم فإنه عبادة بدنية محضة تتوقف مصلحته على مباشرته من فاعله من الإحساس بحاجة الفقير وجوعه والشعور بنعمة الله على الصائم وما أفاض به عليه من النعم والمال وسلامة جسمه وقلبه. ومع ذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روايات عديدة في الصحيحين وغيرهم ما يدل على جواز النيابة فيه ومن ذلك أيضا ما روته السيدة عائشة - رضى الله عنها - مرفوعا من مات وعليه صوم صام عنه وليه دوفع ذلك الاعتراض بأن ما جاء في السنة من ذلك قصد به إيصال الثواب إلى من فعل له الفعل لا إبراء ذمته مما فرضه الله عليه بدليل أنها وردت في الصوم عمن توفى والكلام في الإنابة التي تبرئ الذمة حال الحياة

(1)

. وبناء على ما تقدم يرى المالكية أن الأصل في الأفعال على الجملة جواز الإنابة فيها ما لم تكن عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله تعالى قد طلبها الشارع من المكلف فإن كانت قربة كان النظر إلى المصلحة التي قصدت من شرعها فإن كانت لمن باشرها خاصة كالصوم وكصلاة لم تجز الإنابة فيها عند مالك لما ذكر لا فرق في ذلك بين حال العذر وعدمه وإن لم تكن المصلحة من شرعها خاصة بمن باشرها بل تتحقق بقطع النظر عمن باشرها كالزكاة والحج أو تتحقق لمن باشرها مصلحة له ترجع إلى تطهير النفس وتهذيبها وخضوعها لما أمر الله به من عبادة فيها صلاح المجتمع كما يتحقق بها شدة حاجة الفقير ومواساته وكالعتق ترجع المصلحة فيه إلى الرقيق بتحرير نفسه وإلى مالكه بحمل نفسه على تسوية عبده به وخضوعها لما أمر به الله من تحرير الرقاب. فقد اختلف في ذلك الفقهاء من المالكية فقالوا إن أخرجها أحد بغير علم من هي عليه أو بغير إذنه في ذلك فإن مقتضى قول الأصحاب في الأضحية يذبحها غير ربها بغير علمه أو بغير إذنه أن الذابح لها إن كان صديق ربها ومن شأنه أن يفعل ذلك بغير إذنه لأنه بمنزلة نفسه عنده لتمكن الصداقة بينهما أجزأته الأضحية. مقتضى رأيهم هذا في الأضحية والزكاة مثلا أن الزكاة تجزئه إذا قام بها عمن وجبت عليه من

(1)

راجع الفروق للقرافى ودار الشروق لابن الشاط طبعة دار إحياء الكتب الفرق 110 ج 2 ص 202، ص 204 والفرق 171 ج 2 ص 304، ص 218 والفرق 2.

ص: 288

هذا شأنه وصفته؛ لأن كليهما عبادة مأمور بها مفتقرة إلى النية وإن كان القائم بها ليس كذلك لم تجزئ افتقارها إلى النية على الصحيح من المذهب لمعنى العبادة فيها وعلى القول بعدم اشتراط النية فيها ينبغى أن يجز فعل الغير فيها مطلقا كأداء الدين ورد الوديعة ونحوهما. والقول بعدم اشتراط النية فيها ذهب إليه بعض الأصحاب قياسا على أداء الديون مستدلا بأخذ الإمام لها كرها وأجزائها عند ذلك مع عدم النية ممن وجبت عليه ولكن المنقول عن مالك اشتراط النية فيها لما فيها من معنى التعبد من جهة مقدارها في نصابها والواجب فيها وغير ذلك

(1)

. ويلاحظ أن الإنابة في توزيع أموال الزكاة على اختلاف أنواعها جائزة عند المالكية من غير خلاف لأنه عمل مالى محض.

‌الإنابة في الزكاة:

والاستنابة فيها عندهم مندوبة بعدا عن الرياء وحب المحمدة. وإذا كان من وجبت عليه الزكاة جاهلا بأحكام تفريقها أو خشى وقوع الرياء منه وجب عليه استنابة العارف بأحكامها.

‌الإنابة في العتق:

في عتق الإنسان من غيره قال مالك في المدونة من أعتق عبده عن ظهار غيره على جعل جعله له فالولاء للمعتق عنه وعليه الجعل ولا يجزئه عن كفارة الظهار وقال صاحب الجواهر في العتق عن الغير ثلاثة أقوال الإجزاء وهو المشهور قاله ابن القاسم وعدم الإجزاء ذهب إليه أشهب وقال عبد الملك بن الماجشون إن أذن في العتق أجزأ عنه وإلا فلا وعن اللخمى يجزئ العتق عن ظهار الغير عند ابن القاسم وإن كان المعتق أبا للمعتق وفرق بعض الأصحاب بين عتق الإنسان عن غيره وبين دفع الزكاة عنه فلا يجزئ الدفع في الزكاة لأنها ليست في الذمة بل في المال ويجزئ في الكفارة لأنها في الذمة قال اللخمى والحق الإجزاء فيهما لأنهما كالدين

(2)

.

‌الإنابة في الحج:

الحج كما تقدم من العبادات البدنية المالية ولكن المالكية غلبوا فيه جانب البدنية فذهبوا إلى عدم جواز الإنابة فيه إذا كان فرضا سواء في ذلك حال المرض، وحال الصحة فمن كان عليه حجة الإسلام لم يجز له أن ينيب عنه فيها حتى إذا استأجر غيره ليقوم بها كانت الإجازة فاسدة للأجير أجر مثله إن أتم عمله وإلا فلا شئ له أما إن كان الحج تطوعا كان يكون المستنيب مريضا لا يرجئ برؤه فسقط بذلك عنه الحج أو سبق له أن حج حجة الإسلام فإن الإنابة فيها صحيحة والإجارة عليها صحيحة مكروهة كالاستئجار على العمرة إذ الأولى له أن يؤدى ذلك بنفسه ومن عجز بنفسه ولم يقدر عليه في أي عام من حياته فقد سقط عنه الحج باتا ولا يلزمه الاستئجار عليه ولو كان غنيا قادرا على دفع الأجرة غير أنه إذا استأجر عليه سواء أكان صحيحا أم مريضا وسواء أكان الحج الذي استأجر عليه فرضا أو نفلا فلا يكتب له بل يقع الحج نفلا للأجير وللمستأجر ثواب مساعدة الأجير على الحج كما أنه إذا أوصى شخصا بأن يحج عنه فحج عنه تنفيذا للوصية أو حج عنه

(3)

(1)

الفروق للقراقى ج 3 ص 186.

(2)

الفروق ج 3 ص 188.

(3)

بلغة السالك ج 1 ص 219 وشرح الخرشى ج 2 ص 220 وما بعدها.

ص: 289

بلا وصية فلا يكتب هذا الحج له ولا تسقط به حجه الإسلام إذا كان لم يؤدها حال حياته وهو يستطيع قادرا عليها. وحاصل ما ذكره الأصحاب أن من العبادات مالا يقبل الإنابة والنيابة بإجماع كالإيمان بالله تعالى ومنها ما يقبلهما كالصدقة والوفاء بالدين واختلف في العتق عن الغير كما تقدم كما اختلف في الصوم والحج والمذهب عدم قبولهما سواء في الفرض والنفل وهو المروى عن مالك والمعتمد في المذهب منع الإنابة والنيابة في الحج عن الحى مطلقا صحيحا كان أم مريضا في الفرض والنفل على السواء

(1)

. ولا تجوز الإنابة في الطواف والسعى والوقوف بعرفة لأنها عبادات بدنية كالصلاة وكذلك رمى الجمار لا تجزئ الإنابة فيه وعلى المستنيب الدم إذا رمى النائب وإن سقط الإثم عن المستنيب فيه إذا كانت الاستنابة عن عذر ويرجع في بقية أحكام حج النائب وقيامه بما يتطلبه من المناسك إلى مصطلح نيابة في الحج أو إلى مصطلح حج.

‌الإنابة في التضحية:

يندب للمضحى أن يذبح الأضحية بيده رجلا أو امرأة وكره له أن ينيب عنه لغير عذر ولكن إن أناب عنه غيره في الذبح فذبح أجزاء بعد أن يكون المستنيب قد تحققت منه النية وذلك لمعنى العبادة فيها وفى بيان بقية أحكام النائب في ذبح الأضحية يرجع إلى مصطلح نيابة في الأضحية.

‌الإنابة في الشهادة:

وتعرف بشهادة النقل وهى مقبولة في الأموال وفى الحدود والولاء وتحصل الإنابة بقول الشاهد الأصلى لغيره اشهد على شهادتى بكذا أو نحو ذلك وذلك بشروط منها:

1 -

الأمر بالشهادة على نحو ما ذكر أو ما يقوم مقامه من سماع الفرع الأصل فيها يؤديها عند الحاكم.

2 -

غياب الأصل إذا كان رجلا أما إذا كان الأصل امرأة فتصح مع حضورها.

3 -

وأن يكون غيابه في مكان لا يلزم الأصل الأداء معه كأن يكون بعيدا مسافة القصر وفى حكم الغياب موت الأصل أو مرضه.

4 -

وألا يطرأ على الأصل فسق أو عداوة ويرجع في معرفة باقى الأحكام إلى مصطلح شهادة

(2)

.

‌الإنابة في الحدود:

إقامة الحدود واستيفاء القصاص إلى الإمام فذلك في ولايته وللإمام مباشرة ما كان من ولايته بنفسه وله إنابة غيره فيما يرى إسناده إلى غيره من ولايته تحقيقا عن نفسه وتوزيعا لأعماله وعلى ذلك كان له الإنابة في استيفاء القصاص وفى إقامة الحدود ويستحب له أن يختار لذلك رجلا عدلا عارفا بوجوه ذلك وأحكامه لما له في ذلك من حق وارجع في تعرف بقية الأحكام إلى مصطلح حد.

‌مذهب الشافعية:

لما كانت الإنابة أعم من الوكالة فإن كل ما جازت فيه الوكالة جازت فيه الإنابة إذ ليست

(1)

الشرح الكبير وحاشية الدسوقى علية ج 2 ص 13 وما بعدها، ص 18 ج 3 الشرح الصغير ج 3 ص 222.

(2)

التبصرة جـ 4 ص 195.

ص: 290

الوكالة إلا ضربا من ضروب الإنابة وبناء على ذلك ذهب الشافعية إلى أن الإنابة لا تجوز في العبادات سواء كانت مما تتوقف صحتها على النية أم لا ذلك لأن مقصود الشارع منها امتحان المكلف المطلوبة منه نفسه وذلك مما لا يتحقق بفعل غيره كنائب له غير أن من أفعال العبادة ما لا يقصد منه هذا الاختيار وإنما يقصد منه مجرد الترك والبعد وهذا النوع تجوز فيه الإنابة كإزالة النجاسة من الثوب أو من الأعضاء وكذلك لا تجوز الإنابة فيما تكون المصلحة منه راجعة إلى فاعله كالإيمان وكذا الإيلاء واللعان وكل ما يعد يمينا كالنذر والتعليق بالطلاق والعتق والتدبير سواء أكان تعليقا عاريا عن حث أو منع أم لا ومنه التعليق بطلوع الشمس ونحو ذلك كما لا تجوز الإنابة فيما هو معصية كالظهار في الأصح لأنه منكر وإجازة الإنابة إقرار لها غير أن ما يكون الإثم فيه لمعنى خارج عنه تجوز فيه الإنابة كالبيع وقت صلاة الجمعة والطلاق في الحيض والضابط في ذلك أن ما كان مباحا في الأصل وحرم لعارض صحت الإنابة فيه وما كان محرما وممتنعا بأصل الشرع لا تجوز الإنابة فيه وتصح الإنابة في الأفعال العادية من الحمل وإصلاح الآلات والبناء والهدم ورد الودائع والعاريات والمغصوبات والالتقاط وإيفاء الديون وقبضها وإقباض الأموال وسائر العقود من بيع وهبة وسلم ورهن ونكاح وفسخها وفى الدعوى والجواب عنها وفى تملك المباحات كإحياء الأراضى الموات والاصطياد والاحتطاب في الأظهر فيثبت الملك للمستنيب إذا قصد النائب وذلك بخلاف ما إذا لم يقصده ومقابل الأظهر المنع قياسا على الاغتنام ولأن سبب الملك في ذلك وضع اليد وقد وجب من النائب فثبت أثره له ولا ينصرف عنه بالنية وتجوز الإنابة في استيفاء القصاص والحدود وقيل لا تجوز الإنابة في استيفائها إلا بحضرة المستنيب لاحتمال عفوه ولا تجوز الإنابة في الشهادة ولا في الإقرار كأنبتك لتفى عنى لفلان بكذا في الأصح أما الشهادة فلأنها قائمة على الاستيثاق والشاهد وضبطه وذلك خاص به ولبنائها على التعبد وأما الإقرار فلأنه إخبار عن حق فلا يقبل الإنابة وإنما قبلت الشهادة على الشهادة لأن الأصل فيها جعل بمنزلة الحاكم المؤدى عنه عند حاكم آخر لما في الشهادة من الولاية. واستثنى من عدم جواز الإنابة في العبادات الحج والعمرة عند العجز لورود الأثر بذلك ويتدرج فيها توابعها ومنها ركعتا الطواف كما سيأتي بيان ذلك وكذلك الإنابة في تفرقة الزكاة والصدقة وأموال الكفارة والنذر وذبح الأضحية والهدى

(1)

. وخلاصة ذلك جواز الإنابة في كل ما لا يعد عبادة من الأفعال وجوازها في الأفعال العبادية المالية المحضة التي لا تفتقر إلى نية من مباشرها بالنيابة اكتفاء بنية المستنيب كتوزيع الصدقات وذبح الأضحية ونحو ذلك إذ يكتفى فيها بنية النيابة عمن فعلت له أو بقيام النائب فيها مقام من استنابه في الأفعال التي لا تتحقق المصلحة منها لغير مباشرها كالإيمان وفى المعاصى وعدم جوازها في العبادة المحضة إلا ما جاءت الآثار بجوازها فيها كالحج.

(1)

نهاية المحتاج ج 5 ص 22 وما بعدها.

ص: 291

‌الإنابة في الحج:

ذهب الشافعية إلى جواز الإنابة في الحج وأنه يجب على من عجز عنه أن يستنب غيره ليحج بدله إما باستئجار عليه وإما بالإنفاق عليه ويتحقق العجز بوجود عاهة أو بكبر سن أو مرض لا يرجى زوالة بقول طيبين أو باقتناعه إن كان عارفا بالطب. وحد العجز أن يكون على حالة لا يستطيع معها أن يثبت على راحلة إلا بمشقة شديدة لا تحتمل عادة وتجب الإنابة على الفور إذا عجز بعد الوجوب والتمكن من الحج وعلى التراخى إذا عجز قبل ذلك أو بعده وكان غير متمكن على الأداء وبشرط في المستنب العاجز أن يكون بينه وبين مكة مرحلتان فأكثر فإن قلت المسافة عن ذلك لم تجز الإنابة بل يلزمه المباشرة بنفسه فإن عجز في هذه الحال أحج عنه غيره بعد موته من تركته ولكن إذا أنهكه المرض وصار بحالة لا يحتمل معها الحركة جازت أنابته حينئذ في حياته ويشترط أن يكون النائب قد أدى فرضه وأن يكون ثقة عدلا وإذا كانت الاستنابة بطريق الإجارة اشترط معرفة العاقدين أعمال ما تحت الإجارة عليه من حج أو عمرة وأن يكون الأجير قادرا على الشروع في العمل فلا تصح إنابة أجير لا يستطيع وإذا برئ المستنيب العاجز بعد حج النائب لزمه الحج بنفسه بعد شفائه وكما تجوز الإنابة في الحج عن الأحياء تجوز عن الأموات ويكون ذلك من التركة فإن لم يكن للمتوفى تركة فلا تجب الإنابة وإنما يسن للوارث أو الأجنبى وإن لم يأذنه الوارث أن يؤديه بنفسه أو بالإنابة وهذا في الحج والعمرة الواجبين فإن لم يكونا واجبين فلا يحج من تركته وهذا كله في حج الفرض أما في النفل فلا يجوز الحج أو العمرة عنه بعد الوفاة إلا إذا أوصى المتوفى بذلك

(1)

. وتجوز الإنابة في الحج والعمرة عند العجز ويندرج فيهما توابعهما المتقدمة والمتأخرة كركعتى الطواف

(2)

. ومن هذا جواز الإحرام عن الصغير الذي لم يميز والمجنون حتى وليه كما يجوز رمى الولى عنهما إذا قام بالحج عنهما

(3)

. وإذا عجز الحاج عن الرمى لعلة لا يرجى زوالها قبل فوات وقت الرمى كمرض أو حبس استناب من يرمى عنه وجوبا وبذلك صرح الاسنوى وقال أنه المتجه ولو كان ذلك بأجرة وسواء أن يكون النائب حلالا أو محرما لأن الاستنابة جائزة في النسك فكذلك في أبعاضه وتوابعه ولا فرق في الحبس بين أن يكون بحق أو بغير حق والحبس في الدين المقدور على وفائه لا يعد عجزا. وجاء في المجموع قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله العاجز عن الرمى بنفسه في حج الفرض لمرض أو حبس ونحوهما يستنب من يرمى عنه سواء كان المرض مرجو الزوال أو غير مرجو الزوال وسواء استناب بأجرة أم بغيرها وسواء استناب رجلا أم امرأة وقالوا أيضا ويستحب أن يناول المستنب النائب الحصى ليرميه ويكبر المستنب العاجز عند الرمى ولو ترك المناولة مع القدرة صح ذلك وأجزأه رمى النائب لوجود العجز عن الرمى كما قالوا أن الاستنابة في الرمى تجوز للمحبوس سواء أكان

(1)

المرجع السابق ج 2 ص 230 وما بعدها إلى ص 245.

(2)

نهاية المحتاج ج 5 ص 22.

(3)

المرجع السابق ج 3 ص 230 وما بعدها.

ص: 292

محبوسا بحق أم بغير حق وهذا محل اتفاق لوجود العجز قال النووى وجمهور الأصحاب أطلقوا جواز الاستنابة للمريض سواء كان ميئوسا من برئه أم لا وقال إمام الحرمين ومن رأى رأيه أنها لا تجوز إلا من عاجز لا يرجى زوال عجزه قبل خروج وقت الرمى ولا يفيد رجاء الزوال بعد فوات الوقت وهذا الذي قاله الإمام ومتابعوه متعين وإطلاق كلام الأصحاب محمول عليه. ولو أغمى على المحرم قبل الرمى ولم يكن قد استناب غيره فناب عنه غيره فرمى لم يصح الرمى عنه وإن كان استناب قبل الإغماء جاز الرمى عنه وهذا هو المذهب راجع مصطلح حج والنيابة فيه لتعرف بقية الأحكام

(1)

.

‌الإنابة في الزكاة:

تجوز الإنابة في إعطاء الزكاة إلى عامل الزكاة وفى توزيع أموالها بين مستحقيها بعد أن يسبق ذلك أو يقارنه نية المكلف بها حتى يجزئة ذلك عن الفرض وتبرأ ذمته وتكفى نية الوكيل إذا كانت الزكاة عن أموال مملوكة لعاقد الأهلية كالصبى والمجنون والسفيه لأن النية واجبة وقد تعذرت من المالك فيقوم بها وليه غير أنه يجوز لولى السفيه أن يفوض له في النية وتجزئ نيته والأفضل أن ينوى النائب عند الدفع دفعها عمن استنابه وإذا نوى المستنيب عند عزل المال للزكاة ثم دفعه إلى النائب فوزعه بين المستحقين أجزأه ذلك كما يجزئه لو كانت النية بعد العزل وقبل الدفع إلى المستحق وارجع في تعرف باقى الأحكام إلى مصطلح زكاة والنيابة في الزكاة

(2)

.

‌الإنابة في الأضحية:

يستحب للمضحى أن يذبح بنفسه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ويجوز له أن يستنب في الذبح لما روى إنه صلى الله عليه وسلم استناب عليا رضي الله عنه في ذبح بعض بدنه التي جعلها للأضحية والمستحب ألا يستنيب إلا مسلما لما فيها من معنى العبادة ولو استناب كتابيا في ذلك جاز مع الكراهة

(3)

. ارجع في تعرف باقى الأحكام إلى مصطلح أضحية أو النيابة في ذبحها.

‌الإنابة في إقامة الحدود:

لا يقيم الحدود على الأحرار إلا الإمام ومن يفوض إليه الإمام لأن إقامتها من الولايات العامة التي ترجع إلى صلاح المجتمع ولأنه لم يقم حد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه ولأن اقامتها تفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن الحيف في إقامتها واستيفائها

(4)

.

‌الإنابة في القضاء:

يجوز للقاضى إنابة غيره في الحكم إذا كان مفوضا إليه أو مأذونا بذلك من الإمام راجع مصطلح استخلاف في القضاء.

‌مذهب الحنابلة:

ذكر الحنابلة أن الأفعال ثلاثة أنواع نوع تجوز فيه الإنابة مطلقًا ونوع لا تجوز فيه الإنابة مطلقا ونوع تجوز فيه الإنابة مع العجز والعذر فأما ما تجوز فيه الإنابة مطلقا فكل فعل تمحض حقا

(1)

المرجع السابق جـ 3 ص 230 وما بعدها.

(2)

مغنى المحتاج ج 1 ص 401 وما بعدها.

(3)

المهذب ج 1 ص 239.

(4)

المهذب ج 2 ص 270.

ص: 293

للإنسان من بيع وشراء وإجارة وشركة ومضاربة وقرض وإبراء وحوالة ورهن وكل عقد شرع لحاجة الناس فيجوز فيها الإنابة إنشاء وفسخا وكذلك تجوز الإنابة والمطالبة بالحقوق ادعاء ومخاصمة وإنكارا وإقرارا وصلحا وتحصيلا لمباح كإحياء موات واستيلاء على مال مباح واصطياد واحتشاش وكذلك كل حق غلب فيه حق الله كالزواج والطلاق والخلع والإيلاء واللعان والرجعة والإعتاق وإثبات الحدود كحد الزنا وحد السرقة والقصاص واستيفائها وتفرقة أموال الزكاة والصدقات والكفارات والنذر من كل ما لا تتوقف مصلحته المقصودة منه على فعل من يباشره وتحصل دون نظر إليه ولذا تجوز الإنابة في إزالة الانجاس من البدن والثياب. وأما ما لا تصح فيه الإنابة مطلقا فهو العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم وطهارة البدن من الحدث والاعتكاف وغسل الجمعة ونحو ذلك من كل ما كان النظر في مصلحته المقصودة منه إلي فاعله وتجديد وضوء من ذلك الإيمان والظهار اللعان والإيلاء والنذر والقسامة والقسم من الزوجات والالتقاط والاغتنام والشهادة وما يعد معصية والجزية والرضاع وإنشاء العقود الفاسدة ذلك لأن الظهار قول منكر وزور محرم فكان معصية ولأن الإيمان على العموم والنذر والإيلاء واللعان والقسامة مرجعها إلى يمين الحالف واعتزامه ولا تجزئ في ذلك النيابة وكذلك القسم بين الزوجات والاستمتاع بالزوجة لأنه تختص بالزوج باعتباره زوجا ولأن الالتقاط الغالب فيه معنى الائتمان وذلك خاص بالنفس والاغتنام الاستحقاق فيه مناط الحضور بالنفس فلا تجوز فيه النيابة والجزية فيها معنى الصغار والقصد فيه إلى دافعها لا إلى نائبه والرضاع مرده إلى لبن المرضعه فلا تتصور فيه الإنابة وأما ما تجوز فيه الإنابة مع العجز والعذر فالحج والعمرة إذا كانا واجبين أما إذا كانا نفلا فلا يشترط في جواز الإنابة فيها العجز ذلك ما ذهب إليه الحنابلة في بيان ضابط ما تجوز فيه الإنابة وما لا تجوز وهو ما كاد يتفق مع ما ذهب إليه الشافعية على الوجه الذي بين وفيما يلى بعض التطبيقات

(1)

.

‌الإنابة في الحج والعمرة:

الحج والعمرة كلاهما واجب عند أحمد ولذا كانت أحكام الإنابة فيهما واحدة فهى جائزة عند عجز من وجبا عليه فله عند عجزه ينيب من يؤديها عنه وجوبا فوريا ومن العجز كبر السن والعاهة والمرض الذي لا يرجى برؤه وتقل الجسم الذي يحول بين مريد الحج وثبوته على الراحلة إلا بمشقة لا تحتمل في العادة وكذلك الهزال الذي لا يثبت معه صاحبه على الراحلة إلا بمشقة شديدة لا تحتمل عادة ومن العجز لا تجد المرأة محرما تحج معه فإذا أناب العاجز غيره فأدى عنه يسقط عنه الواجب وإذا عوفى قبل إحرام النائب بهما وجب عليه أداؤهما بنفسه ولم يجزه حج النائب ولا عمرته أن فعل وإذا كان العاجز ذا مال وقادرا على الإنفاق ولم يجد نائبا لم يجب عليه الحج فإذا وجد النائب بعد ذلك ولا يزال قادرا على الإنفاق أنابه عنه وإذا لم يجد العاجز نائبا عنه إلا بأجر استأجر فإن طلب الأجر زيادة عن أجر المثل لم يجب عليه الاستئجار وليس لمن

(1)

كشاف القناع ج 2 ص 231 وما بعدها ومنتهى الإرادات على هامش كشاف القناع 2 ص 165 وما بعدها والمغنى لابن قدامة ج 5 ص 203 وما بعدها.

ص: 294

يرجى زوال علته أن يستنب فإن استناب ففعل النائب لم يجزه فعله وفى النفل من الحج والعمرة تجوز الاستنابة من القادر عليهما في كل منهما وفى توابعهما وملحقاتهما ومن ذلك ركعتا الطواف وذلك على الأصح ومقابله

(1)

. وتصح ويجوز للعجز أو للعذر أن يستنب الحاج في الرمى من ينوب عنه ويجوز للنائب أن يرمى عن أكثر من شخص على أن يرمى أولا عن نفسه ثم يرمى عمن أنابة. وإرجع إلى مصطلح إنابة في الحج لمعرفة باقى الأحكام.

‌الإنابة في إقامة الحدود:

إقامة الحدود للإمام وله الإنابة فيها لكثرة ولاياته ولأنها تكون في أقطار متعددة متباعدة وسواء في ذلك ما كان حقا لله تعالى كحد الزنا أو حقا غلب فيه حق الآدمى كحد القذف وإِنما كانت إقامتها للإمام لافتقارها إلى الاجتهاد ولا يؤمن فيها الحيف. وكان عليه الصلاة والسلام يقيم الحدود بواسطة نوابه فقد أمر أنيسا حين رفع إليه جريمة زنا بأن يغدو إلى امرأة ادعى عليها الزنا من أعرابى قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن ابنى كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وأنى أخبرت أن على ابنى الرجم فاقتديت منه بمائة شاة ووليدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أسلم يدعى أنيسا أغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو هريرة كما أمر برجم ماعز ولم يحضر رجمه وقال في سارق أتى به اذهبوا فاقطعوا يده

(2)

. وارجع إلى مصطلح حد لمعرفة باقى الأحكام.

‌الإنابة في ذبح الأضحية:

المستحب أن يذبح المضحى أضحيته بيده لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح بيده كبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته ونحر البدن التي أهداها في حجة الوداع ثلاثا وستين منها بيده وأناب في نحر الباقى علي رضي الله عنه ولأن الذبح قربة فكان الأولى أن يباشره الإنسان بنفسه ويجوز ان يستناب فيها الذمى وأن كره كما جاز أن ينوب في بناء المساجد وفى تعريف بقية الأحكام يراجع مصطلح أضحية

(3)

.

‌الإنابة في الزكاة:

يستحب للمزكى تفرقة زكاته وفطرته بيده ولك أفضل من دفعها إلى إمام عادل لقوله تعالى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}

(4)

ولا فرق في ذلك بين الأموال الظاهرة والباطنة وله دفعها إلى الساعى أو إلى الإمام ولو فاسقا إن كان يضعها في مواضعها وإلا حرم دفعها إليه وله أن يستنب من يؤديها إلى مستحقيها إذا عرفه بالأمانة والعلم بأحكامها ولا يجزئ إخراجها عندئذ إلا بنية لحديث أن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وغير المكلف ينوى عنه وليه فينوى الزكاة أو الصدقة الواجبة أو صدقة المال أو صدقة الفطر فإن لم ينو لم يجزئه ما أخرجه والأولى مقارنة النية

(1)

راجع كشاف القناع ج 1 ص 549 وما بعدها والفروع 3 ص 92 وما بعدها.

(2)

مطالب أولي النهى ج 6 ص 159.

(3)

كشاف القناع ج 1 ص 636.

(4)

آية 271 سورة البقرة.

ص: 295

لدفع المال للفقراء وإلى النائب وتجوز النية قبل ذلك وبخاصة عند إقران المال لها وإنما جازت الإنابة في تفريقها لأنها عبادة مالية محضة كتفرقة النذر وذبح الأضحية وفى تعرف بقية الأحكام يرجع إلى مصطلح زكاة والنيابة فيها

(1)

.

‌الإنابة في القضاء:

يجوز للقاضى أن يستخلف من هو على علم بأحكام القضاء إذا كان مأذونا له في ذلك ممن ولاه فإن لم يكن مأذونا بذلك لم يجز له الإنابة وارجع في تعريف الأحكام إلى مصطلح استخلاف.

‌الإنابة في الشهادة:

يجوز للشاهد أن يستنيب من يؤدى الشهادة عنه أمام القضاء بثمانية شروط منها أن يكون في ذلك في حق آدمى لا في حق الله تعالى وأن يكون ذلك لعذر يمنع الشاهد من أدائها بنفسه كمرض وخوف من سلطان أو غيبة سفر قصر أو كون الشاهد امرأة مخدرة وفى تعرف بقية الأحكام يرجع إلى مصطلح شهادة في الشهادة على الشهادة

(2)

.

‌الإنابة في العتق:

العتق من العبادات المالية ولذا تجوز فيه الإنابة من مالك العبد فإذا قام النائب بإعتاق عبد المستنب عتق وصار حرا وإذا كان ذلك في كفارة جاز بشرط النية من المستنب عند الإنابة أو عند مباشرة النائب وارجع في تعريف الأحكام إلى مصطلح عتق وكفارة.

‌مذهب الظاهرية:

‌ما تجوز فيه الإنابة وما لا تجوز فيه:

الإنابة جائزة في القيام على الأموال وفى التزكية وطلب الحقوق وإعطائها وأخذ القصاص في النفس وما دونها والبيع والشراء والإجارة والاستئجار سواء أكانت من حاضر أم من غائب ومن مريض أو صحيح وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة لإقامة الحدود والحقوق بين الناس وأخذ الصدقات وتفريقها وكان بلال على نفقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له صلى الله عليه وسلم نظار على أرضه بخيبر وفدك.

وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عقبة بن عامر الجهنى غنما يقسمها بين الصحابة وأمر عليا رضي الله عنه في حجة وداعه أن يقوم على بدنه وأن يقسم جلودها وجلالها والآثار في ذلك كثيرة ولا تجوز إنابة في طلاق ولا عتق ولا تدبير ولا رجعة ولا في إسلام ولا في توبة ولا في إقرار ولا في إنكار ولا في عقد هبة ولا في عقد ولا في إبراء ولا في ضمان ولا في قذف ولا في ردة ولا في صلح ولا في عقد زواج بغير تعيين الزوجة أو الزوج لأن كل ذلك الزام حكم لم يلزمه قط وحل عقد ثابت ونقل ملك بلفظ فلا يجوز أن يتكلم أحد عن أحد إلا حيث أوجب ذلك نص ولا نص على جواز الإنابة في شئ من ذلك والأصل أنه لا يجوز قول أحد عن أحد ولا حكمه على غيره لقوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}

(3)

وكل ما ذكرنا كسب على الغير وحكم بالباطل فلا يمنعه

(1)

كشاف القناع ج 1 ص 480، ص 481.

(2)

مطالب أولى النهى شرح غاية المنتهى ج 6 ص 637.

(3)

آية 164 سورة الأنعام.

ص: 296

أحد على أحد

(1)

. ولا تجوز الاستنابة في الصلاة على أن تؤدى حال حياة المستنب مع قدرته عليها ولا تجوز الإجارة على كل واجب تعين على المرء من صوم وصلاة وحج وفتيا ويمين وغير ذلك ولا على معصية أصلا لأن كل ذلك أكل للمال بالباطل لأن الطاعة المفترضة لابد له من عملها والمعصية فرض عليه اجتنابها فأخذ الأجرة على ذلك لا وجه له فهو أكل مال بالباطل ولكن يجوز أخذ الأجرة على فعل ذلك إذا كان تطوعا مثل أن يحج عن غيره أو أن يصلى عنه تطوعا أو أن يؤذن عنه التطوع أو يصوم عنه التطوع لأن ذلك ليس واجبا على أحدهما وذلك نوع من الإنابة في فعل التطوع وإذا جاء مع الأجر جاز من غير أجر ولا تجوز الإجارة في أداء فرض من ذلك إلا عن عاجز عن أدائه أو عن ميت فيجوز الإنابة في الحج عن الغير عند العجز عنه. وفى تعرف بقية أحكام في الصلاة والصوم والحج حال حياة يرجع إلى مصطلح نيابة في هذه الموضوعات

(2)

. وتصح إنابة العاجز عن الحج ولو كان فرضا بسبب مرض أو زمانة أو عجز يمنعه من الركوب فإذا حج النائب ثم أطاق المستنيب بعد ذلك لم يجب عليه أن يحج مرة أخرى وسيان أن يكون عجزه عن أداء الحج قبل بلوغه أو بعد بلوغه ومن لم يجد من يحج أو يعتمر عنه إلا بأجر استأجر من يحج عنه ويعتمر لأن الحكم في العمرة كالحكم في الحج وكلاهما فرض مرة في العمر وشروطهما واحدة وتجوز الإجارة على كل تعين على المرء من صوم وصلاة وحج وفتيا وغير ذلك وفى تعرف بقية الأحكام يرجع إلى مصطلح حج عن الغير ومصطلح إجارة على الطاعات

(3)

. وتجوز الإنابة في أداء الزكاة ولا تجزئ أداؤها عندئذ إلا مع نية المكلف بها عند الإنابة أو عند فرز المال أو عند إعطائه أو عند تفريقه

(4)

. وإقامة الحدود إلى الإمام وله أن ينيب فيها من يرى من أهل العدالة ولا يقوم بها الشهود إلا أن يأمرهم الإمام أو أميره فتلزمهم طاعته حينئذ

(5)

. وتجوز الإنابة في الشهادة فتقبل الشهادة على الشهادة في كل شئ حتى في الحدود والقصاص ويقبل في ذلك واحد على واحد. وفى تعرف الأحكام يرجع إلى مصطلح شهادة على شهادة

(6)

.

‌الإنابة في الأضحية:

يستحب للمضحى رجلا أو امرأة أن يذبح أضحيته أو ينحرها بيده فإن ذبحها أو نحرها له بأمره مسلم غيره أو كتابى أجزأه ذلك ولا حرج بعد أن يكون المضحى قد تحققت منه نية الأضحية ذلك لأن المصلحة المقصودة منها كما تحقق بذبحه تتحقق بذبح نائبه وهى التوسعة على الفقراء

(7)

. وفى تعريف بقية الأحكام يرجع إلى مصطلح (أضحية).

‌الإنابة في الإعتاق:

جاء في المحلى أن الوكالة في الإعتاق لا تجوز كما لا تجوز

(8)

وكالة على

(1)

المحلى ج 2 ص 244، ص 245 مسألة رقم 1362، 1363.

(2)

المحلى ج 8 ص 191 مسألة رقم 1302، إلى رقم 1304.

(3)

المحلى ج 7 مسألة رقم 816، 817، ج 8 مسألة رقم 1302.

(4)

المحلى ج 7 ص 42 مسألة رقم 812.

(5)

المحلى ج 6 مسألة رقم 688.

(6)

المحلى ج 11 ص 143 مسألة رقم 2174.

(7)

المحلى ج 11 مسألة 1814 ص 438.

(8)

المحلى ج 7 ص 380 مسألة رقم 983.

ص: 297

طلاق ولا على تدبير ولا على إسلام ولا على توبة ولا على عقد هبة إلى غير ذلك مما تقدم بيانه ولكن الإيصاء بالإعتاق والعتق يجوز

(1)

.

‌مذهب الزيدية:

ذهبوا إلى أن الإنابة لا تصح في عشرة أمور:

1 -

في إيجاب أمر من الأمور من عبادة أو مال المسجد أو غيره فلا يصح أن يقول: وكلتك أن توجب على كذا وأما في النذر المطلق إذا كان معينا فإنه يصح أن يوكل بنذر لشئ من ماله على زيد أو نحوه فإن كان مشروطا أو في الذمة فلا يصح.

2 -

أن يوكل غيره في تأدية يمين فلا يصح أن يقول: وكلتك أن تحلف عني.

3 -

في اللعان لأنه من قبيل الإيمان وهذه الأمور الثلاثة لا تصح الاستنابة بلا استثناء حال من الأحوال.

4 -

أداء العبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم بخلاف العبادات المالية كالزكاة فإن الإنابة في تأديتها جائزة إلا الحج فتصح فيه الإنابة عند العذر إذا كان قضاء وإلا ركعتا الطواف والقراءة والاعتكاف فتصح الإنابة فيها تبعا للإنابة في الحج وفى هذه الأمور الثلاثة الأخيرة خلاف وأما استخلاف الإمام في الصلاة فليس بإنابة في الصلاة على التحقيق وإنما هو استنابة في التقدم على المؤتمين على وجه الإمامة والمتابعة وذلك أمر غير الصلاة ودليل ذلك أنه بعده ليس للمنيب أن يتولاه بنفسه إذا زال عذره.

5 -

الإنابة في فعل المحظور كالقتل والقذف والغصب والظهار والطلاق البدعى.

6 -

في إثبات الحدود والقصاص لأنها تدرأ بالشبهات والمقصود فيها التستر فلا يجوز التوصل إلى اثباتها بواسطة الغير والحدود التي تصح الإنابة في اثباتها بحضور المنيب حد القذف والسرقة لأنهما لا يقامان إلا بعد ادعاء أما حد الزنا وحد الشرب فلا يتأتى فيهما الإنابة إذ لا يصح فيهما تداع.

7 -

في استيفاء القصاص إلا بحضرة المستنيب وذلك لجواز أن يكون قد عفا أو لرجاء عفوه وذلك يورث شكا في وجوب القصاص وهو يدرئ بمثله وذهب المؤيد بالله إلى جواز الإنابة فيه لأنه حق لآدمى فجازت فيه الإنابة كغيره من حقوق الآدميين.

8 -

في تأدية الشهادة إلا إذا كانت على وجه الادعاء وذلك لوجوب أدائها عن يقين من صاحبها ولا يقين للنائب فيها.

9 -

في المباحات كإحياء الأرض الموات واستقاء الماء والصيد وحفر معدن فإن الملك فيها مرتيط بفعل الفاعل شخصيا وهو النائب لا المستنيب.

10 -

ما ليس للإنسان مباشرته بنفسه في الحال فلا يصح أن يستنب فيه غيره لأن النائب يستمد ولايته من المستنيب والمستنيب لا ولاية له كالصغير غير المأذون فكما لا يتولى بيعا ولا شراء

(1)

المحلى ج 8 ص 245 مسألة 1767.

(1)

المحلى ج 9 ص 342.

ص: 298

لا يصح عنه الإنابة فيهما. ويستثنى من ذلك حالات تجوز فيها الاستنابة ممن لا تجوز منه المباشرة لعارض خارج كالمرأة التي لا ولى لها تستنيب من يزوجها ولا تباشر عقد زواجها وقد لا يعد هذا من قبيل الإنابة وإنما يعد من قبيل تعيين صاحب الولاية ومن هذه الصور أيضا إنابة الحائض من يطوف عنها في الحج طواف الزيارة وألزمته التي لا يرجى زوال علتها التي تحول دون طوافها إلى الموت تستنيب من يقوم مقامها في طواف الزيارة. وتجوز الإنابة فيما عدا ذلك من كل أحد مكلف أو مميز مأذونا إلا إذا كان المنيب محرما فلا تجوز إنابته وهو محرم في عقد نكاح له

(1)

.

‌الإنابة في الحج والعمرة:

الحج منه الفرض وهو في العمر مرة ومنه الحج المنذور ومنه النفل وهو ما عدا ذلك أما العمرة فهى سنة خلافا للناصر فقد ذهب إلى أنها فريضة في العمر مرة كالحج ويجب أداء حج الفرض دون إنابة فلا يصح أن يحج عن المكلف به غيره متى كان قادرا على أدائه فإذا لحقه عذر ميؤسا منه كأن يكون شيخا كبيرا لا يثبت على راحلة أو مريضا مرضا لا يرجى زواله استتاب من يحج عنه أما إذا لم يكن العذر مما لا يرجى زواله كحبس أو مرض يرجى شفاؤه لم تجز الإنابة بلا خلاف وإذا زال العذر الميؤس منه قبل الوفاة وبعد الحج عنه لم يصح ووجب أن يحج بنفسه خلافا للهادى إذ ذهب إلى أنه يجزئه متى كان الحج قبل زوال العذر ويلحق بالعذر الميؤس منه ألا تجد المرأة محرما ويغلب على ظنها دوام ذلك إلى الموت والخائف الذي يغلب على ظنه عدم زوال خوفه إلي الموت والفقر إذا كان له شئ من المال يحج به ولا يكفيه للزاد لو حج بنفسه ففى هذه الثلاثة وهذا يعد الوجوب إذا غلب على الظن أنه لا يزال العذر جاز التحجيج فإن زال العذر جاء الخلاف

(2)

وكما تجوز الإنابة في الحج عند العذر تجوز في المناسك التي لها وقت معين لا تؤدى في غيره كرمى الجمار والمبيت بمنى وليلة مزدلفة لا طواف القدوم ونحوه فيؤخرها حتى يزول العذر وإلا جبرها بدم وقيل تصح فيه النيابة لعذر أيضا

(3)

. ومن لزمه الحج بتوافر شروطه ولم يحج لزمه الإيصاء إذا كان له مال وإلا ندب له ذلك وإذا أوصى به فحج الوصى عنه وقع عنه وذهب بعض الزيدية إلى أنه لا يصح الإحجاج إلا عن الأبوين فقط وإن لم يوصيا أما الأب فلحد الخثعمية عن ابن عباس عن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله: إن فريضة الله على عباده أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة وإذا شددته خفت أن يموت أفأحج عنه؟ قال: نعم؛ قالت: أينفعه ذلك قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضينه قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى. وهذا الحديث قد ورد في الأب وأما الأم فبالقياس على الأب على أنه قد ورد النص بجواز النيابة عنها في الحج كالأب فقد روى عن ابن عباس أن امرأة سألته أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمها ماتت ولم تحج فهل يجزيها أن تحج عنها فقال: صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان عليها دين تقضيه أما يجزئ عنها وإنما ينفذ الإيصاء بالحج من الثلث

(1)

شرح الأزهار ج 4 ص 238 إلى ص 242.

(2)

شرح الأزهار ج 2 ص 128، ص 58.

(3)

شرح الأزهار وحواشيه ج 2 ص 59.

ص: 299

ويستوى في ذلك الفريضة والنافلة

(1)

. وتصح الإنابة في الرمى للعذر من مرض أو خوف يمنع من الرمى أو حمل بالمرأة يخشى عليها من الرمى معه ولا يشترط في العذر المبيح للإنابة في الرمى أن يكون غير مرجو الزوال بخلاف الحج ذلك لأنه من المناسك المؤقتة فمتى خشى فوتها استناب فيها لا في غيرها إذ لا وقت له فلا يخشى فواتها ولا يدخل الوقوف بعرفة في هذا لقوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفة فلا يستناب فيه إلا لعذر فيؤدى وهذا في حق من أحرم عن نفسه أما الأجير فله الاستتابة بعذر لكن إذا شرط أن له الاستنابة كان له الاستنابة ولو لغير عذر كما أنه إذا شرط عليه عدم الاستنابة ولو لعذر لم يكن له الاستنابة أصلا من غير فرق بين النسك المؤقت وغيره ثم لا تصح الاستنابة إلا لمن رمى عن نفسه فإن استتاب من لم يرم عن نفسه فيستأنف لمن استنابه

(2)

.

‌الإنابة في الأضحية:

يندب للمضحى أن يذبح أضحيته بيده ناويا بها الأضحية حال الذبح فإن أناب غيره فالواجب أن تكون النية عند إنابته أو عند الذبح إن ذبحت من غير سبق إنابته وعندئذ تجزى عنه وقيل لا تجزى وعلى الذابح ضمانها وفى تعرف بقية الأحكام يرجع إلى مصطلح أضحية

(3)

.

‌الإنابة في إقامة الحدود والقصاص:

لا تجوز الإنابة في إثبات الحدود والقصاص للشبهة كما تقدم أما في الاستيفاء فقد ذهبوا إلى عدم جواز الإنابة في استيفاء القصاص لرجاء العفو عند حضور الولى ولذا جازت الإنابة عند حضوره أما الحدود فمنها ما هو إلى الإمام ولو فيها الإنابة بحكم ولايته العامة كحد الزنا وحد الشرب لأن ذلك إليه أما حد القذف وحد السرقة فالشرط في استيفائها تقدم الدعوى ولذا لا لكون الإنابة من الإمام بل من القاضي في التنفيذ خوف الجور والحيف فيه وفى الأزهار أن إقامة الحدود على الإمام أو نائبه

(4)

.

‌الإنابة في الشهادة:

لا يرى الزيدية جواز الإنابة في الشهادة لما تقدم.

‌الإنابة في الوظائف:

في أحكامها تفصيل يرجع إليه في مصطلح وقف ووظائف.

‌الإنابة في القضاء:

يرجع في تعريف أحكامه إلى مصطلح استخلاف في الجزء 6 من الموسوعة. ص 117.

‌الإنابة في أمانة الصلاة وما يتبعها:

يرجع في بيان أحكامها إلى مصطلح استخلاف ج 6 من الموسوعة ص 158.

‌مذهب الإمامية:

‌ما تجوز الإنابة فيه وما لا يجوز:

كل ما تعلق غرض الشارع بإيقاعه من العبد مباشرة عند طلبه منه لا تصح الإنابة فيه وكل ما جعل ذريعة إلى غرض لا يختص بالمباشرة جازت الإنابة فيه بشرط أن يكون المستنيب فيه ذا ولاية في مباشرته فلا تصح الإنابة في طلاق امرأة سيتزوجها ولا في عتق عبد سيشتريه ولا تصح الإنابة في الوضوء ولا في الغسل لتعين محلهما ولا يجوز أن يوضئه غيره بغسل أعضاء الوضوء إلا مع الضرورة ويجوز أن يستنيب غيره عند ذلك

(1)

شرح الأزهار وحواشيه ص 172، 173.

(2)

الأزهار وحواشيه ص 186.

(3)

شرح الأزهار ج 4 ص 90.

(4)

شرح الأزهار ج 4 ص 334.

ص: 300

استعانة به كما تجوز الإنابة في تطهير البدن والثياب من الدنس ولا تجوز الإنابة في الصلاة حال الحياة وجازت فيما بعد الوفاة ما عدا ركعتى الطواف في الحج والعمرة فتجوز الإنابة فيهما عمن استناب غيره في الحج عنه أو العمرة وتجوز الإنابة في أداء الزكاة أي توزيعها على مستحقها فينوب عنه في ذلك من أنابه وتجوز الإنابة في إخراجها من مال النائب والإنابة في القبض سواء قام به الإمام بغرض التفرقة بين المستحقين أو قام به الفقراء أنفسهم لنفس الغرض - ولا تجوز الإنابة في الصيام لأنه عبادة بدنية محضة كالصلاة ولكن تجوز النيابة فيه بعد الموت فيصوم الولى عن موليه المتوفى ولا تجوز الإنابة في الاعتكاف لأنه عبادة بدنية محضة وتجوز الإنابة في الحج مع العجز والعذر ومنه حدوث الموت بعد الإنابة. ولحصول المصالح المقصودة من التصرفات والأفعال الآتية بمباشرتها دون نظر إلى فاعلها جازت الإنابة فيها فجازت في جميع العقود من بيع وشراء وإجارة ومزارعة ومساقاة وشركة ومضاربة وحوالة وضمان وشركة واصطياد واحتطاب واحتشاش وإحياء موات وجمالة وهبة ووقف وقبض حقوق وإيصاء وقسمة وإيداع وزواج إيجابا وقبولا وخلع وطلاق ورجعة واستيفاء قصاص بحضرة المستنيب وغنيمة وقتال أهل البغى وجهاد واستيفاء حد دون إثباته إلا حد القذف كما تجوز الإنابة في عقد الجزية وتسليمها وقبضها وفى الذبح وعقد السبق والرمى والقضاء والدعوى والفرض والصلح والإبراء والعتق والتدبير والكفالة والضمان والإنابة في توقيع الحجر من الحاكم ولا يجوز الإنابة في المعصية كالغصب ولا في القسم بين الزوجات ولا في الإيلاء ولا في الظهار ولا في اللعان ولا في الإرضاع ولا في الجنابة ولا في الإيمان ولا في القسامة ولا الأشربة بل يجب الحد على الشارب ولا في النذر ولا في العهد ولا في الاستيلاء وتصح الإنابة في الشهادة كما في الشهادة على الشهادة وجوز الشيخ أبو جعفر الإنابة في الإقرار وكل ما تصح الاستنابة فيه تصح أن تكون لرجل وامرأة أو لحر أو لعبد أو لمسلم أو لذمى أو لغير مميز وليس للنائب أن يستنيب فيما أنيب فيه إلا أذن له في ذلك وفى تعرف أحكام النيابة الشرعية يرجع إلى مصطلح نيابه

(1)

.

‌الإنابة في الحج والعمرة:

الحج والعمرة كلاهما فرض على من توفرت فيه شروط بها وهما سواء في شروط الوجوب وكلاهما فرض مرة واحدة في العمر ويجب على من توفرت فيه الشروط أداء كل منها بنفسه وفى وجوب استنابة الممنوع من مباشرته بنفسه لكبر أو مرض أو عدو قولان: أحدهما: وجوب الاستنابة وهو ما روى عن علي عليه السلام حيث أمر شيخا لم يحج لو لم يطقه من كبره أن يجهز رجلا فيحج عنه. ثانيهما: عدم وجوب الاستنابة لفقد شرط وجوب الحج الذي هو الاستطاعة وموضع الخلاف ما إذا عرض المانع قبل استقرار الوجوب. وإلا وجبت قولا واحدا وهل يشترط في وجوب الاستنابة اليأس من البرء أم تجب مطلقا وإن لم يكن مع عدم اليأس قولان أولهما قوى،

(1)

تحرير الأحكام ج 1 ص 231 وما بعدها.

ص: 301

فإن استمر العذر أجزأه حج النائب وإن زال العذر فأمكنه الحج بنفسه حج ثانيا بعد حج النائب وإن كان العذر ميئوسا زواله عند عروضه لتحقق الاستطاعة وما وقع نيابة إنما وجب للنص

(1)

.

ويجوز للصحيح غير المعذور أن يستنيب في حج التطوع وغيره كحج النذر وأحكام العمرة في ذلك كأحكام الحج. وفى تعرف باقى الأحكام يرجع إلى مصطلح نيابة في الحج والعمرة

(2)

.

‌الإنابة في القضاء:

الإنابة في القضاء هي الاستخلاف فيه ويجوز للقاضى إذا أذن له في الاستخلاف أن ينيب غيره في القضاء إذا لم يؤذن له فعند منعه من الاستخلاف لا يجوز له وعند إطلاق توليته يجوز له الاستخلاف لا يجوز له. إن دلت الإمارات والقرائن على الإذن (راجع: مصطلح استخلاف في الموسوعة ج 6 ص 172) وفى تعرف بقية الأحكام يرجع إلى مصطلح قضاء.

‌الإنابة في الصلاة على العموم:

راجع مصطلح استخلاف في الموسوعة ج 6 ص 122 ص 128، ص 142، ص 149، ص 251 ومصطلح صلاة.

‌الإنابة في الشهادة:

تقبل الشهادة على الشهادة في حقوق الناس ولو كانت عقوبات كالقصاص أو غير ذلك كالطلاق والنصب والعتق والنسب والفرض والدين والقراض وعقود المعاوضات وما لا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء والولادة ولا تقبل في الحدود مطلقا راجع تحرير الأحكام ج 2 ص 215 وفى تعرف بقية الأحكام ارجع إلى مصطلح شهادة.

‌الإنابة في الأضحية:

يندب للمضحى أن يباشر ذبح أضحيته بنفسه ولو استتاب مسلما في ذبحها جاز ولا يجوز أن يستنيب كافرا إن كان ذميا. وفى تعرف بقية الأحكام يرجع إلى مصطلح أضحية (راجع تحرير الأحكام ج 1 ص 108).

‌الإنابة في الحدود:

إقامة الحدود إلى الإمام ويجوز له أن يستنيب فيها تحرير راجع الأحكام جزء 2 ص 222 ص 223.

‌مذهب الإباضية:

ما جاز فيه التوكيل جازت فيه الإنابة وذلك يتناول جميع الأفعال التي لا تعد من قبيل العباد كالعقود بجميع أنواعها بما فيها عقد النكاح وعقود المعاملات وما كان عبادة بدنية محضة لا تجوز فيه النيابة كالصلاة والصيام أما ما كان من العبادات متعلقا بالمال فتجوز النيابة في تنفيذه كالزكاة وتفريق الصدقات واختلف في الحج قيل تجوز فيه النيابة وقيل لا تجوز وفيما يلى بيان بعض الأحكام في ذلك

(3)

.

‌الإنابة في الشهادة:

وتسمى استيداع الشهادة واختلف في جواز ذلك فقيل يجوز وهو قول الأكثر وقيل لا يجوز وفى الديوان من أصحابنا من قال بالجواز ومنهم من قال بعدم الجواز وذهب فريق إلى جواز ذلك لضرورة مرض أو سفر أو نحو ذلك وعلى القول بالجواز ذهب فريق إلى جوازها في جميع الحقوق وذهب آخرون إلى عدم جوازها في

(1)

الروضة البهية ج 1 ص 161.

(2)

تحرير الأحكام ج 1 ص 93.

(3)

شرح النيل ج 1 ص 694.

ص: 302

الحدود والقصاص وفى بيان بقية الأحكام يرجع إلى مصطلح شهادة.

‌الإنابة في ذبح الأضحية:

يستحب للمضحى أن يذبح أضحيته بيده لما روى إنه صلى الله عليه وسلم قال ولوها أهل ملتكم ولا تولوها أهل ذمتكم وفى الأثر يكره للمسلم أن له أضحيته رجل ذمى لأنها قربة بالنظر إلى إراقة الدم يوم النحر فقد روى عنه ابن عمر قال: ما أنفق الناس نفقة أعظم من السفوح في هذا اليوم. وجملة القول أن الإنابة في ذبح الأضحية جائزة وتجزئ عن المستتيب إذا ذبحها النائب ولو نوى ذبحها عن نفسه لتعينها أضحية للمستنيب وأما إذا ذبحها من لم يؤمر بذبحها ففى ذلك تفصيل يرجع إليه في مصطلح أضحية

(1)

.

‌الإنابة في القضاء:

يجوز للقاضى إذا ما أذن له أن يستنيب غيره في القضاء لأن القضاء ولاية يخص بها من نصب لها فإذا لم يؤذن بالإنابة لم يجز له أن ينيب لأنه يعمل فيها نائب عن ولى الأمر ولم يرتض ولى الأمر برأى غير رأيه لكن إذا اذن له في الاستخلاف فيه جاز وفى تفصيل أحكام ذلك يرجع إلى مصطلح قضاء والإنابة فيه.

‌الإنابة في الحج:

أما الإنابة في الحج فجائزة على الجملة وكذلك في العمرة كما تجوز النيابة فيهما أيضا في مواضعها كما سيذكر في مصطلح نيابة ومصطلح حج وعمرة، وقد اختلف الفقهاء هل يحج أحد عن أحد؟ قال بعضهم: لا يحج أحد عن أحد كما لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلى أحد عن أحد والمعمول به عند أصحابنا أن الوصية بالصوم والحج جائزة دون الصلاة فلا تصح الإيصاء بها وذلك من قبل الإنابة بعد الوفاة؛ وفى الأثر أنه يجوز أن يحج عمن لا يستطيع الحج بسبب الكبر والمرض الذي لا يصح منه ويدل عليه ما روى من طريق أنس بن مالك رضي الله عنه عنه قال أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمى عجوز كبيرة لا تستطيع الركوب على البعير وإن ربطتها خفت عليها أن تموت أفأحج عنها قال نعم رواه أحمد والترمذى ولهذا يجوز الإنابة فيهما ولو كانا واجبين عند العذر والمائع من تأديتهما ولا تجوز مع القدرة ويجوز الحج عن الميت لما روى أن المسلمين قالوا يا رسول الله أفتحج عن آبائنا قال نعم: حجوا عنهم متفق عليه. فمضت السنة بذلك ولكن اختلف الأصحاب في هذا القول هل يحج أحد عن أحد قبل أن يحج عن نفسه؟ فقال بعضهم لا يصح حج الإنسان عن غيره حتى يحج عن نفسه فقد روى أن النبى صلى الله عليه وسلم سمع ملبيا يلبى عن الغير فقال له صلى الله عليه وسلم إن كنت حججت عن نفسك وإلا فحج عن نفسك ثم حج عن غيرك وقال آخرون إن ذلك جائز مع الضرورة على وجه الإجارة أما الحديث السابق فلعل النبي صلى الله عليه وسلم عرف استطاعة الرجل الملبى فأمره بذلك لأنه لا يأمره إلا بالواجب عليه وجائز حج المرأة عن الرجل والرجل عن المرأة كما دل على ذلك دين حديث الخثعمية التي أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحج عن أبيها انتهى ملخصا من الإيضاح.

(2)

(1)

شرح النيل ج 6 ص 644.

(2)

الإيضاح ج 2 ص 221 وما بعدها.

ص: 303

‌إنابة الإمام في الصلاة:

إذا أحدث الإمام وهو في صلاة الجنازة جاز له أن يستخلف غيره كما يجوز له الاستخلاف في غيرها راجع مصطلح استخلاف في الموسوعة ج 6 ص 126.

‌الإنابة في الوظائف:

يراد بالوظائف ما يشرطه الواقف في وقفه من مرتبات لأناس يقومون ببعض الشعائر أو بعمارة المسجد أو نحو ذلك وقد يعين الواقف فيها من يراه وقد يترك التعيين لناظر الوقف أو للحاكم أو للقاضى وعلى أية حال ففى إنابة المعين فيها غيره تفصيل يرجع حدوث ذلك بناء عن عذر أو وقفه من غير عذر يدعو إلى ذلك وفى معرفة أحكام ذلك يرجع إلى مصطلح وقف ووظائفه.

‌الإنابة في دفع الزكاة:

يجوز لمن وجبت عليه الزكاة أن يؤديها إلى مستحقها بنفسه ندبا وله أن يؤديها بواسطة من ينيبه عنه بالوكالة أو استخلاف أو أمر ولو عبدا أو ذميا أو مشركا مكلفا أو طفلا إذا أحتاج إلى الإنابة ولم يجد المسلم الأمين وتبرأ ذمته بوصولها إلى مستحقها ولا يكفى قول الطفل أو المشرك أو الذمى أو العبد إنى أوصلتها بل لابد من دليل يدل على صدقه وقيل يكفى قوله إن صدقه وفى إنابة المسلم الأمين لا يلزمه أن يسأله عن دفعها لمستحقها وقيل يلزمه وفى الديوان ولا يستخلف طفلا ولا مجنونا ولا مشركا ولكن إن استخلفهم فقاموا بما عهد به إليهم أجزاه وفى تعرف باقى أحكام الإنابة والنيابة يرجع إلى مصطلح نيابة في الزكاة

(2)

.

‌الإنابة في الصوم:

الصوم عبادة بدنية محضة ولذا لا تجوز فيها الإنابة وفى الآثار لا يصوم أحد عن أحد كما لا يصلى أحد عن أحد ولا يتوضأ أحد عن أحد استقلالا وأما القيام بالصلاة على وجه التبع فجائز كما في ركعتى الطواف في الحج والعمرة يصليهما الحاج والمعتمر عمن أنابهما فينوب فيهما وفى الوضوء لهما وكذلك ركعتا الإحرام ينوب فيهما المحرم عمن أحرم عنه وذهب فريق إلى جواز الإنابة في الصوم عمن احتضر وعليه قضاء صوم فيجوز لورثته أن يصوموا عنه إن أمرهم به ويدل على لذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة ماتت أختها وعليها صوم صومى عن أختك وجاء فيما روى عن بريدة أنه قال بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اتته امرأة فقالت إن أمى ماتت وعليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومى عنها قالت إنها لم تحج أفأحج عنها قال حجى عنها رواه أحمد ومسلم

(3)

.

‌الإنابة في الحدود والقود:

إقامة الحدود إلى الإمام لأنها من المصالح العامة التي يتم بها صلاح الرعية وهى من الولايات التي يجوز للإمام الإنابة فيها قصدا إلى توزيع أعمال الإمامة كإنابته في الولايات والقضاء وما إلى ذلك وكذلك القود أمره إلى الإمام ومن يليه عنه من القضاة لما يحتاج إليه عند الفصل فيه من اجتهاد وسماع شهادة

(4)

.

(1)

الإيضاح ج 2 ص 235.

(2)

شرح النيل ج 2 ص 151، ص 152.

(3)

شرح النيل ج 2 ص 220 ونيل الأوطار ج 4 من 200.

(4)

شرح النيل ج 7 ص 355، ص 555، ج 8 ص 182.

ص: 304

‌بحث: مصطلح "انتحار

"

‌التعريف في اللغة:

جاء في

(1)

لسان العرب: نحر النحر الصدر والنحور الصدور قال ابن سيده نحر الصدر أعلاه وقيل هو موضع القلادة منه وهو المنحر ونحره نحرًا ينحره أصاب نحره ونحر البعير ينحره نحرًا طعنه في منحره حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر؛ ويوم النحر عاشر ذى الحجة يوم الأضحى لأن البُدن تنحر فيه، وتناهد القوم على الشئ وانتحروا تشاحوا عليه فكاد بعضهم ينحر بعضًا من شدة حرصهم وتناحروا في القتال، ونحر النهار أوله وأثبته في نحر النهار رأى في أوله وكذلك في نحر الظهيرة. ونحر الرجل في الصلاة ينحر انتصب ونهد صدره وقوله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}

(2)

قيل هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة؛ وقيل معناه وانحر البدن؛ وقيل أمر بأن ينتصب بنحره بإزاء القبلة وأن لا يلتفت يمينًا ولا شمالًا. والنحر النحرير الحاذق الماهر المجرب؛ والنحر في اللبة مثل الذبح في الحلق ورجل منحار وهو للمبالغة يوصف بالجود ويقال انتحر الرجل أي نحر نفسه وفى المثل سرق السارق فانتحر، وانتحر قتل نفسه.

‌التعريف عند الفقهاء:

لا يعبر الفقهاء بلفظ الانتحار وإنما يعبرون بلفظ القتل فالمنتحر هو قاتل نفسه ومن ذلك ما جاء في الهداية وشروحها

(3)

أنه إن قتلت حرة نفسها قبل أن يدخل بها زوجها فلها المهر، وما جاء في

(4)

المهذب: أنه من قتل نفسه خطأ لم تجب الدية بقتله ولا تحمل العاقلة ديته لما روى أن عوف بن مالك الأشجعى ضرب مشركًا بالسيف فرجع عليه فقتله فامتنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وقالوا قد أبطل جهاده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل مات مجاهدًا ولو وجبت الدية على عاقلته لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ولقاتل نفسه بعض الأحكام التي تتعلق به في الدنيا، أما في الآخرة فإنه يؤخذ بجنايته على نفسه فقد ورد في البخارى

(5)

ومسلم والترمذى عن أبى هريرة - رضى الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تردى

(6)

من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ومن تحسى

(7)

سمًا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا فيها أبدًا ومن قتل نفسه بحديدة في يده يتوجأ

(8)

بها في نار

(1)

لسان العرب للإمام العلامة أبى الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الافريقى المصرى جـ 23 من 195، ص 196 طبع مطابع دار صادر دار بيروت للطباعة والنشر الطبعة الأولى سنة 1275 هـ، سنة 1956 م.

(2)

الآية رقم 2 من سورة الكوثر.

(3)

شرح فتح القدير للإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسى المعروف بابن الهمام جـ 2 ص 493 في كتاب على هامش شرح العناية على الهداية للإمام أكمل الدين محمد بن محمود البابرتى مع حاشية المولى المحقق سعد الله بن عيسى الشهير بسعدى جلبى وسعدى افندى طبع المطبعة الكبرى الأميرية بمصر سنة 1315 هـ الطبعة الأولى.

(4)

المهذب للشيخ الإمام الموفق أبى إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادى الشيرازى جـ 2 ص 212 وقد وضع بأسئلة النظم المستعذب في شرح غريب المهذب للعلامة محمد بن أحمد بن بطال الركبى طبع مطبعة عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر.

(5)

الترغيب والترهيب من الحديث الشريف للإمام الحافظ زكى الدين عبد العظيم بن عبد القوى المنذرى جـ 3 ص 200، ص 301 طبع مطبعة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده بمصر الطبعة الثانية سنة 1373 هـ سنة 1954 م.

(6)

تردى: أي رمى بنفسه من الجبل أو غيره فهلك.

(7)

تحسى: أي شرب سمًا.

(8)

يتوجأ بالهمز أي يضرب بها نفسه.

ص: 305

جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدا" وفى البخارى أيضًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار والذي يقتحم

(1)

يقتحم في النار" وعن الحسن البصرى قال: حدثنا جندب بن عبد الله في هذا المسجد فما نسينا منه حديثًا وما نخاف أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان برجل جراح فقتل نفسه فقال الله بدرنى

(2)

عبدى بنفسه فحرمت عليه الجنة" رواه البخارى ومسلم وفى رواية "كان فيمن قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينًا فحز

(3)

بها يده فما رفأ

(4)

الدم حتى مات فقال الله بادرنى عبدى بنفسه فحرمت عليه الجنة" رواه البخارى ومسلم ولفظه قال: "إن رجلًا كان ممن كان قبلكم خرجت بوجهه قرحة فلما آذته انتزع سهمًا من كنانته

(5)

فتكأها

(6)

فلم يرفأ الدم حتى مات قال ربكم قد حرمت عليه

(7)

الجنة،" وعن جابر بن سمرة صلى الله عليه وسلم أن رجلًا كانت به جراحة فأتى قرَنًا

(8)

له فأخذ مشقصًا

(9)

فذبح به نفسه فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن حبان في صحيحه قال الإمام زكى الدين المنذرى بخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يقدم على الانتحار فيقتل نفسه بسكين أو يتناول مادة سامة أو يتعمد أن يرمى نفسه من شاهق مثل جبل أو شجرة أو نافذة أو سطح أو خنق نفسه أو ضرب نفسه برصاص وهكذا من أفعال السفهاء والجهلاء التي يأباها الدين ويقبحها العقل يعاقبه الله تعالى عقابًا صارمًا ويجعل نوع عذابه من جنس فعلته الشنعاء فيخلق الله له حديدة أو سمًا أو يهوى في قاع جهنم مستمرًا على ذلك زمنًا كثيرًا مخلدًا دائمًا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفتح وأولى ما حمل عليه الحديث ونحوه من أحاديث الوعيد أن المعنى المذكور جزاء فاعل ذلك إلا أن يتجاوز الله عنه أما بالنسبة لأحكام الدنيا فمن ذلك ما يتعلق بالمهر إذا قتلت المرأة نفسها هل تستحق المهر أم لا؟ ومنها ما يتعلق بالدية ومنها ما يتعلق بالصلاة عليه وبيان ذلك في المذاهب على الوجه الآتى:

‌أولًا - ما يتعلق بالمهر إذا قتلت الزوجة نفسها أو قتل الزوج نفسه

.

‌مذهب الحنفية:

جاء في بدائع الصنائع للكاسانى

(10)

: أن المهر يتأكد بموت أحد الزوجين قال صاحب البدائع: لا خلاف في أن أحد الزوجين إذا مات حتف أنفه قبل الدخول في نكاح فيه تسمية أنه يتأكد المسمى سواء كانت المرأة حرة أو أمة لأن المهر

(1)

يقتحم: ينزل من جهة مرتفعة. وفى النهاية لابن الأثير اقتحم الإنسان الأمر العظيم وتقحمه إذا رمى نفسه فيه من غير روية وتثبت: انظر النهاية في غريب الحديث والأثر للإمام العلامة مجد الدين أبى السعادات المبارك بن محمد بن محمد الجزرى المعروف بابن الأثير في كتاب على هامش الدر الأثير تلخيص نهاية ابن الأثير للجلال السيوطى جـ 3 ص 231 طبع الطبعة العثمانية بمصر سنة 1311 هـ الطبعة الأولى.

(2)

بدرنى: أي أسرع وسبقنى بنفسه في حالة غضب.

(3)

حز: أي قطع.

(4)

رفأ: رفأ بالهمز أي جف وسكن جريانه.

(5)

الكنانة: الكنانة بكسر الكاف جعبة السهام.

(6)

نكأها بالهمز أي نخسها وفجرها.

(7)

قال صاحب الترغيب حرمت عليه الجنة أي أبعدته من نعيم الجنة لأنه يئس من رحمة الله وقنط ودل على جهله وغفلته عن الله الذي يشفى ويزيل الألم ويبعد الكرب ويفك العسر فكم مريض شفى بعد مرضه قال تعالى {لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} الآية رقم 87 من سورة يوسف.

(8)

القرن بفتح القاف والراء جعبة النشاب.

(9)

المشقص بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح القاف سهم فيه نصل عريض وقيل هو النصل وحده وقيل سهم فيه نصل طويل وقيل هو ما طال وعرّض من النصال.

(10)

من كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين أبى بكر بن مسعود الكاسانى جـ 7 ص 294 طبع مطبعة شركة المطبوعات العلمية بمصر طبعة أولى سنة 1323 هـ.

ص: 306

كان واجبًا بالعقد والعقد لم ينفسخ بالموت بل انتهى نهايته لأنه عقد للعمر فتنتهى نهايته عند انتهاء العمر وإذا انتهى العمر يتأكد فيما مضى ويتقرر بمنزلة الصوم يتقرر بمجئ الليل فيتقرر الواجب ولأن كل المهر لما وجب بنفس العقد صار دينًا عليه والموت لم يعرف مسقطًا للدين في أصول الشرع فلا يسقط شئ منه بالموت كسائر الديون وكذا إذا قتل أحدهما سواء كان قتله أجنبى أو قتل أحدهما صاحبه أو قتل الزوج نفسه، فأما إذا قتلت المرأة نفسها فإن كانت حرة لا يسقط عن الزوج شئ من المهر بل يتأكد المهر عندنا وعند زفر والشافعى يسقط المهر ووجه قولهما أن المرأة بالقتل فوتت على الزوج حقه في المبدل فيسقط حقها في البدل كما إذا ارتدت قبل الدخول أو قبلت ابن زوجها أو قبلت أباه ودليلنا أن القتل إنما يصير تفويتًا للحق عند زهوق الروح لأنه إنما يصير قتلًا في حق المحل عند ذلك والمهر في تلك الحالة ملك الورثة فلا يحتمل السقوط بفعلها كما إذا قتلها زوجها أو أجنبى بخلاف الردة والتقبيل لأن المهر وقت التقبيل والردة كان ملكها فاحتمل السقوط بفعلها كما إذا قتلها زوجها أو قتل المولى أمته سقط مهرها في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يسقط المهر بل يتأكد ووجه قولهما أن الموت مؤكد للمهر وقد وجد الموت لأن المقتول ميت بأجله فيتأكد بالموت كما إذا قتلها أجنبى أو قتلها زوجها وكالحرة إذا قتلت نفسها ولأن الموت إنما أكد المهر لأنه ينتهى به النكاح والشيء وإذا انتهى نهايته يتقرر وهذا المعنى موجود في القتل لأنه ينتهى به النكاح فيتقرر به المبدل وتقرر المبدل يوجب تقرير البدل ووجه قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى أن من له البدل فوت المبدل على صاحبه وتفويت المبدل على صاحبه يوجب سقوط البدل كالبائع إذا أتلف المبيع قبل القبض أنه يسقط الثمن لما قلنا كذا هذا ولا شك أنه وجد تفويت المبدل ممن يستحق البدل لأن المستحق للمبدل هو المولى وقد أخرج المبدل عن كونه مملوكًا للزوج والدليل على أن هذا يوجب سقوط البدل أن الزوج لا يرضى بملك البدل عليه بعد فوات المبدل عن ملكه فكان إيفاء البدل عليه بعد زوال المبدل عن ملكه إضرارًا به والأصل في الضرر أن لا يكون فكان إقدام المولى على تفويت المبدل عن ملك الزوج والحالة هذه إسقاطًا للبدل دلالة فصار كما لو أسقطه نصا بالإبراء بخلاف الحرة إذا قتلت نفسها لأنها وقت فوات المبدل لم تكن مستحقة للبدل لانتقاله إلى الورثة على ما بينا والإنسان لا يملك إسقاط حق غيره وها هنا بخلافه ولأن المهر وقت فوات المبدل على الزوج ملك المولى وحقه والإنسان يملك التصرف في ملك نفسه استيفاء وإسقاطًا فكان محتملًا للسقوط بتفويت المبدل دلالة كما كان محتملًا للسقوط بالإسقاط نصًا بالإبراء وهو الجواب عما إذا قتلها زوجها أو أجنبى لأنه لا حق للأجنبى ولا للزوج في مهرها فلا يحتمل السقوط بإسقاطهما ولهذا لا يحتمل السقوط بإسقاطهما نصًا فكيف يحتمل السقوط من طريق الدلالة والدليل على التفرقة بين هذه الفصول أن قتل الحرة نفسها لا يتعلق به حكم من أحكام الدنيا فصار كموتها حتف أنفها حتى

ص: 307

قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى أنها تغسل ويصلى عليها كما لو ماتت حتف أنفها، وقتل المولى أمته يتعلق به وجوب الكفارة وقتل الأجنبى إياها يتعلق به وجوب القصاص إن كان عمدًا والدية والكفارة إن كان خطأ فلم يكن قتلها بمنزلة الموت هذا إذا قتلها المولى فأما إذا قتلت نفسها فمن أبى حنيفة رحمه الله تعالى فيه روايتان روى أبو يوسف رحمه الله تعالى عنه أنه لا مهر لها وروى محمد رحمه الله تعالى عنه أن لها المهر وهو قولهما ووجه الرواية الأولى أن قتلها نفسها بمنزلة قتل المولى إياها بدليل أن جنايتها كجنايته في باب الضمان لأنها مضمونة بمال المولى ولو قتلها المولى لسقط المهر عنده وكذا إذا قتلت نفسها ووجه الرواية

(1)

الأخرى أن البدل حق المولى وملكه فتفويت المبدل منها لا يوجب بطلان حق المولى بخلاف جناية المولى والدليل على التفرقة بين الجنايتين أن جنايتها على نفسها هدر بدليل أنه لا يتعلق بها حكم من أحكام الدنيا فالتحقت بالعدم وصارت كأنها ماتت حتف أنفها بخلاف جناية المولى عليها فإنها مضمونة بالكفارة وهى من أحكام الدنيا فكانت جنايته عليها معتبرة فلا تجعل بمنزلة الموت.

‌مذهب المالكية:

جاء في

(2)

الشرح الصغير وحاشية الصاوى عليه: أن المهر يتقرر بموت أحد الزوجين قبل الدخول إن سمى صداقًا بخلاف التفويض فلا شئ فيه بالموت قبل البناء وقبل الفرض وأما إذا مات واحد بعد الفرض فهو كنكاح التسمية وعلق الصاوى في حاشيته على قوله بموت أحد الزوجين قال ظاهره سواء كان الموت متيقنًا أو بحكم الشرع وهو كذلك كما نقله الجيزي في وثائقه عن مالك رحمه الله تعالى وهذا في النكاح الصحيح وفى الفاسد لعقده إذا لم يؤثر خللًا في الصداق وكان مختلفًا فيه كنكاح المحرم بحج أو عمرة وشمل قوله موت أحدهما من قتلت نفسها كرهًا في زوجها أو قتل السيد أمته المتزوجة فلا يسقط الصداق عن زوجها.

‌مذهب الشافعية:

جاء في

(3)

المهذب: أن المرأة إن قتلت نفسها فالمنصوص أنه لا يسقط مهرها وقال في الأمة إذا قتلت نفسها أو قتلها مولاها أنه يسقط مهرها فنقل أبو العباس جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين أحدهما يسقط المهر لأنها فرقة حصلت من جهتها قبل الدخول فسقط بها المهر كما لو ارتدت والقول الثاني لا يسقط المهر وهو اختيار المزنى رحمه الله تعالى وهو الصحيح لأنها فرقة حصلت بانقضاء الأجل وانتهاء النكاح فلا يسقط بها المهر كما لو ماتت وقال أبو إسحاق رحمه الله تعالى لا يسقط المهر في الحرة ويسقط في الأمة

(1)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاسائى جـ 2 ص 295 نفس الطبعة السابقة وانظر فتح القدير شرح الهداية للإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام جـ 2 ص 439 في كتاب بهامشه شرح العناية على الهداية طبع المطبعة الكبرى الأميرية بمصر سنة 1315 هـ الطبعة الأولى.

(2)

بلغة السالك لأقرب المسالك للإمام الشيخ أحمد الصاوى جـ 1 ص 383، ص 384 في كتاب على هامشه الشرح الصغير لسيدى أحمد الدردير طبع المطبعة التجارية بمصر.

(3)

المهذب للإمام أبى إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادى الشيرازى جـ 7 ص 58 في كتاب بأسفله النظم المستعذب في شرح غريب المهذب للعلامة محمد بن أحمد بن بطال الركبى طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر سنة 1295 هـ.

ص: 308

على ما نص عليه لأن الحرة كالمسلمة نفسها بالعقد ولهذا يملك منعها من السفر والأمة لا تصير كالمسلمة نفسها بالعقد ولهذا لا يملك منعها من السفر مع المولى، وجاء في مغنى المحتاج: أن المذهب المنصوص أن الحرة لو قتلت نفسها أو ماتت قبل الدخول لا يسقط مهرها أو قتل الأمة أجنبى أو ماتت قبل الدخول فلا يسقط مهرها كما لو هلكتا أي الحرة والأمة بعد الدخول فإن المهر لا يسقط جزمًا كما في المحرر وما ذكر في قتل الحرة هو المنصوص فيها عكس قتل السيد أمته والفرق أن الحرة كالمسلمة إلى الزوج بالعقد بخلاف الأمة وأيضًا الحرة إذا قتلت نفسها غنم زوجها من ميراثها فجاز أن يغرم مهرها بخلاف الأمة وأيضًا الفرض من نكاح الحرة الألفة والمواصلة دون الوطء وقد وجدا بالعقد والغرض من نكاح الأمة هو الوطء ولهذا يشترط فيه خوف العنت وذلك غير حاصل قبل الدخول وللأصحاب في المسألة طريقان أشهرهما في كل قولان بالنقل والتخريج أرجحهما المنصوص فيهما والطريق الثاني القطع بالمنصوص فيهما وفى وجه أن قتل الأمة نفسها لا يسقط المهر لأنها ليست المستحقة

(1)

له.

‌مذهب الحنابلة:

جاء في كشاف

(2)

القناع: أن الصداق المسمى وهو المهر يتقرر كاملًا سواء كانت الزوجة حرة أو أمة بالموت أو القتل كالدخول لما روى معقل بن سنان - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشعة وكان زوجها قد مات ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقًا فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط. رواه أبو داود والنسائى وابن ماجه والترمذى وقال حديث حسن صحيح ولأنه عقد عمر فبموت أحدهما ينتهى فيستقر به العوض كانتهاء الإجارة ومتى استقر المهر لم يسقط منه شئ بانفساخ النكاح ولا غيره حتى ولو قتل أحدهما أي الزوجين الآخر أو قتل أحد الزوجين نفسه لأن النكاح قد بلغ غايته فقام ذلك مقام استيفاء المنفعة.

‌مذهب الزيدية:

جاء في

(3)

شرح الأزهار: أن من سمى مهرًا تسمية صحيحة أو في حكمها لزمه ذلك المسمى أو قيمته وتستحقه المرأة كاملًا بأحد أمرين الأول بموتهما قال في حاشية شرح الأزهار وإنما جعلنا الموت بمنزلة الدخول لأنه حد انقضاء الزوجية كاستكمال الأجرة بتخلية العين وإن لم تستعمل حتى مضت المدة؛ قال في شرح الأزهار وكذلك يلزم المسمى أو قيمته بموت أحدهما بأى سبب سواء كان موتهما أو موت أحدهما بأمر سماوي أو بجناية من غيرهما أو من بعضهما على بعض أو من الميت على نفسه بأن قتل نفسه ففى هذه الوجوه كلها تستحق الزوجة كمال المهر المسمى

(1)

مغنى المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج للإمام الشيخ محمد الشربينى الخطيب جـ 3 ص 210، ص 211 في كتاب بهامشه متن المنهاج لأبى زكريا بحيى بن شرف النووى طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1308 هـ.

(2)

كشاف القناع على متن الإقناع للشيخ العلامة الشيخ منصور بن إدريس الحنبلى جـ 2 ص 89 في كتاب بهامشه شرح منتهى الإرادات للشيخ منصور بن يونس البهوتى طبع المطبعة العامرة الشرقية سنة 1319 هـ الطبعة الأولى.

(3)

شرح الأزهار المنتزع من الغيث المدرار المفتح لكمائم الأزهار في فقه الأئمة الأطهار للعلامة أبو الحسن عبد الله بن مفتاح ص 261، ص 262، ص 263 وحاشيتهما طبع مطبعة حجازى بالقاهرة سنة 1357 هـ الطبعة الثانية.

ص: 309

عندنا سواء كانت حرة أو أمة وقال في الزوائد إن الموت بمنزلة الطلاق عند الناصر ولا فرق بين أن تموت هي أو هو وقال المؤيد بالله في الإفادة خلاف الناصر في موت الزوج لا في موتها لأن موت الزوجة بمنزلة الدخول وموت الزوج بمنزلة الطلاق وقال الأستاذ إذا قتلت الحرة زوجها سقط مهرها كالميراث وإذا قتلت الحرة نفسها أو قتل الأمة سيدها بطل مهرها قلنا إن المهر دين فلا يسقط.

‌مذهب الإمامية:

جاء في

(1)

الروضة البهية: أنه لو مات أحد الزوجين مع تفويض البضع قبل الدخول فلا شئ لرضاهما بغير مهر ولصحيحة الحلبى عن الصادق عليه السلام في المتوفى عنها زوجها قبل الدخول إن كان فرض لها مهرًا فلها وإن لم يكن فرض مهرًا لها فلا مهر لها وهذا مما لا خلاف فيه ظاهرًا.

‌ثانيًا - الحكم فيما يتعلق بقتل المرء نفسه من دية وغيرها

.

‌مذهب الحنفية:

جاء في

(2)

بدائع الصنائع: أن من حفر بئرًا في الطريق فوقع رجل فيها فتعلق بآخر وتعلق الثاني بثالث فوقعوا فماتوا فهذا في الأصل لا يخلو من أحد وجهين إما أن علم حال موتهم بأن خرجوا أحياء فأخبروا عن حالهم وإما إن لم يعلم فإن علم ذلك فأما موت الأول فلا يخلو من سبعة أوجه. إما أنه علم أنه مات بوقوعه في البئر خاصة وإما أنه علم أنه مات لوقوع الثاني عليه خاصة وإما أنه علم أنه مات بوقوع الثالث عليه خاصة وإما أنه علم أنه مات بوقوع الثاني والثالث عليه وإما أنه علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثاني عليه وإما أنه علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثالث عليه وإما أنه علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثاني والثالث عليه فإن علم أنه مات بوقوعه في البئر خاصة فالضمان على الحافر لأن الحافر هو القاتل تسبيبًا وهو متعد فيه فكان الضمان عليه فإن علم أنه مات بوقوع الثاني عليه خاصة فدمه هدر لأنه هو الذي قتل نفسه حيث جره على نفسه وجناية الإنسان على نفسه هدر وإن علم أنه مات بوقوع الثاني والثالث عليه خاصة فالضمان على الثاني لأن الثاني هو الذي جر الثالث على الأول حتى أوقعه عليه وإن علم أنه مات بوقوع الثاني والثالث عليه فنصفه هدر ونصفه على الثاني لأن جره الثاني على نفسه هدر لأنه جناية على نفسه وجر الثاني والثالث عليه معتبر فهدر النصف وبنى النصف وإن علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثاني عليه فالنصف على الحافر لوجود الجناية منه بالحفر والنصف هدر لجره الثاني على نفسه وإن علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثالث عليه فالنصف على الحافر والنصف على الثاني لأنه هو الذي جر الثالث على الأول وإن علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثاني والثالث عليه فالثالث هدر والثالث على الحافر

(1)

الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية للشهيد السعيد زين الدين الجعبى العاملى جـ 2 ص 117 طبع مطبعة دار مكتبة الحياة ببيروت سنة 1379 هـ سنة 1960 م

(2)

بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين أبى بكر بن مسعود الكاسائي جـ 7 ص 276، من 277 طبع مطبعة الجمالية بمصر سنة 1328 هـ سنة 1910 م الطبعة الأولى.

ص: 310

والثالث على الثاني لأنه مات بثلاث جنايات أحدهما هدر وهى جره الثاني على نفسه جناية الحافر وجناية الثاني بجره الثالث على الأول فتعتبر وأما موت الثاني فلا يخلو من ثلاثة أوجه وإما أنه علم أنه مات بوقوعه في البئر خاصة وإما أنه علم أنه مات بوقوع الثالث عليه خاصة وإما أنه علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثالث عليه فإن علم أنه مات بسقوطه في البئر خاصة فديته على الأول وليس على الحافر شئ لأن الأول هو الذي جره إلى البئر فكان كالدافع وإن علم أن مات بوقوع الثالث عليه خاصة فدمه هدر لأنه مات بفعل نفسه حيث جر الثالث على نفسه فهدر دمه وإن علم أنه مات بسقوطه في البئر ووقوع الثالث عليه فالنصف هدر والنصف على الأول لأنه مات بشيئين. أحدهما فعل نفسه وهو جره الثالث على نفسه وجنايته على نفسه هدر الثاني فعل غيره وهو جر الأول وإيقاعه في البئر وأما موت الثالث فله وجه واحد لا غير وهو سقوطه في البئر وديته على الثاني لأنه هو الذي جره إلى البئر وأوقعه فيه هذا كله إذا علم حال وقوعهم وأما إذا لم يعلم فلا يخلو إما إن وجد بعضهم على بعض وإما إن وجدوا متفرقين فإن كانوا متفرقين فدية الأول على الحافر ودية الثاني على الأول ودية الثالث على الثاني وهو قول محمد رحمه الله تعالى وفى الاستحسان دية الأول أثلاث ثلث على الحافر وثلث على الثاني وثلث هدر ودية الثاني نصفان نصف هدر ونصف على الأول ودية الثالث كلها على الثاني ولم يذكر محمد رحمه الله تعالى في الاستحسان أنه قول من وجه القياس أنه وجد لموت كل واحد سبب ظاهر وهو الحفر للأول والجر من الأول للثانى والجر من الثاني للثالث وإضافة الأحكام إلى الأسباب الظاهرة أصل في الشريعة، وجه الاستحسان أنه اجتمع في الأول ثلاثة أسباب كل واحد منها صالح للموت وقوعه في البئر ووقوع الثاني ووقوع الثالث عليه إلا أن وقوع الثاني عليه حصل بجره إياه على نفسه فهدر الثلث وبنى الثلثان ثلث على الحافر بحفره وثلث على الثاني بجره الثالث على نفسه ووجد في الثاني شيئان الحفر ووقوع الثالث عليه إلا أن وقوعه عليه حصل بجره فهدر نصف الدية وبقى النصف على الحافر ولم يوجد في الثالث إلا سبب واحد وهو جر الثاني إياه إلى البئر والأصل في الأسباب اعتبارها ما أمكن واعتبارها يقتضى أن يكون الحكم ما ذكرنا والله تعالى أعلم وبالنسبة لجناية العبد المرهون على نفسه جاء في البحر

(1)

الرائق: أن العبد المرهون لو قتل نفسه أو فقأ عينه فلا شئ عليه كما لو مات لأن جناية الإنسان على نفسه هدر.

‌مذهب المالكية:

جاء في التاج

(2)

والإكليل بهامش الحطاب: أن الكفارة تجب على القاتل الحر المسلم وإن صبيا أو مجنونا أو شريكا إذا قتل مثله معصوما خطأ عتق رقبة وللعجز عن العتق صوم شهرين متتابعين إلا الصائل وقاتل نفسه قال ابن شاس

(1)

تكملة البحر الرائق شرح كنز الدقائق للإمام محمد بن حسين بن على الطورى جـ 8 ص 213 في كتاب مع متن الكنز طبع المطبعة العلمية بمصر سنة 1310 هـ الطبعة الأولى.

(2)

كتاب التاج والإكليل لشرح مختصر خليل للإمام أبي عبد الله محمد بن يوسف بن أبى القاسم العبدرى الشهير بالموافق جـ 6 ص 268 من كتاب على هامش مواهب الجليل للإمام أبى عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بالحطاب طبع مطبعة السعادة بمصر الطبعة الأولى سنة 1329 هـ.

ص: 311

رحمه الله تعالى لا تجب الكفارة في قتل الصائل ولا في قاتل نفسه قال ابن عرفة رحمه الله تعالى هذا مقتضى المذهب ولم أجده نصًا قال الجلاب رحمه الله تعالى وكذلك لا تعقل العاقلة من قتل نفسه سواء كان القتل عمدًا أو خطأ وفى حكم قتل النفس جاء في

(1)

الحطاب: أن من يأخذهم الولاة ويجزمون بأنهم مقتولون فيريد أن يستعجل الموت بشرب السم فإنه يجرى على ما جاء في المدونة قال مالك

(2)

: إذا أحرق العدو سفينة للمسلمين فلا بأس أن يطرحوا أنفسهم في البحر لأنهم فروا من موت إلى موت قال ابن رشد رحمه الله تعالى الصواب أن ترك ذلك أفضل وفعله جائز. قال خليل رحمه الله تعالى، ووجب إن رجا حياة قال ابن بشير رحمه الله تعالى إذا حصل أحد من المسلمين في صورة يخاف فيها من القتل فأراد أن ينتقل عنها فإن رجا السلامة فالانتقال واجب عليه وإن رجا السلامة بالبقاء وجب عليه البقاء، وقال عز الدين رحمه الله تعالى إذا رجا الإنسان حياة ساعة فلا يحل له استعجال موته وظاهر ذلك أنه لا يحل له ذلك وفى الأسئلة هل يجوز للمكلف قتل نفسه إذا علم أنه أتى ما يوجب ذلك أو يستحب أو يحرم فإذا فعل ذلك هل يسمى بذلك فاسقا أو مفتاتا؟ والجواب أن من تحتم قتله بذنب من الذنوب لم يجز له أن يقتل نفسه لأن ستره على نفسه مع التوبة أولى به وإن أراد بذلك تطهير نفسه بالقتل فليقر بذلك عند ولى القتل ليقتله على الوجه الشرعى فإذا قتل نفسه لم يجز له ذلك لكنه إذا قتل نفسه قبل التوبة كان ذنبه صغيرًا لافتياته على الإمام ويلقى الله تعالى فاسقًا بالجريمة الموجبة للقتل وإن قتل نفسه بعد التوبة فإن جعلنا توبته مسقطة لقتله فقد لقى الله فاسقًا بقتل نفسه لأنه قتل نفسًا معصومة وإن قلنا لا يسقط قتله بتوبته لقى الله عاصيًا لافتياته على الأئمة ولا يأثم بذلك أثم من يرتكب الكبائر لأنه فوت روحًا يستحق تفويتها وأزهق نفسًا يستحق إزهاقها وكان الأصل يقتضى أن يجوز لكل أحد القيام بحق الله تعالى في ذلك لكن الشرع فوضه إلى الأئمة كيلا يوقع الاستبداد به في الفتن.

‌مذهب الشافعية:

جاء في

(3)

المهذب: أن من قتل نفسه خطأ لم تجب الدية بقتله ولا تحمل العاقلة ديته لما روى أن عوف بن مالك الأشجعى رضي الله عنه ضرب مشركًا بالسيف فرجع السيف عليه فقتله فامتنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وقالوا قد أبطل جهاده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل مات مجاهدًا ولو وجبت الدية على عاقلته لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وقال في موضع آخر

(4)

من المهذب: أن من طرح رجلًا في نار يمكنه الخروج منها فلم يخرج حتى مات ففيه قولان أحدهما أنه تجب الدية لأن ترك التخلص من الهلاك لا يسقط به ضمان الجناية كما لو جرحه جراحة وقدر

(1)

الحطاب بشرح مختصر خليل جـ 3 ص 358 الطبعة السابقة.

(2)

التاج والإكليل بها من الحطاب جـ 3 ص 358 الطبعة السابقة.

(3)

المهذب للإمام أبى إسحاق بن إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادى الشيرازى جـ 2 ص 212 في كتاب بأسفله النظم المستعذب في شرح غريب المهذب للإمام محمد بن أحمد بن بطال المركبى طبع مطبعة دار إحياء الكتب العربية لأصحاب عيسى البابى الحلبي وشركاه بمصر سنة 1295 هـ.

(4)

المرجع السابق جـ 2 ص 192 نفس الطبعة المتقدمة.

ص: 312

المجروح على مداواتها فترك المداواة حتى مات والقول الثاني أنها لا تجب وهو الصحيح لأن طرحه في النار لا يحصل به التلف وإنما يحصل ببقائه فيها باختياره فسقط ضمانه كما لو جرحه جرحًا يسيرًا لا يخاف منه فوسعه حتى مات، وإن طرحه في ماء يمكنه الخروج منه قلم يخرج حتى مات ففيه طريقان، من أصحابنا من قال فيه قولان كالنار ومنهم قال لا تجب قولًا واحدًا لأن الطرح في الماء ليس بسبب للهلاك لأن الناس يطرحون أنفسهم في الماء للسباحة وغيرها وإنما حصل الهلاك بمقامه فيه فسقط ضمانه بخلاف النار، وجاء في

(1)

نهاية المحتاج أنه إن أكره مميزًا ولو أعجميًا على قتل نفسه كاقتل نفسك وإلا قتلتك فقتلها فلا قصاص في الأظهر لانتفاء كونه إكراهًا حقيقة لاتحاد المأمون. به والخوف به فكأنه اختار القتل والثانى يجب كما لو أكرهه على قتل غيره ويجب على الأول على الآمر نصف الدية كما جزم به ابن المقرى تبعًا لأصله وهو المعتمد بناء على أن المكره شريك وإن سقط عنه القصاص للشبهة بسبب مباشرة المكره قتل نفسه، نعم لو أكرهه على قتل نفسه بما يتضمن تعذيبًا شديدًا كإحراق أو تمثيل إن لم يقتل نفسه كان إكراهًا كما جرى عليه الزاز ومال إليه الرافعى وإن نازع فيه البلقينى أما غير المميز فعلى مكرهه القود لانتفاع اختياره وبه فارق الأعجمى لأنه لا يجوز وجوب الامتثال في حق نفسه.

‌مذهب الحنابلة:

جاء فى المغنى والشرح الكبير عليه: أنه إن جنى الرجل على نفسه خطأ أو على أطرافه ففيه روايتان قال القاضي أظهر الروايتين أن على عاقلته ديته لورثته إن قتل نفسه أو أرش جرحه لنفسه إذا كان أكثر من الثلث وهذا قول الأوزاعى وإسحاق لما روى أن رجلًا ساق حمارًا فضربه بعصا كانت معه فطارت منها شظية ففقأت عينه فجعل عمر ديته على عاقلته وقال هي يد من أيدى المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد ولم نعرف له مخالفًا في عصره ولأنها جناية خطأ فكان عقلها على عاقلته كما لو قتل غيره فعلى هذه الرواية إن كانت العاقلة الوارثة لم يجب شئ لأنه لا يجب للإنسان شئ على نفسه وإن كان بعضهم وارثًا سقط عنه ما يقابله نصيب وعليه ما زاد على نصيبه وله ما بقى إن كان نصيبه من الدية أكثر من الواجب عليه الرواية الثانية: جنايته هدر قول أكثر أهل العلم منهم ربيعة ومالك والشورى والشافعى وأصحاب الرأى وهى أصح لأن عامر بن الأكوع بارز مرحبا يوم خيبر فرجع سيفه على نفسه فمات ولم يبلغنا أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى فيه بدية ولا غيرها ولو وجبت لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه جنى على نفسه فلم يضمنه غيره كالعمد ولأن وجوب الدية على العاقلة إنما كان مواساة للجانى وتخفيفًا عنه وليس على الجانى ها هنا شئ يحتاج إلى الإعانة والمواساة فيه فلا وجه لإيجابه ويفارق هذا ما إذا كانت الجناية

(1)

نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين محمد بن أبى العباس أحمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملى المنوفى المصرى الشهير بالشافعى الصغير جـ 7 ص 247 ومعه حاشية أبى الضياء نور الدين على بن علي الشبراملى القاهرى وبهامشه حاشية أحمد بن عبد الرزاق بن محمد بن أحمد المعروف بالمغربى الرشيدى طبع مطبعة شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده بمصر سنة 1357 هـ سنة 1938 م.

ص: 313

على غيره فإنه لو لم تحمله العاقلة لأجحف به وجوب الدية لكثرتها، فأما إن كانت الجناية على نفسه شبه محمد فهل يجرى مجرى الخطأ؟ على وجهين، الوجه الأول هي كالخطأ لأنها تساويه فيما إذا كانت على غيره والوجه الثاني: لا تحمله العاقلة لأنه لا عذر له فأشبه العمد المحض

(1)

، وجاء في

(2)

موضع آخر من المغنى: أنه إن ألقاه في ماء يسير يقدر على الخروج منه فلبث فيه اختيارًا حتى مات فلا قود فيه ولا دية لأن هذا الفعل يقتله وإنما حصل موته بلبثه فيه وهو فعل نفسه فلم يضمنه غيره، وان تركه فى نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو كونه فى طرف منها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يفعل حتى مات فلا قود لأن هذا لا يقتل غالبًا وهل يضمنه؟ فيه وجهان أحدهما لا يضمنه لأنه مهلك لنفسه بإقامته فلم يضمنه كما لو ألقاه في ماء يسير لكن يضمن ما أصابت النار منه والثانى يضمنه لأنه جان بالإلقاء المفضى إلى الهلاك وترك التخلص لا يسقط الضمان كما لو قصده فترك شد فصاده مع إمكانه أو جرحه فترك مداواة جرحه. وفارق الماء لأنه لا يهلك بنفسه ولهذا يدخله الناس للغسل والسباحة والصيد وأما النار فيسيرها يهلك وإنما تعلم قدرته على التخلص بقوله أنا قادر على التخلص أو نحو هذا لأن النار لها حرارة شديدة فربما أزعجته حرارتها عن معرفة ما يتخلص به أو أذهبت عقله بألمها وروعتها. وإن ألقاه في لجة لا يمكنه التخلص منها فالتقمه حوت ففيه وجهان أحدهما عليه القود لأنه ألقاء في مهلكة فهلك فأشبه ما لو غرق فيها والثانى لا قود عليه لأنه لم يهلك بها أشبه ما لو قتله آدمى آخر، وإن ألقاه في ماء يسير فأكله سبع أو التقمه حوت أو تمساح فلا قود عليه لأن الذي فعله لا يقتل غالبًا وعليه ضمانه لأنه هلك بفعله.

‌مذهب الزيدية:

جاء في

(3)

التاج المذهب: قال في البحر أنه لو أمكن المجنى عليه دفع السبب الذي ليس بمهلك في العادة فلم يفعل حتى هلك سقط القصاص والدية كمن ألقى في ماء قليل مستلقيًا فيه حتى مات وكان يمكنه القيام وكمن فتح عليه عرق الفصد فلم يبده حتى هلك ونزف دمه وكان يمكنه دفعه فلا يضمن الفاعل إذ السبب بنفسه غير مهلك فكأنه أهلك نفسه أما لو كان السبب مهلك كمن جرح جرحًا يمكن مداواته فلم يداوه حتى هلك وكمن ألقى في ماء كثير وهو يمكنه السباحة ولم يسبح حتى هلك فلا يسقط القصاص. وجاء في موضع

(4)

آخر من التاج المذهب: أن ما كان من القتل أو الجناية سببه منه أي من المجنى عليه فهدر لا شئ فيه لأنه في

(1)

المغنى للشيخ العلامة موفق الدين أبى محمد عبد الله بن أحمد بن محمود بن قدامة المقدسى جـ 9 ص 509، ص 510 في كتاب على مختصر الإمام أبي القاسم عصر بن الحسن بن عبد الله بن أحمد الخرشى ويليه الشرح الكبير على متن المقنع للشيخ شمس الدين أبى الفرج عبد الرحمن بن أبى عمر بن أحمد بن قدامة المقدسى طبع مطبعة المنار بمصر سننة 1348 هـ الطبعة الأولى.

(2)

المرجع السابق جـ 9 ص 226 نفس الطبعة السابقة.

(3)

التاج المذهب لأحكام المذهب شرح متن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار للقاضى العلامة أحمد بن قاسم العنسى اليمانى الصنعانى جـ 4 ص 289، ص 290 طبع مطبة دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابى الحلبى وشركاه بمصر الطبعة الأولى سنة 1266 هـ، سنة 1947 م.

(4)

المرجع السابق جـ 4 ص 292 نفس الطبعة المتقدمة.

ص: 314

حكم الجانى على نفسه مباشرة ومن ذلك أن يعض يد غيره فانتزع المعضوض يده فسقطت أسنان العاض أو سقط العاض فاندقت عنقه مات فلا شئ على المعضوض إذا لم يمكنه خلاص يده إلا بذلك قال في البيان فإن سقط المعضوض من العاض ضمن العاض ما وقع فيه من جناية كما في متجاذبى الحبل، ومن عدا على غيره ظلمًا ليقتله أو ليضربه فدخل المتبوع في ماء فغرق أو نار فحرق أو سقط في بئر أو من شاهق أو في كوة فلا ضمان على التابع إلا أن يكون الهارب أعمى أو لا يشعر بذلك حتى وقع فيه ضمن الدية، وجاء في

(1)

البحر الزخار: أنه لا تعقل العاقلة من قتل نفسه عمدًا إن العمد في مال الجانى ولا يثبت له دين على نفسه وكذلك الخطأ بل على العاقلة قلنا: لم يوجب دية عوف بن مالك حين أصاب نفسه قالوا: قضى بدية من أصاب عين نفسه خطأ على عاقلته قلنا: غير مشهور سلمنا، فاجتهاد له، قلنا لم يوجب صلى الله عليه وسلم دية عوف بن مالك حين أصاب نفسه، قال في الشفاء وروى أن عوف بن مالك الأشجعى ضرب مشركًا بالسيف فرجع السيف عليه فقتله فامتنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وقالوا: قد أبطل جهاده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل مات مجاهدًا، وقال في رواية أخرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو شهيد قتل نفسه خطأ ولم يوجب الدية على عاقلته قلت في هذا الخبر سهو ظاهر وعوف بن مالك المذكور لم يقتل نفسه ولا قتل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بل بقى بعده إلى أن مات بالشام سنة ثلاث وسبعين من الهجرة وهو من مشاهير الصحابة وكان إسلامه عام خيبر جميع ذلك مشهور عند أهل الشأن المذكور في كتبه المعتبرة وإنما صاحب هذه القصة عامر الأسلمى عم سلمة بن الأكوع ولفظه فيما أخرجه مسلم عن سلمة بن الأكوع أن عمه عامرًا بارز مرحبا اليهودى يوم خيبر فاختلفا مرتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسفل له فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله وكانت فيها نفسه قال سلمة: وخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكى فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر؟ قال رسول الله: من قال ذلك؟ قلت ناس من أصحابك قال: كذب من قال ذلك. بل له أجره مرتين هذا طرف من الحديث المذكور. وفى حديث أخرجه أبو داود عن أبى سلام عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أغرنا على حى من جهينة، فطلب رجل من المسلمين رجلًا منهم فضربه فأخطأه وأصاب نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاكم يا معشر المسلمين فابتدره الناس فوجدوه قد مات فلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه ودمه وصلى عليه ودفنه فقالوا: يا رسول الله أشهيد هو؟ قال: نعم، وأنا له شهيد، وليس في أي الحديثين ذكر امتناع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه، وكذلك لم يذكر في أيهما إيجاب الدية على العاقلة وذلك المقصود.

(1)

البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار للإمام المهدى لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى جـ 5 ص 253، ص 254 في كتاب معه جواهر الأخبار والآثار المستخرجة من لجة البحر الزخار للعلامة المحقق محمد بن يحيى مهران الصعدى وبه تعليقات مختلفة للقاضى عبد الله بن عبد الكريم الحرافى طبع مطبعة الخانجى بمصر.

ص: 315

‌مذهب الإمامية:

جاء في

(1)

شرائع الإسلام: أن من صاح ببالغ فمات فلا دية أما لو كان مريضًا أو مجنونًا أو طفلًا أو المعتل البالغ الكامل وفاجأه بالصيحة لزم الضمان؛ ولو قيل بالتسوية بالضمان كان حسنًا لأنه سبب الإتلاف ظاهرًا وقال الشيخ الدية على العاقلة وفيه إشكال من حيث قصد الصائح إلى الإخافة فهو عمد الخطأ وكذا البحث لو شهر سيفه في وجه إنسان أما لو فر فألقى نفسه في بئر وعلى سقف قال الشيخ لا ضمان لأنه ألجأه إلى الهرب لا إلى الوقوع فهو المباشر لإهلاك نفسه فيسقط حكم التسبب وكذا لو صادفه في هربه سبع فأكله، ولو كان المطلوب أعمى ضمن الطالب ديته لأنه سبب ملجئ وكذا لو كان مبصرًا ووقع في بئر لا يعلمها أو انخسف يه السقف أو اضطره إلى مضيق فافترسه الأسد لأنه يفترس في المضيق غالبًا.

‌مذهب الحنفية:

جاء في البحر

(2)

الرائق: أن قاتل نفسه يصلى عليه عند أبى حنيفة ومحمد وهو الأصح لأنه فاسق غير ساع في الأرض بالفساد وكذا في النهاية وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى: لا يصلى عليه لأنه باغ على نفسه كذا في غاية البيان وهو الأصح وقد نسب هذا القول إلى القاضي على السندى فقد اختلف التصحيح كما ترى لكن تأيد قول أبى يوسف بما في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصلى عليه وفى فتاوى قاضيخان رجلان أحدهما قتل نفسه والآخر قتل غيره كان قاتل نفسه أعظم وزرا وإثما وتقيد قتل النفس بكونه قتل نفسه عمدًا لأنه لو قتل نفسه خطأ فإنه يغسل ويصلى عليه اتفاقًا.

‌مذهب المالكية:

جاء في

(3)

المدونة الكبرى: أن الإمام مالكا رضي الله عنه قال يصلى على من قتل نفسه وإثمه على نفسه ويصنع به ما يصنع به ما يصنع بموتى المسلمين وقد سئل الإمام مالك عن امرأة خنقت نفسها قال: صلوا عليها وإثمها على نفسها ومثل قول مالك قول عطاء بن أبى رباح. قال سحنون وعن علي بن زياد عن سفيان عن عبد الله بن عون عن إبراهيم النخعى قال: السنة أن يصلى على قاتل نفسه وقد ذكر ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد أنهم اختلفوا في الصلاة على من قتل نفسه وذلك لما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبى أن يصلى على رجل قتل نفسه، قال ابن رشد فمن صحح هذا الأثر قال لا يصلى على قاتل نفسه ومن لم يصححه رأى أن حكمه حكم المسلمين وإن كان من أهل

(1)

شرائع الإسلام في الفقه الإسلامي الجعفرى الإمامى للمحقق الحلى جـ 2 ص 291 طبع مطبعة منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت إشراف العلامة الشيخ محمد جواد مغنية سنة 1295 هـ.

(2)

البحر الرائق شرح كنز الدقائق للإمام العلامة الشيخ زين الدين الشهير بابن نجيم جـ 2 ص 215 في كتاب على هامشه الحواشى المسماه بمنحة الخالق على البحر الرائق للعلامة الفاضل السيد محمد أمين الشهير بابن عابدين طبع المطبعة العلمية بمصر الطبعة سنة 1318 هـ.

(3)

المدونة الكبرى لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحى برواية الإمام سحنون بن سعيد التنوخى عن الإمام عبد الرحمن قاسم جـ 1 ص 177 طبع مطبعة السعادة بمصر الطبعة الأولى سنة 1223 هـ.

ص: 316

النار كما ورد به الأثر لكن ليس هو من المخلدين لكونه من أهل الإيمان وقد قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه: "أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من الإيمان".

‌مذهب الشافعية:

جاء في

(1)

المجموع: أن من قتل نفسه أو غل في الغنيمة يغسل ويصلى عليه عندنا.

‌مذهب الحنابلة:

جاء في الشرح الكبير

(2)

على المغنى: أنه لا يصلى الإمام على الغال ولا من قتل نفسه، والغال هو الذي يكتم غنيمته أو بعضها ليأخذها لنفسه ويختص بها فهذا لا يصلى عليه الإمام ولا على من قتل نفسه عمدًا ويصلى عليهما سائر الناس نص على هذا أحمد وقال عمر بن عبد العزيز والأوزاعى لا يصلى على قاتل نفسه بحال لأن من لا يصلى عليه الإمام لا يصلى عليه غيره كشهيد المعركة وقال عطاء يصلى الإمام وغيره على جميع المسلمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"صلوا على من قال لا إله إلا الله". رواه الخلال بإسناده ولنا ما روى جابر بن سمرة - رضى الله عنه - أن النبى صلى الله عليه وسلم جاءوه برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصلى عليه رواه مسلم وروى أبو داود نحوه وعن زيد بن خالد الجهنى صلى الله عليه وسلم قال: توفى رجل من جهينة يوم خيبر فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه القوم فلما رأى ما بهم قال إن صاحبكم غل من الغنيمة" احتج به أحمد واختص الامتناع بالإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما امتنع من الصلاة على الغال قال صلوا على صاحبكم وروى أنه أمر بالصلاة على قاتل نفسه وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام فألحق به من سواه في ذلك ولا يلزم من ترك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ترك صلاة غيره فإنه كان في بدء الإسلام لا يصلى على من عليه دين ولا وفاء له ويأمرهم بالصلاة عليه فإن قيل هذا خاص بالنبى صلى الله عليه وسلم لأن صلاته سكن قلنا ما ثبت فى حق النبى صلى الله عليه وسلم يثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه به دليل قيل فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من عليه دين قلنا ثم صلى عليه بعد وروى أبو هريرة - رضى الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيقول هل ترك لدينه من وفاء فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه وإلا قال للمسلمين صلوا على صاحبكم فلما فتح الله الفتوح قام فقال أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفى من المؤمنين وترك دينًا على قضاؤه ومن ترك مالًا فلورثته قال الترمذى هذا حديث صحيح ولولا النسخ كان كمسألتنا وهذه الأحاديث خاصة فيجب تقديمها على قوله صلوا على من قال لا إله إلا الله.

‌مذهب الظاهرية:

جاء في المحلى

(3)

: أنه يصلى على كل مسلم

(1)

المجموع شرح المهذب العلامة الفقيه أبى زكريا محمد الدين بن شرف النووى جـ 5 ص 267 في كتاب بأسفله فتح العزيز للإمام أبى القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعى وكتاب التلخيص المنير في تخريج أحاديث الرافعى الكبير للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلانى طبع إدارة الطباعة المنيرية طبعة أولى سنة 1370 هـ.

(2)

المغنى للإمام موفق الدين أبى محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة على مختصر الإمام الخرشى جـ 2 من 355 وما بعدها في كتاب بأسفله الشرح الكبير على متن المقنع للإمام شمس الدين أبى الفرج عبد الرحمن بن أبى عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسى طبع مطبعة المنار بمصر سنة 1345 هـ.

(3)

المحلى للإمام أبى محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهرى جـ 5 ص 169 مسألة رقم 611 طبع إدارة الطباعة الميزية الطبعة الأولى سنة 1349 هـ تحقيق الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر.

ص: 317

بر أو فاجر مقتول فى حد أو فى حرابة أو فى بغى ويصلى عليهم الإمام وغيره وكذلك على المبتدع ما لم يبلغ الكفر وعلى من قتل نفسه وعلى من قتل غيره ولو أنه شر من على ظهر الأرض إذا مات مسلمًا لعموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "صلوا على صاحبكم" والمسلم صاحب لنا "قال الله تبارك وتعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}

(1)

وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}

(2)

فمن منع من الصلاة على مسلم فقد قال قولًا عظيمًا وإن الفاسق لأحوج إلى دعاء إخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم وقد روينا عن

(3)

ابن مسعود رضي الله عنه: أنه سئل عن رجل قتل نفسه: أيصلى عليه؟ فقال لو كان يعقل ما قتل نفسه وصح عن الشعبى أنه قال في رجل قتل نفسه ما مات فيكم مذ كذا وكذا أحوج إلى استغفاركم منه.

‌مذهب الزيدية:

جاء في البحر

(4)

الزخار: أن من قتل نفسه لم يغسل لفسقه لقول الله تبارك وتعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}

(5)

وللخبر الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدًا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ومن تحسى سمًا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا" أخرجه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وقيل يصلى عليه غير الإمام.

‌مذهب الإمامية:

جاء في كتاب

(6)

الحدائق الناضرة: ما رواه السكونى عن جعفر عن أبيه عن آبائهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلوا على المرجوم من أمتى وعلى القاتل نفسه من أمتى لا تدعوا أحدًا من أمتى بلا صلاة" قال صاحب كتاب الحدائق هذا الحديث تضمن الصلاة على قاتل نفسه مع ما ورد في جملة من الأخبار أنه من أهل النار ويمكن أن يقال أنه بقتل نفسه لا يخرج عن الإسلام بل غايته أن يكون من أهل الكبائر المستحقين للنار أيضًا وقد دل صحيح هشام بن سالم المروى على أن شارب الخمر والزانى والسارق يصلى عليهم إذا ماتوا وبالجملة من حيث عدم الخروج عن الإيمان تدركهم الشفاعة ويكونون بذلك من أهل الجنة كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنما شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى".

‌مذهب الإباضية:

جاء في

(7)

شرح النيل: أنه لا يصلى على قاتل ولو لنفسه عمدًا وإن تاب صلوا عليه والمرأة كالرجل في ذلك كله.

(1)

الآية رقم 10 من سورة الحجرات.

(2)

الآية رقم 71 من سورة التوبة.

(3)

المحلى لابن حزم الظاهرى جـ 5 ص 171 نفس الطبعة المتقدمة.

(4)

البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار للإمام المهدى بالله أحمد بن يحيى بن المرتضى جـ 2 ص 65: ص 96 في كتاب بأسفله كتاب جواهر الأخبار والآثار للسلامة المحقق محمد بن يحيى مهران الصعدى طبع مطبعة السعادة بمصر الطبعة الأولى سنة 1367 هـ.

(5)

الآية رقم 29 من سورة النساء.

(6)

كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة للإمام المحدث الشيخ يوسف البحرانى جـ 10 ص 366 وما بعدها في كتاب تحقيق وتعليق الشيخ محمد تقى الأبروانى طبع مطبعة النجف الأشرف الطبعة الأولى سنة 1381 هـ.

(7)

شرح النيل وشفاء العليل للشيخ محمد بن يوسف أطفيش جـ 1 ص 677 طبع على ذمة صاحب الامتياز محمد بن يوسف البارونى وشركاه بمصر.

ص: 318