الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصطلح انفصال
• الانفصال لغة: الانقطاع، يُقال: فصل الشيء فانفصل أي قطعه فانقطع، فهو مطاوع فصل وهو ضد الاتصال. والانفصال هو الانقطاع الظاهر. هذا، ولا يخرج استعمال الفقهاء للانفصال عن المعنى اللغوى له.
•
الانفصال في الغسل:
مذهب الحنفية:
جاء في (بدائع الصنائع): أن غُسالة النجاسة نوعان: غُسالة النجاسة الحقيقية؛ وغسالة النجاسة الحكمية؛ وهى الحدث.
أما غُسالة النجاسة الحقيقية وهى ما إذا غُسلت النجاسة الحقيقية ثلاث مرات فالمياه الثلاث نجسة؛ لأن النجاسة انتقلت إليها، إذ لا يخلو كل ماء عن نجاسة فأوجب تنجيسها، وحُكم المياه الثلاث في حق المنع من جواز التوضؤ بها والمنع من جواز الصلاة بالثوب الذي أصابته سواء لا يختلف، وأما في حق تطهير المحل الذي أصابته فيختلف حكمها، حتى قال مشايخنا: إن الماء الأول إذا أصاب ثوبًا لا يطهر إلا بالعصر والغسل مرتين بعد العصر. والماء الثاني: يطهر بالغسل مرة بعد العصر. والماء الثالث: يطهر بالعصر لا غير؛ لأن حكم كل ماء حين كان في الثوب الأول كان هكذا فكذا في الثوب الذي أصابه، واعتبروا ذلك بالدلو المنزوح من البئر النجسة إذا صُب في بئر طاهرة أن الثانية تطهر بما تطهر به الأولى، كذا هذا.
وهل يجوز الانتفاع بالغسالة فيما سوى الشرب والتطهير من بل الطين وسقى الدواب ونحو ذلك؟ إن كان قد تغير طعمها أو لونها أو ريحها لا يجوز الانتفاع؛ لأنه لما تفسير دل أن النجس غالب فالتحق بالبول وإن لم يتغير شيء من ذلك يجوز؛ لأنه لما لم يتغير دل أن النجس لم يغلب على الطاهر. والانتفاع بما ليس بنجس العين مباح في الجملة، وعلى هذا إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه أنه إن كان جامدًا تُلقى الفأرة وما حولها ويؤكل الباقى. وإن كان ذائبًا لا يؤكل ولكن يُستصبح به؛ ويُدبغ به الجلد، ويجوز بيعه.
وأما غُسالة النجاسة الحكمية وهى الماء المستعمل فقد ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يجوز التوضؤ به، ولم يذكر أنه طاهر أم نجس، وروى محمد عن أبى حنيفة أنه طاهر غير طهور. وأبو يوسف روى عنه أنه ينجس نجاسة خفيفة يقدر فيه بالكثير الفاحش، وبه أخذ، وقال زفر: إن كان المستعمِلُ متوضئًا فالماء المستعمل طاهر وطهور، وإن كان محدثًا فهو طاهر غير طهور
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (الشرح الكبير): أن الغُسالة المتغيرة بأحد أوصاف النجاسة نجسة لا إن تغيرت بوسخ أو صبغ مثلًا، فلو غُسلت قطرة بول مثلًا في جسد أو ثوب وسالت غير متغيرة في سائره ولم تتفصل عنه كان طاهرًا، ولو زال عين النجاسة عن المحل بغير المطلق من مُضاف وبقى بلله فلاقى جافًا، أو جف ولاقى مبلولًا لم يتنجس مُلاقى محلها على المذهب، إذ لم يبق إلا الحكم وهو لا ينتقل
(2)
. وفيه أن المضاف قد يتنجس بمجرد الملاقاة. فالباقى نجس فالأولى التعليل بالبناء على أن المضاف كالمطلق لا يتنجس إلا
(1)
بدائع الصنائع: 1/ 67.
(2)
يقصد بهذا النجاسة الحكمية وهى التي زال عينها وبقى حكمها.
بالتغير، فهو مشهور مبنى على ضعيف، فلو استنجى بمضاف أعاد الاستنجاء دون غسل ثوبه على الراجح
(1)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (مغنى المحتاج): أن الأظهر طهارة غسالة قليلة تنفصل بلا تغير وقد طهر المحل؛ لأن البلل الباقى على المحل هو بعض المنفصل، فلو كان المنفصل نجسًا لكان المحل كذلك فيكون المنفصل طاهرًا لا طهورًا؛ لأنه مستعمل في خبث، والثانى أنها نجسة؛ لانتقال المنع إليها، فلو انفصلت متغيرة أو غير متغيرة؛ ولم يطهر المحل فنجسةٌ قطعًا؛ وزيادة وزنها بعد اعتبار ما يأخذه المحل من الماء ويعطيه من الوسخ الطاهر كالمتغير، ويحكم بنجاسة المحل فيما إذا انفصلت متغيرة أو زائدة الوزن؛ لأن البلل الباقى على المحل هو بعض ما انفصل كما مر. أما الكبيرة فطاهرة ما لم تتغير، وإن لم يطهر المحل
(2)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (المغنى): أن المنفصل من غُسالة النجاسة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن ينفصل متغيرًا بها، فهو نجس إجماعًا؛ لأنه متغيِّر بالنجاسة. فكان نجسًا، كما لو وردت عليه. الثاني: أن ينفصل غير متغير قبل طهارة المحل، فهو نجس أيضًا؛ لأنه ماءٌ يسير لاقى نجاسة لم يُطهِّرها؛ فكان نجسًا؛ كالمتغير، وكالباقى في المحل، فإن الباقى في المحل نجس، وهو جزءٌ من الماء الذي غُسلت به النجاسة، ولأنه كان في المحل نجسًا، وعصره لا يجعله طاهرًا. الثالث: أن ينفصل غير متغير من الغسلة التي طهَّرت المحل. ففيه وجهان؛ أصحهما: أنه طاهر؛ لأنه جزءٌ من المتصل. والمتصل طاهر؛ فكذلك المنفصل. ولأنه ماء أزال حكم النجاسة، ولم يتغير بها، فكان طاهرًا، كالمنفصل من الأرض. والثانى: هو نجس؛ لأنه ماء يسير لاقى نجاسة. فينجس بها؛ كما لو وردت عليه. وإذا حكمنا بطهارته، فهل يكون طهورًا؟ على بوجهين: أحدهما: يكون طهورًا؛ لأن الأصل طهوريته، ولأن الحادث فيه لم ينجسه، ولم يغيره؛ فلم تزل طهوريته، كما لو غُسل به ثوبًا طاهرًا. والثانى: أنه غير مطهِّر: لأنه أزال مانعًا من الصلاة، أشبه ما رُفع به الحدث. وإذا جُمع الماء الذي أُزيلت به النجاسة قبل طهارة المحل وبعده في إناء واحد، وكان دون القلتين، فالجميع نجس، تغير أو لم يتغير
(3)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى) أن الوضوء بالماء المستعمل جائزء وكذلك الغُسل به للجنابة. وسواء وُجد ماء، آخر غيره أو لم يوجد، وهو الماء الذي توضأ به بعينه لفريضة أو نافلة أو اغتسل به بعينه لجنابة أو غيرها، وسواء كان المتوضئ به رجلًا أو امرأة
(4)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (البحر الزخار): أن المستعمل ما اغْتَسل به لقربة أو طهَّر به المحلَّ لا للتبرد فَقَراح بل مستعمل، وهو طاهر إذ لم يلق نجسًا، ولم يتحرز السلف عنه، وقيل: بل نجس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه"
(5)
. وهو غير مطهِّر: لتكميل السلف الطهارة بالتيمم عند قلة الماء لا بما تساقط من الماء
(6)
.
(1)
الشرح الكبير: 1/ 81.
(2)
مغنى المحتاج: 1/ 243.
(3)
المغنى: 1/ 1003، 1004.
(4)
المحلى: 1/ 183.
(5)
سنن النسائي. كتاب الطهارة، باب النهى عن البول في الماء الراكد والاغتسال منه.
(6)
البحر الزخار: 2/ 34.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أن الماء المستعمل في غَسل الأخباث نجسٌ، سواء تغير بالنجاسة أو لم يتغير، عدا ماء الاستنجاء فإنه طاهر ما لم يتغير بالنجاسة أو تلاقيه نجاسة من الخارج، والمستعمل في الوضوء طاهر مطهِّر: وما استُعمل في رفع الحدث الأكبر طاهر، وهل يُرفع به الحدث ثانيًا؟ فيه تردد، والأحوط المنع
(1)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): وجاز في المستعمل المنفصل عن عضو من أعضاء البدن كلها، بأن كان في العضو الآخر في غُسل للجنابة أو الحيض أو غيرهما أن ينقله من عضوٍ لآخر، ويجوز أن يُريد بالغُسل غُسل النجس أو غسله وغُسل نحو الجنابة والحيض، والوجه الأول أولى، وإيضاحه أنه أراد الانفصال عن العضو في الوضوء كونه في عضو آخر، أو كونه قاطرًا منه، فلا يُرفع الحدث بالقاطر من العضو ولا بما في عضو آخر، لكن فيه استعمال الكلمة في حقيقتها ومجازها، فإن تسمية كون الماء في عضو آخر انفصالًا مجازٌ، وتسمية قطره انفصالًا حقيقةٌ، فيكون الضمير في قوله:(جاز) عائد إلى المنفصل بقيد كونه ما كان في عضو آخر، وأما في الواحد فأولى. فيكون من الاستخدام، ولك أن تريد في الموضعين المجاز فقط، وهو كون الماء في عضو آخر فيُفهم منع القاطر في الوضوء بالأولى، ويُفهم كون المتصل في عضو في الغُسل جائزًا بالأولى
(2)
.
انفصال السقط
(3)
:
مذهب الحنفية:
جاء في (بدائع الصنائع): إذا استهل المولود سُمى وغُسِّل وصُلى عليه وورث وَوُرِّث عنه، وإذا لم يستهل لم يُسمَّ ولم يُغسل ولم يرث، وعن محمد أيضًا أنه لا يُغسل ولا يسمى ولا يصلى عليه، وهكذا ذكر الكرخى، وروى عن أبى يوسف أنه يُغسل ويسمى ولا يصلى عليه، وهكذا ذكر الطحاوى. وقال محمد في السقط الذي استبان خلقه أنه يغسل ويكفى ويحنط ولا يُصلى على ما ولد ميتًا، والخلاف في الغسل
(4)
.
مذهب المالكية:
جاء في (الشرح الكبير): لا يُغسَّل سقط لم يستهل صارخًا ولو تحرك؛ إذ الحركة لا تدل على الحياة؛ إذ قد يتحرك المقتول، أو عطس أو بال أو رضع، إذ واحد منها لا يدل على استقرار الحياة، أي يُكره، إلا أن تتحقق الحياة بعلامة من علاماتها من صياح أو طول مدة فيجب غسله وغسل دمه، ولُف بخرقة، وورى وجوبًا فيهما، وفى غسل الدم نظر
(5)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (مغنى المحتاج): أن السقط إن استهل أو بكى ككبيرٍ، وإلا فإن ظهرت أمارةُ الحياة كاختلاجٍ صُلى عليه في الأظهر، وإن لم تظهر ولم يبلغ أربعة أشهر لم يُصل عليه، وكذا إن بلغها في الأظهر
(6)
.
(1)
شرائع الإسلام: 1/ 9.
(2)
شرح النيل: 1/ 146.
(3)
السقط: الولد تضعه المرأة ميتًا، أو لغير تمام.
(4)
بدائع الصنائع: 1/ 303.
(5)
الشرح الكبير: 1/ 428.
(6)
مغنى المحتاج: 2/ 34.
مذهب الحنابلة:
جاء في (المغنى): أن السقط إذا وُلد لأكثرَ من أربعة أشهر، غُسِّل، وصَلّى عليه، وإن خرج حيا واستهل، فإنه يُغسَّل ويُصلَّى عليه، بغير خلاف
(1)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): وتُستحب الصلاة على المولود يُولد حيًّا ثم يموت - استهل أو لم يستهل - وليس الصلاة عليه فرضًا ما لم يبلغ
(2)
.
مذهب الزيدية:
جاء فى (البحر الزخار): إذا وُجد بعض الميت فإن كان فيه الصدر أو الصدر وحده غُسل وكُفن وصُلى عليه ودُفن، وإن لم يكن وكان فيه عظم غُسل ولُف في خرقة ودُفن، وكذا سقط إذا كان له أربعة أشهر فصاعدًا. وإن لم يكن فيه عظم اقتصر على لفه في خرقة ودفنه، وكذا السقط إذا لم تَلجْه الروح. وإذا لم يحضر الميت مسلم ولا كافر ولا مَحْرِم من النساء دُفن بغير غُسل ولا تقربه الكافرة. وكذا المرأة، وروى: أنهم يَغسلون وجهها ويديها
(3)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): يُستحب الصلاة على من لم يبلغ ست سنين إذا وُلد حيا، فإن وقع سقطًا لم يُصَلَّ عليه ولو ولجته الروح. والحمل مانع من الإرث إلا أن ينفصل حيًا، فلو سقط ميتًا لم يرث
(4)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): يُصلى على مولود عُرفت حياته إجماعًا، وإلا فقولان، ويُقصد بها من يُصلَّى عليه إذا اختلط بمن لا يُصلى عليه، وتلزم حقوقه ما غَطى جلده عظامه ولم تفترق أجزاؤه، فإن انسلخ أو افترقت سقط غسله وكفنه الصلاة عليه ولزم دفنه
(5)
.
انفصال أجزاء من الميت:
مذهب الحنفية:
جاء في (بدائع الصنائع): إذا وُجد طرف من أطراف الإنسان كيد أو رجل أنه لا يغسل؛ لأن الشرع ورد بغسل الميت والميت اسم لكله، ولو وُجد الأكثر منه غُسِّل؛ لأن للأكثر حكم الكل. وإن وُجد الأقل منه أو النصف لم يُغسل كذا ذكر القدورى في شرحه مختصر الكرخى؛ لأن هذا القدر ليس بميت حقيقة وحُكمًا، ولأن الغسل للصلاة وما لم يزد على النصف لا يُصلى عليه فلا يُغسل أيضًا، وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوى: أنه إذا وجد النصف ومعه الرأس يُغسل وإن لم يكن معه الرأس لا يُغسل فكأنه جعله مع الرأس في حكم الأكثر؛ لكونه معظم البدن، ولو جد نصفه مشقوقًا لا يُغسل لما قلنا، ولأنه لو غسل الأقل أو النصف يُصلى عليه؛ لأن الغسل لأجل الصلاة، ولو صلى عليه لا يؤمن أن يوجد الباقى فيصلى عليه فيؤدى إلى تكرار الصلاة على ميت واحد، وذلك مكروه عندنا، أو يكون صاحب الطرف حيًا فَيُصلى على بعضه وهو حى وذلك فاسد، وهذا كله مذهبنا
(6)
.
(1)
المغنى: 2/ 1618.
(2)
المحلى: 3/ 599.
(3)
البحر الزخار: 3/ 124.
(4)
شرائع الإسلام: 3/ 121.
(5)
شرح النيل: 2/ 622.
(6)
بدائع الصنائع: 1/ 498.
مذهب المالكية:
جاء في (الشرح الكبير): ولا يُغسل دون الجل - يعنى دون ثلثى الجسد - والمراد بالجسد ما عدا الرأس، فإذا وُجد نصف الجسد أو أكثر منه ودون الثلثين مع الرأس لم يُغسل على المعتمد، أي يُكره؛ لأن شرط الغُسل وجود الميت، فإن وُجد بعضه فالحكم للغالب، ولا حكم لليسير وهو ما دونها
(1)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (مغنى المحتاج): ولو وُجد عضوُ مُسلمٍ عُلم موته بغير شهادة، ولو كان الجزء ظفرًا أو شعرًا صُلى عليه بقصد الجملة بعد غسله وجوبًا كالميت الحاضر؛ لأنها في الحقيقة صلاة على غائب
(2)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (المغنى): إن لم يوجد إلا بعض الميت، فالمذهب أنه يُغسل، ويُصلى عليه. ونقل ابن منصور عن أحمد أنه لا يُصلى على الجوارح، قال الخلال: ولعله قول قديم لأبى عبد الله. والذي استقر عليه قول أبى عبد الله أنه يُصلى على الأعضاء
(3)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): ويُصلى على ما وجد من الميت المسلم، ولو أنه ظُفر أو شعر فما فوق ذلك، ويغسل ويكفن إلا أن يكون من شهيد فلا يُغسل. لكن يُلف ويُدفن، ويُصلى على الميت المسلم وإن كان غائبًا لا يوجد منه شئ، فإن وُجد من الميت عضو آخر بعد ذلك أيضًا غسل أيضًا وكفن ودفن ولا بأس بالصلاة عليه ثانية وهكذا أبدًا
(4)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (البحر الزخار): ويُغسل الأكثر أو النصف الذي كمله الرأس لا الأقل. قياسًا على عضو قُطع من الحى، وقيل: يُغسل الأقل؛ إذ لم يُفَصِّل الدليل، ولصلاتهم على يد طلحة أو عتَّاب ونحوه، ولأنه بعضٌ كالأكثر
(5)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): إذا وُجد بعض الميت: فإن كان فيه الصدر، أو الصدر وحده غُسل وكُفن وصلُى عليه ودُفن، وإن لم يكن وكان فيه عظم، غُسل ولُف في خرِقة ودُفن
(6)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): إن وُجدت جثة رجل دون رأسه فهل تلزم بها حقوقه نظرًا للكثرة أو يلزم لفه ومواراته فقط؟ قولان؛ ولزم الكل إن وُجد الرأس وحده قولًا واحدًا، وقيل: خلاف كالأمر الأول، وبالجملة فمن لا تلزم حقوقه كسقط ومشرك ونحوهما ممن تقدم، وكعظم وجلد وشعر ولحم لزم لفه ودفنه، والأصح عدم وجوب لف عظم ولحم وجلد وشعر، ولا يُجعل لمن ذُكر مقبرة
(7)
.
الانفصال في الزواج:
وهو وقوع الفرقة بين الزوجين، ويُنظر في: انفساخ وخلع وطلاق وتفريق ولعان.
(1)
الشرج الكبير: 1/ 427.
(2)
مغنى المحتاج: 2/ 33.
(3)
المغنى: 2/ 1642.
(4)
المحلى: 3/ 362.
(5)
البحر الزخار: 3/ 92.
(6)
شرائع الإسلام: (1/ 30، 31).
(7)
شرح النيل: (2/ 668).
الانفصال في البيوع:
مذهب الحنفية:
جاء في (بدائع الصنائع): جملة الكلام في الزيادة أنها لا تخلو إما أن حدثت قبل القبض، وإما أن حدثت بعده، وكل واحدة من الزيادتين لا تخلو من أن تكون متصلة أو منفصلة، والمتصلة لا تخلو من أن تكون متولدة من الأصل كالحسن والجمال ونحو ذلك، أو غير متولدة منه كالصبغ في الثوب ونحوها، وكذلك المنفصلة لا تخلو من أن تكون متولدة من الأصل كالولد، أو غير متولدة من الأصل كالكسب والصدقة، والبيع لا يخلو إما أن يكون صحيحًا أو فاسدًا، أما الزيادة في البيع الصحيح: فإن حدثت الزيادة قبل القبض فإن كانت متصلة متولدة من الأصل فإنها لا تمنع الرد بالعيب؛ لأن هذه الزيادة تابعة للأصل حقيقة؛ لقيامها بالأصل، فكانت مبيعة تبعًا، وإن كانت متصلة غير متولدة من الأصل فإنها تمنع الرد بالعيب، وإن كانت - الزيادة - منفصلة متولدة من الأصل لا تمنع الرد، فإن شاء المشترى ردهما جميعًا، وإن شاء رضى بهما بجميع الثمن، بخلاف ما بعد القبض عندنا أنها تمنع الرد بالغيب. ولو قبض الأصل والزيادة جميعًا ثم وجد بالأصل عيبًا له أن يرده خاصة بحصته من الثمن بعد ما قسم الثمن على قدر الأصل وقت البيع، وعلى قيمة الزيادة وقت القبض؛ لأن الزيادة إنما تأخذ قسطًا من الثمن بالقبض، كذلك يُعتبر قبضها وقت القبض، ولو لم يجد بالأصل عيبًا ولكنه وجد بالزيادة عيبًا فله أن يردها خاصة بحصتها من الثمن؛ لأنه صار لها حصة من الثمن بالقبض فيردها بحصتها من الثمن؛ فإن كانت الزيادة منفصلة من الأصل فإنها لا تمنع الرد بالعيب؛ لأن هذه الزيادة ليست بمبيعة؛ لانعدام ثبوت حكم البيع فيها، وإنما هي مملوكة بسبب على حِدَةٍ أو بملك الأصل فبالرد ينفسخ العقد في الأصل وتبقى الزيادة مملوكة بوجود سبب الملك فيه مقصودًا أو بملك الأصل لا بالبيع فكانت ربحًا لا ربًا: لاختصاص الربا بالبيع؛ لأنه فَضْلُ مالٍ قُصد استحقاقه بالبيع في عُرف الشرع، ولم يوجد ثم إذا رد الأصل، فالزيادة تكون للمشترى بغير ثمن عند أبى حنيفة لكنها لا تطيب له: لأنها حدثت على ملكه إلا أنها ربح ما لم يضمن فلا تطيب
…
وأصل المسألة في النكاح إذا ازداد المهر زيادة متصلة من الأصل بعد القبض ثم ورد الطلاق قبل الدخول أنها هل تمنع التصنيف؟ عندهما تمنع، وعليها نصف القيمة، وعنده لا تمنع، وإما أن يرده مع الزيادة، والرد وحده لا يمكن، والزيادة ليست بتابعة في العقد، فلا يمكن أن يجعلها تابعة في الفسخ إلا إذا تراضيا على الرد؛ لأنه صار بمنزلة بيع جديد، وإن كانت الزيادة منفصلة متولدة من الأصل فإنها تمنع الرد بالعيب، ويرد الأصل بدون الزيادة، وكذلك هذه الزيادة تمنع الفسخ من الإقالة، وإن كانت منفصلة غير متولدة من الأصل لا يمتنع الرد بالعيب ويرد الأصل على البائع والزيادة للمشترى طيبةٌ له؛ لما مر من أن هذه الزيادة ليست بمبيعة أصلًا؛ لانعدام ثبوت حكم البيع فيها، بل مُلكت بسبب على حدة فأمكن إثبات حكم الفسخ فيه بدون الزيادة، فيرد الأصل وينفسخ العقد فيه وتبقى الزيادة مملوكة للمشترى بوجود سبب الملك فيها شرعًا، فتطيب له.
هذا إذا كانت الزيادة قائمة في يد المشترى، فأما إذا كانت هالكة فهلاكها لا يخلو من أن يكون بآفة سماوية أو بفعل المشترى أو بفعل أجنبى: فإن كان بآفة سماوية له أن يرد الأصل بالعيب وتُجعل الزيادة كأنها لم تكن، وإن كان بفعل المشترى فالبائع بالخيار إن شاء قبل وردَّ جميع الثمن وإن شاء لم يَقبل ويرد نقصان العيب، سواء كان حدوث ذلك أوجب نقصانًا في الأصل أو لم يوجب نقصانًا فيه؛ لأن إتلاف الزيادة بمنزلة إتلاف جزء متصل بالأصل؛ لكونها متولدةً من الأصل، وذا يوجب الخيار للبائع، وإن كان بفعل أجنبى ليس له أن يرد؛ لأنه يجب ضمان الزيادة على الأجنبى، فيقوم الضمان مقام العين قائمة فيمتنع الرد ويرجع بنقصان العيب
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (الشرح الكبير): وَرُدَّتْ زيادة زادها أحدهما على الأصل حيث وقعت بعده أي بعد عقد الصرف بأن لقى صاحبه فقال له: استرخصتَ منى الدينار فزدنى لعيبه أي لوجود عيب في أصل الصرف؛ لأنه للصرف زاده فَتُردِ لرده كالهبة بعد البيع للبيع، فتُرد إن رُدت السلعة بعيب، لا ترد الزيادة لعيبها أي لوجود عيب بها فقط، وهل عدم ردها لعيبها مطلقًا عَينَّها أم لا أوجبها أم لا كما هو ظاهر (المدونة) وهو المذهب؛ فما في (الموازية) من أن له الرد وأخْذ بدل المزيد الزائف مخالف لها أو محل عدم ردها لعيبها إلا أنْ يوجبها الصيرفى على نفسه فتُرد وحدها ومعنى إيجابها أن يعطيها له بعد قوله: نقصتنى عن صرف الناس فزدنى ونحوه، وإن لم يقل له نعم أزيدك أو أن يقول له - بعد قوله عن صرف الناس -: أنا أزيدك، وأولى إن اجتمع طلب الزيادة مع قوله: أزيدك. فإن عَدِمَا لم يكن إيجابًا أو محل عَدَم ردها لعيبها إن عُينت كهذا الدرهم، وإن لم تُعَيَّنْ كأزيدك درهمًا، جاز ردها وأخذ البدل عليها، فما في (الموازية) وفاقٌ لها تأويلات، وفُهم من قوله:(بعده) أنها لو كانت في العقد تُرد لعيبه وعيبها
(2)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (مغنى المحتاج): أن الزيادة المتصلة بالمبيع أو الثمن كَالسِّمَنِ وكبر الشجرة وتعلم الصنعة والقرآن تتبع الأصل في الرد لعدم إمكان إفرادها؛ ولأن الملِك قد تجدد بالفسخ فكانت الزيادة المتصلة فيه تابعة للأصل كالعقد. والمنفصلة عينًا ومنفعةً كالولد والأجرة وكسب الرقيق والركاز الذي يجده وما وهب له فقبله وقبضه وما وُصِّى له به فقبله ومهر الجارية إذا وُطِئَت بشبهة لا تمنع الرد بالعيب عملًا بمقتضى العيب.
والزيادة المنفصلة من البيع للمشترى ومن الثمن للبائع إن رد المبيع في الأولى والثمن في الثانية بعد القبض سواء أَحَدَثَ بعد القبض أم قبله
(3)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (المغنى): الزيادة المنفصلة كالولد والثمرة والكسب لا تمنع الرجوع بغير خلاف بين أصحابنا وسواء نقص بها المبيع أو لم ينقص، إذا كان نقص صفة والزيادة للمفلس. هذا ظاهر كلام الخرقيِّ؛ لأنه منع الرجوع بالزيادة المتصلة لكونها للمفلس فالمنفصلة أولى.
(1)
بدائع الصنائع: 5/ 286 - 287.
(2)
الشرح الكبير: 3/ 36، 37.
(3)
مغنى المحتاج: 2/ 447.
وقال أبو بكر: الزيادة للبائع. ونقل حنبل عن أحمد في ولد الجارية ونتاج الدابة: هو للبائع؛ لأنها زيادة. فكانت للبائع كالمتصلة. ولنا: أنها زيادة انفصلت في ملك المشترى فكانت له. كما رده بعيب، ولأنه فسخ استحق به استرجاع العين، فلم يستحق أخذ الزيادة المنفصلة، كفسخ البيع بالعيب أو الخيار أو الإقالة. وفسخ النكاح بسبب من أسباب الفسخ.
وأما الزيادة المتصلة؛ فقد دللّنا على أنها للمفلس أيضًا، وفى ذلك تنبيه على كون المنفصلة له.
ثم لو سلمنا ثمَّ، فالفرق ظاهر، فإن المتصلة تتبع في الفسوخ والرد بالعيب، بخلاف المنفصلة، ولا ينبغى أن يقع في هذا اختلاف لظهوره. وكلام أحمد في رواية حنبل يُحمل على أنه باعهما في حال حملهما، فيكونان مبيعين، ولهذا خص هذين بالذكر دون بقية النماء
(1)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): وبيع القصيل
(2)
قبل أن يُسَنبِلَ جائز، وللبائع أن يتطوع للمشترى بتركه ما شاء إلى أن يرعاه أو إلى أن يحصده أو إلى أن بيبس بغير شرط؛ فإن غفل عنه حتى زاد فيه أولادًا من أصله لم تكن ظاهرة إذ اشتراه فاختصما فيهما فأيهما أقام البينة بمقدار المبيع قضى بها ولم يكن للمشترى إلا القدر الذي اشترى وكانت الزيادة من الأولاد للبائع، فإن لم تكن له بينة: حلفا، وقسمت الزيادة التي يتداعيانها بينهما
(3)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (البحر الزخار): أن الزيادة والنقص في المبيع والثمن يلحقان العقد ولو بعد التفريق فيفسُدُ بالفاسدة، وفى قول: لا، وهو المذهب؛ إذ الأصل فيه {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} الآية. وإنما يخاطب بالصحيح لا بالفاسد
(4)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): لو دفع إليه شاة فزادت زيادة متصلة كَالسِّمَنِ لم يكن له استفادة العين مع ارتفاع الفقر، وللفقير بذل القيمة، وكذا لو كانت الزيادة منفصلة كالولد، لكن لو دفع الشاة، لم يجب عليه دفع الولد
(5)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): وجاز شراء قصل لقصل فإن تركه مشتريه حتى مضت ثلاثة أيام فهل ينفسخ بها أو بسبعة أو حتى يطيب أو لا ينفسخ. وعليه فإن طاب فليس لمشتريه ما زاد على قدر الشراء، واشتركا فيه، وفى قدر الزائد والحب للبائع في الأظهر أقوال. والغلات وإن من حيوان كصوفٍ وشعرٍ كذلك
(6)
.
(1)
المغنى: 4/ 3425.
(2)
القصيل: شراء شبر أو زرع بنية أخذ ثمرته أو قطع ثمرته المعجم الوسيط: 2/ 740.
(3)
المحلى: 7/ 309.
(4)
البحر الزخار: 4/ 380.
(5)
شرائع الإسلام: 1/ 157.
(6)
شرح النيل: 8/ 121.
مصطلح انفلات
الانفلات لغة: مصدر الفعل انفلت المزيد بالهمزة والنون فأصل مادته فلت؛ وأفلت الشئ وتفلت وانفلت بمعنى واحد، والتَّفْلت والإفلات والانفلات التخلصُ من الشئ فجأة من غير تمكث. والإفلات يكون بمعنى الانفلات لازمًا وقد يكون متعديًا، يقال: أفلتُّه من الهلكة أي خلَّصته، وقد أفلت فلان من فلان وانفلت ومر بنا بعير منفلت، ولا يقال: مفلت.
(1)
الانفلات عند الفقهاء: لا يكاد الفقهاء يخرجون عن المعنى اللغوى عند كلامهم عن الانفلات وما يترتب عليه من أحكام، وهو التخلص من الشئ فجأة كانفلات الدابة؛ لأنها تتخلص من صاحبها أو من عقالها فجأة، وكانفلات الصيد بتخلصه من صاحبه أو من الشبكة، والفقهاء يعبرون تارة بلفظ انفلات كما جاء عند ابن عابدين: إذا انفلتت دابة فأصابت مالا أو آدميا نهارا أو ليلا فلا ضمان في الكل
(2)
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "العجماء جرحها جبار"
(3)
أي: العجماء المنفلتة جرحها هدر، وتارة يعبر الفقهاء بألفاظ أخرى وهم يقصدون بها الانفلات كما جاء في (المبسوط): من ركب دابة ثم سقط عنها، ثم ذهبت الدابة على وجهها، فقتلت إنسانًا لم يكن عليه شئ؛ لأنها متفلتة، والمنفلتة جرحها جبار.
(4)
الطهارة من انفلات الريح وما أشبهه مما يوجب الطهارة
مذهب الحنفية:
جاء في (البحر الرائق)؛ أن من به استطلاقُ بطن أو انفلاتُ ريح يتوضأ لوقت كل فرض لا لكل صلاة، وإذا خرج الوقت بطل وضوؤه واستأنف الوضوء لصلاة أخرى، وهذا عند العلماء الثلاثة. وقال زفر: استأنفوا إذا دخل الوقت. فإن توضئوا حين تطلع الشمس أجزأهم عن فرض الوقت حتى يذهب وقتُ الظهر. وهذا عند أبى حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف وزفر: أجزاهم حتى يدخل وقت الظهر. وحاصله أن طهارة المعذور تنتقض بخروج الوقت أي عند خروج الوقت بالحدث السابق عند أبى حنيفة ومحمد، وتنتقض بدخوله فقط عند زفر، وبأيهما كان عند أبى يوسف وفى انتقاض الوضوء بنوم من به انفلات ريح. قالوا: إن من نواقض الوضوء الحكمية النومُ الذي يزيل القوة الماسكة بحيث تزول مقعدته من الأرض، وهو النوم على أحد جنبيه أو قفاه أو وجهه
(5)
.
وفى حكم المسح على الخفين لمن به انفلات دم أو غيره جاء في (بدائع الصنائع): أن المسح على الخفين جاز للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وهذا في حق الأصحاء، أما في حق أصحاب الأعذار كصاحب الجرح السائل والاستحاضة ومن بمثل حالهما فكذلك الجواب عند زفر، وأما عند أصحابنا الثلاثة فيختلف الجواب إلا في واحدة. وبيان ذلك أن صاحب العذر إذا توضأ ولبس خفيه فهذا على أربعة
(1)
انظر: لسان العرب: 7/ 66، وما بعدهاء مادة (فلت).
(2)
رد المحتار على الدر المختار: 5/ 402 وما بعدها.
(3)
صحيح البخارى. كتاب الديات، باب المعدن جبار والبئر جبار. وصحيح مسلم؛ كتاب الحدود؛ باب جرح العجماء. والمعدن والبئر جبار.
(4)
المبسوط: 7/ 414.
(5)
البحر الرائق: 1/ 221، وانظر: فتح القدير على الهداية: 1/ 125 وما بعدها.
أوجه: إما أن يكون الدم منقطعًا وقت الوضوء واللبس. وإما أن يكون سائلًا في الحالين جميعًا وإما أن يكون منقطعًا وقت الوضوء سائلًا وقت اللبس، وإما أن يكون سائلًا وقت الوضوء منقطعًا وقت اللبس، فإن كان منقطعًا في الحالين فحكمه حكم الأصحاء؛ لأن السيلان وجد عقب اللبس فكان اللبس على طهارة كاملة فمنع الخف سراية الحدث إلى القدمين ما دامت المدة باقية، وأما في الوجوه الثلاثة فإنه يمسح ما دام الوقت باقيًا، فإذا خرج الوقت نزع خفيه وغسل رجليه عند أصحابنا الثلاثة، وعند زفر يستكمل مدة المسح كالصحيح، ووجه قوله: أن طهارة صاحب العذر طهارة معتبرة شرعًا؛ لأن السيلان ملحق بالعدم ألا ترى أنه يجوز أداء الصلاة بها فحصل اللبس على طهارة كاملة فألحقت بطهارة الأصحاء، ووجه قول الثلاثة: أن السيلان ملحق بالعدم في الوقت بدليل أن طهارته تنتقض بالإجماع إذا خرج الوقت وإن لم يوجد الحدث، فإذا مضى الوقت مدار محدثًا من وقت السيلان. والسيلان كان سابقًا على لبس الخف ومقارنًا له، فتبين أن اللبس حصل لا على طهارة بخلاف الوجه الأول؛ لأن السيلان ثمة وُجد عقب اللبس فكان اللبس حاصلًا عن طهارة كاملة.
(1)
مذهب المالكية:
جاء في (بلغة السالك): أنه لا ينقض الوضوء بسلس لازم نصف الزمن فأكثر وإلا نقض، فأولى في عدم النقض بملازمته كل الزمن، لكن يندب الوضوء إذا لم يعم الزمن، وسواء كان السلس - وهو ما يسيل بنفسه لانحراف الطبيعة - بولًا أو ريحًا أو غائطًا أو مذيًا أو منيًا. وهذا إذا لم ينضبط ولم يقدر على التداوى. فإن انضبط بأن جرت عادته أنه ينقطع آخر الوقت وجب عليه تأخير الصلاة لآخره، أو ينقطع أوله وجب عليه تقديمها.
(2)
وفى (حاشية الدسوقى) قال: وأما بالنسبة لغلبة الريح فقال: إذا كان في جوفه علة، أو كان شيخًا كبيرًا غلب عليه الريح، فإذا صلى من جلوس لا يخرج منه الريح؛ وإن صلى قائمًا يخرج منه الريح، قال الحطاب: الظاهر ما قاله ابن بشير والأبيانى، من أنه يصلى قائمًا لا جالسًا ولا يكون الريح ناقضًا لوضوئه كالبول. وكذلك من كان كلما تطهر بالماء أحدث بنقطة بول أو ريح فإنه يصلى بالوضوء ولا يكون الحدث ناقضًا؛ لأنه سلس عند ابن بشير، واستظهره الحَطاب. وقال اللخمى: يتيمم؛ والأحوط الجمع.
(3)
مذهب الشافعية:
جاء في (المجموع): أن من استطلق سبيله قدام خروج البول والغائط والريح منه فحكمه حكم المستحاضة في وجوب غسل النجاسة والوضوء لكل فريضة والمبادرة بالفريضة بعد الوضوء، وحكم الانقطاع وغير ذلك.
(4)
مذهب الحنابلة:
جاء في (شرح منتهى الإرادات): أنه يلزم كل من دام حدثه من مستحاضة ومن به سلس بول أو مذى أو ريح أو جرح لا يرقأ دمه أو رعاف - غسلُ المحل الملوث بالحدث لإزالته عنه وتعصيبه
(1)
بدائع الصنائع؛ 1/ 9 وما بعدها، 128 وما بعدها.
(2)
بلغة السالك لأقرب المسالك: 1/ 50، وما بعدها.
(3)
حاشية الدسوقى: 1/ 117 وما بعدها.
(4)
المجموع شرح المهذب: 2/ 541 وما بعدها.
أي فعل ما يمنع الخارج حسب الإمكان؛ ويتوضأ من حدثه الدائم لوقت كل صلاة إن خرج شئ، وإن اعتيد انقطاع الحدث الدائم زمنا يتسع للصلاة والطهارة لها تعين فعل المفروضة فيه؛ لأنه قد أمكنه الإتيان بها على وجه لا عذر معه ولا ضرورة فتعين كمن لا عذر له، وإن عرض انقطاع الحدث زمنًا يتسع للفعل لمن عادته الاتصال للحدث وهو متوضئ بطل وضوؤه؛ لأنه صار به في حكم من حدثه غير دائم، وعلم منه أن انقطاعه زمنًا لا يتسع للفعل لا أثر له، لكنه يمنع الشروع في الصلاة والمضيَّ فيها لاحتمال دوامه.
(1)
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): أن الريح الخارجة من الدبر - خاصة لا من غيره - بصوت خرجت أم بغير صوت ينقض الوضوء، وهذا إجماع متيقن، ولا خلاف في أن الوضوء إنما يكون من الفسو والضراط؛ وهذان الاسمان لا يقعان على الريح ألبتة إلا إن خرجت من الدبر، وإلا فإنما يسمى جشاء أو عطاشًا فقطء فمن غلب عليه شئ مما ذكرنا توضأ ولابد لكل صلاة فرضًا أو نافلة، ثم لا شئ عليه فيما خرج منه من ذلك في الصلاة أو فيما بين وضوئه وصلاته؛ ولا يجزيه الوضوء إلا في أقرب ما يمكن أن يكون وضؤؤه من صلاته، برهان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"
(2)
وقولُ الله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
(3)
وقولُ الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(4)
فصح أنه مأمور بالصلاة والوضوء من الحدث، وهذا كله حدث، فالواجب أن يأتى من ذلك ما يستطيع وما لا حرج عليه فيه ولا عسر، وهو مستطيع على الصلاة وعلى الوضوء لها، ولا حرج عليه في ذلك فعليه أن يأتى بهما، وهو غير مستطيع للامتناع مما يخرج عنه من ذلك في الصلاة وفيما بين وضوئه وصلاته فسقط عنه.
(5)
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار): أنه يلزم من به سلس بول ونحوه من ريح وغائط أن يتوضأ لوقت كل صلاة.
(6)
مذهب الإمامية:
جاء في (مفتاح الكرامة): أن المريض من سلس البول على ضربين: أحدهما: أن يتراخى زمن الحدث منه فليتوضأ للدخول في الصلاة، فإذا بدره الحدث وهو فيها خرج من مكانه من غير استدبار للقبلة ولا تعمد لكلام ليس من الصلاة فتوضأ وبنى على صلاته، والضرب الثاني: أن يبادره على التوالى من غير تراخ بين الأحوال فينبغي أن يتوضأ عند دخوله إلى الصلاة، ويمضى في صلاته، ولا يلتفت إلى
(1)
شرح منتهى الإرادات: 1/ 100.
(2)
صحيح البخارى. كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة. باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصحيح مسلم، في كتاب الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم، باب توقيره وترك إكثار سؤاله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ.
(3)
سورة الحج الآية: 78.
(4)
سورة البقرة الآية: 185.
(5)
المحلى: 1/ 232.
(6)
شرح الأزهار: 1/ 162 - 163: وما بعدها.
الحادث المستديم على اتصال الأوقات. فإذا فرغ من صلاته الأولى توضأ وضوءًا آخر للفريضة الثانية، ولا يجمع بين صلاتين بوضوء واحد، وقال محمد بن حمزة في (الوسيلة): إذا كان مبطونًا وحدث به ما ينقض الصلاة قطع وتطهر وبنى، وإن كان به سلس البول فكذلك. وأما المبطون: فالمراد به عليلُ البطن، أعم من أن يكون بريح أو غائط كما في (الروضة)، وفى (المنتهى) أُلحِق صاحب الريح بالمبطون.
(1)
مذهب الإباضية:
جاء في (الإيضاح): من الأشياء التي تنقض الوضوءَ الحدثُ وهو كل نجاسة خرجت من مخرجى الإنسان أو من أحد مخرجيه أو من داخل بدنه مثل البول والغائط والريح وغير ذلك لقول الله تبارك وتعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}
(2)
وأجمعوا على أن البول والغائط والريح والمذى والودى تنقض الوضوء، والعلة التي من أجلها تنقض هؤلاء الأحداث الوضوء أنها أنجاس، والأنجاس مؤثرة في الطهارة.
(3)
(1)
مفتاح الكرامة: 1/ 285 وما بعدها.
(2)
سورة النساء. الآية: 43.
(3)
الإيضاح: 1/ 96، وما بعدها.
انفلات الدابة والنار والطير وما أشبه ذلك وما يترتب عليه
مذهب الحنفية:
أولًا: انفلات الدابة:
جاء في (الفتاوى الهندية): أنه إن دخلت الدابة في ملك الغير من غير إدخال صاحبها، بأن كانت منفلتة، فلا ضمان على صاحبها، وإن دخلت بإدخال صاحبها فصاحب الدابة ضامن في الوجوه كلها سواء كانت واقفة أو سائرة. وسواء كان صاحبها معها يسوقها أو يقودها أو كان راكبًا عليها، أو لم يكن معها هكذا في (الذخيرة)، وإن كانت سائرة ولم يكن صاحبها معها فإن سارت بإرسال صاحبها فصاحبها ضامن ما دامت تسير في وجهها وما لم تسر يمينًا وشمالًا هكذا في الذخيرة، فإن عطفت يمينًا وشمالًا. فإن لم يكن لها طريق إلا ذلك فالضمان على المرسل، وإن كان لها طريق آخر لا يضمن، ولو وقفت الدابة ثم سارت خرج السائق من الضمان. فإن ردها راد فإن لم ترتد ومضت في وجهها فالضمان على المرسل، فإن ارتدت ثم وقفت ثم سارت فلا ضمان على أحد، وإن ارتدت ولم تقف ومضت في وجهها وأصابت شيئًا ضمن الراد كذا في (محيط السرخسي)، وإن سارت لا بتسيير صاحبها بأن كانت منفلتة فلا ضمان على صاحبها في الوجوه كلها كذا في (الذخيرة)
(1)
.
ومن أوقفت دابته في طريق المسلمين ولم يشدها فسارت عن ذلك المكان وأتلفت شيئًا فلا ضمان على من أوقفها كذا في (فتاوى قاضيخان)، ولو أوقفها في الطريق مربوطة فجالت في رباطها فأصابت شيئًا فإن أصابت بعد ما أدخل الرباط وزال عن مكانه فلا ضمان على صاحبها، وإن أصابت والرباط على حاله ضمن ما جنت. وإذا جمحت الدابة فضربها أو كبحها باللجام فضربت برجلها أو بذنبها لم يكن عليه شئ، ومن قاد دابة فنخسها رجل فانفلت من يد القائد فأصابت في فورها فهو على الناخس، وكذا إذا كان لها سائق فنخسها غيره، كذا في (الهداية)، ولو نفرت الدابة من حجر وضمه رجل على الطريق فالواضع بمنزلة الناخس، كذا في (محيط السرخسى)، ومن أوقف سبعًا في الطريق ضمن ما أتلف إذا كان مربوطًا فأصاب قبل حل الرباط، وإذا أصاب بعد ما أدخل الرباط وزال عن مكانه لم يضمن. وإذا أوقف رجل دابته في الطريق وأوقف رجل آخر دابته كذلك فنفرت إحدى الدابتين وأصابت الأخرى فلا يضمن صاحب الدابة التي نفرت، ولو عطبت التي نفرت بالأخرى يضمن صاحب الدابة الواقفة كذا في (فتاوى قاضيخان)
(2)
. وفى (المبسوط) أن من ركب دابة ثم سقط عنها ثم ذهبت الدابة على وجهها فقتلت إنسانًا لم يكن عليه شئ؛ لأنها منفلتة فالذى سقط منها ليس براكب ولا قائد ولا سائق والمنفلتة جرحها جبار لأنها عجماء لقوله صلى الله عليه وسلم: "العجماء جبار"
(3)
، وهى المنفلتة عندنا
(4)
.
وإذا حمل رجل صبيًا حرًا على دابة فسار الصبى على الدابة فأوطأ إنسانا فقتله. فإن كان الصبى ممن يستمسك على الدابة فديته على
(1)
الفتاوى الهندية: 6/ 42 - 43.
(2)
المرجع السابق 6/ 51 - 53.
(3)
الحديث سبق تخريجه.
(4)
المبسوط: 26/ 192.
عاقلة الصبى، لأنه متلف للرجل بدابته حين أوطأ إياه ولا شئ على عاقلة الذي حمله عليها؛ لأنه أحدث السير باختياره، وإن كان الصبى ممن لا يسير على الدابة لصغره ولا يستمسك عليها قدم القتيل هدر؛ لأن هذه الدابة بمنزلة المنفلتة فإنها سارت من غير أن يسيرها أحد، والدابة المنفلتة إذا وطأت إنسانا قدمه هدر وهذا الذي حمل الصبى على الدابة لم يسيرها فلا يكون هو قائدًا للدابة ولا سائقًا، والصبى الذي لا يستمسك على الدابة بمنزلة متاع موضوع عليها، فلا يكون هو مسيرًا للدابة بخلاف ما إذا كان يستمسك عليها
(1)
.
ومن وجد في زرعه في الليل ثورين وظن أنهما لأهل قريته، فإن كانا لغير أهل القرية فأراد أن يدخلهما مربطته فدخل في المربط أحدُهما وفر الآخر فتبعه فلم يقدر عليه. وجاء صاحب الثور فأراد تضمينه، قال محمد بن الفضل: إن كانت نيته عند الأخذ أن يمنعه من صاحبه كان ضامنًا، وإن كانت نيته أن يأخذه ليرده على صاحبه إلا أنه لم يقدر على الإشهاد ولم يجد من يشهد لا يكون ضامنًا، كذا في (فتاوى قاضيخان) فقيل لابن الفضل: أرأيت إن كان هذا نهارًا؟ فقال: إن كان الثور لغير أهل قريته كان حكمه حكم اللقطة إن ترك الإشهاد مع القدرة، وعليه أن يأخذه أو يحبسه في مربطه ليرده على صاحبه، ضمن. وإن لم يجد من يشهد كان ذلك عذرًا له. وإن كان الثور لأهل قريته وأخرجه من زرعه ولم يزد على ذلك لم يضمن إذا ضاع الثور، وإن ساقه بعد ما أخرجه من زرعه ضمن. كذا في (الذخيرة)
(2)
.
وفى (تبيين الحقائق): أن من أرسل طيرًا أو كلبًا ولم يك سائقًا له أو انفلتت دابة فأصابت مالا أو آدميا نهارا أو ليلا فلا يضمن
(3)
.
ثانيًا: انفلات النار:
جاء في (الفتاوى الهندية): أنه لو أحرق رجل كلأ أو حصائد فى أرضه، فذهبت النار يمينا وشمالا وأحرقت شيئا لغيره لم يضمنه؛ لأنه غير متعدٍ في هذا التسبيب. فإن له أن يوقدَ النار في ملك نفسه مطلقًا وتصرف المالك في ملكه لا يتقيد بشرط السلامة، وقال بعضهم: هذا إذا كانت الرياح هادئة حين أوقد النار، فأما إذا أوقد النار في يوم ريح على وجه يعلم أن الريح تذهب بالنار إلى ملك غيره فإنه يكون ضامنًا بمنزلة ما لو أوقد النار في ملك غيره، ألا ترى أن من صب في ميزابه مائعًا وهو يعلم أن تحت الميزاب إنسانًا جالسًا فأفسد ذلك المائع ثيابه، كان الذي صبه ضامنًا وإن كان صبه في ملك نفسه. كذا في المبسوط
(4)
.
ومن وضع في الطريق جمرًا فاحترق به شئ كان ضامنًا، وإن حركته الريح فذهب به إلى موضع آخر ثم أحترق به شئ لا يكون ضامنًا، كذا في (فتاوى قاضيخان) ومنهم من قال: هذا إذا حركت الريح عينها عن موضعها، فأما إذا ذهبت الريح بشرارها فأحرقت شيئًا فإن الضمان يجب عليه في ذلك أيضًا، وكان السرخسى يقول: إذا كان اليوم يوم ريح فهو ضامن وإن ذهبت الريح بعينها. والحداد إذا أخرج الحديد من الكير وذلك في حانوته
(1)
المبسوط: 26/ 187.
(2)
الفتاوى الهندية: 6/ 53.
(3)
المرجع السابق: 6/ 42.
(4)
السابق: 5/ 418.
فوضعها على القلاب وضربها بمطرقة فخرج شررها إلى طريق العامة فأحرقت رجلًا أو فقأت عينه فديته على عاقلته. ولو أحرقت ثوب إنسان فقيمته في ماله. ولو لم يضربها بالمطرقة ولكن الريح أخرجت شررها فأصاب ما أصاب فهو هدر كذا في (الخلاصة). ولو كان الحداد أوقد النار على طرف حانوته إلى جانب طريق على ما يحيط به العلم بأن تلك النار تشتعل إلى جانبها في الطريق حتى أحرقت كان ضامنًا، كذا في (الذخيرة)
(1)
.
ثالثًا: حكم انفلات الصيد والطير والمائع وما أشبه ذلك:
جاء في (الفتاوى الهندية): من نصب شبكة فتعلق بها صيد، فجاء إنسان وأخذه قبل أن يتخلص ويطير فهو للأول؛ لأن سبب الملك انعقد في حق الأول؛ لأنه موضوع له، ولم ينتقض السبب بعد حتى لو أخذه الثاني بعدما تخلص وطار فهو للثانى؛ لأنه انتقض السبب قبل أخذ الثاني. ولو كان صاحب الشبكة أخذه ثم انفلت منه، ثم أخذه آخر فهو ملك للأول؛ لأنه ملكه بالأخذ وانفلاته بمنزلة إباق العبد وشرود البعير، وذلك لا يوجب زوال ملكه، وفى (المنتقى): أن من نصب حباله فوقع بها صيد فاضطرب وقطعها وانفلت منهاء فجاء آخر وأخذ الصيد، فالصيد للآخر، ولو جاء صاحب الحبالة ليأخذه فلما دنا منه بحيث يقدر على أخذه إن شاء اضطرب الصيد حتى انفلت، فأخذه آخر فهو لصاحب الحبالة، وكذا صيد الكلب والبازى على هذا التفصيل
(2)
.
وفى (بدائع الصنائع): أن من فتح باب قفص فطار الطير منه وضاع لم يضمن في قولهما، وقال محمد: يضمن ووجه قوله: إن فتح باب القفص وقع إتلافًا للطير تسبيبًا؛ لأن الطيران للطير طبع له، فالظاهر أنه يطير إذا وجد المخلص، فكان الفتح إتلافًا له تسبيبًا فيوجب الضمان. كما إذا شق زقّ إنسان فيه دهن مائع فسال وهلك. ووجه قولهما: أن الفتح ليس بإتلاف مباشرة ولا تسبيبًا، أما المباشرة فظاهرة الانتفاء، وأما التسبيب فلأن الطير مختار في الطيران؛ لأنه حى وكل حي له اختيار فكان الطيران مضافًا إلى اختياره، والفتح سبب محض فلا حكم له كما إذا حل القيد عن عبد إنسان حي فأبق أنه لا ضمان عليه كما قلنا، كذا هذا، بخلاف شق الزق الذي فيه دهن مائع؛ لأن المائع يسيل بطبعه بحيث لا يوجد منه الاستمساك عند عدم المانع إلا على نقض المادة فكان الفتح تسبيبًا للتلف فيوجب الضمان، وعلى هذا الخلاف إذا حل رباط الدابة أو فتح باب الإصطبل حتى خرجت الدابة وضلت، وقالوا: إذا حل رباط الزيت أنه إن كان ذائبًا فسال منه ضمن، وإن كان السمن جامدًا فذاب بالشمس لم يضمن لما ذكرنا أن المائع يسيل بطبعه إذا وجد منفذًا بحيث يستحيل استمساكه عادة، فكان حل الرباط إتلافًا له تسبيبًا فيوجب الضمان بخلاف الجامد، لأن السيلان من طبع المائع لا الجامد، وهو إن صار مائعًا لكن لا بصنعه بل بحرارة الشمس فلم يكن التلف مضافًا إليه لا مباشرة ولا تسبيبًا فلا يضمن
(3)
.
(1)
الفتاوى الهندية: 5/ 398.
(2)
المرجع السابق: 6/ 42.
(3)
بدائع الصنائع: 7/ 166.
مذهب المالكية:
أولًا: انفلات الصيد:
جاء في (التاج والإكليل): قال ابن عرفة فيما نَدَّ من صائده وصاده طريقان: قال اللخمى والمازرى: إن صيد قبل توحشه وبعد تأنسه فهو للأول اتفافًا، ولو صاده بعد توحشه، فقال مالك وابن القاسم هو للثانى، قال ابن بشير: وإن ملكه الأول بشراء فهل يكون كالأول أم لا؟
قال ابن المواز: هو كالأول، وقال ابن الكاتب: هذا يكون للأول على كل حال بخلاف الأول. وفى (المدونة): ومن صاد طائرا في رجله ساقان أو ظبيًا في أذنيه قرطان أو في عنقه قلادة عرف بذلك ثم ينظر، إن كان هروبه ليس هروب انقطاع ولا توحش رده وما وجد عليه لربه، وإن كان هروبه هروب انقطاع وتوحش فالصيد خاصة لصائده دون ما عليه
(1)
.
ثانيًا: انفلات الدابة:
جاء في (بلغة السالك): أن ما أتلفته البهائم من الزرع والحوائط مأكولة اللحم أم لا -وهى غير معلومة العداء ولم يحفظها ربها بربط أو إغلاق باب- ليلا فعلى ربها ضمانه، فإن عرفت بالعداء فعلى ربها ولو نهار حيث لم يحفظها، فإن ربطها ربطا محكمًا أو أغلق الباب فانفلتت فلا ضمان مطلقا، وإن زاد ما أتلفته من زرع على قيمتها، فليس لربها أن يسلمها فيما أتلفته فليست كالعبد الجانى؛ لأنه مكلف، فلا ضمان على رب دابة انفلتت دابته ليلا أو نهارا فركبت على رجل نائم، فجرحته أو قتلته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العجماء جرحها جبار"
(2)
، وإن انفلتت دابة فنادى ربها رجالا بإمساكها فأمسكها أو أمره بسقيها ففعل فقتلته أو قطعت له عضو لم يضمن ربها كعدم ضمان راكب وسائق وقائد ما حصل من ولدها، فإن نادى صبيا أو سفيها بإمساكها أو سقيها فأتلفته فالدية على عاقلة الآمر، كناخس دابة فقتلت رجلا فعلى عاقلة الناخس، فإن قتلت رجلا في مسك الصبى أو أمره بسقيها فعلى عاقلة الصبى ولا رجوع لهم على عاقلة الآمر
(3)
.
ثالثًا: انفلات النار أو الماء:
جاء في (التاج والإكليل): أن من أرسل في أرضه نارًا أو ماء فوصل إلى أرض جاره فأفسد زرعه، فإن كانت أرض جاره بعيدة يؤمن أن يصل ذلك إليها فانتقلت النار بريح أو غيره فأحرقت فلا شيء عليه وأن لم يؤمن من ذلك لقربها فهو ضامن
(4)
.
رابعًا: انفلات المائع وغيره:
من فتح حرزًا فسال ما فيه إذا كان مائعًا، أو أخذ منه شيئًا إذا كان جامدًا ضمن المثلى ولو بغلاء مثله
(5)
.
مذهب الشافعية:
أولا: انفلات الصيد:
جاء في (مغنى المحتاج): أنه يملك الصائد الصيد بوقوعه في شبكة نصبها للصيد إذا لم يقدر على الخلاص منها، فإن قطعها الصيد فانفلت منها صار مباحًا يملكه من صاده لأن
(1)
التاج والإكليل 3/ 223.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
بلغة المسالك: 2/ 408 - 409، وحاشية الدسوقى على الشرح الكبير: 4/ 358.
(4)
التاج والإكليل: 5/ 260.
(5)
حاشية الدسوقى على الشرح الكبير: 3/ 145.
الأول لم تثبته شبكته، وإن قطعها غيره فانفلت فهو باق على ملك صاحبها فلا يملكه غيره كما صححه في (المجموع)، ولو ذهب الصيد بالشبكة فإن كان على امتناعه بأن يعدو ويمتنع معها فهو ممن أخذه، وإن كان فتلُها يبطل امتناعه بحيث لا يتيسر أخذه فهو لصاحبها، ويملك أيضًا بإلجائه إلى مضيق ولو مغضوبًا لا يقدر الصيد على التفلت منه كبيت؛ لأنه صار مقدورًا عليه، فإن قدر الصيد على التفلت لم يملكه الملجئ ولو أخذه غيره ملكه، ومتى ملكه لم يزل ملكه عنه بانفلاته، فمن أخذه لزمه رده، سواء كان يدور في البلد أم التحق بالوحوش في البرية، كما لو شردت البهيمة، ويستثنى من ذلك ما لو انفلت بقطعه ما نصب له فإنه يعود مباحًا يملكه من يصطاده، ومن فتح قفصًا عن طائر وهيجه فطار في الحال ضمنه بالإجماع -كما قال الماوردى- لأنه ألجأه إلى الفرار، كإكراه الآدمى. وإن اقتصر على الفتح فالأظهر أنه إن طار في الحال ضمن؛ لأن طيرانه في الحال يشعر بتنفيره، وإن وقف ثم طار فلا يضمنه، لأن طيرانه بعد الوقوف يشعر باختياره، والقول الثاني: يضمنه مطلقًا؛ لأنه لو لم يفتح لم يطر، والقول الثالث: لا يضمن مطلقًا؛ لأن له قصدًا واختيارًا، والفاتح متسبب والطائر مباشر، والمباشرة مقدمة على السبب ويجرى الخلاف فيما لو حَلَّ رباط بهيمة أو فتح بابًا فخرجت وضاعت؛ لأنه صحيح الاختيار فخروجه عقب ما ذكر يحال عليه
(1)
.
ثانيًا: انفلات الدابة:
جاء في (مغني المحتاج)، أن من كان مع دابة أو دواب سواء كان مالكًا أم مستأجرًا أم مودعًا أم مستعيرًا أم غاصبًا ضمن إتلافها بيدها أو رجلها أو غير ذلك نفسًا ومالًا ليلًا ونهارًا؛ لأنها في يده وعليه تعهدها وحفظها. ولأنه إذا كان معها كان فعلها منسوبًا إليها كالكلب إذا أرسله صاحبه وقتل الصيد، وإن استرسل بنفسه فلا، فجنايتها كجنايته سواء أكان سائقها أم قائدها أم راكبها، ولو كان مع الدواب راع فهاجت ريح وأظلم النهار فتفرقت الدواب ووقفت في زرع فأفسدته فلا ضمان على الراعى في الأظهر للغلبة، كما لو نَدَّ بعيره أو انفلتت دابته من يده فأفسدت شيئًا
(2)
.
ثالثًا: انفلات النار والماء:
جاء في (المهذب): أنه إذا أجّج إنسان على سطحه نار فطارت شرارة إلى دار الجار فأحرقتها، أو سقى أرضه فنزل الماء إلى أرض جاره فغرّقها، فإن كان الذي فعله ما جرت به العادة لم يضمن؛ لأنه غير متعدٍ، وإن فعل ما لم تجر به العادة بأن أجج من النار أما لا يقف على حد داره أو سقى أرضه من الماء ما لا تحتمله ضمن، لأنه متعدٍ
(3)
.
وفى (مغنى المحتاج): أن الشخص لو سقى أرضه فخرج الماء من جحر فأهلك شيئًا لم يضمنه إلا إن سقى فوق العادة. أو علم بالجحر ولم يحتط فيضمن لتقصيره
(4)
.
رابع: انفلات المائع:
جاء في (مغنى المحتاج): أنه لو فتح شخص رأس زق - وهو السقاء - مطروح على الأرض
(1)
مغني المحتاج: 4/ 255، وما بعدها
(2)
المرجع السابق: 4/ 188، وما بعدها.
(3)
المهذب: 1/ 375.
(4)
مغني المحتاج: 4/ 76.
فخرج ما فيه بالفتح وتلف، أو زقٍ منصوبٍ فسقط بالفتح لتحريكه الوكاء وجذْبِه وخرج ما فيه وتلف ضمن؛ لأنه باشر الإتلاف
(1)
.
مذهب الحنابلة:
أولًا: انفلات الصيد:
جاء في (كشاف القناع): أنه إن وقع صيد في شرك إنسان أو شبكته ونحوه وانفلت منها في الحال أو خرقها وذهب منها، أو بعد حين، لم يملكه رب الشبكة، لأنه لم يثبته فإذا صاده غيره ملكه، وإن أخذ الشبكة وذهب بها فصاده إنسان مع بقاء امتناعه ملكه الثاني ويرد الشبكة لربها؛ لأن الأول لم يملكه، فإن لم يعرف رب الشبكة فهى لقطة، فإن مشى الصيد بالشبكة على وجه لا يقدر على الامتناع فهو لصاحبها؛ لأنه أزال امتناعه كما لو أمسكه الصائد وثبتت يده عليه ثم انفلت منه، فإن ملكه لا يزول عنه بانفلاته
(2)
.
ثانيًا: انفلات الدابة:
جاء في (كشاف القناع): أنه لو انفلتت الدابة ممن هي في يده وأفسدت شيئًا فلا ضمان على أحد، لحديث "العجماء جرحها جبار"
(3)
فلو استقبلها إنسان فردها فالقياس عندهم الضمان قاله الحارثى، ثم قال: ويحتمل عدم الضمان لعموم الخبر، ولأن يده ليست عليها
(4)
.
وفى (الشرح الكبير): أن صاحب البهيمة يضمن ما أفسدته من الزرع والشجر ليلًا، ولا يضمن ما أفسدت من ذلك نهارًا يعنى اذا لم تكن يد أحد عليها؛ لما روى مالك بسنده عن حزام بن سعيد بن محيِّصة أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم
(5)
، ولأن العادة من أهل المواشى إرسالها في النهار للرعى وحفظها ليلًا. وعادة أهل الحوائط حفظها نهارًا دون الليل. فإذا ذهبت ليلًا كان التفريط من أهلها بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ، وإن تلفت نهارًا كان التفريط من أهل الزرع فكان الضمان عليهم، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى على كل إنسان بالحفظ في وقت عادته قال بعض أصحابنا: إنما يضمن مالكها ما أتلفته ليلًا إذا فرط بإرسالها ليلًا أو نهارًا أو لم يضمها بالليل أو ضمها بحيث يمكنها الخروج. أما إذا ضمَّها فأخرجها غيره بغير إذنه أو فتح عليها بابها، فالضمان على مخرجها أو فاتح بابها؛ لأنه المتلف وإن انفلتت دابة المحرم فأتلفت صيدًا لم يضمنه كالآدمى إذا أتلفه
(6)
.
ثالثا: انفلات النار والماء:
جاء في (المغنى): أنه إذا أوقد الشخص في ملكه نارا أو فى موات فطارت شرارة إلى دار جاره، فأحرقتها أو سقى أرضه فنزل الماء إلى أرض جاره فغرّقها لم يضمن إذا كان فعل ما جرت به العادة من غير تفريط؛ لأنه غير متعد، ولأنها سراية فعل مباح، فلم يضمن كسراية القود
(7)
.
(1)
مغني المحتاج: 5/ 258، والمهذب: 1/ 375.
(2)
كشاف القناع: 6/ 226.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
كشاف القناع: 5/ 371، وما بعدها.
(5)
سنن أبى داود، كتاب البيوع، باب المواشى تفسد زرع قوم. وسنن ابن ماجه، كتاب الأحكام، باب الحكم فيما أفسدت المواشى.
(6)
الشرح الكبير: 5/ 454، وما بعدها.
(7)
المغني: 5/ 453.
فإن كان بتفريط منه أو إسراف بأن أجج نارًا تسرى في العادة لكثرته، أو في ريح شديدة تحملها، أو فتح ماء كثير يتعدى. أو فتح الماء في أرض غيره، أو أوقد فى دار غيره، ضمن ما تلف به، وإن سرى إلى غير الدار التي أوقد فيها والأرض التي فتح الماء فيها؛ لأنها سراية عدوان أشبهت سراية الجرح الذي تعدى به ولذلك إن يبست النار أغصان شجر غيره يضمن؛ لأن ذلك؛ لا يكون إلا من نار كثيرة إلا أن تكون الأغصان فى هوائه فلا يضمن؛ لأن دخولها إليه غير مستحق فلا يمنع من التصرف في داره لحرمتها
(1)
.
رابعًا: انفلات المائع:
جاء في (المغنى): أنه لو حَلَّ زِقًا فيه مائع فاندفق ضمنه سواء خرج في الحال أو خرج قليلًا قليلًا أو خرج منه شئ بَلَّ أسفله فسقط أو ثقل أحد جانبيه، فلم يزل يميل قليلًا قليلًا حتى سقط أو سقط بريح أو بزلزلة الأرض، أو كان جامدًا فذاب بشمس؛ لأنه تلف بسبب فعله، وقال القاضي أبو يعلى: لا يضمن إذا سقط بريح أو زلزلة، ويضمن فيما سوى ذلك؛ لأن فعله سبب تلفه، ولم يتخلل بينهما ما يمكن إحالة الحكم عليه فوجب عليه الضمان، كما لو خرج عقيب فعله أو مال قليلًا قليلًا. وكما لو جرح إنسانًا فأصابه الحر أو البرد فسرت الجناية فإنه يضمن
(2)
.
خامسًا: انفلات الصبى من أمه:
جاء في (كشاف القناع): أنه إذا قال الرجل لزوجته: إن تركتِ هذا الصبى يخرج فأنت طالق، فانفلت الصبى بغير اختيارها، فخرج الصبى، فإن كان الحالف نوى أن لا يخرج الصبى حنث الحالف بخروجه، وإن نوى أن لا تدعه أي تتركه لم يحنث نصًا؛ لأنها لم تتركه، وإن لم تعلم نية الحالف انصرفت يمينه إلى فعلها فلا يحنث إلا إذا خرج الصبى بتفريطها في حفظه أو خرج باختيارها؛ لأن ذلك مقتضى لفظه فلا يعدل عنه إلا لمعارض ولم يتحقق. لكن إن كان لليمين سبب هيجها حملت عليها
(3)
.
مذهب الظاهرية:
أولًا: انفلات الدابة ونحوها:
جاء في (المحلى): أنه لا ضمان على صاحب البهيمة فيما جنته فى مال أو دم ليلا أو نهارا. لكن يؤمر صاحبه بضبطه. فإن ضبطه فذاك، وإن عاد ولم يضبطه بيع عليه لقوله صلى الله عليه وسلم:"العجماء جرحها جبار"
(4)
ولقوله تبارك وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}
(5)
ومن البر والتقوى حفظ الزروع والثمار التي هي أموال الناس فلا يعان على فسادها فإبعاد ما يفسدها فرض، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالبيع المباح
(6)
، ثم قال: والقول عندنا في هذا كله هو ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه من أن العجماء جرحها جبار وعملها جبار، فلا ضمان فيما أفسده الحيوان من دم أو مال لا ليلا ولا نهارا، فإن أتى بها وحملها على شئ وأطلقها فيه ضمن حينئذ؛ لأنه فعْلُه. ليلا كان أو نهارا
(7)
.
(1)
الشرح الكبير: 5/ 446.
(2)
المغنى: 5/ 451 وما بعدها.
(3)
كشاف القناع: 2/ 171 وما بعدها.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سورة المائدة الآية: 2.
(6)
المحلى: 8/ 146.
(7)
المحلى: 11/ 4. وما بعدها.
ثانيًا: انفلات النار:
جاء في (المحلى): من أوقد نارًا ليصطلى أو ليطبخ شيئًا أو أوقد سراجا ثم نام، فاشتعلت تلك النار فأتلفت أمتعته وناسًا فلا شئ عليه في ذلك أصلًا لما روى عن يحيى بن يحيى الغسانى، قال: أحرق رجل تبنًا في مَراح له فخرجت شرارة من نار فأحرقت شيئًا لجاره فكتبتُ فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب إليَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العجماء جرحها جبار" وأرى أن النار جبار، فقد صدق رضي الله عنه: النار عجماء فهى جبار، وقد ورد عن أبى هريرة مرفوعًا:"النار جبار"
(1)
وهذا خبر صحيح تقوم به الحجة. ولا يحل خلافه، فوجب بهذا أن كل ما تلف بالنار فهو هدر إلا نارًا اتفق الجميع على تضمين طارحها، وليس ذلك إلا ما تعمد الإنسان طرحها للإفساد والإتلاف، فهذا مباشر متعد فعليه القود فيما عمد قتله، والدية على العاقلة في الخطأ، وأما نار أوقدها غير متعد فهى جبار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا عموم لا يجوز تخصيصه إلا ما خصه نص أو إجماع، ولا إجماع إلا فيما ذكرنا من القصد
(2)
.
مذهب الزيدية:
أولًا: انفلات الصيد:
جاء في (التاج المذهب): أنه إن فلت الصيد من يد الصائد لم يخرج عن ملكه كالآبق، وما وقع من الصيد في الشبكة والحظيرة وفلت قبل لبثه قدرًا يمكن إمساكه فهو لمن أخذه
(3)
، ومن فتح قفصًا لطير أو باب إصطيل. فدخل السبع أو الذئب أو الهر فأتلفها سواء كانت مربوطة أم لا ضمن الفاتح ما تلف منهاء وكذا إذا هيجها بعد الفتح، وإن هيجها غيره ضمن المهيج لا الفاتح، فإن فتح ولم يهيجها، فإن خرجت بنفسها عقب شعورها بالفتح سواء كانت نفورًا أم لا ضمن الفاتح، وإن لم تخرج عقب شعورها بالفتح ثم خرجت بعد ساعة وتلفت فلا ضمان على الفاتح كما لا ضمان عليه إذا دخل بعد الفتح سارق فأخذها؛ لأن الفاتح فاعلُ سبب فلا ضمان عليه. والسارق مباشر فيضمن
(4)
.
ثانيًا: انفلات الدابة:
جاء في (التاج المذهب): أنه يضمن الشخص جناية حيوان وضعه واضع في طريق ونحوه كعقرب وكلب وحيوان وغيره، فما جناه ذلك الحيوان في ذلك الموضع. فإن كان غير مربوط، ولم ينتقل ضمن جنايته ما بقى في مكانه الذي وضع فيه لا إذا جنى بعد انتقاله فلا ضمان، وإن كان مربوطًا بجنايته في موضعه. وبعد انتقاله مضمونة على واضعه
(5)
.
ثالثًا: انفلات النار:
جاء في (شرح الأزهار): أنه لو تعدت النار موضع تأجيجها فأهلكت أحدًا في غير موضع التعدى، فإنه مضمون على واضعها أينما بلفت، بخلاف ما إذا وضعها فى ملكه فحملتها الريح إلى موضع فأهلكت فيه، فإنه لا يضمنه؛ لأنها انتقلت عن وضعه وبطل حكمه، ذكر ذلك القاسم، قال أبو طالب: وإذا كان متعديا بوضعها ضمن ما تولد منها ولو بهبوب الريح
(6)
.
(1)
سنن أبي داود، كتاب الديات، باب في النار تعدي وسنن ابن ماجه، كتاب الديات، باب الجبار.
(2)
المحلى: 11/ 20.
(3)
التاج المذهب: 3/ 459.
(4)
المرجع السابق:4/ 313، وما بعدها.
(5)
السابق: 4/ 301 وما بعدها.
(6)
شرح الأزهار: 4/ 421. وما بعدها.
رابعًا: انفلات المائع:
جاء في (التاج المذهب) فإن الشخص يُضمن من حل وكاء زق السمن إذا أزيل فأهرق فإنه يضمن من حل رباطها، ولو كان تلفه بعد الحل متراخيًا ولم يتلف فورًا فإنه يضمن والفرق بين هذا والحيوان أن الحيوان له اختيار، فلذا قيل: إذا وقف ولم يكن منه ذلك فورًا فقد ذهب تأثير فعل الأول وصار التأثير للحيوان بخلاف الجماد، أو كان السمن جَامدًا لا يخشى ذهابه بحل وكاء زِقه لكنه لما حُلَّ ذاب بالشمس، أو نحوها نحو أن يوقد نارًا في موضع غير متعد فيه فذاب بحرها، فإن الضمان على الفاتخ للرباط في جميع ذلك، ولا عبرة بالفور والتراخى. فإن ذاب بفعل الغير تعديًا كأن يفتح الغير بابًا لدخول الشمس أو يوقد بالقرب منه نارًا فلا ضمان على الفاتح، هذا إذا كان الزق ملقى فإن كان مستقيمًا فإن سقط بحر الشمس ونحوها من غير تعديهما، أو التبس بعد سقوطه هل كان بحرها أم بفعل أحد فالضمان على الفاتح. وإن ألقاه غير الفاتح فالضمان على الملقى
(1)
.
مذهب الإمامية:
أولًا: انفلات الصيد:
جاء في (الروضة البهية): أن ما يثبت في آلة الصيد من الصيود المقصودة بالصيد يملكه لتحقق الحيازه والثبت، هذا إذا نصبها بقصد الصيد كما هو الظاهر لتحقق قصد التملك وحيث يملكه يبقى ملكه عليه، ولو انفلت بعد ذلك لثبوت ملكه فلا يزول بتعذر قبضه كشرود الدابة، ولو كان انفلاته باختياره ناويًا قطع ملكه عنه ففى خروجه عن ملكه قولان، من الشك في كون ذلك مخرجًا عن الملك مع تحققه فيستصحب: ومن كونه بمنزلة الشئ الحقير من ماله إذا رماه مهملًا له، ويضعف بمنع خروج الحقير عن ملكه بذلك. وإن كان ذلك إباحة لتناول غيره فيجوز الرجوع فيه ما دام باقيًا، وربما قيل بتحريم أخذ الصيد المذكور مطلقًا، وإن جاز أخذ اليسير من المال لعدم الإذن شرعًا في إتلاف المال مطلقًا، إلا أن تكون قيمته يسيرة
(2)
.
وفى (شرائع الإسلام): أن ما يثبت في آلة الصيَّاد كالحبالة والشبكة يملكه ناصبها، وكذا كل ما يعتاد الاصطياد به، ولا يخرج عن ملكه بانفلاته بعد إثباته. وفى (الخلاف): أن الصائد إذا ملك صيدًا فانفلت منه لم يزل ملكه عنه طائرا كان أو غير طائر لحق بالبرارى والصحارى أو لم يلحق، وذلك أنه قد ثبت أنه ملكه قبل الانفلات بلا خلاف، ولا دليل على زوال ملكه فيما بعد
(3)
.
ثانيًا: انفلات الدابة والمائع:
جاء في (شرائع الإسلام): أنه لو فك القيد عن الدابة فشردت ضمن؛ لأنه فعل يقصد به الإتلاف. وكذا لو فتح قفصًا عن طائر فطار مبادرًا أو بعد مكث، ولا كذا لو فتح بابًا على مال فسرق، لأن التلف بالمباشرة لا بالسبب، ولو أزال وكاء الزق فسال ما فيه ضمن إذا لم يكن يحبسه إلا الوكاء، وكذا لو سال منه ما ألان الأرض تحته فاندفع ما فيه ضمن؛ لأن فعله سبب مستقل بالإتلاف. أما لو فتح رأس الزق فقلبته الريح أو ذاب بالشمس ففى الضمان تردد، ولعل الأشبه أنه لا يضمن؛ لأن الريح والشمس كالمباشر فيبطل حكم السبب
(4)
.
(1)
التاج المذهب: 4/ 314 وما بعدها.
(2)
الروضة البهية: 2/ 274، وما بعدها.
(3)
شرائع الإسلام، 2/ 140، وما بعدها.
(4)
المرجع السابق.
ثالثًا: انفلات النار والماء:
جاء في (الروضة البهية): أن الشخص لو أجج نار فى ملكه ولو للمنفعة فى ريح معتدلة أو ساكنة ولم يزد النار عن قدر الحاجة التى أضرمها لأجلها فلا ضمان؛ لأن له التصرف فى ملكه كيف شاء، وان عصفت الريح بعد إضرامها بغتة لعدم التفريط، وإن لم يكن كذلك بأن كانت الريح عاصفة حال الإضرام على وجه يوجب ظن التعدى إلى ملك الغير، أو زاد عن قدر الحاجة وإن كانت ساكنة ضمن سرايتها إلى ملك غيره، فالضمان على هذا مشروط بأحد الأمرين: الزيادة أو عصف الريح. وقيل: يشترط اجتماعهما معًا، وقيل: يكفى ظن التعدى إلى ملك الغير مطلقًا، ومثله القول في إرسال الماء، ولو أجج في موضع ليس له ذلك فيه كملك غيره ضمن الأنفس والأموال. ولو قصد الإتلاف فهو عامد يقاد فى النفس مع ضمان المال، ولو أججها فى المباح فالظاهر أنه كالملك لجواز التصرف فيه
(1)
.
رابعًا: انفلات الأسير:
جاء في (الخلاف): أنه إذا انفلت أسير من يد المشركين فلحق بالمسلمين بعد تقضى القتال وحيازة المال قبل القسمة فإنه يسهم له؛ لإجماع الفرقة على أن من لحقهم مدد قبل القسمة فإنه يسهم له، وهذا منهم
(2)
.
مذهب الإباضية:
أولًا: انفلات الصيد:
جاء في (شرح النيل): أن من طرد صيدًا حتى عيى من طرده أو رماه بسهم فلحقه الحجز من سهمه أو وقع في شبكته شبكة البر أو البحر أو حبالته حرم على غيره اصطياده، وجاز إن قدر على تنجية نفسه بعد الطرد أو الرمى أو انفلت من الشبكة أو الحبالة ولو بقطعها ولو كان المثير المزعج خلفه. وكل ما قبض الصائد بيده فهرب عنه لم يحل لغيره
(3)
.
ولا يحل ساقط من شبكة صياد أو وعائه بعد إمساك من صاحب الشبكة أو لوعاء حتى لا ينجو ما فيها، وهذا الإمساك على الشبكة أو مع الجر قبض فلم يحل ما فيها، ولو كان بفوت إلا بإذنه بخلاف شبكة الأرض إذا ذهب ما فيها ونحوها وهو قوى. وأما إن دخل السمك الشبكة وخرج منها فلغير صاحبها أخذه. وكذا غير الشبكة وقيل: إذا وقع منها وصار بحد التلف ولم يخرج من البخر فلغيره أخذه. والقولان أيضًا في صيد البر، وأما ما سقط من الشبكة أو غيرها بعد الخروج من البحر فلا يحل أخذه إلا إن كان متروكًا
(4)
.
ثانيًا: انفلات الدابة:
جاء في (شرح النيل): أن من أطلق مواشيه أو غيره لأحد فأكلت شجرًا أو زرعًا أو نحوهما ضمن. وقيل: لا يضمن إن أفسدت شيئًا من ذلك نهارا، إلا أن تعمد فوجهها إلى ذلك. ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"العجماء جرحها جبار"، فقيل: ذلك إذا خرجت عن طاقة من هى بيده، وإلا ضمن ما أكلت ليلا أو نهارًا
(5)
.
(1)
الروضة البهية: 2/ 425، وما بعدها.
(2)
الخلاف في الفقه: 2/ 121، وما بعدها.
(3)
شرح النيل: 2/ 571.
(4)
المرجع السابق: 2/ 575.
(5)
السابق: 7/ 79 وما بعدها.
مصطلح أنقاض
1 - التعريف في اللغة:
أنقاض: جمع مفرده: نقض. والنقض - بكسر النون وضمِّها - المنقوض، أي المهدوم، والنقض: اسم لبناء المنقوض إذا هُدم، والنقض - بالفتح: - الهدم، جاء في لسان العرب: النَّقْض: إفساد ما أبرمت من حبل أو بناء. وفى العين، النَّقض: البناء المنقوض، والجمع: الأنقاض
(1)
.
ولا يخرج معنى النَّقض في لسان الفقهاء عن المعنى الذي وضعه اللغويون له، فيأتى بمعنى الهدم أي المهدوم في كل ما يتعلق بالأبنية، وهذا هو النقض المادى. أو ما يتعلق بالعقود والعهود، وهذا هو النقض المعنوى.
2 - التصرف في أنقاض الوقف:
مذهب الحنفية:
جاء في (المبسوط): وما انهدم من بناء الوقف وآلته صرفه الحاكم في عمارة الوقف إن احتاج إليه، وإن استغنى عنه أمسكه حتى يحتاج إلى عمارته، فيصرفه فيهما؛ لأنه لابد من العمارة ليبقى على التأبيد فيحصل مقصود الواقف
(2)
.
وجاء في (رد المحتار) قوله: وفى فتاوى قارئ الهداية سئل عن وقف انهدم ولم يكن له شئ يعمر به، ولا أمكن إجارته ولا تعميره، هل تباع أنقاضه من حجر وطوب وخشب؟
أجاب: إذا كان الأموال كذلك صح بيعه بأمر الحاكم، ويُشترى بثمنه وقف مكانه، فإذا لم يمكن - رده إلى ورثة الواقف إن وجدوا، وإلا يصرف للفقراء
(3)
.
وفى (البحر الرائق): فعلى هذا يباع النقض في موضعين عند تعذر عوده، وعند خوف هلاكه، والمراد ما انهدم من الوقف، فلو انهدم الوقف كله
(4)
، فحكمه ما سبق في فتاوى قارئ الهداية.
في الفقرة السابقة.
مذهب المالكية:
جاء في (حاشية العدوى): ولا يباع الحبس وإن خرب، بحيث صار لا ينتفع به، ولو لم يُرج عوده. وكذا لا يجوز بيع أنقاضه. وهذا مقيد بما إذا لم يكن الواقف شرط للموقوف عليه بيعه فيجوز له بيعه عملًا بالشرط
(5)
.
وفى (الفواكه الدوانى): قال خليل: وله نقض وقف كهبة وصدقة ولو بناه مسجدًا. وتجعل الأنقاض في حبس آخر
(6)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (مغنى المحتاج): وإذا انقلعت أشجار الموقوف أو انهدم بناؤه أجرت أرضه لما لا يراد ذوامه كزرعها، ولما يراد كغرس وشرط قلعه عند انتهاء المدة، وغرست الأرض أو بنيت بأجرتها الحاصلة بإيجارها بعد انقضاء مدة الإجارة. والأصح بيع حصر المسجد الموقوفة إذا بليت
…
لثلا تضيع ويضيق المكان بها من غير فائدة. فتحصيل نزر يسير من ثمتها يعود إلى الوقوف أولى من ضياعها، ولا تدخل بذلك تحت بيع
(1)
لسان العرب: 7/ 242، مادة نقض، والعين: 5/ 50.
(2)
المبسوط: 6/ 224.
(3)
رد المحتار على الدر المختار: 4/ 276.
(4)
البحر الرائق: 5/ 238.
(5)
حاشية العدوى: 2/ 270.
(6)
الفواكه الدوانى: 2/ 153.
الوقف؛ لأنها صارت في حكم المعدومة .. وعلى هذا يصرف ثمنها في مصالح المسجد ..
تنبيه: جدار الدار الموقوفة المنهدم إذا تعذر بناؤه كالتالف فيأتي فيه ما مرَّ
(1)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (المغنى): ومَنْ بنى بناءً بمكة، بآلة مجلوبة من غير أرض مكة جاز بيعها، كما يجوز بيع أبنية الوقوف وأنقاضها، وإن كانت من تراب الحرم وحجارته، انبنى جواز بيعها على الروايتين في بيع رباع مكة؛ لأنها تابعة لمكة، وهكذا تراب كل وقف وأنقاضه
(2)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): ومن حبس وشرط أن يُباع إن احتيج صحَّ الحبس، وبطل الشرط؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى. وهما فعلان متغايران. إلا أن يقول: لا أحبس هذا الحبس إلا بشرط أن يُباع فهذا لم يحبس شيئًا؛ لأن كل حبس لم ينعقد إلا على باطل لم ينعقد أصلًا
(3)
.
مذهب الزيدية:
جاء فى (البحر الزخار): ولا يجوز بيع المسجد بعد خرابه أو إقفار مكانه لتعلق القرية بالعرصة، بل يتخذ بثمنه مسجدًا في العمران. لبطلان منفعته كفرس شاخ وقيل: إذا صار في قفر نقلت أخشابه وأحجاره لبناء مسجد آخره فإن تعذر فللمصالح؛ إذ في تركها إضاعة. وتبقى العرصة على التسبيل لإمكان الانتفاع، لكن يبقى بعض الحائط ليمنع النجاسات ..
وإذا صار في قفر فللمسلم اتخاذه لحفظ قماشه وطعامه؛ إذ هو من المصالح، فإن شرط الواقف عند تسبيله أن يبيعه ويصرف ثمنه إلى أفضل جاز، فإن مات قبل البيع نفذ التسبيل
(4)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): إذا وقف مسجدًا فخرب، وخربت القرية لم يعد إلى ملك الواقف: ولا تخرج العرصة عن الوقف
(5)
…
وفى موضع آخر: ولو انهدمت الدار لم تخرج العرصة عن الوقف، ولم يجز بيعها، ولو وقع بين الموقوف عليهم خلف، بحيث يخشى خرابه جاز بيعه، ولو لم يقع خلف ولا خشى خرابه، بل كان البيع أنفع لهم، قيل: يجوز بيعه، والوجه المنع
(6)
.
مذهب الإباضية:
جاء فى (شرح النيل): وإن اتصلت بالمسجد أرض وأحب أن يحول مكانها ويستغل مكانه عنها لم يجز في الحكم، وجاز في النظر إن كان أصلح للمسجد وماله، وإن خرب ذو مالٍ قليل لا يقوم بناؤه لم يجز بيع قطعته عليه، وجاز في النظر إن لم تسم وقفًا عليه، ولم ترج عمارته إلَّا بها
(7)
.
3 - ما يفعل بأنقاض المسجد:
مذهب الحنفية:
جاء في (العقود الدرية): إذا تداعى المسجد إلى الخراب وبعض المتغلبة يستولون على خشب
(1)
مغني المحتاج: 2/ 389.
(2)
المغني: 4/ 179.
(3)
المحلى: 8/ 161.
(4)
البحر الزخار: 5/ 159 بتصرف.
(5)
شرائع الإسلام: 2/ 174.
(6)
السابق: 2/ 175.
(7)
شرح النيل: 5/ 253.
المسجد، فإنه يجوز أن يباع الخشب بإذن القاضي ويمسك ثمنه ويصرفه إلى بعض المساجد أو إلى هذا المسجد، وكذا يجوز بيع أنقاضه
(1)
.
وفى (البحر الرائق): ويصرف نقضه إلى عمارته إن احتاج، وإلا حفظه للاحتياج، ولا يقسمه بين مستحقى الوقف
(2)
.
وفى (فتح القدير): ولو خرب ما حول المسجد واستغنى عنه، أي استغنى عن الصلاة فيه أهل تلك المحلة أو القرية، فإن كان في قرية فخربت وحولت مزارع يبقى مسجدًا على حاله
(3)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح مختصر خليل) للخرشى: إنَّ بيع حصر المسجد جائز إن استغنى عنها، وكذا أنقاضه، وتصرف في مصالحه
(4)
.
وفى (الفواكه الدوانى) *: قال خليل: وله نقض: وقف كهبة وصدقة ولو بناه مسجدًا، وتجعل الأنقاض في حبس آخر
(5)
.
وفى (الإتقان والإحكام): لا يجوز بيع مواضع المساجد الخربة لأنها وقف، ولا بأس ببيع نقضها إذا خيف عليه الفساد للضرورة إلى ذلك، وأفتى ابن عرفة في جوامع خربت وآيس من عمارتها بدفع أنقاضها إلى مساجد عامرة احتاجت إليها
(6)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج): ولو أكل البحر المسجد فتنقل أنقاضه لمحل آخر - أي مسجد - ويفعل بغلته ما ذكر، ومثل المسجد أيضًا غيره من المدارس والربط
…
ويصرف على مصالحه بعد نقله ما كان يصرف عليه في محله الأول
(7)
.
وجاء في (مغنى المحتاج): والأصح: جواز بيع حصر المسجد الموقوفة إذا بليت، وجذوعه إذا انكسرت أو أشرفت على ذلك، كما في الروضة وأصلها
…
وهذا ما جرى عليه الشيخان وهو المعتمد، وعلى هذا يصرف ثمنها في مصالح المسجد
(8)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): ويجوز نقل آلة المسجد الذي يجوز بيعه لخرابه أو خراب محلته أو قذر مَحْلِّه. ونقل أنقاضه إلى مثله إن احتاجها مثله، واحتج الإمام بأن ابن مسعود رضي الله عنه قد حوَّل مسجد الجامع من التمارين أي: بالكوفة.
وهو (أي نقل آلته وأنقاضه إلى مثله) أولى من بيعه؛ لبقاء الانتفاع من غير خلل فيه، وعُلم من قوله:(إلى مثله) أنه لا يُعمّر بآلات المسجد مدرسةٌ ولا رباط، ولا بئر ولا حوض ولا قنطرة. وكذا آلات كل واحدٍ من هذه الأمكنة لَا يُعمر بها ما عداه؛ لأن جعلها في مثل العين ممكن فتعين.
ويصير حكم المسجد بعد بيعه للثانى الذي اشترى بدله، وأما إذا نقلت آلته من غير بيع
(1)
العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية: 1/ 122.
(2)
البحر الرائق: 5/ 238.
(3)
فتح القدير: 6/ 237.
(4)
شرح مختصر خليل للخرشى: 7/ 95.
(5)
الفواكه الدوانى: 2/ 153.
(6)
الإتقان والإحكام. المعروف بشرح مهارة: 2/ 150.
(7)
نهاية المحتاج: 5/ 396.
(8)
مغني المحتاج: 2/ 389.
فالبقعة باقية على أنها مسجد، قال حرب: قلت لأحمد: رجل بنى مسجدًا فأذن فيه ثم قلعوا هذا المسجد، وبنوا مسجدًا آخر في مكان آخر. ونقلوا خشب هذا المسجد العتيق إلى ذلك المسجد قال: يرُمُّوا هذا المسجد الآخر العتيق، قال الحارثى: فلم يمنع النقلُ منعَ البيع، وإخراج البقعة عن كونها مسجدًا
(1)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): ولا يحل بناء مسجد عليه بيت متملك ليس من المسجد. ولا بناء مسجد تحته بيت متملك ليس منه، فمن فعل ذلك فليس شئ من ذلك مسجدًا، وهو باقٍ علي ملك بانيه كما كان.
برهان ذلك أن الهواء لا يتملك؛ لأنه لا يضبط ولا يستقر وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ}
(2)
فلا يكون مسجدًا إلّا خارجًا عن ملك كل أحد دون الله تعالى لا شريك له، فإذ ذلك كذلك فكل بيت متملك لإنسان فله أن يعليه ما شاء، ولا يقدر على إخراج الهواء ألذى عليه عنه ملكه. وحكمه الواجب له لا إلى إنسان ولا غيره.
وكذلك إذا بنى على الأرض مسجدًا وشرط الهواء له يعمل فيه ما شاء - فلم يخرجه عن ملكه إلّا بشرط فاسد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل"
(3)
.
وأيضًا: فإذا عمل مسجدًا على الأرض وأبقى الهواء لنفسه: فإن كان السقف له فهذا مسجد لا سقف له، ولا يكون بناء بلا سقف أصلًا، وإن كان السقف للمسجد فلا يحل له التصرف عليه بالبناء، فإن كان المسجد فلا حق له فيه، فإنما أبقى لنفسه بيتًا بلا سقف وهذا محال.
وأيضًا: فإن كان المسجد سفلًا فلا يحل له أن يبنى على رءوس حيطانه شيئًا، واشترط ذلك باطل؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله، وإن كان المسجد علوًا فله هدم حيطانه متى شاء، وفى ذلك هدم المسجد وانكفاؤه.، ولا يحل منعه من ذلك؟ لأنه منعٌ له من التصرف في ماله، وهذا لا يحل"
(4)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (البحر الزخار): ويَعمر ما خرب من المسجد، ولو بيعت بسُطه ومصاحفه إن تعذر غيرُها من ماله، إذ وضعت لإحيائه. وهذا منه ..
(5)
.
وجاء في (الروضة البهية): يجوز بيع آجرُ المسجد وصرفه في مصالحه. إن لم يمكن الاعتياض عنه بوقف، ولو لم يكن أصله موقوفًا، بل اشترى للمسجد مثلًا من غَلَّته، أو بذله له باذلٌ، صح للناظر بيعه مع المصلحة مطلقًا
(6)
.
وجاء في (شرح النيل): وذكر الحاج يوسف في ترتيب لقط ما نصه: وسألته عن جدار مسجد يريد أن ينهدم، هل يهدم ويصلح؟ قال: حتى ينهدم ويبنى. وفى (التاج): عن أبى عبد الله: لا أرى نقضها يعنى المساجد وهى قائمة لتجدد
(1)
كشاف القناع: 4/ 294.
(2)
سورة الجن، الآية:18.
(3)
سنن النسائي، كتاب الطلاق. باب خيار الأمة تُعتق وزوجها مملوك.
(4)
المحلى: 4/ 248، 249 مسألة رقم 503.
(5)
البحر الزخار: 5/ 163.
(6)
الروضة البهية: 3/ 187.
أفضل مما هي؛ لأنى لا آمن أن يحدث ما يحدث قبل تمامها، وعن أبى الحوارى: لا بأس بنقضها لتجدد أحسن منها ..
وقيل: لا يزاد في بنائه ولا يُنقصُ إلا إذا كان صلاحًا له، ولا يصنع ذلك لترفيه العمار، وقيل: إذا أُغمى عليه بجريد (1) فأرادوا كسره ويبنى فيه بنقضٍ ورأوه أصلح جاز. (2)
مواطن البحث:
يأتى مصطلح "أنقاض" في مواطن كثيرة من أبواب الفقه، فينظر نقض العقد في مصطلح "عقد"، وينظر نقض العهد في مصطلح "عهد".
أما عن نقض الأبنية فيأتى في إحياء الموات في ملك الغير بإذن الإمام أو بغير إذنه. وكذلك يأتى في الشفعة فيمن اشترى أرضًا وبنى فيها ثم حضر الشفيع وقضى له بشفعة الأرض، كما يأتى في باب الإجارة فيما إذا بنى المستأجر وانتهت مدة الإجارة فلمن يكون النقض، وفى الشركة إذا طلب الشريك نقض حائط مشترك، وكذا في الصلح.
مصطلح انقراض
المعنى اللغوى: جاء في اللسان: انقرض القوم، درجوا ولم يبق منهم أحد، ودرج القوم: إذا ماتوا جميعًا. ويقال: قَرضَ فلان أي مات، والقرْض أيضًا القطع.
واستعمل الفقهاء هذه المادة في بيانهم لأحكام الوقف إذا كان على الذرية أو على جماعات من الناس مرتبين في الاستحقاق أو غير مرتبين، وذلك أن الوقف قد يكون على بطون من ذرية الواقف، أو من غيره مرتبين في استحقاق ريعه بطنًا بعد بطن؛ وهو الوقف الذي يوصف بأنه مرتب الطبقات، كما يكون على جماعات متعددة أو أفراد متعددين مرتبين في الاستحقاق كذلك جماعةٌ بعد جماعة. أو فردًا بعد فرد. وقد يكون على جماعة لا ترتيب بين أفرادها، بل يكون لهم استحقاق ريعه مشتركين دون سبق لأحدهم على غيره. وقد يكون على فرد واحد يؤول ريعه بعد موته إلى جهات البر.
وقد ذهب الحنفية:
إلى أنه يجب في الوقف أن يكون مؤيدًا غير موقوت، ومن أجل ذلك وجب في الموقوف عليه ألا يحتمل الانقطاع في مذهبهم.
وذهب المالكية:
إلى جواز توقيت الوقف.
(وتفصيل القول في ذلك يرجع فيه إلى مصطلح: وقف).
وبناءً على ما ذكر: يرى الحنفية أنه إذا جعل الواقف وقفه على جماعة تحتمل الانقراض دون ترتيب بينهم في الاستحقاق كفقراء آل فلان، أو فقراء شارع معين من بلد معين أو نحو ذلك، ثم آل الوقف إليهم، فانقرضوا، أو انقرضوا قبل أن يؤول إليهم فإن الريع في الحالة الأولى يكون للجهة التي عينها الواقف لاستحقاق ريعه بعد انقراضهم.
فإن لم يكن نَصَّ في كتاب وقفه على جهةٍ معينة كان ريعه للفقراء والمساكين، وهو المصرف العام للوقف. أما إذا انقرض الموقوف عليهم قبل أن يؤول الوقف إليهم فإن الوقف في هذه الحال ينعت بأنه متقطع الأول. وعندئذ يكون ريعه لمن يستحقه بمقتضى كتاب الوقف في هذه الحال، أو لجهات البر باعتبارها المصرف العام، وذلك حسب الأحوال والشروط التي فصلت في كلام الفقهاء على أحكام الوقف المنقطع. (انظر مصطلح: وقف).
وكذلك الحكم إذا رتب بينهم في الاستحقاق فجعلهم فيه بطونًا أو درجات مرتبة ثم انقضوا جميعًا.
أما إذا رتب الواقف بين المستحقين فجعلهم بطونًا أو درجات متوالية في الاستحقاق بحيث لا تستحق طبقة أو درجة إلا بعد انقراض سابقتها، فإن انقراض أية طبقة أو درجة يترتب عليه انتقال الاستحقاق إلى الطبقة أو الدرجة التي تليها على أن يقسم الريع على أفرادها قسمة جديدة لا يراعى فيها قسمته على الطبقة السابقة عليها، ولا مقدار ما كان يستحقه كل أصل بالنظر إلى ضرعه. وهذا ما يسمى عند الحنفية بنقض القسمة عند الانقراض (وتفصيل ذلك في مصطلحى: وقف ونقض).
وذلك ما ذهب إليه الحنفية، وإلى مثله ذهب الشافعية والحنابلة على تفصيل يراجع في مصطلح: وقف
(1)
.
انقراض الموقوف عليه: قد يوقف على الأغنياء غير الأقرباء. وهذا من صور الوقف لا الصدقة.
مذهب الحنفية:
جاء في (فتح القدير): الوقف يصح لمن يحب من الأغنياء بلا قصد القرابة، وهو وإن كان لابد في آخره من القرابة بشرط التأبيد، وهو بذلك كالفقراء ومصالح المسجدء لكنه يكون وقفًا قبل انقراض الأغنياء بلا تصدق
(2)
.
إلى من يؤول الوقف بعد انقراض الموقوف عليه
؟
عود الموقوف عليه واجب، ولكن إذا انقرض الموقوف عليه انتقل الوقف إلى من يلى الموقوف عليه في الدرجة، فإن انقرض الجميع آل الموقوف إلى ولى الأمر إذا لم يكن وقفه على عبادة بعد انقراض الموقوف عليه.
جاء في (فتح القدير): وقول الواقف: "على عيالى" يدخل كل من كان في عياله من الزوج والولد والجدات، ومن كان يعول من ذوى الرحم وغير ذوى الرحم. وإذا عُرف هذا، فلو قال: على أهل بيتى فإذا انقرضوا فعلى قرابتى فهو صحيح وتصرفُ بعدهم لمن يناسبه من قبيل أبيه، ولو عكس فقال: على قرابتى فإذا انقرضوا فعلى أهل بيتى لم يصح، ومثله لو قال: على إخوتى فإذا انقرضوا فعلى إخوتى لأبى، وله إخوة متفرقون إذ بعد انقراض الكل لا يبقى له أخ فيكون بعد انقراضهم للمساكين، وعلى جيرانه يجوز
(3)
.
إلى من يؤول إليهم الوقف عند انقراض بعضهم:
جاء في (الأشباه والنظائر): أن مَنْ مات عن ولد من أهل البطن الأول انتقل نصيبه إلى ولده ويستمر له ولا ينقض أصلًا بعده لو انقرض أهل البطن الأول فإذا مات أحد ولدى الواقف عن ولد والآخر عن عشرة كان النصف لولد من مات وله ولد والنصف الآخر للعشرة. فإذا مات ابنا الواقف استمر التصف للواحد والنصف للعشرة، وإن استووا في الطبقة فقوله: على أن من مات وله ولد مخصوص من ترتيب البطون فلا يراعى الترتيب فيه. ثم من كان له شئ ينتقل إلى ولده، وهكذا إلى آخر البطون حتى لو قدر أن الواقف مات عن ولدين ثم إن أحدهما مات عن عشرة أولاد والثانى عن ولد واحد والولد خلف ولدًا واحدًا وهكذا إلى البطن العاشر، ومن مات عن عشرة وخلف كلّ أولادًا حتى وصلوا إلى المائة في البطن العاشرة يعطى للواحد نصف الوقف والنصف الآخر بين المائة، وإن استووا في الدرجة.
البطن الأعلى لو كانوا عشرة وكان لهم ابنان ماتا قبل الوقف وترك كلٌ ولدًا لا حق لهما ما دام واحد من الأعلى؛ لأنهما من البطن الثاني فلا حق لهما حتى ينقرض الأول، فلو مات العشرة وترك كلّ ولدًا أخذ كلٌ نصيب أبيه ولا شئ لولد
(1)
نهاية المحتاج: 5/ 371، كشاف القناع 2/ 147.
(2)
فتح القدير 5/ 27.
(3)
فتح القدير: 5/ 72.
من مات قبل الواقف، وإن استووا في الطبقة، فإن بقى منهم واحد قسمت على عشرة فما أصاب الحى أخذه، وما أصاب الموتى كان لأولادهم، فإن مات العاشر عن ولد انتقلت القسمة لانقراض البطن الأعلى ورجعت إلى البطن الثاني، فينظر إلى أولاد العشرة وأولاد الميت قبل الوقف فيقسم بالسوية بينهم ولا يرد نصيب من مات إلى ولده إلا قبل انقراض البطن الأعلى فيقسم على عدد البطن الأعلى، فما أصاب الميت كان لولده، فإذا انقرض البطن الأعلى نقضنا القسمة وجعلناها على عدد البطن الثاني
(1)
.
انتقال الوقف: وإذا انقرض الموقوف عليهم جاز توجيه الموقوف إلى أداء عبادة كالحج مثلًا. جاء في (المبسوط): وإذا كانت الأرض لرجل أو رجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة وسلماها إلى رجل واحد، وجعل أحدهما نصيبه موقوفًا على ولده وولد ولده أبدًا ما تناسلوا فإذا انقرضوا كانت غلتها للمساكين، وجمل الآخر نصيبه وققًا على إخوته وأهل بيته، فإذا انقرضوا كانت غلته في الحج يحج بها في كل سنة أو كان المتصدق واحدًا فجعل نصف الأرض مشاعًا على الأمر الأول ونصفها على الأمر الآخر فذلك جائز، لأنها صدقة واحدة يقبضها والٍ واحدٌ فلا يضرهم على أي الوجوه فرقوا غلتها، ومعنى هذا أن تمام الصدقة بالقبض، وإذا كان الوالى واحدًا فهو يقبض الكل جملة فتتم الصدقة بالكل بقبضه ثم بتفرق جهات الصدقة لا تتفرق الصدقة
(2)
.
تعذر معرفة مهر المثل لانقراض العصر: من مسائل الانقراض عند الحنفية تعذر معرفة مهر المثل بسبب انقراض العصر، وهذه صورة من صور التقادم، جاء في (العناية شرح الهداية): أرأيت لو ادّعى ورثة على عليّ ورثة عمر مهر أم كلثوم أكنت أقضى فيه بشئ؟ وهذا لأن مهر المثل يختلف باختلاف الأوقات. فإذا تقادم المهر وانقرض أهل ذلك العصر يتعذر على القاضي الوقوف على مقدار مهر المثل، وعلى هذا إذا لم يكن المهر متقادمًا بأن لم يختلف مهر مثل هذه المرأة يقضى بمهر مثلها
(3)
.
مذهب المالكية:
المالكية يجوّزون توقيت الوقف؛ ولذلك يرون أنه إذا وقّته الواقف بوقت أو بحياة الوقوف علينهم فإنه يرجع كما كان ملكًا بانتهاء وقته أو بانقراض الموقوف عليهم؛ ولذا إذا جعل الواقف وقفه على ذرية فلان دون ترتيب فلهم استحقاق ريعه إذا وجدوا، فإن حصل مانع كيأسٍ من وجود ذرية له رجعت أعيان الوقف ملكًا كما كانت
(4)
.
وبناءً على ذلك إذا جعل الواقف ريع وقفه لأولاده وأولادهم فلم يوجد له أولاد. أو وجدوا ثم انقرضوا رجع الوقف ملكًا كما كان سواء رتب بينهم فجعلهم مستحقين طبقة بعد طبقة، أم لم يرتب بينهم، إذ يرون أن الترتيب في الوقف باعتبار كل واحد من الذرية على حدة، كأن الواقف قال: على فلان ثم على ولده، وهكذا.
(1)
الأشباه والنظائر: 1/ 163.
(2)
المبسوط 6/ 176.
(3)
العناية شرح الهداية: 3/ 2.
(4)
الشرح الصغير: 2/ 262 - 263.
فكل من توفى انتقل نصيبه لأولاده لا لإخواته، خلافًا للحنفية. فيكون معنى قول الواقف:(الطبقة العليا تحجب الطبقة السفلى) أي أن كل أصل من الطبقة العليا يحجب فرعه دون فرع غيره، بناءً على أن الأصل عندهم في الترتيب ترتيب أفراد ما لم يوجد نص صريح يدل على أن الترتيب جملى.
وعلى أية حال إذا انقرضت جميع الطبقات انتقل الوقف إلى من جعله الواقف بعدهم أو إلى جهات البر ادعاء ملكا حسب ما تفيده عبارته
(1)
.
وراجع في تفصيل أحكام هذه الأحوال، وفى بيان مذاهب الفقهاء فيها على التفصيل مصطلح (وقف).
إلى من يؤول الوقف بعد انقراض الموقوف عليه
؟
جاء في (المدونة الكبرى): إذا انقرض هذا الذي جعلت له هذه الدار سكنًا لعقبه وانقرض عقبه، رجعت إلى الذي أسكن إن كان حيًّا يصنع فيها ما يصنع في ماله، وإن كان قد مات رجعت ميراثًا إلى أولى الناس به يوم مات أو إلى ورثتهم؛ لأنهم هم ورثته. وأصل الدار كانت في ماله يوم مات قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم، قلت: فإن قال: حبسًا فهلك الذي حبست عليه، وهلك عقبه الذين حبست عليهم، وقد هلك أيضًا الذي حبس ولم يدع إلا ابنة واحدة ولم يترك عصبة؟ قال: إنما قال مالك: إذا انقرض الذين حبست عليهم رجعت إلى أولى الناس بالمحبس يوم ترجع عصبته كانوا أو ولد ولده، وتكون حبسًا على ذوى الحاجة منهم وليس على الأغنياء منهم فيها شئ. قلت: فإن كانوا ولده؟ قال: فإن كان ولده فليس للأغنياء منهم فيها شيء عند مالك، وكذلك العصبة، وكذلك كل من ترجع إليهم إنما هي لذوى الحاجة منهم. قلت: فإن كان الذين رجعت إليهم الدار ورثة هذا المحبس أغنياء كلهم؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئًا ولكنى أرى إنما تكون لأقرب الناس من هؤلاء الأغنياء إذا كانوا فقراء
(2)
.
قال لى مالك وابن وهب عن يونس بن يزيد أنه سأل ابن شهاب عن الرجل يقول للرجل قد أعمرتك هذا العبد حياتك؟ قال ابن شهاب: تلك المنحة وهى مؤداة إلى من استثنى فيها، قال ابن شهاب: وإن قال ثم هو لفلان بعدك فإنه ينفذ ما قال إذا كان هبة للآخر قال ابن شهاب: وإن قال ثم هو حر بعدك قال: ينفذ ما قال
(3)
.
قلت: أرأيت إن انقرضت الأم والزوجة أو لا أيدخل ورثتهما مكانهما؟ قال: نعم، قلت: فإن انقرض واحد من ولد الأعيان بعد ذلك؟ قال: يقسم نصيبه على ولد الولد وعلى من بقى من ولد الأعيان، ويرجع من بقى من ورثة الهالك من ولد الأعيان وورثة الزوجة وورثة الأم في الذي أصاب ولد الأعيان فيكون بينهم على فرائض الله. قلت: فإن مات ورثة الزوجة والأم وبقى ورثة ورثتهم؟ قال: يدخلون في ذلك ورثة ورثتهم
(1)
الشرح الصغير: 2/ 269.
(2)
المدونة الكبرى: 4/ 403.
(3)
المرجع السابق: 4/ 419.
وورثة من هلك من ولد الأعيان أبدًا ما بقى من ولد الأعيان أخذًا بحال ما وصفت لك، قلت: وهذا قول مالك؟ قال: هذا قوله، قلت: فإن انقرض الولد وولد الولد رجعت حبسًا على أولى الناس بالمحبس في قول مالك؟ قال: نعم
(1)
.
والوالى يضع في بيت المال ما دفن المسلمون وأهل الذمة لعلامة تدل على ذلك يكون حكمه حكم اللقطة .. لكن القياس أنها إذا غلب على الظن انقراض صاحبها أو ورثته أن تكون كمالٍ جهلت أربابه فموضعه بيت المال
(2)
.
مذهب الشافعية:
إلى من يؤول الوقف بعد انقراض الموقوف عليه؟ جاء في (كفاية الأخيار): إذا انقرض الموقوف عليه لا يبطل الوقف على الراجح، ويصرف الوقف إلى أقرب الناس إلى الواقف إلى يوم انقراض الموقوف عليهم
(3)
.
وجاء في (المهذب): وإن قال: وقفت على أولادى فإن انقرض أولادى وأولاد أولادى فعلى الفقراء لم يدخل فيه ولد الولد ويكون هذا وقفًا منقطع الوسط فيكون على قولين كالوقف المنقطع الانتهاء. ومن أصحابنا من قال: يدخل فيه أولاد الأولاد بعد انقراض ولد الصلب؛ لأنه لما شرط انقراضهم دل على أنهم يستحقون كولد الصلب، والصحيح هو الأول؛ لأنه لم يشرط شيئًا وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم
(4)
.
لا ينتقل الوقف إلا بانقراض الطبقة الموقوف عليها: جاء في (مغنى المحتاج)، ولو وقف على شخصين معينين ثم الفقراء مثلًا فمات أحدهما فالأصح أن نصيبه يصرف إلى الآخر؛ لأن شرط الانتقال إلى الفقراء انقراضهما جميعًا ولم يوجد، وإذا امتنع الصرف إليهم فالصرف إلى من ذكره الواقف أولى
(5)
.
وجاء في موضع آخر: ذهب الجمهور إلى أن قوله: "بطنًا" للترتيب كقوله: "الأعلى فالأعلى" وصححه السبكى، قال: وعليه هو لترتيب بين البطنين فقط، فينتقل بانقراض الثاني لمصرف آخر إن ذكره الواقف
(6)
.
وفى موضع آخر: فإن مات الولد قبل الانتساب وله ولد قام مقامه أو أولاد وانتسب بعضهم لهذا وبعضهم لذاك دام الإشكال. فإن ماتوا قبل الانتساب أو بعده فيما إذا انتسب بعضهم لهذا وبعضهم لذاك، أو لم يكن له ولد ولا ولد ولد الرضيع حينئذ أما قبل انقراض ولده وولد ولده فليس له الانتساب بل هو تاب للولد أو ولده
(7)
.
حكم الوقف بعد انقراض من لا يصح الوقف عليه: في ذلك آراء وهى:
جاء في (المهذب): أحدها ينقل في الحال إلى من بعده؛ لأن الذي وقف عليه في الابتداء لم يصح الوقف عليه قصار كالمعدوم. والثانى وهو المنصوص أنه للواقف ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل لمن بعده؛ لأنه لم يوجد شرط الانتقال إلى الفقراء فبقى على ملكه
(1)
المدونة: 4/ 421.
(2)
شرح مختصر خليل للخرشى: 2/ 211.
(3)
كفاية الأخيار: 1/ 411.
(4)
المهذب: 2/ 322.
(5)
المرجع السابق: 3/ 376.
(6)
المرجع السابق: 2/ 386.
(7)
المرجع السابق: 3/ 414.
والثالث: أنه يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه.
وإن كان يمكن اعتبار انقراضه كالعبد ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: ينقل في الحال إلى من بعده؛ لأن الذي وقف عليه في الابتداء لم يصح الوقف عليه فصار كالمعدوم، والثانى؛ وهو المنصوص أنه للواقف ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل لمن بعده؛ لأنه لم يوجد شرط الانتقال إلى الفقراء فبقى ملكه. والثالث: أنه يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل للفقراء
(1)
.
ولا يعود الوقف ميراثًا بانقراض الموقوف عليه:
جاء في (مغنى المحتاج): فإذا قال: تصدقت بدارى على قوم أو رجل معروف حى يوم تصدق عليه، وقال: صدقة محرمة. أو قال: موقوفة أو قال: صدقة مسبلة. فقد خرجت من ملكه فلا تعود ميراثًا أبدًا، ولا يجوز أن يخرجها من ملكه إلا إلى مالك منفعة يوم يخرجها إليه، فإن لم يسبلها على من بعدهم كانت محرمة أبدًا، فإذا انقرض المتصدق بها عليه كانت محرمة أبدًا ورددناها على أقرب الناس بالذي تصدق بها يوم ترجع، وهى على ما شرط من الأثرة والتقدمة والتسوية بين أهل الغنى والحاجة، ومن إخراج من أخرج منها بصفة ورده إليها بصفة، إن أعتق الأب بعده أي الجد انجر من موالى الجد إلى مواليه أي الأب، لأن الجد إنما جره لكون الأب كان رقيقًا. فإذا عتق كان أولى بالحر؛ لأنه أقوى من الجد في النسب، وإذا انقرض موالى الأب لا يعود إلى موالى الجد ولا إلى موالى الأم، بل يبقى لبيت المال
(2)
.
مذهب الحنابلة:
إلى من يؤول الوقف بعد انقراض الموقوف عليه، جاء في المغنى مع (الشرح الكبير): إذا خلف ثلاثة بنين وأبوين فادعى البنون أن أباهم وقف داره عليهم في صحته وأقاموا بذلك شاهدًا واحدًا حلفوا معه صارت وققًا عليهم وسقط حق الأبوين، وإن لم يحلفوا معه ولم يكن على الميت دين ولا وصية وحلف الأبوان كان نصيبهما طلقًا لهما ونصيب البنين وقمًا عليهم بإقرارهم؛ لأنه ينفذ بإقرارهم، وإن كان على الميت دين أو أوصى بشئ قضى دينه ونفذت وصيته، وما بقى بين الورثة فما حصل للبنين كان وقفًا، وإن حلف واحد منهم كان ثلث الدار وققًا عليه والباقى يقضى منه الدين وما فضل يكون ميراثًا، فما حصل للابنين منه كان وقفًا عليهما، ولا يرث الحالف شيئًا؛ لأنه يعترف أنه لا يستحق منه شيئًا سوى ما وقف عليه، وإن حلفوا كلهم فثبت الوقف عليهم، ولا يخلو من أن يكون الوقف مرتبًا على بطن ثم على بطن بعد بطن أبدًا أو مشتركًا، فإن كان مرتبًا فإذا انقرض الأولاد الثلاثة انتقل الوقف إلى البطن الثاني بغير يمين؛ لأنه قد ثبت كونه وققًا بالشاهدين ويمين الأولاد فلم يحتج من انتقل إليه إلى بينة. كما لو ثبت بشاهدين كالمال الموروث، وكذلك إذا انقرض الأولاد ورجع إلى المساكين لم يحتاجوا في ثبوته لهم إلى يمين.
(1)
المهذب: 2/ 322.
(2)
مغنى المحتاج: 4/ 506.
وإن انقرض أحد الأولاد انتقل نصيبه منه إلى إخوته أو إلى من شرط الواقف انتقاله إليه بغير يمين لما ذكرنا، فإن امتنع البطن الأول من اليمين فقد ذكرنا أن نصيبهم يكون وقفًا عليهم بإقرارهم. فإذا انقرضوا كان ذلك وقفًا على حسب ما أقروا به، فإذا كان إقرارهم أنه وقف عليهم ثم على أولادهم، فقال أولادهم، نحن نحلف ما شهدنا لتكون جميع الدار وقفًا لنا فلهم ذلك، لأنهم ينقلون الوقف من الواقف فلهم إثباته كالبطن الأول.
وإذا وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز فهو وقف منقطع الابتداء كالوقف على عبده وأم ولده أو مجهول، فإن لم يذكر له مآلها فالوقف باطل، وكذلك إن جعل له ما لا يجوز الوقف عليه؛ لأنه أخل بأحد شرطى الوقف فبطل كما لو وقف ما لا يجوز وقفه، وإن جعل له ما لا يجوز الوقف عليه كمن يقف على عبده ثم على المساكين، ففى صحته وجهان بناءً على تفريق الصفقة،، فإذا قلنا: يصح، وهو قول القاضي وكان من لا يجوز الوقف عليه لا يمكن اعتبار انقراضه كالميت المجهول والكنائس صرف في الحال إلى من يجوز الوقف عليه؛ لأننا لما صححنا الوقف مع ذكر ما لا يجوز الوقف عليه، فقد ألغيناه لتعذر التصحيح مع اعتباره، وإن كان من لا يجوز الوقف عليه يمكن اعتبار انقراضه كأم ولد وعبد معين فكذلك ذكره أبو الخطاب، وفيه وجه آخر أنه يصرف في الحال إلى مصرف الوقف المنقطع إلى أن ينقرض من لا يجوز الوقف عليه. فإذا انقرض صرف إلى من يجوز، ذكره القاضي وابن عقيل؛ لأن الواقف إنما جعله وققًا على من يجوز بشرط انقراض هذا فلا يثبت بدونه ويفارق ما لا يمكن اعتبار انقراضه لتعذر اعتباره، وإن كان الوقف صحيح الطرفين منقطع الوسط مثل أن يقف على ولده ثم على عبيده ثم على المساكين، خرج في صحة الوقف وجهان كمنقطع الانتهاء، ثم ينظر فيما لا يجوز الوقف عليه، فإن لم يمكن اعتبار انقراضه ألغيناه إذا قلنا بالصحة، وإن أمكن اعتبار انقراضه فهل يعتبر أو يلغى؟ على وجهين كما تقدم، وإن كان منقطع الطرفين صحيح الوسط كرجل وقف على عبيده ثم على أولاده ثم على الكنيسة خرج في صحته وجهان. ومصرفه بعد من يجوز إلى مصرف الوقف المنقطع.
وإن وقف على من يجوز ثم على من لا يجوز كمن وقف على أولاده ثم على العبيد صح الوقف أيضًاء ويرجع بعد انقراض من يجوز الوقف عليه إلى من يصرف إليه الوقف المنقطع كالمسألة قبلها؛ لأن ذكر من لا يجوز الوقف عليه وعدمه واحد يحتمل أن لا يصح الوقف، لأنه جمع بين ما يجوز وما لا يجوز فأشبه تفريق الصفقة.
(1)
.
مذهب الظاهرية:
ورد مصطلح انقراض في كتاب (المحلى): بمعنى انقراض العصر، وجاء ذلك في مسألة شهادة ولد الزنا، قال ابن حزم: فإن قيل: قد جاء: "ولد الزنا شر الثلاثة"
(2)
؟.
(1)
المغني مع الشرح الكبير: 6/ 220.
(2)
سنن أبى داود، كتاب العتق، باب في عتق ولد الزنا.
قلنا: هذا عليكم لأنكم تقبلونه فيما عدا الزنا، ومعنى هذا الخبر عندنا: أنه في إنسان بعينه للآية التي ذكرنا، ولأنه قد كان فيمن لا يُعرف أبوه، ومن لا يعدله جميع أهل الأرض من حين انقراض عصر الصحابة - رضى الله عنهم - إلى يوم القيامة
(1)
.
مذهب الزيدية:
ورد استخدام مصطلح (انقراض) عند الزيدية في كتاب الوقف. فقالوا: ويتقيد الوقف والمصرف بالشرط والاستثناء، إذ هو إخراجُ ملك كالعتق والطلاق. فيصح وقف أرض لما شاء، واستثناء علتها لما شاء، كعلى أولادى. فإذا انقرضوا فكذا، فلا يصير إلى الثاني إلّا بعد انقراض الأول
(2)
.
مذهب الإمامية:
ورد استخدام مصطلح انقراض عند الإمامية في (كتاب الوقف) ففى (الروضة البهية): وإذا تم الوقف لم يجز الرجوع فيه؛ لأنه من العقود اللازمة، وشرطه مضافًا إلى ما سلف - التنجيز: والدوام، فلو قرنه بمدة أو جعله على من ينقرض غالبًا لم يكن وققًا، والأقوى صحته حبسًا يبطل بانقضائها وانقراضه فيرجع إلى الواقف أو وارثه حين انقراض الموقوف عليه كالولاء. ويحتمل إلى وارث عند موته، ويسترسل فيه إلى أن يصادف الانقراض. ويسمى هذا منقطع الآخر.
(3)
مذهب الإباضية:
ورد استخدام مصطلح انقراض في الفقه الإباضى بمعنى انقراض العصر: وورد ذلك في استدلالهم على العول، جاء في (شرح النيل): أما الإجماع، فقد كان قبل إظهار ابن عباس الخلاف كما حكاه المتولى وغيره، ويدل عليه قول عطاء بن رباح لابن عباس: إن هذا لا يفنى عنك شيئًا، إلى آخر ما قال الشيخ. وهذا مبنى على عدم اشتراط انقراض العصر في انعقاد الإجماع، وقد أسلفنا أنه الراجح عند المحققين
(4)
.
(1)
المحلى: 9/ 430 - 431، بتصرف.
(2)
البحر الزخار: 4/ 153 - 154.
(3)
الروضة البهية: 1/ 261.
(4)
شرح النيل: 8/ 462.
مصطلح انقضاء
الانقضاء لغة: هو ذهاب الشئ وفناؤه وكذلك التقضى. وانقضى الشئ وتقضى بمعنى، وانقضاء الشئ وتقضيه: فناؤه وانصرامه
(1)
.
تعريفه شرعًا: يستعمل لفظ "الانقضاء" شرعا في نفس معناه اللغوى الوضعى، فيقال مثلا: انقضاء العدة بمعنى مضى زمنها وانتهائه، وانقضاء وقت الصلاة بمعنى انتهائه والخروج منه إلى غيره، وانقضاء أجل الدين بمعنى نفاد مدته وحلوله.
أثر انقضاء مدة المسح على الخفين في الوضوء
مذهب الحنفية:
جاء في (شرح فتح القدير): إذا تمت المدة وهى يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر نزع خفيه وغسل رجليه وصلى، وليس عليه إعادة بقية الوضوء
(2)
.
مذهب المالكية:
جاء فى (شرح الخرشى): لا حد واجب لمقدار زمن مسح الخفين بحيث لا يجوز أن يتعدى، ونفى الحد الواجب لا يستلزم نفى الحد مطلقا، فلا ينافى ما يأتى من التحديد المندوب وهو ندب نزعه كل جمعة. وعلى هذا فلا مجال عند المالكية للحديث عن انقضاء المدة ما دامت غير معتبرة في المسح على الخفين عندهم
(3)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج): من نزع خفّيه أو انقضت مدته أو شك في بقائها أو ظهر بعض محل الفرض بتخرق وغيره وهو بَطُهْر المسح غسل قدميه إذ الأصل غسلهما والمسح بدل، فإذا قدر على الأصل زال حكم البدل كالتيمم بعد وجود الماء
(4)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): إذا انقضت مدة المسح على الخفين وهى اليوم والليلة للمقيم والثلاثة للمسافر. ولو كان الماسح متطهرًا أو في صلاة استأنف الطهارة وبطلت الصلاة؛ لأن طهارته مؤقتة فبطلت بانتهاء وقتها كخروج وقت الصلاة في حق المتيمم، ويعيد الوضوء، لا لوجوب الموالاة. بل لأن المسح يرفع الحدث. والحدث لا يتبعض فإذا خلع عاد الحدث إلى العضو الذي مسح الحائل عنه فيسرى إلى بقية الأعضاء فيستأنف الوضوء، وإن قرب الزمن. وهذا هو الصحيح من المذهب عند المحققين
(5)
. وفى (المغنى): إذا انقضت المدة بطل الوضوء، وليس له المسح إلا أن ينزعهما ثم يلبسهما على طهارة كاملة، وفيه رواية أخرى: أنه يكفيه غسل قدميه كما لو خلعهما. وهذا الاختلاف مبنى على وجوب الموالاة في الوضوء، فمن أجاز التفريق جوَّز غسل القدمين؛ لأن سائر أعضائه مغسولة ولم يبق إلا غسل القدمين، فإذا غسلهما كَمُلَ وضوؤه. ومن منع التفريق أبطل وضوءه لفوات الموالاة
(6)
.
(1)
لسان العرب: 20/ 49 مادة (قضى).
(2)
شرح فتح القدير: 1/ 106.
(3)
شرح الخرشى: 1/ 178.
(4)
نهاية المحتاج: 1/ 194.
(5)
كشاف القناع: 1/ 90.
(6)
المغنى: 1/ 294، 295.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): إذا لبس الخفين أو جوربين مثلًا على وضوء جاز المسح عليه للمقيم يومًا وليلة. وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، ثم لا يحل له المسح، فإذا انقضى هذان الأمدان - يعنى أحدهما - لمن وقت له، صلى بذلك المسح ما لم تنتقض طهارته. فإذا انتقضت لم يحل له أن يمسح لكن يخلع ما على رجليه ويتوضأ ولابدّ، وقال في موضع آخر مستدلًا على رأيه: أما قولنا: إذا انقضى أحد الأمدين المذكورين صلى الماسح بذلك المسح ما لم ينتقض وضوؤه ولا يجوز له أن يمسح حتى ينزعهما ويتوضأ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يمسح إن كان مسافرًا ثلاثًا فقط، وإن كان مقيمًا يوما وليلة فقط، وأمره عليه الصلاة والسلام بالصلاة بذلك المسح ولم ينهه عن الصلاة به بعد أمده المؤقت له، وإنما نهاه عن المسح فقط، وهذا نص الخبر في ذلك ويؤخذ من هذا النص أن انقضاء مدة المسح غير ناقض للوضوء الذي مسح فيه على الخف بل يظل متوضئًا حتى يحدث، وينحصر أثر انقضاء مدة المسح في المنع من المسح بعدها دون طهارة جديدة بوضوء كامل أو تيمم
(1)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (البحر الزخار): لو مسح المسافر يومًا وليلة ثم دخل في الصلاة فنوى الإقامة بطلت صلاته، إذ قد استكمل مسح المقيم، وإن لبس الخف في الحضر ثم سافر قبل الحدث مَسَحَ مَسْحَ مسافر، وإن أحدث في السفر فمسح ثم أقام أتم مسح مقيم لا غير. ويؤخذ من هذا أن انقضاء المدة مبطل للوضوء الذي مسح فيه على الخف
(2)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): يجب المسح على بشرة القدم، ولا يجوز على حائل من خف أو غيره إلا للتقية أو الضرورة. وإذا زال السبب أعاد الطهارة على قول. وقيل: لا يجب إلا لحدث. وعلى هذا فلا مجال لحديث عندهم عن انقضاء مدة المسح أو عدم انقضائها
(3)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): ولا يرد المسح على الخفين؛ لأنه لا قائل به لعدم صحة الأحاديث المدعى ورودها فيه، كما أنكرته عائشة رضى الله عنها، ولأنه إذا مسح على الخف لم يصدق أنه مسح على الرجلين، والخطاب إنما هو للرِّجل. ولأنه إذا مسح على الخفين ثم نزعهما وصلى لم يصدق عليه أنه صلى بوضوء رجليه. وإذا كانوا ينكرون المسح على الخفين أصلا فلا مجال للحديث عندهم عن أثر انقضاء مدته
(4)
.
أثر انقضاء الوقت في التيمم
مذهب الحنفية:
جاء في (شرح العناية على الهداية): ويصلى بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض والنوافل في وقت واحد أو أوقات متعددة ما لم يجد الماء أو يحدث؛ لأن التراب طهور بشرط عدم الماء بالنص، وكل ما هو طهور بشرط يعمل عمله ما بقى شرطه
(5)
.
(1)
المحلى: 2/ 83، 84.
(2)
البحر الزخار: 1/ 68.
(3)
شرائع الإسلام: 1/ 27.
(4)
شرح النيل: 1/ 50.
(5)
شرح العناية على الهداية: 1/ 95.
مذهب المالكية:
جاء فى (شرح الخرشى): لا يجوز فرضان بتيمم واحد ولو قُصدَا معًا عند التيمم، وإذا وقع بطل الثاني، ولو لمريض لا يقدر على مس الماء، أو إحداهما منذورة أو فائتة أو مشتركة مع الأخرى في الوقت. وأعادهما على المشهور
(1)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج): لا يجوز للمتيمم أن يصلى بتيمم واحد أكثر من فريضة لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: "من السنة ألا يصلى بتيمم واحد إلا صلاة واحدة ثم يحدث للثانية تيممًا".
(2)
والسنة في كلام الصحابي تتصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما النوافل فيجوز أن يصلى بتيمم واحد ما شاء منها
(3)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): يبطل التيمم بخروج الوقت لقول على رضي الله عنه: "التيمم لكل صلاة"
(4)
ولأنه طهارة ضرورة فتقيد بالوقت كطهارة المستحاضة. حتى التيمم من جنب لقراءة ولبث في مسجد، وحتى التيمم من حائض لوطء ولطواف ولصلاة جنازة ونافلة فيبطل في هذه الصور كلها بخروج الوقت، هذا ما لم يكن في صلاة جمعة، ويخرج الوقت وهو فيها فلا يبطل ما دام فيها ويتمها، لأنها لا تقضى. فيلزم من تيمم لقراءة ووطء ونحوه كلبث في المسجد إذا خرج الوقت التركُ حتى يعيد التيمم، ولكن لو نوى الجمع في وقت الثانية ثم لها أي للمجموعة أو تيمم لفائتة في وقت الأولى لم يبطل التيمم بخروج وقت الأولى؛ لأن نية الجمع صيرت الوقتين وقتًا واحدًا
(5)
. وفى (المغنى): إذا خرج وقت الصلاة وهو فيها بطل تيممه وبطلت صلاته؛ لأن طهارته انتهت بانتهاء وقتها فبطلت صلاته كما لو انقضت مدة المسح على الخفين وهو في الصلاة
(6)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): والمتيمم يصلى بتيممه ما شاء من الصلوات الفرض والنفل ما لم ينتقض تيممه بحدث أو بوجود ماء
(7)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار): ولا يتبع الفرضَ المؤدى بالتيمم إلا نفلُه كسنة الظهر والمغرب والفجر؛ فإنها تدخل تبعًا في تيمم ما هي تبع له لا فرض آخر. وقال الناصر: إنه يصح أن يصَلّى بالتيمم حتى يحدث أو يجد الماء
(8)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): لا ينقض التيمم بخروج الوقت ما لم يحدث أو يجد الماء
(9)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): هل التيمم رافع للحدث وعزيمة، يعنى أنه فرض أصيل غير متفرع على الغسل بالماء فيصلى به ما لم يحدث
(1)
شرح الخرشى: 1/ 88.
(2)
مصنف عبد الرزاق. كتاب الطهارة، باب كم يصلى بتيمم واحد.
(3)
نهاية المحتاج: 1/ 292، 293.
(4)
تخريج: مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الطهارات. باب في التيمم.
كم يصلى به من صلاة.
(5)
كشاف القناع: 1/ 129.
(6)
المغنى: 1/ 277.
(7)
المحلى: 2/ 128.
(8)
شرح الأزهار: 1/ 131.
(9)
شرائع الإسلام: 1/ 140.
ناقضه ولو صلاة يوم أو أكثر فيجوز قبل الوقت ولا ينقضه إلا ناقض أصله أو مبيح للعبادة ورخصة مفرعة على الوضوء فلا يجوز قبله؛ لأنه كالترخيص في أكل الميتة للمضطر؛ فلا يفعل قبل يقين الاحتياج إليه وينقضه دخول وقت الثانية؟ أقوال، ويرى صاحب (شرح النيل) أنه رافع. وعليه فإن انقضاء وقت الصلاة غير ناقض للتيمم
(1)
.
انقضاء أوقات الصلاة
أولًا: انقضاء وقت الظهر
مذهب الحنفية:
جاء في (شرح العناية على الهداية): أنه اختلفت الروايات عن أبى حنيفة في آخر وقت الظهر فروى محمد عنه: إذا صار ظلُّ كل شيء مثليه سوى في الزوال خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر وهو الذي عليه أبو حنيفة، وروي الحسن بن زياد عنه: إذا صار ظل كل شئ مثله سوى في الزوال خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر؛ وبه أخذ أبو يوسف ومحمد وزفر، وروى أسد بن جعد عنه: إذا صار ظل كل شئ مثله سواء - أي في الزوال خرج وقت الظهر ولم يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شئ مثليه، وعلى هذا يكون بين الظهر والعصر وقت مهمل كما بين الظهر والفجر، قال الكرخى: هذا أعجب الروايات إليّ لموافقتها لظاهر الأخبار
(2)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح الخرشى): أنه ينتهى آخر وقت الظهر المختار لآخر القامة - وقامة الإنسان سبعة أقدام بقدم نفسه؛ أو أربعة أذرع بذراعه، بغير ظل الزوال، يعنى أن الظل الذي زالت عنه الشمس لا اعتداد به في القامة، بل يعتبر ظل القامة مفردًا عن الزيادة؛ وأما وقته الضرورى: فهو إلى الغروب للظاهرين
(3)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج): أن آخر وقت الظهر مصيرُ ظلّ كل شئ مثله سوى ظل استواء الشمس أي: غير ظل الشئ حالة الاستواء، وقال الأكثرون: للظهر ثلاثة أوقات: وقت فضيلة أوله، ووقت اختيار إلى آخره؛ ووقت عذر ووقتُ العصر لمن يجمع
(4)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): يمتد وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شئ مثله بعد الظل الذي زالت عنه الشمس، إن كان للشئ ظل عند الزوال. فيضبط ما زالت عنه الشمس ثم ينظر إلى الزيادة عليه، فإذا بلغت قدر الشخص فقد انقضى وقت الظهر
(5)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): يتمادى وقت الظهر إلى أن يكون ظل كل شئ مثله لا يُعد في ذلك الظل الذي كان له في أول زوال الشمس. لكن يعد مازاد على ذلك، فإذا كبر الإنسان لصلاة الظهر حين ذلك فما قبله أدرك صلاة الظهر بلا ضرورة
(6)
.
(1)
شرح النيل: 1/ 230.
(2)
شرح العناية على الهداية: 1/ 152، 153 بتصرف.
(3)
شرح الخرشى: 1/ 211 - 217.
(4)
نهاية المحتاج: 1/ 346.
(5)
كشاف القناع: 1/ 173.
(6)
المحلى: 3/ 163.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار): أن آخر وقت للظهر الاختيارى مصيرُ ظلِّ الشئ المنتصب مثله سوى ظل الزوال. واختلف في تقدير المثل في القامة فقيل: إذا بلغ الظل ستة أقدام ونصفًا سوى القدم التي قام عليها فذلك قدر القامة، وقال أبو جعفر: الاعتبار بالمثل دون الأقدام، وهذا هو ظاهر المذهب، فكأن الأقدام ليست إلا تقريبًا وذكر الناصر في كتابه الكبير: أنه يعتبر بالأقدام فكأنه جعلها تحقيقًا؛ وأما وقته الاضطرارى فينتهى إلى بقية من النهار تسع العصر
(1)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أنه ما بين زوال الشمس إلى غروبها وقت الظهر والعصر، ويختص العصر من آخره بمقدار أدائها، وقال آخرون: ما بين الزوال حتى يصير ظل كل شئ مثله وقت للظهر وقيل: بل مثل الشخص، وقيل: أربعة أقدام، وهذا هو المختار، وما زاد على ذلك حتى تغرب الشمس وقت لذوى الأعذار
(2)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): أنه ينقضى وقت الظهر إذا زاد الظل على ظل الزوال بمقدار سبعة أقدام، وقيل: الظهر والعصر مشتركتان وتؤخر الظهر إلى أي وقت من أوقات العصر إلا ما يصير فيه العصر آخرًا، وقيل: يؤخر قدر ما يصلى أول العصر. وهناك أقوال أخرى
(3)
.
ثانيًا: انقضاء وقت العصر:
مذهب الحنفية:
جاء في (شرح العناية على الهداية): أن آخر وقت العصر غروب الشمس
(4)
لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها"
(5)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح الخرشى): أن آخر وقت العصر المختار إلى الاصفرار في الأرض والجدر وهو وقت التطفل: أي ميل الشمس للغروب؛ أما آخر وقته الضرورى فهو إلى الغروب
(6)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج): أنه ينقضى وقت العصر بالغروب لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها". أما وقت الاختيار فينقضى بمصير ظل كل شئ مثليه غير ظل الاستواء
(7)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): أنه ينقضى وقت العصر المختار ببلوغ ظل الشخص مثليه سوى ظل الزوال وهو اختيار الخرقى وغيره، وقطع به القاضي في المنتهى
(8)
لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: "الوقت ما بين هذين"
(9)
وفى رواية أنه
(1)
شرح الأزهار: 1/ 204.
(2)
شرائع الإسلام: 1/ 43، 44.
(3)
شرح النيل 1/ 315.
(4)
شرح العناية على الهداية: 1/ 104.
(5)
صحيح البخارى، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك من الفجر ركعة. وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة.
(6)
شرح الخرشى: 1/ 217.
(7)
نهاية المحتاج: 1/ 347.
(8)
كشاف القناع: 1/ 173، 174.
(9)
سنن أبى داود، كتاب الصلاة. باب في المواقيت. وسنن الترمذى، كتاب الصلاة. باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إلى اصفرار الشمس، واختاره الموفق لما روى عنه صلى الله عليه وسلم قال:"وقت العصر ما لم تصفر الشمس"
(1)
. وأما وقت الضرورة فينقضى بغروب الشمس.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): أنه يتمادى وقت العصر إلى أن تغرب الشمس كلها، إلا أننا نكره تأخير العصر إلى أن تصفر الشمس إلا لعذر، ومن كبر للعصر قبل أن يغرب جميعُ القرص فقد أدرك العصر
(2)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار): أنه ينقضى وقت العصر الاختيارى إذا صار ظل الشئ مثليه سوى ظل الزوال. وقالوا أيضًا: إن للعصر وقتين اضطراريين؛ الأول: وقت الظهر جميعه الاختيارى إلا ما يسع الظهر الزوال فإنه ينقضي بالظهر؛ أما الثاني: فينقضى حين يبقى من النهار ما يسع ركعة، وهذا مأخوذ من عبارة (التذكرة)؛ فإنه قال فيها: إلى قبل الغروب بركعة
(3)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أنه ينقضى وقت العصر بغروب الشمس، وقيل بأن يصير ظل كل شئ مثليه؛ وقيل: ثمانية أقدام آخر وقتها المختار، وحتى تغرب الشمس لذوى الأعذار
(4)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): أنه ينقضى وقت العصر عندهم. إذا صار ظل الشئ مثليه بعد قدر الزوال، وقيل: هو الإصفرار وقيل: غيوب الشمس أي بعض جرمها
(5)
.
ثالثًا: انقضاء وقت المغرب:
مذهب الحنفية:
جاء في (شرح العناية على الهداية): أن آخر وقت المغرب ما لم يغب الشفق، لحديث أبى هريرة رضي الله عنه:"أول المغرب حين تغرب الشمس وآخره حين يغيب الشفق"
(6)
والشفق عند أبى حنيفة هو البياض في الأفق بعد الحمرة، وفى رواية عنه أنه الحمرة وهو قول الصاحبين، ويرجح الرواية الأولى؛ ما رواه أبو هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"آخر وقت المغرب إذا اسود الأفق"
(7)
وهو لا يكون إلا إذا زال البياض
(8)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح الخرشى)
(9)
: أن وقت المغرب المختار ينقضى بقدر فعلها بعد شروطها أي بعد أن يمضى من الوقت بقدر ما يسع ثلاث ركعات ويسع شروطها من طهارتى حدث وخبث كبرى وصغرى، مائيه وترابية، وستر عورة، واستقبال قبلة، ويزاد على شروطها الأذان والإقامة، ويجوز لمحصل الشروط التأخير بقدر تحصيلها، إن كان غير محصل لها، ووقت الضرورة للمغرب ينقضى بطلوع الفجر.
(1)
صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة. باب أوقات الصلوات الخمس.
(2)
المحلى: 3/ 164.
(3)
شرح الأزهار: 1/ 206 - 208.
(4)
شرائع الإسلام: 1/ 43 - 45.
(5)
شرح النيل: 1/ 315.
(6)
بلفظ "
…
يغيب الأفق" في سنن الترمذى، كتاب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(7)
ذكره الزيلعى في نصب الراية: 1/ 234. وقال: غريب. وذكره ابن حجر في الدراية: 1/ 103. وقال: لم أجده.
(8)
شرح العناية على الهداية: 1/ 154.
(9)
شرح الخرشى: 1/ 217.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج): أنه ينقضى وقتها بمغيب الشفق الأحمر في القديم
(1)
لحديث مسلم مرفوعا "وقت المغرب ما لم يغب الشفق"
(2)
وفى الجديد، ينقضى وقتها بمضى قدر زمن وضوء وغسل أو تيمم وستر عورة وأذان وإقامة وخمس ركعات؛ لأن جبريل صلاها في اليومين في وقت واحد بخلاف غيرها، ورد الاستدلال بأنه إنما بيّن الوقت المختار المسمى بوقت الفضيلة. أما وقتها الجائز الذي هو محل النزاع فلم يتعرض له؛ وإنما استثنى قدر هذه الأمور للضرورة. والاعتبار في جميع ذلك بالوسط المعتدل كما أطلقه الرافعى كالجمهور، ويعتبر أيضا مقدار زمن الاستنجاء وإزالة النجاسة من بدنه وثوبه وتحفظ دائم الحدث، وما يسن لها ولشروطها، وأكل لقم يكسر بها سورة الجوع
(3)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): أن للمغرب وقتين: وقت اختيار وهو إلى ظهور النجوم؛ ووقت ضرورة وهو إلى مغيب الشفق الأحمر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب حين غابت الشمس ثم صلى المغرب في اليوم الثاني حين غاب الشفق
(4)
وعن عبد الله بن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق"
(5)
؛ وهذا بالمدينة. وحديث جبريل كان أول فرض الصلاة بمكة؛ فيكون منسوحًا على تقدير التعارض، أو محمولًا على التأكيد والاستحباب
(6)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى) أنه: يتمادى وقت صلاة المغرب إلى أن يغيب الشفق الذي هو الحمرة فمن كبر للمغرب قبل أن يغيب آخر حمرة الشفق فقد أدرك صلاة المغرب بلا كراهة ولا ضرورة
(7)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار): آخر وقت المغرب ذهاب الشفق الأحمر؛ فإذا ذهب فذلك آخر اختيار المغرب، أما وقته الاضطرارى فينتهى إلى بقية من الليل تسع العشاء
(8)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أن آخر وقت المغرب ذهاب الحمرة
(9)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): أن الأصح أنها تنقضى بغيوب الشفق الأحمر، وقيل: إنه غير موسع إلا بقدر ما يصلى؛ أو يصلى ويتطهر إن احتيج إلى التطهير، وقيل: وقت المغرب إلى الفجر إلا مقدار أربع ركعات أو خمس أو سبع
(10)
.
رابعًا: انقضاء وقت العشاء:
مذهب الحنفية:
جاء في (شرح العناية على الهداية)
(11)
: أن
(1)
وهو المفتى به في مذهب الشافعية في هذه المسألة.
(2)
صحيح مسلم. كتاب المساجد ومواضع الصلاة. باب أوقات الصلوات الخمس.
(3)
نهاية المحتاج: 1/ 350، 351.
(4)
سنن أبى داود "كتاب الصلاة" باب في المواقيت.
(5)
سبق تخريجه.
(6)
كشاف القناع: 1/ 174
(7)
المحلى: 3/ 164.
(8)
راجع شرح الأزهار: 1/ 207، 208.
(9)
شرائع الإسلام: 1/ 43 - 45.
(10)
شرح النيل: 1/ 315.
(11)
شرح العناية على الهداية: 1/ 154.
آخر وقت العشاء ما لم يطلع الفجر الثاني لما رواه أبو هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آخر وقت العشاء حين يطلع الفجر"
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح الخرشى): أنه ينقضى وقت العشاء المختار عندهم بمضى ثلث الليل الأول على المشهور. وقيل: إلى النصف، أما وقتها الضرورى فهو إلى الفجر
(2)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج)
(3)
: ينقضى وقتها الاختيارى بمضى ثلث الليل؛ وفى قول بمضى نصفه لحديث: "لولا أن أشق على أمتى لأخرت العشاء إلى نصف الليل"
(4)
، أما وقتها الضرورى فينقضى بطلوع الفجر الصادق لخبر جبريل مع حديث "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى"
(5)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع)
(6)
أن: آخر وقتها المختار إلى ثلث الليل الأول. نص عليه واختاره الأكثر؛ لأن جبريل عليه السلام صلاها بالنبى صلى الله عليه وسلم في اليوم الأول حين غاب الشفق، وفى اليوم الثاني حين كان ثلث الليل الأول، ثم قال:"الوقت فيما بين هذين"
(7)
وفى رواية يمتد وقت العشاء المختار إلى نصف الليل، اختاره الموفق والمجد، قال في (الفروع): وهو أظهر لما روى أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم أخرها إلى نصف الليل ثم صلى ثم قال: "ألا صلى الناس وناموا، أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها"
(8)
.. أما وقت الضرورة، فينقضى بطلوع الفجر الثاني.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى) أنه: يتمادى وقت صلاة العتمة إلى انقضاء نصف الليل الأول وابتداء النصف الثاني، فمن كبر لها في أول النصف الثاني من الليل. فقد أدرك صلاة العتمة بلا كراهة ولا ضرورة. فإذا زاد على ذلك فقد خرج وقت الدخول في صلاة العتمة
(9)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار) أن: آخر وقتها الاختيارى. ذهاب ثلث الليل الأول، وللعشاء وقتان اضطراريان. الأول: وقت اختيار المغرب إلا قدرًا منه يسع المغرب، وعقيب غروب الشمس، فإنه يختص بالمغرب، الثاني: من آخر اختياره، وينقضى ببقية من الليل تسع ركعة
(10)
.
(1)
ذكره الزيلعى في نصب الراية: (1/ 234) وقال: غريب.
(2)
شرح الخرشى بتصرف: 1/ 217.
(3)
نهاية المحتاج بتصرف: 1/ 352.
(4)
سنن ابن ماجه، كتاب الصلاة. باب وقت صلاة العشاء. وانظر: صحيح البخارى. كتاب مواقيت الصلاة. باب النوم قبل العشاء لمن غلب. وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها.
(5)
صحيح مسلم. كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها.
(6)
كشاف القناع: 1/ 175.
(7)
سبق تخريجه.
(8)
صحيح البخارى في عدة مواضع منها: كتاب مواقيت الصلاة. باب وقت العشاء إلى نصف الليل وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب وقت العشاء وتأخيرها.
(9)
المحلى: 3/ 164. بتصرف.
(10)
شرح الأزهار: 1/ 207.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أنه: ينقضى وقتها المختار بمضى ثلث الليل الأول، وما زاد على ذلك حتى ينتصف الليل للمضطر، وقيل: إلى طلوع الشمس
(1)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): أنه يمتد وقت العشاء إلى ثلث الليل الأول، وقيل: إلى نصفه، وقيل: إلى طلوع الفجر
(2)
.
خامسًا: انقضاء وقت الصبح:
مذهب الحنفية:
جاء في (شرح العناية): أن آخر وقتها ما لم تطلع الشمس لحديث (إمامة جبريل عليه السلام
(3)
. فإنه أمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها في اليوم الأول حين طلع وفى اليوم الثاني حين أسفر جدًّا، وكادت الشمس تطلع، ثم قال في آخر الحديث:"ما بين هذين الوقتين وقت لك ولأمتك"
(4)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح الخرشى): أنه ينقضى وقتها المختار عند الإسفار الأعلى، وهو الذي يتوارى فيه الوجوه؛ والإسفار: الظهور. والأعلى: البين، أما الوقت الضرورى فينقضى بطلوع الشمس
(5)
.
مذهب الشافعية:
جاء في "نهاية المحتاج" أنه ينقضى وقتها بطلوع الشمس، والاختيار ألا تؤخر عن الإسفار
(6)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): أنه ينقضى وقتها بطلوع الشمس، وليس لها وقت ضرورة
(7)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): أنه يتمادى وقتها إلى أن يطلع أول قرص الشمس، فمن كبر لها قبل أن يطلع أول قرص الشمس. فقد أدرك صلاة الصبح. إلا أننا نكره تأخيرها؛ على أن يسلم منها قبل طلوع أول القرص إلا لعذر، فإذا طلع أول القرص؛ فقد بطل وقت الدخول في صلاة الصبح
(8)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار): أن وقت اختيارها ينقضى قبل طلوع الشمس بما يسع ركعة كاملة بقراءتها؛ قال المنصور: من غير قراءة؛ أما وقتها الاضطرارى فهو إدراك ركعة كاملة قبل طلوع الشمس، وقال أحمد بن الحسين وزيد بن علي: لابد من ركعتين في الفجر
(9)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أنه ينقضى الوقت المختار عند طلوع الحمرة، ومازاد على ذلك حتى تطلع الشمس للمعذور. وقيل: إن ذلك كله وقت فضيلة
(10)
.
(1)
شرائع الإسلام: 1/ 43 - 45.
(2)
شرح النيل: 1/ 315.
(3)
شرح العناية: 1/ 155.
(4)
سنن أبى داود، كتاب الصلاة باب في المواقيت. وسنن الترمذى. كتاب الصلاة، باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وسنن النسائي. كتاب المواقيت، باب أول وقت العشاء.
(5)
شرح الخرشى بتصرف: 1/ 217.
(6)
نهاية المحتاج: 1/ 353.
(7)
كشف القناع: 1/ 176.
(8)
المحلى: 3/ 164.
(9)
شرح الأزهار: 1/ 107.
(10)
شرائع الإسلام: 1/ 43 - 45.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): أنه يمتد وقت الصبح إلى طلوع الشمس
(1)
.
انقضاء وقت الصلاة التي تجمع مع غيرها قبل تحقق شرط الوجوب، أو قبل زوال المانع
مذهب الحنفية:
جاء في (الفتاوى الهندية): أنه إذا حاضت الصبية في الوقت أو نفست سقط فرضه؛ بقى من الوقت ما يمكن أن يصلى فيه أولا، ولو افتتحت الصلاة آخر الوقت ثم حاضت لا يلزمها قضاء هذه الصلاة، وقالوا: إذا انقطع دم الحيض لأقل من عشرة أيام لم يجز وطؤها حتى تغتسل أو يمضى عليها آخر وقت الصلاة الذي يسع الاغتسال والتحريمة؛ لأن الصلاة لا تجب: عليها إلا إذا وجدت من آخر الوقت هذا القدر
(2)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح الخرشى): أنه إذا طرأ مانع من الصلاة في الوقت المدرك لمن زال عذره، واستمر حتى انقضى الوقت أسقطه، فكما تدرك الحائض مثلًا الظهرين والعشاءين بطهرها لخمس، والثانية فقط بطهرها لدون ذلك؛ كذلك يسقطان إذا حصل الحيض لخمس قبل الغروب، أو تسقط الثانية فقط، وتجب الأولى إن حاضت لدون ذلك. ولو أخرت الصلاة عامدة، كما يقصر المسافر ولو أخرها عامدًا، وعن ابن بشير: ومثل الحيض الإغماء والجنون، وأما الصبا فلا يتأتى لأنه لا يطرأ
(3)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج): أنه إذا زالت موانع الصلاة وهى الصبا والكفر والجنون والإغماء والحيض والنفاس؛ وقد بقى من الوقت قدر تكبيرة الإحرام أو قدر ركعة على أحد القولين فقد وجبت صلاة ذلك الوقت، ثم إذا كانت هذه الصلاة تجمع مع غيرها كأن أدرك من وقت العصر أو العشاء قدر تكبيرة الإحرام أو قدر ركعة ففيها رأيان، الأظهر: وجوب الصلاة التي تجمع معها، فتجب الظهر مع العصر. والمغرب مع العشاء؛ وذلك لأن وقت العصر وقت للظهر: ووقت العشاء وقت للمغرب في حالة العذر، ففى حالة الضرورة أولى؛ لأنها فوق العذر، الثاني: أنه لا تجب الأولى، إلا إذا أدرك مع التكبيرة التي في آخر العصر أربع ركعات؛ لأن إيجاب الصلاتين سببه الحمل على الجمع، وصورة الجمع إنما تتحقق إذا أوقع إحدى الصلاتين في الوقت وشرع في الأخرى. وإذا أدرك من أول وقت الصلاة الأولى التي تجمع مع غيرها قدر الفرض ثم عرض له ما يمنع الصلاة كالحيض والنفاس والجنون والإغماء ولم يَزُل المانع حتى خرج وقت الثانية وجبت الأولى كالظهر أو المغرب، ولم تجب الثانية التي تجمع معها؛ لأن وقتَ الأولى لا يصلح للثانية إلا إذا صلاهما جميعًا بخلاف العكس، بديل عدم جواز تقديم الثانية في جمع التقديم
(1)
شرح النيل: 1/ 315.
(2)
الفتاوى الهندية: 1/ 29 - 30.
(3)
شرح الخرشى: 1/ 219 - 221.
وجواز تقديم الأولى؛ بل وجوبه على وجه في جمع التأخير
(1)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): إن بقى قدر تكبيرة الإحرام من آخر الوقت ثم زال المانع أو وجد المقتضى للوجوب ببلوغ صبى أو إفاقة مجنون أو إسلام كافر أو طهر حائض أو نفساء وجب قضاؤها وقضاء ما تجمع إليها قبلها، فإن كان زوال المانع أو طروُّ التكليف قبل طلوع الشمس لزمه قضاء الصبح فقط؛ لأن التي قبلها لا تجمع إليها، وإن كان قبل غروبها لزم قضاء الظهر والعصر، وإن كان قبل طلوع الفجر لزم قضاء المغرب والعشاء. لما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس رضى الله عنهما أنهما قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة: تصلى المغرب والعشاء، فإذا تطهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر جميعًا؛ لأن وقت الثانية وقت للأولى حال العذر، فإذا أدركه المعذور لزمه قضاء فرضها كما يلزم فرض الثانية، وإنما تعلق الوجوب بقدر تكبيرة؛ لأنه إدراك فاستوى فيه القليل والكثير، وإن أدرك المكلف من وقت الأولى من صلاتى الجمع قدرًا تجب به ثم جُنَّ أو كانت امرأة فحاضت أو نفست ثم زال العذر بعد وقتها لم تجب الثانية في إحدى الروايتين، ولا يجب قضاؤهاء والرواية الأخرى تجب ويلزم قضاؤها؛ لأنها إحدى صلاتى الجمع فوجبت بإدراك جزء من وقت الأخرى كالأولى. ووجه الرواية الأولى: أنه لم يدرك جزءًا من وقتها ولا وقت تبعها فلم تجب كما لو لم يدرك من وقت الأولى شيئًا
(2)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): أنه إذا حاضت المرأة في أول وقت الصلاة أو في آخر الوقت ولم تكن صلت تلك الصلاة سقطت عنها ولا إعادة عليها، وبرهان ذلك: أن الله تعالى جعل للصلاة وقتًا محددًا أوّله وآخره؛ وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصلاة في أول وقتها. وفى آخر وقتها فصح أن المؤخر لها إلى آخر الوقت ليس عاصيًا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يفعل المعصية. فإذا ليست عاصية، فلم تتعين الصلاة عليها بعد، ولها تأخيرها. فإذا لم تتعين عليها حتى حاضت سقطت عنها، ولو كانت الصلاة تجب بأول الوقت لكان من صلاها بعد مضى مقدار تأديتها من أول وقتها قاضيًا لا مصليًا
(3)
وفاسقًا بتأخيرها، ومؤخرًا لها عن وقتها، وهذا باطل لا اختلاف فيه من أحد، فإذا طهرت المرأة في آخر وقت الصلاة بمقدار لا يمكنها الغسل حتى يخرج الوقت فلا تلزمها تلك الصلاة ولها قضاؤها. وبرهان صحة ذلك قولنا: إن الله عز وجل لم يبح الصلاة إلا بطهور. وقد حدد الله للصلاة أوقاتها. فإذا لم يمكنها الطهور وفى الوقت بقية فنحن على يقين من أنها لم تكلف تلك الصلاة التي لم يحل لها أن تؤديّها في وقتها، وإذا خرج وقت كل صلاة ذكرناها لم يجز أن يصليها لا صبى يبلغ ولا حائض تطهر ولا كافر يسلم، ولا يصلى هؤلاء إلا ما أدركوا في الأوقات المذكورة
(4)
.
(1)
نهاية المحتاج: 1/ 379 - 380.
(2)
كشاف القناع: 1/ 178.
(3)
يعنى مؤديًا، فالمقصود بالصلاة: الأداء.
(4)
المحلى: 2/ 175، 3/ 164.
مذهب الزيدية:
جاء في (البحر الزخار): أن من سقطت عنه الصلاة لجنون أو سُكر أو حيض قبل أن يتضيق وقت الأداء لم يلزمه القضاء إذ لم تفت حينئذ لجواز التأخير
(1)
، وفى (شرح الأزهار): أن القضاء يجب على من ترك إحدى الصلوات الخمس إذا تركها في حال تضيق عليه فيه الأداء. فأما إذا تركها قبل أن يتضيق عليه الأداء لم يجب عليه القضاء. نحو أن تحيض المرأة قبل تضيق وقت صلاتها كأول وقت الظهر أو العصر أو الفجر، فإنه لا يلزمها قضاء تلك الصلاة، ونحو من عرض له الجنون أو الإغماء وفى الوقت سعة فإنه لا يلزمه قضاء ما منع عنه ذلك العذر العارض، فلو زال العارض نحو أن يبلغ الصغير ويسلم الكافر ويفيق المجنون ويقدر المريض على الإيماء بالرأس وتطهر الحائض والنفساء وفى الوقت بقية تسع الصلاة أو ركعة منها كاملة مع الوضوء، وجب تأدية الصلاة. فإن لم يفعل وجب عليه القضاء؛ لأنه تركها في حال تضيّق عليه فيه الأداء
(2)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أنه إذا حصل أحد الأعذار المانعة من الصلاة كالجنون والحيض وقد مضى من الوقت مقدار الطهارة وأداء الفريضة وجب عليه قضاؤه. ويسقط الأداء إن كان دون ذلك على الأظهر، ولو زال المانع فإن أدرك الطهارة وركعة من الفريضة لزمه أداؤها ويكون مؤديًا ولو أهمل قضى، ولو أدرك قبل الغروب أو قبل انتصاف الليل إحدى الفريضتين لزمته تلك لا غير، وإن أدرك الطهارة وخمس ركعات قبل الغروب، لزمه الفريضتان، وإذا بلغ الصبى والوقت باق يستأنف على الأشبه، وإن بقى من الوقت دون ركعة بنى على نافلته ولا يجدد نية الفرض
(3)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): قولهم على القول بالاشتراك بين المغرب والعشاء وبين الظهر والعصر من أول وقت الأولى التي هي الظهر أو المغرب إلى آخر وقت الثانية التي هي الظهر أو العشاء، تختص الأولى من أول وقتها بمقدار ما تؤدى فيه، وتختص الثانية من آخر وقتها بمقدار ما تؤدى فيه، وظاهر كلام بعض قومنا أن منهم من قال: تختص الثانية، وعليه لا على الأول، تصلى الحائض التي طهرت في آخره ونحوها الأولى لا الثانية، وتقضى الثانية في وقت تجوز فيه الصلاة
(4)
.
أثر انقضاء عدة المطلقة في مرض الموت
(5)
هربًا من إرثها
مذهب الحنفية:
جاء في (فتح القدير)
(6)
: إذا طلق الرجل امرأته في مرض موته طلاقًا بائنًا فمات وهى في العدة ورثته، وإن مات بعد انقضائها فلا ميراث لها، وهذا يسمى طلاق الفارّ
(7)
. والأصل
(1)
البحر الزخار: 1/ 174
(2)
شرح الأزهار: 1/ 335 - 336.
(3)
شرائع الإسلام: 1/ 52.
(4)
شرح النيل: 1/ 319.
(5)
مرض الموت: هو المرض الذي لا يبرأ منه حتى الموت.
(6)
فتح القدير: 3/ 150، وانظر: شرح العناية على الهداية: 2/ 150: 151.
(7)
لأن الزوج يتخذ من طلاق امرأته وسيلة للفرار من ميراثها.
فيه أن من أبان امرأته في مرض موته بغير رضاها وهى ممن ترثه، ثم مات عنها وهى في العدة ورثته، وقيد بالإبانة؛ لأن الطلاق إذا كان رجعيًا كان توريثها منه باعتبار أن حكم النكاح باق من كل وجه، وقيد بمرض الموت؛ لأنه لو طلقها بائنا في مرض فصح منه ثم مات لم ترث، وبغير الرضا لأنه إذا كان برضاها لا ترثه. وقيد بمن ترثه؛ لأنها إن كانت كتابية أو أمة لا ترث، وبالموت في العدة؛ لأنها إن مات بعد انقضائها لم ترث، وترثه؛ لأن الزوجية سبب إرثها في مرض موته والزوج قصد إبطاله فيرد عليه قصده بتأخير عمله إلى زمان انقضاء العدة دفعًا للضرر عنها وقد أمكن؛ لأن النكاح في العدة يبقى في حق بعض الآثار، فجاز أن يبقى في حق إرثها منه
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح الخرشى): إذا طلق الشخص في مرضه المخوف ثم ماتت فيه فإن الرجل لا يرثها ولو طلقها مريضة؛ لأنه هو الذي أسقط ما كان بيده، ولو مات الرجل فإن المرأة ترثه؛ لأنه فارٌّ بطلاقها حينئذ من الإرث، سواء كانت مدخولًا بها أم لا. انقضت عدتها وتزوجت أم لا، وكذلك إذا خير الرجل زوجته أو ملَّكها أمرَ نفسها في مرضه المخوف، أو في صحته فاختارت نفسها في المرض فإنها ترثه إذا مات من مرضه ذلك طال مرضه أم قصر، ولا يرثها إن ماتت هي في مرضه، وكذلك إذا تزوج بكتابية أو بأمة مسلمة ثم مرض فطلق زوجته المذكوة ولو بائنًا ثم أسلمت الكتابية أو عتقت الأمة في مرضه الذي مات فيه، فإن هذه الكتابية التي أسلمت والأمة التي عتقت ترثه لاتهامه في منعها منه لما خشى الإسلام أو العتق، وسواء أسلمت أو عتقت في العدة أو بعدها، ومذهب (المدونة): أن الرجل إذا طلق زوجته في مرضه وطال مرضه وانقضت عدتها منه وتزوجت غيره فإن إرثها لا ينقطع منه، بل لو تزوجت أزواجًا وطلقها كل منهم في مرضه المخوف وطال مرضهم ثم ماتوا فإنها ترثهم كلهم، ولو كانت في عصمة رجل آخر حيّ غير المريض، أما إذا صح المريض من مرضه صحة بينة انقطع إرثها. وإن طلقها في مرضه طلقة رجعية ثم صح منه صحة بينة ولم يرتجعها ثم مرض ثانيًا فاأدفها طلاقًا رجعيًا أو بائنًا ثم مات من ذلك المرض فإنها لا ترثه إلا إن بقى من عدة الطلاق الأول بقية؛ لأن الفرض أن الطلاق رجعى ومات في العدة فترثه، فإن لم يبق من عدة الطلاق الأول بقية فإنها لا ترثه بالطلاق في المرض الثاني؛ لأنه طلاق مردف على الأول وقد زالت تهمته في الصحة، هذا ما لم يكن ارتجعها قبل صحته، ثم مرض فطلقها رجعيًّا أو بائنًا فترثه إن مات في مرضه الثاني
(2)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (الأشباه والنظائر): أن المطلقة ترث في عدة الطلاق الرجعى سواء في مرض الموت أو غيره، أما البائن فلا ترث مطلقًا في مرض الموت وغيره، ولو طلق في مرضه فارًا من الإرث نفذ ولا ترثه في الجديد؛ لئلا يلزم التوريث بلا سبب ولا نسب
(3)
.
(1)
انظر: فتح القدير 3/ 150 وشرح العناية على الهدية: 3/ 150، 151.
(2)
شرح الخرشى: 4/ 18.
(3)
الأشباه والنظائر: صـ 153.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): أن الزوج إن كان يتهم في الطلاق بقصد حرمانها الميراث كمن طلقها ابتداء بلا سؤال منها في مرض موته المخوف أو علق طلاقها في مرض موته المخوف على فعل لابد منه شرعًا كالصلاة ونحوها، أو عقلًا كالأكل والنوم ونحوهما ففعلت ولو عالمة أو سألته في مرضه المخوف أن يطلقها طلقة أو طلقتين فطلقها ثلاثًا. أو طلقها أو خلعها في مرضه المخوف بعوض من غيرها أو علقه على مرضه أو فِعْلٍ له ففعله في مرضه المخوف - ورثته في ذلك كله، ولو انقضت العدة ما لم تتزوج أو ترتد؛ لأن عثمان رضي الله عنه ورث بنت الإصبع الكلبية من عبد الرحمن بن عوف وكان طلقها في مرضه فبتها، واشتهر ذلك في زمن الصحابة ولم ينكر، فكان كالإجماع، وروى أن عثمان رضي الله عنه قال لعبد الرحمن: لإن متَّ لأورثنها منك، قال: قد علمتُ ذلك
(1)
، ولأن قصد المطلق فاسد في الميراث فعوقب بنقيض قصده كالقاتل القاصد استعجال الميراث يعاقب بحرمانه، فإن تزوجت لم ترث من الأول أبانها الثاني أم لا، وكذلك إذا ارتدت فلا ميراث لها منه، ولو أسلمت بعد الارتداد ولو قبل موته، فإن مجرد ردتها وتزوجها يسقط به إرثها؛ لأنها فعلت باختيارها ما ينافى نكاح الأول فإن لم يمت المطلِّق من المرض المخوف ولم يصح منه بل لسع بشئ من القواتل أو أكله سبع ونحوه فترثه أيضًا ما لم تتزوج أو ترتد، ولو أبان المريض في مرض الموت المخوف زوجته قبل الدخول والخلوة ورثته معاقبة له بضد قصده.
وإن طلق أربعًا في مرضه المخوف طلاقًا يتهم فيه بقصد حرمانهن فانقضت عدتهن وتزوج أربعًا سواهن ثم مات فالميراث للثمان ما لم تتزوج المطلقات أو يرتددن؛ لأن طلاقهن لم يُسقط ميراثهن، فيشاركن الزوجات، ولو كانت المطلقة واحدة فانقضت عدتها، وتزوج أربعًا سواها ثم مات فالميراث بين الخمس على السواء؛ لأن المطلقة وارثة بالزوجية فكانت أسوة بمن سواها
(2)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): أن طلاق المريض كطلاق الصحيح ولا فرق، مات من ذلك المرض أو لم يمت منه، فإن كان طلاق المريض ثلاثًا أو آخر ثلاث أو قبل أن يطأها فمات أو ماتت قبل تمام العدة أو بعدها، أو كان طلاقًا رجعيًا فلم يرتجعها حتى مات أو ماتت بعد تمام العدة فلا ترثه في شئ من ذلك كله، ولا يرثها أصلًا، وكذلك طلاق الصحيح للمريضة وطلاق المريض للمريضة ولا فرق، وكذلك طلاق الموقوف للقتل والحامل المثقلة
(3)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار): أن من أحكام عدة الطلاق الرجعى الإرث، يعنى أن من مات من الزوجين في عدة الرجعى ورثه الآخر بخلاف عدة البائن فلا موارثة فيها بينهما وقالوا: بعدم الإرث في الطلاق البائن سواء وقع الطلاق في حال الصحة أو المرض
(4)
.
(1)
انظر: منار السبيل كتاب الفرائض، باب ميراث المطلقة: 3/ 65.
(2)
كشاف القناع: 3/ 603 - 606.
(3)
المحلى: 10/ 218.
(4)
شرح الأزهار:3/ 267 - 269.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): أن من طلق في مرضه ثم مات في عدتها ورثته ولو طلقها ثلاث أو بائنًا، وسواء في الثلاث أن يكن بمرة أو واحدة بعد واحدة أو تسبق اثنتان ويزيد واحدة في مرضه أو تسبق واحدة ويزيد اثنتين فيه؛ لأنه طلقها إضرارًا لها. فإن طلقها واحدة غير بائنة أو اثنتين في مرضه ولم تتم ثلاث فإنها ترثه وتعتد للوفاة إن لم تنقض عدتها، ولا إرث لها إن انقضت قبل موته. ولو طلقها ثلاث أو بائنًا في مرضه بنية الإضرار، فلو لم يقصد بتطليقها الإضرار لم ترث ولو طلق ثلاثًا أو بائنًا مثل أن تقول له: طلقنى ثلاثًا أو بائنًا أو طلقنى واحدة أو اثنتين أو طلقنى فطلق ما قالت أو ثلاثًا
(1)
.
هل انقضاء عدة المطلقة شرط لحل التزوج بمن يحرم جمعها معها
؟
مذهب الحنفية:
جاء في (الفتاوى الهندية): أنه لا يجوز أن يتزوج أخت معتدته. سواء كانت العدة من طلاق رجعى أو بائن أو ثلاث أو عن نكاح فاسد أو عن شبهة. وكما لا يجوز أن يتزوج أختها في عدتها فكذلك لا يجوز أن يتزوج واحدة من ذوات المحارم. التي لا يجوز الجمع بين اثنتين منهن. وكذلك لا يجوز أن يتزوج أربعًا سواها. هكذا في (الكافى). وإن قال الزوج: أخبرتنى أن عدتها قد انقضت. فإن كان ذلك في مدة لا تنقضى في مثلها العدة لا يقبل قوله ولا قولها إن أخبرت. إلا أن تفسره بما هو محتمل من إسقاط سقط مستبين الخلق أو نحوه. وإن كان ذلك في مدة تنقضى في مثلها العدة؛ فإن صدقته أو كانت ساكتة أو غائبة فله أن يتزوج أخرى أو أختها إن شاء ذلك. وكذلك إن كذبته في قول علمائنا. كذا في المبسوط ويجوز لزوج المرتدة إذا لحقت بدار الحرب تزوج أختها قبل انقضاء عدتها كما إذا ماتت، فإن عادت مسلمة فإما بعد تزوج الأخت أو قبله. ففى الأول لا يفسد نكاح الأخت لعدم عودة العدة. وفى الثاني كذلك عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى؛ لأن العدة بعد سقوطها لا تعود بلا سبب جديد، وعندهما ليس له تزوج الأخت
(2)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح الخرشي): أنه إذا عقد الشخص على امرأة بنكاح فلا يحل له وطء أختها أو عمتها مثلًا بملك أو نكاح ما دامت الأولى في عصمته. اللهم إلا أن يبينها، إما بأن يخالعها أو يطلقها ثلاثًا أو واحدة وهى غير مدخول بها، أو بخروجها من العدة حيث كان الطلاق رجعيًّا. والقول قولها في عدم انقضاء عدتها؛ لأنها مؤتمنة على فرجها. فإذا ادعت احتباس الدم صدقت بيمينها لأجل النفقة إلى انقضاء السنة، فإذا ادعت بعدها تحركًا نظرها النساء فإن صدقنها لم تحل أختها مثلًا. وإلا لم يلزم الزوج التربص إلى أقصى مدة الحمل، قاله عبد الحق. يؤخذ من هذا أنه لابد من انقضاء العدة إذا كان الطلاق رجعيًّا فقط، أما إذا كان بائنًا فلا يشترط في حل من يحرم الجمع بينهما انقضاء العدة
(3)
.
(1)
شرح النيل: 3/ 618.
(2)
الفتاوى الهندية: 1/ 218، 219.
(3)
شرح الخرشي: 3/ 50.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج): أنه تحل الأخت ونحوها والخامسة للحر والثالثة لغيره في عدة بائن؛ لأنها أجنبية منه؛ لا في عدة رجعية ومتخلفة عن الإسلام ومرتدة بعد وطء وقبل انقضاء العدة لأنهن في حكم الزوجات
(1)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): أنه إذا وقع العقد على إحدى الأختين أو نحوهما ممن يحرم الجمع بينهما في عدة الأخرى بائنًا كانت أو رجعية بطل العقد
(2)
لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين"
(3)
ولأن البائنة محبوسة عن النكاح لحقه فأشبهت الرجعية.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى) بعد أن ذكر أنه لا يحل الجمع في استباحة الوطء بين الأختين من ولادة أو رضاع لا بزواج ولا بملك، قال: فإن أخرجها عن ملكه أو زوجها أو بانت حلت له التي كانت حرامًا عليه، وكذلك إن ماتت الزوجة أو طلقها ثلاثًا أو قبل الدخول حل له زواج الأخرى. وكذلك إن طلقها طلاقًا رجعيًا تمت عدتها منه
(4)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (البحر الزخار): أن من طلق قبل الدخول حلت له الأخت والخامسة فورًا إجماعًا لا الرجعى إلا بعد العدة إجماعًا
(5)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أنه إذا طلق واحدة من الأربع حرم عليه العقد على غيرها حتى تنقضى عدتها إن كان الطلاق رجعيًّا. ولو كان بائنًا جاز له العقد على الأخرى في الحال
(6)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): أنه يحرم الجمع بين أختين وإن كانتا من رضاع، ولو كان الجمع بِتَسَرٍّ أو إحداهما بِتَسَرٍّ والأخرى بزواج. وكذا بين البنت والأم والعمة والخالة، فإن الجمع بين محرمتين حرام؛ ولو بتزوج إحداهما أو خطبتها قبل تمام عدتها منه إلا إن كان الطلاق لا تصح فيه الرجعة
(7)
.
انقضاء مدة الإيلاء قبل الفئ أو الطلاق
مذهب الحنفية:
جاء في (شرح العناية) على الهداية: إن لم يقرب زوجته حتى مضت أربعة أشهر بانت منه بتطليقة؛ لأن معنى الإيلاء عندنا إن مضت أربعة أشهر ولم أجامعك فأنت طالقة تطليقة بائنة ولا تحتاج لتفريق القاضي؛ لأنه ظلمها بمنع حقها وهو الوطء في المدة فجازاه الشرع بزوال نعمة النكاح عند مضى المدة تخليصنا لها من ضرر التعليق ما دام حلف ألا يقربها في الأربعة أشهر. فوقع بائنًا. وهو المأثور عند عثمان وعلى والعبادلة الثلاثة وزيد بن ثابت رضى الله عنهم أجمعين. فإذا مضت أربعة أشهر ولم يقربها فلا يخلو إما أن يكون قد حلف على أربعة أشهر أو
(1)
نهاية المحتاج: 6/ 275.
(2)
كشف القناع: 3/ 43، 44.
(3)
ذكره الزيلعى في نصب الراية: (3/ 168) وقال: غريب. وذكره ابن حجر في الدراية (2/ 55) وقال: لم أجده.
(4)
المحلى: 9/ 521.
(5)
البحر الزخار: 3/ 34.
(6)
شرائع الإسلام: 2/ 18.
(7)
شرح النيل: 3/ 17، 18.
على الأبد. فإن كان قد حلف على أربعة أشهر فقد سقطت اليمين؛ لأنها مؤمنة به وإن كان الثاني فاليمين باقية لأنها يمين مطلقة ولم يوجد الحنث لترتفع به. إلا أنه لا يتكرر الطلاق قبل التزوج؛ لأنه لم يوجد منع الحق بعد البينونة إذ لا حق لها في الجماع بعدها. وهذا اختيار عامة المشايخ. وكان الفقية أبو سهيل الشرغى يقول: يتكرر الطلاق بتكرر المدة يعنى إذا مضت مدة الإيلاء قبل انقضاء عدتها؛ لأن الإيلاء في حق الطلاق بمنزلة شرط متكرر. فكأنه قال: كلما مضت أربعة أشهر ولم أقربك فيها فأنت طالق بائن. ألا ترى أنه لو لم يقربها حتى بانت ثم تزوجها ولم يقربها أربعة أشهر بانت. فدل ذلك على أنه بمنزلة شرط متكرر. والأصح قول العامة لما ذكرنا، أما إن عاد فتزوجها بعد البينونة بمضى أربعة أشهر - بعد انقضاء عدتها عاد الإيلاء. فإن وطئها في المرة وإلا وقعت تطليقة أخرى بمضى أربعة أشهر أخرى؛ لأن اليمين باقية لإطلاقها وبالتزوج حدث حقها فيتحقق الظلم فيزال بالطلاق البائن. فإن تزوجها ثالث عاد الإيلاء ووقعت بمضى أربعة أشهر أخرى إن لم يقريها؛ فإن تزوجها بعد زوج آخر لم يقع بذلك الإيلاء طلاق؛ لتقييده بطلاق هذا الملك. واليمين باقية لإطلاقها وعدم الحنث فيها. فإن وطئها كَفَّرَ عن يمينه لوجود الحنث
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح الخرشى): إن لم يحصل انحلال الإيلاء بوجه من الوجوه فللزوجة الحرة دون وليها صغيرة مطيقة أو كبيرة ولو سفيهة أو مجنونة المطالبة بعد الأجل - وهو أربعة أشهر - بالفيئة الآتى تفسيرها. هذا إذا لم يمتنع وطء الزوجة عقلًا كرتقاء، أو عادة كمريضة. أو شرعًا كحائض ومُحرِمة، وإلا فلا مطالبة لها. والفيئة المرادة هنا في اصطلاح الشرع مغيب الحشفة في القبل، فلو غيبها في دبرها فلا ينحل الإيلاء عنه، وافتضاض البكر فلا ينحل فيها بدونه. وإذا وطئها في حال جنونه فإنه ينحل الإيلاء بذلك الوطء لنيلها بوطئه ما تنال في صحته وسقطت مطالبتها.
أما إذا حَلَّ الأجل وكان المولِى مريضًا أو محبوسًا لا يقدر على الخلاص بما لا يجحف بماله، والغائب الغيبة البعيدة ومن في معناهم من كل ذي عذر منه أو منها كالحائض، فإذا كان المولى عند انقضاء الأجل غائبًا غيبة بعيدة مسافتها شهران فإنه يبعث إليه ليعلم ما عنده، فإن كانت غيبته أكثر من ذلك طلق الحاكم عليه لكن بعد مضى الأجل رجاء أن يقدم في الأجل. وفهم من هذا أنه معلوم الموضع وإلا فهو مفقود فيطلق عليه لغير الإيلاء لعدم نفقته ونحوها؛ لأن الإيلاء مع الفقد ساقط. فإذا طلبت الزوجة أو طلب السيد بعد الأجل الفيئة فقال المولى: لا أفئ أي أمتنع عن الوطء وعن الطلاق فإن الحاكم يوقع عليه طلقة يملك المولى فيها الرجعة من غير تلوم، وإن لم يمتنع من الوطء، بل قال عند ذلك: أنا أفئ ولم يفعل فإن الحاكم يختبره المرة بعد المرة إلى ثلاث مرات؛ فإن لم يفعل طلق عليه؛ وإذا ادعى المولى أنه جامعها في أجل الإيلاء وكذبته فإن يصدق في ذلك بيمينه،
(1)
شرح العناية على الهداية: 2/ 184 - 188.
ولا فرق بين البكر والثيب، فإن لم يدع الزوج الوطء ولا وعد به ومضى زمن الاختبار فإن الحاكم حينئذ يأمره بالطلاق لزوجته إذا طلبته الزوجة أو سيدها، فإن طلقها فلا كلام. وإن امتنع طَلَّقَ عليه الحاكم بلا تلوم، فإن لم يكن حاكم فصالحو البلد يقومون مقام الحاكم. وإذا رضيت المرأة بعد حلول أجل الإيلاء بالمقام معه بلا وطء وأسقطت حقها في الفيئة ثم رجعت عن ذلك الرضا وطلبت الفراق فلها أن توقعه من غير ضرب أجل، فإما أفاء وإلا طلق؛ لأنه أمر لا صبر عليه للنساء لشدة الضرر ودوامه فكأنها أسقطت ما لم تعلم قدره
(1)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج): يُمهل المولى أربعة أشهر رفقًا به فإذا انقضت ولم يطأها فيه فللمرأة دون وليها وسيدها مطالبته بعدها بأن يرجع إلى الوطء الذي امتنع عنه بالإيلاء أو يطلق، أي أن لها إن تردد الطلب بين الفيئة والطلاق. وقد صوب الزركشى وغيره ما ذكره الرافعى تبعا لظاهر النص أنها تطالبه بالفيئة، فإن لم يفئ طالبته بالطلاق؛ لأن نفسه قد لا تسمح بالوطء ولأنه لا يجبر على الطلاق إلا بعد الامتناع عن الوطء.
ولو تركت حقها بسكوتها عن مطالبته أو بإسقاط المطالبة عنه فلها المطالبة بعده ما لم تنته مدة اليمين، لتجدد الضرر هنا كالإعسار بالنفقة، فإذا انقضت المدة وكان بالمرأة مانع من الوطء كحيض ونفاس وصوم فرض أو مرض لا يمكن معه الوطء فليس لها المطالبة بفيئة ولا طلاق؛ لأن المطالبة إنما تكون لمستحق، وهى لا تستحق الوطء لتعذره من جهتها، وإن كان فيه مانع طبيعى يضر معه الوطء ولو بنحو بطء برء طولب بالفيئة بلسانه، بأن يقول: إذا قدرت فئت؛ لأنه يندفع به إيذاؤه لها ثم إذا لم يفئ طالبته بالطلاق. أما إذا كان به مانع شرعى كإحرام لم يقرب تحلله منه وصوم فرض ولم يستمهل إلى الليل وظهار ولم يستمهل إلى الكفارة بغير الصوم فالمذهب أنه يطالب بالطلاق؛ لأنه الممكن ولا يطالب بالفيئة لحرمة الوطء، ويحرم عليها تمكينه. والطريق الثاني أنه لايطالب بالطلاق بخصوصه ولكنه يقال له: إن فئت عصيت وأفسدت عبادتك. وإن طلقت ذهبت زوجتك، وإن لم تطلق طلقنا عليك. أما إذا قرب التحلل من الإحرام أو استمهل في الصوم إلى الليل أو في الكفارة إلى العتق أو الإطعام فإنه يمهل. فإن عصى بوطء سقطت المطالبة وتأثم بتمكينه قطعًا وإن أبى عند ترافعهما إلى الحاكم الفيئة والطلاق فالأظهر أن القاضي يطلق عليه بسؤالها طلقة واحدة وإن بانت بها نيابة عنه؛ إذ لا سبيل إلى دوام ضررها ولا إجباره على الفيئة لعدم دخولها تحت الإجبار. وإن اختلف الزوجان في إيلاء أو في انقضاء مدته صدق بيمينه عملًا بالأصل وإن اعترفت بالوطء بعد المدة وأنكره سقط حقها من الطلب عملًا باعترافها ولم يقبل رجوعها عنه لاعترافها بوصولها لحقها
(2)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): إذا صح الإيلاء
(1)
شرح الخرشى: 3/ 237 - 240.
(2)
نهاية المحتاج: 7/ 73 - 76.
لاجتماع شروطه ضربت له مدة أربعة أشهر، ولا يطالب بالوطء فيهن، فإذا مضت الأربعة الأشهر ولم يطأ ولم تعفه من آلى منها ورافعته إلى الحاكم أمره بالفيئة وهى الجماع، فإن أبى المُولى الفيئة أمره الحاكم بالطلاق. فإن لم يطلق المولى طَلَّقَ عليه الحاكم. أما إذا انقضت المدة وبالمرأة عذر يمنع الوطء كحيض وإحرام لم تملك طلب الفيئة ولا المطالبة بالطلاق، لأن الوطء ممتنع من جهتها، ولأن المطالبة مع الاستحقاق، وهى لا تستحق في هذه الأحوال.
وتتأخر المطالبة بالوطء أو الطلاق إلى حين زوال العذر، وإن كان العذر بالمولى وهو مما يعجز به عن الوطء من مرض أو حبس يعذر فيه بأن كان عليه دين لا يمكنه أداؤه أو غيره لزمه أن يفئ بلسانه في الحال فيقول: متى قدرت جامعتك؛ لأن القصد بالفيئة ترك ما قصده من الإضرار وقد ترك قصد الإضرار بما أتى به من الاعتذار. والقول مع العجز يقوم مقام فعل القادر. وإن كان المولى غائبًا لا يمكنه القدوم لخوف بالطرق أو نحوه فاء فيئة المعذور؛ لأنه متى قدرت جامعتها. وإن أمكنها الحضور فلها أن توكل من يطالبه بالسير إليها أو يحملها إليه ليوفيها حقها من الفيئة أو يطالبه بالطلاق إن لم يفعل؛ لأنه غير معذور إذن
(1)
.
مذهب الظاهرية:
قال ابن حزم -بعد أن بيَّن ما يكون به الإيلاء-: يلزم الحاكم أن يوقفه ويأمره بوطئها ويؤجل له في ذلك أربعة أشهر من حين يحلف سواء طلبت المرأة ذلك أو لم تطلب رضيت ذلك أو لم ترض، فإن فاء في داخل الأشهر الأربعة فلا سبيل عليه وإن أبى لم يعترض حتى تنقضى الأشهر الأربع، فإن تمت أجبره الحاكم بالسوط على أن يفئ فيجامع أو يطلق حتى يفعل أحدهما كما أمره الله عز وجل أو يموت قتيل الحق إلى مقت الله تعالى؛ إلا أن يكون عاجرًا عن الجماع لا يقدر عليه أصلًا فلا يجوز تكليفه ما لا يطيق. لكن يكلف أن يفئ بلسانه ويحسن الصحبة والمبيت عندها أو يطلق ولابد من أحدهما. ولا يجوز أن يطلق عليه الحاكم، فإن فعل لم يلزمه طلاق غيره، وسواء استثنى في يمينه أو لم يستثن. برهان ذلك قول الله عز وجل:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
(2)
فهذه الآية تقتضى كل ما قلنا
(3)
.
مذهب الزيدية:
جاء فى (شرح الأزهار): إذا آلى من زوجته رافعته إلى الحاكم بعد مضى أربعة أشهر فتطالبه برفع التحريم، وإن كانت قد عفت عن المطالبة فلها أن تطالبه إن رجعت عن العفو في مدة الإيلاء. فإن رجعت بعد مضيها لم يكن لها أن ترافعه بعد ذلك؛ لأنه قد ارتفع التحريم، فإن لم تعف عنه كان لها مطالبته بعد أربعة أشهر ولو قد مضت مدة الإيلاء عندنا. وولاية المرافمة في الإيلاء إلى الزوجة سواء كانت حرة أو أمة لا إلى الولى فلا يطالب لصغيرة أو مجنونة ولا للسيد
(1)
كشاف القناع: 3/ 223.
(2)
سورة البقرة الآيتان 226، 227.
(3)
المحلى: 9/ 178.
عن أمته؛ وإن رافعته إلى الإمام أو الحاكم أمره بأن يفئ أو يطلق
(1)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): إذا انقضت مدة التربص لم تطلق بانقضاء المدة، ولم يكن للحاكم طلاقها وإن رافعته فهو مخير بين الطلاق والفيئة، فإن طلق فقد خرج من حقها وتقع طلقة رجعية على الأشهر، وكذا إذا فاء، وإن امتنع عن الأمر حبس وضيق عليه حتى يفئ أو يطلق
(2)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): إن لم يمس زوجته حتى مضت الأشهر الأربعة بانت بالإيلاء أي انفصالها بحلفه؛ وهو طلاق واحد إن لم ينو أكثر ولا يملك رجعتها ويخطبها إن شاء في جملة الخطاب
(3)
.
انقضاء المدة التي يضربها القاضي للعنين
مذهب الحنفية:
جاء في (شرح العناية على الهداية): إذا كان الزوج عنينًا أجَّله الحاكم سنةٌ ابتداؤها من وقت الخصومة. فإن وصل إليها وإلا فرق الحاكم بينهما. إذا طلبت المرأة ذلك. وهو قول عمر وعلى وابن مسعود؛ لأن حقها ثابت في الوطء ويحتمل أن يكون الامتتاع لعلة معترضة ويحتمل أن يكون لآفة أصلية فلابد من مدة معرّفة لذلك وقدرناها بالسنة لاشتمالها على الفصول الأربعة؛ لأن العجز قد يكون لفرط رطوبة فيتداوى بما يضاده من اليبوسة أو بالعكس من ذلك. فإذا مضت ولم يصل إليها تبيَّن أن العجز بآفة أصلية ففات الإمساك بالمعروف ووجب عليه التسريع بالإحسان، فإذا امتنع ناب القاضي منابه ففرق بينهما. ولابد من طلبها؛ لأن التفريق حقها. وتلك الفرقة تطليقة بائنة؛ لأن فعل القاضي أضيف إلى الزوج فكأنه طلقها بنفسه، ولأن المقصد وهو دفع الظلم عنها ولا يحصل إلا بها؛ لأنها لو لم تكن بائنة تعود معلقة بالمراجعة
(4)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح الخرشى): أنه يتأجل المعترض سنة. وإذا ادعى بعد السنة أنه وطئ فيها صدق المعترض بيمينه بعد إقراره بالاعتراض وضرب الأجل. فإن لم يدع الوطء بعد انقضاء السنة بل وافقها على عدمه فإنه يؤمر بالطلاق إن اختارته الزوجة، فإن طلق الزوج فواضح وله أن يوقع من الطلاق ما شاء. وإن أبى أن يطلق فهل يطلق الحاكم عليه واحدة بائنة. فإن زاد لم يلزم الزائد بخلاف الزوج. أو يأمر الحاكم الزوجة بإيقاع الطلاق فتوقعه ثم يحكم بذلك؟ قولان
(5)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج): إذا ثبتت العنة ضرب القاضي له سنة بطلبها لقضاء عمر رضي الله عنه. وحكى فيه الإجماع، فإذا مضت السنة ولم يطأها
(1)
شرح الأزهار: 2/ 506.
(2)
شرائع الإسلام: 2/ 84.
(3)
شرح النيل 3/ 443 - 445.
(4)
شرح العناية على الهداية: 3/ 263، 264.
(5)
شرح الخرشى: 3/ 79. بتصرف.
علم أن عجزه خلقى ورفعته إلى الحاكم لامتناع استقلالها بالفسخ. فإن قال: وطئتُ فيها أو بعدها وهى ثيب حلف إن طلبت يمينه لتعذر إثبات الوطء؛ أما إذا كانت بكرا غير غوراء شهد ببكارتها أربع نسوة فتصدق هي؛ لأن الظاهر معها. ويحلف وجوبًا كما رجحه في (الشرح الصغير). فإن نكل عن اليمين حلفت هي على أنه لم يطأها؛ إذ النكول كالإقرار، فإن حلفت أو أقر هو بالعنة استقلت هي بالفسخ لكن بعد قول القاضي ثبتت العنة أو حق الفسخ، وقيل: يحتاج إلى إذن القاضي لها في الفسخ أو فسخه بنفسه. لاحتياجه إلى نظر واجتهاد، ورد بالاكتفاء بما سبق
(1)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (المغنى): أنه: إذا ادعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إليها أُجِّل سنة منذ ترافعه. فإن مضت السنة ولم يصبها فيها خيرت بين المقام معه أو فراقه، فإن اختارت فراقه لم يجز الفسخ إلا بحكم الحاكم؛ لأنه مختلف فيه، فإما أن يفسخ. وإما أن يرد إليها فتفسخ هي في قول عامة القائلين، ولا يفسخ حتى تختار الفسخ وتطلبه؛ لأنه لحقها فلا تجبر على استيفائه كالفسخ بالإعسار فإن فسخ فهو فسخ لا طلاق
(2)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في "المحلى": أنه من تزوج امرأة فلم يقدر على وطئها سواء كان وطئها مرة أو مرارًا أو لم يطأها قط فلا يجوز للحاكم ولا لغيره أن يفرق بينهما أصلًا، ولا أن يؤجل له أجلًا وهى امرأته إن شاء طلق وإن شاء أمسك
(3)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار): أنه لا يفسخ العنين إلا بعد استمهاله سنة شمسية غير أيام العذر، فلا تحسب عليه أيام الحيض والإحرام وصوم الفرض، فإذا انقضت المدة ولم يطأها فهل يكفى فسخ المرأة أم لابد من فسخ الحاكم؟ فحكى في (الزوائد) عن أحمد بن الحسين وأحد قولى الناصر: أنه يحتاج إلى حكم الحاكم ولا يكفى فسخها، وقال في (الكافى): لا يحتاج إلى حكم حاكم
(4)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أنه إذا ثبت العنين فإن صبرت فلا كلام، وإن رفعت أمرها إلى الحاكم أجّلَهُ سنةٌ من حين الترافع، فإن واقعها أو واقع غيرها فلا خيار، وإلا فلها الفسخ ونصف المهر
(5)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): أنه إن وجد فتل
(6)
بالزوج أتت واجدته به حاكمًا فيؤجِّله سنة. فإن قدر وإلا خرجت بلا طلاق إلا إن شاءت أن تقيم، وقيل: بطلاق ونسب للأكثر، ويتوارثان بموت فيها ما لم يفرق بينهما
(7)
.
(1)
نهاية المحتاج: 6/ 380 - 310.
(2)
المغنى: 7/ 604 - 618.
(3)
المحلى: 10/ 58.
(4)
شرح الأزهار: 2/ 300.
(5)
شرائع الإسلام: 2/ 31.
(6)
الفتل: استرخاء الذكر بحيث يكون كالفتيلة.
(7)
شرح النيل: 3/ 245 - 253.
انقضاء أجل الدَّين
مذهب الحنفية:
جاء في (حاشية ابن عابدين): لا يحبس في دين مؤجل؛ لأنه لا يطالب به قبل حلول أجله. وكذا لا يمنع من السفر قبل حلول الأجل، فإن حل منعه منه حتى يوفيه. وإذا حل الدين فللمرتهن أن يطالب الراهن بدينه ويحبسه به؛ لأن حقه باق بعد الرهن والرهن لزيادة الصيانة، فلا يمنع من المطالبة والحبس جزاء الظلم
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح الخرشى): أنه ينقضى أجل الدين المؤجل بإفلاس المدين أو بموته على المشهور؛ لأن الذمة في الحالتين قد خربت والشرع قد حكم بحلوله، ولأنه لو لم يحل للزم إما تمكين الوارث من القسم أو عدم تمكينه وكلاهما باطل؛ لقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
(2)
. ولا يحكم بالتفليس إلا بثلاثة شروط، الأول: أن يطالبه أرباب الديون بديونهم الحالَّة كلهم أو بعضهم. الثاني: أن يكون الدين المطلوب تفليسه به قد حل أصالة أو لانتهاء أجله؛ إذ لا حجر بدين مؤجل. الثالث: أن يكون الدين الحال زائدًا على مال المفلس؛ إذ لا حجر بالدين المساوى. أو يبقى من ماله بعد وفاء الحال ما لا يفى بالدين المؤجل
(3)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج): أنه يحل الدين بانقضاء أجله أو بالموت أو بالردة المتصلة به أو استرقاق الحربى، وفى (أصل الروضة) أنه يحل بالجنون. فمن له دين مؤجل فليس له أن يطالب به حتى يحل أجله، فإذا حل فإن كان المدين له مال يزيد على دينه الزمه الحاكم بقضاء دينه. فإن امتنع باع عليه أو أكرهه عليه، وإن كان المال بقدر الدين، فإن كان كسوبًا فلا يحجر عليه وإن لم يكن كسوبًا فالأصح ألا حجر عليه لتمكن الغرماء من المطالبة في الحال. والثانى: يحجر عليه كيلا يضيع المال في النفقة
(4)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (المغنى مع الشرح الكبير): أن من لزمه دين مؤجل لم يطالب به حتى يحل أجله فإذا انقضى أجله وأصبح حالًا فإن كان له مال يفى بالدين لم يحجر عليه لعدم الحاجة إلى ذلك. ويأمره الحاكم بالوفاء، فإن أبى حبسه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليُّ الواجد يُحل عِرضَه وعقوبَته.
(5)
فعقوبته حبسه، وعِرضه أن يغلظ له في القول. فيقال له: يا ظالم يا متعدى ونحو ذلك. فإذا حبس فصبر على الحبس ولم يقض الدين قضى الحاكم دينه من ماله وإن احتاج إلى بيع ماله في قضاء دينه باعه وقضى دينه؛ وإن كان له مال لا يفى بالدين فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم إذا اتفق الغرماء على طلبه، ولا يجوز الحجر عليه بغير سؤال غرمائه، وكذلك إن سأل بعضهم، ويجب إظهار الحجر والإشهاد عليه، فإن لم يظهر له مال وادعى
(1)
حاشية ابن عابدين: 2/ 223، فتح القدير 8/ 198. بتصرف.
(2)
سورة النساء: آية: 11.
(3)
شرح الخرشى: 4/ 176، 177.
(4)
نهاية المحتاج: 4/ 301 - 305.
(5)
ذكره البخاري معلقًا في كتاب الاستقراض .. باب لصاحب الحق مقال. وهو في سنن أبى داود: كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين وغيره. وسنن الترمذى. كتاب البيوع، باب مطل الغنى. وسنن ابن ماجه. كتاب الأحكام، باب الحبس في الدين والملازمة.
الإعسار فصدقه غريمه لم يحبس ووجب انتظاره ولم يجز ملازمته؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
(1)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): "أنه يسوَّى في الحكم بين جميع الديون متى ثبتت على المدين. سواء كانت مؤجلة وانقضى أجلها أو كانت حالَّة"
(2)
. وعلى هذا لم نجد داعيًا لذكر آرائهم في هذا الموضوع.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار): أنه يجب أن يحجر الحاكم على المدين بدين حالٍّ لا مؤجل قبل حلول أجله، وليس للحاكم أن يحجر على المدين إلا إن طلبه خصومه وهم أهل الدين، وإذا طلب البعض فإنه يلزم الحاكم أن يحجر لذلك الطلب فيكون الحجر لكلهم وللحاكم أن يبيع عليه ماله لقضاء دين الغرماء. وإنما يبيع عليه بعد تمرده من البيع بنفسه، وحكى عن الناصر وزيد بن علي أن الحاكم لا يبيع عليه بل يحبسه حتى إلا الدراهم والدنانير، قال في الكافى: ولا خلاف أنه يباع على المتمرد
(3)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أنه إذا حل أجل الدين وكانت أموال المدين قاصرة على الأداء فلصاحب الدين أن يطلب من الحاكم الحجر عليه. فإذا حجر عليه تعلق به منع التصرف لتعلق حق الغرماء واختصاص كل غريم بحق ماله وقسمت أمواله بين غرمائه. ومن وجد من الغرماء عين ماله أخذها ولو لم يكن سواها، ولو وجد بعض المبيع سليمًا أخذه وضرب بالباقى مع الغرماء. وإذ حل الأجل وتعذر الأداء كان للمرتهن البيع إذا كان وكيلًا وإلا رفع أمره إلى الحاكم ليلزمه بالبيع، فإن امتنع كان له حبسه وله أن يبيع عليه
(4)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل)؛ أنه إذا حل أجل الدين جاز لصاحبه لزوم المدين، وإذا انقضى أجل الدين جاز للمرتهن والمسلط على البيع بعد حلول أجل دينه بيع رهنه
(5)
.
(1)
المغنى مع الشرح الكبير: 4/ 456 - 463. والآية من سورة البقرة، رقم 280.
(2)
المحلى: 4/ 222.
(3)
شرح الأزهار: 4/ 287 - 288.
(4)
شرائع الإسلام: 1/ 200 - 203.
(5)
شرح النيل: 4/ 454، 5/ 593.
مصطلح انقطاع
التعريف اللغوى: انقطاع مصدر للفعل انقطع؛ وهو من أفعال المطاوعة، يقال: قطعته فانقطع، وهو فعل خماسى مزيد بالألف والنون، ومادته (قطع)، والقطع إبانة بعض أجزاء الجرم من بعض فصلًا: ويقال: قطعه يقطعه قطعًا وقطيعة وقطوعًا، وقطعه واقتطعه فانقطع وتقطَّع. شُدِّد للكثرة، ومقطع كل شئ ومنقطعه آخره حيث ينقطع كمقاطع الرمال والأودية. وقطع الماء قطعًا، شقه وجازه، وانقطع الشئ: ذهب وقته، ومنه قولهم: انقطع البرد والحر، وانقطع الكلام، أي وقف فلم يمض
(1)
.
التعريف الشرعى: لم يخرج الفقهاء في استعمالهم لمادة (انقطع، وقطع) عن المعنى اللغوى لها فقد وردت بمعنى انتهاء الشئ، ومن ذلك قولهم: من أحكام الحيض أن المرأة يلزمها الاغتسال إذا انقطع عنها الدم
(2)
. وكذلك قولهم: إذا انقطعت الجهة الموقوف عليها في حياة الواقف، بأن وقف على أولاده، أو أولاد زيد فقط، فانقرضوا في حياته رجع الوقف إلى الواقف وقفًا عليه
(3)
.
انقطاع دم الحيض والنفاس وما يترتب عليه:
مذهب الحنفية:
اختلف الحنفية في وجوب الغسل بالنسبة لدم الحيض والنفاس، هل الموجب للغسل هو خروج الدم أو انقطاعه؟ فجاء في (متن الكنز وشرحه
(4)
: يجب الغسل عند خروج دم حيض ونفاس، وخروجه بوصوله إلى فرجها الخارج، وإلا فليس بخارج فلا يكون حيضًا، أما الحيض فلقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}
(5)
بتشديد الطاء والهاء أي يغتسلن فلولا أن الغُسل واجب لما منع من حقه الواجب؛ وهو القربان، وقال في (الحواشى): والأصح أن الخروج من الحيض هو الموجب؛ لأن انقطاع الدم شرط لوجوب الاغتسال، واستحال أن يكون انقطاع السبب شرطًا لوجوب المسَّبب. وَعَلَّقَ الزيلعى على ذلك بقوله: وهذا فيه نظر؛ لأن الخروج عن الحيض ليس فيه إلا الطهارة، ومن المحال أن الطهارة توجب الطهارة، وإنما توجبها النجاسة، وهذا لأن الحيض منجس كسائر الأحداث
…
فوجب تطهيره منه؛ وإنما لم تغتسل قبل الانقطاع لعدم الفائدة؛ إذ الدم مستمره لا لأن الاغتسال لا يرفع الحدث المتقدم.
وإذا طهرت المرأة من الحيض وعليها من الوقت مقدار ما تغتسل فيه فعليها قضاء تلك الصلاة. وإن كان عليها من الوقت مقدار ما لا تستطيع أن تغتسل فيه فليس عليها قضاء تلك الصلاة. وهذا إذا كانت أيامها دون العشرة، فأما إذا كانت أيامها عشرة فانقطع الدم وقد مر عليها من الوقت شئ قليل أو كثير فعليها قضاء تلك الصلاة، هكذا فسره في نوادر أبى سليمان رحمه الله تعالى؛ لأنه إذا كانت أيامها عشرة فبمجرد انقطاع الدم تيقنا خروجها من الحيض؛
(1)
لسان العرب لابن منظور: 24/ 276، 278، 279، مادة (قطع).
(2)
المبسوط: 3/ 153.
(3)
كشاف القناع: 2/ 447، 448.
(4)
تبين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعى: 1/ 17.
(5)
سورة البقرة: الآية: 222.
لأن الحيض لا يكون أكثر من ذلك. فإذا أدركت جزءًا من الوقت لزمها قضاء تلك الصلاة سواء تمكنت فيه من الاغتسال أو لم تتمكن بمنزلة كافر أسلم وهو جنب أو صبى بلغ بالاحتلام في آخر الوقت فعليه قضاء تلك الصلاة سواء تمكن من الاغتسال في الوقت أو لم يتمكن. وأما إذا كانت أيامها دون العشرة فمدة الاغتسال من جملة حيضها على ما قال الشعبى: حدثنى سبعة عشر نفرًا من الصحابة أن الزوج أحق برجعتها ما لم تغتسل. وهذا لأن صاحبة هذه البلوى لا تكاد ترى الدم على الولاء ولكنه يسيل تارة وينقطع أخرى فبمجرد الانقطاع لا تخرج من الحيض لجواز أن يعاودها، فإذا اغتسلت يحكم بطهارتها شرعًا، فإذا ثبت أن مدة الاغتسال من حيضها قلنا: إذا أدركت من الوقت مقدار ما يمكنها أن تغتسل فيه وتفتتح الصلاة فقد أدركت جزءًا من الوقت بعد الطهارة فعليها قضاء تلك الصلاة وإلا فلا. وعلى هذا حكم القربان للزوج: إن كانت أيامها عشرة فمتى انقطع الدم جاز للزوج أن يقر بها عندنا، وعند زفر رحمه الله تعالى ليس له ذلك ما لم تغتسل؛ لقول الله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}
(1)
والأطهار بالاغتسال. ودليلنا أنه بمجرد انقطاع الدم تيقنا خروجها من الحيض والمانع من الوطء الحيض لا وجوب الاغتسال عليها، ألا ترى أن الطاهرة إذا كانت جنبًا فللزوج أن يقربها. فكذلك هنا بعد التيقن بالخروج من الحيض للزوج أن يقربها، ولو كانت أيامها دون العشرة فانقطع دمها لم يكن للزوج أن يقربها ما لم تغتسل؛ لأن مدة الاغتسال من حيضها، فإن مضى عليها وقت صلاة فللزوج أن يقربها عندنا، وقال زفر رحمه الله تعالى: ليس له ذلك لبقاء فرض الاغتسال عليها، كما لو كان قبل مضى الوقت.
وإذا انقطع دم المرأة دون عادتها المعروفة في حيض أو نفاس اغتسلت حين تخاف فوت الصلاة وصلت وتجنبها زوجها احتياطًا حتى تأتى على عادتها؛ لأن حيض المرأة لا يبقى على صفة واحدة في جميع عمرها بل يزداد تارة وينقص أخرى، فالانقطاع قبل تمام عادتها طهر ظاهر على احتمال أن لا يكون طهرًا بأن يعاودها الدم، فإن الدم لا يسيل في زمان الحيض على الولاء فينبغى لها أن تأخذ بالاحتياط.
مذهب المالكية:
جاء في (الشرح الكبير)
(2)
: أن أكثر الحيض للمبتدأة غير حامل تمادى بها الدم نصف شهر أي خمسة عشر يومًا؛ فإن انقطع قبله طهرت مكانها، وليس المراد بتماديه استغراقه الليل والنهار بل إذا رأت باستمراره قطرة في يوم أو ليلة حسبت ذلك اليوم أو صبيحة تلك الليلة يوم دم، وإن كانت تغتسل وتصلى كلما انقطع كأقل الطهر فإنه نصف شهر لمبتدأة وغيرها، ولا حد لأكثره. قال في المدونة: والتي أيامها غير ثابتة تحيض في شهر خمسة أيام؛ وفى آخر أقل أو أكثر إذا تمادى بها الدم تستظهر على أكثر أيامها وإذا رأت الطهر يومًا والدم يومًا أو يومين واختلط هكذا لفقت من أيام الدم عدة أيامها التي كانت تحيض وألغت أيام الطهر ثم تستظهر
(1)
سورة البقرة: الآية: 222.
(2)
الشرح الكبير: 1/ 168، 169.
بثلاثة أيام؛ فإن اختلط عليها الدم في أيام الاستظهار أيضا لفقت ثلاثة أيام من أيام الدم هكذا ثم تغتسل وتصير مستحاضة بعد ذلك والأيام التي استظهرت بها هي فيها حائض وهى مضافة إلى الحيض رأت بعدها دمًا أم لاء إلا أنها في أيام الطهر التي كانت تلغيها تتطهر عند انقطاع الدم في خلال ذلك وتصلى وتصوم وتوطأ وهى فيها طاهر، وليست تلك الأيام بطهر تعتد به في عدة من طلاق؛ لأن ما قبلها وما بعدها من الدم قد ضُم بعضه إلى بعض فجعل حيضة واحدة.
مذهب الشافعية:
جاء في (المهذب)
(1)
: أنه إذا رأت المرأة الدم لسن يجوز أن تحيض فيه أمسكت عما تمسك عنه الحائض، فإن انقطع لدون اليوم والليلة كان ذلك دما فاسدًا فتتوضأ وتصلى، وإن انقطع ليوم وليلة أو لخمسة عشر يومًا أو لما بينهما فهو حيض فتغتسل عند انقطاعه سواء كان الدم على صفة دم الحيض أو غير صفته، وسواء كان لها عادة فخالفت عادتها أو لم تكن. ويقاس النفاس على الحيض فيما ذكر، والوطء بعد انقطاع الدم إلى الطهر كالوطء في آخر الدم كما في المجموع.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع)
(2)
: أنه إذا انقطع الدم أي الحيض أو النفاس - أبيح فعل الصيام؛ لأن وجوب الغسل لا يمنع فعله كالجنب، وأبيح الطلاق؛ لأن تحريمه لتطويل العدة بالحيض وقد زال ذلك ولم يبح غيرهما حتى تغتسل، قال ابن المنذر: هو كالإجماع، وحكى إسحاق بن راهويه إجماع التابعين؛ لأن الله شرط لحل الوطء شرطين: انقطاع الدم والغسل فقال: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}
(3)
أي ينقطع دمهن {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي اغتسلن بالماء فأتوهن كذا فسر ابن عباس. وإن انقطع الدم لأقل الحيض، فإن انقطع عند مضى اليوم والليلة كان حيضًا؛ لأنه الأصل واغتسلت له؛ لأنه آخر حيضها، وإن جاوز الدم أقل الحيض بأن زاد على يوم بليلته ولم يجاوز الأكثر أي أكثر الحيض، وهو خمسة عشر يومًا بأن انقطع لخمسة عشر فما دونها لم تجلس المجاوز؛ لأنه مشكوك فيه بل تغتسل عقب أقله أي الحيض؛ لأنه آخر حيضها حكمًا أشبه آخره حسًا وتصوم وتصلى فيما جاوزه؛ لأن المانع منهما هو الحيض وقد حكم بانقطاعه، ويحرم وطؤها في الدم أي زمن المجاوز لأقل الحيض قبل تكراره نصًا؛ لأن الظاهر أنه حيض، وإنما أمرناها بالعبادة احتياطًا لبراءة ذمتها فتعين ترك وطئها احتياطًا، فإن انقطع الدم يومًا فأكثر أو أقل قبل مجاوزة أكثره اغتسلت عند انقطاعه لاحتمال أن يكون آخر حيضها فلا تكون طاهرًا بيقين إلا بالغسل وحكمها حكم الطاهرات في الصلاة وغيرها؛ لأنها طاهرة لقول ابن عباس: أما من رأت الطهر ساعة فلتغتسل ويباح وطؤها إذا اغتسلت بعد انقطاع دمها؛ لأنها طاهرة. فإن عاد الدم فكما لو لم ينقطع؛ لأن الحكم يدور مع علته وتغتسل عند انقطاعه أي الدم غسلًا ثانيًا. تفعل ذلك الفعل وهو جلوسها يوما وليلة وغسلها عند آخرها. ولاحد لأقل النفاس؛ لأنه لم يرد في
(1)
المهذب: 1/ 39 - 42.
(2)
كشاف القناع: 1/ 142 - 145.
(3)
سورة البقرة آية: 122.
الشرع تحديده فيرجع فيه إلى الوجود؛ وقد وجد قليلًا عقب سببه فكان نفاسًا كالكثير فيثبت حكم النفاس من وجوب الغسل ونحوه ولو بقطرة؛ وعنه أقله يوم؛ فإن انقطع الدم في مدته أي في الأربعين يوم فهى طاهر لانقطاع دم النفاس كما لو انقطع دم الحائض في عادتها. ويكره وطؤها قبل الأربعين بعد التطهير، قال أحمد: ما يعجبني أن يأتيها زوجها على حديث عثمان بن أبى العاص أنها أتته قبل الأربعين فقال: لا تقربينى. ولأنه لا يأمن عود الدم في زمن الوطء فإن عاد الدم بعد انقطاعه في الأربعين يومًا فمشكوك في كونه نفاسًا أو فسادًا؛ لأنه تعارض فيه الأمارات كما لو لم تر الدم مع الولادة ثم رأته في المدة أي في الأربعين فمشكوك فيه فتصوم وتصلى أي تتعبد؛ لأنها واجبة في ذمتها بيقين وسقوطها بهذا الدم مشكوك فيه، وفى غسلها لكل صلاة روايتان قال في تصحيح الفروع: الصواب عدم الوجوب.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى)
(1)
: انقطاع دم الحيض في مدة الحيض ومن جملته دم النفاس يوجب الغسل لجميع الجسد والرأس وهذا إجماع متيقن. وإذا رأت الحائض الطهر لم تحل لها الصلاة ولا الطواف بالكعبة حتى تغسل جميع رأسها وجسدها بالماء، أو تتيمم إن عدمت الماء أو كانت مريضة عليها في الغسل حرج. وإن أصبحت صائمة ولم تغتسل فاغتسلت أو تيممت إن كانت من أهل التيمم - بمقدار ما تدخل في صلاة الصبح صح صيامها، وهذا كله إجماع متيقن، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وإذا أدبرت الحيضة فتطهرى"
(2)
ولقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ}
(3)
وقد أخبر عليه السلام أن الأرض طهور إذا لم نجد الماء فوجب التيمم للحائض عند عدم الماء، وفى تأخيرها الغسل والتيمم عن هذا المقدار خلاف. وأما وطء زوجها أو سيدها لها إذا رأت الطهر فلا يحل إلا بأن تغسل جميع رأسها وجسدها بالماء أو بأن تتيمم إن كانت من أهل التيمم، فإن لم تفعل فبأن تتوضأ وضوء الصلاة أو تتيمم إن كانت من أهل التيمم، فإن لم تفعل فبأن تغسل فرجها بالماء ولابدّ أي هذه الوجوه الأربعة، فإن فعلت حل له وطؤها وبرهان ذلك قول الله سبحانه وتعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}
(4)
. فقوله: حتى يطهرن معناه حتى يحصل لهن الطهر الذي هو عدم الحيض، وقوله تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} هو صفة فعلهن، وكل ما ذكرنا يسمى في الشريعة وفى اللغة تطهرًا وطهورًا وطهرًا فأى ذلك فعلت فقد تطهرت. ولم يختلف أحد في أن دم النفاس إن كان دفعة ثم انقطع الدم ولم يعاودها فإنها تصوم وتصلى ويأتيها زوجها. ثم قال ابن حزم: إن رأت الجارية الدم أول ما تراه أسود فهو دم حيض كما قدمنا تدع الصلاة والصوم ولا يطؤها بعلها أو سيدها، فإن تلون أو انقطع إلى سبعة عشر يومًا فأقل فهو طهر صحيح تغتسل وتصلى
(1)
المحلى: 2/ 25.
(2)
ورد في السنن الكبرى للنسائى بلفظ فإذ أدبرت الحيضة فاغتسلى، وكذا في غيره من الكتب، انظر: السنن الكبرى باب الفصل بين ماء الرجل وماء المرأة.
(3)
،
(4)
سورة البقرة: آية: 222.
وتصوم ويأتيها زوجها، وإن تمادى أسود تمادت على أنها حائض إلى سبع عشرة ليلة، فإن تمادى بعد ذلك أسود فإنها تغتسل ثم تصلى وتصوم ويأتيها زوجها وهى طاهر أبدًا لا ترجع إلى حكم الحائض إلا أن ينقطع أو يتلون كما ذكرنا فيكون حكمها إذا كان أسود حكم الحيض، وإذا تلون أو انقطع أو زاد على السبع عشرة حكم الطهر.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار)
(1)
أنه: إذا انقطع دم الحيض لدون ثلاث صلت - بالوضوء لا بالغسل - وعملت بأحكام الطهر. فإن تم ذلك الانقطاع طهرًا بأن استمر عشرة أيام كوامل قضت الفائت من الصلوات التي تركتها حال رؤية الدم. وإن لم يتم ذلك الانقطاع طهرًا بل عاد الدم قبل مضى عشرة أيام تحيضت أي عملت بأحكام الحيض ثم تفعل كذلك حال رؤية الدم وحال انقطاعه. وظاهر إطلاقهم أنه يجوز وطؤها حال انقطاع الدم مع الكراهة؛ وقال في (شرح البحر): لا يجوز تغليبًا لجنبة الحظر. وإذا امتنعت الزوجة من الغسل أو التيمم عند انقطاع الدم قال الفقيه يحيى بن أحمد: لا يجوز وطؤها وإن طالت المدة ذكره في (الكافى). وقال في (زوائد الإبانة): إذا امتنعت من التيمم جاز لزوجها وطؤها من غير تيمم، وإن امتنعت من الغسل مع القدرة على الماء لم يجز وطؤها. وإن انقطع الحيض ولو قبل الطلاق تربصت أي ليس لها أن تعتد بالأشهر بل تنتظر الحيض حتى يعود فتبنى إذا عاد الحيض وقد كانت حاضت بعد الطلاق ولا تستأنف أو حتى تيأس عن رجوع الحيض؛ وذلك بأن يبلغ عمرها ستين سنة؛ فإذا أيست عن رجوع الحيض ببلوغ هذه المدة فتستأنف العدة بالأشهر ولا تبنى على ما قد مضى من الحيض إذا كانت قد حاضت. وهل يكره وطء النفساء ولو انقطع دمها قبل كمال عشرة أيام في الانقطاع؟ قال الإمام يحيى: يكره وهو المروى عن علي عليه السلام وابن عباس. فإن جاوز الأربعين فكالحيض إذا جاوز العشر في أن المبتدأة ترجع إلى عادتها فإنها والمعتادة ترجع إلى عادتها، فإن جاوز دمها الأربعين وكان ما بعد الأربعين وقت حيضها فهو استحاضة، ذكره المؤيد بالله لئلا يؤدى إلى توالى الحيض والنفاس من غير تخليل طهر. ولا يعتبر الدم في انقضاء العدة به أي بالنفاس، وهذا الحكم مجمع عليه.
مذهب الإمامية:
جاء في (الروضة البهية)
(2)
أنه: يجب على النفساء إذا انقطع دمها في الظاهر الاستظهار بإدخال قطنة أو نحوها والصبر قليلًا وإخراجها وملاحظتها، وإذا استمر الدم إلى ما بعد العادة في الحيض يستحب لها الاستظهار بترك العبادة يومًا أو يومين أو إلى عشرة في غير ذات العادة ووجوب قضاء الصوم دون الصلاة وعدم جواز وطئها وطلاقها ومس كتابة القرآن واسم الله وقراءة آيات السجدة ودخول المساجد والمكث فيها؛ وكذا في كراهة الوطء بعد الانقطاع وقبل الغسل. وكذا في كراهة الخضاب وقراءة القرآن ونحو ذلك. وكذا في استحباب الوضوء أوقات
(1)
شرح الأزهار: 1/ 153، 154، 158.
(2)
الروضة البهية: 1/ 30، 31.
الصلوات والجلوس في المصلى والاشتغال بذكر الله بقدر الصلاة؛ وألحقها بعضهم بالحائض في وجوب الكفارة إذا وطئها وهو أحوط، لكن الأقوى عدمه.
مذهب الإباضية:
جاء في (الإيضاح)
(1)
: أيام الانتظار في حكم الحيض على الأصح، وهو قول ابن عباس ويدل له حديث "استظهرى بثلاثة أيام ثم اغتسل وصلى"
(2)
فلم يأمرها بالإعادة. وكذا أيام الانتظار في النفاس في حكم النفاس؛ فالنفاس كالحيض؛ وقيل: أيام الانتظار فيهما على الاحتمال أن ينقطع ولا يرجع فيكون في حكم الطهر أولًا؛ فإن لم تر فيها جميعًا دمًا بل انقطع ولم يرجع حتى تحت أو رأت الصفرة أو نحوها فقط أعادت ما تركت فيها من الصلاة لانكشاف أنها في حكم الطهر بعدم عمومها بالدم مع عدم رجوعه حتى تحت، فهى تترك الصلاة إذا انقطع؛ لأنها لا تدرى هل يرجع فإذا حتت ولم يرجع أعادت: وإن رجع ولم ينقطع حتى تحت لم تعد الصلاة وقيل بعكس ذلك.
وعلى قول من قال: إن أيام الانتظار في حكم الطهر إن صلت وصامت فيها أداء أو قضاءً فقيل: تؤمر بالقضاء ولا يجزيها ذلك؛ لأنها صلت وصامت لا على يقين أنها أيام طهر؛ ولو وافقت إذ لا تدرى لعلها يأتيها الدم فيها؛ وبعض أصحابنا يوجب عليها إعادة اليوم واليومين اللذين تركت فيهما الصلاة إلا أن ينقطع الدم فيهما فلا يوجبون عليها إعادتهما.
(1)
الإيضاح:1/ 211، 212 وشرح النيل 1/ 173.
(2)
الحديث بهذا اللفظ عن جابر رضي الله عنه في مسند الربيع بن حبيب الأذرى:1/ 222. ط/ دار الحكمة - بيروت.
انقطاع الأذان
مذهب الحنفية:
جاء في (المبسوط)
(1)
: ومثله في (الفتاوى الهندية): أنه، إن غشى على المؤذن أو المقيم ساعة في الأذان أو الإقامة ثم أفاق فأحب إليّ أن يبتدئها من أولها، ألا ترى أنه لو غشى عليه في الصلاة لم يبن علي صلاته فكذلك فيما هو من أسباب الصلاة، وإن رعف فيها أو أحدث فذهب وتوضأ ثم جاء فأحب إليّ أن يبتدئها من أولها؛ لأن بذهابه انقطع النظم فربما يشتبه على الناس أنه كان يؤذن أو يتعلم كلمات الأذان، والأولى له إذا أحدث في أذانه أو إقامته أن يتمها ثم يذهب فيتوضأ ويصلى؛ لأن ابتداء الأذان أو الإقامة مع الحدث يجوز فإتمامه أولى. وإذا وقع في إقامته فمات أو أغمى عليه فأحب إلى أن يبتدئ الإقامة غيرُه من أولها؛ لأن عمله قد انقطع بالموت ولا بناء على المنقطع. وجاء في الفتاوى الهندية أن المؤذن إذا حصر في خلال الأذان أو الإقامة ولم يكن هناك من يلقنه يجب الاستقبال، وكذا إذا خرس أحدهما وعجز عن الإتمام يستقبل غيره كذا في فتاوى قاضيخان. وإذا وقف في خلال الأذان يعيده إذا كانت الوقفة بحيث تعتبر فاصلة، وإن كانت يسيرة من التنخم والسعال لا يعيد، هكذا في التتارخائية. ولا ينبغى للمؤذن أن يتكلم في الأذان أو في الإقامة أو يمشى، فإن تكلم بكلام يسير لا يلزمه الاستقبال.
مذهب المالكية:
جاء في (الحطاب)
(2)
أنه: لا يفصل بين كلمات الأذان والإقامة بكلام ولا سلام ولا رده ولو بإشارة لرد سلام أو غيره ولا بغير ذلك، قال في المدونة: ولا يتكلم في أذانه ولا في تلبيته ولا برده على من سلم عليهما، قال سند: أما كلامه فمكروه لا يختلف فيه. وقال زروق في (العمدة): ويمنع الأكل والشرب والكلام ورد السلام. وقال الشيخ في (شرح الإرشاد): وأما اشتغاله بأمر عادى من أكل أو كلام فلا يجوز ابتداء، فإن اضطر للكلام مثل أن يخاف على صبى أو دابة أو أعمى أن يقع في بئر فإنه يتكلم ويبنى.
قال ابن ناجى في (شرح المدونة): ما لم يطل فإن أطال ابتدأ ولو كان لحفظ آدمى، نص عليه اللخمى ثم قال في (الطراز): إذا قلنا لا يرد بإشارة ولا غيرها فإنه يرد بعد فراغه. وقال ابن عرفة: ولا يتكلم فيه ولا يرد سلامًا ويرده بعده. وإن رعف مقيم أو أحدث قطع وأقام غيره، وإن رعف مؤذن تمادى فإن قطع وغسل الدم ابتدأ، قال اللخمى: إن قرب يبنى. وإن أراد غيره، أن يبنى على أذانه فلا يفعل وليبتدئ ثم قال في (الطراز): فإن أغمى عليه في بعض الأذان أو جن ثم أفاق بنى فيما قرب، وقال أشهب: في الإقامة.
مذهب الشافعية:
جاء في (المجموع)
(3)
أن: الموالاة بين كلمات الأذان مأمور بهاء فإن سكت يسيرًا لم يبطل أذانه
(1)
المبسوط: 1/ 138 - 139، وكذلك الفتاوى الهندية: 1/ 55.
(2)
مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: 1/ 427 - 428.
(3)
المجموع شرح المهذب: 3/ 133 - 114 - 115.
بلا خلاف بل يبنى، وإن تكلم في أثناه فمكروه بلا خلاف. قال أصحابنا: فإن عطس حمد الله في نفسه وبنى، وإن سَلَّمَ عليه إنسان أو عطس لم يجبه ولم يشمته حتى يفرغ. فإن أجابه أو شمته أو تكلم بغير ذلك لمصلحة لم يكره وكان تاركًا للفضل، ولو رأى أعمى يخاف وقوعه في بئر أو حية تدب إلى غافل أو نحو ذلك وجب إنذاره ويبنى على أذانه. وإذا تكلم فيه لمصلحة أو لغير مصلحة لم يبطل أذانه إن كان يسيرًا؛ لأنه ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكلم في الخطبة فالأذان أولى أن لا يبطل فإنه يصح مع الحدث وكشف العورة وقاعدًا وغير ذلك من وجوه التخفيف، وهذا الذي ذكرناه من أنه لا يبطل أذانه باليسير هو المذهب، وبه قطع الأصحاب إلا الشيخ أبا محمد فتردد فيه إذا رفع به الصوت؛ والصحيح قول الأصحاب. وإن طال الكلام أو سكت سكوتًا طويلًا أو نام أو أغمى عليه في الأذان ثم أفاق ففى بطلان أذانه طريقان أحدهما: لا يبطل قولا واحد وبه قطع العراقيون وهو نص الشافعي رحمه الله تعالى في الأم. والثانى: في بطلانه قولان وهو طريقة الخراسانيين قالوا: والنوم والإغماء وأولى بالإبطال من الكلام، والكلام أولى بالإبطال من السكوت. قال الرافعى: الأشبه وجوب الاستئناف عند طول الفصل. وحمل النص على الفصل اليسير، قال أصحابنا: والجنون هنا كالإغماء وممن صرح به القاضي أبو الطيب والمارودى والمحاملى والمتولى وغيرهم، ثم في الإغماء والنوم إذا لم توجب الاستئناف لعلة الفصل أو مع طوله على قولنا لا يبطل الطويل - يستحب الاستثناف نص عليه في (الأم)؛ واتفق الأصحاب عليه. وكذا يستحب في السكوت والكلام الكثيرين إذا لم نوجبه، فإن كان الكلام يسيرا لم يستحب الاستئثناف على أصح الوجهين وبه قطع الأكثرون. كما لا يستحب الاستئناف عند السكوت اليسير بلا خلاف. والوجه الثاني: يستحب ورجحه صاحب (الشامل) و (التتمة)؛ لأنه مستغن عن الكلام بخلاف السكوت، ثم إذا قلنا يبنى مع الفصل الطويل فالمراد ما لم يفحش الطول بحيث لا يعد مع الأول أذانًا. وحيث قلنا لا يبطل بالفصل المتخلل فله أن يبنى عليه بنفسه ولا يجوز لغيره على المذهب وهو المنصوص في (الأم) وبه قطع العراقيون لأنه لايحصل به إعلام. وأما إذا تكلم في الإقامة كلامًا يسيرًا فلا يضر، هذا مذهبنا وبه قال الجمهور، وحكى صاحب (البيان) عن الزهرى أنه قال: تبطل إقامته. دليلنا أنه إذا لم تبطل الخطبة وهى شرط لصحة الصلاة فالإقامة أولى، قال الشافعي في (الأم): ما كرهت له في الكلام في الأذان كنت له في الإقامة أكره. قال: فإن تكلم في الأذان والإقامة أو سكت فيهما سكوتا طويلًا أحببت أن يستأنف ولم أوجبه، وإن ارتد في أثناء الأذان لم يصح بناؤه في حال الردة فإن أسلم وبنى فالمذهب أنه إن لم يطل الفصل جاز البناء، وإلا فقولان: الصحيح منعه، وقيل في جوازه قولان مطلقًا.
مذهب الحنابلة:
جاء فى (المغنى والشرح الكبير)
(1)
أنه: لا يستحب أن يتكلم في أثناء الأذان وكرهه طائفة
(1)
المغنى: 1/ 441 - 442.
من أهل العلم، قال الأوزاعى: لم نعلم أحدًا يُقتدى به فعل ذلك. ورخَّص فيه الحسن وعطاء وقتادة، فإن تكلم بكلام يسير جاز، وإن طال الكلام بطل الأذان فلا يعلم أنه أذن، وكذلك لو سكت سكوتًا طويلًا ونام نومًا طويلًا أو أغمى عليه أو أصابه جنون يقطع الموالاة بطل أذانه. وإن كان الكلام يسيرًا محرمًا كالسب ونحوه، فقال أصحابنا: فيه وجهان أحدهما: لا يقطعه لأنه لا يخل بالمقصود فأشبه المباح، والثانى: يقطعه لأنه محرم فيه، وأما الإقامة فلا ينبغى أن يتكلم فيها لأنها يستحب حدرها
(1)
وأن لا يفرق بينها. قال أبو داود: قلت لأحمد الرجل يتكلم في أذانه؟ فقال: نعم فقيل: يتكلم في الإقامة فقال: لا وليس للرجل أن يبنى على أذان غيره؛ لأنه عبادة بدنية فلا يصح من شخصين كالصلاة. والردة تبطل الأذان إن وجدت في أثنائه، وإن وجدت بعده فقال القاضي: قياس قوله في الطهارة أن تبطل أيضًا، والصحيح أنه لا تبطل؛ لأنها وجدت بعد فراغه وانقضاء حكمه بحيث لا يُبطله شئ من مبطلاته، فأشبه سائر العبادات إذا وجدت بعد فراغه منها بخلاف الطهارة فإنها تبطل بمبطلاتها فالأذان أشبه بالصلاة في هذا الحكم منه بالطهارة.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى)
(2)
أنه: من عطس في أذانه وإقامته ففرض عليه أن يحمد الله تعالى، وإن سمع عاطسًا يحمد الله تعالى ففرض عليه أن يشمته في أذانه وإقامته؛ وإن سلم عليه في أذانه وإقامته ففرض عليه أن يرد بالكلام، ثم الكلام المباح كله جائز في نفس الأذان والإقامة. قال الله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}
(3)
. فلم تخص النصوص حال الأذان والإقامة من غيرهما ولا جاء نهى قط عن الكلام في نفس الأذان، وروينا عن وكيع عن محمد بن طلحة عن جامع بن شداد عن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمى عن سليمان بن صرد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يؤذن للمعسكر فكان يأمر غلامه في أذانه بالحاجة
(4)
؟ وعن وكيع عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصرى قال: لا بأس أن يتكلم في أذانه للحاجة.
مذهب الزيدية:
جاء في (الأزهار)
(5)
أنه: إذا عرض للمؤذن أو المقيم ما يمنع من الإتمام للأذان أو للإقامة، أو استكمل الأذان وغير من الإقامة فإنها تصح من غيره النيابة عنه فيما قد بقى فيقيم ذلك الغير ويصح البناء على ما قد فعل فيتم غيره الأذان أو الإقامة ويبنى على ما قد فعله الأول، ولا يجب الاستئناف، ولا يصح ذلك كله إلا للعذر إذا عرض للأول نحو أن يؤذن ثم يحدث أو يعرض له عارض يؤخره عن الإقامة، واختلف في حده فقال الفقيه على: وقتًا يتضرر به المنتظرون للصلاة؛ وقيل: وقتًا يسع الوضوء، فلو أقام غير
(1)
يقال في اللغة: حدر الأذان والإقامة: أي أسرع فيهما. المعجم الوسيط: 1/ 111 (مادة حدر).
(2)
المحلى: 3/ 143 مسألة رقم 227.
(3)
سورة النساء؛ آية: 86.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، باب: من رخّص للمؤذن أن يتكلم في أذانة.
(5)
شرح الأزهار: 1/ 222 - 223.
المؤذن للعذر ثم حضر فإن كان بعد الإحرام للصلاة فلا حق له بلا إشكال، وإن كان قبل الإحرام قال الإمام محمد بن يحيى: الأحوط إقامة. قال المهدى عليه السلام: والأقرب عندى خلافه إذ هو فرض كفاية والأذان للنيابة عن المؤذن كالعذر، فكما تصح النيابة للعذر عندنا تصح للأذان. فإذا أذن وأمر غيره بالإقامة صحت إقامة الغير وإن لم يكن ثم عذر للمؤذن.
مذهب الإمامية:
جاء في (العروة الوثقى)
(1)
: أنه من المستحبات في الأذان والإقامة عدم التكلم في أثنائهما بل يكره بعد قد قامت الصلاة للمقيم ولغيره أيضًا في صلاة الجماعة، إلا في تقديم إمام، بل مطلق ما يتعلق بالصلاة كتسوية صف ونحوه. ولو نام في خلال أحدهما أو جن أو أغمى عليه أو سكر ثم أفاق جاز له البناء ما لم تفت الموالاة مراعيًا لشرطية الطهارة في الإقامة. لكن الأحوط الإعادة فيها مطلقًا خصوصًا في النوم، وكذا لو ارتد عن ملة ثم تاب.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل)
(2)
أن: القئ والرعاف والحدث يبنى معهما - يعنى في الأذان والإقامة - بأن يتوضأ ثم يتم الباقى قياسًا على الصلاة وهل يعيد إن تكلم معه أو أكل أو شرب؟ قولان، ثالثهما إن تكلم بغير حاجة أعاد، أو بحاجة فلا إعادة عليه.
(1)
العروة الوثقى: 5/ 586 - 587.
(2)
شرح النيل: 1/ 320.
انقطاع الصلاة
مذهب الحنفية:
جاء في (المبسوط): إذا افتتح الرجل صلاة المكتوبة في المسجد وحده ثم أقيم له فيها ففى ذوات الأربع كالظهر والعصر والعشاء إن كان صلى ركعة أضاف إليها أخرى وقعد وسلم، ثم دخل مع الإمام؛ لأنه لو قطعها كذلك كان مبطلًا عمله، فإن الركعة الواحدة لا تكون صلاة فيضيف إليها ركعة أخرى ليصير شفعًا ثم يسلم فيدخل مع الإمام لإحراز فضيلة الجماعة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة"
(1)
.
وكذلك إن قام إلى الثالثة ولم يقيدها بالسجدة عاد فقعد وسلم لكيلا تفوته فضيلة الجماعة، ولا يسلم كما هو قائمًا؛ لأن ما أتى به من القعدة كان سنة، وقعدة الختم فرض، فعليه أن يعود إلى القعدة ثم يسلم ليكون متنفلًا بركعتين، فإن قيد الثالثة بالسجدة مضى في صلاته؛ لأنه أتى بأكثرها، وللأكثر حكم الكمال فإذا فرغ منها دخل مع الإمام في الظهر والعشاء بنية النفل؛ لأن التنفل بعدهما جائز. فأما في العصر فلا يدخل؛ لأن التنفل بعده مكروه. وإذا كان في الركعة الأولى ولم يقيدها بالسجدة فالصحيح أنه يقطعها ليدخل مع الإمام فيحرز به ثواب تكبيرة الافتتاح؛ لأن ما دون الركعة ليس لها حكم الصلاة.
فأما في الفجر فإن كان صلى ركعة قطعها؛ لأنه لو أدى ركعة أخرى تم فرضه وفاتته الجماعة، فالأولى أن يقطعها ليعيدها على أكمل الوجوه، وإن كان قيد الركعة الثانية بسجدة أتمها؛ لأنه أدى أكثرها. ثم إنه لا يدخل مع الإمام؛ لأنه يكون متنفلًا بعد الفجر. وذلك مكروه.
وأما المغرب فإن صلى ركعة قطعها؛ لأنه لو أضاف إليها ركعة أخرى كان مؤديًّا أكثر الصلاة فلا يمكنه القطع بعد ذلك، ولو قطع كان متنفلًا بركعتين قبل المغرب وذلك منهى عنه، فلهذا قطع صلاته ليعيدها على أكمل الوجوه، وإن كان قيد الركعة الثانية بسجدة أتم صلاته؛ لأنه قد أدى أكثرها، ثم لا يدخل مع الإمام، وذلك مروى عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما.
وعن أبى يوسف - رحمه الله تعالى - أنه يدخل معه فإذا فرغ الإمام قام فصلى ركعة أخرى ليصير شفعًا له، ولا يبعد أن يقوم لإتمامه بعد فراغ الإمام كالمسبوق. وهو بالشروع قد التزم ثلاث ركعات، فكأنه التزمها بالنذر فيلزمه أربع
(2)
.
ومن خاف فوت شئ من ماله وَسِعَه أن يقطع صلاته ويستوثق من ماله، وكذلك إذا انقلبت سفينته أو رأى سارقًا يسرق شيئًا من متاعه؛ لأن حرمة المال كحرمة النفس، فكما يسعه أن يقطع صلاته إذا خاف على نفسه من عدو أو سبع فكذلك إذا خاف على شئ من ماله. وقَدَّروا ذلك بالدرهم فصاعدًا، وقالوا: ما دون الدرهم حقير فلا يقطع الصلاة لأجله.
وإنما يقطع صلاته إذا احتاج إلى عمل كثير،
(1)
صحيح البخارى، كتاب الصلاة باب فضل صلاة الجماعة. وصحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها.
(2)
المبسوط: 1/ 174 - 176، بتصرف. وانظر: ابن عابدين: 1/ 498 - 499.
فأما إذا لم يحتج إلى شئ وعمل كثير بنى على صلاته، لحديث أبى برزة الأسلمى رضي الله عنه أنه كان يصلى في بعض المغازى فانسل قياد الفرس من يده فمشى أمامه حتى أخذ قياد فرسه ثم رجع القهقرى وأتم صلاته.
(1)
وتأويل هذا أنه لم يحتج إلى عمل كثير
(2)
.
هذا، وإن مراعاة الترتيب بين الفوائت وبين فرض الوقت واجب إلا في حالة النسيان أو ضيق الوقت أو كثرة الفوائت، ولو أن رجلًا نسى الظهر فصلى من العصر ركعة في أول وقتها ثم ذكر فإنه يقطع العصر ثم يصلى الظهر ثم يصلى العصر؛ لأنه لو كان ذاكرًا للظهر عند الشروع لم يصح شروعه في العصر في أول وقتها، فإذا ذكرها قبل الفراغ من العصر لا يمكنه إتمام العصر أيضًا. فإن مضى في العصر لم يَجْزْهِ لانعدام شرط الجواز؛ فإن مراعاة الترتيب بعد التذكر شرط لجواز العصر.
وإن كان قد افتتح العصر لأول وقتها وهو ذاكر للظهر فصلى منها ركعة ثم احمرت الشمس فإنه يقطع الصلاة؛ لأنه لم يصح شروعه في العصر في أول وقتها مع ذكره للظهر، والبناء على الفاسد غير ممكن. فعليه أن يقطع صلاته ثم يستقبل العصر، وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف، رحمهما الله، وعلى قول محمد رحمه الله هو غير شارع في الصلاة أصلًا، فعليه أن يستقبل العصر. وإن افتتح العصر والشمس حمراء وهو ذاكر للظهر فإنه يجزئه؛ لأن هذه ساعة لا يجوز فيها أداء الظهر ولا غيره من الصلاة سوى عصر اليوم، فعليه أن يشتغل بما يكون الوقت قابلًا له.
فإن غربت الشمس وهو في العصر فإنه يتمها. وطعن عيسى في هذا وقال: الصحيح أنه يقطعها بعد غروب الشمس ثم يبدأ بالظهر ثم العصر؛ لأن ما بعد غروب الشمس الوقت قابل للظهر، والمعنى المسقط لمرعاة الترتيب ضيق الوقت، وقد انعدم لغروب الشمس؛ لأن الوقت قد اتسع، فهو بمنزلة ما لو افتتح العصر في أول الوقت وهو ناس للظهر ثم تذكر.
ومنا ذكره عيسى - رحمه الله تعالى - هو القياس، ولكن محمدًا - رحمه الله تعالى - استحسن فقال: لو قطع صلاته بعد غروب الشمس كان مؤديًا جميع العصر في غير وقتها، ولو أتمها كان مؤديًّا بعض العصر في وقتها.
فإن كان افتتح العصر بعد ما غربت الشمس وهو ذاكر للظهر فإنه يقطعها ويصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب؛ لأن الوقت واسع، وقد صارت العصر فائتة كالظهر، فعليه مراعاة الترتيب بينهما وبين فرض الوقت.
وإن كان ناسيًا للظهر حين افتتح العصر بعد غروب الشمس فلما صلى منها ركعة ذكر أن الظهر عليه فإنه يفسد عصره ويصلى الظهر؛ لأن التذكر في هذا الوقت يمنعه من افتتاح العصر فيمنعه من إتمامها أيضًا
(3)
.
(1)
صحيح البخارى في موضعين: الأول في كتاب الجمعة، باب ما يجوز من العمل في الصلاة. والثانى في كتاب الأدب. باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "يسروا ولا تعسروا". وكان يحب التخفيف واليسر على الناس.
(2)
المبسوط: 1/ 232 بتصرف.
(3)
المبسوط: 2/ 87 - 88.
هذا، ولو وجد المتيمم نبيذ التمر في خلال الصلاة فعند محمد - رحمه الله تعالى - يتم صلاته ثم يتوضأ ويعيد؛ لأنه كسؤر الحمار عنده.
وعند أبى يوسف - رحمه الله تعالى - يتم صلاته ولا يعيد، لأن النبيذ عنده ليس بطهور.
وعند أبى حنيفة - رحمه الله تعالى - يقطع صلاته؛ لأن نبيذ التمر بمنزلة الماء عنده في حال عدم الماء، فتنتقض صلاته بوجوده فيتوضأ به ويستقبل.
ولو وجد سؤر الحمار والنبيذ جميعًا: فعند أبى حنيفة - رحمه الله تعالى - تفسد صلاته فيتوضأ بهما ثم يستقبل؛ لأن سؤر الحمار إن كان طاهرًا فالنبيذ معه ليس بطهور، فلهذا توضأ بهما.
وعند أبى يوسف - رحمه الله تعالى - يمضي في صلاته، فإذا فرغ توضأ بهما، وأعاد الصلاة احتياطًا
(1)
.
وجاء في (الدر المختار): يباح قطع الصلاة - ولو كان فرضًا - لنحو قتل حية وَهَرَبٍ، ويستحب قطع الصلاة لمدافعة الأخبثين .. وقيل: إذا كان ذلك يشغل قلبه عن الصلاة وخشوعها فأتمها فإنه يأثم لأدائها مع الكراهة التحريمية، ومقتضى هذا أن القطع واجب لا مستحب، ويدل عليه حديث:"لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلى وهو حاقن حتى يتخفف"
(2)
.
ويجب قطع الصلاة أيضًا لإغاثة ملهوف وغريق وحريق. سواء استغاث بالمصلى أو لم يعين أحدًا في استغاثته إذا قدر على ذلك .. ومثله خوف تردى أعمى في بئر مثلًا إذا غلب على ظنه سقوطه.
ولا يجب قطع الصلاة لنداء أحد أبويه - أي الأصول وإن علوا - بلا استغاثة إلا في النفل، فإن علم أنه يصلى لا بأس أن لا يجيبه، وإن لم يعلم أجابه.
وفى النفل يجيبه وجوبًا وإن لم يستغث؛ فقد ورد أن عابد بنى إسرائيل قد عوتب على تركه الإجابة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه:"لو كان فقيهًا لأجاب أمه"
(3)
وهذا إن لم يعلم أنه يصلى، فإن علم لا تجب الإجابة لكنها أولى
(4)
.
مذهب المالكية:
جاء في (حاشية الدسوقى): أنه إذا نودى شخص من أحد أبويه فإن كان أعمى أصم وكان هو يصلى نافلة وجب عليه إجابته وقطع تلك النافلة؛ لأنه قد تعارض معه واجبات فيقدم أوكدهما وهو إجابة الوالدين للإجماع على وجوبها، والخلاف في وجوب إتمام النافلة.
وأما إن كان المنادى له من أبويه ليس أعمى ولا أصم، أو كان يصلى في فريضة فليخفف ويسلم ويكلمه.
وكما يجب الكلام لإنقاذ الأعمى وإن أبطل الصلاة يجب أيضًا لتخليص المال إذا كان يخشى
(1)
المبسوط: 1/ 124 - 125. بتصرف.
(2)
الحديث بنحوه في: سنن أبى داود كتاب الطهارة. باب أيصلى الرجل وهو حاقن؟!. وسنن ابن ماجه. كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في النهى للحاقن أن يصلى.
(3)
شعب الإيمان للبيهقى. باب بر الوالدين.
(4)
الدر المختار بحاشية ابن عابدين: 1/ 459، بتصرف.
بذهابه هلاكًا أو أذى شديدًا قليلًا كان أو كثيرًا، ويقطع الصلاة سواء كان الوقت متسعًا أم لا.
وأما إذا كان لا يخشى بذهابه هلاكًا ولا شديد أذى فإن كان يسيرًا فلا يقطع، وإن كان كثيرًا قطع إن اتسع الوقت.
والكثرة والقلة بالنسبة للمال في حد ذاته
(1)
.
وجاء فيه أيضًا: يندب للإمام الاستخلاف وقطع الصلاة إذا خشى بتماديه تلف مال له أو لغيره، إن خشى بتركه هلاكًا أو أذى شديدًا لنفسه أو لغيره، سواء قَلَّ المال أو كثر، سواء ضاق الوقت أو اتسع. والمأموم والمنفرد مثل الإمام في القطع وعدمه. وإنما يختص الإمام بندب الاستخلاف فقط.
وكذلك يقطع الصلاة إن خاف تلف نفس أو شدة أذاها، كخوفه على صبى أو أعمى أن يقع في بئر أو نار، وكذلك يقطع الإمام الصلاة ويستخلف إن مُنع من الإمامة لأجل حدوث عجز عن إقامة ركن كالركوع وقراءة الفاتحة، أما إن عجز عن أداء السنة فلا يقطع ولا يستخلف.
وكذلك يقطع الصلاة بسبب سَبْقِ حدث أي خروج منه غلبةٌ في أثنائها، أو بسبب تذكره الحدث بعد دخوله فيها، وفى هذه الحالة لا تبطل صلاة المأمومين وهذا معنى قولهم: كل صلاة بطلت على الإمام بطلت على المأموم إلا في سبق الحدث أو نسيانه
(2)
.
وجاء فيه أيضًا: ومن أحرم بنافلة في وقت نَهى فيقطع صلاته وجوبًا إن كان وقت تحريم، وندبًا إن كان وقت كراهة، ولا قضاء عليه؛ لأنه مغلوب على القطع، وذلك لأنه لا يتقرب إلى الله تعالى بمنهى عنه، سواء في ذلك أحرم بها جاهلًا أو عامدًا أو ناسيًا.
وهذا التعميم في غير الداخل والإمام يخطب يوم الجمعة فإنه إن أحرم بالنافلة جهلًا أو نسيانًا لا يقطعها، وذلك مراعاة لمذهب الشافعي من أن الأولى للداخل أن يركع ولو كان الإمام يخطب.
وأما لو دخل الخطيب عليه وهو جالس فأحرم عمدًا أو سهوًا أو جهلًا، أو دخل المسجد والإمام يخطب فأحرم عمدًا فإنه حينئذ يقطع صلاته، سواء في كل ذلك عقد ركعة أو لا، أما إذا أتم ركعتين فينبغى عدم القطع لخفة الأمر بالسلام
(3)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (المهذب): إن دخل في صلاة نافلة ثم أقيمت الجماعة فإن لم يخش فوات الجماعة أتم النافلة ثم دخل في الجماعة. وإن خشى فوات الجماعة قطع النافلة؛ لأن الجماعة أفضل، وإن دخل في فرض الوقت ثم أقيمت الجماعة فالأفضل أن يقطع ويدخل في الجماعة، فإن نوى الدخول في الجماعة من غير أن يقطع صلاته ففيه قولان: قال في الإملاء: لا يجوز وتبطل صلاته؛ لأن تحريمته سبقت تحريمة الإمام فلم يجز كما لو حضر معه في أول الصلاة فكبر قبله. وقال في القديم والجديد: يجوز وهو الأصح
(4)
.
(1)
حاشية الدسوقى على الشرح الكبير: 1/ 289، بتصرف.
(2)
المرجع السابق: 1/ 349، بتصرف.
(3)
المرجع السابق: 1/ 187 - 188.
(4)
المهذب: 1/ 94.
وجاء فيه أيضًا: وإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل، لما روى عن ثعلية بن أبى مالك قال: قعود الإمام يقطع السبحة
(1)
، وكلامه يقطع الكلام، وقد كان الصحابة - رضى الله عنهم - لا يزالون يتحدثون يوم الجمعة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس على المنبر، فإذا سكت المؤذن قام عمر فلم يتكلم أحد حتى يقضى الخطبتين، فإذا أقيمت الصلاة ونزل عمر تكلموا
(2)
. ولأن النفل في هذه الحالة يمنع الاستماع إلى ابتداء الخطبة فكُرِه
(3)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): إذا ذكر الإمام فائتة وهو في صلاة الحاضرة أنه يقطع الحاضرة نصًا مع سعة الوقت؛ لئلا يلزم اقتداء المفترض بالمتنفل واستثنى جمع الجمعة فلا يقطعها الإمام إذا ذكر الفائتة في أثنائها إن ضاق الوقت بأن لم يتسع لسوى الحاضرة أتمها الإمام وغيره، وإن اتسع للفائتة ثم الحاضرة فقط قطعها أيضًا غير الإمام لعدم صحة النفل إذن.
وإن ذكر الإمام الفائتة قبل إحرامه بالجمعة استناب فيها وقضى الفائتة، فإن أدرك الجمعة مع نائبه وإلا صلى ظهرًا
(4)
.
وجاء فيه أيضًا: وإن انقطع الصف عن يسار الإمام فقال ابن حامد: إن كان الانقطاع بعد مقام الثلاثة رجال بطلت صلاة المنقطعين عن الصف يسار الإمام
(5)
.
ومن المسائل التي تكلم عنها الحنابلة حكم انقطاع العذر المبيح للجمع فجاء في (كشاف القناع): أن من شروط الأعذار المبيحة للجمع أن يكون العذر المبيح للجمع من سفر أو مرض ونحوه موجودًا عند افتتاح الصلاتين المجموعتين وعند سلام الأولى؛ لأن افتتاح الأولى موضع النية، وفراغها وافتتاح الثانية موضع الجمع، فلو أحرم ناوى الجمع بالأولى من المجموعتين مع وجود مطر ثم انقطع المطر ولم يعد، فإن حصل وَحلٌ لم يبطل الجمع؛ لأن الوحل من الأعذار المبيحة وهو ناشئ عن المطر فأشبه ما لو لم ينقطع المطر، وإن لم يحصل وَحْلٌ بطل الجمع لزوال العذر المبيح له فيؤخر الثانية حتى يدخل وقتها.
وإن شرع في الجمع لأجل السفر فزال سفره بوصول إلى وطنه، أو نيته الإقامة ووُجد وحل أو مرض أو مطر بطل الجمع لزوال مبيحه
(6)
.
هذا، وجاء في (المغنى): المرور بين يدى المصلى ينقص الصلاة ولا يقطعها فقد قال أحمد: يضع من صلاته ولكن لا يقطعها. وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أن ممر الرجل يضع نصف الصلاة
(7)
. وكان عبد الله إذا مَرَّ بين يديه رجل التزمه حتى يرده
(8)
.
قال القاضي: ينبغى أن يحمل نقص الصلاة على من أمكنه الرد فلم يفعله، أما إذا رد فلم يمكنه الرد فصلاته تامة؛ لأنه لم يوجد منه ما. ينقص الصلاة فلا يؤثر فيها ذنب غيره
(9)
.
(1)
السُبْحَة: هي ما يصليه المرء نافلة من الصلوات ومن ذلك سبحة الضحى. انظر: عون المعبود شرح سنن أبى داود 2/ 71، ط دار الكتب العلمية.
(2)
الحديث بنحوه في موطأ مالك، كتاب النداء للصلاة، باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب.
(3)
المهذب 1/ 115.
(4)
كشاف القناع 1/ 180.
(5)
المرجع السابق: 1/ 315.
(6)
السابق: 1/ 333 - 334.
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه كتاب الصلوات: باب في الرجل يمر بين يدي الرجل، يرده أم لا، بلفظ: إنه ليقطع نصف صلاة المرء مرور المرء بين يديه".
(8)
مصنف ابن أبي شيبة، الموضع السابق.
(9)
المغني والشرح الكبير 2/ 77.
وجاء في (المغنى) أيضًا: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم إذا مَرَّ بين يدى المصلى. هذا هو المشهور عن أحمد رحمه الله، وهو قول عائشة - رضى الله عنها -، وحكى عن طاوس. وروى عن معاذ ومجاهد أنهما قالا: الكلب الأسود البهيم شيطان يقطع الصلاة
(1)
. ومعنى البهيم: الذي ليس في لونه شئ سوى السواد. وعن أحمد رواية أخرى: أنه يقطعها الكلب الأسود، والمرأة إذا مرت والحمار
(2)
.
ومن صلى إلى سترة فمر من ورائها ما يقطع الصلاة لم ينقطع، وإن مَرَّ من وراثها غير ما يقطعها لم يكره، وإن مَرَّ بينه وبينها قطعها إن كان مما يقطعها، وإن لم يكن بين يديه سترة فمر بين يديه قريبًا منه ما يقطعها قطعها. وإن كان مما لا يقطعها كره، وإن كان بعيدًا لم يتعلق به حكم.
هذا ولا يوجد من حَدَّ البعيد من ذلك ولا القريب إلا أن عكرمة قال: إذا كان بينك وبين الذي يقطع الصلاة قذفة بحجر لم يقطع الصلاة.
وإذا صلى إلى سترة منصوبة فاجتاز وراءها كلب أسود، فهل تنقطع صلاته؟ فيه وجهان أحدهما: تبطل صلاته؛ لأنه ممنوع من نصبها والصلاة إليها فوجودها كعدمها. والثانى: لا تبطل
(3)
.
وينقطع التطوع بجلوس الإمام على المنبر، فلا يصلى أحد غير الداخل، يصلى تحية المسجد ويتجوز فيها؛ لما روى ثعلبة بن أبى مالك أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه يوم الجمعة يصلون حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذن جلسوا يتحدثون حتى إذا سكت المؤذن وقام عمر سكتوا فلم يتكلم أحد
(4)
. وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم
(5)
.
وجاء في (المغنى) أيضًا: أنه: إذا دخل في الصلاة بنية مترددة بين إتمامها وقطعها لم تصح؛ لأن النية عزم جازم، ومع التردد لا يحصل الجزم، وإن تلبس بالصلاة بنية صحيحة ثم نوى قطعها والخروج منها بطلت؛ لأنه قطع حكم النية قبل إتمام صلاته ففسدت، كما لو سلم ينوى الخروج منها، ولأن النية شرط في جميع الصلاة وقد قطعها بما حدث ففسدت لذهاب شرطها. فأما إن تردد في قطعها فقال ابن حامد: لا تبطل؛ لأنه دخلها بنية متيقنة فلا تزول بالشك والتردد كسائر العبادات. وقال القاضي: يحتمل أن تبطل؛ لأن استدامة النية شرط، ومع التردد لا يكون مستديمًا لها فأشبه ما لو نوى قطعها.
وإذا أحرم بفريضة ثم نوى نقلها إلى فريضة أخرى بطلت الأولى؛ لأنه قطع نيتها، ولم تصح الثانية؛ لأنه لم ينوها من أولها، فإن نقلها إلى نفل لغير فرض فقال القاضي: لا يصح، رواية واحدة. وقال في الجامع: يخرج على روايتين. وقال أبو الخطاب: يكره ويصح؛ لأن النفل يدخل في نية الفرض. بدليل ما لو أحرم بفرض فبان أنه لم يدخل وقته. وصحة نقلها إذا كان لغرض.
(1)
مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الصلوات، باب من قال: يقطع الصلاة الكلب والمرأة والحمار.
(2)
المرجع السابق: 2/ 80.
(3)
المرجع السابق: 2/ 84 - 85.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
المغني والشرح الكبير: 2/ 165.
فأما إن نقلها لغرض صحيح مثل من أحرم بها منفردًا فحضرت جماعة فجعلها نفلًا ليصلى فرضه في جماعة. فقال أبو الخطاب: تصح من غير كراهة. وقال القاضي: فيه روايتان: إحداهما لا يصح؛ لأنه لم ينو النفل من أولها، والثانية يصح لأنه لفائدة، وهى تأدية فرضه في الجماعة مضاعفة للثواب بخلاف من نقلها لغير فرض، فإنه أبطل عمله لغير سبب ولا فائدة
(1)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): أنه يقطع صلاة المصلى كون الكلب بين يديه - مارًا أو غير مارٍّ صغيرًا أو كبيرًا حيًا أو ميتًا - أو كون الحمار بين يديه كذلك أيضًا، وكون المرأة بين يدى الرجل مارة أو غير مارة صغيرة أو كبيرة. إلا أن تكون مضطجعة معترضة فقط فلا تقطع الصلاة حينئذ. ولا يقطع النساء بعضهن صلاة بعض، فإن كان بين يدى المصلى شئ مرتفع بقدر الذراع وهو قدر مؤخرة الرحل المعهودة عند العرب - ولا نبالى بغلظها - لم يضر صلاته كلُ ما كان وراء السترة مما ذكرنا، ولا ما كان من كل ذلك فوق السترة. ودليل ذلك ما روى عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقطع الصلاة: المرأة والحمار والكلب، ويقى ذلك مثل مؤخرة الرحل"
(2)
.
وجاء فيه أيضًا: وكل منكر رآه المصلى في الصلاة ففرض عليه إنكاره ولا تنقطع بذلك صلاته؛ لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حق، وفاعل الحق محسن ما لم يمنع من شئ منه نصٌ أو إجماع، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
(3)
. ومن جملة ذلك: إطفاءٌ النار المشتعلة، وإنقاذ الصغير والمجنون والمقعد والنائم من نار أو من حنش
(4)
أو سبع أو إنسان عادٍ، أو من سيل، والمحاربة لمن أراد المصلى أو أراد مسلمًا بظلم، وشد الأسير الكافر أو الظالم، إلا أن يمنع من شئ من ذلك نص أو إجماع. فعن الأزرق بن قيس قال: كنا بالأهواز نقاتل الحرورية
(5)
، فبينما أنا على جرف نهر إذا رجل يصلى ولجام دابته في يده، فجعلت الدابة تنازعه وجعل يتبعها. قال شعبة:(وهو أبو برزة الأسلمى) فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ. فلما انصرف الشيخ قال: إنى سمعت قولكم وإنى غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات أو سبع غزوات، وشهدت تيسيره، وإن كنت أرجع مع دابتى أحب إلى من أن أدعها ترجع إلى مالفها فيشق على
(6)
.
ومن طريق الأزرق بن قيس أن أبا برزة الأسلمى خاف على دابته الأسد فمشى إليها وهو في الصلاة.
وكذلك من خاف على ماله أو سرقة نعله أو خفه أو غير ذلك. فله أن يتبع السارق فينتزع منه متاعه، ولا يضر في كل ما ذكرنا ما اضطر إليه من استدبار القبلة وكثرة العمل وقلته ما لم يتكلم،
(1)
المغني والشرح الكبير: 1/ 514 - 515.
(2)
المحلى:4/ 8 والحديث أخرجه مسلم، في كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلى.
(3)
سورة المائدة، الآية:2.
(4)
الحنش: الحية. وقيل: الأفعى. لسان العرب: مادة حنش.
(5)
الحرورية هم الخوارج.
(6)
سبق تخريجه.
فإن كان إمامًا أو مأمومًا فطمع بشئ من إدراك الصلاة بعد تمام حاجته أو بانتظار الناس فلابد أن يرجع، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذى اليدين، فإن لم يرج إدراك شئ من الصلاة أو أيقن أن الناس لا ينتظرونه أتم صلاته حين تمام حاجته في أول مكان تجوز له فيه الصلاة، أو لزوال عن مكان لا تجوز فيه الصلاة، فلو رجا صلاة في جماعة أخرى أقرب منها فليدخل فيها.
وإذا مشى المصلى إلى فتح الباب للمستفتح فهذا حسن لا يضر الصلاة شيئًا
(1)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (الروض النضير): أن من أصابه قئ أو رعاف
(2)
أو قلس
(3)
أو مذى فلينصرف فليتوضأ، ثم ليبن علي صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم
(4)
.
وجاء في (شرح الأزهار) أنه تفسد الصلاة بتوجه واجب على المصلى خشى فوته كإنقاذ غريق، فإنه يلزمه الخروج من الصلاة لفعل هذا الواجب، فإن لم يفعل فسدت، وسواء كان عروض هذا الواجب في أول الوقت أم في آخره فإنه يجب تقديمه ولو فات الوقت، ومثلُ إنقاذ الغريق إزالةُ منكر كالقتل ونحوه، أو ردُّ وديعة يخشى فوت صاحبها، أو عَرضَ واجبٌ لم يخش فوته لكنه قد تضيَّق وجوبه. بمعنى أنه لا يجوز تأخيره عن تلك الحال وهى - أي الصلاة التي قد دخل فيها - موسعة بمعنى أنه لما يتضيق وجوبها، مثال ذلك: أن تدخل في الصلاة في أول الوقت فلما أحرمت أتى غريمك بالدين أو من له عندك وديعة فطالبك بهما وحرَّج عليك في التأخير حتى تتم الصلاة: فإنه حينئذ يجب الخروج من الصلاة عندنا، فإن لم يخرج فسدت الصلاة عندنا. فأما إذا تضيق وقت الصلاة فلا يجب الخروج بل يلزم الإتمام
(5)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (العروة الوثقى): أنه لا يجوز العدول في الصلاة من السابقة إلى اللاحقة ويجوز العكس، فلو دخل في الصلاة بنية الظهر ثم تبين له في الأثناء أنه صلاها لا يجوز له العدول إلى العصر بل يقطع ويشرع في العصر، بخلاف ما إذا تخيل أنه صلى الظهر فدخل في العصر ثم تذكر أنه ما صلى الظهر فإنه يعدل إليها.
وإذا كان مسافرًا وقد بقى من الوقت مقدار أربع ركعات فدخل في الظهر بنية القصر ثم بدا له الإقامة فنوى الإقامة بطلت صلاته، ولا يجوز له العدول إلى العصر فيقطعها ويصلى العصر، وإذا كان في الفرض ناويًا للإقامة. فشرع بنية العصر لوجوب تقديمها حينئذ ثم بدا له فعزم على عدم الإقامة، فالظاهر أنه يعدل بها إلى الظهر قصرًا
(6)
.
وإذا دخل المصلى في المكان المغصوب جهلًا أو نسيانًا أو بتخيل الإذن ثم التفت وبان الخلاف، فإن كان في سعة من الوقت لا يجوز له التشاغل
(7)
(1)
المحلى: 3/ 91 - 94.
(2)
الرعاف: دم يسبق من الأنف. لسان العرب. مادة (رعف).
(3)
القلس: هو ما خرج من البطن من الطعام أو الشراب إلى الفم أعاده صاحبه أو ألقاه. لسان العرب. مادة (قلس).
(4)
الروض النضير: 1/ 183.
(5)
شرح الأزهار: 1/ 377، وما بعدها.
(6)
العروة الوثقى: 1/ 173.
(7)
المرجع السابق: 1/ 196.
بالصلاة وإن كان مشتغلًا بها وجب القطع والخروج، وإن كان في ضيق الوقت اشتغل بها حال الخروج سالكًا أقرب الطرق، مراعيًا للاستقبال بقدر الإمكان (7).
وإذا سجد المصلى على ما لا يجوز باعتقاد أنه مما يجوز، فإن كان بعد رفع الرأس مضى ولا شئ عليه، وإن كان قبله جَرَّ جبهته إن أمكن وإلا قطع الصلاة في السعة، وفى الضيق أتم على ما تقدم إن أمكن وإلا اكتفى به.
ويحرم تنجيس المسجد. وإذا تنجس يجب إزالة النجاسة فورًا، وإن كان في وقت الصلاة مع سعته، نعم مع ضيقه تقدم الصلاة، ولو صلى مع السعة أثم لكن الأقوى صحة صلاته، ولو علم النجاسة أو تتجس المسجد في أثناء الصلاة لا يجب القطع للإزالة وإن كان في سعة من الوقت بل يشكل جوازه
(1)
.
ولو نوى المصلى في أثناء الصلاة قطعها فعلًا أو بعد ذلك، أو نوى القاطع والمنافى فعلًا أو بعد ذلك، فإن أتم مع ذلك بطل
(2)
.
وإذا كان المصلى في أثناء الصلاة في المسجد فرأى نجاسة فيه فإن كانت الإزالة موقوفة على قطع الصلاة أتمها ثم أزال النجاسة، وأن أمكنت بدونه بأن لم يستلزم الاستدبار ولم يكن فعلًا كثيرًا موجبًا لمحو الصورة وجبت الإزالة ثم البناء على صلاته.
ولا يجوز قطع الصلاة الفريضة اختيارًا والأحوط عدم قطع النافلة أيضًا، وإن كان الأقوى جوازه، ويجوز قطع الفريضة لحفظ مال ولدفع ضرر مالى أو بدنى كالقطع لأخذ العبد من الإباق أو الغريم من الفرار أو الدابة من الشراء ونحو ذلك. وقد يجب كما إذا توقف حفظ نفسه أو حفظ نفس محترمة أو حفظ مال يجب حفظه شرعًا عليه، وقد يستحب كما إذا توقف حفظ مال مستحب الحفظ عليه. وكقطعها عند نسيان الأذان والإقامة إذا تذكر قبل الركوع، وقد يجوز كدفع الضرر المالى الذي لا يضره تلفه، ولا يبعد كراهته لدفع ضرر مالى يسير.
والأحوط عدم قطع النافلة المنذورة إذا لم تكن منذورة بالخصوص بأن نذر إتيان نافلة فشرع في صلاة بعنوان الوفاء لذلك النذر، وأما إذا نذر نافلة مخصوصة فلا يجوز قطعها قطعًا.
وإذا توقف أداء الدين المطالب به على قطعها فالظاهر وجوبه في سعة الوقت لا في الضيق، ويحتمل في الضيق وجوب الإقدام على الأداء متشاغلًا بالصلاة. هذا ويستحب أن يقول حين إرادة القطع في موضع الرخصة أو الوجوب: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته
(3)
.
ولو شك المصلى في شرط أو جزء من الصلاة بعد السلام ولم يلتفت إذ نسيها وشرع في نافلة أو قضاء فريضة أو نحو ذلك فتذكر في أثنائها قطعها وأتى بها ثم أعاد الصلاة على الأحوط. وأما إذا شرع في صلاة فريضة مرتبة على الصلاة التي شك فيها - كما إذا شرع في العصر فتذكر أن عليه صلاة الاحتياط
(4)
للظهر - فإن
(1)
العروة الوثقى: 1/ 200 - 202.
(2)
السابق: 1/ 211.
(3)
المرجع السابق: 1/ 250 - 252.
(4)
صلاة الاحتياط.
جاز في محل العدول قطعها، كما إذا دخل في ركوع الثانية مع كون احتياطه ركعة أو ركوع الثالثة مع كونها ركعتين، وإن لم يجز عن محل العدول فيحتمل العدول إليها لكن الأحوط القطع والإتيان بها، ثم أعاد الصلاة، وإذا نسى سجدة واحدة أو تشهدًا فيها قضاهما بعدها على الأحوط.
ولو نسى المصلى قضاء السجدة أو التشهد وتذكر بعد الدخول في نافلة جاز له قطعها والإتيان به، بل هو الأحوط، بل وكذا لو دخل في فريضة
(1)
.
مذهب الإباضية:
جاء فى (شرح النيل): وإن رأى مصلٍ ما خاف فساده كمالٍ أو نفسٍ، سواء أكان مال نفسه أو مال غيره بإطلاق، وقيل: إن كان في ضمانه، ويدخل في هذا أيضًا الميت فإنه ليس مالًا ولا نفسًا، فإذا حدث ذلك اشتغل المصلى بإصلاحه إن لم يمكنه الاشتغال بالصلاة والإصلاح معًا، وإن أمكنه اشتغل بهما بمرة تارة فيها وتارة فيه.
وإن كان ما خاف فساده ميتًا فيصلحه أيضًا.
وإن لم يصلح مال نفسه لم يعد مضيعًا؛ لأنه في الصلاة. وقيل: لا يصلح ماله إلا إن كان لا بد له منه وليس له غيره كغذاء وعشاء. وفى كل ما سبق يبنى المصلى على صلاته. وقيل: إن أصلح ماله أو مال غيره جاوز وأعاد، وإن قطعها وأصلح فساد مال أو نفس واستأنفها لم تلزمه الكفارة. وسواء في ذلك الإصلاح إزالة الفساد من ماله أو مال غيره قَلَّ أو كثر، وإزالة الضر عن نفسه أو غيره قَلَّ الضر أو كثر، فينجى الصبى والأعمى والعاجز والغافل ومن احتاج لعون من كل ضر كوقوع ودابة وسبع.
وإن لم يخف الفساد صلى ورجع إليه، وإن خاف فوتها وفساده لكن يظهر له أنه يدرك قبل الفساد وطمع في ذلك اختصر صلاته قدر ما يبلغ ما خيف فساده أو ما يبلغ الإصلاح قبل فساده، وإن لم يمكنه بلوغه قبل فساده إلا بإيماء أو تكبير فعل الإيماء أو التكبير ثم رجع إلى الإصلاح، وإن أمكنه الاشتغال بالإصلاح وبالصلاة فعل، وذلك بأن يصلى ويصلح في حال واحد
(2)
.
(1)
العروة الوثقى: 1/ 298، 300.
(2)
شرح النيل: 1/ 458 - 460.
انقطاع التتابع في صوم الكفارات وما يترتب على ذلك
مذهب الحنفية:
جاء في (بدائع الصنائع): أن لجواز صيام الكفارة شرائط منها التتابع في غير موضع الضرورة في صوم كفارة الظهار والإفطار والقتل بلا خلاف، وعلى هذا يخرج ما إذا أفطر في خلال الصوم أنه يستقبل الصوم، سواء أفطر لغير عذر أو لعذر مرض أو سفر لفوت شرط التتابع، وكذلك لو أفطر يوم الفطر أو يوم النحر أو أيام التشريق، فإنه يستقبل الصيام سواء أفطر في هذه الأيام أو لم يفطر، لأن الصوم في هذه الأيام لا يصلح لإسقاط ما في ذمته؛ لأن ما في ذمته كامل والصوم في هذه الأيام ناقص لمجاورة المعصية إياه، والناقص لا ينوب عن الكامل، ولو كانت امرأة فصامت عن كفارة الإفطار في رمضان أو عن كفارة القتل فحاضت في خلال ذلك لا يلزمها الاستقبال لأنها لا تجد صوم شهرين لا تحيض فيهما فكانت معذورة، وعليها أن تصل أيام القضاء بعد الحيض بما قبله حتى لو لم تصل وأفطرت يومًا بعد الحيض استقبلت، لأنها تركت التتابع من غير ضرورة، ولو نفست تستقبل لعدم الضرورة، لأنها تجد شهرين لا نفاس فيهما، ولو كانت صوم كفارة اليمين، فحاضت في خلال ذلك تستقبل، لأنها تجد ثلاثة أيام لا حيض فيها فلا ضرورة إلى سقوط اعتبار الشرط، ولو جامع امرأته التي لم يظاهر منها بالنهار ناسيًا، أو بالليل عامدًا أو ناسيًا، أو أكل بالنهار ناسيًا لا يستقبل، لأن الصوم لم يفسد فلم يفت شرط التتابع.
ومن الشروط أيضًا عدم المسيس في الشهرين في صوم كفارة الظهار، سواء فسد الصوم أو لا في قول أبى حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: الشرط عدم فساد الصوم. حتى لو جامع امرأته التي ظاهر منها بالليل عامدًا أو ناسيًا أو بالنهار ناسيًا، استقبل عندهما، وعند أبى يوسف: يمضى على صومه ووجه قول أبى يوسف أن هذا الجماع لا ينقطع به التتابع؛ لأنه لا يفسد الصوم فلا يجب الاستقبال كما لو جامع امرأة أخرى ثم ظاهر منها، والصحيح قولنا، لأن المأمور به صوم شهرين متتابعين لا مسيس فيهما بقوله:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}
(1)
فإذا جامع في خلالهما فلم يأت بالمأمور به، ولو جامعها بالنهار عامدًا استقبل بالاتفاق؛ والعلة عندهما لوجود المسيس، والعلة عنده لانقطاع التتابع بسبب فساد الصوم، وأما وجوب كفارة الحلق فصاحبه بالخيار إن شاء فرق لإطلاق قوله تبارك وتعالى:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
(2)
من غير فصل
(3)
.
مذهب المالكية:
جاء فى (حاشية الدسوقى على الشرح الكبير): أنه ينقطع تتابع صوم الكفارة بوطء الزوج المكفِّر المرأة المظاهَر منها حال الكفارة ولو في آخر يوم منه، ويبتديه من أوله، وينقطع كذلك بوطء واحدة ممن تجزئ فيهن كفارة واحدة كما لو ظاهر من أربع في كلمة واحدة وإن حصل
(1)
سورة المجادلة: من الآية: 4.
(2)
سورة البقرة: من الآية: 196.
(3)
بدائع الصنائع: 5/ 111.
وطؤها لمن ذكر ليلًا ناسيًا أو جاهلًا أو غالطًا بأن اعتقد أنها غيرها، واحترز عن وطء غير المظاهر منها ليلًا عمدًا فلا يضر، وذلك كبطلان الإطعام إذا وطئ المظاهر منها أو واحدة ممن فيهن كفارة في أثناء الإطعام، فكما يبطل الإطعام ولو لم يبق عليه إلا مد واحد، فهنا ينقطع الصوم، وينقطع صومه أيضًا بفطره في السفر، لأنه اختيارى، أو بفطر بمرض في سفره هاجه سفره ولو توهما بخلاف إن تحقق أنه لم يهجه بل هاج بنفسه أو هاجه غيره، وكما لا ينقطع الصوم في كفارة غير الظهار من القتل وغيره بالحيض والنفاس وإكراه على الفطر وظن غروب الشمس أو ظن بقاء الليل لا ينقطع صوم كفارة الظهار وكذلك لا ينقطع بالفطر ناسيًا ويقضيه متصلًا بصيامه، وينقطع التتابع بالعيد إن تعمده بأن صام ذا القعدة وذا الحجة لظهاره متعمدًا صوم يوم الأضحى في كفارته. وأما لو جهل كون العيد يأتى في أثناء صومه فلا ينقطع تتابعه، وأما جهله حرمة صوم العيد بأن اعتقد حله فلا ينفعه، وفيما ذكر هل محل عدم القطع بجهله وإجزائه إن صام العيد وأيام التشريق بأن لم يتناول المفطرات فيها ثم قضاها متصلة بصومه وإلَّا بأن أفطرها لم يجزه واستأنف الصوم من أوله، أو عدم القطع مطلق، ويفطر أيام النحر؛ إذ لا معنى لإمساكه ويبنى أي يقضيها متصلة بصيامه؟ في هذا تأويلان: الأول لابن الكاتب، والثانى لابن القصار وهو الأصح. ولا يدخل في الكلام اليوم الرابع؛ فإنه يتعين صومه باتفاقهما ويجزيه، والظاهر أنه يطلب بفطر الثاني والثالث وليس كذلك، بل يطلب منه الإمساك فيهما، وإنما الخلاف فيما إذا أفطر فيها هل يبنى أو ينقطع تتابعه، ثم على القول الأول وهو صوم الجميع يقضى ما لا يصح صومه وهو يوم العيد خاصة على الراجح، وإذا جهل رمضان كما إذا ظن أن شعبان رجب ورمضان شعبان فحكمه كحكم العيد في أنه لا يقطع التتابع ويبنى بعد العيد متصلًا؛ لأن الجهل عذر على الأرجح عند ابن يونس، وينقطع التتابع بفصل القضاء الذي وجب عليه عند صيامه ويبتدئ صومه من أوله، وشُهِر أيضًا قطع التتابع بفصل القضاء نسيانًا فهو متصل بما قبله من مسألة انفصال القضاء، وإن لم يدر بعد أن صام أربعة من الأشهر صامها عن ظهارين موضع يومين نسيهما هل هما من الأولى، أو من الثانية أو أولهما آخر الأولى وثانيهما أول الثانية صام اليومين لاحتمال كونهما من الثانية فلا ينتقل عنها حتى يتمها بناء على أن فطر النسيان لا يبطله، وإذا علم اجتماعهما فإنه يقضى الشهرين لاحتمال كونهما من الأولى أو متفرقين أحدهما آخر الأولى والثانى أول الثانية وقد بطلت الأولى بفصل القضاء، وإن لم يدر اجتماع اليومين اللذين أفطرهما نسيانًا كما لم يدر موضعهما من افتراقهما صامهما لاحتمال كونهما من الثانية ولا ينتقل عنها حتى يكملها، وصام شهرين أيضًا فقط لاحتمال كونهما من الأولى أو أحدهما منها والثانى من الثانية
(1)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (مغنى المحتاج): ويفوت التتابع بفوات يوم بلا عذر ولو كان اليوم الأخير كما إذا فسد صومه أو نسى النية في بعض الليالى،
(1)
حاشية الدسوقى مع الشرح الكبير: 2/ 451 - 453.
والنسيان لا يُجعل عذرًا في ترك المأمورات، هل يبطل ما مضى أو ينقلب نفلًا؟ فيه قولان: رجح في (الأنوار) أولها وابن المقرى ثانيهما، وينبغى حمل الأول على الإفساد بلا عذر والثانى على الإفساد بعذر، ولو شك في نية صوم يوم بعد الفراغ من الصوم ولو من صوم اليوم الذي شك في نيته لم يضر، إذ لا أثر للشك بعد الفراغ من اليوم، ويفارق نظيره في الصلاة بأنها أضيق من الصوم، ويستثنى من ذلك ما لو أفطر لسفر أو أفطرت الحامل، أو المرضع لأجل الولد، أو أفطر لفرط الجوع فإن التتابع يفوت وإن وجد عذر، وكذا يفوت التتابع لعذر بمرض مسوغ للفطر في الجديد؛ لأن المرض لا ينافى الصوم وقد أفطر باختياره فأشبه ما لو أجهده الصوم فأفطر، والقديم لا يقطع التتابع؛ لأن التتابع لا يزيد على أصل وجوب رمضان وهو يسقط بالمرض، وعلم منه أن خوف المرض قاطع من باب أولى، ولا يزول التتابع في الصوم بحيض؛ لأنه ينافى الصوم ولا تخلو عنه ذات الأقراء في الشهر غالبًا، والتأخير إلى سن اليأس فيه خطر، وهذا إذا لم تعتد الانقطاع شهرين فأكثر، فإن اعتادت ذلك فشرعت في الصوم في وقت يتخلله الحيض انقطع، وكذا لو ابتدأ المكفر الصوم في وقت يعلم دخول ما يقطعه عن إتيانه كشهر رمضان أو يوم النحر، والنفاس كالحيض لا يقطع التتابع على الصحيح، وقيل: يقطعه لندرته وهو ظاهر نصوص الشافعي رضي الله عنه، وكذا جنون لا يزول به التتابع على المذهب لمنافاته للصوم كالحيض، والإغماء المستغرق كما في (الروضة) وهو المعتمد، وقيل: كالمرض، وكلام (التنقيح) يشعر بتوجيهه. وقال الأذرعى: إنه المذهب، والمنصوص في (الأم) ولو صام رمضان بنية الكفارة أو بنيتهما بطل صومه ويأثم بقطع صوم الشهرين ليستأنف، إذ هما كصوم يوم، ولو وطئ المظاهر فيهما ليلًا عصى ولم يستأنف
(1)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (المغنى): أجمع أهل العلم على وجوب التتابع في الصيام في كفارة الظهار، وأجمعوا على أن من صام بعض الشهر ثم قطعه لغير عذر وأفطر عليه استئناف الشهرين. وأجمع أهل العلم على أن الصائمة متتابعًا إذا حاضت قبل إتمامه تقضى إذا طهرت وتبنى، وذلك لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا بتأخيره إلى الإياس وفيه تعزير بالصوم؛ لأنها ربما ماتت قبله والنفاس كالحيض في أنه لا يقطع التتابع في أحد الوجهين؛ لأنه بمنزلته في أحكامه، ولأن الفطر لا يحصل فيهما بفعلهما وإنما ذلك الزمان كزمان الليل في حقهما. والوجه الثاني: أن النفاس يقطع التتابع؛ لأنه فطر أمكن التحرز منه لا يتكرر كل عام فقطع كالفطر لغير عذر، ولا يصح قياسه على الحيض؛ لأنه أندر منه ويمكن التحرز عنه. وإن أفطر لمرض مخوف لم ينقطع التتابع أيضًا، لأنه أفطر لسبب لا صنع له فيه فلم يقطع التتابع كإفطار المرأة للحيض، وإن كان المرض غير مخوف لكنه يبيح الفطر، فقال أبو الخطاب: فيه وجهان أحدهما: لا يقطع التتابع؛ لأنه مرض أباح الفطر أشبه المخوف، والثانى: يقطع التتابع؛ لأنه أفطر اختيارًا فانقطع
(1)
مغنى المحتاج: 3/ 337، 338 بتصرف.
التتابع كما لو أفطر لغير عذر، فأما الحامل والمرضع فإن أفطرتا خوفا على أنفسهما فهما كالمريض، وإن أفطرتا خوفا على ولديهما ففيهما وجهان: أحدهما: لا ينقطع التتابع. اختاره أبو الخطاب لأنه فطر أبيح لهما بسبب لا يتعلق باختيارهما فلم ينقطع التتابع كما لو أفطرتا خوفًا على أنفسهما، والثانى: ينقطع؛ لأن الخوف على غيرهما، ولذلك يلزمهما الفدية مع القضاء، وإن أفطر لجنون أو إغماء لم ينقطع التتابع؛ لأنه عذر لا صنع له فيه فهو كالحيض. وإن أفطر لسفر مبيح للفطر فكلام أحمد يحتمل الأمرين وأظهرهما أنه لا يقطع التتابع؛ فإنه قال في رواية الأثر: كان السفر غير المرض وما ينبغى أن يكون أوكد من رمضان. وظاهر هذا أنه لا يقطع التتابع وهذا قول الحسن. ويحتمل أن ينقطع به التتابع، ووجه الأول: أنه فطر لعذر مبيح للفطر فلم ينقطع به التتابع كإفطار المرأة بالحيض وفارق الفطر لغير عذر فإنه لايباح، وإن أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أفطر، ويتخرج في انقطاع التتابع وجهان أحدهما: لا ينقطع؛ لأنه فطر لعذر. والثانى: يقطع التتابع؛ لأنه فعل أخطأ فيه، فأشبه ما لوظن أنه قد أتم الشهرين فبان خلافه. وإن أفطر ناسيًا لوجوب التتابع أو جاهلًا به أو ظنًا منه أنه قد أتم الشهرين انقطع التتابع، لأنه أفطر لجهله فقطع التتابع كما لوظن أن الواجب شهر واحد، وإن أكره على الأكل أو الشرب بأن أُوجر الطعام أو الشراب لم يفطر. وإن أكل خوفًا فقال القاضي: لا يفطر. ولم يذكر غير ذلك. وفيه وجه آخر أنه يفطر، فعلى ذلك هل يقطع التتابع؟ فيه وجهان. أحدهما: لا يقطعه؛ لأنه عذر مبيح للفطر فأشبه بالمرض. والثانى: ينقطع التتابع؛ لأنه أفطر بفعله لعذر نادر.
وإن أفطر في أثناء الشهرين لغير عذر أو قطع التتابع بصوم نذر أو قضاء أو تطوع أو كفارة أخرى لزمه استئناف الشهرين؛ لأنه أخل بالتتابع المشروط ويقع صومه عما نواه؛ لأن هذا الزمان ليس بمستحق متعين لكفارة ولهذا يجوز صومهما في غيره بخلاف شهر رمضان فإنه متعين لا يصلح لغيره، وإذا كان عليه صوم نذر غير معين أخِّره إلى فراغه من الكفارة، وإن كان متعينًا في وقت بعينه أخر الكفارة عنه أو قدمها عليه إن أمكن، وإن كان أيامًّا من كل شهر كيوم خميس أو أيام البيض قدم الكفارة عليه وقضاه بعدها؛ لأنه لو وفى بنذره لانقطع التتابع ولزمه الاستئناف فيفضى إلى أن لا يتمكن من التكفير. والنذر يمكن قضاؤه فيكون هذا عذرًا في تأخيره كالمرض.
وإن أصابها في ليالى الصوم أفسد ما مضى من صيامه وابتدأ الشهرين؛ لأن الله تعالى قال: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}
(1)
فأمر بها خاليين عن وطء ولم يأت بهما على ما أمر فلم يجزئه كما لو وطئ نهارًا؛ ولأنه تحريم للوطء لا يختص النهار فاستوى فيه الليل والنهار كالاعتكاف، وروى الأثرم عن أحمد أن التتابع لا ينقطع بهذا ويبنى؛ لأنه وطء لا يبطل الصوم فلا يوجب الاستئناف كوطء غيرها، ولأن التتابع في الصيام عبارة عن إتباع صوم يوم للذى قبله
(1)
سورة المجادلة: من الآية 4.
من غير فارق
(1)
وهذا متحقق وإن وطئ ليلًا، وارتكاب النهى في الوطء قبل إتمامه إذا لم يخل بالتتابع المشترط لا يمنع صحته وإجزاءه، كما لو وطئ قبل الشهرين أو وطئ ليلة أو الشهرين وأصبح صائمًا، والإتيان بالصيام قبل التماس في حق هذا لا سبيل إليه سواء بنى أو استأنف.
وإن وطئها أو وطئ غيرها في نهار الشهرين عامدًا أفطر وانقطع التتابع إجماعًا إذا كان غير معذور، وإن وطئها أو وطئ غيرها نهارًا ناسيًا أفطر وانقطع التتابع في إحدى الروايتين؛ لأن الوطء لا يعذر فيه بالنسيان. وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يفطر ولا ينقطع التتابع؛ لأنه فعل المُفطر ناسيًا أشبه ما لو أكل ناسيًا، وإن أبيح له الفطر لعذر فوطيء غيرها نهارًا لم ينقطع التتابع؛ لأن الوطء لا أثر له في قطع التتابع، وإن وطئها كان كوطئها ليلًا هل ينقطع التتابع؟ على وجهين، وإن وطئ غيرها ليلًا لم ينقطع التتابع، لأن ذلك ليس بمحرم عليه ولا هو مخل باتباع الصوم فلم ينقطع التتابع كالأكل ليلًا وليس في هذا اختلاف نعلمه، وإن لمس المظاهر منها أو باشرها دون الفرج على وجه يفطر به قطع التتابع، لإخلاله بموالاة الصيام وإلا فلا ينقطع
(2)
.
وقال الخرقى في موضع آخر: ومن ابتدأ صوم الظهار من أول شعبان أفطر يوم الفطر وبنى، وكذلك إن ابتدأ من أول ذى الحجة أفطر يوم النحر وأيام التشويق وبنى على ما مضى من صيامه
(3)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): عن انقطاع التتابع في كفارة الصوم لمن أفطر بالجماع في نهار رمضان: وصفة الكفارة الواجبة هي في رواية جمهور أصحاب الزهرى من عتق رقبة لا يجزئه غيرها ما دام يقدر عليها، فإن لم يقدر عليها لزمه صوم شهرين متتابعين، فإن لم يقدر عليها لزمه حينئذ إطعام ستين مسكينًا
(4)
.
ومن كان فرضه الصوم فقطع صومه عليه رمضان أو أيام الأضحى أو ما لا يحل صيامه فليسا متتابعين وإنما أمر بهما متتابعين. وقال قائل: يجزئه، قال على: وهذا خلاف أمره صلى الله عليه وسلم وليس كونه معذورًا في إفطاره غير آثم ولا ملوم بمجيز له ما لم يجوزه الله تعالى من عدم التتابع لما روينا من طريق الحجاج بن المنهال عن أبى عوانة عن المغيرة عن إبراهيم: من لزمه شهران متتابعان فمرض فأفطر، فإنه يبتدئ صومهما. فإن اعترض فيهما يوم نذر نذره، بطل النذر وسقط عنه وتمادى في صوم الكفارة. وكذلك في رمضان سواء بسواء، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق"
(5)
فصح أنه ليس لأحد أن يلتزم غير ما ألزمه الله عز وجل ومن نذر ما يبطل به فرض الله تعالى فنذره باطل؛ لأنه تعدَّى لحدود الله عز وجل
(6)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (الأزهار): ويجب في الظهار أن يصوم الشهرين ولاء - أي متواليًا - وإن لم تقع
(1)
أي يتبع اليوم اللاحق اليوم السابق.
(2)
المغنى: 7/ 365 - 368، بتصرف.
(3)
المرجع السابق: 7/ 377.
(4)
المحلى: 6/ 197.
(5)
سنن ابن ماجه، كتاب العتق، باب المكاتب، مسند أحمد رقم 25827.
(6)
المحلى: 6/ 200.
مولاة؛ بأن يفطر يومًا خلالهما أو أكثر استأنف صيام شهرين متواليين حتمًا، إلا أن يقع التفريق لعذر فإنه لا يلزمه الاستئناف وذلك نحو أن يمرض في وسط الشهرين فيفطر، فإنه إذا زالت علته بنى على ما كان قد صام، ولو كان العذر الذي أفطر في الشهرين لأجله مرجوًا زواله وزال كالمرض العارض فإنه لا يلزمه الاستئناف للصوم، فيبنى على ما كان قد فعل والخلاف في هذا كالخلاف في تفريق النذر الذي نوى فيه التتابع فإن تعذر البناء على الصوم بأن عرض له عذر مانع من الصوم قبل أن يتم الشهرين ثم استمر ذلك المانع فلم يمكنه إتمام الصوم قيل: أطعم للباقى من الصوم. مثال ذلك: أن يصوم شهرًا ثم يعرض له علة منعت الصوم واستمرت فإنه يطعم عن الشهر الثاني ثلاثين مسكينًا أو يعطى كل واحد منهم صاعًا
(1)
.
التتابع بالنسبة لكفارة اليمين:
جاء في (التاج): أن من تعذر عليه العتق والكسوة والإطعام إما لفقر بحيث لايملك إلا ما استثنى له وهو المنزل وما يستر عورته من الكسوة المعتادة، أو لبعد ماله بحيث يكون بينه وبين ماله مسافة ثلاثة أيام أو كان عبدًا؛ إذ لا يملك شيئًا، فمن كان كذلك صام ثلاثًا متوالية، فلو فرقها استأنف كما تقدم في الظهار.
التتابع بالنسبة لصوم كفارة القتل:
جاء في (التاج المذهب) أن الكفارة في القتل الخطأ تجب بشروط، فمتى اجتمعت هذه الشروط وجب على القاتل أن يُكَفِّر بعتق رقبة، فإن لم يجد الرقبة أو كان القاتل عبدًا فيصوم شهرين ولاء (أي متتابعين) بدل الرقبة، ويجوز التفريق للعذر لا الترخيص؛ لقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}
(2)
فإن تعذر العتق ثم الصوم فلا يعدل إلى الإطعام أو الكسوة كما في كفارة اليمين لعدم ذكرها في الآية
(3)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (العروة الوثقى): أن صوم الكفارة أقسام: منها ما يجب فيه الصوم مع غيره وهى كفارة قتل العمد وكفارة من أفطر على محرَّم في شهر رمضان. فإنه تجب فيهما الخصال الثالث.
ومنها: ما يجب فيه الصوم مخيرًا بينه وبين غيره وهى كفارة الإفطار في شهر رمضان وكفارة الاعتكاف وكفارة النذر والعهد وكفارة جز المرأة شعرها في المصاب، ويجب التتابع في صوم شهرين من كفارة الجمع أو كفارة التخيير، ويكفى في حصول التتابع فيهما صوم الشهر الأول ويوم من الشهر الثاني، وإذا فاته النذر المعين أو المشروط فيه التتابع فالأحوط في قضائه التتابع أيضًا، ومن وجب عليه الصوم اللازم فيه التتابع، لا يجوز أن يشرع فيه في زمان يعلم أنه لا يسلم له بتخلل العيد أو تخلل يوم يجب فيه صوم آخر من نذر أو إجارة أو شهر رمضان، فمن وجب عليه شهران متتابعان لا يجوز له أن يبتدئ بشعبان بل يجب أن يصوم قبله يومًا أو أزيد من رجب، وكذا لا يجوز أن يقتصر على شوال مع يوم من ذى القعدة أو على ذى الحجة مع يوم من المحرم لنقصان الشهرين بالعيدين، نعم لو لم يعلم
(1)
شرح الأزهار:2/ 498، 499.
(2)
سورة محمد، الآية:33.
(3)
التاج المذهب: 4/ 308، 309، 310.
من حين الشروع عدم السلامة فاتفق، فلا بأس على الأصح، وإن كان الأحوط عدم الإجزاء، ويستثنى مما ذكرنا من عدم الجواز مورد واحد وهو صوم ثلاثة أيام بدل هدى التمتع إذا شرع فيه يوم التروية، فإنه يصح، وإن تخلل بينها العيد فيأتى بالثالث بعد العيد بلا فصل أو بعد أيام التشريق بلا فصل لمن كان بمنى، وأما لو شرع فيه يوم عرفة أو صيام يوم السابع والتروية وتركه في عرفة لم يصح ووجب الاستئناف كسائر موارد وجوب التتابع، وكل صوم يشترط فيه التتابع إذا أفطر في أثنائه لا لعذر اختيارًا يجب استئنافه، وكذا إذا شرع فيه في زمان يتخلل فيه صوم واجب آخر من نذر ونحوه، وأما ما لم يشترط فيه التتابع وإن وجب فيه بنذر أو نحوه فلا يجب استئنافه. وإن أثم بالإفطار كما إذا نذر التتابع في قضاء رمضان فإنه لو خالف وَأتى به متفرقًا صح وإن عصى من جهة خلف النذر، وإذا أفطر في أثناء ما يشترط فيه التتابع لعذر من الأعذار كالمرض والحيض والنفاس والسفر الاضطرارى دون الاختيارى لم يجب استئنافه بل يبنى على ما مضى، ومن العذر إذا نسى النية حتى فات وقتها بأن تذكر بعد الزوال، ومنه أيضًا ما إذا نسى فنوى صومًا آخر ولم يتذكر إلا بعد الزوال، ومنه أيضًا ما إذا نذر قبل تغلق الكفارة صوم كل خميس فإن تخلله في أثناء التتابع لا يضر به، ولا يجب عليه الانتقال إلى غير الصوم من الخصال في صوم الشهرين لأجل هذا التعذر، نعم لو كان قد نذر صوم الدهر قبل تعلق الكفارة اتجه الانتقال إلى سائر الخصال، وكل من وجب عليه شهران متتابعان من كفارة معينة أو مخيرة إذا صام شهرًا ويومًا متتابعًا يجوز له التفريق في البقية ولو اختيارًا لا لعذر، وكذا لو كان من نذر أو عهد لم يشترط فيه تتابع الأيام جميعها ولم يكن المنساق منه ذلك وألحق الشهود بالشهرين المنذور فيه التتابع، فقالوا إذا تابع في خمسة عشر يومًا منه يجوز له التفريق في البقية اختيارًا، أو هو مشكل فلا يترك الاحتياط فيه بالاستئناف مع تخلل الإفطار عمدًا وإن بقى منه يوم، كما لا إشكال في عدم جواز التفريق اختيارًا مع تجاوز النصف في سائر أقسام الصوم المتتابع، وإذا بطل التتابع في الأثناء لا يكشف عن بطلان الأيام السابقة فهى صحيحة وإن لم تكن امتثالًا للأمر الوجوبى ولا الندبى لكونها محبوبة في حد نفسها من حيث إنها صوم، وكذلك الحال في الصلاة إذا بطلت في الأثناء فإن الأذكار والقراءة الصحيحة في حد نفسها من حيث محبوبيتها لذاتها
(1)
.
جاء في (شرائع الإسلام): أنه يتعين الصوم في المرتَّبة مع العجز عن العتق، ويتحقق العجز إما بعدم الرقبة أو عدم ثمنها، وإما بعدم التمكين من شرائها وإن وجد الثمن، ومع تحقق العجز عن العتق يلزم في الظهار والقتل خطأ صوم شهرين متتابعين، وعلى المملوك صوم شهر فإن أفطر في الشهر الأول من غير عذر استأنف وإن كان لعذر بنى، وإن صام من الثاني ولو يومًا أتم، وهل يأتى مع الإفطار؟ فيه تردد أشبهه عدم الإثم، والعذر الذي يصح معه البناء الحيض والنفاس والمرض والإغماء والجنون، وأما السفر فإن اضطر إليه كان عذرًا وإلا كان قاطعًا للتتابع.
(1)
العروة الوثقى: 1/ 375، 376.
ولو أفطرت الحامل والمرضع خوفًا على نفسيهما لم ينقطع التتابع، ولو أفطرتا خوفًا على الولد قال: قيل: ينقطع. وقيل: لا ينقطع. ولو أكره على الإفطار لم ينقطع التتابع سواء كان إجبارًا كمن وُجِرَ الماء في حلقه أو لم يكن كمن ضُرِبَ حتى أكل
(1)
.
وجاء في (الروضة البهية): أنه لو شك في نوع ما في ذمته أجزأه الإطلاق عن الكفارة على القولين كما يجزيه العتق عما في ذمته لو شك بين كفارة ونذر
(2)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (النيل): أن كفارة التغليظ إما عتق أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا بتخيير في غير الظهار والقتل. وكفارة التخفيف وهى ما في قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
…
}
(3)
الآية.
بتخيير بين الثلاثة الأولى، فمن لم يجد صام ثلاثة أيام متتابعة، قرأ ابن مسعود رضي الله عنه:(فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، ولا يضر الفصل بمرض أو حيض أو نفاس أو عيد وأجاز بعضهم الفصل بسفر يفطر فيها
(4)
.
أما كفارة الإلزام وهى موجب كفارة فعل ما التزم مع حنث، فمن قال: عليه صوم سنة أو ضعفها مثلًا إن فعل كذا أو إن لم يفعله لزمه صوم ذلك متتابعًا إن حنث ولا يلزمه أن يصوم بدل رمضان إن قال على أن أبدله، والأعياد، وأيام الحيض والنفاس إن كان أنثى. وقيل: يلزمه وقيل: لا يلزمه التتابع
(5)
.
وإن حلف بثلاثين حجة أو أقل أو أكثر لزمته فإن عجز بفقر صام لكل حجة منها شهرين متتابعين قياسًا في التتابع على سائر الكفارات من ظهار أو قتل، ولا يعذر إلا بمرض أو عيد أو رمضان أو حيض أو نفاس أو نحو ذلك ولا يعذر في قطع الصوم بسفر
(6)
.
وإن صام شهرًا أو أقل أو أكثر فأكل أو أدخل جوفه شيئًا من أي منفذ ولو مداواة نهارًا بمرض أو نسيان أو اضطرار بجوع أو إكراه بقتل أو شرب بعطش اضطرارًا أو بمرض أو بنسيان فهل يجدد؟ لأن التكفير للظهار ليس له وقت معين فهل يعذر أو يبنى؟ قولان: أظهرهما عندى الثاني: بل قيل: إن أكل أو شرب نسيانًا لم يبطل صومه، وإن أجبر فأوصل الطعام أو الشراب جوفه بنى وأعاد يومه، وقيل: لا يعيده
(7)
.
(1)
شرائع الإسلام: 2/ 80، 81.
(2)
الروضة البهية: 1/ 230، 231.
(3)
سورة المائدة، من الآية:89.
(4)
شرح النيل: 2/ 482: 483، وما بعدها.
(5)
المرجع السابق: 2/ 494، وما بعدها.
(6)
المرجع السابق: 2/ 496، 497.
(7)
المرجع السابق: 3/ 427.
انقطاع لبن المرضع
مذهب الحنفية:
جاء في (الفتاوى الهندية): رجل تزوج امرأة فولدت منه ولدًا فأرضعت ولدها ثم يبس لبنها ثم دَرَّ لها لبنٌ بعد ذلك فأرضعت صبيًا كان لهذا الصبى أن يتزوج أولاد هذا الرجل من غير المرضعة كذا في (فتاوى قاضيخان)
(1)
. وجاء في (بدائع الصنائع): لو طلق الرجل امرأته ولها لبن من ولد كانت ولدته منه فانقضت عدتها وتزوجت بزوج آخر وهى كذلك فأرضعته صبيًا عند الثاني ينظر: إن أرضعت قبل أن تحمل من الثاني فالرضاع من الأول بالإجماع، لأن اللبن نزل من الأول فلا يرتفع حكمه بارتفاع النكاح كما لا يرتفع بالموت، وكما لو حُلِب منها لبن ثم ماتت لا يبطل حكم الرضاع من لبنها؛ كذا هذا.
وإن أرضعت بعد ما وضعت من الثاني فالرضاع من الثاني بالإجماع؛ لأن اللبن منه ظاهرًا، وإن أرضعت بعد ما حملت من الثاني قبل أن تضع فالرضاع من الأول إلى أن تضع في قول أبى حنيفة، وقال أبو يوسف: إن علم أن هذا اللبن من الثاني بأن ازداد لبنها فالرضاع من الثاني، وإن لم يعلم فالرضاع من الأول، وروى الحسن بن زياد عنه أنها إذا حبلت فاللبن للثانى. وقال محمد وزفر: الرضاع منهما جميعًا إلى أن تلد فإذا ولدت فهو من الثاني.
ووجه قول محمد أن اللبن الأول باقٍ والحمل سبب لحدوث زيادة لبن فيجتمع لبنان في ثدى واحد فتثبت الحرمة بهما بخلاف ما إذا وضعت، لأن اللبن الأول ينقطع بالوضع ظاهرًا وغالبًا فكان اللبن من الثاني فكان الرضاع منه.
ووجه قول أبى يوسف أن الحامل قد ينزل لها لبن فلما ازداد لبنها عند الحمل من الثاني دل أن الزيادة من الحمل الثاني إذ لو لم يكن لكان لا يزداد بل ينقص؛ إذ العادة أن اللبن ينقص بمضى الزمان ولا يزداد فكانت الزيادة دليلًا على أنها من الحمل الثاني لا من الأول.
ووجه رواية الحسن عنه أن العادة أن بالحمل ينقطع اللبن الأول ويحدث عنده لبن آخر، فكان الموجود عند الحمل الثاني من الحمل الثاني لا من الأول فكان الرضاع منه لا من الأول
(2)
.
مذهب المالكية:
جاء في (التاج والإكليل): ويصير الطفل خاصةً ولدًا لصاحبة اللبن ولصاحبه من وطئه لانقطاع اللبن وإن بعد سنين. قال ابن الحاجب: يقدر الطفل خاصة ولدًا لصاحبة اللبن وصاحبه إن كان، فلذلك جاز أن يتزوج أخوه نسبًا أخته وأمه من الرضاع، ويعتبر صاحبه من حين الوطء.
قال بهرام: وما حصل قبل الوطء لا عبرة به.
ومن المدونة قال مالك: لو لم تلد قط وهى تحت زوج فدرت فأرضعت صبيًا قبل أن تحمل كان اللبن للفحل. قال ابن القاسم: وإن طلقها زوجها وهى ترضع ولدها منه فانقضت عدتها وتزوجت غيره ثم حملت من الثاني فأرضعت صبيًا فإنه ابن الزوج الأول والثانى، واللبن لهما جميعًا إن كان اللبن الأول لم ينقطع. وقاله ابن نافع عن مالك.
(1)
الفتاوي الهندية: 1/ 344.
(2)
بدائع الصنائع: 4/ 10 بتصرف.
قال ابن الحاجب: لبن الدارة لصاحبه إلا أن ينقطع ولو بعد سنين واشترك مع القديم.
وعبارة ابن عرفة: لو وطئ ذات لبنٍ زوج ثانٍ فالمشهور - وهو قول ابن القاسم ورواية ابن نافع وقاله محمد - أن اللبن لهما ولو ولدت من الثاني ولو بحرام إلا أن يلحق به الولد
(1)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (المهذب): أنه إذا ثار للمرأة (للزوجة) لبن علي ولد من زوج فطلقها وتزوجت بآخر فاللبن للأول إلى أن تحبل من الثاني، وينتهى إلى حال ينزل اللبن علي الحبل، فإن أرضعت طفلًا كان ابنًا للأول زاد اللبن أو لم يزد؛ انقطع ثم عاد أو لم ينقطع؛ لأنه لم يوجد سبب يوجب حدوث اللبن غير الأول، فإن بلغ الحمل من الثاني إلى حال ينزل فيه اللبن نظر، فإن لم يزد اللبن فهو للأول، فإن أرضعت به طفلًا كان ولدًا للأول؛ لأنه لم يتغير اللبن، فإن زاد فارتضع به طفل ففيه قولان: قال في القديم: هو ابنهما؛ لأن الظاهر أن الزيادة لأجل الحبل. والمرضع به لبنهما فكان ابنهما. وقال في الجديد: هو ابن الأول؛ لأن اللبن للأول يقينًا ويجوز أن تكون الزيادة لفضل الغذاء، ويجوز أن تكون للحمل، فلا يزال اليقين بالشك. فإن انقطع اللبن ثم عاد في الوقت الذي ينزل اللبن علي الحبل فأرضعت به طفلًا ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ابن الأول؛ لأن اللبن خلق غذاء للولد دون الحمل، والولد للأول فكان المرضع به ابنه. والثانى: أنه من الثاني؛ لأن لبن الأول انقطع، فالظاهر أنه حدث للحمل. والحمل للثانى فكان المرضع باللبن ابنه. والثالث: أنه ابنهما؛ لأن لكل واحد منهما أمارة تدل على أن اللبن له فجعل المرضع باللبن ابنهما. فإن وضعت الحمل وأرضعت طفلًا كان ابنًا للثانى في الأحوال كلها زاد اللبن أو لم يزد، اتصل أو انقطع ثم عاد؛ لأن حاجة المولود إلى اللبن تمنع أن يكون اللبن لغيره
(2)
.
وجاء في (مغنى المحتاج): أنه لا تنقطع نسبة اللبن عن صاحبه من زوج أو غيره مات أو زوج طلق وله اللبن وإن طالت المدة كعشر سنين وله لبن ارتضع منه أو انقطع اللبن وعاد، إذ لم يحدث ما يحال اللبن عليه، إذ الكلام في الخلية، فاستمرت نسبته إليه.
ولو حملت مرضعة مزوجة من زنا فاللبن للزوج ما لم تضع، فإذا وضعت كان اللبن للزنا نظير ما لو حملت بغير زنا، ولو نزل لبكر لبن وتزوجت وحبلت من الزوج فاللبن لها لا للزوج ما لم تلد، ولا أب للرضيع، فإن ولدت منه فاللبن بعد الولادة له
(3)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): إذا كان للمرأة لبن من زوج فأرضعت به طفلًا ثلاث رضعات فانقطع لبنها ثم تزوجت بآخر فصار لها منه لبن فأرضعت منه الطفل الذي أرضعته أولًا في الحولين رضعتين صارت أمًا له لأنه كمل له خمس رضعات من لبنها، ولم يصر واحد من
(1)
التاج والإكليل: 4/ 179 - 180.
(2)
المهذب: 2/ 157.
(3)
مغني المحتاج: 3/ 386، بتصرف.
الزوجين أبًا له؛ لأنه لم يكمل له خمس رضعات من لبن أحدهما، ويحرم الطفل عليهما إن كان أنثى؛ لكونه ربيبًا لهما قد دخلا بأمه لا لكونه ولدهما
(1)
.
وإذا تزوج امرأة لها لبن من زوج قبله أو من سيد اشترى أمة لها لبن من زوج أبانها، فوطئها فحملت منه ولم تلد ولم يزد لبُنها أو لم تحمل فاللبن للأول؛ لأن نصف اللبن كان له والأصل بقاؤه، وإن زاد اللبن بعد الحمل زيادة في أوانها فاللبن لهما، فإن أرضعت به طفلًا صار ابنًا لهما كما لو كان الولد منهما؛ لأن زيادته عند حدوث الحمل ظاهر في أنه منه وبقى لبن الأول؛ لأن أصله منه فوجب أن يضاف إليهما، وإن لم يزد اللبن بالحمل أو زاد قبل أوانه أو لم تحمل وزاد بالوطء فاللبن للأول.
وإن انقطع لبن الأول ثم ثاب بحملها من الثاني فهو لهما؛ لأن اللبن كان للأول فلما عاد بحدوث الحمل فالظاهر أن لبن الأول ثاب بسبب الحمل من الثاني فكان مضافًا إليهما، كما لو لم ينقطع. ومتى ولدت فاللبن للثانى وحده إذا زاد؛ لأن زيادته بعد الولادة تدل على أنه لحاجة المولود فتمتنع المشاركة فيه إلا إذا لم يزد اللبن أو لم ينقص من الأول حتى ولدت فاللبن لهما، لأن اللبن الأول أضيف إلى الولد الأول، واستمراره على حاله أوجب بقاءه عليه، وحاجة الولد الثاني إلى اللبن أوجبت اشتراكهما فيه كالعين إذا لم يدفع المستحق الثاني صاحب اليد عنها يبقى استحقاقه لها
(2)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): إن حملت امرأة ممن يلحق ولدها به فدبَّ لها اللبن ثم وضعت فطلقها زوجها أو مات عنها فتزوجها آخر، أو كانت أمة فملكها آخر فما أرضعت فهو ولد للأول لا للثانى، فإن حملت من الثاني فتمادى اللبن فهو للأول إلا أن يتغير ثم يعتدل، فإنه إذا تغير فقد بطل حكم الأول وصار للثانى
(3)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار): أنه يثبت حكم البنوة لذى اللبن وهو زوجها الذي علقت منه وأرضعت بعد العلوق. وعن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وابن الزبير وداود: أن الرضاع لا يقتضى التحريم بالنسبة إلى الرجل، بمعنى أنه لا يشارك الأم في حكم البنوة. وعندنا أن الزوج يشاركها إن كان لها زوج وإلا فالولد لها فحسب.
ومعنى ثبوت حكم البنوة إنما هو في تحريم النكاح دون غيره من الأحكام كالنسب والإرث وسقوط القود ونحو ذلك، وإنما يشاركها في حكم البنوة في المرضع، فيصير ابنًا له كما هو ابن لها من وطئها وعلقت منه بولد ولحقه نسبه، فإن اللبن بعد هذا العلوق يصير لهما جميعًا، وقبل العلوق لا يشاركها فيه عندنا.
قال المهدى عليه السلام: وإنما قلنا (ولحقه) احتراز من أن تعلق منه في نفس الأمر، ولا يلحقه في ظاهر الشرع كالولد المنفى باللعان ونحو ذلك؛ فإنه إذا لم يلحقه العلوق لم يشاركها في اللبن. نعم ولا يزال الرجل مشاركًا للمرأة في
(1)
كشاف القناع: 3/ 290.
(2)
المرجع السابق: 3/ 296، بتصرف.
(3)
المحلى: 10/ 24.
اللبن حتى ينقطع منها بالكلية فلو عاد بعد الانقطاع لم يرجع له فيه حق؛ أو لم ينقطع منها اللبن لم يزل مشاركًا لها، ولو طلقها وتزوجت غيره لم ينقطع حق الأول في اللبن حتى تضع من زوج غيره، فمتى وضعت بطل حق الأول
(1)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أنه إن كان اللبن عن نكاح فلو رد النكاح لم تنتشر حرمة، وكذا لو كان عن زنا، وفى نكاح الشبهة تردد؛ أشبهه تنزيله على النكاح الصحيح، ولو طلق الزوج زوجته وهى حامل منه أو مرضع فأرضعت ولدًا نشر الحرمة كما لو كانت في حباله، وكذا لو تزوجت ودخل بها الزوج الثاني وحملت، أما لو انقطع اللبن ثم عاد في وقت يمكن أن يكون للثانى كان له دون الأول، ولو اتصل حتى تضع الحمل من الثاني كان ما قبل الوضع للأول وما بعد الوضع للثانى
(2)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): أن من طلق زوجة أو مات عنها أو فارقته بوجه ما أو أعتق سرية أو اعتزلها أو باعها ثم تزوجت غيره أو تسراها فإن مسها الثاني انقطع اللبن عن الأول إلى الثاني، ولو كانت ترضع ولد الأول فيحل له تزوج امرأة الأول وأمها وبنتها وخالتها ونحوهن. وقبل المس تحرم عليه هؤلاء ويحللن له من الثاني. وقيل: لا ينقطع حتى تحمل من الثاني. وقيل: حتى تحمل منه وتضع.
وتعبيره بالمس يتبادر منه الجماع فلا يقطع اللبن بمس فرج بيد ولا بنظر. قال في (الديوان): يكون اللبن لمجنون إن مس بالغة، ولعبد ومشرك، لا لطفل. ويكون لناكح فاسدًا، ولواطئ في دبر، أو فيما دون، أو في حيض أو نفاس، أو بزنا، لا لماسٍّ فرجًا بيد ولا لناظر باطن جسد، أي ولو باطن فرج، ولا لمجبوب، ولا لواطئ في نكاح حرام بعمد، ويقطعا لزوج البالغ اللبن إذا مس مسًا تامًّا بأن غابت الحشفة، فلو لم تغب لم يقطع.
وكل مسٍّ يقطع اللبن إذا كان يثبت به اللبن إلا المس فيما دون فإنه يثبته ولا يقطعه، ولا مس طفل، ولا بزنا، ولا بنكاح محرم عمدًا كنكاح خامسة أو في عدة ويقطعه بنكاح فاسد
(3)
.
(1)
شرح الأزهار: 2/ 561 - 562، بتصرف.
(2)
شرائع الإسلام: 2/ 13.
(3)
شرح النيل: 7/ 14 - 15.
انقطاع الرجعة
مذهب الحنفية:
جاء في (تبيين الحقائق): أن الرجعة تنقطع بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة لعشرة أيام، أما إذا انقطع الدم لأقل من عشرة أيام فلا تنقطع الرجعة حتى تغتسل؛ لأن الحيض لا مزيد له على العشرة فبتمامها يحكم بطهارتها وانقضاء العدة، سواء طهرت أو لم تطهر، وإنما شرطت الطهارة فيه اعتبارًا للغالب، أو يكون معناه: طهرت لتمام العشرة، أي لأجل أنها تمت لا لانقطاع الدم؛ لأنه لا يشترط فيه الانقطاع، لأن ما زاد على العشرة استحاضة، فوجود الانقطاع بعد تمام العشرة كعدمه، إلا أن الدم إن انقطع لعشرة أيام تنقطع الرجعة في الحال، وإن لم ينقطع وكان لها عادة فإنها ترد إلى عادتها، فيتبين أن الرجعة انقطعت من ذلك الوقت، وفيما دون العشرة يحتمل عود الدم، فلا بد أن يعضد الانقطاع بأخذ شئ من أحكام الطاهرات وذلك بالاغتسال؛ لأنه يحل لها به القراءة ودخول المسجد والصلاة وغيرها، أو يمضى عليها أدنى وقت صلاة؛ وهو قدر ما تقدر على الاغتسال والتحريمة، وما دون ذلك ملحق بمدة الحيض.
وقال زفر: لا تنقطع الرجعة ما لم تغتسل؛ لأن معها يتوهم عوده.
ولو اغتسلت بسؤر الحمار مع وجود الماء المطلق انقطعت الرجعة لكنها لا تصلى حتى تغتسل بماء آخر أو تتيمم - لاحتمال نجاسة ذلك الماء - احتياطًا، وإذا انقطع الدم لأقل من عشرة أيام ولم تجد ماءً فلا تنقطع الرجعة حتى تتيمم وتصلى، ولا فرق بين أن تكون الصلاة فرضًا أو تطوعًا.
وقال محمد: تنقطع الرجعة بمجرد التيمم، وهو القياس؛ لأن التيمم عند عدم الماء يُنزَّلُ منزلة الاغتسال، بدليل جواز الصلاة وجواز دخول المسجد وغير ذلك من الأحكام به. ولا فرق بين الحكم بجواز صلاة أديت وبين الحكم بجواز الإقدام على أدائها؛ إذ كل واحد منهما يشترط له الطهارة، فإذا كان كالاغتسال في حق الأحكام فكذا في حق هذا الحكم، بل أولى؛ لأن انقطاع الرجعة يؤخذ فيه بالاحتياط ألا ترى أنها لو اغتسلت وبقيت لمعة في جسدها لم يصبها الماء أو اغتسلت بسؤر الحمار انقطعت الرجعة وإن لم يحل لها أداء الصلاة، ودليل الرأى الآخر أن التيمم طهارة ضرورية لكونه تلويثًا حقيقة، وهذا لأنه لا يرفع الحدث بيقين حتى لو وجد الماء كان محدثًا بالحدث السابق، وإنما جعل طهارةً ضرورةً الحاجة إلى أداء الصلاة كيلا تتضاعف الواجبات عليها. والثابت ضرورة يتقدر بقدرها وهى أداء الصلاة وتوابعها من دخول المسجد وقراءة القرآن فكان في حق الرجعة عدمًا إلا إذا حكمنا بجواز الصلاة؛ بالأداء فيلزمه الحكم بطهارتها ضرورة صحة الصلاة لأنها لا تصح إلا من الطاهرات، فيلزمه انقطاع الرجعة ضرورة حكمنا بها، وقبل الأداء لا يحكم لها بشئ؛ لأن حل الإقدام على الأداء مشروط باستمرار العجز، ولهذا تعيد الصلاة إذا وجدت الماء في خلال الأداء، بخلاف ما إذا اغتسلت وبقى في جسدها لمعة؛ لأن انقطاع الرجعة هنا لتوهم وصول الماء إلى ذلك الموضوع وسرعة الجفاف فكانت طهارة مطلقة قوية حتى لو تيقنت بعدم وصول الماء إليه بأن تركته عمدًا لا تنقطع الرجعة أيضًا، وبخلاف الاغتسال بسؤر الحمار؛ لأنه ماء حقيقة فيكون مطهرًا مطلقًا،
لكنها تؤمر بضم التيمم إليه في حق الصلاة احيتاطًا لاشتباه الحال فيه.
هذا وقد قيل: تنقطع الرجعة بنفس الشروع في الصلاة عندهما؛ والصحيح أنها لا تنقطع حتى تفرغ من الصلاة؛ لأن الحال بعد شروعها في الصلاة كالحال قبله، ألا ترى أنها تبطل برؤية الماء بخلاف ما بعد الفراغ منها.
وقال الكرخى: لو قرأت القرآن بعد التيمم أو مست المصحف أو دخلت المسجد تنقطع الرجعة؛ لأن صحة القراءة وجواز مس المصحف حكم من أحكام الطاهرات كجواز الصلاة.
وقال أبو بكر الرازى: لا تنقطع الرجعة؛ لأنها اتباع للصلاة فلا يعطى لها حكمها.
ولو اغتسلت ونسيت أقل من عضو تنقطع الرجعة، أما لو نسيت عضوًا فلا تنقطع الرجعة؛ وذلك كاليد والرجل، وهذا استحسان. والقياس في العضو الكامل أن تنقطع الرجعة؛ لأنها غسلت الأكثر وله حكم الكل.
وفيه قياس آخر: أن الرجعة لا تبقى فيما دون العضو أيضًا، لأن حكم الحدث لا يتجزًا زوالًا كما لا يتجزأ ثبوثًا فبقيت على ما كانت قبل الاغتسال، لهذا لم يجز لها من الأحكام ما لا يجوز للحائض
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (الشرح الكبير): أن المطلقة إن قالت عند قصد الزوج ارتجاعها: أنا حضت ثالثة فلا رجعة لك عليَّ، فأقام الزوج بينة شهدت على قولها قبل هذا القول بما يكذبها بأن شهدت بأنها قالت: لم أحض أصلًا، أو لم أحض ثالثة وليس بين قوليها ما يمكن أن تحيض فيه فتصح رجعته، فإن لم يقمها لم تصح، ولو رجعت لتصديقه أو أشهد الزوج برجعتها في العدة فصمتت يومًا أو بعضه ثم قالت: كانت عدتى قد انقضت قبل إشهادك برجعتى فتصح رجعته وتعد نادمة بقولها: كانت عدتى قد انقضت قبل إشهادك برجعتى. ومفهوم (صمتت) أنها لو بادرت بالإنكار لم يصح إن مضت مدة يمكن فيها انقضاء العدة، وصحت رجعة الزوج إن ادعى بعد انقضاء العدة أنه كان راجعها في العدة وكذبته فلم يصدق؛ لعدم البينة فتزوجت بغيره ثم ولدت ولدًا كاملًا لدون ستة أشهر من وطء الثاني لحق بالأول لظهور كون الحمل منه، ويفسخ نكاح الثاني، وردت إلى الأول برجعته التي ادعاها ولم تصدقه عليها؛ لأنه تبين أنها حين الطلاق كانت حاملًا وعدة الحامل وضع حملها كله، ولم تحرم الزوجة على الزوج الثاني تأبيدًا إذا مات الأول أو طلقها، لأنا لما ألحقنا الولد بالأول لزم أن يكون الثاني تزوج ذات زوج لا معتدة، وإن راجعها ولم تعلمه بالرجعة حتى انقضت العدة وتزوجت فإن تلذذ بها الثاني غير عالم بأنه راجعها فاتت على المراجع وإلا فلا.
وإن ادعت المطلقة انقضاء العدة في مدة يندر انقضاؤها فيها كالشهر لجواز أن يطلقها أول ليلة من الشهر وهى طاهر فيأتيها الحيض وينقطع قبل الفجر، ثم يأتيها ليلة السادس عشر وينقطع قبل الفجر، أيضًا، ثم يأتيها آخر يوم من الشهر بعد الغروب؛ لأن العبرة بالطهر في الأيام، ولا يفيدها تكذيبها نفسها إذا قالت: كنت كاذبة في قولى هذا انقضت عدتى، فلا تحل لمطلقها إلا
(1)
تبيين الحقائق: 3/ 251، وما بعدها، وانظر: بدائع الصنائع 3/ 183 - 184، والمبسوط: 6/ 23، 28.
بعقد جديد؛ ولا ترثه إن مات، ولا يفيدها دعواها أنها رأت أول الدم من الحيضة الثالثة وانقطع قبل استمراره المعتبر، وهو يوم أو بعضه
(1)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (المهذب): أنه إذا طلق الحر امرأته بعد الدخول طلقة أو طلقتين، أو طلق العبد امرأته بعد الدخول طلقة فله أن يراجعها قبل انتهاء العدة
(2)
.
لقوله عز وجل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}
(3)
. والمراد به: إذا قاربن أجلهن.
وروى ابن عباس عن عمر - رضى الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم "طلق حفصة وراجعها"
(4)
.
وروى أن ابن عمر - رضى الله عنهما - طلق امرأته وهى حائض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر:"مُر ابنك فليراجعها"
(5)
. فإن انقضت العدة لم يملك رجعتها لقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}
(6)
. فلو ملك رجعتها لما نهى الأولياء عن عضلهن عن النكاح، فإن طلقها قبل الدخول لم يملك الرجعة؛ لقوله تعالى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}
(7)
.
فعلق الرجعة على الأجل فدل على أنها لا تجوز من غير أجل، والمطلقة قبل الدخول لا دة عليها؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}
(8)
.
وإذا طلق الرجل امرأته بعد الدخول وتزوجت في عدتها بآخر ووطئها جاهلًا بتحريمها وجب عليها إتمام عدة الأول واستئناف عدة الثاني، ولا تدخل عدة أحدهما في عدة الآخر؛ لما وى سعيد بن المسيب وسليمان بن بشار أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفى فطلقها، فنكحت في عدتها فضربها عمر - رضى الله عنه - وضرب زوجها بمخفقة
(9)
ضربات، ثم قال:"أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطبًا من الخطاب .. وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم اعتدت من الآخر ولم ينكحها أبدًا"
(10)
. ولأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين فإن كانت حائلًا انقطعت عدة الأول بوطء الثاني إلى أن يفرق بينهما؛ لأنها صارت فراشًا للثانى فإذا فرق بينهما أتمت ما بقى من عدة الأول ثم استأنفت العدة من الثاني؛ لأنهما عدتان من جنس واحد فقدمت السابقة منهما، وإن كانت حاملًا نظر فإن كان الحمل من الأول انقطعت عدتها منه
(1)
الشرح الكبير بحاشية الدسوقى: 2/ 431 - 423.
(2)
المهذب: 2/ 102.
(3)
سورة البقرة، آية:231.
(4)
سنن أبى داود، كتاب الطلاق، باب في المراجعة، وسنن ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب حدثنا سويد بن سعيد. وسنن الدارمى، كتاب الطلاق، باب في الرجعة.
(5)
صحيح البخارى، كتاب الطلاق، الباب الأول. وصحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها .. إلخ.
(6)
سورة البقرة، الآية:232.
(7)
سورة البقرة، الآية:231.
(8)
سورة الأحزاب. الآية 44
(9)
المخفقة الشيء يضرب به سير أو درة التهذيب انظر اللسان مادة خق: 10/ 80.
(10)
موطأ مالك، كتاب النكاح، باب ما لا يجوز من النكاح. وسنن البيهقي، كتاب العدد باب اجتماع العدتين، ومسند الشافعي، كتاب العدد.
بوضعه، ثم استأنفت العدة من الثاني بالأقراء بعد الطهر من النفاس، وإن كان الحمل من الثاني انقضت عدتها منه بوضعه ثم أتمت عدة الأول وتقدم عدة الثاني ها هنا على عدة الأول؛ لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من الثاني وتعتد من الأول، وإن أمكن أن يكون كل واحد منهما عرض على القافة فإن ألحقته بالأول انقضت به عدته، وإن ألحقته بالثانى انقضت به عدته، وإن ألحقته بهما أو نفته عنهما أو م تعلم أو م تكن قافة لزمها أن تعتد بعد الوضع بثلاثة أقراء، لأنه إن كان من الأول لزمها للثانى ثلاثة أقراء؛ وإن كان من الثاني لزمها إكمال العدة من الأول فوجب أن تعتد بثلاثة أقراء ليسقط الفرض بيقين.
وإذا طلق الرجل زوجته طلاقًا رجعيًا ثم وطئها في العدة وجبت عليها عدة بالوطء؛ لأنه وطء في نكاح قد تشعث فهو كوطء الشبهة، فإن كانت من ذوات الأقراء أو من ذوات الشهور لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها البقية من عدة الطلاق؛ لأنهما من واحد، وله أن يراجعها في البقية؛ لأنها من عدة الطلاق، فإذا مضت البقية لم يجز أن يراجعها؛ لأنها في عدة وطء وشبهة، وإن حملت من الوطء صارت في عدة الوطء حتى تضع.
وهل تدخل فيها بقية عدة الطلاق؟ فيه وجهان، أحدهما: تدخل؛ لأنهما لواحد تدخلت إحداهما في الأخرى كما لو كانتا بالأقراء. والثانى: لا تدخل؛ لأنهما جنسان فلم تدخل إحداهما في الأخرى.
وإذا خالع امرأته بعد الدخول فله أن يتزوجها في العدة. وقال المزنى: لا يجوز كما لا يجوز لغيره، وهذا خطأ؛ لأن نكاح غيره يؤدى إلى اختلاط الأنساب، ولا يوجد ذلك في نكاحه. وإن تزوجها انقطعت العدة.
وقال أبو العباس: لا تنقطع قبل أن يطأها كما لا تنقطع إذا تزوجها أجنبى قبل أن يطأها وهذا خطأ، لأن المرأة تصير فراشًا بالعقد، ولا يجوز أن تبقى مع الفراش عدة، ولأنه لا يجوز أن تكون زوجته وتعتد منه، ويخالف الأجنبى فإن نكاحه في العدة فاسد، فلم تعد فراشًا إلا بالوطء، فإن وطئها ثم طلقها لزمها عدة مستأنفة، تدخل فيها بقية الأولى، وإن طلقها قبل أن يطأها لم يلزمها استئناف عدة؛ لأنها مطلقة في نكاح قبل المسيس فلم تلزمها عدة، كما لو تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول، وعليها أن تتمم ما بقى عليها من العدة الأولى؛ لأنا لو أسقطنا البقية أدى ذلك إلى اختلاط المياه وفساد الأنساب، لأنه يتزوج امرأة ويطأها ثم يخلعها ثم يتزوجها آخر فيطأها ثم يخلعها ثم يتزوج آخر ويفعل مثل ذلك إلى أن يجتمع على وطئها في يوم واحد كثيرون وتختلط المياه وتفسد الأنساب
(1)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): أنه إذا انقطع حيض المرأة في المرة الثالثة ولما تغتسل فهل تنقضى عدتها بانقطاع الدم؟ فيه روايتان ذكرهما ابن حامد: إحداهما: لا تنقضى عدتها حتى تغتسل، ولزوجها رجعتها في ذلك. وهذا ظاهر كلام الخرقى فإنه قال في العدة: فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة أبيحت للأزواج، وهذا قول كثير من أصحابنا، وروى ذلك عن عمر وعلى وابن مسعود وسعيد بن المسيب والثورى وأبى عبيد،
(1)
المهذب: 2/ 150 - 152.
وروى نحوه عن أبى بكر الصديق وأبى موسى وعبادة وأبى الدرداء رضى الله عنهم.
وروى عن شريك: له الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة، ووجه هذا قول من سمينا من الصحابة، ولم يعرف لهم المخالف في عصرهم فيكون إجماعًا، ولأن أكثر أحكام الحيض لا تزول إلا بالغسل وكذلك هذا.
والرواية الثانية أن العدة تنقضى بمجرد انقطاع الدم قبل الغسل، وهو قول طاوس وسعيد بن جبير والأوزاعى. واختاره أبو الخطاب؛ لقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}
(1)
والقرء هي الحيض، وقد زال فيزول التريص، وفيما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال "وقرء الأمة حيضتان"
(2)
. وقال: "دعى الصلاة أيام أقرائك"
(3)
. يعنى أيام حيضك. ولأن انقضاء العدة تتعلق به بينونتها من الزوج وحلها لغيره فلم يتعلق بفعل اختيارى من جهة المرأة بغير تعليق الزوج كالطلاق وسائر العدة، ولأنها لو تركت الغسل اختيارًا أو لجنون أو نحوه لم تحل، إما أن يقال بقول شريك: إنها تبقى معتدة ولو بقيت عشرين سنة، وذلك خلاف قول الله تعالى:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}
(4)
فإنها تصير عدتها أكثر من مائتى قرء، أو يقال: تتقضى العدة قبل الغسل فيكون رجوعًا عن قولهم، ويحمل قول الصحابة في قولهم: حتى تغتسل، أي يلزمها الغسل.
وإذا تزوجت الرجعية في عدتها وحملت من الزوج الثاني انقطعت عدتها من الأول بوطء الثاني. وهل يملك الزوج الأول رجعتها في عدة الحمل؟ يحتمل وجهين: أولاهما: أنه له رجعتها؛ لأنها لم تنقضٍ عدتها، فحكم نكاحها باقٍ يلحقها طلاقه وظهاره، وإنما انقطعت عدته لعارض، فهو كما لو وطُئت في صلب نكاحه، فإنها تحرم عليه وتبقى سائر أحكام الزوجية؛ ولأنها يملك ارتجاعها إذا عادت إلى عدته فملكه قبل ذلك كما لو ارتفع حيضها في أثناء عدتها.
والوجه الثاني: ليس له رجعتها؛ لأنها ليست في عدته، فإذا وضعت الحمل انقضت عدة الثاني وبنت على ما مضى من عدة الأول، وله ارتجاعها حينئذ وجهًا واحدًا
(5)
.
مذهب الظاهرية:
(جاء في المحلى): أن المطلقة طلاقًا رجعيًا هي زوجة للذى طلقها ما لم تنقض عدتها؛ يتوارثان ويلحقها طلاقه وإيلاؤه وظهاره ولعانه إن قذفها، وعليه نفقتها وكسوتها وإسكانها، فإذ هي زوجته، فحلال له أن ينظر منها إلى ما كان ينظر إليه منها قبل أن يطلقها وأن يطأها؛ إذ لم يأت نص بمنعه من شئ من ذلك، وقد سماه الله تعالى بعلًا لها، إذ يقول عز وجل:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}
(6)
. يقول ابن حزم: فإن وطئها لم يكن بذلك مراجعًا لها حتى يلفظ بالرجعة ويشهد ويعلمها بذلك قبل تمام عدتها، فإن راجع ولم يشهد. فليس مراجعًا؛ لقول الله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}
(7)
، قرن الله تعالى بين المراجعة والطلاق
(1)
سورة البقرة، الآية:228.
(2)
سنن أبي داود، كتاب الطلاق، باب في سنة طلاق العبد، وسنن الترمذي، كتاب الطلاق، باب ما جاء أن طلاق الأمة تطليقتان. وسنن ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب في طلاق الأمة وعدتها.
(3)
الحديث بهذا اللفظ في مسند أحمد (24500) في مسند الأنصار عن عائشة. وأصله في الصحيحين وغيرهما في عدة مواضع، انظر: صحيح البخارى، كتاب الوضوء، باب غسل الدم، وكتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره. وصحيح مسلم، كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها.
(4)
سورة البقرة، من الآية:228.
(5)
كشاف القناع: 3/ 270، والمغنى: 8/ 479 - 480.
(6)
سورة البقرة، الآية:228.
(7)
سورة الطلاق، الآية:2.
والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض، وكأن من طلق ولم يشهد ذوى عدل. أو راجع ولم يشهد ذوي عدل متعد لحدود الله تعالى
(1)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"
(2)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار): أن الحائض إذا طلقت وكانت من ذوات الحيض كانت عدتها بثلاث حيضات غير ما طلقت وهى فيها إن كانت طلقت وهى حائض، أو وقع الحيض وهى تحت زوج قد تزوجها في العدة جهلًا؛ بشرط استمرار الجهل، فلو علما أو أحدهما فزنًا إذا وطئ بعد ذلك، فلا يقطع حكم العدة منهما بتحريم ذلك، فإنما وقع من الحيض تحت زوج لا عبرة به.
وكذا الحمل لا يعتد به بما حصل تحته ما لم يتخلل بين الوطئين الصادرين منه قدر مدة الاستبراء وباقى العدة؛ إذ لا تحتاج إلى نية ولا هي في حباله. وقرر المتوكل على الله أن لا عبرة بهذا الحيض؛ لأنها تحت زوج. ولفظ البيان: وينقطع حكم عدتها بالدخول بها فلا حكم لما تحض من بعد ذلك حتى تخرج من الزوج الآخر وتستبرئ منها
(3)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أنه لو تزوجت المرأة في العدة لم يصح ولم تنقطع عدة الأول، فإن لم يدخل الثاني فهى في عدة الأول، وإن وطئها الثاني عالمًا بالتحريم فالحكم كذلك حملت أو لم تحمل، ولو كان جاهلًا ولم تحمل أتمت عدة الأول؛ لأنها أسبق واستأنفت أخرى للثانى على أشهر الروايتين، ولو حملت وكان هناك ما يدل على أنه للثانى اعتدت بوضعه له وأكملت عدة للأول بعد الوضع. ولو كان ما يدل على انتفائه عنهما أتمت بعد وضعه عدة للأول واستأنفت عدة للأخير، ولو طلقها بعد الدخول ثم راجع في العدة؛ ثم طلق قبل المسيس لزمها استئناف العدة لبطلان الأولى بالرجعة
(4)
.
ولو طلق الزوج زوجته طلقة رجعية فارتدت فراجع لم يصح، كما لا يصح ابتداء الزوجية، وفيه تردد ينشأ من كون الرجعية زوجة، ولو أسلمت بعد ذلك استأنفت الرجعة إن شاء، ولو كان عنده ذمية فطلقها رجعيًا ثم راجعها في العدة قيل: لا يجوز؛ لأن الرجعة كالعقد المستأنف. والوجه الجواز؛ لأنها لم تخرج عن زوجيته فهى كالمستدامة
(5)
.
مذهب الإباضية:
اختلف الإباضية في مراجعة المطلقة، وقالوا: هل تصح مراجعة مطلقة بائنًا بأن قال رجل لزوجته: طلقتك طلاقًا بائنًا - أو نحو ذلك - في عدة بإذنها حملًا لكونه بائنًا على معنى فوت رجعته من يده فلا يكون إلا بأمرها ورضاها؛ إذ ليس ظاهر قوله: "طلاق بائن" إلا أنه منفصل عن حكمه. وهو ما يترتب عليه من الرجعة. وهو مقابل قولك: طلقها طلاقًا رجعيًّا أو طلاقًا يملك رجعته؛ أي لم ينفصل عن ملكه بل له تداركه بالرجعة وإبطال حكمه بها.
فالبائن في حكم الفداء كما لا يراجعها بلا إذن منها في الفداء. كذلك في البائن.
أو تصح الرجعة وإن بدون إذنها؛ لأنه ليس شيئًا محرمًا لها ولا طلاقًا ثلاثًا بل طلاق واحد، والطلاق يملك الزوج رجعته ما لم يكن ثالثًا
(6)
.
(1)
المحلى 10/ 251 - 255.
(2)
صحيح البخارى في ثلاثة مواضع: كتاب البيوع. باب النجش. وكتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح. وكتاب الاعتصام، باب إذا اجتهد العامل. إلخ. وهو في صحيح مسلم، كتاب الأقضية. باب نقض الأحكام.
(3)
شرح الأزهار: 2/ 463 - 464 وانظر: التاج المذهب 2/ 211.
(4)
شرائع الإسلام: 2/ 65 - 68.
(5)
المرجع السابق: 2/ 60.
(6)
شرح النيل: 3/ 520 - 522.
انقطاع النسب
مذهب الحنفية:
جاء في (بدائع الصنائع): من أحكام اللعان وجوب قطع النسب في أحد نوعى القذف، وهو القذف بالولد، لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لاعن بين هلال بن أمية وبين زوجته وفرق بينهما نفى الولد عنه وألحقه بالمراة
(1)
، فصار النفى أحد حكمى اللعان، ولأن القذف إذا كان بالولد ففرض الزوج أن ينفى ولدًا ليس منه في زعمه فوجب النفى تحقيقًا لغرضه. وإذا كان وجوب نفيه أحد حكمى اللعان فلا يجب قبل وجوده.
وعلى هذا قلنا: إن القذف إذا لم ينعقد موجبًا للعان أو سقط بعد الوجوب ووجب الحد أو لم يجب أو لم يسقط لكنهما لم يتلاعنا بعد لا ينقطع نسب الولد، وكذا إذا نفى نسب ولد حرة فصدقته لا ينقطع نسبه لتعذر اللعان لما فيه من التناقض حيث تشهد بالله إنه لمن الكاذبين، وقد قالت: إنه صادق، وإذا تعذر اللعان تعذر قطع النسب؛ لأنه حكمه ويكون ابنهما لا يصدقان على نفيه؛ لأن النسب قد ثبت، والنسب الثابت بالنكاح لا ينقطع إلا باللعان ولم يوجد، ولا يعتبر تصادقهما على النفى؛ لأن النسب يثبت حقًّا للولد وفى تصادقهما على النفى إبطال حق الولد، وهذا لا يجوز.
وعلى هذا يخرج ما إذا كان علوق الولد في حال لا لعان بينهما فيها ثم صارت بحيث يقطع بينهما اللعان. وذلك نحو ما إذا علقت وهى كتابية أو أمة ثم أعتقت الأمة أو أسلمت الكتابية فولدت فنفاه فإنه لا ينقطع نسبه؛ لأنه لا تلاعن بينهما لعدم أهلية اللعان وقت العلوق، وقطع النسب حكم اللعان.
ثم لوجود قطع النسب شرائط: منها التفريق؛ لأن النكاح قبل التفريق قائم فلا يجب النفى.
ومنها أن يكون القذف بالنفى بحضرة الولادة أو بعدها بيوم أو بيومين أو نحو ذلك من مدة توجد فيها التهنئة أو ابتياع آلات الولادة عادة، فإن نفاه بعد ذلك لا ينتفى، ولم يوقت أبو حنيفة لذلك وقتًا، وروى عن أبى حنيفة أنه وفَّت له سبعة أيام، وأبو يوسف ومحمد وقتاه بأكثر مدة النفاس وهو أربعون يومًا.
وعلى هذا قالوا في الغائب عن امرأته: إذا ولدت ولم يعلم بالولادة حتى قدم أو بلغه الخبر وهو غائب أن له أن ينفى عند أبى حنيفة في مقدار تهنئة الولد وابتياع آلات الولادة، وعند أبى يوسف ومحمد في مقدار مدة النفاس بعد القدوم أو بلوغ الخبر؛ لأن النسب لا يلزم إلا بعد العلم به فصار حال القدوم وبلوغ الخبر كحال الولادة على المذهبين جميعًا، وروى عن أبى يوسف أنه قال: إن قدم قبل الفصال فله أن ينفيه في مقدار مدة النفاس، وإن قدم بعد الفصال فليس له أن ينفيه، ولم يرد هذا التفصيل عن محمد. كذا ذكره القدورى.
وذكر القاضي في (شرحه مختصر الطحاوى) أنه إن بلغه الخبر في مدة النفاس فله أن ينفى إلى تمام مدة النفاس، وإن بلغه الخبر بعد أربعين
(1)
صحيح البخاري في عدة مواضع منها: كتاب الشهادات، باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة .. إلخ. وكتاب التفسير، باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ
…
}. وكتاب الطلاق، باب يبدأ الرجل بالتلاعن. وهو في صحيح مسلم، في كتاب اللعان.
فقد روى عن أبى يوسف أنه قال: له أن ينفى إلى تمام سنتين؛ لأنه لما مضى وقت النفاس يعتبر وقت الرضاع ومدته سنتان عندهما، ولو بلغه الخبر بعد حولين فنفاه ذكر في غير رواية الأصول عن أبى يوسف أنه لا يقطع النسب ويلاعن. وعن محمد أنه قال: ينتفى الولد إذا نفاه بعد بلوغ الخبر إلى أربعين يومًا.
ومن شرائط قطع النسب: ألا يسبق النفى عن الزوج إقرارٌ منه بنسب الولد نصًا أو دلالة، فإن سبق لا يُقطع النسب من الأب؛ لأن النسب بعد الإقرار به لا يحتمل النفى بوجه؛ لأنه لما أقر به فقد ثبت نسبه، والنسب حق الولد فلا يملك الرجوع عنه بالنفى.
فإن جاءت بولدين في بطن فأقر بأحدهما ونفى الآخر فإن أقر بالأول ونفى الثاني لاعن ولزمه الولدان جميعًا، أما لزوم الولدين فلأن إقراره بالأول إقرار بالثانى؛ لأن الحمل حمل واحد فلا يتصور ثبوت بعض نسب الحمل دون بعض كالواحد أنه لا يتصور ثبوت نسب بعضه دون بعض، فإذا نفى الثاني فقد رجع عما أقر به
…
والنسب المقَرُّ به لا يحتمل الرجوع عنه فلم يصح نفيه فيثبت نسبهما جميعًا، ويلاعن لأن من أقر بنسب ولد ثم نفاه يلاعن، وإن كان لا يقطع نسبه؛ لأن قطع النسب ليس من لوازم اللعان بل ينفصل عنه في الجملة.
ومن شرائط قطع النسب: أن يكون الولد حيًّا وقت قطع النسب وهو وقت التفريق، فإن لم يكن لا يقطع نسبه من الأب، حتى لو جاءت بولد فمات ثم نفاه الزوج يلاعن ويلزمه الولد؛ لأن النسب يتقرر بالموت فلا يحتمل الانقطاع، ولكنه يلاعن لوجود القذف بنفى الولد، وانقطاع النسب ليس من لوازم اللعان، وكذلك إذا جاءت بولدين أحدهما ميت فنفاهما يلاعن ويلزمه الولدان لما قلنا، وكذلك جاءت بولد فنفاه الزوج ثم مات الولد قبل اللعان يلاعن الزوج ويلزمه الولد لما قلنا، وكذا إذا جاءت بولدين فنفاهما ثم ماتا قبل اللعان أو قتلا فإنه يلاعن ويلزمه الولدان؛ لأن نسب الميت منهما لا يحتمل القطع لتقرره بالموت فكذا نسب الحى؛ لأنهما توأمان.
ومن شرائط قطع النسب: ألا يكون نسب الولد محكومًا بثبوته شرعًا، كذا ذكر الكرخى، فإن كان لا يقطع نسبه - وصورته ما روى عن أبى يوسف أنه قال في رجل جاءت امرأته بولد فنفاه ولم يلاعن حتى قذفها أجنبى بالولد الذي جاءت به فضرب القاضي الأجنبيَّ الحد - فإن نسب الولد يثبت من الزوج ويسقط اللعان؛ لأن القاضي لما حَدَّ قاذفها بالولد فقد حكم بكذبه؛ والحكم بكذبه حكم بثبوت نسب الولد، والنسب المحكوم بثبوته لا يحتمل النفى باللعان كالنسب المقَرِّ به، وإنما سقط اللعان؛ لأن الحاكم لما حَدَّ قاذفها فقد حكم بإحصانها في عين ما قذفت به، ثم إذا قطع النسب من الأب وألحق الولد بالأم يبقى النسب في حق سائر الأحكام من الشهادة والزكاة والقصاص وغيرها، حتى لا يجوز شهادة أحدهما للآخر وصرف الزكاة إليه، ولا يجب القصاص
على الأب بقتله ونحو ذلك من الأحكام. إلا أنه لا يجرى التوارث بينهما ولا نفقة على الأب؛ لأن النفى باللعان يثبت شرعًا بخلاف نفقة الأصل بناءً على زعمه وظنه؛ مع كونه مولودًا على فراشه. وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم -: "الولد للفراش"
(1)
فلا يظهر في حق سائر الأحكام.
(2)
مذهب المالكية:
جاء في (شرح الخرشى): ينتفي باللعان ما ولد لستة أشهر وإلا لحق به؛ والمعنى أنه إذا لاعنها بسبب رؤية الزنا وما في معناه من العلم فإنه ينتفى عنه بذلك وما ولدته من ولد كامل لستة أشهر فصاعدًا من يوم الرؤية؛ وتُعد كأنها غير بريئة الرحم يوم اللعان؛ وإن أتت بولد غير سقط لدون ستة أشهر لحق به؛ لأن لعانه إنما كان لرؤية الزنا لا لنفى الولد؛ وهذا هو قول ابن القاسم؛ ويُلحق إن ظهر يومها؛ لأن المراد بظهوره وضعه لدون ستة أشهر، وهو تفسير لقوله عن مالك: وفى حكم الستة ما نقص عنها بيسير كأربعة أو خمسة أيام. إلا أن يدعى الاستبراء؛ أي أن ما ذكره من أنه يلحق من لاعن للرؤية ما ولدته لأقل من ستة أشهر من الرؤية مقيد بما إذا لم يدع استبراءً قبل الرؤية. فإن ادعى ذلك فإنه لا يلحق به؛ وينتفى باللعان الأول عند أشهب، وهذا إذا كان بين استبرائه ووضعها ستة أشهر أو ما في حكمها فأكثر، أما إن كان أقل من ستة أشهر فإنه يحمل على أنه موجود في بطنها حال استبرائها. ويلاعن الزوج زوجته بنفى حمل ظاهر بشهادة امرأتين من غير تأخير للوضع. ولابد من لعان الزوج وإن نكل حُدَّ لقذفه وإن مات الولد؛ الذي رماها أو الحمل الذي رماها به؛ وفائدة اللعان حينئذ سقوط الحد عنه؛ وكذلك يكفى لعان واحد وإن تعدد الوضع كما لو وضعت أكثر من واحد في بطون وكان الأب غائبًا فلما قدم وعلم بذلك نفى الجميع؛ لأنه حينئذ بمنزلة من قذف زوجته بالزنا مرارًا متعددة فإنه يكفى في ذلك لعان واحد. وكذلك يكفى لعان واحد وإن تعدد التوأم كما إذا ولدت توأمين في بطن؛ لأنهما في حكم الولد الواحد؛ وينتفى الحمل في جميع الصور بلعان معجل بلا تأخير ولو مريضين أو أحدهما إلا الحائض والنفساء فيؤخران.
وملاعنة الرجل لزوجته لنفى الولد أو الحمل مقيد بأن يعتمد في لعانه على أحد هذه الأمور:
الأول: أن يقول: أنا ما وطئتها من حين وضعت الحمل الأول الذي قبل هذا الحمل المنفى وبين الوضعين ما يقطع الثاني عن الأول وهو ستة أشهر فأكثر فإنه حينئذ يلاعن؛ فأما لو كان بينهما أقل من ستة أشهر لكان الثاني من تتمة الأول.
الثاني: أن يكون الحمل لا يُلحق الولد فيها بالزوج إما لقلة بأن أتت به لخمسة أشهر من يوم الإصابة؛ فإنه يعتمد في ذلك على نفيه ويلاعن فيه؛ لأن الولد ليس هو للوطء الثاني لنقصه عن ستة ولا من بقية الأول لقطع الستة عنه: فإن كان بينهما ستة أو وطئها بعد وضع الأول وأمسك عنها ثم أتت بولد لمدة لا يلحق فيها الولد لكثرةٍ
(1)
صحيح البخارى في عدة مواضع منها: كتاب المحاربين من أهل الكُفر والردة، باب للعاهر الحجر وكتاب البيوع، باب تفسير المشبهات وصحيح مسلم، كتاب الوضاع، باب الولد للفراش وتوقى الشبهات.
(2)
بدائع الصنائع: 3/ 248.
كخمس سنين فأكثر فإنه يعتمد في ذلك على نفيه ويلاعن فيه.
الثالث: أن يكون الزوج قد استبرأها بحيضة بعد وطئه إياهاء ولم يطأها بعد استبرائه ثم رأها تزنى ثم ولدت ولدًا؛ بين الاستبراء ووضع الحمل المنفى ستة أشهر فأكثر؛ فإنه يعتمد في نفيه على ذلك ويلاعن. والحيضة في ذلك تجزئ. ولا ينتفى الحمل إلا بلعان من الزوج فقط ولو تصادق الزوج والزوجة على نفيه إلا أن تأتى به لدون ستة أشهر؛ وكذلك ينتفى الولد بغير لعان إذا عَقَدَ مشرقيُّ على مغربية وتولى العقد بينهما في ذلك وليُّهما؛ وعُلم بقاءٌ كل منهما في محله إلى أن ظهر الحمل لقيام المائع العادى على نفيه. بل المراد أن تدعيه على من هو على مدة لا يمكن مجيئه إليها مع خفائه.
(1)
مذهب الشافعية:
جاء في (المذهب): أنه إذا تزوج: امرأة وهو ممن يولد لمثله وأمكن اجتماعهما على الوطاء وأتت بولد لمدة يمكن أن يكون الحمل فيها لحقه في الظاهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش"
(2)
ولأنه في هذه الحال يمكن أن يكون الولد منه وليس هاهنا ما يعارضه ولا ما يسقطه فوجب أن يلحق به؛ وإن كان الزوج صغيرًا لا يولد لمثله لم يلحقه؛ لأنه لا يمكن أن يكون منه؛ وينتفى عنه من غير لعان؛ لأن اللعان يمين؛ واليمين جعلت لتحقيق ما يجوز أن يكون ويجوز ألا يكون؛ فيتحقق باليمين أحد الجائزين: وهاهنا لا يجوز أن يكون الولد له فلا يحتاج في نفيه إلى اللعان.
وإن كان الزوج مجبوبًا فقد روى المزنى أن له أن يلاعن؛ وروى الربيع أنه ينتفى من غير لعان؛ واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: إن كان مقطوع الذكر والأنثيين انتفى من غير تلعان؛ لأنه يستحيل أن ينزل مع قطعهما؛ وإن قطع أحدهما لحقه ولا ينتفى إلا بلعان؛ لأنه إذا بقى الذكر أولج وأنزل، وإن بقى الأنثيان ساحق وأنزل وحمل الروايتين على هذين الحالين.
وقال القاضي أبو حامد: في أصل الذكر ثقبتان أحدهما للبول والأخرى للمنى، فإذا انسدت ثقبة المنى انتفى الولد من غير لعان؛ لأنه يستحيل الإنزال، وإن لم تنسد لم ينتف إلا باللعان؛ لأنه يمكن الإنزال، وحمل الروايتين على هذين الحالين. وإن لم يمكن اجتماعهما على الوطء بأن تزوجها وطلقها عقيب العقد أو كانت بينهما مسافة لا يمكن معها الاجتماع انتفى الولد من غير لعان؛ لأنه لا يمكن أن يكون منه؛ وإن أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت العقد انتفى عنه من غير لعان لأنا نعلم أنها علقت به قبل حدوث الفراش؛ وإن دخل بها ثم طلقها وهى حامل فوضعت الحمل ثم أتت بولد آخر لستة أشهر لم يلحقه وانتفى غنه من غير لعان لأنا قطعنا ببراءة رحمها بوضع الحمل. وأن هذا الولد الآخر علقت به بعد زوال الفراش؛ وإن طلقها وهى غير حامل واعتدت بالأقراء ثم وضعت ولدًا قبل أن تتزوج بغيره لدون ستة أشهر لحقه؛ لأنا تيقنا أن عدتها لم تنقض، وإن أتت به لستة أشهر أو أربع سنين أو ما بينهما لحقه.
(1)
شرح الخرشي: 4/ 125 وما بعدها.
(2)
سبق تخريجه.
وقال أبو العباس بن سريج: لا يلحقه. لأنا حكمنا بانقضاء العدة وإباحتها للأزواج وما حكم به لا يجوز نقضه لأمر محتمل؛ وهذا خطأ لأنه يمكن أن يكون منه. والنسب إذا أمكن إثباته لم يجز نفيه؛ ولهذا إذا أتت بولد بعد العقد لستة أشهر لحقه. وإن كان الأصل عدم الوطء وبراءة الرحم؛ فإن وضعت لأكثر من أربع سنين نظر فإن كان الطلاق بائنًا انتفى عنه بغير لعان؛ لأن العلوق حادث بعد زوال الفراش؛ وإن كان رجعيًا ففيه قولان: أحدهما ينتفى عنه بغير لعان؛ لأنها حرمت عليه بالطلاق تحريم المبتوتة فصار كما لو طلقها طلاقًا بائنًا. والقول الثاني: يلحقه؛ لأنها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار والإيلاء.
فإذا قلنا بهذا فإلى متى يلحقه ولدها؟ فيه وجهان. قال أبو إسحاق: يلحقه أبدًا؛ لأن العدة يجوز أن تمتد؛ لأن أكثر الطهر لا حَدَّ له، وَمن أصحابنا من يلحقه إلى أربع سنين من وقت انقضاء العدة؛ وهو الصحيح؛ لأن العدة إذا انقضت بانت وصارت كالمبتوتة؛ وإن كانت له زوجة يلحقه ولدها ووطئها رجل بشبهة وادعى الزوج أن الولد من الواطئ عرض معهما على القافة ولا يلاعن لنفيه؛ لأنه يمكن نفيه بغير لعان وهو القافة؛ فلا يجوز نفيه باللعان؛ فإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها ترك حتى يبلغ السن الذي ينتسب فيه إلى أحدهما، فإن بلغ وانتسب إلى الواطئ بشبهة انتفى عن الزوج بغير لعان؛ وإن انتسب إلى الزوج لم ينتف عنه إلا باللعان؛ لأنه لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان.
وإن قال: زنى بك فلان وأنت مكرهة والولد منه؛ ففيه قولان: أحدهما لا يلاعن لنفيه؛ لأن أحدهما ليس بزانٍ فلم يلاعن لنفى الولد؛ كما لو وطئها رجل بشبهة وهى زانية. والثانى: أن له أن يلاعن؛ وهو الصحيح؛ لأنه نسب يلحقه من غير رضاه لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان. كما لو كانا زانيين. وإن أتت امرأته بولد فادعى الزوج أنه من زوج قبله وكان لها زوج قبله نظر فإن وضعته لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول ولدون ستة أشهر من عقد الزوج الثاني فهو للأول؛ لأنه يمكن أن يكون منه؛ وينتفى عن الزوج بغير لعان؛ لأنه لا يمكن أن يكون منه؛ وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول ولأقل من ستة أشهر من عقد الزوج الثاني انتفى عنهما؛ لأنه لا يمكن أن يكون من واحد منهما.
وإن أتت امرأة بولد أسود وهما أبيضان؛ أو بولد أبيض وهما أسودان ففيه وجهان: أحدهما: أن له أن ينفيه. لما روى ابن عباس رضى الله عنهما - في حديث هلال بن أمية أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن جاءت به أورق جعدًا جماليا خدلج الساقين سابع الإليتين فهو للذى رميت به". فجاءت به أورق جمدًا جماليًا خدلج الساقين، سابغ الإليتين؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان لكان لى ولها شأن.
(1)
فجعل الشبه دليلًا على أنه ليس منه.
والثانى: أنه لا يجوز نفيه؛ لما روى أبو هريرة - رضى الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم من بنى فزارة
(2)
(1)
الحديث أصله في صحيح البخارى: في كتاب تفسير القرآن، باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ
…
} .. إلخ
(2)
صحيح البخارى في موضعين: كتاب الطلاق، باب إذا عرض ينفى الولد. وكتاب المحاربين. باب ما جاء في التعريض.
وصحيح مسلم، كتاب اللعان. حديث رقم (1500).
فقال: إن امرأتى جاءت بولد أسود ونحن أبيضان. فقال: "هل لك من إبل؟؛ قال: نعم. قال: "ما ألوانها". قال: حُمْر. قال: "هل فيها من أورق؟ ". قال: إن فيها لأورقًا. قال: "فأنى ترى ذلك؟ ". قال: عسى أن يكون نزعة عرق. قال: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق". (2)
وإذا أتت امرأته بولدين توأمين وانتفى عن أحدهما وأقر بالآخر؛ أو ترك نفيه من غير عذر لحقه الولدان؛ لأنهما حمل واحد فلا يجوز أن يلحقه أحدهما دون الآخرء وجعلنا ما انتفى عنه تابعًا لما أقر به؛ ولم نجعل ما أقر به تابعًا لما انتفى عنه؛ لأن النسب يحتاط لإثباته ولا يحتاط لنفيه، ولهذا إذا أتت بولد يمكن أن يكون منه ويمكن أن لا يكون منه ألحقناه به احتياطًا لإثباته ولم ننفه احتياطًا لنفيه؛ وإن أتت بولد فنفاه باللعان ثم أتت بولد آخر لأقل من ستة أشهر من ولادة الأول لم ينتف الثاني من غير اللعان؛ لأن اللعان يتناول الأول. فإن نفاه باللعان انتفى. وإن أقر به أو ترك نفيه من غير عذر لحقه الولدان؛ لأنهما حمل واحد؛ وجعلنا ما نفاه تابعًا لما لحقه. ولم يجعل ما لحقه تابعًا لما نفاه لما ذكرناه في التوأمين. وإن أتت بالولد الثاني لستة أشهر من ولادة الأول انتفى بغير لعان؛ لأنها علقت به بعد زوال الفراش؛ وإن لاعنها على حمل فولدت ولدين بينهما ما دون ستة أشهر لم يلحقه واحد منهما؛ لأنهما كانا موجودين عند اللعان فانتفيا به؛ وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر انتفى الأول باللعان وانتفى الثاني بغير لعان لأنَّا تيقنا بوضع الأول بعد براءة رحمها منه وأنها علقت بالثانى بعد زوال الفراش.
(1)
وإن نفى باللعان نسب ولد انتفى عنه لما روى ابن عمر - رضى الله عنهما - أن رجلًا لاعن امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى عنه ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه ما والحق الولد بالمرأة.
(2)
فإن لم يذكر النسب في اللعان أعاد اللعان؛ لأنه لم ينتف باللعان الأول
(3)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (شرح منتهى الإرادات): أنه شرط لنفى ولد بلعان أن لا يتقدم اللعان إقرار بالولد المنفى أو إقرار بتوأم؛ أو إقرار بما يدل على الإقرار به كما لو نفاه وسكت عن توأمه؛ أو هُنيء إمكان النفى بلا عذر، أو أخره رجاء موته؛ لأنه خيار لدفع ضرر فكان على الفور كخيار الشفعة؛ وإن كان جائعًا أو ظمآنًا فأخره حتى أكل أو شرب أو نام لنعاس أو لبس ثيابه أو أسرج دابته أو نحوه أو صلى إن حضرت صلاة أو أحرز ماله إن لم يكن محرزًا ونحوه فله نفيه.
وإن قال: لم أعلم بالولد وأمكن صدقه. أو قال: لم أعلم أن لى نفيه؛ أو لم أعلم أن النفى يكون على الفور وأمكن صدقه قُبل؛ لأن الأصل عدم ذلك؛ وإن لم يمكن صدقه بأن ادعى العلم به وهو معها في الدار أو ادعى عدم العلم بأن له نفيه وهو فقيه لم يقبل؛ لأنه خلاف الظاهر.
وإن أخر نفيه لعذر كحبس ومرض وغيبة وحفظ مال أو ذهاب ليل ولدت فيه حتى يصبح وينتشر الناس ونحو ذلك كملازمة غريم
(4)
يخاف فوته ونحوه لم يسقط نفيه. وإن علم غائب عن
(1)
المهذب: 2/ 120 - 123.
(2)
صحيح البخارى. كتاب الفرائض، باب ميراث الملاعنة. صحيح مسلم: كتاب اللعان 2/ 1132 حديث رقم 1494.
(3)
المهذب:2/ 127.
(4)
الغريم: الذي عليه الدين وغيره من الحقوق. انظر: تحرير ألفاظ التنبيه (195).
بلد بولادته فاشتغل بسيره لم يسقط نفيه؛ وإن أقام بلا حاجة سقط؛ ومتى أكذب نفسه بعد نفيه حد لزوجة محصنة وعزر لغيرها كذمية أو رقيقة سواء كان قد لاعن أو لا؛ لأن اللعان يمين أو بينة درأت عنه الحد أو التعزير فإذا أقر بما يخالفه بعده سقط حكمه كما لو حلف أو أقام بينة على حق غيره ثم أقر به؛ وانجر النسب - أي نسب الولد الذي أقر به من جهة الأم إلى جهة الأب المكذب لنفسه بعد نفيه - كانجرار ولاء من موالى الأم إلى موالى الأب بعتق الأب؛ وعلى الأب ما أنفقته الأم قبل استلحاقه وتوارثا، أي ورث كل من الأب المكذب نفسه والولد الذي استحلقه بعد نفيه الآخر؛ لأن الإرث يتبع النسب.
ولا يلحق الملاعنَ نسبُ ولد نفاه ومات باستلحاق ورثته بعده نصا؛ لأنهم يحملون على غيرهم نسبًا قد نفاه عنه فلم يقبل منهم؛ ولأن نسبه انقطع بنفيه عن نفسه لتفرده بالعلم به دون غيره؛ ولذلك لا تقبل الشهادة به إلا أن يسند إلى قوله فلا يقبل إقرار غيره به عليه كما لو شهد به.
والتوأمان المنفيان بلعان أخوان لأم فقط لانتفاء النسب من جهة الأب كتوأمى الزنا.
ولو كان الزوج ابن عشر سنين فيهما - أي فيما إذا أتت به لستة أشهر منذ أمكن اجتماعه بها؛ أو لدون أربع سنين منذ أبانها لحقه نسبه؛ لحديث "الولد للقراش"
(1)
، ولإمكان كونه منه؛ وقدروه بعشر سنين لحديث:"اضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع".
(2)
ولأن العشر يمكن فيها البلوغ فألحق به الولد كالبالغ المتيقن، وقد روى أن عمرو بن العاص وابنه لم يكن بينهما إلا اثنا عشر عامًا. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينهم في المضاجع دليل إمكان الوطء وهو سبب الولادة؛ ومع لحوق الولد بابن عشر لا يحكم ببلوغه لاستدعاء الحكم ببلوغه يقينًا لترتب الأحكام عليه من التكليف ووجوب الغرامات فلا يحكم به مع الشك وإلحاق الولد به لحفظ النسب احتياطًا.
وإن لم يكن كون الولد من الزوج كأن أتت به لدون نصف سنة منذ تزوجها وعاش لم يلحقه للعلم بأنها كانت حاملًا به قبل التزويج. فإن مات أو ولدته ميتًا لحقه بالإمكان. أو أتت لأكثر من أربع سنين منذ أبانها لم يلحقه للعلم بأنها حملت به بعد بينونتها؛ إذ لا يمكنا بقاؤها حاملًا به بعد البينونة إلى تلك المدة؛ أو أقرت بائن وتأتى الرجمية بانقضاء عدتها بالقروء ثم ولدت لفوق نصف سنة من عدتها التي أقرت بانقضائها بالقروء ولم يلحقه لإتيانها به بعد الحكم بانقضاء عدتها في وقت يمكن أن لا يكون منه؛ فلم يلحقه به كما لو انقضت عدتها بوضع الحمل؛ أو كان بين الزوجين وقت العقد مسافة لا يقطعها في المدة التي ولدت فيها كمغربي تزوج بمشرقية فولدت بعد ستة أشهر لم يلحقه؛ لأنه لم يحصل إمكان الوطء في هذا العقد. أو كان الزوج لم يكمل له عشر سنين؛ أو قطع ذكره مع أنثييه لم يلحقه نسبه لاستحالة الإيلاج والإنزال منه؛ ويلحق النسب زوجًا عنينًا ومن قطع ذكره دون أنثييه لإمكان إنزاله، وكذا يلحق من قطع أنثياه فقط عند الأكثر من الأصحاب. قال في (المقنع): قال أصحابنا: يلحقه نسبه. وفيه بُعد؛ وقيل: لا يلحقه نسبه مع قطع أنثييه. قال المنقح: وهو الصحيح؛ لأنه لا يخلق من مائه ولد عادة ولا
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سنن أبى داود كتاب الصلاة، باب متي يؤمر الصبي بالصلاة.
وجد ذلك؛ أشبه ما لو قطع ذكره مع أنثييه؛ وإن ولدت مطلقة رجعية بعد أربع سنين - منذ طلقها زوجها وقبل انقضاء عدتها لحق نسبه؛ أو ولدت رجعية لأقل من أربع سنين منذ انقضت عدتها ولو بأقراء لحق نسبه بالمطلِّق؛ لأن الرجعية في حكم الزوجات في أكثر الأحكام أشبه ما قبل الطلاق.
(1)
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): إن كانت المرأة الملاعنة حاملًا فبتمام الالتعان منهما جميعًا ينتفى عنه الحمل؛ ذكره أو لم يذكره. إلا أن يقرَّ به فيلحقه ولا حَدَّ عليه في قذفه لها مع إقراره بأن حملها منه إذا التعن، فلو صدقته هي فيما قذفها به وفى أن الحمل ليس منه حُدَّتْ، ولا ينتفى عنه ما ولدت بل هو لاحقٌّ به؛ فإن لم يلاعنها حتى وضعت حملها فله أن يلاعنها لدرء الحد عن نقسه. وأما ما ولدته فلا ينتفى عنه بعد أصلًا فلو طلقها وقذفها في عدتها منه لاعنها
…
ولا يضره إمساكها ووطؤها بعد أن قذفها بل يلاعنها متى شاء
(2)
.
ثم قال ابن حزم: إنه بتمام التعانه والتعانها ينتفى عنه لحاق حملها إلا أن يُقرَّ به؛ وسواء ذكره أو لم يذكره إذا انتفى عنه قبل ذلك فذلك لما رويناه من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر - رضى الله عنه - قال: "لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بين رجل وامراته فانتفى عنه ولده ففرق بينهما، والحق الولد بالمرأة"
(3)
.
وعن سهل بن سعيد قال: إن عويمرًا العجلانى
…
وذكر حديث اللعان؛ وفيه: "فكانت حاملًا فكان الولد إلى أمه"
(4)
.
قال ابن حزم: إنه إن لم يلاعنها حتى ولدت لاعن لإسقاط الحد فقط، ولا ينتفى ولدها منه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الولد لصاحب الفراش"
(5)
فصح أن كل من ولد على فراشه ولد فهو ولده إلا حيث نفاه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو حيث يوقن بلا شك أنه ليس هو ولده؛ ولم ينفه صلى الله عليه وسلم إلا وهى حامل باللعان فقط، فيبقى ما عدا ذلك على لحاق النسب. ولذلك قلنا: إن صدقته في أن الحمل ليس منه فإن تصديقها له لا يلتفت إليه؛ لأن الله تعالى يقول: "ولا تكسب كل نفس إلا عليها"
(6)
فوجب أن إقرار الأبوين لا يصدق على نفى الولد فيكون كسبًا على غيرهما، وإنما نفى الله عز وجل الولد إن كذبته الأم والتعنت هي والزوج فقط؛ فلا ينتفي في غير هذا الموضع.
(7)
مذهب الزيدية:
جاء في "شرح الأزهار": أن الزوجة تطلب اللعان لأحد غرضين: إما لنفى الولد من الأب، وتصير عصبته عصبة أمه؛ وينقطع حكم الأبوة بينه وبين من نفاه؛ وإما لإثبات حد القذف على الزوج.
(8)
وإنما يحكم بالفسخ والنفى إن طلب ذلك بعد الأيمان؛ فلو لم يطالب بالحكم لم يحكم فيسقط الحد عنهما متى حكم الحاكم بالنفى والفسخ. وينفى النسب إن كان ثم ولد؛ وينفسخ النكاح بينهما ويرتفع الفراش وتحرم عليه تحريمًا مؤبدًا.
(1)
شرح منتهى الإرادات 3/ 315 - 318.
(2)
المحلى: 10/ 144 بتصرف.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
أخرجه مسلم بمعناه (2/ 1130) كتاب اللعان. حديث رقم (1492).
(5)
سبق تخريجه.
(6)
سورة الأنعام، الآية:164.
(7)
المحلى: 10/ 147 بتصرف.
(8)
شرح الأزهار: 2/ 514.
وإذا نفى الزوج ولدًا ثم فرق الحاكم بينهما ثم ولدت آخر فإنه يكفى هذا اللعان لمن ولد بعده لدون أدنى الحمل إذا نفاه الزوج أو لم ينفه ولا أقرَّ به؛ فإن أقرَّ به حُدَّ ولزمه الولد؛ لأنه حمل واحد؛ ولو نفى ولدًا ثم وقع اللعان بينهما والحكم بالنفى ثم أكذب نفسه بعد ذلك وأقر بالولد فإنه يصح الرجوع من الزوج عن النفي، فإن رجع الزوج وأكذب نفسه بعد موت الولد المنفى لم يرثه هذا الأب الملاعن.
قيل: وإن لحقه ولده قال بعض المذاكرين: وإن كان للولد المنفى ولدٌ لحق نسبه بالأب الملاعن وكان جدًّا لابن المنفى ولا يرث منه شيئًا؛ لأنه أقر بحق له وهو الإرث فلا يصادق؛ لأنه أقر بحق له وبحق عليه؛ وهو لحوق النسب به فيصح إقراره.
قال مولانا المهدى عليه السلام وفيما ذكره ضعف؛ لأنه خلاف ما حكاه أبو جعفر في (شرح الإبانة) عن الهادى عليه السلام لأنه قال: إن لم يكن للولد المنفى ولد لم يثبت نسبه ولا ميراثه؛ وإن كان له ولد ثبت نسبه وميراثه عن الهادى عليه السلام.
وقال الناصر: يثبت نسب الولد المنفى الميت سواء كان له ولد أم لا؛ ولا يصح من الرجل نفى الولد بعد الإقرار به. قال المهدى عليه السلام: ولا أحفظ خلافًا في ذلك؛ لأن ذلك يجرى مجرى الرجوع عن الإقرار بحق الغير وذلك لا يصح، وإذا نفى الولد بعد السكوت حين العلم به وحين علم أن له النفى وسكت عن نفيه في تلك الحال فإنه لا يصح له أن ينفيه من بعد.
قال المذاكرون: هذا إذا سكت سكوت استبشار، فأما لو سكت سكوت إنكار كان له أن ينفيه بعد السكوت. قال مولانا المهدى عليه السلام ولا معنى لهذا الاشتراط إلا إذا قدرنا أنه علم بالولد ولم يعلم أن له النفى، فأما إذا علم أن له النفى وسكت؛ لم يكن له أن ينفيه بعد؛ لأن نفى الولد على الفور واجب؛ فأما لو علم بحدوث الولد ولم يعلم أن له نفيه كان له نفيه متى علم أن له نفيه. قال في اللمع؛ وإن نفى الولد بعد زمان طويل من وقت الولادة وجب اللعان بينهما. وقال المؤيد بالله: إذا لم ينفه بعد ولادته لم يكن له نفيه سواء كان عالمًا أن له النفى أم لا. ولا يصح نفى الولد بدون حكم ولعان؛ فلو تصادق الزوجان على نفى الولد ولم ينتف؛ وكذا لو التعنا ولم يقع بينهما حكم؛ أو حكم الحاكم من دون لعان لم يصح النفى.
وقال المنصور بالله: إذا تصادقا على أنها زانية وأنه ليس مته الولد لم يلزمه ذلك الولد وتُحد المرأة
(1)
.
ولا يصح النفى لمن مات أو مات أحد أبويه قبل الحكم بالنفى أيضا لبعض بطن دون بعض، فلو ولدت المرأة توأمين لم يصح نفى أحدهما دون الآخر؛ وكذا لو نفاهما جميعًا ثم مات أحدهما قبل الحكم فإنه يبطل نفيهما جميعًا. وكذا لو نفى ولدًا لها والتعنا وحكم حاكم ثم جاءت بولد لدون ستة أشهر من يوم اللعان فإن الآخر ينتفى نسبه بانتفاء نسب الأول. وإن أقر بالثانى ثبت نسب الأول أيضًا. ولا يصح النفى أيضًا لبطن ثان لحقه بعد اللعان. فلو وقع اللعان لنفى الولد وحكم الحاكم؛ ثم جاءت بولد بعد ذلك
(1)
انظر: شرح الأزهار 1/ 516 - 518.
لستة أشهر فصاعدا إلى أربع سنين من يوم الحكم لحقه هذا الولد لمكان الفراش الأول ولم يصح نفى هذا الولد بحال من الأحوال؛ لأن نفيه لا يكون إلا بلعان؛ ولا مساغ له؛ لأنه قد تأبد التحريم باللعان الأول.
ويصح من الزوج النفى للحمل حال الحمل: فإن وضع ذلك الحمل لدون أدنى مدته؛ فإذا ولدت لدون ستة أشهر من يوم النفى انكشف صحة ذلك النفى؛ وإن وضعت لأكثر بطل النفى؛ وليس المراد أنه يشترط في لفظ النفى أن يقترن بالشرط بل يصح منه النفى من غير شرط؛ ولكنه في نفس الأمر مشروط بأن تضع لدون أدنى مدة الحمل لا اللعان. فلا يصح قبل الوضع لا مطلقًا ولا مشروطًا؛ بل يؤخر حتى تضع. وقال أبو طالب: إن اللعان والنفى يصحان حال الحمل مشروطًا بأن تأتى لدون ستة أشهر؛ وصورته: والله إنى لصادق فيما رميتك به إن أتيت به لدون. ستة أشهر
(1)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (الروضة البهية): من أحكام اللعان نفى الولد عن الرجل لا عن المرأة إن كان اللعان لنفيه والتحريم المؤبد؛ وهو ثابت مطلقًا
(2)
.
وجاء في (شرائع الإسلام): أنه لا يثبت اللعان بإنكار الولد حتى تضعه لستة أشهر فصاعدًا من حين وطئها ما لم يتجاوز حملها أقصى مدة الحمل وتكون موطوءة بالعقد الدائم. ولو ولدته تامًّا لأقل من ستة أشهر لم يلحق به وانتفى عنه بغير لعان؛ أما لو اختلفا بعد الدخول في زمان الحمل تلاعنا، ولا يلحق الولد حتى يكون الوطء ممكنًا والزوج قادرًا؛ فلو دخل الصبى لدون تسع فولدت لم يلحق به؛ ولو كان سنه عشرًا فما زاد لحق به لإمكان البلوغ في حقه ولو كان نادرًا، ولو أنكر الولد لم يلاعن؛ إذ لا حكم للعانه؛ ويؤخر اللعان حتى يبلغ ويرشد وينكره؛ ولو مات قبل البلوغ أو بعده ولم ينكره ألحق به وورثته الزوجة والولد؛ ولا يُلحق الولد الخصى المجبوب؛ على تردد ويلحق ولد الخصى أو المجبوب ولا يُنتفى ولد أحدهما إلا باللعان تنزيلًا لا على الاحتمال وإن بعد؛ وإذا كان الزوج حاضرًا وقت الولادة ولم ينكر الولد مع ارتفاع الأعذار لم يكن له إنكاره بعد ذلك إلا أن يؤخره بما جرت العادة به كالسعى إلى الحاكم؛ ولو قبل له إنكاره بعد ذلك ما لم يعترف به كان حسنًا؛ ولو أمسك عن نفى الحمل حتى وضعت جاز له نفيه بعد الوضع على القولين لاحتمال أن يكون التوقف لتردده بين أن يكون حملًا أو ريحًا، ومن أقر بالولد صريحًا أو فحوى لم يكن له إنكاره بعد ذلك. مثل أن يبشر به فيجيب بما يتضمن الرضا كأن يقال له: بارك الله لك في مولودك. فيقول؛ آمين. أو إن شاء الله .. أما لو قال مجيبًا: بارك الله فيك؛ أو أحسن الله إليك لم يكن إقرارًا. وإذا أطلق الرجل وأنكر الدخول فادعته وادعت أنها حامل منه فإن أقامت بينة أنه أرخى سترًا لاعنها وحرمت عليه وكان عليه المهر؛ وإن لم تقم بينة كان عليه نصف المهر ولا لعان، وعليها مائة سوط. وقيل: لا يثبت اللعان ما لم يثبت الدخول وهو الوطء؛ ولا يكفى
(1)
شرح الأزهار: 2/ 520، 521، بتصرف.
(2)
الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية: 2/ 186.
إرخاء الستر، ولا يتوجه عليه الحد؛ لأنه لم يقذف ولا أنكر ولدًا يلزمه الإقرار به؛ ولعل هذا أشبه.
ولو قذف امرأته ونفى الولد وأقام بينة سقط الحد ولم ينتف الولد إلا باللعان. ولو طلقها بائنًا فأتت بولد يلحق به في الظاهر ولم ينتف إلا باللعان. ولو تزوجت المطلقة فأتت بولد لدون ستة أشهر من دخول الثاني ولتسعة أشهر فما دون من فراق الأول لم ينتف عنه إلا باللعان
(1)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): ويصح اللعان في نفى الولد ولو بعد موته أو وَلِدَ ميتًا. قال ابن الحاجب: إن ولدت ميتًا أو مات بعد الولادة ولم يعلم بها الزوج لغيبة أو غيرها، ثم نفاه إذ علم به لاعن؛ لأنه قاذف، ولا يحل للزوج أن يقصد لعان زوجته في نفى الولد والجنين إلا إن وطئها ثم استبرأها بحيضة أو أكثر ثم رآها تزنى؛ أو وطئها بعد أن وضعت الحمل الذي قبل الحمل المنفى؛ وطال ما بين الوضعين بحيث لا يكون الولد الثاني من بقية الحمل الأول أو وطئها بعد الوضع وبين هذا الحمل والإصابة مدة لا يتأتى فيها الولد لقلتها كأربعة أشهر أو لكثرته كستة أشهر. وذلك على العادة؛ ولا يقصد اللعان بنفى الحمل للعزل؛ لأن الماء قد يسبق ولم يشعره ولا لمشابهة غيره ولو بسواد وكان الزوج أبيض لأن العرق قد ينزع؛ ولا لوطئه بين الفخذين لاحتمال وصول الماء بفرجها؛ ولا لوطئه بغير إنزال بأن أنزل قبله ولم يبل بيّن الإنزال والوطء لإمكان بقاء شئ في الذكر خرج مع الوطء؛ وإن بال بينهما جاز له القصد إلى اللعان؛ وإن تصادقا على نفى الولد فلا ينتفى إلا بلعان على المشهور إلا إن أتت به لأقل من المدة من حين العقد أو الدخول فينتفى بلا لعان؛ وكذا لو كان الزوج صغيرًا أو مجبوبًا حين الحمل؛ وإن بعدت المسافة بقدر ما لا يتأتى وطئها لم ينتف إلا بلعانا
(2)
.
(1)
شرائع الإسلام: 3/ 71 وما بعدها.
(2)
شرح النيل: 3/ 542 وما بعدها.
انقطاع الولاية بسبب تباين الدارين: دار الحرب ودار الإسلام
مذهب الحنفية:
جاء في (بدائع الصنائع): أن من الأحكام التي تترتب على إيمان المؤمن في الدنيا عصمة النفس والمال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها"
(1)
إلا أن عصمة النفس تثبت مقصودة وعصمة المال تثبت تابعة لعصمة النفسة؛ إذ النفس أصل في التخلق والمال خُلِقَ بذله للنفس استيفاءً لها فمتى تثبت عصمة النفس تثبت عصمة المال تبعًا إلا إذا وجد القاطع للتبعية؛ فعلى هذا إذا أسلم أهلٌ بلدة من أهل دار الحرب قبل أن يظهر عليهم المسلمون حَرَم قتلُهم ولا سبيل لأحد على أموالهم؛ وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أسلم على مال فهو له"
(2)
ولو أسلم حربى في دار الحرب ولم يهاجر إلينا فقتله مسلم عمدًا أو خطأ فلا شئ عليه إلا الكفارة. وعند أبى يوسف عليه الدية في الخطاء لقول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
(3)
أوجب سبحانه وتعالى الكفارة وجعلها كلَّ موجب قتل المؤمن الذي هو من قوم عدو لنا؛ لأنه جعله جزاءً والجزاء ينبيء عن إلكفاية فاقتضى وقوع الكفاية بها عما سواها من القصاص والدية جميعًا. ولأن القصاص لم يشرع إلا لحكمة الحياة قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
(4)
والحاجة إلى الأحياء عند قصد القتل لعداوة حاملة عليه ولا يكون ذلك إلا عند المخالطة ولم توجد هنا، وعلى هذا إذا أسلم ولم يهاجر إلينا حتى ظهر المسلمون على الدار فما كان في يده من المنقول فهو له؛ ولا يكون فيئًا إلا عبدًا يقاتل فإنه يكون فيئًا؛ لأن نفسه استفادت العصمة بالإسلام وماله الذي في يده تابع له من كل وجه فكان معصومًا تبعًا لعصمة النفس إلا عبدًا يقاتل؛ لأنه إذا قاتل فقد خرج من يد الموْلَى فلم يبق تبعًا له فانقطعت العصمة لانقطاع التبعية فيكون محلًا للتملك بالاستيلاء. وكذلك ما كان في يد مسلم أو ذمى وديعة له فهو له ولا يكون فيئًا؛ لأن يد المودع يدُه من وجه من حيثُ إنه يحفظ الوديعة له ويد نفسه من حيث الحقيقة. وكل واحد منهما معصوم فكان ما في يده معصومًا فلا يكون مَحلًا للتملك. وأما ما كان في يد حربى وديعة فيكون فيئًا عند أبى حنيفة. وعندهما يكون له؛ لأن يد المودع يده فكان معصومًا؛ والصحيح قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى؛ لأنه من حيث إنه يحفظ له تكون يدُه فيكون تبعًا له فيكون معصومًا؛ ومن حيث الحقيقة لا يكون معصومًا؛ لأن نفس الحربى غيرُ معصومة فوقع الشك في العصمة فلا تثبت العصمة مع الشك؛ وكذا عقاره يكون فيئًا عند أبى حنيفة وأبى يوسف؛ وعند محمد هو والمنقول سواء؛ والصحيح قولهما؛ لأنه من حيث إنه
(1)
الحديث بنفس اللفظ في سنن النسائي، كتاب الجهاد؛ باب وجوب الجهاد؛ والحديث أصله في الصحيحين بلفظ مقارب في عدة مواضع منها في صحيح البخارى: في كتاب الإيمان. باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} . هو في صحيح مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله.
(2)
ذكره ابن حجر في الدراية (2/ 121) وقال: أخرجه أبو يعلى وابن عدى من حديث أبى هريرة بلفظ: "على شئ" وإسناده ضعيف. ورواه سعيد بن منصور من طريق عروة مرسلًا. وإسناده صحيح. وانظر كلام الزيلعي عن الحديث في: نصب الراية 3/ 410.
(3)
سورة النساء، الآية:92.
(4)
سورة البقرة، الآية:179.
يتصرف فيه بحسب مشيئته يكون في يده فيكون تبعًا له. ومن حيث إنه محصن (محفوظ) بنفسه ليس في يده فلا يكون تبعًا له فلا تثبت العصمة مع الشك، وأما أولاده الصغار فأحرار مسلمون تبعًا له، وأولاده الكبار وامرأته يكونون فيئًا؛ لأنهم في حكم أنفسهم لانعدام التبعية، وأما الولد الذي في البطن فهو مسلم تبعًا لأبيه ورقيق تبعًا لأمه، وفيه إشكال وهو أن هذا إنشاء الرق على المسلم وأنه ممنوع؛ والجواب أن الممتنع إنشاء الرق على من هو مسلم حقيقة لا على من له حكمُ الوجود والإسلام شرعًا؛ هذا إذا أسلم ولم يهاجر إلينا فظهر المسلمون على الدارء فلو أسلم وهاجر إلينا ثم ظهر المسلمون على الدار، فبالنسبة لأمواله فما كان في يد مسلم أو ذمى وديعة فهو له ولا يكون فيئًا، وما سوى ذلك فهو فئ وقيل: ما كان في يد حربى وديعة فهو على الخلاف وأما أولادة الصغار فيحكم بإسلامهم تبعًا لأبيهم ولا يسترقون؛ لأن الإسلام يمنع إنشاء الرق إلا رقا ثبت حكمًا بأن كان الولد في بطن الأم وأولاده الكبار فئ؛ لأنهم في حكم أنفسهم فلا يكونون مسلمين بإسلام أبيهم وكذلك زوجته والولد الذي في البطن يكون مسلمًا تبعًا لأبيه ورقيقًا تبعًا لأمه؛ ولو دخل الحربي دار الإسلام ثم أسلم ثم ظهر المسلمون على الدار فجميع ماله وأولاده الصغار والكبار وامرأته وما في بطنها فئ؛ لأنه لما لم يسلم في دار الحرب حتى خرج إلينا لم تثبت العصمة لماله لانعدام عصمة النفس فبعد ذلك كذلك. وإن صارت معصومة لكن بعد تباين الدارين وذلك يمنع ثبوت التبعية؛ ولو دخل مسلم أو ذمى دار الحرب فأصاب هناك مالًا ثم ظهر المسلمون على الدار فحكمه وحكم الذي أسلم من أهل الحرب ولم يهاجر إلينا سواء
(1)
.
انقطاع عصمة النكاح لتباين الدارين:
جاء في المبسوط: إذا تزوج المسلم كتابية في دار الحرب ثم خرج وتركها في دار الحرب فإن الفرقة تقع بينهما بتباين الدارين حقيقة وحكمًا؛ لأنها من أهل دار الحرب؛ والزوج من أهل دار الإسلام وتباين الدارين بهذه الصفة موجب للفرقة عندنا، وإذا أسلم أحد الزوجين وخرج إلى دارنا فإن كانت المرأة هي ألتى خرجت مراغمة وقعت الفرفة بالاتفاق عندنا لتباين الدارين، فإن خرجت غير مراغمة لزوجها أو خرج الزوج مسلمًا أو ذميًّا تقع الفرقة بتباين الدارين عندنا، واستدل أصحابنا رحمهم الله تعالى بقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} إلى قوله: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}
(2)
وليس في هذه الآية بيانُ قصد المراغمة. فاشتُرط بكون الزيادة على النص؛ وقال الله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}
(3)
والكوافر جمع كافرة معناه: لا تَعُدُّوا من خلفتموه في دار الحرب من نسائكم؛ وما أراد عمر رضى الله عنه أن يهاجر إلى المدينة نادى بمكة: ألا من أراد أن تُئيَّم امرأته منه أو تبين فليلتحق بى أي فليصحبنى في الهجرة؛ والمعنى فيه أن من بقى في دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}
(4)
أي كافرًا فرزقناه الهدى، ألا ترى
(1)
بدائع الصنائع: 7/ 105.
(2)
سورة الممتحنة، الآية:10.
(3)
سورة الممتحنة، الآية:10.
(4)
سورة الأنعام، الآية:122.
أن المرتد اللاحق بدار الحرب يُجعَلُ كالميت حتى يُقَسَّمَ مالُه بين ورثته فكما لا تتحقق عصمةُ النكاح بين الحى والميت فكذلك لا تتحقق عند تباين الدارين حقيقةً وحكمًا؛ فأما إذا خرج إلينا بأمان فتبايُنُ الدارين لم يوجد حكمًا، لأنه من أهل دار الحرب ومتمكن من الرجوع إليها وكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فهو من أهل دار الإسلام حكمًا؛ ومَنْعَةُ أهل البغى من جملة دار الإسلام؛ ومن فيها لا يُجْعَلُ بمنزلة الميت حكمًا، والدليل عليه أنه ما خرج إلا قاصدًا إحراز نفسه من المشركين فلا يعتبر مع ذلك القصدُ إلى المراغمة.
ثم قال صاحب (المبسوط): ويستوى في وقوع الفرقة بتباين الدارين أن خرج أحدهما مسلمًا أو ذميًا أو خرج مستأمنًا ثم أسلم أو صار ذميًا؛ لأنه صار من أهل دارنا حقيقة وحكمًا في الفصلين. وإن كان الخارجُ هو الزوجُ فله أن يتزوج أربعًا سواها أو أختها إن كانت في دار الإسلام؛ لأنه لا عدة على التي بقيت في دار الحرب عند فقهاء الحنفية؛ فكان هذا بمنزلة الفرقة قبل الدخول وإذا أسلمت المرأةُ ثم خرج الزوجُ مستأمَنًا فهما على النكاح ما لم تحض ثلاث حيض؛ لأن المستأمَن وإن كان في دارنا صورة فهو من أهل دار الحرب حكمًا؛ فكأنه باقٍ في دار الحرب حتى إذا أسلم الزوج قبل أن تحيض فهما على النكاح، وإن صار الزوج من أهل الذمة قبل أن تحيض ثلاث حيض فهما على النكاح أيضًا، حتى إذا خرجت المرأة فهى امرأته حتى يَعْرِضَ السلطان عليه الإسلام؛ بمنزلة ما لو كان الزوجُ في الأصل ذميًا، وكذلك لو كان الزوجُ هو الذي أسلم في دار الحرب ثم خرجت إلينا ذمية قبل أن تحيض ثلاث حيضٍ فهما على النكاح حتى يَعْرِضَ السلطان عليها الإسلام فأما إذا خرجا مستأمنين ثم أسلمت المرأة ففى رواية هذا الكتاب يتوقف انقطاع النكاح بينهما على انقضاء ثلاث حيض؛ لأن الزوج من أهل دار الحرب فهو بمنزلة ما لو كان في دار الحرب؛ وفى رواية كتاب الطلاق يقول وإن عَرَضَ السلطانُ الإسلامَ على الزوج فأبى أن يُسْلِمَ فَرّق بينهما، وإن لم حتى مضى ثلاثُ حيض تقع الفرقةُ أيضًا ففى حق الذمى يتعين عَرْضُ الإسلام؛ وفى حق الحربى في دار الحرب يتعين انقضاء ثلاث حيض؛ وفى حق المستأمن أيُّ الأمرين يوجد تقع به الفرقة؛ لأن المستأمن من وجه يشبه الذمى؛ لأنه تحت يد الإمام يتمكن من عرض الإسلام عليه؛ ومن وجه يشبه الحربي؛ لأنه متمكن من الرجوع إلى دار الحرب؛ فَيُوفّر حَظُّهُ على الشبهين. فلشبهه بالذمى إذا وُجد عَرْضُ الإسلام عليه تقع به الفرقة؛ ولشبهه بالحربي إذا وُجِد انقضاءُ ثلاثِ حيضٍ أولًا تقع به الفرقة
(1)
.
ثم قال صاحب (المبسوط)؛ وإذا خرج أحد الزوجين الحربيين مسلمًا ثم خرج الآخر بعده فلا نفقة على الزوج للزوجة؛ لأن العصمة انقطعت فيما بينهما بخروج أولهما؛ ومعنى هذا أن وجوب نفقة العدة باعتبار ملك اليدِ الثابتِ للزوجِ عليها في حالة العدة، ولهذا لا تجب النفقةُ في العدة من نكاح فاسدٍ أو وطء بشبهة ولا في عدة أم الولد من المَوْلى؛ وتباينُ الدارين كما يقطعُ عصمة النكاحِ يقطع ملكُ اليَدِ الثابت بالنكاح. ثم إن كان
(1)
المبسوط: 5/ 58.
الزوج هو الخارج فلا عدةَ عليها؛ لأنها حربية؛ وإن كانت المرأة هي التي خرجت فكذلك عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى، وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى عليها العدة لحق الشرع لا لحق الزوج فلا تكونُ نفقةُ العدة عليه
(1)
.
وإن لم يُسبيا؛ ولكن أسلم أحد الحربيين وخرج إلى دار الإسلام؛ فقد وقعت الفرقة بينهما بغير طلاق؛ لتباين الدارين فإن طلقها بعد هذا لم يقع طلاق عليها، أما إذا كان الزوج هو الذي أسلم فلأنه لا عدة على الحربية؛ وإن كانت المرأة هي التي أسلمت فعند أبى حنيفة رحمه الله تعالى لا عدة على المهاجرة أيضًا؛ وعندهما وإن كان يلَزمها العدةُ فهذه العدة لا توجب ملك اليد للحربى عليها فكان بمنزلة العدة من نكاح فاسد أو وطء بشبهة فلا يقع الطلاق عليها باعتبارها، وإن أسلم الزوج بعدها وخرج لم يقع طلاقه عليها أيضًا؛ وقيل: هذا على قول أبى يوسف رحمه الله تعالى الأول، وهو قول محمد رحمه الله تعالى: فأما قول أبى يوسف رحمه الله تعالى الآخر: يقع طلاقه عليها وهو نظير ما لو اشترى امرأته بعد ما دخل بها ثم أعتقها وطلقها في العدة لا يقع طلاقُه في قول أبى يوسف الأول. وهو قولُ محمد رحمه الله تعالى.
وإذا أسلم أحد الزوجين في دار الإسلام وفرق بينها بالإباء من الآخر ثم طلقها الزوج وهى في العدة؛ فإنه يقع الطلاق ثم إن كان دخل بها فلها أن تؤاخذه بمهرها إذا حرج إلى دار الإسلام؛ لأن المهر قد تقرر عليه بالدخول فيبقى بعد إسلامها، وإن لم يدخل بها وكانت هي التي خرجت أولًا مسلمة فلها على الزوج نصفُ المهر؛ لأنه إنما يُحَالُ بالفرقة على جانب الزوج حين أصر على شركه في دار الحرب بعد إسلامها، وإن كان الزوج هو الذي خرج أولًا مسلمًا فلا مهر لها عليه؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول؛ وإذا تزوج المسلم كتابية في دار الحرب فتمجست انتقض النكاحُ بينهما؛ لأن تمجسها إذا كانت تحت مسلم بمنزلة ردتها، وطلاقُه يقع عليها ما دامت في العدة كما لو ارتدت المرأةُ في دار الإسلام، وهذا لأنه لم تتباين بهما الدارُ وهو المنافى للعصمة. والحرمةُ بسبب الردة على شرف الزوال بالإسلام؛ فلا تمنْعُ ثبوتَ الحرمة بالتطليقات الثلاث. فإن خرج الزوجُ إلى دار الإسلام وبقيت في دار الحرب لم يقع طلاقه عليها لتباين الدارين حقيقةً وحكمًا؛ وإن خرج الزوجان إلى دارنا مستأمنين ثم أسلم أحدُهما؛ فهى امرأته حتى تحيض ثلاث حيض؛ فإذا حاضت ثلاث حيض وقعت الفرقة بغير طلاقٍ بينهما؛ وانقطعت العصمة فلا يقع عليها طلاقه؛ لأن المُصِرَّ منهما على شِرْكه من أهل دار الخرب؛ ألا ترى أنه يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب فهو بمنزلة ما لو كان في دار الحرب حقيقة في المنع من وقوع طلاقهِ عليها. وكذلك إذا صار أحدُهما ذميا وأبى الآخر فالحكم فيما وصفنا عن الفرقة في دار الإسلام وفى دار الحرب سواء؛ لأن الذمى صار من أهل دارنا والآخر من أهل دار الحرب
(2)
.
مذهب المالكية:
جاء في الخرشى أن الزوجين الكافرين إذا سُبيا مجتمعين أو أحدهما قبل الآخر، فإن النكاح
(1)
المبسوط: 5/ 201.
(2)
المبسوط: 6/ 86.
ينفسخ بينهما ويحل وطؤها بعد الاستبراء بحيضة ولا عدة؛ لأنها صارت أمة إلّا في صورة واحدة. فإنه لا ينقطع بينهما، وهى ما إذا أسلم الحربي سواء كان عندنا بأمان أو جاء إلينا ثم سبينا زوجته ثم أسلمت بعد ذلك في العدة فإنهما يقران على نكاحهما ترغيبًا في الإسلام؛ لأنها صارت أمة مسلمة تحت حر مسلم؛ فإن لم تسلم فرق بينهما؛ لأنها أمة كتابية تحت مسلم، وهو لا يجوز له أن يتزوج الأمة الكافرة؛ وإنما له أن يطأها بالملك. وأما الحربي إذا أسلم وفر إلينا أو بقى في بلاده حتى غنمنا بلاده فإن ولده الذي حملت به أمه قبل إسلامه رق، وأما زوجته فهى غنيمة اتفاقًا، وكذا مهرها، وإذا كانت غنيمة فقيل: يفسخ نكاحه لملكه جزءًا منها. وعلى قول ابن القاسم لو سرق من الغنيمة يقطع؛ ولا فرق في ولده بين الصغير والكبير بقى الحربي ببلده؛ أو خرج إلينا وترك ماله وولده؛ ولا فرق في ولده بين الصغير والكبير، بقى الحربي ببلده؛ أو خرج إلينا وترك ماله وولده؛ أسلم عندنا في أمانه أو في بلاده؛ وأما ولده الذي حملت به بعد إسلام الأب فإنه لا يرق اتفافًا، والحربي إذا سبى حرة مسلمة أو حرة كتابية فوطئها وأتت بأولاد عنده ثم غنم المسلمون ذلك الحربي والحرة والأولاد فإن الأولاد الصغار الذين حدثوا من المسلمة أو من الكتابية عند الحربي لا يكونون فيئًا على المشهور بل أحرارًا تبعًا لأمهم بخلاف الكبار ففيء.
وأما المسبية إذا كانت أمة وأتت بأولاد عند الحربي ثم غنمها المسلمون فالمشهور أنهم لمالكها مسلمًا أو ذميًا سواء كانوا صغارًا أو كبارًا من زوج أو غيره؛ لتبعية الولد لأمه في الرق والحرية. والولد يتبع أمه في الرق والحرية؛ ولأبيه في الدين والنسب وأداء الجزية. وقد صرح أبو الحسن في شرح الرسالة بأن ولد الزنا يتبع أمه في الرق والحرية والإسلام؛ وفى ابن ناجى في (شرح المدونة) ما يفيده؛ وبه يعلم ما في (شرح الخرشى)
(1)
:
ثم قال: أما الذمى إذا خرج من دار الإسلام لدار الحرب لغير مظلمة لحقته ناقضًا للعهد وأخذناه فإنه يسترق؛ وإنما نص على الاسترقاق، - وإن كان الإمام يُخَيَّر فيه كما في الأسير - لرد قول أشهب أنه لا يسترق؛ لأن الحر لا يعود إلى الرق أبدًا؛ ووجه المشهور أن الحرية لم تثبت له بعتاقة من رق متقدم فلا تنقض.
وجاء في الدسوقى على الشرح الكبير: أن المرتد إذا كان حرًا وقتل بردته أو مات مرتدًا قبل القتل ففيء محله بيت المال. ولو ارتد لدين وارثه وبقى ولده الصغير مسلمًا؛ ولو ولد حال ردة أبيه. أي حكم بإسلامه ولا يتبعه فيجبر على الإسلام إن أظهر خلافه كأن ترك ولده ولم يطلع عليه حتى بلغ؛ وأظهر خلاف الإسلام فيحكم عليه بالإسلام ويجبر عليه ولو بالسيف؛ وأخذ من مال المرتد إن مات أو قتل على ردته أرش جنايته عمدًا على عبد أو ذمى؛ لا إن جنى المرتد عمدًا على حر مسلم فلا يؤخذ من ماله شئ لذلك؛ لأن حده القود وهو يسقط بقتله لردته؛ وإن هرب المرتد لدار الحرب بعد أن قتل حرًا مسلمًا فلا يؤخذ من ماله شئ؛ فإن رجع فعليه القتل لردته إن لم يسلم؛ فإن أسلم قتل قودًا.
(1)
شرح الخرشى على مختصر خليل: (2/ 142) وبهامشه حاشية العدوى.
وإن تاب المرتد بالرجوع للإسلام فماله يرجع له ولو عبدًا؛ على الراجح من أن المرتد يكون محجورًا عليه بالارتداد، فيوقف ماله لينظر حاله؛ فإن أسلم رد له؛ ثم قال: وقتل المستتر للكفر؛ وهو من أَسرَّ الكفر وأظهر الإسلام بلا استتابة بعد الاطلاع عليه؛ بل ولا تقبل توبته وإلّا أن يجئ قبل الاطلاع عليه تائبًا فتقبل توبته ولا يقتل؛ لأنه لما اطلعنا على ما كان مخفيًا عنده؛ وأنه رجع عنه قبل منه؛ وماله - إن مات قبل الإطلاع عليه ثم ثبتت زندقته أو بعد أن جاء تائبًا أو قتل بعد الاطلاع عليه وبعد توبته لعدم قبولها منه - لوارثه؛ فإن ظهر عليه فلم يتب ولم ينكر ما شهد به عليه حتى قتل أو مات فلبيت المال
(1)
.
ثم قال في موضع آخر: وحكم بإسلام من لم يميز لصغر أو جنون. ولو بالغا إذا كان جنونه قبل البلوغ بإسلام أبيه (دُنْيَة) فقط، لا بإسلام جده أو أمه كأن ميز، فيحكم بإسلامه تبعًا لإسلام أبيه؛ أي عقل دين الإسلام؛ وأنه دين يتدين به؛ وفائدة الحكم بإسلامه من ذكر أنه إن بلغ وامتنع عن الإسلام جبر عليه بالقتل كمرتد بعد البلوغ إلّا المميز المراهق حين إسلام أبيه. إلا غير المراهق المتروك للمراهقة بأن غُفِل عنه قبل المراهقة فلم يحكم بإسلامه لإسلام أبيه حين راهق؛ أي قارب البلوغ كابن ثلاث عشرة سنة؛ فلا يحكم حينئذٍ بإسلامه؛ وإذا لم يحكم به فلا يجبر على الإسلام بقتل إن امتنع منه؛ بل بالتهديد والضرب؛ فعلم أن محل الحكم بإسلام المميز أو غيره إذا لم يترك حين راهق مميزًا ولم يكن المميز مراهقًا حين إسلام أبيه. وإلَّا لم يجبر على الإسلام بالقتل، وإن مات أبو المراهق أو المتروك للمراهقة الذي أسلم وقف إرثه؛ فإن أسلم بعد بلوغه أخذه. وإلا لم يرثه وكان لبيت المال؛ وإن أسلم قبل البلوغ لم يدفع له؛ لأنه لو رجع عنه قبل بلوغه لم يجبر عليه بالقتل، وحكم بإسلام مجوسى صغير لإسلام سابيه إن لم يكن معه أبوه المجوسى، فإن كان معه في السبى في ملك واحد لم يحكم بإسلامه تبعًا لإسلام أبيه؛ بل يجبر أبوه على الإسلام؛ لأنه مجوسى كبير، يجبر على الراجح، ويحكم بإسلام الصغير تبعًا الإسلام سابيه. فالكلام في المجوسى الصغير لا ينافى ما هو مذكور في الجنائز لما يفيد أنه لا يحكم بإسلامه تبعًا لإسلام سابيه ولو نوى به سابيه الإسلام لحمله على الكتابى الصغير، وأما الكتابى الكبير فلا يحكم بإسلامه اتفاقًا لعدم جبره عليه؛ والحاصل أن المجوسى يجبر على الإسلام اتفاقًا إن كان صغيرًا؛ وعلى الراجح إن كان كبيرًا. وأن الكتابى لا يجبر مطلقًا اتفاقًا في الكبير، وعلى الراجح في الصغير؛ والمتنصّر من أسير وداخل بلاد الحرب كتجارة ونحوها يحمل على التطوع؛ فله حكم المرتد؛ إن لم يثبت إكراهه؛ فإن ثبت حمل على الإسلام فيرث ويورث
(2)
.
مذهب الشافعية:
إن أعتق مسلم نصرانيًا أو أعتق نصرانى مسلمًا ثبت له الولاء؛ لأن الولاء كالنسب؛ والنسب يثبت مع اختلاف الدين فكذلك الولاء؛ وإن أعتق المسلم نصرانيًا فلحق بدار الحرب فسبى لم يجز استرقاقه؛ لأن عليه ولاء المسلم فلا يجوز إبطاله؛ وإن أعتق ذمى عبده فلحق بدار الحرب وسبى
(1)
حاشية الدسوقى على الشرح الكبير:4/ 304، 306.
(2)
المرجع السابق: 4/ 318، 319.
ففيه وجهان أحدهما: لا يجوز أن يسترق، والوجه الثاني: يجوز.
وإن أعتق حربى عبدًا حربيًا ثبت له عليه الولاء فإن سبى العبد المعتق أو سبى مولاه واسترق بطل ولاؤه؛ لأنه لا حرمة له في نفسه ولا ماله؛ وإن أعتق ذمى عبدًا ثم لحق بدار الحرب، فملكه عبده وأعتقه صار كل واحد منهما مولى للآخر؛ لأن كل واحد منهما أعتق الآخر
(1)
.
ينفسخ نكاح من صار رقيقًا بالأسر ولو بعد الدخول؛ لزوال ملكه عن نفسه عن زوجته أولى؛ وإن أُسر صبى له زوجة انفسخ النكاح بأسره؛ وكذا ينفسخ نكاح الأسير إن استُرق إلا إن كان هو وزوجته رقيقين فلا ينفسخ نكاحه إذا لم يحدث رق؛ وإنما انتقل الملك من شخص إلى آخر وذلك لا يقطع النكاح كالبيع والهبة؛ وإن أسلم من الأسرى رجل حر مكلف قبل اختيار من الإمام فيه عُصم دمه من القتل لخبر الصحيحين، أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها
(2)
، ولم يرق بإسلامه؛ فيختار فيه الإمام ما سوى القتل من إرقاق ومن فداء؛ ومن عجز عن الإعتاق في كفارة اليمين يبقى مخيرًا بين الإطعام والكسوة لكن لا يفادى إلا من كان عزيرًا في قومه أو له فيهم عشيرة ولا يخشى الفتنة في دينه ولا في نفسه. أو أسلم كافر مكلف قبل الظفر به رجلا كان أو امرأة عصم نفسه وماله للخبر السابق. وعصم ولده الصغير والمجنون الحرين من السبي، وكذا الحمل تبعًا له فيهما إلا إن استُرقت أمه قبل إسلام الأب فلا يعصمه إسلامه أي لا يبطل رقه كالمنفصل وإن حكم بإسلامه، ولا يعصم إسلامه زوجته من السبى والاسترقاق ويفارق عتيقه بأن الولاء بعد ثبوته لا يرتفع وإن تراضيا؛ لأنه لحمة كلحمة النسب بخلاف النكاح فإنه يرتفع بأسباب منها حدوث إرقاق زوجته وابنته البالغة بأن ما يمكن استقلال الشخص به لا يجعل فيه تابعًا لغيره؛ والبالغة تستقل بالإسلام ولا تستقل ببذل الجزية؛ وإن استقرت الزوجة ولو بعد الدخول انقطع نكاحه لزوال ملكها من نفسها فزوال ملك الزوج عنها أولى ولامتناع نكاح المسلم الأمة الكافرة ابتداء ودوامًا؛ ولا يعصم إسلامه ابنه البالغ لاستقلاله بالإسلام؛ وإن نقض ذمى عهده فاسترق وملكه عتيقه ثم أعتقه فلكل منهما الولاء على الآخر، فولاء السيد لا يبطل باسترقاقها
(3)
.
لو بلغ ابن ذمى ولو بنبات عانته وأفاق المجنون أو عتق العبد ولم يبذل؛ أي يعط جزية بعد طلبنا لها منه ألحق بمأمنه سواء أعتق العبدَ ذمى أو مسلم؛ وإن بذلها من ذكر عقد له ولا يكفى عقد أب وسيد ولو كان كل منهما قد أدخله في عقده إذا بلغ أو عتق كأن قال: قد التزمت هذا عنى وعن ابنى إذا بلغ أو عبدى إذا أعتق وقيل: عليه أي الصبى كجزية أبيه؛ ولا يحتاج إلى عقد اكتفاء بعقد أبيه؛ وإذا لم يكف ذلك فيعقد له عقد مستأنف ويساوم كغيره؛ لانقطاع التبعية بالكمال ولوجوب جزية أخرى، وأنَّ إعطاءها في الآية بمعنى التزامها، وللإمام أن يجعل حول التابع
(1)
المهذب: 2/ 20.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أسنى المطالب: 4/ 194: 195.
والمتبوع واحدًا ليسهل عليه أخذ الجزية ويستوفى ما لزم التابع في بقية العام الذي اتفق الكمال في أثنائه إن رضى البائع بذلك أو يؤخره إلى الحول الثاني، فيأخذ مع جزية المتبوع في آخره؛ لئلا تختلف أواخر الأحوال، وإن شاء أفردهما بحول، فيأخذ ما لزم كلا منهما عند تمام حوله.
ولا يرث المسلم من الكافر ولا الكافر من المسلم أصليًا كان أو مرتدًا لما روى أسامة بن زيد - رضى الله عنهما - أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"
(1)
، ويرث الذمى من الذمى وإن اختلفت أديانهم كاليهودى من النصرانى والنصرانى من المجوسى لأنه حُقن ذمهم بسبب واحد؛ فورث بعضهم من بعض كالمسلمين، ولا يرث الحربي من الذمى ولا الذمى من الحربي؛ لأن الموالاة انقطعت بينهما فلم يرث أحدهما من الآخر كالمسلم من الكافر
(2)
.
مذهب الحنابلة:
أولا: الميراث:
جاء في (المغنى مع الشرح الكبير)
(3)
: أجمع أهل العلم على أن الكافر لا يرث المسلم وقال جمهور الصحابة والفقهاء: لا يرث المسلم الكافر. يُروى هذا عن أبى بكر وعمر وعثمان لما روى عن أسامة بن زيد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر" وروى أبو داود بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يتوارث أهل ملتين شتى"
(4)
؛ ولأن الولاية منقطعة بين المسلم والكافر فلم يرثه كما لايرث الكافر المسلم.
ثانيًا: انقطاع التبعية بالنسبة للطفل لأبويه:
جاء في (المغنى مع الشرح الكبير)
(5)
: إذا سُبي من لم يبلغ من أولاد الكفار صار رقيقًا ولا يخلو من ثلاثة أحوال ما الحالان الآخران؟!
أحدهما: أن يُسبى منفردًا عن أبويه فهذا يصير مسلمًا إجماعًا؛ لأن الدين إنما يثبت له تبعًا وقد انقطعت تبعيته لأبويه؛ لانقطاعه عنهما وإخراجه عن دارهما ومصيره إلى دار الإسلام تبعًا لسابيه المسلم فكان تابعًا له في دينه؛ ثم قال: وإذا أسلم الحربي في دار الحرب حقن ماله ودمه وأولاده الصغار من السبي، وإن دخل دار الإسلام فأسلم وله أولاده صغار في دار الحرب صاروا مسلمين ولم يجز سبيهم؛ لأن أولاده أولاد مسلم فوجب أن يتبعوه في دار الإسلام كما لو كانوا معه في الدار، ولأن مَالَهُ مال مسلم فلا يجوز اغتنامه كما لو كان في دار الإسلام وبذلك يفارق مال الحربي وأولاده.
الثاني: أن يسبي مع أحد أبويه؛ فإنه يحكم بإسلامه أيضًا.
الثالث: أن يسبي مع أبويه؛ فإنه يكون على دينهما.
(1)
صحيح البخاري، كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر .. إلخ. وصحيح مسلم. كتاب الفرائض. الباب الأول.
(2)
مغنى المحتاج: 4/ 226، 227.
(3)
المغني والشرح الكبير: 7/ 165، 166.
(4)
الحديث بهذا اللفظ في سنن أبى داود؛ كتاب الفرائض. باب هل يرث السلم الكافر.
(5)
المغني والشرح الكبير: 10/ 472، 475.
ثالثًا: حكم انقطاع الولاية بالنسبة للمرتد عن ماله:
جاء في (المغنى)
(1)
: ولا يحكم بزوال ملك المرتد بمجرد ردته في قول أكثر أهل العلم. فعلى هذا إن قتل أو مات زال ملكه بموته؛ وإن راجع الإسلام فملكه باق له. وقال أبو بكر: يزول ملكه بردته؛ وإن راجع الإسلام عاد إليه تمليكًا مستأنفًا؛ لأن عصمة نفسه وماله إنما تبثت بإسلامه؛ فزوال إسلامه يزيل عصمتهما كما لو لحق بدار الحرب؛ ولأن المسلمين ملكوا إراقة دمه بردته وجب أن يملكوا ماله بها؛ لأنه سبب يبيح دمه فلم يزل ملكه كزنا المحصن والقتل لمن يكافئه عمدًا، وزوال العصمة لا يلزم منه زوال الملك، بدليل الزانى المحصن والقاتل في المحاربة وأهل الحرب فإن ملكهم ثابت مع عصمتهم. ولو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه، لكن يباح قتله لكل أحد من غير استتابة وأخذ ماله لمن يقدر عليه؛ لأنه صار حربيًا حكمه حكم أهل الحرب، وكذا لو ارتد جماعة وامتنعوا في دارهم عن طاعة إمام المسلمين زالت عصمتهم في أنفسهم وأموالهم؛ لأن الكفار الأصليين لا عصمة لهم في دارهم فالمرتد أولى
(2)
.
وإن لحق المرتد بدار الحرب فالحكم فيه كالحكم فيمن هو في دار الإسلام؛ إلا أن ما كان معه من ماله يصير مباحًا لمن قدر عليه كما أبيح دمه؛ وأما أملاكه وماله الذي في دار الإسلام فملكه ثابت فيه؛ يتصرف فيه الحاكم بما يرى المصلحة فيه؛ لأنه حي فلم يورث كالحربي الأصلى؛ وحل دمه لا يوجب توريث ماله بدليل الحربي الأصل؛ وإنما حل ماله الذي معه؛ لأنه زال العاصم له فأشبه مال الحربي الذي في دار الحرب. وأما الذي في دار الإسلام فهو باق على العصمة كمَال الحربي الذي مع مضاربه في دار الإسلام أو عند مودعه.
وجاء في موضع آخر من (المغنى)
(3)
ويؤخذ مال المرتد فيجعل عند ثقة من المسلمين وإن كان له إماء جُعلن عند امرأة ثقة؛ لأنهن محرمات عليه فلا يمكن منهن؛ وذكر القاضي: أنه يُوَجِّر عقاره وعبيده وإماؤُه؛ والأولى أن لا يفعل؛ لأن مدة إنظاره قريبة ليس في إنظاره فيها ضرر فلا يُفوَّتَ عليه منافع ملكه فيما لا يرضاه من أجلها؛ فإنه ربما راجع الإسلام فيمتنع عليه التصرف في ماله بإجارة الحاكم؛ وإن لحق بدار الحرب أو تعذر قتله مدة طويلة فعل الحاكم ما يرى الحظ فيه من بيع الحيوان الذي يحتاج إلى النفقة وغيره؛ وإجارة ما يرى إبقاءه والمكاتب يؤدى إلى الحاكم فإذا أدى عتق؛ لأنه نائب عنه.
وتصرفات المرتد في ردته بالبيع والهبة والعتق والتدبير والوصية ونحو ذلك موقوف: إن أسلم تبينا أن تصرفه كان صحيحًا؛ وإن قفل أو مات على ردته كان باطلا، وعلى قول أبى بكر: تصرفه باطل؛ لأن ملكه قد زال بردته؛ وإن تزوج لم يصح تزوجه. لأنه لا يقرّ على النكاح، وما منع الإقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة؛ وإن زوج لم يصح تزويجه؛ لأن ولايته على موليته قد زالت بردته؛ وإن زوج أمته لم يصح؛ لأن النكاح لا يكون موقوفًا؛ ولأن النكاح
(1)
المرجع السابق: 10/ 81، 82.
(2)
المغني والشرح الكبير:10/ 84.
(3)
المرجع السابق: 10/ 82، 83، 84.
وإن كان في الأمة فلا بد في عقده من ولاية صحيحة بدليل أن المرأة لا يجوز أن تُزوّج أمتها، وكذلك الفاسق والمرتد لا ولاية له؛ فإنه أدنى حالا من الفاسق الكافر؛ وإن وجد من المرتد سبب يقتضى الملك كالصيد والاحتشاش والاتهاب
(1)
والشراء وإيجار نفسه إجارة خاصة أو مشتركة ثبت الملك له؛ لأنه أهل للملك وكذلك تثبت أملاكه؛ ومن قال: إن ملكه يزول لم يثبت له ملكًا؛ لأنه ليس بأهل للملك. فإن راجع الإسلام احتمل أن لا يثبت له شئ أيضًا؛ لأن السبب لا يثبت حكمه، واحتمل أن يثبت الملك له حينئذ؛ لأن السبب موجود، وإنما امتنع ثبوت حكمه؛ لعدم أهليته فإذا وُجدت تحقق الشرط، فيثبت الملك حينئذ؛ كما تعود إليه أملاكه التي زالت عنه عند عدم أهليته؛ فعلى هذا إن مات أو قتل ثبت الملك لمن ينتقل إليه ملكه؛ لأن هذا في معناه.
مذهب الظاهرية:
إذا أسلم الكافر الحربي، أيا كانت داره: كان كل ماله لا حق لأحد فيه، ولا يملكه المسلمون إن غنموه أو فتحوا تلك الأرض، وإن مات ورثه ورثته؛ وأولاده الصغار مسلمون وكذا الجنين؛ وأما امرأته وأولاده الكبار ففئ إن سبوا، وهو باق على نكاحه معها، وهى رقيق لمن وقعت له في سهمه. دليل ذلك، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام
(2)
.
وأيما امرأة أسلمت ولها زوج كافر ذمى أو حربى؛ فحين إسلامها انفسخ نكاحها منه ولو أسلم بعدها بطرفة عين. ولو أسلما معًا بقيا على نكاحهما؛ وإذا كانت كتابية بقيا على نكاحهما، أسلمت أو لم تسلم؛ وإن كانت غير كتابية فساعة إسلامه قد انفسخ نكاحها منه؛ ولو أسلمت بعده بطرفة عين
(3)
.
ومن سبى من صغار أهل الحرب فهو مسلم؛ سواء سبى مع أبويه أو مع أحدهما أو دونهما؛ لأن سيده صار أملك له من أبويه، فبطل إخراجهما له عن الإسلام
(4)
.
ومن لحق بدار الكفر والحرب مختارًا محاربًا لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد، له أحكام المرتد كلها. أما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه ولم يحارب المسلمين ولا أعان عليهم، ولم يجد في المسلمين من يجبره، فهذا لا شئ؛ لأنه مضطر مكره
(5)
.
وإذا مات المرتد لم يرث ولا يُورّث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكفار المسلم"
(6)
والمرتد قد بين الله تعالى أنه من جملة الكفار {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}
(7)
وكل وصية أوصى بها قبل ردته أو في حين ردّته بما يوافق البرّ ودين الإسلام نافذة في ماله الذي لم يقدر عليه حتى قتل؛ لأنه ماله. وأما إذا قدرنا على المال قبل موته فهو للمسلمين كله؛ ولا تنفذ فيه وصيته؛ لأنه لا يملكه
(8)
.
(1)
الاتهاب: قبول الهبة. لسان العرب. مادة (وهب).
(2)
صحيح البخارى في عدة مواضع منها، كتاب العلم في بابين:
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ مبلغ أوعى من سامع": وباب ليبلغ العلم الشاهد الغائب. وفى كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى. وهو في صحيح مسلم؛ كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. وكتاب القسامة والمحاربين .. إلخ، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال.
(3)
المحلى: 7/ 309 - 312.
(4)
السابق: 7/ 324.
(5)
المحلى: 7/ 199 - 200.
(6)
سبق تخريجه.
(7)
سورة المائدة من الآية: 51.
(8)
المحلى: 7/ 198.
مذهب الزيدية:
أولا الميراث:
لا توارث بين أهل ملتين إجماعًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم" وفى إرث المسلم المرتدّ خلاف، وقاتل العمد لا يرث من المال ولا من الدية؛ ولا يسقط ولا يحجب إجماعا لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يرث القاتل"
(1)
وقاتل الخطأ لا يرث من الدية إجماعًا.
ثانيًا الأسير:
من أسلم من الحربيين أو دخل فى الذمة وهو حال إسلامه في دار ما لم يحصن في دار الحرب إلا طفله الموجود وولده المجنون حال الإسلام ولو بالغا، فلا يجوز للمسلمين إذا استولوا على دار الحرب أن يسبوا طفله وولده المجنون. ولا مال طفله المنقول؛ لأنه قد صار مسلمًا بإسلام والده. وأما أمواله التي في دار الحرب من منقول أو غيره فإنها لا تحصن بإسلامه في دار الإسلام؛ بل للمسلمين اغتنامها إذا ظفروا بتلك الدار، ولو كانت وديعة بدار الحرب من قبل إسلامه عند مسلم؛ لا إذا أسلم في دارهم؛ فطفله ومالهما المنقول محصنان محترمان بإسلامه؛ سواء كانت في يده أو في يد ذميّ؛ وأما غير المنقول من مالهما فلا يتحصن بإسلامه؛ لأن دار الحرب لا تتبعض
(2)
.
ثالثًا المرتدّ:
بالردة تَبِينُ الزوجة من الزوج سواء كان هو المرتد أو هي. وإذا تاب المرتد تعود إليه بعقد جديد، وهى ترث زوجها المرتد إن مات أو لحق بدار الحرب، وهى في العدة؛ لأنها في حكم المطلقة رجعيًا. وماله المكتسب بعد الردة كماله المكتسب قبلها في الميراث؛ وإن مات أو لحق بدار الحرب. وأما ماله المكتسب بعد اللحوق بدار الحرب فحكمه حكم مال أهل الحرب: وإن عاد إلى الإسلام ردّ له ما بقى في أيدى الورثة ولم يستهلك حسًا أو حكمًا
(3)
.
وعقود المرتدين لغو إلا العتق، وجناية الخطأ الواقعة حال ردته تؤخذ من ماله؛ ولا شيء على عاقلته. والردة لا تسقط بها الحقوق التي قد وجبت على المرتدّ قبل ردته من زكاة وفطرة وكفارة وخُمس ودين لآدمى. فإذا مات أو لحق بدار الحرب كانت واجبة في ماله؛ تخرج قبل التوريث؛ وأما إذا أسلم سقطت بالإسلام إلا الخمس ودَين المسجد ودين الآدمى المعين وحدّ القذف وكفارات الظهار.
مذهب الإمامية:
إذا أسلم الحربي في دار الحرب عُصم دمه وماله مما ينقل دون ما لا ينقل؛ ولحق به ولده الأصاغر ولو كان فيهم حمل سبيت أمه. والدليل على ذلك إجماع الفرقة. وأخبارهم، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؛ فإذا قالوها .. "
(4)
فأضاف الأموال إليهم؛ وحقيقة ذلك تقتضى ملكًا، ولم يفصل ما كان في دار الحرب وغيره؛ ولما حاصر الرسول صلى الله عليه وسلم بنى قريظة أسلم ابنا رجل فأحرز إسلامهما دماءهما وأموالهما وصغار أولادهما
(5)
. وهذا
(1)
سبق تخريجه.
(2)
التاج المذهب: 4/ 443.
(3)
التاج المذهب: 4/ 465.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
شرائع الإسلام: 1/ 150، 151.
نص والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ}
(1)
.
وإذا سبيت الزوجة وحدها دون زوجها ينفسخ العقد، وقيل: ينفسخ على كل حال إلا مع ملك اليمين؛ لقوله تعالى؛ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
(2)
.
وإذا سبي صبي مع أبويه أو أحدهما تبعهما في الكفر؛ وبه قال جميع الفقهاء. إلا الأوزاعي
(3)
.
مذهب الإباضية:
يحكم على من بدار شرك بأحكام المشركين من براءة وقتل أو جزية أو غنيمة وتحريم المناكحة والذبيحة والبلل، ومن ثم نُهِى عن السفر إليها والسكون وتوطينها بلا عذر أو حاجة مباحة، وخمسة أوجه لا تفعل بدار الشرك: النكاح والتسرى والعتق والتوطين وبنيان الدار. وقيل: بنيان المسجد. وإن انفرد بدار مرتدّ فدار شرك؛ وفى جواز سبيهم وغنمهم قولانا
(4)
.
والحكم في دار ظهر فيها شرك وغلب قيل: فغير أهل الكتاب يسلمون أو يقتلون إلا المجوس فكاهل الكتاب يسلمون أو يعطون الجزية أو يقتلون، وتحل الذبيحة والنكاح من أهل الكتاب خاصة بالجزية؛ ولا يدفن الموحد مع المشرك ولو كتابيًا يُعطى الجزية. ولا يحل النكاح والجزية وغيرهما كالقتال والسبي والغنم بلا إمام ظاهر. وقيل: ما جاز للإمام العدل جاز لمن قادته ديانته ممن له رياسة واتباع وإن مخالفًا؛ وإن لم تقده ديانته لم يحل ذلك به
(5)
.
وإن دخل مشرك غير معط للجزية - يتجر أرض الإسلام بأمان ولو استأمنه رجل واحد - تُرك، وأخذ منه ما يؤخذ من تجار المسلمين. وهو الزكاة فقط. ولو كان بلا أمن فعل معه الإمام ما بان له من سبي وغنم. وجُوِّز لغيره من المسلمين وبكلّ من قادته ديانته وإن مخالفًا أو غير سلطان ونحوه
(6)
.
وكلّ ما أفسد المرتدّ في حال ارتداده من أموال الناس فقد ضمنه
(7)
.
(1)
سورة الأحزاب، الآية:(1)
(2)
سورة النساء، الآية (1)
(3)
شرائع الإسلام: 2/ 506 مسألة رقم 21.
(4)
كتاب النيل: 10/ 394 - 396.
(5)
كتاب النيل: 10/ 402، 403،
(6)
السابق: 10/ 412، 413.
(7)
السابق: 10/ 390.
انقطاع حق البائع في استرداد المبيع إذا كان له حق استرداده
مذهب الحنفية:
جاء في (تبيين الحقائق): لكل من البائع والمشترى حق الرجوع في البيع الفاسد إلا أن يبيع المشترى أو يهب أو يحرر أو يبنى، أي إذا تصرف المشترى في المبيع هذه التصرفات فليس لواحد منهما أن يفسخ البيع؛ لأن المشترى ملك المبيع بالقبض فينفذ فيه تصرفاته كلها وينقطع به حق البائع في استرداد المبيع سواء كان تصرفًا يقبل الفسخ أو لا يقبله إلا الإجارة والنكاخ فإنهما لا يقطعان حق البائع في الاسترداد؛ لأن الإجارة عقد ضعيف يفسخ بالأعذار، وفساد الشراء عذر فيفسخ. والنكاح لا يمنع فسخ البيع فيفسخ ويرد على البائع والنكاح على حاله. وما عدا النكاح والإجارة من التصرفات يقطع حق البائع في استرداد المبيع؛ لأنه تعلق به حق العبد والفسخ حق الشرع؛ وما اجتمع حق الله وحق العبد إلا وقد غُلب حق العبد لحاجته وغناءِ الله، بخلاف حق الشفعة حيث ينتقض فيه تصرف المشترى؛ لأنه حق العبد فكان أولى بالشفعة. ولأنه بالعتق قد هلك فيجب قيمته؛ والبيع الثاني مشروع بأصله ووصفه. والأول مشروع بأصله دون وصفه فكان الثاني أولى بالاعتبار، وكذا الهبة مشروعة بأصلها ووصفها فكانت أولى؛ ولأن تصرف المشترى قد حصل بتسليط البائع فلا ينتقض؛ بخلاف الشفيع حيث ينقض تصرف المشترى لعدم التسليط منه.
والكتابة والرهن نظير البيع؛ لأنهما لازمان. إلا أنه إذا عجز المكاتب أو فك الرهن يعود حق الاسترداد لزوال المائع؛ وكذا لو رجع في الهبة عاد حق الاسترداد؛ سواء كان بقضاء أو بغير قضاء؛ لأنه يعود إليه قديم ملكه في الوجهين. وبالرد بالعيب يعود حق الاسترداد لما ذكرنا، وهذا كله إذا عاد المبيع إلى ملك المشترى بما يكون فسخًا قبل قضاء القاضي بالقيمة على المشترى. فإن كان بعده فلا يعود حق الاسترداد؛ لأنه قد تم لزوم القيمة بقضاء القاضي فلا ينتقض قضاؤه بعد ذلك كالمبد المغصوب إذا أبق ثم عاد بعد ما قضى على الغاصب بالقيمة؛ وتعلق حق الوارث به لا يمنع حق الاسترداد؛ لأن ملك الوارث خلافه فكان في حكم عين ما كان للمورث، ولهذا يرد بالعيب فيما إذا اشتراه المورث ويرد عليه بخلاف ملك الموصى له؛ وكذلك ينقطع حق البائع؛ في الاسترداد ببناء المشترى في العقار المشترى شراء فاسدًا؛ وهذا عند أبى حنيفة - رحمه الله تعالى وعند أبى يوسف ومحمد: لا ينطع. وعلى هذا الخلاف الغرس
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (مواهب الجليل): ومن اشترى أحد ثوبين وقبضهما ليختار واحدًا منهما وهو فيما يختاره في اللزوم لا بالخيار لأحدهما ومضت أيام الاختيار ولم يختر واحدًا منهما وتباعدت وهما بيد المبتاع أو البائع فإنه يلزم المشترى النصف من كل منهما؛ لأن أحدهما مبيع ولم يعلم ما هو فوجب كونه شريكًا فيهما الحط؛ وكذا إن ضاعا أو ضاع أحدهما قال ابن يونس: قال بعض فقهائنا: إذا اشترى أحد الثوبين على الإيجاب فضاعا جميعًا أو أحدهما بيد المبتاع فما تلف بينهما؛ وما بقى بينهما؛ وسواء قامت
(1)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 4/ 64، 65.
بينة على الضياع أم لا؛ وفى (الجواهر) قال أبو الحسن: شراء الثوبين على ثلاثة أوجه: إما بخيار وحده؛ أو باختيار وحده. وإما بخيار واختيار، فبمضى أيام الخيار ينقطع خياره وينقض البيع؛ إذ بمضى أيام الخيار ينقطع اختياره؛ وإن اشترى أحدهما ليختاره وهو فيما يختاره بالخيار، فمضت مدة الخيار وما الحق بها وهما بيده ولم يختر واحدًا منهما فلا يلزم المشترى شئ منهما إذ لم يقع البيع على معين فيلزمه؛ ولا على إيجاب أحدهما فيكون شريكًا. ومن باب أولى إذا كان بيد البائع الحط؛ وهذا بخلاف شرائه أحد الثوبين على غير إلزام؛ فإذا مضت أيام الخيار وتباعدت فليس له أخذ أحدهما كانا بيد البائع أو المبتاع إذ بمضى أيام الخيار ينقطع اختياره ولم يقع البيع على معين فيلزمه ولا على إيجاب أخذ فيشارك فصار ذلك على ثلاثة أوجه في شرائهما: يلزمانه. وفى أخذ أحدهما بإيجاب يلزمه النصف من كل؛ وفى أخذه على الخيار لا يلزمه شئ منهماء والأولى وفى الاختيار ليس له شيء
(1)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (المهذب): أنه إذا انعقد البيع ثبت لكل واحد من المتبايعين الخيار بين الفسخ والإمضاء إلى أن يتفرقا أو يتخايرا لما روى ابن عمر - رضى الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر"
(2)
.
والتفرق أن يتفرقا بأبدانهما بحيث إذا كلمه على العادة لم يسمع كلامه لما روى نافع أن ابن عمر - رضى الله عنهما - كان إذا اشترى شيئًا مشى أذرعًا ليجب البيع ثم يرجع؛ وإن لم يتفرقا ولكن جُعل بينهما حاجز من ستر أو غيره لم يسقط الخيار؛ لأن ذلك لا يسمى تفرقا، وأما التخاير فهو أن يقول أحدهما للآخر: اختر إمضاء البيع أو فسخه فيقول الآخر اخترت إمضاءه أو فسخه فينقطع الخيار؛ لقوله عليه السلام: "أو يقول أحدهما للآخر: اختر .. " الحديث.
فإن خير أحدهما صاحبه فسكت لم ينقطع خيار المسئول، وهل ينقطع خيار السائل؟ فيه وجهان: أحدهما: لا ينقطع خياره. والثانى؛ أنه ينقطع؛ لقوله عليه السلام: "أو يقول أحدهما للآخر: اختر .. " الحديث؛ فإن أكدها على التفرق ففيه وجهان أحدهما الخيار؛ لأنه كان يمكنه أن يفسخ بالتخاير، فإذا لم يفعل فقد رضى بإسقاط الخيار، والثانى: أنه لا يبطل؛ لأنه لم يوجد منه أكثر من السكوت. والسكوت لا يسقط الخيار
(3)
.
وجاء في (أسنى المطالب): أنه ذكر نوعين من البيوع المنهى عنها كالملامسة والمنابذة والتي يكون البيع فيها بهذه الطريقة سببًا إما لإمضاء البيع أو لقطع الخيار والبطلان فيها لعدم الرؤية أو الصيغة أو للشرط الفاسد
(4)
.
وجاء في موضع آخر: والتفرق بأبدانهما عن مجلس العقد للخبر
(5)
، فلو أقاما فيه مدة أو
(1)
مواهب الجليل:2/ 629.
(2)
الحديث بهذا اللفظ في صحيح البخارى. كتاب البيوع، باب إذا لم يوقت في الخيار هل يجوز البيع. وسنن النسائي، كتاب البيوع. باب ذكر الاختلاف على نافع في لفظ حديثه.
(3)
المهذب 1/ 257، 258؛ بتصرف،
(4)
أسنى المطالب: 2/ 30، بتصرف.
(5)
وهو نفس الحديث السابق.
تماشيا مراحل فهما على خيارهما؛ وإن زادت المدة عن ثلاثة أيام أو أعرضا عما يتعلق بالعقد، ويحصل بأن يفارق أحدهما الآخر من المجلس ولو ناسيًا أو جاهلًا وإن استمر الآخر فيه؛ لأن التفرق بالأبدان لا يتبعض بخلاف التخاير، وكان ابن عمر - رضى الله عنهما راوى الحديث إذا ابتاع شيئًا فارق صاحبه قام ومشى هنية ثم رجع
(1)
؛ وعليه يحمل ما رواه الترمذى أنه كان إذا ابتاع شيئًا وهو قاعد قام ليجب له؛ وقضية ذلك حِلُّ الفراق خشية أن يستقيله صاحبه، وهو بما رواه الترمذى وحسنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله"
(2)
وقد يجاب بحمل (الحل) في الخبر على الإباحة المستوية الطرفين؛ ويعتبر في التفريق العرف. فإن كانا في سفينة أو دار أو مسجد صغير فبخروج أحدهما منه أو صعوده إلى السطح ينقطع الخيار. وإن مات العاقدان أو أحدهما في المجلس قام الوارث أو الموكل أو السيد مقامه، والعاقد إن خرج من المجلس مكرهًا بغير حق لم ينقطع خياره؛ لأنه لم يفعل شيئًا؛ وكذا إذا أكره على الخروج منه فخرج لم ينقطع خياره ولو لم يسد فمه؛ لأن فِعْل المكره كَلا فعل. والسكوت عن الفسخ لا يقطع الخيار كما في المجلس وهذا بخلاف الناسي والجاهل
(3)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): لكل من المتبايعين خيار المجلس ما لم يتفرقا بأبدانهما عرفًا ولو أقاما في المجلس شهرًا أو أكثر من شهر. ولو أقاما كرهًا فهما على خيارهما لعدم التفريق ولزم البيع لقوله صلى الله عليه وسلم:"ما لم يتفرقا"
(4)
لا أن تفرقا كرهًا؛ ومع تفريقهما مُكْرَهِين لا يسقط خيارهما، ويبقى الخيار لهما في هذا الحال إلى أن يتفرقا من مجلس زال الإكراه فيه؛ لأن فعل المكره لا يعتد به شرعًا؛ فإن أكره أحدهما وحده على التفرق انقطع خيار صاحبه؛ لتفرقه باختياره ويبقى الخيار للمكره منهما في حال تفرقه في المجلس الذي زال فيه الإكراه حتى يتفرقا عن اختيار، فإن رأى المتبايعان وهما في مجلس التبايع سبعًا أو ظالمًا خشياه فهربا فزعًا منه؛ أو حملهما من مجلس التبايع سيل، أو فرقتهما ريح فكإكراه. قاله ابن عقيل فيثبت لهما الخيار إلى أن يتفرقا من مجلس زال فيه ذلك؛ لأن فعل الملجأ غير منسوب إليه؛ ومتى تم العقد وتفرقا من مجلسه لم يكن لواحد منهما الفسخ للزوم البيع
(5)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): من قال حين يبيع أو يبتاع: لا خِلابة
(6)
، فله الخيار ثلاث ليالٍ بما في خلالهن من الأيام إن شاء رد بعيب أو بغير عيب، أو بخديعة أو بغير خديعة، وبغبن أو بغير غبن، وإن شاء أمسك، فإذا انقضت الليالى الثلاث بطل خياره ولزمه البيع ولا رد له إلا من عيب إن
(1)
البخارى كتاب البيوع، باب كم يجوز الخيار
(2)
سنن الترمذى؛ كتاب البيوع؛ باب ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا.
(3)
أسنى المطالب: 2/ 48، 49، 50 بتصرف.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
كشاف القناع: 2/ 45.
(6)
الخلابة: الخديعة المعجم الوسيط:1/ 257، مادة (خلب).
وجده: والليالى الثلاث مستأنفة من حين العقد؛ فإن بايع قبل غروب الشمس بقليل أو كثير ولو من حين طلوعها؛ فإنه يستأنف الثلاث مبتدأة. وله الخيار أيضًا في يومه ذلك؛ وإن بايع بعد غروب الشمس فله الخيار من حينئذ إلى قبل ذلك الوقت من الليلة الرابعة؛ لما روى عن نافع عن ابن عمر قال: "إن منقذًا سُفع في رأسه في الجاهلية مأمومة فخبلت لسانه فكان إذا بايع خُدع في البيع؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بايع؛ وقل: لا خلابة ثم أنت بالخيار"
(1)
.
فإن رضى في الثلاث وأسقط خياره لزمه البيع. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار ثلاثًا. فلو كان لا يلزمه الرضا إن رضى في الثلاث لكان إنما جمل له عليه السلام الخيار في الرد فقط لا في الرضاء وهذا باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمل له الخيار فكان عمومًا لكل ما يختار من رضا أو رد؛ ولو كان الخيار لا ينقطع بإسقاطه إياه وإقراره بالرضا لوجب أيضًا ضرورة أن لا ينقطع خياره؛ وإن رد البيع حتى ينقضى الثلاث؛ وهذا محال. فظاهر اللفظ ومعناه أن له الخيار مدة الثلاث إن شاء رَدَّ فيبطل البيع ولا رضا له بعد الرد؛ وإن شاء رضى فيصح البيع ولا رد له بعد الرضاء ولا يحتمل أمره صلى الله عليه وسلم غير هذا أصلًا. فإن لم يلفظ بالرضا ولا بالرد لم يجز أن يجبر على شئ من ذلك وبقى على خياره إلى انقضاء الثلاث إن شاء رد وإن شاء أمسك؛ فإن انقضت الثلاث ولم يرد فقد لزمه البيع؛ لأنه بيع صحيح جعل له الخيار في رده ثلاثًا لا أكثر، فإن لم يبطله فلا إبطال له بعد الثلاث إلا من عيب كسائر الببوع؛ وبقى البيع بصحته لم يبطل
(2)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (التاج المذهب): إذا استعمل المشترى المبيع في مدة انقطاع العيب بعد علمه بالعيب. وقبل عوده معه لم يكن ذلك رضاء منه بالعيب؛ لأنه لا يمكنه الفسخ حتى يعود العيب عندما
(3)
.
مذهب الإمامية:
بيع الخيار عند الإمامية؛ على ثلاثة أضرب، أحدها: خيار المجلس. وهو أن يكون لكل واحد منهما الخيار وفسخ العقد ما لم يتفرقا بالأبدان؛ فإن قال بعد -انعقاد العقد- أحدهما لصاحبه: اختر الإمضاء، فإذا اختار ذلك انقطع الخيار، ولزم العقد. والثانى: أن يشترط حال العقد أن لا يثبت بينهما خيار المجلس. بعد انعقاد البيع؛ فإذا تعاقدا بعد ذلك صحّ البيع؛ ويكون على ما شُرط. والثالث: أن يشترط في حال العقد مدةٌ معلومة؛ يكون لهما فيها الخيار ما شاء من الزمان: ثلاثًا أو شهرًا أو أكثر؛ فإنه ينعقد العقد؛ ويكون لهما الخيار في تلك المدة، إلا أن يوجبان بعد ذلك على أنفسهما كما في البيع المطلق
(4)
. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}
(5)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا."
(6)
. وقوله: "المسلمون عند شروطهم"
(7)
.
(1)
الحديث بنحوه في سنن ابن ماجه؛ كتاب الأحكام، باب الحجر على من يفسد ماله. وأصله في الصحيحين في عدة مواضع منها: صحيح البخارى كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع. وصحيح مسلم. كتاب البيوع، باب من يخدع في البيع.
(2)
المحلى: 8/ 409، 410.
(3)
التاج الذهب: 2/ 412.
(4)
الخلاف للطوسى:1/ 506، 507.
(5)
سورة البقرة، الآية 275.
(6)
سبق تخريجه:
(7)
صحيح البخارى؛ كتاب الإجارة. باب أجر السمسرة.
وإذا أكره المتبايعان أو أحدهما على التفرق بالأبدان على وجه يتمكنان من الفسخ والتخاير فلم يفعلا بطل خيارهما أو خيار من تمكن من ذلك
(1)
.
وإذا تبايعا مطلقًا فكان بينهما خيار المجلس، أو تبايعا بشرط الخيار فكان بينهما خيار الشرط جاز أن يتقابضا في مدة الخيار، ويكون الشرط قائمًا حتى ينقطع
(2)
.
مذهب الإباضية:
تنقطع مدة الخيار في البيع لمجئ ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر بطلوع فجر اليوم الآخره وقيل بطلوع شمسه؛ وهو اليوم الثالث مثلًا؛ لأنه لم يقل لثلاثة أيام؛ ولالتمام ثلاثة أيام؛ ولا نحو ذلك. ولكن قال: (لمجئ) والمراد بالمجئ الحضور والشئ حاضر بحضور أطرافه؛ وإن قال لمجئ ثلاث ليالٍ أو أقل أو أكثر انقطعت المدة بغروب شمس اليوم الآخر لحضور الليلة الآخرة حينئذٍ
(3)
.
(1)
الخلاف للطوسى: 1/ 515.
(2)
السابق: 1/ 517.
(3)
شرح النيل: 4/ 550، وما بعدها.
انقطاع المُسلم فيه
مذهب الحنفية:
جاء في (تبيين الحقائق): أنه لا يجوز السلم في الشئ المنقطع؛ لأن شرط جواز السلم أن يكون موجودًا من حين العقد إلى حين المحل حتى لو كان منقطعًا عند العقد موجودًا عند المحل أو بالعكس، أو منقطعًا فيما بين ذلك لا يجوز.
وحد الانقطاع أن لا يوجد في الأسواق وإن كان في البيوت، ودليلنا ما روى عن أنس - رضى الله عنه - "أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهى". قالوا: وما تزهى؟ قال: "تحمر" وقال "إذا منع الله الثمرة فبم يستحل أحدكم مال أخيه"
(1)
. وعن ابن عمر رضى الله عنهما - "أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها"
(2)
. نهى البائع والمبتاع. وفى لفظ: "حتى تبيض وتأمن من العاهة"
(3)
. وهذا نص على أنه لا يجوز في المنقطع في الحال؛ إذ الحديث ورد في السلم لأن بيع الثمار بشرط القطع جائز لا يمنع أحد بيع مال معين منتفع به في الحال أو في المآل.
وقوله عليه السلام: "فبم يستحل أحدكم مال أخيه؟ ". وهو رأس مال السلم يدل عليه؛ لأن احتمال بطلان البيع بهلاك المبيع قبل القبض لا يؤثر في المنع من البيع؛ ولأن القدرة على التسليم حال وجوده شرط لجوازه؛ وفى كل وقت بعد العقد يحتمل وجوبه بموت المسلم إليه؛ لأن الديون تحل بموت من عليه الدين فيشترط دوام وجوده لتدوم القدرة على التسليم بالتحصيل في المدة؛ ولا بد من استمرار الوجود فيها ليتمكن من التحصيل. ولو انقطع عن أيدى الناس بعد المحل قبل أن يوفى المسلم فيه فرب السلم بالخيار إن شاء فسخ العقد وأخذ رأس ماله. وإن شاء انتظر وجوده.
وقال زفر رحمه الله تعالى: يبطل العقد ويسترد رأس ماله للعجز عن تسليمه كما إذا هلك المبيع قبل القبض. قلنا: إن السلم قد صح وتعذر تسليم المعقود عليه بعارض على شرف الزوال فيخير فيه؛ كما إذا أبق العبد المبيع قبل القبض. بخلاف هلاك المبيع قبل القبض؛ لأنه قد فات لا إلى خلف؛ وبخلاف ما إذا اشترى بالفلوس شيئًا وكسدت حيث يبطل البيع بها؛ لأنها تفوت أصلًا ولا يرجى زواله ولو رُجى لا يعلم متى تروج، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن لإدراك الثمر والقدرة على التسليم أوانًا معلومًا فيتخير، ولا يجوز السلم في السمك الطرى؛ لأنه ينقطع عن أيدى الناس في الشتاء لتجمد المياه. حتى ولو كان في بلد لا ينقطع فيه السمك أو أسلم فيه من حينه جاز وزنًا لا عددًا؛ وعن أبى حنيفة - رحمه الله تعالى أنه لا يجوز في الكبار التي تنقطع كالسلم في اللحم؛ لاختلاف الناس في نزع عظمها واختلاف رغباتهم في مواضعها.
قال صاحب (تبيين الحقائق): وإن كان السمك مالحًا جاز للمسلم فيه وزنًا لا عددًا؛ لأن
(1)
صحيح البخارى. كتاب البيوع، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ثم أصابته عاهة. وصحيح مسلم؛ كتاب المساقاة؛ باب وضع الجوائع.
(2)
صحيح البخارى في موضعين: كتاب الزكاة، باب من باع ثماره أو نخله .. إلخ. وكتاب البيوع؛ باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وصحيح مسلم، كتاب البيوع؛ باب النهى عند بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط.
(3)
الحديث بنحوه في صحيح مسلم؛ كتاب البيوع، باب النهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط.
المالح منه وهو القديد لا ينقطع عن أيدى الناس. وهو معلوم يمكن ضبطه ببيان قدره بالوزن وبيان نوعه. وذكر في (النهاية) معزيًا إلى (الإيضاح) أن الصحيح في الصغار منه يجوز وزنًا وكيلًا. وفى الكبار روايتان
(1)
.
ونقل الشلبى عن الطحاوى أن السلم في السمك لا يخلو إما أن يكون طريًا أو مالحًا. ولا يخلو إما أن يسلم فيه عددًا أو وزنًا. فإن أسلم فيه عددًا طريًا كان أم مالحًا لا يجوز لأنه متفاوت. وإن أسلم فيه وزنًا فإنه ينظر إن كان مملحًا يجوز وإن كان طربًا فإن كان العقد في حينه والأجل في حينه ولا ينقطع فيما بين ذلك فإنه يجوز. وإلا فلا يجوز
(2)
.
مذهب المالكية:
جاء فى (حاشية الدسوقى على الشرح الكبير): وإن انقطع ثمر الحائط المعين الذي أسلم في كيل معلوم من ثمره بجائحة أو تعيب بعد قبض بعضه لزمه ما قبضه منه بحصته من الثمن؛ ورجع المسلم بحصة ما بقى له من السلم عاجلًا اتفاقًا، ولا يجوز التأخير؛ لأنه فسخ دَين في دين؛ وله أخذ بدله ولو طعامًا.
وهل يرجع على حسب القيمة فينظر لقيمة كل مما قبض ومما لم يقبض في وقته؛ ويفض الثمن على ذلك، فإذا أسلم مائة دينار في مائة وسق من ثمر الحائط المعين ثم قبض من ذلك خمسين وسقًا وانقطع. فإذا كان قيمة المأخوذ مائة وقيمة الباقى خمسين فنسبة الباقى للمأخوذ الثلث؛ فيرجع بثلث الثمن قل أو كثر. وعليه الأكثر، أو يرجع على حسب الكيل فيرجع بنسبة ما بقى منها من غير تقويم.
وهل القرية الصغيرة -وهى ما ينقطع ثمرها في بعض إبّانه من السنة- كذلك يشترط في السلم فيها شروط السلم في الحائط المعين أو هي مثله إلا في وجوب تعين بها النقد أي رأس المال فيها؛ لأن السلم فيها مضمون في الذمة لاشتمالها على عدة حوائط بخلاف السلم في المعين فلا يجب تعجيل النقد فيه؛ بل يجوز تأخيره أكثر من ثلاثة أيام؛ لأنه بيع معين وتسميته سلمًا مجاز أو تخالفه في وجوب تعجيل النقد فيها، وفى السلم فيها لمن لا ملك له في القرية الصغيرة دون الحائط تأويلات.
وإن انقطع مُسْلَم فيه له إبان أي وقت معين يأتى فيه: وهذا السلم الحقيقى؛ أو من قرية مأمونة ولو صغيرة قبل قبض شئ منه خير المشترى في الفسخ وأخذ رأس ماله؛ وفى الإبقاء لقابل إلا أن يكون التأخير بسبب المشترى فينبغي عدم تخييره لظلمه البائع بالتأخير؛ فتخييره زيادة ظلم قاله ابن عبد السلام فيجب التأخير. وإن قبض البعض وانقطع بجائحة أو هروب المسلم إليه أو تفريط المشترى حتى مضى الإبان وجب التأخير بالباقى لقابل؛ لأن السلم تعلق بذمة البائع فلا يبطل بانقضاء الأجل كالدين إلا أن يرضيا معًا بالمحاسبة بحسب الكيل لا القيمة فيجوز إن كان رأس المال مثليًا، بل ولو كان رأس المال مقوّمًا كحيوان أو ثياب؛ لجواز الإقالة على غير رأس المال.
(3)
(1)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 4/ 113، بتصرف يسير.
(2)
حاشية الشلبى على تبيين الحقائق 4/ 113.
(3)
حاشية الدسوقى على الشرح الكبير: 3/ 213 - 214 بتصرف
مذهب الشافعية:
جاء في (المهذب): أنه لا يجوز السلم إلا في شيء عام الوجود مأمون الانقطاع؛ فإن أسلم فيما لا يعم كالصيد في موضع لا يكثر فيه أو ثمرة طبيعية بعينها أو جعل المحل وقتًا لا يأمن انقطاعه فيه لم يصح: لما روى عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن زيد بن سعنة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا محمد هل لك أن تبيعنى تمرًا معلومًا إلى أجل معلوم من حائط بنى فلان فقال: لا يا يهودى؛ ولكن أبيعك تمرًا معلومًا إلى كذا وكذا من الأجل"
(1)
.
ولأنه لا يؤمن أن يتعذر المسلم فيه؛ وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد
(2)
.
وجاء أيضًا: إن أسلم في ثمرة فانقطعت في محلها أو غاب المسلم إليه فلم يظهر حتى نفدت الثمرة ففيه قولان: أحدهما أن العقد ينفسخ. لأن المعقود عليه ثمرة هذا العام وقد ملكت فانفسخ العقد؛ كما لو اشترى قفيزًا من صبرة فهلكت الصبرة. والثانى أنه لا ينفسخ لكنه بالخيار بين أن يفسح وبين أن يصبر إلى أن توجد الثمرة فيأخذ؛ لأن المعقود عليه ما في الذمة. لا ثمرة هذا العام؛ والدليل عليه أنه لو أسلم إليه في ثمرة عامين فقدم في العام الأول ما يجب له في العام الثاني جاز وما في الذمة لم يتلف. وإنما تأخر فثبت له الخيار كما لو اشترى عبدًا فأبق.
ويجوز فسخ عقد السلم بالإقالة؛ لأن الحق لهما فجاز الرضا بإسقاطه. فإذا فسخا أو انفسخ بانقطاع الثمرة في أحد القولين أو بالفسخ في القول الآخر رجع المسلم إلى رأس المال؛ فإن كان باقيًا وجب رده؛ وإن كان تالفًا ثبت بدله في ذمة المسلم إليه؛ فإن أراد أن يسلمه في شيء آخر لم يجز، لأنه بيع دين بدين، وإن أراد أن يشترى به عينًا نظر، فإن كان تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير لم يجز أن يتفرقا قبل القبض كما لو أراد أن يبيع أحدهما بالآخر عينًا بعين؛ وإن لم تجمعهما علة واحدة في الريا كالدراهم بالحنطة والثوب بالثوب ففيه وجهان. أحدهما: يجوز أن يتفرقا من غير قبض كما يجوز إذا باع أحدهما بالآخر عينًا بعين أن يتفرقا من غير قبض، والثانى: لا يجوز؛ لأن المبيع في الذمة فلا يجوز أن يتفرقا قبل قبض عوضه كالمسلم فيه؛ والله أعلم
(3)
.
وجاء في موضع آخر من (المهذب) أنه إن أسلم إلى رجل في شيء وأفلس المسلم إليه وحجز عليه. فإن كان رأس المال باقيًا فله أن يفسخ العقد ويرجع إلى عين ماله؛ لأنه وجد عين ماله خاليًا من حق غيره فرجع إليه كالمبيع؛ وإن كان رأس المال تالفًا ضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه؛ فإن لم يكن في ماله الجنس المسلم فيه اشترى ودفع إليه؛ لأن أخذ العوض عن المسلم فيه لا يجوز وقال أبو إسحاق: إذا أفلس المسلم إليه فللمسلم أن يفسخ العقد ويضرب مع الغرماء برأس المال؛ لأنه يتعذر تسليم المسلم فيه
(1)
صحيح ابن حبان:1/ 521 ط الرسالة، سنة 1993 م وهو في فصل ذكر الاستحباب للمرء أن يأمر بالمعروف من هو فوقه ومثله ودونه في الدين .. إلخ. وهو في مستدرك الحاكم 3/ 700، العلمية سنة 1990 م، في فصل ذكر إسلام زيد بن سعنة .. إلخ. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه؛ وهو من غرر الحديث. أهـ.
(2)
المهذب:1/ 298.
(3)
المرجع السابق: 1/ 302.
فثبت الفسخ كما لو أسلم في الرطب فانقطع؛ والمذهب أنه لا يثبت الفسخ؛ لأنه غير واجد لعين ماله فلم يملك الفسخ بالإفلاس كما لو باعه عينًا فأفلس المشترى بالثمن والعين تالفة؛ ويخالف إذا أسلم وانقطع الرطب؛ لأن الفسخ هناك لتعذر المعقود عليه قبل التسليم وهاهنا الفسخ بالإفلاس. والفسخ بالإفلاس إنما يكون لمن وجد عين ماله؛ وهذا غير واجد لعين ماله فلم يملك الفسخ
(1)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): من شروط السلم أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله وقت حلوله غالبًا لوجود تسليمه حينئذ. سواء كان المسلم فيه موجودًا حال العقد أو معدومًا كالمسلم فيه الرطب والعنب زمن الشتاء إلى الصيف. فإن كان المسلم فيه لا يوجد في وقت حلوله أو لا يوجد فيه إلا نادرًا كالسلم في الرطب والعنب إلى غير وقته لم يصح السلم؛ لأنه لم يمكن تسليمه غالبًّا عند وجوبه أشبه بيع الآبق بل أولى، وإن أسلم في ثمرة نخلة بعينها أو أسلم في ثمرة بستان بعينه بدا صلاحه أولًا. أو أسلم في زرعه أي زرع بستان بعينه استحصد (أي طلب الحصاد) بأن اشتد حبه أولًا. أو أسلم في ثمرة أو زرع قرية صغيرة؛ أو أسلم في نتاج فحل فلان أو غنمه ونحوه لم يصح السلم في ذلك؛ لأنه لا يؤمن انقطاعه ولما روى عنه صلى الله عليه وسلم "أنه أسلف إليه يهودى في تمر حائط بنى فلان فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما في حائط بنى فلان فلا ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى"
(2)
. قال ابن المنذر المنع كالإجماع لاحتمال الجائحة.
وإن أسلم إلى وقت يوجد فيه عامًا فانقطع وتعذر حصوله أو حصول بعضه إما لغيبة المسلم إليه وقت وجوده أو بعجزه عن التسليم حتى عدم المسلم فيه أو لم تحمل تلك السنة وما أشبهه خيِّر المسلم بين صبر إلى أن يوجد المسلم فيه فيأخذه وبين فسخ في الكل أو البعض المتعذر ويرجع برأس مال ما فسخ فيه كُلًا كان أو بعضًا إن كان رأس المال موجودًا أو عوضه إن كان معلومًا لتعذر رده وعوضه مثل مثلى وقيمة متقوم؛ وعلم مما تقدم أنه لو تحقق بقاء المسلم فيه لزم المسلم إليه تحصيله؛ قال في (شرح المنتهى): ولو شق كبقية الديون؛ وإن أسلم ذمى إلى ذمى في خمر ثم أسلم أحدهما رجع المسلم أي صاحب السلم فأخذ رأس ماله الذي دفعه إن كَانَ موجودًا أو عوضه إن عدم؛ لأنه إذا أسلم الأول فقد تعذر عليه استيفاء المقصود عليه. وإن أسلم الآخر فقد تعذر عليه الإيفاء.
(3)
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): أن السلم جائز فيما لا يوجد حين عقد السلم؛ وفيما يوجد؛ وإلى من ليس عنده منه شيء. وإلى من عنده؛ ولا يجوز السلم فيما لا يوجد حين حلول أجله؛ برهان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسلم كما ذكرنا وبين في الكيل وفى الوزن وإلى أجل فهو كان كون السلم في الشئ لا يجوز إلا في حال وجوده أو إلى مَنْ
(1)
مذهب: 1/ 326 - 327.
(2)
الحديث بنحوه في سنن ابن ماجه، كتاب التجارات، باب السلف فى كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم.
(3)
كشاف القناع:2/ 128 - 129. بتصرف.
عنده ما سلم إليه فيه، لما أغفل عليه السلام بيان ذلك حتى يكلنا إلى غيره، حاشا لله من ذلك، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}
(1)
، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}
(2)
أما السلم فيما لا يوجد حين حلول أجله فهو تكليف ما لا يطيق وهذا باطل قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
(3)
فهو عقد على باطل فهو باطل، والسلم عندنا ليس بيعًا. ولو كان بيعًا لما حل لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك
(4)
إلا لمن هو عنده حين السلم.
وأما السلم إلى من ليس عنده منه شئ، فروينا من طريق ابن أبي شيبة حدثنا ابن أبي زائدة عن يحيى بن سعيد الأنصارى عن نافع قال: كان ابن عمر إذا سئل عن الرجل يبتاع شيئًا إلى أجل وليس عنده أصله لا يرى به بأسًا. وكرهه ابن المسيب وعكرمة وطاوس وابن سيرين. قال على: لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف والظاهر من قول عمر وابنه وابن عباس أنهم نهوا عن ذلك من أسلم في زرع بعينه أو في ثمر نخل بعينه
(5)
.
ثم قال ابن حزم: ومن سلَّم في شئ فضيع قبضه، أو اشتغل حتى فات وقته وعدم، فصاحب الحق مخير بين أن يصبر حتى يوجد، وبين أن يأخذ قيمته لو وجد في ذلك الوقت من أي شئ وتراضيا عليه؛ لقول الله تعالى:{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}
(6)
فحرمة حق صاحب السلم إذا لم يقدر على عين حقه كحرمة مثلها
(7)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (التاج المذهب): أنه يشترط في السلم معرفة إمكانه للحلول أي يعرف أن المسلم إليه يتمكن من المسلم فيه عند حلول الأجل، ويكفى عند العقد أن يعلم أحدهما، أو يظن من جهة العادة أن الشئ المسلم فيه يمكن تحصيله عند حصول الأجل المضروب إذا لم يعرف ذلك عند العقد، كأن يسلم في آخر الشتاء في رطل عنب والأجل ثلاثة أيام لم يصح السلم، ولا بد أن يشترط لصحة المسلم فيه عدم وجوده في ملك المسلم إليه حال العقد، هذا هو المختار للمذهب لا ما فى (الأزهار). فلو عين من المقادير أو من المسلم فيه ما يقدر تعذره عادة عند التسليم، وعلى هذا فلا يصح أن يعين ذراع رجل معين ولا ميزانه ولا مكياله ولا نسيجه إذا لم يكن في الناحية مثله، ولا ثمرة شجرة معينة ولا فاكهة بستان معين ولا حنطة مزرعة معينة لجواز تعذر ذلك. أما إذا كان لمكيال المحلة أو لميزانها عيار موجود في الناحية فيصح أن يعين مكيال المحلة أو ميزانها، وكذا لو كانت المحلة بلدة كبيرة لا يجوز جلاء أهلها عنها في العادة كصنعاء اليمن وزبيد ونحوها فيصح
(8)
.
(1)
سورة النجم، الآية: 3، 4.
(2)
سورة مريم، الآية:64.
(3)
سورة البقرة، الآية:286.
(4)
الحديث بهذا اللفظ في سنن النسائي، في كتاب البيوع، باب شرطان في بيع .. إلخ. وانظر: صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض .. إلخ. وسنن الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك. .
(5)
المحلى: 9/ 114.
(6)
سورة البقرة الآية: 194.
(7)
المحلى: 9/ 115.
(8)
التاج المذهب: 2/ 504 - 505.
ثم قال في موضع آخر: ومتى بطل السلم يفسخ بالتراضى، أو عدم جنس المسلم فيه مع المسلم إليه مطلقًا، ومع غيره في البريد
(1)
، فإن لهما الفسخ لتعذر التسليم إلا أن يتراضيا على الإنظار حتى يوجد وكذلك لو وجد مع إعسار المسلم إليه. قال في (البيان): أما لو وجد في ملك غيره وكان يمكنه شراؤه لزم تحصيله بما لا يجحف - ولو من المسلم بشراء أو نحوه.
فلو عدم نوعه أو صفته ووجد غيره فإن كان النوع الموجود أعلى من النوع المشروط لم يجز للمسلم أخذه إلا أن يرضى المسلم إليه، فيخير المسلم بين قبوله أو الفسخ أو التأخير حتى يوجد، وإن كان الموجود أعلى في الصفة من المشروط فالواجب على المسلم قبوله ولم يبق له خيار ما لم يكن خلاف غرضه فلا يجب قبوله. وإن كان الموجود أدنى من النوع المشروط فلا يلزم تسليمه وقبوله إلا مع تراضيهما، وإن كان الموجود أدنى من المشروط في الصفة فلا يلزم المسلم قبوله بل يلزم المسلم إليه تسليمه إن طلب المسلم؛ لأنه قد رضى بنقصان حقه. هذا ما تقتضيه القواعد وإن لم ينص إلا على بعض تلك الأمور، نعم فمتى بطل السلم بالفسخ لشئ مما تقدم لم يؤخذ من المسلم إليه إلا رأس المال إن كان باقيًا في يده، أو عوضه إن كان تالفًا، ففى المثلى ما يساوى مثله إن وجد، أو قيمته يوم قبضه إن عدم المثلى، أو كان قيميًا سواء تلف رأس المال - ولو حكمًا - أو خرج من ملك المسلم إليه بأى وجه
(2)
.
ويصح من المسلم إنظار بعدم الجنس المسلم فيه أو النوع أو الصفة إذا عدم ذلك في البريد فله إنظاره، وللمسلم إليه أن يرضى بالإنظار أو يفسخ لتعذر التسليم، وإذا رضى به لزم الإنظار لأنه مستند إلى عقد فلا يجوز الطلب في مدة الإنظار
(3)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (الخلاف): أنه يجوز السلم في المعدوم إذا كان مأمون الانقطاع في وقت المحل. لإجماع الفرقة وأخبارهم، وروى عبد الله بن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين والثلاث فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم"
(4)
وأقرهم على ما كانوا عليه من السلف في التمر سنتين. ونحن نعلم أن التمر ينقطع في خلال هذه المدة
(5)
.
وجاء في (الروضة البهية)؛ أنه لو انقطع المسلم فيه عند الحلول حيث يكون مؤجلًا ممكن الحصول بعد الأجل عادة فاتفق عدمه تخير المسلم بين الفسخ فيرجع برأس ماله لتعذر الوصول إلى حقه وانتفاء الضرر وبين الصبر إلى أن يحصل، وله أن لا يفسخ ولا يصبر بل يأخذ قيمته حينئذ، لأن ذلك هو حقه. والأقوى أن الخيار ليس فوريًا فله الرجوع بعد الصبر إلى أحد الأمرين ما لم يصرح بإسقاط حقه من الخيار، ولو كان الانقطاع بعد بذله ورضاه بالتأخير سقط خياره، بخلاف ما لو كان بعدم المطالبة أو بمنع البائع من إمكانه، وفى حكم
(1)
البريد: المسافة، وهى فرسخان، كل فرسخ ثلاثة أميال. أو أربعة فراسخ وهو اثنا عشر ميلًا. تاج العروس، مادة (برد).
(3)
التاج المذهب 2/ 509.
(3)
السابق 2/ 511.
(4)
صحيح البخارى، كتاب السلم، باب السلم في وزن معلوم. وباب السلم في كيل معلوم، وصحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب السلم.
(5)
الخلاف في الفقه: 1/ 591.
انقطاعه عند الحلول موتُ المسلم إليه قبل الأجل وقبل وجوده، لا العلم قبله بعدمه بعده، بل يتوقف الخيار على الحلول على الأقوى لعدم وجود المقتضى له الآن إذ لم يستحق شيئًا حينئذ، ولو قبض البعض تخير أيضًا بين الفسخ في الجميع والصبر وبين أخذ ما قبضه والمطالبة بحصة غيره من الثمن أو قيمة المثمن على القول الآخر، وفى تخيير المسلم إليه مع الفسخ في البعض وجه قوى، لتبعض الصفقة عليه إلا أن يكون الانقطاع من تقصيره فلا خيار له
(1)
.
وجاء في (شرائع الإسلام): أنه إذا حل الأجل وتأخر لعارض التسليم ثم طالب بعد انقطاعه كان بالخيار بين الفسخ والصبر، ولو قبض البعض كان له الخيار في الباقى، وله الفسخ في الجميع
(2)
.
وجاء في (الخلاف): أنه إذا انقطع المسلم فيه لم ينفسخ البيع ويبقى في الذمة، والدليل عليه أن هذا عقد ثابت وفسخه يحتاج إلى دليل وليس في الشرع ما يدل عليه
(3)
.
وجاء في موضع آخر من (الخلاف): أنه إذا أسلم في رطب إلى أجل فلما حل الأجل لم يتمكن من مطالبته لغيبة المسلم إليه أو لغيبته أو هرب منه أو توارى من سلطان وما أشبه ذلك ثم قدر عليه وقد انقطع الرطب كان المسلِّف بالخياره، بين أن يفسخ العقد وبين أن يصبر إلى العام القادم، والدليل عليه أن هذا العقد كان ثابتًا بلا خلاف فمن حكم بانفساخه فعليه الدلالة
(4)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): وجاز السلم في كل نوع يكال أو يوزن، قلت: أو يعد أو يذرع، قال بعضهم: أو يوصف إن كان مما لا يكال ولا يوزن ولا يذرع، قال ابن أبي أوفى: إنا كنا نتسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر في البر والشعير والزبيب والتمر. فقاس بعض العلماء على الأربعة ما بقى من أنواع الزكاة. فحصر السلم في الحبوب الست، وقاس بعضٌ عليها كلَّ ما يكال أو يوزن، وقاس عليها بعضٌ كلَّ ما يضبط ولو بذرع أوعد، وبعضٌ ولو بوصف، وعلى كل قول لا يجوز إلا فيما لا ينقطع من الأيدى كالأنواع الستة وهى الحبوب الست، ومثال ما ينقطع الكمأة
(5)
والجراد
(6)
.
(1)
الروضة البهية: 1/ 317.
(2)
شرائع الإسلام: 1/ 190.
(3)
الخلاف: 1/ 549.
(4)
المرجع السابق: 1/ 591.
(5)
الكَمْأَة واحدها كَمْءٌ على غير قياس، وهو من النوادر؛ فإن القياس العكس، الكَمْء نبات يُنَقض الأرض فيخرج كما يخرج الفطر. لسان العرب. مادة (كمأ).
(6)
شرح النيل: 4/ 364.
انقطاع الموقوف عليه
مذهب الحنفية:
جاء في (تبيين الحقائق): أنه لا يجوز الوقف حتى يجعل آخره لجهة لا تتقطع أبدًا كالمساكين ومصالح الحرم والمساجد بخلاف ما لو وقف على مسجد معين ولم يجعل آخره لجهة لا تنقطع فلا يصح؛ لاحتمال أن يخرب الموقوف عليه. وهذا عند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. وقال أبو يوسف: إذا سمى فيه جهة تنقطع جاز وصار بعدها للفقراء وإن لم يسمهم، ووجه ما قاله أبو حنيفة ومحمد أن حكم الوقف زوال الملك بغير التمليك وأنه بالتأبيد كالعتق، ولهذا كان التوقيت مبطلًا له كالتوقيت في البيع، ووجه ما قاله أبو يوسف أن المقصود من الوقف هو التقرب إلى الله تعالى به وذلك يحصل بجهة تنقطع كما يحصل بجهة لا تنقطع ثم يصير بعدها للفقراء وهذا يدل على أن التأبيد شرط عنده أيضًا إلا أنه لا يشترط ذكره؛ لأن مطلقه ينصرف إليه. ومحمد يقول: لا ينصرف إليه إلا بالتصريح بذكره؛ لأن المطلق يحتمل التوقيت. وصح الوقف قبل وجود الموقوف عليه فلو وقف على أولاد زيد ولا ولد له أو على مكان هيأه لبناء مسجد أو مدرسة صح في الأصح وتصرف الغلة للفقراء إلى أن يولد لزيد أو يبنى المسجد، قال ابن عابدين في حاشيته: هذا الوقف يسمى منقطع الأول
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (التاج والإكليل): قال عياض إن قال المالك هو حبس أو وقف فهو صدقة، فإن عينها لمجهولين محصورين مما يتوقع انقطاعه كقوله على ولد فلان أو فلان وولده فاختلف فيه: قال مالك: هي حبس مؤبد يرجع بعد انقراضهم مرجع الأحباس سواء قال ما عاشوا أو لا، قال: وإن جعلها لمجهولين غير محصورين كالمساكين فهى ملك لهم تقسم عليهم إن كانت مما ينقسم أو بيعت وقسمت وأنفقت فيما يحتاج إليه ذلك الوجه المجهول، قال مالك: من قال: هذه الدار حبس على فلان وعقبه، أو عليه وعلى ولده وولد ولده أو قال: حبس على ولدى ولم يجعل لها مرجعًا فهى موقوفة لا تباع ولا توهب وترجع بعد انقراضهم حبسًا على أولى الناس بالتحبيس يوم الرجع وإن كان المُحْبِس. فقيل لابن المواز: من أقرب الناس بالمحبس الذي يرجع إليهم الحبس بعد انقراض من حبس عليهم؟ فقال: قال مالك: على الأقرب من العصبة من النساء من لو كانت رجلًا كانت عصبة للمحبس فيكون ذلك عليهم حبسًا قال مالك: ولا يدخل في ذلك ولد البنات ذكرًا كان أو أنثى ولا بنو الأخوات ولا زوج ولا زوجة، قال ابن القاسم: وإنما يدخل من النساء مثل العمات والجدات وبنات الأخ والأخوات أنفسهن شقائق كن أم لأب ولا يدخل في ذلك الأخوة والأخوات لأم
(2)
.
مذهب الشافعية:
جاء في "المهذب": أنه لا يجوز الوقف إلا على سبيل لا ينقطع وذلك من وجهين: أحدهما: أن يقف على من لا ينقرض كالفقراء والمجاهدين وطلبة العلم وما أشبهها. والوجه الثاني: أن يقف على من ينقرض ثم من بعده على من لا ينقرض مثل أن يقف على رجل بعينه ثم على الفقراء أو
(1)
تبيين الحقائق: 3/ 326، 327.
(2)
التاج والإكليل: 6/ 27.
على رجل ثم على عقبه ثم على الفقراء، فأما إذا وقف وقفًا منقطع الابتداء والانتهاء كما لو وقف على عبده أو على ولده ولا ولد له فالوقف باطل؛ لأن العبد لا يملِك والولد الذي لم يخلق لا يملِك فلا يفيد الوقف عليهما شيئًا، وإن وقف وقفًا متصل الابتداء منقطع الانتهاء بأن وقف على رجل بعينه ولم يزد عليه أو على رجل بعينه ثم على عقبه ولم يزد عليه ففيه قولان أحدهما: أن الوقف باطل، لأن القصد بالوقف أن يتصل الثواب على الدوام وهذا لا يوجد في هذا الوقف؛ لأنه قد يموت الرجل وينقطع عقبه. القول الثاني: أنه يصح ويصرف بعد انقراض الموقوف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأن مقتضى الوقف الثواب على التأبيد فحمل فيما سماه على ما شرطه وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد ويقدم المسمى على غيره، فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف؛ لأنه من أعظم جهات الثواب. وإن وقف وقفًا منقطع الابتداء متصل الانتهاء بأن وقف على عبد ثم على الفقراء أو على رجل غير معين ثم على الفقراء ففيه طريقان، من أصحابنا من قال: يبطل قولًا واحدًا. لأن الأول باطل والثانى فرع لأصل باطل فكان باطلًا. ومنهم من قال فيه قولان أحدهما: أنه باطل لما ذكرناه. والقول الثاني: أنه يصح؛ لأنه لما بطل الأول صار كأن لم يكن وصار الثاني أصلًا، فإذا قلنا: إنه يصح فإن كان الأول لا يمكن اعتبار انقراضه كرجل غير معين صرف إلى من بعده وهم الفقراء؛ لأنه لا يمكن اعتبار انقراضه فسقط حكمه. وإن قال: وقفت على أولادى فإن انقرض أولادى وأولاد أولادى فعلى الفقراء لم يدخل فيه ولد الولد ويكون هذا وقفًا منقطع الوسط فيكون على قولين كالوقف المنقطع الانتهاء، ومن أصحابنا من قال: يدخل فيه أولاد الأولاد بعد انقراض ولد الصلب؛ لأنه لما شرط انقراضهم دل على أنهم يستحقون كولد الصلب. والصحيح هو الأول؛ لأنه لم يشترط شيثًا وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم، وإن وقف مسجدًا فخرب المكان وانقطعت الصلاة فيه لم يعد إلى الملك ولم يجز له التصرف فيه؛ لأن ما زال الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك بالاختلال كما لو أعتق عبدًا ثم زَمِنَ، وإن وقف نخلة فجفت أو بهيمة فزمنت أو جذوعًا على مسجد فتكسرت ففيه وجهان - أحدهما لا يجوز بيعه؛ لما ذكرناه في المسجد، والوجه الثاني أنه يجوز بيعه، لأنه لا يرجى منفعته فكان بيعه؛ أولى من تركه بخلاف المسجد فإن المسجد؛ يمكن الصلاة فيه مع خرابه وقد يعمر الموضع فيه
(1)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): أن من وقف شيئًا على أولاده ونحوهم فالأولى أن يذكر في مصرفه جهة تدوم كالفقراء ونحوهم خروجًا من خلاف من قال يبطل الوقف إن لم يذكر في مصرفه جهة تدوم، فإن اقتصر الواقف على ذكر جهة تنقطع كأولاده؛ لأنه بحكم العادة يمكن انقراضهم صح الوقف؛ لأنه معلوم المصرف فصح كما لو صرح بمصرفه، ويصرف وقف منقطع الابتداء كوقفه على من لا يجوز الوقف عليه كعبد ثم على من يجوز كأولاده أو أولاد زيد أو إلى الفقراء من
(1)
المهذب: 1/ 441، 442.
بعدهم. ويصرف منقطع الوسط في الحال بعد من يجوز الوقف عليه إلى من بعده فلو وقف داره على زيد ثم على عبده ثم على المساكين صرفت بعد زيد للمساكين؛ لأن وجود من لا يصح الوقف عليه كعدمه، فيكون كأنه على الجهة الصحيحة من غير ذكر الباطلة، ولأننا لما صححنا الوقف مع ذكر من لا يحق الوقف عليه فقد ألغيناه فإنه يتعذر التصحيح مع اعتباره، وإن وقف على من لا يصح الوقف عليه ولم يذكر له مآلًا صحيحًا كأن يقول: وقفته على الأغنياء ونحوها بطل الوقف؛ لأنه عين المصرف الباطل واقتصر عليه، ويصرف منقطع الآخر كما لو وقف على جهة تنقطع كأولاده ولم يذكر له مآلًا إلى ورثة الواقف نسبًا بعد من عينهم، أو وقف على من يجوز الوقف عليه كأولاده ثم على من لا يصح الوقف عليه ككنيسة فيصرف إلى ورثة الواقف نسبًا بعد من يجوز الوقف عليه، وكذا ما وقفه وسكت إن قلنا يصح الوقف حينئذ فإنه يصرف إلى ورثة الواقف حين الانقراض
(1)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): ومن حبس داره أو أرضه ولم يُسَبّلِ على أحد فله أن يسبل الغلة ما دام حيًا على من شاء، لقول رسوله الله صلى الله عليه وسلم: "وسبِّل الثمرة،
(2)
فله ذلك ما بقى، فإن مات ولم يفعل كانت الغلة لأقاربه وأولى الناس به حين موته، وكذلك من سبل وحبس على منقطع فإذا مات المسبل عليه عاد الحبس على أقرب الناس بالمحبس يوم المرجع برهان ذلك ما رويناه من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة سمع أنس بن مالك يقول: كان أبو طلحة أكثر أنصارى المدينة مآلًا من نخل، فقال: يا رسول الله إن الله عز وجل يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(3)
وإن أحب أموالى إليّ بيرحاء وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وزهوها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في كلام: "ثم إنى أرى أن تجعلها في الأقربين"
(4)
فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه
(5)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (الأزهار): إذا زال مصرف الوقف وانقطع يعود الوقف وقفًا لا ملكًا للواقف المالك إن كان حيًا أو وارثه حيث كان قد مات وعرف وارثه ويكون بينهم على الفرائض وإلا فللفقراء، وذك إما بزوال مصرفه أي مصرف الوقف كمسجد أو آدمى ولو ذميًا وزوال وارثه أي وارث المصرف ولا فرق بين ما ينقل بالإرث أو بالوقف، والمعتبر في ورثة الواقف من وُجد يوم عدم ورثة الموقوف أو يوم زوال مصرفه من مسجد ونحوه، أو زوال شرطه، أي شرط المصرف، إلا أن يعود كأن يقول: على زيد مهما بقى في مكة أو نحوها، فإنه متى زال من مكة عاد للواقف وقفًا؛ لأنه
(1)
كشاف القناع: 2/ 447 - 447.
(2)
الحديث بهذا اللفظ في سنن النسائي، كتاب الأحباس. باب حبس المشاع.
(3)
سورة آل عمران، آية 92.
(4)
صحيح البخارى في عدة مواضع منها: في كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب. وكتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضًا ولم يبين الحدود
…
إلخ. وصحيح مسلم كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين .. إلخ.
(5)
المحلى: 9/ 182، 183، مسألة رقم 1655.
أخص من غيره، ومتى عاد زيد عاد إليه وققًا إلا أن يقصد الواقف الاستمرار بقى المصرف إليه، ولو زال من مكة أو زال وقته نحو أن يقف على زيد عشر سنين فانقضت فإن مات زيد في المدة كان باقيها لورثته وبعد مضيها يعود الوقف وقفًا للواقف أو ورثته، ولا يبطل المصرف بزواله إذا انهدم المسجد أو عدم من يتلو فيه بل يجوز عند ذلك التلاوة في المصحف في غير المسجد، ويجوز إطعام الفقير في غير ذلك المسجد أو الموضع، ومتى عاد المسجد ووجد من يتلو فيه أو وجد الفقير في ذلك المسجد لم يجز الصرف في غيره، وأما إذا عين الوقف وموضع صرفه أو الانتفاع به من أول الأمر كوقفت هذا المصحف للتلاوة في مسجد كذا، فإذا زال ذلك الموضع المعين من مسجد وغيره أو لم يوجد فيه قارئ عاد الوقف وقفًا للواقف ووارثه؛ لانقطاع مصرفه
(1)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (الروضة البهية): أنه إذا قرن الوقف بمدة أو جعله على من ينقرض غالبًا لم يكن وققًا والأقوى صحته حبسًا يبطل بانقضائها وانقراضه، فيرجع إلى الواقف أو وارثه حين انقراض الموقوف عليه كالولاء، ويحتمل إلى وارثه عند موته، ويسترسل فيه إلى أن يصادف الانقراض، ويسمى هذا منقطع الآخر ولو انقطع أوله أو وسطه أو طرفاه فالأقوى بطلان ما بعد القطع، فيبطل الأول والأخير ويصح أول الآخر. وإن وقف على نفسه بطل وإن عقبه بما يصح الوقف عليه؛ لأنه حينئذ منقطع الأول، وكذا لو شرط لنفسه الخيار في نقضه متى شاء أو في مدة معينة، نعم لو وقفه على قبيل هو منهم ابتداء أو صار منهم شارك أو شرط عوده إليه عند الحاجة فالمروى والمشهور اتباع شرطة
(2)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): ويجوز لمن حبس وققًا أن يشترط الانتفاع لنفسه في حياته وبعد موته مثل أن يوصى بأرض للدفن ويقول: ادفنونى فيها؛ لأن عبد الله بن عمر جعل نصيبه من دار أبيه عمر سكنى لذوى الحاجات من آل عبد الله واستدل البخارى بذلك على جوازا اشتراط الواقف لنفسه منفعة من وقفه؛ وهو مقيد بما إذا كانت المنفعة عامة كالصلاة في بقعة جعلها مسجدًا والشرب من بير وقفها. وإن أوصى بنهر أو جُب أو أصل من الأصول أو متاع لمن ينتفع به وارثه إن لم يأذن له ولم يوص له، وإن أذن له أو أوصى انتفع كغيره وقيل: لا ينتفع به ولو أذن له؛ إذ لا وصية لوارث؛ ولا يفيد له هنا تجويز الورثة؛ لأنه إنما يفيد إذا كان إن لم يجيزوا أخذوا ذلك الشئ؛ لأن الإنسان. إنما يعتبر تجويزه فيما هو له وهذا ليس لهم، جوزوا أو لم يجوزوا، وجاز الانتفاع للوارث كغيره إن جعله حبسًا وأخرجه حال كونه حيًا، أذن له أو لم يأذن، أوصى له بذلك الانتفاع أو لم يوص؛ لأن ذلك ليس وصية
(3)
.
(1)
شرح الأزهار 3/ 474، 475.
(2)
الروضة البهية: 1/ 261، 263.
(3)
كتاب شرح النيل وشفاء العليل؛ 6/ 288 - 289.
مصطلح "إنكار
"
التعريف في اللغة:
جاء في لسان العرب: إنكار مصدر للفعل أنكر المزيد بالهمزة، ومجرده نكر، والنُّكْر والنكراء: الدهاء والفطنة.
والإنكار: الجحود. والمناكرة: المحاربة. وناكره أي قاتله؛ لأن كل واحد من المتحاربين يناكر الآخر أي يداهيه ويخادعه
(1)
.
التعريف في اصطلاح الفقهاء:
استعمل الفقهاء لفظ إنكار بمعنى الجحود، وعدم الاعتراف.
فقد جاء في الشرح الكبير: النُّكْر بالضم: عدم الاعتراف
(2)
.
ولذلك يعبرون تارة بلفظ أنكر، وتارة بلفظ جحد، وتارة بلفظ لم يقر بالحق، أو لم يعترف، وهم يقصدون بذلك كله معنى واحدًا.
إنكار النكاح وما يتعلق به أو إنكار شرط من شروطه وما يترتب على ذلك
.
مذهب الحنفية:
أولًا: إنكار أصل النكاح:
جاء في (المبسوط): إذا ادعى الرجل نكاح امرأة فأقام عليها البينة وأقامت أختها عليه البينة أنها امرأته وأنه أتاها كزوج فالقول قول الرجل والبينة بينته صدقته أو لم تصدقه؛ لأن ملك النكاح على المرأة للزوج، ولهذا كان البدل عليه لها؛ فالزوج يُثبت ببينته ما هو حقه، والأخت الأخرى تثبت ببينتها حق الزوج؛ وهو ملك النكاح له عليها، المرء على حق نفسه عليه لها، فالزوج يُثبت ببينته ما هو حقه، والأخت الأخرى تثبت ببينتها حق الزوج؛ وهو ملك النكاح له عليها، وبينة المرء على حق نفسه أولى بالقبول. ولأنه عند تعارض البينتين لا وجه للعمل ببينة الأخت في إثبات نكاحها؛ فلو قبلناها إنما نقبلها في نفى النكاح على امرأة أثبت الزوج نكاحها، والبينات للإثبات لا للنفى، ومعنى هذا أن دعوى الزوج نكاح إحدى الأختين إقرار منه بحرمة الأخرى عليه في الحال، وإقراره موجب للفرقة، فعرفنا أنه لا وجه للقضاء بنكاح الأخرى. فبقيت تلك البينة قائمة على النفى، ولا مهر للأخرى إن لم يكن دخل بها؛ لأن أصل نكاحها لم يثبت، ولو كان الزوج أقام البينة أنه تزوج إحداهما ولا تعرف بعينها غير أن الزوج قال: هي هذة، فإن صدقته فهى امرأته؛ لتصادقهما، فإنَّ تصادقهما في حقهما أقوى من البينة، فإن جحدت ذلك فلا نكاح بينه وبين واحدة منهما؛ لأن الشهود لم يشهدوا على شئ بعينه، والشهادة بالمجهول لا تكون حجة. ولأنه إما أن يكون قد تزوج إحداهما بغير عينها فيكون ذلك باطلًا، أو تزوج إحداهما بعينها ثم نسيها الشهود فقد ضيعوا شهادتهم، فإذا بطلت الشهادة بقى دعوى الزوج، ولا يثبت النكاح بدعوته، ولا يمين له على التي يدعى النكاح عليها عند أبى حنيفة - رحمه الله تعالى - لأنه لا يرى الاستحلاف في النكاح، ولا مهر عليه إن لم يكن دخل بها، وكذلك لو قامت البينة لامرأة بعينها أن أحد هذين الرجلين تزوجها ولا يعرفون أيهما هو، والرجلان ينكران ذلك فهو باطل، ولا مهر على واحد منهما، فإن ادعت المرأة ذلك على أحدهما فلا يمين عليه في
(1)
لسان العرب: 22/ 233 وما بعدها، مادة (نكر).
(2)
الشرح الكبير: 2/ 408.
قول أبى حنيفة - رحمه الله تعالى - لأن دعواها دعوى النكاح، وإن ادعت أنه طلقها قبل الدخول وأن لها عليه نصف المهر استحلفته على نصف المهر؛ لأن دعواها الآن دعوى المال، والاستحلاف مشروع في دعوى المال، فإن نكل عن اليمين لزمه ذلك ولا يثبت النكاح، لأن الاستحلاف كان في المال لا في النكاح، وإنما يقضى عند النكول بما استحلف فيه خاصة كما في دعوى السرقة إذا استحلف فنكل يقضى بالمال دون القطع.
وإن ادعت أختان أنه تزوجهما جميعًا، وكل واحدة منهما تقيم البينة أنه تزوجها أولًا كان ذلك إلى الزوج
(1)
.
وجاء في (المبسوط) أيضًا: أن الرجل إذا أرسل إلى المرأة رسولًا حرًا أو عبدًا صغيرًا أو كَبيرًا فهو سواء؛ لأن الرسالة تبليغ عبارة المرسل إلى المرسل إليه، ولكل واحد من هؤلاء عبارة مفهومة فيصلح أن يكون رسولًا. فإذا أبلغ الرسالة فقال: إن فلانًا سألك أن تزوجيه نفسك فأشهدت أنها تزوجته كان ذلك جائزًا إذا أقرّ الزوج بالرسالة أو أقامت عليه البينة؛ لأن الرسول بلغها رسالة المرسل فكأنه حضر بنفسه وعبر عن نفسه بين يدى الشهود، وقد سمع الشهود كلامها أيضًا فكان نكاحًا بسماعهما كلام المتعاقدين. وإذا أنكر الرسالة ولم تقم عليه البينة لها، فالقول قوله ولا نكاح بينهما؛ لأن الرسالة لم تثبت كأن المخاطب فضولى، ولم يرض الزوج بما صنع فلا نكاح بينهما، فإن كان الرسول قد خطبها وضمن لها المهر وزوجها إياه وقال: قد أمرنى بذلك فالنكاح لازم للزوج إن أقر أو قامت عليه البينة بالأمر والضمان لازم للرسول إن كان من أهل الضمان؛ لأنه جعل نفسه زعيمًا بالمهر، والزعيم غارم، وإن جحد الزوج ولم يكن عليه بينة بالأمر فلا نكاح بينهما لما قلنا، وللمرأة على الرسول نصف الصداق من قِبَل أنه مقر بأنه قد أمره، وأن النكاح جائز، وأن الضمان قد لزمه، وإقراره على نفسه صحيح
(2)
.
ثانيا: إنكار بعض شروط النكاح:
جاء في (المبسوط): إذا جحد الزوج النكاح فأقامت المرأة البينة جاز، ولم يكن جحوده طلاقًا ولا فرقة؛ لأن الطلاق تصرف في النكاح وهو منكر لأصل النكاح فلا يكون إنكاره تصرفًا فيه بالرفع والقطع، ألا ترى أن بالطلاق ينتقص العدد وبانتفاء أصل النكاح لا ينتقص، فإن قامت البينة على إقراره بالنكاح جاز أيضًا؛ لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة.
وإذا قال الزوج: تزوجتك بغير شهود، وقالت هي: تزوجنى بشهود فالقول قولها؛ لأنهما اتفقا على أصل العقد فيكون ذلك كالاتفاق منهما على شرائطه؛ لأن شرط الشئ يتبعه، فالاتفاق على الأصل يكون اتفافًا على الشرط ثم المنكر منهما للشرط في معنى الراجع، فإن كانت هي التي أنكرت الشهود فالنكاح بينهما صحيح. وإن كان الزوج هو المنكر يفرق بينهما لإقراره بالحرمة عليه؛ لأنه متمكن من تحريمها على نفسه فجعل إقراره مقبولًا في إثبات الحرمة. ويكون هذا بمنزلة الفرقة من جهته فلها نصف المهر إن كان
(1)
المبسوط: 5/ 153، وما بعدها.
(2)
المرجع السابق: 5/ 20، وما بعدها
قبل الدخول. وجميع المسمى ونفقة العدة إن كان بعد الدخول، وهذا بخلاف ما إذا أنكر الزوج أصل النكاح؛ لأن القاضي كَذَّبه في إنكاره بالحجة، والكذب في زعمه بقضاء القاضي لا يبقى لزعمه عبرة، وهنا القاضي ما كذبه في زعمه بالحجة، ولكنه رجَّح قولها للمعنى الذي قلنا، فبقى زعمه معتبرًا في حقه؛ فلهذا فرق بينهما
(1)
.
وإذا ادعى على أحد الزوجين أن النكاح في صغره بمباشرته فهذا إنكار لأصل العقد؛ لأن الصغير ليس بأهل لمباشرة النكاح بنفسه، فإضافة النكاح إلى حالة معهودة تنافى الأهلية يكون إنكارًا لأصل العقد كما لو قال: تزوجتك قبل أن تخلقى أو قبل أن أخلق، وإذا كان القول قول المنكر منهما فلا مهر لها عليه إن لم يكن دخل بها قبل الإدراك، وإن كان دخل بها قبل الإدراك فلها الأقل من المسمى ومن مهر المثل؛ لوجود الدخول بحكم النكاح الموقوف، فإن عقد الصغير يتوقف على إجازة وليه إذا كان الولى يملك مباشرته، وإن كان الدخول بعد الإدراك فهذا رضىً بذلك النكاح وبعد الإدراك لو أجاز العقد الذي عقده في حالة الصغر جاز، كما لو أجاز وليه قبل إدراكه فكذلك بدخوله بها يصير مجيزًا، وإذا زوج الرجل امرأة بأمره ثم اختلفا فقال الوكيل: أُشْهِدت فيه على النكاح. وقال الزوج: لم تشهد فيه فإنه يفرق بينهما لإقراره. وعليه نصف الصداق لما قلنا إن إقراره بأصل عقد الوكيل إقرار بشرطه، وإن اختلفت المرأة ووكيلها في مثل ذلك، فالقول قول الزوج؛ لأنها أقرت بالوكالة، والنكاح فيكون ذلك إقرارًا منها بشرط النكاح، وكذلك لو قالت: لم يتزوجنى لا يلزمها إقرار الوكيل. وهو قول أبى حنيفة خلافًا لهما؛ لأن إقرار الوكيل بالنكاح في حال بقاء الوكالة صحيح، وكذلك وكيل الزوج إذا أقر بالنكاح وجحد الزوج فهو على الخلاف الذي بينا
(2)
.
وجاء في (بدائع الصنائع): ومن شروط لزوم النكاح خلو الزوج من عيوب الجب والعنة، فلو ادعت الزوجة أن زوجها عنين وطلبت الفرقة، فإن القاضي يسأله هل وصل إليها أو لم يصل؟ فإن أقر أنه لم يصل إليها أجلَّه سنة سواء كانت المرأة بكرًا أو ثيبًا، وإن أنكر وادعى الوصول إليها فإن كانت المرأة ثيبًا فالقول قوله مع يمينه أنه وصل إليها؛ لأن الثيابة دليل الوصول في الجملة. والمانع من الوصول من جهته عارض؛ إذ الأصل هو السلامة عن العيب، فكان الظاهر شاهدًا له إلا أنه يستحلف دفعًا للتهمة، وإن قالت: أنا بكر نظر إليها النساء، وامرأة واحدة تجزئ
(3)
.
وجاء في (بدائع الصنائع) أيضًا: وإذا زَوَّجَ الثيب البالغةَ ولىٌ فقالت: لم أرض ولم آذن، وقال الزوج: قد أذنت: فالقول قول المرأة؛ لأن الزوج يدعى عليها حدوث أمر لم يكن - وهو الأذن والرضا - وهى تنكر فكان القول قولها، وأما البكر إذا تزوجت فقال الزوج: بلغك العقد فسكت، فقالت: رددت، فالقول قولها عند أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: القول قول الزوج، ووجه قوله
(1)
المبسوط: 5/ 36.
(2)
المرجع السابق: 5/ 37، وما بعدها.
(3)
بدائع الصنائع: 2/ 323.
أن المرأة تدعى أمرًا حادثًا وهو الرد، والزوج ينكر القول، فكان القول قول المنكر ودليل الأصحاب أن المرأة - وإن كانت مدعية ظاهرًا - فهى منكرة في الحقيقة؛ لأن الزوج يدعى عليها جواز العقد بالسكوت، وهى تنكر؛ فكان القول قولها كالمودع إذا قال رددت الوديعة كان القول قوله. وإن كان مدعيًا الردَّ ظاهرًا يكون منكرًا للضمان حقيقة، كذا هنا
(1)
.
وجاء في (الفتاوى الهندية): أن الزوج إن أقام البينة على سكوتها حين بلغها الخبر - العقد عليها - فهى امرأته، وإلا فلا نكاح بينهما، ولا يمين عليها في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى، وعندهما عليه اليمين - كذا في المحيط - وعليه الفتوى - كذا في شرح النقاية للشيخ أبى المكارم، فإذا نكلت يقضى عليها بالنكول، وإن أقام الزوج بينة على سكوتها حين بلغها الخبر وأقامت بينة على الرد فبينتها أولى كذا في المحيط، وإذا قال الشهود: كنا عندها ولم نسمعها تتكلم ثبت سكوتها بذلك، كذا في فتح القدير
(2)
.
ثالثا: إنكار المهر والزيادة فيه:
موجز القول في هذه المسألة أن أبا حنيفة ومحمدًا يحكمان مهر المثل وينهيان الأمر إليه؛ أما أبو يوسف فلا يحكمه بل يجعل القول قول الزوج مع يمينه إلا أن يأتى بشئ مستنكر، وقد اختلف في تفسير المستنكر فقيل: هو أن يدعى أنه تزوجها على أقل من عشرة دراهم، وهذا التفسير يُرْوَى عن أبى يوسف؛ لأن هذا القدر مستنكر شرعًا؛ إذ لا مهر في الشرع أقل من عشرة، وقيل: هو أن يدعى أنه تزوجها على ما لا يزوج مثلها به عادة، وهذا يحكى عن أبى الحسن؛ لأن ذلك مستنكر عرفًا، وهو الصحيح من التفسير؛ لأنهما اختلفا في مقدار المهر المسمى، وذلك اتفاق منهما على أصل المهر المسمى، وما دون العشرة لم يعرف مهرًا في الشرع بلا خلاف بين أصحابنا، ووجه قول أبى يوسف أن القول قول المنكر في الشرع والمنكر هو الزوج؛ لأن المرأة تدعى عليه زيادة مهر وهو ينكر ذلك، فكان القول قوله مع يمينه كما في سائر المواضع
(3)
.
وإن كان المهر دينًا موصوفًا في الذمة بأن تزوجها على مكيل موصوف أو موزون موصوف أو مزروع موصوف فاختلفا في قدر الكيل أو الوزن أو الزرع، فالاختلاف فيه كالاختلاف في قدر الدراهم والدنانير
(4)
.
(1)
بدائع الصنائع: 2/ 243.
(2)
الفتاوى الهندية: 1/ 289.
(3)
بدائع الصنائع: 2/ 304، وتبيين الحقائق: 2/ 156.
(4)
بدائع الصنائع: 2/ 306.
رابعًا: إنكار النفقة:
جاء في (المبسوط): إذا اختلف الزوج والمرأة، فقال الزوج: أنا فقير، وقالت المرأة: هو غنى، فالقول قول الزوج مع يمينه، وعلى المرأة البينة؛ لأن الفقر في الناس أصل، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:"يولد كل مولود أحمر ليس عليه غبرة - أي سترة - ثم يرزقه الله تعالى من فضله"
(1)
، فالزوج يتمسك بما هو الأصل. والمرأة تدعى غنى عارضًا فعليها البينة وعليه اليمين لإنكاره، فإن لم يكن لها بينة على يساره وسألت القاضي أن يسأل عن يساره في السر فليس ذلك على القاضي؛ لأنه وجد دليلًا يعتمده لفصل الحكم، وهو التمسك بالأصل: فليس عليه أن يطلب دليلًا آخر، وإن فعله فأتاه من أخبر أنه موسر فلا يُعتمد ذلك أيضًا إلا أن يخبره بذلك رجلان عدلان، ويكونان بمنزلة الشاهدين يخبران أنهما قد علما ذلك، فحينئذٍ لو شهدا عنده في مجلس الحكم يثبت يساره بشهادتهما. وكذلك إن أخبراه بذلك؛ لأن المعتبر علم القاضي، ويحصل له علم بخبرهما كما يحصل بشهادتهما، وإن أخبرا أنهما علما ذلك من رواية راوٍ لم يؤخذ بقولهما؛ لأنهما ما أخبراه عن علم، وإنما أخبراه عن ظن أو عن خبر من لا يُعتمد خبره، والخبر إذا تداولته الألسنة تتمكن فيه الزيادة والنقصان عادةً؛ فلهذا لا يُعتمد مثل هذا الخبر
(2)
.
ثم قال في (المبسوط): وإن أقامت المرأة البينة أنه موسر، وأقام الزوج البينة أنه محتاج أخذ ببينة المرأة؛ لأنها قامت على الإثبات، ولأن شهود الزوج اعتمدوا في شهادتهم ما هو الأصل، وشهود المرأة عرفوا الغنى العارض فلهذا يفرض لها عليه نفقة الموسرين، وإذا فرضت لها النفقة على زوجها ولها عليه شئ من مهرها فأعطاها شيئًا من ذلك فقال الزوج: هو من المهر، وقالت المرأة: بل هو من النفقة، فالقول قول الزوج أنه من المهر، وإذا اختلفا فيما وقع الصلح عليه أو الحكم به من النفقة في الجنس أو القدر، فالقول قول الزوج، والبينة بينة المرأة؛ لأنها مدعية الزيادة فتحتاج إلى الإثبات بالبينة، والزوج منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه، فإن كان الذي أقر به الزوج وحلف عليه لا يكفيها بلغ بها الكفاية في "المؤتنف"؛ لأن النفقة للكفاية وقد بينا أن ما قضى به القاضي أو وقع الصلح عليه إن كان لا يكفيها فلها أن تطالب بما يكفيها في المستقبل، فكذلك ما أقر به الزوج
(3)
. ثم قال: ولو كان الزوجان حيين فاختلفا فيما مضى من المدة من وقت قضاء القاضي، فالقول قول الزوج لإنكاره الزيادة، وإنكاره سبق التاريخ في القضاء، والبينة بينة المرأة لإثباتها ذلك، وإذا بعث إليها بثوب. فقالت: هو هدية، وقال الزوج: هو من الكسوة، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأنه هو المملك للثوب منها، فالقول قوله في بيان جهته إلا أن تقيم المرأة البينة أنه بعث به هدية، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الزوج؛ لأنه يثبت ببينته فراغ ذمته عن حقها من الكسوة أو المهر، وكذلك إن أقام كل واحد منهما البينة على إقرار الآخر بما ادعاه؛ لأن الزوج هو المدعى للقضاء فيما عليه
(1)
ورد في سنن ابن ماجه بلفظ: "فإن الإنسان تلده أمه أحمر. ليس عليه قشر، ثم يرزقه الله عز وجل، انظر: سنن ابن ماجه؛ 2/ 1394.
(2)
المبسوط: 5/ 193.
(3)
المبسوط: 5/ 194.
من الحق، فمعنى الإثبات في بينته أظهر، وكذلك إن بعث بدراهم فقال: هي نفقة، وقالت المرأة: هي هدية، فالقول قوله لما بيناه
(1)
.
مذهب المالكية:
أولًا: إنكار أصل النكاح:
جاء في (الشرح الكبير) في صدر الكلام عن تنازع الزوجين في النكاح من أصله، وفى الصداق قدرًا أو جنسًا أو صفةً أو اقتضاءً أو في متاع البيت وما يتعلق بذلك: أنه إذا تنازع الزوجان في الزوجية بأن ادعاها أحدهما وأنكرها الآخر (أي بأن ادعى رجل على امرأة أنها زوجته وأنكرت، أو ادعت امرأة على رجل أنه زوجها وأنكر) ثبتت الزوجية ببينة قاطعة لمدعيها منهما بأن شهدت على معاينة العقد، بل ولو بالسماع الناشئ بأن يقول الشاهدان: لم نزل نسمع من الثقات وغيرهم أن فلانًا زوج لفلانة. وأن فلانة امرأة فلان، ويكون السماع بالدف والدخان
(2)
مع المعاينة بأن قالا: لم نزل نسمع أن فلانة زفت لفلان أو عمل لها الوليمة، ولا إن لم توجد بينة بما ذكر فلا يمين على المدعى عليه المنكر؛ لأن كل دعوى لا تثبت إلا بعدلين فلا يمين بمجردها، ولو أقام المدعى شاهدًا؛ إذ لا ثمرة لتوجهها على المنكر؛ إذ لو توجهت عليه فنكل لم يقض بالشاهد والنكول، أي: لا يثبت النكاح بذلك، وحلفت المرأة مع شاهدها بالزوجية إذا ادعت بعد موته أنه زوجها وورثت؛ لأن الدعوى آلت إلى مالٍ، ولو كان ثَمَّ وارثٌ معين ثابت النسب على أرجح القولين، ولا صداق لها؛ لأنه من أحكام الحياة، وعليها العدة لحق الله تعالى
(3)
، ولو ادعى رجل على ذات زوج أنها امرأته تزوجها قبل هذا، وأنكرت المرأة أن يكون قد تزوجها أصلًا، وأقام شاهدًا شهد بالقطع على الزوجية السابقة، وزعم أن له شاهدًا ثانيًا أمر الزوج المسترسل عليها أمر إيجاب بأن يقض عليه باعتزالها فلا يقربها بوطء ولا بمقدماته؛ لإقامة شاهد ثان يشهد له قطعًا مع الأول، زعم هذا المدعى قربه بحيث لا ضرر على الزوج في اعتزالها لمجيئه، ونفقتها مدة الاعتزال على من يُقضى له بها، فإن لم يأت به أو كان بعيدًا فلا يمين على واحدٍ من الزوجين لرد شهادة الشاهد الذي أقامه، ولو ادعى رجل على امرأة خالية من الأزواج أنها امرأته، وأن له على ذلك بينة تشهد له ولو بالسماع قريبة الغيبة وأكذبته، أمرها الحاكم بانتظاره لبينة قربت لا ضرر على المرأة في انتظارها فلا تتزوج، فإن أتى بها حكم عليها بذلك، وإن لم يأت بها أو كانت بعيدة فلا تؤمر بانتظاره وتتزوج متى شاءت، ثم إذا مضى أجل الانتظار ولم يأت ببينة وأمرها القاضي بأن تتزوج إن شاءت؛ لم تسمع بينته إن حكم قاضٍ بعجزه وعدم قبول دعواه أو بينته بعد التلوم حالة كونه يدعيها حجة أي بينة، أي عجزه في هذه الحالة لا إن لم يعجزه فتسمع، ولا إن عجزه في حال كونه مقرًا على نفسه بالعجز فتسمع على ظاهرها؛ أي يقول بينته، إن أقر على نفسه بالعجز حين تعجيزه، والراجح عدم القبول مطلقًا، وظاهرها ضعيف
(4)
.
(1)
المبسوط 5/ 195.
(2)
يقصد الدخان الناشئ عن الطبخ في الوليمة.
(3)
الشرح الكبير: 2/ 329.
(4)
المرجع السابق: 2/ 330.
وليس لرجل ذى ثلاث من الزوجات وادعى نكاح زوجة رابعة أنكرت ولا بينة له - تراجع خامسة، بالنسبة للتى ادعى نكاحها إلا بعد طلاق المدعى نكاحها، أو طلاق إحدى الثلاث بائنًا، وليس إنكار الزوج نكاح امرأة ادعت عليه أنه زوجها، وأقامت بينة ولم يأت الرجل بدفعٍ في تلك البينة فحكم عليه القاضي بالزوجية ليس إنكار هذا طلاقًا، ويلزمه النفقة والدخول عليها، ولكن إن تحقق أنها ليست زوجة في الواقع وجب عليه تجديد عقد لتحل له.
ولو ادعى رجلان زواج امرأة فقال كل منهما: هي زوجتى فأنكرتهما أو صدقتهما أو أنكرت أحدهما، وصدقت الآخر أو سكتت فلم تُقر بواحد، وأقام كل منهما البينة على دعواه فسخ نكاحهما معًا بطلقة بائنة؛ لاحتمال صدقهما كذات الوليين إذا جهل زمن العقدين، ولا ينظر لدخول أحدهما بها؛ لأن هذه ذات ولى واحد وإلا لزم تشبيه الشئ بنفسه، ولا ينظر لأعدلهما ولا لغيره من المرجحات إلا التاريخ؛ فإنه ينظر له هنا على الأرجح
(1)
.
وجاء في (الشرح الكبير) أيضًا: وإن أنكرت المرأة العقد بأن قالت لوليها: لم يحصل منك عقد، وقال: بل عقدت، صُدِّق الوليُّ بلا يمين إن ادعى الزوج النكاح؛ لأنها مقرة بالإذن، والولى قائم مقامها، فإن لم يدعه الزوج صدقت في إنكارها؛ فلها أن تتزوج غيره إن شاءت
(2)
.
ثانيًا: إنكار بعض شروط النكاح:
جاء في (الشرح الكبير): أنه لو أقامت المرأة ببيتها الذي دخلت فيه مع زوجها سنة من يوم الدخول، وأنكرت بعد فراقها الوطء فلا جبر له عليها تنزيلًا لإقامتها السنة منزلة الثيوبة
(3)
.
وجاء في (الشرح الكبير): ولو عقد أب لابنه الرشيد بحضوره وادعى إذنه أو رضاء بفعله وأنكر ذلك الابن، حلف الابن، قال في المدونة: مَنْ زوَّج ابنه البالغ المالك لأمر نفسه - وهو حاضر صامت - فلما فرغ الأب من النكاح قال الابن: ما أمرته ولا أرضى، صُدِّق مع يمينه. وإن كان الابن غائبًا فأنكر حين بلغه سقط النكاح والصداق عنه وعن الأب، والابن والأجنبى في هذا سواء
(4)
.
وإذا تزوجها فأقامت سنة في بيته بلا وطء تقرر الصداق بشرط بلوغه وإطاقتها مع اتفاقهما على عدم الوطء؛ لأن الإقامة المذكورة تقوم مقام الوطء، وصُدِّقت في دعوى الوطء في خلوة الاهتداء بيمين إن كانت كبيرة، ولو سفيهة بكرًا أو ثيبًا إذا اتفقا على الخلوة، وثبتت ولو بامرأتين. فإن نكلت حلف الزوج ولزمه نصفه إن طلق، وإن نكل غرم الجميع، فإن كانت صغيرة حلف لرد دعواها، وغرم النصف ووقف النصف الآخر لبلوغها، فإن حلفت أخذته وإلا فلا يمين ثانية عليه.
وصُدِّقت - أيضًا - في دعوى نفى الوطء، وإن كانت سفيهة وأمة وصغيرة بلا يمين؛ إذ الموضوع أنه قد وافقها على ذلك. وصُدق الزائر منهما في شأن الوطء إثباتًا أو نفيًا، فإن زارته صُدقت في
(1)
الشرح الكبير: 3/ 331.
(2)
السابق: 2/ 233.
(3)
السابق: 3/ 223.
(4)
السابق: 2/ 246، 247.
وطئه ولا عبرة بإنكاره؛ لأن العرف نشاطه في بيته، وإن زارها صُدِّق في نفيه، ولا عبرة بدعواها الوطء؛ لأن العرف عدم نشاطه في بيتها، فإن كان زائرين صدق الزوج في نفيه كما يرشد له التعليل
(1)
.
ثالثًا: إنكار المهر والزيادة فيه:
جاء في (الشرح الكبير): أنه إن تنازع الزوجان قبل البناء في قدر المهر أو في صفته أو في جنسه حلفا إن كانا رشيدين وإلا فوليهما، وتبدأ الزوجة باليمين، وفسخ النكاح بطلاق، ويتوقف الفسخ على الحكم، وكذا إن نكلا، هذا إن أشبهها أو لم يشبهها معًا أما إن أشبه أحدهما فالقول له بيمينه، فإن نكل حلف الآخر ولا فسخ، هذا كله إن كان التنازع في القدر أو في الصفة، وأما في الجنس فيفسخ مطلقًا حلفا أو أحدهما، أو نكلا، أشبهها أو أحدهما أو لا على الأرجح، والفسخ إنما يكون إذا حكم به حاكم فلا يقع بمجرد الحلف. ويقع ظاهرًا و باطنًا، وإن نكولهما كحلفهما فيقضى للحالف على الناكل، وأن المرأة هي التي تبدأ باليمين
(2)
.
ولو ادعى الزوج أنه نكحها تفويضًا، وادعت هي تسمية المهر؛ فالقول له بيمين حيث كان ذلك عند معتادى التفويض إما وحده أو هو مع التسمية بالسوية؛ فإن كانا من قوم اعتادوا التسمية أو غلبت عندهم، فالقول لها بيمين في القدر والصفة، وأما اختلافهما في الجنس بعد الفوات، فإن الزوج يرد إلى صداق المثل عد حلفهما من غير نظر إلى شبه ما لم يكن صداق المثل أكثر مما ادعت المرأة؛ فلا تزاد على ما ادعت، ومال لم يكن دون ما ادعاه الزوج فلا تنقص عن دعواه، ويثبت النكاح بينهما
(3)
.
ولو ادعت امرأة على رجل أنه تزوجها مرتين بصداقين كل مرة بكذا و أكذبها الرجل، وقامت بينة على الصداقين في عقدين وقعا بزمنين لزم نصف كل منهما، وقُدِّر وقوع طلاق بين العقدين للجمع بين البينتين.
ولا فرق بين أن ينكر الرجل النكاح رأسًا أو ينكر الثاني، وهذا ظاهر إن أقرت بالطلاق، وأما إن أنكرته فهو تكذيب منها للبينة الثانية، وكُلفت المرأة في حال إقرارها بأن الطلاق وقع بعد البناء ليستكمل الصداق الأول وأما الثاني فينظر فيه لِحالته الحاصلة، فإن كان قد دخل لزمه جميعه وإلا فنصفه إن طَلَّقَ: فإن طَلَّقَ وادعت البناء وأنكره كُلِّفت بإثبات أنه بنى بها
(4)
.
رابعًا: إنكار النفقة:
جاء في (الشرح الكبير): أنه إذا فُرِضَ الإنفاق للزوجة بحكم حاكم أو جماعة المسلمين عند عدمه - في مال زوجها الغائب أو في وديعته التي أودعها القاضي أو في دينه الذي له على الناس، وأقامت البينة على المنكر للدين أو الوديعة، وتحلف مع الشاهد الواحد بعد حلفها بأنها تستحق على زوجها الغائب النفقة، وأنه لم يترك لها مالًا ولا أقام لها وكيلًا بذلك، وإن تنازع الزوجان بعد قدومه من سفره في عسره ويسره في حال غيبته فقال لها: كنتُ حال غيبتى معسرًا فلا نفقة عليّ، وقالت له: بل كنت موسرًا
(1)
الشرح الكبير: 2/ 301 - 302 بتصرف.
(2)
السابق: 2/ 333.
(3)
السابق: 2/ 334.
(4)
السابق: 2/ 335.
اعْتُبر حالُ قدومه فيعمل عليه إن جُهل حال خروجه، فإن قدم معسرًا فالقول قوله بيمينه وإلا فقولها بيمينها، فإن عُلم حالُ خروجه عومل عليه حتى يتبين خلافه، ونفقة الأبوين والأولاد في هذا كالزوجة، وإن تنازعا بعد قدومه في إرسال النفقة لها أو في تركها عند السفر؛ فالقول قولها بيمينها إن رفعت أمرها في غيبته من يومئذٍ لحاكم، ويكون القول قولها من يوم الرفع له لا من يوم سفر زوجها، أما إن رفعت لعدوه وجيرانه مع تيسر الحاكم فلا يُقبل قولها، وإن لم ترفع أصلًا أو رفعت لا لحاكم مع تيسر الرفع له فقوله في الإرسال بيمينه، وهذا فيمن في العصمة، وأما المطلقة - ولو رجعيًا - فالقول قولها مطلقًا كالحاضر يدعى أنه كان ينفق أو يدفع ذلك في زمنه فأنكرت، فالقول له بيمين اتفافًا، والكسوة في ذلك كله كالنفقة، وإن تنازعا فإن القول قوله من يوم السفر قبل الرفع
(1)
.
مذهب الشافعية:
أولًا: إنكار أصل النكاح:
جاء في (المهذب): أنه إن كان للمرأة وليان، وأذنت لكل واحد منهما في تزويجها فزوجها كل واحد منهما من رجل نظر، فإن كان العقدان في وقت واحد، أو لم يعلم متى عقد. أو علم أن أحدهما قبل الآخر ولكن لم يعلم لمن السابق منهما بطل العقدان؛ لأن لا مَزْيّة لأحدهما على الآخر، وإن علم السابق ثم نسى وقف الأمر؛ لأنه قد يتذكر. وإن علم السابق وتعين فالنكاح هو الأول، والثانى باطل؛ لما روى سمرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأة زوجها وليان، فهى للأول منهما"
(2)
، فإن ادعى كل واحد من الزوجين أنه هو الأول، وادَّعيا علم المرأة به فإن أنكرت العلم فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم العلم، وإن أقرت لأحدهما سلمت إليه، وهل تحلف للآخر؟ فيه قولان: أحدهما: لا تحلف؛ لأن اليمين تعرض على المنكر حتى يقر ولو أقرت للثانى فيما أقرت للأول لم يُقبل ولم يكن في تحليفها له فائدة. والقول الثاني: تحلف؛ لأنها ربما نكلت وأقرت للثانى فيلزمها المهر، فعلى هذا إن حلفت سقطت دعوى الثاني، وإن أقرت للثانى لم يقبل رجوعها، ويجب عليها المهر الثاني، وإن أنكرت رددنا اليمين على الثاني، فإن لم يحلف استقر النكاح للأول، وإن حلف حصل مع الأول إقرار، ومع الثاني يمين ونكول المدعَى عليه، فإن قلنا: إنه كالبينة حُكِم بالنكاح للثانى؛ لأن البينة تُقَدم على الإقرار، وإن قلنا: إنه بمنزلة الإقرار - وهو الصحيح - ففيه وجهان: أحدهما: يُحكم ببطلان النكاحين؛ لأن مع الأول إقرار ومع الثاني ما يقوم مقام الإقرار فصار كما لو أقرت لهما في وقت واحد، والوجه الثاني: أن النكاح للأول؛ لأنه سبق الإقرار له فلم يبطل بإقرار بعده، ويجب عليه المهر للثانى كما لو أقرت للأول ثم أقرت للثانى
(3)
.
ثانيًا: إنكار بعض شروط النكاح:
جاء في (المهذب): إذا اختلف الزوجان فقالت
(1)
الشرح الكبير: 2/ 520 - 522.
(2)
سنن أبى داود كتاب النكاح، باب إذا أنكح الوليان. وسنن الترمذى. كتاب النكاح باب ما جاء في الوليين يزوجان. وسنن النسائي. كتاب البيوع باب الرجل يبيع السلعة فيستحقها مستحق.
(3)
المهذب: للشيرازى: 2/ 39 - 40.
الزوجة: عقدنا بشاهدين فاسقين، وقال الزوج: عقدنا بعدلين ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء العدالة، والوجه الثاني: أن القول قول الزوجة؛ لأن الأصل عدم النكاح، وإن تصادقا على أنهما تزوجا بولى وشاهدين وأنكر الولى والشاهدان لم يُلتفت إلى إنكارهم؛ لأن الحق لهما دون الولى والشاهدين
(1)
.
وجاء في موضع آخر: أنه إذا أسلم الوثنيان قبل الدخول ثم اختلفا فقالت المرأة: أسلم أحدنا قبل صاحبه فانفسخ النكاح، وقال الزوج: بل أسلمنا معًا، فالنكاح على حاله، ففيه قولان: أحدهما: أن القول قول الزوج وهو اختيار المزنى؛ لأن الأصل بقاء النكاح، والقول الثاني: أن القول قول المرأة؛ لأن الظاهر معها فإن اجتماع إسلامهما حتى لا يسبق أحدهما الآخر متعذر، قال الشافعي في (الأم): إذا أقام الزوج بينة أنهما أسلما حين طلعت الشمس أو حين غربتة الشمس، لم ينفسخ النكاح؛ لاتفاق إسلامهما في وقت واحد، وهو عند تكامل الطلوع أو الغروب، فإن أقام البينة أنهما أسلما حال طلوع الشمس أو حال غروبها انفسخ نكاحهما؛ لأن حال الطلوع والغروب من حين يبتدئ بالطلوع والغروب إلى أن يتكامل، وذلك مجهول.
وإن أسلم الوثنيان بعد الدخول واختلفا فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء عدتك فالنكاح باقٍ، وقالت المرأة: بل أسلمت بعد انقضاء عدتى فلا نكاح بيننا، فقد نص الشافعي - رحمه الله تعالى - على أن القول قول الزوج، ونص في مسألتين على أن القول قول الزوجة: إحداهما: إذا قال الزوج للرجعية: راجعتك قبل انقضاء العدة فنحن على النكاح، وقالت الزوجة: بل راجعتنى بعد انقضاء العدة فالقول قول الزوجة. والمسألة الثانية: إذا ارتد الزوج بعد الدخول ثم أسلم فقال: أسلمت قبل انقضاء العدة فالنكاح باقٍ، وقالت المرأة: بل أسلمت بعد انقضاء العدة فالقول قول المرأة، فمن أصحابنا من نقل جواب بعضها إلى بعض، وجعل في المسائل كلها قولين: أحدهما: أن القول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء النكاح، والقول الثاني: أن القول قول الزوجة؛ لأن الأصل عدم الإسلام والرجعة، ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين فالذى قال: إن القول قول الزوج إذا سبق بالدعوى، والذي قال: القول قول الزوجة إذا سبقت بالدعوى؛ لأن قول كل واحد منهما مقبول فيما سبق إليه، فلا يجوز إبطاله بقول غيره. ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين على وجه آخر فالذى قال: القول قول الزوج، أراد إذا اتفقا على صدقه في زمان ما ادعاه لنفسه بأن قال: أسلمت وراجعت في رمضان، فقالت المرأة: صدقت لكن انقضت عدتى في شعبان، فالقول قول الزوج باتفاقهما على الإسلام بالرجعة في رمضان واختلافهما في انقضاء العدة، والذي قال: القول قول المرأة إذا اتفقا على صدقها في زمان ما ادعته لنفسها بأن قالت: انقضت عدتى في شهر رمضان، فقال الزوج: لكن راجعتُ أو أسلمت في شعبان، فالقول قول المرأة لاتفاقهما على انقضاء العدة في رمضان، واختلافهما في الرجعة والإسلام
(2)
.
(1)
المهذب 2/ 40 - 41.
(2)
المهذب: 2/ 54 - 55.
ثم قال في موضع آخر: إنه إذا ادعت المرأة على الزوج أنه عنين وأنكر الزوج، فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل ردت اليمين على المرأة، وقال أبو سعيد الإصْطَخرى: يقضى عليه بنكوله ولا تحلف المرأة؛ لأنه أمر لا تعلمه، والمذهب الأول؛ لأنه حق نكل فيه المدعَى عليه عن اليمين فردت على المدعى كسائر الحقوق، وقوله: إنها لا تعلمه، يبطل باليمين في كناية الطلاق وكناية القذف، فإذا حلفت المرأة أو اعترف الزوج أجّله الحاكم سَنةً؛ لما روى سعيد بن المسيب أن عمر - رضى الله تعالى عنه - قضى في العنين أن يؤجل سَنةً
(1)
. وعن عليّ عليه السلام وعبد الله والمغيرة بن شعبة - رضى الله تعالى عنهم - نحوه، ولأن العجز عن الوطء قد يكون بالتعنين، وقد يكون لعارض من حرارة أو برودة أو رطوبة أو يبوسة، فإذا مضت عليه الفصول الأربعة، واختلفت عليه الأهوية ولم يزل دلَّ على أنه خلقةٌ، ولا تثبت المدة إلا بالحاكم؛ لأنه يختلف فيها بخلاف مدة الإيلاء، فإن جامعها في الفرج سقطت المدة، وأدناه أن يغيّب الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء تتعلق به، ولا تتعلق بما دونه، فإن كان بعض الذكر مقطوعًا لم يخرج من التعنين إلا بتغييب جميع ما بقى، ومن أصحابنا من قال: إذا غُيِّب من الباقى بقدر الحشفة خرج من حكم التعنين؛ لأن الباقى قائم مقام الذكر، والمذهب الأول
(2)
.
ثالثًا: إنكار المهر والزيادة فيه:
جاء في (المهذب): أنه إذا اختلف الزوجان في قدر المهر أو في أجله تحالفا؛ لأنه عقد معاوضة فجاز أن يثبت التحالف في قدر عوضه وأجله كالبيع، وإذا تحالفا لم ينفسخ النكاح؛ لأن التحالف يوجب الجهل بالعوض، والنكاح لا يبطل بجهالة العوض، ويجب مهر المثل؛ لأن المسمى سقط وتعذر الرجوع إلى العوض فوجب بدله كما لو تحالفا في الثمن بعد هلاك المبيع في يد المشترى، وقال أبو على بن طبران: إن زاد مهر المثل على ما تدعيه المرأة لم تجب الزيادة؛ لأنها لا تدعيها، وقوله: هذا فاسد، وإن ماتا أو أحدهما قام الوارث مقام الميت، فإن اختلف الزوج وولى الصغير في قدر المهر ففيه وجهان: أحدهما: يحلف الزوج ويوقف يمين المنكوحة إلى أن تبلغ ولا يحلف الولى؛ لأن الإنسان لا يحلف لإثبات الحق لغيره، والوجه الثاني: أنه يحلف وهو الصحيح؛ لأنه باشر العقد فحلف كالوكيل في البيع، فإن بلغت المنكوحة قبل التحالف لم يحلف الولى؛ لأنه لا يقبل إقراره عليها فلم يحلف وهذا فيه نظر؛ لأن الوكيل يحلف وإن لم يُقبل إقراره، وإن ادعت المرأة أنها تزوجت به يوم السبت بعشرين ويوم الأحد بثلاثين، وأنكر الزوج أحد العقدين، وأقامت المرأة البينة على العقدين وادعت المهرين قضى لها؛ لأنه يجوز أن يكون تزوجها يوم السبت ثم خالعها؛ ثم تزوجها يوم الأحد فلزمه المهران، وإن اختلفا في قبض المهر فادعاه الزوج وأنكرت المرأة فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم القبض وبقاء المهر، وإن كان الصداق تعليم سورة فادعى الزوج أنه علَّمها، وأنكرت
(1)
سنن ابن منصور، باب ما جاء في العنين. ومصنف ابن أبي شيبة، باب كم يؤجل العنين. ومصنف عبد الرزاق، باب أجل العنين.
(2)
المهذب: 2/ 49.
المرأة فإن كانت لا تحفظ السورة فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم التعليم، وإن كانت تحفظها ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قولها؛ لأن الأصل أنه لم يعلمها؛ والوجه الثاني: أن القول قوله؛ لأن الظاهر أنه لم يعلمها غيره، وإن دفع إليها شيئًا وادعى أنه دفعه عن الصداق، وادعت المرأة أنه هدية فإن اتفقا على أنه لم يتلفظ بشئ فالقول قوله من غير يمين؛ لأن الهدية لا تصح بغير قول، وإن اختلفا في اللفظ فادعى الزوج أنه قال: هذا عن صداقك وادعت المرأة أنه قال: هو هدية، فالقول قول الزوج؛ لأن الملك له، فإذا اختلفا في انتقاله كان القول في الانتقال قوله، كما لو دفع إلى رجل ثوبًا فادعى أنه باعه، وادعى القابض أنه وهبه له، وإن اختلفا في الوطء فادعته المرأة وأنكر الزوج فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم الوطء، فإن أتت بولد يلحقه نسبه ففى المهر قولان: أحدهما: يجب؛ لأن إلحاق النسب يقتضى وجود الوطء، والقول الثاني: لا يجب؛ لأن الولد يلحق بالإمكان، والمهر لا يجب إلا بالوطء، والأصل عدم الوطء، وإن أسلم الزوجان قبل الدخول فادعت المرأة أنه سبقها بالإسلام فعليه نصف المهر، وادعى الزوج أنها سبقته فلا مهر لها، فالقول قول المرأة؛ لأن الأصل بقاء المهر، وإن اتفقا على أن أحدهما سبق ولا يعلم عين السابق منهما، فإن كان المهر في يد الزوج لم يجز للمرأة أن تأخذ منه شيئًا؛ لأنها تشك في الاستحقاق، وإن كان في يد الزوجة رجع الزوج بنصفه؛ لأنه يتيقن استحقاقه ولا يأخذ من النصف الآخر شيئًا؛ لأنه شك في استحقاقه
(1)
.
رابعًا: إنكار النفقة:
جاء في (المهذب): أنه إذا اختلف الزوجان في بعض النفقة فادعى الزوج أنها قبضت وأنكرت الزوجة، فالقول قولها مع يمينها؛ لقوله عليه السلام:"اليمين على المدعى عليه"
(2)
. ولأن الأصل عدم القبض، وإن مضت مدة لم ينفق فيها، وادعت الزوجة أنه كان موسرًا فيلزمه نفقة الموسر، وادعى الزوج أنه كان معسرًا فلا يلزمه إلا نفقة المعسر نظر، فإن عرف له مال فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاؤه، وإن لم يُعرف له مال قبل ذلك فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم المال.
وإن اختلفا في التمكين، فادعت المرأة أنها مكّنته وأنكر الزوج فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم التمكن وبراءة الذمة من النفقة، وإن طلَّق زوجته طلقة رجعية وهى حامل فوضعت وانفقا على وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة فقال الزوج: طلقتك قبل الوضع فانقضت العدة فلا رجعة لى عليكِ ولا نفقة لك عليَّ، وقالت المرأة: بل طلقتنى بعد الوضع فلك عليَّ الرجعة، ولى عليكَ النفقة، فالقول قول الزوج أنه لا رجعة لى عليك؛ لأنه حق له فقبل إقراره فيه، والقول قول المرأة في وجوب العدة؛ لأنه حق عليها فكان القول قولها، والقول قولها مع يمينها في وجوب النفقة؛ لأن الأصل بقاؤها
(3)
.
مذهب الحنابلة:
أولًا: إنكار أصل النكاح:
جاء في (المغنى): أنه إذا اختلف الزوجُ والمرأةُ
(1)
المهذب: 2/ 61 - 62.
(2)
صحيح البخارى، كتاب تفسير القرآن، باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}. وصحيح مسلم. كتاب الأقضية: باب اليمين على المدعى عليه.
(3)
المهذب: 2/ 164.
في إذنها في تزويجها قبل الدخول، فالقول قولها في قول أكثر الفقهاء، والدليل على ذلك أنها منكرة الإذن، والقول قول المنكر، ولأنه يدعى أنها استؤذنت وسمعت وصمتت والأصل عدم ذلك، وإن اختلفا بعد الدخول، فقال القاضي: فالقول قول الزوج؛ لأن التمكين من الوطء دليل على الإذن وصحة النكاح، وكان الظاهر معه. وهل تُستَحلف المرأة إذا قلنا القول قولها، قال القاضي: قياس المذهب أنه لا يمين عليها كما لو ادعى أنه زوجها فأنكرته، وذلك لأنه اختلافُ في زوجية فلا يثبتُ بالنكول ولا بحلفِ المدعى معه، كما لو ادعى الزوج أصل التزويج فأنكرته. فإن كانت المرأة ادعت أنها أذنت فأنكر ورثة الزوج فالقول قولها؛ لأنه اختلاف في أمرٍ يختص بها صادر من جهتها، فالقول قولها فيه. كما لو اختلفوا في نيتها، فيما تُعتَبر فيه نيتها، ولأنها تدعى صحة العقد، وهم يدعون فساده فالظاهر معها
(1)
.
وجاء في موضع آخر: أنه إن ادعى رجلان كل منهما يقول: إننى السابق بالعقد، ولا بينة لهما لم يُقبل قولهما، وإن أقرت المرأة لأحدهما لم يُقَبلْ إقرارُها، نص عليه أحمد؛ وذلك لأن الخصمَ في ذلك هو الزوج الأخير فلم يُقبل إقرارُها في إبطال حقه كما لو أقرت عليه بطلاق، وإن ادعى الزوجان على المرأة أنها تعلم السابقَ منهما فأنكرت لم تُستحلفْ لذلك.
وإن عُلِم أن العقدين وقعا معًا لم يَسبِقْ أحدهما الآخر فهما باطلان لا حاجة إلى
فسخهما؛ لأنهما باطلان من أصلهما. ولا مهر لها على واحدٍ منهما ولا ميراث لها منهما، ولا يرثها واحدٌ منهما كذلك
(2)
.
وإن ادعى كلُ واحدٍ منهما أنه السابق فأقرت لأحدهما ثم فُرّق بينهما وجب المهر على المقر له دون صاحبه؛ لإقراره لها به وإقرارها ببراءة صاحبه؛ وإن ماتا ورثت المقر له دون صاحبه كذلك، وإن ماتت هي قبلهما احتمل أن يرثها المقر له كما ترثُه. واحتمل أن لا يُقبل إقرارها له. وإن لم تقر لأحدهما إلا بعد موته فهو كما لو أقرت في حياته، وليس لورثة كل واحدٍ منهما الإنكار لاستحقاقها؛ لأن موروثه قد أقر لها بدعواه صحة نكاحها وسبقه بالعقد عليها، وإن لم تُقر لواحد منهما أُقرِعَ بينهما. وكان لها ميراث من تَقعُ عليه القرعةُ، وإن كان أحدهما قد أصابها، فإن كان هو المُقَر له أو كانت لم تقر لواحد منهما فلها المسمى؛ لأنه مُقِر لها به وهى لا تدعى سواه، وإن كانت مقرة للآخر فهى تدعى مهر المثل وهو يقر لها بالمسمى، وإن اصطلحا فلا كلام، وإن كان مهر المثل أكثر حُلِّف على الزائد وسقط، فإن كان المسمى أكثر فهو مقر لها بالزيادة وهى تنكرها فلا تستحقها، وإن ادعى زوجية امرأة ابتداء فأقرت له بذلك ثبت النكاح وتوارثا، وقال أبو الخطاب: في ذلك روايتان، والصحيح أنه مقبول؛ لأنها رشيدة أقرت بعقد يلزمها حكمه فقبل إقرارها، كما لو أقرت أن وليها باع أمتها قبل بلوغها وأنكر أبوها تزويجها لم يقبل إنكاره؛ لأن الحق على غيره وقد أقر به،
(1)
المغني والشرح الكبير: 7/ 389.
(2)
المغني والشرح الكبير: 7/ 407.
وكذلك لو ادعى أنه تزوج امرأة بولى وشاهدين عيَّنهما فأقرت المرأة بذلك، وأنكر الشاهدان لم يلتفت إلى إنكارهما؛ لأن الشهادة إنما يحتاج إليها مع الإنكار، ويُحتمل أن لا يقبل إقرارها مع إنكار أبيها؛ لأن تزويجها إليه دونها، فإن ادعى نكاحها فلم تُصدقه حتى ماتت لم يرثها، وإن ماتَ قبلها فاعترفت بما قال ورثته لكمال الإقرار منهما بتصديقها، وكذلك لو أقرت المرأة دونه فمات قبل أن يُصدقها لم ترثه، وإن ماتت فصدقها ورثها
(1)
.
وجاء في موضع آخر: أنه إن ادعتْ المرأةُ النكاح على زوجها وأقرت معه حقًّا من حقوق النِّكاح كالصداق والنفقة ونحوها سمعت دعواها بغير خلاف نعلمه؛ لأنها تدعى حقا لها تضيفه إلى سببه فَتُسمع دعواها، كما لو ادعت مِلكًا أضَافته إلى الشراء، وإن أفردْت دعوى النكاح، فقال القاضي: تُسمع دعواها أيضًا؛ لأنه سبب لحقوق لها فَتُسمع دعواها فيه كالبيع، وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر: لا تُسمع دعواها فيه؛ لأن النكاح حق للزوج عليها فلا تُسمع دعواها حقًّا لغيرها، فإن قلنا بالأول سُئل الزوج، فإن أنكر ولم تكن بينة فالقول قوله من غير يمين؛ لأنه إذا لم تُستحلف المرأة - والحق عليها - فلأن لا يستحلف من الحق له وهو ينكره أولى، ويُحتمل أن يُستحلف؛ لأن دعواها إنما سُمعت لتضمنها دعوى حقوق مالية تُشرع فيها اليمين، وإن قامت البينة بالنكاح ثبت لها ما تضمنه النكاح من حقوقها، فأما إباحتها له فتنبنى على باطن الأمر، فإن علِم أنها زوجته حلت له؛ لأن إنكاره النكاح ليس بطلاق ولا نوى به الطلاق، وإن عَلِم أنها ليست امرأته إما لعدم العقد أو لبينونتها منه لم تحل له وهل يُمكَّن منها؟ في الظاهر يُحتمل وجهين أحدهما: يمُكَّن منها؛ لأن الحاكم قد حكم بالزوجية، والثانى: لا يمكن منها لإقراره على نفسه بتحريمها عليه، فيقبل قوله في حق نفسه دون ما عليه، كما لو تزوج امرأة ثم قال: هي أختى من الرضاعة فإذا ثبت هذا فإن دعواها النكاح كدعوى الزوج فيما ذكرنا من الكشف عن سبب النكاح وشرائط العقد
(2)
.
(1)
المغني والشرح الكبير: 7/ 408 - 409.
(2)
السابق: 12/ 165.
ثانيًا: إنكار بعض شروط النكاح
جاء في (كشاف القناع): وإن أنكر الزوج أن يكون لها - أي الزوجة - عليه صداق فالقول قولها قبل الدخول وبعده فيما يوافق مهر المثل، سواء ادَّعى أنه وفَّاها الصداق أو ادَّعى أنها أبرأته منه، أو قال: لا تستحق عليّ شيئًا؛ لأنه قد تحقق موجبه، والأصل عدم براءته منه
(1)
.
وجاء في (شرح منتهى الإرادات): وإن ادَّعى زوج إذنها لوليها في العقد وأنكرت الزوجة إذنها لوليها صُدقت قبل دخول زوج بها مطاوعة؛ لأن الأصل عدمه، ولا تصدق في إنكاره الإذن بعده. أي الدخول بها مطاوعة؛ لأن دخوله بها كذلك دليل كذبها
(2)
.
ثالثًا: إنكار المهر والزيادة فيه
جاء في (المغنى): أن الزوجين إذا اختلفا في قدر المهر ولا بينة على مبلغه فالقول قول من يدعى مهر المثل منهما، فإن ادعت المرأة مهر مثلها أو أقل فالقول قولها، وإن ادعى الزوج مهر المثل أو أكثر فالقول قوله؛ وذلك لأن الظاهر قول من يدعى مهر المثل، فكان القول قوله قياسًا على المنكر في سائر الدعاوى، وعلى المودَع إذا ادعى التلف أو الرد؛ ولأنه عقد لا ينفسخ بالتحالف فلا يشرع فيه كالعفو عن دم العمد، ولأن القول بالتحالف يفضى إلى إيجاب أكثر مما يدعيه أو أقل مما يقر لها به، فإنها إذا كان مهر مثلها مائة فادعت ثمانين، وقال: بل هو خمسون، أوجب لها عشرين يتفقان على أنها غير واجبة؛ ولو ادعت مائتين، وقال: بل هو مائة وخمسون. ومهر مثلها وجوبها، ولأن مهر المثل إن لم يوافق دعوى أحدهما لم يجز إيجابه لاتفاقهما على أنه غير ما أوجبه العقد، وإن وافق قول أحدهما فلا حاجة في إيجابه إلى يمين من ينفيه؛ لأنها لا تؤثر في إيجابه، وفارق البيع فإنه ينفسخ بالتحالف ويرجع كل واحد منهما في ماله، فإن ادعى أقل من مهر المثل وادعت هي أكثر منه رد إلى مهر المثل ولم يذكر أصحابنا يمينًا. والأولى أن يتحالفا فإن ما يقوله كل واحد منهما محتمل للصحة فلا يعدل عنه إلا بيمين من صاحبه كالمنكر في سائر الدعاوى، ولأنهما تساويا في عدم الظهور فَيُشرَّع التحالف كما لو اختلف المتبايعان
(3)
.
والجملة أن الزوج إذا أنكر صداق امرأته وادعت ذلك عليه فالقول قولها فيما يوافق مهر مثلها، سواء ادعى أنه وفَّى لها أو أبرأته منه أو قال: لا تستحق عليّ شيئًا، وسواء كان ذلك قبل الدخول أو بعده؛ وذلك لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "اليمين على المدعى عليه
(4)
ولأنه ادّعى تسليم الحق الذي عليه فلم يقبل بغير بينة، فإن دفع إليها ألفًا ثم اختلفا فقال: دفعتها إليك صداقًا، وقالت: بل هبةٌ فإن كان اختلافهما في نيته كأن قالت: قصدتَ الهبةَ، وقال: قصدتُ دفع الصداق فالقول قول الزوج بلا يمين؛ لأنه أعلم بما نواه، ولا تَطلعُ المراةُ على نيتهِ، وإن اختلفا في لفظه فقالت: قد قلت: خذى هذا هبة أو هدية، فأنكر
(1)
كشاف القناع: 5/ 154.
(2)
شرح منتهى الإرادات: 2/ 648.
(3)
المغنى: 8/ 39 - 41.
(4)
سبق تخريجه.
ذلك، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه مُدَعى عليه عقدًا على مِلكه وهو ينكره، فأشبه إذا أصدقها دراهم فدفع إليها عِوضًا ثم اختلفا وحلفَ أنه دفعَ إليها ذلك من صداقِها فللمرأة رد العوض ومطالبته بصداقها، قال أحمد في روايةِ الفضَلِ بن زياد في رجل تزوج امرأة على صداق ألف فبعث إليها بقيمته متاعًا وثيابًا ولم يخبرْهم أنه من الصداق؛ فلما دخل سألتْه الصداق فقال لها: قد بعثتُ إليك بهذا المتاعِ واحتسبتهُ من الصداق، فقالت المرأة: صداقى دراهمٌ: تَرُدُّ الثياب والمتاع وترجع عليه بصداقها
(1)
، فهذهِ الرواية إذا لم يخبرْهم أنه صداق. فأما إذا ادعى أنها أخْذَتهُ على أنه من الصداقِ، وادعت هي أنه قال: هو هبة فينبغى أن يحلف كل واحدٍ منهما ويتراجعان بما لكل واحد منهما
(2)
.
وإذا أنكر الزوج تسمية الصداق وادعى أنه تزوجها بغير صداق فإن كان بعد الدخول نظرنا، فإن ادعت المرأة مهر المثل أو دونه وجبَ ذلك من غير يمينٍ؛ لأنها لو صدقته في ذلك لوجب مهر المثل فلا فائدة في الاختلافِ، وإن ادعت أقل من مهر المثل فهى مقرة بنقصها عما يجب لها بدعوى الزوج فيجب أن يقبل قولها بغيرِ يمينٍ، وإن ادعت أكثر من مهر المثلٍ لزمته اليمين على نفى ذلك ويجبُ لها مهرُ المثلِ. وإن كان اختلافهما قبل الدخول انبنى على الروايتين فيما إذا اختلفا في قدر الصداق، فإن قلنا: القول قول الزوج فلها المتعة، وإن قلنا: القول قول من يدعى مهر المثل قبل قولها ما ادعت مهر مثلها، هذا إذا طلقها، وإن لم يطلقها فرضَ لها مهرَ المثلِ على الروايتين، وكل من قلنا القول قوله فعليه اليمين
(3)
.
رابعًا: إنكار النفقة
جاء في (المغنى): أنه إن اختلف الزوجان في الإنفاقِ على الزوجةِ أو في إقباضها نفقتها فالقول قول المرأة؛ لأنها منكرة والأصل معها، وإن اختلفا في التمكين الموجب للنفقة أوفى وقته فقالت: كان ذلك من شهر، فقال: بل من يوم فالقول قوله؛ لأنه منكر والأصل معه، وإن اختلفا في يساره فادعته المرأة ليفرض لها نفقة الموسرين أو قالت: كنتَ موسرًا. وأنكر ذلك فإن. عُرِف له مال فالقول قولها وإلا فالقول قوله؛ لأن قوله يوافق الأصل فَقَدِمْ كما لو كان مقيمًا معها، وكل من قلنا القول قوله فلخصمه عليه اليمين، لأنها دعاوى في المال فأشبهت دعوى الدين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ولكن اليمين على المُدَعى عليه"
(4)
، وإن دفع الزوج إلى امرأته نفقة وكسوة أو بعث به إليها فقالت: إنما بعثت ذلك تبرعًا وهبة، وقال: بل وفاء للواجب عليّ فالقول قوله؛ لأنه أعلم بنيته فأشبه ما لو قضى دينه واختلف هو وغريمه في نيته
(5)
.
وإن طلق امرأته وكانت حاملًا فوضعت فقال: طلقتك حاملًا فانقضت عدتك بوضع الحمل وانقطعت نفقتك ورَاجْعْتُكِ، وقالت: بل بعد الوضعِ فلى النفقة ولك الرجعة، فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاء النفقة وعدم المسقط لها وعليها
(1)
المغنى: 8/ 42 - 43.
(2)
السابق: 8/ 44.
(3)
المغنى: 8/ 45.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
المغنى: 9/ 253.
العدة، ولا رجعة للزوج لإقراره بعدَمِها، وإن رجع فَصدَّقها فله الرجعة؛ لأنها مقرة له بها، وإن قال: طَلقتك بعد الوضعِ فلى الرجعةُ ولك النفقة، وقالت: بل وأنا حامل فالقول قوله؛ لأن الأصل بقاء الرجعة ولا نفقة لها ولا عدة عليها؛ لأنها حق الله تعالى فالقول قولها فيها، وإن عاد فصدَّقها سقطت رجعته ووجبت لها النفقة. هذا في ظاهر الحكم، فأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبنى على ما يعلمه من حقيقة الأمر دون ما قاله
(1)
.
مذهب الظاهرية:
أولًا: إنكار أصل النكاح
جاء في (المحلى): من ادعى على امرأته النكاح، أو ادعته عليه ولا شاهد لهما ولا بينة؛ لزمته اليمين أنه ما أنكحها، ولزمتها اليمين فأيهما نكل حلف المدعى وصح النكاح
(2)
.
ثانيًا: إنكار بعض شروط النكاح
لا يرى الظاهرية ذكر الشروط في عقد النكاح فقد جاء في (المحلى): ولا يصح نكاح على شرط أصلًا، حاشا الصداق الموصوف في الذمة أو المدفوع أو المعين، وعلى أن لا يضر بها في نفسها ومالها: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
وأما بشرط هبة أو بيع أو أن لا يتسرى عليها، أو أن لا يُرحِّلها أو غير ذلك كُلِّه، فإن اشترط ذلك في نفس العقد فهو عقد مفسوخ، وإن اشترط ذلك بعد العقد فالعقد صحيح، والشروط كلها باطلة، سواء عقدها بعتق أو بطلاق أو بأن أمرها بيدها، أو أنها بالخيار، كل ذلك باطل، وكذلك إن تزوجها على حكمه أو على حكمها، أو على حكم فلان، فكل ذلك عقد فاسد
(3)
.
ثالثًا: إنكار المهر والزيادة فيه
جاء في (المحلى): إذا طلبت المنكحة التي لم يفرض لها صداق قضى لها به، فإن تراضت هي وزوجها بشئ يجوز تملكه فهو صداق لا صداق لها غيره، فإن اختُلف قضى لها عليه بصداق مثلها أحب هو أو هي أو كرهت هي أو هو، برهان ذلك أنه لا خلاف في صحة ما يتراضيان به مما يجوز تملكه، وأما القضاء عليه وعليها بمهر مثلها فإنه قد أوجب الله عز وجل لها الصداق، ولابد من أن يقضى لها به إذا طلبته، ولا يجوز أن يلزم ما طلبته هي إذ قد تطلب منه ما ليس في وسعه، وكذلك لا يجوز أن تلزم هي ما أعطاها إذ قد يعطيها فلسًا، ولم يأت نص بإلزامها ذلك، ولا بإلزامه ما طلبت، فإذ قد بطل هذان الوجهان فلم يبق إلا صداق مثلها فهو الذي يقضى لها به
(4)
.
رابعًا: الإنكار في النفقة
جاء في (المحلى): إن ادعى أنه أنفق فهو مدع لسقوط حق لها ثبت قبله، فالبينة عليه واليمين عليها
(5)
.
(1)
المغنى: 9/ 254.
(2)
المحلى: 9/ 377.
(3)
السابق: 9/ 124.
(4)
السابق: 9/ 466، بتصرف.
(5)
السابق: 10/ 93.
مذهب الزيدية:
أولًا وثانيًا: إنكار أصل النكاح وشروطه
جاء في (التاج المذهب): أنه إذا اختلف الزوجان فلا يخلو إما أن يختلفا في العقد أو في توابعه. فإن اختلفا في العقد فإما أن يختلفا في ثبوته أو في فسخه أو في فساده: أما إذا اختلفا في ثبوته فالقول لمنكر العقد منهما إما الزوجة أو الزوج مع اليمين عليه؛ لأن الأصل عدم العقد، فإن كان الزوج فيمينه على القطع إذا تولى العقد بنفسه، وإن وَكَّل غيره فيمينه على العلمِ، وأما الزوجةُ فَيمِينُها على العلم؛ لأنها تتعلقُ بفعلِ غيرها وهو الولى ولو حضرت العقد، والبينة على مدعى حصول النكاح منهما؛ لأنه خلاف الأصل.
وإذا اتفق الزوجان على وجود سبب فسخ النكاح، وادعى أحدهما الفسخ به كان القول لمنكر فسخه مع يمينه، والبينة على مدعِيه في وقتٍ متقدمٍ، وذلك كأن يُزْوجُ الصغيرة غيرُ أَبيها ثم بلغت وعلمت ومضى عليها مجلس البلوغ والعلم فادعت أنها قد فَسخَت حين بلغت وأنكر الزوج ذلك فالقول قول الزوج والبينة عليها؛ لأن الأصل عدم الفسخِ، ومما يلحق بدعوى الفسخ لو زَوجَ البكرَ البالغةَ العاقلةَ أبوها أو غيرهُ من سائرِ الأولياءِ ثم بلغها النكاح ثم اختلفا فقال الزوج لها: سكتِ حين بلغك خبر النكاح فالعقد صحيح، وقالت: رددتُ العقدَ حين بلغنى فهو مفسوخ؛ بمعنى أنه غير ثابت لعدم رضاها، فالقول قول الزوج؛ لأن السكوت رضًا في حق البكر فكان القول للزوج أنها لم ترد، والبينة عليها؛ لأنها تدعى خلافَ الأصل وهو السكوتُ. وكذا لو كان المُدعى للسكوتِ هي الزوجة، وقال الزوج: بل أنكرت، فالقول لها والبينةُ على الزوج. وكذلك لو قالت: لا أعلم أن لى الخيار وأن الرضاء إليّ فإنه يكون القول قولها؛ لأن الأصل عدم علم النساء بذلك في الأغلب، إلا أن تكون مُخالطة لأهل العلمِ فالظاهرُ علمها بذلك. وأما الثيب فلما كان المعتبر النطق في رضاها فالقول قولها أنها لم ترض بالعقدِ؛ إذ الأصل عدم النطق وهو السكوت، والبينة على الزوج برضاها بالنطق
(1)
.
وإذا ادعى أحد الزوجين أو ورثة أحدهما أو جميعهما أن العقد فاسد نحو أن يقول: كان بغير ولى أو بغير شهود أو شهوده فسقة وأنكره الآخر فالقول قول مُنكِر فساده وبطلانه منهما، والبينة على مدعى الفساد؛ إذ الأصل عدم الفساد
(2)
.
وجاء في موضع آخر: إذا ادَّعى أحد الزوجين العيب في صاحبه وأنكر الآخر فعليه البينة؛ إذ الأصل عدمه، لكن حيث المعيب الزوج تكون البينة بعدلين وحيث هي الزوجة يكفى في البينة عدلة حيث يكون العيب في العورة المغلظة لا في غيرها فبعدلين، وسواء كان العيب ظاهرًا أو خافيًا في المستور من بدنها غير العورة
(3)
.
ثالثًا: إنكار المهر والزيادة فيه
جاء في (التاجِ المُذهبِ): أن القولَ لمنكرِ تسمية المهرِ عند الاختلاف حيثُ قال أحدهما: هو مسمى. وقال الآخر: لم يسم؛ لأن الأصل عدم التسميةِ، فالقولَ لمنكرِها، والبينةُ على المدعى
(1)
التاج المذهب: 2/ 93 - 94، وشرح الأزهار: 2/ 346.
(2)
التاج المذهب: 2/ 95.
(3)
السابق: 2/ 63.
كذلك، سواء كان قبل الدخول أم بعده، وسواء كانت الزوجة باقية في نكاحه أو مطلقة، فإن اختلفا في صحة التسمية فالبينةُ على مدعِى فسادها، وإن اتفقا على التسميةِ وعلى نسيانها رُجِع إلى مهر المثل، وهكذا إذا اختلف في التعيينِ والقبضِ، فالقولُ قولُ منكرِ تعيينهِ وقبضه؛ لأن الأصلّ عدمُ التعيينِ وعدمُ القبضِ.
وإذا اتفق الزوجان أن المهر مسمى واختلفا في قدره، فالقول لمنكرِ زيادته على قدر مهر المثل ولمنكر نقصانه عنه، فإذا ادعى الزوج أنه عشرون والمرأة أنه ثلاثون نُظِرَ في مهر مثلها، فإن كان عشرين فالقول قول الزوج. وإن كان ثلاثين فالقول قول المرأة، والمسألة مَبنيةٌ على أن الاختلاف بعد الدخولِ والتسمية، وعلى أن المهرَ معلومٌ فإن جُهِلَ مهر المثل فالقَول لمدعى الأقل، وإلا فالقول قول الزوجِ في الأطراف كلها، والقول قولِ منكرِ القدرَ الأبعد عنه زيادة والأبعد عنه نقصانًا، مثال الأبعد عنه في الزيادة أن يكون مهر المثل عشرة دنانير، وتدعى المرأة أنه سمى عشرين، والزوج يقول: بل خمسة عشر، فالقول قوله؛ لأنه منكر للقدر الأبعد عن مهر المثل في الزيادة، ومثال الأبعد عنه في النقصان أن يكون مهر المثل عشرين فتدعى الزوجة أنه سمى لها خمسة عشر. ويدعى الزوج أنه سمى لها عشرًا، فالقول قولها؛ لأنها منكرة للقدر الأبعد عن مهر المثل في النقصان
(1)
.
فإن ادعت المرأةُ أكثر من مهر المثلِ، وادعى هو أنه سمى لها أقل من مهر المثل؛ أو ادعى أنه سمى لها قدر مهر المثلِ أو سمى أكثر منه حيث خالعها عليه فأقام كل واحد منهما بينة على صحة دعواه حكم بالأكثر؛ لأنه خلافُ الظاهرِ في الوجهين معًا، وهذا إذا لم تتكاذبْ البينتان بأن يُضيفا إلى وقتٍ واحد، أو يتصادق الزوجان أنهما لم يعقدا إلا عقدًا واحدا، فإن تكاذبت البينتان رُجِعَ بعد التحالفِ أو النكولِ إلى مهرِ المثلِ إذا كان التداعى بعد الدخولِ، وقبل الدخول المتعة، وإذا لم تتكاذب البينتان فَحُكمِ بالأكثرِ فلابد من حَملهما على عقدين بينهما وطء وطلاق بائن، أو رجعى وانقضت العدةُ ليصح العقدُ الثاني فكأنها تاركة لدعوى مهر أحد العقدين لاستيفائها له أو نحوه لما ادعت الأكثر فقط مع الحمل على ذلك، ويلزم لها الأكثر على أحد العقدين
(2)
.
رابعًا: إنكار النفقة
جاء في (التاجِ المُذهبِ): أنه إذا اختلف الزوجان في النفقة وتداعيا فإذا كانت الزوجة حال التداعى في غير بيتِه بل في بيتها أو بيتِ أهلها أو في غيرهما بإذنه أو بإذن الشرع لمرض أو خوف عليها أو على أبويها العاجزين؛ وأنكرت إنفاقه عليها مدة ما هي في بيته فالقول قولها في عدم الإنفاق؛ لأن الظاهر معها، وهذا في حق الكبيرة لا الصغيرة فالقول قول الولى، ولو كانت في غير بيته بغير إذنه؛ لأنه عصيانٍ منها. وأما إذا كانت في بيتِ الزوجِ فالقول قوله فيما مضى وعليها البينة؛ لأن الظاهر معه أنه منفق عليها وسواء كانت صغيرةً أم كبيرةً عاقلة أم مجنونةً
(1)
التاج المذهب: 2/ 96 - 97.
(2)
السابق: 2/ 97 - 98.
والبينة تكون منها على إقرار الزوج أنه أنفق عليها فيها، أو على أنه لازمها المدة التي ادعت أنه ما أنفق عليها فيها ونفقتها جارية من غير زوجها، وأما إذا كان البيت لهما معًا غير مقسوم فالقول قوله أنه مُنفق؛ لأنه يَصدُق عليه أنها في بيتهِ، وإن كانت حصة كل واحد مميزة فكما لو اختلف البينتان، فإن كانت في حصتها فالقول لها، وإن كانت في حصته فالقول له، قيل: وهذا القول ذكره أبو طالب وهو موافق للمذهب وهو أنه يقبل قوله: (مطلقة ومغيبة) وغيرهما في دعوى عدم الإنفاق في الحال والمستقبل، وتحلف على ذلك وسواء كانت في بيته أو في غيره، وإن كانت الدعوى في نفقة الماضي فلأهل المذهب التفصيل السابق
(1)
.
مذهب الإمامية:
أولًا: إنكار أصل النكاح
جاء في (العروة الوثقى): إذا ادعى أحد الزوجين الزوجية وأنكر الآخر فيجرى عليهما قواعد الدعوى، فإن كان للمدعى بينة وإلا فيحلف المُنكِر أو يَردُ اليمين فيحلف المُدَعِى ويحكم له بالزوجية، وعلى المنكر ترتيب آثاره في الظاهر لكن يجبُ على كلٍ منهما العمل على الواقع بينه وبين الله، وإذا حلف المُنكِر حُكمِ بعدم الزوجية بينهما، لكن المدعِى مَأخْوذٌ بإقرارِه المستفاد من دعواه فليس له إن كان هو الرجلُ تزوج الخامسة ولا أم المُنكِرة ولا بنتها مع الدخول بها ولا بنت أخيها أو أختها إلا برضاها ويجبُ عليه إيصالُ المهر إليها. ولا يجبُ عليه نفقتها لنشوزها بالإنكار، وإن كانت هي المدعِية لا يجوز لها التزوج بغيره إلا إذا طلقها؛ ولو أن يقول: هي طالق إن كانت زوجتى، ولا يجوز لها السفر من دون إذنه، وكذا كلُ ما يتوقفُ على إذنه. ولو رجع المُنكِر إلى الإقرار هل يُسمعُ منه ويُحكمُ بالزوجية بينهما؟ فيه قولان والأقوى السماع إذا أظهر عذرًا لإنكاره. ولم يكن منهما، وإن كان ذلك بعد الحلف
(2)
.
وإذا تزوج امرأة تدعى خلوها عن الزوج فادعى زوجيتها رجل آخر لم تسمع دعواه إلا بالبينة، نعم وله مع عدمِها على كل منهما اليمين، فإن وجه الدعوى على المرأة فأنكرت وحلفت سقطت دعواه عليها، وإن نكلت أو ردت اليمين عليه فحلف لا يكون حلفه حجة على الزوج وتبقى على زوجيةِ الزوجِ مع عدمها، سواء كان عالمًا بكذب المدعى أو لا، وإن أخبر ثقة واحد بصدق المدعِى وإن كان الأحوط حينئذ طلاقها فيبقى النزاع بينه وبين الزوج، فإن حلفَ سقطت دعواه بالنسبة إليه أيضًا، وإن نكلَ أو رد اليمين عليه فحلف حكم له بالزوجيةِ إذا كان ذلك بعد أن حلف في الدعوى على الزوجية بعد الرد عليه، وإن كان قبل تمامية الدعوى مع الزوجية فيبقى النزاع بينه وبينها كما إذا وجه الدعوى أولًا عليه، سواء قلنا: إن اليمين المردودة بمنزلة الإقرار أو بمنزلة البينة أو قسم ثالث، نعم في استحقاقها النفقة والمهر المسمى على الزوج إشكال خصوصًا إذا قلنا: إنه بمنزلة الإقرار أو البينة، هذا كله إذا كانت منكرة لدعوى المدعى، وأما إذا صدقته وأقرت بزوجيته فلا يُسمع بالنسبة إلى حقِ الزوج
(1)
التاج المذهب: 2/ 286 - 287.
(2)
العروة الوثقى: 1/ 651.
ولكنها مأخوذةُ بإقرارها فلا تستحق النفقة على الزوج ولا المهر المسمى، بل ولا مهر المثل إذا دخلَ بها، وإذا ادعى رجل زوجية امرأة وأنكرت فهل يجوز لها أن تتزوج من غيره قبل تمامية الدعوى مع الأول، وكذا يجوز لذلك الغير تزوجها أو لا إلا بعد فراغها من المدعى؟ وجهان من أنها قبل ثبوت دعوى المدعى خالية ومسلطة على نفسها، ومن تعلقِ حق المدعى بها وكونها في معرض ثبوتِ زوجيتها للمدعِى، مع أن ذلك تفويت حق المُدعى إذا ردت الحلف عليه وحلف فإنه ليس حجة على غيرها وهو الزوج
(1)
.
وإذا ادعى رجل زوجية امرأة فأنكرت وادعى زوجيته لامرأة أخرى لا يصح شرعًا زوجيتها لذلك الرجل مع المرأة الأولى كما إذا كانت أخت الأولى أو أمها أو ابنتها؛ فهناك دَعْوتان إحداهما من الرجل على المرأة والثانية من المرأة الأخرى على ذلك الرجل، وحينئذ فإما أن لا يكون هناك بينة لواحد من المدعيين، أو يكون لأحدهما دون الآخر، أو لكليهما، فعلى الأول يتوجهُ اليمين على المُنكِر في كلتا الدعويَين فإن حلفا سقطت الدعويَان، وكذا إن نكلا وحلف كل من المدعيين اليمين المردودة، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر وحلف مُدَعِيه اليمين المردودة سقطت دعوى الأول وثبت مدعى الثاني. وعلى الثاني وهو ما إذا كان لأحدهما بينة ثبت مُدَعى من له البينة وهل تسقط دعوى الآخر أو يجرى عليه قواعد الدعوى من حلف المُنكِر أو رده قد يدعى القطع بالثانى
(2)
.
ثانيًا: إنكار بعض شروط النكاح
جاء في (شرائع الإسلام): إذا اختلف الزوجان في العقد؛ فادّعى أحدهما وقوعه في الإحرام وأنكر الآخر. فالقول قول من يدّعى الإحلال، ترجيحًا لجانب الصحة. لكن إن كان المنكر المرأة كان لها نصف المهر؛ لاعترافه بما يمنع من الوطء، ولو قيل: لها المهر كُلُّهُ كان حسنًا
(3)
.
ثالثًا: إنكار المهر والزيادة فيه
جاء في (شرائع الإسلام): أنه إذا اختلف الزوج والزوجة في أصل المهر فالقول قول الزوج مع يمينه، ولا إشكال قبل الدخول لاحتمال تجرد العقد عن المهر، لكن الإشكال لو كان بعد الدخول فالقول قوله أيضًا نظرًا إلى البراءة الأصلية ولا إشكال لو قدر المهر ولو بأَرْزَة واحدة؛ لأن الاحتمال متحقق والزيادة غير معلومة، ولو اختلفا في قدره أو وصفه فالقول قوله، أما لو اعترف بالمهر ثم ادعى تسليمه ولا بينة، فالقول قول المرأة مع يمينها
(4)
.
رابعًا: الإنكار في النفقة
جاء في (الروضة البهية): لو ادعى الزوج الإنفاق مع اجتماعهما ويساره وأنكرته. فمعه الظاهر ومعها الأصل، وحيث عرف المدعى فادعى دعوى ملزمة معلومة جازمة قبلت اتفاقًا
(5)
.
وجاء في موضع إذا اختلفا في التمكين وفى وجوب قضاء النفقة الماضية، فعلى المشهور القول قوله في عدمهما عملًا بالأصل فيهما،
(1)
العروة الوثقى: 1/ 652.
(2)
السابق: 1/ 652 - 653.
(3)
شرائع الإسلام: 1/ 222.
(4)
السابق: 2/ 38 وما بعدها.
(5)
الروضة البهية: 1/ 240، بتصرف.
وعلى الاحتمال قولها؛ لأن الأصل بقاء ما وجب، كما يقدم قولها لو اختلفا في دفعها مع اتفاقهما على الوجوب
(1)
.
مذهب الإباضية:
أولًا: إنكار أصل النكاح وشروطه
جاء في (شرح النيل): جاءَ في (الديوانِ) أنه إذا ادعى رجل على امرأةٍ أنها زوجتُه أو ادعت أنه زوجُها فعلى المدعى البيانُ وعلى المنكرِ اليمين، وكذا إن ادعى الحىُ منهما التزويج على ورثة الميت منهما، وكذا إن ادعى على رجل أنه زوَّجه وليته، أو ادعى عليه الرجل ذلك، وإذا زوَّج وليته فأنكرت فادعى الزوج أو الولىُ أنها وكَّلته أو رضيت النكاح بعد التزويج فلا يكون قول الولى أو الزوج عليها حجة، ولابد من إخراج وجهها عند تحليفها، وإن جحدت ولا بيان له ثم مات فأكذبت نفسها وصدقت دعواه فقيل: ترثه وهو الصحيح فيما يظهر؛ لأنه مات على ادعاء الزوجية وتصديقها إياه بعد الإنكار، ولو بعد موته ومع الرغبة في الإرث إقرار بالحق بعد إنكاره فضعفت التهمة؛ لأنها أقرت بما ادعاه خصمها وهو الزوج، وقيل: لا؛ لأنها متهمة بإرادة الإرث وهو المتبادر كيف ترجع إلى خلاف ما حكمت به على نفسها، وقيل: إن حلّفها بعد جحودها ثم ماتَ لم ترث؛ لأن تحليفه إياها قطع لخصومتها وتسلم لها، فموته بعد الحلف موت على عدم ادعاء الزوجية فتصديقها بعد لا ينفعها. وكذا مُنكر لمدعية أنه زوجها إن ماتت وصدقها بعد موتها أو أنه طلقها ثلاثًا أو بائنًا، أو أنها حرمت أو فاداها أو آلى أو ظاهر منها وماتت فأنكر ولا بيان لها ثم مات فأكذبت نفسها كذلك أي مصدقة لإنكاره؛ فالمسألة على الخلاف؛ ومَنْ بين في المسألتين بعد إنكاره وموت صاحبه ورث بلا إشكال
(2)
.
ومن بيَّن على امرأة أنها زوجته وأنكرت قبل البيان أو بعده ثم طلبته بما يمونها أو صداقها نصبت خصومة بينهما على ذلك ليعطيها حقها إن لم يذعن له، وإنما قال: نصبت خصومة بينهما ليكون البيان على يد الحاكم وبحضرتها، وليعلم كم الصداق إذ لا يحكم بمجهول، ولعل الزوج يدعى الوصول فيُبِين عليه، ولا يمتنع الحاكم من ذلك بسبب إنكارها الأول؛ لأنها قد أبطلته لطلبها منه ما هو من حق الزوجة، فقد أثبتت الزوجية التي ادعاها، وقد أبطل ذلك الإنكار بالبينة فإذعانها لأحكام الزوجية بعد إنكارها ليس إذعانًا للباطل بل إذعانًا للبينة، وكذلك إن بيَّن بما لا يجزى كشاهد واحد فأنكرت ثم أجازته على نفسه أو طلبت حق الزوجية، وترثه إن مات ولا يمنعها الحاكم عن إرثه، ويرثها إن ماتت، ولا يحل لأحدهما إرث الآخر إن عَلِم أنه ليس بزوج له، وتمنع نفسها ما استطاعت إن علمت كذب البينة. ومن ادعى نكاح طفلة بولى وشهود فأنكرت وصدَّقه وليها دفع إنكارها، وتترك بيده حين صدقه وليها إن لم يخف عليها إخراج من بلدها
(1)
الروضة البهية: 2/ 142، بتصرف.
(2)
شرح النيل: 3/ 265 وما بعدها.
أو ظلم عليها حتى تبلغ فتخاصم، وإن أراد إخراجها إلى بلدها أو بلد أهلها فله ذلك
(1)
.
ومن ادعتْ زوجًا فأنكر ولا بيان ثم ادعتْ أباه أو ابنه دُفِعت، وكذا إن ادعى زوجة فأنكرت ولا بيان ثم ادعى أمها أو ابنتها أو جدتها وإن علت أو بنت ولدها وإن سفلت أو من لا تجتمع معها فإنه يُدفع احتياطًا، ولا يحل لهن من حيث الاحتياط، وكذا إن ادعاها فأنكرت ولا بيان ثم ادعت أباه أو ابنه أو نحوهما كذلك؛ لأن ادعاء كلٍ يقتضى تحريم الآخر، وإن تزوج بواحدة منهن أو تزوجت بواحد منهم وكان المس أو لم يكن فُرِّق بينهما؛ لأنه لا بيان ولا إقرار والدعوى قد أبطلها تزوجهما
(2)
.
وإن أرادت امرأة نكاحًا وادعاها رجل وقُفْت حتى تخاصم معه، فإن زيفت دعوته تزوجت وله عليها يمين لإنكارها ما يدعيه عليها ولا بيان له، أما إذا كان له بيان يدعيه فلم يجز فقيل: تحلف، وقيل: لا، وذلك غير مختص بالنكاح، وجه التحليف عموم حديث:"اليمين على من أنكر"
(3)
ووجه عدمه أنه قد عَلَّقَ أمرًا إلى بيان يدعيه، فإذا زُيف ما تعلق به انقطع أمره، ولا يحل للحاكم أن يسكت عن اليمين ولا يذكره لمن هو له. بل يجب عليه أن يقول: إن لك على خصمك يمينًا؛ لأنه من تمام الحكم وبيان الحق لصاحبه؛ لأن اليمين حق لصاحبه. وقد يقر المنكر إذا ذكر اليمين، فإن أبى أن يخاصم وعطَّل وبان إضراره؛ أو قال: مات الشهود، أو قال: إن لى شهودًا لآتينّ بهم أو أبى أن يرد الجواب أجبر بإقامة بيانه، وإن لم يفعل تزوجت، وإن شاء حلفها
(4)
.
وإن استأذن البكر وليُّها فسكتت فزوجها فأنكرت لم يلزمها وقيل: يلزمها، ولا يقبل عليها قوله: أمرتنى أن أزوجها، أو زوجتها فرضيت، وإن أُعلمت فقامت أو قعدت أو أخذت في عمل ما لزمها ولو أنكرت بعده، وإن مضى زمان فأنكرت وادعت أنها لم تعلم إلا في وقت أنكرت فيه لم يُنصت إليها إن شُهِرَ وكانت ممن لا يخفى عنها مثله، وإن أكلت الثيب طعام الزوج أو لبست ثيابه أو سكنت داره على التزويج فُرِض وقيل: لا، وإن أمكنته من نفسها فجامعها أو تعرت قُدَامه فرأى منها ما بَطُنَ بعد علمها بالنكاح فُرض لا إن مسته هي، وإن أخبرها أمينان أن وليها زوجها من فلان ورضيت فظهر غيره لم يلزمها، ولزمها إذا رضيت فظهر الصداق أقل مما قيل لها، أو ظهر التزويج في غير الوقت المذكور لها، وإن تزوجت امرأة بإذن وليها فأنكرت بعد العقد وقبل الوطء وزعمت أنها لم تقبل العقد وأنها أبطلته ثم وطئت غلبةً ثم أجازت جاز النكاح عند جمهورنا، وتحرم عند غيرنا وقليل منا، وحرم على الزوج أن يقربها بمس أو نظر بشهوة قبل أن تجيز النكاح. وقيل: إن زوجها الولى بإذنها فأنكرت بعد التزويج ومُست لم تحرم، أو بلا إذنها حرمت.
وإن تولى نكاحها أجنبى أو غير رجل بإذنها أو بغير إذنها فأنكرت ثم وطئت فأجازت هي والولى
(1)
شرح النيل: 3/ 268 - 269.
(2)
السابق: 3/ 271.
(3)
سنن الدراقطنى 3/ 10، كتاب الحدود والديات وغيره. والسنن الكبرى للبيهقى، كتاب القسامة باب أصل القسامة .. الخ ..
(4)
شرح النيل: 3/ 272 - 273.
جاز عند الأكثر، والصحيح التحريم؛ لأن وطأها قبل إجازتها وإجازة الولى زنًا بها، ومن زنا بامرأة حَرُمت عليه
(1)
.
ثانيًا: إنكار المهر والزيادة فيه:
جاء في (شرح النيل): أن الزوجة إن ادعت مسًا وأنكر الزوج ولا بينة لها حلف، ولم يلزمه إذا حلف ما تدعيه من عِقر
(2)
أو صداق، وإن ادعت نكاحًا بلا صداق ترجع به إلى العقر فهى منكرة، وطلبت عقرًا أولم تطلب عقرًا، غير أنها قالت: كان النكاح بلا إصداق، وادعى إصداق أقل منه أي من العقر فهو المدعى، أو ادعت نكاحها بصداق هي المدعية وأنكر وادعى نكاحها بلا صداق، فإن صحت بيِّنة مدعٍ هو الزوج في الصورة الأولى والمرأة في الثانية عمل بها، لكن الصحيح أن يحكم بالمثل إذا لم يكن الإصداق أو كان بما لا يثبت إلا بالعقرِ خلافًا لما اشتُهر وإلا حُلِف المنكر زوجًا أو زوجةً والمنكر في الأولى المرأة وفى الثانية الزوج، وإن بيَّنت على عدم الإصداق بطل بيانها؛ لأنها شهادة نفى، والذي عندى ثبوت شهادة النفى، إذا كان حُضِّر بالوقت كما يشهدون إنّا حضرنا العقد ولم ينكرا فيه الصداق، وأما قبل العقد أو بعده فلا عبرة له، وإن شهد مع ذلك شهود بأنه أصدقها عند العقد ثبتت شهادتهم وبطلت شهادة النفى وأدى الزوج العقر، وقيل: المثل، وحاصل ذلك أن من ادعى منهما الصداق فعليه البيان؛ لأنه أمر حادث لا يثبت إلا ببيان، ومن أنكره فعليه اليمين سواء كان مدعيه الزوج وكان أقل من المقر أو أكثر أو سواء. أو الزوجة وكان أكثر أو أقل أو سواء. وإنما اقتصر الإرث في جانب مدعيه؛ لأنه الغالب في الدعاوى، وإنما ثبتت اليمين على منكر الصداق إذا ساوى العقر والبينة على مدعى العقر المساوى له ليكون الحكم بمعين، وللزومهما في باب الدعاوى والحكم بحديث:"البينة على المدعى واليمين على من أنكر"
(3)
ولأن الصداق غير العقر ولو تساويا في العدد إذا تساويا، وإنما لزم مدعى الأكثر على نفسه أن يبين، ولزم الآخر أن يحلف إن أنكر ولا بيان؛ لأنه لا يلزم الإنسان أن يقبل ما لم يجب له إلا في ضرورة
(4)
.
ثالثًا: إنكار النفقة
جاء في (شرح النيل): أنه إذا ادعى الرجل في النفقة فقرًا وادعته المرأة غنيًا غنى أوسط أو أعلى، وأحوال الناس درجات عليا ووسطى وسفلى وهى الأصل، وإنما أتت الأسماء التفضيلية مع تجردها من أل والإضافة لتجردها عن معنى التفضيل كأنه قال: عالية وسافلة وواسطة، فإن ادعته في العليا أو الوسطى لا في السفلى فأنكر بينت وإن بخبر مثل أن يقولوا: إن له من المال ما يكون به في العليا أو ما يكون به في الوسطى، وأن يقولوا: له من المال كذا وكذا، وإذا عد على قولهم وجد في العليا أو الوسطى، وكل ذلك إخبار ولا يحلف إن لم تبين؛ لأنها لم تدع شيئًا لنفسها معينًا بل ادعت وسع ماله
(1)
شرح النيل: 3/ 76 - 77.
(2)
هذا وجه من وجوه الصداق عند الإباضية، وهو ما يساوى عشر الدية أو القيمة للبكر ونصف ذلك للثيب. وقد يكون الصداق عندهم بما تراضيا به وبتقديرات أخرى. (شرح النيل: 3/ 87، 92).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
شرح النيل: 3/ 119 - 121.
ولاستماسكه بالأصل وهى السفلى مع عدم ادعائها خروجًا عنه بحق بخلاف من استمسك بأصل وادعى انتقاله عنه بحق مثل أن يدعى على إنسان أنه باع له بعيره فأنكر صاحب البعير فإنه يحلف؛ ولو استمسك بأصل وهو عدم البيع؛ لأن خصمه ادعى خروجه عنه بحق وهو الشراء وثمنه، وقيل: يحلف لعموم: "اليمين على من أنكر"
(1)
ولأن لها حقا في ذلك وهو توسيع النفقة وإنكاره يؤدى إلى إبطاله، ولينفق عليها على السفلى أو الوسطى بحسب ما أقر به مخالفًا لادعائها، وإن تصادقا على العليا أو الوسطى ثم ادعى نزولًا بيّنه وإلا فلا تحلف؛ لأنها لم تدع شيئًا معينًا لنفسه بل ادعى نقص مال ولاستمساكها بأصل وادعاؤه خروجه عنه بلا حق، وإنما كانت العليا هنا أو الوسطى أصلًا لإقراره بها، وقيل: تحلف لعموم: "البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر"، ولأن ذلك يرجع إلى حق له وهو تضييق النفقة، ولينفق عليها على ما تصادقا عليه، وكذا إن ادعت طلوعًا من سفلى أو وسطى يجب عليها أن تقيم البينة وإلا لم يحلف ويجبره الحاكم على نفقتها بضرب حتى ينفق أو يطلق
(2)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
شرح النيل: 3/ 301 - 302.
الإنكار في الرضاع
مذهب الحنفية:
جاء في (المبسوط): وإذا أقر الرجل أن هذه المرأة أخته أو أمه أو ابنته من الرضاعة ثم أراد بعد ذلك أن يتزوجها.
وقال: أوهمت أو أخطأت أو نسيت وصدقته المرأة فهما مصدقان على ذلك، وله أن يتزوجها وإن ثبت على قوله الأول وقال: هو حق كما قلت ثم تزوجها فرق بينهما ولا مهر لها عليه إن لم يكن دخل بها وهذا استحسان، وفى القياس الجواب في الفصلين سواء؛ لأنه أقر بأنها محرمة عليه على التأبيد والمقر به يجعل في حق المقر كالثابت بالبينة أو بالمعاينة، والرجوع عن الإقرار باطل؛ لأنه ملزم بنفسه فسواء رجع أو ثبت كان النكاح باطلا بزعمه فيفرق بينهما، ولا مهر لها عليه.
وإن أقرت المرأة بذلك وأنكر الزوج ثم أكذبت المرأة نفسها وقالت: أخطأت؛ فالنكاح جائز، وكذلك لو تزوجها قبل أن تكذب نفسها فالنكاح جائز، ولا تصدق المرأة على قولها؛ لأن حقيقة المحرمية لا تثبت بالإقرار فإنه خبر محتمل متمثل بين الصدق والكذب، ولكن الثابت على الإقرار كالمجدد له بعد العقد، وإقرارها بالمحرمية بعد العقد، باطل فكذلك إقرارها به قبل العقد.
ولو تزوج امرأة ثم قال لها بعد النكاح: هي أختى أو ابنتى أو أمى من الرضاعة، ثم قال: أخطأت أو أوهمت فالنكاح باقٍ استحسابًا، ولو ثبت على هذا النطق وقال: هو حق فشهدت عليه الشهود بذلك فرق بينهما، ولو جحد ذلك لم ينفعه جحوده؛ لأن إقراره إنما كان موجبًا للفرقة بشرط الثبات عليه، فإن قال: أوهمت فقد انعدم ما هو شرطه فلا يوجب الفرقة، وإذا ثبت على ذلك وجد ما هو شرط الإقرار فثبت حكمه وهو الفرقة ثم لا ينفعه جحوده بعد ذلك
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (الشرح الكبير): وإن ادعاه الزوج - أي ادعى الرضاع بعد العقد وقبل البناء - فأنكرت أخذ بإقراره فيفسخ نكاحه ولها النصف؛ لأنه يتهم على أنه أقر ليفسخ بلا شئ، وإن ادعته فأنكر لم يندفع النكاح عنها بالفسخ لاتهامها على قصد فراقه ولا تقدر على طلب المهر قبله أي قبل الدخول؛ أي لا تمكن من طلب ذلك، وإن طلقت قبل الدخول فلا شئ لها لإقرارها بفساد العقد وظاهره ولو بالموت، وهو ظاهر
(2)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (تحفة المحتاج): إن ادعى الزوج رضاعًا محرمًا فأنكرت الزوجة انفسخ لإقراره ولها المسمى إن صح وإلا فمهر المثل إن وطئ وإلا يطأ فنصفه؛ لأن الفرقة منه ولا يقبل قوله عليها فيه، نعم له تحليفها قبل وطء وكذا بعده إن زاد المسمى على مهر المثل، فإن نكلت حلف ولزمه مهر المثل بعد الوطء ولم يلزمه شئ قبله، هذا في غير مفوضة رشيدة، أما هي فليس لها إلا المتعة على ما حكى عن نص (الأم)، وإن ادعته - أي الزوجة - الرضاع المحرم فأنكره الزوج صدق
(1)
المبسوط: 4/ 79 وما بعدها، بتصرف.
(2)
حاشية الدسوقى: 2/ 500.
بيمينه إن زوجت منه برضاها به بأن عينته في إذنها لتضمنه إقرارها بحلها له، وإلا تزوج برضاها بل إجبار أو أذنت من غير تعيين زوج فالأصح تصديقها بيمينها ما لم تمكنه من وطئها مختارة لاحتمال ما تدعيه ولم يسبق منها ما يناقضه فأشبه ما لو ذكرته قبل النكاح
(1)
.
وجاء في (المهذب): فإن أقر الزوج أن امرأته أخته من الرضاع وكذبته المرأة قبل قوله في فسخ النكاح؛ لأنه إقرار في حق نفسه، ولا يقبل إقراره في إسقاط مهرها؛ لأن قوله لا يقبل في حق غيره، وإن أقرت المرأة أن الزوج أخوها من الرضاع وأنكر الزوج لم يقبل قولها في فسخ النكاح؛ لأنه إقرار في حق غيرها، وقبل قولها في إسقاط المهر؛ لأنه إقرار في حق نفس
(2)
.
وجاء في (الإقناع): وإن ادعى أن زوجته أخته من الرضاع فأنكرته فشهدت بذلك أمه أو ابنته أو أبوه لم تقبل شهادتهم، وإن شهد بذلك أمها أو ابنتها أو أبوها قبلت، وإن ادعت ذلك المرأة وأنكرها الزوج فشهدت لها أمها أو ابنتها أو أبوها لم تقبل، وإن شهدت لها أم الزوج أو ابنته أو أبوه قبل - وفى (الترغيب والبلغة) لو شهد به أبوها لم يقبل بل أبوه بلا دعوى وقاله في الرعايتين - وإن كانت الزوجة هي التي قالت: هو أخى من الرضاع؛ فأكذبها ولم تأت بالبينة فهى زوجته في الحكم فإن كان قبل الدخول فلا مهر، وإن كانت قبضته لم يكن للزوج أخذه، وإن كان بعد الدخول فإن أقرت أنها كانت عالمة أنها أخته وبتحريمها عليه وطاوعته في الوطء فلا مهر لها، وإن أنكرت شيئًا من ذلك فلها المهر وهى زوجته في الحكم، وأما فيما بينها وبين الله فإن علمت صحة ما أقرت به لم يحل لها مساكنته ولا تمكينه من وطئها وعليها أن تفتدى وتفر
(3)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (الفروع): من قال: زوجتى أو هذه بنتى أو أختى لرضاع حرمت وانفسخ حكما، ولو ادعى خطأ كقوله ذلك لأمته ثم رجع، فإن علم كذبه فلا، ولا مهر قبل الدخول إن صدقته. وإلا فنصفه، ولها بعده كله، وقيل: إن صدقته سقط، ولعل مراده المسمى، فيجب مهر المثل، لكن قال في (الروضة): لا مهر لها عليه، وإن قالت ذلك وأكذبها فهى زوجته حكمًا، ولا يطلب مهرًا قبضته منه، ولها بعده كله ما لم تطاوعه عالمة بالتحريم، ولو قال أحدهما ذلك قبل النكاح لم يقبل رجوعه ظاهرًا. ومن ادعاها لم يصدق أُمَّهُ بل أُمُّ المنكر، ذكره الشيخ وغيره.
وفى الترغيب: لو شهد بها أبوها لم يقبل، بل أبوه، يعنى بلا دعوى
(4)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (البحر الزخار): القول للزوج في إنكار الرضاع. وقال الحداد: بل لها إذ لا يعلم إلا من جهتها في الغالب، قلت: الظاهر صحة النكاح بعد انعقاد فلا يبطل بالشك ويؤدى إلى فتح باب فساد النكاح لقلة دين النساء. قال: فإن أتت بقرينة تقتضى ظن صدقها. فالأحوط العمل به
(5)
.
(1)
تحفة المحتاج: 8/ 298 - 299.
(2)
المهذب: 3/ 470.
(3)
الإقناع: 4/ 133.
(4)
الفروع: 5/ 576.
(5)
البحر الزخار: 4/ 129.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام) إذا قال: هذه أختى من الرضاع، أو بنتى على وجه يصح، فإن كان قبل العقد، حكم عليه بالتحريم ظاهرًا، وإن كان بعد العقد ومعه بينة حكم بها، فإن كان قبل الدخول فلا مهر، وإن كان بعده كان لها المسمى، وإن فقد البينة وأنكرت الزوجة لزمه المهر كله مع الدخول، ونصفه مع عدمه على قول مشهور، ولو قالت المرأة ذلك بعد العقد لم تقبل دعواها في حقه إلا ببينة. ولو كان قبله حكم عليها بظاهر الإقرار
(1)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): من أقر بمحرمة من رضاع ثم ادعى غلطًا أو نسيانًا أو خطأ فله تزوجها إن صدقته، وإن لم يدع فرقا ويقبل إقراره في الحرمة للأم لا عليها في الصداق، وإن أقرت المرأة وأنكر ثم أكذبت نفسها وقالت: أخطأت وتزوجها جاز، ولا يقبل قولها بعد التزوج إلا إن صدقها أو بينت، وإن صدقت افتدت وإن تزوجها قبل أن تكذب نفسها لم يفرقا ويؤمر بتركها، وإن ادعى وتزوجته قبل أن يكذب نفسه ثم كذب فسد، وقيل: لا، كأعمى أشار لأخته فأخطأ بامرأته فقال: هذه أختى، ورد بأنه لا للمبصر الرجوع، وكذا في العتق، ومن ادعى حرمة رضاع أو نسب وقد علم خلافها لم يفرقا، وإن لم يعلم فرقا وإن باعت عبدًا فادعى أنها أرضعته لم يقبل في ذلك ولو صدقته إلا عدلان شهدا بإقرارها قبل، فإن كانا ردت الثمن ورجع العبد إليها، وجازت شهادة المرضعة ولو لم تسأل، قيل: ولا رجوع لشاهدة بالرضاع
(2)
.
(1)
شرائع الإسلام: 2/ 225.
(2)
شرح النيل: 7/ 529.
إنكار الطلاق والخلع وما يتعلق بهما
مذهب الحنفية
أولًا: إنكار الطلاق
جاء في (بدائع الصنائع): إن ادعت المرأة الطلاق أو ادّعت أن ذلك كان في حال الغضب، أو ذكر الطلاق، وهو ينكر، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنها تدعى عليه الطلاق وهو ينكر، فإن أقامت البينة أن ذلك كان في حال الغضب أو حال ذكر الطلاق قبلت بينتها؛ لأن حال الغضب وذكر الطلاق يقف الشهود عليها ويتعلق علمهم بها، فكانت شهادتهم عن علم بالمشهود به فتقبل.
ولو أقامت البينة على أنه نوى الطلاق لا تقبل بينتها؛ لأنه لا وقوف للشهود على النية؛ لأنه أمر في القلب، فكانت هنا شهادة لا عن علم بالمشهود به فلم تقبل
(1)
.
وروى ابن سماعة عن محمد أنه قال: إذا كانت امرأتين فحلف للأولى طلقت التي لم يحلف لها؛ لأنه لما أنكر للأولى أن تكون مطلقة تعينت الأخرى للطلاق ضرورة، وإن لم يحلف للأولى طلقت؛ لأنه بالنكول بذل الطلاق لها أو أقر به، فإن تشاحنا على اليمين حلف لهما جميعًا بالله تعالى ما طلق واحدة منهما؛ لأنهما استويا في الدعوى، ويمكن إيفاء حقهما في الحلف؛ فيحلف لهما جميعًا، فإن حلف لهما جميعًا حجب عنهما حتى يبين؛ لأن إحداهما قد بقيت مطلقة بعد الحلف؛ إذ الطلاق لا يرتفع باليمين، فكانت إحداهما محرمة، فلا يمكن منها إلى أن يبين، فإن وطئ إحداهما، فالتى لم يطء مطلقة؛ لأن فعله محمول على الجواز، ولا يجوز إلا بالبيان فكان الوطء بيان أن الموطوءة منكوحة فتعينت الأخرى للطلاق ضرورة انتفاء المزاحم
(2)
.
وجاء في (المبسوط): إذا مات الرجل وقالت امرأته: قد كان طلقنى ثلاثًا في مرضه، ومات وأنا في العدة، وقال الورثة: بل طلقك في صحته، فالقول قول المرأة؛ لأن الورثة يدعون عليها سبب الحرمان، وهى جاحدة لذلك، فإن الطلاق في مرضه لا يحرمها فلا تكون هي مقرة بالحرمان كما لو قالت: طلقنى في حالة نومه، ولأن الورثة يدعون الطلاق بتاريخ سابق، وهى تنكر ذلك التاريخ، ولو أنكرت أصل الطلاق وكان القول قولها، فكذا إذا أنكرت التاريخ
(3)
.
وجاء في موضع آخر: إذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثًا. وجحد الزوج والمرأة ذلك فرق بينهما؛ لأن المشهود به حرمتها عليه، والحل والحرمة حق الله تعالى فتقبل الشهادة عليه من غير دعوى، كما لو شهدوا بحرمتها عليه، والحل والحرمة حق الله تعالى فتقبل الشهادة عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة؛ وهذا لأنهم يشهدون أن وطأه إياها يعمد هذا زنا، والشهادة على الزنا تقبل من غير دعوى
(4)
.
وجاء فيه أيضًا في حكم الطلاق على مال قوله: إذا قال الرجل لزوجته: طلقتك أمس بألف درهم أو على ألف درهم فلم تقبلى، وقالت: قد قبلت، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن إيجاب الطلاق بمال تعليق بقبولها، فالزوج أقر بالتعليق وأنكر وجود الشرط، فكان القول قوله، كما لو
(1)
بدائع الصنائع: 3/ 113.
(2)
السابق: 3/ 228.
(3)
المبسوط: 6/ 166.
(4)
السابق: 6/ 147.
علّق بدخولها فقالت: قد دخلت، وأنكر الزوج ذلك وهذا بخلاف البيع، إذ قال: قد بعت منك مثل هذا العبد أمس بألف درهم فلم تقبل؛ وقال المشترى: قد قبلت، فالقول قول المشترى؛ لأن البيع عقد معاوضة لا ينعقد إلا بإيجاب وقبول، فإقراره بالبيع يكون إقرارًا بقبول المشترى، فلا يعمل رجوعه عن الإقرار بعد ذلك، فأما إيجاب الطلاق بمال يكون تصرفًا عند الإيقاع، وهو التعليق بمنزلة اليمين؛ ولهذا لا يبطل بقيامه قبل قبولها فلم يكن هو مقرًا بالإيقاع أصلًا، فجعلنا القول قوله مع يمينه لهذا، وإذا قال لها: قد طلقتك واحدة بألف درهم وقبلت، وقالت هي: إنما سألتك أن تطلقنى ثلاثًا بألف درهم وإنما طلقتنى واحدة فإنما لك ثلث الألف، فالقول قولها مع يمينها؛ لأنهما اتفقا على وقوع الواحدة عليها، وإنما تنازعا في المال، فهو يدعى الزيادة عليها، وهى تنكر فالقول قولها
(1)
.
ثانيًا: إنكار الخُلع
جاء في (المبسوط): لو ادعت المرأة الخُلع وأنكره الزوج، فأقامت شاهدين شهد أحدهما بالخلع بألف، وشهد الآخر بألف وخمسمائة، فالشهادة باطلة؛ لأنها تدعى أحد الأمرين لا محالة، فتكون مكذبة للشاهد الآخر، ولأن الخُلع في جانبها قياس البيع، وشهود البيع إذا اختلفوا في جنس الثمن أو مقداره بطلت الشهادة فكذلك هنا إذا اختلفا في جنس الجُعل كالعرض والبيع والدراهم فالشهادة باطلة؛ لأن كل واحد منهما شهد بالطلاق بعوض آخر: ولا يمكن إيجاب واحد من العوضين عليها، فلو حكم بالطلاق فحكم بالطلاق بغير عوض، وقد اتفقا أن الزوج ما أوقع الطلاق بغير عوض، ولو كان الزوج هو المدعى للخلع، والمرأة منكرة، فشهد أحد الشاهدين بألف، والآخر بألف وخمسمائة، فإن كان الزوج يدّعى ألفا وخمسمائة جازت شهادتهما على الألف؛ لأن الطلاق قد وقع بإقرار الزوج بقى منه دعوى المال، ومن ادعى على غيره ألفًا وخمسمائة فشهد له شاهدان، شهد أحدهما بألف وشهد الآخر بألف وخمسمائة تقبل شهادتهما؛ على الألف لاتفاق الشاهدين عليها لفظًا ومعنًى، فإن ادعى الزوج الألف لم تجز شهادتهما لأن الزوج قد كذَّب أحد شاهدين. وهو الذي شهد بألف وخمسمائة، والمدعى إذا أكذب شاهده بطلت شهادته له، والطلاق واقع بإقراره، وكذلك إذا اختلفا في جنس الجعل؛ لأن الزوج مكذب لأحدهما لا محالة فلا بد أن يدعى أحد الجنسين. فإن شهد أحدهما بألف والآخر بخمسمائة فعند أبى حنيفة لا تقبل شهادتهما لاختلافهما لفظًا، وعند صاحبيه تقبل الشهادة على الخمسمائة إذا ادعى الزوج الألف لاتفاقهما على مقدار الخمسمائة معنى
(2)
.
ثالثًا: إنكار الرجعة
جاء في (تبيين الحقائق): أنه لو قال الزوج لمعتدته بعد انقضاء عدتها: كنت راجعتك في العدة، فإن صدقته تصح الرجعة، وإن كذبته فلا تصح، كما لا تصح في قوله لها: راجعتك - يريد
(1)
المبسوط: 6/ 181.
(2)
السابق: 6/ 185 - 186.
به الإنشاء - فقالت مجيبة له: قد انقضت عدتى، أما في المسألة الأولى فلأنه مدع ما لا يملك إنشاءه في الحال، وهى منكرة، فالقول قول المنكر، وإن صدقته تثبت الرجعة؛ لأنه بتصادق الزوجين يثبت النكاح، فالرجعة أولى، بخلاف ما إذا كانت العدة باقية وقال: كنت راجعتك أمس، وأنكرت المرأة؛ حيث يكون القول فيها قوله؛ لأنه أخبر عما يملك إنشاءه في الحال فلا يكون متهمًا فيه كالوكيل بالبيع إذا قال: بعته من فلان، فإنه يصدق قبل العزل لا بعده، فإن لم تصدقه المرأة على الرجعة فالقول قولها عند الإمام أبى حنيفة، ولا يمين عليها عنده، وعندهما القول قولها مع اليمين، وأما إذا قال لها: راجعتك يريد به الإنشاء؛ فقالت مجيبة له: انقضت عدتى، فلا تصح الرجعة عند أبى حنيفة، وعندهما تصح الرجعة؛ لأن عدتها باقية ظاهرًا ما لم تقر بانقضائها، وسقطت بالرجعة؛ لأن العدة لا تبقى معها، وإخبارها بعد ذلك بانقضاء العدة، ولا عدة عليها من قبيل المحال، فصار كما إذا أجابته بعد سكتة؛ ولهذا لو قال لها: طلقتك، فقالت مجيبة له: قد انقضت عدتى يقع الطلاق، ولأبى حنيفة أن هذه الرجعة صادفت حال انقضاء العدة فلا تصح، وهذا لأنها أمينة في الإخبار، فوجب قبول قولها، فإذا أخبرت دل ذلك على سبق الانقضاء، وأقرب أحواله حال قول الزوج: راجعتك، فتكون مقارنة لانقضاء العدة، فلا تصح بخلاف ما إذا سكتت ثم أخبرت بالانقضاء؛ لأن أقرب الأحوال فيها حال السكتة فيضاف إليه، ولأن الواجب عليها أن تخبر متصلًا بكلامه لو كان الانقضاء ثانيًا، والتأخير يدل على عدمه فتكون متهمة بالإخبار فلا يقبل قولها
(1)
.
رابعًا: الإنكار في العدة
جاء في (تبيين الحقائق): والقول قول الأمين ما لم يُعرف خلاف ما قال، ألا ترى أن المعتدة إذا قالت: انقضت عدتى وأنكر الزوج. كان القول قولها ما لم يعرف خلاف قولها بأن قالت في مدة لا تنقضى في مثلها العدة
(2)
.
مذهب المالكية
أولًا: إنكار الطلاق
جاء في (الشرح الكبير): إن نواها أي: الواحدة عند تفويض الطلاق لزوجته، فإن لم ينوها عنده لزمه ما أوقعته، وكذا إن نوى اثنتين حال التفويض ناكر في الثالثة من مفهوم الواحدة وبادر للمناكرة وإلّا سقط حقه وحلف أنه نوى الواحدة عند التفويض، فإن نكل وقع ما أوقعته ولا ترد عليها اليمين وتجعل عليه اليمين وقت المناكرة، إن دخل بالمحللة لا قبله، وهذا يجرى في المخيرة والمحللة، والمراد بالارتجاع هنا الارتجاع اللغوى، وهو العقد، فإن لم يرده فلا يمين لجواز أن لا يتزوجها، ولم يكرر قوله أن أمرها بيدها، فإن كرره فلا مناكرة له فيما زادته إلا أن ينوى بتكريره التأكيد فله المناكرة كنسقها هي وقد ملكها قبل البناء فقالت: طلقت نفسى أو اخترت نفسى، وكررت اللفظ ولًاء؛ لزمه ما كررت إلّا أن تنوى التأكيد، وأما بعد البناء فلا يشترط نسقها، بل الشرط وقوع الثانية أو الثالثة قبل انقضاء العدة؛ ولم يشترط ما ذكر من تخيير أو تمليك في العقد فإن اشترط فيه فلا مناكرة له فيما زاد على الواحدة دخل بها أم لا، فإن تطوع به بعد العقد فله المناكرة، وإن احتمل فهو ما أشار إليه
(1)
تبيين الحقائق شرح كنز الرقائق: 2/ 252.
(2)
المرجع السابق: 6/ 216.
خليل بقوله: وفى حمله على الشرط إن أطلق بأن كتب الموثق أمرها بيدها إن تزوج عليها ولم يعلم هل وقع ذلك في العقد أو بعد فلا مناكرة له، أو وقع الطوع فله المناكرة في ذلك؟ قولان، وقبل من الزوج المحلل أو المخير بيمين، إذا أوقعت الزوجة أكثر من واحدة إرادة الواحدة بعد قوله: لم أرد بالتمليك أو التخيير طلاقًا أصلًا، فقيل له: إذا لم ترده لزمك ما أوقعت فقال: أردت واحدة لاحتمال سهوه، قال عبد الرحمن بن القاسم: والأصح - وهو قول أصبغ - خلافه. وهو عدم القبول ويلزمه ما قضت به ولا نكره له إن دخل في تخيير مطلق غير مقيد بطلقة أو طلقتين، وإن قالت من فوّض لها الزوج: طلقت نفسى أو زوجى، سُئِلت بالمجلس وبعده عما أرادت؛ لأن جوابها محتمل، فإن أرادت الثلاث لزمت في التخيير فلا مناكرة له إن كانت مدخولًا بها، وناكر في التمليك مدخولًا بها أم لا، وكذا في التخيير لغير مدخولٍ بها، وإن قالت: أردت واحدة بطلت تلك الواحدة في التخيير في المدخول بها، بل يبطل التخيير من أصله، فإن لم يدخل لزمته، كما تلزمه بإرادتها في التمليك.
وإن قالت الزوجة: لم أرد عددًا معينًا فهل يحمل قولها: طلقت نفسى؛ على الثلاث فيلزم في التخيير إن دخل ناكر أو لا، كأن لم يدخل إذا لم يناكر، كالمحللة، يحمل على الواحدة؛ لأنها الأصل. فتلزم في التمليك مطلقًا، وفى التخيير لغير مدخول بها، ويبطل في المدخول بها عند عدم النية منها، لعدد تأويلان الأرجح الأول؛ لأنه قول ابن القاسم فيها، وهما جاريان في المخيرة والمحللة كما تقرر، والظاهر عند ابن رشد سؤالها في التخيير والتمليك عما أرادت إن قالت: طلقت نفسى أو على الصواب اخترت الطلاق؛ لأن طلقت نفسى هي ما قبلها، وليس لابن رشد فيها اختيار، وإنما سئلت؛ لأن (أل) تحتمل الجنسية فيكون ثلاثًا؛ والعهدية وهو الطلاق السنى. فيكون واحدة فيجرى وفيه جميع ما تقدم من التفصيل
(1)
.
ثانيًا: إنكار الخُلع
جاء في (المدونة الكبرى): قلت: أرأيت إذا تصادقا في الخُلع واختلفا في الجُعل الذي كان به الخلع فقالت المرأة: خالعتنى بهذه الجارية، وقال الزوج: بل خالعتك بهذه الدار وهذه الجارية وهذا العبد. قال: في قول مالك الخلع جائز لا يكون للزوج إلا ما أقرت به المرأة من ذلك ويحلف إلا أن يكون له بينة على ما ادعى من ذلك؛ لأن مالكًا قال في رجل صالحته امرأته فيما بينه وبينها ووجب ذلك بينهما على شئ أعطته ثم إنه خرج ليأتى بالشهود ليشهد فيما بينهما فجحدت المرأة الصلح أن تكون أعطته على ذلك شيئًا؛ قال مالك: تحلف المرأة ويثبت الخلع على الزوج ولا يكون له من المال الذي ادعى شيئًا ويفرق بينهما؛ لأنه قد أقر بفراقها، قلت: فلو أن رجلًا ادعى أنه خالع امرأته على ألف درهم والمرأة تنكر الخُلع وأقام الزوج شاهدًا واحدة أنه خالعها على ألف درهم أيحلف مع شاهده ويستحق هذه الألف؟ قال: قول مالك أن ذلك له
(2)
.
(1)
الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه: 2/ 408 - 410.
(2)
المدونة الكبرى: 5/ 348.
ثالثًا إنكار الرجعة
جاء في (حاشية الدسوقى): لا تصح رجعة إن أقر الزوج بالوطء فقط وكذبته الزوجة في خلوة زيارة، وطلقها؛ لأنه طلاق قبل البناء ولها، كل الصداق بإقراره وعليها العدة احتياطًا. بخلاف إقراره فقط في خلوة البناء، فقيل: له الرجعة عليها، وهو ضعيف، والمعتمد أنه لا بين خلوة لزيارة أو في البناء، حتى إنه لا يكفى إقراره فقط ولابد؛ لأنه إذا ثبتت الزوجية بشاهدين واختلى بها في حال زيارته لها، وثبتت الخلوة بامرأتين متى ادعى أنه وطئها وكذبته وطلقها، وأراد رجعتها، فلا تتم له تلك الرجعة، ولا يمكن منها، ويحكم بكون الطلاق بائنًا. وعليها العدة للخلوة.
وتصح رجعة الرجل لزوجته إن قامت بينة له بعد العدة على إقراره بالوطء أو بالتلذذ بها فيها، وادعى أنه نوى به الرجعة أو قامت بينة على معاينة تصرفه لها وبينة عندها في العدة، وادعى الرجعة بها، وأما شهادة البينة على إقراره بذلك من غير معاينة لما ذكر فلا يعمل بها، وإن قالت المطلقة عند قصده ارتجاعها: أنا حضت ثالثة فلا رجعة لك عليّ، فأقام الزوج بينة شهدت على قولها قبل هذا القول بما يكذبها بأن شهدت بأنها قالت: لم أحض أصلًا أو لم أحض ثالثة. وليس بين قوليها وقت يمكن أن تحيض فيه. فتصح رجعته، فإن لم يقمها لم تصح، ولو رجعت لتصديقه أو أشهد الزوج برجعتها في العدة فصمتت يومًا أو بعضه ثم قالت: كانت عدتى قد انقضت قبل إشهادك برجعتى؛ فتصح رجعته وتعد نادمة، لو بادرت بالإنكار لم تصح إن مضت مدة يمكن فيها انقضاء العدة، وكذلك تصح رجعة الرجل إن ادعى بعد انقضاء العدة أنه كان راجعها فيها وكذبته، فلن يصدق لعدم البينة فتزوجت بغيره، ثم ولدت ولدًا كاملًا لدون ستة أشهر من وطء الثاني، فإن هذا الولد لحق بالأول لظهور كون الحمل منه، ويفسخ نكاح الثاني وترد إلى الأول برجعته التي ادعاها، ولم تصدقت عليها؛ لأنه تبين أنها حين الطلاق كانت حاملًا، وعدة الحامل وضع حملها كله
(1)
.
رابعًا: إنكار العدة
جاء في (الشرح الكبير) قوله: ولما ذكر المواضع التي لا تصح فيها الرجعة ذكر ما تصح فيها بقوله: وصحت رجعته إن قامت له بينة بعد العدة على إقراره بالوطء فيها؛ أي أو بالتلذذ بها فيها وادعى أنه نوى به الرجعة أو على معاينة تصرفه لها ومبيته عندها فيها أي في العدة وادعى الرجعة بها، وأما شهادتها على إقراره بذلك معاينة لما ذكر فلا يعمل بها، ثم إن أراد بالتصرف التصرف الخاص بالأزواج كأكل معها وغلق باب عليهما دون أحد الوقوف، فالواو في كلامه بمعنى أو؛ إذ يكفى أحدهما. وإن أراد العام كشراء نفقة وفاكهة من السوق وبعثها لها كانت الواو على حقيقتها لكن لا حاجة لذكر التصرف؛ لأن معاينة المبيت وحدها تكفى في تصديقه، فأولى إذا انضم إليها التصرف العام أو قالت المطلقة عند قصده ارتجاعها: أنا حضت ثالثة فلا رجعة لك عليّ فأقام الزوج بينة شهدت على
(1)
حاشية الدسوقى: 2/ 430 - 431.
قولها قبله؛ أي قبل هذا القول بما يكذبها بأن شهدت بأنها قالت: لم أحض أصلًا أو لم أحض ثالثة وليس بين قوليها ما يمكن أن تحيض فيه فتصح رجعته، فإن لم يقمها لم تصح، ولو رجعت لتصديقه أو أشهد الزوج كان برجعتها في العدة فصمتت يومًا أو بعضه ثم قالت: كانت عدتى قد انقضت قبل إشهادك برجعتى فتصح رجعته وتعد نادمة، ومفهوم صمتت أنها لو بادرت بالإنكار لم يصح إن مضت مدة يمكن فيها انقضاء العدة
(1)
.
مذهب الشافعية:
أولًا: إنكار الطلاق
جاء في (المهذب): أنه إذا اختلف الزوجان فادعت المرأة على الزوج أنه طلقها وأنكر الزوج، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق. وإن اختلفا في عدده فادعت المرأة أنه طلقها ثلاثًا، وقال الزوج: طلقتها طلقة، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم ها زاد على طلقة، وإن خيرها ثم اختلفا فقالت المرأة: اخترت، وقال الزوج: ما اخترت، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الاختيار وبقاء النكاح، وإن اختلفا في النية، فقال الزوج: ما نويت، وقال المرأة: نويت، ففيه وجهان، أحدهما وهو قول أبى سعيد الإصطخرى - رحمه الله تعالى - أن القول قول الزوج؛ لأن الأصل عدم النية وبقاء النكاح، فصار كما لو اختلفا في الاختيار. والوجه الثاني وهو الصحيح أن القول قول المرأة، والفرق بينه وبين الاختلاف في الاختيار أن الاختيار يمكن إقامة البينة عليه، فكان القول فيه قوله، كما لو علق طلاقها بدخول الدار فادعت أنها دخلت وأنكر الزوج، والنية لا يمكن إقامة البينة عليها. فكان القول قولها، كما لو علَّق الطلاق على حيضها فادعت أنها حاضت وأنكر، وإن قال لها: أنت طالق في الشهر الماضي، وادعى أنه أراد من زوج غيره في نكاح قبله، وأنكرت المرأة أن يكون قبله نكاح أو طلاق، لم يقبل قول الزوج في الحكم حتى يقيم البينة على النكاح والطلاق، فإن صدقته المرأة على ذلك لكنها أنكرت أنه أراد ذلك فالقول قوله مع يمينه، فإن قال: أردت أنها طالق في الشهر الماضي بطلاق كنت طلقتها في هذا النكاح وكذبته المرأة، فالقول قوله مع يمينيه، والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن هناك يريد أن يرفع الطلاق، وها هنا لا يرفع الطلاق، وإنما ينقله من حال إلى حال
(2)
.
ثانيًا: إنكار الخلع
جاء في (المهذب): أنه إذا اختلف الزوجان، فقال الزوج: طلقتك على مال وأنكرت المرأة بانت بإقراره ولم يلزمها المال؛ لأن الأصل عدمه، وإن قال: طلقتك بعوض، فقالت: طلقتنى بعوض بعد مضى الخيار بانت بإقراره. والقول في العوض قولها؛ لأن الأصل براءة ذمتها، وإن اختلفا في قدر العوض؛ أو في عينه أو صفته؛ أو في تعجيله تحالفا لأنه عوض في عقد معاوضة فتحالفا فيه على ما ذكرناه كالبيع. على ما كرر في البيع، فإذا تحالفا لم يرتفع الطلاق وسقط المسمى ووجب مهر المثل كما لو اختلفا في ثمن السلعة بعدما تلفت في يد المشترى. وإن قال: خالعتك على
(1)
الشرح الكبير: 2/ 431.
(2)
المهذب: 2/ 101 - 102.
ألف، وقالت: بل خالعت غيرى، بانت المرأة لاتفاقهما على الخلع، والقول في العوض قولها؛ لأنه يدعى عليها حقًّا والأصل عدمه
(1)
.
وجاء في (نهاية المحتاج): أنه لو ادّعت خلعًا، فأنكر أو قال: طال الفصل بين لفظينا بأن سألته الطلاق بعوض فطلقها بدون ذكره، ثم اختلفا فقالت: طلقنى متصلًا فبنت، وقال: بل منفصلًا فلى الرجعة أو نحو ذلك، ولا بينة صدق بيمينه؛ لأن الأصل عدمه مطلقًا، أو اختلفا في الوقت الذي تدعيه فيه فإن أقامت به بينة - ولا تكون إلّا رجلين - بانت، ولم يطالبها بالمال؛ لأنه ينكره ما لم يعد ويعترف به؛ قاله الماوردى؛ لأن الطلاق لزمه وهى معترفة به وهو الأوجه؛ وليس لمن أقر لغيره بشئ فأنكره ثم صدق، ولابد من إقرار جديد من المقر؛ لأن ما هنا وقع في ضمن معاوضة
(2)
.
ثالثًا: إنكار الرجعة
جاء في (المهذب): أنه إن اختلف الزوجان فقال الزوج: راجعتك، وأنكرت المرأة فإن كان ذلك قبل انقضاء العدة، والقول قول الزوج؛ لأنه يملك الرجعة فقبل إقراره فيها كما يقبل قوله في طلاقها حين ملك الطلاق، وإن كان بعد انقضاء العدة فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم الرجعة ووقوع البينونة، وإن اختلفا في الإصابة فقال الزوج: أصبتك فلى الرجعة، وانكرت المرأة، فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم الإصابة ووقوع الفرقة
(3)
.
وجاء في موضع آخر: أنه إن تزوجت المطلقة ثلاثًا بزوج وادعت عليه أنه أصابها وأنكر الزوج لم يقبل قولها على الزوج الثاني في الإصابة، ويقبل قولها في الإباحة للزوج الأول؛ لأنها تدعى على الزوج الثاني حقًّا وهو استقرار المهر، ولا تدعى على الأول شيئًا، وإنما تخبره عن أمر هي فيه مؤتمنة فقبل، وإن كذبها الزوج الأول فيما تدعيه على الثاني من الإصابة ثم رجع فصدقها جاز له أن يتزوجها؛ لأنه قد لا يعلم أنه أصابها ثم يعلم بعد ذلك، وإن ادعت على الثاني أنه طلقها وأنكر الثاني لم يجز للأول نكاحها؛ لأنه إذا لم يثبت الطلاق فهى باقية على نكاح الثاني فلا يحل للأول نكاحها، ويخالف ما إذا اختلفا في الإصابة بعد الطلاق؛ لأنه ليس لأحد حق في بُضعها فقبل قولها
(4)
.
رابعًا: إنكار العدة
جاء في (المهذب): أنه إذا خلا الرجل بامرأته ثم اختلفا في الإصابة فادعاها أحدهما وأنكر الآخر ففيه قولان: قال الشافعي في الجديد: القول قول المنكر؛ لأن الأصل عدم الإصابة، وقال في القديم: القول قول المدعى؛ لأن الخلوة تدل على الإصابة، وإن اختلفا في انقضاء العدة بالأقراء فادعت المرأة انقضاءها لزمان يمكن فيه انقضاء العدة وأنكر الزوج فالقول قولها، وإن اختلفا في وضع ما تنتقضى به العدة فادعت المرأة أنها وضعت ما تنقضى به العدة وأنكر الزوج فالقول قولها؛ لقوله عز وجل:{وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}
(5)
(1)
المهذب: 2/ 76 - 77.
(2)
نهاية المحتاج: 6/ 412.
(3)
المهذب: 2/ 103.
(4)
السابق: 2/ 105.
(5)
سورة البقرة، الآية:228.
فحرّج
(1)
النساء على كتمان ما في الأرحام كما حرج الشهود على كتمان الشهادة، فقال سبحانه وتعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}
(2)
ثم يجب قبول شهادة قول الشهود فوجب قبول قول النساء، ولأن ذلك لا يعلم إلّا من جهتها فوجب قبول قولها فيه، كما يجب على التابعى قبول ما يخبره به الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يكن له سبيل إلى معرفته إلّا من جهته، وإن ادعت المرأة انقضاء العدة بالشهور وأنكر الزوج فالقول قوله؛ لأن ذلك اختلاف في وقت الطلاق فكان القول فيه قوله
(3)
.
مذهب الحنابلة
أولًا: إنكار الطلاق
جاء في (كشاف القناع): أنه إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها فأنكر فالقول قوله؛ لأن الأصل بقاء النكاح، أو ادعت وجود صفة عَلَّق طلاقها عليها بأن قال: إن قام زيد أو إن لم يقم يوم كذا فأنت طالق، وادعت أن الصفة وجدت فطلقت وأنكرها فالقول قوله؛ لأن الأصل بقاء النكاح إلّا إذا علق طلاقها على حيضها فادعته فالقول قولها، أو علقه على ولادتها فادعتها فالقول قولها أيضًا إن كان أقر بالحمل عند القاضي وأصحابه، فإن كان لها بينة بما ادعت من طلاق لها أو وجود ما علق طلاقها عليه قبلت بينتها وعمل بها، ولا يقبل في الطلاق إلا رجلان عدلان كالنكاح مما يطلع عليه الرجال غالبًا، وليس مالا، ولا يقصد به مال، وإن اتفقا على أنه طلقها واختلفا في عدد الطلاق، فإن قالت: طلقتنى ثلاثًا. فقال: بل واحدة، فالقول قوله؛ لأنه منكر للزائد، فإن طلقها ثلاثًا وسمعت ذلك أو ثبت عندها بقول عدلين أنه طلقها ثلاثًا لم يحل لها تمكينه من نفسها؛ لأنها حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، ثم يعقد هو عليها، ويجب عليها أن تفر منه ما استطاعت وأن تفتدى منه إن قدرت، ولا تتزين له، وتهرب منه ولا تقيم معه، وتختفى في بلدها ولا تخرج منها - أي من بلدها - ولا تتزوج غيره حتى يظهر طلاقها؛ لئلا يتسلط عليها شخصان: أحدهما يظهر النكاح، والآخر يبطنه، ولا تقتله قصدًا بل تدفعه بالأسهل فالأسهل كالصائل، فإن قصدت الدفع عن نفسها فآل إلى نفسه. فلا إثم عليها، ولا ضمان في الباطن عليها؛ لأنها فعلت ما هي مأمورة به، فأما في الظاهر فإنها تؤاخذ بحكم القتل؛ لأن قولها غير مقبول في وقوع الثلاث عليه لتدفعه عن نفسها ما لم يثبت صدقها بشهادة عدلين فينتفى وجوب القتل في الظاهر أيضًا
(4)
.
ثانيا: إنكار الخُلع:
جاء في (كشاف القناع): إذا قال الرجل للمرأة: خالعتك بألف فأنكرته؛ أو قالت: إنما خالعت غيرى بانت منه؛ لأنه مقر بما يوجب بينونتها، والقول قولها مع يمينها في نفى العوض؛ لأنها منكرة، والأصل براءتها، وإن قالت: نعم خالعتنى بألف لكن ضمنه غيرى لزمها الألف؛ لأنها مقرة بالخلع مدعية على الغير ضمان العوض، فلزمها العوض لإقرارها، ولا تسمع
(1)
حرج: أثَّم (لسان العرب، مادة: حرج).
(2)
سورة البقرة، الآية:283.
(3)
المهذب: 2/ 152.
(4)
كشاف القناع: 3/ 207.
دعواها على الغير، وكذا لو قالت: نعم لكن بعوض في ذمة غيرى فقال: بل في ذمتك. وإن اختلف المتحالفان في قدر العوض الذي وقع عليه الخلع، أو اختلفا في عينه أو تأجيله أو جنسه أو صفته؟ أو هل عوض الخلع وزنى أو عددى فالقول قولها مع يمينها؛ لأنه أحد نوعى الخلع، فكان القول قول المرأة فيه كالطلاق على مال إذا اختلفا في قدره؛ ولأن المرأة منكرة للزائد في القدر والصفة، فكان القول قولها كسائر المنكرين. فإن قال: سألتنى طلقة بألف، فقالت. بل ثلاثًا بألف، وطلقتنى واحدة بانت بإقراره، والقول قولها في سقوط العوض
(1)
.
ثالثًا: إنكار الرجعة
جاء في (كشاف القناع): وإن ادعى الرجل في عدة المرأة أنه راجعها أمس أو أنه كان راجعها منذ شهر قبل قوله؛ لأنه يملك رجعتها، فصح إقراره بها، فإن ادعى أنه كان قد راجعها أمس أو منذ شهر بعد انقضاء العدة فأنكرته فالقول قولها؛ لأنه ادعاها في زمن لا يملكها فيه، والأصل عدمها وحصول البينونة، وإن قالت: قد انقضت عدتى، فقال بعد ذلك: قد كنت راجعتك، فالقول قولها، وإن سبق فقال: ارتجعتك؛ فقالت: قد انقضت عدتى قبل رجعتك فأنكرها، فالقول قوله؛ لأنه ادعى الرجعة قبل الحكم بانقضاء عدتها، ولأنه يملك الرجعة، وقد صحت في الظاهر فلا يقبل قولها في إبطالها. وإن اختلفا في الإصابة قبل الطلاق فقال: قد كنت أصبتك على رجعتك فأنكرته فالقول قولها؛ لأن الأصل عدمها، أو قالت بعد أن طلقها: قد أصابنى أو خلا بى فلى المهر كاملًا فأنكرها، فالقول قول المنكر؛ لأن الأصل عدمها وبراءته، وليس له رجعتها في الموضعين لعدم قبول قول مدعى الإصابة، ولا تستحق في الموضعين إلّا نصف المهر إن كان اختلافهما قبل قبضه مؤاخذة لها بإقرارها في الأول، ولأن الأصل براءته في الثاني، وإن كان اختلافهما بعد قبضه وادعى إصابتها فأنكرت لم يرجع عليها بشئ مؤاخذة له بمقتضى دعواه الإصابة، وإن كان هو المنكر للإصابة رجع إليها بنصف المهر؛ لأن الأصل عدمه
(2)
.
رابعًا: إنكار العدة
جاء في (الإنصاف): ولا يحل للحر أن يجمع بين أكثر من أربع، ولا للعبد أن يتزوج بأكثر من اثنتين بلا نزاع. ومفهوم قوله: وإن طلق إحداهن لم يجز أن يتزوج أخرى حتى تنقضى عدتها؛ أنها لو ماتت جاز تزوُّج غيرها في الحال، وهو صحيح .. فلو قال: أخبرتنى بانقضاء عدتها فكذبته. فله نكاح أختها وبدلُها في أصح الوجهين
(3)
.
مذهب الظاهرية
أولًا: إنكار الطلاق
جاء في (المحلى): فمن ادعت عليه امرأته الطلاق وعبدُه أو أمته العتاق، ومن ادعى على امرأته النكاح أو ادعتُه عليه ولا شاهد لهما ولا
(1)
كشاف القناع: 13/ 213 - 214.
(2)
كشاف القناع: 5/ 231.
(3)
الإنصاف في معرف الراجح من الخلاف: 5/ 131.
بينة: لزِمتهُ اليمينُ أنه ما طلقَ، ولا أعتقَ، ولزمته اليمينُ أنه ما أنكحها، أو لزِمَتها اليمينُ كذلك فأيهما نكل حَلِف المدعى وصَح العتقُ والنكاحُ والطلاقُ، وكذلك في القصاص
(1)
.
ثانيًا: إنكار الرجعة
جاء في (المحلى): لا تصدق المرأة في مدة عدتها إذا أنكر الزوج؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالبينة على من ادعى؛ وهى مدعية بطلان حق ثابت لزوجها في رجعتها أحبت أم كرهت فلا تصدق إلا ببينة عدل
(2)
.
ثالثًا: إنكار الخلع
(3)
.
رابعًا: إنكار العدة
جاء في (المحلى): وسواء فيما ذكرنا تقارب الأقراء أو تباعدها - لا حدَّ في ذلك - إلّا أنه لا تصدق المرأة في ذلك إذا أنكر الزوج قولها، إلّا بأربع عدول من النساء عالمات يشهدن أنها حاضت حيضًا أسود ثم طهرت منه - هكذا ثلاثة أقراء - أو بشهادة امرأتين كذلك مع يمينها؛ لأن الله عز وجل لم يحُدّ في ذلك حدًا، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}
(4)
.
ومن الباطل المتيقن أن يكون تعالى أراد أن يكون للأقراء مقدار لا يكون أقل منه ثم يسكت عن ذلك؛ ليكلفنا علم الغيب الذي حجبه عنا، أو يكلنا إلى الظنون الكاذبة، والأقوال الفاسدة التي لا يشك في بطلانها.
وأما أن لا تصدق في ذلك إذا أنكر الزوج فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالبينة على مَنْ ادَّعى، وهى مدعية بطلان حق ثابت لزوجها في رجعتها - أحبت أم كرهت - فلا تصدق إلا ببينة عدل.
رُوِّينا من طريق وكيع عن إسماعيل عن أبى خالد عن الشعبى قال: جاءت امرأة إلى على بن أبى طالب قد طلقها زوجها فادعت أنها حاضت ثلاث حيض في الشهر؟ فقال على لشريح: قل فيها، فقال شريح: إن جاء ببينة ممن يرضى دينه وأمانته من بطانة أهلها أنها حاضت في شهر ثلاثًا: طهرت عند كل قرء وصلت فهى صادقة، وإلا فهى كاذبة، فقال على: قالون - يعنى: أصبت بالرومية
(5)
.
وجاء في موضع آخر: إن ادعى الزوج أن عدتها قد تمت، وقالت هي: لم تتم. فالزوج غير مصدق إلا ببينة، وهى مصدقة مع يمينها؛ لأنها مدعى عليها
(6)
.
مذهب الزيدية
أولًا: إنكار الطلاق
جاء في (التاج المذهب): أن القول للزوج في وقوع الطلاق "حالًا"؛ إذ له الإنشاء، وألا يكن في الحال بل فيما رضى "فالقول للمنكر خلاف الأصل"، من ادعى الطلاق تبين به وإلّا حلف الآخر، وكذا لو اتفقا على أن الطلاق قد وقع واختلفا في كيفيته فقال أحدهما: إن الطلاق رجعى، والآخر: بائن، فالقول لمنكر البائن إذا ادعته الزوجة ثلاثًا؛ إذ الأصل عدمه. والبينة على
(1)
المحلى: 8/ 451.
(2)
السابق: 272، بتصرف.
(3)
انظر مسألة إنكار الطلاق.
(4)
سورة مريم: الآية: 64.
(5)
المحلى: 10/ 57.
(6)
السابق: 10/ 61.
مدعيه غالبًا، ولو أنكر الدخول قبل الطلاق، وادعت أنه قد دخل ليكمل المهر، كان القول قوله أيضًا. فإن أنكرت الدخول قبل الطلاق وادعى أنه قد دخل لتثبيت الرجعة كان القول قولها. ولتمتنع المرأة من الزوج، ولا يجوز لها تمكينه من نفسها إذا ادعت أنه طلقها طلاقًا بائنًا فأنكر الزوج ذلك، فالقول قوله لكن لا تمتنع من الزوج إلّا مع القطع بالتحريم.
ومن أقر بالطلاق البائن أو الرضاع ثم رجع من إقراره فمع مناكرتها له في رجوعه لا حكم لرجوعه، أما لو أقيمت عليه الشهادة حسبة بإقراره بذلك وأنكر هو والزوجة فإنهما يمنعان بعد الحكم بالشهادة؛ لأنه يؤدى إلى تكذيب الشهود.
وإذا اختلفا في وقوع الطلاق وعدده فقال أحدهما: قد وقع، كان القول لمنكر وقوعه في وقت مضى، نحو أن تقول: طلقتنى بالأمس، فأنكر الزوج، فالقول قوله، أو هو يقول: كنت طلقتك بالأمس، وأنكرت فالقول لها. قال في (الغيث): بالنظر إلى الحقوق الواجبة عليه، فأما بالنظر إلى حل الوطء فلا؛ لأن إقرار الزوج في حكم الطلاق، وفائدة دعواه ذلك لو وضعت في آخر أمس، سقطت عنه النفقة؛ لأنها انقضت عدتها بالوضع، وكذا القول لمنكر وقوع الطلاق في الحال التي بها التخاصم إن كان المنكر لوقوعه هو الزوج نحو أن تقول المرأة: طلقنى الآن، فينكر الزوج، فإن القول قوله، فأما لو كانت هي المنكرة لتطليقها في الحال لم يكن القول قولها؛ لأن إقراره في الحال طلاق ظاهرًا وباطنًا فكان القول قوله
(1)
.
ثانيًا: إنكار الخُلع
جاء في (التاج المذهب): إن قالت: خالعتك مكرهة فوجهان: أولهما أن القول لها إذ الأصل براءة الذمة. وثانيهما أن القول للزوج إذ الأصل عدم الإكراه، فإن اختلف في قدر عوض الخُلع أو جنسه أو نوعه أو عينه ففى الشرط البينة عليها، وفى العقد القول قولها مع يمينها؛ لأنها قد طلقت بالقبول والأصل براءة الذمة
(2)
.
ثالثًا: إنكار الرجعة والعدة
جاء في (التاج المذهب): إذا اختلف في حصول الرجعة وعدمها، فالقول لمنكر الرجعة منهما؛ إذ الأصل عدمها، فإن ادعت هي الرجعة فالقول للزوج والبينة عليها، أو يمينه على القطع؛ إذ هي على فعله. وإن ادعى الزوج الرجعة وأنكرت الزوجة فليها اليمين، وتكون على العلم؛ لأنها على فعل غيرها، فتحلف ما تعلم ولا تظن أنه قد راجعها، وهذا إذا وقع التناكر في حصول الرجعة بعد التصادق بينهما على انقضاء العدة، ولا فرق بين أن يكون المنكر الزوج أو الزوجة، فالبينة على مدعيها؛ لأن الأصل عدمها، لا إذا اختلفا في وقوع الرجعة قبل أن يتفقا على انقضاء العدة بل قال: قد راجعتك، فقالت: إن العدة قد انقضت، فحيث العدة بالأشهر أو الولادة فالبينة عليها بعدلين في الأشهر وعدلة في الولادة، ولا يمين عليها؛ لأن بينتها محققة فلا تؤكد باليمين، وإن كانت العدة بالحيض فلمن سبق بإنشاء الدعوى منهما سواء كان عند الحاكم أو في ذات بينهما، فإن سبق هو فالقول له في
(1)
التاج المذهب: 3/ 236 - 238.
(2)
المرجع السابق: 2/ 1901.
عدم انقضاء العدة، وإن سبقت هي بدعوى انقضائها فالقول لها، وهذا حيث يكون التداعى في المدة الممكنة المعتادة لانقضاء العدة في مثلها كثلاثة أشهر، فالقول قول من سبق، فإن اتفق كلاهما في حالة واحدة أو التبس فالقول قولها في الانقضاء؛ لأنها مخبرة عن أمر ماض. فإن علم تقدم أحدهما ثم التبس، فالأصل عدم انقضاء العدة وثبوت الرجعة
(1)
.
وإذا أنكرت صحة الرجعة بعد مضى العدة ثم أقرت بصحتها لم يصح إقرارها سواء كان بعد تصديق الزوج لها على عدم صحتها أو قبل تصديقها؛ لأنه رجوع عن الإقرار منها بالبينونة، ولا يصح الرجوع عن الإقرار بذلك. وإذا اختلفا في مضى العدة وعدم المضى فالقول لمنكر مضيها، وسواء كانت العدة بالشهور أم بالولادة أم بالأقراء في مدة غير معتادة وغير ممكنة غالبًا، فإن كان الزوج هو المدعى لانقضاء العدة لتسقط نفقتها وهى منكرة لانقضائها حلفت في دعوى الزوج انقضاء ذلك الحيض الآخر وهو الثالث كل يوم مرة من بعد الثلاث إلى تمام العشر، فإن تعلقت دعوى الزوج بانقضاء جملة العدة وأنكرت، وجب عليها في إنكارها جملة العدة أن يحلف مرة، وبعد أن تحلف المرة الأولى يتركها من التحليف ويحلفها بعد كل شهر مرة، أو في كل تسعة وعشرين مرة ما دامت منكرة.
وإذا ادَّعى الزوج انقضاء العدة لأشهر لكونها ضهباء
(2)
؛ وأنها لم تحض أصلًا وقالت الزوجة: بل العدة باقية وأنا من ذوات الحيض، وإنما انقطع الحيض لعارض؛ ومرادها أنها تتربص إلى الستين سنة، فإن القول للزوج؛ لأنه منكر للحيض من الأصل، والأصل عدمه، والبينة عليها أنها كانت من ذوات الحيض، وتصدق مع يمينها ما لم يغلب في الظن كذبها
(3)
.
(1)
التاج المذهب: 2/ 241 - 242.
(2)
قال في (ترتيب القاموس): الضهباء، المرأة التي لا تحيض ولا تحمل.
(3)
التاج المذهب: 2/ 198.
مذهب الإمامية:
أولًا: إنكار الطلاق
جاء في (شرائع الإسلام): إذا طلق الحامل رجعية، فادعت أن الطلاق بعد الوضع وأنكر، فالقول قولها مع يمينها، ويحكم عليه بالبينونة تديينًا له بإقراره، ولها النفقة استصحابًا لدوام الزوجية
(1)
.
وجاء في موضع آخر: إذا ادعت المطلقة أن الميت طلقها في المرض، وأنكر الوارث، وزعم أن الطلاق في الصحة، فالقول قوله؛ لتساوى الاحتمالين، وكون الأصل عدم الإرث، إلا مع تحقق السبب
(2)
.
وفى موضع آخر قال: تصح المراجعة نطقًا، كقوله: راجعتك، وفعلا كالوطء، ولو قبل أو لامس بشهوة كان ذلك رجعة، ولم يفتقر استباحته إلى تقدم الرجعة؛ لأنها زوجته، ولو أنكر الطلاق كان ذلك رجعة؛ لأنه يتضمن التمسك بالزوجية، ولا يجب الإشهاد في الرجعة بل يستحب
(3)
.
وقال أيضًا: ولو قال: أنت طالق غير طالق، فإن نوى الرجعة صح؛ لأن إنكار الطلاق رجعة، وإن أراد النقض حكم بالطلقة
(4)
.
ثانيًا: إنكار الخلع
جاء في (الروضة البهية): لو قال خلعتك على ألف في ذمتك؛ فقالت: بل في ذمة زيد، حلفت على الأقوى؛ لأنه مدع وهى منكرة لثبوت شئ في ذمتها فكانت اليمين عليها، وقال ابن البراج: عليه اليمين؛ لأن الأصل في مال الخلع أن يكون في ذمتها فإذا ادعت كونه في ذمة غيرها لم تسمع؛ لأصالة عدم انتقالها عن ذمتها، وعلى الأول لا عوض عليها، ولا على زيد، إلا باعترافه، وتبين منه بمقتضى دعواه، ومثله ما لو قال: بل خالعك فلان والعوض عليه؛ لرجوعه إلى إنكارها الخلع من قبلها، أما لو قال: خالعتك على ألف ضمنها فلان عنى، أو دفعتها، أو أبرأتنى، ونحو ذلك فعليها المال مع عدم البينة
(5)
.
ثالثًا: إنكار الرجعة والعدة
جاء في (شرائع الإسلام): أنه لو كان عنده ذمية فطلقها رجعيًا ثم راجعها في العدة، قيل: لا يجوز؛ لأن الرجعة كالعقد المستأنف، والوجه الجواز؛ لأنها لم تخرج عن زوجيته، فهى كالمستدامة، ولو طلق وراجع فأنكرت الدخول بها أولًا وزعمت أنه لا عدة عليها ولا رجعة، وادعى هو الدخول كان القول قولها مع يمينها؛ لأنها تدعى الظاهر، ورجعة الأخرس بالإشارة الدالة على المراجعة، وإذا ادعت انقضاء المدة بالحيض في زمان محتمل فأنكر فالقول قولها مع يمينها، ولو ادعت انقضاءها بالأشهر لم يقبل، وكان القول قول الزوج؛ لأنه اختلاف في زمان إيقاع الطلاق، وكذا لو ادعى الزوج فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاء الزوجية أولا ولو كانت حاملًا فادعت الوضع قبل قولها ولم تكلف إحضار الولد، ولو ادعت الحمل فأنكر الزوج، وأحضرت ولدًا
(1)
شرائع الإسلام: 3/ 351.
(2)
السابق: 3/ 28.
(3)
السابق: 3/ 30.
(4)
السابق: 3/ 30.
(5)
الروضة البهية: 2/ 168.
فأنكر ولادتها له فالقول قوله لإمكان إقامة البينة بالولادة، وإذا ادعت انقضاء العدة فادعى الرجعة قبل ذلك، فالقول قول المرأة، ولو راجعها فادعت بعد الرجعة انقضاء العدة قبل الرجعة فالقول قول الزوج؛ إذ الأصل صحة الرجعة
(1)
.
مذهب الإباضية:
أولًا: الإنكار في الطلاق والخلع
جاء في (شرح النيل): أن من ادعى أن زوجته كانت في عدة طلاقه الرجعى أو إيلائه أو ظهاره، أو مات فادعت هي ذلك، وقال الوارث: الموت بعد العدة، أو قال الحى: لا أعلمها انقضت، فالقول قوله مع يمينه إلا إن بين الوارث، وإن ماتت معتدة بالأقراء ورثها ولو مضت سنة ما لم تقم بينة أنها أقرت بانقضائها، وإن ادعت اشتراط أمرها بيدها معلقًا لمعلوم فأنكر فعليها البينة، وإن رد الأمر بيدها في موضع أو وقت فادعت أنها طلقت نفسها فأنكر أن يكون قد طلقت في الموضع أو في الوقت فالقول قوله. وقيل: القول قولها، وإن اختلفا في المكان قبل أن يقوم منه أو في الوقت قبل أن ينقضى أنها طلقت فيه، فالقول قولها، وإن قال لها: طلقت نفسك واحدة، وقالت: ثلاثًا، فالقول قوله، وإن قالت: رددت الأمر إليَّ على ثلاث، وقال: على واحدة أو اثنتين، أو قال: أنا بواحدة أو اثنتين؛ وقالت: بثلاث، أو قالت: حنثت بطلاقى أو ادعت التحريم فيما بينهما أو أنه تزوجها بغير شهود أو بنكاح فاسد فكذبها فالقول قوله وعليها البينة، وإن ادعى عليها الزوج أنه فأداها فأنكرته المرأة فإن عليه البينة على تبرئته من الصداق، وإن لم تكن له بينة، فيلغرم صداقها ووقع عليه طلاق بائن.
ومن ادعى فداءً من زوجته أو طلاقًا بائنًا أو ثلاثًا أو ظهارًا فائتًا أو إيلاءً كذلك أو حرمة أو طلاقًا رجعيًا تحت عدته فأنكرت ولا بيان له أجبر على طلاقها بائنًا بأن يقول مثلًا: هي طالق ثلاثًا أو طالق طلاقًا بائنًا أو طلاقًا لا أملك رجعته أو نحو ذلك لقطع العصمة إن طلبت ذلك إلى حاكم، وإن كذَّب نفسه تركوه معها، وليس إجباره على الطلاق ظلمًا له؛ لأنه مناسب وموافق لما يدعيه من الفرقة بالفداء، وإنما أجبر لتتزوج المرأة وتنقطع الدعوة بينهما ولا يتوارثان ولا تعطل فلو تعاصى ولم يقدر عليه أو هرب فليطلقها الحاكم طلاقًا بائنًا لذلك، وإنما لم يجبره على الطلاق الرجعى الذي يملك رجعته؛ لأنه لا ينقطع الأمر به بينهما، إذ لو طلقها رجعيًا يملك رجعته، ثم كذَّب نفسه فيما ادعى من فداء أو نحوه فراجعها لم تنزع من يديه، وإنما لم يكن كلام الزوج طلاقًا إذا ادعاه مثلًا؛ لأنه إخبار عن واقع فيما يدعيه لا إنشاء للطلاق فلم تكتف به المرأة.
وإن ادَّعت خلعًا أو طلاقًا فالبيان، وإن ادعى الخلع بشئ ترده له لزمه الطلاق وبيان الإبراء من الشئ، وإن ادعت رجعيًا وتمت العدة، ورد إليها اليمين حلفت، ويجبر إن لم تتم
(2)
.
(1)
شرائع الإسلام: 2/ 60 - 61.
(2)
شرح النيل: 3/ 266 - 267.
ثانيًا: إنكار الرجعة
جاء في (شرح النيل): مَنْ ادَّعى المراجعة فعليه البيان ولا يمين، ومَن ادّعى موت الشاهدين أو غيبتهما بانت منه ولا يمين، وإن أنكرت إعلامًا بالمراجعة قبل انقضاء العدة وادعى أنه أعلمها قبله فليبين وإلا حلفت وبانت، وإن ردت إليه اليمين حلف إن شاء وكانت امرأته بالمراجعة، وقيل: لا يمين في ذلك، وقيل: إن أعلمها أو شاهد قبله ثبت عليها وأتى بشاهدين أو بالثانى، وإن ادعت إليه طلاقًا بائنًا أو ثلاثًا أو حرمة أو نحو ذلك مما يقطع العصمة فأنكر، ولا بيان لها فحلفته أو لم تحلفه ثم طلبته بحقوقها كنفقة وكسوة وصداقها حكم بينهما وأنصف لها على أنها زوجة، ولا يمتنع الحاكم من ذلك بسبب دعواها؛ لأنها لم تجئ عليها ببيان فطلبها حق الزوجة إبطال لدعواها وإذعان لحق الزوجية
(1)
.
ثالثًا: الإنكار في العدة
جاء في (شرح النيل): ومن ادعى على زوجته أنها ماتت في عدة طلاقه الرجعى أو إيلائه أو ظهاره، أو مات فادعت ذلك، وقال الوارث: الموت بعد العدة، أو قال الحى: لا أعلمها انقضت، فالقول قوله مع يمينه، إلا إن بين الوارث
(2)
.
(1)
شرح النيل: 3/ 268 - 269.
(2)
السابق: 6/ 423.
إنكار الحمل والولادة والنسب وما يترتب على ذلك
مذهب الحنفية:
أولًا: الإنكار في الحمل والولادة:
جاء في (بدائع الصنائع): قالوا: لو قال لزوجته إذا ولدتِ فأنتِ طالقٌ، فقالت: ولدتُ. وأنكر الزوج الولادة، فشهدت قابلة على الولادة، فإنه يثبت النسب بالإجماع.
وإن كانت المرأة معتدة من طلاق بائن أو من وفاة فجاءت بولد إلى سنتين فأنكر الزوج الولادة أو أنكرها ورثته بعد وفاته، وادعت هي. فإن لم يكن الزوج أقر بالحبل ولا كان الحبل ظاهرًا فلا يثبت النسب إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين على الولادة في قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى، وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يثبت النسب بشهادة القابلة.
ولو مات الزوج وأتت امرأته بولد بعد وفاته ما بين الوفاة وبين سنتين، ولم يشهد على الولادة أحد لا القابلةُ ولا غيرها، ولكن صدقها الورثة في أنها ولدته، قال محمد: يثبت نسبه بقولهم. وفى موضع آخر: أن نسب الولد يثبت إن كان ورثته ابنين أو ابنًا وبنتين، ومن المشايخ من اعتبر التصديق شهادة، ومنهم من اعتبره إقرارًا.
وإذا صدقها بعض الورثة وجحد البعض فإن صدقها رجلان منهم أو رجل وامرأتان فإن الولد يشارك المقرين والمنكرين جميعًا في الميراث؛ لأن الشهادة حجة مطلقة فكانت حجة على الكل، فيظهر نسبه في حق الكل، ومن اعتبره إقرارًا قال: يثبت نسبه إذا صدقها جميع الورثة، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا.
فإذا صدقها بعض الورثة وجحد الباقون يثبت نسبه في حقهم ويشاركهم في تصديقهم من الميراث، ولا يثبت في حق غيرهم؛ لأن إقرارهم حجة في حقهم لا في حق غيرهم، وإذا لم يصدقها أحد من الورثة فالحكم على الاختلاف والتفصيل الذي ذكر في الحالتين عند أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد.
ولو ادعت امرأة أنها ولدت هذا الولد لستة أشهر، فإن صدقها الزوج فقد ثبتت ولادتها سواء كانت منكوحة أو معتدة، وإن كذبها تثبت ولادتها بشهادة امرأة واحدة ثقة، ويثبت نسبه منه حتى لو نفاه بلعان؛ لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة في الولادة فدل على جواز شهادتها في الولادة من غير اعتبار العدد، ولأن الأصل فيما يقبل قول النساء بانفرادهن أنه لا يشترط فيه العدد
(1)
.
وجاء في (المبسوط): إذا نفى الرجل حبل امرأته فقال: هو من زنا فلا لعان بينهما ولا حد قبل الوضع في قول علمائنا؛ وحجتنا: ما قال في الكتاب أن نفى الحبل ليس بشئ؛ لأنه لا يدرى لعله ريح
(2)
.
ثانيًا: إنكار نسب الولد من الزوجة وما يترتب عليه:
جاء في (المبسوط): أن إنكار الولد من الزوجة يعتبر قذفًا لها بالزنا، ويترتب عليه اللعان أو الحد، وقطع النسب أو إثباته.
(1)
بدائع الصنائع: 3/ 216 - 217.
(2)
المبسوط: 7 - 44.
يرى الأحناف أنه إذا نفى الرجل حبل امرأته فقال: هو من زنا؛ فلا لعان بينهما، ولا حد قبل الوضع؛ لأن نفى الحبل ليس بشئ؛ لأنه لا يدرى لعله ريح، واللعان في قذف الزوج زوجته بمنزلة الحد في قذف الأجنبية، فلا يجوز إقامته مع الشبهة، ثم عند أبى حنيفة: إذا جاءت بالولد يثبت نسبه من الزوج، ولا يجرى اللعان بينهما بذلك النفى.
وعند أبى يوسف ومحمد - رحمهما الله - إذا جاء بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ نفى فكذلك، وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر لاعن ولزم الولد أمه؛ لأنا تيقنا أن الحبل كان موجودًا حين نفاه عن نفسه، فكان هذا ونفيه بعد الولادة سواء
(1)
.
وإذا ولدت المرأة ولدين في بطن واحد، فأقر بالأول ونفى الثاني، لزمه الولدان ويلاعنها. فإن نفى الأول وأقر الثاني لزماه ويحد؛ لأن إقراره بنسب أحدهما إقرار بنسبهما، فإنهما توأم لا ينفصل أحدهما عن الآخر في حكم النسب لعلمنا أنهما خلقا من ماء واحد.
فإذا أقر بالأول كان هذا كإقراره بهما، ثم في نفى الثاني هو قاذف لها بالزنا فيلاعنها.
وإن نفى الأول فقد صار قاذقًا لها بالزنا وحين أقر بالثانى فقد أكذب نفسه فيلزمه الحد، ونسب الولدين ثابت منه؛ لأن إقراره بأحدهما كإقراره بهما.
وإن نفاهما ثم مات أحدهما قبل اللعان فإنه يلاعن علي الحى منها وهما ولداه؛ لأن الذي مات قد لزمه نسبه، ولكن لا يمتنع جريان اللعان بينهما؛ لأنه قدفها بالزنا، وليس من ضرورة اللعان قطع النسب، والنسب إنما لزمه حكمًا فلا يكون ذلك بمنزلة إكذابه نفسه في منع جريان اللعان بينهما.
وكذلك لو كانت ولدت أحدهما ميتًا فنفاهما؛ لأن المولود ميتًا ثابت النسب منه، حتى لو وضرب إنسان بطنها للزمته لغة، وكان للوالد منه الميراث، وإذا لزمه نسب أحدهما لزمه نسبهما.
وإن ولدت ولدًا فنفاه ولاعن به، ثم ولدت من الغد ولدًا آخر لزمه الولدان جميعًا واللعان ماضٍ؛ لأن نسب الذي كان في البطن لم يثبت فيه حكم الحاكم؛ لما فيه من إلزام الحكم على الحمل وذلك ممتنع، ولا يجوز أن يتوقف على الانفصال، فإذا انفصل كان ثابت النسب منه، وهما توأم؛ إذ ليس فيهما مدة حبل تام، ومن ضرورة ثبوت نسب أحدهما ثبوت نسب الآخر، ولأن اعتبار جانب الذي كان منفصلًا وقت اللعان يوجبه نفى النسب، واعتبار جانب الآخر يثبت النسب، وإنما يحتاط لإثبات النسب لا لنفيه.
فإن قال: هما ابناى كان صادقًا ولا حد عليه؛ لأن نسبهما منه يثبت شرعًا، فهو بهذا اللفظ يخبر عما يلزمه شرعًا فلا يكون إكذابًا لنفسه.
وإن قال: ليسا بابنى، كانا ابنيه؛ لأن نسبهما لزمه حكمًا فلا يملك نفيه ولا حد عليه.
ولو قال: كذبتُ في اللعان وفيما قذفتُها به كان عليه الحد؛ لأنه صرح بإكذابه نفسه، وذلك يوجب الحدَّ عليه
(2)
.
(1)
المبسوط: 7/ 44 وما بعدها.
(2)
السابق: 7/ 46 وما بعدها.
وإذا ولدت المرأة ولدًا ثم نفى الولد بعد سنة لاعنها ولم ينتف الولد، قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه ولم يكن وقّت فيه وقتًا: إنما أستحسن إذا نفاه حين يولد أو بعد ذلك بيوم أو يومين أو نحو ذلك أن ينتفى باللعان، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: الوقت فيه أيام النفاس أربعون يومًا.
وفى رواية الحسن بن زياد عن أبى حنيفة: سبعة أيام في هذه المدة يستعد للعقيقة، وإنما تكون العقيقة بعد سبعة أيام. ولكن هذا ضعيف فإن نصب المقدار بالرأى لا يكون، ولو كان الزوج غائبًا حين ولدته فحضر بعد مدة يجعل حقه في حكم النفى كأنها ولدته الآن.
وروى عن أبى يوسف - رحمه الله تعالى - أنه قال: إن حضر قبل الفصال فله أن ينفيه إلى أربعين ليلة، ولو حضر بعد الفصال فليس له أن ينفيه؛ لأنه يقضى بنفقته عليه في ماله الذي خلفه، ولو كان له أن ينفيه بعد الفصال لكان له أن ينفيه بعدما صار شيخًا، وهذا قبيح.
هذا كله إن لم يقبل التهنئة، فأما إذا هُنِّئ فسكت فليس له أن ينفيه بعد ذلك؛ لأن في سكوته عند التهنئة بمنزلة قبوله التهنئة، وذلك بمنزلة الإقرار بنسبه
(1)
.
ثالثًا: إنكار نسب الوارث وما يترتب عليه:
جاء في (بدائع الصنائع): أن ابن الميت لو أقر بابن ابن للميت وصدقه، لكنه أنكر أن يكون المُقِرُ ابنَه، فالقول قول المقِر والمالُ بينهما نصفان استحسانًا.
والقياس: أن يكون القولُ قولَ المقر له، والمال كله له ما لم يقم المقر البينة على النسب.
ووجه القياس: أنهما تصادقا على إثبات وراثة المقر له واختلفا في وراثة المقر فيثبت المتفق عليه، ويقف المختلف فيه على قيام الدليل.
ووجه الاستحسان: أن المقر له استفاد الميراث من جهة المقر، فلو بطل إقراره لبطلت وراثته، وفى بطلان وراثته بطلان وراثة المقر له. وكذلك لو أقر بابنة للميت وصدقته لكنها أنكرت أن يكون المُقِر ابنَه فالقولُ قولُ المقرِ استحسانًا. وعند الإمام أبى حنيفة ومحمد وزفر - رحمهم الله تعالى -: لو أقرت امرأة بأخٍ للزوج الميت وصدقها الأخ، ولكنه أنكر أن تكون هي امرأة الميت فالقول قول المقر له وهو القياس، وعلى المرأة إثبات الزوجية بالبينة، وعند أبى يوسف - رحمه الله تعالى - القول قول المرأة، والمال بينهما على قدر مواريثهما.
ولو أقر زوج المرأة الميتة بأخ لها، وصدقه الأخ لكنه أنكر أن يكون هو زوجها فهو على الاختلاف.
ولو ترك ابنين فأقر أحدهما بأخ ثالث، فإن صدقه الأخ المعروف في ذلك شاركهما في الميراث كما إذا أقرا جميعًا.
وإن كذبه فيه فعند عامة العلماء يقسم المال بين الأخوين المعروفين أولًا نصفين فيدفع النصف إلى الأخ المنكر، وأما النصف الآخر فيقسم بين الأخ المقر وبين المقر له نصفين.
أما عند ابن أبي ليلى: يقسم أثلاثًا ثلثاه للمقر وثلثه للمقر له.
(1)
المبسوط: 7/ 51 وما بعدها.
ولو أقر أحدهما بأخت فإن صدَّقه الآخر فالأمر ظاهر، وإن كذَّبه فيقسم المال أولًا نصفين بين الأخوين النصف للأخ المنكر، ثم يقسم النصف الباقى بين الأخ المقر وأخته للذكر مثل حظ الأنثيين.
ولو أقر أحدهما لامرأة أنها زوجة أبينا، فإن صدَّقه الآخرُ فالأمر واضحٌ للمرأة الثمن والباقى بينهما لكل واحد منهما سبعه، وتصحح المسألة.
وإن كذَّبه فعند عامة العلماء - رضى الله تعالى عنهم - لها تسع ما في يده، وعند ابن أبي ليلى - رحمه الله تعالى - لها ثمن ما في يده
(1)
.
هذا إذا أقر الوارث بوارث واحد، فأما إذا أقر بوارث بعد وارث بأن أقر بوارث ثم أقر بوارث آخر، فالأصل في هذا الإقرار أنه إن صُدِّقَ المقر بوراثة الأول في إقراره بالوراثة للثانى فالمال بينهم على فرائض الله تعالى، وإن كذبه فيه فإن كان المقر دفع نصيب الأول إليه بقضاء القاضي لا يضمن، ويُجعل ذلك كالهالك، ويقسمان على ما في يد المقر على قدر حقهما، وإن كان الدفعُ بغير قضاء القاضي يضمن، ويجعل المدفوعُ كالقائم في يده فُيعطى الثاني حقه من كل المال
(2)
.
مذهب المالكية:
أولًا: الإنكار في الحمل والولادة:
جاء في (حاشية الدسوقى): إذا كان يطأ زوجته ويعزل عنها ثم ظهر بها حمل، أو كان يطؤها ولا يعزل أنها ولدت ولدًا ولا يشبه أباه فليس للزوج أن يقول: ما هذا الحمل منى. وينفيه بلعان معتمدًا في نفيه ولعانه على العزل؛ لأن الماء قد يسبقه أو يخرج، وهو لا يشعر به أو يقول: ما هذا الولد منى. وينفيه بلعان معتمدًا في نفيه ولعانه على عدم المشابهة؛ لأن الشارع لم يعول عليها، وحينئذ فالولد لاحقٌ به في هذه المسائل، ولا عبرة بلعانه إن لاعن ولا حد عليه لعذره
(3)
.
ثانيًا: إنكار نسب الولد من الزوجة وما يترتب عليه:
جاء في (شرح الخرشى): أن من رمى زوجته بنفى حمل ظاهر بشهادة امرأتين من غير تأخير للوضع فإنه لابد من اللعان، وإن نكل حُدَّ لقذفه، وإن مات الولد الذي رماها به أو الحمل الذي رماها به، وفائدة اللعان حينئذ سقوط الحد عنه.
ويكفى لعان واحد وإن تعدد الوضع، كما لو وضعت أكثر من واحد في بطون وكان الأب غائبًا فلما قدم وعلم بذلك نفى الجميع؛ لأنه حينئذ بمنزلة من قذف زوجته بالزنا مرارًا متعددة، وكذلك يكفى لعان واحد وإن تعدد التوأم كما إذا ولدت توأمين في بطن؛ لأنهما في حكم الولد الواحد، وإنما ينتفى الحمل في جميع هذه الصور بلعان معجل بلا تأخير ولو كان الزوج والزوجة مريضين أو أحدهما مريضًا إلا الحائض والنفساء فيؤخران.
ولا ينتفى الحمل إلا بلعان من الزوج فقط ولو تصادقا على نفيه إلا أن تأتى به لدون ستة أشهر
(1)
بدائع الصنائع: 2/ 461، وما بعدها.
(2)
السابق: 7/ 231 - 232.
(3)
حاشية الدسوقى: 2/ 461، بتصرف.
من يوم العقد بشئ له بال كخمسة أيام، فإنه ينتفى حينئذ بغير لعان لقيام المانع الشرعى على نفيه، وكذلك الولد بغير لعان إذا كان الزوج حين الحمل صبيًا أو مجنونًا؛ لقيام المانع العقلى على نفيه، وظاهرُه سواء وطئ المجنون أم لا، أنزل أم لا، كذلك ينتفى الولد عنه بغير لعان إذا عقد مشرقى على مغربية وتولى العقد بينهما في ذلك وليهما وعلم بقاء كل منهما في محله إلى أن ظهر الحمل لقيام المانع العادى على نفيه
(1)
.
وجاء في (مواهب الجليل): أن من كان يطأ زوجته ويعزل عنها، ثم ظهر بها حمل، أو كان يطؤها ولا يعزل إلا أنها ولدت ولدًا لا يشبه أباه فليس للزوج أن يقول: ما هذا الحمل منى. معتمدًا في نفيه ولعانه على العزل؛ لأن الماء قد يسبقه أو يخرج منه وهو لا يشعر، أو يقول: ما هذا ولدى. معتمدًا في نفيه على عدم المشابهة؛ لأن الشارع لم يعول عليها في هذا الباب، بخلاف باب القافة، وكذلك إذا كان الزوج يطأ زوجته بين فخذيها وينزل مع ذلك، ثم إنها أتت بولد فليس له أن ينفيه ويلاعن فيه معتمدًا في ذلك على الوطء بين الفخذين؛ لأن الماء قد يسبق فيدخل الفرج فتحمل منه
(2)
.
ثالثًا: إنكار نسب الوارث وما يترتب عليه:
إن أقر عدل بآخر يُحلَّف المقر به معه أي مع إقرار المقِر ويرث ولا نسب، أي لا يثبت بذلك نسب، فإذا أقر وارثٌ عدلٌ كأخٍ بأخٍ ثالثٍ وأنكره الأخُ الثاني حلف المقر به وورث، أي أخذ ثلثًا من غير أن يثبت نسبه، فله أن يتزوج بأم الميت وبنته وأخته كما للباجى والطرطوشى وابن شاس وابن الحاجب والذخيرة، إلا أنه ضعيف كما في التوضيح، المعتمد أنه ليس للمقر به إلا ما نقصه المقر بسبب إقراره، كان المقر عدلًا أو غير عدل، ولا يمين على المقرّ به مطلقًا، وإن لم يكن المقر عدلًا فحصة المقر غير العدل كأنها هي المال المتروك، فإذا كانا ولدين أقر أحدهما بثالث فحصة المقر هي النصف بين ثلاثة للمقر بها ثلثها وهى سدس جميع المال والسدس الآخر ظلمه به المنكر، والمذهب أن للمقر به مما نقصه الإقرار من حصة المقر سواء كان عدلًا أو غير عدل ولا يمين، وإن أقر بمن يحجبه كإقرار أخ بابن أخذ جميع المال الذي كان يأخذه المقر، فلو كان للميت أخوان أقر أحدهما بابن وأنكره الآخر أخذ الابن المقر به نصف المال. وأخذ الأخ المنكر نصفه
(3)
.
وإذا أقر أحد الورثة بديْن على مورثهم وأنكره الباقون، أخذ من نصيب المقر بقدره عند ابن القاسم، فإذا كان نصيبه نصف التركة أخذ منه نصف الدين المقر به، وإن كان نصيبه ثلث التركة أخذ منه ثلث الدين وهكذا، ويكون هذا الوارث المقر شاهدًا بالدين بالنسبة للمنكر فيحلف معه المقر له ويأخذ من المنكر ما يخصه.
وقال أشهب: يؤخذ جميع نصيب المقر في
(1)
شرح الخرشى: 4/ 125 - 127.
(2)
مواهب الجليل: 4/ 138.
(3)
حاشية الدسوقى: 3/ 413 - 415.
الدين. إن كان بعضه لا يفى به؛ لأنه لا إرث إلا بعد وفاء الدين. ولو قال ابن الميت مثلًا لأحد شخصين معينين: هذا أخى ثم قال: بل هذا أخى فللأول نصف إرث أبيه أي له نصف التركة لاعترافه له بذلك، وإضرابه عنه لا يسقط ذلك، وللثانى نصف ما بقى وهو الثمن، سواء أقر للثانى بعد الأول بتراخ وبفور واحد، وإن ترك ميتٌ أمًا وأخًا فأقرت الأم بأخ آخر منها أو من غيرها وأنكره الأخ الثابت فله (أي للمقر به) منها السدس لحجبها بهما من الثلث إلى السدس، وليس للأخ الثابت منه شئ، ولو كان شقيقًا، والمقر به للأب؛ لأنه إنما يأخذه بالإقرار لا بالنسب، والأخ الثابت منكر فلا يستحق منه شيئًا، وفيه بحث؛ إذ لا وجه لاستحقاق الأخ للأب له، بل الوجه أن يوقف حتى يظهر الحال بإقرار الشقيق أو ببينة، فإن لم يظهر فلبيت المال، فلو تعدد الأخ الثابت لم يكن للمقر به شئ.
وإن استلحق رجلٌ ولدًا ولحق به شرعًا ثم أنكره ثم مات الولد بعد الإنكار فلا يرثه أبوه المنكر؛ لأنه نفاه ووُقف مالُه، فإن مات الأب فلورثته؛ لأن إنكارَه لا يقطع حقهم، وقُضى به دين الأب إن كان، وإن قام غرماء الأب وهو حى أخذوه في دَينهم ووُقف الباقى إن كان، فلو مات الأب أولًا ورثه الولد ولا يضره الإنكار
(1)
.
ومن استلحق ولدًا ثم أنكره ثم مات الولد فلا يرثه وُوُقِفِ ماله، وقال ابن رشد: وفى قوله: "ووقف" نظر، والواجب أن يكون جميع ميراثه لجماعة المسلمين؛ لأنه مقر أن هذا المال لهم لا حق له معهم فيه، وهم لا يكذبونه؛ فلا معنى لتوقيفه؛ إذ لا يصح أن يقبل رجوعه فيه بعد موته برجوعه إلى استلحاق ابنه؛ لأنه قد ثبت لجماعة المسلمين ثبوته على إنكاره إلى أن مات، فإن مات الأب المستلحِق قبل الابن ورثه الابن بالإقرار الأول، والاستلحاق الذي سبق، ولا يسقط نسبه بإنكاره بعد استلحاقه، ثم إن مات الابن بعد ذلك ورثه عصبته من قبل أبيه المستلحق له، وقال في المقنع: وإن استلحق الرجلُ رجلًا لحق به نسبًا أولادُ المستلحِق، ومن نفى ولده ثم استلحقه ثبت نسبُه منه
(2)
.
مذهب الشافعية:
أولا: الإنكار في الحمل والولادة:
جاء في (الأم): لو أن رجلًا رأى امرأته حبلى فلم يقل في حبلها شيئًا، ثم ولدت فنفاه فيسأل هل أقررت بحبلها؟ فإن قال: لا، أو قال: كنت لا أدرى لعله ليس بحمل. لاعن ونفاه إن شاء، وإن قال: بلى أقررت بحملها وقلت: لعله يموت فأستر عليها وعلى نفسى. لزمه ولم يكن له نفيه
(3)
.
ثانيًا: إنكار نسب الولد من الزوجة وما يترتب عليه:
جاء في مغنى المحتاج: إذا اسْتَلْحقَ مجهولَ النسب وله زوجة فأنكرته زوجته لحقه عملًا بإقراره دونها؛ لجواز كونه من وطء شبهة أو زوجة أخرى، وإن هنَّأه رجلٌ بالولد فقال: بارك
(1)
حاشية الدسوقى: 3/ 413، 415، 417
(2)
مواهب الجليل: 5/ 249.
(3)
الأم: 5/ 383، بتصرف.
الله لك فى مولودك وجعله الله لك خَلَفًا مباركا وأمن على دعائه، أو قال: استجاب الله دعاءك، سقط حقه من النفى؛ لأن ذلك يتضمن الإقرار به، وإن قال: أحسن الله جزاءك أو بارك الله عليك أو رزقك الله مثله لم يسقط حقه من النفى؛ لأنه يحتمل أنه قال له ذلك ليقابل التحية بالتحية
(1)
.
ثالثًا: إنكار نسب الوارث وما يترتب عليه:
جاء في (المهذب): إن أقر رجل على نفسه بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه فإن كان المقر به صغيرًا أو مجنونًا ثبت نسبُه؛ لأنه أقر له بحق فثبت كما لو أقر له بمال فإن بلغ الصبى أو أفاق المجنونُ وأنكر النسبَ لم يسقط النسَبُ؛ لأنه حكم بثبوته فلم يسقط برده.
وإن مات رجل وخلف ابنًا فأقر على أبيه بنسب فإنه لا يرثه بأن كان عبدًا أو قاتلًا أو كافرًا، والأب مسلم لم يقبل إقراره؛ لأنه لا يقبل إقراره عليه بالمال، فلا يقبل إقراره عليه في النسب كالأجنبى، وإن كان يرثه فأقر عليه بنسب لو أقر به الأب لحقه، فإن كان قد نفاه الأب لم يثبت؛ لأنه يحمل عليه نسبًا حكم ببطلانه، وإن لم ينفه الأب ثبت النسب بإقراره؛ لما روت عائشة - رضى الله عنها - قالت:"اختصم سعد بن أبى وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ابن أمة زمعة - فقال سعد بن أبى وقاص: أوصانى أخى عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة وأقبضه فإنه ابنه، وقال عبد بن زمعة أخى وابن وليدة أبى، ولد على فراشه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الوالد للفراش وللعاهر الحجر"
(2)
وإن مات وله ابنان فأقر أحدهما بنسب ابن لأبيه وأنكر الآخر لم يثبت؛ لأن النسب لا يتبعض، فإذا لم يثبت في حق أحدهما لم يثبت في حق الآخر، ولا يشاركهما في الميراث؛ لأن الميراث فرع على النسب، والنسب لم يثبت فلم يثبت الإرث، وإن أقر أحد الاثنين بزوجة لأبيه وأنكر الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تشارك بحصتها من حق المقر كما لا يشارك الابن إذا اختلف الوارثان في نسبه، والثانى: أنها تشارك بحصتها من حق المقر؛ لأن المقر به حقها من الإرث.
وإن مات رجل وخلف ابنين عاقلًا ومجنونًا فأقر العاقل بنسب ابن آخر لم يثبت النسب؛ لأنه لم يوجد الإقرار من جميع الورثة، فإن مات المجنون قبل الإفاقة فإن كان له وارث غير الأخ المقر قام وارثه مقامه في الإقرار، وإن لم يكن له وارث غيره ثبت النسب؛ لأنه صار جميع الورثة، فإن خلف الميت ابنين فأقر أحدهما بنسب صغير وأنكر الآخر ثم مات المنكر فهل يثبت النسب؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يثبت نسبه؛ لأن المقر صار جميع الورثة، والثانى: أنه لا يثبت؛ لأن تكذيب شريكه يبطل الحكم بنسبه فلم يثبت النسب كما لو أنكر الأب نسبه في حياته ثم أقر به الوارث، وإن مات رجل وخلف ابنًا وارثًا فأقر بابن آخر
(1)
مغنى المحتاج: 4/ 451.
(2)
صحيح البخارى في عدة مواضع منها: كتاب البيوع، باب تفسير الشبهات كتاب الفرائض، باب الولد للفراش
…
إلخ. كتاب الحدود، باب للعاهر الحجر. وهو في صحيح مسلم، في كتاب الرضاع، باب الولد للفراش وتوقى الشبهات.
بالغ عاقل وصدَّقه المقر له ثم أقرا معًا بابن ثالث ثبت نسب الثالث، فإن قال الثالث: إن الثاني ليس بأخ لنا ففيه وجهان، أحدهما: أنه لا يسقط نسب الثاني؛ لأن الثالث ثبت نسبه بإقرار الأول والثانى، فلا يجوز أن يسقط نسب الأصل بالفرع، والثانى: أنه يسقط نسبه وهو الأظهر؛ لأن الثالث صار ابنًا فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني. وإن أقر الابن الوارث بآخرين في وقت واحد فصدق كل واحد منهما صاحبه ثبت نسبهما وميراثهما، وإن كذَّب كل واحد منهما صاحبه لم يثبت نسب واحد منهما، وإن صدق أحدهما صاحبه وكذَّبه الآخر ثبت نسب المصدق دون المكذب، وإن أقر الابن الوارث بنسب أحد التوأمين ثبت نسبهما، وإن أقر بهما وكذَّب أحدهما الآخر لم يؤثر التكذيب في سبهما؛ لأنهما لا يفترقان في النسب
(1)
.
مذهب الحنابلة:
أولًا: الإنكار في الحمل والولادة:
جاء في (المغنى): اختلف أصحابنا فيما إذا لاعن امرأته وهى حامل، ونفى حملها في لعانه، فقال الخرقى وجماعة: لا ينتفى الحمل بنفيه قبل الوضع، ولا ينتفى حتى يلاعنها بعد الوضع، وينتفى الولد فيه
(2)
.
وجاء في (كشاف القناع): إن نفى الزوج الحمل في التلاعن لم ينتف، قال في رواية الجماعة: لعله يكون ريحًا، فإذا وضعته عاد اللعان لنفيه؛ لأنه قد تحقق وجوده
(3)
.
ثانيًا: إنكار نسب الولد من الزوجة وما يترتب عليه:
جاء في (كشاف القناع): أن الرجل إن قال لامرأته التي في حِبَالِةِ: لم تزن ولكن ليس هذا الولد منى، أو قال لها: لم أقِذفْك ولكن ليس هذا الولد منى، فهو ولده في الحكم؛ لأن الولد للفراش، وهى فراشه ولا حد عليه؛ لأنه لم يقذفها بالزنا، وإن قال: ليس هذا الولد منى لامرأته بعد أن أبانها أو قاله لسريته فشهدت ببينة، وتكفى أنها امرأة مُرضية أنه ولد على فراشه لحق نسبه؛ إذ الولد للفراش.
وإن قال عن ولد بيدها: ما ولدته وإنما التقطته أو استعرته، فقالت: بل هو ولدى منك لم يقبل قولها عليه؛ لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها، والأصل عدمه ولا يلحقه نسبه إلا ببينة وتكفى امرأة مرضية تشهد بولادتها، فإذا ثبتت ولادتها له لحقه نسبه؛ لأنها فراشه والولد للفراش.
وإن ولدت توأمين فأقر بأحدهما ونفى الآخر أو سكت عنه فلم يقر به، ولم ينفه لحقه نسبهما حيث كان بينهما دون ستةِ أشهرٍ؛ لأنه حملٌ واحدٌ فلا يجوز أن يكون بعضُه منه وبعضُه من غيره؛ لأن النسب يحتاط لإثباته لا لنفيه، وكذلك يثبَت بمجرد الإمكان
(4)
.
وإن أتت الزوجة بولد فنفاه زوجها لاعن لنفيه ثم ولدت آخر لأقلَّ من ستِة أشهرٍ لم ينتف الثاني باللعان الأول؛ لأنه كان حملًا، ولا يصح نفيه قبل
(1)
المهذب: 2/ 351، 352.
(2)
المغنى: 7/ 423، بتصرف.
(3)
كشاف القناع: 3/ 251، بتصرف.
(4)
كشاف القناع: 3/ 246.
ولادته، ويحتاج في نفيه، إلى لعان ثان، فإن أقر الزوج بالولد الثاني أو سكت عن نفيه؛ لأنهما توأمان لكون ما بينهما أقل من ستة أشهر فهما حمل واحد، وإن أتت بالولد الثاني بعد ستة أشهر فليسا توأمين وله نفيه باللعان؛ لأنه حمل مستقر لم يقر به.
وإن استلحق الولد الثاني أو ترك نفيه لحقه نسبه ولو كانت قد بانت باللعان؛ لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول، وإن لاعنها قبل وضع الأول فأتت بولد ثم ولدت آخر بعد ستة أشهر لم يلحقه نسب الثاني؛ لأنه لا يمكن أن يكون الولدان حملًا واحدًا فعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجة وانقضاء العدة، وكونها حملت به وهى أجنبية، وإن مات الولد أو مات واحد من توأمين أو ماتا فله أن يلاعن لنفس النسب؛ لأن الميت ينسب إليه فيقال: ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه
(1)
.
فإن أقر به أو بتوأمه أو نفاه وسكت عن توأمه أو هنئ فسكت أو هنئ به فأمن على الدعاء، أو قال: أحسن الله جزاءك، أو بارك الله عليك، أو رزقك الله مثله لحقه نسبه وامتنع نفيه
(2)
.
إن وطئت امرأته بشبهة في طهر لم يصبها فيه فاعتزلها حتى أتت بولد لستة أشهر من حيث الوطء وأنكر الواطئ الوطء فالقول قوله بغير يمين؛ الآن الأصل عدمه، ويلحق نسب الولد بالزوج؛ لأن الولد للفراش
(3)
.
ثالثًا: إنكار نسب الوارث وما يترتب عليه:
إن أقر باب أو ولد أو زوج قُبل إقراره؛ لعدم التهمة، ولو أسقط به وارثًا وفاه؛ لأنه لا حق للوارث في الحال، وإنما يستحق الإرث بعد الموت بشرط خلوه من مسقط إذا أمكن صدق المقر بأن لا يكذبه فيه ظاهر الحال، فإن لم يمكن صدقه كإقرار الإنسان بمن في سنه أو أكبر منه لم يقبل ولم يدفع بإقراره نسبًا لغيره، فإن دفع به ذلك لم يصح؛ لأنه إقرار على الغير وصدقه المقر به المكلف، وإلا لم يقبل أو كأن المقر به ميتًا إلا لولد صغير والمجنون فلا يشترط تصديقهما فإن كبرا وعقلا وأنكرا النسب لم يسمع إنكارهما؛ لأنه نسب حكم بثبوته فلم يسقط برده كما لو قامت به بيّنة، وإن خلف ابنين مكلفين فأقر أحدهما بأخ صغير أو مجنون ثم مات المنكر والمقر وحده وارث للمنكر ثبت نسب المقر به منهما لانحصار الإرث فيه
(4)
.
مذهب الظاهرية:
أولًا: الإنكار في الحمل والولادة:
جاء في (المحلى): لو ادعت أنها حامل وأنكر الزوج ذلك عرض عليها من القوابل من لا يشك في عدالتهن، أربع ولا بد، فإن شهدن بحملها قضى بما يوجبه الحمل، وإن شهدن بأن لا حمل بها بطلت دعواها، فلو شهدن بحملها ثم صح أنهن كذبن أو وهمن قضى عليها برد ما أخذت من الزوج من نفقة وكسوة
(5)
.
(1)
كشاف القناع: 3/ 247.
(2)
السابق: 3/ 251، 252.
(3)
السابق: 3/ 256.
(4)
السابق: 4/ 301، 302.
(5)
المحلى: 10/ 275.
ثانيًا: إنكار نسب الولد من الزوجة:
جاء في (المحلى): من قذف امرأته بالزنا هكذا مطلقًا أو بإنسان سماه سواء قد دخل بها أو لم يدخل بها، كانا مملوكين أو أحدهما مملوكًا والآخر حرًا، أو مسلمين أو هو مسلم وهى كتابية أو كانا كتابيين، أو كان محدودًا في قذف أو في زنا أو هي كذلك أو كلاهما، أو أحدهما أعمى أو كلاهما أو فاسقين، أو أحدهما ادعى رؤية أو لم يدع فواجب على الحاكم أن يجمعهما في مجلسه طلبت هي ذلك أو لم تطلبه، طلب هو ذلك أو لم يطلبه، لا رأى لهما في ذلك. ثم يسأله البينة على ما رماها به، فإن أتى ببينة عدول بذلك أقيم عليها الحد، فإن لم يأت بالبينة التعنا، فإن كانت المرأة الملاعنة حاملًا فبتمام الالتعان منهما جميعًا ينتفى عنه الحمل، ذكره أولم يذكره إلا أن يقرّ به فيلحقه، ولا حد عليه في قذفه لها مع إقراره بأن حملها منه إذا التعنا، فلو صدقته هي قيما قذفها به، وفى أن الحمل ليس منه حُدَّت، ولا ينتفى عنه ما ولدت بل هو لا حق به، فإن لم يلاعنها حتى وضعت حملها فله أن يلاعنها لدرء الحد عن نفسه، وأما ما ولدت فلا ينتفى عنه بعد أصلًا فلو طلقها وقذفها في عدتها منه لاعنها، فلو قذفها وهى أجنبية حد ولا تلاعن، ولا يضره إمساكها ووطؤها بعد أن قذفها بل يلاعنها متى شاء
(1)
.
(1)
المحلى: 1/ 143 - 144.
ثالثًا: إنكار نسب الوارث وما يترتب عليه
جاء فى (المحلى): "من أقر لآخر أو لله تعالى بحق فى مال أو دم أو بشرة، وكان المقر عاقلا بالغا غير مكره وأقر إقرارا تاما ولم يصله بما يفسده، فقد لزمه ولا رجوع له بعد ذلك، فإن رجع لم ينتفع برجوعه، وقد لزمه ما أقر به على نفسه من دم أو حد أو مال، فإن وصل الإقرار بما يفسده بطل كله، ولم يلزمه شئ لا من مال ولا قود ولا حد. .
ثم قال: وإنما هذا كله إذا لم تكن بينة، فإذا كانت البينة فلا معنى للإنكار ولا للإقرار ..
(1)
مذهب الزيدية:
أولًا: الإنكار في الحمل والولادة:
جاء في (التاج المذهب): يصح من الزوج النفى للحمل حال الحمل إن وضع ذلك الحمل لدون أدنى مدته، وهذا مع اللبس، وأما إذا علم وجود الحمل صح النفى، فإذا ولدت لدون ستة أشهر من يوم النفى انكشف صحة ذلك النفى، وإن وضعت لأكثر بطل النفى، وليس المراد أنه يشترط في لفظ النفى أن يقترن بالشرط بل يصح منه النفى من غير شرط، ولكنه في نفس الأمر مشروط بأن تضع لدون أدنى مدة الحمل
(2)
.
ثانيًا: إنكار نسب الولد من الزوجة وما يترتب عليه:
جاء في (التاج المذهب): إذا نفى الزوج ولدا ثم فَرَّقَ الحاكم بينهما ثم ولدت آخر فإنه يكفى هذا اللعان لمن ولد بعده، أي بعد الوضع لدون الحمل، وإذا نفاه الزوج ولم يقر به، فإن أقر به حد لقذف الزوجة إن طلبته، ولزمه الولدان؛ لأنه حمل واحد، ولو نفى ولدًا ثم وقع اللعان بينهما والحكم بالنفى ثم أكذب نفسه بعد ذلك وأقرّ به فإنه يصح الرجوع من الزوج عن النفى، فيبقى من تلك الأحكام التي ثبتت بعد الحكم التحريم المؤبد، ويبطل باقيها، فإن رجع الزوج وأكذب نفسه بعد موت الولد المنفى لم يرثه هذا الأب الملاعن، وإن كان للولد المنفى ولد ثبت نسبه وميراثه؛ لأن النسب أصل والميراث فرع، وإذا ثبت الأصل ثبت الفرع، هذا هو المختار للمذهب ولا يصحّ من الرجل نفى الولد بعد الإقرار به، أو نفى الولد بعد السكوت حين العلم، به وقد علم أن له النفى، ولا يصحّ نفى الولد بدون حكم ولعان، فلو تصادق الزوجان على نفى الولد لم ينتفِ، وكذا لو التعنا ولم يقع بينهما حكم أو حكم الحاكم من دون لعان لم يصح النفى لمن مات أو مات أحد أبويه قبل الحكم بالنفى، بل يثبت نسب الولد والميراث.
ولا يصح النفى أيضًا لبعض بطن دون بعض، فلو ولدت المرأة توأمين لم يصح نفى أحدهما دون الآخر، ويتلاعن الزوجان لأجل القذف كما مر قريبًا.
ولا يصح النفى أيضًا لبطن ثان غير هذا المنفى إذا لحقه بعد اللعان، فلو وقع اللعان بنفى الولد وحكم الحاكم ثم جاءت بولد بعد ذلك لستة أشهر فصاعدًا من وضع الأول إلى أربع سنين من يوم الحكم لحقه هذا الولد لمكان الفراش الأول،
(1)
المحلى: 8/ 250.
(2)
التاج المذهب: 2/ 266.
ويحمل على أنه وطئ قبل تفريق الحاكم، إما قبل اللعان أو بعده، لأن أحكام الزوجية باقية بينهما حتى يحكم الحاكم، ولم يصح نفى هذا الولد بحال من الأحوال. ويصح من الزوج النفى للحمل حال الحمل إن وضع ذلك الحمل لدون أدنى مدته، وهذا مع اللبس، وأما إذا علم وجود الحمل صحّ النفى، فإذا ولدت لدون ستة أشهر من يوم النفى، وليس المراد أنه يشترط في لفظ النفى أن يقترن بالشرط بل يصح منه النفى من غير شرط، ولكنه في نفس الأمر مشروط بأن تضع لدون أدنى مدة الحمل لا اللعان، فلا يصح قبل الوضع لا مطلقًا ولا مشروطًا، بل يؤخر حتى تضي
(1)
.
ثالثًا: إنكار نسب الوارث وما يترتب عليه:
جاء في (البحر الزخار): فإن أنكر الوطء بعد الموت لا يورث الحمل. والظاهر سقوطه إذ أتت به لستة أشهر فصاعدًا، صدق في نصيبه حيث له نصيب ككونه عمًا أو ابن عم، فلا يلزم إن أنكروا، إذ الظاهر معهم.
مثاله: أن ينكح امرأة أخيه وله منها ولد، ثم تلد منه ثم مات ابن الأخ ثم جاءت بولد آخر لستة أشهر من موت ابن الأخ. فالظاهر أنه غير وارث، فتعطى الأم الثلث. والأخ السدس. والباقى للعم، وهو ثلاثة من ستة، لكنه صدق في نصيبه فرد سهم على الأخ من الأم وبقى له سهمان.
ثم قال: وإن أنكر الزوج الوطء قبل موت الربيب؛ لئلا يرث الحمل. وهو في الظاهر وارث، بأن تأتى به لدون ستة أشهر من الموت، ورث.
مثاله: ترك الربيب أمه والحمل والأخ والعم، فللأم السدس. وللحمل وأخيه الثلث، وللعم الباقى، فإن مات الحمل عن السدس فلأمه ثلثه، وللأخ سدسه، والباقى رد عليهما، لإقرار الأب أن الحمل غير وارث
(2)
.
مذهب الإمامية:
أولًا: الإنكار في الحمل والولادة:
جاء في (شرائع الإسلام): لو كانت حاملا، فادعت الوضع قبل قولها، ولم تكلف إحضار الولد، ولو ادعت الحمل. فأنكر الزوج، وأحضرت ولدًا، فأنكر ولادتها له، فالقول قوله، لإمكان إقامة البينة بالولادة
(3)
.
* وجاء في موضع آخر: أما لو اختلفا بعد الدخول في زمان الحمل. تلاعنا ولا يلحق الولد حتى يكون الوطء ممكنًا، والزوج قادرًا
(4)
.
وجاء في موضع ثالث: لو أنكر الزوج الحمل وتلاعنا، فولدت توأمين. توارثا بالأمومة دون الأبوة
(5)
.
وجاء في (الروضة البهية): لو اختلفا في ولادته بأن أنكر كونها ولدته حلف الزوج، لأصالة عدمهما. ولأن النزاع في الأول في فعله، ويمكنها إقامة البينة على الولادة في الثاني فلا يقبل قولها فيها بغير بينة
(6)
.
(1)
التاج المذهب 2/ 265، 266.
(2)
البحر الزخار: 3/ 96، بتصرف.
(3)
شرائع الإسلام: 3/ 31.
(4)
السابق.
(5)
السابق.
(6)
الروضة البهية: 2/ 135 بتصرف.
ثانيا: إنكار نسب الولد من الزوجة وما يترتب عليه:
جاء في (شرائع الإسلام): أن من أسباب اللعان إنكار الولد، ولا يثبت اللعان بإنكار الولد حتى تضعه لستة أشهر فصاعدًا من حين وطئها، ما لم يتجاوز حملها أقصى مدة الحمل. وتكون موطوءة بالعقد الدائم، ولو ولدته تامًّا لأقل من ستة أشهر لم يلحق به بغير وإن، أما لو اختلفا بعد الدخول في زمان الحمل تلاعنا، ولا يلحق الولد حتى يكون الوطء ممكنًا والزوج قادرًا، فلو دخل الصبى لدون تسع فولدت لم يلحق به، ولو كان له عشر فما زاد لحق به لإمكان البلوغ في حقه. ولو كان نادرًا، ولو أنكر الولد لم يلاعن إذ لا حكم للعانه، ويؤخر اللعان حتى يبلغ ويرشد وينكر، ولو مات قبل البلوغ أو بعده ولم ينكره ألحق به وورثته الزوجة والولد.
ولا يلحق الولد الخصيُّ المجبوب على تردد، ويلحق ولد الخصى أو المجبوب. ولا ينتفى ولد أحدهما إلا باللعان تنزيلا لا على الاحتمال وإن بعد، وإذا كان الزوج حاضرًا وقت الولادة ولم ينكر الولد مع ارتفاعه الأعذار لم يكن له إنكاره بعد ذلك إلا أن يؤخره بما جرت العادة به كالسعى إلى الحاكم، ولو قيل له: الإنكار بعد ذلك ما لم يعترف به كان حسنًا، ولو أمسك عن نفى الحمل حتى وضعت جاز له نفيه بعد الوضع على القولين؛ لاحتمال أن يكون التوقف لتردده بين أن يكون حملا أو ريحًا، ومن أقرّ بالولد صريًا أو فحوى لم يكن له إنكاره بعد ذلك مثل: أن يبشر به فيجيب بما يتضمن الرضا كأن يقال له: بارك الله لك في مولودك فيقول: آمين، أو إن شاء الله، و لو قال مجيبا: بارك الله فيك أو أحسن الله إليك لم يكن إقرارًا، وإذا طلق الرجل وأنكر الدخول فادعته وادعت أنها حامل منه، فإن أقامت بينة أنه أرخى سترًا لاعنها وحرمت عليه وكان عليه المهر، وإن لم تقم بينة كان عليه نصف المهر ولا لعان وعليها مائة سوط وقيل: لا يثبت اللعان ما لم يثبت الدخول وهو الوطء، ولا يكفى إرخاء الستر ولا يتوجه عليه الحد، لأنه لم يقذف ولا أنكر ولدًا يلزمه الإقرار به، ولعل هذا أشبه، ولو نفى ولد المجنونة لم ينتف إلا باللعان، ولو أفاقت فلاعنت صح، وإلا كان النسب ثابتًا والزوجية باقية، ولو أنكر ولد الشبهة انتفى عنه ولم يثبت اللعان، وإذا عرف انقضاء الحمل لاختلاف شروط الالتحاق أو بعضها وجب إنكار الولد واللعان؛ لئلا يلتحق بنسب من ليس منه، ولا يجوز إنكار الولد للشبهة ولا للظن ولا لمخالفة صفات الولد لصفات الواطئ، ولو أكذب نفسه في أثناء اللعان أو نكل ثبتت عليه الأحكام الباقية، ولو نكلت هي أو أقرت رجمت وسقط الحد عنه. ولم يزُل الفراش ولا يثبت التحريم، وإذا ادعت أنه قذفها بما يوجب اللعان فأنكر فأقامت بينة لم يثبت اللعان، وتعين الحدّ؛ لأنه يكذب نفسه، وإذا قذفها فاعترفت ثم أنكرت فأقام شاهدين باعترافها قال الشيخ: لا يقبل إلا بأربعة ويجب الحد، وفيه إشكال ينشأ من كون ذلك شهادة بالإقرار لا بالزنا
(1)
.
(1)
شرائع الإسلام: 2/ 87 - 88.
ثالثا: إنكار نسب الوارث وما يترتب عليه:
جاء في (الروضة البهية): أنه يشترط في نفوذ الإقرار بالنسب مطلقًا عدم المنازع له في نسب المقرّ به، فلو تنازعا فيه اعتبرت البينة وحكم لمن شهدت له، فإن فقدت فالقرعة؛ لأنها لكل أمر مشكل أو معين عند الله مبهم عندنا، وهو هنا كذلك، هذا إذا اشتركا في الفراش على تقدير دعوى البنوة أو انتفى عنهما كوطء خالية عن فراش لشبهة، فلو كانت فراشًا لأحدهما حكم له به خاصة دون الآخر، وإن صادقه الزوجان.
ولو تصادق اثنان فصاعدًا على نسب غير التولد كالإخوة صحّ تصادقهما وتوارثا؛ لأن الحق لهما ولم يتعداهما التوارث إلى ورثتهما؛ لأن حكم النسب إنما ثبت بالإقرار والتصديق فيقتصر فيه على المتصادقين إلا مع تصادق ورثتهما أيضا، ومقتضى قولهم غير التولد أن التصادق في التولد يتعدى مضافًا إلى ما سبق من الحكم بثبوت النسب في إلحاق الصغير مطلقًا والكبير مع التصادق. والفرق بينه وبين غيره من الأنساب مع اشتراكهما في اعتبار التصادق غير بين، ولا عبرة بإنكار الصغير بعد بلوغه بنسب المعترف به صغيرًا، وكذا المجنون بعد كماله لثبوت النسب قبله، فلا يزول بالإنكار اللاحق، وليس له إحلاف المقر أيضًا؛ لأن غايته استخراج رجوعه أو نكوله. وكلاهما الآن غير مسموع كما لا يسمع لو نفى النسب حينئذٍ صريحًا، ولو أقر العم المحكوم بكونه وارثًا ظاهرًا بأخ للميت وارث دفع إليه المال؛ لاعترافه بكونه أولى منه بالإرث، فلو أقرّ العم بعد ذلك بولد للميت وارث وصدقه الأخ دفع إليه المال؛ لاعترافهما بكونه أولى منهما، وإن أكذبه أي أكذب الأخ العم في كون المقرّ به ثانيًا ولدًا للميت لم يدفع إليه لاستحقاقه المال باعتراف ذى اليد له، وعزم العم، ولم تعلم أولوية الثاني؛ لأن العم حينئذٍ خارج فلا يقبل إقراره في حق الأخ، وغرم العم له، أي لمن اعترف بكونه ولدًا ما دفع إلى الأخ من المال لإتلافه بإقراره الأول مع مباشرته لدفع المال.
ولو أقرت الزوجة بولد الزوج المتوفى، وكان ورثة الزوج في الظاهر هم إخوته، فصدقها الإخوة على الولد أخذ الولد المال الذي بين الإخوة أجمع ونصف ما في يدها، لاعترافهم باستحقاقه ذلك
(1)
، وإن أكذبوها دفعت إليه ما بيدها زائدا عن نصيبها على تقدير الولد، وهو الثمن، لأن بيدها ربعًا، وهو نصيبها على تقدير عدم الولد، فتدفع إلى الولد نصفه، ويحتمل أن تدفع إليه سبعة أثمان ما في يدها تنزيلًا للإقرار على الإشاعة.
ولو انعكس الفرض بأن اعترف الإخوة بالولد دونها دفعوا إليه جميع ما بأيديهم، وهو ثلاثة أرباع
(2)
.
مذهب الإباضية
أولًا: الإنكار في الحمل والولادة:
جاء في (شرح النيل): أنه لا يحل له أن يقصد لعانها في نفى الولد والجنين إلا إن وطئها
(1)
الروضة البهية: 2/ 225 - 226.
(2)
السابق: 2/ 227.
ثم استبرأها بحيضة أو أكثر ثم رآها تزنى، أو وطئها بعد أن وضعت الحبلى الذي قبل الحمل المنفى، وطال ما بين الوضعين بحيث لا يكون الولد الثاني من بقية الحمل الأول، أو وطئها بعد الوضع وبين هذا الحمل والإصابة مدة لا يتأتى فيها الولد لقلتها كأربعة أشهر، أو لكثرته كستة أشهر وذلك على العادة
(1)
.
ثانيًا: إنكار نسب الولد من الزوجة وما يترتب عليه:
جاء في (شرح النيل): إذا قذف الزوج زوجته بنفى الولد أو بنفى الحمل فإنه يجب اللعان
(2)
، ويصح اللعان في نفى الولد ولو بعد موته أو وُلد ميتًا، وفائدة اللعان بعد موته سقوط الحد، وإن وَلَدت أولادًا، وقَدِم الزوج بعد غيبة أو ولدتهم بمدة وهو غير غائب فنفاهم كفى لعان واحد، كمن قذفها بالزنا مرارًا فإنه يكفى لعانٌ واحد، وكمن قذفها بالزنا وكون الولد أو الجنين من غيره فإنه يكفى واحد، وإن أمكنه الرفع إلى الحاكم فأخر حتى ولدت لم يكن له أن ينفى، ولا يحلُّ له أن يقصد لعانَها في نفى الولد والجنين إلا إن وطئها ثم استبرَأها بحيضة أو أكثر ثم رآها تزنى، أو وطئها بعد أن وضعت الحمل الذي قبل الحمل المنفى وطال ما بين الوضعين بحيثُ لا يكونُ الولدُ الثاني من بقية الحمل الأول، أو وطئها بعد الوضع وبين هذا الحمل
(3)
، والإصابة مدة لا يتأتى فيها الولدُ لقلتها كأربعة أشهر أو لكثرته كستة أشهر، وذلك على العادة، ولا يقصد اللعان بنفى الحمل للعزل؛ لأن الماء قد يسبق ولم يشعر، ولا لمشابهة غيره ولا بسوادٍ وكان أبيض؛ لأن العرق قد ينزعُ، ولا لوطئه بين الفخذين؛ لاحتمال وصول الماء بفرجها، ولا لوطئه بغير إنزال بأن أنزل قبله، ولم يَبُل بين الإنزال والوطء؛ لإمكان بقاء شئ في الذكر خرج مع الوطء، وإن بال بينهما جاز له القصد إلى اللعان، وإن تصادقا على نفى الولد فلا ينتفى إلا بلعان على المشهور إلا إن أتت به لأقل من المدة من حين العقد أو الدخول فينتفى بلا لعان. وكذا لو كان الزوج صغيرًا أو مجبوبًا حين الحمل وإن بَعُدَت المسافة بقدر ما لا يتأتى وطؤها لم ينتف إلا بلعان عندنا
(4)
، وفى أثر قومنا استثناء الملاعنة لظهور الحمل إذا ولدت لأقل من ستة أشهر من يوم العقد ولم يدخل عليها ولم يحكم عليه بحكم الدخول فإنه لا صداق لها، لظهور أنها حامل عند العقد، ولا تحرم عليه، لأنه لم يمس وليس متعمد التزوج زوجة غيره، فإن ظهر لستة أشهر فصاعدًا تلاعنا، فإن لم يمكن الدخول فلها نصف الصداق ولزم ملاعنا امرأة حاملا ما ولدته قبل المدة أي مدة الولادة، وهو ستة أشهر من وقت اللعان، أو مع المدة أو ما تحرك قبل أربعة أشهر أو معها لا ما بعدها ولا ما تحرك بعد الأربعة فإنه ينتفى باللعان، ولو لم يلاعن إلا على الزنا
(5)
.
وإن قالت المرأة: هذا ابنى، فقيل: لا تصدق إلا إن أتت بمن يشهد على ولادته، وجوز إن صدقها أبوه، لأن الفراش له لا لها كما أن
(1)
شرح النيل: 3/ 542 بتصرف.
(2)
السابق: 3/ 540 - 542.
(3)
السابق: 3/ 542.
(4)
السابق: 3/ 543.
(5)
السابق: 3/ 544 - 545.
الاستلحاق له لا لها، والمختار تصديقها فيما يصدق فيه الرجل كلّه، ولكن الظاهر أنه إن أنكره الأب بطل، ثم إذا أقرت به لم يدخل إلى الأب وجهته
(1)
.
ثالثا: إنكار نسب الوارث وما يترتب عليه:
من ترك ابنًا وابنة فمات الابن وهو في الأصل وترك أولادًا فأرادت أخذ إرثها منهم فجحدوا كونها وارثة بأن ادعوا أنها ليست أخت أبيهم، أو أنها أخذت سهمًا قبل ذلك أو تركته أو لا ترث؛ لأنها أمة أو قاتلة أو مشركة أو نحو ذلك، فبينت فيما كان عليها أن تبين فيه ككونها أخت أبيهم، وعجزوا عن بيان مدعاهم فيما عليهم فيه البيان كالرق والمشرك والقتل وادعوا عدم الإحياء ردّ قولهم
(2)
.
وجاء في (الأثر): إن ادعى رجل أن هذا أبوه، وأنكره ولا بيّنة. فلا يمين على المنكر. وكذا ادعاء سائر القرابة كالأخ، وسواء الرجال والنساء والبلّغ والأطفال والمجانين والعبيد والأحرار والموحدون والمشركون، ومن ادعوا منبوذًا، فمن بيّن فابنه. وإن بيّنوا جميعًا فمشترك بينهم، وكذا إن ادعوا غير المنبوذ، سواء ادعاه الأحرار أو العبيد أو المشركون أو المسلمون أو النساء أو الرجال أو بعض أولئك مع بعض، ولا يُشتغل ببينة من ادعى بنوة من كان معروف النسب، أو من كان أكبر منه أو مساويًا، أو لا يمكن أن يلد مثلُهُ مثله.
وإذا كان الطفل في يد امرأة، وادعاه زوجها أنه ولدها معه فلا يُشتغل بإنكارها إن عرف أنه ولد بعد ستة أشهر من يوم تزوجها، ففى الديوان هو له إن عرف أنه ولد على فراشه ولو أنكرت، وكذلك إن سكنت أكثر من ستة أشهر فأتت بولد، وكذا إن ادعت المرأة أنه ابنها من زوجها هذا وأنكر لا يشتغل لكاره إن سكنت معه أكثر من ستة أشهر أو عرف على فراشه
(3)
.
وإن ادّعى رجل على رجل أنه أخوه من أبيه وأمه وأنكر المدعى عليه وأتى المدعى بالبينة ثبت النسب، وإن شهد أحدهما أنه أخوه من أبيه وأمه وشهد الآخر أنه أخوه من أبيه أو أنه من أمه ثبت على ما اتفقا عليه، وقيل: لا يثبت، وإن شهد اثنان أنه من أبيه واثنان أنه من أمه فهو أخوه من أبيه وأمه، وإن مات رجل وقال الجمليون: له ابن في بلد كذا فلا يجوز في الحكم، وإن أراد الورثة احتاطوا، وقيل: يجوز وإن قالوا: له وارث في موضع كذا ولم يفرزوه لم يجزء وإن فرزوه أخا أو عمّا أو غير ذلك فالقولان، وجاز قول الأمناء في ذلك كله، وإن قال أهل الجملة: إن الذي صلى بنا المغرب البارحة هو فلان بن فلان الفلانى لم يجز قولهم، وقيل: يجوز وإن قالوا: هذا يوم العيد، أو مضى من الشهر كذا، أو استهل هذا الشهر ليلة كذاء أو هذه امرأة فلان أو أخو فلان أو عمه أو أمه، أو ما أشبه ذلك من القرابات لم يجز قولهم؛ لأنه شهادة. وقيل: يجوز
(4)
.
(1)
شرح النيل: 8/ 498.
(2)
السابق: 7/ 121.
(3)
السابق: 6/ 653، 654.
(4)
السابق: 6/ 656، 657.
الإنكار في البيوع
مذهب الحنفية:
جاء في (بدائع الصنائع): ولو ادعى على رجل أنه اشترى منه عبدًا بعينه والعبد في يد البائع، فأنكر البائع البيع فأقام المشترى البينة وقضى القاضي به، ثم وجد به عيبًا فأراد أن يرد على البائع فأقام البائع البينة على أن المشترى كان أبرأه عن كل عيب لم تسمع دعواه ولا تقبل بنيته؛ لأن إنكار البيع يناقض دعوى الإبراء عن العيب؛ لأن الإبراء وجود البيع فكان مناقضًا في دعوى الإبراء، فلا تسمع
(1)
.
وفى (حاشية ابن عابدين): وإن أنكر البيع فأثبته المشترى فادعى البائع الإقالة تُسمع، قال في (العدة)، أنكر البيع فبرهن عليه المشترى، فادعى البائع إقالة يُسمع هذا الدفع، ولو لم يدع الإقالة ولكن ادّعى إيفاء الثمن أو الإبراء اختلف المتأخرون. وقد يجاب بأن المقر إنما يصير مكذبًا شرعًا إذا حكم القاضي بما يخالف إقراره، وفى مسألتنا لم يقض بالبيع حتى تناقض الخصم فلم يكن مكذبًا شرعًا
(2)
.
وجاء في (بدائع الصنائع): لو اختلف البائع والمشترى في قدر الثمن بأن قال البائع: بعت منك هذا العبد بألفى درهم، وقال المشترى: اشتريت بألف، فهذا لا يخلو إما أن تكون السلعة قائمة. وإما أن تكون هالكة، فإن كانت قائمة فإما أن تكون قائمة على حالها لم تتغير، وإما أن تتغير إلى الزيادة أو النقصان. فإن كانت السلعة قائمة على حالها لم تتغير تحالفا وترادا سواء كان قبل القبض أو بعده، أما قبل القبض فلأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه من وجه، لأن البائع يدعى على المشترى زيادة ثمن وهو ينكر، والمشترى يدعى على البائع تسليم المبيع إليه عند أداء الألف وهو ينكر، فيتحالفان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"واليمين على من أنكر"
(3)
.
وأما بعد القبض فكان ينبغى أن لا يحلف البائع، ويكون القول قول المشترى مع يمينه؛ لأن المشترى لا يدعى على البائع شيئًا لسلامة المبيع له، والبائع يدَّعى على المشترى زيادة ثمن وهو ينكر، فكان القول قوله مع يمينه، إلا أنا عرفنا التحالف. وهو الحلف من الجانبين بنص خاص، وقوله عليه الصلاة والسلام:"إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا"
(4)
.
وجاء في موضع آخر: وإن اختلفا في قدره - أي الأجل - فالقول قوله أيضًا، وإن اختلفا في مضيه مع اتفاقهما على أصله وقدره. فالقول: قول المشترى أنه لم يمض؛ لأن الأجل صار حقًّا له بتصادقهما فكان القول فيه قوله، وإن اختلفا في القدر والمضى جميعًا فقال البائع: الأجل شهر وقد مضى، وقال المشترى: شهران ولم يمضيا، فالقول قول البائع في القدر، والقول قول المشترى في المضى، فيجعل الأجل شهرًا لم يمضٍ، لأن الظاهر يشهد للبائع في القدر وللمشترى في المضى على ما مرَّ.
(5)
(1)
بدائع الصنائع: 6/ 224.
(2)
حاشية ابن عابدين: 7/ 23.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
لم نجده مسندًا بهذا اللفظ. وقد نقل الحافظ ابن حجر عن الرافعى أن لفظة (تحالفا) لأذكر لها في شئ من كتب الحديث. وإنما توجد في كتب الفقه (انظر التلخيص الحبير: 3/ 31، نصب الراية: 4/ 132.
(5)
بدائع الصنائع: 6/ 262.
مذهب المالكية:
جاء في (تبصرة الحكام): ومن ادَّعى على رجل أنه ابتاع منه سلعة وأنكر البائع وشهدت على ذلك بينة لم يعرف الثمن. فالشهادة تامة عند مالك، ويقال للبائع: قد ثبت البيع فبكم بعتها، فإن سمى ثمنًا واعترف به المبتاع أداه، وإن ادَّعى دونه تحالفا وردت، وإن تمادى البائع على إنكار البيع سئل المبتاع عن الثمن، فإن سمى ما يشبه حلف ودفع ما حلف عليه
(1)
.
وجاء في (حاشية الدسوقى): فإن وقع الاختلاف فيهما، أي كما لو قال المشترى: اشتريت منك هذه الدابة بعشرة؛ والبائع يقول: إنما نظير لك هذا الثوب القدرة فيتحالفان ويتقاسمان. ويبدأ البائع باليمين
(2)
.
وجاء في (مواهب الجليل): وإذا اختلفا في صحة البيع وفساده، فالقول قول مدعى الصحة إلّا إذا غلب الفساد في العادة فيحكم به
(3)
.
وجاء في (حاشية الدسوقى): وإن اختلفا في قبض الثمن، أي: وإن اختلف البائع والمشترى في قبض الثمن - وكذا إذا اختلف البائع وورثة المشترى في قبض الثمن فالأصل بقاؤه، فإذا ادعى البائع على ورثة المشترى أن ثمن السلعة التي باعها لمورثهم لم يقبضه، وادعى الورثة أنه قبضه من مورثهم قبل موته فلا يقبل دعواهم؛ لأن الأصل بقاء الثمن، ثم المشترى ما لم تقم لهم بينة بأن مورثهم أقبض ذلك قبل موته، وهذا إذا اعترفت الورثة بأن مُورثهم اشترى تلك السلعة من المدعى، وإنما وقع التنازع في قبض الثمن وعدمه. وأما إذا أنكرت الورثة شراء مورثهم من ذلك المدعى فلا تقبل دعوى ذلك المدعى أن له على مورثهم ثمن سلعة كذا إلا ببينة ويمين، فإن ادعى المدعى على من يظن به العلم من الورثة أنه يعلم بدينه كان له تحليفه، فإن حلف وإلّا غرم، كذا قرر شيخنا العدوى
(4)
.
وجاء في موضع آخر: وإن اختلفا فى انتهاء الأجل مع اتفاقهما عليه كأن يقول البائع: هو شهر وأوله هلال رمضان، وقد انقضى، فيقول المشترى: بل أوله نصفه فالانتهاء نصف شوال فالقول لمنكر التقضى بيمينه؛ لأن الأصل بقاؤه
(5)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (روضة الطالبين) قوله: فلو اختلفا في أصل العقد كان القول قول منكره
(6)
.
وجاء في (المهذب): وإن اختلفا في عين المبيع بأن قال البائع: بعتك هذا العبد بألف، وقال المشترى: بل الجارية بألف ففيه وجهان. أحدهما: يتحالفان؛ لأن كل واحد منهما يدَّعى عقدًا ينكره الآخر فأشبه إذا اختلفا في قدر المبيع. والثانى: أنهما لا يتحالفان، يل يحلف البائع أنه ما باعه الجارية، ويحلف المشترى أنه ما اشترى العبد؛ لأنهما اختلفا في أصل العقد في العبد والجارية، فكان القول فيه قول من ينكر
(7)
.
وجاء في موضع آخر: وإن اختلفا في عين البيع بأن قال البائع: بعتك هذا العبد بألف. وقال
(1)
تبصرة الحكام، الجزء الأول، الباب الثالث والأربعون.
(2)
حاشية الدسوقى: 3/ 119.
(3)
مواهب الجليل: 3/ 328.
(4)
حاشية الدسوقى: 3/ 191.
(5)
المرجع السابق: 3/ 189.
(6)
روضة الطالبين: 3/ 586.
(7)
المهذب: 1/ 294.
المشترى: بل اشتريت هذه الجارية بألف ففيه وجهان: أحدهما: يتحالفان، لأن كل واحد منهما يدعى عقدًا ينكره الآخر فَأشْبه إذا اختلفا في قدر المبيع، والثانى أنهما لا يتحالفان. بل يحلف البائع أنه ما باعه إلا الجارية، ويحلف المشترى أنه ما اشترى العبد، وهو اختيار أبي حامد الإسفرايينى؛ لأنهما اختلفا في أصل العقد في العبد والجارية، فكان القول فيه قول من ينكر، كما لو ادعى أحدهما على الآخر عبدًا والآخر جارية من غير عقد، فإن أقام البائع بينة أنه باعه العبد وجب على المشترى الثمن. فإن كان العبد في يده أقر في يده، وإن كان في يد البائع ففيه وجهان: أحدهما: يجبر المشترى على قبضه؛ لأن البينة قد شهدت له بالملك، والثانى لا يجبر؛ لأن البينة شهدت له بما لا يدعيه فلم يسلم إليه فعلى هذا يسلم إلى الحاكم ليحفظه
(1)
.
وجاء في موضع آخر: أنه إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن ولم تكن بينة تحالفا، لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو أن الناس أُعطوا بدعاويهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، لكن اليمين على المدعى عليه"
(2)
. فجعل اليمين على المدعى عليه والبَائع مدعى عليه بيع بألف والمشتري مدعى عليه بيع بألفين فوجب أن يكون على كل واحد منهما اليمين؛ لأن كل واحد منهما مدعى عليه ولا بينة فتحالفا، كما لو ادعى رجل على رجل دينارًا أو. ادعى الآخر على المدعى درهمًا، ويجب أن يجمع كل واحد منهما في اليمين بين النفى والإثبات؛ لأنه يدعى عقدًا وينكر عقدًا فوجب أن يحلف عليهما، ويجب أن يقدم النفى على الإثبات. وقال أبو سعيد الإصطخرى: يقدم الإثبات على النفى كما قدمنا الإثبات على النفى في اللعان، والمذهب الأول
(3)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): ولا يبطل البيع بجحود أحد العاقدين له، فلو قال: بعتك الأمة بكذا فأنكر المشترى لم يطأها البائع، لكن إن لم يبذل له الثمن فيتوجه له الفسخ كما لو أعسر المشترى. ولو ادعى من بيده أمة بيع الأمة ودفع الثمن، فقال من كانت بيده: بل زوجتكها فقد اتفقا على إباحة الفرج له؛ لأنها إما ملك يمين أو زوجة، وتقبل دعوى النكاح ممن كانت بيده بيمينه؛ لأن الأصل عدم البيع
(4)
.
ثم جاء في موضع آخر: أنه متى اختلف المتعاقدان في قدر ثمن أو في قدر أجرة بأن قال البائع: بعتكه بمائة فقال المشترى: بل بثمانين وكذا في الإجارة ولا بينة لأحدهما تحالفا، أو لهما بينة تحالفا وسقطت بينتاهما لتعارضهما، ولو كانت السلعة المبيعة تالفة، لأن كلا منهما مدعٍ ومدعى عليه صورة وكذا حكمًا لسماع بينتهما
(5)
.
وجاء في (الشرح الكبير) مع (المغنى): إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة فقال البائع: بعتك بعشرين، وقال المشترى: بعشرة
(1)
المهذب: 1/ 293، بتصرف.
(2)
في مسند أبي يعلى وغيره بلفظ، "لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه. وإسناده صحيح. انظر: مسند أبي يعلى: 4/ 464.
(3)
المهذب، الصفحة نفسها.
(4)
كشاف القناع: 2/ 74.
(5)
المرجع السابق: 2/ 67.
ولأحدهما بينة حكم بينهما، وإن لم يكن لهما بينة تحالفا وبه قال شريح وأبو حنيفة والشافعى وهى رواية عن مالك، وله رواية أخرى: القول قول المشترى مع يمينه، وبه قال أبو ثور وزفر؛ لأن البائع يدعى عشرة ينكرها المشترى والقول قول المنكر، وقال الشعبى: القول قول البائع أو يترادان البيع وحكاه ابن المنذر عن أحمد، لما روى ابن مسعود رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع"
(1)
والمشهور في المذهب الأول ويحتمل أن يكون معنى القولين واحدًا وأن القول قول البائع مع يمينه فإذا حلف فرضى المشترى بذلك أخذ به، وإن أبى حلف أيضًا وفسخ البيع؛ لأن في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا" ولأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه فإن البائع يدعى عقدًا بعشرين ينكره المشترى والمشترى يدعى عقدًا بعشرة ينكره البائع والعقد بعشرة غير العقد بعشرين فشرعت اليمين في حقهما، وهذا الجواب عما ذكروه
(2)
.
وجاء في (كشاف القناع): وإن اختلف المتعاقدان في الأجل بأن قال المشترى: اشتريته بدينار مؤجل وأنكره البائع فقوله. . . أو اختلفا في قدر الأجل والرهن فقول منكر الزائد سوى أجل في سلم فقول مسلم إليه، أو اختلفا في شرط صحيح أو فاسد يبطل العقد أوّلا، يبطله بأن ادعى أحدهما اشتراطه وأنكره الآخر فقول المنكر. . .
(3)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): ولا يقبل إنكار أحد عن أحد ولا إقرار أحد على أحد. ولا بد من قيام البينة عند الحاكم على إقرار المقر نفسه أو إنكاره، برهان ذلك قوله الله تعالى:{ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}
(4)
وقد صح إجماع أهل الإسلام على أن لا يصدق أحد على غيره إلا على حكم الشهادة فقط
(5)
.
وجاء أيضًا: وإن قال: ابتعت منه داره بمائة دينار، فأنكر الآخر البيع، وقال: قد أقر لي بمائة دينار وادعى ابتياع دارى. فإنهم لا يقضون عليه بشئ أصلًا. وهذا تناقض ظاهر
(6)
.
وجاء في موضع آخر: وهكذا القول في كل ما اختلف فيه المتبايعان مثل أن يقول أحدهما: ابتعته بنقد، ويقول الآخر: بل بنسيئة، أو قال أحدهما: بكذا أو كذا، وقال الآخر: بل أكثر أو قال أحدهما: بعرض، وقال الآخر: بعرض آخر أو بعين، أو قال أحدهما: بدنانير، وقال الآخر: بل بدراهم، أو قال أحدهما: بصفة كذا، وذكر ما يبطل به البيع، وقال الآخر: بل بيعًا صحيحًا. فإن كان في قول أحدهما إقرار للآخر بزيادة إقرار صحيح ألزم ما أقر به ولا بد، فإن كانت السلعة بيد البائع والثمن بيد المشترى فهنا كل واحد
(1)
سنن أبي داود كتاب البيوع، باب إذا اختلف البيعان والمبيع قائم. وسنن النسائي، كتاب البيوع، باب اختلاف المتبايعين في الثمن، سنن ابن ماجه، كتاب التجارات، باب البيعان يختلفان.
(2)
الشرح الكبير: 4/ 116
(3)
كشف القناع: 2/ 67.
(4)
سورة الأنعام، الآية، 164.
(5)
المحلى: 9/ 366.
(6)
السابق: 8/ 251.
منهما مدعى عليه فيحلف البائع بالله ما بعتها منه كما يذكر، ولا بما يذكر، ويحلف المشترى بالله ما باعها منى بما يذكر ولا كما يذكر. وبرأ كل منهما من طلب الآخر، ويبطل ما ذكرا من البيع
(1)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (التاج المذهب): أنه إذا اختلف البيعان في وقوع العقد وعدمه. أو في البيع أو في الثمن، أو في الخيار أو في الأجل أو في غير ذلك فالقول في العقد لمنكر وقوعه؛ نحو أن يقول المشترى: منى كذا وينكر البائع، أو يقول البائع: اشتريت منى بكذا وينكر الشراء فالقول قول المنكر مع يمينه. فلو أنكر اللشترى وأقر البائع بالعقد وقبض الثمن فلا يمين على المشترى، وكانت العين على بيت المال. ولو رجع المشترى إلى تصديقه فلو قال المشترى: إن ما قبضه البائع هو قرض كان القول قوله. وإذا صارت العين لبيت المال وقام فيها شفيع فله الشفعة، ويكون الثمن لبيت المال، فإن لم يقر البائع بقبض الثمن فلا بيع بعد التحالف وعدم البينة، فإن أقر البائع بقبض البعض من الثمن فله أن يفسخ ويدفع ما أقر به لبيت المال، وإن لم ينفسخ فيجب أن تباع العين ويوفى ماله والبقية لبيت المال ويقبل قوله في الباقى من الثمن. فلو أقر البائع بالإيجاب وأنكر قبول المشترى بأن قال: أوجبت ولم يقبل. وقال المشترى: بل قبلته صدق المشترى مع يمينه والقول لمنكر فسخه حيث تصادقا على وقوع العقد لكن ادعى أحدهما أنه وقع التفاسخ بينهما بأى سبب من الخيارات أو الإقالة وأنكر الآخر فالقول للمنكر؛ لأن الأصل بقاء العقد
(2)
.
وإذ اختلف البيعان في قبض المبيع فادعى البائع أن المشترى قد قبض وأنكره المشترى، أو ادعى المشترى القبض وأنكره البائع فالقول لمنكر قبضه، ومثل القبض التخلية في العقد الصحيح؛ إذ الأصل عدم التخلية وعدم القبض إلّا في متفق الجنس والتقدير بُرًا ببر وفى الصرف نبحث ادعى القبض في أيهما أنه وقع قبل التفرق فالقول قول مدعى القبض، والبينة على المنكر؛ لأنه مدعى الفساد والقول لمنكر تسليمه كاملًا، فلو قال المشترى: ما قبضت إلا بعض المبيع، والبائع يدعى أنه سلمه كاملًا فالقول للمشترى بخلاف ما لو قال: قبضته ناقصًا فقد أقر بالقبض أولًا فلا يسمع قوله بأنه ناقص، وهذا حيث كان عارفًا لحكم ها النطق. والقول لمن أنكر تسليمه كاملًا. فإن أنكر أن تسليم المبيع وقع مع زيادة، أي أنكر الزيادة أو الغلط فلا قال للمشترى: ما قبضت إلا قدر المبيع أو أكثر أو المبيع لا غيره، وادعى البائع أنه مسلم أكثر من المبيع أو غير المبيع غلطًا فالقول للمشترى وكذلك في الثمن إذا ادعى البائع أنه قبضه ناقصًا أو ادعى المشترى أنه سلمه زائدًا فإن القول لمنكر ذلك، والبينة على المدعى.
وإذا ادّعى المشترى عيبًا في المبيع فأنكر البائع تعييبه فالقول للمنكر والبينة على المشترى: وكذا لو علم بالعيب ولم يعلم بأنه عيب لعدم
(1)
المحلى: 8/ 367.
(2)
التاج المذهب: 2/ 512.
معرفته فإنها تسمع بنيته على دعواه. وكذا لو ادعى البائع تعيب الثمن فأنكر المشترى فالقول للمنكر والبينة على المدعى.
وإذا قبض الثمن معيبًا فله أن يحلف ما قبض ثمن سلعته؛ إذ العقد يقتضى ثمنًا صحيحًا، وهى حيلة يدفع بها إنكار المشترى تعييب الثمن.
وإذا أراد المشترى أن يرد المبيع بأى الخيارات فادعى البائع أنه قد تعيب عند المشترى يمتنع عن الرد بالخيار فأنكر المشترى فالقول للمنكر والبينة على البائع
(1)
.
وإذا اختلفا في قبض الثمن كان القول للبائع في نفى قبضه مطلقًا، سواء اختلفا في المجلس أم بعده، وسواء كان المبيع في يد البائع أم في يد المشترى، وسواء جرى عرف بأن البائع لا يسلم المبيع إلّا بعد تسليم الثمن أم لا، وسواء وجدت قرينة أخرى أم لا فإن القول للبائع؛ لأن الثمن لازم بيقين والأصل بقاؤه، والبينة على المشترى في تسليمه إلا إذا اختلف البيعان في ثمن السلم ففى المجلس فقط القول قول البائع وهو المسلم إليه في أنه لم يقبض الثمن؛ لأن الأصل قبل التفرق عدم القبض، وبعد التفرق يكون القول قول المسلم، والبينة على البائع، لأن من شرط السلم القبض للثمن قبل التفرق، فإذا ادعى البائع عدم القبض له فقد ادعى فساده. والقول لمنكر فساده، وكذا كل ما يحتاج إلى قبض قبل التفرق كالصرف والربويات. والقول للبائع في قدره، أي في قدر الثمن
(2)
.
مذهب الإمامية:
جاء فى (الروضة البهية): إذا اختلف البائع والمشترى في تعيين المبيع، كما إذا قال: بعتك هذا الثوب فقال: بل هذا، فيتحالفان لادعاء كل منهما ما ينفيه الآخر بحيث لم يتفقا على أمر ويختلفا فيما زاد، وهو ضابط التحالف، فيحلف كل منهما يمينًا واحدة على نفى ما يدعيه الآخر لا على إثبات إثبات ما يدعيه. ولا جامعة بينهما. فإذا حلفا فسخ العقد ورجع كل منهما إلى عين ما له أو بدلها، والبادئ منهما باليمين من ادعى عليه أولًا، فإن حلف الأول ونكل الثاني وقضى بالنكول يثبت ما يدعيه الحالف وإلّا حلف يمينًا ثانية على إثبات ما يدعيه إذا حلف البائع على نفى ما يدعيه المشترى بقى على ملكه، فإن كان الثوب في يده وإلا انتزعه من يد المشترى. وإذا حلف المشترى على نفى ما يدعيه البائع وكان الثوب في يده لم يكن للبائع مطالبته به؛ لأنه لا يدعيه، وإن كان في يد البائع لم يكن له التصرف فيه لاعترافه بكونه للمشترى وله ثمنه في ذمته، فإن كان قد قبض الثمن رده على المشترى وله أخذ الثوب قصاصًا، وإن لم قد قبض الثمن أخذ الثوب قصاصًا أيضًا، فإن زادت قيمته عنه فهو مال لا يدعيه أحد
(3)
.
وجاء في (شرائع الإسلام): أنه إذا اشترى أحد الشريكين شيئًا، فادعى أحد الشريكين أنه اشتراه لهما وأنكره الآخر. فالقول قول المشترى مع يمينه؛ لأنه أبصر بنيته، ولو ادعى أنه اشترى لهما فأنكر الشريك فالقول أيضًا قوله بمثل ما
(1)
التاج المذهب: 2/ 514 - 515.
(2)
السابق: 2/ 520 - 521.
(3)
الروضة البهية: 1/ 339 - 340.
قلناه، ولو باع أحد الشريكين سلمة بينهما، وهو وكيل في القبض وادعى المشترى تسليم الثمن إلى البائع وصدقه الشريك برئ المشترى من حقه وقبلت شهادته على القابض في النصف الآخر وهو حصة البائع لارتفاع التهمة عنه في ذلك القدر، ولو ادعى تسليمه إلى الشريك فصدقه البائع لم يبرأ المشترى من شئ من الثمن؛ لأن حصة البائع لم تسلم إليه، ولا إلى وكيله والشريك ينكر، فالقول قوله مع يمينه، وقيل: يقبل شهادة البائع، والمنع في المسألتين أشبه
(1)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): ومن أراد أن يبيع الرهن فلا يشتريه منه أحد سواء سمَّى من رهنه له أم لم يسمه إلّا ببيان أنه رهنه له، ومن كان بيده جنان
(2)
لغائب فبيَّن أحد أن الغائب رهنه له أو باعه له فلا يحكم له به، ولكن يحجز عند من هو بيده ولا يمنع منه، وإن قدم الغائب وأنكر البيع أو الرهن أثبت الخصومة بينه وبين المدعى فيؤتى بالبيان فيحكم به، وقيل: إذا قدم وأنكر فلا يشتغل بإنكاره إلّا إن أحدث دعوة أخرى
(3)
.
وفى باب أخذ الشفعة من (شرح النيل) جاء: أنه إن اشترى بثمن معلوم لأجل معلوم، أما إن جهلاهما فلا بيع، فضلًا عن شفعة. قال المصنف: قال أحمد: لا تؤخذ الشفعة إن فسد البيع ولم تصح متمامته أو صَحَّتْ ولم يتامم، كبائع غيره بلا حجة وهو ينكر البيع،. . . ومن ادّعى - قيل - على رجل أنه بايعه قطعة من ماله وأنكر الرجل البيع فطلب الشفيع أخذ الشفعة بالقطعة لم يجده، وكذا إن طلب أخذ القطعة بالشفعة، ولو اعترف لجاز، وإن أقر البائع بالبيع وأقر المشترى أيضًا سَلَّم الشفيعُ الثمن للمشترى لا للبائع، كذا قيل، وإن أقر البائع وأنكر المشترى أعطى للبائع
(4)
.
وفى كتاب الشركة، فصل: لا تقعد شركة بين ورثة، جاء في (شرح النيل): "وإن قعد زمانًا بعد علمه بالبيع ثم أنكر البيع أو التصرف الذي تصرف مطلقًا، لم يجد حين لم ينكر البيع عند العلم، وإن ادّعى أنه لم يعلم فالقول قوله وعليه اليمين، إلا إن كان ليشاهد من أخذ ذلك من شريكه يتصرف فيه فلا يعذر في قوله أنه لم يعلم
(5)
.
(1)
شرائع الإسلام: 1/ 216.
(2)
مزارع ونحوها.
(3)
شرح النيل: 11/ 273.
(4)
المرجع السابق: 11/ 394.
(5)
السابق: 10/ 447.
الإنكار في السلم
مذهب الحنفية:
جاء في (المبسوط): إذا أسلم الرجل عشرة دراهم إلى رجل في طعام فوجد فيها درهمًا زائفًا بعد ما افترقا فأنكر رب السلم أن يكون ذلك من دراهمه، فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، لأنه ينكر استيفاء حقه، لأن حقه في الجياد، وهذا بخلاف بيع العين فإن هناك المشترى إذا طعن بعيب وأنكر البائع أن يكون ما أحضره هو المبيع فالقول قول البائع، لأن العقد تناول العين وقد تصادقا على قبض المشترى لما هو المعقود عليه ثم المشترى يدعى عليه لنفسه حق الرد والبائع منكر لذلك. وهنا حق المسلم إليه يثبت في الجياد دينًا، وهو منكر لقبض الجياد فالقول قوله. وهذا إذا لم يسبق منه إقرار باستيفاء الجياد أو باستيفاء حقه أو باستيفاء رأس المال بأن كان ساكنًا أو أقر بقبض الدراهم فاسم الدراهم يتناول الجياد والزيوف، فأما إذا أقر بشئ مما ذكرنا كان هو في دعوى الزيافة بعد ذلك مناقضًا فلا يقبل قوله.
(1)
وجاء في كتاب (العناية شرح الهداية): إذا اختلف المتعاقدان في صحة السلم، فمن كان متعنتًا وهو الذي ينكر ما ينفعه كان كلامه باطلًا وهذا بالاتفاق. ومن كان مخاصمًا وهو الذي ينكر ما يضره كان القول قوله إن ادعى الصحة وقد اتفقا على عقد واحد، وإن كان خصمه هو المنكر عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد، القول قول المنكر وإن أنكر الصحة، وعلى هذا إذا أسلم رجل في كر حنظة ثم اختلفا، فقال المسلم إليه: شرطت رديئا، وقال رب السلم: لم تشترط شيئًا، فالقول قول المسلم إليه، لأن رب السلم متعنت في إنكاره صحة السلم، لأن المسلم فيه يربو على رأس المال عادةٌ فكان القول لمن يشهد له الظاهر. فإنهما لما اتفقا على عقد واحد واختلفا فيما لا يصح العقد بدونه وهو بيان الوصف والظاهر من حالهما مباشرة العقد على وصف الصحة دون الفساد كان الظاهر شاهدًا للمسلم إليه وقول من شهد له الظاهر أقرب إلى الصدق.
(2)
مذهب المالكية:
جاء في (المدونة): قلت: أرأيت إن أسلمتُ إلى رجل في مائة إردب حنطة فلما حل الأجل قال الذي عليه السلم: لم أقبض رأس المال منك إلا بعد تشهر أو شهرين، أو قال: كنا شرطنا أن رأس المال إنما تدفعه إليَّ بعد شهر أو شهرين. وقال الذي له السلم: بل نقدتك عند عقدة البيع والشراء؟ قال: القول قول من يدعى الصحة منهما.
(3)
مذهب الشافعية:
جاء فى (الأم): قال الشافعى: رحمه الله: ولو اختلف المسلف والمسلف في السلم، فقال المشترى: أسلفتك مائة دينار في مائتى صاع حنطة، وقال البائع: أسلفتنى مائة دينار في مائة صاع حنطة، أحلف البائع بالله ما باعه بالمائة التي قبض منه إلا مائة صاع، فإذا حلف قيل للمشترى: إن شئت فلك عليه المائة الصاع التي
(1)
المبسوط 7/ 159.
(2)
العناية شرح الهداية: 7/ 100.
(3)
المدونة: 3/ 84.
أقر بها، وإن شئت فاحلف ما ابتعت منه مائة صاع، وقد كان بيعك مائتى صاع؛ لأنه مدعٍ عليك أنه ملك عليك المائة الدينار بالمائة الصاع وأنت منكر. فإن حلف تفاسخا البيع.
قال الشافعي: وكذلك لو اختلفا فيما اشترى منه، فقال: أسلفتك مائتى دينار مائة صاع تمرًا، وقال: بل أسلفتنى في مائة صاع ذرة أو قال: أسلفتك في مائة صاع برديًا، وقال: بل أسلفتنى في مائة صاع عجوة، أو قال: أسلفتك في سلعة موصوفة، وقال الآخر: بل أسلفتنى في سلعة غير موصوفة، كان القول فيه كما وصفتِ لك: يحلف. البائع ثم يخير المبتاع بين أن يأخذ بما أقر له البائع بلا يمين أو يحلف فيبرأ من دعوى البائع ويتفاسخان.
(1)
مذهب الحنابلة:
جاء في (المغنى): إذا اختلف المسلم والمسلم إليه فى حلول الأجل؛ فالقول قول المسلم إليه؛ لأنه منكر. وإن اختلفا في أداء المسلم فيه، فالقول قول المسلم لذلك. وإن اختلفا في قبض الثمن، فالقول قول المسلم إليه لذلك. وإن اتفقا عليه، وقال أحدهما: كان في المجلس قبل التفرق، وقال الآخر: بعده، فالقول قول من يدعى القبض في المجلس؛ لأن معه سلامة العقد، وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب دعواه. قدمت أيضًا بينته؛ لأنها مثبتة والأخرى نافية.
(2)
مذهب الزيدية:
جاء فى (البحر الزخار): إذا اختلفا في قدر المسلم فيه أو جنسه أو صفته أو مكانه أو أجله تحالفا وبطل؛ إذ كل مدع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "تحالفا وترادا البيع"
(3)
فإن بينا فبينة المسلم.
(4)
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام) أثناء حديثه عن أحكام السلف: إذا اختلفا في القبض، هل كان قبل التفرق أو بعده، فالقول قول من يدعى الصحة. ولو قال البائع: قبضته ثم رددته إليك قبل التفرق. كان القول قوله مع يمينه، مراعاة لجانب المصلحة.
(5)
مذهب الإباضية:
جاء في شرح النيل: لو أن رجلًا وكَّل إنسانًا على بيع شئ أو على القرض أو السلم أو نحو ذلك لأحد ففعل فأنكر من عليه الحق، ولا بيان أو أقر أو بين ولا منصف، فهل يجوز للوكيل الأخذ أم لا؟ قولان. وهل يجوز له الأخذ أم لا؟. . كل ذلك ثابت.
(6)
(1)
الأم: 3/ 139.
(2)
المغني: 5/ 110.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
البحر الزخار: 4/ 410.
(5)
شرائع الإسلام: 2/ 66.
(6)
شرح النيل: 4/ 526، 527.
الإنكار في الإجارة
مذهب الحنفية:
جاء في (بداية المبتدى): باب الاختلاف في الإجارة: وإذا اختلف الخياط ورب الثوب، فقال رب الثوب: أمرتك أن تعمله قباء
(1)
، وقال الخياط: بل قميصًا، أو قال صاحب الثوب للصباغ: أمرتك أن تصبغه أحمر فصبغته أصفر، وقال الصباغ: لا بل أمرتنى أصفر، فالقول لصاحب الثوب، وإذا حلف فالخياط ضامن. وإن قال صاحب الثوب: عملته لي بغير أجر، وقال الصانع: بأجر. فالقول قول صاحب الثوب عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: إن كان الرجل حريفًا له فله الأجر، وإلا فلاء وقال محمد: إن كان الصانع معروفًا بهذه الصنعة بالأجر، فالقول قوله
(2)
.
وجاء في (بدائع الصنائع): ولو اختلفا فقال المؤاجر: أجرتك هذه الدابة إلى القصر بدينار، وقال المستأجر: إلى الكوفة بعشرة دراهم وأقاما البينة فهى إلى الكوفة بدينار وخمسة دراهم، لأن الاختلاف إلى القصر وقع في البدل فكانت بينة المؤاجر أولى. وتثبت الإجارة إلى القصر بدينار ثم المستأجر يدعى من القصر إلى الكوفة بخمسة؛ لأن القصر نصف الطريق. والمؤاجر يجحد هذه الإجارة، فالبينة المثبتة للإجارة أولى من النافية
(3)
.
مذهب المالكية:
جاء في كتاب (المعونة): وإذا اختلف الصانع ورب السلعة في العمل، فقال الصانع: أمرتنى بكذا مثل الخياط يقول: أمرتنى بقطع الثوب قميصًا، ويقول ربه: بل قباءً، فالقول قول الخياط إذا أتى بما يشبهه. . . لأن اليمين يتوجه على أقوى المتداعين سببًا، والخياط أقوى سببًا، لأنه مأذون له في التصرف ومؤتمن عليه. فكان القول قوله مع يمينه، ولأن الظاهر معه
(4)
.
وجاء في (حاشية الدسوقى) قوله: يصدق دعوى الحجام في قلع ضرس أذن له فيه ونازعه ربه وقال: بل قلعت غير المأذون، وإذا صدق الحجام حلف المتهم دون غيره، كما لابن عرفة، وله المسمى كما في (المدونة)، لا أجرة المثل خلافًا لسحنون حيث قال: إن كل منهما مدع ومدعى عليه فيتحالفان. ويكون للحجام أجرة مثله لا التسمية. فإن صدق الحجام من نازعه في أن المقلوع غير المأذون فيه فلا أجرة له، وعليه القصاص في العمد والدية في الخطأ، والناب والسن كالضرس. وخصه المصنف بالذكر، لأن الغالب وقوع الألم فيه.
ثم قال: ويصدق الصباغ في دعواه صبغًا بأن قال: أمرتنى به، وقال ربه: بل بغيره، أو قال: أمرتني أن أصبغه بعشرة دراهم من الزعفران مثلًا فقال ربه: بل بخمسة. فتوزع. أي نازعه ربه فيصدق الأجير في المسائل الأربعة. وإن ادعى الصباغ نوعًا من الصبغ كزرقة صافية ونازعه رب الثوب، وقال له: أمرتك بصبغه أخضر مثلًا فالقول للصباغ
(5)
.
(1)
قباء: نوع من الثياب. انظر: لسان العرب. مادة (قبا).
(2)
بداية المبتدى: 1/ 192.
(3)
بدائع الصنائع: 4/ 218.
(4)
المعونة على مذهب عالم المدينة: 2/ 807.
(5)
حاشية الدسوقى: 4/ 29.
مذهب الشافعية:
جاء فى (الأم): قال الشافعى: فإذا زرع الرجل أرض رجل فادعى أن رب الأرض أكراه أو أعاره إياها وجحد رب الأرض فالقول قول رب الأرض مع يمينه ويقلع الزارع في زرعه، وعلى الزارع كراء مثل أرضه إلى يوم يقلع زرعه، قال الشافعي: وسواء كان ذلك في إبان الزرع أو في غير إبانه إذا كان زارع الأرض المدعى للكراء حبسها عن مالكها فإنما أحكم عليه حكم الغاضب
(1)
.
وجاء في (المهذب): إن دفع ثوبًا إلى خياطٍ فقطعه قباء ثم اختلفا فقال ربُّ الثوب: أمرتك أن تقطعه قميصًا فتعديت بقطعِه قباء فعليك ضمانُ النقصِ، وقال الخياطُ: بل أمرتنى أن أقطعه قَباءً فعليك الأجرة. . . واختلفَ أصحابُنا فيه على ثلاثة طرقٍ فمنهم من قال: فيه ثلاثةُ أقوال أحدهُما: أن القولَ قولُ الخياط، لأنه مأذون له في القطع فكان القولُ قولَه في صفتِه، والثانى: أن القولَ قولُ رب الثوب وهو اختيارُ الإمام الشافعي - كما لو اختلفا في أصل الإذن.
والثالثُ: أنهما يتحالفان: وهو الصحيح، لأن كلَّ واحدٍ منهما مُدعٍ ومُدعَى عليه، لأن صاحَب الثوب يدعى الأرشَ والخياط يُنكره، والخياط يدعى الأجرة وصاحب الثوب ينكره، فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن
(2)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): إن قال رب الدار: أجرتك الدار سنة فقال الساكن: بل استأجرتنى على حفظها بدينار فقول رب الدار بيمينه إلا أن يكون للساكن بينة، لأن الأصل براءته والأصل في القابض لمال غيره الضمان، فيحلف كل منهما على نفى ما ادعاه الآخر ويغرم الساكن أجرة المثل لمدة سكناه فقط
(3)
.
وإن اختلفا في وقوع الإجارة على الحضانة والرضاع فقالت: أرضعته، فأنكر المسترضع أنها أرضعته فالقوا قولها بيمينها، لأنها مؤتمنة.
(4)
وجاء في موضع آخر: إن اختلف المؤجر والمستأجر في قدر مدة الإجارة كقوله: أجرتك سنة بدينار، وقال المستأجر: بل سنتين بدينارين، فقول المالك، لأنه منكر للزائد
(5)
.
وجاء في موضع آخر: أنه لو شرط المؤجِّرُ على المكترى النفقة الواجبة لعمارة المأجور لم يصح؛ لأنها مجهولة لكن لو عمّر المستأجرُ بهذا الشرطٍ أو عمَّر بإذنِ الموجِّرِ رجع عليه بما قال المُكرِى؛ لأنه مُنكِر ووضحه بقوله.
فإن اختلفا في قدر ما أنفقهُ المكتَرِى بأن قال: أنفقتُ مائةً. وقال المُكرى: بل خمسين؛ ولا بينة لأحدهما، فالقولُ قول المُكِرى؛ لأنه مُنكِر
(6)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (التاج المذهب): أنه إذا اختلف الأجيرُ والمستأجرُ في قدر المدة والمسافة وجِبَتْ البينة على مدعى أطول المدتين والمسافتين، فإذا قال المؤجرُ: أجرتك هذه الدار شهرين فادفع أجرتهما، أو قد مضى لك فيها شهران فادفع
(1)
الأم 4/ 23.
(2)
المهذب: 1/ 409 - 410، بتصرف يسير.
(3)
كشاف القناع: 2/ 217.
(4)
السابق: 2/ 287، بتصرف.
(5)
السابق: 2/ 321.
(6)
السابق: 2/ 306.
أجرتهما، وقال المستأجرُ: بل أجرتنى شهرًا ولم يمض إلا شهر واحد فالبينةُ على المؤجر في قدر المدة وهى الشهران، لأنه يدعى عليه التعدى بزيادة الأجرة وكذا العكس، لو ادعى المستأجر زيادة المدة فالبينةُ عليه، وكذا في استئجار الدابة للركوب أو الحمل البينةُ على مدعى أطولِ المسافتين. وهذا إذا حصل الاختلاف قبل انقضاء المدة المتفق عليها والمستأجر يدعى الزيادة فالبينة عليه، أما لو وقع الاختلاف بعد مضى الأكثر من المختلف فيه أو بعضه فالقول للمستأجر في أكثر المدتين والبينة على المؤجر؛ لأنه يدعى على المستأجر التعدى بالزائد على المتفق عليه، والبينة على مدعى مضى المدة المتفق عليها، فإذا اتفقا على قدر المدة واختلفا في الانقضاء فالقول قول منكر الانقضاء
(1)
.
فإذا استأجر عينًا واختلف هو والمؤجر في ردها، فقال: قد رددتها، وأنكر المالك أو قال: هي هذه؛ وأنكرها المالك. أو قال: أجرتها بخمسة دراهم، وقال المالك: عشرة دراهم، فالقول قول المستأجر في ذلك كله إلا أن تكون هناك عادة غالبة، فإنه يكون القول قول من وافق العادة، أما الرد والعين فلأنه أمين وليس بضمين إلا أن يشرط عليه الحفظ والضمان فتكون البينة عليه، وأما قدر الأجرة حيث لا أجرة غالبة فلأن المالك يدعى الزيادة
(2)
.
ولو قال الآمر: عملت مجانًا. وقال المأمور: بل بأجرة فإنه يرجع إلى عادة العامل، ويكون القول المدعى المعتاد أو الأغلب من العمل بها أو الاستعمال مجانًا. وسواء كان الاختلاف للأجرة أو للتضمين فإن كان عادته التبرع أو الغالب فالقول قول المالك، وإن كان عادته أو هو الغالب الأجرة فالقول قوله، وإن لم تكن له عادة أو كان يعتاد هذا وهذا أو استوى الأغلب أو هو أول ما عمل فللمجان؛ أي فالقول قول مدعى المجان
(3)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (الروضة البهية): إن اختلفا المؤجر والمستأجر - في عقد الإجارة حلف المنكر لها سواء كان هو المالك أم غيره لأصالة عدمها، ثم إن كان النزاع قبل استيفاء شئ من المنافع رجع كل مال إلى صاحبه. وإن كان بعد استيفاء شئ منها أو الجميع الذي يزعم من يدعى وقوع الإجارة أنه متعلق العقد وكان المنكر المالك؛ فإن أنكر مع ذلك الإذن في التصرف وحلف استحق أجرة المثل، وإن زادت عن المسمى بزعم الآخر ولو كان المتصرف يزعم تعينها في مال مخصوص وكان من جنس النقد الغالب لزم المالك قبضه عن أجرة المثل، فإن ساواها أخذه، وإن نقص وجب على المتصرف الإكمال، وإن زاد صار الباقى مجهول المالك لزعم المتصرف استحقاق المالك وهو ينكره.
وإن كان مغايرًا له ولم يرض المالك به وجب عليه الدفع من الغالب وبقى ذلك بأجمعه مجهولًا ويضمن العين بإنكار الإذن، ولو اعترف به فلا ضمان، وإن كان المنكر المتصرف وحلف وجب عليه أجرة المثل
(4)
.
(1)
التاج المذهب: 3/ 127 - 128.
(2)
المصدر السابق: 3/ 132 - 133.
(3)
المصدر السابق: بتصرف.
(4)
الروضة البهية: 2/ 12 - 14.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): لو اختلفا في أصل الإذن مثل أن يقول رب الثوب: ما أذنت لك في قطعه سراويل ولا قميصًا بل قلت لك: خطه كذا مما لا يحتاج إلى قطع؛ أو لم آمرك بخياطته أصلا بل وضعته أمانة عندك. أو قلت لك: وصله إلى فلان، أو قلت لك: ضعه عندك حتى أقول لك اقطعه على كذا أو قال رب الثوب: لم آمرك أن تصبغه بل وضعته أمانة أو وضعته حتى أقول لك: اصبغه بما أريد أو نحو ذلك، كان القول قول ربه
(1)
.
وجاء في موضع آخر: إذا اختلف الأجير مع المستأجر والمكترى مع المكرى على قدر الكراء أو الأجرة كعشرة دنانير وتسعة دنانير، أو نوعه كدينار وثلاثة عشر درهما وكصاع شعير أو صاع بر، سواء اتفقا في القيمة أو اختلفاء قبل قول المكترى أو المستأجر عند ابن محبوب مع اليمين أنه ليس عليه أكثر من ذلك القدر كراء؛ وأنه ليس النوع الذي ادعاه عليه خصمه لأنه غارم، وأما الأجير والمكرى فلا يقبل قولهما لأنهما يأخذان. وإن ادعى المكترى والمستأجر ما هو أكثر أو أجود نوعًا للمكرى والأجير قبل قولهما أيضًا إذا ادعيا ذلك وأنكره الخصم
(2)
.
(1)
شرح النيل: 1/ 188.
(2)
السابق: 5/ 192 - 193. بتصرف.
الإنكار في المضاربة
مذهب الحنفية:
جاء في (بدائع الصنائع): لو قال المضارب: أقرضتنى المال والربحُ لي، وقال رب المال: دفعت إليك مضاربة أو بضاعة فالقول قول رب المال؛ لأن المضارب يدعى عليه التمليك وهو منكر، فإن إقاما البينة فالبينة بينة المضارب؛ لأنها تثبت التمليك، ولأنه لا تنافى بين البينتين لجواز أن يكون أعطاه بضاعة أو مضاربةً ثم أقرضه، ولو قال المضارب: دفعت إليّ مضاربة. وقال ربُ المالِ: أقرضتك. فالقولُ قولُ المضارب، لأنهما اتفقا على أن الأخذ كان بإذن رب المال. ورب المال يدعى على المضارب الضمانُ وهو ينكرُ فكان القولُ قوله، فإن قامت لهما بينة، فالبينة بينة رب المال، لأنها تُثبتُ أصل الضمان.
ولو جحد المضاربُ المضاربَة أصلا، وربُ المالِ يدعى دفع المال إليه مضاربة فالقول قولُ المضارب؛ لأن رب المال يدعى عليه قبضَ ماله وهو يُنكرُ فكان القولُ قوله، ولو جحدَ ثم أقر فقد قال ابن سماعة في نوادره: سمعتُ أبا يوسف قال في رجل دفعَ إلى رجل مالا مضاربة ثم طلبهُ منه فقال: لم تدفع إلى شيئًا ثم قال: بلى استغفر الله العظيم قد دفعت إلى ألف درهم مضاربة فهو ضامن للمال؛ لأنه أمين والأمين إذا جحد الأمانة ضمن كالمودع، وهذا لأن عقدَ المضاربة ليس بعقد لازم بل هو عقد جائز محتمل للفسخ فكان جحوده فسخًا له أو رفعا له، وإذا ارتفع العقد صار المال مضمونا عليه كالوديعة، فإن اشترى بها مع الجحود كان مشتريا لنفسه؛ لأنه ضامن للمال فلا يبقى حكمُ المضاربة؛ لأن من حُكم المضاربة أن يكون المالُ أمانة في يده، فإذا صار ضمينا لم يبق أمينا، فإن أقر بعد الجحود لا يرتفعُ الضمانُ؛ لأن العقدَ قد ارتفعَ بالجحود فلا يعودَ إلا بسبب جديد. فإن اشترى بها بعد الإقرار فالقياسُ أن يكون ما اشتراه لنفسه؛ لأنه قد ضمن المال بجحوده فلا يبرأ منه بفعله، وفي الاستحسان يكون ما اشتراه على المضاربة ويبرأ من الضمان، لأن الأمرَ بالشراء لم يرتفع بالجحود بل هو قائم مع الجحود؛ لأن الضمان لا ينافى الأمر بالشراء. وإذا بقى الأمر بعد الجحود فإذا اشترى بموجب الأمر وقع الشراء للآمر، ولن يقع الشراءُ له إلا بعد انتفاء الضمان. ولو جاء المضارب بألفين فقال: رأس المال ألف وألف ربع ثم قال: ما ربحتُ إلا خمسمائة ثم هلكَ المالُ كله في يد المضّارب؛ فإن المضاربُ يضمنُ الخمسمائة التي جحدها ولا ضمانَ عليه في باقى المال، لأن الربع أمانَةُ في يده، فإذا جحدَه فقد صار غاصبًا بالجحود فيضمن إذا هلك. ولو قال المضارب لرب المال: قد دفعتُ إليكَ رأسَ مالكِ والذي بقى في يدى ربحٌ ثم رَجِعَ فقال: لم أدفعه إليك ولكن هلكَ فإنه يضمنُ ما ادّعى دفعَه إلى ربِ المالِ؛ لأنه صار جاحدًا بدعوى الدفع فيضمن المجحودَ.
(1)
مذهب المالكية:
جاء في (الشرح الكبير): لو قال رب المال: قرض في قول العامل قراض أو وديعة فالقول لرب المال بيمينه؛ لأن الأصل تصديق المالك في
(1)
بدائع الصنائع: 6/ 109 - 110.
كيفية خروج ماله من يده. أو تنازعا في قدر جزء المال قبل العمل الذي يحصل به لزومه لكل فالقول لربه بلا يمين مطلقا لقدرته على رد ملكه. وإن قال رب المال: هو وديعة، وقال العامل: قراض ضمنه العامل إن عمل وتلف لدعواه أنه أذن له في تحريكه قراضًا، والأصل عدمه ومفهوم الشرط عدم الضمان إن ضاع قبل العمل لاتفاقهم على أنه كان أمانة
(1)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (حاشيتى قليوبى وعميرة): لو اختلفا العامل ورب المال فقال العامل: إنه قراض والمالك إنه قرض صُدِّق العامل قبل تلف المال والمالك بعده على المعتمد، وتقدم بينة المالك.
(2)
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): لو دفع مالًا يَتَّجِرُ به ثم اختلفا فقال ربُ المال: كان قراضا على النصف - مثلا - فربحه بيننا، وقال العاملُ؛ كان قرضًا فربحه كلهُ لي فالقولُ قولُ رب المال، لأن الأصل بقاء ملكه عليه فيحلف ربُ المال ويُقسمُ الربح بينهما نصفين، وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه تعارضًا أي البينتين وسقطتا وقسم الربع بينهما نصفين؛ لأن الأصل بقاء ملك رب المال عليه والربح تبع، وقد اعترف بنصف الريح منه للعامل فبقى الباقى على الأصل، وإن قال رب المال: كان بضاعة فريحه لي. وقال العامل كان قراضًا فربحه لنا، أو قال: كان قرضًا فربحه لي، حلف كل منهما على إنكار ما ادعاه خصمه؛ لأن كلًّا منهما منكرٌ لما ادعاه خصمه عليه، والقول قول المنكر، وكان للعامل أجرة مثل عمله لا غير والباقي لرب المال؛ لأنه نماء ماله وهو تابع له، وإن خسر المال أو تلف المال فقال رب المال؛ كان قرضًا، وقال العامل: كان قراضًا أو بضاعةً فالقول قول رب المال؛ لأن الأصل في القابض لمال غيره الضمان
(3)
.
مذهب الظاهرية:
(انظر مسألة الإنكار في البيوع).
مذهب الزيدية:
جاء في (التاج المذهب): القول قول مدعي المال وديعة حفظ منهما لا وديعة تصرف، فإذا ادعى من في يده المال أن المال وديعة حفظ أقره المالك أن يأخذ له شيئًا أمانة بغير أجرة ولا مضاربة ولا قرض فالقول قوله هنا، ومن ادعى أنه وديعة تصرف أي مضاربة أو قرض فعليه البينة سواء كان المالك أو من في يده المال
(4)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (العروة الوثقى): لو ادعى المالك أنه أعطاه المال مضاربة، وادعى القابض أنه أعطاه قرضًا يتحالفان، فإن حلفا أو نكلا للقابض أكثر الأمرين من أجرة المثل والحصة من الربح إلا إذا كانت الأجرة زائدة عن تمام الربح فليس له أخذها لاعترافه بعدم استحقاق
(5)
.
وجاء في موضع آخر: لو ادعى المالك الإبضاع، وادعى العامل المضاربة يتحالفان ومع
(1)
الشرح الكبير: 3/ 536 - 538 بتصرف.
(2)
حاشيتا قليوبى وعميرة: 3/ 6.
(3)
كشاف القناع: 2/ 269 - 270.
(4)
التاج المذهب: 3/ 166، 167.
(5)
العروة الوثقى: 1/ 571.
الحلف أو النكول منهما يستحقُ العاملُ أقل الأمرين من الأجرة والحصة من الربح، ولو لم يحصل ربحٌ فادعى المالك المضاربة لدفع الأجرة، وادعى العاملُ الإبضاع استحق العاملُ بعد التحالف أجرة المثل لعملهِ
(1)
.
وجاء في موضع آخر: وإذا اختلفا في صحة المضاربة الواقعة بينهما وبطلانها قدم قولُ مدعى الصحة. وإذا ادعى أحدهما الفسخ في الأثناء وأنكر الآخر قدم قول المنكر، وكل من يُقدم قوله في المسائلِ المذكورة لابد له من اليمين.
(2)
مذهب الإباضية:
جاء فى (شرح النيل): وإن قال: ضاربتي، وقال صاحب المال: أسلفته لك فاضمن لي رأس المال. فالقول قول المقارض، وفى العكس القولُ لصاحب المال. وإن ادعى العامل أنه أعطاه المال ليتَّجر لنفسه وأنكر رب المال أو قال: أمرتنى أن أبيع بالدين فأنكر فالمقارض مدعٌ، وإن قال: لزمنى دين من جهة البيع أو جهة ما أفسده مال القراض أو من قبل الكراء وكذبه صاحب المال، فالقول لصاحب المال وقيل: القول للمقارض ما دام المال في يده، فإن كان قد دفعه لصاحبه فهو مدعٍ، وإن أثبت رب المال ذلك وقال: قد أخرجته، وأنكر المقارض فالقول للمقارض، وإن قال المقارض: قد دفعت لك المال فأنكر، فالقول قول صاحب المال
(3)
.
(1)
العروة الوثقى: 1/ 572.
(2)
السابق: 572 وما بعدها.
(3)
شرح النيل: (10/ 386).
إنكار الوديعة
مذهب الحنفية:
جاء في (المبسوط): إذا طلب المودع الوديعة فجحدها المستودع كان ضامنًا لها لوجهين: أحدهما: أنه بالجحود صار متملكًا، فإن الشرع مال الغير بغير رضاه إلا بالضمان. ولأن المالك عزله عن الحفظ حين طالبه بالرد فهو بالجحود صار مانعًا المالك عن ملكه مفوتًا عليه يده الثابتة حكمًا فيكون كالغاصب ضامنًا بهذا الطريق، ولم يذكر في الكتاب إذا جحدها لا في وجه المودع، فإن قال له إنسان: ما حال وديعة فلان عندك فجحدها أو جحدها في وجه المودع من غير أن يطالبه بالرد بأن قال له: ما حال وديعتى عندك ليشكره على حفظها فجحدها، وذكر في اختلاف زفر ويعقوب - رحمهما الله تعالى - أنه على قول زفر يكون ضامنًا لما ذكرنا أنه بالجحود متملك لها ومفوت يد المالك حكمًا، وقال أبو يوسف: لا يكون ضامنًا؛ لأن المالك ما عزله عن الحفظ فيكون العقد باقيا، وباعتبار بقاء يده كيد المالك في العين، ولأن الجحود في حال غيبة المالك من الحفظ؛ لأنه طريق لدفع طمع الطامعين عنها فلا يكون موجبًا للضمان عليه، فإن أقام رب الوديعة البينة بعد جحود المودع أنه استودعه كذا ثم أقام المستودع البينة أنها ضاعت فهو ضامن لها؛ لأنه بالجحود صار ضامنًا، وهلاك المضمون في يد الضامن يقرر عليه الضمان. وكذلك إن أقام البينة أنها كانت ضاعت قبل جحوده؛ لأن البينة لا تقبل إلا بعد تقدم الدعوى. وهو مناقض في كلامه فجحوده أصل الإيداع يمنعه من دعوى الهلاك قبله فلهذا لا تقبل بينته إلا أن يقر المودع بذلك فحينئذ لا ضمان على المودع، لأن الإقرار موجب بنفسه في حق المقر، ولأن المناقض إذا صدقه خصمه كان مقبول القول. وإن قال: لم تودعنى شيئًا، ثم قال: قد أودعتنى ولكنها هلكت؛ فهو ضامن لها لما بينا أن جحوده أصل الإيداع يمنعه من دعوى الهلاك قبله، والهلاك بعد الجحود يؤكد الضمان عليه، وإن قال: قد أعطيتكها، ثم قال بعد أيام: لم أعطكها ولكنها ضاعت لم يصدق وهو ضامن لها، وطعن عيسى في هذا وقال: لا ضمان عليه؛ لأنه تكلم بكلامين لو تكلم بكل واحد منهما على الانفراد لم يكن ضامنًا فبمجموعهما كيف يصير ضامنًا
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (الشرح الكبير): تُضمنُ الوديعة بدفعها لشخص ادعى أنه دفعها بأمر المودع وأنكر ربها وتلفت أو ضاعت بلا تفريط من القابض لها، ويكون ذلك بلا واسطة بأن يقول: أنت أمرتنى بدفعها له بنفسك، أو بواسطة بأن يقول له: جاءنى كتابك أو رسولك أو أمارتك ومثل إنكار ربها إنكار ورثته إن مات، ففى الحطاب: لو مات المودِع بالكسر فادعى المودَع - بالفتح - أنه أمر قبل موته بدفعها لفلان فإنه يضمن، ولا يصدق ويحلف ورثة المودع على نفى العلم
(2)
.
(1)
المبسوط: 11/ 116.
(2)
الشرح الكبير: 3/ 428.
وجاء في (المدونة): من بعث مع رجل مالًا يدفعه إلى آخر صدقة أو صلة أو سلفًا أو ثمن مبيع أو يبتاع له به سلعة فقال له: دفعته إليه. وأكذبه الآخر، لم يبرأ الرسول إلا ببينة
(1)
.
وقال الحطاب: إن من دفع الوديعة إلى غير اليد التي دفعتها إليه فعليه ما على ولى اليتيم من الإشهاد، فإن لم يشهد فلا يصدق في الدفع إذا أنكر القابض
(2)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (المهذب): أنه إذا اختلف المودع والوديع، فقال: أودعتك وديعة وأنكرها الوديع فالقول قوله، لما روى ابن عباس - رضى الله عنهما - أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:"لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس دماء ناس وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه والبينة على من أنكر"
(3)
لأن الأصل أنه لم يودعه فكان القول قوله، وإن ادعى أنها تلفت نظر، فإن ادعى التلف بسبب ظاهر كالنهب والحريق لم يقبل حتى يقيم البينة على وجود النهب والحريق؛ لأن الأصل أن لا نهب ولا حريق، ويمكن إقامة البينة عليها فلم يقبل قوله من غير بينة، فإن أقام البينة على ذلك أو ادعى الهلاك بسبب يخفى فالقول قوله مع اليمين أنها هلكت؛ لأن الهلاك يتعذر إقامة البينة عليه فقبل قوله مع يمينه.
ثم قال: فأما إذا ادعى عليه أنه أودعه فقال: ما له عندى شئ فأقام البينة بالإيداع، فقال: صدقت البينة أودعتنى ولكنها تلفت أو رددتها قبل قوله مع اليمين، لأنه صادق في إنكاره أنه لا شئ عنده، لأنها إذا تلفت أوردها عليه لم يبق له عنده شئ
(4)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): إن أنكر المستودع الإيداع بأن قال: لم تودعنى ثم أقر بالوديعة أو ثبت الإيداع ببينة فادعى ردًا أو تلفًا سابقين بجحوده لم يقبل منه ذلك وإن أقام به بينة؛ لأنه صار ضامنًا بجحوده ومعترفًا على نفسه بالكذب المنافى للأمانة، ولأنه مكذب لبينته بجحوده. وإن كان ما ادعاه من الرد أو التلف بعد جحوده كما لو ادعى عليه بالوديعة يوم الخميس فجحدها ثم أقر بها يوم السبت ثم ادعى أنه ردها أو تلفت بغير تفريطه يوم الأربعاء وأقام بذلك بينة قبلت بينته بالرد أو التلف، لأنه حينئذ ليس بمكذب لها، فإن شهدت بينة بالتلف أو الرد بعد جحوده الإيداع ولم يعين هل ذلك التلف أو الرد قبل جحوده أو بعده واحتمل الأمرين لم يسقط الضمان؛ لأن وجوبه متحقق فلا ينتفى غير متردد فيه، وإن قال المدعى عليه الوديعة: مالك عندى شئ أو لا حق لك عليَّ أو قبلى، ثم أقر بالإيداع أو ثبت ببينة قبل قوله في الرد والتلف بيمينه؛ لأنه لا ينافى جوابه، لجواز أن يكون أودعه ثم تلفت عنده بغير تفريط أو ردها فلا يكون له عنده شئ
(5)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): القول في هلاك الوديعة أو في ردها إلى صاحبها أو في دفعها إلى من أمره
(1)
الشرح الكبير: 3/ 430.
(2)
مواهب الجليل: 5/ 262.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
المهذب: 1/ 262.
(5)
كشاف القتاع: 2/ 402 - 405.
صاحبها بدفعها إليه قول الذي أودعت عنده مع يمينه، سواء دفعت إليه ببينةٍ أو بغير بينة لأنه؛ ماله محرم فهو مدعى عليه وجوب غرامة، وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن اليمين على من ادعى عليه، ولا فرق بين دعوى جحد الدين وبين دعوى جحد الوديعة أو تضييعها. والمقرض مؤتمن على ما أقرض وعلى ما عومل فيه، كما أن المودع مؤتمن ولا فرق، وفرَّق قوم بين قول المودع: هلكت الوديعة فصدقوه إما ببينة وإما بغير بينة. وبين قوله: قد صرفتها إليك فألزموه الضمان. وكذلك في قوله: أمرتنى بدفعها إلى فلان فضمنوه وهذا خطأ؛ لأنه لم يأت بالفرق بين ذلك قرآن ولا سنة، والوجه في هذا هو أن كل ما قاله المودع مما يسقط به عن نفسه الفراصة ولا تخرج عين الوديعة عن ملك المودع فالقول قوله مع يمينه؛ لأن ماله محرم إلا بقرآن أو سنة، سواء كانت الوديعة معروفة للمودع ببينة أو بعلم الحاكم أو لم تكن، ولا فرق بين شئ مما فرقوا بينه بآرائهم الفاسدة. وأما إذا ادعى المودع شيئًا ينقل به الوديعة عن ملك المودع إلى ملك غيره فإنه ينظر فإن كانت الوديعة لا تعرف للمودع إلا بقول المودع فالقول أيضًا قول المودع مع يمينه في كل ما ذكر له من أمره إياه ببيعها أو الصدقة بها أو بهبتها، أو إنه وهبها له وسائر الوجوه ولا فرق؛ لأنه لم يقر لي بشئ في ماله ولا بشئ في ذمته لا بدين ولا بتعد ولا قامت له عليه بينة بحق ولا بتعد وماله محرم على غيره، وأما إن كانت الوديعة معروفة العين للمودع بينة أو بعلم الحاكم فإن المودع مدع نقل ملك المودع عنها فلا يصدق إلا ببينة وقد أقر حينئذ في مال غيره بما قد منع الله تعالى منه إذ يقول:{ولا تكسب كل نفس إلا عليها. . .} الآية
(1)
فهو ضامن
(2)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (التاج المذهب): إذا قال الوديع: ما عندى لك وديعة فأقام المالك البينة بإثباتها فادعى الوديع أنه قد ردها أو تلفت. فإنه لا يقبل قوله في ذلك بعد جحوده إياها، وأما البينة فتقبل، بخلاف ما لو قال الوديع: ما أودعتنى شيئًا؛ فلا تقبل له بينة؛ لأن إنكاره لأصلها يكذب بينة الرد، ويكون القول للمالك في ذلك
(3)
.
مذهب الإمامية:
جاء فى (الروضة البهية): أنه لو أنكر الوديعة حلف لأصالة البراءة، ولو أقام المالك بها بينة قبل حلفه ضمن؛ لأنه متعد بجحوده لها إلا أن يكون جوابه: لا يستحق عندى شيئًا، وشبهه كقوله: ليس لك عندى وديعة يلزمنى ردها ولا عوضها، فلا يضمن بالإنكار بل يكون كمدعى التلف يقبل قوله بيمينه أيضًا لإمكان تلفها بغير تفريط فلا تكون مستحقة عنده. ولا يناقض قوله البينة، ولو أظهر لإنكاره الأول تأويلًا كقوله: أليس عندى وديعة يلزمنى ردها أو ضمانها ونحو ذلك فالأقوى القبول أيضًا
(4)
.
وجاء في (شرائع الإسلام): أنه لو أنكر الوديعة أو اعترف أو ادعى التلف أو ادعى الرد ولا بينة فالقول قوله. وللمالك إحلافه على
(1)
سورة الأنعام، من الآية:164.
(2)
المحلى: 8/ 277.
(3)
التاج المذهب: 3/ 342.
(4)
الروضة البهية: 1/ 388.
الأشبه، أما لو دفعها إلى غير المالك وادعى الإذن فأنكر فالقول قول المالك مع يمينه
(1)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): إن جحد المستودع ومن يشبهه من المؤتمنين كالمرتهن والمستعير والمضارب ما بيده وقال مثلا: لا رهن لك عندى، أو لا وديعة، أو لا أمانة، أو لا عارية أو نحو ذلك فبين عليه صاحبه أنه بيده ثم ادعى تلفه لم يصدق في ادعائه تلفه ولو متولى إلا ببيان أو يمين؛ لأنه بجحوده أخرج من كونه أمينًا في الشئ. ولو كان أمينًا فيه قبل، فعندى أنه لا يخرج عن الغرم باليمين، ولا يطالب باليمين، ولا يمين عليه، بل لزمه الغرم لا يخرج عنه إلا ببيان. وقال المصنف: كما رأيت أنه يبين أو يحلف فلا يغرم
(2)
.
(1)
شرائع الإسلام: 1/ 229.
(2)
شرح النيل: 7/ 36.
الإنكار في العارية
مذهب الحنفية:
جاء في (حاشية رد المحتار): لو قال: أعرتنى هذه الدابة فقال: لا ولكنك غصبتها، فإن لم يكن المستعير ركبها فلا ضمان. وإلا ضمن، وكذا لو قال: دفعتها إليَّ عارية أو أعطيتنيها عارية، وقال أبو حنيفة: إِن قال: أخذتها منك عارية، وجحد الآخر ضمن. وإذا قال: أخذت هذا الثوب منك عارية؛ فقال: أخذته منى بيعًا، فالقول للمقر ما لم يلبسه؛ لأنه منكر، فإن لبس ضمن. ولو قال: أعرتنى هذا، فقال: لا بل آجرتك لم يضمن إن هلك بخلاف قوله: غصبته لكن يضمن إن كان استعمله
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (حاشية الدسوقى): إن ادعى آخذ العارية كدابة، أو ثوب، أو آنية كما لو ركب دابة رجل لمكان كذا، أو لبس ثوبًا لإنسان جمعة، أو استعمل آنية لإنسان شهرًا ورجع بها فقال لريها: أخذتها منك على سبيل العارية، وقال ربها: اكتريتها منى، فالقول قول المالك أنه اكتراها منه بيمين، كما أن القول قول المالك إذا ادعى الإعارة، وادعى الآخذ لها أنه اشتراها منه؛ لأن القول قول من ادعى عدم البيع، لأن الشئ لا يخرج عن ملك ربه إلا ببينة. ظاهر (المدونة)
(2)
أن هذا الحكم محله إذا وقع النزاع بعد الانتفاع، أما لو تنازعا قبله فالقول للآخذ في نفى عقد الكراء، لأن القول لمنكر العقد إجماعًا. وهو ظاهر
(3)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (الأم): لو اختلف رجلان في دابة فقال رب الدابة: أكريتكها إلى موضع كذا وكذا فركبتها بكذا وكذا، وقال الراكب: ركبتها عارية منك، كان القول قول الراكب مع يمينه ولا كراء عليه. (قال أبو محمد)
(4)
: وفيه قول آخر: أن القول قول رب الدابة من قبل أنه مقر بركوب دابتى مدع عليّ أنى أبحت ذلك له، فعليه البينة وإلا حلفت وأخذت كراء المثل
(5)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): إن دفع إليه دابة أو غيرها من الأعيان المنتفع بها مع بقائها ثم اختلف المالك والقابض فقال المالك: أجرتك فقال القابض: بل أعرتنى، وكان ذلك عقب العقد بأن لم يمض زمن له أجرة عادة والدابة أو غيرها قائمة لم تتلف، فقول القابض بيمينه؛ لأن الأصل عدم عقد الإجارة، وحينئذ ترد العين إلى مالكها؛ لأنه لا مستحق لها غيره، وإن كان الاختلاف بعد مضى مدة لها أجرة عادة فالقول قول مالك فيما مضى من المدة مع يمينه؛ لأنهما اختلفا في كيفية انتقال المنافع إلى ملك القابض فقدم قول المالك، وإذا حلف المالك فله أجرة مثل، لأن الإجارة لا تثبت بدعوى المالك بغير بينة، وإنما يستحق بدل المنفعة، وهو أجرة المثل
(6)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): من أضاع ما يستعير أو جحده ولم يؤمن ذلك منه فقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم
(1)
حاشية رد المحتار: 5/ 480، بتصرف.
(2)
المدونة الكبرى: 15/ 172.
(3)
حاشية الدسوقى: 3/ 440، بتصرف.
(4)
أبو محمد: هو الربيع بن سليمان المرادى (كما جاء في مقدمة كتاب الأم، وفى باب: التكبير للركوع).
(5)
الأم: 6/ 226.
(6)
كشاف القناع: 2/ 339، بتصرف.
النهي عن إضاعة المال
(1)
، ونهى الله تعالى عن التعاون على الإثم والعدوان فلا يجوز عونه على ذلك
(2)
.
وجاء في موضع آخر: تقطع يد المستعير الجاحد كما تقطع من السارق، ولا قطع إلا ببينة تقوم بالأخذ والتمليك مع الجحد أو الإقرار بذلك. فإن عاد مرة أخرى قطعت اليد الأخرى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد المرأة المخزومية
(3)
. وهذا عموم، لأن المستعير طلبه العارية مستخفيا بمذهبه في أخذه فكان سارقًا فوجب عليه القطع
(4)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (التاج المذهب): إذا اختلف المعير والمستعير كان القول للمستعير في أنها إعارة لا إجارة، والبينة على المالك أنها إجارة، هذا إذا لم يكن للمالك عادة بإجارة هذه العين أو استوت عادته فيهما معًا؛ لأن الأصل في المنافع عدم الأعواض عند الهادوية وهو المختار، فإن كان عادته تأجيرها أكثر من إعارتها كانت إجارة لا إعارة فيلزم له أجرة المثل إن لم الأجرة في الصحيحة. أو كانت الإجارة فاسدة
(5)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): لو اختلفا، فقال الزارع: أعرتنيها، وأنكر المالك وادعى الحصة أو الأجرة، ولا بينة. فالقول صاحب الأرض، وتثبت له أجرة المثل، مع يمين الزارع وقيل: تستعمل القرعة، والأول أشبه. وللزارع تبقية الزرع إلى أو أن أخذه؛ لأنه مأذون فيه.
أما لو قال: غصبتنيها، حلف المالك وكان له إزالته، والمطالبة بأجرة المثل. وأرش الأرض إن عابت، وطم الحفر إن كان غرسًا
(6)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): إن ادعى رب الدابة أو الدار أو السفينة أو غير ذلك من جميع ما يكرى أو يستأجر على عمل فيه كخياطة ثوب سواء بقى ذلك أو تلف في يد من كان عنده غصبًا أو سرقة أو إعارة أو ائتمانًا أو غير ذلك مما ليس إكراء ولا إجارة ولا عقدة بيع أو نحوه، وإنما ادعى يضمن له ما فسد في المعار بناءً على ضمان العارية، أو ليدعى عليه أنى قلت لك: اعمل واردد إليَّ؛ ليكون بذلك ضامنًا، أو ليدعى عليه أنى شرطت عليك الضمان وليدرك عليه الرد متى شاء، ولو كان الكراء كما قال مدعى الكراء لكان لمدعيه الامتناع من الرد إلى الأجل وادعى الآخر الكراء أو الاستئجار قبل قول رب الدابة
(7)
.
(1)
صحيح البخارى في عدة مواضع منها: كتاب في الاستقراض، باب ما ينهى عن إضاعة المال. وكتاب الرقاق، باب ما يكره من قيل وقال. وهو في صحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل. . إلخ.
(2)
المحلى: 9/ 169، بتصرف.
(3)
أخرجه البخارى: كتاب أحاديث الأنبياء - باب حديث الغار.
(4)
المحلى: 11/ 362، بتصرف
(5)
التاج المذهب: 3/ 260، بتصرف.
(6)
شرائع الإسلام: 2/ 152 - 153، بتصرف.
(7)
شرح النيل: 5/ 199، بتصرف.
الإنكار في الوكالة
مذهب الحنفية:
جاء في (بدائع الصنائع): أما بيان ركن التوكيل. فهو الإيجاب والقبول. فالإيجاب من الموكل أن يقول: "وكلتك بكذا أو "افعل كذا" أو "أذنت لك أن تفعل كذا" ونحوه. والقبول من الوكيل أن يقول: "قبلت وما يجرى مجراه، فما لم يوجد الإيجاب والقبول لا يتم العقد، ولهذا لو وَكَّلَ إنسانًا بقبض دينه فأبى أن يقبل، ثم ذهب الوكيل فقبضه لم يبرأ الغريم؛ لأن تمام العقد بالإيجاب والقبول، وكل واحد منهما يرتد بالرد قبل وجود الآخره كما في البيع ونحوه
(1)
.
وجاء في (المبسوط): لو أن رجلًا كان له على رجل مال، فغاب الطالب ودفع المطلوب المال إلى رجل ادعى أنه وكيل الطالب في قبضه. ثم قدم الطالب فجحد ذلك فشهد للمطلوب ابنا الطالب بالوكالة جازت الشهادة، لأنهما يشهدان على أبيهما، فإن هذه الشهادة لو انعدمت كان للطالب أن يرجع في حقه على المطلوب إذا حلف أنه لم يوكل الوكيل. وعند قبول هذه الشهادة يبطل حقه في الرجوع على المطلوب، ويستفيد المطلوب البراءة بما دفع إلى الوكيل. فظهر أنهما يشهدان على أبيهما، وشهادة الواحد على والده مقبولة
(2)
.
مذهب المالكية:
جاء في (شرح مختصر خليل): أنه من باع سلعة لشخص أو اشتراها له وادعى أنه أمره ببيعها أو شرائها وخالفه الموكل في ذلك؛ فإن القول قول الموكل بلا يمين، وكذلك القول قول الموكل لكن بيمين إذا صدقه على التوكيل ولكن خالفه في صفة الإذن بأن قال: أمرتك برهنها وقال الوكيل: بل أمرتتى ببيعها، وكذلك إذا صدقه على البيع واختلفا في جنس الثمن فقال الموكل: أمرتك أن تبيعها بالنقد، وقال الوكيل: بل أمرتتى بطعام وكذلك إذا صدقه على أحدهما، وقال الوكيل: أمرتنى بعشرة وقلت بأكثر، وكذلك إذا صدقه على القدر وقلت أنت: حالًا. وقال الوكيل: بل مؤجلا فإن القول في ذلك كله قول الموكل وأما المفوض فالقول قوله إن ادعى الإذن أي في البيع. والتوكيل ثابت لا أنه ادعى التوكيل خلافًا لتت في الكبير، وإذا دفع له ثمنًا وقال: اشتر لي به تمرًا؛ فاشترى به طعامًا وقال: بذلك أمرتنى، وخالفه الآمر؛ فإن القول قول الوكيل بقيود أربعة: أن يدعى الإذن، وأن يكون الثمن مما يعاب عليه، وأن يحلف، وأن يشبه، والشبه يؤخذ من التشبيه
(3)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (المهذب): أنه إذا ادعى رجل على رجل أنه وكَّله في تصرف فأنكر المدعى عليه فالقول قوله؛ لأنه ينكر عقدًا الأصل عدمه فكان القول قوله
(4)
.
وجاء في (نهاية المحتاج): إذا اختلفا في أصل الوكالة فقال الوكيل: وكلتنى في كذا؛ فقال: ما وكلتك، أو في صفتها بل قال: وكلتني في البيع نسيئة أو في الشراء بعشرين، فقال: بل نقدًا أو
(1)
بدائع الصنائع: 6/ 20.
(2)
المبسوط: 19/ 20.
(3)
شرح مختصر خليل للخرشى: 6/ 83.
(4)
المهذب: 1/ 356، بتصرف.
بعشرة صُدِّق الموكل بيمينه في الكل؛ لأن الأصل معه.
وصورة المسألة: أن يتخاصما بعد التصرف، أما قبله فتعمد إنكار الوكالة عزل فلا فائدة للمخاصمة. وتسميته فيها موكلا بالنظر لزعم الوكيل.
ثم قال: ولو قال الوكيل: أتيت بالتصرف المأذون فيه من بيع أو غيره وأنكر الموكل ذلك صدق الموكل بيمينه؛ لأن الأصل معه فلا يستحق الوكيل ما شرط له من الجُعل على التصرف إلا ببينة.
ولو قال رجل لآخر عليه أو عنده مال للغير: وكلنى المستحق بقبض ماله عندك من دين أو عين؛ وصدقه من عنده ذلك فله دفعه إليه؛ لأنه محق بزعمه، حيث غلب على ظنه إذن المالك له في قبضها بقرينة قولية
(1)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): أنه لو ظهر بالمبيع عيب وأسقط الوكيل خياره. وأراد الموكل الرد به فأنكر البائع أن الشراء وقع للموكل قبل قوله ولزم الوكيل؛ لأن الظاهر فيمن يباشر عقدًا أنه لنفسه، وليس للوكيل رده لإسقاطه خياره، فإن قال البائع للوكيل: موكلك قد رضى بالعيب، فالقول قول الوكيل مع يمينه أنه لا يعلم ذلك، لأنه الأصل ويرده الوكيل ويأخذ حقه في الحال. ولو ادعى الغريم أن الموكل عزل الوكيل في قضاء الدين أو ادعى موت الموكل أو نحوه مما تنفسخ به الوكالة حلف الوكيل على نفى العلم بما ادعاه الغريم؛ لأن الأصل عدمه، فإن رد الوكيل المعيب في غيبة الموكل فصدق الموكل البائع في الرضا بالعيب لم يصح الرد، وهو باق للموكل
(2)
.
وجاء في موضع آخر: وإن قال: وكلتنى أن أتزوج لك فلانة ففعلت وصدقته المرأة، فأنكر المدعى عليه أن يكون وكله بأن قال: ما وكلتك فقول المنكر؛ لأنهما اختلفا في أصل الوكالة فقبل قول المنكر؛ لأن الأصل عدمها ولم يثبت أنه أمينه حتى يقبل قوله عليه بغير يمين نص عليه؛ لأن الوكيل يدعى حقًّا لغيره، ومقتضاه أنه يستحلف إذا ادعته المرأة، لأنها تدعى الصداق في ذمته فإذا حلف لم يلزمه شئ، ويلزم الموكل تطليقها إن لم يتزوجها لإزالة الاحتمال، لأنه يحتمل صحة دعواها فيتنزل منزلة النكاح الفاسد. ولا يلزم الوكيل شئ من الصداق لتعلق حقوق العقد بالموكل، هذا إن لم يضمنه، فإن ضمنه فلها الرجوع عليه بنصفه لضمانه عنه، ولو مات أحدهما لم يرثه الآخر؛ لأنه لم يثبت نكاحها فترثه وهو منكر أنها زوجته فلا يرثها.
وإذا حضر رجلان عند الحاكم فأقر أحدهما أن الآخر وكَّله ولم يسمعه شاهدان مع الحاكم، ثم غاب الموكل وحضر الوكيل فقدم خصمًا لموكله. وقال: أنا وكيل فلان فأنكر الخصم كونه وكيلًا، لم تسمع دعواه حتى تقوم البينة بوكالته؛ لأن الحاكم لا يحكم بعلمه، ولو حضر رجل وادعى على غائب مالا في وجه وكيله فأنكره الوكيل فأقام المدعى بينة بما ادعاه من الدين حلفه الحاكم، فإذا حضر الموكل وجحد الوكالة وادعى أنه كان قد عزله لم يؤثر ذلك في الحكم
(3)
.
(1)
نهاية المحتاج: 5/ 56 - 63، بتصرف وإيجاز.
(2)
كشاف القناع: 2/ 242.
(3)
السابق: 3/ 250 - 251.
مذهب الظاهرية:
انظر: مسألة الإنكار في البيع.
مذهب الزيدية:
جاء في (التاج المذهب): وإذا اختلف الموكل والوكيل في الوكالة فالبينة على من لم يكن القول قوله؛ ولهذا يكون القول للأصل والوكيل معًا في نفيهما.
ويكون القول للأصل فقط في القدر الموكل فيه وجنسه ونوعه حيث تصادقا على الوكالة نحو أن يقول: وكلتنى بشراء ثوبين فيقول الموكل: بل ثوب واحد؛ أو يقول: وكلتنى أن اشترى ثوبًا بعشرين فيقول: بل بعشرة أو نحو ذلك؛ فالقول قول الموكل بعد الشراء، والبينة على الوكيل لا قبل الشراء فينعزل الوكيل، وأما في قدر الثمن الذي باع به الوكيل فالقول قوله؛ لأنه أمين
(1)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (العروة الوثقى): أنه لو اختلفا في أصل الوكالة فمع عدم البينة يقدم قول المنكر مع الحلف، سواء كان هو المالك - كما إذا تصرف في ماله بدعوى الوكالة فأنكر توكيله -؛ أو المدعى عليه الوكالة - كما إذا اشترى شيئًا فادعى واحد أنه اشتراه بوكالة عنه وأنه له وأنكر المشترى وقال: اشتريته لنفسى أو لفلان، وكما إذا اشترط في ضمن عقد لازم أو يوكله في أمر معين في وقت معين واختلفا بعد مضى ذلك الوقت أنه وكله حتى يبقى العقد على لزومه أو لا؟ حتى يثبت له خيار تخلف الشرط - فإنه يقدم قول منكر التوكيل، ثم لا فرق بينهما من أن يكون بينهما أم بين أحدهما ووارث الآخر أو بين الوارثين، وكذا إذا تنازع المالك مع المشترى كما إذا باع أحد داره من شخص فادعى المشترى أن البائع كان وكيلًا عن المالك وأنكر المالك ذلك فإنه يقدم قول المنكر الذي هو المالك
(2)
.
مذهب الإباضية:
جاء فى (شرح النيل): وإن قال الوكيل: قد دفعت إليك وأنكر الموكل فالقول قولٌ الوكيل مع يمينه، وإن طال الزمان فلا يمين عليه، وقيل: القول قولٌ الموكِّل مع يمينه ولو طال الزمان، وإذا قبض الوكيل شيئًا فادعى تلفه بعد قبضه لم يبرأ الدافع إليه إلا ببينة على الدفع. إلا إن صدقه الموكل في الدفع، وإن قال: وكلتنى. وقال الموكِّل: لا؛ فالقول قول الموكِّل
(3)
.
(1)
التاج المذهب: 4/ 129.
(2)
العروة الوثقى: 2/ 152 - 153.
(3)
شرح النيل: 4/ 746 - 747.
الإنكار في الشفعة
مذهب الحنفية:
جاء في (بدائع الصنائع): لو اشترى دارين ولهما شفيع ملاصق فقال المشترى: اشتريت واحدة بعد واحدة وأنا شريك في الثانية، وقال الشفيع: لا بل اشتريتهما صفقة واحدة ولى الشفعة فيهما جميعًا، فقول قول الشفيع؛ لأن سبب الاستحقاق ثابت فيهما جميعًا وهو الجوار على سبيل الملاصقة؛ وقد أقر المشترى بشرط الاستحقاق وهو شراؤهما إلا أنه بدعوى تفريق الصفقة يدعى البطلان بعد وجود السبب وشرطه من حيث الظاهر فلا يصدق إلا ببينة، وأيهما أقام بينة قبلت بينته، وإن أقاما جميعًا البينة فالبينة بينة الشفيع عند أبى حنيفة ومحمد، وعند أبى يوسف البينة بينة المشترى، ولو قال المشترى: وهب لى هذا البيت مع طريقة من هذه الدار ثم اشتريت بقيتها، وقال الشفيع: لا بل اشتريت الكل؛ فللشفيع الشفعة فيما أقر أنه اشترى ولا شفعة له فيما ادعى من الهبة؛ لأنه وجد سبب الاستحقاق وهو الجوار ووجد شرطه وهو الشراء بإقرار، فهو بدعوى الهبة يريد بطلان حق الشفيع فلا يصدق. وللشفيع الشفعة فيما أقره لشرائه ولا شفعة له في الموهوب؛ لأنه لم يجد من المشترى الإقرار بشرط الاستحقاق على الموهوب، وأيهما أقام البينة قبلت بينته، وإن أقاما جميعًا البينة فالبينة بينة المشترى عند أبى يوسف رحمه الله؛ لأنها تثبت زيادة الهبة، وينبغى أن تكون البينة بينة الشفيع عند محمد رحمه الله؛ لأنها تثبت زيادة الاستحقاق، وروى عن محمد فيمن اشترى دارًا وطلب الشفيع الشفعة فقال المشترى: اشتريت نصفًا ثم نصفًا فلك النصف الأول، وقال الشفيع: لا بل اشتريت الكل صفقة واحدة ولى الكل فالقول قول الشفيع؛ لأن سبب ثبوت الحق في الكل كان موجودًا وقد أقر بشرط الثبوت؛ وهو الشراء، ولكنه يدعى أمرًا زائدًا وهو تفريق الصفقة فلا يقبل ذلك منه إلا ببينة.
ولو أراد الشفيع أن يأخذ الدار المشتراة بالشفعة فقال البائع والمشترى: كان البيع فاسدًا فلا شفعة لك، وقال الشفيع: كان جائزًا ولى الشفعة فهو على اختلافهم في شرط الخيار للبائع في قول أبى حنيفة ومحمد وإحدى الروايتين عن أبى يوسف: القول قول العاقدين ولا شفعة للشفيع.
وفى رواية عن أبى يوسف: القول قول الشفيع وله الشفعة، فأبو يوسف يعتبر الاختلاف بينهم في الصحة والفساد باختلاف المتعاقدين فيما بينهما، ولو اختلفا فيما بينهما في الصحة والفساد كان القول قول من يدعى الصحة، كذا هذا، والجامع أن الصحة أصل في العقد، والفساد عارض
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (الحطاب): الشفيع الحاضر إذا أنكر عليه فإنه يصدق ولا تسقط شفعته، وهل تلزمه اليمن قال في (الواضحة): لو أنكر الشفيع العلم
(1)
بدائع الصنائع: 5/ 32 - 33، بتصرف.
وهو حاضر فنقل أبو الحسن عن ابن القاسم وأشهب أنه يصدق وإن طال؛ لأن الأصل عدم العلم، قال المتيطى: وهو ظاهر المذهب وقاله غير واحد من الموثقين، ويحلف على ذلك، وقال محمد بن عبد الحكم وابن المواز: يصدق ولو بعد أربعة أعوام، وأن الأربعة كثيرة ولا يصدق في أكثر منها، قال أبو الحسن: ولو علم بالشراء وادعى جهل الشفعة قال: لا يصدق
(1)
.
وإذا أنكر المشترى الشراء وادعاه البائع فتحالفا وتقاسما فليس للشفيع أن يأخذ بالشفعة بإقرار البائع؛ لأن عهدته على المشترى. فإذا لم يثبت المشترى على الشراء فلا شفعة للشفيع، قال في (المدونة): وإن أقر رجل أنه ابتاع هذا الشقص
(2)
من فلان الغائب فقام الشفيع فلا يقض له بالشفعة بإقرار هذا حتى يقيم بينة على الشراء؛ لأن الغائب إذا قدم وأنكر البيع له الحق أن يأخذ داره ويرجع على مدعى الشراء بكراء ما سكن
(3)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (المهذب): وإن أقر أحد الشريكين في الدار أنه باع نصيبه من رجل ولم يقبض الثمن وصدقه الشريك وأنكر الرجل؛ فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا نثبت الشفعة للشريك؛ لأن الشفعة تثبت بالشراء ولم يثبت الشراء فلم تثبت الشفعة للشريك. وذهب عامة أصحابنا إلى أنه تثبت الشفعة، وهو جواب المزنى فيما أجاب فيه على قول الشافعي رحمه الله؛ لأنه أقر للشفيع بالشفعة وللمشترى بالملك، فإذا أسقط أحدهما حقه لم يسقط حق الآخر، كما لو أقر لرجلين بحق فكذبه أحدهما وصدقه الآخر، وهل يجوز للبائع أن يخاصم المشترى؟ فيه وجهان أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه يصل إلى الثمن من جهة الشفيع فلا حاجة به إلى خصومة المشترى. والثانى: له أن يخاصمه؛ لأنه قد يكون المشترى أجهل في المعاملة من الشفيع، فإن قلنا لا يخاصم المشترى أخذ الشفيع الشقص من البائع وعهدته عليه؛ لأنه منه أخذ وإليه دفع الثمن، وإن قلنا: يخاصمه فإن حلف أخذ الشفيع الشقص من البائع ورجع بالعهدة عليه، وإن نكل فحلف البائع سلَّم الشقص إلى المشترى وأخذ الشفيع الشقص من المشترى ورجع بالعهدة عليه؛ لأنه منه أخذ وإليه دفع الثمن، وإن أقر البائع بالبيع وقبض الثمن وأنكر المشترى فمن قال: لا شفعة إذا لم يقر بقبض الثمن لم تثبت الشفعة إذ أقر بقبض، ومن قال: تثبت إذا لم يقر بقبض الثمن اختلفوا إذا أقر بقبضه، فمنهم من قال: لا تثبت؛ لأنه يأخذ الشقص من غير عوض وهذا لا يجوز، ومنهم من قال: تثبت؛ لأن البائع أقر له بحق الشفعة. وفى الثمن الأوجه الثلاثة والتي ذكرناها فيمن ادعى الشفعة على شريكه وحلف بعد نكول الشريك
(4)
.
(1)
الحطاب: 5/ 322.
(2)
الشقص: الشقص والشقيص: الطائفة من الشئ والقطعة من الأرض تقول: أعطاء شقصًا من ماله. وقيل: هو قليل من كثير، وقيل: هو الحظ. ولك شقص هذا وشقيصه كما تقول نصفه ونصيفه، والجمع من كل ذلك أشقاص وشقاص. لسان العرب: مادة شقص.
(3)
الحطاب: 5/ 334 - 335.
(4)
المهذب: 1/ 384.
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): إن اختلف الشفيع والمشترى في الغراس والبناء اللذين في الشقص المشفوع فقال المشترى: أنا أحدثته فأنكر الشفيع وقال: بل اشريته مغروسًا ومبنيًا فقول المشترى بيمينه؛ لأنه ملك المشترى والشفيع يريد تملكه عليه، فلا يقبل منه إلا ببينة، وإن أقاما بينتين قدمت بينة شفيع، أو إن قال المشترى: اشتريته بألف وأقام البائع بينة أنه باعه بألفين فللشفيع أخذه بألف؛ لأن المشترى مقر له باستحقاقه بألف، فلم يستحق الرجوع بأكثر. فإن قال المشترى: غلطت، أو نسيت، أو كذبت والبينة صادقة لم يقبل قوله؛ لأنه رجوع عن إقراره بحق لآدمى فلم يقبل كما لو أقر له بدين، وإن ادعى الشفيع أنك أيها الواضع يدك على الشقص اشتريته بألف فلى الشفعة، احتاج إلى تحرير الدعوى، فيحدد المكان الذي فيه الشقص. ويذكر قدر الشقص وثمنه، فإن اعترف لزمه، وإن أنكر فقال واضع اليد: بل اتَّهَبتُه، أو ورثته فلا شفعة فالقول قوله مع يمينه أنه اتَّهَبَه، أو ورثه؛ لأن الأصل معه والمثبت للشفعة البيع ولم يتحقق، وإن قال: لا تستحق على شفعة فالقول قوله مع يمينه وهى على حسب جوابه، فإن نكل المدعى عليه عن اليمين أو قامت للشفيع بينة بدعواه فله أخذ الشقص بالشفعة؛ لأن البيع ثبت بالنكول لقيامه مقام الإقرار أو بالبينة، وإذا ثبت تبعته حقوقه، والأخذ بالشفعة من حقوقه وحينئذ يعرض عليه الثمن، فإن أخذه دفع إليه وإلا فيبقى الثمن في يده يعنى في ذمة الشفيع إلى أن يدعيه المشترى فيدفع إليه. وكذا لو ادعى الشفيع أن واضع اليد اشتراه فأنكر وأقر البائع، ولو ادعى شريك على حاضر بيده نصيب شريكه الغائب أنه اشتراه وأنه يستحقه بالشفعة فصدقه المدعى عليه أخذه منه، وكذا لو ادعى الشريك على الحاضر أنه باع نصيب الغائب بإذنه فقال: نعم، فإذا قدم الغائب فأنكر ذلك وانتزع الشقص وطالب بالأجرة من شاء منهما، وقرار الضمان على الشفيع، وإن أنكر واضع اليد أنه اشترى نصيب الغائب وقال: بل أنا وكيل في حفظه، أو مستودع، فالقول قوله مع يمينه؛ فإن نكل احتمل أن يقضى عليه؛ لأنه لو أقر لقضى عليه واحتمل ألا يقضى عليه؛ لأنه قضاء على غائب بلا بينة ولا إقرار
(1)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): في الرجلين بينهما دار أو أرض فقال أحدهما للآخر: أريد أن أبيع ولك الشفعة فاشتر منى؛ فقال له الآخر: لا حاجة لى به قد أذنت لك أن تبيع فباع، ثم يأتى طالب الشفعة فيقول: قد قام الثمن وأنا أحق، قال: الحكم لا شئ له إذا أذن.
وجاء في موضع آخر: ومن لم يعرض على شريكه الأخذ قبل البيع حتى باع فوجبت الشفعة بذلك للشريك فالشريك على شفعته علم بالبيع أو لم يعلم، حضره أو لم يحضره، أشهد عليه أو لم يشهد حتى يأخذ متى شاء ولو بعد ثمانين أو أكثر، أو يلفظ بالترك فيسقط حينئذ ولا يسقط حقه بعرض غير شريكه أو رسوله عليه.
(2)
.
(1)
كشاف القناع: 2/ 392 - 393، بتصرف.
(2)
المحلى: 9/ 88 - 89.
مذهب الزيدية:
جاء في (التاج المذهب): إذا سلم المشترى المبيع للشفيع ثم ادعى أن الشفيع لا يملك السبب أو أن الشفيع قد كان تراخى فالبينة على المشترى وتقبل بينته إن كان ناكرًا للشفيع عند طلبه أو سكت، وتكون البينة على إقرار الشفيع أنه لا ملك له أو أنه لفلان؛ لا على أنه لا يملك فلا يصح؛ لأنها على نفى، أو تكون البينة على مشاهدة تراخيه بعد العلم أو إقراره ما لم يكن قد حكم للشفيع، لا لو كان المشترى صادق الشفيع على ملك السبب فلا تقبل بينة المشترى؛ إلا أن يدعى أنه جهل ملك الشفيع ظنًا منه أنه يملك السبب ثم بان خلافه فإنها تقبل دعواه وبينته، ويحلف على ذلك إن نوزع في الجهل
(1)
.
ثم قال في موضع آخر: والقول عند الاختلاف لمنكر خلاف الأصل فمن ادعى الأصل قبل قوله، ومن خالفه بين، فإن سلم المبيع للشفيع ثم ادعى أنه لا يملك السبب فإن البينة عليه وتكون على أن السبب لفلان أو على إقرار الشفيع بأنه لا يملك السبب، هذا إذا ناكر المشترى الشفيع عند طلبه، لا لو صادقه فلا تقبل بينته إلا أن يدعي المشترى أنه جهل ملك الشفيع فسلم ظنًا منه أنه يملك السبب ثم بان له خلاف ذلك؛ فإنها تقبل دعواه وبينته ويحلف أنه سلم ظنًا منه ذلك، والقول للمشترى أيضًا في نفى السبب وملكه، فإذا قال المشترى للشفيع: لا سبب لك تستحق به الشفعة أو أن هذا السبب الذي تدعى استحقاق الشفعة به ليس بملك فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمه، والبينة على الشفيع، ولو كان الظاهر معه، وكذلك الشفعاء فيما بينهم، قال في (الغيث): وإنما كانت البينة على الشفيع وإن كان معه الظاهر؛ لأن من الظاهر معه فالقول قوله إذا أدعى عليه حق مخالف للظاهر لا إذا ادعى بالظاهر حقًّا فعليه البينة. والقول للمشترى أيضًا في نفس العذر في التراخى لو تصادق الشفيع والمشترى على أنه قد وقع تراخٍ من الشفيع حين علم، لكن قال الشفيع: التراخى كان لعذر وأنكر المشترى ذلك فالقول قول المشترى؛ لأن الشفيع ادعى ما تمكن البينة عليه، مثال ذلك أن يقول الشفيع: ما تراخيت إلا أنى سمعت أن البائع وهب منه سهمًا، أو أن الشراء لزيد، أو أن الثمن كذا فأعرضت عن طلبها فتكون عليه البينة أن مخبرًا أخبره بذلك، ولو صغيرًا أو كافرًا، فإن لم يبين حلف المشترى ما يستحق عليه الشفعة، لا لو قال المشترى: أنت تراخيت ونفى ذلك الشفيع كان القول قول الشفيع؛ لأن الأصل عدم التراخى
(2)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (الروضة البهية): لو ادعى أن شريكه اشترى بعده وأنه يستحق عليه الشفعة فأنكر الشريك التأخر حلف الشريك؛ لأنه منكر، والأصل عدم الاستحقاق، ويكفيه الحلف على نفى الشفعة وإن أجاب بنفى التأخر؛ لأن الغرض هو الاستحقاق فيكفى اليمين لنفيه، وربما كان صادقًا في نفى الاستحقاق، وإن كان الشراء متأخرًا لسبب من الأسباب المسقطة للشفعة فلا يكلف الحلف على نفيه، ويحتمل لزوم حلفه على
(1)
التاج المذهب: 3/ 42.
(2)
السابق: 3/ 61 - 63 بتصرف.
نفى التأخر على تقدير الجواب به؛ لأنه ما أجاب به إلا ويمكنه الحلف عليه، ولو تداعيا السبق تحالفا؛ لأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فإذا تحالفا استقر ملكهما لاندفاع دعوى كل منهما بيمين الآخر ولا شفعة؛ لانتفاء السبق
(1)
.
مذهب الإباضية:
جاء في كتاب (الإيضاح): إن اختصم الشفيع والمشترى على الشفعة فادعى الشفيع أنه اشترى وأنكر المشترى الشراء فعلى الشفيع البينة. ولا يجزيه في ذلك إلا الشهادة بعد إنكار المشترى؛ لأنه انتقال ملك. ويجزيه الخبر قبل الإنكار، وإن لم تكن للشفيع بينة فعلى المشترى اليمين بأنه لم يشتر، ولا يحلفه الحاكم حتى يرسل الأمناء فيردون تلك الأرض التي يحلف عليها؛ لأن ذلك يمين قاطعة، وإن حلف المشترى على ما ذكرنا ثم أتاه الشفيع أو شفيع غيره على ذلك مرة أخرى فليس لهما إليه سبيل بعد ما حلف على الشراء إلا أن يدعيا عليه أنه اشترى بعد اليمين، وإن أنكر البائع والمشترى جميعًا فليس للشفيع إلى ذلك منه سبيل؛ لأن ذلك منه دعوى لغيره، وإن أراد الشفيع أخذ الشفعة على المشترى فقال المشترى: إنك جوزت إلى الشراء؛ أو قطعت عنك الشفعة بعد الشراء؛ أو أطعمتك من ثمارها؛ أو استأجرتك فيها لعمل كذا وكذا وما أشبه ذلك من الوجوه التي تقطع بها الشفعة فعلى المشترى البينة في كل ذلك ويجزيه الخبر دون الشهادة؛ لأن ذلك ليس بانتقال ملك، وإنما هو دعوى في إبطال حق، فإن لم تكن له بينة فعلى الشفيع اليمين على ما يدعيه المشترى قبله، وكذلك أيضًا إن أخذ الشفيع شفعته على المشترى ثم أنكره بعد ذلك فقال: ما أخذت شيئًا فعلى الشفيع الشفعة بأنه قد أخذها عنه، ويجزيه في ذلك الخبر دون الشهادة؛ لأنه ليس بانتقال ملك كما ذكرنا، وإن لم تكن له بينة فعلى المشترى اليمين. وجاء في (الأثر): وأما إن أخذ الشفيع الشفعة عن المشترى ثم عارضه البائع في تلك الأرض وأنكر البيع فعلى الشفيع البينة بأن المشترى قد اشترى عنه، وأنه قد أخذ بالشفعة على المشترى، ثم يأتى بالشهود فيخبرون بالشراء ويخبرون بالخبر عن الشفعة، وهذا إذا كان الشهود الذين حضروا لشرائهم الذين حضروا الشفعة، وأما إذا كان الشهود الذين حضروا الشفعة غير شهود الشراء فلا يشهدون له على البائع، فإن لم تكن له بينة فعلى البائع اليمين، وإنما لزم البائع اليمين هنا؛ لأن الدعوى بعد ثبوت الشفعة له لا لغيره لانتقال ما للمشترى إليه، وإن أتى بالبينة على ما ذكرنا وحكم له الحاكم بالأرض ثم عارضه فيها المشترى وأنكر أن يكون الشفيع أخذها عنه بالشفعة فلا ينصت إليه الحاكم في قوله ولا يرفعه له منها
(2)
.
(1)
الروضة البهية: 2/ 28 - 29.
(2)
الإيضاح: 4/ 379 - 399، بتصرف.
الإنكار في الرهن
مذهب الحنفية:
جاء في (المبسوط): لو اختلفا في أصل الرهن فقال أحدهما: لم نرتهن، وقال الآخر: بل قد ارتهنا وأقام البينة، وقال الراهن: لم أرهنه لم يكن رهنًا حتى يجتمعا على الدعوى وهو قول أبى يوسف، وكذلك إن كانا شريكين شركة عنان أو مفاوضة وأنكر أحدهما الرهن فقد أكذب شهوده، ومع إكذابه يتعذر القضاء بالرهن في نصيبه فيتعذر القضاء به في نصيب الآخر لأجل الشيوع.
ولو كان شريكى عنان فرهنا جميعًا رهنًا لم يكن لأحدهما أن ينقضه دون صاحبه؛ لأنهما كالأجنبى في نقض كل واحد منهما الرهن في نصيب صاحبه، فإن شركة العنان لا تتضمن إلا الوكالة بالبيع والشراء، وفيما سوى ذلك كل واحد منهما في حق صاحبه ينزل منزلة الأجنبى، فإن نقضه وقبضه فهلك عنده كان المرتهن ضامنًا لحصة الذي لم ينتقض؛ لأنه صار مخالفًا برد حصته على الآخر ويرجع عليهما بماله ويرجع بنصف القيمة التي ضمن على الذي قبض منه الرهن؛ لأن القابض منه لا يرده عليه
(1)
.
وجاء في موضع آخر: وإذا كان الراهن اثنين فادعى المرتهن عليهما رهنًا وأقام البينة على أحدهما أنه رهنه وقبضه والمتاع لهما جميعًا وهما يجحدان الرهن فإنه يستحلف الذي لم يقم عليه البينة ما رهنه؛ لأنه لو لم يقم البينة على واحد منهما توجهت اليمين عليهما، فكذلك إذا لم يقم البينة على أحدهما، وهذا لأنه يدعى عليه ما لو أقر به لزمه، فإذا أنكر استحلف عليه فإن نكل ثبت الرهن عليهما؛ على أحدهما بالبينة وعلى الآخر بالنكول القائم مقام إقراره، فإن حلف رد الرهن عليهما؛ لأن في نصيب الذي حلف انتفى الرهن من الأصل فلا يمكن القضاء في نصيب الآخر؛ لأن نصيبه نصف شائع من العين، ولو كان الراهن واحدًا والمرتهن اثنين فقال أحدهما: ارتهنت أنا وصاحبى هذا الثوب منك بمائة وأقام له البينة وأنكر المرتهن الآخر وقال: لم نرتهنه وقد قبضا الثوب فجحد الراهن الرهن؛ فإن الرهن يرد على الراهن في قول أبى يوسف، وقال محمد: أقضى به رهنًا وأجعله في يد المرتهن الذي أقام البينة أو على يد عدل، فإذا قضى الراهن المرتهن الذي أقام البينة ماله أخذه الرهن، فإن هلك الرهن ذهب نصيب الذي أقام البينة من المال، فأما نصيب الآخر في الرهن فلا يثبت بالاتفاق؛ لأنه أكذب شهوده بجحوده. ثم قال أبو يوسف: لما انتفى الرهن في نصيب الجاحد انتفى في نصيب المدعى أيضًا لأجل الشيوع كما في الفصل الأول، وهذا لأنه لا يمكن القضاء بجميعه رهنًا للذى أقام البينة، بدليل أنه لا يترك في يده وحده وإن بهلاكه لا يسقط جميع دينه، ولا يمكن القضاء له بالرهن في نصفه لأجل الشيوع ومحمد يقول: هو قد أثبت ببينته الرهن في جميع العين وهو خصم في ذلك؛ لأنه لا يتوصل إلى إثبات حقه في نصيبه إلا بإثبات الرهن على الراهن وعلى المرتهن الآخر، فعرفنا أنه خصم في ذلك كله فيقضى بالرهن في جميع حق الآخر وبجحوده صار رادًا للرهن
(1)
المبسوط: 6/ 166.
في نصيبه وهو متمكن من ذلك، ولكن لا يتمكن من إبطال حق الآخر في نصيبه فلا يجوز إعادة شئ منه إلى الراهن؛ لأن فيه إبطال حق المرتهن المدعى، ولا يمكن إلزام الجاحد إمساكه مع رده بجحوده ويتعذر جعل الفضل في يد المرتهن المدعى لإقراره بأن الراهن لم يرض بذلك، فيجعل على يده وعلى يد عدل حتى يستوفى هو دينه فإذا سقط حقه ردت العين على الراهن، وإن هلك الرهن ذهب نصيبه من المال بخلاف الأول فهناك الشهود ما شهدوا بالرهن، إلا على أحد المالين فلا يمكن القضاء بالرهن على المالين بحكم تلك البينة
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (التاج والإكليل): قال الحطاب: إذا كان لشخص على آخر دين وكان تحت يد صاحب الدين شئ للمديان فادعى أحدهما أن ذلك الشئ رهن في الدين، وقال الآخر: ليس برهن. فالقول قول من ادعى نفى الرهنية. قال في (الجواهر): لو ادعى المرتهن أن ثمرة النخل رهن وأنكر الراهن؛ فالقول قوله
(2)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (نهاية المحتاج): أنه إذا اختلف الراهن والمرتهن في أصل الرهن كأن قال: رهنتنى كذا فأنكر، أو في قدره أي الرهن بمعنى المرهون كأن قال: رهنتنى الأرض بأشجارها، فقال: بل الأرض فقط، أو في عين الرهن أو قدر المرهون به كمائتين فقال: بل مائة. أو صفة المرهون به كرهنتنى بالألف الحال فقال الراهن: بل بالمؤجل. أو في جنسه كما لو قال: رهنته بالدنانير، فقال: بل بالدراهم؛ صدق الراهن أي المالك بيمينه ولو كان المرهون بيد المرتهن، إذ الأصل عدم ما يدعيه المرتهن وإطلاقه بالنظر للمدعى وإلا فمنكر الرهن ليس براهن
(3)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (الكافى): إن قال الراهن: قبضت الرهن بغير إذنى فقال: بل بإذنك؛ فالقول قول الراهن؛ لأنه منكر وإن قال: أذنت لك ثم رجعت قبل القبض فأنكر المرتهن؛ فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم الرجوع، وإن كان الرهن في يد الراهن فقال المرتهن: قبضته ثم غصبتنيه فأنكر الراهن؛ فالقول قوله؛ لأن الأصل معه
(4)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (التاج المذهب): إذا اختلف الراهن والمرتهن كان القول للراهن؛ لأنه منكر خلاف الأصل، والبينة على مدعيه وهو المرتهن فالقول قول الراهن في نفى الرهنية، فلو قال الراهن: دينك ثابت على لكن أرهنك هذا الشئ فقال المرتهن: بل رهنتنيه، فالقول قول الراهن؛ لأن الأصل عدم الرهن
(5)
.
وجاء في موضع آخر: أن القول للمرتهن في أمور منها: لو كان عند المرتهن للراهن عين مرهونة وأخرى وديعة فتلفت إحداهما وبقيت الأخرى، فالقول قول المرتهن في أن الباقى الرهن
(1)
المبسوط 21/ 132.
(2)
التاج والإكليل: 5/ 28.
(3)
نهاية المحتاج: 4/ 288 - 289.
(4)
الكافى في فقه ابن حنبل: 2/ 92.
(5)
التاج المذهب؛ 3/ 247 - 248.
والتالف الوديعة؛ لأن الأصل براءة الذمة وعدم الضمان
(1)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (الروضة البهية): لو اختلفا في الرهن الوديعة بأن قال المالك: هو وديعة، وقال الممسك: هو رهن حلف المالك لأصالة عدم الرهن؛ ولأنه منكر، وللرواية الصحيحة، وقيل: يحلف الممسك استنادًا إلى رواية ضعيفة، وقيل: الممسك إن اعترف له المالك بالدين، والمالك إن أنكره جمعًا بين الأخبار، وللقرينة، وضعف المقابل يمنع من تخصيص الآخر، ولو كان الرهن مشروطًا في عقد لازم تحالفا؛ لأن إنكار المرتهن هنا يتعلق بحق الراهن حيث إنه يدعى عدم الوفاء بالشرط الذي هو ركن من أركان ذلك العقد اللازم فيرجع الاختلاف إلى تعيين الثمن؛ لأن شرط الرهن من مكملاته؛ فكل يدعى ثمنًا غير الآخر فإذا تحالفا بطل الرهن، وفسخ المرتهن العقد المشروط فيه إن شاء
(2)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): إن ادعى رجل على رجل دينًا فأقر المدعى عليه بالدين وادعى أنه رهن له شيئًا فأقر المدعى بالرهن ثبت الدين والرهن جميعًا، وإن أنكر الرهن خَلَّف الحاكم مدعى البينة، وإن لم تكن حلف منكره ما رهن عنده شيئًا وحكم له بمال فيأخذه، وإن قال صاحب الشئ: هو في يدك رهن فيما كان لك على، وقال الآخر: أمانة أو قراض أو غصب فصاحب الشئ مدع
(3)
.
وجاء في موضع آخر: ومن ارتهن دارًا وقيضها بإقرار الراهن بلا معاينة شهود يجوز إقراره عليه في ذلك، وإن حجد يوم الخصام وكانت بيده .... يومه قضى عليه بها ودفعت للمرتهن
(4)
.
(1)
التاج المذهب: 3/ 250 - 251.
(2)
الروضة البهية: 1/ 357 - 358، بتصرف.
(3)
شرح النيل: 5/ 617 - 620، بتصرف
(4)
السابق: 11/ 40، بتصرف.
الإنكار في الدعوى وما يترتب عليه:
لابد في الدعوى من مدَّعٍ ومدَّعَى عليه. والإنكار إنما يتأتى من المدَّعى عليه؛ ولذلك قيل في تعريف المدعى والمدعى عليه: كل من يشهد بما في يد غيره لنفسه فهو مدع، وكل من يشهد بما في يد نفسه لنفسه فهو منكر ومدعى عليه
(1)
.
وقال محمد - رحمه الله تعالى - في الأصل: المدعى عليه هو المنكر، والآخر هو المدعى.
قال صاحب تبيين الحقائق: وهذا صحيح غير أن التمييز بينهما يحتاج إلى فقه وحدة ذكاء إذا العبرة للمعنى دون الصورة، فإنه قد يوجد الكلام من شخص في صورة الدعوى، وهو إنكار في المعنى كالمودّع عنده إذا ادَّعى رد الوديعة فإنه مدع للرد صورة، وهو منكر للوجوب معنى، فيحلفه أنه لا يلزمه رده ولا ضمانه، ولا يحلفه على أنه ردها؛ لأن اليمين تكون على النفى ليتحقق الإنكار؛ لأنه ينكر الوجوب عليه، والأصل براءة الذمة فكان القول له.
وما دام الإنكار لا يتأتى إلا من المدعى عليه؛ لأنه هو المنكر فسيكون الكلام عن موقف المدعى عليه في الدعوى. متى يجب عليه اليمين؟ وذلك عملًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "البنية على من ادعى واليمين على من أنكر"
(2)
، وهل في كل الدعاوى يجب عليه اليمين إذا أنكر أم أن اليمين تجب عليه في بعض الدعاوى دون بعضها الآخر؟ ثم إذا أنكر هل يحلف بمجرد إنكاره دون طلب اليمين منه أم لابد من طلب اليمين منه؟ وإذا حلف فكيف يحلف؟
وعلى أي شئ يحلف؟ وهل يبطل حق المدِّعى بهذه اليمين أم أنه إذا وجد بينة بعد ذلك يُقضى له بها؟ وهل يظهر كذب المنكر بإقامة البينة، ويعاقب على ذلك كشاهد الزور أم لا؟ وهل يعتبر حانثًا في يمينه أم لا؟ هذا إذا حلف، أما إذا أنكر وتوجهت عليه اليمين فنكل، فهل يحكم عليه بنكوله أم ترد اليمينُ على المدِّعى؟ وما الحكم إذا أنكر فبرهن المدعى على صحة دعواه؟
هذه كلها وغيرها آثار تترتب على الإنكار في الدعوى، وللفقهاء فيها آراء ستتبين فيما يأتى:
مذهب الحنفية:
أولًا: أثر الإنكار في وجوب اليمين على المنكر:
قالوا
(3)
: إن الدعوى إذا صحت فإن القاضي يسأل المدَّعى عليه عنها لينكشف له وجه القضاء إن ثبت حقه؛ ولأن القضاء بالبينة يخالف القضاء بالإقرار. وهذا لأن الإقرار حجة ملزمة بنفسه، ولا يحتاج فيه إلى القضاء بخلاف البينة فإنها ليست بحجة إلا إذا اتصل بها القضاء فيسقط احتمال الكذب بالقضاء في حق العمل فيصير حجة يجب العمل به كسائر الحجج الشرعية، فإن أقر المدعى عليه، أو أنكر فبرهن المدِّعى، قضى عليه لوجود الحجة الملزمة للقضاء، وإن أنكر المدعى عليه ولم يكن للمدعى بينةٌ حلف المدعى عليه إذا طلب المدعى يمينه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمدعى:"ألك بينة"؟ قال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: لك يمينه. فقال: يحلف ولا يبالى. فقال عليه الصلاة والسلام: ليس لك إلا هذا، شاهداك أو
(1)
تبيين الحقائق. شرح كنز الدقائق للزيلعي 45/ 291.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
تبيين الحقائق، شرح كنز الدقائق: 4/ 294.
يمينه"
(1)
، فصار اليمينُ حقًّا له؛ لإضافته إليه بلام التمليك. وإنما صار حقًّا له؛ لأن المنكرَ قصد إثواء حقه على زعمه بالإنكار فمكنه الشارع من إثواء نفسه باليمين الكاذبة وهى الغموس، إن كان كاذبًا كما يزعم، وهو أعظم من إثواء المال وألا يحصل للحالف الثواب بذكر اسم الله تعالى وهو صادق على وجه التعظيم، ولا ترد اليمين على المدعى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو أعطى الناسُ بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماء رجال وأموالهم، لكن اليمين علي المدعى عليه"
(2)
.
جعل جنس اليمين على المنكر؛ لأن الألف واللام للاستغراق، وليس وراءه شئ آخر حتى يكون على المدعى، ولقوله عليه الصلاة والسلام:"البينة على المدعى واليمين على من أنكر" قَسَمَ بينهما والقسمة تنافى الشركة وفيه الألف واللام. أيضًا - تدل على ما تقدم فيفيد استغراق البينة واليمين، ولهذا لا تقبل بينه ذى اليد.
ثانيا: نكول المدعى عليه عن اليمين:
قالوا
(3)
: إن نكل المدعى عليه مرةً صريحًا بقوله: لا أحلف، أو دلالة بسكوته قُضى للمدعى على المدعى عليه، وذلك لإجماع الصحابة رضى الله عنهم أجمعين. وهو مذهب أبى موسى الأشعرى، ولأن النكول على كونه باذلًا أو مقرًا؛ إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين أداء للواجب ودفعًا للضرر عن نفسه فترجحت هذه الجهةُ على غيرها من الترفع والتورع والاشتباه؛ لأن الظاهر أنه يأتى بالواجب فلا يترفع عن الصادقة، والظاهر من حال المسلم أنه لايكذب فلا يكون نكولُه تورعًا عن الكاذبة ظاهرًا باعتبار حاله، ولو كان لاشتباه الحال لاستمهل حتى ينكشف له الحال فتعين أن يكون لأجل البذل ولا وجه لرد اليمين على المدعى، لما روينا من أن اليمين على المنكر، ويعرض القاضي اليمين على المدعى عليه ثلاث مرات ندبًا، يقول له في كل مرة: إنى أعرض عليك اليمين، فإن حلفت وإلا قضيت عليك بما ادعاه؛ إعلامًا له للحكم؛ لأنه موضع خفاء.
فإذا كرر عليه الإنذار والعرض ولم يحلف حكم عليه إذا علم أنه لا آفة به من طرش وخرس وعن أبى يوسف ومحمد. رحمهما الله تعالى. أن التكرار حتم حتى لو قضى القاضي بالنكول مرة لا ينفذ، والصحيح أنه ينفذ، والعرض ثلاثًا مستحب. وهو نظير إمهال المرتد ثلاثة أيام فإنه مستحب فكذا هذا، مبالغةٌ في الإنذار، ولابد أن يكون النكول في مجلس القاضي لأن المعتبَر يمينٌ قاطع للخصومة ولا يعتبر باليمين عند غيره في حق الخصومة فلا يعتبر.
ثالثًا: ظهور البينة بعد اليمين:
إذا حلف المدعى عليه فالمدعى على دعواه ولا يبطل حقه بيمينه، إلا أنه ليس له أن يخاصمه ما لم يقم البينة على دفعه دعواه، فإن وَجَدَ بينة أقامها عليه وقُضى له بها، وبعض القضاة من السلف كانوا لا يسمعون البينة بعد الحلف، ويقولون: يترجح جانب صدقة باليمين فلا تقبل
(1)
في صحيح البخارى قريب من هذا، انظر: صحيح البخارى، كتاب الشهادات؛ باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود: 2/ 949.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
المرجع السابق: 4/ 295.
بينة المدعى بعد ذلك كما يترجح جانب صدق المدعى بالبينة حتى لا يعتبر يمين المنكر معها. وهذا القول مهجور غيرُ مأخوذ به، وليس بشئ أصلًا؛ لأن عمر - رضى الله عنه - قَبل البينة من المدعى بعد يمين المنكر، وكان شريح - رحمه الله تعالى - يقول: اليمين الفاجرة أحق أن تُرَدَّ من البينة العادلة.
هل يظهر كَذِبُ المنكر بإقامة البينة
؟
الصواب أنه لا يظهر كذبه حتى لا يُعَاقبَ عقوبةَ شاهدِ الزور، ولا يحنث في يمينه إن كان لفلان على فلان ألف فادعى عليه فأنكر فحلف ثم أقام المدعى البينة أن له عليه ألفًا، وقيل عند أبى يوسف: يظهر كذبه، وعند محمد لا يظهر، وفى النهاية: لو اصطلحا على أن المدعى لو حلف، فالمدعى عليه ضامن للمال وحلف فالصلح باطل ولا شئ على المدعى عليه.
وفى حاشية الشلبى نقلًا عن الدراية أن الفتوى في دعوى الدَّيْن إن ادعاه من غير سبب فحلف ثم أقام بينة يظهر كذب المدعى عليه، وإن ادعى الدين بسبب وحلف ثم أقام المدعى بينة على السبب لا يظهر كذبُه لجواز أنه وجد القرض ثم وجد الإبراء أو الإلغاء كذا في الفصول
(1)
.
هل يُستحلف المنكر مع وجود البينة الحاضرة في المصر
؟
ولو قال المدعى: لى بينة حاضرة وطلب اليمين لم يستحلف، وهذا عند أبى حنيفة رَحِمهُ الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمُه الله تعالى: يستحلف، ومحمد مع أبى حنيفة في رواية، ومع أبى يوسف في رواية أخرى. وهذا الخلاف فيما إذا كانت البينة حاضرة في المصر، فإن كانت خارج المصر يحلف بالإجماع، وإن كانت في مجلس الحكم لا يحلف بالإجماع، ولأبى يوسف رحمه الله تعالى أن اليمين حقه بالحديث، وله غرض صحيح في الاستحلاف؛ وهو أن يدفع به مؤنة المسافة ويتوصل إلى حقه في الحال بإقراره أو نكوله، وفى البينة احتمال، فلعلها لا تقبل فيجيبه إذا طلبه كما إذا كانت خارج المصر، ولأبى حنيفة رحمه الله تعالى أن ثبوت الحق في اليمين مرتب على العجز عن إقامة البينة، فلا يكون حقه دونه، كما إذا كانت البينة حاضرة في المجلس بخلاف ما إذا كانت خارج المصر؛ لأنه قد يتعذر عليه الجمع بين خصمه وشهوده فيكون عاجزًا ولأنه في استحلافه مع حضور الشهود هتك المسلم إذا أقام البينة بعد ما حلف فيجب أن يتوفاة، وقيل لخصمه: أعطه كفيلًا بنفسك ثلاثة أيام كيلا يضيع حقه بتغييبه نفسه، وفيه نظر للمدعى، وليس فيه كثير ضرر بالمدعى عليه؛ لأن بحضور واجب عليه إذا طلبه
(2)
.
رابعًا: الدعاوى التي لا يستحلف فيها المنكر والتي يستحلف فيها:
ولا يسْتَحْلَفَ المنكرٌ في دعاوى النكاح كما إذا ادعى الرجل النكاح وأنكرت المرأة أو بالعكس، ولا في دعوى الرجعة إذا ادَّعى الرجل بعد الطلاق وانقضاء العدة الرجعة في العدة وأنكرت المرأة أو بالعكس، ولا في دعوى الفئ إذا ادعى الرجل
(1)
حاشية الشلبى: 4/ 296 بهامش تبيين الحقائق للزيلعى.
(2)
حاشية الشلبى على الزيلعى: 4/ 300.
بعد انقضاء مدة الإيلاء الفئ وفى المدة وأنكرت المرأة أو بالعكس، ولا في دعوى الاستيلاد إذا ادعت الأمةُ على مولاها أنها ولدت منه ولدًا أو ادعاها وقد مات الولد، ولا يجرى في هذه المسألة العكسُ؛ لأن المولى إذا ادعى ذلك تصير أمّ ولد بإقراره ولا اعتبار بإذكار الأمة، ولا في دعوى الرق والنسب إذا ادعى الرجل على مجهول النسب أنه عبدُه أو ولدُه وأنكر المجهولُ أو بالعكس أو اختصما في ولاء العتاقة أو ولاء الموالاة على هذه الوجه، ولا يستحلف في دعوى الحد كما إذا ادعى رجل على آخر أنك قذفتنى بالزنا وعليك الحد، ولا في دعوى اللعان، كما ادعت المرأة على الزوج أنك قذفتنى بالزنا، وعليك الحد
(1)
.
وقال القاضي الإمامُ فخرُ الدين رحمه الله تعالى، الفتوى على أنه يُستحلف المنكر في الأشياء الستة أي في الأشياء التي سبق ذكرها ما عدا الحدَّ واللعانَ، وهو قول أبى يوسف ومحمد، والقول الأول قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى ووجه ما قاله أبو يوسف ومحمد أن هذه حقوق تَثْبتُ مع الشبهات فيجرى فيها الاستحلافُ كالأموال بخلاف الحدود واللعان، وهذا لأن فائدة الحلف ظهور الحق بالنكول، والنكول إقرار؛ لأن اليمين واجبُ فتركهُ دليلٌ على أنه باذلٌ أو مقرٌّ، ولا يمكن أن يجعل باذلًا؛ لأنه يجوز ممن لا يجوز البذلُ منه كالمكاتب والعبد المأذون له في التجارة، وكذا يجوز في الدين، ولا يجوز بذله، ويجب على القاضي أن يقضى بالنكول. ويصحٌ إيجابُه في الذمة ابتداءً، ولو كان بذلًا لما صح ولا وجب، فتعين أن يكون مقرًا، والإقرار يجرى في هذه الأشياء لكنه إقرار فيه شبهة البذل فلا يثبت به ما يسقط بالشبهات بذلًا لما صح، ولا وجب وكذا يجب القصاص به فيما دون النفس ويصح في الشائع فيما يقسَّم ولو كان؛ لأنه كالحدود واللعان، وهذا لأن نكولَه يدل على أنه كاذب في الإنكار. ولولا ذلك لما نكل، لأن اليمين الصادقة فيها الثوابُ بذكر الله تعالى على وجه التعظيم وصيانة ما له وعرضه بدفع تهمة الكذب عن نفسه، والعاقل يميل إلى مثل هذه، واليمين الكاذبة فيها هلاك النفس، فالظاهر أنه أعرض عنها مخالفة الهلاك ومخالفةٌ لهواه وشح نفسه وإيثارًا للرجوع إلى الحق؛ إذ هو أولى من التمادى على الباطل، قال الله تعالى، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
(2)
فيكون إقرارُه ضرورة. ووجه ما قاله أبو حنيفة من أن المنكر لا يستحلف في الأشياء الستة أن النكول بذل وإباحة، وهذه الحقوق لا يجرى فيها البذل والإباحة فلا يقضى فيها بالنكول كالقصاص في النفس وكالحدود واللعان، وفى حمله على البذل صيانة عرضه من الكذب فكان أولى؛ ولهذا لا يجوز إلّا في مجلس القاضي وقضائه، ولو كان إقرارًا لجاز مطلقًا بدون القضاء
(3)
.
ثم قال صاحب (تبيين الحقائق): إن الدعوى في هذه المسائل تتصور من أحد الخصمين أيهما كان إلا الحد واللعان والاستيلاد، فإنه لا يتصور
(1)
حاشية الشلبى على هامش تبيين الحقائق: 4/ 397.
(2)
سورة الحشر، الآية:9.
(3)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4/ 297.
أن يكون المدعى فيها إلا المقذوف والمُولى. واختار فخر الإسلام على البزدوى قول أبى يوسف ومحمد للفتوى على ما ذكره في المختصر، واختيار المتأخرين من مشايخنا على أن القاضي ينظر في حال المدعى عليه، فإن رأه متعنتًا يحلفه أخذًا بقولهما، وإن رآه مظلوما لا يحلفه أخذًا بقول أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو نظر ما اختاره شمس الأئمة في التوكيل بالخصومة بغير رضا الخصم إن رأى من الخصم التعنت وقصد الإضرار بالآخر قبل بغير رضاه وإلا فلا.
وذكر الصدر الشهيد - رحمه الله تعالى - أن الحدود لا يُسْتَحلف فيها بالإجماع إلا إذا تضمن حقًّا بأن علَّق عتق عبده بالزنا وقال: إن زنيت فأنت حرٌ، فادعى العبد أنه قد زنى، ولا بينة عليه يُستحلف المَولى حتى إذا نكل ثبت العتق دون الزنا، ثم إذا لم يحلف المنكر في النسب عند أبى حنيفة، هل تقبل بينة المدعى؟ ينظر فإن كان نسبًا يثبت بالإقرار تقبل بينة، وذلك مثل الولد والوالد، وإن لم يثبت بإقراره لا تقبل بينته مثل الجد وولد الولد والأعمام والإخوة وأولادهم؛ لأن فيه حمل النسب على الغير بخلاف دعوى المولى الأعلى أو الأسفل، حيث تقبل، وإن ادعى أنه معتق جدّه، ونحو ذلك، وعند أبى يوسف ومحمد يثبت بالنكول إذا كان نسبًا يثبت بإقراره، وإلا فلا
(1)
.
وفى (حاشية الشلبى) نقلًا عن الهداية قال: إنما يستحلف في النسب المجرد عند أبى يوسف ومحمد إذا كان يثبت بإقراره قال الأفنانى: يعنى يثبت الاستحلاف عند أبى يوسف ومحمد في النسب المجرد بدون دعوى حق آخر، ولكن يشترط أن يثبت النسبُ بإقرار المقر، أما إذا كان بحيث لا يثبت النسب بإقرار المقر فلا يجرى الاستحلاف في النسب المجرد أيضًا، قال شيخ الإسلام المعروف (بخوا هرزاده) في مبسوطه في باب الاستحلاف في الادعاء: الأصل في هذا الباب أن المدعى قبل النسب إذا أنكر: هل يستحلف؟ إن كان بحيث لو أقر به لا يصح إقراره عليه، فإنه لا يستحلف عندهم جميعًا؛ لأن اليمين لا يفيد، فإن فائدة اليمين النكول حتى يجعل النكول بدلًا أو إقرارًا فيقضى عليه، فإذا كان لا يُقضى عليه لو أقر فإنه لا يُستحلف عندهم جميعًا، وإن كان المدعى قبله بحيث لو أقر به لزمه ما أقر به، فإذا أنكر هل يستحلف على ذلك؟ فالمسألة على الاختلاف، فعند أبى حنيفة لا يستحلف، وعند أبى يوسف ومحمد يستحلف، فإن حلف برئ عن الدعوى، وإن نكل عن اليمين لزمته الدعوى ثم قال: وما ذكر من أنه لا يمين في النسب إذا وقعت الدعوى في مجرد النسب، فأما إذا وقعت بلا ادعاء في النسب والميراث والنفقة وأنكر المدعى قبله فإنه يستحلف عند أبى حنيفة للمال لا للنسب، يستحلف بالله ما له في ذلك المال الذي يُدعى حق وعند أبى يوسف ومحمد يستحلف للنسب والمال جميعًا؛ لأن الإدعاء وقع في النسب والمال جميعًا، والمال مما يجرى فيه الاستحلاف عندهم جميعًا، فيستحلف للمال وإن كان لا يستحلف للنسب عند أبى حنيفة
(2)
.
(1)
شرح الكنز مع حاشية الشلبى عليه: 4/ 298.
(2)
حاشية الشلبى على الزيلعى: 4/ 298.
ثم قال صاحب الكنز وشارحه: ويستحلف السارق، فإن نكل ضمن ولم يقطع؛ لأن موجب فعله شيئان: الضمان وهو يجب مع الشبهة، فيجب بالنكول والقطع، وهو لا يجب مع الشبهة، فلا يجب بالنكول فصار نظير ما إذا ثبتت السرقة بشهادة رجل وامرأتين، أو بالشهادة على الشهادة أو بكتاب القاضي إلى القاضي، فإن ضمان المال يجب بها دون القطع ويقول في الاستحلاف بالله: ما له عليك هذا المال، وعن محمد (رحمه الله تعالى): أن القاضي يقول للمدعى: ماذا تريد؟ فإن قال: أريد القطع، قال له: إن الحدود لا يستحلف فيها فليس لك يمينه، فإن قال: أريد المال، قال له: دع دعوى السرقة وادّع المال، ويستحلف الزوج إذا ادعت المرأة طلاقا قبل الوطء، فإن نكل ضمن نصف المهر، وهذا بالإجماع؛ لأن الاستحلاف يجرى في المال بالاتفاق، لا سيما إذا كان المقصود هو المال، وكذا في النكاح، إذا ادعت الصداق أو النفقة؛ لأنه دعوى المال، ثم يثبت المال بنكوله ولا يثبت النكاح، وكذا يستحلف في النسب إذا ادعى حقًّا كالإرث والحجر والنفقة والعتق بسبب الملك امتناع الرجوع في الهبة، فإن نكل ثبت الحق، ولا يثبت النسب إن كان نسبًا لا يصلح الإقرار به، وإن كان يصح الإقرار به فعلى الخلاف الذي ذكرنا، ويستحلف جاحد القود، فإن نكل في النفس حبس حتى يحلف أو يقر، ولا يقتص منه وفيما دون النفس يقتص منه، وهذا عند أبى حنيفة (رحمه الله تعالى)؛ وقال أبو يوسف ومحمد: يجب عليه الأرش فيهما؛ لأن النكول إقرار فيه شبهة عندهما؛ لأن في امتناعه عن اليمين احتمالا لأجل الترفع فلا تجب به العقوبة كالحدود، فإذا امتنع وجوب القصاص يجب عليه الأرش
(1)
.
مذهب المالكية:
أثر الإنكار في وجوب اليمين على المنكر:
تنقسم الدعاوى الصحيحة المستكملة إلى قسمين: القسم الأول: دعاوى تثبت بدون شاهدين، وإنما يكتفى في إثباتها بشاهد وامرأتين أو أحدهما ويمين، وذلك كدعاوى المال أو ما يؤول إلى المال، والقسم الثاني: الدعاوى التي لا تثبت إلا بشاهدين كالقتل والطلاق والعتق والنسب وغيرها
(2)
.
القسم الأول: الدعاوى التي تثبت بدون شاهدين: جاء فى الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه: أنه إذا أقيمت الدعوى وبين المدعى السبب فإن القاضي يأمر المدعى عليه بأن يجيب بالإقرار أو الإنكار، فإن أقر فواضح، وإن لم يقر طلب الحاكم من المدعى البينة، فإن أقامها فظاهر، وإلّا توجهت اليمين على المدعى عليه، وهي لا تتوجه عليه إلّا إذا أثبت المدعى أنه خالط، فإن أنكر المدعى عليه أن بينهما معاملة فيشترط لتوجه اليمين حينئذ أن يثبت المدعي أنه خالط المدعى عليه بدين مترتب على بيع الأجل أو مال أو قرض ولو مرة بأن تقول البينة تشهد أنه كان أقرضه أو باع له سلعة كذا بثمن في الذمة حال أو مؤجل ولا نعرف قدر الثمن أو القرض ولا نعلم بقاءه أو يثبت المدعى أنه تكرر
(1)
حاشية الشلبى على الزيلعى: 4/ 298.
(2)
تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية: 4/ 136.
بينهما بيع بالنقد الحال؛ ولو كان ثبوت الخلطة بشهادة امرأة لأن القصد من الخلطة حصول الظن بثبوت المدعى به وهو يثبت بشهادة الواحد ولو أنثى ولا تثبت الخلطة ببينة جرحها المدعى عليه بعداوة ونحوها، ثم إن الذي عليه العمل أنه لا يشترط في توجه اليمين ثبوت الخلطة، وهو قول ابن نافع وصاحبه
(1)
.
وفى المتيطية عن ابن الحكم مثل ذلك، وأن اليمين تجب على المدعى عليه دون خلطة، وبه أخذ ابن لبابة وغيره من المتأخرين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعى واليمين على من أنكر".
أما ما ذكره خليل من اشتراط الخلطة لتوجه اليمين على المنكر فهو قول الإمام مالك وعامة أصحابه، وهو المشهور من المذهب، لكن المعتمد قول ابن نافع لجريان العمل به، ومعلوم أن ما جرى به العمل مقدم على المشهور في المذهب إن خالفه
(2)
.
القسم الثاني: الدعاوى التي لا تثبت إلا بشاهدين:
وهذه لا تتوجه اليمين فيها على المنكر بمجردها، فقد جاء فى الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه: أن كل دعوى لا تثبت إلا بعدلين كالقتل والعقد والنكاح والطلاق فلا يمين على المدعى عليه بمجردها من المدعى بل حتى يقيم عليها شاهدًا واحدًا ويعجز عن الثاني فيحلف المدعى عليه لرد شهادته، فإذا ادعى إنسان على شخص أنه قتل وليه ولم يقم بينة فلا يمين على ذلك الشخص المدعى عليه، إذا ادعى العبد على سيده أنه أعتقه أو كاتبه بكذا ولم تقم بينه فلا يمين على ذلك السيد، أو ادعت المرأة على زوجها أنه طلقها ولم تقم بينة فلا يمين على الزوج، أو ادعى إنسان على ولى مجبره أنه زوَّجِه بنته أو أمته ولم يقم بينة فلا يمين على الولى، فإن لم تتجرد الدعوى بأن أقام المدعى عدلًا فقط توجهت اليمين على المدعى عليه، ولا ترد لكن توجهت في غير النكاح، فإن حلف من توجهت عليه وهو المدعى عليه كالسيد في العتق ترك وإن نكل حُبس، فإن طال حبسه دُيِّن
(3)
. أما في النكاح فلا تتوجه اليمين كما لو ادعى رجل أن فلانًا زوجه ابنته وأنكر الأب فأقام الزوج شاهدًا واحدًا بذلك فلا تتوجه اليمين على الأب، ولا يثبت النكاح والفرق بين النكاح وغيره كالعتق والطلاق أن الطالب في النكاح الشهرة فشهادة الواحد فيه ريبة؛ فلذا لم يطالب الولى المجبر باليمين لرد شهادة الشاهد بخلاف غير النكاح كالعتق والطلاق فإنه ليس الطالب فيه الشهرة فلا ريبة في شهادة الواحد فيه؛ ولهذا أمر المدعى عليه باليمين لرد شهادته، ولا يجوز للمدعى عليه أن يرد هذه اليمين على المدعى بحيث إذا حلفها يثبت الحق المدعى به من قتل وعتق ونكاح وطلاق؛ لئلا يلزم ثبوت ما ذكر بشاهد ويمين مع أنه لا يثبت إلا بعدلين، وحينئذ فلا فائدة في رد اليمين على المدعى
(4)
.
(1)
حاشية الدسوقى: 4/ 145.
(2)
هامش تهذيب الفروق 138.
(3)
أي: وكُل إلى دينه.
(4)
الشرح الكبير: 4/ 151.
من له حق تحليف المنكر:
جاء فى (الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه): أنه إذا توجهت اليمين على المنكر فتحليفه يكون بطلب من المدعى؛ لأن اليمين المعتد بها في مقام المخاصمة المسقطة للبينات هي اليمين المطلوبة، وأنه لو حلَّفه القاضي بغير طلب خصمه لم تفده يمينه ولخصمه أن يعيدها عليه ثانية وله إقامة البينة إذا وجدها، وهو كذلك كما في ابن غازى والشيخ أحمد الزرقانى، فإذا طلب المدعى تحليفه حلَّفه القاضي يمينًا واحدة، سواء كان ما ادعى به المدعى شيئًا واحدًا أو كان أمورًا متعددة، فاليمين الواحدة كافية في إسقاط الخصومات وفى صنع إقامة البينة بعد ذلك، ولو كان المدعى به متعددًا
(1)
.
ثم قال: ولو ادّعى شخص على آخر بحق فقال المدعى عليه للمدعى: أنت قد حلفتنى عليه سابقًا وكذَّبه المدعى، للمدعى عليه تحليف المدعى أنه لم يحلفه أولًا، ويكون القول للمدعى بيمينه، فإن حلف أنه ما حلفه قبل ذلك فله تحليفه، فإن حلف إلا غُرم، وإن نكل للمدعى عليه أن يحلف أنه قد حلفه سابقًا، ويسقط الحق، فإن نكل لزمته اليمين المتوجهة عليه ابتداءً، وبرئ، وله ردها على المدعى، قال المازرى: وكذا للمدعى عليه إذا شهدت عليه البينة تحليف المدعى أنه لم يعلم بفسق شهوده، فإن حلف بقى الأمر بحاله، فإن نكل ردت اليمين على المدعى عليه، فإن حلف سقط الحق
(2)
.
إنكار المدعى عليه بعد إقراره
إذا أقر الخصم بالحق في مجلس القاضي وحكم عليه من غير أن يشهد على إقراره ثم أنكر الخصم إقراره بعد الحكم عليه بالحق، فإن إنكاره لا يفيد، والحكم قد تم فلا ينقض. أما لو أنكر قبل الحكم عليه والحال أنه لم يحصل إشهاد على إقراره فلا يحكم عليه؛ لأنه من الحكم المستند لعلمه ما لم تكن بينة حاضرة تشهد عليه به، وهذا على المشهور، وهو قول ابن القاسم، وقال عبد الملك وسحنون: إنه يحكم عليه
(3)
.
ثانيا: المدعى عليه عن اليمين:
جاء فى الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه: أنه إن نكل المدعى عليه حيث توجهت عليه اليمين في مال وما يؤول إليه كخيار وأجل استحق الطالب حقه بالنكول مع يمين منه - أي من الطالب - لا بمجرد النكول، وهذا إن حقق المدعى ما ادعى به، فالتحقيق قيد في يمينه، فإن لم يحلف المدعى سقط حقه، أما لو كان موجب توجه اليمين التي نكل عنها المدعى عليه هو التهمة؛ فإن المدعى يستحق ما داعى به بمجرد النكول؛ لأن يمين التهمة لا ترد، قال الدسوقى: وقد اختلف في توجه يمين التهمة، فمذهب المدونة في تضمين الصناع والسرقة أنها تتوجه وهو قول ابن القاسم، وقال الشهب: لا تتوجه، وعلى الأول فالمشهور أنها لا تنقلب بل يغرم المطلوب بمجرد النكول، وفى سماع عيسى من كتاب الشركة أنها تنقلب، ثم إنه على توجه يمين التهمة فإنها تتوجه، ولو كان المدعى عليه ليس من
(1)
الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه: 4/ 146.
(2)
المرجع السابق: 4/ 147.
(3)
المرجع السابق: 4/ 159.
أهل الاتهام؛ لأن المراد بالتهمة ما قابل التحقيق، ويجب على الحاكم أن يبين للمدعى عليه حكم النكول، أي ما يترتب عليه في دعوى التحقيق أو التهمة بأن يقول له في التحقيق: إن نكلت حلف المدعى واستحق، وفى الاتهام: إن نكلت استحق بمجرد نكولك، والبيان من الحاكم شرط في صحة الحكم، ولا يمكن من توجهت عليه يمين منها إن نكل أو بأن قال: لا احلف، أو قال لخصمه: أحلف أنت وخذ، وسواء كان من توجهت عليه مدعيا أو مدعى عليه، فالأول كما لو وجد المدعى شاهدًا وامتنع من الحلف معه، وطلب تحليف المدعى عليه، والثانى كما لو عجز المدعى عن البينة وطلب اليمين من المدعى عليه فنكل، وقال: لا أحلف بخلاف من التزم اليمين أولا ثم رجع، فله الرجوع، وذلك يشمل المدعى والمدعى عليه، وصورته في المدعى أن يدعى زيد علي عمرو بحق، وأقام شاهدًا واحدًا فقيل له: احلف مع شاهدك فرضى والتزم بالحلف ثم رجع عن الحلف وقال: لى شاهد ثان أو يحلف المدعى عليه فإنه يمكن من الرجوع، وصورة المدعى عليه أن يدعى زيد على عمرو بحق ولا بينة لذلك المدعى فطلبت اليمين من عمرو، وهو المدعى عليه فقال: احلف، ورضى باليمين والتزمها ثم إنه رجع عنها وقال: أنا لى بينة بالدعوى، أو قال: لا أحلف وإنما يحلف المدعى وأنا أغرم له فإنه يمكن من الرجوع عن اليمين؛ وذلك لأن التزامه لا يكون أشد من إلزام الله له، فإذا كان له أن يرد اليمين ابتداء على المدعى مع إلزام الله له باليمين فأحرى أن يردها عليه مع التزامه هو لها، وإن ردت يمين على مدع أو مدعى عليه من مقيم شاهد في مال وسكت من ردت عليه زمنا لم يقض العرف بأنه نكول فيما يظهر، وأولى لو طلب المهلة ليتروى في الإقدام عليها والاحجام ثم طلب الحلف بعد ذلك فله الحلف، ولا يعد سكوته نكولًا
(1)
.
ثالثا: ظهور البينة:
جاء في (الشرح الصغير): أنه إن أنكر المدعى عليه قال القاضي للمدعى: ألك بينه تشهد لك عليه؟ فإن نفاها فللمدعى استخلافه، فإن حلف برئ، وإذا برئ فلا تقبل للمدعى بعد ذلك بينة إلا لعذر كنسيان لها عند تحليفه المدعى عليه، وحلف إن أراد القيام بها أنه نسيها، وكذا إذا لم يعلم بها قبل تحليف المدعى عليه فله إقامتها، وحلف ما لم يشترط أنه إن ظهرت له بينة يقيمها ولا يحلف، فإنه يعمل بذلك ولا يحلف، وكذا إذا كانت عندة بينة ولكنه ظن أنها لا تشهد له، أو ظن أنها ماتت فله إقامتها، وكذلك إذا كانت الدعوى لا تثبت إلّا بشاهدين وأحضر المدعى شاهدًا واحدًا وطلب منه الشاهد الثاني فقال: ليس عندى إلا هذا فحلف المدعى عليه يمينا لرد شهادة هذا الشاهد ثم وجد المدعى الشاهد الثاني، وكان قد نسيه أو كان لم يعلم به فله أن يقيمه ويضمه للأول بعد حلفه أنه نسيه مثلًا، ويلغى يمين المدعى لكونه لم تصادف محلًا
(2)
، ثم قال: وإن أقام المدعى البينة قال القاضي للمدعى عليه: أبقيت لك حجة وبعد هذه البينة، فإما أن يقول: نعم، وإما أن يعجز
(3)
، فإن قال المدعي عليه: نعم
(1)
الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه: 4/ 232.
(2)
الشرح الصغير: 4/ 212.
(3)
المرجع السابق: 4/ 214.
لى حجة ومطعن في هذه البينة أنظره القاضي للإتيان بها بالاجتهاد منه؛ إذ ليس للإنذار حد معين، وإنما هو موكول إلى اجتهاد الحاكم، وهذا ما لم يتبين لرده، وإلا حكم عليه من حين تبين اللدد ومثل ذلك ما لو قال: لى بينة بعيدة الغيبة هي التي تجرح بينة المدعى، فإنه يحكم عليه من الآن إلا أنه في هذه يكون باقيًا على حجته إذا قدمت بينة ويقيمها عند القاضي أو عند غيره كما في الخرشي
(1)
.
ثم قال: وإذا لم يأت بحجة معتبرة شرعًا حكم عليه بمقتضى الدعوة من مال أو غيره كما يحكم عليه إذا نفى حجته وقال: لا حجة عندى، وحكم القاضي بعجزه بعد إنظاره، وسجَّل التعجيز فلا تقبل له حجة بعد ذلك
…
ويستثنى من التعجيز خمس مسائل ليس للقاضى فيها تعجيز، وهى: المسألة الأولى: دعوى الدم، كأن يدعى عليه بأنه قتل وليه عمدًا، وله بينة بذلك، فأنظره القاضي ليأتى بها فلم يأت بها فلا يعجزه، فمتى أتى بها حكم بقتل المدعى عليه. المسألة الثانية: ادعاء الرقيق أن سيده أعقته وأنكر السيد وقال العبد: عندى بينة فأنظره لها فلم يأت بها فلا يعجزه بل متى أقامها حكم بعتقه
(2)
. المسألة الثالثة: إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها وأن لها بينة بذلك، ولم تأت بها فلا يعجزها فمتى أقامتها حكم بطلاقها. المسألة الرابعة: إذا ادعى إنسان الحبس على الواقف أو واضع اليد المنكر وقال: لى بينة على وقفه فأنظره الحاكم فلم يأت بها فلا يعجزه فمتى أتى بها حكم بالوقف، المسألة الخامسة: مسألة النسب إذا ادعاه إنسان أنه من ذرية فلان وله بذلك بينة، فإن لم يأت بها بعد الإنظار لم يحكم بتعجيزه، وهو باق على حجته متى أقامها حكم بنسبه، فهذه المستثنيات إنما هي مفروضة في كلام الأئمة في الطالب، وأما المطلوب فيعجزه فيها وفى غيرها كما ذكره بعضهم، وإن أنكر المدّعى عليه المعاملة تكذب بينته بالقضاء، وهذا بخلاف قوله للمدعى: لا حق لك عليّ فأقام المدعى بينة بالحق، فأقام هو بينة بالقضاء فتقبل بينتة؛ لأنه لم ينكر أصل المعاملة، وإنما أنكر الحق المطلوب منه فقط، وليس فيه تكذيب لبينته بالقضاء
(3)
.
رابعًا: الدعاوى التي يستحلف فيها المنكر والتي لا يستحلف فيها:
جاء في (الشرح الكبير): وحلف المدعى عليه في دعوى لا يثبت إلا بشاهدين كزوج وسيد بشاهد أي: بسبب إقامته عليه، ومثل الشاهد كما في المدونة في دعوى طلاق ادعته المرأة على زوجها فأنكر، ودعوى عتق ادعاه العبد على سيده فأنكر، ومثلهما - القذف كما قال اللخمى - ادعاه حر عفيف على غيره فأقام المدعى شاهدا فقط أو امرأتين على ما ذكر فيحلف المدعى عليه لرد شهادة الشاهد لا في نكاح ادعاه أحد الزوجين على الآخر، فلا يحلف المدعى عليه المنكر، فإن منكر الطلاق أو العتق برئ، وإن نكل حبس ليحلف فيهما كالقذف عند اللخمى فمتى حلف ترك، وإن لم يحلف وطال حبسه كسنة دُيِّن - أي: وكل لدينه - وخلى بينه وبين زوجته ورقيقه، ولا
(1)
الشرح الصغير: 4/ 215.
(2)
المرجع السابق: 4/ 216.
(3)
المرجع السابق: 4/ 217.
يحد القاذف، والفرق بين ما ذكر وبين النكاح أن غير النكاح لو أقر به ثبت ولزم بخلاف النكاح، ولأن الأصل عدم النكاح فمدعيه ادعى خلاف الأصل بخلاف من ادعى الطلاق والعتق فإنه ادعى الأصل من حيث إن الأصل في الناس الحرية وعدم العصمة، وأيضا الغالب في النكاح شهرته، فلا يكاد يخفى على الأهل والجيران فالعجز عن إقامة الشاهدين فيه قرينة كذب مدعيه
(1)
.
وجاء في (التاج والإكليل): لو أن رجلا ادعى نكاح امرأة أو العكس أنه لا يمين على المنكر إذ لا يقضى فيه بالنكول، إذ لا ينعقد النكاح بالإيمان
(2)
.
مذهب الشافعية:
أولًا: أثر الإنكار في وجوب اليمين على المنكر:
جاء في (مغنى المحتاج): إذا ادعى أحد الخصمين دعوى صحيحة طالب القاضي الخصم بالجواب وإن لم يسأله المدعى؛ لأن المقصود فصل الخصومة وبذلك ينفصل، فإن أقر الخصم بما ادُّعى عليه به حقيقة أو حكما فذاك ظاهر في ثبوته بغير حكم بخلاف البينة، فإنها تحتاج إلى نظر واجتهاد، وللمدعى بعد الإقرار أن يطلب من القاضي الحكم عليه، وإن أنكر الخصم الدعوى، وكانت مما لا يمين فيها في جانب المدعى فللقاضى أن يقول للمدعى: ألك بينة؟ وإن كان الحق مما يثبت بالشاهد واليمين قال له: ألك بينة أو شاهد مع يمين؟ فإن كان اليمين في جانب المدعى لكونه أمينا أو في قسامة قال له: أتحلف ويقول للزوج المدعى على زوجته بالزنا: أتلاعنها؟ وللقاضى أن يسكت ولا يستفهم من المدعى عن البينة تحرزا عن اعتقاد ميله إليه، إلا إذا جهل المدعى أن له إقامة البينة، فلا يسكت بل يجب إعلامه بأن له ذلك
(3)
.
إذا أصر المدعى عليه على السكوت عن جواب الدعوى لغير دهشة أو غباوة جعل حكمه كمنكر للمدعى به ناكل عن اليمين، وحينئذ فترد اليمن على المدعى بعد أن يقول له القاضي: أجب عن دعواه وإلا جعلتك ناكلا، فإن كان سكوته لنحو دهشة أو غباوة شرح له ثم حكم بعد ذلك عليه، وسكوت الأخرس عن الإشارة المفهمة للجواب كسكوت الناطق، ومن لا إشارة له مفهمة كالغائب، والأصم الذي لا يسمع أصلا إن كان يفهم الإشارة فهو كالأخرس، وإلا فكالمجنون، فلا تصح الدعوى عليه فلو كان البصير الأصم أو الأخرس الذي لا يفهم كاتبا قال الأدزَعِيُّ: يشبه أن يقال كتابته دعوى وجوابا كعبارة الناطق أما إذا لم يُصبَّر المدعى عليه على السكوت فَيُنْظْر، فإن ادعى عليه عَشَرةٌ مثال فقال في جوابه: هي عندى، أو ليس لك عندى شئ فذاك ظاهر، وإن قال: لا تَلزِمِنى العشرة لم يكف ذلك في الجواب حتى يقول: لا تلزمنى العشرةٌ ولا بعضها، وكذا يحلف إن حلفه القاضي؛ لأن مدعى العشرة مدع لكل جزء منها، فاشترط مطابقة الإنكار واليمين دعواه وقوله: لا تلزمنى العشرة، إنما هو نفى لمجموعها، ولا يقتضى نفى كل جزء منها فقد
(1)
حاشية الدسوقى: 4/ 200.
(2)
التاج والإكليل: 8/ 306.
(3)
مغنى المحتاج: 4/ 369.
تكون عَشَرة إلَّا حَبَّة، فإن حلف على نفى العشرة واقتصر في حلفه عليه فيعتبر ناكلا عما دون العشرة، فيحلف المدعى عَلى استحقاق دون العشرة بجزء، وإن قلَّ ويأخذه أي ما دون العشرة وإن لم يجدد دعوى. هذا إذا لم يسْند المدعى إلى عقد، فإن أسنده إلى عقد كأن ادعت امرأة نكاحا بخمسين كفاه نفى العقد بها والحلف عليه، فإن نكل لم تحلف هي على البعض إلا بدعوى جديدة لا تناقض ما داعته، وإن ادعى دارًا بيد غيره فأنكرها فلابد أن يقول في حَلِفِهِ: ليست لك ولا شئ منها، ولو ادعى أنه باعه إياها كفاه أن يحلف أنه لم يبعها، ولو ادعى عليه مالا فأنكر وطلب منه اليمن فقال: لا أحلف وأعطى المال لا يجب على المدعى قبوله من غير إقرار وله تحليفه؛ لأنه لا يأمن من أن يدعى عليه بما دفعه بعد هذا
(1)
.
وكذا لو نكل عن اليمين وأراد المدعى أن يحلف يمين الرد فقال المدعى عليه: أنا أبذل المال له بلا يمين فللمدعى عليه أن يحلف ويقول له الحاكم: إما أن تقر بالحق أو يحلف المدعى بعد نكولك، قاله البغوي والمروزى وغيرهما، وإن ادعى مالا مضافا إلى سبب كأقرضتك كفاه في الجواب عن هذه الدعوى: لا تستحق أنت على شيئًا، أو لا يلزمنى تسليم شئ إليك، وإن ادعى عليه شفعة كفاه في الجواب أن يقول: لا تستحق أنت على شيئًا، أو لا تستحق عليّ تسليم الشفعة، ونازع البلقينى في جواب دعوى الشفعة وقال: أكثر الناس لا يعدون الشفعة مستحقة على المشترى؛ لأنها ليست في ذمته فلا يتعلق به ضمانها كالغصب وغيره، فالجواب المعتبر هو أن يقول: لا شفعة لك عندى، وإذا ادعت امرأة على زوجها أنه طلقها كفاه في الجواب: أنت زوجتى، واستثنى بعضهم من ذلك ما لو ادعى عليه وديعة فلا يكفى في الجواب أن يقول: لا يلزمنى التسليم إذ لا يلزمه تسليم، وإنما يلزمه التخلية فالجواب الصحيح أن ينكر الإيداع أو يقول: لا تستحق على شيئًا أو يقول: هلكت الوديعة أورددتها، ويحلف المدعى عليه على حسب جوابه هذا، أو على نفى السبب ولا يكلف التعرض لنفيه، فإن تبرع وأجاب بنفى السبب المذكور كقوله في صورة القرض السابقة: ما أقرضتنى كذا حلف على نفى السبب، كذلك ليطابق اليمين الإنكار، وقيل له: الحلف بالنفى المطلق كما لو أجاب به، الأول راعى مطابقة اليمين للجواب، ولو حلف على نفى السبب بعد الجواب المطلق جاز كما نقلاه عن البغوي وأقراه، ولو كان بيده مرهون أو مكرى وادعاه كلٌّ من مالكه أو نائبه كفاه في الجواب أن يقول: لا يلزمنى تسليمه إليك، ولا يجب التعرض للملك فلو اعترف بالملك للمدعى، ولكن ادعى بعده الرهن والإجارة وكذبه المدعى فالصحيح أنه لا يقبل منه ذلك إلا ببينة؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه، والثانى يقبل قوله بدونها؛ لأن اليد تصدقه في ذلك
(2)
.
كل من وجبت عليه يمين بأن الزم بها في دعوى صحيحة لو أقر بمطلوبها لزمه ذلك المطلوب فأنكر خُلِّفَ لخبر "البينة على المدعى
(1)
مغنى المحتاج: 4/ 432.
(2)
المرجع السابق: 4/ 432.
واليمين على المنكر"
(1)
وفى الصحيحين: "اليمين على المدعى عليه
(2)
(3)
ولو قال المدعى عليه: أنا صبى وأحتمل ذلك لم يحلف ووقف أمره في الخصومة حتى يبلغ فيدعى عليه، وإن كان لو أقر بالبلوغ في وقت احتماله قبل، والكافر المسبى المُنْبِتُ إذا قال: تعجلت العانة حلف وجوبا في الأظهر لسقوط القتل بناء على أن الإثبات علامة للبلوغ، فإن نكل قتل، ولو كان دعوى الصبا من غيره، كما إذا ادعى له وليه مالا وقال المدعى: من تدعى له المال بالغ فللولى طلب يمين المدعى عليه أن لا يعلمه صغيرا، فإن نكل لا يحلف الولى على صباه، وهل يحلف الصبى؟ وجهان في فتاوى القاضي بناء على القولين في الأسير، ويستثنى مع ما استثناه المصنف مسائل منها: ما لو علَّق الطلاق على شئ من أفعال المرأة كالدخول فادعته المرأة وأنكره الزوج، فالقول قوله، فلو طلبت المرأة تحليفه على أنه لا يعلم وقوع ذلك لم يحلف، نعم إن ادعت وقوع الفرقة حلف على نفيها، كما نقله الرافعى عن القفال وأقره، ومنها ما إذا ادعت الجارية الوطء وأمية الولد وأنكر السيد أصل الوطء فالصحيح في أصل الروضة أنه لا يحلف، وصوَّب البلقينى التحليف سواء أكان هناك ولد أم لم يكن، وصوَّب السبكى حمل ما في الروضة على ما إذا كانت المنازعة لإثبات النسب، فإن كانت لأمية الولد ليمتنع من بيعها وتعتق بعد الموت فيحلف قال: وقد قطعوا بتحليف السيد إذا أنكر الكتابة، وكذا التدبير إذا قلنا: إن إنكاره ليس برجوع، ومنها لو طلب الإمام الساعى بما أخذه من الزكاة فقال: لم آخذ شيئًا لم يحلف، وإن كان لو أقر بالأخذ لزمه، ومنها ما لو قسَّم الحاكم المال بين الغرماء فظهر غريم آخر وقال لأحد الغرماء: أنت تعلم وجوب دينى وطلب يمينه لم يلزمه، ومنها ما لو ادعى من عليه زكاة مسقطا لم يحلف إيجابا مع أنه لو أقر بمطلوب الدعوى لزمه، ولو أقر بمطلوبه فأنكر أن من لا يقبل إقراره لا يحلف، وهو كذلك لكن يستثنى منه صورتان: الأولى: لو ادعى على من يستخدمه أنه عبده فأنكر فإنه يحلف وهو لو أقر بعد إنكاره الرق لم يقبل، لكن فائدة التحليف ما يترتب على التفويت من تغريم القيمة لو نكل.
الثانية: لو جرى العقد بين وكيلين فالأصح في زوائد الروضة في اختلاف المتبابعين تحالفهما مع أن إقرار الوكيل لا يقبل لكن فائدته الفسخ، ثم إذا حلف المدعى عليه اليمين المتوجهة عليه لإنكاره، فإن هذه اليمين تفيد قطع الخصومة وعدم المطالبة في الحال، ولا تفيد براءة لذمة المدعى عليه؛ لما راوه أبو داود والنسائى والحاكم عن ابن عباس - رضى الله عنه - أن النبى صلى الله عليه وسلم - أمر رجلا بعدما حلف بالخروج من حق صاحبه
(4)
كأنه صلى الله عليه وسلم - علم كذبه، كما رواه أحمد على أن اليمين لا توجب براءة فلو حلف المدعى عليه ثم أقام المدعى بينة بمدعاه شاهدين فأكثر، وكذا شاهد ويمين كما قاله ابن الصباغ وغيره حكم بها، وإن نفاها المدعى حين الحلف
(5)
؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: - "البينة
(1)
سبق تخريجه.
(2)
صحيح البخارى، كتاب الرهن، باب: إذا اختلف الراهن والمرتهن، صحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه.
(3)
مغنى المحتاج: 4/ 437.
(4)
أن يعطى صاحب الحق حقه.
(5)
مغنى المحتاج: 4/ 438.
العادلة أحق من اليمين الفاجرة"
(1)
، ولو ردت اليمين على المدعى فنكل ثم أقام بينة حكم بها لاحتمال أن يكون نكوله للتورع عن اليمين الصادقة: ولو قال بعد إقامة بينة بدعواه: بينتى كاذبة أو مبطلة سقطت، ولم تبطل دعواه، واستثنى البلقينى ما إذا أجاب المدعى عليه وديعة بنفى الاستحقاق، وحلف عليه، فإن حلفه يفيد البراءة حتى لو أقام المدعى بينة بأنه أودعه الوديعة المذكورة لم تؤثر، فإنها لا تخالف ما حلف عليه من نفى الاستحقاق
(2)
.
ثانيا: نكول المدعى عليه عن اليمين:
النكول شرعًا: أن يقول المدعى عليه بعد عرض القاضي اليمين عليه أنا ناكل عنها، أو يقول له القاضي: احلف فيقول لا أحلف لصراحتهما في الامتناع، فيرد اليمين، وإن لم يحكم القاضي بالنكول.
إذا نكل المدعى عليه عن يمين طلبت منه حلف المدعى اليمين المردودة لتحول الحق إليه، قضى له بمدعاه، ولا يقضى بنكول المدعى عليه؛ وذلك لأن النبى صلى الله عليه وسلم - (رد اليمين على طالب الحق)
(3)
وقال الله تعالى: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ}
(4)
أي بعد الامتناع من الأيمان الواجبة فدل على نقل الأيمان من جهة إلى جهة، والمعنى أن النكول كما يحتمل أن يكون تحرزا عن اليمين الكاذبة يحتمل أن يكون تورعا عن اليمين الصادقة فلا يقضى مع التردد، والنكول، هو أن يقول المدعى عليه بعد أن يعرض القاضي اليمين عليه: أنا ناكل عنها أو يقول له القاضي: احلف فيقول لا أحلف لصراحتها في الامتناع فيرد اليمين، وإن لم يحكم القاضي بالنكول، وفى أصل الروضة أن القاضي لو قال له: قل بالله فقال بالرحمن فإنه يعتبر نكولًا، ولو قال له: قل بالله فقال: والله أو تالله فهل هو نكول أم لا؟ وجهان: صحيح البلقينى منهما أنه لا يكون نكولا، وصوبه الزركشى، قال الشيخان: ويجرى الوجهان أيضًا فيما لو غلظ عليه باللفظ أو بالزمان أو المكان وامتنع، وصحح البلقينى أيضًا أنه لا يكون نكولا وهو الظاهر؛ لأن التغليظ بذلك ليس واجبا فلا يكون الممتنع منه ناكلا، وقال القفال: الأصح في التغليظ اللفظى أنه ناكل، وقطع بعضهم به في المكانى والزمانى لا اللفظى، ولو قال له: قل تالله بالمثناة فقال بالموحدة قال الشيخان عن الققال: يكون يمينا؛ لأنه أبلغ وأشهر فإن سكت المدعى عليه بعد عرض اليمين عليه لا لدهشة ونحوها حكم القاضي بنكوله، كما أن السكوت عن الجواب في الابتداء نازل منزلة الإنكار ولابد من الحكم هنا ليرتب عليه رد، واليمين بخلاف ما لو صرَّح بالنكول فإن اليمين يرد، وإن لم يحكم القاضي، وللخصم العود إلى الحلف بعد نكوله ما لم يحكم بنكوله حقيقة أو تنزيلا على المعتمد، وإلا فليس له العود إلا برضا المدعى والحكم كقوله: جعلتك ناكلا أو نكَّلتك بالتشديد، ويسن للقاضى أن يعرض اليمين على المدعى عليه ثلاث مرات والاستحباب فيما إذا سكت أكثر منه فيما إذا صرح بالنكول، ويبين القاضي النكول للجاهل به
(1)
رواه البخاري: كتاب الشهادات، باب: من أقام البينة: 2/ 951.
(2)
مغنى المحتاج: 4/ 439.
(3)
رواه الحاكم وصحح إسناده.
(4)
المائدة، الآية:108.
كأن يقول له: إن نكلت عن اليمين حلف المدعى وأخذ منك الحق، وليس هذا من تلقين الدعوى، فإن لم يفعل وحكم بنكوله نفذ حكمه لتقصير المدعى عليه بترك البحث عن الحكم النكول، وقول القاضي للمدعى: احلف يعتبر حكما بنكول المدعى عليه، وفى الروضة كأصلها نزل منزلة الحكم، فليس للمدعى عليه أن يحلف بعد هذا إلا برضا المدعى؛ لأن الحق له
(1)
.
واليمين المردودة برد المدعى عليه أو القاضي كالبينة التي يقيمها المدعى على قول، وفى الأظهر تعتبر كإقرار المدعى عليه؛ لأنه بنكوله توصل للحق فأشبه إقراره، ويتفرع على القولين ما لو أقام المدعى عليه بينة بأداء أو إبراء أو غير ذلك من المسقطات؛ لم تسمع هذه البينة على القول الثاني، وإن خالف في ذلك البلقينى لتكذيبه لها بإقراره، أما على القول الأول فإنها تسمع، وإن نكل المدعى عليه وردت اليمين على المدعى فلم يحلف ولم يتعلل بشئ أي لم يبد علة ولا عذرًا، ولا طلب مهلة سقط حقه من اليمين المردودة وغيرها لإعراضه وليس له ردها على المدعى؛ لأن اليمين المردودة لا ترد، وليس له في هذا المجلس ولا غيره مطالبة خصمه إلا أن يقيم بينة كما لو حلف المدعى عليه، وإن تعلل المدعى بإقامة بينة أو سؤال ففيه هل يجوز له الحلف أولا أو مراجعة حساب أو بأن يتروى أمهل ثلاثة أيام ولا يزاد عليها؛ لأنها مدة معتبرة شرعًا. فإن لم يحلف بعدها سقط حقه من اليمين، وقيل: يمهل أبدًا؛ لأن اليمين حقه فله تأخيره إلى أن يشاء كالبينة، وإن استمهل المدعى عليه حين استحلف لينظر حسابه لم يمهل إلا برضاء المدعى؛ لأنه مقهور على الإقرار، واليمين بخلاف المدعى فإنه مختار في طلب حقه وتأخيره، وقيل: يمهل ثلاثة من الأيام كالمدعى، واختاره الرويانى. ولو طلب المدعى عليه الإمهال في ابتداء الجواب ليراجع حسابه ونحوه أمهل إلى آخر المجلس، قال في الروضة: إن شاء المدعى، وقال ابن المقرى: إن شاء القاضي، وهو ظاهر كلام الرافعى، وهذا أولى
(2)
.
ثالثا: ظهور البينة بعد اليمين:
جاء في (مغنى المحتاج): أنه إذا أنكر المدعى عليه الدعوى وسئل عن بينته فإن قال: لى بينة وأقامها فذاك، أو قال: أريد تحليفه فله ذلك؛ لأنه إن تورع عن اليمين وأقر، سهل الأمر على المدعى واستغنى عن إقامة البينة، وإن حلف أقام المدعى البينة وأظهر خيانته وكذبه فله في طلب تحليقه غرض ظاهر، واستثنى البلقينى ما إذا ادعى لغيره بطريق الولاية أو النظر أو الوكالة، أو أدعى لنفسه، ولكن كان محجورًا عليه بسفه أو فلس أو مأذونًا له في التجارة أو مكاتبًا فليس له ذلك في شئ من هذه الصور لئلا يحلف المنكر ثم يرفعه لحاكم يرى منع البينة بعد الحلف فيضيع الحق، وإن قال المدعى: لا بينة لى وأطلق أو زاد لا بينة لى حاضرة ولا غائبة أو كل بينة أقيمها فهى باطلة أو كاذبة أو زور وحلفه ثم أحضرها قبلت في الأصح؛ لأنه ربما لم يعرف له بينة أو نسى ثم عرف أو تذكر، ومقابل الأصح: أن بينة المدعى لا تقبل بعد حلف المدعى عليه للمناقضة حيث قال أولًا: لا بينة لى إلا أن يذكر لكلامه تأويلا ككنت ناسيًا أو جاهلًا. ونسبة الماوردى والرويانى إلى الأكثرين، أما لو قال: لا
(1)
مغنى المحتاج: 4/ 439.
(2)
المرجع السابق: 4/ 440.
بينة لى حاضرة ثم أحضرها فإنها تقبل قطعًا لعدم المناقضة، ولو قال: شهودى فسقة أو عبيد فجاء بعدول وقد مضت مدة استبراء أو عتق قبلت شهادتهم وإلا فلا، قال الأذرعى: وهذا ظاهر فيما إذا اعترف أن هذه البينة هي التي نسب إليها ذلك، أما لو أحضر بينته عن قرب فقال: هذه بينه عادلة جهلتها أو نسيتها غير تلك ثم علمتها أو تذكرتها فيشبه أن تقبل لا سيما إذا كانت حرية المحضرين وعدالتهم مشهورة
(1)
، ثم قامت البينة على المدعى عليه، فليس له تحليف المدعى على استحقاقه ما ادعا؛ لأنه تكليف حجة بعد حجة بل هو كالطعن في الشهود ويستثنى من ذلك صورتان الأولى: إذا أقيمت بينة بعين الشخص، وقالت البينة: لا نعلمه باعها ولا وهبها فيحلف المدعى أنها لم تخرج عن ملكه بوجه من الوجوه ثم تدفع إليه، وهذا كما قال الإمام الشافعي رضى الله تعالى عنه - والصورة الثانية: إذا أقيمت بينة بإعسار المديون فلصاحب الدين تحليفه في الأصح لجواز أن يكون له مال في الباطن، وإن ادعى من أقيمت عليه البينة ما يسقط الحق كأن ادعى أداء له أو إبراء منه في الدَّين أو شراء عين من مدعيها أو هبتها وإقباضها منه؛ حلَّفه على نفى ما ادعاه، وهو أنه ما تأدى منه الحق ولا أبرأه من الدين ولا باعه العين ولا وهبه إياها، ومحل ذلك إذا ادعى حدوث شئ من ذلك قبل إقامة البينة والحكم، وكذا بينهما بعد مضى زمن إمكانه، فإن لم يمض زمن إمكانه لم يلتفت إليه، وكذا إن ادعى بعد الحكم حدوثه قبل البينة على الأصح، في أصل الروضة لثبوت المال عليه بالقضاء، ولو ادعى الخصم على المدعى بفسق شاهده الذي أقامه أو كذبه فله تحليفه أيضًا على نفى ما ادعاه في الأصح المنصوص؛ لأنه لو أقر به لبطلت شهادته، والقول الثاني المقابل للأصح: لا يحلفه؛ لأنه لم يدع عليه حقًّا، وإنما ادعى عليه أمرًا لو ثبت لنفعه واحترز بالبينة عما لو حلف المدعى قبل ذلك، أما مع شاهد أو يمين الاستظهار فإنه لا يحلف بعد هذه الدعوى على نفى ذلك كما صوبه البلقينى؛ لأن الحلف مع ذلك قد يعرض فيه الحالف لاستحقاقه، الحق فلا يحلف بعد ذلك على نفى ما ادعاه خصمه
(2)
.
رابعًا: الدعاوى التي يستحلف فيها المنكر والتي لا يستحلف فيها:
ويجرى التحليف في العقود والفسوخ كنكاح وطلاق وسائر حقوق الآدميين ولو شتما وضريا أوجبا تعزيرًا لخبر: (البينة على المدعى واليمين على من أنكر) وخبر: (اليمين على المدعى عليه) ولا تسمع دعوى في حد الله تعالى وتعزيزه (نعم لو) تعلق به حق آدمى كأن (قذفه) غيره (فطالبه بالحد فله تحليفه أنه ما زنى)(فإن) حلف حد القاذف.
وإن (نكل وحلف القاذف سقط) عنه (الحد ولم يثبت الزنا) على المقذوف (بحلفه)؛ لأنه لا يثبت بعدلين فكيف يثبت باليمين المردودة. (وكذلك) له (تحليف وارث المقذوف) أنه يعلم أن مورثه زنى (إن طالبه) بالحد، كما مر في الباب المذكور (ويثبت) باليمين (المردودة) في دعوى السرقة (المال دون القطع كما في السرقة)
(3)
.
(1)
مغنى المحتاج: 4/ 369، وما بعدها.
(2)
المرجع السابق: 4/ 429 - 430، وما بعدها.
(3)
أسنى المطالب شرح روض الطالب: 4/ 402، 402.
مذهب الحنابلة:
أولًا: أثر الإنكار في وجوب اليمين على المنكر:
جاء في (كشاف القناع): أنه إذا حرر المدعى الدعوى، قال القاضي للمدعى عليه: ما تقول فيما ادعاه؛ لأن شاهد الحال يدل على طلب المطالبة، فإن أقر بقوله: نعم. لم يحكم القاضي للمدعى حتى يطالب المدعى بالحكم؛ لأن الحكم عليه حق له فلا يستوفيه إلا لمسألة مستحقة، والحكم أن يقول الحاكم: قد ألزمتك ذلك، أو قضيت عليك له، أو يقول: اخرج إليه منه. وإن أنكر المدعى عليه مثل أن يقول المدعى: أقرضته ألفًا أو بعته كذا بكذا فيقول المدعى عليه: ما أقرضتنى ولا باعنى. أو يقول: ما يستحق على ما ادعاه ولا شيئًا منه، ولا حق له على، صح الجواب لنفيه عين ما ادعى عليه، ولأن قول: لا حق له عليَّ نكرة في سياق النفى فتعم بمنزلة قوله: ما يستحق على ما ادعاه ولا شيئًا منه ما لم يعترف المدعى عليه بسبب الحق، كما إذا ادعت امرأة على من يعترف بأنها زوجته المهر فقال: لا تستحق على شيئًا. لم يصح الجواب ويلزمه المهر إن لم يقم بينه بإسقاطه، وكذا لو ادعت عليه نفقة وكسوة وقلنا: لا يقبل قوله إلا ببينة كجوابه في دعوى قرض اعترف به لا يستحق على شيئًا؛ ولهذا لو أقرت في مرض موتها أنها لا مهر لها عليه لم يقبل إقرارها إلا ببينة أنها أخذتها مطلقًا أو أسقطته في الصحة؛ لأن إقرار المريض لوارثه كالوصية وإبراءه له عطية وحكمها حكم الوصية، ولو قال المدعى عليه لمدع دينارًا مثلًا: لا تستحق عليّ حبَّة فليس بجواب عن ابن عقيل؛ لأنه لا يكتفى في دفع الدعوى إلا بنص ولا يكتفى بالظاهر؛ ولهذا لو حلف المدعى مع شاهده مثلًا والله إنى لصادق فيما ادعيته عليه أو حلف المنكر أن المدعى كاذب فيما ادعاه على يُقبل منه ذلك، ويحلف على طبق الدعوى في الأولى، وعلى طبق الجواب في الثانية، وعند الشيخ يعم الجهات ويعم ما لم يندرج في لفظ حبة من باب الفحوى إلا أن يقال: يعم حقيقة عرفية، وقال في تصحيح الفروع: قلت: الصواب ما قاله الشيخ تقى الدين وهو الظاهر، قال الأزجى: لو قال: لك على شئ، فقال: ليس لى عليك شئ، وإنما لى عليك ألف درهم لم يقبل منه دعوى الألف؛ لأنه نفاها بنفى لى عليك شئ، ولو قال: لك على درهم، فقال: ليس لك على درهم ولا دانق، وإنما لى عليك ألف. قبل منه دعوى الألف؛ لأن معنى نفيه: ليس حقى هذا القدر. قال: ولو قال ليس لك على شئ إلا درهم صح ذلك، ولو قال المدعى للمدعى عليه: لى عليك مائة. فقال المدعى عليه جوابًا له: ليس لك على مائة، اعتبر قوله ولا شئ منها، كاليمين أي كما لو حلف، فلابد أن يقول: ليس له على مائة ولا شئ منها؛ لأن نفيه المائة لا ينفى ما هو أقل منها، فإن نكل المدعى عليه عن الحلف على ما دون المائة بأن حلف أنه لا يستحق عليه مائة ونكل عن قوله ولا شئ منها حكم عليه بمائة، إلا جزءًا من أجزاء المائة، وللمدعى إذا أنكر المدعى عليه أن يقول: لى بينة؛ لأن الحق له، والبينة طريق إلى تخليصه
(1)
.
(1)
كشاف القناع: 691/ 4. وما بعدها.
وإن قال المدعى: ما لي بينة، فالقول قول المنكر بيمينه للخبر
(1)
، ولأن الأصل براءة ذمته إلا النبي صلى الله عليه وسلم إِذا ادُّعى عليه أو ادعى هو صلى الله عليه وسلم على أحد فقوله بلا يمين لعصمته قبل النبوة وبعدها فيعلم الحاكم المدعى الذي لا بينة له أن له اليمين على خصمه؛ لأنه موضع حاجة، فإن سأل إحلافه أحلفه؛ لأن اليمين طريق إلى تخليص فلزم الحاكم إجابة المدعى إليها السماع البينة وخلى سبيل المدعى عليه بعد إحلافه؛ لأنه لم يتوجه عليه حق، وليس للقاضى استحلاف المدعى عليه قبل سؤال المدعى؛ لأن اليمين حق له كنفس الحق ويمين المنكر على الفور، فإن أحلفه القاضي قبل سؤال المدعى لم يعتد بيمينه أو حلف المدعى عليه قبل سؤال المدعى تحليفه وسؤال الحاكم له لم يعتد بيمينه؛ لأنه أتى بها في غير وقتها، فإن سأله المدعى أعادها له؛ لأن الأولى لم تكن يمينه ولابد في اليمين التي تقطع الخصومة من سؤال المدعى لها طوعًا؛ لأن فعل المكره لا اعتداد به - ومن إذن الحاكم فيها فلو حلف قبل إلقاء الحاكم الحلف عليه لم تنقطع الخصومة
(2)
.
ثانيًا: نكول المدعى عليه عن اليمين:
جاء في (المغنى): "فإن نكل المدعى عليه عن اليمين لم يجب القصاص بغير خلاف في المذهب، وقال أصحاب الشافعي: إن نكل المدعى عليه ردت اليمين على المدعى فحلف خمسين يمينًا واستحق القصاص إن كانت الدعوى عمدًا والدية إن كانت موجبة للقتل؛ لأن يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالبينة أو الإقرار، والقصاص يجب بكل واحد منهم"
(3)
.
وجاء في (شرح منتهى الإرادات): "ادعى فلان بن فلان عليه كذا فأقر له أو فأنكر، فقال القاضي للمدعى: ألك بينة؟ قال: نعم فأحضرها وسأله سماعها ففعل، أو فأنكر المدعى عليه ولا بينة للمدعى وسأل من الحاكم تحليفه فحلفه وإن نكل المدعى عليه عن اليمين أو عن الجواب ذَكَّرهِ وأنه حكم بنكوله"
(4)
.
ثالثًا: ظهور البينة:
إذا قال المدعى: لى بينة، بعد قوله: ما لى بينة، لم تسمع؛ لأن سماع البينة قد تحقق كذبه فيعود الأمر على خلاف المقصود، وكذا قوله: كذب شهودى، أو كل بينة أقمتها فهى زور وباطلة أو فلا حق لى فيها. فلا تسمع بينته. كما لو قال: ما لى بينة وأولى؛ لأنه أصرح في تكذيب شهوده، ولا تبطل دعواه بقوله: كذب شهودى، أو كل بينة أقمتها فهى زور وباطلة فله تحليف المدعى عليه؛ لأنه قد يكون الحق لا بينة به، وإن قال المدعى: لا أعلم لى بينة، ثم قال: لى بينة، سمعت بينته؛ لأنه يجوز أن يكون له بينة لا يعلمها ونفى العلم بها ليس نفيًا لها فلا يكون مكذبًا لها، وإن قال: لا أعلم لى بينة، فقالت بينته: نحن نشهد لك، فقال: هذه بينتى سمعت، وهى أولى من التي قبلها؛ لأنه لا تهمة فيه لكن لو شهدت البينة له بغير ما ادعاه فهو مكذوب لها فلا تسمع
(5)
.
(1)
وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمى: "ألك بينة" قال: لا وفيه "فلك يمينه". رواه مسلم.
(2)
كشاف القناع: 4/ 197. وما بعدها.
(3)
المغني: 4/ 10.
(4)
شرح منتهى الإرادات: 3/ 541.
(5)
كشاف القناع: 4/ 199، وما بعدها.
وإن حلف المنكر مع غيبة البينة ثم أحضر المدعى بينته حكم له بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق؛ لقول عمر رضي الله عنه: (البينة الصادقة أحب إلي من اليمين الفاجرة)
(1)
ولأن كل حال يجب عليه فيها الحق بإقراره يجب عليه بالبينة كما قبل اليمين، ولأن اليمين لو أزالت الحق لاجترأ الفسقة على أموال الناس.
وإن سكت المدعى عليه فلم يقر ولم ينكر أو قال المدعى عليه: لا أقر ولا أنكر، أو قال: لا أعلم قدر حقه، قال له القاضي: احلف وإلا جعلتك ناكلًا وقضيت عليك؛ لأنه ناكل لما توجه عليه الجواب فيه، فيحكم عليه بالنكول عنه كاليمين، والجامع بينهما أن كل واحد من القولين طريق إلى ظهور الحق ويسن تكراره من الحاكم ثلاثًا
(2)
.
ولو أقام المدعى شاهدًا واحدًا فلم يحلف المدعى مع شاهده وطلب يمين المدعى عليه فأحلف له ثم أقام شاهدًا آخر بعد ذلك كملت بينته وقضى بها كما لو لم يكن استحلف المدعى، وإن قال المدعى عليه: لى مخرج مما ادعاه المدعى لم يكن مجيبًا؛ لأن الجواب إقرار أو إنكار، وهذا ليس واحدًا منهما.
فإن عجز المدعى عليه عن بينة القضاء أو الإبراء حلف المدعى على نفى ما ادعاه من القضاء والإبراء؛ لأن الأصل عدمه، واستحق ما ادعى به؛ لأن الأصل بقاؤه، فإن نكل المدعى عن اليمين قضى عليه بنكوله وصدّق المدعى عليه؛ لأنه منكر توجهت عليه اليمين فنكل عنها فحكم عليه بالنكول، كما لو كان مدعى عليه ابتداء، هذا كله إن لم يكن المدعى عليه أنكر أولًا سبب الحق، فأما إن أنكره ثم ثبت فادعى قضاءً أو إبراءٌ سابقًا لإنكاره لم يسمع منه وإن أتى ببينة، فلو ادعى عليه ألفًا من عرض فقال: ما اقترضت منه شيئًا أو من ثمن مبيع، فقال: ما ابتعت منه شيئًا ثم ثبت أنه اقترض أو اشترى ببينة أو إقرار فقال: قضيته من قبل هذا الوقت أو أبرأنى من قبل هذا الوقت، لم يقبل منه، ولو أقام به بينة؛ لأن القضاء أو الإبراء لا يكون إلا عن حق سابق، وإنكار الحق يقتضى نفى القضاء أو الإبراء منه فيكون مكذبًا لدعواه وبينته فلا تسمع لذلك، واحتراز بقوله:"سابقًا على إنكاره" عما لو ادعى قضاءً أو إبراءً بعد إنكاره فإنه تسمع دعواه بعد ذلك وتقبل بينته؛ لأن قضاءه الدين بعد إنكاره كالإقرار به فيكون قاضيًا لما هو مقر به فتسمع دعواه به كغير المنكر، وإبراء المدعى بعد الإنكار إقرار بعدم استحقاقه فلا تنافى بين إنكاره وإبراء المدعى فتسمع البينة بذلك
(3)
.
رابعًا: الدعاوى التي يستحلف فيها المنكر والدعاوى التي لا يستحلف فيها:
جاء في (المغنى): أن الحقوق على ضربين: أحدهما: ما هو حق لآدمى. والثانى: ما هو حق لله تعالى، فحق الآدمى ينقسم قسمين: أحدهما: ما هو مال أو المقصود منه المال، فهذا تشرع فيه اليمين بلا خلاف بين أهل العلم، فإذا لم تكن للمدعى بينة حلف المدعى عليه وبرئ، وقد ثبت
(1)
ورد في سنن البيهقى بلفظ: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة. انظر: سنن البيهقى، كتاب الشهادات، باب البينة العادلة: 10/ 182.
(2)
كشاف القناع: 4/ 300.
(3)
كشَّاف القناع: 4/ 200 - 201، وما بعدها.
هذا في قصة الحضرمى والكندى اللذين اختلفا في الأرض، وعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ولكن اليمن على المدعى عليه"
(1)
، القسم الثاني: ما ليس بمال ولا المقصود منه المال، وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص وحد القذف والنكاح والطلاق والرجعة والعتق والنسب والاستيلاد والولاء والرق ففيه روايتان: إحداهما: لا يستحلف المدعى عليه ولا تعرض عليه اليمين، قال أحمد: لم أسمع ممن مضى جوزوا الأيمان إلا في الأموال والعروض خاصة، والرواية الثانية: يستحلف في الطلاق والقصاص والقذف، وقال الخرقى: إذا قال: ارتجعتك، فقالت: انقضت عدتى قبل رجعتك فالقول قولها مع يمينها، وإذا اختلفا في مضى الأربعة أشهر فالقول قوله مع يمينه، فيخرج من هذا أنه يستحلف في كل حق لآدمى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" أخرجه مسلم
(2)
وهذا عام في كل مدعى عليه وهو ظاهر في دعوى الدماء لذكرها في الدعوى مع عموم الأحاديث، ولأنها دعوى صحيحة في حق لآدمى فجاز أن يحلف فيها المدعى عليه كدعوى المال، الضرب الثاني: في حقوق الله تعالى، وهى نوعان: أحدهما: الحدود فلا تشرع فيها يمين ولا نعلم في هذا خلافًا؛ لأنه لو أقر ثم رجع عن إقراره قُبل منه وَخُلّىَ من غير يمين فلئلا يستحلف مع عدم الإقرار أولى، ولأنه يستحب ستره والتعريض، للمقر به بالرجوع عن إقراره وللشهود بترك الشهادة والستر عليه قال النبي صلى الله عليه وسلم لهُزَال في قصة ماعز:"يا هزَّال لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك"
(3)
فلا تشرع فيه يمين بمال، النوع الثاني: الحقوق المالية كدعوى الساعى الزكاة على رب المال وأن الحول قد تم وكمل النصاب فقال أحمد: القول قول رب المال من غير يمين ولا يستحلف الناس على صدقاتهم، والدليل على ذلك: أنه حق لله تعالى أشبه الحد، ولأن ذلك عبادة فلا يستحلف عليها كالصلاة، ولو ادعى عليه أن عليه كفارة يمين أو ظهار أو نذر صدقة أو غيرها فالقول قوله في نفى ذلك من غير يمين، ولا تسمع الدعوى في هذا، ولا في حد لله تعالى؛ لأنه حق للمدعى فيه ولا ولاية له عليه فلا تسمع منه دعواه كما لو ادعى حقًّا لغيره من غير إذنه ولا ولاية له عليه، فإن تضمنت دعواه حقًّا له مثل أن يدعى سرقة ماله ليضمن السارق أو يأخذ منه ما سرقه أو يدعى عليه الزنا بجاريته ليأخذ مهرها منه سمعت دعواه، ويستحلف المدعى عليه لحق الآدمى دون حق الله تعالى
(4)
.
مذهب الظاهرية:
أولًا: أثر الإنكار في وجوب اليمين على المنكر:
كل من ادعى على أحد وأنكر المدعى عليه، فكُلّف المدعي البينة، فقال: لى بينة غائبة، أو قال: لا أعرف لنفسى بينة، أو قال: لا بينة لى - قيل له: إن شئت فدع تحليفه حتى تحضر بينتك أو لعلك تجد بينة، وإن شئت حلفته وقد سقط حكم بينتك الغائبة جملة، فلا يقضى لك بها أبدًا
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
موطأ مالك: كتاب الحدود حديث رقم 1390.
(4)
المغنى مع الشرح الكبير: 12/ 127 - 128، وكتاب الفروع في فقه الإمام الربانى أحمد بن حنبل الشيبانى: 3/ 867 وما بعدها.
وسقط حكم كل بينة تأتى بعد هذا التحليف ليس لك عليه إلا هذا فقط، فأى الأمرين اختار قضى له به، ولم يلتفت له إلى بيّنة في تلك الدعوى تأتى بعدها إلا أن يكون تواترًا يوجب صحة العلم ويقينه أنه حلف كاذبًا فيقضى عليه بالحق أو يقر بعد أن يكون حلف فيلزمه ما أقر به
(1)
، ودليل ذلك ما روِّينا - بالسند - إلى علقمة بن وائل بن حجر قال:"كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان في أرض، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للطالب: بينتك، قال: ليست لى بيّنة، قال: يمينه، قال: إذًا يذهب بها، يعنى بما لى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليست لك إلا ذلك"
(2)
، فقضى عليه الصلاة والسلام على أنه ليس للطالب إلا بينة أو يمين المطلوب، فصح يقينًا أنه ليست إلا أحدهما لا كلاهما، وبطل أن يكون له كلا الأمرين بيقين.
ثانيًا: نكول المدعى عليه عن اليمين:
إن لم يكن للطالب بينه، وأبى المطلوب من اليمين أجبر عليها، أحب أم كره بالأدب، ولا يقضى عليه بنكوله في شئ من الأشياء أصلا، ولا ترد اليمين على الطالب البتة، ولا ترد يمين أصلا إلا في ثلاثة مواضع فقط، وهى: القسامة فيمن وجد مقتولًا، فإنه إن لم تكن لأوليائه بيّنة حلف خمسون منهم واستحقوا القصاص أو الدية، فإن أبوا حلف خمسون من المدعى عليهم وبرئوا، فإن نكلوا أجبروا على اليمين أبدًا، وهذا مكان يحلف فيه الطالبون، فإن نكلوا رد على المطلوبين. والموضع الثاني: الوصية في السفر، لا يشهد عليها إلا كفار، والشاهدان الكافران يحلفان مع شهادتهما، فإن نكلا لم يقض بشهادتهما، فإن قامت بعد ذلك بينة من المسلمين حلف اثنان منهم مع شهادتهما وحكم بها ونسخ ما شهد به الأولان، فإن نكلا بطلت شهادتهما وبقى الحكم الأول كما حكم به، فهذا مكان يحلف فيه الشهود لا الطالب ولا المطلوب. والموضع الثالث: من قام له بدعواه شاهد واحد عدل أو امرأتان عدلان فيحلف ويقضى له، فإن نكل حلف المدعى عليه وبرئ، فإن نكل أجبر على اليمين أبدًا، فهذا مكان يحلف فيه الطالب، فإن نكل ردّ على المطلوب
(3)
.
ثالثًا: ظهور البينة بعد اليمين:
يسقط حكمُ كلِّ بيِّنةٍ تأتى بعد التحليف، ولا يلتفت إلى بينة تأتى بعد التحليف إلا أن يكون تواترًا يوجب صحة العلم ويقينه أنه حلف كاذبًا فيقضى عليه بالحق، أو يقر بعد أن يكون حلف فيلزمه ما أقر به
(4)
.
رابعًا: الدعاوى التي يستحلف فيها المنكر والدعاوى التي لا يستحلف فيها:
الأصل المطرد في كل دعوى في الإسلام من دم أو مال أو غير ذلك من الحقوق - ولا تحاشى شيئًا - هو أن البيّنة على المدعى واليمين على من ادعى عليه كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "لو أعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه"، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بينتك أو يمينه"
(5)
، وهذان
(1)
المحلى: 9/ 371 مسألة رقم 1783.
(2)
سنن البيهقى 10/ 261 كتاب الدعوى والبينات، باب الرجل يجئ بشاهدين على رجل بحق فلا يمين عليه مع شاهديه.
(3)
المحلى: 9/ 373 مسألة رقم 1782.
(4)
المحلّى: 9/ 371 مسألة رقم 1782.
(5)
سبق تخريجه.
عامان، ولا يصحّ لأحد أن يخرج عنهما شيئا إلا ما أخرجه نصّ أو إجماع. واليمين في الدعاوى كلها دماء كانت أو غيرها يمين واحدة فقط على من ادعى عليه إلا في الزنا والقسامة، وما عدا ذلك فعلى عمومه
(1)
. ومن ادعى عليه أنه صرح بالقذف وهو منكر فلا تحليف في ذلك؛ لأن الحد في ذلك من حدود الله عز وجل وحقوقه، لا من حقوق الآدميين
(2)
.
"ومن ادّعت على رجل أنه غلبها على نفسها فهى مشتكية مدعية؛ وليست قاذفة، وتكلف البيّنة على دعواها، فإن جاءت بها أقيم حدّ الزنا على الرجلء وإن لم تأت ببينة فلا شئ على الرجل أصلًا، فإن قال قائل: فإن لم تكن بيّنة فاقضوا عليه باليمين، قلنا: إن دعواها انتظمت حقًّا لها وحقًّا لله تعالى، فحقها هو التعدى عليها وظلمها، وحق الله تعالى هو الزنا فواجب أن يحلف لها في حقها، فيحلف بالله ما تعديت عليك في شئ ولا ظلمتك وتبرأ ذمته، ولا يجوز أن يحلف بالله ما زنى؛ لأنه لا خلاف في أن أحدًا لا يحلف في حقّ ليس له فيه مدخل
(3)
.
مذهب الزيدية:
أولًا: أثر الإنكار في وجوب اليمين على المنكر:
البينة على المدعى، وعلى المنكر اليمين
(4)
، ومن ثبت عليه دين أو يمين فادعى فيه حقًّا أو إسقاطا كأجل وإبراء أو كونه لغير المدعى ذاكرًا سبب يده لم تقبل إلا ببينة، فلو ادّعى رجل على رجل مالًا أو عينًا قر له بذلك. أو ثبت عليه بالبينة؛ لكن ادّعى فيه حقًّا أو إسقاطا، فالحق نحو أن يدعى عليه دينًا فيقرّ به مؤجّلا أو دارًا فيقرّ بها ويدعى أنها في يده رهن أو إجارة. والإسقاط نحو أن يدعى عليه دينا فيقرّ به ويدعى أنه قد أبرأه؛ ومن الحق أن يقر بأن ذلك الشئ في يده لكن يذكر أنه لغير المدعى، ويذكر سبب كونه في يده من ذلك الغفير من عارية أو رهن أو غيرهما؛ فإن لم يذكر السبب لم يسمع قوله ولو بيّن عليه؛ لأنها دعوى لغير مدعٍ بخلاف ما إذا ذكر السبب فقد صارت البينة لمدعى، وهو من الشئ في يده؛ لأنه يدعى حق الحفظ في الوديعة والانتفاع في المستأجر والمستعار والحبس في الرهن لكن لا يقبل قوله في هذا كله إلا ببيّنة
(5)
، فإن بين قبلت بينته سواء ثبت الدين بالبينة أو بالإقرار، وسواء كان الدين عن كفالة أو غيرها، وقال صاحب الوافى: إن كان الدين عن كفالة قُبِل قوله، وإلا فعليه البيّنة. وحاصل الكلام في المدعى عليه إذا أقرّ بما ادعي عليه لغير المدعى أن المقرّ له لا يخلو إما أن يكون حاضرًا أو غائبًا؛ إن كان غائبًا؛ فالمقرّ لا يخلو إما أن يضيف إلى سبب أو لا، إن لم يضف لم يمنع هذا الإقرار الدعوى عنه سواء أقام البينة أم لا، بل يحكم للمدعى بما ادعاه إذا أقام البينة أو نكل المدعي عليه عن اليمين. وأما إذا أضاف إلى سبب فإن أقام البينة أنه لفلان الغائب وأنه في يده بحقّ ذلك السبب قبلت بينته وانصرفت عنه الدعوى عندنا خلافًا للمؤيّد بالله. هذا إذا عيِّن
(1)
المحلى: 11/ 84.
(2)
المحلى: 11/ 381 مسألة رقم 2231.
(3)
المحلى: 11/ 93 مسألة رقم: 2241.
(4)
شرح الأزهار: 4/ 119.
(5)
شرح الأزهار: 4/ 126.
الغائب باسمه، فإن لم يسمه بل قال لرجل غائب، وشهد الشهود أن رجلا أودعه أو أجره لا يعرفونه، فذكر أبو جعفر أن الدعوى تنصرف عنه. فإن أقام المدعى البينة أنه له؛ فإن الحاكم ينتزعه من يد المدعى عليه، ويقف حتى يحضر الغائب أو يوكل وكيلا، وقيل: وغاية مدة وقف ذلك الشئ إلى شهر. وإن لم يبيّن أن الشئ لفلان لم تنصرف عنه الدعوى. وحكم عليه بالتسليم كما تقدّم
(1)
. ثم إذا حضر الغائب فإن قبل الإقرار فعن أبى نصر أنه لا يحتاج المدعى إلى إعادة الدعوى عليه والبينة بل الدعوى الأولى كافية، وإن ردّ الإقرار فعند أبى العباس لا يحكم للمدعى إلا ببينة يقيمها؛ لأن هذه الدعوى على بيت المال. وذكر المروزى أنه يسلم إلى المدعى من غير بينة، وأما إذا كان المقرّ له حاضرا، فإن لم يقبل الإقرار انصرفت دعوى المدعى إلى بيت المال، وإن قبل انصرفت إليه الدعوى. وكانت المحاكمة بينه وبين المدعى. وقال المؤيد بالله: إن الدعوى لا تنصرف عن المدعى عليه سواء بيّن أم لا وقيل: تتصرف
(2)
.
وإذا ادعى رجل على غيره شيئا فإنه لا تجب عليه إجابة هذه الدعوى بإقرار ولا إنكار، فينصّب الحاكم من يدافع عن الخصم الممتنع إذا كان غائبا، وإن لم يكن غائبًا وكان حاضرًا ولم يجب بنفى ولا إثبات، أو قال: لا أقرّ ولا أنكر حكم عليه الحاكم، ولا يلزمه الإجابة، ولا يوقف خصم لمجئ بينة عليه غائبة إلا لمصلحة
(3)
، فإذا ادّعى رجل حقًّا فأنكره المدعى عليه، فزعم المدعى أن له بينة غائبة، وطلب منع المدعى عليه من السفر حتى يأتى ببينة؛ فإن الحاكم لا يجيبه إلى توقيف المدعى عليه لأجل ذلك إلا أن يرى في ذلك صلاحًا؛ والصلاح أن يظن صدق المدعى بقرينة تظهر إما بحجة فيها ثبوت الحق وخط الشهود أو بحضور شاهد واحد، أو كان أن المدعى فاضل ورع أو نحو ذلك. فإذا رأى الحاكم مصلحة في توقيف المدعى عليه حتى تحضر البينة فطلب منه الكفيل بوجهه وجب ذلك فيكفل عشرا في المال وشهرا في النكاح، وهذا إذا كان توقيفه قبل تحليفه، وأما إذا كان بعد أن حلف فمقدار مجلس الحكم فقط
(4)
.
ثانيًا: نكول المدعى عليه عن اليمين:
لا تسقط اليمين الأصلية بوجود البينة في غير المجلس، وإن كانت حاضرة في البلد. وإذا لم يكن للمدعى بينة فى المجلس فطلب يمين المنكر فنكل عن اليمين فإنه يجب عليه ذلك الحق بالنكول إذا وقع في مجلس الحاكم إلا فى الحد والنسب فإنه لا يحكم فيهما بالنكول. وقيل: لا في النفس ولا فيما دونها، وقيل: إذا سكت المدعى عليه ولم يجب المدعى بشئ أو قال: لا أنكر ولا أقرّ فإنه لا يحكم عليه كما يحكم بالنكول. ولكن مع سكوته يحبس حتى يقر بما ادّعى عليه أو ينكر فيطلب منه اليمين، وإن نكل حكم عليه.
ولو نكل المدعى عليه عن اليمين ثم أجاب إلى الحلف وجب أن يقبل اليمين بعد النكول وسقط عنه الحق
(5)
.
(1)
شرح الأزهار: 4/ 127.
(2)
السابق: 4/ 128، 129.
(3)
السابق: 4/ 132.
(4)
السابق: 4/ 144.
(5)
السابق: 4/ 144 - 146.
ثالثًا: ظهور البينة بعد اليمين:
إذا ادّعى رجل على غيره حقا فأنكره المدعى عليه وحلف، ثم أتى المدعى ببينة فلا حكم لهذه اليمين، وقبلت البينة بعدها وحكم بها
(1)
. وقيل: لا تقبل البينة بعد اليمين، وإنما تقبل اليمين بعد النكول والبينة بعد اليمين ما لم يحكم فيهما، أي في النكول واليمين. فأما إذا كان الحاكم قد حكم على الناكل بالحق لأجل نكوله لم تقبل يمينه بعد الحكم، أو حكم بسقوط الحق عن المنكر لأجل يمينه؛ لم تسمع بينة المدعى بعد الحكم، ومتى وردت اليمين على المدعى لزمته، فإن نكل لم يحكم له بما ادعاه. وقيل: لو طلب أنه يحلف بعد أن ردها لم يجب إلى ذلك لأن حقه قد بطل بالرد أو طلب المدعى عليه من المدعى تأكيد بينته بيمين أن شهوده شهدوا بحق فإنها تلزم تلك اليمين بشروط أربعة. الشرط الأول: أن يطلب المدعى عليه، الشرط الثاني: أن تكون بينته غير البينة المحققة. وهى أن لا يشْهد الشهود على التحقيق بل يشهدون بالظاهر، فإذا شهدوا على التحقيق لم تلزم هذه اليمين المؤكدة، وقيل: إنها تجب سواء شهدوا على التحقيق أم على الظاهر. الشرط الثالث: أن تكون الدعوى لآدمى في حقه المحض فيؤكد ببينة بها أي باليمين من المدعى، فلو كان مشوبا بحق الله تعالى لم تجب. والشرط الرابع: أن يكون ذلك حيث أمكنت اليمين بخلاف ما لو ادعى الولى لصبى أو لمسجد فطلب المنكر من الولى تأكيد البينة باليمين. فهى هاهنا لا تمكن فلا تلزم؛ وكذا لو ردّت عليه لم تلزم، فمتى كملت هذه الشروط لزمت اليمين المؤكدة
(2)
. وقد زيد شرط خامس، وهو أن يكون طلبها عند الحاكم
(3)
.
وقيل: لا يجمع بين البينة واليمين. وذلك ظلم عند السادة والفقهاء إلا عند الهادى والأوزاعى والحسن بن صالح
(4)
.
رابعًا: الدعاوى التي يستحلف فيها المنكر والدعاوى التي لا يستحلف فيها:
اليمين الأصلية تجب على كل منكر يلزم بإقراره حق لآدميّ غالبا، فأما لو كان يلزمه بإقراره حق لله محض كالزنا وشرب الخمر وكذا السرقة حيث يدعى عليه للقطع لا للمال. فإنه لو ادعيت عليه هذه الأشياء فأنكرها لم تلزمه اليمين
(5)
.
مذهب الإمامية:
أولًا: أثر الإنكار في وجوب اليمين على المنكر:
الفاصل بين الخصومات مع عدم إقرار المدعى عليه وعدم علم الحاكم - إنما هو البينة واليمين، كما هو في جملة من الأخبار منها صحيفة أسعد وهشام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما أقضى بينكم بالبينات والأيمان" وهذه الأخبار مجملة من حيث اعتبار ضمّها معًا أو كفاية أحدهما لأحدهما أيهما كان، أو كل منهما لمعيّن، لكن يستفاد من جملة أخرى أن البينة وظيفة المدعى عليه، ومنها صحيفة العجلى: "الحقوق كلها البينة على المدعى، واليمين على
(1)
شرح الأزهار:4/ 146.
(2)
المرجع السابق: 4/ 147.
(3)
السابق: 4/ 148.
(4)
السابق: 4/ 149.
(5)
السابق: 4/ 143.
المدعى عليه إلا في الدم خاصة، ومقتض التفصيل القاطع للشركة أنه لا يشترط ضمّ اليمين إلى البينة بمقتضى القاعدة إلا إذا كان هناك دليل خاص كما في الدعوى على الميت، وأنه لا يقبل من المدعى اليمين من غير رضى المدعى عليها
(1)
. بل وكذا لا تقبل من المنكر البينة. وظاهر العلماء أيضا عدم قبولها منه؛ لأنها بينة نفى، وهى غير مقبولة لكن يمكن أن يقال - بناء على عموم حجة البينة: بل الذي يقتضيه إطلاق الأخبار الدالة على أن الفاصل هو البينة واليمين، وأنه لا مانع من كفاية البينة للمنكر أيضا إذا شهدت بالنفى على وجه الجزم، لا بالاعتماد على أصل العدم وأصل البراءة، كما إذا ادّعى على أحد أنه أتلف ما له العين لفلان. وأنكر المدعى عليه، وأقام بينته على النفى، وشهدت به لاطلاعها على أن المتلف غيره. وإن كان المنكر لا يدعى ذلك لجهله بالحال. فإذا شهدت البينة بأنه لم ينف لا مانع من سماعها، وإن كانت من بينته النفى، وإذا ضمت إلى قولها: لم يتلف. قوله أن المتلف فلان فأولى، ثم إن هذا الحكم جاز في جميع الدعاوى سواء كانت متعلقةٌ بالمال عينا ودينا أو بغيره من العقود والإيقاعات كالنكاح والطلاق والعتق وغيرها، نعم لا يجرى حكم اليمين في الحدود والظاهر عدم الخلاف فيه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمين في حد. وإذا
(2)
أجاب المدعى عليه بالإنكار وجب على الحاكم إذا لم يعلم المدعى أن عليه البينة أن يعرفه بذلك ثم يقول ألكّ بينة؟ فإن لم تكن عنده وجب أن يقول له حق الحلف إذا لم يعلم بذلك وحينئذ فإن التمس منه الاحتلاف أحلفه، ولا يجوز
(3)
للحاكم أن يحلفه من دون سؤال المدعى، وكذا لا يجوز تبرع المنكر به قبل سؤاله بلا خلاف بالإجماع على الظاهر؛ لأنه حقه فيتوقف على مطالبته، وربما يتعلق غرضه بأن لا يحلفه مؤقتا لوجود شهود أو ارتداع المنكر عن إنكاره أو في الدعوى بالصلح، أو نحو ذلك، ويمكن أن يستدل عليه بصحيحة ابن أبي يعفور إذا أرضى صاحب
(4)
الحق بيمين لمنكر لحقه واستحلف فحلف أن لا حق له قبله ذهبت اليمين بحق المدعى، وربما اشتمل من الأخبار على قوله استحلفه فإنه ظاهر في أنه متوقف على استحلاف المدعى. فلو أحلفه الحاكم أو تبرع به المنكر قبل سؤاله لم يعتد به، ويجب على الحاكم إعادته بعد سؤاله. وكذا لا يعتد بإحلاف المدعى من دون إذن الحاكم بلا خلاف لأصالة عدم ترتب الأثر. والحاصل أنه يمكن أن يستظهر من الأخبار أن ذلك من وظائف الحاكم، ومع قطع النظر عن ذلك ففى الإجماع والأصل كفاية، وإذا لم يكن للمدعى
(5)
بينة واستحلف المنكر، فإما أن يحلف أو يرد أو ينكل، فإن حلف سقطت الدعوى في ظاهر الشرع لكن لا يبرأ من الحق لو كان كاذبا فيجب عليه التخلص من حق المدعى، وعلى ذلك فليس للمدعى دون الحلف ومطالبته بحقه ولا مقاصته. ولا يجوز له الدعوى ولا تسمع دعواه بالإجماع، والنصوص في نفى ذيل صحيحة ابن أبي يعفور
(1)
العروة الوثقى: 3/ 58.
(2)
المرجع السابق:3/ 59.
(3)
المرجع السابق:3/ 95.
(4)
المرجع السابق:3/ 60.
(5)
المرجع السابق: 3/ 60.
المتقدمة بعد قوله فلا حق له قلت: وإن كان له بينة عادلة، قال: نعم. فإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له حق، وكانت اليمين قد أبطلت ما ادعاء قبله مما قد استحلفه عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف لكم بالله فصدقوه، ومن سألكم بالله فأعطوه
(1)
؛ وذهبت اليمين بحق المدعى ولا دعوى له، وفى خبر خضر ابن عمرو في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحد قال: إن استحلفه فليس له أن يأخذ منه شيئا، وفى خبر العبقرى
(2)
على الرجل يدعى قبل الرجل الحق فلا يكون بينة بماله. قال: فيمين المدعى عليه، فإن حلف فلا حق له، وإن رد اليمين على المدعى فلم يحلف فلا حق له، وفى مرسل عبد الحميد في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده إياه فيحلف له يمين صبرت له عليه شئ، وفى صحيحه سليمان بن خالد "عن رجل وقع لى عنده مال وكابر عليه وحلف، ثم وقع له عندى مال فأخذه لمكان مالى الذي أخذه وأجحده وأحلف عليه كما صنع فقال: إن خانك فلا تخنه، ولا تدخل فيما عتبته عليه، وفى خبر عبد الله بن وضاح قضية الدسوقى الذي خانه في ألف درهم وحلف عند الوالى ثم وقع منه أرباح عنده فأراد أن يقتضى منه؛ وكتب إلى أبى الحسن عليه السلام يسأله عن ذلك فكتب: ولا تأخذ منه شيئا إن كان ظلمك فلا تظلمه، ولولا أنك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذه مما تحت يدك، ولكنك رضيت بيمينه لقد مضت اليمين بما فيها ثم الظاهر كما نسب إلى ظاهركم عدم الفرق في سقوط الحق باليمن من كون الدعوى عينا أو دينا، فلو ادعى عليه عينا في يده ولم يكن له بينة فاستحلف فحلف لم يجز له التصرف في تلك العين، وفى الظاهر وإن كانت باقية على ملكه فليس للمدعى عليه بيعها أو هبتها من غيره، أو إن يأذن لغيره أن يتصرف فيها، وأما دعوى غير المال كالعقود والإيقاعات غير المتعلقة بالمال والتي لم يكن الغرض من النزاع فيها المال ففى سقوط حق المدعى فيها باليمن من المنكر بحيث لا تسمع الدعوى منه بالبينة فمشكل؛ لأن الظاهر من الأخبار الدعاوى المتعلقة بالمال؛ بل ربما يدعى اختصاصها بالدين، وإن كان إطلاق الأخبار بل ظهور بعضها في العين يرده، ثم لا يجوز لكل من علم بكذب المنكر في حلفه أن يرتب آثار الملكية على ما حلف عليه.
ثانيًا: نكول المدعى عليه عن اليمين:
جاء في (العروة الوثقى): إذا نكل المدعى عليه عن اليمين ولم يردها أيضًا. فهل يحكم عليه بالنكول أو يردها الحاكم على المدعى؟ قولان: ذهب إلى كل منهما جماعة من القدماء وجماعة من المتأخرين. ونسب القول الثاني إلى أكثرهم. واستدل كل منهما بوجوه، فأحد الوجوه للقول الأول الأصل المقرر بوجوه كأصالة عدم مشروعية ردّ اليمين من الحاكم، وأصالة عدم ثبوت الحلف على المدعى وأصالة براءة ذمة الحاكم من التكليف بالردء وأصالة براءة المدعى من التكليف باليمين على غيره المنكر، وأصالة عدم كونها
(1)
لم أجد الحديث بهذا اللفظ فيما بين يدى من مراجع، لكن شطره الثاني في سنن أبى داود، كتاب الأدب باب في الرجل يستعيذ من الرجل. وسنن النسائي، كتاب الزكاة، باب من سأل بالله عز وجل.
(2)
العروة الوثقى: 2/ 61.
حجة للمدعى. وأصالة عدم كون النكول عنها حجة للمنكر. وفيه أن شيئًا من هذه الوجوه لا يفى بإثبات كفاية النكول في الحكم بثبوت حق المدعى مع أن الأصل عدمه. فلابد من الأخذ بالقدر المتيقن، وهو النكول من المنكر، والحلف من المدعى بعد الرد عليه. والثانى قوله عليه الصلاة والسلام:"البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه"
(1)
بدعوى أن مقتضى التفضيل القاطع للشركة اختصاصُ اليمين بالمنكر، فلا يجوز من المدعى، وفيه أنه لبيان الوظيقة الأولية، فلا ينافى ثبوتها للمدعى بالرد من المنكر أو الحاكم إذا اقتضته الأدلة
…
واستدل للقول الثاني بأصالة عدم ثبوت الحق على المنكر بمجرد النكول، بل القدر المعلوم ثبوته به، وبالحلف من المدعى بعد الرد عليه للإجماع عليه حينئذ، وبأن الواجب على المنكر الحلف أو الردّ على المدعى للأخبار الدالة على التخيير بينهما، وإذا امتنع عن الأمرين رد الحاكم من باب الولاية على الممتنع بالأخبار المستفيضة الدالة على أن القضاء بين الناس إنما هو بالبينات والأيمان، وقد يستدل بصحيحة عبيد بن زرارة "في الرجل يدعى عليه الحق ولا بينة للمدعى، قال: يستحلف أو يرد اليمين على صاحب الحق" فإن لم يفعل فلا حقّ عليه بناء على قراءة يُردُّ بالبناء بصيغة المجهول لكنه خلاف الظاهر، بل هو بصيغة المعلوم. والمراد ردّ المنكر لا قلّ من الاحتمال. وبنحوه يجاب عن الاستدلال بصحيحة هشام:"يرد اليمين على المدعى"، وعلى تقدير قراءة بالمجهول فالمراد ردّ المنكر لا غيره من الحاكم أو غيره
(2)
. وإذا رجع المنكر الناكل عن نكوله بعد حكم الحاكم عليه بالحق بسبب النكول أو بعد الردّ على المدعى وحلفه، وأراد أن يحلف لإسقاط الحق فالظاهر عدم الإشكال في عدم الالتفات إليه بثبوت الحق عليه
(3)
. والأخبار الدالة على أن عليه اليمين منصرفة عن هذه الصورة.
وأما إذا رجع عن نكولهِ بعد تحققه قبل حكم الحاكم عليه بثبوت الحق ففى الالتفات إليه وعدمه قولان، أقواهما الأول لعدم ثبوت الحق عليه قبل حكم الحاكم، وإن تحقق موجبه ودعوى أنه قد وجب على الحاكم الحكم عليه بعد تحقق الموجب فيستصحب من حكم النكول ما إذا كان باقيا عليه
(4)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
العروة الوثقى 3/ 66.
(3)
العروة الوثقى 3/ 67.
(4)
السابق: 3/ 68.
ثالثًا: ظهور البيِّنة بعد اليمين:
جاء في (العروة الوثقى): الظاهرُ أن المنكر عند عدم البينة حقٌّ للمدعِى لا أن يكون حكمًا شرعيًا؛ وحينئذ فله إبراؤه منه وإسقاطه، وإذا أسقطه فكأنه حلف، فعلى الحاكم أن يحكم ببراءته من الحق في الظاهر، وليس له استئنافُ الدعوى ومطالبة حلفه. نعم لو كانت بينةٌ تُسمع دعواه، واختاره صاحب المستند من جواز استئناف الدعوى؛ لأن الحق الواقعى على فرضه لا يسقط بهذا الإبراء والإسقاط، فله استئناف الدعوى ومطالبة الحلف، لأن هذه دعوى مغايرة للتى أُبرئ من اليمين فيها، وهذا لا وجه له؛ لأن الحق الواقعى وإن كان لا يسقط بهذا الإسقاط محكوم عليه بالعدم في الظاهر. وظاهر كلامهم أن حلف المنكر - وإن كان بأمر الحاكم - لا يكفى في الحكم بسقوط الدعوى؛ بل يحتاج إلى حكمة بالبراءة، فلو مات قبل أن يحكم فهو كما لو مات بعد إقامة المدعِى للبينة قبل أن يحكم
(1)
.
وقد يُتوهم من ظاهر النصوص سقوط الدعوى بمجرد حصول اليمين من المنكر من غير حاجة إلى إنشاء حكم من الحاكم بذلك، لكن التحقيقَ خلافُه ضرورة كون المراد من هذه النصوص وما شابهها تعليم ما يحكم به الحاكم، وإلا فلا بد من القضاء والفصل بعد ذلك كما أومأ إليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما أقضى بينكم بالبيانات والأيمان"
(2)
، بل لو أخذ بظاهر هذه النصوص وشبهها لم يحتج إلى إنشاء الحكومة من الحاكم مطلقًا ضرورة ظهورها في سقوط دعوى المدعى وثبوت الحق بالبينة ونحوها، فتأمل جيدًا
(3)
.
رابعًا: الدعاوى التي يُسْتَحْلَف فيها المنكر والدعاوى التي لا يُسْتَحْلَف فيها:
جاء في (العروة الوثقى):
(4)
أنه تثبت اليمين في جميع الدعاوى مالية كانت أو غيرها كالنكاح والطلاق والرجعة والقتل وغيرها، نعم يستثنى من ذلك الحدود؛ فإنها لا تثبت إلا بالإقرار أو البينة ..
إذا كانت الدعوى مركبة من حق الله وحق الناس كالسرقة، فبالنسبة إلى حق الناس تثبت، ولا تثبت بالنسبة إلى حق الله. فإذا ادعى عليه أنه قذفه بالزنا فأنكر يجوز له أن يستحلفه فإن حلف برئ، وإن رد اليمين على المدعى فحلف حُدَّ حَدَّ القذف. وإذا كان المدعى وليًا إجباريًا فإن كان له بينة والأمر ظاهر، وإلا فيجوز له استحلاف المدعى عليه مع المصلحة، فإن خلف سقطت الدعوى، وإن رد اليمين عليه فإن كان المدعى به مما يرجع إلى تصرفه نفيًا أو إثباتًا فالظاهر أن له أن يحلف؛ لأنه حلف على فعله أو تركه، وإن كان نفيه للضر وإلا فإن ادعى دينًا للمولى عليه على شخص فيحتمل جواز حلفه أيضًا لعدم عموم يدل على عدم جواز الحلف على مال الغير، ويحتمل إيقاف الدعوى إلى بلوغ المولى عليه ورشده، ويحتمل الحكم بثبوت الحق
(1)
العروة الوثقى: 3/ 63.
(2)
لم نجده بهذا اللفظ فيما بين أيدينا من كتب.
(3)
العروة الوثقى: 3/ 64.
(4)
المرجع السابق:3/ 103.
بدعوى عدم إمكان الرد وعدم جواز إيقاف الدعوى. وكذا الحال إذا نكل عن اليمين وعن الرد، وإن كان المدعى عليه قاصرًا فالحال كما ذكرنا في الولى إلا في الحلف مع الشاهد الواحد أو مع رد اليمين. فإنه لا يجوز هنا فيما إذا لم يكن النزاع راجعًا إلى تصرفه في مال القاصر نفيًا أو إثباتًا. فإن الظاهر إجماعهم على عدم جوازه هنا، وإذا قلنا بجوازه في الولى الإجبارى، وإن كان المدعى وصيًا في إخراج الثلث مثلًا وصرفه على الجهات العامة. أو على مثل الفقراء أو العلماء أو نحو ذلك. فكذلك في عدم جواز حلفه في غير ما كان راجعًا إلى تصرفه
(1)
.
هل يجوز لفقير واحد أو عالم واحد الحلف أولًا؟ فيه وجهان ومما ذكرنا ظهر الحال إذا كان المدعى متولى الوقف.
مذهب الإباضية:
أولًا: أثر الإنكار في وجوب اليمين على المنكر:
جاء في (شرح النيل): إن جحد المدعى عليه ما ادعاه المدعى، بين المدعى بتأجيل لأجلٍ يؤجله الحاكم بحسب نظره، وللمدعى على المدعى عليه يمين بموافاة أجله، أو ضمين منه ضمانة الوجه بموافاة أجله
(2)
.
ثانيًا: نكول المدعى عليه عن اليمين:
وإن كان نكل عن اليمين حبسه ذلك الحاكم حتى يُنْعِم بها ويذعن إليها .. وإذا أوجب اليمين على المدعى عليه فأبى أن يحلف فإن الحاكم يجبره على اليمين، ومنهم من يقول: يحبسه حتى يحلف أو يقرّ ومنهم من يقول: إذا نكل عن اليمين فإن الحاكم يحكم عليه بما ادعى عليه المدعى في الأموال من غير التعدية، وأما التعدية في الأموال والأنفس وغير ذلك من النكاح والطلاق والعفو وما أشبه ذلك، فلا يحكم عليه بنكوله عن اليمين في ذلك ولكن يُحبس حتى يقرّ أو يحلف، وقيل: يُحكم عليه بهذا كله فيكون نكوله عن اليمين بمنزلة الإقرار على نفسه في هذا كله، وإذا جحد رجل ما عليه فحلف بالمصحف ثم تاب فليغرم وليكفر يمينه، وكذلك إن نسى فحلف ثم ذكر فتاب
(3)
.. وإن لم يطلب المدعى يمين المدعى عليه فلا يحلّفه له الحاكم إلا بإذنه
…
وإن جحد مدعى عليه دعوى مدعٍ بوجه معاملة كبيع وإصداق وقرض يرد فيها يمين من المدعى عليه المنكر إلى المدعى بقبولهما معًا على القول بجواز الرد
(4)
.
ثالثًا: ظهور البينة بعد اليمين:
جاء في (شرح النيل): إن جحد الدينَ المديانُ غيرُ المفلس فحلفه، ولو حلفه بلا حاكم لم تلزمه؛ لأنه بعد التحليف لا شئ له ولو بين عليه: إن ظهرت له بينة بعد الحلف ولم يعلم بها قَبْلَه أخذ، وإن لم يحلفه أدى عليه إذا حَلَّ لأنه ما لم يحلفه يعد مقصرًا (1).
(1)
العروة الوثقى: 3/ 117.
(2)
شرح النيل: 7/ 4 بتصرف.
(3)
السابق 7/ 6 - 7 بتصرف.
(4)
السابق 7/ 18 بتصرف.
رابعًا: الدعاوى التي يُسْتَحلف فيها المنكر والتي لا يُستَحلف فيها:
جاء في (شرح النيل)
(1)
: أن اليمين تُدرك في القتل، والمضرة في البدن والوطء والنكاح والطلاق والعتق والتعدى، والمعاملة في المال، ولا يمين في الحدود؛ ولا في دعوى رجل على رجل أنه وليه، أو أن له وليًّا يسمى فلانًا؛ أو أن له عبدًا يسمى فلانًا؛ ليأتى به إلى الحاكم أن يأخذ منه حقه في كذا من التعديات، أو أن للولى مالًا ليأخذ منه نفقته، وفى دعوى من عليه الدين الإفلاس، ولا يحلف الأب للابن، وفى الأم قولان. ولا الخليفة على الخصومة أو الوكيل عليها، ولا خليفة الغائب أو المجنون أو اليتيم إلا فيما باشر بنفسه من بيع أو شراء غير ذلك. ولا يمين على الحاكم أنه لم يحكم إلا بالحق، ولا على الشاهد أنه لم يشهد إلا بالحق، ولا على منكر من يدعى أنه خليفة فلان على حقه على هذا الحال أو أنه خليفة الأب على أولاده أو خليفة العشيرة على اليتامى أو الغائب أو المجنون، ويحلف الولد لأبيه وأمه وأحد الزوجين للآخر والسيد للعبد والعبد للسيد، ويحلف الحر للعبد والعبد للحر والعبد للعبد، فيما يسترده الحاكم الجواب بغير إذن سيده، ويحلف الحاكم من استمسك به الطفل بالتعدى بلا إذن أب أو خليفة، ويدرك المسلمون اليمين على من أنكر إحداث المضرة في طريق الناس، أو في المسجد، أو المصلى، أو المقبرة أو الساقية، مما للعامة
(2)
.
(1)
شرح النيل: 13/ 290.
(2)
السابق: 13/ 290.
الإنكار في الصلح
مذهب الحنفية:
جاء في (المبسوط): إذا قُتل الرجل عمدًا فأقام أخوه البينة أنه وارثه لا وارث له غيره، وأقام القاتل البينة أن له ابنًا فإنى لا أعجّل بقتله حتى أنظر فيما جاء به القاتل وأبلو فيه عذرًا لأعلم مصداقه؛ لأن القصاص أمر مستعظم إذا نفذ لا يمكن تداركه، فإن أقام القاتل البينة أن له ابنًا وأنه صالحه على الدية، وأنه قبضها منه درأت القصاص حتى أنظر فيما قال، لأنه ادَّعى الصلح وأقام البينة فتقبل بينته في حق سقوط القصاص، فإن جاء الابن وأنكر الصلح كلفت القاتل إقامة البينة على الصلح. ولا أجيز البينة التي قامت على الأخ؛ لأن الأخ ليس بخصم عن الابن في حق الصلح، فلم تقبل في حق الصلح وقبلت في حق سقوط القصاص
(1)
.
وجاء في بدائع الصنائع: قال أبو حنيفة: أجوز ما يكون الصلح على الإنكار
(2)
. وجاء في تبيين الحقائق قال أبو منصور الماتريدى: لا يعمل الشيطان في إيقاع العدواة والبغضاء في بنى آدم مثل ما يعمل في إبطال الصلح على الإنكار، وهذا صحيح؛ لأن في منع هذا الصلح فتح باب المنازعات وإثارة الثائرات بين الناس وإقامة الفتنة والمكائد
(3)
.
مذهب المالكية:
جاء في (التاج والإكليل): قال ابن القاسم: ومَنْ وجب لك عليه دمٌ عمدًا أو جراحة فيها قصاص فادعيت أنك صالحته على مال فأنكر الصلح فليس لك أن تقتص منه، ولك عليه اليمين أنه ما صالحك
(4)
.
وجاء في (حاشية الدسوقى): أنه يجوز الصلح على الإنكار بشروط ثلاثة هي:
1 -
أن يكون الصلح جائزًا على مقتضى دعوى المدعى.
2 -
أن يكون جائزًا على مقتضى دعوى المدعى عليه.
3 -
أن يكون جائرًا على ظاهر الحكم الشرعى بأن لا تكون هناك تهمة فساد
(5)
.
وجاء في (المدونة): أنه من ادعى على رجل مائة درهم فصالحه من ذلك على خمسين درهمًا إلى شهر. قال ابن القاسم: فلا بأس بذلك إذا كان الذي عليه الحق مقرًا، وإن صالحه على ثوب أو دنانير إلى سنة فلا يجوز إذا كان الذي عليه الحق مقرًا بما عليه، لأنه نسخ دين بدين، فأما إذا صالحه من مائة درهم على خمسين درهمًا إلى أجل فهذا رجل حطَّ خمسين درهمًا من حقه وأخره بخمسين، فإن كان المدعَى عليه ينكر والمسألة بحالها. قال ابن القاسم: لم أسمع من مالك في الإنكار شيئًا إلا أنه مثل الإقرار
(6)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (الأم): لو ادَّعى رجلٌ على رجلٍ حقًّا
(1)
المبسوط: 26/ 176.
(2)
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 6/ 40.
(3)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 5/ 31.
(4)
التاج والإكليل: 7/ 309.
(5)
حاشية الدسوقى على الشرح الكبير: 3/ 312.
(6)
المدونة الكبرى: 11/ 6 - 7.
فأنكره وصالحه ورهنه به رهنًا كان الرهن مفسوخًا؛ لأنه لا يلزم الصلح على الإنكار
(1)
.
وفى موضع آخر: قال الشافعي: وإذا ادَّعى الرجل على الرجل دعوى فأنكر المدعى عليه، ثم صالح المدعى من دعواه على شئ وهو منكر، فالقياس أن يكون الصلح باطلًا من قبل أنا لا جيز الصلح إلّا بما تجوز به البيوع من الأثمان الحلال المعروفة، فإذا كان هذا هكذا عندنا وعند من يجيز الصلح على الإنكار كان هذا عوضًا
(2)
.
وجاء في (أسنى المطالب): أن الصلح على الإنكار باطل سواء أجرى على غير المدَّعَى من عين أو دين أو منفعة أم على نفس المدعى به
(3)
.
وجاء في (مغنى المحتاج): أن الصلح على الإنكار أو السكوت من المدعى عليه كأن يدعى عليه شيئًا فينكره أو يسكت ثم يصالح عنه، فإن هذا الصلح يبطل، وإن جرى الصلح على نفس المدعى، كأن يدعى عليه دارًا فيصالحه ليها بأن يجملها للمدعى أو للمدعى عليه فكلا الصورتين باطلة
(4)
:
مذهب الحنابلة:
جاء في (كشاف القناع): أن الصلح على الإنكار أن يدّعى إنسان على إنسان عينًا في يده أو دينًا في ذمته فينكره المدعى عليه أو يسكت وهو يجهله، أي المدعى عليه به، ثم يصالحه على مال فيصح الصلح في قول أكثر العلماء لعموم الأدلة؛ فإن قيل قال عليه السلام:"إلّا صلحًا أحل حرامًا"
(5)
وهذا داخل فيه؛ لأنه لم يكن له أن يأخذه من مال المدعى عليه فحل بالصلح، فالجواب أنه لا يصح دخوله فيه، ولا يمكن حمل الخبر عليه لأمرين. أحدهما: أن ما ذكر ما يوجد في الصلح بمعنى الهبة، فإنه يحل للمرهون ما كان حرامًا".
الأمر الثاني: لو حلَّ به المحرم لكان الصلح صحيحًا؛ لأن الصلح الفاسد لا يحل الحرام، وإنما معناه ما يتوصل به إلى تناول المحرم مع بقائه على تحريمه، نحو أن يصالح حرًا على استرقاقه. وإنما يصح الصلح على الإنكار بعقد ونسيئة متعلق بيصح؛ لأن المدعى ملجأ إلى التأخير بتأخير خصمه
(6)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): لا يحل الصلح ألبتة على الإنكار ولا على السكوت الذي لا إنكار معه ولا إقرار ولا على إسقاط يمين قد وجبت ولا على أن يصالح مقرٌ على غيره. وذلك الذي صولح غنه منكر، وإنما يجوز الصلح مع الإقرار بالحق فقط. قال أبو محمد: برهان صحة قولنا قول الله تبارك وتعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
(7)
. وقول رسول الله: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام"
(8)
فصح أن كل مال حرام على غير صاحبه، ويحرم على صاحبه أن يبيحه لغيره إلّا حيث أباح القرآن والسنة إخراجه، أو أوجبا
(1)
الأم: 3/ 142.
(2)
السابق: 7/ 19.
(3)
أسنى المطالب: 2/ 217.
(4)
مغني المحتاج: 3/ 166.
(5)
سنن أبى داود، كتاب الأقضية، باب في الصلح:2/ 327.
(6)
كشاف القناع: 2/ 196.
(7)
سورة النساء. الآية: 29.
(8)
صحيح البخارى في عدة مواضع منها في كتاب العلم باب ليبلغ الشاهد الغائب. وكتاب الحج باب الخطبة آيام منى، وكتاب المغازى. باب حجة الوداع وهو في صحيح مسلم كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء
…
إلخ.
إخراجه؛ ولم يأت نصٌ بجواز الصلح على شئ مما ذكرنا
(1)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (التاج المذهب): أنه لا يجوز الصلح على إنكار للظالم منهما؛ بمعنى أنه لا يطيب ما أخذه أحدهما، وصورته أنه يدعى رجل على رجل عشرة فأنكره فصالحه المتوسطون على خمسة أو أقل أو أكثر، فإن المدعى عليه إذا دفع هذا المال إلى المدعِى لا يخلو إما أن يكون المدعِى صادقًا في دعواة أو كاذبًا؛ فإن كان كاذبًا لم يحل له ما أخذه. وأما إن كان صادقًا فإن صالح ببعض ما ادعاه كأن يدعى دارًا فيصالح بنصفها، فإن الذي قبض يطيب له بلا شك؛ لأنه عين ماله. وأما النصف الباقى فلا يحلُّ عندنا للمدعى عليه. وكذا إذا صالح بجنس آخر كأن يدعى دارًا يستحقها فأنكر المدعى عليه وصالحه على دراهم فلا يملك المنكر منا يدعيه المدعى؛ ولو حصل بلفظ البيع أو الهبة أو النذر أو أي ألفاظ التمليكات لم يحل، والقول لمنكر الصلح؛ إذ الأصل عدمه، ولمدعى كونه عن إنكار لا عن العين؛ إذ الأصل عدم استحقاقها
(2)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أن الصلح هو عقد شُرع لقطع التجاذب، وليس فرعًا على غيره ولو أفاد فائدته، ويصح مع الإقرار والإنكار إلّا ما أحل حرامًا أو حرَّم حلالًا. وكذا يصح مع علم المصطلحين بما وقعت المنازعة فيه ومع جهالتهما به، دينًا كان أو عينًا؛ وهو لازم من الطرفين مع استكمال شرائطه. إلّا أن يتفقا على فسخه. ولو ادّعى عليه فأنكر، فصالحه المدعى عليه على سقى زرعه أو شجره بمائة؛ قيل: لا يجوز؛ لأن العوض هو الماء وهو مجهول، وفيه وجه آخر مأخذه جواز بيع ماء الشرب، أما لو صالحه على إجراء الماء على سطحه أو ساحته صح بعد العلم بالموضع الذي يجرى الماء منه، وإذا قال المدعى عليه: صالحنى عليه لم يكن إقرارًا؛ لأنه قد يصح مع الإنكار، أما لو قال: بعنى أو ملكنى كان إقرارًا.
ولو ادعى دارًا فأنكر مَن هي في يده ثم صالحه المنكر على سكنى سنة صحَّ؛ ولم يكن لأحدهما الرجوع. وكذا لو أقر له بالدار ثم صالح، وقيل: له الرجوع؛ لأنه هنا فرع العارية، والأول أشبه
(3)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): أنه يجوز الرجيع إذا صالح على الإنكار: وهو أن يدّعى على رجل فينكر الرجل؛ ثم صالحه على الإنكار، ثم أقر بما أنكر أولًا قبل إمضاء الصلح.
وجاء في موضع آخر: أنه لا يجوز الصلح على الإقرار والإنكار. وقيل: لا يجوز على الإقرار. فإن وقع الإقرار لا يقع الصلح، وقيل: لا يجوز على الإنكار. وإنما يجوز على الإقرار
…
وقال البعض: اتفق العلماء على جواز الصلح على الإقرار والإنكار إذا كان عن طوع من المتخاصمين ولا يدخله إكراه؛ ويجوز فيه ما جاز في البيع ويمتنع ما يمتنع، فلا تجوز فيه الجهالة والغرر
(4)
.
(1)
المحلى: 8/ 160 - 161.
(2)
التاج المذهب لأحكام المذهب:4/ 173 - 174.
(3)
شرائع الإسلام: 1/ 211 - 212
(4)
شرح النيل: 7 - 191.
الإنكار في الشهادة
مذهب الحنفية:
جاء في (تبيين الحقائق) عند الكلام على حكم الشهادة: أن شهادة الفرع تبطل بإنكار الأصل للإشهاد، ومعناه إذا قال شهود الأصل: لم نعرفهم ولم تُشهدهم على شهادتنا فماتوا أو غابوا، ثم جاء الفروع وشهدوا عند الحاكم لم تقبل شهادتهم؛ لأن التحميل شرط ولم يثبت للتعارض بين خبر الأصول وخبر الفروع؛ لأن الأصول يحتمل أن يكونوا صادقين بذلك فلا يثبت التحميل مع الاحتمال، ونقل الشلبى في حاشيته عن (الهداية) أنه لو أنكر شهود الأصل الشهادة لم تقبل شهادة الفروع، قال الكمال: لأن إنكارهما الشهادة إنكار للتحميل وهو شرط في القبول. فوقع في التحميل تعارض خبرهما بوقوعه وخبر الأصول بعدمه. ولا ثبوت مع لتعارض
(1)
.
مذهب المالكية:
جاء في (التاج والإكليل): من العتبية: قال ابن القاسم في شاهدين نقلا شهادة رجل ثم قدم فأنكر أن يكون أشهدهما أو عنده في ذلك علم وقد حكم بها، قال مالك: يفسخ، وفى سماع عبد الحكم: ماضٍ ولا غرم عليهما، ولا يقبل تكذيبه لهما، قال ابن يونس: وهذا أصوب؛ قال: ولو قدم قبل الحكم وقال ذلك سقطت الشهادة، وذلك كالرجوع عن الشهادة
(2)
.
وجاء في (موضع آخر): قال ابن القاسم وأشهب: إن شهد شاهدان على رجل بحق ثم قالا قبل الحكم: بل هو هذا الآخر وقد وهمنا؛ لم يقبلا في الأولى ولا في الآخرة. ومن (المدونة): لو شهد شاهدان على رجل بالسرقة ثم قالا قبل القطع: وهمنا؛ بل هو هذا الآخر لم يقطع واحد منهما، وقد خرجا من حد العدالة بإقرارهم أنهم شهدوا على الشك والوهم، قال سحنون: إذا رجع الشهداء قبل الحكم وقد شهدوا بحق أو واحد منهم فإنهم يقالون ولا شئ عليهم ولا عقاب
(3)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (تحفة المحتاج): وإن ادُّعى على القاضي أو الشاهد أنه حكم أو شهد له وأنكر لم يرفعه لقاضٍ: ولم يحلفه كمن أنكر الشهادة
(4)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في (المغنى): أن العدل إذا أنكر أن تكون عنده شهادة ثم شهد بها وقال: كنت أنسيتها قبلت ولم ترد شهادته وبهذا قال الثورى وإسحاق، ولا أعلم فيه مخالفًا؛ وذلك لأنه يجوز أن يكون نسيها. وإذا كان ناسيًا لها فلا شهادة عنده فلا نكذبه مع إمكان صدقه، ولا يشبه هذا إذا قال: لا بينة لى؛ ثم أتى ببينة حيث لا تسمع؛ فإن ذلك إقرار منه على نفسه بعدم البينة، والإنسان يؤاخذ بإقراره، وقول الشاهد: لا شهادة عندى ليس بإقرار، فإن الشهادة ليست له إنما هي حق عليه فيكون منكرًا لها، فإذا اعترف بها كان إقرارًا بعد الإنكار وهو مسموع، بخلاف الإنكار بعد الإنكار، ولأن الناسى للشهادة لا شهادة له عنده فهو صادق في إنكاره، فإذا ذكرها صارت عنده فلا تنافى بين القولين. وصار هذا كمن أنكر أن يكون عنده شهادة قبل أن يستشهد ثم استشهد بعد ذلك فصارت عنده؛ بخلاف من
(1)
تبيين الحقائق: 4/ 240، 251.
(2)
التاج والإكليل: 6/ 192.
(3)
السابق: 6/ 199 - 200.
(4)
تحفة المحتاج: 10/ 129.
أنكر أن له بينة فإنه لا يخرج عن أن يكون له بينة بنسيانها
(1)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): وإذا رجع الشاهد عن شهادته بعد أن حُكم بها أو قبل أن يُحكم بها فُسخ ما حُكم بها فيه، فلو مات أو جُن أو تغير بعد أن شهد قبل أن يُحكم بشهادته أو بعد أن حُكم بها نفذت على كل حال ولم ترد
(2)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (التاج المذهب): أنه تصح الشهادة ممن كان قد أنكرها غير مصرح بعدمها فلو أن رجلا قال: كل شهادة أشهد بها على فلان فهى باطلة؛ أو قال: ليست عندى شهادة على فلان أو له، ثم شهد عليه أو له صحت شهادته ولو في المجلس؛ لأنه يجوز أن يكون نسيها حين قال ذلك ثم ذكرها، وكذا لو قال المشهود له: ما مع فلان لى شهادة ثم شهد فلان له صحت شهادته، وأما لو صرح بعدمها كأن يقول: أعلم أنه لا شهادة عندى؛ ثم شهد فإنها لا تقبل إذا كان في المجلس فقط؛ وأما إذا كان قد انتقل ومضى وقت يجوز أنه قد تحمّل الشهادة فيه صحت ما لم يضف إلى وقت إنكار الشهادة أو قبله، وكذا إذا قال المشهود له: أعلم أن فلانًا لا شهادة معه لى؛ لأنه قد أكذب الشاهد فيما يشهد به
(3)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (شرائع الإسلام): أن صورة شهادة الاستدعاء أن يقول: أشهدنى فلان على شهادته. وفى صورة سماعه عند الحاكم يقول: أشهد أن فلانًا شهد عند الحاكم بكذا. وفى صورة لا عنده يقول: أشهد أن فلانًا شهد على فلان لفلان بكذا بسبب كذا، ولا يقبل شهادة الفرع إلا عند تعذر حضور شاهد الأصل. ويتحقق العذر بالمرض وما ماثله، وبالغيبة ولا تقدير لها، وضابطه مراعاة المشقة على شاهد الأصل في حضوره. ولو شهد شاهد الفرع فأنكر الأصل. فالمروى العمل بشهادة أعدلهما فإن تساويا اطرح الفرع. ولو شهد ثم حضر شاهد الأصل فإن كان بعد الحكم لم يقدح في الحكم وافقا أو خالفا، فإن كان قبل الحكم سقط اعتبار الفرع وبقى الحكم لشاهد الأصل، ولو تغيرت حال الأصل بفسق أو كفر لم يحكم الفرع؛ لأن الحكم مستند إلى شهادة الأصلا
(4)
.
مذهب الإباضية:
جاء في (شرح النيل): وفى الديوان: وإن أتى المدعى بشهوده إلى الحاكم فأمرهم أن يشهدوا فليشهدوا كما علموا نفعت أو لم تنفع، وليست عليهم غير ذلك، ولا يزيدوا حرفًا واحدًا ولا ينقصوه، وإن قالوا: شهدنا أنه وهب له أو باع له نصف الجنان وأنه وهب له أو باع له بعد ذلك النصف الآخر أيضًا فذلك تغيير أيضًا؛ إذ جعلوا شهادتين شهادة واحدة بالضم بينهما، وكذا نحو ما ذكر من كل إخراج الشئ أو بعضه من الملك شيئًا فشيئًا إلى ملك أحد إذا عارض فيه مخرجه وقد أشهد على كل إخراج شهودًا متعينين شهادين على الإخراجات كلها كمقرض لأحد دينارًا بإشهاد عليه ثم أقرض دينارًا آخر له أيضًا بإشهاد الأولين؛ فإذا وقع الإنكار فلا يشهدان له بهما أي بالدينارين بل يشهدان له بواحد، ويشهدان له بعد ذلك بآخر
(5)
.
(1)
المغنى:12/ 157.
(2)
المحلى: 8/ 527.
(3)
التاج المذهب: 4/ 112.
(4)
شرائع الإسلام:2/ 238 - 239.
(5)
شرح النيل: 6/ 627.
الإنكار في الحدود:
مذهب الحنفية:
جاء في (تبيين الحقائق): أنه لا يجب الحد بإقرار أحد الزانيين إذا أنكر الآخر. وهذا على إطلاقه قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى، وعندهما إن ادعى المنكر منهما الشبهة بأن قال: تزوجتها فهو كما قال، وإن أنكر بأن قال: ما زنيت ولم يدع ما يسقط الحدّ وجب على المقر الحد دون المنكر وجه الوفاقية أن دعوى النكاح تحتمل الصدق والنكاح يقوم بالطرفين فأورث شبهة فيسقط الحد؛ ولهما في الخلافية ما روى عن سهل بن سعد أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه قد زنى بامرأة سماها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها فسألها عما قال فأنكرت فحده وتركها"
(1)
، ولأن إقرار المقر حجة في حقه، وتكذيب غيره لا يوجب تهمة في إقرارة خصوصًا في الحد، فصار كما لو قال: أنا وفلان قتلنا فلانًا عمدًا وأنكر شريكه؛ فإن المقر يقتص منه فكذا هذاء ووجه ما قاله أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - أن الزنا فعل مشترك بينهما قائم بهما فانتفاؤه عن أحدهما يورث شبهة في الآخر إذ لا يتصور إلا منهما، بخلاف مسألة القتل؛ لأنه يحتمل أن ينفرد به المقر؛ لأنه يتحقق من واحد، ونظيره أن يقر بالزنا على نفسه وعلى رجل آخر بأن يقول: زنيت بها أنا وفلان. ولأن المنكر يحتمل أن يكون صادقًا بإنكاره فيورث شبهة في حق الآخر، كما إذا ادعى أحدهما النكاح، بخلاف ما إذا أقر أنه زنى بغائبة أو شهد عليه بذلك حيث يحد، وإن احتمل أن ينكر الغائب الزنا أو يدعى النكاح؛ لأنه لو حضر وانكر الزنا أو ادعى النكاح يكون شبهة، واحتمال ذلك يكون شبهة الشبهة، فالشبهة هي المعتبرة دون شبهة الشبهة. ثم إذا سقط الحد يجب المهر تعظيمًا لأمر البضع شرعًا، ولا يقال: كيف يجب لها المهر وهى تنكره إذا كانت هي المقرة بالزنا لأنا نقول: وجوب المهر من ضرورات سقوط الحد فلا يعتبر ردها، أو نقول: صارت مكذبة شرعًا بسقوط الحد فلا يلتفت إلى تكذيبها، كما إذا ادعى رجل أنه تزوج امرأة فأنكرت وأقام عليها البينة يجب لها المهر وإن أنكرت، لما ذكرنا فكذا هذا
(2)
.
مذهب المالكية:
جاء في (الشرح الكبير): ويثبت الزنا بأحد أمور ثلاثة منها الإقرار ولو مرة، ولا يشترط أن يقر أربع مرات إلا أن يرجع عن إقراره مطلقًا حال الحدِّ أو قبله؛ رجع لشبهة أو لا؛ كقوله: كذبت على نفسى أو وطئت زوجة وهى محرمة فظننت أنه زنا، ومثل الرجوع ما إذا قامت بينة على إقراره وهو ينكر فلا يحد، أو يهرُب - بضم الراء - يعنى أن هروبه في حال الحد يسقط عنه الحد أي تمامه ولا يعاد عليه لتكميله، بخلاف هروبه قبل إقامة الحد عليه فيتبع ليقام الحد عليه ما لم يرجع عن إقراره؛ كذا ذكره الشارح ومن تبعه، ثم قال: ويثبت الزنا بظهور حمل في امرأة غير متزوجة وغير ذات سيد بأن أنكر وطأها فتحد؛ وخرج ظهوره بمتزوجة وذات سيد أقر
(3)
بوطئها أو أتت به كاملًا لدون ستة أشهر
(1)
سنن أبى داود؛ كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك وباب إذا أقر الرجل بالزنى ولم تقر المرأة.
(2)
تبيين الحقائق: 3/ 185 - 186 بدائع الصنائع: 7/ 61.
(3)
حاشية الدسوقى على الشرح الكبير: 4/ 218 - 319.
من العقد فتحد ولم يقبل دعواها أي الحمل كالغصب بلا قرينة تصدقها فتحد، وأما مع قرينة تصدقها فيقبل دعواها ولا تحد، والمعنى أن المرأة إذا ظهر بها حمل ولم يعرف لها زوج أو كانت أمة وكان سيدها منكرًا لوطئها فإنها تحد ولا يقبل دعواها الغصب على ذلك بلا قرينة تشهد لها بذلك. ولا دعواها أن هذا الحمل من مني شربه فرجها في الحمام إلا لقرينة مثل كونها عذراء، وهى من أهل العفة
(1)
.
وإن زنت ذات زوج وأنكرت الوطء من زوجها بعد إقامة عشرين سنة معه وخالفها الزوج وادعى وطأها في هذه المدة فالحد أي الرجم، ولا عبرة بدعواها عدم الوطء وأنها بكر؛ لأن العادة في هذه المدة تكذيبها
(2)
.
مذهب الشافعية:
جاء في (حاشية البجيرمى): ولو ادعت الموطوءة الإكراه أي لطلب المهر وأنكر الزانى فالمعتمد قول الزانى بيمينه؛ لأن الأصل عدم الإكراه فيجب عليه الحد ولا مهر
(3)
.
وجاء في (مغنى المحتاج): أنه لو قال: زنيت بفلانة فأنكرت وقالت: كان تزوجنى فهو مقر بالزنا وقاذف لها فيلزمه حدُ الزنا وحد القذف. فإن رجع سقط حد الزنا وحده وإن قال: زنيت بها مكرهة لزمه حد الزنا لا حد القذف، ولزمه لها مهر. فإن رجع عن إقراره سقط الحد لا المهر؛ لأنه حق آدمى
(4)
.
مذهب الحنابلة:
جاء في كتاب (الفروع): فإن شهدَ أربعة بإقراره فأنكر أو صدقهم مرة فهل هو رجوع فلا يحد؟ فيه روايتان إحداهما لا حد عليه، وهو الصحيح من المذهب، وهو رجوع جزم به في المُحرر والنَّظِم والرعايتين والحاوى الصغير وغيرهم، والرواية الثانية: عليه الحد، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب
(5)
.
مذهب الظاهرية:
جاء في (المحلى): إذا ادعت أن فلانا استكرهها: قال على في امرأة قذفت رَجُلًا بنفسها أنه غلبها على نفسها، والرجل ينكر ذلك وليس له بينة: فإنها تضرب حد الفرية، فقد روى بسنده عن عمر بن عبد العزيز أنه أتته امرأة فقالت: إن فلانا استكرهنى على نفسى؟ فقال: هل سمعك أحد أو رآك؟ قالت: لا، فجلدها بالرجل
(6)
.
مذهب الزيدية:
جاء في (شرح الأزهار): وإذا أنكر المقذوف ما قذف به فقال له القاذف: احلف ما زنيت فإنه إن حلف لزم القاذف الحد إن لم يبين، وإن نكل عن اليمين سقط الحد عن القاذف
(7)
.
مذهب الإمامية:
جاء في (الروضة البهية): أنه لو حملت المرأة ولا بعل لها ولا مولى ولم يعلم وجهه لم تحد لاحتمال كونه بوجه حلال أو شبهة. إلا أن تقر
(1)
حاشية الدسوقى: 4/ 323.
(2)
الشرح الكبير: 4/ 265.
(3)
حاشية البجيرمى: 3/ 134.
(4)
مغنى المحتاج: 4/ 139.
(5)
الفروع في الفقه الحنبلى: 2/ 77.
(6)
المحلى: 12/ 259.
(7)
شرح الأزهار: 4/ 335.
أربعًا بالزنا فتحد لذلك لا للحمل وتؤخر الزانية الحامل حتى تضع الحمل وإن كان من الزنا، وتسقيه اللبأ وترضعه إن لم يوجد له كافل ثم يقام عليها الحد إن كان رجمًا، ولو كان جلدًا فبعد أيام النفاس إن أمن عليها التلف أو وجد له مرضع وإلا فبعده، ويكفى في تأخيره عنها دعواها الحمل لا لمجرد الاحتمال، ولو أقر بما يوجب الحدّ ثم أنكر سقط الحد إن كان مما يوجب الرجم ولا يسقط غيره وهو الجلد وما يلحقه، هذا إذا لم يجمع في موجب الرجم بينه وبين الجلد وإلا ففى سقوط الحد مطلقًا - الجلد والرجم - بإنكاره ما يوجب الرجم نظر من إطلاق سقوط الحد الشامل للأمرين، ومن أن الجلد لا يسقط بالإنكار لو انفرد فكذا إذا انضم، بل هنا أولى لزيادة الذنب فلا يناسبه سقوط العقوبة مطلقًا مع ثبوت مثلها في الأخص؛ والأقوى سقوط الرجم دون غيره، وفى إلحاق ما يوجب القتل كالزنا بذات محرم أو كرهًا قولان: من تشاركهما في المقتضى وهو الإنكار لما بنى على التخفيف، ونظر الشارع إلى عصمة الدم وأخذه فيه بالاحتياط، ومن عدم النص عليه وبطلان القياس
(1)
.
مذهب الإباضية:
جاء فى (شرح النيل): وإن شهد أربعة رجال على رجل أنه زنى وهو محصن فرجمه الإمام ثم رجعوا قتلوا ولا يرثونه إن كانوا ورثته، وقيل: لا يقتلون وعليهم الدية، وإن رجع بعض ضمن منابه من الدية، وإن لم يحصن فجلده القاضي أو الإمام فرجعوا ضمنوا الأرش، ومن مات بالجلد ضمنوا الدية، وإن رجعوا قبل أن يتم الجلد أو الرجم اشتغل بهم، وقيل: لا، فيتم الجلد والرجم وضمنوا دية ما فعل الإمام قبل أن يرجعوا، أو القاضي، وإن شهد أربعة على الزنا وشهد اثنان أنه محصن فرجمه الإمام ثم رجعوا ضمنوا سواء على الرءوس، وقيل: يضمن شهود الزنى نصف الدية وشاهد الإحصان النصف الآخر. وقيل: لا ضمان عليهما. وإن شهد رجلان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثًا وشهد أربعة أنه جامعها بعد الطلاق فإنه يحد، وإن رجعوا كلهم بعد ما رجمه الإمام فالله أعلم، وإن شهد رجلان على رجل أنه قذف رجلًا فحده الإمام ثم رجعوا عن شهادتهما فإنهما لا يضمنان إلا الدية وليس عليهما حد، وإن شهدا على رجل أنه شرب الخمر فحده الإمام ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا ديته، ولا يحدهما الإمام، وكذلك إن شهدا على رجل أنه سرق من الحرز ما يجب به عليه القطع فقطع الإمام يده، فرجما، ضمنا دية اليد، وكذلك كل من شهد على رجل أو امرأة بما يجب به عليه الحد أو النكال أو التعزير أو الأدب فأقام عليه الإمام ذلك ثم رجموا
(2)
.
(1)
الروضة البهية: 2/ 360 - 361.
(2)
شرح النيل: 6/ 642 - 643.