الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موسوعة شرح أسماء الله الحسنى
تأليف: أ. د. نوال عبد العزيز العيد
شارك في الإعداد والإخراج فريق علمي بإدارة: أ. وفاء بنت محسن التركي
المقدمة
رحلة المشروع
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71]
(1)
، أما بعد:
بدأت فكرة الموسوعة بدروس علمية أسبوعية في جامع عثمان بن عفان في حي الواحة بالرياض في عام 1426 من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل يوم أحد بعد صلاة العشاء، واستمرت قرابة السبع سنين، أنهينا فيها ولله الحمد شرح الأسماء الحسنى.
(1)
أخرجه ابن ماجه في سنته، ح:(1892)، قال الألباني: حديث صحيح.
وقامت الفاضلة الأستاذة: نورة الغفيلي بتفريغ الشروح وترتيبها، إلا أنه كان من الصعب طباعتها ككتاب بعد هذا التفريغ؛ لحاجته للمراجعة والتهذيب، وتهيئتها لإخراجها كموسوعة.
وعليه تم تشكيل فريق بحثي قام بدراسة مسحية لجميع كتب شروح الأسماء الحسنى العلمية، وإعطاء وصف لكل كتاب، والإضافة العلمية فيه، واستخرت الله مع الفريق لإخراج موسوعة علمية لشرح أسماء الله الحسنى نرجو أن تكون عملًا صالحًا ممتدًا، يبقى أجره وبره بعد انقطاع الأجل.
ومما لا شك فيه أن في كل الكتب والشروح الخاصة بشرح أسماء الله الحسنى فائدة عظيمة وجليلة، ويكفيها في ذلك شرفًا أنها في أجل العلوم على الإطلاق، إلا أننا اجتهدنا بعد توفيق الله وتسديده في إضافة بعض المزايا في هذه الموسوعة، ويمكن تصنيف هذه المزايا كالتالي:
1 - تقسيم الموسوعة، وأسلوب الكتابة:
أولا: تم تقسيم الأسماء فيها على طريقة بديعة لم يُسبق إليها، -بحسب ما اطلع عليه الفريق العلمي-، وكانت على النحو التالي:
الأسماء التي ثبتت في القرآن والسنة.
الأسماء التي ثبتت في القرآن دون السنة.
الأسماء التي ثبتت في السنة دون القرآن.
ثانيا: أسلوب الكتابة في الموسوعة كان الأسلوب السهل الممتنع، إذ أنه يسهل على كل قارئ فهم الموسوعة، فصياغتها تجمع بين الأسلوب الأدبي البليغ، مع سهولة وسلاسة الألفاظ، وقوة وفخامة التراكيب.
2 - العناية بالجانب العملي التطبيقي المستنبط من فهم أسماء الله الحسنى.
حيث اعتمدت الموسوعة على حصر جميع الآيات الواردة في الاسم، وربطها بآثارها المسلكية لتنمية ملكة الاستدلال والاستنباط لدى القارئ.
وتم التركيز على جانب الآثار المسلكية في كل اسم من الأسماء الحسنى، بحيث لا تقل نسبة هذه الآثار عن 80% من مجمل شرح الاسم، ويقصد بهذه الآثار: التطبيقات الإيمانية والتربوية والسلوكية المستنبطة من الإيمان بهذه الأسماء الجليلة.
3 - العناية بالجانب القيمي والأخلاقي المستنبط من فهم أسماء الله الحسنى.
فإضافة لتركيز الموسوعة على جانب الآثار المسلكية التطبيقية، فهي تخصص ملحقات خاصة بكل اسم يمكن أن يكون للعبد حظ منه، كاسم الكريم والرحمن والحيي والستير
…
الخ، وفي هذا الملحق يتم عرض هذه القيم والأخلاق ببيان معناها وفضلها وكيفية التخلق بها.
4 - خضوع الموسوعة لعمليات عديدة في التقييم والتقويم.
فقد خضعت الموسوعة لعمليات عديدة في التقييم والتقويم، وذلك وفق آليات محددة كالتالي:
حصر جميع الأعمال التي تقدمت في شرح أسماء الله الحسنى، وتقييم العمل فيها قبل البدء بالموسوعة؛ للاستفادة منها، وتقديم إضافة علمية
حقيقة لما تقدم من مشاريع، وقد حقق الفريق العلمي ولله الحمد هذه الإضافة بشهادة المراجعين من أهل الاختصاص.
عُرضت جميع البحوث بعد الانتهاء منها على أستاذات فاضلات، حاصلات على درجة الدكتوراه في تخصصي: العقيدة واللغة العربية؛ للتدقيق العقدي واللغوي.
وقد تولى كامل الإشراف والمتابعة، والمشاركة في التصنيف الأستاذة الفاضلة: وفاء بنت محسن التركي، التي كانت تعمل ليل نهار من أجل هذا العمل المبارك، ولا تألُ جهدًا في إخراجه، حتى يسر الله التمام، وكتب الله صدور هذه الموسوعة المباركة التي نسأل الله لها القبول، (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم).
كتبته:
…
أ. د. نوال العيد
المنهجية المتبعة في تقسيم الأسماء الحسنى
المنهجية الأولى: قسمت الأسماء الحسنى في هذه الموسوعة إلى ثلاثة أقسام، وهي:
الأسماء التي ثبتت في القرآن والسنة.
الأسماء التي ثبتت في القرآن دون السنة.
الأسماء التي ثبتت في السنة دون القرآن.
وهذا الشرط مضطردًا إلا في مواضع عشرة -سيأتي تفصيلها-، فقد تم تصنيف الاسم في أحد الأقسام الثلاثة المتقدمة بناء على الاسم الأول منها، كالخالق الخلاق البارئ المصور وضعناه تحت القسم الأول (الأسماء التي ثبتت في القرآن والسنة)؛ لأن الاسم الأول منها (الخالق) جاءت نصوص تثبته من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الخلاق فلم يرد إلا في القرآن دون السنة ...... ، وهكذا في بقية الأسماء العشرة، وتفصيل ذلك ما يلي:
الأسماء التي أثبتت في القرآن والسنة، بناء على أن الاسم الأول منها ثابت فيهما:
الخالق والخلاق والبارئ والمصور.
الرازق والرزاق.
الكريم والأكرم.
الناصر والنصير والغالب.
الملك والمالك والمليك.
القدير والقادر والمقتدر.
القهار والقاهر.
الوكيل والكفيل والكافي.
الأسماء التي أثبتت في القرآن دون السنة، بناء على ان الاسم الأول منها ثبت في القرآن دون السنة، وهو اسم واحد:
الحسيب والديان.
الأسماء التي أثبتت في السنة دون القرآن، بناء على أن الاسم الأول منها ثابت في السنة دون القرآن، وهو اسم واحد:
السبوح والقدوس.
المنهجية الثانية: اضطراد العمل في الموسوعة على إفراد كل اسم بشرح مستقل إن كان مفردًا كالجبار والعفو والرفيق، أما الأسماء المختلفة في اللفظ والدالة على صفة واحدة كالحافظ الحفيظ، والكريم الأكرم، والمالك الملك
…
وغير ذلك من الأسماء فتم جمعها في شرح واحد، وكذلك الأسماء التي اختلف لفظها وتقاربت آثارها المسلكية تم جمعها في شرح واحد كالحيي الستير، والحاسب الديان، والقريب المجيب، وغيرها.
تقسيمات البحث
رحلة المشروع.
المنهجية المتبعة في تقسيم الأسماء.
تقسيمات البحث.
أهمية العيش مع أسماء الله وصفاته، وأثرها على المتدبر.
قواعد في أسماء الله وصفاته وفق منهج أهل السنة والجماعة.
شرح أسماء الله الحسنى، كالتالي:
أولًا: الأسماء التي ثبتت في القرآن الكريم والسنة النبوية:
1) الأول والآخر سبحانه وتعالى.
2) بديع السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
3) البصير سبحانه وتعالى.
4) التواب سبحانه وتعالى.
5) الجبار سبحانه وتعالى.
6) الحق سبحانه وتعالى.
7) الحكيم والحكم سبحانه وتعالى.
8) الحليم سبحانه وتعالى.
9) الحميد سبحانه وتعالى.
10) الحي والقيوم سبحانه وتعالى.
11) الخالق والخلاق والبارئ والمصور سبحانه وتعالى.
12) الخبير سبحانه وتعالى.
13) ذو الجلال والإكرام سبحانه وتعالى.
14) الرب سبحانه وتعالى.
15) الرحمن والرحيم سبحانه وتعالى.
16) الرازق والرزاق سبحانه وتعالى.
17) الرؤوف سبحانه وتعالى.
18) السلام سبحانه وتعالى.
19) السميع سبحانه وتعالى.
20) الشكور والشاكر سبحانه وتعالى.
21) الشهيد سبحانه وتعالى.
22) الصمد سبحانه وتعالى.
23) الظاهر والباطن سبحانه وتعالى.
24) العزيز سبحانه وتعالى.
25) العظيم سبحانه وتعالى.
26) العفو سبحانه وتعالى.
27) العلي والأعلى والمتعال سبحانه وتعالى.
28) العليم والعالم وعلام الغيوب سبحانه وتعالى.
29) الغفور والغفار سبحانه وتعالى.
30) الغني سبحانه وتعالى.
31) فاطر السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
32) القدير والقادر والمقتدر سبحانه وتعالى.
33) القريب والمجيب سبحانه وتعالى.
34) القهار والقاهر سبحانه وتعالى.
35) الكبير والمتكبر سبحانه وتعالى.
36) الكريم والأكرم سبحانه وتعالى.
37) اللطيف سبحانه وتعالى.
38) الله سبحانه وتعالى.
39) المجيد سبحانه وتعالى.
40) المستعان سبحانه وتعالى.
41) الملك والمالك والمليك سبحانه وتعالى.
42) الناصر والنصير والغالب سبحانه وتعالى.
43) نور السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
44) الواحد والأحد سبحانه وتعالى.
45) الودود سبحانه وتعالى.
46) الوكيل والكفيل، والكافي سبحانه وتعالى.
47) الولي والمولى سبحانه وتعالى.
48) الوهاب سبحانه وتعالى.
ثانيًا: الأسماء التي ثبتت في القرآن الكريم فقط
البر سبحانه وتعالى.
الحسيب والديان سبحانه وتعالى.
الحفيظ والحافظ سبحانه وتعالى.
ذو الفضل سبحانه وتعالى.
الرقيب سبحانه وتعالى.
الفتاح سبحانه وتعالى.
القوي والمتين سبحانه وتعالى.
المبين سبحانه وتعالى.
المحيط سبحانه وتعالى.
المهيمن سبحانه وتعالى.
المؤمن سبحانه وتعالى.
الهادي سبحانه وتعالى.
الوارث سبحانه وتعالى.
الواسع سبحانه وتعالى.
ثالثًا: الأسماء التي ثبتت في السنة النبوية فقط:
الجميل سبحانه وتعالى.
الحيي والستير سبحانه وتعالى.
الرفيق سبحانه وتعالى.
السبوح والقدوس سبحانه وتعالى.
السيد سبحانه وتعالى.
الشافي سبحانه وتعالى.
الطيب سبحانه وتعالى.
القابض والباسط سبحانه وتعالى.
المحسن سبحانه وتعالى.
المقدم والمؤخر سبحانه وتعالى.
المنان سبحانه وتعالى.
الوتر سبحانه وتعالى.
أهمية العيش مع أسماء الله وصفاته، وأثرها على المتدبر
إن أهم ما يتضمنّه الإيمان بالله تَعَالَى -الذي هو أول أركان الإيمان- هو التعرف على الله سُبْحَانَهُ بأسمائه وصفاته، ولهذه المعرفة آثار عظيمة في حياة المؤمن في الدنيا والآخرة، ومن ذلك ما يلي:
1 - العلم بأسماء الله وصفاته أشرف العلوم وأفضلها:
«فشرف العلم بشرف المعلوم، وهو الرب، وأن العلم به ثلاث مقامات: العلم بالذات، والصفات، والأفعال»
(1)
، «وكما أن العلم به تَعَالَى أجل العلوم وأشرفها، فهو أصلها كلها
…
، وكل موجود سوى الله فهو مستند في وجوده إليه استناد المصنوع إلى صانعه، والمفعول إلى فاعله، فالعلم بذاته سُبْحَانَهُ وصفاته وأفعاله يستلزم العلم بما سواه، فهو في ذاته رب كل شيء ومليكه، والعلم به أصل كل علم ومنشؤه، فمن عرف الله عرف ما سواه، ومن جهل ربه فهو لما سواه أجهل، يقول تَعَالَى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر: 19] فتأمل هذه الآية تجد تحتها معنًا شريفًا عظيمًا، وهو أن من نسى ربه أنساه ذاته، ونفسه، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسى ما به صلاحه وفلاحه في معاشه»
(2)
.
(1)
النبوات، ابن تيمية، (ص: 89)
(2)
مفتاح دار السعادة، ابن القيم، (1/ 86)
2 - معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى هي الطريق الرئيسي إلى معرفة الله:
(1)
، وأخبر أنه سُبْحَانَهُ يفتح عليه يوم القيامة من محامده بما لا يحسنه الآن.
ولهذه المعرفة بابان واسعان: باب التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها، والفهم الخاص عن الله ورسوله، والباب الثاني: التفكر في آياته المشهودة وتأمل حكمته فيها وقدرته، ولطفه وإحسانه، وعدله وقيامه بالقسط على خلقه.
وجماع ذلك: الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها، وتفرده بذلك، وتعلقها بالخلق والأمر، فيكون فقيهًا في أوامره ونواهيه، فقيهًا في قضائه وقدره، فقيها في أسمائه وصفاته، فقيهًا في الحكم الديني الشرعي والحكم الكوني القدري، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(486)
(2)
الفوائد، ابن القيم، (ص: 170)
3 - معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى تقوي الإيمان وتحقق التوحيد، وتورث خشية الله:
فهناك تلازم وثيق بين إثبات الأسماء والصفات لله وتوحيد الله تَعَالَى، فكلما حقق العبد أسماء الله وصفاته علماً وعملاً كان أعظم وأكمل توحيداً، وفي المقابل: فإن هناك تلازماً وطيداً بين إنكار الأسماء أو الصفات، وبين الشرك.
يقول ابن القيم في تقرير هذا التلازم: «كل شرك في العالم فأصله التعطيل، فإنه لولا تعطيل كماله - أو بعضه - وظن السوء به لما أشرك به، كما قال إمام الحنفاء وأهل التوحيد لقومه:{أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} [الصافات: 86 - 87].
أي فما ظنكم به أن يجازيكم، وقد عبدتم معه غيره؟ وما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء؟ أظننتم: أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان؟ أم ظننتم: أنه يخفى عليه شيء من أحوال عباده، حتى يحتاج إلى شركاء تعرفه بها كالملوك؟ أم ظننتم أنه لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم، أم هو قاس؛ فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده؟ أم ذليل؛ فيحتاج إلى ولي يتكثر به من القلة، ويتعزز به من الذلة؟ أم يحتاج إلى الولد؛ فيتخذ صاحبة يكون الولد منها ومنه؟ تَعَالَى الله عن ذلك كله علوا كبيرا، والمقصود: أن التعطيل مبدأ الشرك وأساسه، فلا تجد معطلا إلا وشركه على حسب تعطيله، فمستقل ومستكثر»
(1)
يقول الشيخ السعدي في تقرير التوحيد بالإيمان بأسماء الله وصفاته: «إن
(1)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، (3/ 324)
الإيمان بأسماء الله الحسنى، ومعرفتها يتضمّن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبيّة، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي رَوح الإيمان وروحه، وأصله وغايته، فكلّما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه، وقوي يقينه.
ويقول ابن القيم: «إن العلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله، ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها، وكمالها وما تزكو به، وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته
…
، فلا شيء أطيب للعبد، ولا ألذ ولا أهنأ، ولا أنعم لقلبه وعيشه من محبة فاطره وباريه، ودوام ذكره والسعي في مرضاته، وهذا هو الكمال الذي لا كمال للعبد بدونه، وله خلق الخلق، ولأجله نزل الوحي، وأرسلت الرسل، وقامت السماوات والأرض، ووجدت الجنة والنار، ولأجله شرعت الشرائع»
(1)
ومن قوي إيمانه وعلمه ازدادت خشيته من ربه، يقول تَعَالَى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وفي الحديث: يقول صلى الله عليه وسلم: «أما واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له»
(2)
، ويقول ابن مَسْعُودٍ في ذلكُ:«كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا»
(3)
.
(1)
مفتاح دار السعادة، (1/ 86)
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1108).
(3)
جامع بيان العلم وفضله، أبو عمر القرطبي، (2/ 812)
4 - معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى أصل كل عبادة:
فمن أراد امتثال أوامر الله تَعَالَى واجتناب نواهيه فلابد أن يعرف ربه أولا، ولذلك كان أول أمرٍ أمرَ النبي صلى الله عليه به معاذ إذا قدم على أهل اليمن أن يعرفهم بربهم، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه على اليمن قال: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»
(1)
.
5 - إحصاء أسماء الله الحسنى من أعظم أسباب دخول الجنة:
روى البخاري في صحيحه من حديث أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»
(2)
يقول ابن القيم في معنى إحصائها: «في بيان مراتب إحصاء أسمائه التي من أحصاها دخل الجنة، وهذا هو قطب السعادة، ومدار النجاة والفلاح.
المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها.
المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها.
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(1458)، ومسلم، رقم الحديث:(19).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7392)، ومسلم، رقم الحديث:(2677).
المرتبة الثالثة: دعاؤه بها كما قال تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وهو مرتبتان، إحداهما: دعاء ثناء وعبادة، والثاني: دعاء طلب ومسألة فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وكذلك لا يسأل إلا بها»
(1)
.
6 - العمل بمقتضى أسماء الله الحسنى:
قال ابن بطال في معنى حديث «من أحصاها دخل الجنة» : «يحتمل أن يكون الإحصاء المراد في هذا الحديث والله أعلم: العمل بالأسماء والتعبد لمن سُمي بها، فإن قال قائل: كيف وجه إحصائها عملًا؟ قيل له وجه ذلك:
أن ما كان من أسماء الله تَعَالَى مما يجب على المؤمن الاقتداء بالله تَعَالَى فيه: كالرحيم والكريم، والعفو والغفور، والشكور والتواب وشبهها، فإن الله تَعَالَى يُحب أن يرى على عبده حلاها ويرضى له معناها، والاقتداء به تَعَالَى فيها، فهذا العمل بهذا النوع من الأسماء، وما كان منها مما لا يليق بالعبد معانيها كالله والأحد، والقدوس والجبار، والمتعال والمتكبر، والعظيم والعزيز، والقوي وشبهها، فإنه يجب على العبد الإقرار بها، والتذلل لها، والإشفاق منها.
وما كان بمعنى الوعيد: كشديد العقاب، وعزيز ذي انتقام، وسريع الحساب وشبهها، فإنه يجب على العبد الوقوف عند أمره، واجتناب نهيه، واستشعار خشية الله تَعَالَى من أجلها، خوف وعيده، وشديد عقابه، هذا وجه إحصائها عملًا، فهذا يدخل الجنة إن شاء الله، وأخبرني بعض أهل العلم عن
(1)
بدائع الفوائد، ابن القيم، (1/ 164)
أبى محمد الأصيلى أنه أشار إلى هذا المعنى غير أنه لم يشرحه فقال: الإحصاء لأسمائه تَعَالَى هو: العمل بها، لا عدّها وحفظها فقط؛ لأنه قد يعدها المنافق والكافر وذلك غير نافع له»
(1)
.
7 - معرفة أسماء الله الحسنى من أعظم أسباب إجابة الدعاء:
فالله سُبْحَانَهُ أمر عباده أولا بدعائه بأسمائه الحسنى، في قول تَعَالَى:
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، ووعد بالإجابة في قوله تَعَالَى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌ ولا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِني عَبْدُك، ابْنُ عَبْدِك، ابْنُ أَمَتِك، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِك، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحَزَنَهُ وأَبْدَلَ مَكَانَه فَرَحًا» . فَقِيلَ: يَا رَسُولَ الله، أَفَلَا نَتَعَلَّمُها؟ فَقَالَ:«بَلَى يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ سَمِعَها أَنْ يَتَعَلَّمَها»
(2)
.
8 - محبة الله لمن فقه أسماءه الحسنى وأحبها:
ومما يدل على ذلك حديث عَاِئشَةَ رضي الله عنها؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ في صَلَاتِهِم، فَيَخْتِمُ بقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «سَلُوهُ لَأَي شَيْءٍ يَصْنَعُ
(1)
شرح صحيح البخاري، (10/ 420)
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6306)
ذلك؟» فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لأنَّها صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا. فقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَخْبِرُوه أنَّ اللهَ يُحِبُّه»
(1)
، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ، قالَ الرَّجُلُ: إِنِّي أُحِبُّها، فَقَالَ:«حُبُّك إِياها أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ»
(2)
.
9 - معرفة أسماء الله الحسنى تورث حياة طيبة للعبد:
ومن ذلك: الصبر على المكروهات والمصائب النازلة بالعبد، فهو سُبْحَانَهُ حكيم عليم، حكم عدل، ولا يظلم أحداً فمن عرف ربًا كذلك صبر على قضائه وقدره، يقول ابن القيم:«من صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن الذي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع، التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب»
(3)
.
ومن ذلك أيضًا: حسن الظن بالله والثقة به تَعَالَى، فمعرفة أنه قادر حكيم، فعال لما يريد، يوجب ذلك، يقول ابن القيم: «وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوي بينهم وبين أعدائه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أن يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث (7375)، ومسلم، رقم الحديث:(813).
(2)
أخرجه البخاري في مختصره، رقم الحديث:(130).
(3)
الفوائد، (ص: 92)
ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملا كالأنعام، فقد ظن به ظن السوء
…
»
(1)
ومن ذلك أيضًا: حسن الخلق وسلامة السلوك والسلامة من الآفات كالعجب والكبر والحسد، فمن عرف ربه بأسمائه وصفاته لم يتكبر ولم يحسد أحداً على ما آتاه الله؛ لأن الحسد في الحقيقة مضاد لله في حكمته، فإنعام الله على عبده تابع لحكمته والحاسد يكره هذا الإنعام وقد اقتضته حكمة الله، فهو مضاد لله تَعَالَى في حكمته وقضائه وقدره.
(1)
زاد المعاد في هدي خير العباد، (3/ 206)
قواعد في أسماء الله وصفاته وفق منهج أهل السنة والجماعة
(1)
إن من أجل العلوم وأعظمها نفعًا وأكثرها فائدة معرفة القواعد والأصول، والضوابط الكلية الجامعة، وذلك لأن «الأصول والقواعد للعلوم بمنزلة الأساس للبنيان، والأصول للأشجار، لا ثبات لها إلا بها، والأصول تبنى عليها الفروع، والفروع تثبت وتتقوى بالأصول، وبالقواعد والأصول يثبت العلم ويقوى وينمى نماءً مطردًا، وبها تعرف مآخذ الأصول، وبها يحصل الفرقان بين المسائل التي تشتبه كثيرا، كما أنها تجمع النظائر والأشباه التي من جمال العلم جمعها، غير ذلك من الفوائد العظيمة والمنافع الجليلة»
(2)
.
وعليه فإذا ضُبطت هذه القواعد وفهمت الأصول، أمكن الإلمام بكثير من المسائل التي هي بمثابة الفروع لها، وأمن الخلط بين المسائل التي قد تشتبه، وكان فيها تسهيل لفهم العلم وحفظه وضبطه، وبها يكون الكلام مبنيًا على علم متين وعدل وإنصاف، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: «لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُرد إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات،
(1)
المرجع الأساسي: القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، ابن عثيمين، بتصرف يسير، وما تم نقله بالنص أضفته بين قوسي تنصيص، وأحلت على رقم الصفحة من الكتاب في الهامش.
(2)
طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول، السعدي، (ص: 6).
وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم»
(1)
.
وفيما يلي جملة من القواعد الأساسية، والضوابط المهمة في فقه أسماء الله الحسنى، مستمدة من الشريعة الإسلامية، معلومة بالاستقراء والتتبع لنصوص الكتاب والسنة، وفي فهمها إعانة لفهم أسماء الله تَعَالَى وصفاته وفق منهج أهل السنة والجماعة، بعيدًا عن أراء أهل البدع والضلال.
(1)
الفتاوى، ابن تيمية، (19/ 203)
أولا: أبرز القواعد في أسماء الله تعالى:
القاعدة الأولى: أسماء الله تَعَالَى كلها حسنى:
أي: بالغة في الحسن غايته، وقد وصف الله سُبْحَانَهُ أسماءه بالحسنى في أربع آيات من القرآن الكريم، وهي:
قوله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180].
قوله تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)} [الإسراء: 110].
قوله تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه: 8].
قوله تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} [الحشر: 24].
وسميت بالحسنى؛ لأنها متضمنة للصفات الكاملة، التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لا احتمالًا ولا تقديرًا، فمثلًا اسم الله (العليم) متضمن للعلم الكامل الذي لم يسبق بجهل، ولا يلحقه نسيان، يقول تَعَالَى:{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: 51 - 52]، ويقول سُبْحَانَهُ:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} [الأنعام: 59]، والحسن في أسماء الله تَعَالَى يكون باعتبار كل اسم على انفراده، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره، فيحصل
بجمع الاسم إلى الآخر كمال فوق كمال.
ويشترط في الاسم ليكون من أسماء الله الحسنى اجتماع ثلاثة شروط، وهي:
أن يكون قد جاء في الكتاب والسنة، يعني نُص عليه في الكتاب والسنة، نُص عليه بالاسم لا بالفعل، ولا بالمصدر.
أن يكون مما يدعى الله عز وجل به.
أن يكون متضمنًا لمدح كامل مطلق غير مخصوص.
القاعدة الثانية: أسماء الله تَعَالَى أعلام وأوصاف:
فهي أعلام باعتبار: دلالتها على الذات، وبهذا الاعتبار تعد مترادفة؛ لدلالتها على مسمى واحد، وهو الله عز وجل، أما اعتبارها أوصافًا فبما دلت عليه من المعاني، وبهذا الاعتبار تعد متباينة، لدلالة كل واحد منهما على معناه الخاص.
فمثلا: «الحي، العليم، القدير، السميع، البصير» ، كلها أسماء لمسمى واحد وهو الله سبحانه وتعالى، لكن معنى الحي غير معنى العليم، ومعنى العليم غير معنى القدير، وهكذا.
القاعدة الثالثة: أسماء الله تَعَالَى إن دلت على وصف متعد تضمنت ثلاثة أمور:
أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله عز وجل.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.
الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها.
مثال ذلك: «السميع» يتضمن إثبات السميع اسما لله تَعَالَى وإثبات السمع صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه يسمع السر والنجوى، كما قال تَعَالَى «والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير» .
وإن دلت على وصف غير متعد تضمنت أمرين:
أحدهما: ثبوت ذلك الاسم لله عز وجل.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.
مثال ذلك: «الحي» يتضمن إثبات الحي اسما لله عز وجل وإثبات الحياة صفة له.
القاعدة الرابعة: دلالة أسماء الله تَعَالَى على ذاته وصفاته تكون: بالمطابقة، وبالتضمن، وبالالتزام.
مثال ذلك: «الخالق» يدل على ذات الله، وعلى صفة الخلق بالمطابقة، ويدل على الذات وحدها، وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمن، ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام.
ولهذا لما ذكر الله خلق السماوات والأرض قال: «لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما» .
ودلالة الالتزام مفيدة جدًا لطالب العلم إذا تدبر المعنى، ووفقه الله تَعَالَى فهمًا للتلازم، فإنه بذلك يحصل من الدليل الواحد على مسائل كثيرة.
القاعدة الخامسة: أسماء الله تَعَالَى توقيفية لا مجال للعقل فيها.
وعليه فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تَعَالَى من الأسماء، فوجب الوقوف في ذلك على النص، يقول تَعَالَى في ذلك:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]؛ ولأن تسميته تَعَالَى بما لم يسم به نفسه أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه تَعَالَى، ويدخل في الإلحاد في أسمائه تَعَالَى، وقد يقع صاحبه في التشبيه؛ لأن المشبهة وصفوا الله بما لم يأذن به الله تَعَالَى.
يقول الخطابي في ذلك: «ومن علم هذا الباب، أعني: الأسماء والصفات، ومما يدخل في أحكامه، ويتعلق به من شرائط، أنه لا يتجاوز فيها التوقيف، ولا يستعمل فيها القياس؛ فيلحق بالشيء نظيره في ظاهر وضع اللغة ومتعارف الكلام
…
، فقد جاء في الأسماء:«القوي» ، ولكن لا يقاس عليه الجلد، وإن كانا يتقاربان في نعوت الآدميين؛ لأن باب التجلد يدخله التكلف والاجتهاد، ولا يقاس على «القادر» المطيق ولا المستطيع؛ لأن الطاقة والاستطاعة إنما تطلقان على معنى قوة البنية، وتركيب الخلقة، ولا يقاس على «الرحيم» الرقيق، وإن كانت الرحمة في نعوت الآدميين نوعًا من رقة القلب، وفي صفات الله سُبْحَانَهُ:«الحليم» و «الصبور» فلا يجوز أن يقاس عليها الوقور والرزين»
(1)
.
(1)
شأن الدعاء، (1/ 111)
القاعدة السادسة: أسماء الله تَعَالَى غير محصورة بعدد معين:
لقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: «أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك أوْ علَّمْتَه أحدًا مِنْ خلقِك أو أنزلته في كتابِك أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ»
(1)
، وما استأثر الله تَعَالَى به في علم الغيب لا يمكن أحدا حصره ولا الإحاطة به.
وفي الجمع بين هذا الحديث وحديث: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»
(2)
يقول ابن حجر: «وقد اختلف في هذا العدد -يقصد: حديث «إن لله تسعة وتسعين اسما» - هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذه العدة؟ أو أنها أكثر من ذلك، ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة؟ فذهب الجمهور إلى الثاني ونقل النووي اتفاق العلماء عليه، فقال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تَعَالَى، وليس معناه أنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين وإنما مقصود الحديث أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصر الأسماء، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بن مسعود:«أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك أوْ علَّمْتَه أحدًا مِنْ خلقِك أو أنزلته في كتابِك أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ»
(3)
«فأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6306)
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7392)، ومسلم، رقم الحديث:(2677).
(3)
فتح الباري في شرح صحيح البخاري، (11/ 220)
الحصر لكانت العبارة: إن أسماء الله تسعة وتسعون اسما، من أحصاها دخل الجنة، أو نحو ذلك.
القاعدة السابعة: الإلحاد في أسماء الله تَعَالَى هو الميل بها عما يجب فيها
والإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى أنواع، وهي:
الأول: أن ينكر شيئًا منها، أو مما دلت عليه من الصفات والأحكام، كما فعل أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم.
الثاني: أن يجعلها دالة على صفات تشابه صفات المخلوقين، كما فعل أهل التشبيه.
الثالث: أن يسمى الله تَعَالَى بما لم يسم به نفسه، كتسمية النصارى له:(الأب)، وتسمية الفلاسفة إياه (العلة الفاعلة).
الرابع: أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام، كما فعل المشركون في اشتقاق العزى من العزيز، واشتقاق اللات من الإله على أحد القولين، فسموا بها أصنامهم.
والإلحاد بجميع أنواعه محرم؛ لأن الله تَعَالَى هدد الملحدين بقوله:
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]، ومنه ما يكون شركا أو كفرا حسبما تقتضيه الأدلة الشرعية.
«وقد برأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله، فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم
يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظًا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباتهم بريئًا من التشبيه، وتنزيههم خليًا من التعطيل، لا كمن شبه حتى كأنه يعبد صنمًا، أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عدمًا»
(1)
ثانيا: أبرز القواعد في صفات الله تعالى:
القاعدة الأولى: صفات الله تَعَالَى كلها صفات كمال لا نقص فيها أو ضعف.
فلصفاته سُبْحَانَهُ الكمال المطلق، يقول تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)} [النحل: 60]، والمثل الأعلى: هو الوصف الأعلى، وبالمقابل نزه الله نفسه سُبْحَانَهُ عن كل النقائص، يقول تَعَالَى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)} [الصافات: 180]
وعليه فكل صفة لا كمال فيها تمتنع في حق الله تَعَالَى، كالموت، والجهل، والنسيان، والعجز، والعمى، ونحوها، وفي هذا آيات وشواهد كثيرة منها: قوله تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]، وقوله تَعَالَى على لسان موسى:{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: 52]، وقوله سُبْحَانَهُ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى
وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)} [الزخرف: 80]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال:«إنَّهُ أعْوَرُ، وإنَّ ربَّكُمْ عَزَّوجلَّ لَيْسَ بأعْورَ»
(2)
، وقال: «أَيُّهَا
(1)
بدائع الفوائد، ابن القيم، (1/ 180)
(2)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث (7127)، ومسلم، رقم الحديث (2933).
النَّاسُ ارْبَعُوا علَى أَنْفُسِكُمْ، إنَّكُمْ ليسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا»
(1)
.
وإذا كانت الصفة كمالًا في حال، ونقصًا في حال لم تكن جائزة في حق الله تَعَالَى، ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له إثباتًا مطلقًا، ولا تنفى عنه نفيًا مطلقًا، بل لا بد من التفصيل، فتجوز في الحال التي تكون كمالًا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصًا، وذلك كالمكر، والكيد، والخداع، ونحوها، فهذه الصفات تكون كمالًا إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها؛ لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله، أو أشد، وتكون نقصًا في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله تَعَالَى من صفاته على سبيل الإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها، كقوله تَعَالَى:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} [آل عمران: 54]، وقوله:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [الطارق: 15 - 16]، وقوله:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: 182 - 183]، وقوله:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقوله:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)} [البقرة: 14 - 15]
ولهذا لم يذكر الله أنه خان من خانوه، فقال تَعَالَى:{وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)} [الأنفال: 71]، فقال:
(1)
أخرجه مسلم، واللفظ له، رقم الحديث:(2704).
فأمكن منهم، ولم يقل: فخانهم؛ لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، وهى صفة ذم مطلقا، وبذا عرف أن قول بعض العوام: خان الله من يخون. منكر فاحش يجب النهي عنه.
القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء، وباب الإخبار أوسع من باب الصفات.
وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة؛ ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله تَعَالَى، وأفعاله لا منتهى لها، كما أن أقواله لا منتهى لها، قال الله تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27]، ومن أمثلة ذلك: أن من صفات الله تَعَالَى: المجيء، والإتيان، والأخذ، إلى غير ذلك من الصفات التي لا تحصى، كما قال تَعَالَى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]، وقال:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]، وقال:{فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)} [آل عمران: 11]، فيوصف الله تَعَالَى بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا يسمى بها، فلا يقال: إن من أسمائه الجائي، والآتي، والآخذ، ونحو ذلك، وإن كنا نخبر بذلك عنه
ونصفه به.
أما ما يتعلق بباب الإخبار عنه تَعَالَى فهو أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كالموجود، والقائم بنفسه، فإنه يخبر به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى، وصفاته العليا.
القاعدة الثالثة: صفات الله تَعَالَى تنقسم إلى قسمين: ثبوتية، وسلبية.
فالثبوتية: ما أثبت الله تَعَالَى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والوجه، واليدين، ونحو ذلك، فيجب إثباتها لله تَعَالَى، حقيقة على الوجه اللائق به، يقول تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} [النساء: 136]، فالإيمان بالله يتضمن: الإيمان بصفاته، والإيمان بالكتاب الذي نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم يتضمن: الإيمان بكل ما جاء فيه من صفات الله، وكون محمد صلى الله عليه وسلم رسوله يتضمن: الإيمان بكل ما أخبر به عن مرسله، وهو الله عز وجل.
والصفات السلبية: ما نفاها الله سُبْحَانَهُ عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلها صفات نقص في حقه، كالموت، والنوم، والجهل، والنسيان، والعجز، والتعب، فيجب نفيها عن الله تَعَالَى مع إثبات ضدها على الوجه الأكمل، وذلك لأن ما نفاه الله تَعَالَى عن نفسه فالمراد به بيان انتفائه لثبوت كمال ضده لا لمجرد نفيه، لأن النفي ليس بكمال إلا أن يتضمن ما يدل على الكمال، وذلك لأن النفي عدم، والعدم ليس بشيء فضلا عن أن يكون كمالا، ولأن النفي قد يكون لعدم قابلية المحل له فلا يكون كمالا، كما لو قلت: الجدار لا يظلم. وقد يكون للعجز عن القيام به فيكون نقصا،
مثال ذلك: قوله تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]،
فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته، مثال آخر قوله تَعَالَى:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، فنفي الظلم عنه يتضمن كمال عدله.
القاعدة الرابعة: الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال، فكلما كثرت وتنوعت دلالاتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر:
ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر بكثير من الصفات السلبية، التي لاتذكر غالبا إلا في الأحوال التالية:
الأولى: بيان عموم كماله، كما في قوله تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4]
الثانية: نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون، كما في قوله:{أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} [مريم: 91 - 92]
الثالثة: دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعين، كما في قوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)} [الأنبياء: 16]، وقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} [ق: 38]
القاعدة الخامسة: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية، وفعلية.
فالذاتية: هي التي لم يزل ولا يزال متصفا بها، كالعلم والقدرة والسمع والبصر والعزة والحكمة والعلو والعظمة، ومنها الصفات الخبرية: كالوجه واليدين والعينين.
والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا.
وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام، فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله تَعَالَى لم يزل ولا يزال متكلما، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية، لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء، كما في قوله تَعَالَى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]، وكل صفة تعلقت بمشيئته تَعَالَى فإنها تابعة لحكمته.
وقد تكون الحكمة معلومة عند البشر، وقد يعجزون عن إدراكها، رغم يقينهم بأن الله سُبْحَانَهُ لا يشاء شيئا إلا وهو موافق للحكمة، كما يشير إليه قوله تَعَالَى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} [الإنسان: 30]
القاعدة السادسة: يلزم في إثبات الصفات التخلي عن محذورين عظيمين:
أحدهما: التمثيل، والثاني: التكييف.
فأما التمثيل: فهو اعتقاد المثبت أن ما أثبته من صفات الله تَعَالَى مماثل لصفات المخلوقين، وهذا اعتقاد باطل، يقول تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4]
ومن أدلة العقل في ذلك:
أنه قد علم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تباينًا في الذات، وهذا يستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات؛ لأن صفة كل موصوف تليق به، كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المتباينة في الذوات، فقوة البعير مثلًا غير قوة
الذرة، فإذا ظهر التباين بين المخلوقات مع اشتراكها في الإمكان والحدوث، فظهور التباين بينها وبين الخالق أجلى وأقوى.
أن يقال: كيف يكون الرب الخالق الكامل من جميع الوجوه مشابهًا في صفاته للمخلوق المربوب الناقص المفتقر إلى من يكمله؟ وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق، فإن تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصًا.
والتشبيه كالتمثيل، وقد يفرق بينهما بأن التمثيل التسوية في كل الصفات، والتشبيه التسوية في أكثر الصفات، ولكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن:«ليس كمثله شيء» .
أما التكييف: فهو أن يعتقد المثبت أن كيفية صفات الله تَعَالَى كذا وكذا، من غير أن يقيدها بمماثل، وهذا اعتقاد باطل، يقول تَعَالَى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: 110]، ويقول أيضا:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]، ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا، لأنه تَعَالَى أخبرنا عنها ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تكييفنا وقوفًا لما ليس لنا به علم، وقولًا بما لا يمكننا الإحاطة به.
وأما العقل: فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته، أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله عزوجل، فوجب بطلان تكييفها.
وأيضا فإننا نقول: أي كيفية تُقدرها لصفات الله تَعَالَى؟ إن أي كيفية تُقدرها في ذهنك فالله أعظم وأجل من ذلك، وأي كيفية تُقدرها لصفات الله تَعَالَى فإنك ستكون كاذبًا فيها؛ لأنه لا علم لك بذلك.
القاعدة السابعة: صفات الله تَعَالَى توقيفية لا مجال للعقل فيها:
فلا نثبت لله تَعَالَى من الصفات إلا ما دل الكتاب والسنة على ثبوته
(1)
، قال الإمام أحمد رحمه الله تَعَالَى:«لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث» .
ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه:
الأول: التصريح بالصفة، كالعزة والقوة والرحمة والبطش والوجه واليدين، ونحوها.
الثاني: تضمن الاسم لها، مثل: الغفور متضمن للمغفرة، والسميع متضمن للسمع، ونحو ذلك. انظر: القاعدة الثالثة في الأسماء.
الثالث: التصريح بفعل أو وصف دال عليها، كالاستواء على العرش، كما في قوله تَعَالَى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، والمجيء للفصل بين العباد يوم القيامة، في قول الله تَعَالَى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]، والانتقام من المجرمين، في قوله:{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22].
(1)
تراجع القاعدة الخامسة من قواعد الأسماء الحسنى
الأول والآخر جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
أولًا: المعنى اللغوي لاسم الله (الأول):
قال ابن فارس رحمه الله: «مادة (أ و ل) الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر، وانتهاؤه، فالأول، هو مبتدأ الشيء، والمؤنثة الأولى، مثل أفعل وفعلى، وجمع الأولى أوليات، مثل الأخرى
…
قال أبو زيد: كان الجاهلية يسمون يوم الأحد الأول»
(1)
.
ثانيًا: المعنى اللغوي لاسم الله (الآخر):
قال الجوهري رحمه الله: «أخر أخرته فتأخر، واستأخر، مثل تأخر، والآخر: بعد الأول، وهو صفة، تقول: جاء آخرًا، أي: أخيرًا
…
»
(2)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(أخر) الهمزة والخاء والراء، أصل واحد إليه ترجع فروعه، وهو خلاف التقدم»
(3)
.
(1)
مقاييس اللغة (1/ 158 - 159).
(2)
الصحاح (2/ 137).
(3)
مقاييس اللغة (1/ 88).
ورود اسم الله (الأول والآخِر) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (الأول والآخر) مرة واحدة في كتاب الله، وهي: قوله عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
ورود اسم الله (الأول والآخر) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الأول والآخر) في السنة النبوية، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذ أحدنا مضجعه أن يقول: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الأَرَضِينَ، وَرَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الحَبِّ والنَّوَى، وَمُنْزَلَ التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ والقُرْآنِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتِ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، والظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، والبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِيِ مِنَ الفَقْرِ»
(1)
.
معنى اسم الله (الأول والآخر) في حقه سُبْحَانَهُ:
أولًا: معنى اسم الله الأول
(2)
:
أحسن التفسيرات في معناه: ما ذكره أعلم البشر بالله تَعَالَى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ» .
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2713)، واللفظ للترمذي، رقم الحديث:(3400).
(2)
قد جرى على ألسنة كثير من المتكلمين وبعض أهل السنة- أحيانًا- تسمية (الرب) تَعَالَى (بالقديم)، والقديم ليس من أسماء الله تَعَالَى الحسنى، والتزام تسميته بـ (الأول) هو الموافق للكتاب والسنة واللغة، ويؤدي ما يؤديه (القديم) وزيادة؛ فإن (القديم) يعم كل متقدم على غيره في الزمان، وأما (الأول) فإنه يدل على التقدم المطلق على كل شيء.
قال الطبري رحمه الله: «هو (الأول): قبل كل شيء بغير حد»
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «(الأول) هو السابق للأشياء كلها، الكائن الذي لم يزل قبل وجود الخلق، فاستحق الأولية؛ إذ كان موجودًا ولا شيء قبله ولا معه»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «سبق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «(الأول) يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن، ويجب على العبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية؛ إذ السبب والمسبب منه تَعَالَى»
(4)
.
ثانيًا: معنى اسم الله الآخر:
أحسن التفسيرات للمعنى وأكملها: ما فسره أعرف البشر بالله عز وجل محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله:«وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ» .
قال الطبري رحمه الله: «(الآخر) بعد كل شيء بغير نهاية»
(5)
.
قال الخطابي رحمه الله: «(الآخر) هو الباقي بعد فناء الخلق، وليس
(1)
تفسير الطبري (22/ 385).
(2)
شأن الدعاء (ص 63).
(3)
مدارج السالكين 3/ 113).
(4)
شرح الأسماء الحسنى (ص 169).
(5)
تفسير الطبري (27/ 215).
معنى (الآخر) ما له انتهاء، كما ليس معنى (الأول) ما له ابتداء»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «سبق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته»
(2)
.
وقد نظم ابن القيم في نونيته في معنى هذين الاسمين:
هُوَ أَوَّلٌ هُو آخِرٌ هُوَ ظَاهِرٌ
…
هُوَ بَاطِنٌ هِيَ أَرْبَعٌ بِوزَانِ
مَا قَبْلَهُ شَيْءٌ كَذَا مَا بَعْدَهُ
…
شَيْءٌ تَعَالَى اللهُ ذُو السُّلْطَانِ
مَا فَوْقَهُ شَيْءٌ كَذَا مَا دُونَهُ
…
شَيْءٌ وَذَا تَفْسِيرُ ذِي البُرْهَانِ
(3)
اقتران اسم الله (الأول والآخر) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
-
اقتران اسمي الله (الأول والآخر) باسميه (الظاهر الباطن):
لم يقترن اسم الله الأول والآخر إلا باسمه الظاهر والباطن، وذلك في موضع واحد، هو قوله تَعَالَى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
وجه الاقتران:
يقول ابن القيم رحمه الله عن هذه الأسماء الأربعة: «فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهى إحاطتان: زمانية ومكانية، فأحاطت أوليته وآخريته
(1)
شأن الدعاء (ص 84).
(2)
مدارج السالكين (3/ 113).
(3)
النونية (ص 203).
بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته، فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده»
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله الأول والآخِر:
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسمي الله (الأول والآخر) من صفاته سُبْحَانَهُ:
الله سُبْحَانَهُ هو الأول والآخر، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه ينتهى الأمر حيث تنتهى الأسباب والوسائل؛ فهو أول كل شيء وآخره، ذو الفضل والجلال والإكرام، الذي خلق وبرأ وصور في ابتداء خلقه، وأدام رزقه ومنه وكرمه وعطاءه لكل خلقه.
يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «فأولية الله عز وجل سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه، فأوليته: سبقه لكل شيء، وآخريته: بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته سُبْحَانَهُ: فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضى العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه، وبطونه سُبْحَانَهُ: إحاطته بكل شيء، بحيث يكون أقرب إليه من نفسه.
وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون وهذا لون، فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهى إحاطتان: زمانية ومكانية، فأحاطت أوليته
(1)
طريق الهجرتين وباب السعادتين، (ص 24)، وستتأني تتمه قول ابن القيم رحمه الله في الأثر الأول.
وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته، فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده؛ فالأول قدمه، والآخر دوامه وبقاؤه والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه؛ فسبق كل شيء بأوليته وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه، فلا توارى منه سماء سماء ولا أرض أرضًا، ولا يحجب عنه ظاهر باطن، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية.
فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهو الأول في آخريته، والآخر في أوليته، والظاهر في بطونه والباطن في ظهوره، لم يزل أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا»
(1)
.
الأثر الثالث: توحيد الله باسميه الأول والآخر:
توحيد الربوبية والألوهية:
«فعبوديته باسمه الأول: تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف عليها والالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد؛ إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك، وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، فمنه سُبْحَانَهُ الإعداد ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده، لم تكن بوسائل أخرى، فمن نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقرًا خاصًّا وعبودية خاصة.
(1)
طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص 24).
وعبوديته باسمه الآخر: تقتضي - أيضًا- عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها؛ فإنها تعدم لا محالة وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر عز وجل تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق أن لا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به»
(1)
.
وكما أنه الأول والآخر سُبْحَانَهُ رب كل شيء، وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التى لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون هو غايته، كما أنه لا وجود له إلا بكونه وحده هو ربه وخالقه، وكذلك لا كمال له ولا صلاح إلا بكونه تَعَالَى وحده هو غايته وحده، ونهايته ومقصوده.
فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبوديتها وإرادتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ، فكما كان واحدًا في إيجادك، فاجعله واحدًا في تألهك وعبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه، فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك إليه؛ لتصح لك عبوديته باسمه الأول والآخر.
وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه (الأول)
(2)
، فالكثير يؤمنون بتوحيد الربوبية وأن الله هو الخالق الرازق المدبر، كما الحال مع مشركي العرب وغيرهم ممن أقر بذلك، يقول تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، فهم مقرون بذلك، فلا إشكال كبير في تحقيقه.
(1)
طريق الهجرتين، وباب السعادتين (ص 19 - 20).
(2)
يقصد رحمه الله: أن كثيرًا من الخلق يؤمنون بتوحيد الربوبية، وأن الله هو الخالق الرازق المدبر، كما الحال مع مشركي العرب وغيرهم ممن أقر بذلك، يقول تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] فهم مقرون بذلك، فلا إشكال كبير في تحقيقه.
وإنما الشأن في التعبد له باسمه (الآخر)، فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العالمين وإله المرسلين سُبْحَانَهُ وبحمده
(1)
.
توحيد الأسماء والصفات:
وكما أن اسمي الله الأول والآخر دالان على توحيد الربوبية والألوهية، فكذا هما دالان على توحيد الأسماء والصفات؛ إذ يدلان على اسم الله الخالق، والبارئ، والمصور، والكريم، وذو الفضل، وذو الجلال والإكرام، إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
الأثر الثالث: الأول والآخر سُبْحَانَهُ، مالك الإرادات ومقلب القلوب والنيات:
فعند تحقيق التوحيد في الاسم يعود الموحد بافتقاره إلى ربه، ويجعل المرجعية في فعله إلى ما اختاره لعبده الأول والآخر سُبْحَانَهُ، مالك الإرادات، ومقلب القلوب والنيات، يصرفها كيف شاء، يهدي من يشاء من عباده، ويزيده هداية على هدايته، وهذا قول الله تَعَالَى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17].
فهو المعد، وهو الممد، وكلما ازداد له العبد شكرًا: زاده فضلًا، وكلما ازداد له طاعة: زاده لمجده مثوبة، وكلما ازداد منه قربًا: لاح له من جلاله وعظمته ما لم يشاهده قبل ذلك، وهكذا أبدًا لا يقف على غاية ولا نهاية.
ومن شاء أن يثبته ثبته، ولذا كان دعاء الراسخين في العلم:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
(1)
انظر: طريق الهجرتين، لابن القيم (ص 20).
فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا يهدي لأحسن الأعمال والأخلاق إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو، قال تَعَالَى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].
فعلى العبد أن يسأل الله الهداية، وأن يسأله الاستدامة عليها.
الأثر الرابع: محبة الأول والآخر:
إن صدق التعبد باسم الله الأول، والآخر؛ يقود إلى مطالعة منة الله ومحبته، والتبرؤ من كل سبب، فالنعم أولها من الله، ودوامها منه، وانتهاؤها إليه، فكيف يحب العبد غير ربه، أو يشقي نفسه مع خلقه، وهو مؤمن بالأول الآخر سُبْحَانَهُ!
الأثر الخامس: قِصر الأمل في الدنيا والزهد في مباحاتها والبعد عن شهواتها:
من علم أنه سُبْحَانَهُ الآخر، وأنه الدائم الحي الذي لا يموت فكل شيء ينتهي إليه، ويعود إليه، فلا يفلت أحد من قبضته ولا يدوم أحد إلا وجهه الكريم، فكل من على ظهر الأرض فان، كما قال تَعَالَى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26] فالخلائق كلها مرجعها إليه سُبْحَانَهُ، ومنتهاها إليه جل في علاه، كما قال تَعَالَى:{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8] وقوله تَعَالَى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].
فهو سُبْحَانَهُ الذي ينتهي إليه سير السائرين ومعارف العارفين، فكل معرفة قبل معرفته سُبْحَانَهُ فهي سلم على معرفته، وكل رتبة قبل الوصول
إليه والنظر إلى وجهه الكريم فهي رتبة نازلة عند من همتهم. قوله تَعَالَى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].
فمثل هذا العلم يورث العبد معرفة حقيقة الدنيا، فيقصر أمله فيها؛ لعلمه أنها منقطعة، والكل عنها راحلون، وعن وراثتها زائلون، فعليه أن يجتهد للآخرة، فلا يفرح فيها بموجود، ولا يأسف منها بمفقود، فنعيم الدنيا بحذافيره في جنب نعيم الآخرة أقل من ذرة في جنب جبال الدنيا، كما قال سُبْحَانَهُ:
يخبر تَعَالَى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه، ويبين غايتها وغاية أهلها، بأنها لعب ولهو، تلعب بها الأبدان، وتلهو بها القلوب، وهذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا، فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات أعمارهم بلهو القلوب، والغفلة عن ذكر الله وعما أمامهم من الوعد والوعيد، وتراهم قد اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، بخلاف أهل اليقظة وعمال الآخرة، فإن قلوبهم معمورة بذكر الله، ومعرفته ومحبته، وقد أشغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقربهم إلى الله، من النفع القاصر والمتعدي.
قال ابن القيم رحمه الله: «الغايات والنهايات كلها إليه تنتهي: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]؛ فانتهت إليه الغايات والنهايات؛ وليس له سُبْحَانَهُ
غاية ولا نهاية؛ لا في وجوده، ولا في مزيد جوده؛ إذ هو (الأول) الذي ليس قبله شيء، و (الآخر) الذي ليس بعده شيء، ولا نهاية لحمده وعطائه؛ بل كلما ازداد له العبد شكرًا: زاده فضلًا، وكلما ازداد له طاعة: زاده لمجده مثوبة، وكلما ازداد منه قربًا: لاح له من جلاله وعظمته ما لم يشاهده قبل ذلك، وهكذا أبدًا لا يقف على غاية ولا نهاية، ولهذا جاء: إن أهل الجنة في مزيد دائم بلا انتهاء
(1)
.
فإن نعيمهم متصل ممن لا نهاية لفضله ولا لعطائه؛ ولا لمزيده، ولا لأوصافه، فتبارك الله ذو الجلال والإكرام:{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54]، (يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ)
(2)
»
(3)
.
وقد يبدو في الظاهر أن بقاء أهل الجنة والنار أبدًا، متعارض مع إفراد الله عز وجل بالبقاء، وأنه الآخر الذي ليس بعده شيء، لكن هذا التعارض يزول إذا علمنا أنه لا بد أن نفرق في قضية البقاء والآخرية بين ما يبقى ببقاء الله وما يبقي بإبقاء الله، أو نفرق بين بقاء الذات والصفات الإلهية، وبقاء المخلوقات التي أوجدها الله كالجنة والنار وما فيهما؛ فالجنة مثلًا باقية بإبقاء الله وما يتجدد فيها من نعيم متوقف في وجوده على مشيئة الله، أما ذاته وصفاته فباقية ببقائه، وشتان بين ما يبقي ببقاء الله وما يبقي بإبقائه، فالجنة مخلوقة خلقها الله عز وجل وكائنة
(1)
مدارج السالكين (2/ 256).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2577).
(3)
مدارج السالكين (2/ 268).
بأمره ورهن مشيئته وحكمه، فمشيئة الله حاكمة على ما يبقى وما لا يبقى.
ومِن ثَمَّ فإن السلف الصالح يعتبرون خلود الجنة وأهلها إلى ما لا نهاية إنما هو بإبقاء الله وإرادته، فالبقاء عندهم ليس من طبيعة المخلوقات ولا من خصائصها الذاتية، بل من طبيعتها جميعا الفناء، فالخلود ليس لذات المخلوق أو طبيعته، وإنما هو بمدد دائم من الله تَعَالَى وإبقاء مستمر لا ينقطع، أما صفات الله عز وجل ومنها وجهه وعزته وعلوه ورحمته ويده وقدرته وملكه وقوته، فهي صفات باقية ببقائه ملازمة لذاته، حيث البقاء صفة ذاتية لهم، كما أن الأزلية صفة ذاتية له أيضًا.
فلا بد إذًا أن نفرق بين صفات الأفعال الإلهية وأبديتها، ومفعولات الله الأبدية وطبيعتها، وهذا ما جاء به القرآن؛ حيث فرق بين نوعين من البقاء؛ الأول: وهو بقاء الذات بصفاتها، كما في قوله تَعَالَى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27]، والثاني: في قوله تَعَالَى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17].
فالآية الأولى دلت على صفة من صفات الذات، وهى صفة الوجه، ودلت على بقاء الصفة ببقاء الذات، فأثبتت بقاء الذات بصفاتها، وأثبتت فناء ما دونها أو إمكانية فنائه؛ إذ إن الله هو الأول والآخر، وهو قبل كل شيء وبعد كل شيء.
الأثر السادس: الدعاء باسمي الله الأول والآخر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذ أحدنا مضجعه أن يقول: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الأَرَضِينَ، وَرَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ
شَيْءٍ، فَالِقَ الحَبِّ والنَّوَى، وَمُنْزَلَ التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلِ والقُرْآنِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتِ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، والظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، والبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِيِ مِنَ الفَقْرِ»
(1)
.
اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2713).
بديع السماوات والأرض جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «أبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال، والله تَعَالَى بديع السموات والارض، والبديع: المبتدع»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(بدع) الباء والدال والعين أصلان: أحدهما ابتداء الشيء وصنعه، لا عن مثال
…
»
(2)
.
ورود اسم الله (بديع السماوات والأرض) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (بديع السماوات والأرض) في كتاب الله مرتين، ووروده كالتالي:
قوله عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117].
وقوله عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101].
(1)
الصحاح (3/ 318)
(2)
مقاييس اللغة (1/ 209).
ورود اسم الله (بديع السماوات والأرض) في السنة النبوية:
ورد اسم (بديع السماوات والأرض) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
(1)
.
معنى اسم الله (بديع السماوات والأرض) في حقه سُبْحَانَهُ:
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: «(البديع) هو الذي خلق الخلق، وفطره مبدعًا له مخترعًا، لا على مثال سبق»
(3)
.
قال الحليمي رحمه الله: «ومعناه: المبتدع، وهو يحدث ما لم يكن مثله قط، قال الله:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117]، أي: مبدعهما،
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1495)، والترمذي، رقم الحديث:(3544)، والنسائي، رقم الحديث:(1300)، حكم الألباني: صحيح لغيره، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(890).
(2)
تفسير الطبري (2/ 464).
(3)
شأن الدعاء (ص 96).
والمبدع من له إبداع»
(1)
.
قال القرطبي رحمه الله: «فالله عز وجل بديع السموات والأرض، أي: منشئها وموجدها ومبدعها، ومخترعها على غير حد ولا مثال»
(2)
.
قال السعدي رحمه الله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117] أي: خالقهما ومبدعهما في غاية ما يكون من الحسن، والخلق البديع، والنظام العجيب المحكم»
(3)
.
اقتران اسم الله (بديع السماوات والأرض) بأسمائه الحسنى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله بديع السماوات والأرض بالأسماء الأخرى.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله بديع السماوات والأرض:
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (بديع السماوات والأرض) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
الله سُبْحَانَهُ هو البديع الذي لا مثيل له ولا شبيه، لا في ذاته، ولا في صفاته أو أفعاله، يقول ابن القيم رحمه الله: «قال في سورة الأنعام: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]، فسبحان الله أنى يكون له ولد، وهو مالك ما في السموات والأرض، تشهد
(1)
المنهاج (1/ 192).
(2)
تفسير القرطبي (2/ 86).
(3)
تفسير السعدي (ص 948).
له جميعًا بدلالتها عليه بالوحدانية، وتقر له بالطاعة؛ وهو بارئها وخالقها، وموجدها من غير أصل، ولا مثال احتذاها عليه، وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده أن مما يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته»
(1)
.
ومن تأمل في آيات الله الكونية رأى الجلال والإجلال والمهابة لهذا الإله العظيم، خالق هذا الكون على أحسن صورة.
وقد وردت آيات كثيرة تدعو إلى النظر في الكون، وما فيه من آيات باهرة عظيمة، ومنها:
- الدعوة للنظر في عجائب السماء، يقول تَعَالَى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5] ومما ورد في تفسير الآية: «أي: ولقد جملنا {السَّمَاءَ الدُّنْيَا} التي ترونها وتليكم، {بِمَصَابِيحَ} وهي: النجوم، على اختلافها في النور والضياء، فإنه لولا ما فيها من النجوم، لكانت سقفًا مظلمًا، لا حسن فيه ولا جمال، ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء، وجمالًا، ونورًا وهداية يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع، فإن السماوات شفافة، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا، وإن لم تكن الكواكب فيها»
(2)
.
- الدعوة للنظر في عجائب الأرض، في قوله تَعَالَى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ
(1)
تفسير الطبري (2/ 465).
(2)
تفسير السعدي (ص 875).
مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4].
(1)
.
- الدعوة للنظر في عجائب البحار، ومنه قوله تَعَالَى:{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 19 - 21].
(2)
.
(1)
المرجع السابق (ص 412).
(2)
تفسير السعدي (ص 830).
- الدعوة للنظر في عجائب الليل والنهار، يقول تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12].
(1)
.
ومن المعلوم أن من ازداد تأملًا وتفكرًا في خلق الله تَعَالَى؛ ازداد إيمانًا ويقينًا بكمال قدرة البديع وجماله، وهذا يقر في نفس المؤمن توحيد الله بالألوهية والربوبية.
يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «وانفراد الله عز وجل بالخلق والإبداع ونفوذ المشيئة، وأن الخلق أعجز من أن يعصوه بغير مشيئته، وهذا شاهد لتفرد
(1)
تفسير ابن كثير (5/ 49).
الله بالخلق والإبداع وأنه لا حول ولا قوة إلا به»
(1)
.
ولذلك كانت نسبة الولد إليه مسبة له، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«قَالَ اللهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي، كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ الله وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ»
(2)
.
وكما أن اسم الله البديع دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال على الأسماء والصفات؛ إذ يدل على اسم الله القدير، والخالق، والبارئ، والمصور، والجميل، إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
الأثر الثاني: محبة بديع السماوات والأرض سُبْحَانَهُ:
من آمن بأنه سُبْحَانَهُ بديع لا مثيل له ولا شبيه، وأنه المبدع الذي فطر الخلق ابتداء من غير مثال سبق، فهو سُبْحَانَهُ خلق فأبدع في خلقه- مَن عَلِم كل هذا لزمه محبة البديع سُبْحَانَهُ ذي الصفات العلا جل شأنه.
الأثر الثالث: الدعاء باسم الله بديع السماوات والأرض:
فإن من هدي رسولنا كثرة الدعاء وصدق الطلب، ومن دلائل الدعاء باسم الله البديع: ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، إني أسألك، فقال
(1)
مفتاح دار السعادة (1/ 285).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4974).
النبي صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ بِمَا دَعَا اللهَ؟ قال فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى»
(1)
.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، الحنان المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أن تغفر لنا.
(1)
سبق تخريجه.
البَصِيْرُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «البصر: حاسة الرؤية، وأبصرت الشئ: رأيته»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(بصر) الباء والصاد والراء أصلان، أحدهما: العلم بالشيء؛ يقال: هو بصير به،
…
وأصل ذلك كله: وضوح الشيء، ويقال: رأيته لمحًا باصرًا، أي: ناظرًا بتحديق شديد، ويقال: بصرت بالشيء إذا صرت به بصيرًا عالمًا، وأبصرته إذا رأيته، وأما الأصل الآخر: فبصر الشيء غلظه»
(2)
.
ورود اسم الله (البصير) في القرآن الكريم:
ورد اسم (البصير) اثنتين وأربعين مرة في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233].
وقوله سُبْحَانَهُ: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15].
وقوله سُبْحَانَهُ: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27].
(1)
الصحاح (2/ 153)
(2)
مقاييس اللغة (1/ 293).
ورود اسم الله (البصير) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (البصير) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا»
(1)
.
معنى اسم (البصير) في حقه سُبْحَانَهُ:
(2)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]: أي: هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وما ذلك إلا لحكمته ورحمته»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «(البصير) الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر، فيبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، ويبصر ما تحت الأرضين السبع كما يبصر ما فوق السموات السبع، وأيضًا سميع بصير
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6384).
(2)
تفسير الطبري (1/ 341).
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 354).
بمن يستحق الجزاء بحسب حكمته، والمعنى الأخير يرجع إلى الحكمة»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله:
وَهوَ البَصِيرُ يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّـ
…
ـوْدَاءِ تَحْتَ الصَّخْرِ وَالصَّوَّانِ
وَيَرَى مَجَارِي القُوتِ فِي أَعْضَائِهَا
…
وَيَرَى نِيَاطَ عُرُوقِهَا بِعيَانِ
وَيَرَى خِيَانَاتِ العُيُونِ بِلَحْظِهَا
…
وَيَرَى كَذَاكَ تَقَلُّبَ الأَجْفَانِ
(2)
اقتران اسم الله (البصير) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (البصير) باسمه سُبْحَانَهُ (السميع):
ورد هذا الاقتران في كتاب الله عز وجل في إحدى عشرة آية، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
وقوله سُبْحَانَهُ: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].
وجه الاقتران:
يمكن أن يقال: «إن اسمي (السميع والبصير) يشيران إلى اتصاف الله سُبْحَانَهُ بكمال السمع والبصر، وإحاطتهما ونفاذهما، فكل منهما صفة كمال له عز وجل، ويستفاد من اجتماعهما صفة كمال ثالثة، كما هو الشأن في الصفات
(1)
تفسير السعدي (5/ 299).
(2)
النونية (ص 204).
المقترنة.
ويمكن اعتبار هاتين الصفتين مجتمعتين دالتين على تنزيهه تَعَالَى عن مشابهة المخلوقين، فإن لهم سمعًا وبصرًا لا كسمعه وبصره عز وجل، فضلًا عما يوحي به اقتران الصفتين من إحكام الرقابة على الأقوال والأفعال، والإحاطة التامة للمخلوقات كلها، وأن الله محيط بها لا يفوته شيء منهم، ولا يخفى عليه من أمورهم شيء، بل هم تحت سمعه وبصره.
ثانيًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (البصير) باسمه سُبْحَانَهُ (الخبير):
ورد هذا الاقتران خمس مرات في كتاب الله عز وجل، من ذلك قوله تَعَالَى:{وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 17]، وقوله تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر: 31].
وجه الاقتران:
اقتران (الخبير) مع (البصير) يفيد شمول علم الله تَعَالَى للبواطن والحقائق، وكذلك للذوات والمشاهدات والمبصرات.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (البصير):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم (البصير) من صفات الله سُبْحَانَهُ:
من كمال الله تَعَالَى وجلاله: سعة بصره وعلمه، «فهو سُبْحَانَهُ من تحيرت العقول في عظمته، وسعة متعلقات صفاته، وكمال عظمته ولطفه، وخبرته بالغيب والشهادة، والحاضر والغائب، يرى خائنات الأعين وتقلبات
الأجفان، وحركات الجنان»
(1)
، فهو سُبْحَانَهُ القائل:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 218].
ومظاهر إبصار الله لعباده كثيرة، يمكن تقسيمها بالتالي:
أولًا: مايتعلق باثبات بصر لله سُبْحَانَهُ، كما يليق بجلاله من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، يقول تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ومن مظاهر ذلك:
أن الله سُبْحَانَهُ يبصر كل شيء، وإن دق وإن صغر، يقول تَعَالَى مثنيًا على نفسه بعظم وكمال سمعه وبصره:{لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف: 26].
يقول الطبري رحمه الله في تفسيره: «وذلك بمعنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه، وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء»
(2)
.
فهو سُبْحَانَهُ يبصر ماتحت الأراضي السبع، كما يبصر مافوق السموات السبع، لا يخفى عليه خافية في الأرض ولافي السماء، ولا في الدنيا ولا الآخرة، لا تخالطه الظنون ولا تغيره الحوادث والسنون، لا تواري عنه سماء سماءه، ولا أرض أرضه، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قاعه، يبصر كل شيء ويعلمه، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، مطلع على أعمال الناس وخباياهم.
(1)
الحق الواضح المبين، للسعدي (ص 34 - 36).
(2)
تفسير الطبري (15/ 233).
(1)
.
ولله در القائل:
يَا مَنْ يَرَى صَفَّ البَعُوضِ جَنَاحَهَا
…
فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ البَهِيمِ الأَلْيَلِ
وَيَرَى مَنَاطَ عُرُوقِهَا فِي نَحْرِهَا
…
وَالمُخَّ مِنْ تِلْكَ العِظَامِ النُّحَّلِ
امْنُنْ عَلَيَّ بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا
…
مَا كَانَ مِنِّي فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ
(2)
ثانيًا: ما يتعلق بإثبات بصر البصيرة بالأشياء، فهو سُبْحَانَهُ الخبير بها، فيكون متعلقها العلم، ومن مظاهر ذلك:
- أن الله بصير بمن آمن من عباده ومن كفر، يقول تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 2].
- والله بصير بما يصلح أحوال خلقه من الغنى والمال، ومن يفسده
(1)
الحق الواضح المبين، للسعدي (ص 34 - 36).
(2)
ربيع الأبرار، الزمخشري (1/ 10).
ذلك، فيعطي كلًّا منهم ما يستحقه، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]
(1)
.
- والله بصير بما يسر عباده وما يخفونه، يقول تَعَالَى:{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].
يقول السعدي رحمه الله في معنى السر: «الكلام الخفي {وَأَخْفَى} من السر الذي في القلب ولم ينطق به، أو السر ما خطر على القلب {وَأَخْفَى} ما لم يخطر، يعلم تَعَالَى أنه يخطر في وقته وعلى صفته، المعنى: أن علمه تَعَالَى محيط بجميع الأشياء دقيقها وجليلها خفيها وظاهرها، فسواء جهرت بقولك أو أسررته، فالكل سواء بالنسبة لعلمه تَعَالَى»
(2)
.
- والله بصير بذنوب عباده، السر منها والعلن، ماظهر منها وما بطن، وسيجازيهم عليها سُبْحَانَهُ، يقول تَعَالَى:{وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 17]
(3)
.
الأثر الثاني: توحيد الله باسمه البصير:
إن إيمان العبد بأن الله سُبْحَانَهُ البصير كما يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل، كما قال تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، يجعله يحقق التوحيد الخالص لله، فلا معبود كمل بصره وعلمه، فاستحق العبادة وحده إلا الله.
(1)
وسيأتي مزيد بيان في الأثر الرابع.
(2)
تفسير السعدي (ص 502).
(3)
وسيأتي مزيد بيان في الآثار المسلكية اللاحقة.
يقول السعدي رحمه الله في إثبات أنواع التوحيد للبصير سُبْحَانَهُ: «{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} «أي: ليس يشبهه تَعَالَى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله؛ لأن أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفة كمال وعظمة، وأفعاله تَعَالَى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك، فليس كمثله شيء؛ لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه،
…
وهذه الآية ونحوها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، من إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات، وفيها رد على المشبهة في قوله تَعَالَى:«{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وعلى المعطلة في قوله تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}»
(1)
.
ولذا قال سُبْحَانَهُ موبخًا الكفار ومسفهًا عقولهم؛ لعبادتهم الأصنام، التي هي من الحجارة الجامدة، لا تتحرك ولا تملك سمعًا ولا بصرًا:{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195]، ويقول تَعَالَى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 197، 198].
وأنكر إبراهيم عليه السلام على أبيه عبادته ما لا يبصر ولا يسمع، يقول تَعَالَى:{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42].
(1)
تفسير السعدي (ص 754).
الأثر الثالث: مراقبة الله تعالى، والحياء منه:
إن لهذا الاسم مقتضياته من الذل والخضوع ودوام المراقبة، والإحسان والإخلاص في العبادة، والبعد عن الذنوب.
فمن علم أن ربه مطلع على سائر عمله، واستدام هذا العلم في قلبه؛ استحى أن يراه على معصية أو على ما لا يحب، وصار أكثر مراقبة لله تَعَالَى، فاستقام سلوكه وسمت روحه، وراقب الله في سره وعلانيته.
ومن تأمل الآيات الواردة في القرآن والمختومة بهذا الاسم؛ أدرك تمامًا كمال هذا الاسم وهيبته، ومن ذلك ما يلي:
إبصار الله تَعَالَى لخفايا الخلق، ومعرفته بأزكاهم، وأحقهم للاصطفاء، يقول تَعَالَى:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الحج: 75 - 76].
إبصار الله تَعَالَى لما يحصل في خفايا الليل والنهار، فيرى دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، يقول تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61].
إبصار الله تَعَالَى لما كان وما يكون، وما نبصر وما لا نبصر، وما يعلم العباد وما لا يعلمون، وأحقيته بالعبادة دون سواه.
إبصار الله تَعَالَى لحال عباده بعد أمرهم بالاستقامة، ومدى التزامهم بالأمر، يقول تَعَالَى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].
إبصار الله تَعَالَى بالملحدين في آياته، يقول تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40].
إبصار الله تَعَالَى بالمجادلين في آياته، يقول تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56].
إبصار الله تَعَالَى لنية العامل ومقصده، ومجازاته وفقًا لذلك، يقول تَعَالَى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265].
إبصار الله تَعَالَى لأعمال عباده، وعلمه وحفظه لكل خير يقدمونه، يقول تَعَالَى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110].
إبصار الله تَعَالَى لمصارف أموال عباده، وأدائهم للحقوق، يقول تَعَالَى:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233]، ويقول:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237].
إبصار الله تَعَالَى وشهادته بأحوال عباده وما يدور بينهم، يقول تَعَالَى:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43].
وعليه فمن استشعر كمال إبصار الله له واطلاعه على أعماله؛ سلم حتى من معاصي الخلوات، التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا الله عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلِّهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»
(1)
.
وكلما استيقن العبد رؤية البصير سُبْحَانَهُ لعمله ظاهره وباطنه، أورثه ذلك مزيد عناية في عبادته حتى يصل لمرتبة الإحسان، التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم في تعريفها:«أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
(2)
.
(3)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(4245)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(505).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(8).
(3)
شرح النووي لصحيح مسلم، (1/ 157).
ولهذا نجد من تحقق في قلبه الإخلاص، وفهم قوله تَعَالَى:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218 - 219]، زال من قلبه محبة أن يرى الناس عمله، ويثنون عليه، وهذا الفرق بين المخلص والمرائي، يقول تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 264 - 265].
الأثر الرابع: الله سُبْحَانَهُ بصير بما يصلح عباده، وينفعهم.
فالله سُبْحَانَهُ بصير بأحوال عباده في أمور دنياهم قبل أخراهم، فكثير من العباد لا يصلح حاله إلا إذا كان فقيرًا، ولو اغتنى لفسد، فلطَف الله به من حيث لا يشعر، وكذا من كان عقيمًا، فلعل الذرية في مثل حاله تجعله يطغى، فلطَف به البصير من حيث لا يعلم، يقول تَعَالَى في ذلك:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27].
وهو البصيرسُبْحَانَهُ بمن يصلح للهداية ممن لا يصلح لها: يقول تَعَالَى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15].
وهو البصير سُبْحَانَهُ بالعباد شهيد عليهم، الصالح منهم والطالح، المؤمن والكافر، يقول تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 2].
وهذا يجعل العبد يلحظ نفسه، فإن رأى توفيقًا للطاعة وتيسيرًا لأسبابها، حمد الله؛ لأنه علم أن ربه قد زكاه، يقول سُبْحَانَهُ:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]، ومن رأى أن نفسه تميل عن الطاعة للمعصية، جاهد في إصلاحها؛ لأن هذا دليل على أن الطاعة منزلة لا يستحقها، يقول عز وجل:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22].
الأثر الخامس: الاطمئنان والثقة بمعية الله وكمال علمه:
من آمن بأن الله بصير؛ امتلأ قلبه طمأنينة، وصبرًا واحتسابًا، وصدق توكله على ربه؛ لأن البصير سُبْحَانَهُ يعلم ويرى ما يقع فيه العباد من كربات ومصائب، ومواجهات مع شياطين الجن والإنس، ومن شواهد ذلك:
قوله تَعَالَى - في تطمين موسى وأخيه هارون، عندما أرسلهما إلى فرعون، فخافا من أذيته-:{قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45 - 46]، وقوله أيضًا:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
وعندما يطمئن العبد ويثق بربه يصل لمنزلة السكينة، وهي المنزلة التي قال ابن القيم رحمه الله في وصفها: «هذه المنزلة من منازل المواهب، لا من منازل المكاسب،
…
وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه، من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوة اليقين والثبات، ولهذا أخبر سُبْحَانَهُ عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب، كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار، والعدو فوق رءوسهم، لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما، وكيوم حنين حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار، لا يلوي أحد منهم على أحد، وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم، ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس»
(1)
.
الأثر السادس: محبة البصير سُبْحَانَهُ:
من آمن بأن ربه سُبْحَانَهُ يبصر أعماله، وأحواله، ويرى ضعفه وعجزه وحاجته، ويعلم جميع أمره؛ أحبه سُبْحَانَهُ، ووثق بنصره ومعيته جل جلاله.
الأثر السابع: أمر البصير سُبْحَانَهُ لعباده بغض البصر:
فمن عظيم نعم الله تَعَالَى علينا نعمة البصر، وبها امتن الله تَعَالَى على خلقه في آيات كثيرة، منها قوله سُبْحَانَهُ:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، وقوله تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78]، وأمر سُبْحَانَهُ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر المؤمنين
(1)
مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 503).
بغض أبصارهم وحفظ فروجهم، وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم، مطلع عليها، يقول سُبْحَانَهُ:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، والمراد بـ {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} هي مسارقة النظر إلى ما لا يحل النظر إليه،
…
قال قتادة رحمه الله: «خائنة الأعين: الهمز بالعين فيما لا يحب الله»
(1)
، قال الضحاك رحمه الله:«هو قول الإنسان: ما رأيت- وقد رأى-، ورأيت- وما رأى»
(2)
،
…
أما {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} أي: من الضمائر، وتسره من معاصي الله، والله يقضي بالحق فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر
(3)
.
ولابن القيم رحمه الله كلام متين في تسلسل معاصي النظر: من نظرة، لخطرة، للفظة، لخطوة، فيقول في مختصر كلامه:
إن من حفظ اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات: أن يكون العبد بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة، فأكثر المعاصي تدخل منها، فاللحظات هي رائدة الشهوات، وحفظها: أصل حفظ الفرج، فمن أطلق بصره أورده موارد الهلكات، وقد قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده، وفيه يقول الشاعر:
كُلُّ الحَوَادِثِ مبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ
…
وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ بَلَغَتْ مِنْ قَلْبِ صَاحِبِهَا
…
كَمَبْلَغِ السَّهْمِ بَيْنَ القَوْسِ والوَتَرِ
(1)
تفسير الطبري (20/ 304).
(2)
تفسير الماوردي (5/ 150).
(3)
فتح القدير، الشوكاني (4/ 557).
وَالعَبْدُ مَا دَامَ ذَا طَرْفٍ يُقَلِّبُهُ
…
فِي أَعْيُنِ العِينِ مَوْقُوفٌ عَلَى الخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ
…
لَا مَرْحَبًا بِسُرورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ
(1)
ولقد عني السلف الصالح بغض البصر عناية عظيمة، ومن ذلك قولهم:«من حفظ بصره؛ أورثه الله نورًا في بصيرته»
(2)
، وكان سفيان رحمه الله إذا خرج في يوم العيد قال:«إن أول ما نبدأ به اليوم غض أبصارنا»
(3)
، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:«الإثم حواز القلوب (يحز في القلوب)، وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع»
(4)
.
وكان الربيع بن خثيم يغض بصره، فمر به نسوة، فأطرق (أي: أمال رأسه إلى صدره) فظن النسوة أنه أعمى، وتعوذن بالله من العمى
(5)
.
ومن الوسائل المعينة على غض البصر:
استحضار اطلاع الله، ومراقبته، يقول تَعَالَى:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].
الاستعانة بالله والانطراح بين يديه ودعائه، قال تَعَالَى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
(1)
انظر: الداء والدواء (1/ 370 - 376)
(2)
تفسير ابن كثير (6/ 43).
(3)
الورع، لابن أبي الدنيا (ص 66).
(4)
أخرجه هناد بن السري في الزهد (2/ 465).
(5)
ذم الهوى، لابن الجوزي (ص 91).
مجاهدة النفس وتعويدها على غض البصر والصبر على ذلك، والبعد عن اليأس، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، يقول صلى الله عليه وسلم «
…
وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ»
(1)
.
القيام بحقوق الأماكن العامة، كالأسواق والطرقات من غض البصر، وكف الأذى، يقول صلى الله عليه وسلم:«إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ»
(2)
.
الإكثار من نوافل العبادات، فإن الإكثار منها مع المحافظة على القيام بالفرائض، سبب في حفظ جوارح العبد، قال الله تَعَالَى في الحديث القدسي «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»
(3)
.
تذكر شهادة الأرض التي تمارس عليها المعصية، قال تَعَالَى:{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4].
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1469)، ومسلم، رقم الحديث:(1053).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2465)، ومسلم، رقم الحديث:(2121).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5602).
تذكر الملائكة الذين يحصون عليك أعمالك، قال تَعَالَى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12].
أداء الواجبات كما أمر الله، ومنها: الصلاة قال تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
الزواج، وهو من أنفع العلاج، قال صلى الله عليه وسلم:«مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»
(1)
.
وتجدر الإشارة في نهاية هذا الأثر إلى بيان أن الأنبياء صلوات الله عليهم قد رفعهم الله عن خائنة الأعين، وجعل هذا من صفات النبوة، فعن سعد رضي الله عنه، قال:«لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بايِع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه، ثلاثًا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ، يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك؟ ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1905).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(2683)، والنسائي، رقم الحديث:(3516)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1723).
الأثر الثامن: نعمة البصيرة هي أعظم نعم البصير سُبْحَانَهُ:
إن أعظم نعمة ينعم بها البصير على عبده حين يرزقه نور البصيرة، وهناك فرق بين البصر والبصيرة: فالبصر يدرك ظواهر الأشياء، بينما البصيرة هي نور في القلب، وهي للقلوب كالضياء للبصر، يفرق به صاحبها بين الحق والباطل، لا تختلط عليه الأمور ولا تتشابه، يعرف الحق فيتبعه، ويعرف الباطل ويفر منه.
ويقول ابن القيم رحمه الله في معنى البصيرة: «البصيرة هي نور في القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار، وما أعد الله في هذه لأوليائه، وفي هذه لأعدائه، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق وقد نزلت ملائكة السموات فأحاطت بهم، وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنوره، ووضع الكتاب، وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نصب الميزان، وتطايرت الصحف، واجتمعت الخصوم، وتعلق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثب، وكثر العطاش وقل الوارد، ونصب الجسر للعبور، وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه، والنار يحطم بعضها بعضًا تحته، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين.
فالبصيرة نور يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل كأنه يشاهده رأى عين، فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل وتضرره بمخالفتهم، وهذا معنى قول بعض العارفين: البصيرة تحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به، وقال بعضهم: البصيرة ما خلصك من الحيرة إما بإيمان وإما بعيان»
(1)
.
(1)
مدارج السالكين (1/ 123).
فعندما نتحدث عن نعمة البصيرة نتحدث عن أناس كثر حرمهم الله نور البصر، ولكنه فتح لهم نور البصيرة، وهو الأهم والأنفع، يقول تَعَالَى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، فكم من بصير يرى وينظر، ولكنه لم يبصر طريق الهداية والصلاح، فيرى الحق باطلًا والباطل حقًّا، ولا يعرف معروفًا أو ينكر منكرًا، وهذا- والعياذ بالله- يفقد بصره في الدنيا، كما فقده في الآخرة، يقول تَعَالَى:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72]، ويقول سُبْحَانَهُ عن حال من عميت بصيرته يوم القيامة:{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 125 - 126].
ولذا كانت أعظم نعمة يعطيها الله للعبد نور البصيرة ورؤية الحق واتباعه، ورؤية الباطل واجتنابه.
وهو ما يمثله قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز، وكانت ذات منصب وجمال، وهي التي دعته وغلقت الأبواب، ولكن ماذا فعل؟ يقول تَعَالَى:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 23 - 24].
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاث درجات للبصيرة، من استكملها فقد استكمل البصيرة، وهي: بصيرة في الأسماء والصفات، وبصيرة في الأمر والنهي، وبصيرة في الوعد والوعيد.
يقول ابن القيم رحمه الله: «فالبصيرة في الأسماء والصفات: أن لا يتأثر إيمانك بشبهة تعارض ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، بل تكون الشبه المعارضة لذلك عندك بمنزلة الشبه والشكوك في وجود الله، فكلاهما سواء في البلاء عند أهل البصائر.
أما المرتبة الثانية من البصيرة: البصيرة في الأمر والنهي، وهي تجريده عن المعارضة بتأويل أو تقليد أو هوى، فلا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه، ولا شهوة تمنع من تنفيذه وامتثاله والأخذ به، ولا تقليد يريحه عن بذل الجهد في تلقى الأحكام من مشكاة النصوص، وقد علمت بهذا أهل البصائر من العلماء من غيره.
أما المرتبة الثالثة من البصيرة: البصيرة في الوعد والوعيد، وهي أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت في الخير والشر عاجلًا وآجلًا، في دار العمل ودار الجزاء، وأن ذلك هو موجب إلهيته وربوبيته وعدله وحكمته؛ فإن الشك في ذلك شك في إلهيته وربوبيته، بل شك في وجوده؛ فإنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ولا يليق أن ينسب إليه تعطيل الخليقة وإرسالها هملًا وتركها سدًى، تَعَالَى الله عن هذا الحسبان علوًّا كبيرًا، فشهادة العقل بالجزاء كشهادته بالوحدانية»
(1)
.
الأثر التاسع: الدعاء باسم الله البصير:
الدعاء باسم الله (البصير) من الأدعية التي تؤمن الخائف ممن يخيفه، وتقي المظلوم من ظالمه، وهو دعاء مؤمن آل فرعون، يقول تَعَالَى على
(1)
مدارج السالكين (1/ 126).
ودعاء موسى عليه السلام؛ يقول تَعَالَى على لسانه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى} [طه: 25 - 36]، أحسَن في الدعاء، فأناله الله تَعَالَى ما سأل.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أبقيتنا، واستعمل جوارحنا في طاعتك، يا سميع يا بصير.
التَوَّابُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «التوبة: الرجوع من الذنب، وفى الحديث:(النَّدَمُ تَوْبَةٌ)
(1)
،
…
وتاب إلى الله توبة ومتابًا، وقد تاب الله عليه: وفقه لها»
(2)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «التاء والواو والباء، كلمة واحدة تدل على الرجوع، يقال: تاب من ذنبه، أي: رجع عنه، يتوب إلى الله توبةً ومتابًا، فهو تائب، والتوب: التوبة، قال الله تَعَالَى: {وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3]»
(3)
.
ورود اسم الله (التَّوَّاب) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (التواب) إحدى عشرة مرة في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
[البقرة: 37].
وقوله عز وجل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: 10].
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث (3568)، وابن ماجه، رقم الحديث (3568)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث (6802).
(2)
الصحاح (1/ 105).
(3)
مقاييس اللغة (1/ 357).
وقال عز وجل: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3].
ورود اسم الله (التوَّاب) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (التواب) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:«إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»
(1)
.
(2)
.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى، ثم قال: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ» ، حتى قالها مائة مرة
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1516)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3814)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1516).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(969)، والبيهقي في القضاء والقدر، رقم الحديث:(375)، حكم الألباني: «حديث عبد الله: كنا لا ندري
…
، فذكر نحوه» صحيح، «قول شريك: وحدثنا جامع ..... وأتمها علينا» ضعيف، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(969).
(3)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(9855)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(619)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الأدب المفرد، رقم الحديث:(619).
معنى اسم الله (التوَّاب) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال قتادة رحمه الله: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]«إن الله هو الوهابُ لعباده الإنابةَ إلى طاعته، الموفق من أحب توفيقه منهم لما يرضيه عنه»
(1)
.
قال الطبري رحمه الله عند قوله تَعَالَى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]: «إن الله- جل ثناؤه- هو التواب على من تاب إليه من عباده المذنبين من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه،
…
وتوبة الله على عبده هو أن يرزقه ذلك، ويؤوب من غضبه عليه إلى الرضا عنه، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه»
(2)
.
قال الزجاج رحمه الله في قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3]: «يقبل رجوع عبده إليه، ومن هذا قيل: التوبة كأنه رجوع إلى الطاعة، وترك المعصية»
(3)
.
قال الخطابي رحمه الله: «هو الذي يتوب على عبده، ويقبل توبته كلما تكررت التوبة، تكرر القبول،
…
ومعنى التوبة: عود العبد إلى الطاعة بعد المعصية»
(4)
.
قال الحَليمي رحمه الله: «التواب هو المعيد إلى عبده فضل رحمته إذا هو رجع إلى رحمته، وندم على معصيته، ولا يحبط بما قدم من خير، ولا
(1)
تفسير الطبري (12/ 54).
(2)
تفسير الطبري (1/ 195).
(3)
تفسير أسماء الله (ص 62).
(4)
شأن الدعاء (ص 90).
يمنعه ما وعد المطيعين من الإحسان»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «فتوبة العبد محفوفة بتوبة قبلها عليه من الله إذنًا وتوفيقًا، وتوبة ثانية منه عليه قبولًا ورضًا؛ فله الفضل في التوبة والكرم أولًا وآخرًا لا إله إلا هو»
(2)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «التواب الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، فكل من تاب إلى الله توبة نصوحًا؛ تاب الله عليه، فهو التائب على التائبين أولًا بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه، وهو التائب عليهم بعد توبتهم قبولًا لها، وعفوًا عن خطاياهم»
(3)
.
- قال ابن القيم في نونيته:
وَكَذَلِكَ التَّوَّابُ مِنْ أَوْصَافِهِ
…
وَالتَّوْبُ فِي أَوْصَافِهِ نَوْعَانِ
إِذْنٌ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ وَقَبُولِهَا
…
بَعْدَ المَتَابِ بِمِنَّةِ المَنَّانِ
(4)
اقتران اسم الله (التوّاب) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (التوّاب) باسم الله الرحيم:
جاء اسم الله التواب مقترنًا باسم الله الرحيم، في تسعة مواضع من كتاب الله، ومنها: قول الله عز وجل: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
[البقرة: 37].
(1)
المنهاج (1/ 206).
(2)
مفتاح دار السعادة (1/ 291).
(3)
تفسير السعدي (1/ 946).
(4)
النونية (1/ 209).
وجه الاقتران:
قرن الله عز وجل التواب بالرحيم؛ لحكم جليلة، منها:
أن الرحيم يدل على تفضله عز وجل على عبده- مع التوبة- بالرحمة، ورحمته إياه إقالة عثرته، وصفحه عن عقوبة جرمه، فقبول التوبة سببه رحمة الله لعبده.
أن في الجمع بينهما وعدًا بليغًا للتائب بالإحسان مع العفو والغفران.
(1)
.
ثانيًا: اقتران اسم الله التواب باسم الله الحكيم:
جاء اسم الله التواب مقترنًا باسم الله الحكيم في موضع واحد، وهو قوله عز وجل:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: 10].
وجه الاقتران:
قرن الله عز وجل اسم التواب بالحكيم في هذه الآية، حيث جاء بعد ذكر حد الزنا، وحد قذف المحصنات وأحكام الملاعنة، وفي مناسبة ختمها بهذين الاسمين الكريمين.
يقول ابن عاشور رحمه الله: «هذا تذييل لما مر من الأحكام العظيمة المشتملة على التفضل من الله والرحمة منه، والمؤذنة بأنه تواب على من تاب
(1)
تفسير الطبري (12/ 54).
من عباده، والمثبتة بكمال حكمته تَعَالَى؛ إذ وضع الشدة موضعها، والرفق موضعه، وكف بعض الناس عن بعض، فلما دخلت تلك الأحكام تحت كل هذه الصفات كان ذكر الصفات تذييلًا، وفي ذكر وصف (الحكيم) هنا مع وصف (تواب) إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة، وهي استصلاح الناس»
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (التوّاب):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (التواب) من صفات الله تعالى:
الله تبارك وتعالى هو التواب، «قابل الدعاء بالعطاء، والاعتذار بالاغتفار، والإنابة بالإجابة، والتوبة بغفران الحوبة، وإذا تاب العبد إلى الله بسؤاله، تاب الله عليه بنواله»
(2)
.
يقول ابن القيم رحمه الله في لطائف أسرار التوبة: «أن يعرف- أي: العبد- عزته سُبْحَانَهُ في قضائه، وبره في ستره، وحلمه في إمهال راكبه، وكرمه في قبول العذر منه، وفضله في مغفرته
…
فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظه بقلبه، وتمكن شهوده منه؛ كان الاشتغال به عن ذل المعصية أولى به وأنفع له؛ لأنه يصير مع الله، لا مع نفسه
…
ومن شهود عزته أيضًا في قضائه: أن يشهد أن الكمال والحمد، والغناء التام، والعزة كلها لله، وأن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم، والعيب والظلم والحاجة، وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره؛ ازداد شهوده لعزة
(1)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (9/ 168).
(2)
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، للقرطبي (1/ 413).
الله وكماله، وحمده وغناه، وكذلك بالعكس، فنقص الذنب وذلته يطلعه على مشهد العزة
…
ومنها: أن يعرف بره سُبْحَانَهُ في ستره عليه حال ارتكاب المعصية، مع كمال رؤيته له، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه، وهذا من كمال بره، ومن أسمائه: البَرُّ، وهذا البَرُّ من سيده كان عن كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه، فيشتغل بمطالعة هذه المنة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم، فيذهل عن ذكر الخطيئة، فيبقى مع الله سُبْحَانَهُ، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته، وشهود ذل معصيته؛ فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى، والمقصد الأسنى، ولا يوجب هذا نسيان الخطيئة مطلقًا، بل في هذه الحال، فإذا فقدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة، وذكر الجناية، ولكل وقت ومقام عبودية تليق به.
ومنها: شهود حلم الله تبارك وتعالى في إمهال راكب الخطيئة، ولو شاء لعاجله بالعقوبة، ولكنه الحليم الذي لا يعجل، فيحدث له ذلك معرفة ربه سُبْحَانَهُ باسمه الحليم، ومشاهدة صفة الحلم، والتعبد بهذا الاسم، والحكمة والمصلحة الحاصلة من ذلك بتوسط الذنب أحب إلى الله، وأصلح للعبد، وأنفع من فوتها، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع عز وجل.
ومنها: معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه، إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم من الاعتذار، لا بالقدر، فإنه مخاصمة ومحاجة، كما تقدم، فيقبل عذره بكرمه وجوده، فيوجب له ذلك اشتغالًا بذكره وشكره، ومحبة أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك، فإن محبتك لمن شكرك على إحسانك وجازاك به، ثم غفر لك إساءتك ولم يؤاخذك بها أضعاف محبتك على شكر الإحسان وحده،
والواقع شاهد بذلك، فعبودية التوبة بعد الذنب لون، وهذا لون آخر.
ومنها: أن يشهد فضله في مغفرته، فإن المغفرة فضل من الله، وإلا فلو أخذك بمحض حقه، كان عادلًا محمودًا، وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك، فيوجب لك ذلك- أيضًا- شكرًا له ومحبة، وإنابة إليه، وفرحًا وابتهاجًا به، ومعرفة له باسمه الغفار ومشاهدة لهذه الصفة، وتعبدًا بمقتضاها، وذلك أكمل في العبودية، والمحبة والمعرفة.
ومنها: أن يكمل لعبده مراتب الذل والخضوع والانكسار بين يديه، والافتقار إليه»
(1)
.
وبذلك يتضح تضمن اسم الله التواب لعدد كبير من أسماء الله وصفاته.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (التواب) على التوحيد:
من تأمل في اسم الله (التواب) علم أن الألوهية والربوبية لا تكون إلا له سُبْحَانَهُ، «فالتوبة عبادة لله وحده شأنها شأن العبادات الأخرى: كالصلاة، والاستغاثة، والاستعانة، والاستغفار؛ لا يجوز صرفها إلا إلى الله وحده، فلا يتاب إلى نبي مرسل ولا ملك مقرب، وقد قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].
وعليه فلا يطلب العفو والغفران إلا منه سُبْحَانَهُ، ولا يقدر ولا يوفق إلى التوبة ويقبلها إلا هو، يقول الله عز وجل:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]، ويقول سُبْحَانَهُ:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].
(1)
مدارج السالكين (1/ 223).
وقد نصب بعض رهبان النصارى وغلاة الصوفية أنفسهم شركاء لله عز وجل، فزعموا أن لديهم صلاحية غفران الذنوب والتوبة على العباد، وهذا من إفكهم وضلالهم.
وكما أن اسم الله التواب دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال على الأسماء والصفات؛ إذ يدل على اسم الله الغفور، والبَر، والشكور، والرحيم، والكريم، والحليم، إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
الأثر الثالث: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]:
إن إقبال العبد على ربه بالتوبة هو محض توفيق، ومنة من الباري سُبْحَانَهُ؛
وفيه يذكر ابن القيم رحمه الله أن توبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة منه بعدها، فتوبته بين توبتين من الله: سابقة ولاحقة، فإنه تاب عليه أولًا إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا، فتاب العبد فتاب الله عليه ثانيًا قبولًا وإثابة، قال تَعَالَى:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]، فأخبر سُبْحَانَهُ أن توبته عليهم سبقت توبتهم، وأنها هي التي جعلتهم تائبين، فكانت سببًا ومقتضيًا لتوبتهم، فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم، والحكم ينتفي لانتفاء علته، فالعبد تواب والله تواب، فتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الإباق، وتوبة الله نوعان: إذن وتوفيق، وقبول وإمداد
(1)
.
(1)
ينظر: مدارج السالكين (1/ 339).
قال رحمه الله في نونيته:
وَكَذَلِكَ التَّوَّابُ مِنْ أَوْصَافِهِ
…
وَالتَّوْبُ فِي أَوْصَافِهِ نَوْعَانِ
إِذْنٌ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ وَقَبُولِهَا
…
بَعْدَ المَتَابِ بِمِنَّةِ المَنَّانِ
الأثر الرابع: تأخير التوبة يحتاج لتوبة أخرى:
على العبد أن يسارع إلى التوبة النصوح عند الوقوع في المعصية مباشرة، مهما كان عظمها؛ فإن تأخير التوبة من المعصية معصية أخرى.
يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «إن المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور، ولا يجوز تأخيرها، فمتى أخرها عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى، وهي توبته من تأخير التوبة، وقل أن تخطر هذه ببال التائب، بل عنده أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر، وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة، ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة، مما يعلم من ذنوبه ومما لا يعلم، فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه، ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكنًا من العلم، فإنه عاص بترك العلم والعمل، فالمعصية في حقه أشد، وفي مسند أبي يعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، قال: قلنا: يا رسول الله، وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله، أو دعي مع الله؟ قال: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا صِدِّيقُ، الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أُخْبِرُكَ بِقَوْلٍ يُذْهِبُ صِغَارَهُ وَكِبَارَهُ، أَوْ صَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ، قال: تَقُولُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ، وَالشِّرْكَ أَنْ يَقُولَ: أَعْطَانِي الله وَفُلَانٌ، وَالنِّدُّ أَنْ
يَقُولَ الْإِنْسَانُ: لَوْلَا فُلَانٌ قَتَلَنِي فُلَانٌ»
(1)
، فهذا طلب الاستغفار مما يعلمه الله أنه ذنب، ولا يعلمه العبد.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان يدعو بهذا الدعاء: (اللهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(2)
، وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: (اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ، وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ)
(3)
، فهذا التعميم وهذا الشمول لتأتي التوبة على ما علمه العبد من ذنوبه وما لم يعلمه»
(4)
.
الأثر الخامس: محبة التواب سُبْحَانَهُ:
حري بمن عرف اسم الله التواب، وأدرك سعه فضله، ولطفه بعباده، وتوفيقه لمن شاء إلى التوبة وتيسير أسبابها، وقبولها منهم، بل وفرحه أشد الفرح بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ،
(1)
أخرجه أبو يعلى، رقم الحديث:(58)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 112)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3771).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6398)، ومسلم، رقم الحديث:(2719).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(483).
(4)
مدارج السالكين (1/ 283).
فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ»
(1)
، فحري بمن عرف هذا كله أن يحب التواب الحبَّ كله، وأن تظهر آثار هذه المحبة في دينه وديناه.
الأثر السادس: وجوب التوبة لله:
فالتوبة فرض على كل مسلم ومسلمة، يقول تَعَالَى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
ويقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «ومنزل التوبة أول المنازل، وأوسطها، وآخرها، فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به، واستصحبه معه ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك، وقد قال الله تَعَالَى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وهذه الآية في سورة مدنية، خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه، بعد إيمانهم وصبرهم، وهجرتهم وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه، وأتى بأداة لعل المشعرة بالترجي؛ إيذانًا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون، جعلنا الله منهم.
وقال تَعَالَى في سورة الحجرات: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، فقسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثم قسم ثالث البتة، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه، لجهله بربه وبحقه، وبعيب
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2747).
نفسه وآفات أعماله، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي اليَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّة)
(1)
، وكان أصحابه يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ)
(2)
مائة مرة، وما صلى صلاة قط بعد إذ أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إلى آخرها، إلا قال فيها:(سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلهِ، قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ)
(3)
»
(4)
.
وفي الملحق مزيد بيان وتفصيل عن التوبة والتائبين.
الأثر السابع: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16]:
التواب سُبْحَانَهُ يأمر عباده بالتسامح فيما بينهم لمن أذنب سلفًا ثم تاب وأصلح، يقول سُبْحَانَهُ:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 15 - 16].
ومن المعلوم أن هذا التسامح ليس تسامحًا في الجريمة، أو رحمة
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2702).
(2)
سبق تخريجه (ص 43).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2816).
(4)
مدارج السالكين (1/ 196).
بالفاحشين، ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين، وقبولهم في المجتمع، وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه، وتطهروا منه، وأصلحوا حالهم بعده، فينبغي مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة، ونسيان جريمتهم حتى لا تثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها؛ مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس، واللجاج في الخطيئة، وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة.
الأثر الثامن: الدعاء باسم الله التواب:
فقد أمر الله تَعَالَى عباده المؤمنين بتطهير أنفسهم بالتوبة، ومن ذلك قوله تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]، ويقول تَعَالَى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وهذا منهج الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ومنهم ما يلي:
آدم عليه السلام حين نهاه الله عن الأكل من شجرة من شجر الجنة، فعصاه بالأكل منها، يقول تَعَالَى:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 120].
دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في قوله تَعَالَى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128].
دعاء موسى عليه السلام في قوله تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته بالتوبة والاستغفار، ففي الحديث:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ، فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ»
(1)
.
فعلى المؤمن أن يكثر من الاستغفار وطلب التوبة اقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم، وأنبياء الله ورسله.
(1)
سبق تخريجه (ص 52).
في موضوع التوبة سنتطرق لعدة مسائل، وهي:
أولًا: تعريف التوبة:
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «وكثير من الناس إنما يفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاود الذنب، وبالإقلاع عنه في الحال، وبالندم عليه في الماضي، وإن كان في حق آدمي؛ فلا بد من أمر رابع وهو التحلل منه، وهذا الذي ذكروه بعض مسمى التوبة بل شرطها، وإلا فالتوبة في كلام الله ورسوله كما تتضمن ذلك، تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبًا حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به، هذا حقيقة التوبة، وهي اسم لمجموع الأمرين
…
»
(2)
.
ثانيًا: فضائل التوبة:
للتوبة إلى الله فضائل عديدة، ومنافع عظيمة، منها:
التوبة هدي الأنبياء والمرسلين، يقول تَعَالَى عن آدم:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]، وقد فسرت هذه الكلمات
(1)
تفسير القرطبي (5/ 91).
(2)
مدارج السالكين (1/ 305).
في سورة الأعراف: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقال عن نوح عليه السلام في قصته مع ابنه في سورة هود:{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وقال عن إبراهيم عليه السلام:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]، وقال عن موسى بعد قتله النفس خطأ:{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]، وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَتُوبُ فِي اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً»
(1)
.
توبة الله على التائبين، يقول تَعَالَى:{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39]، وأخرج البخاري رحمه الله في حادثة الإفك أنه صلى الله عليه وسلم قال:«فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ»
(2)
.
وأخرج مسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ»
(3)
، بل من رحمته سُبْحَانَهُ وفضله أنه:«إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»
(4)
.
(1)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10193)، وابن حبان، رقم الحديث:(924)، حكم الألباني: صحيح، التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، رقم الحديث:(920).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2661).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2703).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2759).
فرحة الله بتوبة العبد، يقول ابن القيم رحمه الله: «منها السر الأعظم الذي لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر عليه الإشارة، ولا ينادي عليه منادي الإيمان على رؤوس الأشهاد، بل شهدته قلوب خواص العباد فازدادت به معرفة لربها، ومحبة له، وطمأنينة به، وشوقًا إليه، ولهجًا بذكره، وشهودًا لبره، ولطفه، وكرمه، وإحسانه، ومطالعة لسر العبودية، وإشرافًا على حقيقة الإلهية، وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرابُهُ، فَأَيسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ)
(1)
(2)
.
محبة الله للتوابين: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، فالطهر في حقيقته طهران: طهر بالماء من الأحداث والنجاسات، وطهر بالتوبة من الشرك والمعاصي، وهذا الطهور أصل لطهور الماء، وطهور الماء لا ينفع بدونه، بل هو مكمل له، معد مهيأ بحصوله، فكان أولى بالتقديم.
تبديل السيئات حسنات: وذلك من فضل الرب سُبْحَانَهُ على عباده، ورحمته بهم، فطوبى للتائب قبول الرب لتوبته، وفرحه بها، وتبديل خطاياه إلى
(1)
سبق تخريجه (ص 51).
(2)
مدارج السالكين (1/ 209).
واختلف أهل العلم في معنى تبديل السيئات إلى حسنات، على أقوال، منها:
أنهم بدلوا مكان عمل السيئات عمل الحسنات، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية، أنه قال:«هم المؤمنون، كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن السيئات، فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات»
(1)
.
إن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار، فيوم القيامة وإن وجده مكتوبًا عليه فإنه لا يضر به، وينقلب حسنة في صحيفته، واستدلوا على هذا بما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا الجَنَّةَ، وآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ
(1)
تفسير القاسمي (7/ 438).
عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَا هُنَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ»
(1)
.
الفلاح والفوز إنما يكون بالتوبة، يقول الله تَعَالَى:{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67]، والذنوب سبب تسليط الأعادي على العبد، يقول تَعَالَى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقال لخير الخلق وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وفي الدعاء المشهور الذي أخرجه البخاري رحمه الله في الأدب المفرد:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ»
(2)
.
المتاع الحسن: يقول الله تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3].
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: «والظاهر أن المراد بالمتاع الحسن: سعة الرزق، ورغد العيش، والعافية في الدنيا، وأن المراد بالأجل المسمى: الموت، ويدل لذلك قوله تَعَالَى في هذه السورة الكريمة- يعني: سورة هود- عن نبيه
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(190).
(2)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(716)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الأدب المفرد، رقم الحديث:(716).
هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]»
(1)
.
الخروج من الدرع الضيقة التي يلبسها العاصي، فإن المذنب تحيط به ذنوبه من جميع الجهات حتى تهلكه، ولا ينفك المؤمن منها إلا بالتوبة النصوح، وإبدال السيئة حسنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السِّيَئَاتِ، ثُمَّ يَعْمَلُ الحَسَنَاتِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً، فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً أُخْرَى، فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ أُخْرَى، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الأَرْضِ»
(2)
.
ثالثًا: شروط التوبة:
للتوبة شروط ثلاثة، وهي: «الإقلاع، والندم، والعزم على أن لا يعود، والتعبير بالرجوع عن الذنب لا يفيد معنى الندم، بل هو إلى معنى الإقلاع أقرب، وقال بعضهم: يكفي في التوبة تحقق الندم على وقوعه منه، فإنه يستلزم الإقلاع عنه، والعزم على عدم العود، فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه، ومن ثم جاء الحديث (النَّدَمُ تَوْبَةٌ)
(3)
»
(4)
.
(1)
أضواء البيان (2/ 170).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(17307)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(2192).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
فتح الباري، ابن حجر (13/ 471).
ولا بد أن تكون التوبة صادقة نصوحًا حتى يقبلها الله عز وجل وينتفع بها العبد، وقد ذكر العلماء تفصيلًا لهذه الشروط، ومن ذلك ما ذكره الراغب الأصفهاني رحمه الله في المفردات، حيث يقول رحمه الله تَعَالَى:«التوبة هي ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار؛ فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو فعلت وأسأت وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة»
(1)
.
رابعًا: تحقيق مرتبة التوبة النصوح لله تعالى:
لا بد للعبد- ليكون من التائبين- أن يستحضر عدة أمور ويستشعرها، ويحرص أن لا تغيب عن ذهنه، ومنها:
1 - معرفة الرب سُبْحَانَهُ:
ومعرفته تَعَالَى نوعان، وهما:
الأول: معرفة إقرار، وهي التي اشترك فيها الناس: البر والفاجر والمطيع والعاصي، والثاني: معرفة توجب الحياء منه، والمحبة له، وتعلق القلب به، والشوق إلى لقائه، وخشيته، والإنابة إليه، والأنس به، والفرار من الخلق إليه.
ولهذه المعرفة بابان واسعان، وهما: التفكر والتأمل في آيات القرآن كلها، والفهم الخاص عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتفكر في آياته المشهودة، وتأمل حكمته فيها وقدرته ولطفه وإحسانه وعدله وقيامه بالقسط، وجماع ذلك الفقه في معاني أسمائه الحسنى وجلالها وكمالها
(2)
.
(1)
مفردات ألفاظ القرآن، الأصفهاني (1/ 149).
(2)
ينظر: الفوائد، لابن القيم (ص 170).
2 - الاستعظام لا الاستحقار:
فالذنوب في حقيقتها استجابة لداعي الشيطان الذي تحدى سيدك ومولاك، فقال:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16]، فقال الرب سُبْحَانَهُ:{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18].
واحتقار الذنب- بل والفرح به- دليل على شدة الرغبة فيه، والجهل بقدر من عصي، والجهل بسوء عاقبة المعصية، وعظم خطرها، فالفرح بالمعصية أشد ضررًا من مواقعتها، والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبدًا، ولا يكمل بها فرحه، بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه، ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به، ومتى خلا قلبه من هذا الحزن، واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه، وليبك على موت قلبه، فإنه لو كان حيًّا لأحزنه ارتكابه الذنب، وغاظه، وصعب عليه، ولذا يقول الله تَعَالَى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128].
والمتأمل في قوله: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} يدرك أن الإنس تطيع شياطين الجن وتنقاد إليها، حتى صار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع والخادمين، ولا شك أن هذا الرئيس قد انتفع بهذا الخادم، فهذا استمتاع الجن بالإنس، وأما استمتاع الإنس بالجن، فهو أن الجن كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات واللذات المحرمة، ويسهلون تلك الأمور عليهم، وهذا استمتاع
الإنس
(1)
، والشيطان يريد أن يظفر بالإنسان في عقبة من سبع عقبات بعضها أصعب من بعض، لا ينزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها، وهذه العقبات هي:
العقبة الأولى: الكفر بالله وبدينه، وإن ظفر بالإنسان في هذه العقبة؛ بردت نار عداوته واستراح.
العقبة الثانية: البدعة إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله، وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله من الأوضاع والأمور المحدثة في الدين، والبدعتان في الغالب متلازمتان قل أن تنفك إحداهما عن الأخرى، فإن قطع هذه العقبة وخلص منها بنور السنة، واعتصم منها بحقيقة المتابعة، انتقل به إلى العقبة الثالثة.
العقبة الثالثة: الكبائر، فإن ظفر به فيها زينها له، وحسنها في عينه، وسوَّف به. فترى العبد يشرب الخمر لا يبالي، ثم هو يزني، ثم هو يقتل النفس التي حرم الله وهكذا دواليك، فإن قطع هذه العقبة بعصمة من الله، أو بتوبة نصوح تنجيه منها؛ طلبه على العقبة الرابعة.
العقبة الرابعة: الصغائر، فيقول له: ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللمم، أو ما علمت بأنها تكفر باجتناب الكبائر، وبالحسنات، ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يصر عليها؛ فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالًا منه، فالإصرار على الذنب أقبح منه، فمن المعلوم أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع الإصرار.
(1)
في قوله: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أقوال آخر. ينظر: التفسير الكبير (13/ 157)، الدر المنثور (3/ 357).
أخرج الإمام أحمد في المسند، من حديث سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ»
(1)
، فإن نجا العبد من هذه العقبة بالتحرز والتحفظ ودوام التوبة والاستغفار، وأتبع السيئة الحسنة؛ طلبه الشيطان على العقبة الخامسة.
العقبة الخامسة: المباحات التي لا حرج على فاعلها، فشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد في التزود لمعاده، ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن، ثم من ترك السنن إلى ترك الواجبات، فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة، ونور هاد، ومعرفة بقدر الطاعات والاستكثار منها، فبخل بأوقاته، وضنَّ بأنفاسه أن تذهب في غير ربح، طلبه العدو على العقبة التي تليها.
العقبة السادسة: الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمره بها، وحسنها في عينه، وزينها له، وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها، وأعظم كسبًا ورجاءً؛ لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل.
العقبة السابعة: تسليط جنده عليه بأنواع الأذى باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير، فكلما علت مرتبة أجلب عليه العدو بخيله ورجله، وظاهر عليه بجنده، وسلط عليه حزبه
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22808)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(2686).
(2)
ينظر: مدارج السالكين (1/ 612 - 226).
3 - إحكام الإغلاق:
فلشيطان مداخل على الإنسان، جماعها أربعة أبواب، لا بد من إغلاقها وتعاهدها أيضًا، فإنه متى فتح الباب؛ ولج الشيطان معه ليفسد دين المرء.
وهذه الأبواب هي: النظرة، والخطرة، واللفظة، والخطوة
(1)
.
4 - مجالسة الأخيار:
فالتائب حديث عهد بتوبة، وللشهوات طغياتها، وللأهواء مغرياتها، فوجود الصاحب أمر ضروري، ليذكره إذا نسي، ويعظه إذا هم بسوء، ويعينه على طاعة ربه ومرضاته، ثم إن مجالسة الأخيار حماية للتائب من الخلوة والوقوع في أسر الخواطر، وهي ميدان للمنافسة في الخيرات، والمسابقة لصنوف الطاعات.
والصديق له تأثير كبير على صديقه؛ لكثرة مخالطته، وشدة ملازمته، وصحبته تمتد مع العبد في دنياه وآخرته، فكما أنه ليس كل بيت يصلح للسكنى، ولا كل راحلة تصلح للركوب، فكذلك أبناء آدم لا يصلح كلهم للصحبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً»
(2)
.
يقول ابن حجر رحمه الله: «
…
فالمعنى: لا تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب؛ لأن الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئًا سهل الانقياد،
(1)
سبق بيانها في اسم الله البصير، فتراجع.
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6498)، ومسلم، رقم الحديث:(2547).
وكذا لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة بأن يعاون رفيقه، ويلين جانبه
…
»
(1)
.
وأخبر الرب سُبْحَانَهُ في كتابه أن الابتعادَ عن سبيل الرسول، والضلالةَ إنما يكون بسبب صحبة السوء، فيعض الظالم على يديه يوم القيامة حسرة وأسفًا، يقول سُبْحَانَهُ:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29]، بل إن الرابطة بين أهل الشر تمتد حتى بعد دخول النار؛ لكن تنقلب إلى عداوة وبغضاء، يقول الله تَعَالَى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت: 29].
وإذا كان ما مضى من الأدلة فيه تحذير من صحبة الأشرار؛ فإن الشرع حث على صبر النفس مع الأخيار، ونهى عن أن تعدو عين المسلم عنهم، يقول الله تَعَالَى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
ومن صحب أهل الخير علا ذكره، وارتفع شأنه في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يقول الله تَعَالَى:{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22]، فرفع الله ذكر الكلب لما صحب أهل الخير.
(1)
فتح الباري (11/ 335).
أما في الآخرة، فهم أهل الوفاء ولا غرو، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري مطولًا، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا
…
»
(1)
.
5 - مفارقة دواعي المعصية:
لا بد للتائب من مفارقة دواعي المعصية أيًّا كانت؛ صديقًا، أو مجلسًا، أو آلة! ذلك أن وجود التائب في مكان المعصية، يذكره بها، ويحرك في نفسه الداعي إليها، فيقع في حبال الشهوة، ويدخل أسر الشيطان بعد أن خرج منه، ولا تزال نفسه الأمارة بالسوء تراوده حتى يعصي ربه، يقول تَعَالَى في ذلك:{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 97] يقول الشيخ السعدي في تفسيره: «ففعل موسى ذلك، فلو كان إلهًا لامتنع ممن يريده بأذى، ويسعى له بالإتلاف، وكان قد أشرب العجل في قلوب بني إسرائيل، فأراد موسى عليه السلام إتلافه وهم ينظرون على وجه لا تمكن إعادته بالحرق والسحق وذره في اليم ونسفه؛ ليزول ما في قلوبهم من حبه كما زال شخصه، ولأن في إبقائه محنة»
(2)
، مع أن العجل كان من الحلي، إلا أن موسى لم يتردد في إزالته؛ لما في بقائه من الفتنة.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(183).
(2)
تفسير السعدي (1/ 512).
وكذا في دعوة يوسف: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33 - 34]، فاختار عليه الصلاة والسلام السجن على المعصية، ولجأ إلى الله، واحتمى بحماه، وسأله أن يخلصه من أسباب المعاصي، فاستجاب له السميع العليم سُبْحَانَهُ.
(1)
.
فالحديث يشير إلى أن هجر التائب للبيئة السيئة أمر لا بد له منه، وذلك حرصًا على التائب، وخوفًا عليه من الانحدار إلى قاع الرذيلة، بعد أن رفعه الله لقمَّة الطهر.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2766).
6 - محاسبة النفس:
فلا بد للتائب أن يعيش بين محاسبتين، محاسبة قبل توبته تقتضي وجوبها، ومحاسبة بعدها تقتضي حفظها، فالتوبة محفوظة بمحاسبتين، وقد دل عليها قوله تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
[الحشر: 18].
فأمر سُبْحَانَهُ العبد أن ينظر ما قدم لغد، والمقصود من هذا النظر هو ما يوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعاد، وتقديم ما ينجيه من عذاب الله، ويبيض وجهه عند الله، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:«حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية»
(1)
.
7 - التزام العمل الصالح:
فقد نص القرآن الكريم في آيات كثيرة على العمل الصالح وقرنه بالتوبة، يقول تَعَالَى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 60]، وقال جل جلاله:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وقال أيضا:{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67]، وأمر الرب سُبْحَانَهُ خليله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم فقال:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8].
يقول ابن كثير رحمه الله: «أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة، رقم الحديث:(34459)، حكم الألباني: موقوف، السلسلة الضعيفة، رقم الحديث:(1201).
علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطًا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة
…
»
(1)
، ومن المعلوم أن العمل الصالح يعين التائب على الاستمرار على توبته، وذلك لأسباب، منها:
1 -
أن العمل الصالح بديل عملي لما كان يقترفه من الذنوب، وينشئ في النفس تعويضًا إيجابيًّا للإقلاع عن المعصية، وإلا حنت النفس إلى الخطيئة بتأثير الفراغ الذي تحسه بعد الإقلاع، وقديمًا قيل: النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
2 -
من المتقرر أن المعصية تضعف القلب عن إرادة الخير، والطاعة ضدها تقوي القلب على إرادة الخير، فبالعمل الصالح تقوى إرادة الطاعات عند التائب، ويشعر بلذة المناجاة، وتصير الطاعة في قلبه هيئة راسخة، وصفة لازمة، وملكة ثابتة، فلو عطل المحسن الطاعة ضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت، إذا فارق الماء حتى يعاودها، فتسكن نفسه، وتقر عينه.
(2)
.
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 527).
(2)
الجواب الكافي (ص 56).
8 - مداومة الاستغفار:
فالذنوب والخطايا إن أحاطت بقلب أيها الإنسان سودَّته، والاستغفار أداة فعالة في تنقيته وتطهيره، فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا قال:«إِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ، زَادَتْ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]»
(1)
.
والعبد إذا استغفر ربه وكان صادقًا في استغفاره غفر الله تَعَالَى له، يقول تَعَالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]، فضلًا على أن كثرة الاستغفار تولد القوة في نفس التائب، وبذلك يصبح قوي الإرادة، يقول الله تَعَالَى:{وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]، وإطلاق القوة في الآية: يشمل الروحية والجسمية، كذلك كثرته تفتح أبواب الرزق، وتبعد الهم والحزن، يقول تَعَالَى في سورة نوح:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].
ولذلك كان من هديه صلى الله عليه وسلم كثرة الاستغفار، وهو الذي غفر له ربه ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3334)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4244)، حكم الألباني: حسن، صحيح سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(4244).
لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»
(1)
.
9 - الدعاء:
فالدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، ومن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة، فإن الله سُبْحَانَهُ يقول:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ويقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، ويقول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ»
(2)
.
10 - الحذر من الشماته بالآخرين:
فكل معصية عيرت بها فهي إليك، يقول ابن القيم رحمه الله:«وأيضًا ففي التعيير ضرب خفي من الشماتة بالمعير، وفي الترمذي أيضًا- مرفوعًا: «لَا تُظْهِر الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ، فَيَرْحَمهُ اللهُ وَيَبْتَلِيكَ»
(3)
، ويحتمل أن يريد تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثمًا من ذنبه، وأشد من معصيته؛ لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وإن أخاك باء به، ولعل كسرته بذنبه، وما أحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه، والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي الله ناكس الرأس، خاشع
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2702).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3373)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3373).
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2506)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 168)، حكم الألباني: ضعيف، السلسلة الضعيفة، رقم الحديث:(5426).
الطرف، منكسر القلب، أنفع له وخير من صولة طاعتك، وتكثرك بها، والاعتداد بها، والمنة على الله وخلقه بها، فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله، وما أقرب هذا المدل من مقت الله، فذنب تذل به لديه أحب إليه من طاعة تدل بها عليه، وإنك إن تبت نائمًا وتصبح نادمًا، خير من أن تبت قائمًا وتصبح معجبًا، فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك إن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مدل، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المدلين، ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داء قاتلًا هو فيك، فلا تشعر»
(1)
.
11 - قراءة سير الصالحين:
فقد قص الله في كتابه كثيرًا من قصص الأنبياء والصالحين، وأمر بأخذ العظة والعبرة من أحوالهم، وما جرى لهم، فقال تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وقال تَعَالَى:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: 43]، وقال تَعَالَى:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، وقال تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فقراءة سير الصالحين تبعث الهمة، وتوقظ العزيمة، وتدعو العبد أن يقتدي بهم في المتاب.
(2)
.
(1)
مدارج السالكين (1/ 177).
(2)
قاله ابن حزم في الأخلاق والسير (ص 24).
12 - حسن الظن بالله:
لقد حث الرب سُبْحَانَهُ عباده على الرجاء وحسن الظن به وعدم اليأس من رحمته، فقال تَعَالَى في كتابه:{وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وقال تَعَالَى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
يقول ابن القيم رحمه الله: «فمن كان رجاؤه هاديًا له إلى الطاعة، وزاجرًا له عن المعصية فهو رجاء صحيح، ومن كانت بطالته رجاء، ورجاؤه بطالة وتفريطًا فهو المغرور، ولو أن رجلًا كانت له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه، فأهملها ولم يبذرها ولم يحرثها، وحسن ظنه بأنه يأتي من مغلها ما يأتي من حرث وبذر وسقى وتعاهد الأرض، لعده الناس من أسفه السفهاء.
وكذلك لو حسن ظنه، وقوي رجاؤه، بأن يجيئه ولد من غير جماع، أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب للعلم وحرص تام عليه، وأمثال ذلك، فكذلك من حسن ظنه، وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلا والنعيم من غير تقرب إلى الله تَعَالَى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وبالله التوفيق»
(1)
.
اللهم تب علينا، واغفر لنا خطايانا وجهلنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنَّا وما أسررنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير.
(1)
الجواب الكافي (ص 41).
الجبَّار جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الجبر: أن تغني الرجل من فقر، أو تصلح عظمه من كسر. يقال: جبرت العظم جبرًا، وجبر العظم بنفسه جبورًا، أي: انجبر»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(جبر) الجيم والباء والراء أصل واحد، وهو جنس من العظمة والعلو والاستقامة، فالجبار: الذي طال وفات اليد، يقال: فرس جبار، ونخلة جبارة، وذو الجبورة وذو الجبروت: الله جل ثناؤه»
(2)
.
ورود اسم الله (الجبار) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (الجبار) في حق الله مرة واحدة في القرآن، وهي:
(1)
الصحاح (2/ 170).
(2)
مقاييس اللغة (1/ 501).
ورود اسم (الجبار) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الجبار) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ القِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ، نُزُلًا لِأَهْلِ الجَنَّةِ، فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بَلَى، قال: تكون الأرض خبزةً واحدةً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، ثم ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: إدامهم بالام ونون، قالوا: وما هذا؟ قال: ثور ونون، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفًا»
(1)
.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وهو يقول: يَأْخُذُ الجبار عز وجل سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ
…
»
(2)
.
معنى اسم الله (الجبار) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23]: «المصلح أمور خلقه، المصرفهم فيما فيه صلاحهم»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6520)، ومسلم، رقم الحديث:(2792).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2788).
(3)
تفسير الطبري (22/ 554).
قال الشوكاني رحمه الله: «الجبار جبروت الله: عظمته، والعرب تسمي الملك الجبار»
(1)
.
قال السعدي رحمه الله: «الجبار هو بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى القهار، وبمعنى الرؤوف الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به ولجأ إليه»
(2)
.
قال ابن عثيمين رحمه الله: «الجبار له ثلاثة معان:
الأول: جبر القوة، فهو الجبار الذي يقهر الجبابرة ويغلبهم بجبروته وعظمته، فكل جبار وإن عظم فهو تحت قهر الله عز وجل وجبروته وفي يده وقبضته.
الثاني: جبر الرحمة، فإنه سُبْحَانَهُ يجبر الضعيف بالغنى والقوة، ويجبر الكسير بالسلامة، ويجبر المنكسرة قلوبهم بإزالة كسرها، وإحلال الفرج والطمأنينة فيها، وما يحصل لهم من الثواب والعاقبة الحميدة إذا صبروا على ذلك من أجله.
الثالث: جبر العلو فإنه سُبْحَانَهُ فوق خلقه عال عليهم، وهو مع علوه عليهم قريب منهم يسمع أقوالهم، ويرى أفعالهم، ويعلم ما توسوس به نفوسهم
(3)
.
(1)
فتح القدير (5/ 208).
(2)
تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن (5/ 301).
(3)
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثمين (1/ 106).
قال ابن القيم رحمه الله:
وَكَذَلِكَ الجَبَّارُ مِنْ أَوْصَافِه
…
وَالجَبْرُ فِي أَوْصَافِهِ نَوْعَانِ
جَبْرُ الضَّعِيفِ وَكُلِّ قَلْبٍ قَدْ غَدَا
…
ذَا كَسْرَةٍ فَالجَبْرُ مِنْهُ دَانِ
والثَّانِي جَبْرُ القَهْرِ بِالعِزِّ الَّذِي
…
لَا يَنْبَغِي لِسِوَاهُ مِنْ إِنْسَانِ
وَلَهُ مُسَمًّى ثَالِثٌ وَهوَ العُـ
…
ـلُوُّ فَلَيْسَ يَدْنُو مِنْهُ مِنْ إِنْسَانِ
مِنْ قَوْلِهِمْ جَبَّارَةٌ لِلنَّخْلَةِ العُلْيَـ
…
ـا الَّتِي فَاتَتْ لِكُلِّ بَنَانِ
(1)
اقتران اسم الله الجبار بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
- اقتران الجبار باسمي العزيز والمتكبر:
اقرن بهما في موضع واحد، وهو قوله تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].
(1)
النونية (ص 209).
وجه الاقتران:
يقول ابن القيم رحمه الله: «فالجبار اسم من أسماء التعظيم كالمتكبر والملك، والعظيم والقهار، قال ابن عباس في هذه الآية: هو العظيم وجبروت الله عظمته»
(1)
، فكلها من أسماء التعظيم لله سُبْحَانَهُ.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله الجبار:
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الجبار) من الصفات، ودلالته على التوحيد:
الله تَعَالَى هو الجبار القهار العزيز العلي، الذي له العلو والعزة على خلقه، لا يدنو منه الخلق، ولا يشفعون ولا يتكلمون إلا من بعد إذنه، لن يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، فالجبار من أوصافه يرجع إلى كمال القدرة والعزة والملك، ولهذا كان من أسمائه الحسنى.
وقد مدح الله بهذا الاسم نفسه، وأما في حق الخلق فهو مذموم؛ فالله سُبْحَانَهُ قهر الجبابرة وعلاهم بعظمته، فلا يجري عليه حكم حاكم فينقاد، ولا أمر آمر فيلزمه الامتثال، بل هو آمر غير مأمور، قاهر غير مقهور، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
ينقسم جبروت الجبار سُبْحَانَهُ بحسب الزمان إلى قسمين: جبروت في الدنيا، وجبروت في الآخرة.
(1)
شفاء العليل (ص 121).
أولًا: جبروته سُبْحَانَهُ في الدنيا:
الجبار سُبْحَانَهُ قهر الظالمين، وقصم الجبابرة المعتدين، فكل من طغى وبغى، وعصى ربه وغوى، فاستحق من الجبار العقاب، يقول سُبْحَانَهُ في حال الأقوام السابقة:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]، وفي سورة القمر جاء تفصيل العذاب لبعضهم، فيقول تَعَالَى:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 9 - 24].
أما قهر الجبار لأعيان الجبابرة، فمن شواهد ذلك:
فرعون:
الذي طفق في قتل أبناء بني إسرائيل؛ ليحافظ على ملكه، ولكن الجبار أراد أن يتربى موسى أحد أبناء بني إسرائيل في قصره، ويكبر تحت عينه ورعايته، ويكون عدوًّا وحزنًا عليه، ويكون هلاك فرعون على يده، يقول تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا
تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 7 - 8].
النمرود:
الذي قال عنه سُبْحَانَهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، فهذا الجبار قال عنه زيد بن أسلم:«بعث الله عليه بعوضة، فدخلت في منخره، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه، وكان جبارًا أربعمائة عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، وأماته الله»
(1)
.
أخوة يوسف:
أرادوا رميه في الجب، ولكن الجبار أراد أن يكون عزيز مصر، يقول تَعَالَى:{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10].
كفار قريش:
حين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وهي أحب البقاع إليه، ولكن الجبار رزقه بالمدينة وأهلها، وفتح له مكة، يقول تَعَالَى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1].
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 566).
وما زال جبروت الجبار للجبابرة يتكرر وإن اختلفت أشخاصهم وأماكنهم، والسعيد من اعتبر بغيره.
ثانيًا: جبروته تَعَالَى في الآخرة:
من تأمل في جبروت الله سُبْحَانَهُ ازدادت عظمة الله في قلبه، فالأرض كلها بجبالها وأنهارها، وبحارها وأرضها، وأشجارها وأحجارها، وبيوتها وقصورها، كلها خبزة بيد الجبار يوم القيامة!
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ القِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الجَبَّارُ بِيَدِهِ، كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ، نُزُلًا لِأَهْلِ الجَنَّةِ»
(1)
، وفي حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده، ويحركها، يقبل بها ويدبر: يُمَجِّدُ الرَّبُّ نَفْسَهُ، أَنَا الجَبَّارُ، أَنَا المُتَكَبِّرُ، أَنَا المَلِكُ، أَنَا العَزِيزُ، أَنَا الكَرِيمُ، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرن به»
(2)
.
وهذا الجبروت والقهر للكفار والمكذبين أعظم وأكبر من جبروته تَعَالَى في الدنيا، فقد توعد سُبْحَانَهُ الجبابرة بالعذاب الشديد؛ فقال: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(2414)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(7696)، حكم الألباني: صحيح، التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، رقم الحديث:(728).
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 15 - 16]، ولن يعرف العبد هذا حتى يعلم أن نار جهنم هي أعظم مايعذب الجبار بها أعدائه- أجارنا الله وإياكم منها-.
ومن صور العذاب بتلك النار
(1)
:
1 -
إنضاج الجلود:
فنار الجبار تبارك وتعالى تحرق جلود أهلها، والجلد موضع الإحساس بألم الاحتراق، ولذلك فإن الله يبدل لهم جلودًا أخرى غير تلك التي احترقت، لتحترق من جديد، وهكذا، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56].
2 -
الصهر:
وهو صب الحميم فوق رؤوسهم، والحميم هو ذلك الماء الذي انتهى حره، فلشدة حره تذوب أمعاؤهم وما حوته بطونهم، يقول تَعَالَى:{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19].
3 -
اللفح:
فالنار تلفح وجوههم إهانة لهم، وتغشاها أبدًا، لا يجدون حائلًا يحول بينهم وبينها، يقول سُبْحَانَهُ:{لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء: 39]،
(1)
انظر: اليوم الآخر، لعمر الأشقر (3/ 97 - 105).
وقال: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66].
4 -
السحب:
فسحب الكفار على وجوههم في النار، يقول تَعَالَى:{فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24].
5 -
تسويد الوجوه:
فيسود الله وجوه أهل النار، يقول تَعَالَى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106].
6 -
اطلاع النار على الأفئدة:
فالنار تدخل في أجسادهم حتى تصل إلى أعمق شيء فيهم، قال تَعَالَى:{كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: 4 - 7].
7 -
قيود أهل النار وأغلالهم وسلاسلهم ومطارقهم:
أعد الجبار لأهل النار سلاسلًا وأغلالًا وقيودًا ومطارق، قال تَعَالَى:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان: 4]، والأغلال توضع في الأعناق {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 33]، والأنكال: القيود، سميت أنكالًا؛ لأن الله يعذبهم وينكل بهم بها، {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا} [المزمل: 12]، والسلاسل نوع آخر من ألوان العذاب التي يقيد بها المجرمون كما يقيد المجرمون في الدنيا، وأعد الله لهؤلاء
مقامع من حديد، وهي المطارق التي تهوي على المجرمين وهم يحاولون الخروج من النار، فإذا بها تطيح بهم مرة أخرى إلى سواء الجحيم، قال تَعَالَى:{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 21 - 22].
8 -
قرن معبوداتهم وشياطينهم بهم في النار:
فقد كان الكفار والمشركون يعظمون الآلهة التي يعبدونها من دون الله، ويدافعون عنها، ويبذلون في سبيل ذلك النفس والمال، وفي يوم القيامة يدخل الحق تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها من دونه للنار؛ إهانة لعابديها وإذلالًا لهم، ليعلموا أنهم كانوا ضالين، قال تَعَالَى:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].
وشواهد القرآن ملأى بجبروته سُبْحَانَهُ في الآخرة لمن تجبر، فعلى المرء أن يتعوذ بالله من عذابه، وأن يتقيه.
وحري بمن عرف اسم الله الجبار، وآمن به أن يوحده سُبْحَانَهُ بألوهيته وربوبيته ويستغني بجبره وقوته وعزته وكرمه وعدله عن سائر الخلق، ويسأله وحده سُبْحَانَهُ جبر الدنيا والآخرة.
كما أن اسم الله الجبار دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال على الأسماء والصفات؛ إذ يدل على اسم الله القوي، والعزيز، والكبير المتكبر إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
الأثر الثاني: لا راد لأمر الله:
فالله تَعَالَى لا يقع في ملكه إلا ما يريد وما يشاء؛ فهو الجبار الذي تنفذ مشيئته جبرًا، وتظهر أحكامه قهرًا، ولا يخرج أحد عن قبضة تقديره ولا ينفذ أحد من مشيئته في تقديره وأحكامه، وليس ذلك إلا لله، ذي العزة والمنعة في القدر والقهر، يقول تَعَالَى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، ويقصد بالإرادة هنا: الإرادة الكونية.
ولذا لا بد من الإشارة إلى الفرق بين الإرادة الكونية القدرية، والإرادة الشرعية الدينية باختصار، كالتالي:
1 -
الإرادة الكونية:
وهي مطابقة للمشيئة، والمقصود بها: أن كل ما يحصل في هذا الكون فهو بمشيئة الله وقدره وخلقه، ومن هنا سميت بالإرادة الكونية والقدرية والخلقية، وهذه الإرادة لا يخرج عنها شيء مهما كان صغيرًا؛ قال تَعَالَى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، فهي تشمل النفع والضر، الطاعة والمعصية؛ يقول تَعَالَى:{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11]، ويقول أيضًا:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
2 -
الإرادة الشرعية:
وهي مطابقة للمحبة، والمقصود بها: أن كل ما يشرعه الله من الأحكام ويأمر به فهو مراد لله، بمعنى: محبوب له تَعَالَى، ويمثل دينه الذي ارتضاه،
ومن هنا سميت بالشرعية والأمرية والدينية، وهذه الإرادة قد تتحقق كحصول الإيمان من المؤمن، وقد لا تتحقق كحصول الكفر من الكافر، فالله تَعَالَى لا يريد الكفر، بمعنى: لا يحبه ولا يرضيه ذلك، ومع ذلك أوقعه بإرادته الكونية؛ قال تَعَالَى في الإرادة الشرعية:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
وعلى هذا فإن قال قائل: هل أراد الله الكفر؟ الجواب: بالإرادة الكونية نعم، أراده، ولو لم يرده الله لم يقع، فالإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد، والشرعية لا يلزم، أيضًا الإرادة الكونية عامة فيما يحبه تَعَالَى وما لا يحبه، أما الشرعية فتختص فيما يحبه الله سُبْحَانَهُ فقط
(1)
.
فالله سُبْحَانَهُ جبر خلقه على ما شاء من أمر أو نهي، بمعنى: أنه شرع لهم من الدين ما ارتضاه هو، فشرع لهم الشرائع، وأمرهم باتباعها ونهاهم عن العدول عنها، فمن أطاع فله الجنة، ومن عصى فله النار، ولم يجبر أحدًا من خلقه على إيمان أو كفر، بل ترك لهم المشيئة في ذلك.
يقول ابن القيم رحمه الله: «فالجبر معناه: القهر والقدرة، وأنه سُبْحَانَهُ قادر على أن يفعل بعبده ما شاء، وإذا شاء منه شيئًا وقع ولا بد، وإن لم يشأ لم يكن، ليس كالعاجز الذي يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، والفرق بين هذا الجبر وجبر المخلوق لغيره من وجوه:
أحدها: أن المخلوق لا قدرة له على جعل الغير مريدًا للفعل محبًّا له، والرب تَعَالَى قادر على جعل عبده كذلك.
(1)
ينظر: شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين (ص 222).
الثاني: أن المخلوق قد يجبر غيره إجبارًا يكون به ظالمًا معتديًا عليه، والرب أعدل من ذلك؛ فإنه لا يظلم أحدًا من خلقه، بل مشيئته نافذة فيهم بالعدل والإحسان»
(1)
.
فحين يستشعر العبد هذا المعنى كان عبد الله الطائع له، المتبع لما شرعه، المؤتمر بأمره، والمنتهي عن نهيه، وسلَّم لقضاء الله وقدره، متيقنًا أن ما أراده الله له هو خير لا شك في ذلك، يقول صلى الله عليه وسلم في حال المؤمن:«عَجَبًا لِأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»
(2)
.
الأثر الثالث: الجبار سُبْحَانَهُ جابر كل كسير:
الجبار سُبْحَانَهُ ملاذ لكل عباده، كل بحسب ضعفه وحاجته وفقره، لا ناصر غيره، ولامؤمن سواه سُبْحَانَهُ، يجبر المرض بالعافية، والفقد بالعوض، والعسر باليسر، ويجبر كل محتاج بحسب حاجته.
ومن شواهد جبر الجبار لعباده ما يلي:
جبره سُبْحَانَهُ لحرقة قلب المظلوم، وأخذ حقه ولو بعد حين، ففي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]»
(3)
.
(1)
شفاء العليل (ص 129).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2999).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4686)، ومسلم، رقم الحديث:(2563).
جبره سُبْحَانَهُ للمنكسرة قلوبهم بالفقد، وتعويضهم بالعاقبة الحسنة والثواب الجزيل إن صبروا واحتسبوا، فيقول سُبْحَانَهُ:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].
وعن أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» ، قالت: فلما توفي أبو سلمة، قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيرًا منه، رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
جبره سُبْحَانَهُ للتائبين بأن يقبل توبتهم، ويقيل عثرتهم، ويغفر زلتهم، يقول سُبْحَانَهُ:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17].
جبره سُبْحَانَهُ لقلوب اليتامى حتى يهون عليهم ألم الفقد، فيقول سُبْحَانَهُ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220].
جبره سُبْحَانَهُ لخاطر الخدم والعمال، بأن فرض لهم حقوقًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأرقاء: «أَرِقَّاءَكُمْ أَرِقَّاءَكُمْ أَرِقَّاءَكُمْ، أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(918).
تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، فَإِنْ جَاءُوا بِذَنْبٍ لَا تُرِيدُونَ أَنْ تَغْفِرُوهُ فَبِيعُوا عِبَادَ اللهِ، وَلَا تُعَذِّبُوهُمْ»
(1)
.
ومن آمن بكل ما تقدم علم أن الجبار جل جلاله يدعوك كل ليلة ليجبرك، ويقضي حاجتك، ويعطيك مرادك، ففي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:«يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ، حِينَ يُمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلِ، فَيَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَنَا المَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ، فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الفَجْرُ»
(2)
.
الأثر الرابع: محبة الجبار سُبْحَانَهُ:
من آمن بأنه سُبْحَانَهُ الجبار القوي الذي لا يغلبه أحد، والجبار الذي يجبر الضعيف بالغنى، ويجبر الكسير بالسلامة، ويجبر المنكسرة قلوبهم بإزالة كسرها، وإحلال الفرج والطمأنينة فيها، والجبار العالي على خلقه، القريب منهم، يجيب دعاءهم، ويعلم حالهم- من آمن بهذه المعاني العظيمة استقرت محبة الله في قلبه، وقوي رجاؤه به جل جلاله.
الأثر الخامس: الجبروت صفة لله وحده:
إن العبد إذا علم أن الجبروت صفة لله وحده؛ أدرك ضعفه وعجزه وخاف ربه، ففي الحديث القدسي:«قَالَ اللهُ عز وجل: الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، والعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(16409)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(636)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(907).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(758).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(9359)، وأبو داود، رقم الحديث:(4090)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(4311).
ولذا أنكرت الرسل على أقوامهم صفة التجبر والتكبر في الأرض بغير الحق، كما قال سُبْحَانَهُ حكاية عن هود عليه السلام:{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 130 - 140]، ولكنهم عاندوا واتبعوا أمر جبابرتهم، فهلكوا أجمعين؛ قال تَعَالَى:{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59].
وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا- من العذاب العظيم الذي يلحق كل من تجبر وتكبر، فقال:«يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ»
(1)
(2)
.
بل أخبر صلى الله عليه وسلم عن محاورة الجنة والنار في شأن الجبابرة المتكبرين، ففي الحديث:«احْتَجَّتِ النَّارُ، وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتْ: هَذِهِ يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ: هَذِهِ يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، فَقَالَ اللهُ عز وجل لِهَذِهِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ - وَرُبَّمَا قَالَ: أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ - وَقَالَ لِهَذِهِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(6677)، والترمذي، رقم الحديث:(2492)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(8040).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8430)، والترمذي، رقم الحديث:(2574)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(512).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2846).
فحري بالمؤمن بعد هذه الأدلة أن يتواضع لخلق الله ويساعدهم، ويقتدي بنبيه صلى الله عليه وسلم فقد كان أشد الناس تواضعًا، خافضًا لجناحه، رحيمًا بأصحابه، كان يركب الحمار، ويتفقد خادمة المسجد، بل وقصد قبرها فصلى عليها، وكان يباشر الفقراء والمساكين، ويخالط الأعراب لأجل تعليمهم وإرشادهم، ويسلم على الصبيان ويلاطفهم، وكان متواضعًا في طعامه وهيئته ومسكنه، يأكل على الأرض ويفترش الحصير، ويتوسد الرمل، ليس له حاجب يمنع الناس عنه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول:«إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَّي وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي يَوْمَ القِيَامَةِ: الثَّرْثَارُونَ، والمُتَشَدِّقُونَ، والمُتَفَيْهِقُونَ، قالوا: يارسول الله ما المتفيهقون؟ قال: المُتَكَبِّرُونَ»
(1)
، ومن وصايا سلمان رضي الله عنه:«تواضع لله؛ فإنه من تواضع لله في الدنيا رفعه الله يوم القيامة»
(2)
.
وقد كان السلف الصالح يجاهدون أنفسهم لنزع الكبر والتعالي من قلوبهم منذ البداية، لأنهم يعلمون أنه إن تمكن من قلوبهم وطبع عليها فإنها ستصبح لا تعرف معروفًا، ولا تنكر منكرًا؛ بدلالة قوله تَعَالَى:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].
فمما روي من حالهم: ما رواه عروة بن الزبير عن عمر بن الخطاب، فقال: «رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2018)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق، رقم الحديث:(59)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف الترمذي، رقم الحديث:(2018).
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية، رقم الحديث:(1/ 202)، والبيهقي في البعث والنشور، رقم الحديث:(288)، حكم الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(3733).
المؤمنين، ألا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين القبائل بأمرائها وعظمائها دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها»
(1)
.
و عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»
(2)
.
اللهم يا جبار اجبر كسرنا، وآمن خوفنا، وأعذنا من التجبر والكبر.
(1)
مدارج السالكين (2/ 315).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(91).
الحقُّ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الحق: خلاف الباطل، والحق: واحد الحقوق»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الحاء والقاف أصل واحد، وهو يدل على إحكام الشيء وصحته، فالحق نقيض الباطل، ثم يرجع كل فرع إليه بجودة الاستخراج وحسن التلفيق، ويقال حق الشيء: وجب»
(2)
.
ورود اسم الله (الحق) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الحق) في كتاب الله في عشر آيات، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62].
وقوله عز وجل: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30].
(1)
الصحاح (4/ 146).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 15).
وقال عز وجل: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32].
ورود اسم الله (الحق) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الحق) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
(1)
.
معنى اسم الله (الحق) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تَعَالَى: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [يونس: 30]: «ورجع هؤلاء المشركون يومئذ إلى الله الذي هو ربهم ومالكهم الحق لا شك فيه، دون ما كانوا يزعمون أنهم لهم أرباب من الآلهة والأنداد»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6317)، ومسلم، رقم الحديث:(769).
(2)
تفسير الطبري (12/ 175).
قال الزجاجي رحمه الله: «فالله الحق، أي: هو الحق، وما عبد من دونه باطل، والله عز وجل الحق، أي: ذو الحق في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وجميع ما أنزله على لسان رسله وأنبيائه»
(1)
.
(2)
.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقوله تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 116]-: «أي: تنزه وتقدس الملك الحق الذي هو حق ووعده حق، ووعيده حق ورسله حق، والجنة حق والنار حق، وكل شيء منه حق»
(3)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «الحق في ذاته وصفاته فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به، فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفًا، ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفًا، فقوله حق، وفعله حق، ولقاؤه حق، ورسله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له هي الحق، وكل شيء ينسب إليه فهو حق {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]، وقال عز وجل:
(1)
اشتقاق أسماء الله (ص 178).
(2)
بدائع الفوائد (4/ 165).
(3)
تفسير ابن كثير (3/ 203)
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقوله سُبْحَانَهُ:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، وقوله سُبْحَانَهُ:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]»
(1)
.
اقتران اسم الله (الحق) بأسمائه الأخرى في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (الحق) باسم الله (الملك):
ورد اقتران هذين الاسمين الجليلين في كتاب الله عز وجل في موضعين، هما:
قوله تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116].
وقوله تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
وجه الاقتران:
اقترانهما فيه إشارة إلى أن ملكه سُبْحَانَهُ حق، من جهتين:
1 -
دوام ملكه وكماله، فملكه سُبْحَانَهُ دائم، فلا يزال، ولا يزول، وليس فيه شائبة عجز ولا خضوع لغيره.
وفي هذا تعريض بأن ملك غيره زائف، فغيره من الخلق وإن كان له ملك ففي بعض الأوقات، على بعض الأشياء، وملكه مع ذلك زائل قاصر يشوبه العجز والخضوع للغير، فهو مالك من جهة ومملوك من جهة أخرى؛ لما فيه
(1)
تفسير السعدي (ص 949).
من نقص واحتياج
(1)
.
2 -
المدبر لأمور مملكته على أتم وجوه الكمال، فلا يتصرف فيه إلا بما هو مقتضى الحكمة
(2)
.
والآية الأولى سبقت بالخلق، وأنه تَعَالَى لم يخلق الإنسان عبثًا، بل كان بحق وحكمة، والثانية سبقت بالحديث عن القرآن، وأنه نزل من عند الله الحق، فالملك الحق هو صاحب الملك الكامل، والذي يتصرف بمقتضى الحكمة، والملك الحق هو الذي أنزل القرآن حقًّا من عنده؛ ليقيم به حياة الناس في دينهم ودنياهم.
ثانيًا: اقتران اسم الله (الحق) باسم الله (المبين):
جاء ذلك مرة واحدة في القرآن الكريم، وذلك في قوله تَعَالَى:{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25].
وجه الاقتران:
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص 514).
(2)
ينظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور (16/ 316).
(3)
تفسير الطبري (17/ 232).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الحقِّ):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الحق) من الصفات:
الله هو الحق جل جلاله، ويظهر ذلك من عدة وجوه، منها:
الأول: هو الحق في وجوده تبارك وتعالى، فله تَعَالَى الوجود الحق، فالله لا يزول ولا يحول بخلاف غيره، فالخلق كلهم يزولون ويحولون، وحياته سُبْحَانَهُ الحياة الأزلية، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، ووجوده كامل فلا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يأخذه مرض ولا تعب، فهذا هو الحق في وجوده تبارك وتعالى.
الثاني: هو الحق في ربوبيته وألوهيته، فهو الرب الحق في تدبيره وتصريفه ورزقه، وغيره مربوب مملوك مصرف مدبَّر، وهو المعبود الحق لكل مألوه ومعبود ومربوب قام على إلهيته برهان الفطرة وحجة العقل، وشهد بها ما في الوجود جميعًا من ناطق وصامت، قال تَعَالَى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32]، فعبادة من هذا وصفه حق، وعبادة ما دونه ممن ليس له من وجوده إلا العدم، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا ضلال وزيغ وباطل
(1)
، قال تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62].
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص 363).
الثالث: هو الحق في أسمائه وصفاته، فأسماؤه وصفاته كلها حق، فليس فيها شيء باطل لا في علمه، ولا قدرته، ولا عزته، ولا حكمته، فهو الإله الحق الكامل في ذاته، وأسمائه وصفاته، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116].
الرابع: هو الحق في أفعاله وخبره وشرعه، فأفعاله كلها حق ومقتضى الحكمة، وأخباره كلها حق وصدق، وشرعه حق وعدل، فكل ما أمر الله عز وجل به أو نهى عنه فإنه حق {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115].
والله خلق تبارك وتعالى السماوات والأرض بالحق، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 73]، وقوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85].
ونزل الكتاب بالحق، قال تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 176]، وقال تبارك وتعالى:{وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
وقص تبارك وتعالى القصص بالحق، قال تَعَالَى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف: 13]، وقوله سُبْحَانَهُ:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62]، فكل ما حدث الله به من القصص لم يكن كذبًا ولا باطلًا، كما قال تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
بخلاف بعض قصص البشر، فهو كذب كله مختلق، أو صدق خالطه الكذب، والحق الصرف في القصص قليل.
وأرسل رسله بالحق، قال تَعَالَى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 119]، وقوله عز وجل:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33]، وقوله تَعَالَى:{لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43].
ووعد الله حق لا يمكن أن يخلف، ولا يغير، ولا يبدل، قال تَعَالَى:{أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس: 55]، وقال سُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]، وَعَدَ أمَّ موسى، فقال:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]، وحقق وعده {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 13]، ووعد المؤمنين بالنصر {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، فنصرهم ببدر وهم أذلة، ونصرهم في الأحزاب وهم قلة، ونصرهم في ساعة العسرة.
الأثر الثاني: محبة الله الحق:
الحق سُبْحَانَهُ هو الموجود الحق، والرب الحق والإله الحق، وكل ما سواه فهو مربوب، ووجوده مستمد من وجوده سُبْحَانَهُ؛ لأنه الأول الذي ليس قبله شيء، فمنه سُبْحَانَهُ الإيجاد، والإعداد، والإمداد، وما سواه فهي أسباب مخلوقة صادرة من مسبب الأسباب الإله الحق، فحري بمن هذه صفاته أن يحَب ويعظَّم ويؤلَّه وتوجَّه العبادة له وحده دون ما سواه.
الأثر الثالث: التصديق الذي لا يخالطه شَك في ما أخبر به الحق سُبْحَانَهُ:
الله حق في أسمائه وصفاته- كما تقدم-، ومن ذلك: كلامه وخبره جل جلاله، فكلامه حق {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]، وقال سُبْحَانَهُ:{قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84]، وقال صلى الله عليه وسلم:«وَقَوْلُكَ الْحَقُّ»
(1)
.
أنزل القرآن بالحق، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105]، وقال سُبْحَانَهُ:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 3].
(2)
.
واعتقاد المؤمن بهذا يدعوه إلى القبول التام، والتصديق الجازم الذي لا يخالطه أدنى شك لما ما جاء فيه من أخبار، أو جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو زعم العقل إحالته أو لم يتصوره.
وهكذا كان الصحابة- رضوان الله عليهم- يتلقون أخبار الوحي بالتصديق الكامل والإذعان التام، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر عن
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7442)، ومسلم، رقم الحديث:(769).
(2)
تفسير السعدي (ص 121).
الدجال، فيقول: «إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا، قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ، قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعونَ يومًا؛ يومٌ كسَنَةٍ، ويومٌ كَشَهْرٍ، ويومٌ كجُمُعُةٍ، وسائِرُ أيامِهِ كأيَّامِكُم، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كالسنة، تكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: فَاقْدُرُوا له قَدْرَهُ
…
»
(1)
.
فكان همهم السؤال عن الصلاة فقط، وكأن ما أخبرهم به عن الدجال قد عرفوه من قبل؛ وذلك لأنهم جعلوا الشرع التام هو الميزان الثابت للعقل الناقص فقبلوا وسَلَّموا.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يبلغه خبر الإسراء والمعراج، فيبادر للتصديق ويقول:«إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشية، أفلا أصدقه في بيت المقدس!»
(2)
.
وقد نفى الله عز وجل الشك والريب عن كتابه، في مواضع عدة، منها:
قوله تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وقول سُبْحَانَهُ:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37]، وقوله تَعَالَى:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94]، وقال متحديًا من يشك فيه:
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2937).
(2)
ينظر: البداية والنهاية، لابن كثير (3/ 137).
وقال تَعَالَى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2]«أي: ضيق وشك واشتباه، بل لتعلم أنه تنزيل من حكيم حميد قوله تَعَالَى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وأنه أصدق الكلام فلينشرح له صدرك، ولتطمئن به نفسك، ولتصدع بأوامره ونواهيه، ولا تخش لائمًا ومعارضًا»
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفةً فيها شيء من التوراة: «أَمُتَهَوِّكُونَ
(2)
فِيهَا يَا ابْنَ الخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً»
(3)
.
الأثر الرابع: التسليم التام لأحكام الحق سُبْحَانَهُ، والتحاكم إليه دون ما سواه:
معرفة أن الله الحق تبارك وتعالى تورث القلب اليقين بأن أحكام الله تَعَالَى كلها حق وخير، وتورثه -أيضًا- الطمأنينة لحكم الله وشرعه؛ لأنها من الله
(1)
تفسير السعدي (ص 283).
(2)
أمتهوكون، أي: متحيرون في كتابكم وفى دينكم حتى تأخذوا العلم من غير كتابكم ونبيكم كما تهوكت اليهود والنصارى، أي: كتحيرهم حيث نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم. الفتح الرباني، للساعاتي (1/ 175).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(15156)، حكم الألباني: حسن، إرواء الغليل، رقم الحديث:(1589).
الحق الذي لا يصدر منه إلا الحق {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} [الأنعام: 115].
قال ابن كثير رحمه الله: «صدقًا في الأخبار وعدلًا في الطلب، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة»
(1)
.
فينشأ من ذلك القبول التام، والإذعان والتسليم {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]، سواء علمت الحكمة أو لم تعلم فالأمر سواء لليقين بأنها كلها حق؛ لأنها من عند الحق سُبْحَانَهُ.
والتسليم لله عز وجل من أخص أركان الدين، وبه يجوز العبد الصراط، وتثقل به الموازين، وهو من أوجب الواجبات، وأعلى القربات؛ بل «إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الخوض في تفاصيل الحكمة في الأوامر، والنواهي، والشرائع؛ ولهذا لم يحك الله سُبْحَانَهُ عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت، وسلمت، وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها، وإيمانها، واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها»
(2)
.
وقد علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته الانقياد التام والاستلام لأمر الله، فحينما نزل قوله سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 322).
(2)
الصواعق المرسلة، لابن القيم (4/ 1560).
يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] غم الصحابة رضي الله عنهم غمًّا شديدًا، واشتد ذلك عليهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ، قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تَعَالَى، فأنزل الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال: نَعَمْ {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]، قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]، قال: نعم، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] قال: نَعَمْ»
(1)
.
فتجوز لهم عن حديث النفس، وأخذوا بالأعمال.
وينشأ من ذلك- أيضًا- الاغتباط بأحكام الله وشرعه، والسعي لتحكيمها وإقرارها بين الناس؛ حتى ينعموا بما فيها من الحق والخير والأمن والسلام والقسط؛ لأنها حكم الحق، وحكم {خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109].
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(125).
وقد جعل الله عز وجل التحاكم إلى ما شرع وأنزل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم شرطًا للإيمان، فقال سُبْحَانَهُ:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 35]، وقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
وأنكر على من خرج عن حكمه المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعته وإنما بمحض الأهواء والآراء
(1)
، فقال سُبْحَانَهُ:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
(2)
.
الأثر الخامس: الشعور بالغبطة والسرور بالهداية إلى دين الإسلام الحق، والثبات عليه:
الإسلام هو دين الله الحق، قال تَعَالَى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 131).
(2)
تفسير السعدي (ص 235).
ومن هدي إليه واستقام عليه اطمأنت نفسه، وانشرح صدره، وسلم من التشتت والاضطراب والحيرة التي تكون من نصيب المبطل المعرض عن الله عز وجل وعن دينه، قال تَعَالَى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]، وقوله عز وجل:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125].
واستشعار المسلم لمنة الله عليه بالهداية للدين الحق يبعث في النفس السرور والغبطة بفضل الله عليه {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
قال السعدي رحمه الله: «{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} الذي هو القرآن، الذي هو أعظم نعمة ومنة، وفضل تفضل الله به على عباده {وَبِرَحْمَتِهِ} الدين والإيمان، وعبادة الله ومحبته ومعرفته {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} من متاع الدنيا ولذاتها.
فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين، لا نسبة بينها، وبين جميع ما في الدنيا، مما هو مضمحل زائل عن قريب»
(1)
.
وهذا الفرح بالهداية للحق يوجب التمسك به، والثبات عليه، والصبر على القيام بشرائعه، والصبر عن محارمه، والصبر- أيضًا- على ما ينال المرء من المصائب والمحن من جرائه، لا سيما مع تأخر الزمان وكثرة الفتن، فقد
(1)
تفسير السعدي (ص 367).
جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ»
(1)
.
الأثر السادس: صدق التوكل على (الحقِّ):
من كان على الحق وَثقَ في الله عز وجل واعتمد عليه في تأييده ونصره، قال الله عز وجل:{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79].
(2)
.
الأثر السابع: الثقة بنصر الله عز وجل لدينه الحق ولأوليائه:
الله الحق عز وجل تكفل بنصر دينه، وإتمام الحق الذي أرسل به رسله، وإشاعة نوره على سائر الأقطار، ولو كره الكافرون، وبذلوا بسبب كراهتهم كل سبب يتوصلون به إلى إطفاء نور الله؛ فإنهم مغلوبون، وحالهم حال من ينفخ عين الشمس بفيه ليطفئها، فلا على مرادهم حصلوا، ولا سلمت عقولهم من النقص والقدح فيها: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2260)، وابن بطة في الإبانة الكبرى، رقم الحديث:(31)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(957).
(2)
طريق الهجرتين، لابن القيم (ص 257).
الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 8، 9]، أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، ويظهر أهله القائمين به بالسيف والسنان.
فأما نفس الدين، فهذا الوصف ملازم له في كل وقت، فلا يمكن أن يغالبه مغالب، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه وبلسه، وصار له الظهور والقهر.
وأما المنتسبون إليه، فإنهم إذا قاموا به، واستناروا بنوره، واهتدوا بهديه، في مصالح دينهم ودنياهم، فكذلك لا يقوم لهم أحد، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان، إلا أن الله قد يبتليهم في وقت من الأوقات؛ ليعلم المؤمن الصادق الثابت على الحق من المنافق أو ضعيف الإيمان، قال تَعَالَى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2].
أما إذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه؛ لم ينفعهم ذلك، وصار إهمالهم له سبب تسليط الأعداء عليهم
(1)
.
فإذا علم هذا فعلى المسلمين أن يقوموا بالدين ويتمسكوا به ويثقوا بنصر الله ووعده ولو عظم البلاء واشتد، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، وقد عظم البلاء على المؤمنين، واشتد الخوف، فأتاهم عدوهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، وإذا به صلى الله عليه وسلم يقول: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُفَرَّجَنَّ عَنْكُمْ مَا تَرَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ، فَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ آمِنًا، وَأَنْ يَدْفَعَ اللهُ عز وجل مَفَاتِحَ الْكَعْبَةِ، وَلَيُهْلِكَنَّ اللهُ
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص 859).
اكِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَلَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ»
(1)
، قالها صلى الله عليه وسلم في شدة الكرب، وتحالف أهل الكفر والشرك، ولكنها الثقة بوعد الله ونصره، واليقين فيما عنده عز وجل.
الأثر الثامن: التواضع للحق، والانقياد له بعد تبينه:
إذا علم العبد أن الخير كله في الحق، وما بعد الحق إلا الضلال والشر والشقاء، تواضع له وأنقاد، ومتى ما ظهر له وبان رجع إليه مهما كان شأنه، ومهما ارتفع قدره، ومهما علت منزلته، فهذا عبدالرحمن بن مهدي رحمه الله يقول:«كنا في جنازة فيها عبيد الله بن الحسن، وهو على القضاء، فلما وضع السرير جلس، وجلس الناس حوله، قال: فسألته عن مسألة؛ فغلط فيها، فقلت: أصلحك الله! القول في هذه المسألة كذا وكذا، إلا أني لم أرد هذه، إنما أردت أن أرفعك إلى ما هو أكبر منها، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: إذن أرجع وأنا صاغر!! إذن أرجع وأنا صاغر!!؛ لأن أكون ذَنَبًا في الحق أحب إلي من أن أكون رأسًا في الباطل!»
(2)
.
ومن رد الحق بعد بيانه فهو المتكبر الظالم لنفسه؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الكبرُ بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ النّاسٍ
(3)
»
(4)
.
(1)
أخرجه البيهقي في الكبرى، رقم الحديث:(17863)، وفي دلائل النبوة (3/ 402).
(2)
تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (10/ 308).
(3)
بطر الحق، أي: دفعه وإنكاره ترفعًا وتجبرًا، وغمط الناس، أي: احتقارهم، شرح النووي على مسلم (2/ 90).
(4)
سبق تخريجه.
(1)
، واستحق بهذا الوعيد الوارد في قوله تَعَالَى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206].
وقال صلى الله عليه وسلم مبينًا قبح التكبر عن الحق: «وَإِنَّ أَبْغَضَ الكَلَامِ إِلَى اللهِ عز وجل أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: اتَّقِ اللهَ، فَيَقُولُ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ»
(2)
.
الأثر التاسع: عدم الحياء في إظهار الحق:
الله هو الحق، ويحب الحق، ويأمر بالحق، ولا يستحي من بيانه للناس، وإظهاره لهم بأنواع الأمثلة الحسية، التي تعين على فهمه وقبوله، والإعراض عما سواه من الباطل، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]
(3)
.
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 317).
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10619)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(621)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2598).
(3)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 14).
وهكذا ينبغي للمؤمن ألا يستحي من الحق وإظهاره، ولما في تركه حياءًا وخوفًا أو مداهنة من تفويت المصالح وتحقيق المفاسد، ومن ذلك: العلم؛ فإنه لا يناله مستحي ولا مستكبر، ولذا أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على نساء الأنصار، فقال:«نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ»
(1)
.
الأثر العاشر: الاستعداد للقاء الحق:
وعد تبارك وتعالى عباده بلقائه، قال سُبْحَانَهُ:{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 4]، فلقاؤه حق حاصل لا محالة، كما قال سُبْحَانَهُ:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]، وقال:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، وقال صلى الله عليه وسلم:«وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ»
(2)
.
وأخبر سُبْحَانَهُ عن خسارة المكذبين بلقائه، فقال سُبْحَانَهُ:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31]، وقال:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس: 45].
ووعد بالجنة والنار، قال تَعَالَى:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التوبة: 72]، وقال تَعَالَى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الرعد: 35].
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(314 - 315)، ومسلم، رقم الحديث:(332).
(2)
سبق تخريجه.
وقال تَعَالَى عن النار: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [التوبة: 68]، وقال تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6].
ووعد بالساعة فهي حق واقعة لا ريب فيها {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7]، وقال سُبْحَانَهُ:{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ: 39].
فإذا استقرت هذه الحقائق في قلب العبد المؤمن حمله ذلك على الاستعداد للقاء ربه، والشوق إلى جنته، والخوف من عذابه، وهذا يثمر التقوى في القلب، والتي علامتها امتثال أوامر الله عز وجل وترك مناهيه بإخلاص ومتابعة، والاستقامة على ذلك.
(1)
.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته من الليل بذكر هذا المعنى، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(3367)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(10107)، حكم الألباني: ضعيف، تحقيق الإيمان، لابن أبي شيبة (ص 43).
أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ الحَقُّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ خَاصَمْتُ، وَبِكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»
(1)
؛ وذلك أن قيام الليل أمر شاق على النفس، فيحتاج الإنسان لقيامه لتصديق جازم بما ورد فيه من عظيم الأجر، فكان الاستفتاح به تذكير للنفس بوعد الله عز وجل.
الأثر الحادي عشر: أعط كل صاحب حق حقه:
إذا عرف العبد أن الله الحق، أحب أن يكون له حظ من اسم ربه، وأن يتحقق به، وذلك بأن:
1 -
يعطي كل ذي حق حقه، فيبدأ بأعظم الحقوق عليه؛ حق الله تَعَالَى، وهو عبادته وحده لا شريك له، ثم حق نبيه، ثم يؤدي الحقوق لأصحابها، الأحق فالأحق، فيبدأ بحق الوالدين، ثم الأبناء، والزوجة، ثم الأرحام، والجيران، ثم حق أمته عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فَأَعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ»
(2)
.
2 -
يرد الحقوق لأهلها، فلا يأخذ من حق الغير شيئًا بغير حقه ولو قلَّ، قال صلى الله عليه وسلم:«لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَأْخُذَ عَصَا أَخِيهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»
(3)
.
(1)
سبق تخريجه (89).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1968).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(23605)، وابن حبان، رقم الحديث:(5978)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(1871).
3 -
يشهد بالحق، ولو كان ذلك على الأحباب، بل حتى على النفس، قال تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا
…
} [النساء: 135].
4 -
يعدل في القضاء والحكم، كما قال تَعَالَى لنبي الله داود عليه السلام:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]
(1)
.
وقد علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته إقامة الحق والحكم به، فعندما سرقت المرأة المخزومية بعث قريش للنبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد لكي يشفع لها، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله؟ ثم قام فاختطب، فقال: أيُّها النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ الله لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»
(2)
.
ولا بد أن يعلم أن لكل شيء حقًّا، فالحق تبارك وتعالى له حق، ولكتابه حق، ولرسوله صلى الله عليه وسلم حق، والنفس لها حق، وللأهل حق، وللجار حق، وللضيف حق، وللصديق حق، وللعمل حق، وللمكان حق، وللطريق حق، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، فقالوا: ما لنا بُدٌّ، إنما
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص 208).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3475)، ومسلم، رقم الحديث:(1688).
هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بالمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ»
(1)
، وللوقت حق، فعلى المسلم أن يحرص على أن يعطي كل ذي حق حقه، مستعينًا بربه، سائلًا توفيقه لذلك.
فاللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2465)، ومسلم، رقم الحديث:(2121).
الحَكَمُ الحَكِيمُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الحكم: مصدر قولك: حكم بينهم، يحكم، أي: قضى، وحكم له وحكم عليه، والحكم أيضًا: الحكمة من العلم، والحكيم: العالم، وصاحب الحكمة، والحكيم: المتقن للأمور.
وقد حكم بضم الكاف، أي: صار حكيمًا
…
وأحكمت الشيء فاستحكم، أي صار محكمًا، والحكم، بالتحريك: الحاكم
…
وحكمت الرجل تحكيمًا، إذا منعته مما أراد، ويقال أيضًا: حكمته في مالي، إذا جعلت إليه الحكم فيه، فاحتكم علَيَّ في ذلك، واحتكموا إلى الحاكم وتحاكموا بمعنًى»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(حكم) الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو المنع، وأول ذلك الحكم، وهو المنع من الظلم؛ وسميت حكمة الدابة لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته، إذا أخذت على يديه
…
وحكم فلان في كذا، إذا جعل أمره إليه، والمحكم: المجرب المنسوب إلى الحكمة»
(2)
.
(1)
الصحاح (5/ 1901).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 91).
ورود اسمي الله (الحَكَم الحكيم) في القرآن الكريم:
ورد اسمه (الحَكَم) في آية واحدة، هي:
قوله عز وجل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114].
وأما اسم الله (الحكيم)؛ فقد ورد في أربع وتسعين مرة، ومن وروده ما
يلي:
قوله عز وجل: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228].
وقوله عز وجل: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 15].
وقوله عز وجل: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].
ورود اسمي الله (الحَكِيم، الحَكَم) في السنة النبوية:
ورد اسمي الله (الحَكيم) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
(1)
.
ورد اسمي الله (الحَكم) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن شريح عن أبيه هانئ: «أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّ اللهَ هُوَ الحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الحَكَمُ، فَلَمْ تُكْنَى أَبَا الحَكَمِ؟ فقال: إن قومي إذا
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2696).
اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الوَلَدِ؟ قال: لي شريح، ومسلم، وعبد الله، قال: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قلت: شريح، قال: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ»
(1)
.
معنى اسمي الله (الحكيم، الحَكم) في حقه سُبْحَانَهُ:
يدور اسمي (الحَكيم الحَكم) على معنيين:
من له كمال الحكم بين العباد، سواء كان حكمًا كونيًّا قدريًّا، أو دينيًّا شرعيًّا، أو جزائيًّا.
من له كمال الحكمة، سواء كانت في خلقه وتدبيره أو شرعه وأمره.
وحول هذين المعنيين تدور أقوال العلماء:
من الأقوال في المعنى الأول:
قال الزجاج رحمه الله: «فالله تَعَالَى هو الحاكم وهو الحكم بين الخلق؛ لأنه الحكم في الآخرة، ولا حكم غيره»
(2)
.
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4955)، والنسائي، رقم الحديث:(5387)، حكم الألباني: صحيح، إرواء الغليل، رقم الحديث:(2615).
(2)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص 44).
(3)
شأن الدعاء (ص 61).
(1)
.
قال السعدي رحمه الله: «(الحكيم):
…
الذي له الحكم في الأولى والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك، فيحكم بين عباده في شرعه، وفي قدره، وجزائه»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
«وَهوَ الحَكِيمُ وَذَاكَ مِنْ أَوْصَافِهِ
…
نَوْعَانِ أَيْضًا مَا هُمَا عَدَمَانِ
حُكْمٌ وَإِحْكَامٌ فَكُلٌّ مِنْهُمَا
…
نَوْعَانِ أَيْضًا ثَابِتَا البُرْهَانِ
(1)
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (1/ 438).
(2)
تفسير السعدي (ص 945 - 946).
وَالحُكْمُ شَرْعِيٌّ وَكَوْنِيٌّ وَلَا
…
يَتَلَازَمَانِ وَمَا هُمَا سِيَّانِ
بَلْ ذَاكَ يُوجَدُ دُونَ هَذَا مُفْرَدًا
…
وَالعَكْسُ أَيْضًا ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال الطبري رحمه الله: «والحكيم: الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل»
(1)
، وقال أيضًا:«والحكيم: هو ذو الحكمة»
(2)
قال الزجاجي رحمه الله: «الحكيم: الذي أفعاله محكمة متقنة، لا تفاوت فيها ولا اضطراب، ومنه قيل:(بناء محكم)، أي: قد أتقن وأحكم، فالله عز وجل حكيم كما وصف نفسه بذلك، لإتقان أفعاله واتساقها وانتظامها وتعلق بعضها ببعض
…
وقد يكون حكيم بمعنى: عليم؛ لأن الفاعل للأشياء المتقنة المحكمة لا يجوز أن يكون جاهلًا بها؛ فيكون (حكيم) على هذا بتأويل المبالغة في الوصف بالعلم والحكمة»
(3)
.
قال الحليمي رحمه الله: «الحكيم: قال الله تَعَالَى: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] ومعناه: الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، وإنما أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم»
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «(حكيم) لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سُبْحَانَهُ صادرة عن
(1)
تفسير ابن جرير (2/ 578).
(2)
المرجع السابق (1/ 496).
(3)
اشتقاق أسماء الله (ص 60).
(4)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 191 - 192).
حكمة بالغة لأجلها فعل كما فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل»
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «الحكيم في أفعاله وأقواله، فيضع الأشياء في محالها؛ لعلمه وحكمته وعدله»
(2)
.
قال السعدي رحمه الله: «(الحكيم): هو الذي له الحكمة العليا في خلقه وأمره، الذي أحسن كل شيء خلقه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] فلا يخلق شيئًا عبثًا، ولا يشرع سدى»
(3)
.
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
وَالحِكْمَةُ العُلْيَا عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْـ
…
ـضًا حَصَلَا بِقَوَاطِعِ البُرْهَانِ
إِحْدَاهُمَا فِي خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ
…
نَوْعَانِ أَيْضًا لَيْسَ يَفْتَرِقَانِ
إِحْكَامُ هَذَا الخَلْقِ إِذْ إِيجَادُهُ
…
فِي غَايَةِ الإِحْكَامِ والإِتْقَانِ
وَصُدُورُهُ مِنْ أَجْلِ غَايَاتٍ لَهُ
…
وَلَهُ عَلَيْهَا حَمْدُ كُلِّ لِسَانِ
وَالحِكْمَةُ الأُخْرَى فَحِكْمَةُ شَرْعِهِ
…
أَيْضًا وَفِيهَا ذَانِكَ الوَصْفَانِ
غَايَاتُهَا الَّلائِي حُمِدْنَ وَكَوْنُهَا
…
فِي غَايَةِ الإِتْقَانِ وَالإِحْسَانِ»
(5)
.
(1)
شفاء العليل (ص 190).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 318).
(3)
تفسير السعدي (ص 945 - 946).
(4)
المرجع السابق (ص 779).
(5)
النونية (ص 205، 206).
الفرق بين الحكم والحاكم:
الحكم أبلغ من الحاكم، من جهتين:
(1)
؛ لذا قيد الله في القرآن اسمه الحاكم بالخيرية، فقال:{وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87]، والإحكام، فقال تَعَالَى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8].
الحاكم يطلق على من يحكم بين الناس، قال الله تَعَالَى:{وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188]، أما الحكم فيطلق على المتخصص بذلك
(2)
.
اقتران اسمي الله (الحكيم والحَكَم) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
1 -
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحكيم)، باسمه عز وجل (العزيز):
ورد اقتران اسمه الحكيم باسمه العزيز، في نحو ستة وأربعين موضعًا، قدم فيها العزيز على الحكيم، منها:
قوله تَعَالَى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الصف: 1]، وقوله:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
(1)
تفسير القرطبي (7/ 70).
(2)
ينظر: المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني (ص 249).
وجه الاقتران:
(1)
.
(2)
.
ولعل سائلًا يسأل: ما سر تقديم اسم الله العزيز على الحكيم في جميع المواضع؟
وقد أجاب عن هذا التساؤل ابن القيم رحمه الله من أوجه ثلاثة:
أن العزة: كمال القدرة، والحكمة: كمال العلم، فقدم وصف القدرة؛ لأن متعلقه أقرب إلى مشاهدة الخلق؛ وهو مفعولاته تَعَالَى وآياته، وأما الحكمة فمتعلقها بالنظر والفكر والاعتبار- غالبًا- فكانت متأخرة عن متعلق القدرة.
أن النظر في الحكمة يكون بعد النظر في المفعول والعلم به، فإذا نظر في المفعول انتقل بعد ذلك للنظر فيما أودع فيه من الحكم والمعاني.
(1)
الجواب الكافي، لابن القيم (ص 116).
(2)
القواعد المثلى، لابن عثيمين (ص 8).
أن الحكمة غاية الفعل، فهي متأخرة عنه تأخر الغايات عن وسائلها؛ فالقدرة تتعلق بإيجاده، والحكمة تتعلق بغايته؛ فقدم الوسيلة على الغاية؛ لأنها أسبق في الترتيب الخارجي
(1)
.
2 -
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحكيم) باسمه عز وجل (الخبير):
ورد اقتران اسمه الحكيم باسمه الخبير في أربع آيات من القرآن، منها: قوله تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]، وقوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].
وجه الاقتران:
قال ابن القيم رحمه الله عن وجه اقتران هذين الاسمين الجليلين، أنهما دالَّان:«على كمال الإرادة، وأنها لا تتعلق بمراد إلا لحكمة بالغة، وعلى كمال العلم، وأنه كما يتعلق بظواهر المعلومات، فهو متعلق ببواطنها التي لا تدرك إلا بالخبرة، فنسبة الحكمة إلى الإرادة كنسبة الخبرة إلى العلم؛ فالمراد ظاهر، والحكمة باطنة، والعلم ظاهر والخبرة باطنة، فكمال الإرادة أن تكون واقعة على وجه الحكمة، وكمال العلم أن يكون كاشفًا عن الخبرة، فالخبرة باطن العلم وكماله، والحكمة باطن الإرادة وكمالها»
(2)
.
(1)
ينظر: بدائع الفوائد، لابن القيم (1/ 68).
(2)
بدائع الفوائد (1/ 79).
3 -
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحكيم) باسمه سُبْحَانَهُ (العلي):
ورد اقتران اسم الله الحكيم باسمه العلي في آية واحدة، وذلك في قوله تَعَالَى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51].
قال ابن عاشور رحمه الله: «العلو في صفة (العلي) علو عظمة فائقة لا تناسبها النفوس البشرية التي لم تحظ من جانب القدسية بالتصفية، فما كان لها أن تتلقى من الله مراده مباشرة، فاقتضى علوه أن يكون توجيه خطابه إلى البشر بوسائط يفضي بعضها إلى بعض
…
وأما وصف (الحكيم)؛ فلأن معناه: المتقن للصنع، العالم بدقائقه وما خطابه البشر إلا لحكمة إصلاحهم ونظام عالمهم، وما وقوعه على تلك الكيفيات الثلاث إلا من أثر الحكمة لتيسير تلقي خطابه، ووعيه دون اختلال فيه، ولا خروج عن طاقة المتلقين»
(1)
.
4 -
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحكيم) باسمه سُبْحَانَهُ (التواب):
تقدم بيانه في اسم الله التواب.
5 -
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحكيم) باسمه سُبْحَانَهُ (الحميد):
ورد اقتران اسمه الحكيم باسمه الحميد في آية واحدة، وذلك في قوله تَعَالَى:{تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
قال السعدي رحمه الله: «{تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} في خلقه وأمره، يضع كل شيء موضعه، وينزله منازله، {حَمِيدٍ} على ما له من صفات الكمال ونعوت
(1)
التحرير والتنوير (25/ 150).
الجلال، وعلى ما له من العدل والإفضال؛ فلهذا كان كتابه مشتملًا على تمام الحكمة، وعلى تحصيل المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار التي يحمد عليها»
(1)
.
6 -
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحكيم) باسمه سُبْحَانَهُ (الواسع):
ورد اقتران اسمه الحكيم باسمه الواسع في آية واحدة، وذلك في قوله تَعَالَى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130].
(2)
.
7 -
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحكيم) باسمه سُبْحَانَهُ (العليم):
اقترن اسمه الحكيم باسمه العليم في نحو سبعة وثلاثين موضعًا، منها: قوله تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83].
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 84].
(1)
تفسير السعدي (ص 750).
(2)
المرجع السابق (ص 207).
قال ابن القيم رحمه الله: «العلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال، فالعلم يتضمن الحياة ولوازم كمالها من: القيومية والقدرة، والبقاء، والسمع، والبصر، وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام.
والحكمة تتضمن كمال الإرادة والعدل، والرحمة، والإحسان، والجود، والبر، ووضع الأشياء مواضعها على أحسن وجوهها، ويتضمن إرسال الرسل، وإثبات الثواب والعقاب»
(1)
.
(2)
.
ويلاحظ أن الله عز وجل تارة يقدم اسمه العليم على الحكيم، وتارة عكس ذلك.
فإن سأل سائل: ما السر في ذلك؟
أجيب: بأن الآيات التي تقدم فيها العليم على الحكيم منوطة بمقام العلم أولًا، ثم بالحكمة: «ففي مقام الاعتراف بالعجز وقصور العلم يقابله- ولا بد- الإقرار والتسليم للعليم؛ فإذا كان (العليم) هو (الحكيم) فذلك هو العلم البالغ حد الكمال، فيكون الاعتراف مصحوبًا بغاية الرضا والتسليم، كما في قوله تَعَالَى عن الملائكة:{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32].
(1)
الرسالة التبوكية (ص 69).
(2)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (4/ 1564).
وفي مقام ارتباط الصبر وانتظار الفرج باسم (العليم) ارتباط قوي، وذلك أن العبد إذا كان عظيم الإيمان، عميق الصلة بربه، واستلبث عليه الفرج لم يتزعزع يقينه؛ لأنه معتمد على علم الله عز وجل في اختيار الزمان الأنسب لما يرجوه من الفرج، معول على حكمته في تهيئة الأسباب له؛ ليقع على أحسن ما يكون، كما في قوله تَعَالَى:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 83].
ومثل ذلك يقال في مقام التواضع والتحدث بنعمة الله وفضله؛ لأن قوامه أحداث ترجع إلى علم {العليم} وحكمة {الحكيم} ، كما في قوله تَعَالَى عند يوسف عليه السلام:{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100].
أما مقام التشريع وإقرار الحكم فالأمر فيه راجع إلى العلم الشامل أولًا؛ لأن العلم هو أساس بناء الأحكام، ثم تأتي الحكمة لتنزل الحكم على الواقع، كما في قوله تَعَالَى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2].
أما المقامات التي يتقدم فيها اسم (الحكيم) على اسم (العليم)، فهي منوطة بمقام التوحيد، كما في قوله تَعَالَى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83].
ومقام إجراء المعجزات، كما في قوله تَعَالَى:{كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات: 30]؛ وذلك أن مضمون الألوهية في مقام التوحيد قهر وقوة وغلبة، يقابلها من العباد طاعة وعبادة وخضوع، فتقديم
الحكمة في هذا المقام- والله أعلم- ليعلم أن ألوهيته عز وجل السارية على من في السماوات والأرض مسارها الحكمة»
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسمي الله (الحكيم، الحَكَم):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسمي الله (الحكم، الحكيم) من صفات الله سُبْحَانَهُ:
الله سُبْحَانَهُ الحكم الحكيم الذي كمل في حكمه، قال تَعَالَى:{وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87]، وقال:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]، وكمل في حكمته، قال سُبْحَانَهُ:{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر: 5]، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18].
أ- فأما كمال حكمه:
فهو الحكيم الذي يحكم في الدارين بالحكم الكوني القدري، والحكم الديني الشرعي، والحكم الجزائي، قال تَعَالَى:{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]
(2)
.
الحكم الكوني القدري:
الله سُبْحَانَهُ الحاكم في خلقه على وفق ما قضاء وقدر؛ فإنه تبارك وتعالى كتب مقادير كل شيء:
- كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين
(1)
ينظر: مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام، لنجلاء كردي (ص 556).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص 622).
ألف سنة، قال تَعَالَى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْف سَنَةٍ»
(1)
.
- وكتب عند خلق الجنين؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ ينْفَخُ فِيهِ الرُّوح، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابَهُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ»
(2)
.
- وكتب ويكتب في ليلة القدر كل ما يكون في السنة، كما قال تَعَالَى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 4، 5]
(3)
.
فيجري الله سُبْحَانَهُ على العباد من الأحكام والأقدار والإيجاد والإعداد والإحياء والإماتة وغير ذلك، على مقتضى قضائه وقدره، لا يخرج شيء عنه:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18].
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2653).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3208)، ومسلم، رقم الحديث:(2643).
(3)
ينظر: شرح الطحاوية، لابن أبي العز (ص 243 - 244)، شرح الطحاوية، لصالح آل الشيخ (ص 253).
الحكم الديني الشرعي:
الله سُبْحَانَهُ الحاكم في خلقه بدينه وشرعه، أرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه، وأمر الخلق أن يسيروا وفق حكمه في عقائدهم وأخلاقهم، وأقوالهم وأفعالهم، وظاهرهم وباطنهم، قال تَعَالَى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40]، وقال:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18، ى 19]، وقال:{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10].
ولم يجعل لأحد من خلقه أن يحكم في شرعه، بل الحكم له وحده، قال تَعَالَى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117]، وقال:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} [يونس: 59، 60].
الحكم الجزائي:
الله سُبْحَانَهُ الحاكم بالجزاء على الأعمال خيرها وشرها، قال سُبْحَانَهُ:{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57].
فـ «إذا استمررتم على تكذيبكم، فاعلموا أن العذاب واقع بكم لا محالة، وهو عند الله، هو الذي ينزله عليكم، إذا شاء، وكيف شاء، وإن استعجلتم به،
فليس بيدي من الأمر شيء {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، فكما أنه هو الذي حكم بالحكم الشرعي، فأمر ونهى، فإنه سيحكم بالحكم الجزائي، فيثيب ويعاقب، بحسب ما تقتضيه حكمته»
(1)
.
وأعظم ما يكون حكمه الجزائي وضوحًا وظهورًا: يوم الدين، قال تَعَالَى:{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 11، 12]، وقال:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 61، 62] فيتولى سُبْحَانَهُ الحكم في عباده فيثيبهم على ما عملوا من الخيرات، ويعاقبهم على الشرور والسيئات جزاء وفاقًا
(2)
، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [لقمان: 8]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]، وقال:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
[الأنعام: 128].
(1)
تفسير السعدي (ص 258).
(2)
ينظر: المرجع السابق (ص 259).
وأحكامه الثلاثة كلها قائمة على العدل والقسط {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
(1)
.
كما أن أحكامه الثلاثة نافذة لا محالة، يحكم بما يشاء، ويقضي بما يريد {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، فيقع حكمه كما شاء ولو عدمت الأسباب، حكم لإبراهيم عليه السلام ولزوجه سارة بالولد، مع ما هم فيه من الكبر والعقم، قال تَعَالَى:{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات: 29، 30]، وكذا زكريا عليه السلام:{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 39، 40]، وحكم لمريم بالولد من غير ما زوج، قال تَعَالَى:{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 20، 21] لا راد لقضائه، ولا ناقض لحكمه، ولا معقب له {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41]،
(1)
تفسير السعدي (ص 384).
{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] كمل وحسن حكمه، فلا خلل ولا إخلال ولا جور ولا حيف؛ فلا يتوجه إليه سؤال، ولا يتعقبه متعقب، ولا يقدح فيه قادح
(1)
.
ب- وأما كمال حكمته:
فهو الحكيم الذي وسعت حكمته كل شيء، فلا يخلق ولا يأمر أمرًا كونيًّا ولا شرعيًّا إلا لحكمة بالغة {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «الحكيم: من له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق، ولا يشذ عنها مأمور، فما خلق شيئًا إلا لحكمة، ولا أمر بشيء إلا لحكمة، والحكمةُ: وضع الشيء في موضعه اللائق به»
(2)
.
فتبين من هذا أن حكمته سُبْحَانَهُ ثلاثة أنواع:
الأول: حكمته سُبْحَانَهُ في خلقه وصنعه.
الثاني: حكمته في قضائه وقدره.
الثالث: حكمته سُبْحَانَهُ في دينه وشرعه.
حكمته سُبْحَانَهُ في خلقه وصنعه:
الله سُبْحَانَهُ الحكيم في خلقه، خلق خلقه جميعًا لحكمة، لا عبثًا ولا سدى، قال تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24]، وقال تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص 420، 521).
(2)
تفسير السعدي (ص 49).
إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 16، 17]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27]، وقال:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 115، 116].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «خلق الخلق بالحق، ومشتملًا على الحق، وكان غايته والمقصود به الحق، خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات، وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته، وهيئته، فلا يرى أحد في خلقه خللًا، ولا نقصًا، ولا فطورًا، فلو اجتمعت عقول الخلق من أولهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرحمن أو ما يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن، والانتظام، والإتقان لم يقدروا، وأنى لهم القدرة على شيء من ذلك!
وحسب العقلاء الحكماء منهم أن يعرفوا كثيرًا من حِكَمِه، ويطلعوا على بعض ما فيها من الحسن والإتقان، وهذا أمر معلوم قطعًا بما يعلم من عظمته، وكمال صفاته، وتتبع حكمه في الخلق، والأمر.
وقد تحدى عباده، وأمرهم أن ينظروا، ويكرروا النظر، والتأمل هل يجدون في خلقه خللًا أو نقصًا، وأنه لا بد أن ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شيء من مخلوقاته»
(1)
.
حكمته في قضائه وقدره:
يحكم الله سُبْحَانَهُ في عباده بقضائه وقدره على وفق ما تقتضيه حكمته، فلا يصدر حكم عار عن حكمه ولا قضاء من غير علة، قال تَعَالَى
(1)
الحق الواضح المبين (ص 51 - 52).
عن ليلة القدر: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}
[الدخان: 4، 5].
فيهدي من يشاء ويضل من يشاء لحكمة، قال تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]، وقال:{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر: 5] قال ابن كثير رحمه الله: «أي: في هدايته تَعَالَى لمن هداه، وإضلاله لمن أضله»
(1)
.
ويتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة، قال تَعَالَى:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]، وقال:{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 106]
(2)
.
ويعطي ويمنع ويغني ويفقر لحكمة تامة، قال تَعَالَى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28]
(3)
.
(1)
تفسير ابن كثير (7/ 475).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص 175).
(3)
ينظر: المرجع السابق (ص 333).
ويجعل لكل شيء قدرًا، ولكل أمر منتهى، بحسب ما تقتضيه حكمته الربانية:{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 83]
(1)
.
حكمته سُبْحَانَهُ في دينه وشرعه:
يحكم الله سُبْحَانَهُ في عباده بشرعه أمرًا ونهيًا، وتحليلًا وتحريمًا لحكمة ومصلحة عائدة على العباد في الدارين، قال تَعَالَى في آيات الأحكام:{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10]، وقال:{وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 18].
اقتضت حكمته سُبْحَانَهُ أن لا يترك عباده هملًا ولا سدى، بل يبعث فيهم الرسل وينزل الكتب، فيأمرهم وينهاهم، قال تَعَالَى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، وقال سُبْحَانَهُ:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]
(2)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «شرع الشرائع، وأنزل الكتب وأرسل الرسل ليعرفه العباد، ويعبدوه، فأي حكمة أجلُّ من هذا، وأي فضل، وكرم أعظم من هذا؛ فإن معرفته تَعَالَى، وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص 404).
(2)
ينظر: المرجع السابق (ص 601، 862).
له وحده، وشكره، والثناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق، وأَجَلُّ الفضائل لمن مَنَّ الله عليه بها، وأكمل سعادة، وسرورًا للقلوب، والأرواح، كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية، والنعيم الدائم.
فلو لم يكن في أمره، وشرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، ولأجلها خلقت الخليقة، وحق الجزاء، وخلقت الجنة، والنار؛ لكانت كافية شافية.
هذا وقد اشتمل شرعه ودينه على كل خير، فأخباره تملأ القلوب علمًا، ويقينًا، وإيمانًا، وعقائد صحيحة تستقيم بها القلوب، ويزول انحرافها، وتثمر كل خلق جميل، وعمل صالح، وهدى، ورشد، وأوامره ونواهيه محتوية على عناية الحكمة، والصلاح والإصلاح للدين والدنيا؛ فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مضرته خالصة أو راجحة»
(1)
.
وقد أكد سُبْحَانَهُ هذا المعنى عند ذكره لبعض الأحكام، منها:
الزكاة ومصارفها، قال تَعَالَى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
الطلاق وأحكامه، قال تَعَالَى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228].
(1)
الحق الواضح المبين (ص 51 - 52).
عدة المتوفى عنها زوجها وأحكامها، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 240].
الحدود وأحكامها، قال تَعَالَى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].
فسبحان من بحكمته خلق الخلق، و ابتدأه بالحكمة، وجعل غايته و المقصود منه الحكمة، وسبحان من بالحكمة أوجد الأمر والنهي في قضائه وشرعه، وكانت غايته المقصودة: الحكمة
(1)
، وسبحان من لحكمته وعزته سبح من في السموات والأرض بحمده، قال تَعَالَى:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1]، وقال:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1]
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص 651).
(2)
ينظر: المرجع السابق (ص 849).
الأثر الثاني: دلالة اسمي الله (الحكم، الحكيم) على التوحيد:
إذا تأمل العبد في اسمي الله (الحكم، والحكيم) وما يتضمنهما من كمال الحكم الصادر عن ملك مطلق، وعلم تام، وخبرة كاملة، وحكمة عظيمة، وعدل لا جور معه، ورحمة بلغت أن كانت أرحم من الوالدة بولدها، بل صدرت ممن له الكمال المطلق الذي لا شيء يقربه ولا يماثله لا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]
(1)
فلا نقص في حكمه ولا عيب ولا خلل ولا إخلال، ولو فرضت العقول وقدرت أكمل ما يكون من الأحكام لكان حكمُه أجلَّ وأعظمَ.
إذا تأمل العبد ذلك كله؛ ساقه لتوحيد الحاكم الحكيم في الحكم، فانقاد لحكمه، كما قال تَعَالَى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، وقال كما قال صلى الله عليه وسلم:«وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ»
(2)
ولم يرض حاكمًا سواه، ولا حكمًا غير حكمه، قال سُبْحَانَهُ:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114]، «أحاكم إليه، وأتقيد بأوامره ونواهيه؛ فإن غير الله محكوم عليه لا حاكم، وكل تدبير وحكم للمخلوق فإنه مشتمل على النقص، والعيب، والجور»
(3)
.
وقد قرر سُبْحَانَهُ أن الحكم كله له وحده لا شريك له، في مواضع عدة من كتابه بأساليب مختلفة، منها:
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 131)، تفسير السعدي (ص 754).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1120)، ومسلم، رقم الحديث:(769) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
تفسير السعدي (ص 270).
بيان اختصاصه بالحكم، قال تَعَالَى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وقال:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62].
بيان كمال حكمه، قال تَعَالَى:{وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وقال:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8].
الأمر برد الحكم إليه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال تَعَالَى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وقال:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10].
الأمر بتحكيم كتابه، قال تَعَالَى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
نفي أن يكون له شريك في الحكم، قال تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26].
الإنكار والتشنيع على من اتخذ حكمًا غير حكمه، قال تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ
ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60]، وقال سُبْحَانَهُ:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
(1)
.
التحذير من الحكم بغير ما أنزل، قال تَعَالَى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49، 50]، فحذر من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير والصغير والكبير، وبيَّن أن التولي عن حكمه وعدم قبول شيء منه ذنب عظيم موجب للعقاب الأليم.
فتبين مما سبق: أن توحيد الله سُبْحَانَهُ في الحكم، وتحكيم شرعه واجب وفرض متعين على الفرد، والمجتمع، ومن لم ير الكفاية في شرع الله تَعَالَى فأعرض عنه أو بدله بغيره ولو في بعضه؛ فإن هذا العمل شرك في الطاعة والاتباع، وشرك في توحيد الربوبية أيضًا؛ لأن من خصائصها السيادة، والحكم والتشريع، وكلها حق لله تَعَالَى لا يجوز صرفها لغيره سُبْحَانَهُ
(2)
.
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 131).
(2)
ينظر: حاشية كتاب التوحيد، لابن قاسم (ص 276، وما بعدها)، والقول المفيد شرح كتاب التوحيد، لابن العثيمين (2/ 149، وما بعدها).
ومن تأمل في وحدانية الله بالحكم المشتمل على الحكمة؛ دله ذلك على نوع آخر من التوحيد، ألا وهو توحيد الألوهية، فعلم أن من بيده الحكم وإليه الأمر والشرع هو المستحق وحده أن يفرد بالعبادة؛ فإن كل من دونه محكوم عليه لا حاكم، ليس له من الأمر شيء، قال تَعَالَى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40]
(1)
، وقال:{وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وقال:{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سبأ: 27].
ودله- أيضًا- على توحيد الأسماء والصفات، فعلم أن من له الحكم لا بد أن يكون سميعًا بصيرًا عليمًا خبيرًا متكلمًا قادرًا مدبرًا، إلى غير ذلك من أسماء وصفات كماله سُبْحَانَهُ، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27]
الأثر الثالث: التدبر في كتاب الله الحكيم:
القرآن كتاب الله المنزل من لدن حكيم خبير، قال تَعَالَى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]، وقال:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6]، فإذا كان من عند الحكيم الخبير تكلم به وأنزله حكمًا وهدى ورحمة ونورًا وموعظة وذكرى للعالمين، فلا ريب أن يكون في غاية الإحكام والاتقان، مشتملًا على الحكمة البالغة، والرحمة الواسعة،
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص 270).
قال تَعَالَى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1]، وقال سُبْحَانَهُ:{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1، 2]، وقال:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [فصلت: 1] فأتقن وأحسن ونظم نظما محكما لا يلحقه تناقض ولا خلل ولا نقص ولا باطل: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
وإحكام الكتاب له أوجه عدة، منها:
أن آياته جاءت بأجل الألفاظ وأفصحها، وأبينها وأدقها دلالة.
أن كل كلمة وكل عبارة مقصودة، وكل معنى فيها وكل توجيه مطلوب، وكل إيماءة وكل إشارة ذات هدف معلوم؛ فلا حشو فيه ولا زيادة.
أن آياته محفوظة من التغيير والتبديل، والزيادة والنقص، والتحريف.
أن جميع ما فيها من الأخبار السابقة واللاحقة، والأمور الغيبية كلها، مطابقة للواقع، مطابق لها الواقع، لم يخالفها كتاب من الكتب الإلهية، ولم يخبر بخلافها نبي من الأنبياء، ولم يأت ولن يأتي علم محسوس ولا معقول صحيح يناقض ما دلت عليه.
أنه حكيم في هدايته وأمره ونهيه؛ فآياته جاءت موافقة للحكمة، فما أمر بشيء إلا وهو خالص المصلحة، أو راجحها، وما نهى عن شيء إلا وهو خالص المفسدة أو راجحها، وكثيرًا ما يجمع بين ذكر الحكم وحكمته، فينبه العقول على المناسبات والأوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها.
أن آياته جمعت بين الترغيب والترهيب، والوعظ البليغ، الذي تعتدل به النفوس الخيرة، وتحتكم، فتعمل بالحزم.
أن آياته المتكررة، كالقصص، والأحكام ونحوها، قد اتفقت كلها وتواطأت، فليس فيها تناقض، ولا اختلاف.
أن آياته لا ناسخ لها من غيرها، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«لم ينسخها كتاب، بخلاف التوراة والإنجيل»
(1)
.
فعلى العبد أن يتدبر هذه الأوجه ويتأملها في كتاب ربه، ويعمل عقله فيه متفكرًا؛ حتى تنفتح له من أسراره وعجائبه ما يبهر عقله ويذهل لبه، فيجزم جزمًا لا مرية فيه أنه تنزيل من حكيم حميد
(2)
.
ثم إذا تقرر إحكام الكتاب، فما معنى قوله تبارك وتعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]؟
قال ابن كثير رحمه الله: «يخبر تَعَالَى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد.
وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه: فروي عن السلف عبارات كثيرة
…
وأحسن ما قيل فيه: الذي قدمناه، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق
(1)
تفسير القرطبي (9/ 2).
(2)
ينظر: تفسير القرطبي (9/ 2)، وتفسير ابن كثير (4/ 303)، وتفسير السعدي (ص 646، 692).
بن يسار رحمه الله حيث قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه.
قال: والمتشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرفن عن الحق»
(1)
.
الأثر الرابع: التأمل في إحكام الحكيم لخلقه:
إذا عرف العبد اسم الله (الحكم- الحكيم) وما فيهما من حكمة تقتضي إحسان الخلق واتقانه وإحكامه؛ سعى في التأمل في خلق الله ومشاهدة عجيب صنعه، مستشعرًا قوله تَعَالَى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].
فإذا نظر وتأمل وجد خلقًا عجيبًا وصنعًا بديعًا لا ثغرة ولا خلة، و لا نقص، ولا تفاوت ولا نسيان.
الصغير والكبير، والجليل والحقير، كل شيء خُلق بحكمة، فوُضع في موضعه الذي لا يليق به سواه، وخُص من الصفات والإشكال والهيئات والمقادير ما يناسبه، قال تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24]، وقال:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27].
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 6 - 7).
خلق السماء بحكمة فتناسبت من كل وجه، في لونها وهيئتها وارتفاعها، وما فيها من القمر والشمس والكواكب النيرات الثوابت منهن والسيارات، فكمل حسنها، وانتفى عنها النقص والعيب، حتى أمر الله بتكرار النظر إليها والتأمل في أرجائها، قال:{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3] عاجزًا عن أن يرى خللًا أو فطورًا، ولو حرص غاية الحرص
(1)
.
وخلق الإنسان بحكمة، فبدأ خلقه من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وجعل له السمع والأبصار والأفئدة، قال تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6]، وقال:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14].
خلق الليل، والنهار، والبحار، والجبال، والأشجار وألوان الثمار إلى غير ذلك من مخلوقاته، كل ذلك بإحكام وإتقان يدهش العقول ويحير الألباب، فتبارك الله الحكيم الخبير.
قال ابن القيم رحمه الله: «ومن له نظر صحيح وفكر مستقيم وأعطى التأمل حقه؛ شهد بذلك فيما رآه وعلمه، واستدل بما شاهده على ما خفي عنه؛ فإن الكل صنع الحكيم العليم، ويكفي في هذا ما يعلمه من حكمة خلق
(1)
تفسير السعدي (ص 875).
الحيوان وأعضائه وصفاته وهيئاته ومنافعه، واشتماله على الحكمة المطلوبة منه أتم اشتمال، وقد ندب سُبْحَانَهُ عباده إلى ذلك؛ فقال:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، وقال:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]
…
إلى آخرها.
وكذلك جميع ما يشاهد من مخلوقاته عاليها وسافلها، وما بين ذلك، إذا تأملها صحيح التأمل والنظر؛ وجدها مؤسسة على غاية الحكمة، مغشاة بالحكمة، فقرأ سطور الحكمة على صفحاتها، وينادي عليها هذا صنع العليم الحكيم، وتقدير العزيز العليم
…
ومن نظر في هذا العالم وتأمل أمره حق التأمل علم قطعًا أن خالقه أتقنه وأحكمه غاية الإتقان والإحكام؛ فإنه إذا تأمله وجده كالبيت المبني المعد فيه جميع عتاده، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والمنافع مخزونة كالذخائر، كل شيء منها لأمر يصلح له، والإنسان كالمالك المخول فيه، وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصرفة في مصالحه، فمنها ما هو للدر والنسل والغذاء فقط، ومنها ما هو للركوب والحمولة فقط، ومنها ما هو للجمال والزينة، ومنها ما يجمع ذلك كله كالإبل، وجعل أجوافها خزائن لما هو شراب وغذاء ودواء وشفاء، ففيها عبرة للناظرين وآيات للمتوسمين، وفي الطير واختلاف أنواعها وإشكالها وألوانها ومقاديرها ومنافعها وأصواتها، صافات وقابضات وغاديات ورائحات ومقيمات وظاعنات؛ أعظم عبرة، وأبين دلالة على حكمة الخلاق العليم»
(1)
.
(1)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (4/ 1566 - 1567).
الأثر الخامس: محبة الله تَعَالَى الحكم الحكيم:
إذا تعرف العبد على اسم ربه الحكم الحكيم وشاهد آثارهما من إنزال الكتاب الحكيم الذي به يخرج العبد من الظلمات إلى النور ويهدى به الصراط المستقيم، وشهد الخلق البديع والصنع المتقن للكون حوله، وتسخير ذلك كله له ولبني جنسه؛ فطابت بذلك حياتهم ونعمت، وشهد حكمه البالغة في أقداره، والمصالح الكبرى في شرعه التي حفظ بها للإنسان دينه، ونفسه، وعقله، وماله، وعرضه، وكفل له بها الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة؛ ساق ذلك كله قلبه للتعلق به والتوجه له بالمحبة والذل.
الأثر السادس: التعامل مع أحكام الحكيم بما يحب:
إذا تأمل العبد في اسم الله (الحكم- الحكيم) وشهد آثارهما في خلقه وشرعه، تعامل مع أحكامهسُبْحَانَهُ بما يجب عليه تجاهها، وقد أوضح ذلك ابن القيم رحمه الله، فقال:
«الأحكام ثلاثة:
الأول: حكم شرعي ديني: فهذا حقه أن يُتَلَقَّى بالمسالمة والتسليم، وترك المنازعة، بل الانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة، فلا يعارَض بذوق ولا وجد، ولا سياسة، ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إلى خلافه سبيلًا ألبتة، وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول، فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة إقرارًا وتصديقًا؛ بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له، إرادة وتنفيذًا وعملًا، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره، وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم
من شبهة تعارض الحق، وشهوة تعارض الأمر.
ومن التسليم: عدم السؤال عن تفاصيل الحكمة؛ ولهذا لم يحك الله سُبْحَانَهُ عن أمة نبي صدقت نبيها، وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، بل انقادت، وسلمت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها، وإيمانها، واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها
…
بل يسلم لأمر الله وحكمته، ممتثلًا ما أمر به، سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر، فإن ورد الشرع بذكر حكمة الأمر، أو فقهها العقل، كانت زيادة في البصيرة والداعية في الامتثال، وإن لم تظهر له حكمته لم يوهن ذلك انقياده، ولم يقدح في امتثاله»
(1)
.
«الحكم الثاني: الحكم الكوني القدري: الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة، والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه، فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن، ولا يسالم ألبتة، بل ينازع بالحكم الكوني- أيضًا- فينازع حكم الحق بالحق للحق فيدافع به وله، فإن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه، فتأمل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد عوتب على فراره من الطاعون، فقيل له: أتفر من قدر الله؟ فقال: (نفر من قدر الله إلى قدر الله)
(2)
.
ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به، ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه، فإنه إذا جاءه قدر من الجوع والعطش أو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته، ودفعه بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس، فقد
(1)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (4/ 1560 - 1561).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5729)، ومسلم، رقم الحديث:(2219).
دفع قدر الله بقدره، وهكذا إذا وقع الحريق في داره فهو بقدر الله، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتى يطفئ قدر الله بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله، هكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض، فحق هذا الحكم الكوني أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه، فإذا غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أُمِر، بل هذا حقيقة الشرع والقدر.
الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني: الذي يجري على العبد بغير اختياره، ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته؛ فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة، وترك المخاصمة، وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركب في لجة البحر، وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة، فها هنا يحسن الاستسلام والمسالمة، مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة، وهي: أن يشهد عزة الحاكم في حكمه، وعدله في قضائه، وحكمته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط، ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم (الحكيم) جل جلاله، وصفته الحكمة، وأن القدر قد أصاب مواقعه وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته
وعلمه وملكه العادل، فهو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فله عليه أكمل حمد وأتمه، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره»
(1)
.
الأثر السابع: الأسباب المعينة على الرضى بحكم الحكيم:
إذا تيقن العبد اسم ربه (الحكم- الحكيم) قاده ذلك لتسليم والرضى بالقضاء والقدر؛ لعلمه أن ما قدر عليه حكم الحكيم الذي هو أرحم به من نفسه، وأعلم بالعواقب منه، وأخبر بما فيه صلاحه في الدنيا والآخرة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
(2)
.
وهنا جملة من الأمور تعين العبد على الرضى بالقضاء والقدر:
الإيمان بالقضاء والقدر: كل ما زاد إيمان العبد ويقينه بقضاء الله وقدره زاده ذلك رضى وتسليمًا؛ فإذا تيقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأنا ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الكل لم يخرج عن كتاب الله الذي كتب فيه المقادير، كما قال سُبْحَانَهُ:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]، وقال:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:«إِنَّ اللهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْف سَنَةٍ»
(3)
اطمأنَّ قلبه وانشرح لحكم الله، فرضي به، وسلَّم، قال تَعَالَى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11].
(1)
طريق الهجرتين، لابن القيم (ص 37 - 38).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 573)، وتفسير السعدي (ص 97).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2653).
قال الطبري رحمه الله: «ومن يصدق بالله فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة إلا بإذن الله بذلك يهد قلبه: يقول: يوفق الله قلبه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه»
(1)
.
وروى مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:«عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»
(2)
.
استشعار ما يترتب عليها من ثواب وتكفير للسيئات: جاء في النصوص ما يدل على عظيم الأجر لأصحاب البلاء، لا سيما إذا صبروا وسلموا لحكم الله، قال تَعَالَى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]، وجاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يودُّ أهلُ العَافِيةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أهلُ البلاءِ الثوابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ»
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«ما يُصيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُّهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»
(4)
،
(1)
تفسير الطبري (23/ 421).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2999).
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2402)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(9451)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(8177).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5641).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»
(1)
.
معرفة حقيقة الدنيا: فالعبد إذا تيقن أن الدنيا طبعت على كدر، والإنسان فيها كادح ومكابد، وأنها لا تصفو لأحد، ولو صفت لصفة للخليلين إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وأنها سجن المؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلم:«الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»
(2)
، وأن المؤمن إذا مات استراح من نصبها وشدتها، كما روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أنه كان يحدث:«أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ، فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ»
(3)
؛ قاده ذلك كله للتسليم والرضى.
الدعاء: الثبات والتثبيت عند نزول المصاب هو من الله عز وجل وحده، فالمثبت من ثبته الله، والراضي من أرضاه الله، والصابر من صبره الله، قال تَعَالَى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، وقال عن أم موسى:{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]،
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(7479)، والترمذي، رقم الحديث:(2399)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(5815).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2956).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6512)، ومسلم، رقم الحديث:(950).
وحكى عن قوم طالوت سؤالهم الثبات، فقال سُبْحَانَهُ:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250]؛ فكانت العاقبة النصر: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} [البقرة: 251]، ومن هنا كان الدعاء من أهم الأسباب المحصلة للرضى والتسليم، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال الله الرضى بقوله:«وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ»
(1)
.
والدعاء يكون وقاية ويكون علاجًا، ودعاء الوقاية يكون قبل وقوع المكروه، ومن ذلك: دعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]، وقول أنس رضي الله عنه:«كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت كثيرًا ما أسمعه يقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ»
(2)
.
وأما العلاج فيكون بعد الوقوع، ومنه: دعوة أيوب: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، ويونس:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وغيرهما من الأنبياء.
الصلاة: إذا نزلت الأقدار والمصائب على العبد ثم توجه لصلاة؛
(1)
أخرجه النسائي، رقم الحديث:(1304)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن النسائي، رقم الحديث:(1305).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5425)، ومسلم، رقم الحديث:(2706).
نهته صلاته عن الاعتراض على أحكام الله والتسخط عليها، وأورثت قلبه الطمأنينة والسكينة، فقاده ذلك لتسليم والرضى، لذا أمر الله عباده أن يستعينوا بها على شؤونهم كلها، فقال سُبْحَانَهُ:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إليها
(1)
.
التفكُّر والتدبُّر:
التفكر في نعم الله على العبد، ومصائب الناس من حوله؛ قال صلى الله عليه وسلم:«انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: عَلَيْكُمْ»
(2)
.
التفكر في المصيبة، متأملًا ومستشعرًا قوله تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
هذه الآية التي من تأملها وتدبرها ساقت قلبه للاطمئنان والسكون، فيرضى ويقنع، فلعل وراء المكروه خير، ولعل وراء المحبوب شر؛ فالإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر!
خرج المسلمون يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة، لا فئة الحامية المقاتلة من قريش، كما قال تَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ
(1)
عن حذيفة، قال:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى» ، أخرجه أبو داود رقم الحديث:(1319) حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1319).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6490)، ومسلم، رقم الحديث:(2963) واللفظ له.
أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7]، لكن الله جعل القافلة تفلت، ولقاهم المقاتلة من قريش، فكان النصر الذي دوى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام، فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين؟ وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم؟ والله يعلم والناس لا يعلمون! ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما- وهو الحوت- فتسرب في البحر عند الصخرة {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 62 - 64]، وكان هذا هو الذي خرج له موسى، ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدَّا، ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها!
وكل إنسان- في تجاربه الخاصة- يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم، ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم، وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته، ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذًا من الله أن فوَّت عليه هذا المطلوب في حينه.
وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثًا يكاد يتقطع لفظاعتها، ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل، إن الإنسان لا يعلم، والله وحده يعلم.
الأثر الثامن: الحكم بما أنزل الحكيم:
إذا علم العبد أن ربه الحكم الحكيم، الذي من رحمته وحكمته أن جعل التحاكم بين العباد بشرعه ووحيه؛ لأنه المنزه عما يصيب البشر من الضعف والهوى والعجز والجهل؛ سعى لتحكيم شرعه في نفسه وحياته كلها، لسان حاله ومقاله:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57].
وتحكيم شرع الله يعني: إعمال شريعة الإسلام في كل ما يتعلق بأمر الفرد والمجتمع والدولة، من معاملات وجنايات وعلاقات دولية وتجارية وشخصية.
فيشمل ذلك:
1 -
تطبيق شريعة الإسلام في كل ما يتعلق بأمور البلاد والعباد.
2 -
سياسة الناس والقضاء بينهم وتدبير أمورهم؛ طبقًا للأحكام الشرعية، كما قال تَعَالَى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49، 50].
الأثر التاسع: عدم التسمي باسم الحكيم:
الله سُبْحَانَهُ هو الحكم الحق الذي لا يليق أن يوصف غيره بهذا الاسم؛ فعن هانئ بن يزيد رضي الله عنه، أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ
أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللهِ. قَالَ: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قُلْتُ: شُرَيْحٌ. قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ»
(1)
، فغيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم كنيته (أبا الحكم)؛ كراهية لتكنيه بهذا الاسم والتسمي به
(2)
.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «غيره النبي صلى الله عليه وسلم لأمرين: الأول: أن الحكم هو الله، فإذا قيل: يا أبا الحكم! كأنه قيل: يا أبا الله!
الثاني: أن هذا الاسم، الذي جعل كنية لهذا الرجل، لوحظ فيه معنى الصفة وهي الحكم؛ فصار بذلك مطابقًا لاسم الله، وليس لمجرد العلمية المحضة، بل للعلمية المتضمنة للمعنى، وبهذا يكون مشاركًا لله تبارك وتعالى في ذلك، ولهذا كناه النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبغي أن يكنى به»
(3)
.
الأثر العاشر: السعي للاتصاف بالحكمة:
الحكمة من أفضل الهبات والعطايا، وصاحبها أوتي خيرًا كثيرًا، كما قال تَعَالَى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]؛ لأنه خرج بها من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى، ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال، إلى إصابة الصواب فيها، وحصول السداد، ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم، واستعد لنفع الخلق أعظم نفع، في دينهم ودنياهم،
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4955)، والنسائي، رقم الحديث:(5402)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن النسائي، رقم الحديث:(5387).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 257 - 258).
(3)
القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 263).
ولأن جميع الأمور لا تصلح ولا تستقيم إلا بالحكمة، التي هي: وضع الأشياء في مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام
(1)
.
فعلى المسلم أن يسعى لتحصيلها وتحقيقها في نفسه، متخذًا الأسباب التي أقامها الله، وجعلها أسبابًا لنيل هذا الخير العظيم، وقد تناولها الملحق الآتي، ما يعين على ذلك- بإذن الله-.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص 957).
سنتطرق في موضوع الحكمة لعدة مسائل، وهي:
أولًا: تعريف الحكمة:
يقول ابن القيم رحمه الله: «الحكمة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي»
(1)
.
ثانيًا: منزلة الحكمة وفضلها:
الحكمة من الخصال الحميدة والأخلاق الكريمة التي رفع الشارع منزلتها وأعلى من شأنها وبين فضيلتها، ومن ذلك:
أن الله قرن الخير الكثير بها، قال تَعَالَى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].
أن الله امتنَّ بها على عبده الفاضل لقمان وأمره بشكره عليها، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12].
أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع تمنيها والغبطة عليها، قال صلى الله عليه وسلم: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى [1/ 26] هَلَكَتِهِ فِي
(1)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 449).
الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا»
(1)
.
قال ابن حجر رحمه الله: «وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة، وأطلق الحسد عليها مجازًا، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره، من غير أن يزول عنه
…
فكأنه قال في الحديث: لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين»
(2)
.
أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بها لابن عباس رضي الله عنهما، فقال صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ»
(3)
، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يختار من الدعاء إلا أفضله.
أن الله جعلها أول مراتب الدعوة إليه، فقال:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
ثالثًا: وسائل تحقيق الحكمة
(4)
:
الحكمة من الصفات الفطرية التي يمنُّ بها الحكيم على من يشاء من عباده، إلا أنه سُبْحَانَهُ من رحمته وكرمه أقام أسبابًا تكتسب بها وتنمى، والتي منها:
الدعاء: لأن الله عز وجل مسديها والممتن بها على من يشاء، قال تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(73)، ومسلم، رقم الحديث:(816).
(2)
فتح الباري، لابن حجر (1/ 167).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3756).
(4)
ينظر: الرئاسة العامة للبحوث العلمية والافتاء، مجلة البحوث الإسلامية.
يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]، وقد دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بها لابن عباس رضي الله عنهما، فقال:«اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ» .
العلم: وأساسه وأهمه: العلم بالكتاب والسنة؛ لذا جاء في تفسير قوله تَعَالَى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] بأن الحكمة: فهم القرآن والفقه فيه، وجاء في تفسير قوله تَعَالَى:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] بأن الحكمة: السنة.
ثم سائر العلوم النافعة التي تثري الثقافة، وتزيد المعرفة، وتوسع الأفق، وتنمي الإدراك، وتطور الفكر.
البعد عن الذنوب والمعاصي: لأن الحكمة هبة من الله ونور منه، ونوره لا يهدى لعاص، إضافة إلى أن المعاصي تزيل النعم، وتجلب النقم، وتورث الذل وتفسد العقل، فلا يوفَّق صاحبها لا في أقواله ولا أفعاله.
الصدقة: قال تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 267 - 270]
…
الآيات.
فيلاحظ أن الله أدخل الحكمة بين آيات الصدقة والإنفاق، وكأن الصدقة سبب من أسباب تحصيل الحكمة والإصابة في القول والعمل.
الحلم: وهو: ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب.
الأناة: وهي: التثبت والتروي والتبصر في الأمور، وعدم العجلة فيها.
فمن رُزِق هاتين الصفتين كانتا سببًا من أسباب انضباط أفعاله وأقواله وحسن تدبيره، فتحصل بهما الحكمة.
الصمت: فهو صفة من صفات الحكماء كما جاء عن السلف رحمهم الله:
قال وهب بن منبه رحمه الله: «أجمعت الاطباء على أن رأس الطب: الحمية، وأجمع الحكماء على أن رأس الحكمة: الصمت»
(1)
.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: «إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت، ويهرب من الناس فاقتربوا منه، فإنه يلقي الحكمة»
(2)
.
قال وهيب بن الورد رحمه الله: كان يقال: «الحكمة عشرة أجزاء: فتسعة منها في الصمت، والعاشرة عزلة الناس»
(3)
.
قال الربيع بن أنس رحمه الله: «مكتوب في الحكمة: من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل في مداخل السوء يتهم، ومن لا يملك لسانه يندم»
(4)
.
نسأل الله أن يرزقنا الحكمة؛ فإنه من يؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيرًا كثيرًا.
(1)
الصمت، لابن أبي الدنيا (ص 278).
(2)
المرجع السابق.
(3)
المرجع السابق.
(4)
المرجع السابق.
الحَليمُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «
…
والحلم بالكسر: الأناة، تقول منه: حلم الرجل بالضم، وتحلَّم: تكلف الحلم
…
»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(حلم) الحاء واللام والميم، أصول ثلاثة: الأول ترك العجلة
…
فالأول: الحلم خلاف الطيش، يقال: حلمت عنه أحلم؛ فأنا حليم»
(2)
.
ورود اسم الله (الحليم) في القرآن الكريم:
ورد اسم (الحَليم) إحدى عشرة مرة في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235].
قوله تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263].
قوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51].
(1)
الصحاح (5/ 1903).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 93).
ورود اسم الله (الحليم) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الحليم) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ»
(1)
.
وعن علي رضي الله عنه، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلْتَهُنَّ غُفِرَ لَكَ عَلَى أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَكَ؟ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»
(2)
.
معنى اسم الله (الحليم) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225]-: «يعني: أنه ذو أناة، لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم»
(3)
.
وقال - أيضًا رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]-: «إن الله كان حليمًا لا يعجل على خلقه الذين يخالفون أمره، ويكفرون به، ولولا ذلك لعاجل هؤلاء المشركين الذين يدعون معه الآلهة والأنداد بالعقوبة»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6345)، ومسلم، رقم الحديث:(2730).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(1380)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(7630)، حكم الألباني: صحيح لغيره، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(6889).
(3)
تفسير الطبري (4/ 286).
(4)
المرجع السابق (19/ 607).
قال الزجاج رحمه الله: «الحليم هو الذي لا يعاجل بالعقوبة»
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «الحليم: هو ذو الصفح، والأناة، الذي لا يستفزه غضب ولا يستخفه جهل جاهل، ولا عصيان عاص»
(2)
.
قال الحليمي رحمه الله: «ومنها: الحليم، لأن معناه: الذي لا يحبس أنعامه وأفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكن يرزق العاصي كما يزرق المطيع وهو منهمك في معاصيه»
(3)
.
قال ابن الأثير رحمه الله: «(الحليم) هو الذي لا يستخفه شيء من عصيان العباد، ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقدارًا فهو منته إليه»
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «واسم (الحليم) من حلمه عن الجناة والعصاة، وعدم معاجلتهم»
(5)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «الحليم الذي يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم، فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يعجل، ويستر آخرين ويغفر؛ ولهذا قال: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]»
(6)
.
(1)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص 45).
(2)
شأن الدعاء (1/ 63).
(3)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 200 - 201).
(4)
النهاية في غريب الحديث (1/ 433 - 434).
(5)
مدارج السالكين (3/ 331).
(6)
تفسير ابن كثير (6/ 557).
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «الحليم الذي يدرُّ على خلقه النعم الظاهرة والباطنة، مع معاصيهم وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وَهْوُ الحَلِيمُ فَلَا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ
…
بِعُقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِنْ عِصْيَانِ
(2)
اقتران اسم الله (الحليم) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (الحليم) باسم الله (العليم):
اقترن اسم الله الحليم باسمه العليم في ثلاث آيات من كتاب الله، منها:
قوله تَعَالَى: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12]، وقوله:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51].
وجه الاقتران:
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «ولهذا جاء اسمه (الحليم) في القرآن في أكثر من موضع، ولسعته يقرنه سُبْحَانَهُ باسم (العليم) كقوله:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51]، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12]
…
فإن المخلوق يحلم عن جهل، ويعفو عن عجز، والرب تَعَالَى يحلم مع كمال علمه، ويعفو مع تمام قدرته، وما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم ومن عفو إلى اقتدار»
(3)
.
(1)
تفسير السعدي (ص 948).
(2)
النونية (ص 207).
(3)
عدة الصابرين (ص 276).
ثانيًا: اقتران اسم الله (الحليم) باسم الله (الغفور):
اقترن اسم الله الحليم باسمه الغفور في ست آيات من كتاب الله، من وروده:
قوله تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].
وجه الاقتران:
(1)
.
ثالثًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحليم) باسمه سُبْحَانَهُ (الغني):
اقترن اسم الله الحليم باسمه الغني في قوله تَعَالَى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263]؛ لدلالة على أن حلمه ليس عن عجز أو فقر أو حاجة بل عن غنى تام، وقدرة كاملة.
وجه الاقتران:
قال ابن القيم رحمه الله في بيان هذا الاقتران في الآية الكريمة: «أنه مع غناه التام من كل وجه فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح، مع عطائه
(1)
التحرير والتنوير (2/ 384).
الواسع وصدقاته العميمة، فكيف يؤذي أحدكم بمنه وأذاه مع قلة ما يعطي ونزارته وفقره!»
(1)
.
رابعًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحليم) باسمه سُبْحَانَهُ (الشكور):
اقترن اسم الله الحليم باسمه الشكور في قوله تَعَالَى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17]
وجه الاقتران:
لدلالة على أنه يشكر لعبده طاعته وإحسانه، مع حلمه عليه إذا قصر في عبادة الله.
خامسًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحليم) باسمه سُبْحَانَهُ (العظيم):
اقترن اسم الله الحليم باسمه العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: «لَا إِلَهَ إِلَّا الله العَظِيمُ الحَلِيمُ،
…
»
(2)
.
وجه الاقتران:
أن حلمه سُبْحَانَهُ عن قوة وعظمة، وليس عن عجز وحاجة.
أن عظمته يزينها الحلم؛ لأن الغالب في عظماء البشر وملوكهم ضعف الحلم عندهم؛ لأنهم يغترون بعظمتهم، ويبطشون بمن خالفهم ولا يحلمون عليهم، فبين تبارك وتعالى أن عظمته مقرونة بحلمه.
(1)
طريق الهجرتين (ص 367).
(2)
سبق تخريجه (ص 153).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الحليم):
الأثر الأول: اثبات ما يتضمنه اسم الله (الحليم) من صفاته تعالى:
الله سُبْحَانَهُ الحليم الذي له كمال الحلم وسعته، قال تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235]، وقال:{وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263].
فأما كمال حلمه:
فهو الحليم العليم الذي صدر حلمه عن علم تام، فأحاط بكل شيء علمًا، لم يغب عنه معصية العاصي، ولا شرك المشرك، ولا كفر الكافر {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 59].
وهو الحليم العظيم الذي صدر حلمه عن عظمة وقوة وقدرة تامة، فلم يعجزه ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء «لا إله إلا اللهُ العظيمُ الحليمُ»
(1)
.
وهو الحليم الغني الذي صدر حلمه عن غنى، فلم يحتج ويفتقر إلى أحد كائن من كان {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263]
(2)
.
وهو الحليم الحكيم الذي صدر حلمه عن حكمة كاملة لا سفه معها، يقدر الأمور ويضعها في مواضعها {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5].
وهو الحليم الغفور الشكور الذي صدر حلمه عن مغفرة وشكر، فيغفر الكثير من الزلل، ويقبل القليل من العمل، ويضاعفه بغير حساب، فيجعل
(1)
سبق تخريجه.
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 277).
القليل كثيرًا، والصغير كبيرًا {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17].
يرى عباده وهم يكفرون به، ويراهم وهم يبارزونه بالعصيان ليل نهار، وهو قادر على أن ينتقم منهم ويبادرهم بالعقاب، مع غناه عنهم وعدم حاجته إليهم، ومع ذلك كله يحلم بهم؛ لحكمة، فيؤخر وينظر ويؤجل، ولا يعاجلهم بالعقاب، لعلهم يرجعون وينيبون، فإذا رجعوا قبل توبتهم وغفر خطيئتهم وشكر لهم سعيهم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235].
قال الزجاجي رحمه الله: «فالله عز وجل حليم عن عباده؛ لأنه يعفو عن كثير من سيئاتهم ويمهلهم بعد المعصية، ولا يعاجلهم بالعقوبة والانتقام، ويقبل توبتهم بعد ذلك»
(1)
.
وهو الحليم الذي لا يقطع نعمته عمن غفل عنها وقصر في شكرها، بل لربما نسبها لغيره وشكره عليها، ونسي واهبها ومسديها، فيحلم عليه، ويمده منها.
وهو الحليم الذي لا يمنع نعمته عمن عصاه، يواليهم بالنعم، ويغدق عليهم بالمنن مع معاصيهم وكثرة ذنوبهم، بل إن العاصي لا يمكنه أن يعصي إلا أن يتقوى عليها بنعم الله عليه سمعًا وبصرًا ويدًا وقدمًا وصحة ومالًا ونحو ذلك، فيحلم به فلا يسلبها منه، ولا يحرمه منها، بل لربما زاده منها.
قال الحليمي رحمه الله: «الذي لا يحبس إحسانه وأفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكن يرزق العاصي كما يرزق المطيع وهو منهمك في معاصيه، كما
(1)
ينظر: اشتقاق أسماء الله الحسنى (ص 96).
يبقي البر التقي وقد يقيه الآفات والبلايا وهو غافل لا يذكره، فضلًا عن أن يدعوه، كما يقيها الناسك الذي يسأله، وربما شغلته العبادة عن المسألة»
(1)
.
بل من عظيم حلمه- جل في علاه- أن يعصي العاصي فيحلم به فيستره، ولا يفضحه، ويقيض له الأسباب لستره، ويكره منه أن يذيع معصيته ويشهر بها، حتى قال صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ»
(2)
.
ومن عظيم حلمه به: أن أمر عباده بستره وعدم فضحه، ورتب على ذلك الثواب العظيم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(3)
.
وهو الحليم الذي لولا حلمه لهلك العباد، قال تَعَالَى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]، وقال:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف: 58].
وهو الحليم الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، وأمسكهما من أن تزولا من كثرة ذنوب بني آدم، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41].
(1)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 200 - 201).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6069)، ومسلم، رقم الحديث:(2990).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2442).
وأما سعة حلمه:
فهو الحليم الذي وسع حلمه كل شيء، حلم على من أشرك به وعبد غيره، وحلم على من كفر به وعادى أوليائه ورسله، وحلم على من حارب دينه وسعى في إطفاء نوره، حلم على من شتمه وكذبه، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل:«يَشْتُمَنِي وَتَكَذَّبَنِي وَمَا يَنْبَغِي لَهُ. أَمَّا شَتْمُهُ فَقَوْلُهُ: إِنَّ لِي وَلَدًا وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي»
(1)
(2)
.
وَسِعَ حلمُه من قال فيه قولًا تكاد السماوات والأرض تنفطر منه وتخر له الجبال هدًّا، أن دعوا للرحمن ولدًا، فصبر عليهم وأمهلهم وأنعم عليهم وعافاهم ورزقهم، كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، يَدْعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»
(3)
.
ويدعوهم إلى بابه بخطاب في غاية اللطف واللين؛ ليتوبوا من هذا الذنب العظيم، فيجازيهم بالثواب الجزيل ويغفره لهم، قال تَعَالَى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 73، 74]
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3193).
(2)
ينظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم (ص 238).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7378)، ومسلم، رقم الحديث:(2804).
(4)
ينظر: تفسير السعدي (ص 459).
وسع حلمُه فرعونَ مع شدة طغيانه وعتوه، وإفساده في الأرض، حتى قال:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ، وقال:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، فحلم عليه، فلم يعاجله بالعقاب، وأمر رسله بالرفق معه في القول، فقال:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وقال:{فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18].
ووسع أصحابَ الأخدود، كفروا به وراودوا المؤمنين للرجوع عن دينهم ومتابعتهم على كفرهم، فامتنعوا، فشقوا الأخدود في الأرض وأججوا فيه النار، ثم فتنوا المؤمنين وعرضوهم على النار، فمن استجاب لهم أطلقوه، ومن امتنع قذفوه، وهذا في غاية المحاربة والمحادة لله وأوليائه، ومع ذلك كله حلم بهم ودعاهم للتوبة والرجوع، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] قال الحسن البصري رحمه الله: «انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة»
(1)
.
ووسع حلمُه من استعجل عقابه ودعا بنزوله، قال تَعَالَى:{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 32 - 33]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص: 16، 17].
وقال سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11].
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (8/ 366، 271)، وتفسير السعدي (ص 919).
(1)
(2)
.
فما أعظم حلمه، وما أوسع فضله، وما أجزل عطاءه ومننه
(3)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (الحليم) على التوحيد:
إذا علم العبد أن الله جل جلاله له الكمال التام في أسمائه وصفاته الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه، ومن ذلك: اسمه الحليم: فحلم لا عن جهل، بل عن علم تام، وحلم لا عن حاجة، بل عن غنى تام، وحلم لا عن عجز، بل عن قدرة تامة، حلم مع عظمته وجلاله، حلم فأمهل، وحلم فستر، وحلم فأنعم، وسع حلمه كل شيء؛ تيقن أنه لا شبيه له ولا يماثله شيء من مخلوقاته
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 251).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(3014).
(3)
ينظر: الحق الواضح المبين، للسعدي (ص 56 - 57).
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فلا يستحق أن يشرك معه غيره ويعبد أحد سواه، بل هو الواحد الأحد جل في علاه.
الأثر الثالث: محبة الله تَعَالَى الحليم:
إذا نظر العبد وتأمل في كثرة ذنوبه ومعاصيه، وكيف أن ربه الحليم ستره، فلم يفضحه، ولم يقطع عنه نعمه، فضلًا عن كونه لم يعاجله بالعقوبة، ثم التفت عن يمينه ويساره فوجد فلانًا قريبه على معصية، وصديقه فلانًا على معصية أخرى، والكل ينعَم بحلم الله، ولولا حلمه لهلك، وهلك أحبابه والناس أجمعون! قال تَعَالَى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر: 45]؛ قاده ذلك التأمل والنظر إلى محبته تبارك وتعالى حق المحبة وأعظمها.
الأثر الرابع: عدم الاغترار بحلم الله:
إذا تيقن العبد معنى اسم الله (الحليم) وما فيه من كمال وسعة، فعليه أن يضم لهذا اليقين يقينًا آخر، فالله الحليم حسيب يحفظ عمل العبد ولا يخفى عليه شيء منه، والله الحليم قدير لا يعجزه أحد من خلقه ولا يفوته، بل الكل في قبضته، والله الحليم قوي عزيز لا يغلبه أحد ولا يمتنع عليه ممتنع، والله الحليم شديد العقاب، والله الحليم منتقم، والله الحليم بطشه شديد، يمهل ولا يهمل، فإذا أَخَذَ أَخَذَ أَخْذَ عزيزٍ مقتدرٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4686)، ومسلم، رقم الحديث:(2583).
حلم على قوم نوح وما هم فيه من الشرك والكفر به ألف سنة إلا خمسين عامًا، فلم يزدهم حلمه وإمهاله لهم إلا عنادًا وطغيانًا، وقدحًا في نبيهم، فقالوا: مجنون، وزجروه وعنفوه أن دعاهم إلى الله، فلم يكفهم الكفر والتكذيب حتى أوصلوا إليه من أذيتهم ما قدروا عليه، فانتقم الحليم منهم، فقال:{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 11 - 16]
(1)
.
حلم على عاد وثمود على ما هم فيه من الشرك والكفر والطغيان، فأعطاهم من القوة وعظم الأجسام ما أعطاهم، والقدرة على البناء الشيء العجيب، وأرسل إليهم الرسل وأيدهم بالآيات والبراهين، فلما لم تنفع فيهم الآيات والعبر، ولم تُجْدِ شيئًا؛ انتقم الحليم منهم، فقال سُبْحَانَهُ:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 4 - 8].
حلم على فرعون وقومه مع شدة بطشهم وطغيانهم، فأرسل إليهم موسى الكليم، وأيده بالآيات الباهرات، والمعجزات القاهرات وأشهدهم من العبر ما لم يشهد عليه أحدًا غيرهم، فلما كذبوا بآيات الله كلها، وبيتوا القضاء على موسى ومن معه؛ فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، قال تَعَالَى:{فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} [الإسراء: 103]
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص 825).
(2)
ينظر: المرجع السابق (ص 827).
فالله حليم ولم يزل ولا يزال حليمًا، ولا يغضب إلا على من لا يستحق الرحمة ولا يصلح في حقه الحلم، وذلك بعد أن يعطيه المهلة والوقت الكافي؛ ليتوب ويهتدي، فإذا لم يرجع أخذه أخذ عزيز مقتدر.
وقد يمهله- أيضًا- ويتأنى به ويرزقه ولا يعجله بعقوبة في الدنيا، لكن موعده الساعة، قال تَعَالَى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]، وقال:{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 43 - 48].
فإذا تيقن العبد سعة حلم الله تَعَالَى، وتيقن شدة عذابه، وجمع بين اليقينين، ولاحظ كلًّا منهما؛ سار على الصراط المستقيم، ولم يغتر بحلم الله عليه، وقام في قلبه المقامان العظيمان: مقام الخوف ومقام الرجاء اللذين جمع الله بينهما في كتابه، حتى لا يغفل غافل عن أحدهما، فيحصل الإفراط أو التفريط، قال تَعَالَى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقال:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98] إلى غير ذلك من الآيات.
وجمع بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ»
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2755).
الأثر الخامس: الحذر من الغفلة:
إذا علم العبد أن الله (حليم)، فليعلم أنه سُبْحَانَهُ يحلم ولا يعاجل بالعقوبة ليتوب العباد وينيبوا، لا لأن يغفلوا ويتمادوا في الكفر والعصيان كما هو مشاهد في كثير من الناس، قال تَعَالَى:{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92].
والغفلة من أعظم أمراض القلوب وأخطرها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«الغفلة والهوى أصل الشر، قال تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، والهوى وحده لا يستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل- أي: الغفلة-»
(1)
.
وقد حذر الله منها، ونوَّع الأساليب في ذلك مبالغةً في التحذير منها، ومن ذلك:
ذم الغافلين عن الآخرة، فقال تَعَالَى:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].
قرن الغفلة بالتكذيب، قال تَعَالَى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].
عاقب من أصيب بالغفلة الكاملة، بالختم على قلبه، وسمعه، وبصره، قال تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ
(1)
الحسنة والسيئة، لابن تيمية (ص 61).
لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
عاقب صاحبها- أيضًا- بأن أغفله عن ذكره، وجعله متبعًا لهواه، فكان أمره ضائعًا معطلًا، قال تَعَالَى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
جعل الغفلة سببًا للهلاك في الدنيا، فقال في قوم فرعون:{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 135، 136].
بين أن أهل الغفلة يتحسرون يوم القيامة على غفلتهم عن الآخرة، قال تَعَالَى:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 96].
جعل الغفلة سببًا لدخول النار- والعياذ بالله-، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7، 8].
وللغفلة أسباب أوقعت كثيرًا من الناس فيها، منها:
الجهل بالله تَعَالَى: بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وشرعه.
مخالطة أهل الغفلة، قال تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
ترك صلاة الجماعة: فعن ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم، أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«للَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجَمَاعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ»
(1)
.
طول الأمل، قال تَعَالَى:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].
قلة ذكر الموت، قال تَعَالَى:{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22].
عدم التدبر في آيات الله الكونية، قال تَعَالَى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
الحرص على الدنيا وملذاتها والاستكثار منها، قال تَعَالَى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1].
الاشتغال بالملهيات التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الانغماس فيها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(5628)، وابن ماجه، رقم الحديث:(794)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(794).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(2859)، والترمذي، رقم الحديث:(2256)، والنسائي، رقم الحديث:(4320) حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2256).
قال ابن حجر رحمه الله: «هو محمول على من واظب على ذلك، حتى يشغله عن غيره من المصالح الدينية وغيرها»
(1)
فإذا كان هذا في الصيد الذي فيه من المنافع ما فيه من تقوية البدن والإعانة على جهاد الأعداء، فما بالك بما دونه؟!
وكما أن للغفلة أسبابًا، فلها طرق علاج، منها:
العلم بالله وشرعه، قال تَعَالَى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].
قال ابن كثير رحمه الله: «لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى- كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر»
(2)
.
التقوى، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
قراءة القرآن وتدبره، قال الله تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وقال:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [الأنبياء: 50].
ذكر الله تَعَالَى على كل حال، قال تَعَالَى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].
(1)
فتح الباري، لابن حجر (9/ 662).
(2)
تفسير ابن كثير (6/ 544).
قال ابن القيم رحمه الله: «إنه- أي: الذكر- يورث جلاء القلب من صداه
…
وصدأ القلب: الغفلة والهوى، وجلاؤه: الذكر والتوبة والاستغفار»
(1)
.
المحافظة على الصلوات الخمس؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَافَظَ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ»
(2)
.
قيام الليل؛ فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ»
(3)
.
صيام التطوع، لا سيما عند غفلة الناس؛ فعن أسامة رضي الله عنه قال:«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»
(4)
.
الدعاء بزوال الغفلة، ومنه: الاستعاذة بالله من مصدرها- الشيطان-، والاستعاذة بالله منها، لا سيما بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، يقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ
(1)
الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص 42 - 43).
(2)
أخرجه ابن خزيمة، رقم الحديث:(1142)، والحاكم رقم الحديث:(1164)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(657).
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1398)، حكم الألباني، صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1398).
(4)
أخرجه النسائي، رقم الحديث:(2356)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن النسائي رقم الحديث:(2357).
الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ، وَالْقَسْوَةِ وَالْغَفْلَةِ، وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْكُفْرِ، وَالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَالسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الصَّمَمِ وَالْبَكَمِ، وَالْجُنُونِ، وَالْبَرَصِ وَالْجُذَامِ، وَسَيِّيءِ الْأَسْقَامِ»
(1)
.
تدبر حال الدنيا وأن مصيرها ومصير ملذاتها إلى الفناء والزوال، قال الله تَعَالَى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].
تذكر الموت والبلى؛ فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّ فِي زِيَارَتِهَا تَذْكِرَةً»
(2)
، وقال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ»
(3)
يعني: الموت.
الأثر السادس: اتصاف العبد بالحلم:
الله الحليم يحب أن يتصف عبده بصفة الحلم؛ لذا مدح أنبيائه به، فقال:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]، وقال:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]، وقال عن إسماعيل:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس رضي الله عنه:«إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ»
(4)
.
(1)
أخرجه ابن حبان، رقم الحديث:(1023)، والحاكم، رقم الحديث:(1950)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1285).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(3235)، والترمذي، رقم الحديث:(1054)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(3235).
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2307)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4258)، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(4258).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(17).
فإذا علم العبد ذلك فعليه أن يجاهد نفسه على التخلق بهذه الخلة والخصلة الكريمة، فيحلم على من عصا أمره ومن خالفه، ويحلم على خدمه ومن تحت أمرته كما حلم الله عليه، قال تَعَالَى:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].
قال القرطبي رحمه الله: «فمن الواجب على من عرف أن ربه حليم على من عصاه، أن يحلم هو على من خالف أمره، فذاك به أولى حتى يكون حليمًا، فينال من هذا الوصف بمقدار ما يكسر سورة غضبه، ويرفع الانتقام عمن أساء إليه، بل يتعود الصفح حتى يعود الحلم له سجية.
وكما تحب أن يحلم عنك المالك، فاحلم أنت عمن تملك؛ لأنك متعبد بالحلم، مثاب عليه، قال الله تَعَالَى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وقال {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]».
(1)
وفي الملحق التالي ما يعين -بإذن الله- على التخلق بخلق الحلم والاتصاف به.
(1)
الأسنى، القرطبي (1/ 97 - 98).
في موضوع الحلم سنتطرق للمسائل التالية:
أولًا: تعريف الحلم:
قال الجرجاني رحمه الله: «الحلم هو الطمأنينة عند سورة الغضب، وقيل: تأخير مكافأة الظالم - أي: مجازاته على ظلمه-»
(1)
.
وقال المناوي رحمه الله: «الحلم هو احتمال الأعلى الأذى من الأدنى، أو رفع المؤاخذة عن مستحقها بالجناية في حق مستعظم، أو هو رزانة في البدن يقتضيها وفور العقل»
(2)
(3)
.
ثانيًا: فضائل الحلم:
الحلم من الصفات المحمودة التي رغب فيها الإسلام، وبيَّن فضلها في الكتاب والسنة، ومن هذه الفضائل:
أن الحلم من صفات عباد الله الصالحين، قال الله تَعَالَى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]،
(1)
التعريفات (ص 92).
(2)
التوقيف على مهمات التعاريف (ص 146).
(3)
ينظر: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، لابن حميد (5/ 1736).
قال الحسن البصري رحمه الله: «حلماء لا يجهلون، وإن جهل عليهم حلموا»
(1)
.
أن الحلم من الصفات التي يحبها الله؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله لأشج عبد القيس رضي الله عنه: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ»
(2)
، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ»
(3)
.
أن الحلم سبب لإعانة الله للعبد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ
(4)
، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ»
(5)
.
قال النووي رحمه الله: «ومعناه: كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم، ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته وإدخالهم الأذى عليه، وقيل: معناه إنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم؛ لكثرة إحسانك
(1)
تفسير ابن كثير (6/ 122).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6927)، ومسلم، رقم الحديث:(2593)، واللفظ له.
(4)
تسفهم: من السف، أي: تذر الشيء عليهم.
المل: الرماد الحار. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 375)، شرح النووي على مسلم (16/ 115).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2558).
وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسف المل، وقيل: ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم»
(1)
.
أن الحلم سبب لدفاع الملائكة عن صاحبه؛ فعن سعيد بن المسيب، أنه قال:«بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أصحابه وقع رجل بأبي بكر، فآذاه، فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثانية، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثالثة، فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله حين انتصر أبو بكر، فقال أبو بكر: أوجدت علي يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُكَذِّبُهُ بِمَا قَالَ لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَرْتَ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَجْلِسَ إِذْ وَقَعَ الشَّيْطَانُ»
(2)
.
أن من أوتي الحلم- الذي من أعلى صوره وأجلها: العفو عن المسيء مع الإحسان إليه- أوتي حظًّا عظيمًا، قال تَعَالَى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35].
أن الحلم سبب لنيل الدرجات العلى والجزاء الأوفى في الأخرة، قال تَعَالَى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134] إلى
(1)
شرح النووي على مسلم (16/ 115).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4896)، حكم الألباني: حسن لغيره، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2376).
أن قال: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللهُ تبارك وتعالى عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ»
(1)
.
أن الحلم من خلق الأنبياء عليهم السلام، قال تَعَالَى عن إبراهيم:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]، وقال عن إسماعيل عليه السلام:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وقد انطوت البشارة على ثلاث: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ الحلم، وأنه يكون حليمًا، وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح، فقال:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]؟
وقيل: لم ينعت الله الأنبياء بأقل من الحلم؛ وذلك لعزة وجوده، ولقد نعت إبراهيم به في قوله تَعَالَى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]؛ لأن الحادثة شهدت بحلمهما: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(15877)، وأبو داود، رقم الحديث:(4777)، والترمذي، رقم الحديث:(2021)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4186)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(6522).
(2)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 332).
وقال عن شعيب عليه السلام حكاية لقول قومه له: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87]، وقال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
ومنه الحلم الذي نطقت به سيرته وشهدت به مواقفه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
(1)
.
ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها «أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ؟
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5809)، ومسلم، رقم الحديث:(1057).
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»
(1)
.
(2)
.
ثالثًا: وسائل تعين على الاتصاف بصفة الحلم:
الحلم من الصفات الجبلية التي يمتن الله بها على بعض عباده، كما امتن بها على الأشج رضي الله عنه؛ فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا، أَمِ اللهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا، قَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ»
(3)
.
ومع ذلك فالحلم من الصفات المكتسبة- أيضًا- لذا جاء في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3231)، ومسلم، رقم الحديث:(1795).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6024)، ومسلم، رقم الحديث:(2165).
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5225)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(5313)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5225).
(4)
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، رقم الحديث:(2663)، وابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال، رقم الحديث:(243)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(2328).
وهذا ذكر لبعض الوسائل التي تعين على هذا الخلق الكريم:
تذكر كثرة حلم الله على العبد:
قال أَبُو حاتم رحمه الله: «الواجب على العاقل إذا غضب واحتد: أن يذكر كثرة حلم الله عنه، مع تواتر انتهاكه محارمه، وتعديه حرماته، ثم يحلم ولا يخرجه غيظه إلى الدخول في أسباب المعاصي»
(1)
.
تذكر الفضل والثواب المترتب على الحلم.
استشعار أن مقابلة المسيء بجنس عمله لا تفيد شيئًا، ولا تزيد العداوة إلا شدة، وبضد ذلك الحلم عليه والإحسان إليه فإنه يقلب العداوة مودة، كما قال أصدق القائلين:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]
(2)
.
ترويض النفس على الصبر والتخلق به؛ فقد بين الله عز وجل أن السبيل للعفو عن المسيء ومقابلة إساءته بالإحسان الذي هو من أعظم صور الحلم سبيله الصبر، قال تَعَالَى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت: 34، 35] قال ابن عاشور رحمه الله: «فالصابر مرتاض بتحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ، فيهون عليه ترك الانتقام»
(3)
.
(1)
روضة العقلاء، لابن حبان (ص 212).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص 749).
(3)
التحرير والتنوير (24/ 295).
الابتعاد عن الغضب وأسبابه، ومعالجته إذا وقع؛ وذلك لأنه يدفع صاحبه إلى الحقد والانتقام ومقابلة السوء بالسوء، ويصعب معه الحلم، قال لقمان الحكيم:«ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا يعرف الشجاع إلا عند الحرب، ولا يعرف الأخ إلا عند الحاجة»
(1)
.
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فأوصى بالابتعاد عنه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال:«لَا تَغْضَبْ» ، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ:«لَا تَغْضَبْ»
(2)
.
وبين الطرق العملية لمعالجته إذا وقع، فمنها:
الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ فعن سليمان بن صرد رضي الله عنه، قال:«كنت جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان، فأحدهما احمر وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ» ،
(3)
وذلك لأن الغضب من نزغه
(4)
.
الوضوء؛ فعن عطية رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ»
(5)
.
(1)
إحياء علوم الدين (3/ 179).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6116).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3282)، ومسلم، رقم الحديث:(2610).
(4)
ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 163).
(5)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18268)، وأبو داود، رقم الحديث:(4784)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، رقم الحديث:(1510).
السكوت؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«عَلِّمُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ»
(1)
.
تغير الحال الذي يكون عليه؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ»
(2)
. قال الخطابي رحمه الله: «القائم متهيئ للحركة والبطش، والقاعد دونه في هذا المعنى، والمضطجع ممنوع منهما، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع؛ لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها في ما بعد»
(3)
.
اللهمَّ يا حليمُ يا غفورُ سبحانِكَ وبحمدِكَ، أسألُكَ حِلْمَكَ ومَغْفرَتَكَ.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(2168)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(245)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع، رقم الحديث:(4027).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(21744)، وأبو داود، رقم الحديث:(4782)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(4782).
(3)
معالم السنن (4/ 108).
الحَميْدُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الحمد: نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل، أحمده حمدًا ومحمدة، فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد، والحمد أعم من الشكر، والمحمد: الذي كثرت خصاله المحمودة»
(1)
.
(2)
.
ورود اسم الله (الحَمِيد) في القرآن الكريم:
ورد اسم (الحَمِيد) سبع عشرة مرة في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قوله عز وجل: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].
(1)
الصحاح (2/ 28).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 100).
وقوله عز وجل: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73].
وقوله عز وجل: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24].
ورود اسم الله (الحَمِيد) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الحَمِيد) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا: «يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»
(1)
.
معنى اسم الله (الحَمِيد) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله: «هو المحمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله»
(2)
، وقال- في موضع آخر-:«والحميد الذي استوجب عليكم- أيها الخلق- الحمد بصنائعه الحميدة إليكم وآلائه الجميلة لديكم، فاستديموا ذلك- أيها الناس- باتقائه، والمسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به وينهاكم عنه»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3369).
(2)
تفسير الطبري (4/ 711).
(3)
المرجع السابق (7/ 579).
قال الزَّجَّاج رحمه الله: «الحميد هو فعيل في معنى: مفعول، والله تَعَالَى هو المحمود بكل لسان وعلى كل حال، كما يقال في الدعاء: الحمد لله الذي لا يحمد على الأحوال كلها سواه»
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «(والحميد) هو المحمود الذي استحق الحمد بأفعاله، وهو فعيل بمعنى: مفعول، وهو الذي يحمد في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء؛ لأنه حكيم لا يجري في أفعاله الغلط، ولا يعترضه الخطأ، فهو محمود على كل حال»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «الحميد هو الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محمودًا، وإن لم يحمده غيره، فهو حميد في نفسه، والمحمود من تعلق به حمد الحامدين»
(3)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «وهو (الحميد) أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله، وشرعه وقدره لا إله إلا هو ولا رب سواه»
(4)
.
قال السعدي رحمه الله: «الحميد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فله من الأسماء أحسنها، ومن الصفات أكملها، ومن الأفعال أتمها وأحسنها؛ فإن أفعاله تَعَالَى دائرة بين الفضل والعدل»
(5)
.
(1)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص 55).
(2)
شأن الدعاء (ص 78).
(3)
جلاء الأفهام (ص 316).
(4)
تفسير ابن كثير (1/ 321).
(5)
تفسير السعدي (ص 946).
قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
وَهْوُ الحَمِيدُ فَكُلُّ حَمْدٍ وَاقِعٍ
…
أَوْ كَانَ مَفْرُوضًا مَدَى الأَزْمَانِ
مَلَأَ الوُجُودَ جَمِيعَهُ وَنَظِيرَهُ
…
مِنْ غَيْرِ مَا عَدٍّ وَلَا حُسْبَانِ
هُوَ أَهْلُهُ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ
…
كُلُّ المَحَامِدِ وَصْفُ ذِي الإِحْسَانِ
(1)
الفرق بين الحمد والشكر:
الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه، وأخص من جهة متعلقاته، والحمد أعم من جهة المتعلقات، وأخص من جهة الأسباب.
ومعنى هذا: أن الشكر يكون بالقلب خضوعًا واستكانة، وباللسان ثناء واعترافًا، وبالجوارح طاعة وانقيادًا.
ومتعلقه: النعم، دون الأوصاف الذاتية، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه- وهو المحمود عليها- كما هو محمود على إحسانه وعدله، والشكر يكون على الإحسان والنعم.
فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس؛ فإن الشكر يقع بالجوارح، والحمد يقع بالقلب واللسان
(2)
.
(1)
النونية (ص 204).
(2)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 237).
اقتران اسم الله (الحَمِيد) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقترن اسمه سُبْحَانَهُ (الحميد) باسمه سُبْحَانَهُ (العزيز):
وذلك في ثلاثة مواضع، ومنها: قوله تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8].
وجه الاقتران:
(1)
.
ويتلخص من هذا معنيان:
أن له الحمد على عزته وغلبته، وعلى إعزازه لأوليائه، ونصره لجنده وحزبه.
أن العزة تحمل- في الغالب- على التعسف والظلم والقهر، أما الله عز وجل فمع عزته الكاملة إلا أنه محمود في هذه العزة؛ فهي عزة تحمله على كمال العدل.
ثانيًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحميد) باسمه سُبْحَانَهُ (الغني):
وذلك في عشرة مواضع في كتاب الله، ومن وروده: قوله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا
(1)
مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم، لنجلاء الكردي (ص 208).
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].
وجه الاقتران:
(1)
.
وكذلك يقال في وجه هذا الاقتران مثل ما قيل في اقتران اسمي الله العزيز والحميد؛ فإن الغنى في العادة يقود إلى الطغيان والبطر، كما قال تَعَالَى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7] أما غنى الرب المحمود بأفعاله؛ فهو غنى مع البذل والعطاء، الذي يستوجب الحمد والثناء.
ثالثًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحميد) باسمه سُبْحَانَهُ (الحكيم):
وذلك مرة واحدة في كتاب الله: في قوله تَعَالَى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
وجه الاقتران:
يقول الشيخ السعدي رحمه الله: «{تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} في خلقه وأمره، يضع كل شيء موضعه وينزله منازله، {حميد} على ما له من صفات الكمال
(1)
طريق الهجرتين، لابن القيم (ص 374).
ونعوت الجلال، وعلى ما له من العدل والإفضال؛ فلهذا كان كتابه مشتملًا على تمام الحكمة، وعلى تحصيل المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار التي يحمد عليها»
(1)
.
رابعًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الحميد) باسمه سُبْحَانَهُ (المجيد):
وذلك مرة واحدة في كتاب الله: في قوله تَعَالَى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73].
وجه الاقتران:
(2)
.
(1)
تفسير السعدي (ص 750).
(2)
جلاء الأفهام (ص 316).
خامسًا: اقترن اسمه سُبْحَانَهُ (الحميد) باسمه سُبْحَانَهُ (الولي):
وذلك مرة واحدة في كتاب الله: في قوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].
وجه الاقتران:
يقول السعدي رحمه الله: «هو الولي الذي يتولى عباده بأنواع التدبير، ويتولى القيام بمصالح دينهم ودنياهم، الحميد في ولايته وتدبيره، الحميد على ما له من الكمال، وما أوصله إلى خلقه من أنواع الإفضال»
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الحَمِيد):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الحميد) من الصفات:
الله سُبْحَانَهُ هو له الحمد كاملًا تامًّا، وذلك من وجهين، يقول السعدي رحمه الله: «والله سُبْحَانَهُ حميد من وجهين:
أحدهما: أن جميع المخلوقات ناطقة بحمده، فكل حمد وقع من أهل السماوات والأرض الأولين منهم والآخرين، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة، وكل حمد- لم يقع منهم، بل كان مفروضًا ومقدرًا؛ حيثما تسلسلت الأزمان واتصلت الأوقات حمدًا يملأ الوجود كله، العالم العلوي والسفلي، ويملأ نظير الوجود من غير عد ولا إحصاء؛ فإن الله تَعَالَى مستحقه كله لاغيره.
ثانيهما: أنه يحمد على ماله من الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا، والمدائح والمحامد والنعوت الجليلة الجميلة، فله كل صفة كمال،
(1)
تفسير السعدي (1/ 758).
وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها، فكل صفة من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد والثناء، فكيف بجميع الأوصاف المقدسة، فله الحمد لذاته، وله الحمد لصفاته، وله الحمد لأفعاله؛ لأنها دائرة بين أفعال الفضل والإحسان، وبين أفعال العدل والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد، وله الحمد على خلقه، وعلى شرعه، وعلى أحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية، وأحكام الجزاء في الأولى والآخرة، وتفاصيل حمده وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار، ولا تحصيها الأقلام»
(1)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (الحميد) على التوحيد:
من تأمل في اسم الله الحميد، وما فيه من دلائل كمال الذات والأسماء والصفات؛ علم أنه لا إله تنبغي له الألوهية والربوبية غيره.
- وقد مدح الله نفسه على تفرده في الألوهية، وامتناعه عن الاتصاف بما لا يليق به من اتخاذ الولد والشريك، أو موالاة أحد من الخلق لحاجة له، فقال تَعَالَى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
- ومدح الله نفسه على تفرده في الربوبية، فقال:{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
[الجاثية: 36، 37] وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].
وكما أن اسم الله الحميد دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال على الأسماء والصفات؛ إذ كل أسمائه وصفاته حمد تَعَالَى سُبْحَانَهُ وتقدس.
(1)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص 190).
الأثر الثالث: كل ما في الكون يحمد الله سُبْحَانَهُ:
يقول السعدي رحمه الله عند تفسيره لقوله تَعَالَى-: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، «أي: من حيوان ناطق وغير ناطق، ومن أشجار ونبات وجامد، وحي وميت {إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} بلسان الحال، ولسان المقال، {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي: تسبيح باقي المخلوقات التي على غير لغتكم، بل يحيط بها علام الغيوب»
(1)
.
كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: «وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ»
(2)
، ويقول سُبْحَانَهُ- في موضع آخر-:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18]، ومن تأمل هذه الآية بقلبه علم أن الخلائق كلها ما أدركناه وما لم ندركه، والأفلاك والأجرام جميعها ماعلمناه، وما لم نعلمه، والجبال والأشجار والدواب، كل تلك الحشود تسير في موكب واحد خاشع تسجد كلها لله، وتتجه له وحده دون سواه، إلا ذلك الإنسان، فهو وحده الذي اختلف حاله وانقسم مصيره، {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18].
وإنما كان كل ما في الكون حامدًا لله؛ لأنه ملك له، فعمومية الحمد بعمومية الملك.
(1)
تفسير السعدي (1/ 458).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3579).
يقول ابن القيم رحمه الله في هذا-: «الملك والحمد في حقه متلازمان، فكل ما شمله ملكه وقدرته شمل حمده، فهو محمود في ملكه، وله الملك والقدرة مع حمده، فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته يستحيل خروجها عن حمده وحكمته؛ ولهذا يحمد سُبْحَانَهُ نفسه عند خلقه وأمره، لينبه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن حمده، فهو محمود على كل ما خلقه وأمر به حمد شكر وعبودية، وحمد ثناء ومدح، ويجمعهما التبارك، فتبارك الله يشمل ذلك كله؛ ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
فالحمد أوسع الصفات، وأعم المدائح والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة، والسبيل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته، وتفاصيل الأمر والنهى واسعة جدًا؛ لأن جميع أسمائه تبارك وتعالى حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووجد بحمده، وظهر بحمده، وكان الغاية هي حمده، فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله، فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات، وظهور آثاره فيه أمر مشهود بالأبصار والبصائر»
(1)
.
والحمد لله سُبْحَانَهُ ممتد في الدنيا والآخرة، يقول سُبْحَانَهُ:{لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [القصص: 70]، وممتد كذلك في السماء والأرض، يقول تَعَالَى:{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18]،
(1)
طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص 14 - 19).
وممتد عبر الزمان يقول سُبْحَانَهُ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17].
الأثر الرابع: الحمد المطلق لله وحده:
فالحمد من أوله إلى آخره مستحق لله تَعَالَى، كما قال الله عز وجل:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]، فالألف واللام في الحمد تدل على الاستغراق، أي: هو الذي له جميع المحامد بأسرها، ولا يكون ذلك لأحد إلا لله تبارك وتعالى فهو حميد في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله، وفي كل شأن من شؤونه.
يقول ابن القيم رحمه الله في معنى قول: (الحمد كله لله) -: «فإذا قيل: الحمد كله لله، فهذا له معنيان:
أحدهما: أنه محمود على كل شيء، وهو مايحمد به رسله وأنبياؤه وأتباعهم، فذلك من حمده عز وجل، بل هو المحمود بالقصد الأول، والمحمود أولًا وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا
…
أما المعنى الثاني: أن يقال: (لك الحمد كله) أي: الحمد التام الكامل، وهذا مختص بالله ليس لغيره فيه شركة، والتحقيق: أن له الحمد بالمعنيين جميعًا، فله عموم الحمد وكماله، وهذا من خصائصه سُبْحَانَهُ»
(1)
.
الأثر الخامس: افتتاح كل أمر بحمده تعالى، واختتامه به:
- افتتح الله الخلق بالحمد في قوله سُبْحَانَهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]،
(1)
أسماء الله الحسنى (ص 207).
واختتمه بالحمد- أيضًا- في قوله: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]».
- أهل الجنة يفتتحون دخولهم الجنة بالحمد، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، وآخر دعواهم في الجنة: الحمد لله، يقول عز وجل:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
- خطبة الحاجة مفتتحة بالحمد لله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ بها كل خطاب، وهي:«إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»
(1)
.
كل تفاصيل حياة المؤمن تبدأ بالحمد وتختم به، ومن ذلك: النوم
(2)
، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه، قال:«الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا، وَسَقَانَا، وَكَفَانَا، وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ، وَلَا مُؤْوِيَ»
(3)
، فإذا استيقظ قال:«الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»
(4)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(1892)، والدارمي، رقم الحديث:(1892)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف ابن ماجه رقم الحديث:(1892).
(2)
سنذكر في الملحق الكثير من مواضع الحمد؛ لذا فقد اكتفينا هنا بالإشارة إلى موضع واحد.
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2715).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6325)، ومسلم، رقم الحديث:(2711).
الأثر السادس: لا نحصي ثناء على الحميد سُبْحَانَهُ:
من تأمل الشواهد القرآنية وجد أن الحميد سُبْحَانَهُ نوَّع حمده، وأسباب حمده، فجمعها تارةً وفرقها أخرى؛ ليتعرف العبيد على ربهم، ويتعلموا كيف يحمدوه ويثنوا عليه.
ويمكن تقسيم هذه المحامد والنعم إلى قسمين:
محامد ونعم دينية:
حمده على وحدانيته، وتعاليه عن الشريك والنظير والمثيل:
فإن من أعظم نعم الحميد سُبْحَانَهُ أن جعلنا عبيدًا له خاصة، ولم يجعلنا منقسمين بين شركاء متشاكسين، فالحميد سُبْحَانَهُ حمد نفسه على ربوبيته للعالمين، فقال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]، وعلى تفرده وامتناعه عما ينافي الكمال من اتخاذ الولد والشريك، فقال تَعَالَى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
وحمد نفسه بكونه حيًّا لا يموت؛ لتضمنه كمال حياته، فقال تَعَالَى:{هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65]، ولنعلم بأن حقيقة الحمد تابعة لإثبات أوصاف الكمال، ولهذا لا يحمد نفسه سُبْحَانَهُ بعدم إلا إذا كان متضمنًا لثبوت كمال.
حمده على كمال ملكه:
يقول الله -حامدًا نفسه على كمال ملكه-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي
الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 1 - 2].
وكيف لا يحمد سُبْحَانَهُ على كمال خلقه، وهو:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، وعلى صنعه وقد أتقنه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].
حمده على نور التوحيد، وجعله وسيلة النجاة لسائر العبيد:
فمن محامد الرب سُبْحَانَهُ: أن هدى عباده المتقين إلى سبيل دار السلام، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وسماهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، وتحبب إليهم بنعمه مع غناه عنهم، وفقرهم إليه، ومع هذا كله فقد جعل لهم دارًا وأعد لهم فيها من كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وملأها من جميع الخيرات، وأودعها من النعيم والسرور والبهجة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم يسر لهم الأسباب التي توصلهم إليها وأعانهم عليها.
وضمن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشرًا، وإن أساءوا واستغفروه أن يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو ما جنوه من السيئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات، وذكرهم بآلائه، وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحسانًا، لا حاجة منه إليهم، ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصيانة لهم، لا بخلًا منه عليهم، وأمرهم بأشرف الخصال، ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال.
وصرف لهم الآيات، وضرب لهم الأمثال، ووسع لهم طرق العمل به ومعرفته، وفتح لهم أبواب الهداية، وعرفهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه، وتبعدهم عن غضبه، وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه، ونصحهم بأحسن النصائح، ووصاهم بأكمل الوصايا، وسماهم بأحسن أسمائهم.
ومن أمثلة ذلك: قوله سُبْحَانَهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]، وقوله:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وقوله:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} [إبراهيم: 31]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
حمده على إنزال القرآن وإرسال الرسل:
يقول الشيخ السعدي رحمه الله عند تفسيره لقوله تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 1 - 2]-: «إن أجلَّ نعمه على الإطلاق: إنزاله الكتاب العظيم على عبده ورسوله محمد
صلى الله عليه وسلم، فحمد نفسه، وفي ضمنه إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم، وإنزال الكتاب عليهم»
(1)
.
محامد ونعم دنيوية:
حمده على تسخير الكون لخدمة عبيده:
ولعل من أفضل ماقيل في ذلك: قول ابن القيم رحمه الله: «الدنيا قرية، والمؤمن رئيسها، والكل مشغول به، ساع في مصالحه، والكل قد أقيم في خدمته وحوائجه؛ فالملائكة الذين هم حملة عرش الرحمن ومن حوله يستغفرون له، والملائكة الموكلون به يحفظونه، والموكلون بالقطر والنبات يسعون في رزقه ويعملون فيه، والأفلاك سخرت منقادة دائرة بما فيه مصالحه، والشمس والقمر والنجوم مسخرات جاريات بحساب أزمنته وأوقاته وإصلاح رواتب أقواته.
والعالم الجوي مسخر له برياحه وهوائه وسحابه وطيره، وما أودع فيه، والعالم السفلي كله مسخر له مخلوق لمصالحه أرضه وجباله، وبحاره وأنهاره، وأشجاره وثماره، ونباته وحيوانه، وكل ما فيه، كما قال سُبْحَانَهُ:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 32 - 34]، فالسائر في معرفة آلاء الله وتأمل حكمته وبديع صفاته أطول باعًا، وأملأ صواعًا من اللصيق بمكانه، المقيم في بلد عادته وطبعه»
(2)
.
(1)
تفسير السعدي (1/ 469).
(2)
مفتاح دار السعادة (1/ 263).
حمده على سائر النعم الظاهرة والباطنة:
من تأمل في نعم الله والكرامات التي ميز بها بني آدم عن غيرهم من المخلوقات وجد عجبًا، فقد فضل بنو آدم بالعقل والعلم، والبيان والنطق، والشكل والصورة الحسنة، والهيئة الشريفة، واكتساب العلوم بالاستدلال والفكر، والاستنباط والبحث والاستدلال، فضلًا عن الهداية والرزق والكسوة، وفي ذلك يقول الله تَعَالَى في الحديث القدسي:«يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»
(1)
.
ويقول سُبْحَانَهُ- في بيان نعمه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20] ويقول- كذلك-: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26]، وغيرها من الشواهد كثير جدًّا.
الأثر السابع: محبة الحميد سُبْحَانَهُ:
معرفة اسم الله الحميد وآثاره ومعانيه، تورث في قلب العبد محبة عظيمة صادقة لله عز وجل، لا يشاركه فيها أحد من الخلق، وهذه المحبة بدورها تثمر
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2577).
عبوديات أخرى، كالإخلاص لله تَعَالَى والحياء والأدب مع الله عز وجل، والقيام بأوامره تَعَالَى واجتناب نواهيه والتقرب إليه بطاعته، فالحمد يميز المؤمن عن غيره؛ فغير المؤمن يقف حبيس النعمة يتمتع بها غافلًا عن المنعم، أما المؤمن فينتقل مباشرة من شهود النعم والعطايا إلى المنعم سُبْحَانَهُ وعظمته ورحمته ولطفه وبره وإحسانه وحكمته.
الأثر الثامن: (حمد الله على كل حال):
أقدار الله على العباد كلها محمودة، فالله عز وجل محمود على ما خلق وشرع ووهب ونزع، وكل أفعاله تَعَالَى إنما هي نعم ومنن في حق العبد، إن قابلها بما يجب لها من رضا وإحسان.
يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك-: «والرضا وإن كان من أعمال القلوب، فكماله هو الحمد، حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا؛ ولهذا جاء في الكتاب والسنة حمد الله على كل حال، وذلك بتضمن الرضا بقضائه، وفي الحديث:(أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللهَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)
(1)
.
وروت عائشة رضي الله عنها: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا أَتَاهُ الْأَمْرُ يَسُرُّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ»، وَإِذَا أَتَاهُ الْأَمْرُ يَكْرَهُهُ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ)
(2)
.
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(12345)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 69)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، رقم الحديث:(4956).
(2)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(3803)، والحاكم، رقم الحديث:(1846)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(8769).
وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي! فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ! فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ)
(1)
.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد، وأمته هم الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء.
والحمد على الضراء يوجبه مشهدان:
أحدهما: علم العبد بأن الله سُبْحَانَهُ مستوجب لذلك، مستحق له لنفسه؛ فإنه أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء، وهو العليم الحكيم، الخبير الرحيم.
والثاني: علمه بأن اختيار الله لعبده المؤمن خير من اختياره لنفسه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ -وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ- إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»
(2)
.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كل قضاء يقضيه الله للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على السراء فهو خير له.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(20039)، والترمذي، رقم الحديث:(1021)، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1408).
(2)
سبق تخريجه.
الأثر التاسع: ذكر حمد الحميد سُبْحَانَهُ في كل شعائر الدين:
من تأمل اسم الله الحميد وجد أن الله سُبْحَانَهُ بدأ أم الكتاب (سورة الفاتحة) بالحمد، وكذا كانت سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، فكان يفتح خطابه بالحمد دائمًا بخطبة الحاجة، وهي:«إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»
(1)
، وفي الحديث:«كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللهِ فَهُوَ أَجْذَمُ»
(2)
، وما من شعيرة من شعائر الدين إلا وتبدأ بحمد الحميد سُبْحَانَهُ
(3)
، ومن ذلك:
أعظم كلمة وهي كلمة التوحيد تقرن كثيرًا بالحمد، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
(4)
.
الصلاة وهي عمود الدين تبدأ بالحمد: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ
(1)
أخرجه ابن ماجه (1892)، والدارمي (1892)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف ابن ماجه رقم الحديث:(1892).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8712)، وأبو داود، رقم الحديث:(4840)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10252)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، رقم الحديث:(4245).
(3)
سنقتصر هنا على إيراد بعض الشعائر، أما فضل الحمد والأذكار الخاصة به فهي في الملحق الخاص بهذا الاسم (الحميد).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6385).
تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ»
(1)
، ثم قراءة الفاتحة، وأول آياتها:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]، ثم في الركوع والسجود، لحديث عقبة بن عامر:«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ (ثلاثًا)، وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَبِحَمْدِهِ (ثلاثًا)»
(2)
، وكذا عند الرفع من الركوع؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ»
(3)
، وفي التشهد- أيضًا-:«إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ» ، بل وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول- في دبر كل صلاة مكتوبة-:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»
(4)
.
الحج والعمرة، ففيهما يقول الحاج والمعتمر:«لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ»
(5)
، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(399).
(2)
أخرجه أبو داود رقم الحديث: (870)، وابن ماجه رقم الحديث:(870)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(4734).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(776).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(844)، ومسلم، رقم الحديث:(593).
(5)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1549)، ومسلم، رقم الحديث:(1218).
يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1797)، ومسلم، رقم الحديث:(1344).
في موضوع الحمد سنتطرق لعدة مسائل:
أولًا: تعريف الحمد:
الحمد: هو الثناء على الجميل من جهة التعظيم من نعمة وغيرها.
ثانيًا: من فضائل الحمد:
للحمد فضائل عدة، منها:
(الحمد لله) من أفضل الدعاء: يقول صلى الله عليه وسلم: «وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلهِ»
(1)
(2)
.
(الحمد لله) هو خير الكلام وأحبه إلى الله: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ»
(3)
.
(الحمد لله) سبب لمغفرة الذنوب: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3383)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3800)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1104).
(2)
بدائع الفوائد، لابن القيم (3/ 521).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2731).
تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ .... فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ»
(1)
.
(الحمد لله) غراس الجنة: يقول صلى الله عليه وسلم: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ»
(2)
.
(الحمد لله) من الأذكار العظيمة التي تسابقت الملائكة لكتابتها؛ فعن رفاعة بن رافع، قال:«كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، فقال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف قال: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ آنِفًا؟ قال: أنا، قال: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلَ»
(3)
.
بحمد الله تنال الرحمة: يقول صلى الله عليه وسلم: «إذَا قَالَ العَبْدُ: الْحَمْدُ لله كَثِيرًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: اكْتُبُوا لِعَبْدِي رَحْمَتِي كَثِيرًا»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6408).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3462)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(10363) حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(5152).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(799)، ومسلم، رقم الحديث:(600).
(4)
أخرجه الطبراني في الدعاء (1685)، والأصبهاني في الترغيب والترهيب (2511)، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(3452).
بحمد الله ينال العبد رضا الله تَعَالَى: يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»
(1)
.
بالحمد تستجلب النعم: يقول تَعَالَى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147].
الحمد لله صدقة من الصدقات: يقول صلى الله عليه وسلم: «وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً»
(2)
.
ثالثًا: كيف تكون من الحامدين؟
الأمر الأول لتكون من الحامدين: أن تكون محمودًا في كل أحوالك:
فالعبد إذا علم أن ربه تَعَالَى هو الحميد ويحب المحامد؛ اشتاقت نفسه وتطلعت أن يتخلق بما يحمد عليه؛ فيكون محمودًا في كل أقواله وأفعاله وأحواله، محمودًا عند الله وعند المؤمنين، فهذا هو التحقق باسم الله الحميد.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: «خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ، قَالَ: آللهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2734).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1006).
نَذْكُرُ اللهَ، وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا قَالَ: آللهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللهَ عز وجل يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ»
(1)
.
فلله تَعَالَى الحمد والشكر والثناء، حيث أعطى العباد من مصالحهم ومنافعهم فوق مايطلبون، وأعلى ما يتمنون، وآتاهم من كل ما سألوه، لا نحصي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه.
الأمر الثاني لتكون من الحامدين: أَكْثِرْ من حمد الحميد سُبْحَانَهُ:
المؤمن يستشعر جيدًا أن حمد النعم عند الله سُبْحَانَهُ أهم وأفضل وأعظم من النعم نفسها، ففي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ، فَحَمِدَ اللهَ عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ ذَلِكَ الْحَمْدُ أَفْضَلَ مِنْ تِلْكَ النِّعْمَةِ، وَإِنْ عَظُمَتْ»
(2)
.
وهناك مواطنُ عِدَّةٌ يتأكَّدُ فيها الحمدُ، ومنها:
عند النوم: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا، وَسَقَانَا، وَكَفَانَا، وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ، وَلَا مُؤْوِيَ»
(3)
.
عند الانتباه ليلًا: يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ،
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2701).
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(7794)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(5562).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2715).
الْحَمْدُ لِلهِ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ، فَإِنْ تَوَضَّأَ قُبِلَتْ صَلَاتُهُ»
(1)
.
عند رؤية الرؤيا الحسنة في المنام: يقول صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ اللهِ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلَا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ»
(2)
.
دُبُرَ الصلاة: يقول صلى الله عليه وسلم: «مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ - أَوْ فَاعِلُهُنَّ - دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً»
(3)
.
قبل الدعاء: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يُصَلِّي فَمَجَّدَ اللهَ وَحَمِدَهُ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«ادْعُ تُجَبْ، وَسَلْ تُعْطَ»
(4)
.
عندَ حلولِ النعمِ: يقول صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِلَّا كَانَ مَا أَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1154).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6985).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(596).
(4)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3476)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(1208)، واللفظ للطبراني، حكم الألباني: صحيح، صفة الصلاة (3/ 990).
(5)
سبق تخريجه.
بعدَ الأكلِ والشربِ: يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكَلَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(1)
.
عند لبس الثوب: يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لله الَّذِي كَسَانِي هَذَا، وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ»
(2)
.
عند رؤيةِ المبتَلَى: يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى صَاحِبَ بَلَاءٍ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا، إِلَّا عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ مَا عَاشَ»
(3)
.
في ختام المجلس: يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ كَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ -قَبْلَ أَنْ يَقُومَ-: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ ثُمَّ أَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ»
(4)
.
عند العطاس: يقول صلى الله عليه وسلم: «إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ الْحَمْدُ
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(15872)، والترمذي، رقم الحديث:(3458)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3285)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(6086).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3431)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3892)، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(602).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(10559)، والترمذي، رقم الحديث:(3433)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10157)، حكم الألباني: صحيح، تخريج الكلم الطيب، رقم الحديث:(223).
لِلهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ»
(1)
.
اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُهُ، ولَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِكِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإلَيْكَ يَرْجِعُ الأمْرُ كُلُّهُ، نَسْألُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6224).
الحيُّ القيُّوم جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
أولًا: (الحَيُّ):
قال الجوهري رحمه الله: «[حيا] الحياة: ضد الموت والحي: ضد الميت، والمحيا مفعل من الحياة. تقول: محياي ومماتي. والجمع المحايى
…
»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(حي) الحاء والياء والحرف المعتل أصلان: أحدهما خلاف الموت
…
فأما الأول فالحياة والحيوان، وهو ضد الموت والموتان، ويسمى المطر حيًّا؛ لأن به حياة الأرض
…
»
(2)
.
ثانيًا: (القَيُّومُ):
قال الجوهري رحمه الله: «قوام الأمر بالكسر: نظامه وعماده،
…
والقيوم: اسم من أسماء الله تَعَالَى»
(3)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(قوم) القاف والواو والميم أصلان صحيحان،
(1)
الصحاح (6/ 2323 - 2324).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 122).
(3)
الصحاح (5/ 296).
يدل أحدهما على جماعة ناس، وربما استعير في غيرهم، والآخر على انتصاب أو عزم
…
قام قيامًا، والقومة: المرة الواحدة، إذا انتصب، ويكون قام بمعنى العزيمة، كما يقال: قام بهذا الأمر، إذا اعتنقه، وهم يقولون في الأول: قيام حتم، وفي الآخر: قيام عزم»
(1)
.
ورود اسم الله (الحي القَيُّوم) في القرآن الكريم:
أولًا: ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الحَي) خمسَ مرات في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255].
وقوله عز وجل: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111].
وقال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 56].
ثانيًا: ورد اسمه سُبْحَانَهُ (القَيُّوم) ثلاث مرات في كتاب الله، وهي:
قول الله عز وجل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255].
وقوله عز وجل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2].
وقوله عز وجل: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111].
(1)
مقاييس اللغة (5/ 43).
ورود اسم الله (الحَي - القَيُّوم) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الحَي القيوم) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن زيد بن حارثة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ»
(1)
.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، غَفَرَ اللهُ ذُنُوبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا»
(2)
.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ»
(3)
.
معنى اسم الله (الحَي - القَيُّوم) في حقه سُبْحَانَهُ:
أولًا: الحي: هو من له الحياة الكاملة التي لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال، ولا يعتريها نقص، أو سنة، أو نوم، أو مرض.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1517)، والترمذي، رقم الحديث:(3577)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3577).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(11233)، والترمذي، رقم الحديث:(3397)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(349).
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3524)، وابن السني في عمل اليوم والليلة، رقم الحديث:(337)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(4777).
وحول هذا المعنى تدور أقوال العلماء:
- قال الطبري رحمه الله: «(الحي) فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحد، ولا آخر له بأمد؛ إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيًّا فلحياته أول محدود، وآخر ممدود، ينقطع بانقطاع أمدها، وينقضي بانقضاء غايتها»
(1)
، وقال رحمه الله أيضًا:«وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناء لها ولا انقطاع، ونفى عنها ما هو حال لكل ذي حياة من خلقه، من الفناء وانقطاع الحياة عند مجيء أجله»
(2)
.
قال الزجاج رحمه الله: «الحي يفيد دوام الوجود، والله تَعَالَى لم يزل موجودًا ولا يزال موجودًا» .
(3)
(4)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «الحي الذي لا يموت أبدًا، الذي هو {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] الدائم الباقي السرمدي الأبدي»
(5)
.
(1)
تفسير الطبري (5/ 386).
(2)
المرجع السابق (6/ 157).
(3)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص 56).
(4)
شأن الدعاء (ص 80).
(5)
تفسير ابن كثير (6/ 118).
قال السعدي رحمه الله: «فالحي من له الحياة الكامل المستلزمة لجميع صفات الذات، كالسمع والبصر والعلم والقدرة، ونحو ذلك»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله:
وَالحَيُّ يَتْلُوهُ فَأَوْصَافُ الكَمَا
…
لِ هُمَا لِأُفْقِ سَمَائِهَا قُطْبَانِ
فَالحَيُّ والقَيُّومُ لَنْ تَتَخَلَّفَ الـ
…
أَوْصَافُ أَصْلًا عَنْهُمَا بِبَيَانِ
(2)
ثانيًا: (القَيُّومُ):
يدور معنى اسم الله (القيوم) في حقه تَعَالَى حول ثلاثة معان:
الدائم الذي لا يزول.
القائم بنفسه.
القائم بغيره؛ فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره، كما قال تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25].
وحول هذه المعاني الثلاث تدور أقوال العلماء:
قال أبو عبيدة رحمه الله: «(القيوم): القائم، وهو الدائم الذي لا يزول»
(3)
.
قال الطبري رحمه الله: «القائم بأمر كل شيء في رزقه والدفع عنه وكلاءته وتدبيره وصرفه في قدرته، من قول العرب: فلان قائم بأمر هذه البلدة، يعني
(1)
تفسير السعدي (ص 110).
(2)
النونية (ص 211).
(3)
مجاز القرآن (1/ 78).
بذلك: المتولي تدبير أمرها»
(1)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «(القيوم): فَيْعُول، من قام يقوم، وهو من أوصاف المبالغة في الفعل، وهو من قوله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] أي: يحفظ عليها ويجازيها ويحاسبها»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: «(القيوم) هو: القائم الدائم بلا زوال، ووزنه: فَيْعُول، من القيام، وهو نعت المبالغة في القيامة على الشيء، ويقال: هو القيم على كل شيء بالرعاية له، ويقال: قمت بالشيء إذا وليته بالرعاية والمصلحة»
(3)
.
قال ابن الأثير رحمه الله: «و (القيوم): من أسماء الله تَعَالَى المعدودة، وهو القائم بنفسه مطلقًا لا بغيره، وهو مع ذلك يقوم به كل موجود، حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به»
(4)
.
قال القرطبِي رحمه الله: «(القيوم) من قام، أي: القائم بتدبير ما خلق»
(5)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «القيم لغيره، وكان عمر يقرأ: (القيام) فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره، كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]»
(6)
.
(1)
تفسير الطبري (5/ 178 - 179).
(2)
اشتقاق الأسماء (ص 105).
(3)
شأن الدعاء (ص 80).
(4)
النهاية في غريب الحديث والأثر (14/ 134).
(5)
تفسير القرطبي (3/ 271).
(6)
تفسير ابن كثير (1/ 677).
قال السعدي رحمه الله: «الذي قام بنفسه، فاستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بغيره فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في الإيجاد والإعداد والإمداد، فهو الذي قام بتدبير الخلائق وتصريفهم، تدبير للأجسام وللقلوب والأرواح»
(1)
.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
هَذَا وَمِنْ أَوْصَافِهِ: القَيُّومُ وَالـ
…
ـقَيُّومُ فِي أَوْصَافِهِ أَمْرَانِ
إِحْدَاهُمَا القَيُّومُ قَامَ بِنَفْسِهِ
…
والكَوْنُ قَامَ بِهِ هُمَا الأَمْرَانِ
فَالأَوَّلُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ غَيْرِهِ
…
والفَقْرُ مِنْ كُلٍّ إِلَيْهِ الثَّانِي
الخلاف في الاسم الأعظم، وقول بعض أهل العلم: إن (الحي القيوم) اسم الله الأعظم
(2)
:
دلت النصوص على أن أسماء الله الحسنى وصفاته العليا تتفاضل، فليست كلها على درجة واحدة، بل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لله اسمًا أعظم إذا سُئِل به أعطى، وإذا دُعِي به أجاب، وهذه فضيلة عظيمة اختص بها هذا الاسم، ولم يرد تعيينه صريًحا في النصوص، إلا أنه وردت أحاديث تدل على أنه (الحي القيوم)، على خلاف في ذلك بين العلماء، منها:
عن أنس رضي الله عنه، «أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا، وَرَجُلٌ يُصَلِّي، ثُمَّ دَعَا: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، إِنِّي أَسْأَلُكُ،
(1)
تفسير السعدي (ص 121).
(2)
سبق بيان الخلاف فيه، والأدلة في اسم الله الأعظم في اسم الله (الله) جل جلاله.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: تَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى»
(1)
.
عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«اسْمُ اللهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ - فِي سُوَرٍ ثَلَاثٍ: الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَطه»
(2)
.
واختار أنه الحي القيوم جمع من أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن عثيمين رحمهم الله.
قال ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا كان أعظم آية في القرآن: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. وهو الاسم الأعظم»
(3)
.
وفي ترجيح كونه الاسم الأعظم، قال ابن القيم رحمه الله:«صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال؛ ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى هو اسم الحي القيوم»
(4)
.
قال ابن عثيمين رحمه الله: «اسم الله الأعظم هو الحي القيوم
(5)
»، وعلل هذا، فقال: «قال أهل العلم: وإنما كان الاسم الأعظم في اجتماع هذين
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(3856)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(7758)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(3856).
(3)
مجموع الفتاوى.
(4)
زاد المعاد (4/ 185).
(5)
فتاوى نور على الدرب.
الاسمين؛ لأنهما تضمنا جميع الأسماء الحسنى؛ فصفة الكمال في (الحي)؛ وصفة الإحسان، والسلطان في (القيوم)»
(1)
(2)
.
اقتران اسم الله (الحَيِّ - القَيُّومِ) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله الحَي إلا باسمه القَيُّوم.
وذلك في ثلاثة مواضع، منها:
قول الله عز وجل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255].
وقوله عز وجل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2].
وقال عز وجل: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111].
وجه الاقتران:
(3)
.
قال ابن عثيمين رحمه الله: «وفي الجمع بين الاسمين الكريمين (الحي القيوم) استغراق لجميع ما يوصف الله به بجميع الكمالات؛ ففي الحي: كمال
(1)
تفسير العثيمين (3/ 258).
(2)
سبق بحث اسم الله الأعظم في اسم (الله)، وأن الراجح فيه- والله أعلم- أنه اسم (الله).
(3)
بدائع الفوائد (2/ 184).
الصفات، وفي القيوم: كمال الأفعال، وفيهما جميعًا كمال الذات، فهو كامل الصفات والأفعال والذات»
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الحَي القَيُّوم):
أولًا: إثبات ما يتضمنه اسمي الحي والقيوم من صفات الله تعالى:
فالله سُبْحَانَهُ هو الحي دائم الحياة، له البقاء المطلق، لم يسبق وجوده عدم، ولا يلحق بقاؤه فناء {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 56].
وهو الحي الذي كمل حال حياته، فلا يدخلها النقص بوجه من الوجوه، ولا يعتريها عيب ولا خلل؛ فلا مرض، ولا تعب {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، ولا سنة ولا نوم {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255].
فهو الحي: الذي لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، فلو نام لضاع الخلق، ولفسدت السموات والأرض كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ عز وجل لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ - وفي رواية أبي بكر: النَّارُ- لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»
(2)
(3)
.
(1)
تفسير القرآن الكريم (1/ 7).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(179).
(3)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 70 - 71).
وحياته تستلزم كمال صفاته سُبْحَانَهُ من علم، وقدرة، ورحمة، وسمع وبصر إلى غير ذلك من صفات كماله
(1)
، قال الشيخ الهراس رحمه الله: «الحياة تعتبر شرطًا للاتصاف بجميع الكمالات في الذات من: العلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام
…
إلخ؛ فإن غير الحي لا يتصف بهذه الصفات، فمن كملت حياته كان أكمل في كل صفة تكون الحياة شرطًا لها».
وهو الحي الذي أحيا غيره، فالأرض وما عليها من نبات وحيوان وإنسان تحيا بإحياء الله لها، قال تَعَالَى:{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33]، وقال سُبْحَانَهُ:{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50]، وقال:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280].
وهو الحي الذي له وحده البقاء والدوام وما عداه «من إنس، وجن، ودواب، وسائر المخلوقات، يفنى ويموت ويبيد»
(2)
، قال تَعَالَى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وقال سُبْحَانَهُ:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26].
وهو الحي الذي يحي الخلق بعد فنائهم، قال تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40]، وقال: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ
(1)
ينظر: تفسير القرآن العظيم، لابن عثيمين (1/ 7).
(2)
تفسير السعدي (ص 830).
اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 4].
وهو سُبْحَانَهُ القيوم الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع خلقه غنى مطلقًا، كما قال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
والقيوم هو الذي تمت قيوميته، فلا تشوبه شائبة حاجة ولا نقص، ولا يمكن أن تأخذه سنة ولا نوم:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255].
والقيوم الذي أقام غيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فكل شيء فقير إليه لا يستغني عنه طرف عين، فالعرش والكرسي والملائكة والسموات والأرض، والجبال والأشجار، والناس والحيوان، كلها فقيرة إلى الله، قال تَعَالَى:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد: 33]، فهو الذي أوجدها وأمدها، وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها، وأي شيء منها لو تخلى عنه القيوم لباد وهلك ولما استقام له شأن.
فالمخلوقات كلها إنما قامت به سُبْحَانَهُ، ومن ذلك:
قيام السماوات والأرض به:
قال تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ فهو سُبْحَانَهُ القائم بأمر السموات والأرض فبقيمويته استقرت وثبتت ولم تزل {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا
وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]، وبقيوميته لم تسقط السماء على الأرض {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]
(1)
.
(2)
.
قيام الإنس والجن وسائر الدواب به:
قال صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ»
(3)
قائم على ما فيهما من النفوس بالرزق، وتدبير الشؤون وتصريفها، كما قال تَعَالَى:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]» يغني فقيرًا، ويجبر كسيرًا، ويعطي قومًا، ويمنع آخرين، ويميت ويحيي، ويرفع ويخفض، لا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص 640).
(2)
مفتاح دار السعادة (1/ 215).
(3)
سبق تخريجه.
الملحين، ولا طول مسألة السائلين
…
وهذه الشؤون التي أخبر أنه تَعَالَى كل يوم هو في شأن، هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الأزل وقضاها، لا يزال تَعَالَى يمضيها وينفذها في أوقاتها التي اقتضته حكمته»
(1)
.
وهذا القيام يستلزم كمال أفعاله من الاستواء، والنزول، والكلام، والخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، وسائر أنواع التدبير.
ومن قيامه بهم: إنزاله للكتب بالحق وإرساله للرسل؛ حتى تستنير بصائرهم، ويرشدون لما فيه صلاحهم وفلاحهم، قال تَعَالَى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 2، 3]
(2)
.
المقيم أمر أوليائه وأهل طاعته:
(3)
.
(1)
تفسير السعدي (ص 830).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص 121).
(3)
طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص 180).
فهو الحي القيوم الذي بهما جمع معاني الأسماء الحسنى، وعليهما دارت الصفات العليا؛ وذلك أن الحياة تستلزم جميع صفات الكمال، ولا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تبارك وتعالى أكمل حياة وأتمها؛ استلزم إثباتها إثبات كل صفة كمال.
وكذلك القيام؛ فإنه مستلزم لكمال الأفعال، ولا يتخلف شيء منها إلا لضعف القيام، فإذا كان قيامه سُبْحَانَهُ أتم قيام وأكمله؛ استلزم إثباته إثبات كل فعل كمال، وبهذا انتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام
(1)
.
الأثر الثاني: دلالة اسمي الله الحي القيوم على التوحيد:
إذا علم العبد أن الله جل جلاله الحي الباقي الدائم الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون، وكل شيء هالك إلا وجهه؛ أيقن أن لا أحد يستحق أن يعبد إلا الحي الباقي، قال تَعَالَى:{هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65]، وقال سُبْحَانَهُ:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2].
(2)
.
(1)
ينظر: بدائع الفوائد، لابن القيم (2/ 184).
(2)
تفسير الطبري (6/ 157).
وإذا علم العبد أن الله جل جلاله هو القيوم الذي استغنى عن كل شيء، وكل شيء افتقر إليه، فلا قوام له إلا بقيوميته؛ علم أنه لا يستحق أن تكون العبادة إلا له وحده لا شريك له، قال تَعَالَى محتجًّا على خلقه بقيوميته:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ} [الرعد: 33]».
أيستوي الرب الذي هو دائم لا يبيد ولا يهلك، قائم بحفظ أرزاق جميع الخلق، متضمن لها، عالم بهم وبما يكسبونه من الأعمال، رقيب عليهم، لا يعزب عنه شيء أينما كانوا، كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئًا، ولا يدفع عن نفسه ولا عمن يعبده ضرًّا، ولا يجلب إليهما نفعًا؟ كلاهما سواء؟»
(1)
.
الأثر الثالث: التوكل على الحي القيوم:
يقين العبد بأن ربه هو الحي الذي له الحياة الكاملة فلا يموت أبدًا،، القيوم الذي يقوم بأموره ويدبر شؤونه، ولا تأخذه سنة ولا نوم ولا غفلة؛ يوجب له التعلق به والتوكل عليه في رغبه ورهبه، ومعاذه وملاذه، قال تَعَالَى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58].
قال ابن كثير رحمه الله: «أي: في أمورك كلها كن متوكلًا على الله الحي الذي لا يموت أبدًا، الذي هو {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] الدائم الباقي السرمدي الأبدي، الحي القيوم رب كل
(1)
المرجع السابق (16/ 462).
شيء ومليكه، اجعله ذخرك وملجأك، وهو الذي يتوكل عليه ويفزع إليه، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك»
(1)
.
ويوجب له قطع كل تعلق ورجاء بالمخاليق الضعفاء الفقراء الذين يلحقهم الموت والنوم والغفلة والنسيان؛ فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم، وإذا ناموا أو نسوا أو غفلوا خُذِلَ من توكل عليهم، وهم مع ذلك كله لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فضلًا عن أن يملكوا ذلك لغيرهم.
روي أن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية كان خلًّا لعبد الملك بن مروان، فلما مات عبد الملك وتصدع الناس عن قبره، وقف عليه، فقال له:«أنت عبد الملك الذي كنت تعدني فأرجوك، وتوعدني فأخافك، أصبحت وليس معك من ملكك غير ثوبيك، وليس لك منه غير أربعة أذرع في عرض ذراعين»
(2)
، فكل حي يموت، ولا يبقى إلا الحي الذي لا يموت.
كما يوجب له التبرؤ من الحول والقوة والافتقار التام للحي القيوم، لسان حاله ومقاله:(لا حول ولا قوة إلا بالله)، أي: لا تحول من حال إلى حال، ولا حصول قوة على القيام بأي أمر من الأمور إلا بالله، أي: إلا بعونه وتوفيقه وتسديده.
وهذه الكلمة شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وحثهم عليها في جملة من الأحاديث، منها:
- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله
(1)
تفسير ابن كثير (6/ 118).
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الاعتبار وأعقاب السرور، رقم الحديث:(55).
(1)
.
(2)
.
- وعن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه، أن أباه دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخدمه، قال: فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم وقد صليت فضربني برجله، وقال: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ؟ قلت: بلى، قال: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ»
(3)
.
الأثر الرابع: مراقبة الحي القيوم والخوف منه:
إذا علم العبد أن ربه الحي القيوم الذي لا ينام ولا يغفل ولا ينسى، يحفظ عليه عمله ويحصيه ويجازيه عليه بالعدل والقسط، كما قال تَعَالَى:
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(7093)، والترمذي، رقم الحديث:(3460)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3460).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6610)، ومسلم، رقم الحديث:(2704).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(15719)، والترمذي، رقم الحديث:(3581)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(1582).
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]
(1)
، قال ابن كثير رحمه الله:«أي: حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة، يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر، ولا يخفى عليه خافية»
(2)
أوجب ذلك له الخوف منه سُبْحَانَهُ ومراقبته، وخشيته في السر والعلن.
الأثر الخامس: محبة الله الحي القيوم:
إذا علم العبد أن ربه حي قيوم، واستشعر أن له الحياة الكاملة المطلقة التي بها أحياه وأوجده، وله القيومية والسيادة المطلقة التي أقام بها السموات والأرض وأقام به شؤونه ودبَّرها، واستشعر ما يتضمنه هذان الاسمان من صفات الكمال له عز وجل؛ أوجب ذلك له محبته وإجلاله؛ مما يثمر في القلب الابتهاج، واللذة، والسرور وتندفع به الكروب، والهموم، والغموم.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج، واللذة، والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب، والهم، والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه، ويقوي نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى»
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير الطبري (16/ 462)، تفسير السعدي (ص 419).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 463).
(3)
زاد المعاد (4/ 205).
الأثر السادس: الخضوع والتذلل للحي القيوم:
إذا علم العبد أن ربه حي قيوم تخضع له الخلائق يوم القيامة، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111] واستشعر ذلك الموقف العظيم الذي يرى فيه الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والأحرار والأرقاء، والملوك والسوقة، ذليلين خاضعين، ساكتين منصتين، خاشعة أبصارهم، خاضعة رقابهم، جاثين على ركبهم، لا يدرون ماذا ينفصل كل منهم به
(1)
؛ خضع وذل وافتقر واستكان لربه في الدنيا قبل الآخرة.
(2)
.
والخضوع والذل لله هو أحد أصلَي العبادة، قال ابن القيم رحمه الله:«والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والعرب تقول: طريق معبَّد، أي: مذلَّل، والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له؛ لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدًا له، حتى تكون محبًّا خاضعًا»
(3)
.
فتحقيقهما يكون بتحقيق العبودية لله تَعَالَى وحده، وأعظم العبادات التي فيها عظيم الذل والخضوع لله: الصلاة المفروضة، لا سيما في السجود،
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص 513).
(2)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 289).
(3)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 95).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «لفظ السجود، فإنه إنما يستعمل في غاية الذل والخضوع، وهذه حال الساجد»
(1)
.
الأثر السابع: الزهد في دار الفناء، والعمل لدار البقاء:
الله تَعَالَى هو الحي الدائم الذي لا يزول، وكل الخلائق إلى زوال {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27] ومهما أعطي العبد من العمر فلا بد أن ينقضي يومًا ما، أما الحياة الدائمة السرمدية التي يهبها الله لعبادة فإنما هي في الدار الآخرة:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، قال ابن كثير رحمه الله:«أي: الحياة الدائمة الحق، الذي لا زوال لها ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد»
(2)
.
وجاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ. ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا، {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39]
(3)
.
(1)
جامع الرسائل، لابن تيمية (1/ 34).
(2)
تفسير ابن كثير (6/ 294).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4730)، ومسلم، رقم الحديث:(2849).
فإذا عرف العبد هذا، وعرف حقيقة الدنيا، وأنها ليست دار بقاء، وإنما متاع ولعب ولهو زائل، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32]، وقال:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]، وعرف ما جاء في ذمها وحقارتها من النصوص، كما في قول جابر رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَيْهِ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ
(1)
مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟ فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟ قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ! فَقَالَ: فَوَاللهِ، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ»
(2)
زهد فيها، ولم يتعلق بها، ممتثلًا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللهُ عز وجل، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ»
(3)
.
ولم يقدم ما فيها من ملاذ وشهوات على الدار الباقية، وجعلها معبرًا للآخرة، وزادًا يبلغ به إلى الجنات؛ فإن الموفق من طال عمره وحسن عمله، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ:«مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ»
(4)
.
(1)
كنفتيه: جانبيه، الأسك: صغير الأذنين. ينظر: شرح النووي على مسلم (18/ 93).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2957).
(3)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(4102)، والحاكم، رقم الحديث:(7968)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(4102).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(20834)، والترمذي، رقم الحديث:(2329)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2329).
الأثر الثامن: الدعاء باسم الله الحي القيوم:
جاء في جملة من الأحاديث ما يدل على عظم هذين الاسمين والدعاء بهما مجتمعين، ومنها:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ»
(1)
.
وهناك مناسبة بين التوسل بهذين الاسمين، وبين كشف الكرب والضيق، قال ابن القيم رحمه الله: «وفي تأثير قوله: (يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث) في دفع هذا الداء مناسبة بديعة؛ فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال، مستلزمة لها، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال،
…
والحياة التامة تضاد جميع الأسقام والآلام، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم، ولا غم، ولا حزن، ولا شيء من الآفات، ونقصان الحياة تضر بالأفعال، وتنافي القيومية، فكمال القيومية لكمال الحياة، فـ (الحي) المطلق التام الحياة لا تفوته صفة الكمال البتة، و (القيوم) لا يتعذر عليه فعل ممكن البتة، فالتوسل بصفة الحياة والقيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة، ويضر بالأفعال»
(2)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهما قائلًا:«اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ»
(3)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
زاد المعاد (4/ 205).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2717).
وعنه أيضًا رضي الله عنهما، قال:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو مِنَ اللَّيْلِ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ .... »
(1)
.
(2)
.
وعنه أيضًا: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِفَاطِمَةَ: مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ: أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا أَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ»
(3)
، فعلى العبد أن يحرص على الدعاء بهما؛ فإن التوسل لله بهما له تأثير في حصول المطلوب ودفع المرهوب
(4)
.
يَا حَيُّ يَا قَيُّوْمُ، أَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه. (ص: 17).
(3)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10330)، وابن السني في عمل اليوم والليلة، رقم الحديث:(49)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(227).
(4)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 78 - 79).
الخالقُ الخلَّاقُ البَارئُ المصوِّرُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
أولًا: معنى الخالق والخلاق:
قال الجوهري رحمه الله: «الخلق: التقدير، يقال: خلقت الأديم: إذا قدرته قبل القطع
…
، والخلاق: النصيب، يقال: لاخلاق له في الآخرة»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(خلق) الخاء واللام والقاف أصلان؛ أحدهما: تقدير الشيء، والآخر: ملاسة الشيء، فأما الأول: فقولهم: خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته
…
»
(2)
.
ثانيًا: معنى البارئ:
قال الجوهري رحمه الله: «
…
وبرأ الله الخلق برءًا، وأيضًا هو البارئ، والبرية: الخلق»
(3)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(برأ) فأما الباء والراء والهمزة فأصلان- إليهما ترجع فروع الباب- أحدهما: الخلق، يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم برءًا،
(1)
الصحاح (4/ 156).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 213 - 214).
(3)
الصحاح (1/ 37).
والبارئ الله- جل ثناؤه- قال الله تَعَالَى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54]
…
والأصل الآخر: التباعد من الشيء ومزايلته»
(1)
.
ثالثًا: معنى المصور:
قال الجوهري رحمه الله: «الصور، بالتحريك: الميل، ورجل أصور بين الصور: أي: مائل مشتاق، وأصاره فانصار، أي: أماله فمال، وصوره الله صورة حسنة، فتصور»
(2)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «صور يصور، إذا مال، وصرت الشيء أصوره، وأصرته، إذا: أملته إليك
…
، ومن ذلك: الصورة، صورة كل مخلوق، والجمع: صور، وهي هيئة خلقته، واللهتَعَالَى البارئ المصور»
(3)
.
ورود اسم الله (الخالق، الخلاق، البارئ، المصور) في القرآن الكريم:
أولًا: ورد اسم الله (الخَالق) إحدى عشر مرة في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24].
وقوله عز وجل: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
وقوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 58 - 59].
(1)
مقاييس اللغة (1/ 236).
(2)
الصحاح (2/ 280).
(3)
مقاييس اللغة (3/ 320).
ثانيًا: وورد ذكر (الخلاق) مرتين في كتاب الله، وهما:
قول الله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر: 86].
وقوله عز وجل: {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81].
ثالثا: وورد اسم الله (البارئ) ثلاث مرات في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
مرتان في قول الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54].
قوله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24].
رابعًا: وورد اسم الله (المُصَوِّر) مرة واحدة في كتاب الله، وهي:
قول الله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 23].
ورود اسم الله (الخالق، البارئ، المصور) في السنة النبوية:
أولًا: ورود اسم الله (الخالق) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12786)، وأبو داود، رقم الحديث:(3451)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1846).
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»
(1)
.
ثانيًا: ورود اسم الله (الخلاق) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله الخلاق في السنة النبوية.
ثالثًا: ورود اسم الله (البارئ) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله البارئ في السنة النبوية.
رابعًا: ورود اسم الله (المصور) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله المصور في السنة النبوية.
معنى اسم الله (الخالق، الخلاق، البارئ، المصور) في حقه سُبْحَانَهُ:
أولًا: معنى اسم الله الخالق في حق الله تعالى:
قال مجاهد رحمه الله في قوله تَعَالَى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]-: «يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين»
(2)
.
قال الزجاج رحمه الله: «فالخلق في اسم اللهتَعَالَى هو ابتداء تقدير النشء، فالله خالقها ومنشئها، وهو متممها ومدبرها، فتبارك الله أحسن الخالقين»
(3)
.
(1)
أخرجه البغوي في شرح السنة (2455)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(180).
(2)
تفسير الطبري (19/ 19).
(3)
تفسير الأسماء (ص 36 - 37).
قال الخطابي رحمه الله: «(الخالق) هو المبدع للخلق المخترع له على غير مثال سابق، قالسُبْحَانَهُ: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]»
(1)
.
ثانيًا: معنى اسم الله الخلاق في حق الله تعالى:
الخلاق من أفعال المبالغة من الخالق، تدل على كثرة خلق الله تَعَالَى وإيجاده، فكم يحصل في اللحظة الواحدة من بلايين المخلوقات التي هي أثر من آثار اسمه سُبْحَانَهُ الخلاق:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)} [الحجر: 86]».
قال الحليمي رحمه الله: «الخلاق ومعناه: الخالق خلقًا بعد خلق»
(2)
.
قال القرطبي رحمه الله: «إن ربك هو الخلاق، أي: المقدر للخلق والأخلاق، العليم بأهل الوفاق والنفاق»
(3)
قال ابن القيم رحمه الله:
وَكَذَاكَ يَشْهَدُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الـ
ـخَلَّاقُ بَاعِثُ هَذِهِ الأَبْدَانِ
(4)
ثانيًا: معنى اسم الله (البارئ) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله: «البارئ الذي برأ الخلق، فأوجدهم بقدرته»
(5)
.
(1)
شأن الدعاء (ص 49).
(2)
المنهاج (1/ 193).
(3)
تفسير القرطبي (10/ 54).
(4)
النونية (ص 194).
(5)
تفسير الطبري (22/ 555).
قال الخطابي رحمه الله: «البارئ هو الخالق»
…
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «الخلق هو التقدير، والبراء: هو الفري، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل»
(2)
.
قال الشوكاني رحمه الله: «البارئ: الخالق، وقيل: إن البارئ هو المبدع المحدث»
(3)
.
ثالثًا: معنى اسم الله (المُصَوِّر) في حقه سُبْحَانَهُ:
يقول الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]: «صرفك وأمالك إلى أي صورة شاء، إما إلى صورة حسنة، وإما إلى صورة قبيحة، أو إلى صورة بعض قراباته»
(4)
، ويقول في قوله تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24]-: «هو المعبود الخالق، الذي لا معبود تصلح له العبادة غيره، ولا خالق سواه، البارئ الذي برأ الخلق، فأوجدهم بقدرته،
(1)
شأن الدعاء (ص 51).
(2)
تفسير ابن كثير (8/ 80).
(3)
فتح القدير (1/ 101).
(4)
تفسير الطبري (24/ 178).
المصور خلقه كيف شاء، وكيف يشاء»
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «(المصور) هو الذي أنشأ خلقه على صور مختلفة ليتعارفوا بها، فقال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64]»
…
وقال: التصور التخطيط والتشكيل»، ثم قال: وخلق الله -جل وعلا- الإنسان في أرحام الأمهات ثلاث خلق: جعله علقة، ثم مضغة، ثم جعلها صورة، وهو التشكيل الذي به يكون ذا صورة وهيئة يعرف بها، ويتميز بها عن غيره بسماتها {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون 14]»
(2)
.
يقول السعدي رحمه الله في قوله تَعَالَى: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} -: «الذي خلق جميع الموجودات وبرأها وسواها بحكمته، وصورها بحمده وحكمته، وهو لم يزل، ولا يزال على هذا الوصف العظيم»
(3)
.
ومما سبق يتضح لنا اتساق هذه الأسماء الحسنى وأن بينها علاقة وطيدة، إلا أن لكل صفة من هذه الصفات الثلاث ما يخصها من حيث المعنى:
(4)
.
(1)
المرجع السابق (22/ 555).
(2)
شأن الدعاء (ص 51 - 52).
(3)
تفسير السعدي (ص 947).
(4)
المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (ص 72).
قال الطِّيبِيُّ رحمه الله: «قيل: إن الألفاظ الثلاثة مترادفة، وهو وهم؛ فإن:
(الخالق) من الخلق، وأصله: التقدير المستقيم، ويطلق على الإبداع، وهو إيجاد الشيء على غير مثال.
و (البارئ) من البرء، وأصله: خلوص الشيء عن غيره، إما على سبيل التقصي منه، وعليه قولهم: برئ فلان من مرضه، والمديون من دينه، ومنه استبرأت الجارية، وإما على سبيل الإنشاء، ومنه برأ الله النسمة، وقيل: البارئ الخالق البريء من التفاوت والتنافر المخلين بالنظام.
و (المصور) مبدع صور المخترعات ومرتبها بحسب مقتضى الحكمة، فالله خالق كل شيء، بمعنى أنه موجده من أصل ومن غير أصل، وبارئه بحسب ما اقتضته الحكمة من غير تفاوت ولا اختلال، ومصوره في صورة يترتب عليها خواصه ويتم بها كماله، - إلى أن قال-: وعلى هذا فالتقدير يقع أولًا، ثم الإحداث على الوجه المقدر يقع ثانيًا، ثم التصوير بالتسوية يقع ثالثًا»
(1)
.
وهذه الفروق بين هذه الأسماء لله تَعَالَى إنما تتحقق عند اجتماع هذه الأسماء، أما عند افتراقها فإن كل اسم من هذه الأسماء الحسنى يشمل معناه ومعاني الاسمين الآخرين، والله أعلم.
(1)
فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لابن حجر (20/ 485).
اقتران اسم الله (الخالق، البارئ، المصور) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (الخالق) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ:
اقتران اسم الخالق باسمي البارئ والمصور:
وذلك في آية واحدة، وهي قوله تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
وجه الاقتران:
(1)
.
(2)
.
(1)
شفاء العليل (ص 121).
(2)
أضواء البيان، لمحمد الأمين الشنقيطي (8/ 77).
اقتران اسم (الخلاق) باسم (العليم):
وذلك في آيتين، وهما: قوله تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر: 86]، وقوله تَعَالَى:{بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81].
وجه الاقتران:
أن خلقه سُبْحَانَهُ للمخلوقات إنما هو عن علم منه سُبْحَانَهُ بما يخلق، كيف يخلقه، ومتى يخلقه، ويعلم الحكمة من خلقه، فكل شيء عنده بقدر وبعلم ولحكمة.
ثانيًا: اقتران اسم الله (البارئ والمصور) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ:
تقدم بيانه في اسم الخالق بالبارئ والمصور.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الخالق، الخلاق، البارئ، المصوِّر):
الأثر الأول: اثبات ما تتضمنه أسماء الله (الخالق، الخلاق، البارئ، المصور) من الصفات لله تعالى:
الله سُبْحَانَهُ هو الخالق، الخلاق، البارئ، المصور، الحي، القيوم، القادر، العالم، المريد، الحكيم؛ إذ لا يمكن أن يكون خالقًا غير قادر ولا مريد ولا عالم بما خلق، أو أنه ليس له فيما خلق حكمة ولا علة؛ وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
«فمن طرق إثبات الصفات: دلالة الصنعة عليها؛ فإن المخلوق يدل على وجود خالقه، على حياته وعلى قدرته، وعلى علمه ومشيئته؛ فإن الفعل الاختياري يستلزم ذلك استلزامًا ضروريًّا، وما فيه من الإتقان والإحكام
ووقوعه على أكمل الوجوه يدل على حكمة فاعله وعنايته، وما فيه من الإحسان والنفع، ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه، وإحسانه وجوده، وما فيه من آثار الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه، فمعطي الكمال أحق بالكمال»
(1)
.
ومن مظاهر ودلائل عظمة الخالق الخلاق البارئ المصور سُبْحَانَهُ ما يلي:
أوجد الخلق من العدم، وقدر أمورها في الأزل، يقول تَعَالَى:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20].
نوَّع خلقهم؛ فاختلفت أشكالهم وألوانهم ولغاتهم، وطباعهم وأجناسهم، وأنواعهم، مع أن أصلهم واحد
(2)
، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور: 45].
خلق ما شاء على ما شاء من الصفات، فيزيد في خلق بعض خلقه ما يشاء من القوة، والحسن، وزيادة الأعضاء، وحسن الأصوات، ولذة النغمات ونحو ذلك
(3)
، قال تَعَالَى:{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]، وقال سُبْحَانَهُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: 1].
(1)
مدارج السالكين (3/ 330).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 207)، وتفسير السعدي (ص 571).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص 684).
خلق الإنسان على أطوار ومراحل، وفق تركيب وتركيب دقيق عجيب، يقول تَعَالَى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12، 14]، فبدأ بنطفة حتى اكتمل بأحسن صورة، وفي أحسن تقويم، كامل الأعضاء، مستوفي الأجزاء، محكم البناء، كما قال تَعَالَى:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].
فاوت بين عباده فيما خلق لهم، «فمنهم من يهب له إناثًا، ومنهم من يهب له ذكورًا، ومنهم من يزوجه، أي: يجمع له ذكورًا وإناثًا، ومنهم من يجعله عقيمًا لا يولد له»
(1)
.
يقول تَعَالَى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49، 50].
خلق السماوات بما فيهما على عظمهما وسعتهما، وإحكامهما، وإتقانهما، وبديع خلقهما، يقول تَعَالَى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان: 10]، {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81].
(1)
المرجع السابق (ص 762).
خلق الأرض مهادًا للخلق، يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها، وأودع بها ما أودع، من منافع الخلق ومصالحهم، وضروراتهم وحاجاتهم.
يقول تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 19]، وقال تَعَالَى:{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن: 10 - 12].
(1)
.
خلق الشمس والقمر متعاقبان، لا يفتران، يسعيان لمصالح العباد، من حساب أزمنتهم ومصالح أبدانهم، وحيواناتهم، وزروعهم، وثمارهم.
يقول تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 33]، بهما تعاقب الليل والنهار.
(2)
.
(1)
تفسير السعدي (ص 571).
(2)
تفسير السعدي (ص 265).
يقول سُبْحَانَهُ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر: 5].
فمن تأمل في خلق الخالق سُبْحَانَهُ وتصويره وبرئه؛ أيقن بعظمة قدرة الله سُبْحَانَهُ وكمال علمه وحكمته، ورحمته ولطفه، وتصريفه وتدبيره سُبْحَانَهُ.
الأثر الثاني: توحيد الله بأسمائه: الخالق، الخلاق، البارئ، المصور:
- دلالة أسماء الله الخالق، الخلاق، البارئ، المصور، على توحيد الألوهية والربوبية:
من آمن بهذه الأسماء؛ علم أن الله سُبْحَانَهُ له الخلق والأمر كله، يقول تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
(1)
.
«فكما أنه لا خالق سواه، فليس على الخلق إلزام ولا أمر ولا نهي إلا من خالقهم سُبْحَانَهُ»
(2)
.
(1)
المرجع السابق (ص 291).
(2)
تفسير السعدي (ص 501).
وقد جاء التأكيد على هذا المعنى في قوله تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [غافر: 62، 63]: «فالله ربكم المنفرد بالإلهية، والمنفرد بالربوبية؛
…
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} تقرير أنه المستحق للعبادة وحده، لا شريك له، و {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} تقرير لربوبيته، ثم صرح بالأمر بعبادته، فقال:{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي: كيف تصرفون عن عبادته، وحده لا شريك له، بعد ما أبان لكم الدليل، وأنار لكم السبيل؟ {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: عقوبة على جحدهم لآيات الله، وتعديهم على رسله، صرفوا عن التوحيد والإخلاص، كما قال تَعَالَى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127]»
(1)
.
وقد ضرب الله مثلًا لقبح عبادة الأوثان، وبيان نقصان عقول من عبدها، يقول تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].
يقول السعدي عند هذه الآية: «في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} شمل كل ما يدعى من دون الله، {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} الذي هو من أحقر المخلوقات وأخسها، فليس في قدرتهم خلق هذا المخلوق الضعيف، فما فوقه من باب أولى، {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} ، بل أبلغ من ذلك لو {يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} ، وهذا غاية ما يصير من العجز، {ضَعُفَ الطَّالِبُ}
(1)
المرجع السابق (ص 741).
الذي هو المعبود من دون الله {وَالْمَطْلُوبُ} الذي هو الذباب، فكل منهما ضعيف، وأضعف منهما، من يتعلق بهذا الضعيف، وينزله منزلة رب العالمين، فهذا ما قدر الله حق قدره، حيث سوى الفقير العاجز من جميع الوجوه، بالغني القوي من جميع الوجوه، سوَّى من لا يملك لنفسه، ولا لغيره نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياة، ولا نشورًا، بمن هو النافع الضار، المعطي المانع، مالك الملك، والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف»
(1)
.
وعليه فالايمان بهذه الأسماء يستلزم الإيمان بوحدانيته سُبْحَانَهُ، وألوهيته، وإفراده وحده بالعبادة، يقول تَعَالَى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84، 89]، ويقول سُبْحَانَهُ:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61، 63].
يقول السعدي رحمه الله في ذلك: «هذا استدلال على المشركين المكذبين بتوحيد الإلهية والعبادة، وإلزام لهم بما أثبتوه من توحيد الربوبية، فأنت لو سألتهم من خلق السماوات والأرض، ومن نزل من السماء ماء فأحيا به
(1)
تفسير السعدي (ص 546).
الأرض بعد موتها، ومن بيده تدبير جميع الأشياء؟ {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وحده، ولا اعترفوا بعجز الأوثان، ومن عبدوه مع الله على شيء من ذلك!
فاعجب لإفكهم وكذبهم، وعدولهم إلى من أقروا بعجزه، وأنه لا يستحق أن يدبر شيئًا، وسجل عليهم بعدم العقل، وأنهم السفهاء، ضعفاء الأحلام، فهل تجد أضعف عقلًا وأقل بصيرة، ممن أتى إلى حجر، أو قبر ونحوه، وهو يدري أنه لا ينفع ولا يضر، ولا يخلق ولا يرزق، ثم صرف له خالص الإخلاص، وصافي العبودية، وأشركه مع الرب، الخالق الرازق، النافع الضار»
(1)
.
- دلالة أسماء الله الخالق، الخلاق، البارئ، المصور، على توحيد الأسماء والصفات:
كما أن أسماء الله الخالق، الخلاق، البارئ، المصور، تدل على توحيد الربوبية والألوهية، فهي تدل - أيضًا- على توحيد الأسماء والصفات، وتدل على عدد كبير منها كالقدير، والخبير، والعلي المتعال، وذو الجلال والإكرام، والجبار، وغيرها من الأسماء الدالة على ذلك.
الأثر الثالث: الله سُبْحَانَهُ خالق الأسباب ومسبباتها:
فالله سُبْحَانَهُ جعل الحياة مبنية في العادة على ترابط الأسباب بمسبباتها، والعلل بمعلولاتها، فلا يخلق النتيجة إلا إذا خلق السبب أو العلة، فلا يخلق التفكير إلا إذا خلق العقل، ولايخلق الإحراق إلا إذا خلق النار، ولا يخلق النبتة إلا إذا خلق البذرة، ولا يخلق الابن إلا إذا أوجد الأب والأم.
(1)
تفسير السعدي (ص 635).
وهذا لا ينفي أن الله تَعَالَى قد يخلق بقدرته العلل والأسباب بغير أسبابها ومعلولاتها، وهو ما يسمى بخوارق العادات أو الكرامات والمعجزات.
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: «الأسباب مظهر حكمته وحمده، وموضع تصرفه لخلقه وأمره فتقدير تعطيلها تعطيل للخلق والأمر، وهو أشد منافاة للحكمة وإبطالًا لها، واقتضاء هذه الأسباب لمسبباتها كاقتضاء الغايات لأسبابها، فتعطيلها منها قدح في الحكمة وتفويت لمصلحة العالم التي عليها نظامه وبها قوامه، وأن الرب سُبْحَانَهُ قد يخرق العادة ويعطلها عن مقتضياتها أحيانًا إذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدة فوات تلك المسببات، كما عطل النار التي ألقى فيها إبراهيم، وجعلها عليه بردًا وسلامًا عن الإحراق؛ لما في ذلك من المصالح العظيمة، وكذلك تعطيل الماء عن إغراق موسى وقومه وعما خلق عليه من الإسالة والتقاء أجزائه بعضها ببعض، هو لما فيه من المصالح العظيمة والآيات الباهرة والحكمة التامة التي ظهرت في الوجود، وترتب عليها من مصالح الدنيا والآخرة ما ترتب.
فهكذا سائر أفعاله سُبْحَانَهُ، مع أنه أشهد عباده بذلك أنه مسبب الأسباب، وأن الأسباب خلقه، وأنه يملك تعطيلها عن مقتضياتها وآثارها، وأن كونها كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو الذي جعلها كذلك وأودع فيها من القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها، وأنه إن شاء أن يسلبها إياها سلبها، لا كما يقول أعداؤه من الفلاسفة والطبائعيين وزنادقة الأطباء: إنه ليس في الإمكان تجريد هذه الأسباب عن آثارها وموجباتها، ويقولون: لا تعطيل في الطبيعة، وليست الطبيعة عندهم مربوبة مقهورة تحت قهر قاهر، وتسخير مسخر يصرفها كيف يشاء، بل هي المتصرفة المدبرة.
ولا كما يقول من نقص علمه ومعرفته بأسرار مخلوقاته وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز، وبالأسباب التي ربط بها خلقه وأمره وثوابه وعقابه، فجحد ذلك كله ورد الأمر إلى مشيئة محضة مجردة عن الحكمة والغاية، وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباط الأسباب بمسبباتها والقوى بمحالها»
(1)
.
وعليه فأهل اليقين ينظرون إلى الأسباب، ويعلمون أنها صادرة عن الخلاق، وأن الله سُبْحَانَهُ تارة ينسب الفعل إليه؛ لأنه الخالق بتقدير وقدرة، وتارة ينسب الفعل إلى عباده عند دعوتهم إلى العمل في الأسباب بمقتضى الشريعة والعقل والحكمة، فمرة يقول سُبْحَانَهُ في بيان التقدير والقدرة:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63، 64]، وقال أيضًا:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 - 32]، فنفى عن الناس خلقهم لأفعالهم وتأثير الأسباب بمفردها في أرزاقهم، وأثبت لنفسه تصريف الأسباب وانفراده بخلقها وتقليبها؛ لأنه الخالق الخلاق على الحقيقة، فهو الذي علم وكتب، وشاء وخلق، قدر كل شيء بعلمه، وكتبه في أم الكتاب بقلمه، وأمضاه بمشيئته، وخلقه بقدرته.
ثم أمر الناس أن يأخذوا بالأسباب التي خلقها وأحكم ابتلاءهم بها، فقال:{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف: 47]، وقال تَعَالَى أيضا:{يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، فسماهم زرَّاعًا، وقال: تزرعون، وسماهم كفارًا؛ لأنهم يضعون
(1)
طريق الهجرتين (ص 257).
البذرة ويغطونها ويغيبونها في الأرض، فكلف عباده بالعمل لأنهم في دار ابتلاء وامتحان، والأخذ بالأسباب حتم على بني الإنسان؛ فهم مستخلفون في ملكه ومخولون في أرضه، فطالب بالعمل والإنفاق مع الإيمان بأنه الخلاق؛ ليصل كل منهم إلى ما قدر له من الأرزاق، فقال تَعَالَى:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7].
أما ما يتعلق بخلق الله سُبْحَانَهُ للأسباب والعلل من غير مسبباتها وعللها، فمن شواهد ذلك أيضًا:
خلق الثمار لمريم بنت عمران من غير نباتها، فكانت تأكل من الثمار بدون أسباب، وفي غير أوانها، كما قال تَعَالَى:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]، قيل: إنها كانت ترزق بفاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف
(1)
.
اختيارالله سُبْحَانَهُ لمريم- أيضًا- لتكون محلًّا للابتلاء، فتحمل من غير زوج، على غير عادة النساء، وتلد عيسى، كمعلول بغير علة ونتيجة بلا سبب، يقول تَعَالَى:{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 17 - 21].
(1)
تفسير الطبري (3/ 244).
اختيار الله سُبْحَانَهُ لإبراهيم ليرمىه قومه في نار لا يقوى الطير على المرور من فوقها، وقد توفرت لهم العلة ولكن الله لم يخلق معلولها، فكانت بردًا عليه وسلامًا، يقول تَعَالَى:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 68، 69].
اختيار الله محمدًا صلى الله عليه وسلم لتضع له السم يهودية، ويتخلف السم عن معلوله، فلم يضره صلى الله عليه وسلم، ففي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:«أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا، فَقِيلَ: أَلَا نَقْتُلُهَا؟»
(1)
(2)
، إلى غير ذلك من الشواهد والمعجزات الربانية.
الأثر الرابع: الحكمة من خلق الخلق:
إن الإيمان بأسماء الله الخالق الخلاق البارئ المصور سُبْحَانَهُ يستلزم الإيمان بحكمته سُبْحَانَهُ من هذا الخلق، فالله تَعَالَى لم يخلق الخلق عبثًا- تَعَالَى عن ذلك وتقدس-، يقول تَعَالَى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115].
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2474).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2190).
بل إنه سُبْحَانَهُ خلق الخلق لحكمة جليلة وغاية عظيمة، ألا وهي معرفة الله سُبْحَانَهُ بآياته ومخلوقاته، ثم القيام بعبادته على الوجه الذي أمرنا به.
ودليل الأول: قول الله تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
ودليل الثاني: قول الله تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
يقول ابن القيم رحمه الله: «فإن سر العبودية، وغايتها وحكمتها إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل، ولم يعطلها، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها
…
، فمن أنكر حقيقة الإلهية ولم يعرفها، كيف يستقيم له معرفة حكمة العبادات؟ وغاياتها ومقاصدها، وما شرعت لأجله؟ كيف يستقيم له العلم بأنها هي الغاية المقصودة بالخلق، والتي لها خلقوا، ولها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ولأجلها خلقت الجنة والنار؟
…
، إن العبادة هي الغاية التي خلق لها الجن والإنس والخلائق كلها، قال الله تَعَالَى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] أي: مهملًا، قال الشافعي: لا يؤمر ولا ينهى، وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب، والصحيح: الأمران، فإن الثواب والعقاب مترتبان على الأمر والنهي، والأمر والنهي طلب العبادة وإرادتها، وحقيقة العبادة امتثالهما، وقال تَعَالَى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]»
(1)
.
(1)
مدارج السالكين (1/ 118).
وقد ضل في هذا الباب- الغاية من خلق الخلق- أكثر الخلق؛ فعرفوا أن الذي خلقهم هو الله وحده لا شريك له، وأنه وحده سُبْحَانَهُ تفرد بخلقهم، وخلق السماء، والأرض، والجبال، والأشجار، وغيرها من المخلوقات، ومع هذا الإقرار، صرفوا العبادة لغير الله، وهذا هو معنى قول الله تَعَالَى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «من إيمانهم إذا قيل لهم: من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وهم مشركون»
(1)
.
وقال عكرمة رحمه الله: «تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، فذاك إيمانهم بالله وهم يعبدون غيره»
(2)
.
وقال الله تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] أي: «يجعلون له شريكًا في عبادتهم إياه، فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثان، وليس منها شيء شركه في خلق شيء من ذلك، ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم، بل هو المنفرد بذلك كله، وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره، فسبحان الله ما أبلغها من حجة، وأوجزها من عظة، لمن فكر فيها بعقل، وتدبرها بفهم!»
(3)
.
(1)
تفسير الطبري (16/ 286).
(2)
المرجع السابق (16/ 286).
(3)
المرجع السابق (11/ 252).
الأثر الخامس: محبة الله الخالق الخلاق، البارئ، المصور سُبْحَانَهُ:
من تأمل في خلقه سُبْحَانَهُ وبرئه وتصويره لعباده في أحسن تقويم، وهدايته وتوفيقه، وتسخير الكون العظيم البديع كله لخدمته، وفق حكمة ربانية وعلم إلهي؛ أورث ذلك في قلبه محبة لله تبارك وتعالى، وتعلقًا به سُبْحَانَهُ.
الأثر السادس: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} :
ذكر الله سُبْحَانَهُ الاعجاز في خلق الإنسان، والدعوة إلى التأمل في ذلك في مواضع عديدة في كتابه العظيم، ومن ذلك قوله تَعَالَى:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] وقوله تَعَالَى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، وقال تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77]، وقال أيضًا:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14].
ويقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «لما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، دعاه خالقه وبارئه ومصوره وفاطره من قطرة ماء إلى التبصر والتفكر في نفسه، فإذا تفكر الانسان في نفسه، استنارت له آيات الربوبية، وسطعت له أنوار اليقين، واضمحلت عنه غمرات الشك والريب، وانقشعت عنه ظلمات الجهل، فإنه إذا نظر في نفسه وجد آثار التدبير فيه قائمات، وأدلة التوحيد على ربه ناطقات شاهدة لمدبره، دالة عليه مرشدة إليه، إذا يجده مكونًا من قطره ماء لحومًا منضدة، وعظامًا مركبة، وأوصالًا متعددة، مأسورة مشددة
بحبال العروق والأعصاب، قد قمطت وشدت وجمعت بجلد متين، مشتمل على ثلاثمائة وستين مفصلًا، ما بين كبير وصغير، وثخين ودقيق، ومستطيل ومستدير، ومستقيم ومنحن، وشدت هذه الأوصال بثلاثمائة وستين عرقًا؛ للاتصال والانفصال والقبض والبسط والمد والضم والصنائع والكتابة.
وجعل فيه تسعة أبواب: فبابان للسمع، وبابان للبصر، وبابان للشم، وبابان للكلام والطعام والشراب والتنفس، وبابان لخروج الفضلات التي يؤذيه احتباسها.
وجعل داخل بابي السمع مرًّا قاتلًا؛ لئلا تلج فيها دابة تخلص إلى الدماغ فتؤذيه، وجعل داخل بابي البصر مالحًا؛ لئلا تذيب الحرارة الدائمة ما هناك من الشحم، وجعل داخل باب الطعام والشراب حلوًا؛ ليسيغ به ما يأكله ويشربه فلا يتنغص به لو كان مرًا أو مالحًا.
وجعل له مصباحين من نور، كالسراج المضيء مركبين في أعلى مكان منه، وفي أشرف عضو من أعضائه، طليعة له وركب هذا النور في جزء صغير جدًّا يبصر به السماء والأرض وما بينهما، وغشاه بسبع طبقات وثلاث رطوبات بعضها فوق بعض، حماية له وصيانة، وحراسة، وجعل على محله غلقًا بمصراعين أعلا وأسفل، وركب في ذيل المصراعين أهدابًا من الشعر وقاية للعين وزينة وجمالًا، وجعل فوق ذلك كله حاجبين من الشعر يحجبان العين من العرق النازل ويتلقيان عنها ما ينصب من هناك، وجعل سُبْحَانَهُ لكل طبقة من طبقات العين شغلًا مخصوصًا، ولكل واحد من الرطوبات مقدارًا مخصوصًا، لو زاد على ذلك أو نقص منه لاختلت المنافع والمصالح المطلوبة.
وجعل هذا النور الباصر في قدر عدسة، ثم أظهر في تلك العدسة صورة السماء والأرض، والشمس والقمر، والنجوم والجبال، والعالم العلوي والسفلي، مع اتساع أطرافه وتباعد أقطاره، واقتضت حكمته سُبْحَانَهُ أن جعل فيها بياضًا وسوادًا، وجعل القوة الباصرة في السواد، وجعل البياض مستقرًّا لها ومسكنًا وزين كلًّا منهما بالآخر.
وجعل الحدقة مصونة بالأجفان والحواجب كما تقدم، والحواجب بالأهداب، وجعلها سوداء؛ إذ لو كانت بيضاء لتفرق النور الباصر، فضعف الإدراك، فإن السواد يجمع البصر ويمنع من تفرق النور الباصر، وخلق سُبْحَانَهُ لتحريك الحدقة وتقليبها أربعًا وعشرين عضلة، لو نقصت عضلة واحدة لاختل أمر العين.
ولما كانت العين كالمرآة التي إنما تنطبع فيها الصور إذا كانت في غاية الصقالة والصفاء، جعل سُبْحَانَهُ هذه الأجفان متحركة جدًّا بالطبع إلى الانطباق من غير تكلف؛ لتبقى هذه المرآة نقية صافية من جميع الكدورات، ولهذا لما لم يخلق لعين الذبابة أجفانًا، فإنها لا تزال تراها تنظف عينها بيدها من آثار الغبار والكدورات
…
»
(1)
.
(1)
التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (ص 303).
الأثر السابع: الحذر من عيب ما صوره المصور سُبْحَانَهُ:
فالله سُبْحَانَهُ امتن على عباده بأن صورهم فأحسن صورهم، يقول تَعَالَى:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، وهذا التصوير يتم على وجهين:
الأول: تصوير آدم، فقد خلقه الله بيده، وصوره، ثم نفخ فيه الروح، وأسجد له ملائكته:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11].
والثاني: التصوير الذي تم في الأرحام: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 11].
وعليه فمن آمن بأن الله هو الخالق الخلاق البارئ المصور، لم يعب على أحد خلقه، وشكله، وهيئته؛ لأن عيب الصنعة إنما هو عيب لصانعها، ولذا قيل لمن يعيب بعض الناس: أتعيب الخالق، أم تعيب المخلوق!، وفي ذلك يقول الله تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 11].
فالله تَعَالَى لايقدر الناس بأشكالهم ولا صورهم، وإنما الميزان الحقيقي للتفاضل هو تقواهم التي في قلوبهم وجهادهم في تحقيق ذلك كما في الآية
السابقة، عندما ذكر الله تَعَالَى التفاضل الحقيقي بالتقوى عقَّب النهي عن الغيبة، واحتقار الناس لبعضهم؛ وذلك تنبيهًا منه سُبْحَانَهُ لتساويهم في البشرية، وأن التفاضل إنما يكون بالأمور الدينية
(1)
.
وهذا هو المنهج النبوي والتربية النبوية، يقول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ»
(2)
، ومن شواهد ذلك ما يلي:
(3)
.
حديث عمرو بن الشريد، يحدث عن أبيه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَبِعَ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفَ حَتَّى هَرْوَلَ فِي إِثْرِهِ حَتَّى أَخَذَ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ: ارْفَعْ إِزَارَكَ،
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 385).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2564).
(3)
أخرجه ابن حبان، رقم الحديث:(5790)، والضياء في المختارة، رقم الحديث:(1806)، حكم الألباني: صحيح، مختصر الشمائل، رقم الحديث:(204).
فَكَشَفَ الرَّجُلُ، عَنْ رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَحْنَفُ وَتَصْطَكُّ رُكْبَتَايْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ خَلْقِ اللهِ حَسَنٌ» ، فَلَمْ نَرَ ذَلِكَ الرَّجُلَ إِلَّا وَإِزَارُهُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ حَتَّى مَاتَ
(1)
.
حديث معاوية بن قرة، عن أبيه، قال:«كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى شَجَرَةٍ يَجْنِي لَهُمْ مِنْهَا، فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهِ، فَضَحِكُوا مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ»
(2)
.
حديث أنس، قال: «خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى جُلَيْبِيبٍ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا، فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَنَعَمْ إِذًا، قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ: لَا هَا اللهِ إِذَا، مَا وَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا جُلَيْبِيبًا، وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ؟ قَالَ: وَالْجَارِيَةُ فِي سِتْرِهَا تَسْتَمِعُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ؟ إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ فَأَنْكِحُوهُ، قَالَ: فَكَأَنَّهَا جَلَّتْ عَنْ أَبَوَيْهَا، وَقَالَا: صَدَقْتِ، فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ قَدْ رَضِيتَهُ فَقَدْ رَضِينَاهُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُهُ، فَزَوَّجَهَا، ثُمَّ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَرَكِبَ جُلَيْبِيبٌ، فَوَجَدُوهُ قَدْ قُتِلَ
(1)
أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار، رقم الحديث:(1708)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(7214)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1441).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(4072)، وأبو يعلى، رقم الحديث:(5310)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(8452)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(3192).
وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قَتَلَهُمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا، وَإِنَّهَا لَمِنْ أَنْفَقِ بَيْتٍ فِي الْمَدِينَةِ»
(1)
.
الحمدُ لله الذي خلقَ السماواتِ والأرضَ، وجعلَ الظلماتِ والنورَ، اللهمَّ كما حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث (12588)، وابن حبان، رقم الحديث:(4059)، حكم الألباني: صحيح، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(4047).
الخبيرُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الخَبَر: المزادة العظيمة، والجمع: خبور
…
والخبر بالتحريك: واحد الأخبار
…
والاسم: الخُبر بالضم، وهو العلم بالشيء. والخبير: العالم. والخبير: الاكار، ومنه المخابرة، وهي: المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض
…
»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الخاء والباء والراء أصلان: فالأول العلم، والثاني يدل على لين ورخاوة وغزر، فالأول الخبر: العلم بالشيء، تقول: لي بفلان خبرة وخبر. والله تَعَالَى الخبير، أي العالم بكل شيء، وقال الله تَعَالَى:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، والأصل الثاني: الخبراء، وهي الأرض اللينة
…
»
(2)
.
ورود اسم الله (الخبير) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (الخبير) خمسًا وأربعين مرة في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180].
قوله تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73].
قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر: 31].
(1)
الصحاح (2/ 641).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 239).
ورود اسم الله (الخبير) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الخبير) في السنة النبوية، ومن وروده: حديث مُحَمَّد بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ أُمِّي، قَالَ: فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ، فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ، فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ، فَانْحَرَفْتُ فَأَسْرَعَ، فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ، فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ فَسَبَقْتُهُ، فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ، فَدَخَلَ فَقَالَ: مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ، قَالَ: لَتُخْبِرِينِي، أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ
…
»
(1)
.
معنى اسم الله (الخبير):
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234]: «خبير: يعني ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه منه شيء»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(974).
(2)
تفسير الطبري (5/ 94).
قال الزجاجي رحمه الله: «الخبير: العالم بالشيء، يقال: خبرت الشيء واختبرته، إذا علمته
…
»
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «الخبير: هو العالم بكنه الشيء، المطلع على حقيقته، كقوله تَعَالَى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «الخبير: الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها، كما أحاط بظواهرها»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «العليم الخبير: هو الذي أحاط علمه بالظواهر، والبواطن، والإسرار، والإعلان، وبالواجبات، والمستحيلات، والممكنات، وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء»
(4)
.
اقتران اسم الله (الخبير) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الخبير) باسمه (اللطيف):
اقترن اسم الله (الخبير) باسمه (اللطيف) في خمس آيات من القرآن الكريم، ومنها:
قوله تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، وقوله سُبْحَانَهُ:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
(1)
اشتقاق أسماء الله (ص: 127).
(2)
شأن الدعاء (1/ 63).
(3)
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2/ 492).
(4)
تفسير السعدي (ص: 945).
وجه الاقتران
(1)
:
أن خبرة الله عز وجل وعلمه أحاط بأفعاله، التي لطفت عن أن تدركها العقول والأفهام، كما أحاط- أيضًا- بكل ما لطف ودق.
أن لطف الله عز وجل الذي دق عن إدراك العقول والأفهام، إنما هو جارٍ على مقتضى خبرته وعلمه وحكمته.
ثانيًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الخبير) باسمه (العليم):
ورد اقتران اسمه (الخبير) باسمه (العليم) أربع مرات في القرآن الكريم، منها:
قوله تَعَالَى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35]، وقوله سُبْحَانَهُ:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
وجه الاقتران:
يدل على كمال علم الله؛ إذ شمل علمه العالم الظاهر المشهود الذي دل عليه اسم الله (العليم)، وشمل علمه العالم الباطن الغيبي الذي دل عليه اسم الله (الخبير)، وإن كل من الاسمين بمفردهما دال على العلم بالظاهر والباطن، إلا أنهما إذا اجتمعا خص كل واحد منهما بعلم معين.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 876)، والتحرير والتنوير، لابن عاشور (7/ 418).
ثالثًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الخبير) باسمه (الحكيم):
تقدم بيانه في اسم الله الحكيم.
رابعًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الخبير) باسمه سُبْحَانَهُ (البصير):
تقدم بيانه في اسم الله البصير.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الخبير):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الخبير) من صفاته سُبْحَانَهُ:
الله عز وجل الخبير الذي وسع ودق ولطف علمه وخبرته، حتى أدرك السرائر والخفايا، والخبايا والبواطن، فلم يخف عليه شيء منها، قال تَعَالَى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، وقال سُبْحَانَهُ:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73]
(1)
.
ومن مظاهر كمال هذا الاسم ما يلي:
أنه الخبير الذي أحاط علمه بذاته الجليلة، وبأسمائه الحسنى، وبصفاته العلى، وبأفعاله العظيمة التي لا يحيط بها خلقه، قال تَعَالَى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، وقال سُبْحَانَهُ:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] «يعني بذلك: نفسه الكريمة،
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 268).
فهو الذي يعلم أوصافه وعظمته وجلاله»
(1)
.
أنه الخبير الذي أحاط علمه بما في أرجاء السموات والأرض وأقطارهما من مخلوقاته، حتى الصغير الدقيق الخفي منها، قال تَعَالَى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]
(2)
.
فيعلم الخبير حبة الخردل- التي هي من أصغر الأشياء وأحقرها- في داخل الصخر أو في أي جزء من أجزاء السماوات و الأرض، قال تَعَالَى:{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]
(3)
.
ويعلم الخبير بسقوط الجزء الصغير من ورق الشجر ونحوه، يعلم من أي موضع سقط، وفي أي مكان من الأرض سقط، وكيف سقط، كما يعلم سُبْحَانَهُ الحبة الصغيرة الساقطة في قاع البحر، المندفنة في تربته، حتى وإن كانت في ليلة مظلمة، مغيمة، ممطرة، قال تَعَالَى:{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]»
(4)
، ويعلم ما يدخل في باطن الأرض من قطر المطر، أو بذر الأرض، كما يعلم ما يخرج منها من ذلك كله، قال تَعَالَى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 1، 2]
(5)
.
(1)
ينظر: تفسير الطبري (19/ 287)، وتفسير البغوي (3/ 453)، وتفسير السعدي (ص: 585).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 277)(5/ 450)، وتفسير السعدي (ص: 604).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 649).
(4)
ينظر: شرح رياض الصالحين، لابن عثيمين (1/ 332 - 331).
(5)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 674).
أنه الخبير الذي أحاط علمه بما يصلح من الأقدار لخلقه مما خفي وغاب عنهم، ولم يدركوا حكمته وسره، قال تَعَالَى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18].
ومن تلك الأقدار مايلي:
- تقدير الأرزاق؛ إذ مبناها على علم الله وخبرته بحال عباده وما يصلح لهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، فيعطي هذا ويمنع هذا؛ لعلمه وخبرته بحالهما وما يصلح لكل واحد منهما، قال تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، وقال لأمهات المؤمنين:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34] أي: فبخبرته بحالكن، وأنكن أهل لهذه المنزلة العظيمة من الزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزل الوحي في بيوتكن، وذكر السنة فيها، رزقكن ذلك وخصكن به واختاركن له
(1)
.
- تقدير الشرائع والأحكام، قال تَعَالَى:{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر: 31].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «فيعطي كل أمة وكل شخص، ما هو اللائق بحاله، ومن ذلك: أن الشرائع السابقة لا تليق إلا بوقتها وزمانها، ولهذا ما زال
(1)
ينظر: تفسير الطبري (20/ 268)، وتفسير ابن كثير (6/ 416).
الله يرسل الرسل رسولًا بعد رسول، حتى ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فجاء بهذا الشرع، الذي يصلح لمصالح الخلق إلى يوم القيامة، ويتكفل بما هو الخير في كل وقت.
ولهذا لما كانت هذه الأمة أكمل الأمم عقولًا وأحسنهم أفكارًا، وأرقهم قلوبًا، وأزكاهم أنفسًا؛ اصطفاهم الله تَعَالَى، واصطفى لهم دين الإسلام، وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب»
(1)
.
وجاء هذا الكتاب من الخبير سُبْحَانَهُ، قال تَعَالَى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، فأحكامه من لدن الخبير الذي يعلم ما يصلح لخلقه منها، وأخباره من لدن الخبير الذي لم تخف عليه دقائق الأخبار وتفاصيلها الماضية منها والحاضرة بل والمستقبلة، قال تَعَالَى:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14].
ومن هنا كان كتاب الله أعظم كتاب وأكمله، وأصدق خبر، وأعدل حكمًا وأحسنه؛ إذ لا مثل الله في العلم والخبرة {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14].
- تقدير الهدى والضلال، قال تَعَالَى:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء: 96، 97].
قال ابن كثير رحمه الله: «عليم بهم بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية،
(1)
تفسير السعدي (ص: 689).
ممن يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة، ولهذا قال:{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الإسراء: 97]»
(1)
.
- أنه الخبير الذي أحاط علمه بما دق وخفي من العلوم التي توصل إليها خلقه علمًا وخبرة، والعلوم التي لم يتوصلوا إليها أيضًا، بل علم وخبر سُبْحَانَهُ ما فوق ذلك من تفاصيل ودقائق وخفايا علم الغيب، قال تَعَالَى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]، ثم إنه قد يتوهم متوهم أن خبرة الخلق وعلمهم بالعلوم والأشياء كخبرة الله وعلمه، وهذا باطل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فعلم الخالق وخبرته كاملة من كل وجه، وعلم الخلق وخبرتهم قاصرة ناقصة من كل وجه.
ومن أوجه قصور علم الخلق وخبرتهم، ما يلي
(2)
:
افتقار خبرتهم وعلمهم إلى بذل الأسباب والمقدمات الحسية والعقلية للتوصل إليها.
احتمال الخطأ والغلط، بعد العلم والخبرة بالشيء.
تعلق خبرتهم وعلمهم بشيء معين دون جميع الأشياء، فتجد الواحد منهم عالمًا خبيرًا بشيء ما، جاهلًا أميًّا بغيره.
تعلق خبرتهم وعلمهم بالدنيا دون الآخرة.
(1)
تفسير ابن كثير (5/ 122).
(2)
ينظر: شأن الدعاء، للخطابي (1/ 63).
أنه الخبير الذي أحاط علمه بما خفى وبطن مما يصدر من خلقه، سواء أكان ذلك نية أو قولًا، أو فعلًا، حسنًا كان أو سيئًا، قال تَعَالَى:{إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]
(1)
، قال ابن كثير رحمه الله:«اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم، لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير»
(2)
.
فيعلم الخبير ما يكون في الصدور من الخفايا، وما يكون في القلوب من النوايا والمقاصد، وما يكون في النفوس من الأفكار والوساوس والخواطر وكمائن الخير والشر مما لا يطلع عليه إلا صاحبها، قال تَعَالَى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 13، 14]
(3)
، ومن هنا علم الخبير سُبْحَانَهُ بسرائر المتخلفين من الأعراب والمنافقين وما في ضمائرهم مما أخفوه وأظهروا خلافه، قال تَعَالَى:{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11]، وقال:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 53]
(4)
.
وعلم مقصد الحكم بين الزوجين ونيته أأرادَ الإصلاح أم غيره، قال تَعَالَى:
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 270).
(2)
تفسير ابن كثير (8/ 77).
(3)
ينظر: فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 46).
(4)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 337).
(1)
.
ويعلم الخبير ما يسر من الأقوال، ويهمس من الأصوات كعلمه بما يجهر منها، قال تَعَالَى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 13]، وقال سُبْحَانَهُ:{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} [الرعد: 10]، كما علم الخبير سُبْحَانَهُ بما أسرَّته بعض أمهات المؤمنين من الخطاب لبعض في حادثة التحريم، وأطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، قال تَعَالَى:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3].
ويعلم الخبير ما يصدر من الأفعال والأعمال ولو على وجه الخفاء والخباء، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب: 2]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88] سواءأكان ذلك خيرًا أم شرًّا، قال تَعَالَى:{وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وقال:{وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 17]، فيعلم الخبير ما يبذل من الصدقات خفية، قال تَعَالَى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]،
(1)
ينظر: تفسير الطبري (8/ 333).
ويعلم الخبير ما يكون من مسارقة النظر للحرام، قال تَعَالَى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]، وقال سُبْحَانَهُ:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، ويعلم الخبير دفع كفارة الظهار أكانت قبل المساس أم بعده مما يخفى على الناس ولا يخفى على الخبير المتعال، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3]، ويعلم الخبير عدة المرأة المتوفى عنها زوجها أقامت بحقها من مدتها، وحدادها، وامتناعها من النكاح ومقدماته أم لا مما لا يظهر لكثير من الناس، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 234].
فيعلم ذلك كله وغيره من أفعال الخير والشر وإن كان في عتمة الليل وظلمته، أو كان في أماكن الخفاء كالكهوف، والمغارات، والأدغال، وأعماق البحار والقفار، قال تَعَالَى:{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]
(1)
.
بل لا يجري في الملك والملكوت شيء، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن، ولا يضطرب نفس ولا يطمئن، إلا وقد علمه الخبير اللطيف
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 437)، وتفسير السعدي (ص: 735).
(2)
ينظر: المقصد الأسنى، للغزالي (ص: 103).
أنه الخبير الذي يحيط علمه بخلقه في الآخرة كما أحاط بهم في الدنيا، قال تَعَالَى:{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 9 - 11] وإنما «خص خبره بذلك اليوم، مع أنه خبير بهم في كل وقت؛ لأن المراد بذلك: الجزاء بالأعمال الناشئ عن علم الله واطلاعه»
(1)
.
وبمقتضى علمه وخبرته تبارك وتعالى يجازيهم على ما كان منهم من الأقوال، والأعمال، والنوايا، قال تَعَالَى:{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111]، وقال سُبْحَانَهُ:{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 9 - 11]،
فلا يخاف المحسن ضياعًا ولا نقصًا ولا نسيانًا لحسناته وثوابها، وإن كانت مجرد نية لم يتبعها عمل كما قال صلى الله عليه وسلم:«فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً»
(2)
.
قال ابن عاشور رحمه الله في مناسبة ختم قوله تَعَالَى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11] باسمه الخبير: «وإيقاع هذه الجملة بعد ذكر ما يقطعه الموت من ازدياد الأعمال الصالحة؛ إيماء إلى أن ما عسى أن يقطعه الموت من العزم على العمل إذا كان وقته المعين له شرعًا ممتدًّا، كالعمر للحج على المستطيع لمن لم يتوقع طرو مانع، وكالوقت المختار للصلوات- أن حيلولة الموت دون إتمامه لا يرزئ المؤمن ثوابه؛ لأن المؤمن إذا اعتاد حزبًا أو عزم على عمل صالح ثم عرض له ما منعه منه؛ أن الله يعطيه أجره.
(1)
تفسير السعدي (ص: 933).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(131).
ومن هذا القبيل: أن من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، كما في الحديث الصحيح»
(1)
.
وكذا المسيء لا يظن فواتًا ولا نسيانًا لسيئاته وعقابها، إلا أن يتغمده الله برحمته وعفوه.
ومن هنا نجد أن الله عز وجل كثيرًا ما يختم أعمال البِر باسمه الخبير ترغيبًا فيها؛ ومن ذلك:
قوله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
قوله تَعَالَى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة: 13].
قوله تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].
وكذا يختم أعمال السوء باسمه الخبير ترهيبًا منها، كما في قوله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
(1)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (28/ 256).
وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وقوله سُبْحَانَهُ:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58].
فسبحان الخبير الذي أحاط علمه بالظواهر، والبواطن، والإسرار، والإعلان، وبالواجبات، والمستحيلات، والممكنات، وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله الخبير على التوحيد:
إن الإيمان باسم الله الخبير يدعو العبد إلى توحيد الله في الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات؛ وذلك أن الله أنزل كتابه الصادر عن علمه وخبرته، كما قال سُبْحَانَهُ:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، وأخبر فيه بأنواع التوحيد الثلاثة ودعا الخلق إليها.
فأخبر الخبير بأنه الخالق وحده، وأنه الرازق وحده، وأنه النافع الضار وحده، وأنه المحيي المميت وحده، ونحو ذلك من أفراد الربوبية، وهذا يعني أن يوحد الله فيها، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 17، 18].
وأخبرهم الخبير بأنه المستحق للعبودية وحده، وأن كل ما سواه لا يستحق منها شيئًا؛ إذ هو فقير عاجز لا يملك شيئًا لنفسه ولا لعابده، فليس بيده نفع ولا ضر ولا تصريف ولا ملك لشيء قليل ولا كثير، بل حتى ولا القطمير {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13]، فما كان كذلك كيف يدعى ويعبد؟ وكيف يجعل ندًّا لله الملك الذي بيده كله شيء؟
ثم إنه في آية فاطر: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] أخبر بأمور كل واحد منها كاف لنبذ كل معبود سوى الله، ونبذ العبادة إليه؛ إذ أخبر
(1)
:
أولًا: أن هذه المعبودات لا تسمع ولا تعلم بعابدها وداعيها؛ لأنهم ما بين جماد، وأموات، وملائكة مشغولين بطاعة ربهم {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر: 14]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5].
ثانيًا: أن هذه المعبودات من دون الله لو قدر أنها سمعت وعلمت بعابدها وداعيها؛ فهي لا تملك شيئًا ولا حتى الشفاعة التي تعلق بها الكثير {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]، فكيف تجيبهم لمطالبهم؟! {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14].
ثالثًا: أن هذه المعبودات من دون الله تتبرأ يوم القيامة من عابدها وداعيها، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82].
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (6/ 541)، وتفسير السعدي (ص: 687).
وأخبرهم الخبير بأن له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وأن طريق معرفتها الوحي، كما قال سُبْحَانَهُ:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، قال جماعة من المفسرين: يعني بذلك: نفسه الكريمة تبارك وتعالى
(1)
، وقال ابن كثير رحمه الله: «استعلم عنه من هو خبير به عالم به فاتبعه واقتد به، وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد- صلوات الله وسلامه على سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى- فما قاله فهو حق، وما أخبر به فهو صدق
…
»
(2)
.
وهذا يعني: إثبات ما أثبتها الله لنفسه ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، ونفي ما نفاه الله عن نفسه ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات.
كل ذلك من غير تحريف ولا تعطيل؛ إذ خبرهما أفصح خبر وأبينه، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ لأخبره سُبْحَانَهُ أنه لا مثيل ولا شبيه له، قال تَعَالَى:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وبهذا يوحد الله في أسمائه وصفاته.
ثم إن هذا الإخبار من الله عز وجل بالتوحيد أصدق خبر وأكمله وأحقه، قال تَعَالَى:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، فلا يخبرك بالأمور وأحكامها
(1)
ينظر: تفسير الطبري (19/ 287)، وتفسير البغوي (3/ 453)، وتفسير القرطبي (13/ 63)، وفتح القدير، للشوكاني (4/ 98).
(2)
تفسير ابن كثير (6/ 119).
وعواقبها ومآلها، وما تصير إليه أصدق من الله العليم الخبير، «فاجزم بأن هذا الأمر الذي نبأ به كأنه رأي عين، فلا تشك فيه ولا تمتر»
(1)
.
الأثر الثالث: الرجوع للكتاب والسنة في معرفة الله الخبير:
إن الإيمان باسم الله الخبير يدعو العبد للرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ما أراد أن يتعرف على معوده الحق الله عز وجل، سواء كان ذلك من ناحية التعرف على أسمائه وصفاته وأفعاله، أو من ناحية التعرف على محبوباته ومرغوباته ومراضيه، وبالمقابل مكروهاته ومساخطه؛ إذ في الكتاب والسنة خبر ذلك على وجه التفصيل والإحكام، قال تَعَالَى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
ثم إنه لا أحد أعرف بالله من الله، ولا أحد من الخلق أعلم بالله، ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال تَعَالَى:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، يعني بذلك: نفسه سُبْحَانَهُ، وقال ابن كثير رحمه الله: يعني به محمدًا صلى الله عليه وسلم كما تقدم-، والكل صحيح
(2)
.
وهذا يعني: الرجوع إلى خبر الله ورسوله في العلم بذلك دون غيرهما، سواء أكان عقلًا أو هوى أو شيخًا مبتدعًا أو طريقًا من طرق الصوفية أو غير ذلك.
قال البغوي رحمه الله في الآية: «والمعنى: أيها الإنسان لا ترجع في طلب العلم بهذا إلى غيري»
(3)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 687).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 270).
(3)
تفسير البغوي (3/ 453).
الأثر الرابع: إصلاح الباطن:
إذا علم العبد أن ربه الخبير خبير بباطنه كظاهره، وسره كجهره، يعلم خطره وفكره، وما في قلبه من العقائد والمقاصد والأحقاد والأضغان والكبر والعجب، والتعلق بالدنيا، وإضمار الشر مع إظهار الخير، والتجمل بالإخلاص مع الإفلاس ونحو ذلك، وأن الكل مكشوف أمامه لا يخفى عليه ولا يغيب عنه، بل هو محل نظره، كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»
(1)
.
فإذا علم العبد هذا سارع لإصلاح باطنه كما يصلح ظاهره، وتخلص من آفاته كما يتخلص من آفات ظاهره، واعتنى بعمل قلبه كما يعتني بعمل جوارحه، وراقبه دومًا ولم يغفله.
وقد قال ابن القيم رحمه الله في أهمية هذا الأمر: «إن لله على العبد عبوديتين: عبودية باطنة، وعبودية ظاهرة؛ فله على قلبه عبودية، وعلى لسانه وجوارحه عبودية، فقيامه بصورة العبودية الظاهرة مع التعري عن حقيقة العبودية الباطنة لا يقربه من الله، ولا يوجب له الثواب، وقبول عمله؛ فإن المقصود امتحان القلوب، وابتلاء السرائر، فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بلا روح، والنية هي عمل القلب الذي هو ملك الأعضاء، والمقصود بالأمر والنهي.
فكيف يسقط واجبه، ويعتبر واجب رعيته وجنده وأتباعه اللاتي إنما شرعت واجباتها لأجله ولأجل صلاحه! وهل هذا إلا عكس القضية وقلب
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2564).
الحقيقة! والمقصود بالأعمال كلها ظاهرها وباطنها: إنما هو صلاح القلب، وكماله، وقيامه بالعبودية بين يدي ربه وقيومه وإلهه»
(1)
.
الأثر الخامس: محبة الله الخبير:
إن إيمان العبد باسم الله الخبير وما فيه من تمام العلم والخبرة؛ يورث القلب محبة الله عز وجل؛ ذلك أنها صفة كمال، والقلوب فطرت على محبة من له الكمال.
ثم إن العبد إذا ضم إليها صفات ربه الأخرى كالحكمة، والحلم، والستر، ونحوها، وتأمل كيف أنه قدر له ما فيه مصلحته بمقتضى خبرته وحكمته {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]، وتأمل كيف أنه يطلع عليه ويخبره، وهو يتقلب في معاصيه ليل نهار ومع ذلك يحلم عليه ويستره؛ زاد حبه لربه الخبير.
فاللهمَّ يا خبير يا عليم، أصلح لنا ظاهرنا وباطننا، وسرنا وعلانية، وشأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
(1)
بدائع الفوائد (3/ 192).
ذو الجلال والإكرام جل جلاله
-
ثبوت الأسماء المبدوءة بـ «ذو» في حق الله تعالى:
يرى بعض أهل العلم أن «الوارد في الكتاب والسنة من الأسماء المبدوءة بـ (ذو) المضافة إلى صفة من صفات الله، أو فعل من أفعاله، أو خلق من مخلوقاته، من أعظم ما يمدح به رب العزة ويدعى به، ولكنها لا تدخل في أسمائه الحسنى التسعة والتسعين
…
لأن معنى (ذي القوة، وذي الرحمة، وذي الكبرياء): صاحب القوة والرحمة والكبرياء؛ فذو في اللغة بمعنى: صاحب، وهذه الأسماء ثلاثة أقسام:
الأول: ما أضيف منها إلى صفة من صفات الباري، وهذا نوعان:
النوع الأول: أن تكون لهذه الصفات أسماء تدل عليها صرحت بها النصوص، وهي: ذو الرحمة، ذو القوة، ذو المغفرة، ذو الجبروت، ذو الملكوت، ذو الكبرياء، ذو العظمة.
والأسماء التي تضمنت هذه الصفات هي: الرحمن، الرحيم، القوي، الغفار، الغفور، الجبار، الملك، الكبير، العظيم.
والنوع الثاني: صفات ليس لها أسماء تدل عليها في الكتاب والسنة.
وهي: ذو الطول، ذو الفضل، ذو الجلال والإكرام، فإن هذه الصفات أضيفت «ذو» إلى كل منها، وليس لأي منها اسم مصرح به في النصوص.
القسم الثاني: ما أضيف إلى فعل من أفعال الباري تبارك وتعالى، وهما اسمان هما: ذو عقاب أليم، وذو انتقام.
القسم الثالث: ما أضيف إلى بعض مخلوقاته، وهما اسمان هما: ذو العرش، وذو المعارج»
(1)
.
-أما بالنسبة لحكم تسمية الله بهذه الأسماء المضافة:
فقد اختلف أهل العلم في تسمية الله بـ «ذو الجلال والإكرام» ، فمنهم من لم يجعله من أسماء الله، وجعله من الصفات باعتبار أن معنى (ذو): صاحب.
واختار آخرون: أنه من الأسماء؛ للنصوص الصحيحة الواردة فيه، وقد ذكره الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله من أسماء الله في (القواعد المثلى)
(2)
، يقول رحمه الله:«ومن أسماء الله تَعَالَى ما يكون مضافًا، مثل: مالك الملك، ذي الجلال والإكرام» .
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الكرام بالضم، مثل الكريم، فإذا أفرط في الكرم قيل: كرَّام بالتشديد، وكارمت الرجل، إذا فاخرته في الكرم، فكرمته أكرمه بالضم، إذا غلبته فيه،
…
والإكرام: مصدر مثل مخرج ومدخل»
(3)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(جل) الجيم واللام أصول ثلاثة، (منها):
(1)
أسماء الله الحسنى الهادية إلى الله والمعرفة به، لعمر الأشقر (ص 23 - 24).
(2)
القواعد المثلى (ص: 16).
(3)
الصحاح (5/ 298).
جل الشيء: عظم، وجل الشيء معظمه، وجلال الله: عظمته، وهو ذو الجلال والإكرام
…
»
(1)
.
ورود اسم الله (ذي الجلال والإكرام) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (ذي الجلال والإكرام) مرتين في القرآن الكريم، وهما:
قول الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27].
وقوله عز وجل: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78].
ورود اسم الله (ذي الجلال والإكرام) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (ذي الجلال والإكرام) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ منْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» . قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: كَيْفَ الْاسْتِغْفَارُ؟ قَالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ
(2)
.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»
(3)
.
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَلْقَةِ وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ جَلَسَ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ دَعَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ
(1)
مقاييس اللغة (1/ 417 - 418).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(591).
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3524)، وأبو يعلى، رقم الحديث:(3833)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1536).
إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ، بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، إِنِّي أَسْأَلُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَتَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى»
(1)
.
-
معنى اسم الله (ذي الجلال والإكرام) في حقه تعالى:
يدور معنى اسم الله (ذو الجلال والإكرام) على أنه سُبْحَانَهُ هو الموصوف بنعوت الجلال، وهي: كمال العز، والملك والتقدس، والعلم والغنى، والقدرة، وغيرها من الصفات.
وحول هذا المعنى تدور أقوال العلماء، ومنها:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «{ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}: ذو العظمة والكبرياء»
(2)
.
قال الطبري رحمه الله: «وقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78] يقول- تَعَالَى ذكره-: تبارك ذكر ربك يا محمد {ذِي الْجَلَالِ}، يعني: ذي العظمة {وَالْإِكْرَامِ} يعني: ومن له الإكرام من جميع خلقه»
(3)
.
قال الزجاج رحمه الله: «ذو الجلال: أنه المستحق لأن يجل ويكرم»
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12806)، وأبو داود، رقم الحديث:(1495)،، حكم الألباني: صحيح، صحيح أبي داود، رقم الحديث (1342).
(2)
تفسير ابن كثير (7/ 494).
(3)
تفسير الطبري (22/ 278).
(4)
تفسير الأسماء الحسنى (ص: 62).
(1)
.
قال القرطبي رحمه الله: «(الجلال) عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح، يقال: جل الشيء، أي: عظم، وأجللته، أي: عظمته
…
(والإكرام) أي: هو أهل لأن يكرم عما لا يليق به من الشرك، كما تقول: أنا أكرمك عن هذا، ومنه: إكرام الأنبياء والأولياء»
(2)
.
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]: «وقد نعت تَعَالَى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، أي: هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف، كقوله:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]، وكقوله إخبارًا
(1)
شأن الدعاء (ص: 91 - 92).
(2)
تفسير القرطبي (17/ 165).
عن المتصدقين: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]»
(1)
.
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وَهْوَ العَظِيمُ بِكُلِّ مَعْنًى يُوجِبُ التـ
…
ـعْظِيمَ لَا يُحْصِيهِ مِنْ إِنْسَانِ
وَهْوَ الجَلِيلُ فَكُلُّ أَوْصَافِ الجَلَا
…
لِ لَهُ مُحَقَّقَةٌ بِلَا بُطْلَانِ
(3)
اقتران اسم الله (ذو الجلال والإكرام) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يرد اسم الله (ذو الجلال والإكرام) مقترنًا بأي من أسمائه الأخرى.
(1)
تفسير ابن كثير (7/ 494).
(2)
تفسير السعدي (ص: 830).
(3)
النونية (ص: 203).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (ذو الجلال والإكرام):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (ذوالجلال والإكرام) من صفات، وتوحيد الله به:
إن الله هو المستحق وحده لأن يجل وينزه ويعظم لكمال ذاته وصفاته وأسمائه، وليس في الوجود من هو بمثل هذه الصفة غيره جل جلاله وتقدست أسماؤه.
ولقد اختص الله سُبْحَانَهُ وحده بالجلال؛ لأن جلاله ليس بأنصار وأعوان وسبب من الأسباب، بل للأوصاف الرفيعة والعزة والعلو التي تلحق به.
وكل جلال وكل كرامة منه، والجلال له في ذاته، والإكرام هو فيض متناه منه على خلقه، فلا شرف ولا مجد ولا عزة ولا قوة إلا وهي له وبه ومنه، قال الأصمعي رحمه الله:«ولا يقال: (الجلال) إلا لله عز وجل»
(1)
.
والإكرام فيض منه على خلقه، وإكرامه لخلقه بالعطايا والمنح، والآلاء والنعم لا يحصر ولا يعد؛ فهو الجدير بالإكرام من خلقه تعظيمًا لجلاله، وعرفانًا بفضله وإكرامه، وتقديرًا لآلائه وإحسانه.
يقول ابن القيم رحمه الله: «من أعز أنواع المعرفة: معرفة الرب سُبْحَانَهُ بالجمال، وهي معرفة خواص الخلق، وكلهم عرفه بصفة من صفاته، وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله، وجماله، سُبْحَانَهُ ليس كمثله شيء في سائر صفاته!»
(2)
.
(1)
اشتقاق الأسماء الحسنى (ص: 201).
(2)
الفوائد (ص: 182).
(1)
.
فَسُبْحَانَهُ وهب الجمال لبعض خلقه وسلبهم الجلال، ووهب الجلال لبعض خلقه وسلبهم الجمال، ووهب بعض خلقه الجمال مع الجلال، لكنه سلبهم دوام الحال، وتفرد سُبْحَانَهُ الجليل الجميل بالجلال المطلق والجمال التام مع دوام الحال
(2)
.
وحري بالقلب أن يتعلق بصاحب الجلال والإكرام سُبْحَانَهُ، ويوحده بألوهيته وربوبيته، ويديم النظر والتفكر في آلائه وأسمائه وصفاته، ويكثر بالتضرع والخضوع لجلاله سُبْحَانَهُ، وطلب فضله وإكرامه.
وكما أن اسم الله (ذو الجلال والإكرام) دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال على الأسماء والصفات؛ إذ يدل على اسم الله (ذو الفضل)، و (القدوس)، و (الكريم)، و (الجميل)، إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
(1)
روضة المحبين، لابن القيم (ص: 421).
(2)
سيأتي مظاهر جلال الله وعظمته في اسم الله (العظيم)، وآثار كرمه في اسم الله (الكريم) جل جلاله.
الأثر الثاني: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26]: كتب الله تَعَالَى على خلقه الفناء، وكتب على نفسه البقاء، يقول تَعَالَى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27].
وفي تفسير هذه الآية يقول الشيخ السعدي رحمه الله: «كل من على الأرض، من إنس وجن، ودواب، وسائر المخلوقات، يفنى ويموت ويبيد ويبقى الحي الذي لا يموت {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] أي: ذو العظمة والكبرياء والمجد، الذي يعظم ويبجل ويجل لأجله، والإكرام الذي هو سعة الفضل والجود، والداعي لأن يكرم أولياءه وخواص خلقه بأنواع الإكرام، الذي يكرمه أولياؤه ويجلونه، ويعظمونه ويحبونه، وينيبون إليه ويعبدونه»
(1)
.
والقلب إن استحضر حقيقة فناء كل المخلوقات، وبقاء رب البريات وحده تبارك وتعالى؛ فَهِمَ القاعدة الربانية التي هي أساس الخلق، فالله سُبْحَانَهُ لم يجعل الدنيا دار مقر، وإنما جعلها دار ممر، الرابح فيها من صلح زرعه، والخاسر من فسد ثمره، فالرابح قد أصلح زرعه في الدنيا؛ ليقطف ثمره في الآخرة، وأخلص العمل لذي الجلال والإكرام، الذي يجل من أطاعه ويكرمه في الدنيا والآخرة، ورغب فيما عنده من الثواب، وخشي ما عنده من العقاب.
(1)
تفسير السعدي (ص: 830).
الأثر الثالث: تكريم ذو الجلال والإكرام للإنسان:
(1)
.
ومظاهر تكريم الله لعباده كثيرة، لعل من الأصول الجامعة له ما يلي:
1 -
تكريم الله للإنسان عند خلقه، وما رافق ذلك الخلق من مظاهر التعظيم والعناية والحفاوة التي خص الله بها هذا المخلوق وذريته منذ البداية، ومن ذلك:
- خلقه وتسويته في أحسن تقويم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، يقول ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية:«أي: يمشي قائمًا منتصبًا على رجليه، ويأكل بيديه، وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا، يفقه بذلك كله، وينتفع به، ويفرق بين الأشياء، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدنيوية والدينية» .
- إسجاد الملائكة له، يقول سُبْحَانَهُ:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].
- إسكانه الجنة، يقول سُبْحَانَهُ:{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35].
- تعليمه ما لم تعلمه حتى الملائكة الكرام، يقول سُبْحَانَهُ:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31].
(1)
التحرير والتنوير (15/ 156).
2 -
تكريمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج وينشئ، ويركب ويحلل، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة، يقول تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، فخصه الله بملكة العقل والفكر، وهي الصفة التي خولت الإنسان القابلية والقدرة على التعلم والتعليم، والتفكير والتدبير، وعن ذلك نشأ وتحصل للإنسان ما لا يعد ولا يحصى من المعارف والعلوم والخبرات الإنسانية المكتسبة.
يقول السعدي رحمه الله في ذلك: «وهذا من كرمه عليهم وإحسانه الذي لا يقادَر قدره، حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الإكرام، فكرمهم بالعلم والعقل، وإرسال الرسل وإنزال الكتب، وجعل منهم الأولياء والأصفياء وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة»
(1)
.
3 -
تكريمه بتسخير ما لا يحصى من مخلوقات هذا الكون وخيراته ونعمه له، ومن ذلك قوله تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 32 - 34]، وقوله سُبْحَانَهُ:{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 12، 13]
(2)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 463).
(2)
للاستزادة، يراجع: اسم الله الكريم.
4 -
وأعظم تكريم: إرسال الرسل له، يقول تَعَالَى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وإكرامه بالإسلام، وهي كرامة خاصة بالمؤمنين، يقول تَعَالَى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
الأثر الرابع: محبة ذي الجلال والإكرام سُبْحَانَهُ:
(ذو الجلال والإكرام) اسم جامع للجلال والجمال؛ فإنه تَعَالَى له جلال مهيب وجمال عجيب، فالجمال له، والإجلال كله منه، فلا يستحق أن يحب بذاته من كل وجه سواه؛ لما له من كمال الجمال في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فليس في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله صفة نقص وذم، بل هي جميلة جليلة، حسنى طيبة، وخير كلها.
الأثر الخامس: تعظيم الله وإجلاله:
(ذو الجلال والإكرام) سُبْحَانَهُ الذي يكرم عباده، حق على عباده أن يكرموه بطاعته وتقواه، وبتعظيمه وإجلاله ثناء عليه، وتمجيدًا له وتعظيمًا له، وتنزيهًا له عن كل نقص وعيب، ومن مظاهر إجلال الله:
إجلال الله سبحانه وتعالى:
إن أعظم توقير يجب أن يكون لمن أسبغ عليك النعم، ورفع عنك البلاء والنقم، ومن تأمل قول الله تَعَالَى على لسان نوح عليه السلام:{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]؛ أدرك عظمة ذي الجلال وهيبته، ومن إجلاله تَعَالَى ما يلي:
إجلال أسمائه وصفاته، بإثباتها له سُبْحَانَهُ كما أثبتها لنفسه من غير
تحريف أو تعطيل أو تمثيل أو تكييف، يقول تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
من إجلال تَعَالَى إجلال القرآن العظيم: فهو كلامه الجليل سُبْحَانَهُ الذي عظمه، يقول تَعَالَى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، وتعظيم القرآن يكون بالإيمان بما جاء فيه، وتلاوة كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، وتعلمه وتعليمه والإنصات إليه والعمل به.
ومن عظمة القرآن: جعل الله أهل القرآن هم أهله وخاصته، كما في الحديث:«أَهْلُ القُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ، وَخَاصَّتُهُ»
(1)
.
إجلال كل ما أجله الجليل سُبْحَانَهُ من خلقه، ومن ذلك:
إجلال النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، يقول الله تَعَالَى:{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9].
يقول ابن تيمية رحمه الله عند هذه الآية: «والتعزير: اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار، ومن ذلك: أنه خصه في المخاطبة بما يليق به، فقال:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، فنهى أن يقولوا: يا محمد، أو يا أحمد، أو يا أبا القاسم، ولكن يقولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، وكيف لا يخاطبونه بذلك، والله سبحانه وتعالى أكرمه في مخاطبته
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12473)، والنسائي، رقم الحديث: في الكبرى (7977)، وابن ماجه، رقم الحديث:(215)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(2165).
إياه بما لم يكرم به أحدًا من الأنبياء، فلم يدعه باسمه في القرآن قط، بل يقول تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأحزاب: 28]{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 59]»
(1)
.
إجلال ثلاثة نص عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إِنَّ مِنَ إِجْلَالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ، غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ، وَلَا الْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ»
(2)
.
فمن إجلال الله: تعظيم الشيخ الكبير في الإسلام، بتوقيره في المجالس، والرفق به، والشفقة عليه، ونحو ذلك كل هذا من كمال تعظيم الله لحرمته عند الله، وإجلال حامل القرآن وإكرامه لحفظه كتاب الله، وسماه حاملًا له؛ لتحمله المشقة في ذلك، وإجلال السلطان القسط العادل بين الناس
(3)
.
إجلال حرمات ذي الجلال وحدوده:
فعظمة الله تَعَالَى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته؛ «لأن تعظيم حرمات الله من الأمور المحبوبة لله، المقربة إليه، التي مَن عظَّمها وأجلَّها أثابه الله ثوابًا جزيلًا، وكانت خيرًا له في دينه، ودنياه وأخراه عند ربه.
وحرمات الله: كل ما له حرمة، وأمر باحترامه، بعبادة أو غيرها، كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها، فتعظيمها: إجلالها بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية
(1)
الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 422).
(2)
أخرجه أبو داود (4843)، والبخاري في الأدب المفرد (357)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير (2199).
(3)
انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعظيم آبادي (13/ 132).
فيها، غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل»
(1)
، ويدل على ذلك قوله تَعَالَى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
الأثر السادس: ذو الجلال يُخاف عقابُه، وذو الإكرام يُرجى ثوابُه:
لا ينال العبد المعرفة إلا إذا عرف ذا الجلال والإكرام؛ لأنه جمع بين الرغبة والرهبة والرجاء والخوف.
فلا نجاة للإنسان حقًّا إلا إذا خاف ورجا؛ لأن الخوف المطلق يسلم إلى اليأس، والرجاء المطلق يسلم إلى التفريط.
وقد حثنا الله سُبْحَانَهُ على أن نخاف ونرجو، فقال تَعَالَى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16] وتدبر قول الله: {خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: جامعين بين الوصفين، خوفًا أن ترد أعمالهم، وطمعًا في قبولها، وخوفًا من عذاب الله
(2)
.
وفسر بعضهم التقوى بأنها الوقوف بين منزلة الخوف والرجاء، فالمؤمن إذا تذكر جلال الله رهب، وإذا تذكر كرمه طمع ورجا، وهكذا يعيش في مقام الرهبة فيعمل ويجتهد في الطاعة، ويحترز من المعاصي، ويعيش في مقام الرجاء فيأنس ويطمئن قلبه ويأمن.
وفي ذلك يقول الشيخ السعدي رحمه الله عند قوله تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] «وللذي خاف ربه وقيامه عليه، فترك ما نهى عنه، وفعل ما أمره به، له جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وبنيانهما وما فيهما،
(1)
تفسير السعدي (ص: 537).
(2)
المصدر السابق (ص: 655).
إحدى الجنتين جزاء على ترك المنهيات، والأخرى على فعل الطاعات»
(1)
.
الأثر السابع: الدعاء باسم الله ذو الجلال والإكرام:
هذا الأثر وصية من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم: «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الجَلَالِ والإِكْرَامِ»
(2)
.
و «أَلِظُّوا» بظاء معجمة مشددة، وفي رواية بحاء مهملة، «بِيَا ذَا الجَلَالِ والإِكْرَامِ» ، أي: الزموا قولكم ذلك في دعائكم؛ لئلا تركنوا وتطمئنوا لغيره، وقد ذهب بعضهم إلى أنه اسم الله الأعظم
(3)
.
وقد جاء في الحديث الذي فيه ذكر اسم الله الأعظم الدعاء بذي الجلال والإكرام، وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:«كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا- يعني: ورجل قائم يصلي- فلما ركع وسجد وتشهد دعا، فقال في دعائه: اللهم إني أسألك، بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، إني أسألك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «تَدْرُونَ بِمَا دَعَا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ دَعَا بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى»
(4)
.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام أكرمنا بطاعتك، واقسم لنا من خشينك ما تحول به بيننا وبين معاصيك.
(1)
تفسير السعدي (ص: 831).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي (1/ 227).
(4)
سبق تخريجه.
الربُّ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «رب كل شئ: مالكه، والرب: اسم من أسماء الله عز وجل، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك
…
والرباني: المتأله العارف بالله تَعَالَى، وقال سُبْحَانَهُ:{كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79]: ورببت القوم: سستهم، أي: كنت فوقهم، قال أبو نصر: وهو من الربوبية، ومنه قول صفوان:(لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن)، ورب الضيعة، أي: أصلحها وأتمها، ورب فلان ولده يربه ربًّا، ورببه، وترببه، بمعنًى، أي: رباه»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(الرب) الراء والباء يدل على أصول؛ فالأول: إصلاح الشيء والقيام عليه، فالرب: المالك، والخالق، والصاحب، والرب: المصلح للشيء، يقال: رب فلان ضيعته، إذا قام على إصلاحها
…
والله- جل ثناؤه- الرب؛ لأنه مصلح أحوال خلقه.
والأصل الآخر: لزوم الشيء والإقامة عليه، وهو مناسب للأصل الأول. يقال: أربت السحابة بهذه البلدة، إذا دامت
…
(1)
الصحاح (1/ 130).
والأصل الثالث: ضم الشيء للشيء، وهو- أيضًا- مناسب لما قبله، ومتى أنعم النظر كان الباب كله قياسًا واحدًا»
(1)
.
ورود اسم الله (الرَّب) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الرب) في كتاب الله في مواضع عديدة، وفي سياقات متنوعة، فجاء مضافًا إلى (العالمين)، وإلى (كل شيء)، وإلى (موسى وهارون)، وإلى (العرش العظيم)، وإلى (السماوات والأرض)، وإلى (المشرق والمغرب)، ومضاف للضمير (ربكم
…
)، ومن وروده ما يلي:
1 -
قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2].
2 -
وقوله عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164].
3 -
وقوله عز وجل: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17].
كما جاء مفردًا في إحدى وخمسين ومائة مرة، ومن ورود ما يلي:
قوله عز وجل: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58].
ورود اسم الله (الرب) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الرب) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُقَالُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلَأْتِ، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، فَيَضَعُ الرَّبُّ عز وجل قَدَمَهُ عَلَيْهَا، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ»
(2)
.
(1)
مقاييس اللغة (2/ 382).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4849).
(1)
.
وعن عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَكُنْ»
(2)
.
معنى اسم الله (الرب) في حقه تعالى:
قال الطبري رحمه الله: «فربنا جل ثناؤه: السيد الذي لا شبه له، ولا مثل له في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر»
(3)
.
قال القرطبي رحمه الله: «رب العالمين، أي: مالكهم، وكل من ملك شيئًا فهو ربه، فالرب: المالك
…
والرب: السيد، ومنه قوله تَعَالَى:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، وفي الحديث:(أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا)
(4)
، أي:
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(479).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3579)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي (3579).
(3)
تفسير الطبري (1/ 143).
(4)
أخرجه مسلم (8).
سيدتها،
…
والرب: المصلح والمدبر والجابر والقائم، قال الهروي وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد رَبَّهُ يُرَبِّهِ فهو ربٌّ له ورابٌّ، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب، وفي الحديث:«هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا»
(1)
، أي: تقوم بها وتصلحها، والرب: المعبود»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «والرب هو السيد، والمالك، والمنعم، والمربي، والمصلح، واللهتَعَالَى هو الرب بهذه الاعتبارات كلها»
(3)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «والرب هو المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح، وكل ذلك صحيح في حق الله تَعَالَى»
(4)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «الرب، هو المربي جميع العالمين- وهم من سوى الله- بخلقه إياهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدوها، لم يمكن لهم البقاء، فما بهم من نعمة، فمنه تَعَالَى»
(5)
.
اقتران اسم الله (الرب) بأسمائه الأخرىسُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم (الرَّبِّ) باسم (الله) عز وجل:
سبق بيانه في اسم الله (الله).
(1)
أخرجه مسلم (2567).
(2)
تفسير القرطبي (1/ 136 - 137).
(3)
بدائع الفوائد (4/ 132).
(4)
تفسير ابن كثير (1/ 131).
(5)
تفسير السعدي (ص: 39).
ثانيًا: اقتران اسم (الربِّ) باسميه سُبْحَانَهُ (الرحمن، الرحيم):
اقترن اسم (الرب) باسمي (الرحمن، الرحيم) كما في قوله تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2، 3]، وقوله عز وجل:{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} [النبأ: 37]، وقوله:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58].
وجه الاقتران:
1 -
الجمع بين الترغيب والترهيب، قال القرطبي رحمه الله:«وصف نفسه تَعَالَى بعد «رب العالمين» ، بأنه «الرحمن الرحيم» ؛ لأنه لما كان في اتصافه بـ «رب العالمين» ترهيب قرنه بـ «الرحمن الرحيم» ، لما تضمن من الترغيب، ليجمع في صفاته بين الرهبة منه، والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع، كما قال تَعَالَى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50]، وقال:{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ العُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ»
(1)
»
(2)
.
2 -
بيان سعة رحمته وشمولها، قال ابن القيم رحمه الله:«فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول للرحمة وسعتها؛ فوسع كل شيء برحمته وربوبيته»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2755).
(2)
تفسير القرطبي (1/ 139).
(3)
مدارج السالكين (1/ 34).
ثالثًا: اقتران اسم (الربِّ) باسمه سُبْحَانَهُ (الغفور):
اقترن اسم (الرب) باسمه (الغفور) كما في قوله تَعَالَى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15].
وجه الاقتران:
التأكيد على أن من أخص صفات الرب: المغفرة، وأنها من موجبات ربوبيته ولوازمها
(1)
.
رابعًا: اقتران اسم (الربِّ) باسمه سُبْحَانَهُ (العزيز):
اقترن اسم (الرب) باسمه (العزيز) كما في قوله تَعَالَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص: 66].
وجه الاقتران:
للدلالة على أن صفة العزة والغلبة من موجبات الربوبية والسؤدد.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الرَّبِّ):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الرب) من صفات الله سُبْحَانَهُ:
الله عز وجل الرب الذي خلق الخلق، ولم يتركهم هملًا، بل تصرف فيهم بما يصلح شؤونهم ويقيم أحوالهم، وتعاهدهم بالتربية والرعاية، فجاءت تربيته لهم على نوعين:
(1)
ينظر: المرجع السابق بنفس الصفحة.
النوع الأول: الربوبية العامة:
الشاملة لكل خلقه، فالله سُبْحَانَهُ رب العالمين {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، والعالمين: جمع عالم، وكل ما سوى الله عز وجل عالم
(1)
، فشمل بربوبيته كل شيء سواه.
فهو رب العرش العظيم، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]، وقال تَعَالَى:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116].
وهو رب السموات والأرض وما بينهما وما فيهما، كما قال سُبْحَانَهُ:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص: 66]، وقال تَعَالَى:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23، 24].
وهو رب المشرق والمغرب، كما قال سُبْحَانَهُ:{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9]، وقال تَعَالَى:{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17].
وهو رب الأولين والأخرين: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 126]، وقوله تَعَالَى:{قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 26].
وصلت ربوبيته لكل إنس وجن، بر وفاجر، مؤمن وكافر، وكل حيوان، ونبات، وجماد.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 131).
لا يخرج شيء عن ربوبيته البتة، كما قال سُبْحَانَهُ:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] ولا أوسع ولا أشمل كلمة و لا أكثر استغراقًا من كلمة شيء؛ فالذرة شيء، وجزئيات الذرة شيء، والنواة شيء، والشمس شيء، والمجرات شيء، والكون شيء
…
إلخ.
ومن آثار ربوبيته العامة:
خلقه وإيجاده لهم من عدم، وتصويره إياهم على ما قضى وقدر، قال تَعَالَى:{قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء: 56]، وقال سُبْحَانَهُ:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49]، قال السعدي رحمه الله:«ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، الدال على حسن صنعه من خلقه، من كبر الجسم وصغره وتوسطه، وجميع صفاته- {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64]»
(1)
.
إنعامه ورزقه لهم، فرباهم بما أغدق عليهم من النعم والأرزاق الظاهرة والباطنة التي لو فقدوها لاختلت حياتهم وما كان لهم بقاء، قال تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64]، وقال حاكيًا عن فرعون سؤاله:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49، 50] إلى أن قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
(1)
تفسير السعدي (ص: 507).
فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: 53، 54].
القيام على شؤنهم وتدبير أمورهم، كما قال تَعَالَى:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49، 50] هدى كل مخلوق لما خلق له من المنافع، وهداه لدفع المضار عنه، حتى أن الله أعطى الحيوان البهيم من العقل ما يتمكن به من ذلك
(1)
.
(2)
.
تعريف عباده بنفسه وبغايتهم التي خلقوا من أجلها، وتعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم؛ فلم يترك عباده سدى هملًا لا يعرفهم بنفسه ولا ما
(1)
ينظر: المرجع السابق.
(2)
الصلاة وأحكام تاركها (ص: 142).
ينفعهم ولا يضرهم في المعاش والمعاد، كما لم يخلقهم عبثًا يأكلون ويشربون ويمرحون دون أمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب، كما قال تَعَالَى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 115، 116] تعاظم عن هذا الظن الباطل الذي يقدح في حكمته تبارك وتعالى
(1)
.
النوع الثاني: الربوبية الخاصة:
التي اختص الله بها أولياءه وأهل طاعته، حيث رباهم فوفقهم للإيمان به، والقيام بعبوديته، وغذاهم بمعرفته، ونمى ذلك بالإقامة عليه، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، ويسرهم لليسرى وجنبهم العسرى، ودفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه.
فحقيقتها: التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر
(2)
.
ومن صور هذه التربية: أن يلقي في نفوس أوليائه إذا أقبلوا عليه بالطاعات الراحة والسكينة والانشراح، فيحببها لهم، وإذا عصوه أو هموا بمعصيته الضيق والكآبة والحزن فيبغضها لهم، قال تَعَالَى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].
فمن وجد في نفسه هداية وإيمانًا فهو محض فضل رب العالمين، فهوسُبْحَانَهُ الذي دفعه وساقه إلى طاعته، وألقى في قلبه محبته {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 560).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 39)، وفتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 48).
أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
ومنها: أن يصيب العبد ببعض البلايا والمحن؛ ليرجع ويعود إليه، وتكون سببًا لقربه منه، كما قال تَعَالَى:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]، وكما قال سُبْحَانَهُ:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118] فساق هذه الشدائد ليحملهم على التوبة والرجوع إليه.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (الرب) على التوحيد:
اسم الله الرب دال على أنواع التوحيد الثلاثة: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
- فأما توحيد الربوبية:
فاللهسُبْحَانَهُ هو الرب على الحقيقة، فلا رب على الحقيقة سواه، رب كل شيء وخالقه ومليكه، والقادر عليه والمتصرف في جميع أموره، وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته وتحت قهره، يقول تَعَالَى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
قال القرطبي رحمه الله: «فاللهسُبْحَانَهُ رب الأرباب، ومعبود العباد، يملك المالك والمملوك وجميع العباد، وهو خالق ذلك ورازقه، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مخلوق فمملَّك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده،
وإنما يملك شيئًا دون شيء»
(1)
.
وقد استدل الله على وحدانيته في الربوبية بدليل التمانع، قال تَعَالَى:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]، فالعالم العلوي والسفلي، على ما يرى، في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام، الذي ما فيه خلل ولا عيب، ولا ممانعة، ولا معارضة فالشمس والقمر، والكواكب الثابتة والسيارة، منذ خلقت وهي تجري على نظام واحد، وترتيب واحد، كلها مسخرة بالقدرة، مدبرة بالحكمة لمصالح الخلق كلهم، ليست مقصورة على مصلحة أحد دون أحد؛ فدل ذلك على أن مدبره واحد، وربه واحد، فلو كان له مدبران وربان أو أكثر من ذلك، لاختل نظامه، وتقوضت أركانه؛ فإنهما يتمانعان ويتعارضان، وإذا أراد أحدهما تدبير شيء، وأراد الآخر عدمه، فإنه محال وجود مرادهما معًا، ووجود مراد أحدهما دون الآخر، يدل على عجز الآخر وعدم اقتداره، واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور غير ممكن، فإذًا يتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده، من غير ممانع ولا مدافع، هو الرب الواحد القهار
(2)
.
وبهذا التوحيد أقر أكثر طوائف المشركين ولم ينكروه، كما حكى الله عنهم في كتابه، قال تَعَالَى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].
(1)
الأسنى في شرح الأسماء الحسنى، للقرطبي (1/ 395).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 521، 558).
ومع هذا الإقرار منهم إلا أنه لم يكفهم في الدخول في الإسلام لإخلالهم بتوحيد الألوهية الذي بعث الله الرسل داعين إليه، كما قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
- وأما توحيد الألوهية:
فاسم (الرب) عز وجل يقتضي ويستلزم عبادة الله وحده دون ما سواه؛ إذ إن الخالق للكون وما فيه، والمالك لكل شيء من العالم العلوي، والعالم السفلي، ما نبصره منه، وما لا نبصره، والمتصرف فيه بالإحياء، و الإماتة، والرزق، والتدبير هو المستحق للعبادة وحده، فإن كل من دونه عبيد مربوبون لا خلق لهم ولا ملك، عاجزون من جميع الوجوه، فكيف يتخذون أندادًا وشركاء لله؟!
(1)
.
وقد احتج الله بالربوبية على الألوهية في مواضع عديدة من كتابه بأساليب متنوعة، منها: قوله تَعَالَى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191]، وقوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38].
ففي هذه الآيات احتجاج على العباد بأن الله هو وحده مالك الأرض والسماء ومن فيها، وخالقهم وربهم ومليكهم، فإذا كان كذلك فهو وحده إلههم ومعبودهم، فكما لا رب لهم غيره، فهكذا لا إله لهم سواه
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 557).
(2)
ينظر: مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 413)، وفقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 94 - 95).
- وأما توحيد الأسماء والصفات:
فاسم (الرب) عز وجل مقتضٍ ومستلزم لسائر أسمائه وصفاته تبارك وتعالى؛ فالخالق المالك الرازق المدبر لا بد أن يكون قادرًا، بارئًا مصورًا، حيًّا قيومًا، عليمًا، سميعًا بصيرًا، غنيًّا، جوادًا، كريمًا إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته.
(1)
.
(2)
.
الأثر الثالث: الرضا بالله عز وجل ربًّا:
من عرف اسم الله (الرب) وعلم أنه وحده الخالق المالك الرازق المدبر، لم يطلب غيره ربًّا {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164]، بل رضي به سبحانه وتعالى ربًّا، وساقه رضاه به لأنواع من الرضى:
1 -
الرضى به إلهًا معبودًا.
(1)
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 497).
(2)
بدائع الفوائد، لابن القيم (2/ 249).
2 -
الرضى به حاكمًا مشرعًا، فيرضى عما أمره به ونهاه عنه.
3 -
الرضى به قاسمًا قاضيًا، فيرضى عما قسمه وقدره له، ويرضي عما أعطاه واختاره له وعما منعه منه.
فالرضى به ربًّا متعلق بذاته وأسمائه وصفاته وألوهيته وربوبيته العامة والخاصة، فهو الرضى به خالقًا ومدبرًا وآمرًا وناهيًا، ومالكًا ومعطيًا ومانعًا، وحكمًا ووكيلًا ووليًّا وناصرًا، ومعينًا وكافيًا وحسيبًا ورقيبًا، وقابضًا وباسطًا، ومبتليًا ومعافيًا، إلى غير ذلك من صفات أفعاله تبارك وتعالى.
ومن كانت هذه صفته ذاق طعم الإيمان وحلاوته، كما قال صلى الله عليه وسلم:«ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ باللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»
(1)
.
ومتى تذوق العبد طعم الإيمان فلا تسأل عن السعادة التي يحيا بها، ولا عن الأنس الذي يشعر به، ولا عن الطمأنينية والثبات حتى ولو احتوشته البلايا والرزايا.
ومن لم يرض بتلك الأنواع أو بعضها لم يكن قد رضي به ربًّا من جميع الوجوه، ولا ذاق حلاوة الإيمان حتى يرضى به من جميع الوجوه.
والرضى بالله ربا يختلف عن الرضا عنه؛ فالرضى به متعلق بأسمائه وصفاته وأفعاله، والرضى عنه متعلق بثوابه وجزائه، كما قال سُبْحَانَهُ:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27] وقوله تَعَالَى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]، فربط الرضا عنه بدخول الجنة، بينما في الحديث علق
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(34).
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوق طعم الإيمان بمن رضي بالله ربًّا، ولم يعلقه بمن رضي عنه، فجعل الرضى به قرينًا للرضى بدينه ونبيه، وهذه الثلاثة هي أصول الإسلام التي لا يقوم إلا بها وعليها.
الأثر الرابع: التوكل على الربِّ سُبْحَانَهُ:
إذا آمن العبد باسم الله (الرب) وما يدل عليه من اختصاصه بجلب المنافع ودفع المضار، والتكفل بالأرزاق، وتيقن ذلك؛ أورثه التعلق به والتوكل عليه في جلب المصالح، ودفع المساوئ والمخاطر عنه، وفي تصريف جميع أموره، فلا يتعلق إلا باللهتَعَالَى ولا يرجو إلا هو، ولا يخاف إلا منه سُبْحَانَهُ، ولقد قال نبي الله موسى عليه السلام وهو في موقف شديد عصيب؛ أدركه فرعون فيه بجبروته وطغيانه وجنوده وعتاده، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ:{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 53 - 56] ولا مفر، فالبحر أمامه، وفرعون خلفه، والجبال الشاهقة ترى عن يمينه وشماله، حتى ظن أصحابه أنهم مدركون {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] قال واثقًا بربه متوكلًا عليه: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
فكل مخلوق ضعيف لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، فضلًا عن أن يملكه لغيره، فكيف يخاف أو يرجى أو يتعلق بمن هذا حاله؟
الأثر الخامس: محبة الله الرب:
لما كان من معاني (الرب) أنه الذي يربي عباده بخلقه إياهم على أحسن صورة، والإنعام عليهم بما يقيم حياتهم ومعاشهم، والقيام على شؤونهم وحاجتهم أتم قيام وأكمله.
فإن هذه المعاني من شأنها أن تورث في قلب العبد المحبة العظيمة لربه سُبْحَانَهُ، وحب ما يحبه ومن يحبه، وبغض ما يبغضه ومن يبغضه، والمسارعة في مرضاته، وتعظيمه وإجلاله وشكره، وحمده الحمد اللائق بجلاله وعظمته وسلطانه وإنعامه.
الأثر السادس: التضرع باسم الله (الرب):
اسم الله (الرب) تبارك وتعالى يقتضي جلب المنافع ودفع المضار، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات، ومن هنا صمد إليه العباد وقصدوه صغيرهم وكبيرهم، برهم وفاجرهم، بل وحتى كافرهم في حاجاتهم ومطالبهم، كما قال الله تَعَالَى عن الكفار:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32]، وقال:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65].
وكلما عرف العبد اسم الله (الرب) وزاد يقينه بمعانيه؛ زاد لهجه ودعاؤه به؛ لذا كثر في أدعية الأنبياء والصالحين تكرار الدعاء بقولهم: (ربنا، ربنا)، ومن ذلك:
- دعاء آدم عليه السلام، حين تاب الله عليه هو وزوجه:{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
- دعاء نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28].
- دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127، 128].
- دعاء يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
- دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ وَرَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْراةِ والإِنْجِيلِ والفُرْقَانِ
…
»
(1)
، وكان إذا افتتح صلاته من الليل قال: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ
…
»
(2)
.
- دعاء الراسخين في العلم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
- دعاء المتقين: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16].
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2713).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(770).
ولعل من أسرار كثرة دعاء الأنبياء بلفظ الرب: أن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة، فسألوه بالاسم المناسب لمطالبهم؛ فهو الذي يربيهم بتربيته الخاصة
(1)
.
الأثر السابع: التأدب مع الرب في الألفاظ:
الله عز وجل هو الرب وحده تبارك وتعالى؛ لذا جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَوْلَاي، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي»
(2)
.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفيه: نهي العبد أن يقول لسيده: (ربي)، وكذلك نهى غيره، فلا يقول له أحد: ربك، ويدخل في ذلك أن يقول السيد ذلك عن نفسه، فإنه قد يقول لعبده: اسق ربك، فيضع الظاهر موضع الضمير على سبيل التعظيم لنفسه»
(3)
.
والسبب في النهي:
(4)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 39).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2552)، ومسلم، رقم الحديث:(2249). واللفظ للبخاري.
(3)
فتح الباري (5/ 179).
(4)
المرجع السابق.
(1)
.
وهل معنى هذا عدم جواز أن يقال لأحد غير الله: رب؟
إطلاق لفظ الرب إما يكون على سبيل الإطلاق أو الإضافة، فإما إن كان على سبيل الإطلاق فلا يجوز؛ لأن هذا مما يختص الله به، قال ابن كثير رحمه الله:«ولا يستعمل الرب لغير الله، بل بالإضافة، تقول: رب الدار، رب كذا، وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل»
(2)
، وقال ابن حجر رحمه الله:«والذي يختص بالله تَعَالَى إطلاق الرب بدون إضافة»
(3)
.
أما إن كان مضافًا، فالإضافة يختلف حكمها باختلاف أقسامها، وقد أوضح ذلك الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، فقال: «إضافة الربِّ إلى غير الله تَعَالَى تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن تكون الإضافة إلى ضمير المخاطب، مثل: أطعم ربك، وضئ ربك، فيكره هذان لمحذورين:
1 -
من جهة الصيغة؛ لأنه يوهم معنى فاسد بالنسبة لكلمة رب؛ لأن الرب من أسمائه سُبْحَانَهُ، وهو- سُبْحَانَهُ - يطعم ولا يطعم، وإن كان بلا شك أن الرب هنا غير رب العالمين الذي يُطعِم ولا يُطعَم، ولكن من باب الأدب في اللفظ.
(1)
أعلام الحديث، للخطابي (2/ 1271).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 131).
(3)
فتح الباري (5/ 179).
2 -
من جهة المعنى أنه يشعر العبد أو الأمة بالذل؛ لأنه إذا كان السيد ربًّا كان العبد أو الأمة مربوبًا.
القسم الثاني: أن تكون الإضافة إلى ضمير الغائب، فهذا لا بأس به كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أشراط الساعة:«إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّهَا»
(1)
....
القسم الثالث: أن تكون الإضافة إلى ضمير المتكلم، بأن يقول العبد: هذا ربي، فهل يجوز هذا؟
قد يقول قائل: إن هذا جائز؛ لأن هذا من العبد لسيده، وقد قال تَعَالَى عن صاحب يوسف:{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] أي: سيدي؛ ولأن المحذور من قول: (ربي) هو إذلال العبد، وهذا منتف؛ لأنه هو بنفسه يقول: هذا ربي.
القسم الرابع: أن يضاف إلى الاسم الظاهر، فيقال: هذا رب الغلام، فظاهر الحديث الجواز، وهو كذلك ما لم يوجد محذور؛ فيمنع، كما لو ظن السامع أن السيد رب حقيقي خالق ونحو ذلك»
(2)
.
الأثر الثامن: كن ربانيًّا:
الله عز وجل الرب يحب من عباده أن يكونوا ربانيين، كما قال تَعَالَى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79].
وسيتناول الملحق - بإذن الله- ما يوضح هذا المعنى ويساعد على تحقيقه.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(50)، ومسلم، رقم الحديث:(9).
(2)
القول المفيد على كتاب التوحيد، لابن عثيمين (2/ 339 - 340).
الرَّبَّانِية والرَّبَّانِيون
في هذا الموضوع سنتطرق للمسائل التالية:
أولًا: المقصود بالرَّبَّانية والرَّبَّانيين:
تعددت عبارات العلماء في معنى الرباني، إلا أنها تدور حول ثلاثة معان:
1 -
العلم الراسخ بالله وشرعه.
2 -
العمل بالعلم.
3 -
تعليم الناس وتربيتهم عليه بالحكمة، كالبدء بصغار العلم قبل كبارها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79]«حلماء فقهاء، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره»
(1)
.
وقال الطبري رحمه الله: «وأولى الأقوال عندي بالصواب في (الربانيين): أنهم جمع (رباني)، وأن (الرباني) المنسوب إلى (الربان)، الذي يربُّ الناس، وهو الذي يصلح أمورهم، ويربُّها، ويقوم بها،
…
فالربانيون إذًا هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا، ولذلك قال مجاهد:(وهم فوق الأحبار)؛ لأن الأحبار هم العلماء، والرباني: الجامع إلى العلم والفقه، البصرَ
(1)
صحيح البخاري (1/ 25).
بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم»
(1)
.
وقال أبو عمر الزاهد رحمه الله: سألت ثعلبًا عن هذا الحرف، وهو الرباني، فقال:«سألت ابن الأعرابي، فقال: إذا كان الرجل عالمًا عاملًا معلمًا، قيل له: هذا رباني، فإن خرم عن خصلة منها لم نقل له: رباني»
(2)
.
وقال القرطبي رحمه الله: «العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم»
(3)
.
وقال ابن القيم رحمه الله بعدما نقل جملة من تفسيرات العلماء للرباني-: «ولا يوصف العالم بكونه ربانيًّا حتى يكون عاملًا بعمله، معلمًا له»
(4)
.
وقال السعدي رحمه الله: «علماء حكماء حلماء، معلمين للناس ومربيهم بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل»
(5)
.
ثانيًا: وسائل تحقيق الربانية:
الربانية تقوم على ثلاث ركائز، كما يظهر مما نُقِل من كلام العلماء رحمهم الله سابقًا، وهي:
1 -
العلم الراسخ بالله وشرعه.
(1)
تفسير الطبري (6/ 540 - 544).
(2)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 124).
(3)
تفسير القرطبي (4/ 122).
(4)
مفتاح دار السعادة (1/ 126).
(5)
تفسير السعدي (ص: 136).
2 -
العمل بالعلم.
3 -
تعليم الناس وتربيتهم عليه بالحكمة.
ولكل واحد من هذه الركائز الثلاث أدلته من الكتاب والسنة، منها:
ما يتعلق بالعلم: قال تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
فوصف الله الربانيين والأحبار بأنهم {اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} قال ابن جرير رحمه الله: «بما استودعوا علمه من كتاب الله، الذي هو التوراة»
(1)
.
ووصف الربانين- أيضًا- بالدرس للكتاب الذي به يرسخ العلم ويبقى
(2)
، قال تَعَالَى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79].
والذي يظهر أن المراد بالعلم: العلم الراسخ الواسع؛ لذا إنما أطلق السلف هذا الوصف على من تبحر في العلم، ومن ذلك:
لما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه قال أبو هريرة رضي الله عنه: «اليوم مات رباني هذه الأمة، ولعل الله عز وجل أن يجعل في ابن عباس مثله خلفًا»
(3)
.
(1)
تفسير الطبري (8/ 454).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 136).
(3)
الآحاد والمثاني، لابن أبي عاصم (393).
وقال محمد ابن الحنفية يوم مات ابن عباس رضي الله عنهما: «مات رباني هذه الأمة»
(1)
.
ما يتعلق بالعمل: وهذه الركيزة معلومة بنصوص كثيرة، ذمت المقصرين
في هذا الباب، كقوله تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] وقوله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ
مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3].
فلو كان الربانيون لا يعملون بعلمهم، لاستحقوا الذم لا المدح، والله أشاد بهم في مواضع، فدل على أنهم حققوا العمل بالعلم.
ما يتعلق بالتعليم والتربية: قال تَعَالَى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] الباء «باء السببية، أي: بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه، التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيين»
(2)
.
ووصفهم الله بأنهم استحفظوا الكتاب، كما في قوله تَعَالَى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، والحفظ لا يكون بمجرد الجمع في الفؤاد والعمل به، بل بنقله للأجيال وتربيتهم عليه أيضًا، فالحفظ لا يتم ويكمل بغير التبليغ والنقل للناس.
(1)
الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر (1/ 56).
(2)
تفسير السعدي (ص: 136).
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: «أي: بسبب أن الله استحفظهم على كتابه، وجعلهم أمناء عليه، وهو أمانة عندهم، أوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان والكتمان، وتعليمه لمن لا يعلمه.
وهم شهداء عليه؛ بحيث إنهم المرجوع إليهم فيه، وفيما اشتبه على الناس منه، فاللهتَعَالَى قد حمَّل أهلَ العلم ما لم يحمِّله الجهال، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حُمِّلوا.
وأن لا يقتدوا بالجهال، بالإخلاد إلى البطالة والكسل، وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة، من أنواع الذكر، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، ونحو ذلك من الأمور، التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا ونجوا.
وأما أهل العلم فكما أنهم مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم، فإنهم مطالبون أن يعلِّموا الناس، وينبهوهم على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، خصوصًا الأمور الأصولية، والتي يكثر وقوعها، وأن لا يخشوا الناس، بل يخشون ربهم»
(1)
.
وفي هذه الركائز الثلاث يقول ابن القيم رحمه الله: «والسلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيًّا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات»
(2)
.
(1)
تفسير السعدي (ص 232).
(2)
زاد المعاد (3/ 9).
ثالثًا: صفات الربانيين:
وللربانيين أوصاف، جعلتهم يحوزون هذا الشرف العظيم، منها:
1 -
خشية الله عز وجل التي أورثها العلم بالله عز وجل، قال تَعَالَى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].
2 -
الثبات على الحق، وعدم التذبذب في الفتن والكروب؛ لعلمه بها.
3 -
القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تَعَالَى موضحًا الدور المنبغي على الربانيين القيام به:{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 63]، قال السعدي رحمه الله:«فإن العلماء عليهم أمر الناس ونهيهم، وأن يبينوا لهم الطريق الشرعي، ويرغبوهم في الخير ويرهبوهم من الشر»
(1)
.
4 -
الحرص على تحكيم شريعة الله عز وجل في جميع الأمور، كما قال تَعَالَى عنهم:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 44]، فيحكِّمون ما أنزل الله من التوراة، ويَحْكُمُونَ به.
5 -
الحكم بين الناس بكتاب الله، قال تَعَالَى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 44].
6 -
الصبر على العلم وأعباء الدعوة والتعليم، قال تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا
(1)
تفسير السعدي (ص: 237).
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فبين أنهم وصلوا لهذه المرتبة بالصبر على التعلم والتعليم، والدعوة إلى الله
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «فجهاد النفس أربع مراتب أيضًا:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين»
(2)
.
7 -
اليقين بآيات الله، قال تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فبين أنهم وصلوا لهذه المرتبة الرفيعة بما وصلوا إليه من الإيمان إلى درجة اليقين، وهو العلم التام، الموجب للعمل
(3)
.
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 656).
(2)
زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم (3/ 9).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (656).
8 -
السمت والوقار، قال صلى الله عليه وسلم:«السَّمْتُ الحَسَنُ، والتُّؤَدَةُ والاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»
(1)
، فالأنبياء أحسن الناس سمتًا وأحسنهم وقارًا، والربانيون ورثة الأنبياء، بهم يقتدون وعلى أثارهم يسيرون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وَإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ»
(2)
.
9 -
ملاحظة تقصير النفس وسؤال الله المغفرة، قال تَعَالَى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 146، 147]، ففي هذا الموقف العصيب الذي تزهق فيه الأروح لم يغفلوا عن ملاحظة تقصيرهم وذنوبهم، فسألوا الله مغفرته.
وهذا الاستدلال إنما يصح على القول بأن الربِّيِّين بمعنى: الربانيين.
فمن حقق ركائز الربانية الثلاثة، واتصف بصفاتها؛ حقق الربانية، واستحق أن يوصف بكونه ربانيًّا.
فاللهمَّ اسْتَعْمِلْنَا وَلَا تَسْتَبْدِلْنَا، واحشُرْنَا في زمرةِ عبادِكَ الرَّبَّانِيينَ الصَّالحينَ.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث (2010)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، رقم الحديث:(1105)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3010).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(3641)، والترمذي، رقم الحديث:(2682)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2682).
الرحمن الرحيم جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الرحمة: الرقة والتعطف، والمرحمة مثله، وقد رحمته وترحمت عليه، وتراحم القوم: رحم بعضهم بعضًا، والرحموت من الرحمة
…
والرحمن والرحيم: اسمان مشتقان من الرحمة، ونظيرهما في اللغة: نديم وندمان، وهما بمعنًى»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(رحم) الراء والحاء والميم أصل واحد يدل على الرقة والعطف والرأفة، يقال من ذلك: رحمه يرحمه، إذا رق له وتعطف عليه .. »
(2)
.
ورود اسم الله (الرحمن - الرحيم) في القرآن الكريم:
أولًا: ورود اسم الله الرحمن في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (الرحمن) في كتاب الله سبعًا وخمسين مرة، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85].
(1)
الصحاح تاج اللغة (5/ 1929).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 498).
قوله تَعَالَى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33].
قوله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29].
ثانيًا: ورود اسم الله (الرحيم) في القرآن الكريم:
وورد اسم الله (الرحيم) في كتاب الله مائةً وأربع عشرة مرة، ومن وروده ما يلي:
1 -
قوله عز وجل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49]
2 -
قوله عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 217]
3 -
قوله عز وجل: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 34].
ورود اسم الله (الرَّحْمَن - الرَّحِيْم) في السنة النبوية:
أولًا: ورود اسم الله (الرحمن) في السنة النبوية:
ورد اسم الله الرحمن في السنة، ومن وروده ما يلي:
عن أبي التَّيَّاحِ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَنْبَشٍ التَّمِيمِيِّ - وَكَانَ كَبِيرًا -: أَدْرَكْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ؟ فَقَالَ: إِنَّ الشَّيَاطِينَ تَحَدَّرَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ، وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ بِيَدِهِ شُعْلَةُ نَارٍ يُرِيدُ أَنْ يَحْرِقَ بِهَا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ. قَالَ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا
يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ. قَالَ: فَطُفِئَتْ نَارُهُمْ، وَهَزَمَهُمُ اللهُ تبارك وتعالى.
(1)
عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قَالَ اللهُ عز وجل: أَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا مِن اسْمِي اسْمًا، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتْهُ»
(2)
.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«الخَيْلُ ثَلَاثَةٌ، فَفَرَسٌ لِلرَّحْمَنِ، وَفَرَسٌ لِلْإِنْسَانِ، وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ، فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ: فَالَّذِي يُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَعَلَفُهُ وَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ- وذكر ما شاء الله- وَأَمَّا فَرَسُ الشَّيْطَانِ: فَالَّذِي يُقَامَرُ أَوْ يُرَاهَنُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فَرَسُ الإِنْسَانِ: فَالفَرَسُ يَرْتَبِطُهَا الإِنْسَانُ يَلْتَمِسُ بَطْنَهَا، فَهِيَ تَسْتُرُ مِنْ فَقْرٍ»
(3)
.
ثانيًا: ورود اسم الله (الرحيم) في السنة النبوية:
ورد اسم الله الرحمن في السنة، ومن وروده ما يلي:
عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه: أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(15699)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(840).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(1702)، وأبو داود، رقم الحديث:(1694)، حكم الألباني: صحيح، صحيح أبي داود، رقم الحديث:(1487). واللفظ لأحمد.
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(3814)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3350).
كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»
(1)
.
عن مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ: فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، ثَلَاثَ مَرَار»
(2)
.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:«إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»
(3)
.
معنى اسمي الله (الرَّحْمَن - الرَّحِيْم) في حقه تعالى:
هما اسمان جليلان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، وحول هذا المعنى تدور أقوال العلماء:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «الرحمن، الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب، قال: الرحمن الرحيم: الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(834)، ومسلم، رقم الحديث:(2705).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(19278)، وأبو داود، رقم الحديث:(985)، حكم الألباني: صحيح، صحيح أبي داود، رقم الحديث:(905). واللفظ لأحمد.
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(4817)، وأبو داود، رقم الحديث:(1516)، حكم الألباني: صحيح، صحيح أبي داود، رقم الحديث:(1357). واللفظ لأبي داود.
(4)
تفسير الطبري (1/ 129).
قال الطبري رحمه الله: «فربنا- جل ثناؤه- رحمن لجميع خلقه في الدنيا والآخرة، ورحيم بالمؤمنين خاصة في الدنيا والآخرة»
(1)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «صفتان لله عز وجل مشتقتان من الرحمة، فالرحمن فعلان، والرحيم فعيل»
(2)
.
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «اسمان دالان على أنه تَعَالَى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله، فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن عداهم فلهم نصيب منها»
(4)
.
وقال أيضًا: «الرحمن، الرحيم، البر
…
هذه الأسماء تتقارب معانيها، وتدل كلها على اتصاف الرب بالرحمة، والبر، والجود، والكرم، وعلى سعة رحمته ومواهبه، التي عم بها جميع الوجود، بحسب ما تقتضيه حكمته، وخص المؤمنين منها بالنصيب الأوفر، والحظ الأكمل، قال تَعَالَى:
(1)
تفسير الطبري (1/ 128).
(2)
اشتقاق أسماء الله (ص: 38).
(3)
شأن الدعاء (1/ 38).
(4)
تفسير السعدي (ص: 39).
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] الآية»
(1)
.
الفرق بين اسم الله الرحمن واسمه الرحيم:
ذكر أهل العلم جملة من الفروق بين الاسمين، منها
(2)
:
1 -
أن اسم الله «الرحمن» رحمته شاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، وأما اسم الله الرحيم فرحمته خاصة بالمؤمنين، كما قال تَعَالَى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]
(3)
.
ولكن يشكل على هذا قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]، وقوله عز وجل:{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [الإسراء: 66]؛ إذ ذكرت الرحمة العامة باسم الله الرحيم.
2 -
أن اسم الله «الرحمن» دال على الصفة الذاتية لله عز وجل، وأما اسم الله الرحيم فيدل على الصفة الفعلية لله عز وجل.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «إن (الرحمن) دال على الصفة القائمة به سُبْحَانَهُ، و (الرحيم) دال على تعلقها بالمرحوم-أي: بمن ي رحمهم الله، فكان الأول للوصف والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم هذا فتأمل قول الله عز وجل:
(1)
المرجع السابق (ص: 946).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (ص: 78 - 80).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 125 - 126).
{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]{إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117] ولم يجئ قط (رحمن بهم)، فعلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، والرحيم هو الراحم برحمته، وهذه نكتة لا تكاد تجدها في كتاب، وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم ينجل لك صورتها»
(1)
.
وقال في موضع آخر: «ولم يجئ (رحمن بعباده، ولا رحمن بالمؤمنين)؛ مع ما في اسم (الرحمن) -الذي هو على وزن فعلان- من سعة هذا الوصف؛ وثبوت جميع معناه للموصوف به؛ ألا ترى أنهم يقولون: غضبان، للممتلئ غضبًا؛ وندمان، وحيران، وسكران، ولهفان، لمن ملئ بذلك، فبناء فعلان للسعة والشمول.
ولهذا يقرن عز وجل استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرًا، كقوله عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] فاستوى على عرشه باسم الرحمن؛ لأن العرش محيط بالمخلوقات؛ قد وسعها، والرحمة محيطة بالخلق؛ واسعة لهم، كما قال تَعَالَى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات، فلذلك وسعت رحمته كل شيء»
(2)
.
3 -
أن اسم الله «الرحمن» خاص الاسم عام المعنى، واسم الله «الرحيم» عام الاسم خاص المعنى، وتوضيح ذلك: أن اسم الله الرحمن من الأسماء التي لا يجوز أن يتسمى بها مخلوق، قال الله تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ
(1)
بدائع الفوائد (1/ 24).
(2)
مدارج السالكين (1/ 34).
أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]، فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره وهو «الله» ، وأما اسم الله «الرحيم» فجائز، وقد وصف الله به نبيه في قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
قال ابن القيم رحمه الله عن اسم «الرحمن» : «ولما كان هذا الاسم مختصًّا به تَعَالَى حسن مجيئه مفردًا غير تابع، كمجيء اسم الله كذلك، ولم يجئ قط تابعًا لغيره، بل متبوعًا وهذا بخلاف العليم، والقدير، والسميع والبصير، ونحوها؛ ولهذا لا تجيء هذه مفردة، بل تابعة، فتأمل هذه النكتة البديعة»
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «والحاصل: أن من أسمائه تَعَالَى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره، كاسم (الله)، (الرحمن)، (الخالق)، (الرازق) ونحو ذلك
…
»
(2)
.
اقتران اسمي الله (الرَّحْمَن - الرَّحِيْم) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ:
أولًا: اقتران اسم الله الرحمن باسمه الرحيم:
اقترن اسم الله الرحمن باسمه الرحيم في ستة مواضع من القرآن، ومنها قوله عز وجل:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، وقوله عز وجل:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163].
(1)
بدائع الفوائد (1/ 24).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 21).
وجه الاقتران:
1 -
للجمع بين صفة الله عز وجل المتعلقة بذاته تبارك وتعالى، التي يدل عليها اسم الله (الرحمن)، وإيصال الرحمة للخلق التي يدل عليها اسم الله (الرحيم)
(1)
.
2 -
للجمع بين الرحمة العامة التي يدل عليها اسم الله الرحمن، والرحمة الخاصة بالمؤمنين التي يدل عليها اسم الله الرحيم، وهذا على قول من قال: إن الرحيم رحمته خاصة بالمؤمنين.
والناظر يجد أن الله عز وجل يقدم اسمه الرحمن على الرحيم، ووجه ذلك:
تقديمًا للاسم الخاص بالله عز وجل على الاسم العام، قال الرازي رحمه الله:
(2)
.
وقال ابن كثير رحمه الله: «فلهذا بدأ باسم الله، ووصفه بالرحمن؛ لأنه أخص وأعرف من الرحيم؛ لأن التسمية أولًا إنما تكون بأشرف الأسماء، فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص»
(3)
.
تقديمًا للرحمة العامة التي دل عليها اسم الله «الرحمن» على الرحمة الخاصة، التي دل عليها اسم الله «الرحيم»
(4)
.
(1)
بدائع الفوائد، لابن القيم (1/ 24).
(2)
أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل، للرازي (ص: 2).
(3)
تفسير ابن كثير (1/ 126).
(4)
ينظر: مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم، لنجلاء الكردي (ص: 357).
ثانيًا: اقتران اسم الله (الرحمن- الرحيم) باسمه (الرب):
تقدم بيانه في اسم الله «الرب» .
ثالثًا: اقتران اسم الله الرحيم بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ:
1 -
اقتران اسمه (الرحيم) باسمه سُبْحَانَهُ (الغفور):
اقترن اسم الله الرحيم باسمه «الغفور» في اثنين وسبعين موضعًا من القرآن، منها قوله عز وجل:{إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]، وقوله عز وجل:{وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2].
وهذا الاقتران يدل على:
أن مغفرته للعبد مع استحقاقه للعقوبة، إن هو إلا أثر من آثار رحمته تبارك وتعالى
(1)
.
أن في ذكرهما جمعًا بين تخلية العبد من الذنوب التي يدل عليها اسم الله «الغفور» ، وبين تحليته بفضل الله وثوابه التي يدل عليها اسم الله «الرحيم» .
2 -
اقتران اسمه (الرحيم) باسمه سُبْحَانَهُ (التواب):
تقدم بيانه في اسم الله «التواب» .
3 -
اقتران اسم (الرحيم) باسمه سُبْحَانَهُ (الرؤوف):
اقترن اسم الله الرحيم باسمه تَعَالَى الرؤوف في ثمانية مواضع من القرآن الكريم، منها قوله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]، وقوله عز وجل:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور: 20].
(1)
ينظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور (2/ 121).
وهذا الاقتران فيه تأكيد للرحمة؛ إذ فيه عطف للعام على الخاص، فالرأفة رحمة خاصة تقتضي دفع المكروه وإزالة الضر، والرحمة عامة يدخل فيها ما سبق ويدخل فيها الإنعام والإفضال
(1)
.
4 -
اقتران اسمه (الرحيم) باسمه سُبْحَانَهُ (العزيز):
اقترن اسم الله «الرحيم» باسمه تَعَالَى «العزيز» في ثلاثة عشر موضعًا من القرآن الكريم، تسعة منها في سورة الشعراء تعقيبًا على قصة كل نبي مع قومه، بقوله:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9]، ومنها: قوله عز وجل: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة: 6]، وقوله:{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس: 5].
وجه الاقتران:
1 -
الجمع بين مقام الترهيب والترغيب؛ فهو سُبْحَانَهُ عزيز قوي غالب قاهر، ومع ذلك: رحيم بر محسن رؤوف
(2)
.
3 -
تمام قدرته على تعجيل العقوبة؛ وذلك لاتصافه بالعزة، إلا أن رحمته اقتضت الإمهال والانظار، قال تَعَالَى:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58]
(3)
.
4 -
أن العزيز بعزته يهلك الأشقياء بأنواع العقوبات، وبرحمته ينجى السعداء من كل شر وبلاء.
(1)
ينظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور (2/ 25).
(2)
ينظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور (19/ 102).
(3)
ينظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور (19/ 102).
5 -
اقتران اسمه (الرحيم) باسمه سُبْحَانَهُ (البَر):
تقدم بيانه في اسم الله «البر» .
6 -
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الرحيم) باسمه عز وجل (الودود):
اقترن اسم الله الرحيم باسمه تَعَالَى الودود، في موضع واحد من القرآن الكريم، وذلك في قوله عز وجل:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90].
وجه الاقتران:
أن الرحمة تتوجه إلى من يحب و من لا يحب، فلما كانت كذلك أتبعت باسم الله الودود الدال على المحبة، وبهذا أجتمع للتائب رحمة الله ومحبته، وقبل ذلك مغفرته.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «وما ألطف اقتران اسمه (الودود) بـ (الرحيم) وبـ (الغفور)؛ فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبه، وكذلك قد يرحم من لا يحب، والرب تَعَالَى يغفر لعبده إذا تاب إليه ويرحمه ويحبه مع ذلك، فإنه يحب التوابين، وإذا تاب إليه عبده أحبه ولو كان منه ما كان»
(1)
.
(1)
التبيان في أقسام القرآن (ص: 93).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الرَّحْمَن - الرَّحِيْم):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الرحمن، الرحيم) من الصفات:
الله عز وجل الرحمن الرحيم الذي كتب الرحمة على نفسه تفضلًا منه وإحسانًا
(1)
، قال تَعَالَى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] ووسعت هذه الرحمة كل شيء، قال تَعَالَى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال سُبْحَانَهُ:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]
(2)
.
ومن سعتها وعظمتها
(3)
:
1 -
أن رحمة الرحمن الرحيم بعباده أرحم من كل رحمة، حتى من رحمة الإنسان بنفسه، ورحمة الأم بولدها التي لا يساويها شيء من رحمات الناس، بل لو جمعت رحمات الراحمين كلهم لم تساو شيئًا عند رحمة أرحم الراحمين، قال تَعَالَى:{وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151]، وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال:«قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا»
(4)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 262).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 305).
(3)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (ص: 88 - 99).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5999)، ومسلم، رقم الحديث:(2754). واللفظ للبخاري.
وقال حماد بن سلمة رحمه الله: «ما يسرني أن أمري يوم القيامة إلى أبوي»
(1)
.
2 -
أن رحمة الرحمن الرحيم سبقت غضبه؛ إذ استوى سُبْحَانَهُ على عرشه وكتب كتابًا عنده وضعه على عرشه «إن رحمته سبقت غضبه» ، فكان كالعهد للخليقة كلهم بالرحمة، والعفو، والصفح، والمغفرة، والتجاوز، والستر، والإمهال، والحلم، والأناة، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَه كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ»
(2)
، فقام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب، الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر
(3)
.
(4)
.
3 -
وضع رحمة واحدة بين خلقه يتراحمون بها فيما بينهم، فيرحم الغني الفقير، والكبير الصغير، والأم أولادها، سواء كانت إنسانًا أو حيوانًا وحشًّا
(1)
حلية الأولياء (4/ 150).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7554)، ومسلم، رقم الحديث:(2751). واللفظ للبخاري.
(3)
ينظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم (ص: 369).
(4)
فتح الباري، لابن حجر (6/ 292).
أو طيرًا أو هوامًّا، قال تَعَالَى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
4 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ للهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمةً وَاحِدَةً بَيْنَ الجِنِّ والإِنْسِ والبَهَائِمِ والهَوَام، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»
(1)
، وفي رواية:«حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»
(2)
.
5 -
أن رحمة الرحمن الرحيم بلغت آثارها من الكثرة ما تعجز العقول عن الإحاطة به، والأرقام والأعداد عن حصره؛ إذ جميع ما في العالم العلوي والسفلي من النعم وحصول المنافع والمحاب والمسار والخيرات من آثار رحمته، كما أن ما فيه من صرف المكاره والنقم والمخاوف والأخطار والمضار من آثار رحمته، قال تَعَالَى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]
(3)
.
ورحمته التي وصلت لخلقه قسمان:
أ-رحمة عامة: وسعت كل شيء من العالم العلوي والسفلي، ووصلت لكل حي مكلف وغير مكلف، بر وفاجر، مؤمن وكافر، حتى فرعون الذي قال:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، يقول تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2752).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6000).
(3)
ينظر: فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 33).
شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال سُبْحَانَهُ:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]
(1)
، وعن ابن عباس رضي الله عنه في بيان رحمة الله للكافر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا أَغْرَقَ اللهُ فِرْعَوْنَ قَالَ: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ البَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ؛ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ»
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ العُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ»
(3)
.
وهي رحمة جسدية، دنيوية، دينية، ومن آثارها
(4)
:
خلق المخلوقات وإيجاده من العدم على صورة محكمة
متقنة، قال تَعَالَى:{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 6]، فخلق الإنسان وبرحمته جعله في أحسن صورة مكتمل الأعضاء مستوفي الأجزاء، محكم البناء، وعلمه البيان النطقي والخطي، قال تَعَالَى في سورة الرحمن التي جاءت بذكر آثار رحمته التي أوصلها لخلقه:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3، 4]
(5)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 305)، النهج الأسمى، للنجدي (ص: 88).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(2865)، والترمذي، رقم الحديث:(3107)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(4353). واللفظ للترمذي.
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6469)، ومسلم، رقم الحديث:(2755). واللفظ لمسلم.
(4)
ينظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم (ص: 368، وما بعدها).
(5)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 828).
خلق الخلق ذكورًا وإناثًا، وجعل الرحمة والمودة بينهم؛ ليقع التواصل الذي به دوام التناسل وانتفاع الزوجين، وتمتع كل واحد منهما بصاحبه، قال تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
رعاية الخلق بالتدبير، والتصريف، والحفظ، وسوق الأرزاق والمعاش، قال تَعَالَى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]، فبرحمته رعى الخلق بما قدر لهم؛ إذ علم سُبْحَانَهُ مصالحهم ومنافعهم، فقدرها لهم ويسر لهم تحصيلها، ولربما أجرى عليهم المكاره والبلاء ليوصلهم إلى ما يحبون، قال تَعَالَى:{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80، 81]، وربما منعهم من كثير من شهواتهم ومحاب نفوسهم؛ لعلمه أن ذلك أصلح لهم
(1)
.
(2)
.
خلق هذا الكون على صفة تكفل للإنسان وغيره من الكائنات حسن العيش؛ فرفع السماء وأمسكها برحمته من أن تقع على الأرض، قال تَعَالَى:
(1)
ينظر: فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 34).
(2)
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (2/ 174).
وخلق الأرض وبرحمته أرساها بالجبال؛ كي لا تميد ولا تحيد، بل جعلها مهدًا وفراشًا يستقر عليها، ويتمكن من حرثها وغرسها وحفرها، وبرحمته شق طرقها ومنافذه ليتصل الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، قال تَعَالَى:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [طه: 53]، وقال سُبْحَانَهُ في سورة الرحمن:{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10]
(1)
.
(2)
.
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تقرير ما سبق من آثار الرحمة العامة: «فالله خلق الخلق برحمته، وأرسل إليهم الرسل برحمته، وأمرهم ونهاهم وشرع لهم الشرائع برحمته، وأسبغ عليهم النعمة الظاهرة، والباطنة برحمته، ودبرهم أنواع التدبير وصرفهم بأنواع التصريف برحمته، وملأ الدنيا والآخرة من رحمته، فلا طابت الأمور، ولا تيسرت الأشياء، ولا حصلت المقاصد، وأنواع المطالب إلا برحمته، ورحمتُه فوق ذلك، وأجلُّ وأعلى»
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 507).
(2)
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 369).
(3)
المواهب الربانية من الآيات القرآنية (ص: 111).
ب-الرحمة الخاصة: التي خص الله بها عباده الصالحين وأولياءه المتقين، قال تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156].
وهي رحمة إيمانية، دينية، دنيوية، أخروية، ومن آثارها
(1)
:
هداية أوليائه إلى الحق الذي جهله غيرهم، وتبصيرهم بالطريق المستقيم الذي ضل عنه وحاد عنه من سواهم من الدعاة إلى الكفر والبدعة وأشياعهم، قال تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].
توفيق أوليائه لطاعته، وتيسير الخير لهم، وإعانتهم عليه، قال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].
تثبيت أوليائه على الحق على الرغم من الدواعي للزيغ، قال تَعَالَى:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
إجابة دعوات أوليائه، قال تَعَالَى:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28].
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (6/ 436)، تفسير السعدي (ص: 667).
امتنانه على أوليائه باستغفار ودعاء أفضل ملائكته- حملة العرش- لهم، قال تَعَالَى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7].
جعل مصائب المؤمنين وبلاءهم كلها خير ورحمة؛ فما ينزل بهم من مصائب وآلام وأحزان إلا تكفر به سيئاتهم، وترفع به درجاتهم، قال تَعَالَى عن مؤمن آل ياسين أنه قال لقومه:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 23].
تخفيف أهوال القيامة وشدتها على أوليائه؛ فيؤمن فزعهم بتلقي الملائكة الكرام لهم بالبشرى، قال تَعَالَى:{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 31، 32].
إدخال أوليائه الجنة التي هي أثر من آثار رحمة الرحمن الرحيم، قال تَعَالَى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية: 30].
إخراج أهل التوحيد من النار؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في الحديث:«فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»
(1)
، وفي رواية: أن الله عز وجل
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7510)، ومسلم، رقم الحديث:(193). واللفظ للبخاري.
(1)
.
وبعد هذا فلابد أن يعلم أن رحمته جل جلاله في غاية الكمال والجلال، فلا ضعف معها ولا رقة ولا عجز، بل رحمة مع عزة وقوة وقدرة تامة، قال تَعَالَى:{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة: 6].
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (الرحمن الرحيم) على التوحيد:
اسم الله «الرحمن الرحيم» دال على أنواع التوحيد الثلاثة: الربوبية، والألوهية، والأماء والصفات، وبيان ذلك:
أن اسم الله «الرحمن الرحيم» ، وما ورد فيه من النصوص المتكاثرة في الكتاب والسنة دالة على إثبات صفة الرحمة لله عز وجل، وهي صفة كمال لائقة بذات الرب عز وجل، كما هو الحال في سائر صفاته، قال تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ولا يجوز نفيها أو تأويلها أو تحريفها أو تكيفيها كما هو مقرر في مذهب أهل السنة والجماعة في جميع الصفات، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(14715)، وابن حبان (183)، حكم الألباني: صحيح لغيره، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(3054). واللفظ لأحمد.
إلا أنه لا بد أن يعلم أن الرحمة المضاف إليه تبارك وتعالى قسمان:
1 -
رحمة ذاتية يتصف بها على وجه يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وهذه الرحمة يجب إثباتها لله عز وجل من غير تعطيل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل- كما تقدم-.
2 -
رحمة مخلوقه أنزل الله منها رحمة واحدة، يتراحم بها الخلائق، وأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة، كما جاء في الحديث:«إِنَّ للهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمةً وَاحِدَةً بَيْنَ الجِنِّ والإِنْسِ والبَهَائِمِ والهَوَام، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»
(1)
.
ومن هذه الرحمة: ما جاء في الحديث، أن الله عز وجل قال عن الجنة:«أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ»
(2)
، وسميت بذلك؛ لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة، وخص بها أهل رحمة الله، وإنما يدخلها الرحماء.
فهذه الرحمة ليست صفة لله عز وجل، بل هي من آثار اتصافه بالرحمة الذاتية، وإنما أضيفت له من باب إضافة المخلوق للخالق.
ثم إذا تقرر اتصاف الله عز وجل بالرحمة وتيقن العبد ذلك وتأمله، وجد أن الخلق إنما وجدوا برحمة الرحمن الرحيم، وإنما جلبت النعم لهم برحمته، ودفعت عنهم النقم برحمته، وليس لأحد من الخلق نفع ولا ضر في العاجل
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
ولا الآجل، قال تَعَالَى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] علم بهذا أن الرحمن الرحيم هو الرب الواحد المستحق لجميع أنواع العبادة، وأن يفرد بالمحبة والخوف، والرجاء، والتعظيم، والتوكل، وغير ذلك من أنواع الطاعات، قال تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]
(1)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «ففي هذه الآية، إثبات وحدانية الباري وإلهيته، وتقريرها بنفيها عن غيره من المخلوقين، وبيان أصل الدليل على ذلك، وهو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم، واندفاع [جميع] النقم، فهذا دليل إجمالي على وحدانيته تَعَالَى»
(2)
.
الأثر الثالث: الرجاء والتعلق برحمة الرحمن الرحيم:
إذا نظر الإنسان في سعة رحمة الله وعظمتها؛ أثمر ذلك في نفسه الرجاء وعدم اليأس من رحمة الله ومغفرته؛ إذ إنه سُبْحَانَهُ علم ضعف عباده وعجزهم وسرعان سقوطهم واغترارهم وانحرافهم عن الصراط، لا سيما أن نفوسهم ركب فيها الميل للشهوات، وتسلط عليهم الشيطان وقعد لهم بالمرصاد، يأخذ عليهم كل طريق، ويجلب عليهم بخيله ورجله، ويجدُّ كل الجدِّ في إضلالهم وإيقاعهم في السوء، فلا خلاص لهم من الذنوب والزلات، وكل ابن آدم خطاء.
(1)
ينظر: تفسير الطبري (3/ 266)، تفسير السعدي (ص: 77).
(2)
تفسير السعدي (ص: 77).
فلما علم سُبْحَانَهُ ذلك كله من خلقه؛ رحمهم بفتح أبواب التوبة والمغفرة لهم، ولو أسرفوا في الذنوب ما أسرفوا، وظنوا أنهم طُردوا وانتهوا، ولم يعد يُقبل منهم ولا يُستقبل، قال تَعَالَى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ العُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ»
(1)
، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، ثم كمل المائة بقتل العابد
(2)
، ومع ذلك أدركته رحمة الله ومغفرته.
قال الشوكاني رحمه الله في آية الزمر: «واعلم أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سُبْحَانَهُ؛ لاشتمالها على أعظم بشارة؛ فإنه أولًا أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم، ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي، والاستكثار من الذنوب، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى .. »
(3)
.
كما أن ملاحظة رحمة الله وسعتها؛ تثمر الأمل في النفوس المكروبة، وتبث فيها الروح وحسن الظن بالرحمن الرحيم، وانتظار الفرج بعد الشدة، لذا قال إبراهيم عليه السلام متذكرًا رحمة الله، مع أن أسباب الولد معدومة:
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم (2766).
(3)
فتح القدير، للشوكاني (4/ 538).
{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]، وقال يعقوب عليه السلام، مع أن عود يوسف إليه أشبه بالمحال:{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]، وقال:{يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وضد ما سبق من الأمل والرجاء: القنوط من رحمة الله واليأس من روحه، وهما من كبائر الذنوب، ومن علامات الكفر والضلال، قال تَعَالَى:{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، فعلى المسلم أن يحذر من أن يتسلل اليأس إليه وينسيه رحمة أرحم الرحمين.
الأثر الرابع: عدم الاغترار برحمة الله:
إذا تيقن العبد رحمة ربه الرحمن الرحيم وسعتها، فلا بد أن يضم لهذا العلم علمًا آخر، وهو: أنه سُبْحَانَهُ شديد العقاب، شديد المحال، ذو البطش الشديد، والعذاب الأليم، قال تَعَالَى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50].
فإذا علم العبد هذا؛ لم يغتر برحمة الله، بل جمع بين رجاء الرحمة، وخوف العقاب كما جمع الله بينهما في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقال سُبْحَانَهُ:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]، وقال تَعَالَى:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6] إلى غير ذلك من الآيات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ العُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ»
(1)
.
(2)
.
الأثر الخامس: محبة الله الرحمن الرحيم والحياء منه:
إذا تأمل العبد في اسم الله «الرحمن- الرحيم» ونظر في آثار رحمته التي لم تزل سارية في الوجود، مالئة للموجود، تنزل بها الخيرات آناء الليل والنهار، وتوالى بها النعم على العباد والفواضل في السر والجهار، ورحمته سبقت غضبه وغلبته، والعطاء أحب إليه من المنع؛ قاده ذلك كله إلى محبته تبارك وتعالى؛ إذ النفوس جبلت على محبة من يحسن إليها ويرفق بها ويعطف، فكيف لا تحب من أفاض عليها من رحمته وعطفه ونعمه ما يفوق الحصر والعد!
(3)
.
كما يقوده- أيضًا- إلى الحياء منه والخجل؛ إذ كيف يعصي من يحسن إليه برحمته، ولولا إحسانه ونعمته ما استطاع أن يعصيه، وكيف يعصي من هو على أخذه وعقابه قادر، إلا أنه يمهله ويحلم عليه برحمته!!
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2755).
(2)
تفسير ابن كثير (3/ 385).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 727).
الأثر السادس: الأسباب الجالبة لرحمة الله تعالى:
كتب الله على نفسه الرحمة، وبين أنها وسعت كل شيء، إلا أنه جعل لها أسبابًا إذا قام بها العبد كانت أقرب إليه وأسرع، وحظه منها أكبر، لا سيما الرحمة الخاصة، وبالمقابل جعل أسبابًا للحرمان منها، إذا قام بها العبد أغلق على نفسه باب الرحمة، وحرم نفسه من رحمة أرحم الرحمين، وبيان ذلك كالتالي:
أولًا: أسباب نيل رحمة الرحمن الرحيم:
الأسباب كثيرة ومتعددة، ومنها:
طاعة الله ورسوله، قال تَعَالَى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132]، وقال تَعَالَى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]
(1)
.
تقوى الله عز وجل، قال تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
إقامة الصلاة وأداء الزكاة، قال تَعَالَى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56].
الإنفاق في سبيل الله، قال تَعَالَى:{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 99].
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (ص: 92).
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
التوكل على الله، قال تَعَالَى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175].
الاستغفار والتوبة، قال عز وجل على لسان صالح عليه السلام:{قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46].
الإحسان في عبادة الله وإلى عباد الله، قال تَعَالَى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]
(1)
.
الاستماع والإنصات للقرآن الكريم، قال عز وجل:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].
صلة الرحم؛ فعن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قَالَ اللهُ: أَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا مِن اسْمِي اسْمًا، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتْهُ»
(2)
، وبتته: أي قطعته.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 292).
(2)
سبق تخريجه.
ثانيًا: أسباب الحرمان من رحمة الرحمن الرحيم:
رحمة الله- كما تقرر- وسعت كل شيء، فإذا ضاقت عن أحد من الخلق ولم تصبه؛ دل ذلك على شقائه، ولضيقها وحرمانها أسباب كثيرة، منها:
الكفر؛ قال تَعَالَى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
العمل بما يوجب لعنه وطرده من رحمة الله؛ ومن ذلك:
- كتمان الحق وعدم بيانه، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159].
- القتل، قال تَعَالَى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
- رمي العفيفات بالفاحشة، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23].
- القسوة وعدم رحمة الخلق؛ فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5997)، ومسلم، رقم الحديث:(2318). واللفظ للبخاري.
قطيعة الرحم؛ فعن عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ، فَقَال لَها: مَهْ، قَالَتْ: هَذا مقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَاكَ» ، قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
[محمد: 22]
(1)
.
الاختلاف والفرقة، قال تَعَالَى:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118، 119].
الأثر التاسع: اتصاف العبد بالرحمة:
الله عز وجل الرحمن الرحيم، ويحب أن يتصف عباده بالرحمة؛ فقد امتدح بها أشرف رسله، فقال تَعَالَى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]،
وامتدح بها الصحابة، فقال تَعَالَى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29]، لا سيما أبو بكر رضي الله عنه، الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحًا:«أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ»
(2)
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرغبًا فيها: «وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ
الرُّحَمَاءَ»
(3)
، وقال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4830).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(14206)، والترمذي، رقم الحديث:(3791) وقال: هذا حديث حسن صحيح، حكم الألباني: صحيح، الصحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(895).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1284)، ومسلم، رقم الحديث:(923).
يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»
(1)
، فعلى المسلم أن يحرص على الاتصاف بالرحمة، ويجاهد نفسه على التخلق بها، ويعلم ما رتب الله عليها من الثواب، وما في فواتها من حرمان الثواب؛ فيرغب في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك، ويعلم أن الجزاء من جنس العمل
(2)
وفي الملحق ما يعين على ذلك -بإذن الله-.
الأثر التاسع: الدعاء باسم الله «الرحمن الرحيم» :
فالدعاء من أعظم ما تدرك به المطالب والمطامع، والتي من أجلِّها رحمة الله عز وجل، لا سيما وأن الله تبارك وتعالى حثنا على سؤاله إياها بصور مختلفة في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:
أن الله عز وجل بين أن طلب الرحمة دعوة الأنبياء عليهم السلام، قال تَعَالَى:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، وقال تَعَالَى عن سليمان عليه السلام:{وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وقال تَعَالَى عن دعاء موسى عليه السلام:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151]، ومن دعائه أيضًا:{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(6605)، وأبو داود (4941)، والترمذي، رقم الحديث:(1924) وقال: هذا حديث حسن صحيح. حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3522).
(2)
ينظر: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، للألباني (ص: 189).
أن الله عز وجل أَمَرَ رسوله صلى الله عليه وسلم والأمة من بعده بسؤاله الرحمة، قال تَعَالَى:{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118].
أن الله عز وجل بيَّن أنها دعوة عباده الناجين من عذاب الله، قال تَعَالَى:{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 109].
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّم أمته سؤال الله الرحمة في يومهم وليلتهم، ومن ذلك:
- ما رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ»
(1)
.
- وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالحِينَ»
(2)
.
- وما رواه أبو بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«دَعَوَاتُ المَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(834)، ومسلم، رقم الحديث:(2705).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6320)، ومسلم، رقم الحديث:(2714). واللفظ للبخاري.
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(20759)، وأبو داود (5090)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3388).
(1)
.
وبعد هذا فإن من الأدب في سؤال الله رحمته أن تسأل على سبيل الجزم لا التعليق على المشيئة والتردد؛ فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَقُولَن أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ؛ لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ؛ فَإِنَّه لَا مُكْرِهَ لَهُ»
(2)
.
قال القرطبي رحمه الله: «إنما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا القول؛ لأنه يدل على فتور الرغبة وقلة الاهتمام بالمطلوب، فإن هذا القول يتضمن أن هذا المطلوب إن حصل وإلا استغنى عنه، ومن كان هذا حاله لم يتحقق من حالته الافتقار والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء، ودليل على قلة معرفته بذنوبه وبرحمة ربه، وأيضًا فإنه لا يكون موقنًا بالإجابة، وفي الحديث:(ادْعُوا الله وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ)
(3)
»
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2696).
(2)
أخرجه البخاري (6339)، ومسلم (2679). واللفظ للبخاري.
(3)
أخرجه أحمد (6655)، والترمذي (3479)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير (245). واللفظ للترمذي.
(4)
المفهم شرح صحيح مسلم، القرطبي (22/ 87). ينظر: حاشية كتاب التوحيد، لعبد الرحمن ابن قاسم (ص: 343).
في موضوع الرحمة سنتطرق للمسائل التالي:
أولًا: تعريف الرحمة:
يقول ابن القيم رحمه الله: «الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك، ودفع المضار عنك»
(1)
.
وبهذا يتبين أن الرحمة تكون في القلب، وتظهر آثارها على الجوارح واللسان، وذلك بالسعي في إيصال البر والخير والمنافع إلى الناس، وإزالة الأضرار والمكاره عنهم.
فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل»
(2)
.
وهذه الرحمة هي الرحمة المحمودة المطلوبة، والتي جاءت النصوص بالترغيب فيها، والحث على الاتصاف بها؛ إذ الرحمة من حيث المدح والذم قسمان:
(1)
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 174).
(2)
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (2/ 915).
1 -
رحمة محمودة، وهي الأصل في خلق الرحمة.
2 -
رحمة مذمومة، ويراد بها: الرحمة التي تؤدي إلى تعطيل شرع الله، أو التهاون في تطبيق حدوده وأوامره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«إن دين الله هو طاعته وطاعة رسوله المبني على محبته ومحبة رسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ فإن الرأفة والرحمة يحبهما الله ما لم تكن مضيعة لدين الله»
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب، وهي من رحمة الله بعباده، ورأفته بهم الداخلة في قوله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض، فهو الذي أعان على عذابه وهلاكه، وإن كان لا يريد إلا الخير؛ إذ هو في ذلك جاهل أحمق»
(2)
.
لذا نهى الله تَعَالَى المؤمنين أن تأخذهم رأفة أو رحمة في تطبيق حدود الله وإقامة شرعه، فقال:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2].
ثانيًا: منزلة الرحمة وفضلها:
الرحمة خلق سامٍ، وسجية كريمة، حث الإسلام على التخلق والاتصاف بها، ورغب في ذلك ببيان منزلتها وفضلها، ومما ورد في ذلك:
(1)
مجموع الفتاوى (15/ 291).
(2)
المرجع السابق (15/ 290).
أن الله جعل الرحمة ركيزة من الركائز التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي بين أفراده؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى»
(1)
.
أن الله جعل هذه الصفة خلق لصفوة خلقه وخيرة عباده، وهم الأنبياء والمرسلون، ومن سار على نهجهم من الصالحين، قال تَعَالَى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقال تَعَالَى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
أن الله جعل الرحمة من أهم أسباب نيل رحمته؛ إذ الجزاء من جنس العمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»
(2)
.
أن الله عز وجل حكم بالشقاء على من نزعت منه الرحمة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم (2586).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه أحمد (8001)، وأبو داود (4942)، والترمذي (1923)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير (7467).
ثالثًا: الأسباب المعينة على التخلق بالرحمة:
الرحمة أولًا نوعان:
رحمة غريزية جبل الله بعض عباده عليها، وجعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والحنان على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرحمة جميع ما يقدرون عليه من نفعهم، بحسب استطاعتهم.
فهم محمودون مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما عجزوا عنه، وربما كتب الله لهم بنياتهم الصادقة ما عجزت عنه قواهم.
رحمة مكتسبة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة وسبب، يجعل قلبه على هذا الوصف الكريم، ومما يعين على ذلك:
مجالسة الرحماء ومخالطتهم، والابتعاد عن ذوي الغلظة والفضاضة، فالمرء يكتسب من جلسائه طباعهم وأخلاقهم.
معرفة الآثار المترتبة عن التحلي بهذا الخلق والثمار، التي يجنيها الرحماء في الدنيا قبل الآخرة.
معرفة جزاء الرحماء وثوابهم، وأنهم هم الجديرون برحمة الله دون غيرهم، ومعرفة عقوبة الله لأصحاب القلوب القاسية؛ فإن هذا مما يدفع للرحمة، ويردع عن القسوة.
الاختلاط بالضعفاء والمساكين وذوي الحاجة؛ فإنه مما يرقق القلب ويدعو إلى الرحمة والشفقة بهم، وجاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ
قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ»
(1)
.
تربية الأبناء على هذا الخلق العظيم ومحاولة غرسه في قلوبهم، ومتى نشأ الناشئ على الرحمة، ثبتت في قلبه وأصبحت سجية له.
القراءة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، الذين قال الله عنهم:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]،
وملاحظة اتصافهم بالرحمة، والتأسي بهم في ذلك.
وهنا نماذج من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام:
أولًا: نماذج من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد كان له صلى الله عليه وسلم النصيب الأوفر من هذا الخلق العظيم، كيف لا والله هو الذي اختصه به كما قال سُبْحَانَهُ:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، ومن رحمته:
1 -
رحمته بالأمة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ»
(2)
.
2 -
رحمته بأصحابه:
عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا
(1)
أحرجه أحمد (7691)، والبيهقي في شعب الإيمان (10523)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1410).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(887).
فِي أَهْلِنَا فَأَخْبَرْنَاهُ، وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا، فقال:«ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ»
(1)
.
3 -
رحمته بالخدم:
عن المعرور بن سويد رضي الله عنه، قال: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ الله تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»
(2)
.
4 -
رحمته بالعصاة:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: «إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6008)، ومسلم، رقم الحديث:(674).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(30)، ومسلم، رقم الحديث:(1661).
لِخَالَاتِهِمْ، قَالَ: فوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ»
(1)
.
5 -
رحمته بالكفار:
(2)
.
6 -
رحمته بالحيوانات:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهما قَالَ: «أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ هَدَفًا، أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22641)، والطبراني في الكبير (7679)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(370). واللفظ لأحمد.
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3231)، ومسلم، رقم الحديث:(1795).
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ»
(1)
.
فهذه نماذج من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا بالتأسي به، كما قال تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
وما سبق أمثلة على الرحمة، وإلا فأفرادها وصورها كثيرة جدًّا لا تكاد تحصى؛ لأنه ما من معاملة من المعاملات أو رابطة من الروابط الاجتماعية أو الإنسانية، إلا وأساسها وقوام أمرها الرحمة.
فاللهم يا رحمنا يا رحيم، برحمتك نستغيث، أصلح شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(1769)، وأبو داود، رقم الحديث:(2549)، حكم الألباني: صحيح، صحيح أبي داود، رقم الحديث:(2549).
الرَّزَّاقُ الْرَّازِق جل جلاله
-
المعنى اللغوي لاسم (الرَّزَّاق - الرَّازِق):
قال الجوهري رحمه الله: «الرزق: ما ينتفع به، والجمع: الأرزاق، والرزق العطاء، وهو مصدر قولك: رزقه الله، والرَّزْقَة بالفتح: المرة الواحدة، والجمع: الرَّزَقَات، وهي أطماع الجند.
وارتزق الجند، أي: أخذوا أرزاقهم
…
وقد يسمى المطر رزقًا، وذلك قوله عز وجل:{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} [الجاثية: 5]»
(1)
.
(2)
.
(1)
الصحاح (4/ 1481).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 388).
ورود اسم الله (الرَّزَّاق - الرَّازِق) في القرآن:
ورد اسم الله الرزاق مفردًا مرة واحدة في كتاب الله:
وذلك في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].
وورد بصيغة الجمع خمس مرات، منها:
قوله عز وجل: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114].
وقوله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11].
وقوله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11].
ورود اسم الله (الرزاق - الرازق) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الرزاق - الرازق) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، غَلَا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا. فقال: إِنَّ الله هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ؛ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى الله، وَلَيْسَ أَحَدٌ منكم يَطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ، وَلَا مَالٍ»
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(3451)، والترمذي، رقم الحديث:(1314)، حكم الألباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(2894).
معنى اسم الله (الرَّزَّاق- الرَّازِق):
قال الطبري رحمه الله: في قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]: «إن الله هو الرزاق خلقه، المتكفل بأقواتهم»
(1)
.
(2)
.
قال الحليمي رحمه الله في معنى: (الرازق) -: «المفيض على عباده ما لم يجعل لأبدانهم قوامًا إلا به، والمنعم عليهم بإيصال حاجتهم من ذلك إليهم؛ لئلا تتنغص عليهم لذة الحياة بتأخره عنهم، ولا يفقدوها أصلًا لفقدهم إياه»
(3)
.
وقال- في معنى (الرزاق) -: «وهو الرزاق رزقًا بعد رزق، والمكثر الواسع لها»
(4)
.
قال ابن الأثير رحمه الله: «(الرزاق) وهو الذي خلق الأرزاق، وأعطى
(1)
تفسير الطبري (21/ 555 - 556).
(2)
شأن الدعاء (ص: 54).
(3)
المنهاج (1/ 203).
(4)
المصدر السابق (1/ 203).
الخلائق أرزاقها وأوصلها إليهم»
(1)
.
قال السعدي رحمه الله: «(الرزاق) لجميع عباده، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها»
(2)
.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
وَكَذَلِكَ الرَّزَّاقُ مِنْ أَسْمَائِهِ
…
والرِّزْقُ مِنْ أَفْعَالِهِ نَوْعَانِ
رِزْقٌ عَلَى يَدِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ
…
نَوْعَانِ- أَيْضًا- ذَانِ مَعْرُوفَانِ
رِزْقُ القُلُوبِ العِلْم والإِيَمان
…
والرِّزْقُ الُمعَدُّ لِهَذِهِ الأَبْدَانِ
هَذَا هُوَ الرِّزْقُ الحَلَالُ وَرَبُّنَا
…
رَزَّاقُهُ والفَضْلُ لِلْمَنَّانِ
والثَّاني سَوْقُ القُوتِ لِلْأَعْضَاءِ فِي
…
تِلْكَ المَجَارِي سَوْقُهُ بِوَزَانِ
هَذَا يَكُونُ مِنَ الحَلَالِ كَمَا يَكُو
…
نُ مِنَ الحَرامِ كِلَاهُمَا رِزْقَانِ
واللهُ رَازِقُهُ بِهَذا الاعْتِبَا
…
رِ وَلَيْسَ بِالإِطْلَاقِ دُونَ بَيَانِ
(3)
(1)
النهاية (2/ 219).
(2)
تفسير السعدي (ص: 947).
(3)
النونية، لابن القيم (ص 211).
الفرق بين اسم الله (الرَّزَّاق - الرَّازِق):
(1)
.
اقتران اسم الله (الرَّزَّاق - الرَّازِق) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (الرازق) بغيره من الأسماء الحسنى:
لم يقترن اسم الرزاق بغيره من الأسماء.
ثانيًا: اقتران اسم الله (الرزاق) بغيره من الأسماء الحسنى:
اقترن اسم الله الرزاق باسمه (ذو القوة المتين) في قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].
وجه الاقتران:
في جمع الله اسمه «الرزاق» واسميه «ذو المتين» وصفه بالقوة في قوله تَعَالَى: {ذُو الْقُوَّةِ} [الذاريات: 58]، وفي هذا كمال زائد في القوة، حيث التناهي في القدرة، والتناهي في شدة القوة.
(1)
تفسير العثيمين، الحجرات- الحديد (ص: 168).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الرَّزَّاق - الرَّازِق):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الرازق الرزاق) من صفات الله سُبْحَانَهُ:
الله سُبْحَانَهُ الرزاق الذي كثر رزقه، ووسع الخلائق كلها، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، خلق الخلق لعبادته وتكفل برزقهم {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، فما خلقهم لحاجته إليهم، فما يريد منهم من رزق وما يريد أن يطعموه، تَعَالَى الله الغني المغني عن الحاجة إلى أحد بوجه من الوجوه، وإنما جميع الخلق فقراء إليه، في جميع حوائجهم ومطالبهم
(1)
.
ورزق الله لعباده نوعان:
1 -
رزق عام، شمل البر والفاجر، والأولين والآخرين، وهو رزق الأبدان.
2 -
ورزق خاص وهو رزق القلوب، وتغذيتها بالعلم والإيمان، والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين»
(2)
.
فأما الرزق العام:
فهو رزق عام لجميع المخلوقات إنسهم، وجنهم، وحيوانهم، صغيرهم وكبيرهم، قويهم وعاجزهم، قال سُبْحَانَهُ:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]، وقال:
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 813).
(2)
تفسير السعدي (ص: 947).
{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت: 60]، قال ابن كثير رحمه الله:«أي: لا تطيق جمعه ولا تحصيله، ولا تدخر شيئًا لغد، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا}، أي: يقيض لها رزقها- على ضعفها- وييسره عليها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء، والحيتان في الماء»
(1)
، يرزق الثعبان في جحره، والطير في وكره، والسمك في بحره.
يرزق الكل، وكل ذلك بلا ثقل ولا كلفة ولا مشقة ولا نقص في ملكه، قال الطحاوي رحمه الله:«رازق بلا مؤنة»
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل:«يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ»
(3)
(4)
.
وأما الرزق الخاص:
فهو الرزق الذي خص الرزاق عباده المؤمنين به من الهداية والإيمان والتوفيق للعلم به وبشرعه في الدنيا؛ فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمةً بالحق مريدةً له متألهةً لله متعبدةً، وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها.
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 420).
(2)
العقيدة الطحاوية (ص 125).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
ينظر: مختصر النهج الأسمى (ص: 106 - 107).
وأما في الأخرة: فيرزقهم أعظم الرزق وأجلَّه، ألا وهو رضاه والجنة، قال تَعَالَى:{رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11]، وقال تَعَالَى:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 53، 54].
وهذا الرزق- الرزق الخاص- أعظم الرزق وأنفعه، وهو الرزق على الحقيقة، أما رزق البهائم والكفار فهو منقطع ومنتهي؛ ولذلك لما ذكرسُبْحَانَهُ فضله على العباد عامة، ذكر امتنانه على عباده الموحدين بالرزق الخاص في الدنيا بالإيمان وبالجنة في الآخرة، قال سُبْحَانَهُ:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]، وقال سُبْحَانَهُ:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 20، 21].
وهذا الرزق مع عظمه، إلا أن كثيرًا من الناس يغفل عنه، لا سيما في حال الدعاء، قال السعدي رحمه الله منبهًا على استحضاره: «والرزق الذي خص به المؤمنين والذي يسألونه منه شامل للأمرين، ينبغي للعبد إذا دعا ربه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه هذين الأمرين، فمعنى:(اللهم ارزقني) أي: ما يصلح به قلبي من العلم والهدى والمعرفة، ومن الإيمان الشامل لكل عمل صالح وخلق حسن، وما به يصلح بدني من الرزق الحلال الهني الذي لا
صعوبة فيه ولا تبعة تعتريه»
(1)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (الرَّزَّاق - الرَّازِق) على التوحيد:
اسم الله «الرازق، الرزاق» دال على التوحيد؛ وذلك من جهة: تفرد الله عز وجل بالرزق، فهو الرازق الرزاق وحده لا شريك له، قال سُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3]، وقال مبينًا عجز الخلائق كلهم عن الرزق إن أمسكه ومنعه:{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}
[الملك: 21]
(2)
، فلا يملك أحد أن يفتحه عليهم من دون الله:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2].
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم دبر كل صلاة إذا سلم-: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»
(3)
.
(4)
.
وقد جاء التذكير بهذا- وحدانية الله في الرزق- في القرآن في مقامين:
الأول: مقام التفضل والامتنان.
والثاني: مقام الدعوة إلى توحيد العبادة، والخير والإحسان.
(1)
الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 85 - 86).
(2)
تفسير ابن كثير (8/ 181)، وتفسير السعدي (ص: 877).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
ينظر: مختصر النهج الأسمى، للنجدي (ص: 105 - 106).
فأما الأمثلة على مقام التفضل والامتنان، فمنها:
- قوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72].
- قوله تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64].
وأما الأمثلة على مقام الدعوة إلى توحيد العبادة والخير والإحسان، فمنها:
الأمر بالإنفاق في سبيله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].
الأمر بالشكر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]
(1)
.
الأثر الثالث: إدراك التفاوت في الأرزاق، وأنه تابع لعلم الله تعالى:
فاضل الله عز وجل بين عباده في الرزق، فمنهم الغني ومنهم الفقير، ومنهم الموسع عليه ومنهم المقتر، وله في ذلك حكم بالغة، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71]، وقال تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30]، قال ابن كثير رحمه الله:
(1)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، يطول المقام بذكرها.
«أي: خبير بصير بمن يستحق الغنى، ومن يستحق الفقر»
(1)
.
فمن العباد من لا يصلح حاله إلا بالغنى، فإن أصابه الفقر فسد حاله، ومنهم العكس {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30]».
وقال ابن كثير رحمه الله أيضًا- في قوله تَعَالَى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]-: «ولو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق؛ لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشرًا وبطرًا»
(2)
.
لكن هذا التفضيل في الرزق ليس له ارتباط برضا الله وغضبه ولا محبته وكرهه للعبد، فليس إنعامه على خلقه بكثرة الرزق وسعة العيش دليل على محبته لهم، ولا أن تضيقه على آخرين في أرزاقهم لكرهه لهم، قال تَعَالَى:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 17]، «أي: ليس كل من نعمته في الدنيا فهو كريم عليَّ، ولا كل من قدرت عليه رزقه فهو مهان لديَّ، وإنما الغنى والفقر، والسعة والضيق، ابتلاء من الله، وامتحان يمتحن به العباد؛ ليرى من يقوم له بالشكر والصبر، فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل، ممن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل»
(3)
(4)
.
وقد ظن الكفار والمترفون لجهلهم أن الأموال والأولاد دليل على محبة الله لهم واعتنائه بهم، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 38).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 140).
(3)
تفسير السعدي (ص: 924).
(4)
ينظر: مختصر النهج الأسمى، للنجدي (ص: 109 - 110).
الآخرة، قال تَعَالَى عنهم:{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35]، فرد عليهم ظنهم هذا بقوله تَعَالَى:{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}
[سبأ: 36، 37]، وقوله تَعَالَى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56].
ولم يعلموا أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة؛ ولذلك فإن الله يعطيها من يحب ومن لا يحب، وسع الرزق على الأخيار أمثال: نبيه داود وسليمان عليهما السلام، ووسعه على الأشرار أيضًا، أمثال: فرعون وهامان وقارون، وضيق على الأخيار والأشرار؛ ذلك أنه لا يعبأ بالدنيا، فهي هينة عليه، ولو كانت تساوي عنده جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء، كما جاء في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانتِ الدنيا تَعْدِلُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ مَا سَقَى كَافِرًا منها شربةَ ماءٍ»
(1)
.
فعلى المؤمن إذا وسع الله عليه في الرزق، أن يعمل عمل داود وسليمان عليهما السلام، قال الله عنهما:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]، وقال تَعَالَى عن سليمان عليه السلام:{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]،
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2320)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4110)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2320).
ويحذر من عمل قارون {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] وأمثاله، وإذا ضيق عليه في رزقه أن يصبر ويحتسب، متمثلًا قوله صلى الله عليه وسلم:«عَجَبًا لِأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا له، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»
(1)
.
الأثر الرابع: محبة الله تَعَالَى الرازق الرَّزَّاقِ:
التأمل في خلق الرازق للأرزاق، وإيصالها إلى خلقه رزقًا بعد رزق؛ كل ذلك يورث العبد محبة الرازق والتعلق به لعظيم إحسانه وإفضاله؛ فإن كل ما يراه الإنسان من مظاهر الرزق والعطاء والكرم والجود وما أودع فيها من جودة، وطعم، ومكانة، وسهولة في الوصول إليها كله خلق الله عز وجل وفضله.
الأثر الخامس: التوكل على الرزاق الرازق في طلب الرزق:
اليقين بتفرد الرازق برزق العباد، وتكفله بأقواتهم، وتقديره لرزقهم قبل خلقهم، وتوليه تنفيذ المقدر الذي يخرجه في السماوات والأرض، في السماوات؛ لأنه مقضي مكتوب، وفي الأرض؛ لأنه سينفذ لا محالة، كل ذلك يثمر التوكل الصادق على الله عز وجل في طلب الرزق، الذي يثمر بدوره الطمأنينة في القلب والسكينة وعدم الهلع والخوف على الرزق؛ لأن الله عز وجل هو المتكفل بأرزاق عباده، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقد أقسم الله عز وجل على أنه ضمن الرزق للعباد:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، سمعها أعربي فصاح صيحته المشهورة، وقال: «يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه
(1)
سبق تخريجه.
إلى اليمين؟ قالها ثلاثًا، وخرجت بها نفسه»
(1)
.
وتكفل باستكمالها ولو بعد حين، فلن تموت نفس إلا باستكمال رزقها، كما أخبرنا الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم:«أيها الناسُ اتَّقوا اللهَ، وأَجْمِلوا في الطَّلَبِ، فَإِنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تَسْتَوفِيَ رِزْقَهَا، وإنْ أَبْطَأَ عنها، فاتَّقوا اللهَ وأَجْمِلوا في الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ»
(2)
.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نَفَثَ رُوحُ الْقُدُسِ فِي رَوْعِي أَنَّ نفْسًا لَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمِ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»
(3)
، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُه»
(4)
، وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تمرة عائرة
(5)
فأخذها فناولها سائلًا، فقال: خُذْهَا، لَوْ لَمْ تَأْتِهَا لَأَتَتْكَ»
(6)
.
(1)
تفسير القرطبي (17/ 33).
(2)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(2144)، وابن حبان، رقم الحديث:(3239)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجة، رقم الحديث:(2144). واللفظ لابن ماجه.
(3)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(7694)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 26)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(2085).
(4)
أخرجه ابن حبان، رقم الحديث:(3238)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 86)، حكم الألباني: صحيح لغيره، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(1703).
(5)
الأصل: «غائرة» ، و «المجمع: غائرة»، والتصحيح من «موارد الضمآن» و «النهاية» وفيه:«العائرة الساقطة لا يعرف لها مالك» ، النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 328).
(6)
أخرجه ابن حبان، رقم الحديث:(3240)، والبيهقي في القضاء والقدر، رقم الحديث:(240)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(1705).
وإذا حقق العبد التوكل رزقه الرزاق كما يرزق الطير؛ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ، كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا
(1)
وَتَرُوحُ بِطَانًا
(2)
»
(3)
(4)
.
ولا يعني التوكل عدم الأخذ بالأسباب والقعود عن الكسب، بل التوكل: الاعتماد على الله مع الأخذ بالأسباب؛ لأن هذه الأسباب من رزق الله تَعَالَى الذي يسره لعباده وأقدرهم عليه، وأوصلهم إليه، لكن لا يعتمد الإنسان عليها، وإنما يجعل اعتماده على الله ويوقن أن مفاتيح الرزق بيده، وأن خزائن السموات والأرض بيده.
كما يثمر هذا اليقين- بوحدانية الرازق في الرزق وتقديره له- في نفس العبد عدم الخوف من المخلوقين في قطع الرزق؛ لعلمه أن الرزق بيد الله وحده وقد قدره وكتبه، ولا بد أن يصله رضي الخلق أو سخطوا.
(1)
تغدو، أي: تذهب أول النهار، خماصًا، أي: ضامرة البطن من الجوع. ينظر: تحفة الأحوذي، المباركفوري (7/ 7).
(2)
تروح، أي: ترجع آخر النهار، بطانًا جمع بطين، أي: عظيمة البطن من الشبع. ينظر: المرجع السابق بنفس الصفحة.
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2344)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4164)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(5254).
(4)
شعب الإيمان، للبيهقي (2/ 405).
وقد رد الله على المنافقين الذين قالوا: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7]، فقال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] فبين أن هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين، إنما هم يرزقون من خزائن الله، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم، فضلًا عن أن يرزقوا غيرهم أو يمنعوا رزقه، فما أقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين.
ولضعف هذ اليقين تجد الإنسان يسأل: من الذي يرزقك؟ فيجيب على البديهة: الله، ثم تجده إذا ضيق عليه مخلوق في الرزق، قال: فلان يريد قطع رزقي!
فلا بد أن يستقر في القلوب إلى درجة اليقين أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الله هو المحيي المميت، وأن الله هو الضار النافع، وأن الله هو المعطي والمانع، وأن الله هو المدبر، وأن الله هو الذي بيده كل شيء.
الأثر السادس: الأخذ بأسباب نَيلِ الأرزاقِ:
قد جعل الرزاق تحصيل الأرزاق منوطًا بالأخذ بالأسباب، فبها تنال الأرزاق وتستجلب الخيرات، وتحصل البركات وتدفع عن العباد الشرور والآفات.
وقد بين سُبْحَانَهُ هذه الأسباب وأوضحها لعباده في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنها:
1 -
الإيمان والتقوى:
من أهم أسباب نيل الرزق: الإيمان بالله والاستقامة على طريق الحق، قال تَعَالَى:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]، وقال
سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، وقال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، فـ «يسبب له أسباب الرزق من حيث لا يشعر، ولا يعلم»
(1)
.
وما دام أن التقوى والعمل الصالح باب إلى الرزق والبركة، فإن المعصية تنقص الرزق والبركة، أو تكون بابًا للعاصي إلى النكد والشقاء، قال تَعَالَى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، وقال تَعَالَى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
2 -
التوبة والاستغفار:
قال تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] قال الشنقيطي رحمه الله: «هذه الآية الكريمة تدل على أن الاستغفار والتوبة إلى الله تَعَالَى من الذنوب سبب لأن يمتع الله من فعل ذلك متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى؛ لأنه رتب ذلك على الاستغفار والتوبة ترتيب الجزاء على شرطه.
والظاهر أن المراد بالمتاع الحسن: سعة الرزق، ورغد العيش، والعافية في الدنيا»
(2)
.
(1)
تفسير الطبري (23/ 445).
(2)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، الشنقيطي (2/ 170).
وقال تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].
(1)
.
3 -
شكر الرَّزَّاقِ:
رزق الله تبارك وتعالى عظيم، منه: الإسلام، والعافية، والعقل، والطعام، والشراب، والولد، والمال، والجمال، والشباب، والقوة، والفتوة، والطبيعة، والإلهام.
وقد اعتاد كثير من الناس أن تحصل لهم كل هذه الأشياء بشكل طبيعي معتاد، ولا يتفطنون إلى حقيقة كونها نعمة من عند الله تبارك وتعالى، بينما الإنسان صاحب القلب الحي يدرك هذا المعنى ويتأمله.
جاء رجل يشتكي إلى حكيم الفقر، فقال له: هل تبيع لي بصرك بمائة ألف دينار؟ قال: لا، قال: هل تبيع سمعك بمائة ألف دينار؟ قال: لا، قال: فيدك، فرجلك، فعقلك، فقلبك، فجوارحك،
…
وهكذا عدد له، حتى بلغ الأمر مئات الألوف من الدنانير، في هذا الإنسان، فقال له: يا هذا!! عليك ديون كثيرة، وحقوق مثبتة فمتى تؤدي شكرها، ومع ذلك تطلب الزيادة، إن ربك عفو كريم.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4902)، وابن أبي شيبة في المصنف (8343).
وقد أرشدنا الله تبارك وتعالى إلى شكره على ما تفضل علينا به من رزقه، ووعدنا إن شكرنا زادنا من فضله، قال تَعَالَى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
4 -
الإنفاق من هذا الرِّزْقِ:
لقد أمر الله عز وجل عباده بالإنفاق في سبيله، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].
وقال عز وجل: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} [إبراهيم: 31].
وقد وعد سُبْحَانَهُ أن يخلف ما ينفق، قال:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل:«قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكِ»
(1)
، وقال:«مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ»
(2)
.
5 -
الصلاة:
ومن أسباب سعة الرزق في الدنيا والآخرة: الصلاة، قال تَعَالَى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، وقال تَعَالَى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4684)، ومسلم، رقم الحديث:(993). واللفظ لمسلم.
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2588).
هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]، وقال جل شأنه:{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 38، 39].
6 -
صلة الرحم:
مما يستجلب به الرزق: صلة الرحم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَن أَحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رزقِهِ، وَيُنْسَأَ له في أَثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»
(1)
، بل حتى أن الفجرة إذا تواصلوا بسط الله لهم في الرزق، كما جاء في الحديث، عن أبي بكرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ أعجلَ الطاعةِ ثوابًا: صلةُ الرَّحِمِ، حتى إنَّ أهلَ البيتِ ليكونوا فَجَرةً، فتنموَ أموالُهم، ويَكْثُرَ عددُهُم إِذَا تَوَاصَلُوا»
(2)
.
الأثر السابع: طلب الرزق الحلال، والحذر من الرزق الحرام:
اليقين بأن الله الرزاق الذي تكفل للعباد بأرزاقهم؛ يدفع العبد إلى ترك الرزق الحرام في مأكله ومشربه وملبسه وعمله ونحو ذلك، ولو كان كثيرًا موفورًا؛ لأنه يعلم أن الرزاق سيفتح له أبواب من الرزق الحلال، وأنه لن يحصل من الرزق إلا ما قسم له، وأن ما عند الله لا ينال بمعصيته، قال صلى الله عليه وسلم: «نَفَثَ رُوحُ الْقُدُسِ فِي رَوْعِي أَنَّ نفْسًا لَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5986)، ومسلم، رقم الحديث:(2557).
(2)
أخرجه ابن حبان، رقم الحديث:(440)، والطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(1092)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع، رقم الحديث:(5705).
تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمِ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»
(1)
.
وقد حذر الله عز وجل وتوعد من أكل الرزق الحرام، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ
(2)
إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ»
(3)
(4)
.
قال ابن رجب رحمه الله: «وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وإنَّ أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله
…
وما ذكره بعد ذلك من الدعاء، وأنه كيف يتقبل مع الحرام، فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام»
(5)
، وقال:«فيؤخذ من هذا: أن التوسع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإجابة»
(6)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
السحت: الحلق، ويطلق في الشريعة على المال الحرام؛ لأنه يحلق الدين. العرف الشذي، للكشميري (2/ 93).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(14665)، والترمذي، رقم الحديث:(614)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(614).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1015).
(5)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/ 260).
(6)
المصدر السابق (1/ 275).
فعلى المؤمن أن يحذر الرزق الحرام بمختلف صوره وأشكاله، ومنها:
الربا، وقد تكاثرت النصوص في النهي عنه، ومن ذلك:
قوله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278].
وعن جابر رضي الله عنه قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ»
(1)
.
والربا ممحوق البركة منزوع الخير، قال تَعَالَى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].
الرشوة، عن عبد الله بن عمرو قال:«لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ»
(2)
.
اليمين الغموس، وهو: الحلف كذبًا؛ لاقتطاع مال الغير
(3)
، عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ»
(4)
، وقال: «مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان، قَالَ عَبْدُ اللهِ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِصْدَاقَهُ
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1598).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(3580)، والترمذي، رقم الحديث:(1337)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابي داود، رقم الحديث:(3580).
(3)
ينظر: فتح الباري، لابن حجر (11/ 557).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(137).
مِنْ كِتَابِ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 77] الآية
(1)
.
سؤال الناس بلا حاجة أو ضرورة، قال صلى الله عليه وسلم:«لَا تَزَالُ المَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ»
(2)
.
أخذ أموال الناس بقصد السلف والدين، مع إضمار النية بعدم رده وسداده، أو التهاون في ذلك، قال تَعَالَى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى الله عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَها يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ الله»
(3)
.
الغلول، وهو: الخيانة مطلقًا، وغلب في الاستعمال تخصيصه بالخيانة في الغنيمة
(4)
، وللغلول صور عدة، من أهمها: الأخذ من المال العام
(5)
.
وجاء في الغلول حديث أبي هريرة، قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول، فعظمه وعظم أمره، ثم قال: «لَا أُلْفِيَنَّ
(6)
أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ:
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7445)، ومسلم، رقم الحديث:(138). واللفظ للبخاري.
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1040).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2387).
(4)
شرح النووي على مسلم (12/ 216).
(5)
للغلول صور متعددة، منها: أخذ الموظفين من الهدايا، اغتصاب الأراضي والعقارات ونحو ذلك بغير حق.
(6)
ألفين، أي: لا أجدن أحدكم على هذه الصفة، ومعناه: لا تعملوا عملًا أجدكم بسببه على هذه الصفة، شرح النووي على مسلم (12/ 216).
لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ
(1)
، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ
(2)
، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ
(3)
، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ»
(4)
.
وفي صحيح مسلم: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:«لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَلَّا، إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا- أو عَبَاءَةٍ-»
(5)
.
وكل رزق فيه شبهة ينبغي للعبد أن يتجنبه؛ لأن المال الحرام يمحق بركة
(1)
الرغاء، والحمحمة، والغثاء: وصف لصوتها، فصوت البعير الرغاء وصوت الفرس الحمحمة هكذا. ينظر: شرح النووي على مسلم (12/ 216 - 217).
(2)
المراد: ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع، تخفق: تتحرك، ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (2/ 251).
(3)
الصامت، أي: الذهب والفضة، شرح النووي على مسلم (12/ 217).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3073)، ومسلم، رقم الحديث:(1831).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(114).
الإنسان في جميع أمره: في ماله وولده وبيته، حتى في دعائه:«فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟»
(1)
.
الأثر الثامن: الإنفاق من رزق الرزاق الرازق:
إيمان العبد باسمه سُبْحَانَهُ (الرزاق) يبعد عن القلب الشح والبخل؛ لأن الشعور بأن ما في اليد من رزق فهو من الله وحده، وما في القلب من علم وهداية فالمانُّ به سُبْحَانَهُ، فهو رزقه وفضله، وقد أمره بالإنفاق منه:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]؛ يدفع المؤمن إلى التواضع، والجود بما رزقه الله سُبْحَانَهُ من علم أو مال أو جاه في سبيل الله تَعَالَى، وإيصاله للمحتاجين إليه.
الأثر التاسع: الاشتغال بطلب الرزق الباقي:
أرزاق الله كثيرة، لا تعد ولا تحصى، إلا أن على المؤمن أن يكون همه السعي لنيل أحسنها وأكملها وأكرمها، مما خص الله به عباده المؤمنين في الآخرة من النعيم، وهو رزق عظيم واسع، لا يحده حد، ولا يقدر قدره إلا الله، فرزق أهل الجنة لا نفاد له {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54]، وهو يرزقهم بغير حساب {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40].
(1)
سبق تخريجه.
ومن طالع صفة الجنة؛ علم سعة رزق أهلها وكثرته وطيبه وتنوعه، قال تَعَالَى:{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 12 - 21]، وقال سُبْحَانَهُ:{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71].
وإذا علم العبد ذلك؛ لم يشتغل برزق الدنيا الفاني عن رزق الآخرة الباقي، قال تَعَالَى:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]، فالعاقل لا يشغله رزق الدنيا وإن كثر عن الغاية التي خلق لأجلها وأوجد لتحقيقها، وهي عبادة الله وإخلاص الدين له، بل يجعل ذلك سبيلًا لنيل رضا الله، وبلوغ جنات النعيم.
فاللهمَّ إنَّا نَسْألُكَ علمًا نافعًا، ورِزْقًا طَيِّبًا، وعملًا صالِحًا مُتَقَبَّلًا.
اللهمَّ اغفِرْ لنا وارْحَمْنَا، وَاهْدِنَا، وعَافِنَا، وارْزُقْنَا.
الرَّؤُوفُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الرأفة: أشد الرحمة»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(رأف) الراء والهمزة والفاء كلمة واحدة، تدل على رقة ورحمة، وهي الرأفة»
(2)
.
ورود اسم الله (الرؤوف) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الرؤوف) في كتاب الله في عشر مرات، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65].
قوله عز وجل: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].
(1)
الصحاح (4/ 48).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 471).
وورد اسمه سُبْحَانَهُ (الرؤوف) في السنة النبوية:
من وروده ما يلي:
عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله، قال: كتب إلي أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، يخبرني عن هدي عبد الله بن مسعود في الصلاة، وفعله وقوله فيها، فكان مما ذكره في دعائه: «سبحانك لا إله غيرك، اغفر لي ذنبي، وأصلح لي عملي، إنك تغفر الذنوب لمن تشاء، وأنت الغفور الرحيم، يا غفار اغفر لي، يا تواب تب علي، يا رحمن ارحمني، يا عفو اعف عني، يا رؤوف ارأف بي، يا رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي
…
»
(1)
.
معنى اسم الله (الرؤوف):
قال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65]: «إن الله بجميع عباده ذو رأفة، والرأفة أعلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة»
(2)
.
(3)
.
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(9942).
(2)
تفسير الطبري (2/ 12).
(3)
شأن الدعاء (ص: 91).
قال القرطبي رحمه الله: «(الرؤوف) ذو الرأفة، والرأفة: شدة الرحمة، فهو بمعنى: الرحيم مع المبالغة»
(1)
.
يظهر مما سبق أن هناك ارتباطًا بين الرأفة والرحمة، وقد يظهر الفرق بينهما في:
أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، وهي دفع المكروه وإزالة الضرر، كقوله تَعَالَى:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] أي: لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما.
وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى، ويدخل فيه الإفضال والإنعام
(2)
.
الرحمة تكون للمؤمن والكافر والبر والفاجر، ومن رحمة الله: إرسال الرياح والأمطار، وهي رحمة يشترك فيها الإنسان مؤمنًا وكافرًا، والحيوان والأشجار وكثير من مخلوقات الله تَعَالَى.
بينما الرأفة تكون فقط للمؤمنين، تأمل قوله الله تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وهذا عام للمؤمن والكافر، بينما رأفة الله لا تكون إلا للمؤمن، فانظر إلى قوله الله تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]
(3)
.
(1)
المرجع السابق (ص: 289).
(2)
المنهاج الأسنى، للقرطبي (1/ 201).
(3)
مفاتيح الغيب، للرازي (4/ 99).
اقتران اسم الله (الرؤوف) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
اقتران اسم الله (الرؤوف) باسم الله (الرحيم):
لم يقترن اسم الله الرؤوف بغيره من الأسماء إلا باسم الله الرحيم، وجاء هذا الاقتران في تسع آيات من القرآن الكريم، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
قوله تَعَالَى: {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 9].
وقد سبق الحديث عن وجه هذا الاقتران، وذلك عند كلامنا عن اسم الله تَعَالَى (الرحمن الرحيم).
سر تقديم اسم الله الرؤوف على اسمه الرحيم:
يقول الألوسي رحمه الله: «وقدم على رحيم؛ لأن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، وهي رفع المكروه وإزالة الضرر، كما يشير إليه قوله تَعَالَى:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] أي: لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما، والرحمة أعم منه، ومن الإفضال، ودفع الضرر أهم من جلب النفع، وقول القاضي: لعل تقديم (الرؤوف) - مع أنه أبلغ- محافظة على الفواصل- ليس بشيء؛ لأن فواصل القرآن لا يلاحظ فيها الحرف الأخير كالسجع- فالمراعاة حاصلة على كل حال-، ولأن الرحمة حيث وردت في القرآن قدمت ولو في غير الفواصل، كما في قوله تَعَالَى:{رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27]
في وسط الآية»
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الرؤوف):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الرؤوف) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
لقد أثبت الله عز وجل صفة الرأفة لنفسه، وقرنها بصفة الرحمة؛ ليؤكد مدلول أحدهما بمدلول الآخر، والرأفة هي: صفة شاملة لاستصلاح العباد والرفق بهم في تربيتهم جملة وتفصيلًا، والنظر لهم بما هم عليه من الضعف والحاجة والمسكنة والفقر
(2)
.
ومن يتأمل في الكون يرى آثار رحمة الله ورأفته في الكون، ومن مظاهر تلك الرأفة:
من رأفته تَعَالَى: إنزاله الكتاب على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليخرجنا من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الحق ودين الإسلام: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 9].
ومن رأفته تَعَالَى أنه لا يضيع لعباده طاعة أطاعوه بها، فلم يبطل عمل عباده الذين صلوا قبل تحويل القبلة، فقد تساءل الصحابة عن عملهم وعمل إخوانهم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، بعد أن حُولت القبلة إلى الكعبة، فأنزل الله تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
(1)
روح المعاني (1/ 406).
(2)
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، للقرطبي (1/ 174).
ومن رأفته تَعَالَى: توبته على عباده، وأنه يقبل توبة التائبين، ولا يرد عن بابه العاصين المنيبين مهما كثرت سيئاتهم، وتعاظمت خطيئاتهم {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]
(1)
، فهو يفتح لهم باب التوبة ما لم تغرغر النفس أو تطلع الشمس من مغربها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ»
(2)
، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»
(3)
.
ومن رأفتهسُبْحَانَهُ: تسخيره المخلوقات لخدمتنا، كالجمال والخيول والبغال والحمير قديمًا، والسيارات والطائرات حديثًا:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7]، ففي الأنعام دفء من الجلود والأصواف والأوبار والأشعار، ومنافع في هذه وفي اللبن واللحم وغير ذلك، وفي حمل الأثقال إلى البلد البعيد الذي لا يبلغونه إلا بشق الأنفس، وفيها كذلك جمال عند الإراحة في المساء وعند السرح في الصباح، والتعقيب بقوله تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل: 7] توجيه إلى ما في خلق الأنعام من نعمة، وما في هذه النعمة من رحمة.
(1)
للاستزادة: يرجع لأسماء الله (الرحمن الرحيم، اللطيف، الرفيق).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2703).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2759).
ومن رأفته سُبْحَانَهُ: حفظه لعباده في سمعهم وأبصارهم وحركاتهم وسكناتهم، كما ورد عند البخاري من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ،
…
»
(1)
، وهذا منتهى الرأفة بالصادقين.
ومن رأفتهسُبْحَانَهُ: أنه أخبر عباده بما سيلاقونه في يوم القيامة، حيث تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا، وهذا الإخبار من رأفته؛ حتى يستعد الناس لذلك اليوم:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].
وحري بمن عرف اسم الله الرؤوف وآمن به أن يوحده سُبْحَانَهُ بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ويستغني به عن خلقه، فيسأله وحده رأفته ورحمته.
الأثر الثاني: محبة الله الرؤوف:
حينما يفكر العبد وينظر في مظاهر رأفة الله عز وجل بعباده، والتي لا تعد ولا تحصى؛ فإن هذا يثمر تجريد المحبة لله تَعَالَى والعبودية الصادقة له سُبْحَانَهُ، وتقديم محبته عز وجل على النفس، والأهل، والمال، والناس جميعًا، والمسارعة إلى مرضاته، والدعوة إلى توحيده، والجهاد في سبيله، وفعل كل
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6502).
ما يحبه ويرضاه.
يقول تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
والرؤوف سُبْحَانَهُ متصف بصفات الكمال والجلال، والمنزه عن النقائص والعيوب؛ ومن كان هذا وصفه فإن النفوس مجبولة على حبه وتعظيمه، وهذه المحبة تورث حلاوة في القلب، ونورًا في الصدر، وهذا هو النعيم الدنيوي الحقيقي الذي يصغر بجانبه كل نعيم.
الأثر الثالث: التخلق بخلق الرأفة:
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم الرؤوف الرحيم شديد الرأفة والرحمة بأمته، فهو أرحم بهم من والديهم، عطوف رفيق، وقد أعطاه اللهتَعَالَى في هذه الآية اسمين من أسمائه، وهو في نهاية الكرامة
(1)
.
قال الله تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
ومعنى {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ، فيحب لكم الخير ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم، ولهذا كان حقه مقدمًا على سائر حقوق الخلق،
(1)
تفسير السمعاني (2/ 362).
وواجب على الأمة الإيمان به وتعظيمه وتوقيره وتعزيره
(1)
.
يقول ابن القيم رحمه الله: «وأقرب الخلق إلى الله تَعَالَى: أعظمهم رأفة ورحمة، كما أن أبعدهم منه: من اتصف بضد صفاته»
(2)
.
وكان مِنْ رأفته صلى الله عليه وسلم بأمته:
أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه
(3)
.
وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها
(4)
.
وكان يدخل في الصلاة، وهو يريد أن يطول فيها فيسمع بكاء الصبي؛ فيتجوز في صلاته كراهية أن يشق على أمه
(5)
.
وكان يراعي ما ركبه الله بهم من غرائز، فيمكن أصحابه من أن يقضوا وطرهم المباح؛ فعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه، أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يومًا وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا، سألنا
(1)
تفسير السعدي (ص: 356).
(2)
الروح (ص: 251).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3560)، ومسلم، رقم الحديث:(2327).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3560)، ومسلم، رقم الحديث:(2327). واللفظ للبخاري.
(5)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(707)، ومسلم، رقم الحديث:(470).
عمن تركنا بعدنا، فأخبرناه، قال:«ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ- وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها- وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ»
(1)
.
فمالكٌ ورفقته كانوا في سن الشباب، والشباب مظنة قوة الشهوة، فلما قضوا هذه المدة عنده، أمرهم بالرجوع إلى أهلهم؛ ليقضوا وطرهم المباح.
ومن مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم: رحمته بالصغار، فقد كان يقبِّل الصغار، ويداعبهم، بل ويكنيهم، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا، ثُمَّ يَقُولُ: اللهُمَّ ارْحَمْهُمَا؛ فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا»
(2)
.
وروى البخاري- أيضًا- من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:«إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: يَا أَبَا عُمَيْر، مَا فَعَلَ النُّغَيْر»
(3)
، والنغير: تصغير نغر، وهو طائر يلعب به ذلك الصبي، فمات.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ أَبْصَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ الْحَسَنَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»
(4)
.
وامتدت رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بالحيوانات، يقول سهل بن الحنظلية رضي الله عنه، قال: «مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ، فقال:
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6003).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6129).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2318).
اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ، فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً، وَكُلُوهَا صَالِحَةً»
(1)
.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال:«كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا»
(2)
.
وعن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه، «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَأَذْبَحُ الشَّاةَ وَأَنَا أَرْحَمُهَا، أَوْ قَالَ: إِنِّي أَرْحَمُ الشَّاةَ أَنْ أَذْبَحَهَا. فَقَالَ: وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ»
(3)
.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَا مِنْ إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، إِلَّا سَأَلَهُ اللهُ عز وجل عَنْهَا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا، وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهَا»
(4)
.
فانظر إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، كيف رفقه بالحيوان وشفقته عليه، وكيف أنه يوصي أصحابه وأمته من بعده بأن يتقوا الله فيها، ويرأفوا بحالها!
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(17625)، وأبو داود، رقم الحديث:(2548)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(2548).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(2675)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(2657).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(20690)، والبخاري في الأدب المفرد (373)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(26).
(4)
أخرجه النسائي، رقم الحديث:(4360)، والدارمي، رقم الحديث:(2021)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن النسائي، رقم الحديث:(4349). واللفظ للنسائي.
أما عن رأفته بغير المسلمين: فانظر إلى هذا الموقف الذي يتجلى فيه رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالكافرين، وهم يتعرضون له بالأذى، حتى أن النبي وصف هذا اليوم بأشد يوم مر عليه؛ لشدة ما وقع به صلى الله عليه وسلم من أذى بدني ومعنوي؛ لكنه يرأف بهم ويحلم عليهم، ويرفض أن يرد على إساءاتهم بأي عنف أو شدة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم:«هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ الله مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»
(1)
.
ثم هو صلى الله عليه وسلم يخشى أن تُقبض نفس على الكفر؛ فتُخلد في نار جهنم، فيسمع بمرض طفل يهودي، فيسارع بالذهاب إليه ويرأف بحاله؛ طلبًا لنجاته من الهلاك وخوفًا من إلقائه في النار، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَسْلِمْ. فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: الحَمْدُ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3231).
لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ»
(1)
(2)
.
الأثر الرابع: الدعاء باسم الله الرؤوف:
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1356).
(2)
للاستزادة يرجع إلى اسم الله (الرحمن الرحيم).
السَّلامُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «السلام: الاسم من التسليم، والسلام: اسم من أسماء الله تَعَالَى
…
والسلام: البراءة من العيوب
…
»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(سلم) السين واللام والميم معظم بابه من الصحة والعافية، فالسلامة: أن يسلم الإنسان من العاهة والأذى
…
والسلام: المسالمة»
(2)
.
ورود اسم الله (السلام) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله السلام مرة واحدة في كتاب الله، وهي:
ورود اسم الله (السلام) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (السلام) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن ثوبان رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف
(1)
الصحاح (5/ 1951).
(2)
مقاييس اللغة (3/ 90).
من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الجَلَالِ والإِكْرَامِ»
(1)
.
(2)
.
عن عبد الله رضي الله عنه، قال:«إن السلام اسم من أسماء الله، وضعه الله في الأرض، فأفشوه بينكم، إن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كانت له عليهم فضل درجة؛ لأنه ذكرهم السلام، وإن لم يرد عليه رد عليه من هو خير منه وأطيب»
(3)
.
معنى اسم الله (السلام) في حقه تعالى:
يدور معنى اسم الله (السلام) في حق الله على معنين:
1 -
السلامة والبراءة من كل عيب ونقص في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله سُبْحَانَهُ.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(591).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(831)، ومسلم، رقم الحديث:(402).
(3)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(1039)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(10391)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1638).
2 -
أنه سُبْحَانَهُ منه السلام للخلق عامة، والأمن لعباده المؤمنين خاصة.
وحول هذين المعنيين تدور أقوال العلماء:
من الأقوال في المعنى الأول:
قال الزجاجي رحمه الله: «ذو سلامة مما يلحق المخلوقين من الفناء والموت والنقص والعيب»
(1)
.
قال الحليمي رحمه الله: «ومنها السلام: لأن معناه السالم من المصائب
…
»
(2)
.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «السلام؛ أي: من جميع العيوب والنقائص؛ لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «ومن أسمائه: القدوس، السلام، أي: المعظم المنزه عن صفات النقص كلها وأن يماثله أحد من الخلق، فهو المتنزه عن جميع العيوب، والمتنزه عن أن يقاربه أو يماثله أحد في شيء من الكمال»
(4)
.
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال الطبري رحمه الله: «السلام الذي يسلم خلقه من ظلمه، وهو اسم من أسمائه»
(5)
.
(1)
اشتقاق أسماء الله (ص: 215).
(2)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 196).
(3)
تفسير ابن كثير (8/ 80).
(4)
القول الحق المبين، للسعدي (ص 81).
(5)
تفسير الطبري (23/ 302).
قال الزجاج رحمه الله: «ويقال السلام: هو الذي سلم من عذابه من لا يستحقه»
(1)
.
من الأقوال التي تجمع بين المعنى الأول والثاني:
قال الخطابي رحمه الله: «هو الذي سلم من كل عيب، وبرئ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين، وقيل: هو الذي سلم الخلق من ظلمه»
(2)
.
قال البيهقي رحمه الله: «هو الذي سلم من كل عيب، وبرئ من كل آفة، وهذه صفة يستحقها بذاته، وقيل: هو الذي سلم المؤمنون من عقوبته»
(3)
.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «وأما السلام الذي هو اسم من أسماء الله ففيه قولان: أحدهما: أنه كذلك اسم مصدر، وإطلاقه عليه كإطلاق العدل عليه، والمعنى: أنه ذو السلام، وذو العدل على حذف المضاف، والثاني: أن المصدر بمعنى الفاعل هنا، أي: السالم؛ كما سميت ليلة القدر سلامًا، أي: سالمة من كل شر، بل هي خير لا شر فيها»
(4)
.
وقال في نونيته:
وَهْوُ السَّلَامُ عَلَى الحَقِيقَةِ سَالِمٌ
…
مِنْ كُلِّ تَمْثِيلٍ وَمِنْ نُقْصَانِ
(5)
(1)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 31).
(2)
شأن الدعاء (1/ 41).
(3)
الاعتقاد (ص: 59).
(4)
بدائع الفوائد (2/ 366).
(5)
النونية (ص: 210).
اقتران اسم الله (السلام) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
اقترن اسم الله السلام باسمه القدوس:
وذلك في قوله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].
وجه الاقتران:
اقترن اسم الله (السلام) بـ (القدوس)، وفي اقترانهما دلالة على براءة الله عز وجل من جميع العيوب والنقائص في كل الأوقات؛ إذ القدوس يشير إلى البراءة من جميع العيوب في الماضي والحاضر، والسلام يشير إلى البراءة من أن يطرأ عليه شيء من العيوب في المستقبل
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (السلام):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (السلام) من الصفات:
لما كان لله عز وجل الكمال من كل وجه سلم من كل عيب ونقص؛ فهو سُبْحَانَهُ السلام الحق بكل اعتبار، يقول تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ} [الحشر: 23]، ويقول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ»
(2)
، فهو سلام في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله.
(1)
ينظر: تفسير الرازي (29/ 513).
(2)
سبق تخريجه.
فأما سلامة ذاته: فذاته العلية سالمة من كل عيب ونقص يمكن أن تتخيله الأوهام وتمليه الخواطر والأفكار، فهو بذاته نور سُبْحَانَهُ، يقول تَعَالَى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، وحجابه- الذي لولا لطفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه- نور، وبه استنار العرش، والكرسي، والشمس، والقمر، والسماء والأرض، بل وبه استنارت الجنة
(1)
.
ومن كمال هذه الذات وجلالها: أن أهل الجنة مع عظم ما هم فيه من النعيم الذي لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إذا راوا ذاته الجليلة نسوا كل نعيم نظروا إليه؛ إذ هو الجميل الذي سلم من كل عيب ونقص.
وأما سلامة أسمائه: فأسمائه التي لا تحصى عدًّا جميعها سلام من العيب والنقص، وسلام من الدلالة على ما فيه ذم وقدح، بل كلها حسنى بلغت من الحسن أجمعه، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]؛ فكلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد وسلام.
وأما سلامة صفاته وأفعاله: فكل صفة من صفاته، وكل فعل من أفعاله سلام من كل عيب ونقص وخلل.
وفي تفصيل هذا وتقريره يقول ابن القيم رحمه الله: «ولذلك إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلامًا مما يضاد كمالها: فحياته سلام من الموت ومن السِّنة والنوم، وكذلك قيوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب، وعلمه سلام من عزوب شيء عنه، أو عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 568).
وتفكر، وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة، وكلماته سلام من الكذب والظلم، بل تمت كلماته صدقًا وعدلًا، وغناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجه ما، بل كل ما سواه محتاج إليه، وهو غني عن كل ما سواه، وملكه سلام من منازع فيه، أو مشارك، أو معاون مظاهر، أو شافع عنده بدون إذنه، وإلاهيته سلام من مشارك له فيها، بل هو الله الذي لا إله إلا هو.
وحلمه وعفوه وصفحه ومغفرته وتجاوزه سلام من أن تكون عن حاجة منه، أو ذل، أو مصانعة، كما يكون من غيره، بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه، وكذلك عذابه وانتقامه وشدة بطشه وسرعة عقابه سلام من أن يكون ظلمًا، أو تشفيًا، أو غلظة، أو قسوة، بل هو محض حكمته وعدله ووضعه الأشياء مواضعها، وهو مما يستحق عليه الحمد والثناء كما يستحقه على إحسانه، وثوابه، ونعمه، بل لو وضع الثواب موضع العقوبة لكان مناقضًا لحكمته ولعزته، فوضعه العقوبة موضعها هو من عدله، وحكمته، وعزته، فهو سلام مما يتوهم أعداؤه الجاهلون به من خلاف حكمته.
وقضاؤه وقدره سلام من العبث والجور والظلم، ومن توهم وقوعه على خلاف الحكمة البالغة، وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب وخلاف مصلحة العباد ورحمتهم والإحسان إليهم وخلاف حكمته، بل شرعه كله حكمة، ورحمة، ومصلحة، وعدل، وكذلك عطاؤه سلام من كونه معاوضة أو لحاجة إلى المعطى، ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق، بل عطاؤه إحسان محض لا لمعاوضة ولا لحاجة، ومنعه عدل محض وحكمة لا يشوبه بخل ولا عجز.
واستواؤه وعلوه على عرشه سلام من أن يكون محتاجًا إلى ما يحمله أو يستوي عليه، بل العرش محتاج إليه، وحملته محتاجون إليه، فهو الغني عن العرش، وعن حملته، وعن كل ما سواه، فهو استواء وعلو لا يشوبه حصر، ولا حاجة إلى عرش ولا غيره، ولا إحاطة شيء به سبحانه وتعالى، بل كان سُبْحَانَهُ ولا عرش، ولم يكن به حاجة إليه، وهو الغني الحميد، بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلى عرش ولا غيره بوجه ما. ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا سلام مما يضاد علوه، وسلام مما يضاد غناه وكماله. وسلام من كل ما يتوهم معطل أو مشبه، وسلام من أن يصير تحت شيء أو محصورا في شيء، تَعَالَى الله ربنا عن كل ما يضاد كماله وغناه.
وسمعه وبصره سلام من كل ما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل، وموالاته لأوليائه سلام من أن تكون عن ذل كما يوالي المخلوق المخلوق، بل هي موالاة رحمة، وخير، وإحسان، وبر، كما قال الله تَعَالَى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111]، فلم ينف أن يكون له ولي مطلقًا، بل نفى أن يكون له ولي من الذل.
وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من كونها محبة حاجة إليه، أو تملق له، أو انتفاع بقربه، وسلام مما يتقوله المعطلون فيها، وكذلك ما أضافه إلى نفسه من اليد والوجه؛ فإنه سلام عما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل»
(1)
.
(1)
بدائع الفوائد، لابن القيم (2/ 135 - 137).
وقال رحمه الله أيضًا: «ومن بعض تفاصيل ذلك: أنه الحي الذي سلمت حياته من الموت والسنة والنوم والتغير، القادر الذي سلمت قدرته من اللغوب والتعب والإعياء والعجز عما يريد، العليم الذي سلم علمه أن يعزب عنه مثقال ذرة أو يغيب عنه معلوم من المعلومات، وكذلك سائر صفاته على هذا، فرضاه سُبْحَانَهُ سلام أن ينازعه الغضب، وحلمه سلام أن ينازعه الانتقام، وإرادته سلام أن ينازعها الإكراه، وقدرته سلام أن ينازعها العجز، ومشيئته سلام أن ينازعها خلاف مقتضاها، وكلامه سلام أن يعرض له كذب أو ظلم، بل تمت كلماته صدقًا وعدلًا، ووعده سلام أن يلحقه خلف، وهو سلام أن يكون قبله شيء، أو بعده شيء، أو فوقه شيء، أو دونه شيء، بل هو العالي على كل شيء، وفوق كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، والمحيط بكل شيء، وعطاؤه ومنعه سلام أن يقع في غير موقعه، ومغفرته سلام أن يبالي بها أو يضيق بذنوب عباده أو تصدر عن عجز عن أخذ حقه كما تكون مغفرة الناس ورحمته، وإحسانه، ورأفته، وبره، وجوده، وموالاته لأوليائه، وتحببه إليهم، وحنانه عليهم، وذكره لهم، وصلاته عليهم- سلام أن يكون لحاجة منه إليهم أو تعزر بهم أو تكثر بهم.
وبالجملة، فهو السلام من كل ما ينافي كلامه المقدس بوجه من الوجوه»
(1)
.
ومن سلامة أفعاله تبارك وتعالى: أنه يسلم عباده بإعطائهم الأمن والسلام كما قال صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ» .
فمنه تبارك وتعالى كل سلام يحصل للخلق صغر أو كبر، قل أو كثر، دنيوي أو ديني أو أخروي.
(1)
أحكام أهل الذمة (1/ 414 - 415).
ثم إذا ثبت ما سبق لربنا السلام؛ علم أنه سُبْحَانَهُ سلم بذلك من أن يكون له شبيه أو مثيل، أو كفو أو سمي، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله
(1)
، وأنى ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]
(2)
، وسلم بهذا من الصاحبة، والولد، والشريك، والند تَعَالَى عن ذلك علوًّا كبيرًا، قال تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].
ويمكن تقسيم مظاهر تسليم السلام لخلقه إلى قسمين، وهما:
التسليم العام: وهو الذي يعم المسلم والكافر، والبر والفاجر، ومنه:
تسليم الأجنة من السقوط، وتسليم الأبدان من العلل والأمراض، وتسليم الأعضاء من العاهات والتشوهات، وتسليم الأجساد من الحرق والغرق والهدم والحوادث ونحو ذلك، وتسليمها من الجوع والعطش، وتسليم النفوس من السحر والحسد والعين، وتسليمها من كل شر مخلوق فيه شر من شياطين الإنس والجن، وشر السباع والهوام، ونحوهم
(3)
.
وتسليم البلدان من الحروب والنكبات والزلازل والبراكين ونحو ذلك، وتسليم قلوب أهلها من الخوف والفزع، وتسليم اقتصادها وأموال أهلها من الخسارات والفاقات، وتسليم حياتها الاجتماعية من الظلم والتعدي، وتسليم نفوس أهلها وأموالهم بما شرع لهم من الأحكام والحدود.
(1)
ينظر: بدائع الفوائد (2/ 137).
(2)
ينظر: الحق الواضح المبين (ص: 81).
(3)
ينظر: التفسير القيم، لابن القيم (ص: 620).
وتسليم الفطر من الشرك بما أرسل من الرسل، وأنزل من الكتب داعين للإسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد لله والتخلص الشرك وشوائبه، إلا أنه سعد مَن سعد بالإيمان، وشقي مَن شقي بالتكذيب والكفران، وتسليم الآخرة من الظلم {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
التسليم الخاص: وهو التسليم الذي خص الله به أوليائه وأهل طاعته؛ إذ سلموا اعتقادهم من الباطل، وسلموا جوارحهم من الذنوب والمعاصي، فكان جزاؤهم من جنس عملهم
(1)
، قال تَعَالَى:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47]، أي: سلامة لهم في دنياهم، وسلامة لهم في دينهم، وسلامة لهم في آخرتهم
(2)
، كما حصل ليحيى عليه السلام إذ سلمه الله بقوله تَعَالَى:{وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 15].
(3)
، وكذا عيسى عليه السلام إذ قال:{وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 33]»
(4)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 709).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 506).
(3)
تفسير ابن كثير (5/ 217).
(4)
وفي الأثر الثالث بسط لمظاهر هذا التسليم.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (السلام) على التوحيد:
اسم الله السلام دال على سلامته جل جلاله من الشريك والند في الربوبية والألوهية؛ إذ كل من دونه أيًّا كان فيه ما فيه من النقائص والعيوب التي تمنع كونه ربًّا أو إلهًا يعبد، وبالمقابل هو سُبْحَانَهُ سلام سلم من كل نقص وعيب؛ فاستحق بذلك أن يفرد بالربوبية والألوهية، قال تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].
ثم إن اسم الله (السلام) دال على ثبوت صفات الكمال له بطريق اللزوم، فانتفاء العيب والنقص يلزم منه ثبوت الكمال كله؛ إذ انتفاء العيب والنقص ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتًا، فهو عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء فضلًا عن أن يكون مدحًا أو كمالًا
(1)
.
وإذا ثبتت صفات الكمال وسلم فيها سُبْحَانَهُ من كل نقص وعيب؛ كان بهذا واحدًا فيها لا مماثل له ولا مناظر، قال تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وبهذا كان اسم ربنا (السلام) دالًّا على أنواع التوحيد الثلاثة: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
الأثر الثالث: تسليم السلام لعباده المؤمنين في أمور دنياهم وأخراهم:
فمن مظاهر تسليم الله لعباده المؤمنين في أمور دنياهم ما يلي:
- تسليمهم من شر أعدائهم وبطشهم، كما سلم سُبْحَانَهُ إبراهيم عليه السلام من كيد قومه؛ إذ جمعوا الحطب الكثير، وأضرموا النيران فيها، ثم ألقوه فيها، فسلمه الله من
(1)
ينظر: التدمرية، تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع، لابن تيمية (ص: 57).
شرهم وشر النار، فقال تَعَالَى:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
ويسلمهم من العذاب الذي ينزله بأقوامهم بإنجائهم، كما أنجى الله نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين من الغرق، قال تَعَالَى:{قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48].
- تسليمهم من الكفر والشرك والضلال، ومن شياطين الجن والإنس ووساوسهم، ويسلمهم من الضلال وطرق الغواية بالهداية إلى الطريق المستقيم، قال تَعَالَى:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]
(1)
.
- تسليمهم من الفتنة؛ فتنة الشبهات والشهوات، كما سلم يوسف عليه السلام من الوقوع بامرأة العزيز مع قوة الداعي، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
- تسليمهم من الفتنة الكبرى، فتنة المسيح الدجال، كما في تسليمه سُبْحَانَهُ للرجل الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «يَأْتِي الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ المَدِينَةِ
(2)
، فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ
(3)
الَّتِي تَلِي
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 68).
(2)
النقاب: أي: طرقها وفجاجها، وهو جمع نقب وهو الطريق بين جبلين. شرح النووي على مسلم (18/ 71).
(3)
السباخ: حمع سبخة، وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 333).
المَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ - أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ - فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا، ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، هَلْ تَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي اليَوْمَ، فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ»
(1)
.
ومن مظاهر تسليم الله لعباده المؤمنين في أمور أخراهم ما يلي:
- تسليمهم من كل شقاء وعذاب، فيسلمهم عند قبض أرواحهم من الخوف مما هو قادم أمامهم، ويسلمهم من الحزن على ما خلفوه ورائهم، قال تَعَالَى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].
- تسليمهم من شدة الموقف وهوله، ويسلمهم من مناقشة الحساب التي قال عنها صلى الله عليه وسلم:«مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّبَ»
(2)
، ويسلمهم من الصراط وظلمته بما يعطيهم من النور وسرعة السير، ثم يسلمهم السلام الأعظم بالنجاة من النار، فلا يسمعون حسيسها، وهم عنها مبعدون.
- تسليمهم بإدخالهم جنة السلام: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127]، وتتلقاهم الملائكة بالسلام {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23، 24]، ويسلم بعضهم على بعض {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2938).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6536).
والأعظم من ذلك كله: سلامه عليهم بنفسه سُبْحَانَهُ، قال تَعَالَى:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 44]، وقال سُبْحَانَهُ:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58].
(1)
.
الأثر الرابع: محبة الله السلام:
إذا تعرَّف العبد على اسم الله السلام وجد فيه معنيين، كل واحد منهما كفيل بأن يملأ القلب حبًّا لله عز وجل، وهما:
الأول: ما فيه من الكمال والجلال والسلامة من كل عيب ونقص؛ وقد جبلت النفوس على محبة من له الكمال.
الثاني: إحسانه إلى العبد بالتسليم من الشرور والمخاوف؛ وقد جبلت النفوس- أيضًا- على محبة من أحسن إليها.
فإذا تأمل العبد هذا ولاحظ آثاره؛ قاده ذلك إلى محبة الله عز وجل التي تورث القلب حلاوة الإيمان، ويحصل بها النعيم الدنيوي الحقيقي الذي يصغر بجانبه كل نعيم.
(1)
تفسير السعدي (ص: 698).
الأثر الخامس: التأدب مع الله السلام في الألفاظ:
فالله سُبْحَانَهُ السلام ومنه السلام سُبْحَانَهُ، وقد جاء النهي عن قول العبد: السلام على الله؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال:«كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فنقول: السلام على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلامُ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لله وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، السَّلامُ عَلَيْنَا، وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ-؛ فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ- أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»
(1)
.
(2)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
حاشية كتاب التوحيد (ص: 341).
الأثر السادس: من أراد الأمن والطمأنينة التزم بشرع الله:
إن يقين العبد بأن الله مصدر الأمن والسلام يبعث في قلبه الشعور بالسلامة والطمأنينة وزوال الخوف والوحشة والقلق والهم والغم، ويدعوه للتعلق به سُبْحَانَهُ؛ إذ كل ما يصيبه أو يخشى أن يصيبه قادر سُبْحَانَهُ على تأمينه وتسليمه منه ووقايته من شره، ألا أنه لا بد أن يعلم أن من أراد الأمن والسلام في الدنيا سواء في نفسه أو بيته أو مجتمعه، وأرادها في الأخرة كذلك، فإنه لن يجدها إلا في الإيمان بالله عز وجل والأنس به، والالتزام بأحكامه وشريعته؛ إذ كلها أمن وسلام على الفرد والأسرة والمجتمع، وكلما كان العبد وكذا البيت والمجتمع أكثر التزامًا بشريعة الله عز وجل كان أكثر تحصيلًا للسلام في الدارين، قال تَعَالَى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتْتُه الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»
(1)
.
والعكس بالعكس، قال تَعَالَى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، وقال صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث السابق:«وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»
(2)
.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2465)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 307)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2465).
(2)
سبق تخريجه.
الأثر السابع: إفشاء السلام:
الله عز وجل السلام، وشرع لعباده ما ينشر السلام والأمن بينهم، ويحقق المودة والمحبة، ألا وإن ذلك هو السلام تحية أهل الإسلام، قال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27]، وقال سُبْحَانَهُ:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61]، أي:«فليسلم بعضكم على بعض، لأن المسلمين كأنهم شخص واحد، من تواددهم، وتراحمهم، وتعاطفهم»
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابَّوْا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»
(2)
، وعن عبدالله بن سلام رضي الله عنه قال:«أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستثبته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ والنَّاسُ نِيَامٌ؛ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلَامٍ»
(3)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 575).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(54).
(3)
أخرجه والترمذي، رقم الحديث:(2485)، وابن ماجه، رقم الحديث:(1334)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(1334).
والمراد بتحية السلام، قول: السلام عليكم، وهي على مراتب ثلاثة:
1 -
أدناها، قول: السلام عليكم.
2 -
وأوسطها، قول: السلام عليكم ورحمة الله.
3 -
وأعلاها، قول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كما دل على هذا حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَرَدَّ عليه السلام ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَشْرٌ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ. فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ، فَقَالَ: عِشْرُونَ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ، فَقَالَ: ثَلَاثُونَ»
(1)
.
وفي معناها قولان
(2)
:
1 -
أن السلام يراد به السلامة، فعلى هذا يكون المعنى: الإعلام بالسلامة من ناحيته، وتأمينه من شره وغائلته، كأنه يقول له: أنا سلم لك غير حرب، وولي غير عدو، فلا تحذر ولا تخف.
2 -
أن السلام في التحية يراد به: اسم الله السلام، فعلى هذا يكون المعنى: الله يحفظك ويرعاك، والله تَعَالَى يعيذك، والله تَعَالَى يمنعك ويحميك، ففيه دعاء له بالسلامة من الشرور والآفات.
ثم إن السلام لم يقيد بشيء مخصوص، فيقال: السلام عليك من كذا،
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5195)، والترمذي، رقم الحديث:(2689)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5195).
(2)
ينظر: شأن الدعاء (1/ 41)، شرح النووي على مسلم (4/ 117).
ولم تتصل به تاء التحديد التي تدل على الخصلة الواحدة فلم يقل: (السلامة عليكم)، إيذانًا بالسلامة المطلقة وعمومها لكل شر، بل شمولها لحصول الخير أيضًا؛ إذ فوات الخير يمنع السلامة المطلقة، فإن العبد إذا فاته الخير قد يحصل له الهلاك والعطب، أو النقص والضعف
(1)
.
وجاء مع السلام حرف (على)، وكأن الذي يسلم على أخيه المسلم يلقي عليه هذا اللفظ إيذانًا باشتمال معناه، كاشتمال ملابسه عليه، فالسلامة تحيط به، كما يحيط به ثوبه.
وأضيف للسلام الرحمة والبركة؛ وذلك لأن الإنسان لا سبيل له إلى انتفاعه بالحياة إلا بثلاثة أشياء
(2)
:
أ-سلامته من الشر، وقد تضمنها (السلام عليكم).
ب-حصول الخير له، وقد تضمنه (ورحمة الله).
ج-دوام الخير وثباته، وقد تضمنه (وبركاته).
وبهذه المعاني الجليلة كان السلام أولى من جميع تحيات الأمم، وفيما يلي جملة من الفضائل والخصائص التي تدل على تميز هذه التحية عن سائر التحيات الأخرى، ومن ذلك:
أن السلام تحية ربانية، طيبة مباركة؛ فالله عز وجل تولى تشريعه بنفسه ورضيه تحية لخير الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بخلاف غيره من التحيات التي ترجع للأعراف والثقافات، ويدل على هذا قوله تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا
(1)
ينظر: أحكام أهل الذمة (1/ 420).
(2)
ينظر: بدائع الفوائد (2/ 178).
فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61]، وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَلَقَ اللهُ عز وجل آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ، وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُجِيبُونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، قَالَ: فَذَهَبَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، قَالَ فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، قَالَ: فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدَهُ حَتَّى الْآنَ»
(1)
.
أن السلام تحيةٌ صاحبها أولى الناس بالله عز وجل؛ فعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ باللهِ: مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ»
(2)
.
أن تحية السلام من خير الإسلام؛ فقد سئل صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟! قال: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ»
(3)
.
قال النووي رحمه الله: «وفيه بذل السلام لمن عرفت ولمن لم تعرف، وإخلاص العمل فيه لله تَعَالَى لا مصانعة ولا ملقًا، وفيه مع ذلك: استعمال خلق التواضع وإفشاء شعار هذه الأمة»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3326)، أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2841) واللفظ له.
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5197)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(8408)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي دواد، رقم الحديث:(5197).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6236)، ومسلم، رقم الحديث:(39).
(4)
شرح النووي على مسلم (2/ 11).
أن السلام تحية تؤدي إلى الجنة؛ فعن عن عبدالله بن سلام، قال: كان أول ما سمعت من كلامه صلى الله عليه وسلم قوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ»
(1)
(2)
.
أن السلام تحية اختارها الله لأهل الجنة، ولا يختار لهم إلا الطيب الكامل، فيحيى بعضهم بعضًا بها، قال تَعَالَى:{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [إبراهيم: 23]، ويحيهم الملائكة بها، قال تَعَالَى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23]، بل ويحيهم الرب عز وجل بها، قال سُبْحَانَهُ:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 44].
أن السلام تحية تنشر الألفة والمحبة في المجتمعات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»
(3)
.
وبهذا يعرف فضل هذه التحية وكمالها على سائر تحيات الأمم؛ مما يدعو المسلم لتمسك بها على وجه الاعتزاز، وإشاعتها بين المسلمين.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
ينظر: النهج الأسمى (1/ 119).
(3)
سبق تخريجه.
الأثر الثامن: اتصاف العبد بالسلام:
الله عز وجل السلام، ويحب من عباده أن يكون لهم نصيب من اسمه السلام، وذلك: بسلامة النفس، وبسلامة الخلق من شره وأذاه.
فأما سلامة النفس:
فبسلامتها من الذنوب والعيوب والنقائص، قال تَعَالَى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]، أي: طهرها وسلمها من الذنوب، ونقاها من العيوب
(1)
.
فيسلم جوارحه من مواقعة الحرام، ويسلم قلبه من أمراض الشبهات والشهوات، وأدران الحقد والغل والحسد، فيقدم على ربه عز وجل بقلب سليم يحصل معه فوزه ونجاته، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 - 89].
والقلوب ثلاثة: قلب سليم، وقلب مريض، وقلب ميت.
قال ابن القيم رحمه الله: «والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك، والغل، والحقد، والحسد، والشح، والكبر، وحب الدنيا والرياسة؛ فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله؛ فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي الجنة يوم المعاد.
ولا تتم له سلامته مطلقًا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر،
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 926).
وهوى يناقض التجريد والإخلاص
(1)
»
(2)
.
وقد جاء في فضل القلب السليم نصوص عدة، منها:
أن القلب السليم سبب للنجاة يوم القيامة من العذاب، قال تَعَالَى:{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 - 89].
أن الله عز وجل أثنى على إبراهيم عليه السلام بالقلب السليم، فقال:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83، 84].
أن صاحب القلب السليم من أفضل الناس؛ فقد سئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ، قالوا: صدوق اللسان، نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ»
(3)
.
أن القلب السليم سبب لدخول الجنة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
(1)
الداء والدواء (ص: 282 - 283).
(2)
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 7، وما بعدها).
(3)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(4216) واللفظ له، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(4462)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(4216).
مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ عز وجل وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ، وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ. قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ الْمَرَّاتِ (3)، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ»
(1)
.
وعن سفيان بن دينار رحمه الله قال: «قلت لأبي بشير: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا، قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12894)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10633)، وعبد الرزاق في المصنف، رقم الحديث:(20559)، ومسند البزار (6308)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(6181)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(1728).
(2)
الزهد، ابن السري (2/ 600).
وعن زيد بن أسلم رحمه الله، قال:«دُخِل على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين؛ أما إحداهما: فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا»
(1)
.
وقال قاسم الجوعي رحمه الله: «أصل الدين: الورع، وأفضل العبادة: مكابدة الليل، وأقصر طرق الجنة: سلامة الصدر»
(2)
.
وإن من الأسباب التي تعين على الظفر بالقلب السليم:
عدم تعريض النفس لمواطن الشبهات والشهوات؛ إذ النفوس ضعيفة والشيطان يجري منها مجرى الدم، وكل منهما داع للوقوع في أسرها.
مجاهدة النفس على ترك الشهوات، ودفع الشبهات، قال ابن المنكدر رحمه الله:«كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي»
(3)
، وقال أبو حفص النيسابوري رحمه الله:«حرست قلبي عشرين سنة، ثم حرسني عشرين سنة»
(4)
.
العلم النافع الذي تدفع معه الشبهات؛ فإن الجاهل قد يمرض قلبه بما يرد عليه من الشبهات التي لا يملك ردها؛ لجهله، بخلاف العالم.
الدعاء بسلامة القلب وطهارته، كما قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
الصمت، ابن أبي الدنيا (113).
(2)
تاريخ دمشق، ابن عساكر (52/ 80).
(3)
حلية الأولياء (3/ 147).
(4)
صفة الصفوة (2/ 312).
(1)
، والسخيمة، هي: الحقد.
الاشتغال بمعالي الأمور؛ فإن الاشتغال بها يحمل العبد على الترفع عن سفاسف الأمور من القيل والقال، وما يتبعها من الحقد والغل.
حفظ الأذن من سماع ما ينقل من النميمة؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ»
(2)
.
أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، فلا يحسده على ما أعطاه الله من النعم، ولا يحقد عليه ويغل ولو صدر منه ما يزعج؛ إذ لا يحب أن يعامل بذلك فكذا أخيه.
حسن الظن بالإخوان والتماس الأعذار لهم، قال جعفر بن محمد رحمه الله:«إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذرًا واحدًا إلى سبعين عذرًا، فإن أصبته وإلا قل: لعل له عذرا لا أعرفه»
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1510) واللفظ له، والترمذي، رقم الحديث:(3551)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي دواد، رقم الحديث:(1510).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4860)، والترمذي، رقم الحديث:(3896)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن أبي دواد، رقم الحديث:(4860).
(3)
دليل الواعظ (2/ 599).
الهدية؛ إذ هي مدعاة للمحبة والمودة، كما قال صلى الله عليه وسلم:«تَهَادُوْا تَحَابُّوا»
(1)
، وقال:«تَهَادُوْا؛ فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ»
(2)
.
وأما سلامة الخلق من شره وأذاه:
فبكف الشر والأذى عن المسلمين، سواء كان باللسان كالشتم والسب واللعن والبهتان والغيبة والنميمة، أو كان باليد كالاعتداء على الأنفس، والدماء، والأموال، والأعراض، ونحو ذلك من صور الأذية.
وفي كف الأذى عن المسلمين نصوص عدة، منها:
1 -
ما رواه عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى الله عَنْهُ»
(3)
.
(4)
.
2 -
ما رواه أبو موسى رضي الله عنه، قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:«مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ، وَيَدِهِ»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث: في الأدب المفرد، رقم الحديث:(594)، وأبو يعلى، رقم الحديث:(6148)، حكم الألباني: حسن، الإرواء، رقم الحديث:(1601).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2130)، والطيالسي، رقم الحديث:(2453)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2130).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(10) واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(41).
(4)
فتح الباري (1/ 37 - 38).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(42).
3 -
ما رواه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا» ، قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» ، قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَنْ يَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِكَ» ، ثُمَّ سَكَتَ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي»
(1)
.
4 -
ما رواه أبو ذر رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال:«تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ»
(2)
.
5 -
ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِيَّاكُمْ والجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قالوا: وما حقه؟ قال: غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، والأَمْرُ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ»
(3)
.
6 -
ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فنادى بصوت رفيع: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ الله عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ الله عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» ، قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، رقم الحديث:(9802)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(4579)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(2852).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(84).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6229)، و مسلم، رقم الحديث:(2121).
حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ
(1)
.
وجاء الوعيد على أذية المسلمين، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ: هِيَ في الجَنَّةِ»
(2)
.
وعن أبي شريح رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«واللهِ لَا يُؤْمِنُ، واللهِ لَا يُؤْمِنُ، واللهِ لَا يُؤْمِنُ، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ»
(3)
.
وهذه النصوص كما قال ابن رجب رحمه الله، تضمنت «أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجه من الوجوه؛ من قول أو فعل»
(4)
.
ثم إن كف الأذى عن الغير لا يقتصر على المسلم، بل يشمل الكافر غير الحربي أيضًا، كما في قول إبراهيم عليه السلام لأبيه مع أنه من أكفر الكفرة:
{سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47].
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2032)، وابن حبان، رقم الحديث 5763، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2032).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(9806)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(9099)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(190).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6016).
(4)
جامع العلوم والحكم (2/ 282).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(1)
.
(2)
.
وقال ابن حجر رحمه الله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»
(3)
(4)
.
وإن من كف الشر والأذى عنهم دعوتهم بالحال والمقال للإسلام الذي هو دين السلام في الأرض والسعي في نشره بينهم؛ إذ فيه كف لأذى الكفر والعصيان والعذاب عنهم.
كما يشمل كف الأذى: الحيوانات؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها، فلما رأوا ابن
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(3052)، والبيهقي في السنن الكبرى، رقم الحديث:(18799)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(3052).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2165).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
فتح الباري (1/ 53).
عمر تفرقوا عنها، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:«مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنْ فَعَلَ»
(1)
وعن أنس رضي الله عنه: «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ»
(2)
أي: أن تحبس حتى تموت.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا، إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»
(3)
.
الأثر التاسع: سعي العبد لدار السلام:
الله عز وجل السلام خلق الجنة، وسماها دار السلام، قال تَعَالَى:{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127].
وأسباب تسميتها بدار السلام الآتي:
سلمت من كل عيب ونقص، فلا يتبول أهلها فيها ولا يتغوطون، ولا يبزقون، ولا يمتخطون.
سلمت من كل كدر وكبد، فلا هم ولا حزن ولا نصب، ولا خوف ولا قلق، قال تَعَالَى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 45].
سلمت من الحقد والحسد واللغو والتأثيم، بل كلام أهلها سلام طيب طاهر، مسر للنفوس، مفرح للقلوب، يتعاشرون أحسن عشرة،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5515).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5513)، ومسلم، رقم الحديث:(1956).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2365)، ومسلم، رقم الحديث:(2242) واللفظ له.
ويتنادمون أطيب المنادمة، قال تَعَالَى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]، ولا يسمعون من ربهم، إلا ما يقر أعينهم، ويدل على رضاه عنهم ومحبته لهم، قال تَعَالَى:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]
(1)
، وهي دار السلام التي سلمت من كل مرض وألم وهرم، قال تَعَالَى:{لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48].
سلمت من الموت؛ إذ فيها الحياة الدائمة التي لا انقطاع معها ولا نهاية لها، وفي الحديث عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ- زاد أبو كُرَيْب: فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، واتفقا في باقي الحديث- فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ: فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ»
(2)
.
سلمت لكمال نعيمها وتمامه وبقائه، وحسنه من كل وجه حتى لا يقدر على وصفه الواصفون، ولا يتمنى فوقه المتمنون من نعيم الروح والقلب والبدن، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 815).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4730)، ومسلم، رقم الحديث:(2849).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (15/ 59)، وتفسير ابن كثير (4/ 261)، وتفسير السعدي (ص: 273، 362).
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
هِيَ جَنَّةٌ طَابَتْ وَطَابَ نَعِيمُهَا
…
فَنَعِيمُهَا بَاقٍ وَلَيْسَ بِفَانِ
دَارُ السَّلَامِ وَجَنَّةُ المَأْوَى وَمَنْـ
…
ـزِلُ عَسْكَرِ الإِيَمانِ والقُرْآنِ
فَالدَّارُ دَارُ سَلَامَةٍ وَخِطَابُهُمْ
…
فِيهَا سَلَامٌ واسْمُ ذِي الغُفْرَانِ
(1)
فمن علم هذا تاقت نفسه لدار السلام، وسعى للظفر بها، لا سيما وأن الله عز وجل داعيه إليها، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، بل وأرسل محمد صلى الله عليه وسلم داعيًا إليها، كما في الحديث:«جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ الله، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى الله، وَمُحَمَّدٌ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ»
(2)
.
فحري بالعبد أن يجيب دعوة ربه وداعيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى أعظم دعوة وأكمل مقام وأطيب عيش، وذلك بالإيمان والعمل الصالح وسلوك
(1)
النونية (ص 309).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7281).
الصرط المستقيم، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، وقال سُبْحَانَهُ:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].
فَاللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، نسألك يا ربنا أن تسلمنا في الدارين.
السَّميعُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «السمع:
…
في الاصل مصدر قولك: سمعت الشيء،
…
واستمعت كذا، أي: أصغيت، وتسمعت إليه»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(سمع) السين والميم والعين أصل واحد،
…
يقال: سمع بمعنى: استمع»
(2)
.
ورود اسم الله (السميع) في القرآن:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (السميع) في كتاب الله خمسًا وأربعين مرة، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].
(1)
الصحاح (3/ 366).
(2)
مقاييس اللغة (3/ 102).
ورود اسم الله (السميع) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (السميع) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
(1)
.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر، ثم يقول: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، ثم يقول: الله أَكْبَرُ كَبِيرًا، ثم يقول: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ»
(2)
.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ، وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ ولَا فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فيَضُرَّهُ شَيْءٌ»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2992) واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(2704).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(242)، وأبو داود، رقم الحديث:(775)، وحكم الألباني: صحيح، صحيح أبي داود، رقم الحديث:(775).
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3388) واللفظ له، وأبو داود، رقم الحديث:(5088)، والنسائي، رقم الحديث:(10106)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3869)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف ابن ماجه، رقم الحديث:(3869).
معنى اسم الله (السميع) في حقه سُبْحَانَهُ:
يدور معنى اسم الله السميع على معنيين
(1)
:
1 -
السامع لجميع الأصوات الظاهر منها والباطن، والجليل منها والخفي.
2 -
المجيب للسائلين والداعين والعابدين.
وحول هذين المعنيين تدور أقوال العلماء:
من الأقوال في المعنى الأول:
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]«يقول جل ثناؤه واصفًا نفسه بما هو به، وهو يعني نفسه: السميع لما ينطق به خلقه من قول»
(2)
.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تَعَالَى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] «أي: السميع لأقوال عباده، مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم ومكذبهم
…
»
(3)
.
من الأقوال التي تجمع بين المعنى الأول والثاني:
قال الخطابي رحمه الله: «السميع: بمعنى السامع، إلا أنه أبلغ في الصفة، وبناء فعيل: بناء المبالغة، كقولهم: عليم: من عالم، وقدير: من قادر، وهو الذي يسمع السر والنجوى سواء عنده الجهر، والخفوت، والنطق، والسكوت.
(1)
ينظر: الحق الواضح المبين للسعدي (35)، والنهج الأسمى، النجدي (1/ 226 - 228).
(2)
تفسير الطبري (20/ 478).
(3)
تفسير ابن كثير (5/ 5 - 6).
وقد يكون السماع بمعنى: القبول والإجابة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:«وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ»
(1)
، أي: من دعاء لا يستجاب، ومن هذا قول المصلي:«سمع الله لمن حمده، معناه: قبل الله حمد من حمده»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «السميع الذي قد استوى في سمعه سر القول وجهره
…
»
(3)
.
وقال في قوله تَعَالَى عن دعوة إبراهيم: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]: «فالمراد بالسمع هنا: السمع الخاص، وهو سمع الإجابة والقبول، لا السمع العام؛ لأنه سميع لكل مسموع، وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ودعاء الطلب، وسمعُ الرب تبارك وتعالى له: إثابته على الثناء، وإجابته للطلب فهو سميع لهذا وهذا»
(4)
.
قال السعدي رحمه الله: «وسمعه تَعَالَى نوعان: أحدهما: سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة، الخفية والجلية، واحاطته التامة بها، والثاني: سمع الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم»
(5)
.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1548)، وابن ماجه، رقم الحديث:(250)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1548).
(2)
شأن الدعاء (ص: 59).
(3)
طريق الهجرتين (ص 128).
(4)
بدائع الفوائد (3/ 4).
(5)
الحق الواضح المبين (35).
قال ابن القيم رحمه الله:
هُوَ السَّمِيعُ يَسْمَعُ وَيَرَى كُلَّ مَا
…
فِي الكَوْنِ منْ سِرٍّ وَمِنْ إِعْلَانِ
وَلِكُلِّ صَوْتٍ مِنْهُ سَمْعٌ حَاضِرٌ
…
فَالسِّرُّ والإِعْلَانُ مُسْتَوِيَانِ
والسَّمْعُ مِنْهُ وَاسِعُ الأَصْوَاتِ لَا
…
يَخْفَى عَلَيْهِ بَعِيدُهَا والدَّانِي
(1)
وقال أيضًا رحمه الله:
والحَمْدُ للهِ السَّمِيعِ لِسَائِرِ الـ
…
أَصْوَاتِ مِنْ سِرٍّ وَمِنْ إِعْلَانِ
(2)
اقتران اسم الله (السميع) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (السميع) باسم الله (العليم):
ورد هذا الاقتران في القرآن الكريم في اثنتين وثلاثين آية، ومن وروده:
قوله تَعَالَى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 34].
قوله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].
(1)
النونية (ص: 203).
(2)
النونية (ص: 312).
وجه الاقتران:
يدل على مزيد من الكمال لله عز وجل، فإذا كانت صفة (السميع) تنبئ بإحاطة السمع بكل المسموعات فلا يندر عنه عز وجل شيء، ولا يعزب عنه كبير ولا صغير، فإن صفة (العليم) تنبئ بتجاوز علمه المسموعات إلى المشاهدت والغيبيات، والظواهر والبواطن
(1)
.
(2)
.
ثانيًا: اقتران اسم الله (السميع) باسم الله (البصير):
تقدم بيانه في اسم الله البصير.
ثالثًا: اقتران اسم الله (السميع) باسم الله (القريب):
وذلك في موضع واحد، في قوله تَعَالَى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50].
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 599)، التحرير والتنوير (9/ 231)، مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم، لزينب كردي (ص: 247 - 248).
(2)
مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم، لزينب كردي (ص: 247 - 248).
وجه الاقتران:
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (السميع):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (السميع) من صفات الله سُبْحَانَهُ:
يتضمن اسم الله السميع صفة السمع، فالله عز وجل السميع الذي له سمع يليق بجلاله وعظمته من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تمثيل ولا تكييف، قال تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال سُبْحَانَهُ:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]
(2)
، وقال تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف: 26]«قال ابن جرير رحمه الله: وذلك بمعنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه»
(3)
.
وسمع الله نوعان
(4)
:
1 -
سمع يتعلق بالمسموعات، ومعناه: إدراك الأصوات.
2 -
سمع يتعلق بالعبادات والدعوات، ومعناه: الاستجابة.
(1)
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي (15/ 535).
(2)
ينظر: النهج الأسمى (1/ 228)
(3)
تفسير الطبري (17/ 650).
(4)
كما تقدم في معنى الاسم.
فالأول: السمع المتعلق بالمسموعات:
فالله عز وجل السميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، ووسع جميع الأصوات، ومن سعته وإحاطته ما يلي:
أنه تبارك وتعالى يسمع الأصوات التي في العالم العلوي والعالم السفلي من أصوات الملائكة والإنس والجن والحيوانات والنباتات والجمادات والسائلات وغيرها، قال سُبْحَانَهُ:{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 13]، وقال تَعَالَى:{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء: 4]
(1)
، ومن ذلك:
- سمعه جل في علاه لشكوى خولة بنت ثعلبة، قال تَعَالَى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].
- وسمعه لقول الجن، قال تَعَالَى:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1، 2]
…
إلى آخر الآيات.
- وسمعه لقول النملة، قال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18].
- وسمعه لقول السماء والأرض لما قال لهما، قال تَعَالَى:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
(1)
ينظر: الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 36).
- وسمعه تسبيح الجبال، قال تَعَالَى:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18]، والمخلوقات أجمع، قال تَعَالَى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
أنه سُبْحَانَهُ يسمع الأصوات على اختلاف أحوالها، فيسمعها سواء أكانت جهرًا أم سرًّا أم حديث نفس، ظاهرة أم باطنة، جلية أم خفية، فالكل عنده سواء، كما قال سُبْحَانَهُ:{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]
(1)
، وقال منكرًا على من زعم من المشركين وغيرهم أنه لا يسمع السر والنجوى، قال تَعَالَى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]
(2)
.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال:«كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنا إذا علونا كبرنا، فقال: ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا»
(3)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ» أي: ارفقوا بأنفسكم، ولا تكلفوها رفع الصوت؛ إذ لا حاجة له، فإن من تكبرون سميع بصير، يسمع الأصوات الخفية، كما يسمع الأصوات الجلية، قريب من كل متكلم يسمع كل ما ينطق به ويتفوه، أقرب إليه من حبل الوريد
(4)
.
(1)
ينظر: المرجع السابق.
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 770)، النهج الأسمى، للنجدي (1/ 231)، فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 147).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
ينظر: تفسير الطبري (20/ 420)، شرح النووي على مسلم (17/ 26)، فتح الباري، لابن حجر (6/ 135)، فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 147).
ويسمعها - أيضًا- سواء نطق بها الخلق حال الانفراد والتفرق أم حال الاجتماع والاختلاط، ففي اللحظة الواحدة يسمع دعاء الداعين وقراءة القارئين، وأنين الشاكين، وبكاء الباكين، ويجتمع الحجيج في بقعة واحده ويلهج الكل بالدعاء، فيسمعهم في نفس الوقت لا تختلط عليه الأصوات ولا اللغات ولا اللهجات، لا تتداخل ولا تشتبه عليه، ولا يشغله سماع عن سماع، ولا مسألة عن مسألة، لا تغلطه كثرة المسائل، ولا تبرمه كثرة السائلين وإلحاحهم
(1)
.
بل لو قام الجن والإنس كلهم من أولهم إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها في صعيد واحد، وسألوا الله جميعًا في لحظة واحدة، وكلٌّ عرض حاجته، وكلٌّ تحدث بلهجته ولغته، لسمعهم أجمعين دون أن يختلط عليه صوت بصوت أو لغة بلغة أو حاجة بحاجة.
ومن الدلائل على هذا: قوله سُبْحَانَهُ في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ»
(2)
.
أنه سُبْحَانَهُ يسمع الأصوات على اختلاف أماكنها، فيسمعها في السماء كانت أم في الأرض أم في الجو، قرب مكانها أم بعد، صدرت في خفي المواضع والجهات أم ظاهرها، قال تَعَالَى:{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء: 4]
(3)
.
(1)
ينظر: طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 128)، الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 34).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 799)، الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 36).
أنه سُبْحَانَهُ يسمع الأصوات على اختلاف أزمانها، فيسمعها في جميع الأوقات، سواء صدرت في ظلمة الليل أم في وضح النهار، ويسمعها في الحاضر والمستقبل كما سمعها في الماضي، ولا يزال جل في علاه سميعًا بصيرًا، قال تَعَالَى:{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال سُبْحَانَهُ:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61]
(1)
.
أنه سُبْحَانَهُ يسمع الأقوال على اختلاف أنواعها، فيسمع مباحها كما في عموم قوله سُبْحَانَهُ:{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء: 4]، ويسمع الخير منها كما قال سُبْحَانَهُ:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]، ويسمع الشر منها كما قال سُبْحَانَهُ:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181].
ثم إنه سُبْحَانَهُ يجازي خلقه عليها، قال تَعَالَى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، يكتبون ما يقولون وما يعملون، فيحفظ عليهم حتى يردوا يوم القيامة، فيجدون ذلك حاضرًا، ولا يظلم ربك أحدًا
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 799).
(2)
ينظر: المرجع السابق (ص: 770).
فهذا سمع الله وإحاطته التي لا يقدر قدرها إلا الله، ولا يعلم كنهها إلا هو جل في علاه، وبناء عليها وعلى علمه تبارك وتعالى يجري الأقدار على خلقه، فيصطفي منهم من يستحق الاصطفاء، ويزكي منهم من كان لها أهلًا، ويخذل ويرد من لا يستحق، كما قال سُبْحَانَهُ:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 33، 34]، وقال:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]
(1)
.
ويقدر عليهم الشرائع التي تناسبهم وتصلح لهم، كما قال سُبْحَانَهُ:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 4 - 6]، وقال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، «وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه، لاشتمالها على مصالح الدارين ودفع مضارهما؛ لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية، ويعلم بمصالح العباد ما لا يعلمون»
(2)
.
إلى غير ذلك من التقديرات المبنية على سمعه وعلمه جل في علاه.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 129).
(2)
تفسير السعدي (ص: 183).
والثاني: السمع المتعلق بالعبادات والدعوات:
فالله عز وجل سميع مجيب للعابدين والداعين السائلين، فيجيب مِن عبده بالقبول والإثابة، ومنه قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]، وقول امرأة عمران:{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35] فهم في عمل صالح، ويسألون الله تَعَالَى أن يتقبل منهم ويثيبهم؛ إذ هو السميع المجيب
(1)
.
ومنه- أيضًا- قول المصلي في صلاته: سمع الله لمن حمده، أي:«قبل الله حمد من حمده»
(2)
.
ويجيب من دعاه بالعطاء، فلا يرده صفرًا خائبًا، ومنه قول إبراهيم عليه السلام:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]، وقوله سُبْحَانَهُ:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] والصلاة هنا بمعنى الدعاء، والمعنى: ادع للمؤمنين؛ فإن الله سميع لدعائك بالإجابة والقبول
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير الطبري (3/ 73)، تفسير ابن كثير (1/ 427).
(2)
شأن الدعاء، للخطابي (ص: 59).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 350)، والتحرير والتنوير (11/ 23).
الأثر الثاني: دلالة اسم الله السميع على التوحيد:
إن الإيمان باسم الله «السميع» يدفع العبد إلى تو حيد العبادة إذا ما تفكر فيه ونظر؛ إذ إن كل ما يعبد من دون الله إما لا يسمع كالجمادات والموتى، قال تَعَالَى:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 197]، وقال تَعَالَى:{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195]، أو يسمع إلا أن سمعه ناقص كذوات الأرواح من الملائكة والإنس والجن والحيوان، وليس كمال السمع وعظمته إلا لله عز وجل كما قال سُبْحَانَهُ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فسمعه لا يشبه ولا يماثل سمع شيء من خلقه، وإنما على وجه يليق بجلاله وعظمة سلطانه
(1)
.
ثم إذا تقرر هذا: فهل يصح في عقلٍ ونقلٍ أن يُعبد من لا يَسمع؟ أو يُعبد من يَسمع لكن سمعه ناقص كسمع العابد؟ أو كيف يُجعل من هذا حاله ندًّا وشريكًا لله السميع البصير على وجه الكمال والجلال؟ قال تَعَالَى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76]، وقال سُبْحَانَهُ: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 754).
دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 20]، وقال الله حاكيًا استنكار إبراهيم على أبيه:{يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]
(1)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلًا وشرعًا، ودل بتنبيهه وإشارته، أن الذي يجب ويحسن: عبادة من له الكمال، الذي لا ينال العباد نعمة إلا منه، ولا يدفع عنهم نقمة إلا هو، وهو الله تَعَالَى»
(2)
.
وقال في موضع آخر: «فالكامل تَعَالَى الذي هذه أوصافه هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة، ويخلص له الدين»
(3)
.
ثم إن الإيمان باسم الله «السميع» يدعو العبد- أيضًا- إلى توحيد الأسماء والصفات، فهو يعني: أن تثبت لله سمعًا من غير تعطيل ولا تحريف، ثم تضم لهذا الإثبات قوله تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فتثبته على وجه لا تمثيل فيه ولا تكييف؛ خلافًا للمعطلة والنفاة، سواء من نفى هذا الاسم لفظًا ومعنًى كالجهمية ومن تبعهم في هذا، أو من أثبت اللفظ ولم يثبت المعنى كالمعتزلة ومن تبعهم من المفوضة وأشباههم، وخلافًا للمشبهة والمجسمة، قال تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 494).
(2)
المرجع السابق (ص: 494).
(3)
تفسير السعدي (ص: 240).
رد للتشبيه والتمثيل، وقوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رد للإلحاد والتعطيل»
(1)
.
ثم إنه لا بد أن يعلم أن الاشتراك بين المخلوق والخالق في اسم الصفة لا يعني: المشابهة والمماثلة في المسميات، فإن صفات المخلوق تناسب صنعته وضعفه وعجزه، وصفات الخالق عز وجل كاملة تامة لايعتريها ضعف أو نقص، بل هي كما تليق بكماله وجلاله وجماله سبحانه وتعالى.
الأثر الثالث: مراقبة الله السميع:
إذا علم العبد يقينًا أن ربه السميع يسمع قول لسانه، سواء أسره أم جهر به، وسواء كان ذلك في جماعة أو في خلوة، كما قال سُبْحَانَهُ:{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]، وقال:{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء: 4].
وعلم- أيضًا- أن قوله وفعله مكتوب مسجل، فالله سامع والملائكة كاتبة، كما قال سُبْحَانَهُ:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، وقال:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
أثمر ذلك العلم في قلبه مراقبة الله السميع في الأقوال والأفعال، فيراقبه في عمل الخير فيخلص له فيه، ويقيمه على أتم وجه وأكمله، قال تَعَالَى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217 - 220].
قال الطبري رحمه الله: «إن ربك هو السميع تلاوتك يا محمد، وذكرك في صلاتك ما تتلو وتذكر، العليم بما تعمل فيها، ويعمل فيها من يتقلب فيها
(1)
التدمرية (ص: 8).
معك مؤتمًّا بك، يقول: فرتل فيها القرآن، وأقم حدودها، فإنك بمرأى من ربك ومسمع»
(1)
.
ويراقبه- أيضًا- في عمل الشر فيجتنبه قبل الوقوع، ويتوب منه بعد الوقوع، قال تَعَالَى:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181].
(2)
.
ويراقب ربه السميع- أيضًا- في جوارحه، فيحفظ عينه، وأذنه، ولسانه، ويده، ورجله، وقلبه من الحرام.
وإنَّ حفظ اللسان ومراقبة ما هو قائل من أكد الأمور وأهمها؛ ولذا جاءت النصوص بأساليب عدة مرغبة في حفظ اللسان، و محذرة من إطلاقه، ومن ذلك
(3)
:
بيان بغض الله ومقته لمن يقول السوء، قال تَعَالَى:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148] «أي: يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك، فإن ذلك كله من المنهي
(1)
تفسير الطبري (19/ 413).
(2)
تفسير السعدي (ص: 85).
(3)
ينظر: موسوعة الأخلاق الإسلامية - الدرر السنية (1/ 359، وما بعدها)، ونضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (7/ 2637، وما بعدها).
عنه الذي يبغضه الله، ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول كالذكر والكلام الطيب اللين»
(1)
.
بيان أن قول العبد محفوظ مسجل، وسيحاسب عليه في الآخرة، قال تَعَالَى:{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17، 18].
الحث على الصمت إلا من قول الخير؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ»
(2)
(3)
.
بيان أن حفظ اللسان من أسباب النجاة؛ فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا النَّجَاةُ؟ قال: أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ»
(4)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 212).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(47).
(3)
شرح النووي لصحيح مسلم (2/ 19).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22665)، والترمذي، رقم الحديث:(2406)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2406).
بيان أن من صفات أهل الجنة ورثة الفردوس: الإعراض عن لغو الحديث، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3].
(1)
(2)
.
بيان أن حفظ اللسان سبب لدخول الجنة؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ»
(3)
.
بيان أن إطلاق اللسان سبب لدخول النار؛ فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟»
(4)
.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2616)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3973)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2616).
(2)
تفسير السعدي (ص: 548).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6474).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22487)، والطبراني في المعجم الكبير، رقم الحديث:(116)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(3284).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ الله بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»
(1)
.
الأثر الرابع: الثقة بكفاية الله السميع شر الأعداء:
إذا تذكر العبد أنه ربه سميع، لا يخفى عليه شيء مما يقوله أعداء دينه وأوليائه من الكفار والمنافقين والفاسقين ونحوهم، فمكرهم مسموع، وكيدهم مسموع، وكذبهم وبهتانهم وتهمهم الباطلة مسموعة، وسبهم وشتمهم وظلمهم كله مسموع، لا يخفى على السميع العليم، كما قال سُبْحَانَهُ في الأعراب:{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 98]، يسمع ما يتناجون به وما يدبرونه من الترصد، عليم بما يبطنون وبما يقصدون إخفاءه
(2)
.
فإذا تذكر العبد ذلك؛ أثمر في قلبه: الاطمئنان والسكينة والثقة بالله عز وجل؛ لعلمه بأن ربه السميع سيكفي دينه وأولياءه شرور الأعداء بقدرته، ويمنعهم بعزته، ويرد كيدهم بقوته، ويحفظهم بحفظه، ويكلؤهم برعايته.
وهذا ما حدث مع موسى وهاورن، لما خافا من مواجهة فرعون، فقالا:{رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه: 45] فذكرهم الله بسمعه وبصره، فقال تَعَالَى:{لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] فزال الخوف عنهما واطمأنت قلوبهما، وانطلقا لفرعون بالرسالة، وحصل لهما الحفظ والنصر
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:) 6478).
(2)
يظر: التحرير والتنوير (11/ 14).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 506).
وهذا ما حدث- أيضًا- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وعده الله بالكفاية من شرور أعدائه، مذكرًا إياه بأنه السميع لجميع أصواتهم في أي مكان، وعلى أية حال كانوا، العليم بما بين أيديهم وما خلفهم، قال سُبْحَانَهُ:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]، «وقد أنجز الله لرسوله وعده، وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم، وسبى بعضهم، وأجلى بعضهم، وشردهم كل مشرد»
(1)
.
وقال تَعَالَى له أيضًا: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: 65] يسمع قولك، وقول أعدائك فيك، ويعلم ذلك تفصيلًا، وهذا يعني أمرين:
كفايتك وحفظك وتوليك ونصرك، وكذا أمتك من بعدك.
مجازاة أعدائك على قولهم ومكرهم وكيدهم، في الدنيا أو الآخرة، أو فيهما معًا، وكذا أعداء أمتك من بعدك
(2)
.
وفي هذا تهديد وتخويف لأعداء دينه وأوليائه.
وهو كقوله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] يسمع ما يقول المشركون من أهل مكة في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، لا يخفى عليه شيء، ولا يعزب عنه،
(1)
تفسير السعدي (ص: 68).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 145).
بل هو محيط بجميعه علمًا، ومحصيه عددًا، وهو لهم بالمرصاد؛ ليجزي جميعهم بما هم أهله
(1)
.
كما أن تذكُّر هذا المعنى يحي في القلوب الأمل بالنصر والفرج، وعدم استبطائه أو اليأس منه؛ لأن اللهسُبْحَانَهُ يسمع ويعلم، ولكنه يمهل ولا يهمل.
ويثمر أيضًا: الصبر على الأذى والظلم
(2)
؛ لعلم العبد بأن ربه السميع يسمع قول ظالمه ويعلم مظلمته؛ فينصره عليه ويجيب دعوته فيه، ولا يردها صفرًا، كما جاء في الحديث:«اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»
(3)
.
الأثر الخامس: محبة الله السميع:
الله سُبْحَانَهُ السميع الذي يسمع شكوى العبد وأنينه، ويسمع نداءه وتضرعه، ويجيب دعاءه وسؤاله، ما وقف أحد ببابه فردَّه، ولا لاذ به فصدَّه، ولا لجأ إليه فخذله، وهذا كله يدعو العبد المتأمل إلى محبة الله عز وجل والتعلق به.
الأثر السادس: حفظ نعمة السمع:
إذا علم العبد أن ربه السميع أنعم عليه بجارحة السمع، كما قال سُبْحَانَهُ:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2]، وعلم أن حق النعمة الشكر بالقلب، واللسان، والجوارح، وأن أعظم ما يكون من الشكر استعمال النعمة في الطاعة دون المعصية.
(1)
ينظر: تفسير الطبري (17/ 352).
(2)
ينظر: المرجع السابق
(3)
أخرجه البخاري (2448)، ومسلم (19).
وعلم أنه مسؤول عن هذه النعمة العظيمة، كما هومسؤول عن سائر النعم، وبقية الحواس، قال تَعَالَى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقال سُبْحَانَهُ:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسئول عما قاله وفعله وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته أن يعد للسؤال جوابًا، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله وإخلاص الدين له، وكفها عما يكرهه الله تَعَالَى»
(1)
.
إذا علم العبد هذا؛ دفعه ذلك كله إلى استعمال سمعه في طاعة الله من سماع القرآن، والعلم، والمواعظ، ونحوها، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وقال في صفات المؤمنين: إنهم {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18]، أي: هم «الذين يستمعون القول من القائلين، فيتبعون أرشده وأهداه، وأدله على توحيد الله، والعمل بطاعته، ويتركون ما سوى ذلك من القول الذي لا يدل على رشاد، ولا يهدي إلى سداد»
(2)
.
كما يدفعه أيضًا: إلى كف سمعه عن سماع الحرام، من سماع الغناء، والغيبة، والسخرية، والباطل، ونحو ذلك، فذلك كله لا ينفعه سماعه، بل
(1)
تفسير السعدي (ص: 457).
(2)
تفسير الطبري (21/ 273).
يكون عليه وبالًا وعقابًا، حتى يقول يوم القيامة حين يرى العذاب:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
الأثر السابع: دعاء الله السميع:
إذا علم العبد أن من معاني اسم الله السميع: المجيب للدعاء؛ دفعه ذلك العلم إلى الإكثار من مناجاة السميع القريب، وسؤاله من حاجات الدنيا والآخرة، من غير ملل أو يأس من كشفه للشدائد وقضائه للحوائج.
كما يدفعه أيضًا إلى التوسل إلى الله عز وجل باسمه «السميع» ، لا سيما وأنه مظنة الإجابة؛ فقد دعا زكريا عليه السلام ربه:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]
(1)
، فأجابه السميع، فرزقه الولد وأرسل له الملائكة بالبشرى {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]، بل زاده في الجواب والعطاء، فأصلح له زوجه، كما قال سُبْحَانَهُ:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90].
ودعا إبراهيمُ بالولد، فما لبث أن قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39].
ودعا يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي
(1)
وفي هذا الدعاء يقول ابن القيم رحمه الله: «فقد قيل: إنه دعاء المسألة؛ والمعنى: أنك عودتني إجابتك وإسعافك، ولم تشقني بالرد والحرمان، فهو توسل إليه تَعَالَى بما سلف من إجابته له وإحسانه إليه، وهذا كقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]» . بدائع الفوائد (3/ 4).
كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]، فأجابه بقوله تَعَالَى:{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 34].
ودعت امرأة عمران: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35]، فأجابها السميع بقوله تَعَالَى:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37].
ويدفعه أيضًا: إلى الاستعاذة بالله السميع، والالتجاء إليه عند حصول وساوس شياطين الجن والإنس، لا سيما وأن الله أمره بذلك، مذكرًا إياه بأنه السميع العليم، فقال تَعَالَى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36]، فإنه يسمع قولك وتضرعك، ويعلم حالك وفقرك واضطرارك إلى عصمته وحمايته
(1)
.
فاللهم يا سميع يا عليم، نعوذ بك من شر شياطين الإنس والجن ووساوسهم، فاكفناهم بما شئت.
(1)
تفسير السعدي (ص: 750).
الشَّكُور الشَّاكرُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الشكر: الثناء على المحسن بما أولاكه من معروف، يقال: شكرته وشكرت له، وباللام أفصح»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الشين والكاف والراء أصول أربعة متباينة بعيدة القياس، فالأول- وهو المراد-: الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه ...... »
(2)
.
ورود اسمي الله (الشَّكُور - الشاكر) في القرآن الكريم:
ورد اسم (الشكور) في كتاب الله تَعَالَى في أربع آيات، ومن وروده مايلي:
قول الله عز وجل: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 30].
قوله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ
…
اللَّهَ
…
غَفُورٌ
شَكُورٌ} [الشورى: 23].
قوله عز وجل: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17].
(1)
الصحاح (2/ 265).
(2)
مقاييس اللغة (3/ 207).
وورد اسم (الشاكر) في آيتين، وهما:
قوله عز وجل: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158].
قوله سُبْحَانَهُ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147].
ورود اسمي الله (الشَّكُور- الشاكر) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله تَعَالَى (الشكور) في السنة النبوية، إلا في حديث سرد الأسماء
(1)
.
أما اسم الله (الشاكر) سُبْحَانَهُ فقد ورد في بعض الأحاديث، ومن وروده ما يلي:
قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اصْطَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَجَازُوهُ، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عنْ مُجَازَاتِهِ فَادْعُوا لَهُ، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّكُمْ قَدْ شَكَرْتُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ يُحِبُ الشَّاكِرِينَ»
(2)
.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال:«لما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج قال الأقرع ابن حابس: أكل عام يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لَا، بَلْ حَجَّةٌ، فَمَنْ حَجَّ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ تَطَوُّعٌ، وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَسْمَعُوا وَلَمْ تُطِيعُوا»
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3507)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3861)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3507).
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(29)، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي، رقم الحديث:(501)، حكم الألباني: ضعيف جدًّا، السلسلة الضعيفة، رقم الحديث:(5310).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(3579) واللفظ له، والنسائي، رقم الحديث:(2620)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف النسائي، رقم الحديث:(2620).
معنى اسمي الله (الشَّكُور والشاكر) في حقه تعالى:
قال قتادة رحمه الله عند قوله تَعَالَى: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 30]: «إنه غفور لذنوبهم، شكور لحسناتهم» ، وقال:«إن الله غفور للذنوب، شكور للحسنات يضاعفها»
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «الشكور هو الذي يشكر اليسير من الطاعة، فيثيب عليه الكثير من الثواب، ويعطي الجزيل من النعمة، فيرضى باليسير من الشكر، كقوله سُبْحَانَهُ: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34]»
(2)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] أي: يثيب على القليل بالكثير»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «هو الذي يشكر القليل من العمل الخالص النقي النافع، ويعفو عن الكثير من الزلل، ولا يضيع أجر من أحسن عملًا، بل يضاعفه أضعافًا مضاعفة بغير عد ولا حساب»
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وَهْوَ الشَّكُورُ فَلَنْ يُضَيِّعَ سَعْيَهُمْ
…
لَكِنْ يُضَاعِفُهُ بِلَا حُسْبَانِ
مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِب
…
هُوَ أَوْجَبَ الأَجْرَ العَظِيمَ الشَّانِ
(1)
النهج الأسمى (1/ 292).
(2)
شأن الدعاء (ص 65 - 66).
(3)
تفسير القرآن العظيم (1/ 472).
(4)
تفسير أسماء الله الحسنى، للسعدي (ص: 210).
كَلَّا وَلَا عَمَلٌ لَدَيْهِ ضَائِعٌ
…
إِنْ كَانَ بِالإِخْلَاصِ والإِحْسَانِ
إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُوا
…
فَبِفَضْلِهِ والحَمْدُ للمَنَّانِ
(1)
اقتران اسمي الله (الشَّكُور - الشاكر) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله الشَّكُور باسم الله الحليم:
تقدم بيانه في اسم الله (الحليم) سُبْحَانَهُ.
ثانيًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الشكور) باسمه سُبْحَانَهُ (الغفور):
ورد هذا الاقتران ثلاث مرات في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله عز وجل:{لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 30]، وقوله سُبْحَانَهُ:{وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى: 23].
وجه الاقتران:
(2)
.
(1)
النونية (ص: 208 - 209).
(2)
التحرير والتنوير، ابن عاشور (25/ 85).
ثالثًا: اقتران اسم الله (الشاكر) باسم الله (العليم):
ورد هذا الاقتران مرتين في القرآن الكريم، وذلك في قوله تَعَالَى:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]، وقوله سُبْحَانَهُ:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147].
وجه الاقتران:
(1)
.
(2)
.
(1)
المرجع السابق (2/ 65).
(2)
ولله الأسماء الحسنى، لعبد العزيز الجليل (ص 351).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الشكُور- الشاكر):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الشكور) من صفات الله تعالى:
إن شكر الله تَعَالَى لعباده في حقيقته امتنان منه سُبْحَانَهُ، وكمال إحسان وكرم وحلم وفضله منه، رغم أن ملكه سُبْحَانَهُ لا يزداد شيئًا بشكر الناس له ونسبتهم الفضل إليه، كما أنه لا يتضرر بكفرهم؛ لأنه الغني الحميد، ولكنه تبارك وتعالى يحب أن يحمد ويشكر، ويرضى عن العبد بذلك، ويكره أن يكفر به وبنعمته، ويسخط على العبد بذلك.
يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «وأما شكر الرب تَعَالَى فله شأن آخر كشأن صبره، فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور، بل هو الشكور على الحقيقة»
(1)
.
ثم ذكر ابن القيم بعض مظاهر شكر الله لعباده، ومنها:
من شكره سُبْحَانَهُ: أن العبد إذا ذكر ربه وأثنى عليه في ملأ أو مجلس ذكر؛ شكره الله وأثنى عليه وذكره في ملأ أعلى وأخير منه، يقول الله تَعَالَى في الحديث القدسي: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ،
…
»
(2)
.
من شكره سُبْحَانَهُ: أنه إذا أحب عبدًا ألقى محبته بين العباد، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ
(1)
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 280).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7405)، ومسلم، رقم الحديث:(2675).
فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ»
(1)
.
من شكره سُبْحَانَهُ: توفيقه لعباده إلى الخير، ثم إعطاؤهم وإثابتهم على العمل به، فالله عز وجل يشكر القليل من العمل، ويعطي عليه ثوابًا جزيلًا أكثر من العمل نفسه، فيضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وقد يجزي الله العبد على العمل بأنواع من الثواب العاجل قبل الآجل، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:«يقول الله تعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»
(2)
.
من شكره سُبْحَانَهُ: أنه لا يجزي بالسيئة إلا سيئة واحدة مثلها؛ يقول سُبْحَانَهُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] وقال سُبْحَانَهُ: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40].
من شكره سُبْحَانَهُ: أن الهم بالحسنة يكتبها حسنة كاملة، والهم بالمعصية وتركها من أجل الله يكتب بها حسنة، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7485)، ومسلم، رقم الحديث:(2637).
(2)
سبق تخريجه.
كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»
(1)
.
من شكره سُبْحَانَهُ: أنه لا يقتصر شكره لعباده المؤمنين، بل يجازي حتى عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» ، وفي رواية:«إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمَ بِهَا طُعْمَةً مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، فَإِنَّ اللهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ»
(2)
.
من شكره سُبْحَانَهُ: غفرانه للكثير من الزلل شكرًا للقليل من العمل، فيثيب الثواب الجزيل ولو كان العمل قليلًا، ومن ذلك ماثبت من غفرانه للمرأة البغى بسقيها كلبًا، يقول صلى الله عليه وسلم:«بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ»
(3)
، وغفرانه لآخر بتنحيته غصن شوك عن طريق المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6491)، ومسلم، رقم الحديث:(131).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2808).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3467).
فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ»
(1)
، وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ»
(2)
.
من شكره سُبْحَانَهُ: إخراجه للعبد من النار بأدنى مثقال ذرة من خير، وشكر هذا القدر له، ففي الحديث:«فَأَخْرج مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخرجهُ مِنْ النَّارِ»
(3)
.
من شكره سُبْحَانَهُ: أن العبد من عباده يقوم له مقامًا يرضيه بين الناس فيشكر له، وينوه بذكره، يخبر ملائكته وعباده المؤمنين، كما شكر لمؤمن آل فرعون، وأثنى به عليه، ونوه بذكره بين عباده، وكذلك شكره لصاحب يس مقامه ودعوته إليه.
من شكره سُبْحَانَهُ: أن العبد إن ترك شيئًا لله أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئًا رده عليه أضعافًا مضاعفة، وهو الذي وفقه للترك والبذل، ولكنه شكره على هذا وذاك
(4)
، ومن شواهد ذلك:
* «لما عقر نبيه سليمان الخيل غضبًا له؛ إذ شغلته عن ذكره فأراد ألا تشغله مرة أخرى أعاضه عنها بمتن الريح.
* و لما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن؛ شكر له ذلك بأن مكن له في
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(652)، ومسلم، رقم الحديث:(1914).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1914).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7510).
(4)
انظر: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ابن القيم (ص: 280).
الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، قال تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56].
* ولما بذل الرسل كافة أعراضهم فيه لأعدائهم، فنالوا منهم وسبوهم؛ أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم هو وملائكته، وجعل لهم أطيب الثناء في سماواته وبين خلقه، فأخلصهم بخالصة؛ ذكرى الدار.
* ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها في مرضاته؛ أعاضهم عنها أن ملكهم الدنيا، وفتح لهم ملك فارس والروم، فمما روي عن أبي ذر أنه عندما فتح قبرص بكى بكاءً أبكى من حوله، قالوا: تبكي وهو يوم عظيم فتح الله بلاد الكفر لأهل الإيمان؟ قال: أبكي؛ لأنه لما غيروا نعمة الله عليهم غير الله ما بهم؛ فأورثنا أرضهم.
* ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزقها أعداؤه؛ شكر لهم ذلك بأن أعاضهم منها طيرًا خضرًا أقر أرواحهم فيها ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها إلى يوم البعث، فيردها عليهم أكمل ما تكون وأجمله وأبهاه»
(1)
.
ولذلك كله: نُهينا أن نستصغر شيئًا من أعمال البر، ولو كان يسيرًا، يقول تَعَالَى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر:«لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»
(2)
.
(1)
عدة الصابرين، لابن القيم (ص 281).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2626).
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (الشكور) على التوحيد:
من تأمل في اسم الله (الشكور) وما فيه من جزيل العطايا والكرم والامتنان الإلهي، علم أن أعظم الشكر هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له؛ لأنه هو الذي خلق وأوجد من العدم، ورزق الإنسان الأرزاق الكثيرة، ولم يشاركه في ذلك أحد، فلا يستحق أحد العبادة معه، ولكن أكثر الناس أعرضوا عن هذه الحقيقة، كما قال تَعَالَى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} [النمل: 73] وجعلوا له أندادًا، ونسبوا لها الضر والنفع، والتصرف في الأرزاق، ودفع الأمراض، وقضاء الحاجات، وتفريج الكبريات.
فمن الشرك الذي يقع من العباد: نسبتهم ما يحصل لهم من الأرزاق إلى المخلوقين، قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب قول الله تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«شُكرَكم»
(1)
.
(2)
، وفي رواية: «ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ، يُنْزِلُ اللهُ الْغَيْثَ
(1)
فتح الباري، لابن حجر (2/ 522).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1038)، ومسلم، رقم الحديث:(71).
فَيَقُولُونَ: الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا»
(1)
.
وكما أن اسم الله (الشكور) دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال على الأسماء والصفات؛ إذ يدل على اسم الله المحسن، الرزاق، الرحمن، الرحيم، الكريم، الحليم إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
الأثر الثالث: كل عمل صالح يشكره الله، وهناك أعمال مخصوصة ورد شكر الله عليها:
من فضل الشكور وعظيم شكره وامتنانه، أن كل عمل صالح يقبله الله ويشكره لعباده، إلا أن هناك أعمالًا جاء النص على شكر الله لها على سبيل التخصيص، ومنها:
- الإيمان الصادق والشكر لله تَعَالَى على إنعامه:
قال سُبْحَانَهُ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147].
- قراءة القرآن:
قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30]، فالذي يتلو كتاب الله له بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(72).
- الحج والعمرة:
قال تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158].
الصدقة:
قال تَعَالَى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17]، و يقول سُبْحَانَهُ:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
وبالإجمال- فكما تقدم-: الله تَعَالَى يشكر لعبده كل حسنة يفعلها بمضاعفة أجرها، يقول تَعَالَى:{وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى: 23].
ولذلك إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ تقالُّوا عملهم فيما يرون من الجنة، يقول تَعَالَى عنهم:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 33، 34]، فأهل الجنة يدركون تمامًا أن الله تَعَالَى غفر لهم السيئات، وضاعف لهم الحسنات، وبرحمته أدخلهم الجن؛ وذلك لأن عبادة ستين أو سبعين سنة، لا تعادل ماهم فيه من نعيم الجنة العظيم، وفي الحديث:«لَوْ أَنَّ رَجُلًا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ هَرَمًا فِي مَرْضَاةِ اللهِ، لَحَقَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(17924)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(303)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(446).
وعليه فإن كل ما يتقرب به إلى الله سُبْحَانَهُ من صلاة وصيام وحج وصدقة وجهاد، وغيرها من أعمال البر المحدودة بالأعمار القصيرة، والتي يتخللها التقصير والسهو والنسيان، لا يمكن بحال أن تكون ثمنًا لدخول الجنة السرمدية، فدخول العبد الجنة والفوز بها إنما هو بفضل الله تَعَالَى ورحمته
(1)
، ولذا جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا؛ فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟، قال: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ»
(2)
.
ولا تعارض بين هذا الحديث وبين قوله تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] فالباء هنا ليست للعوض، فليست الجنة عوضًا للعمل، وإنما باء السببية، فمن أسباب دخول الجنة: العمل، وقيل:{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الأعمال التي قبلها الله برحمته.
الأثر الرابع: الله سُبْحَانَهُ يشكر أعمال عباده جملة وتفصيلًا:
فالله سُبْحَانَهُ يعطي المتاجرين معه أجرًا على العمل الصالح جملة مرة، وتفصيلًا مرة أخرى، وبيان ذلك ما يلي:
1) في عبادة الصلاة: يعطي عباده الأجر عليه جملة كما قال صلى الله عليه وسلم: «الصَّلاةُ الخَمْسُ، والجُمُعَةُ إِلَى الجُمُعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ
(1)
ينظر: النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، للنجدي (1/ 296)، ومنهج الإمام ابن القيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى، لمشرف الغامدي (ص 334).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6467).
الكَبَائِرُ»
(1)
، ثم يعطيهم الأجر على كل عمل في الصلاة أو تابع لها، على وجه التفصيل، فمثلًا:
- قال صلى الله عليه وسلم في أجر الوضوء والذكر بعده: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ- أو فَيُسْبِغُ- الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ»
(2)
.
- قال صلى الله عليه وسلم في أجر الخطوات نحو الصلاة: «مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ الله لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ»
(3)
.
- قال صلى الله عليه وسلم في أجر من مشى إلى الصلاة في الظلمات: «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(4)
.
- قال صلى الله عليه وسلم في أجر السجود: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً»
(5)
.
- قال صلى الله عليه وسلم في أجر الأذكار بعد الصلاة: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ: تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(233).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(234).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(662)، ومسلم، رقم الحديث:(669).
(4)
أخرجه أبو داود (561)، والترمذي، رقم الحديث:(223)، وابن ماجه، رقم الحديث:(781) حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(561).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(488).
(6)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(597).
2) في عبادة الصيام: يعطي عباده الأجر عليه جملة كما قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(1)
، ثم يعطيهم الأجر على كل عمل في الصيام أو تابع له، على وجه التفصيل، فمثلًا:
- قال صلى الله عليه وسلم في أجر صوم اليوم الواحد في سبيل الله: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ الله وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»
(2)
.
- قال صلى الله عليه وسلم عن أجر رائحة فم الصائم: «وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ»
(3)
.
3) في عبادة الحج: يعطي عباده الأجر عليه جملة، كما قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
(4)
، ثم يعطيهم الأجر على كل عمل في الحج أو تابع له، على وجه التفصيل، فمثلًا:
- قال صلى الله عليه وسلم في أجر التلبية: «مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي، إِلَّا لَبَّى، مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ، مِنْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا»
(5)
.
- قال صلى الله عليه وسلم في أجر يوم عرفة: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(38)، ومسلم، رقم الحديث:(760).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2840) واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(1153).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5927) واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(1151).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1521)، ومسلم، رقم الحديث:(1350).
(5)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(828)، وابن ماجه، رقم الحديث:(2921)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(828).
فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟»
(1)
.
- قال صلى الله عليه وسلم في أجر الصلاة في المسجد الحرام: «وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ»
(2)
.
وهكذا في كل الأعمال الصالحة، فالله يشكرها جملة وتفصيلًا، منة منه وفضلًا وكرمًا وإحسانًا.
الأثر الخامس: محبة الله الشكور سُبْحَانَهُ:
إن التأمل في اسم الله الشكور وما يتصف به سُبْحَانَهُ من إثابة العمل القليل قبل الكثير، وشكر المذنب العاصي والمؤمن الصالح جميعًا، وعظم هذا الشكر والجزاء في الدنيا والآخرة مقابل يسر العمل وقلته؛ لا شك أن ذلك يورث العبد حياء من ربه ويملأ قلبه حبًّا له وعرفانًا تجاه إنعامه ومننه، فَسُبْحَانَهُ قد غمر العباد بفضله وإحسانه وكرمه، وهو الذي أنعم عليهم بنعمة الإيجاد والإعداد والإمداد، ومع ذلك فهو يجازيهم على العمل الصالح القليل الذي هو بتوفيقه وفضله؛ يشكرهم عليه ويضاعف لهم الأجور ويغفر لهم الذنوب، فَسُبْحَانَهُ من إله شكور بر رحيم جواد كريم يستحق الحمد كله والحب كله، وإفراده وحده بالعبادة لا شريك له.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1348).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(15504)، وابن ماجه، رقم الحديث:(1406)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(1406).
الأثر السادس: الكفر بنعم الله مؤذن بزوالها عمن كفر بها:
على المؤمن أن يدرك أن النعم التي يتفضل الله بها على عباده المؤمنين؛ جزاء لهم على أعمالهم الصالحة ليست جزاء توفية، بل إنها بعض نعمته العاجلة لهم، وأنهم إذا أطاعوه زادهم إلى هذه النعم نعمًا أخرى، ثم في الآخرة يوفيهم أجور أعمالهم تامة غير منقوصة ويزيدهم من فضله، يقول تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]، وقال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41]، والعبد الشاكر لربه الشكور يعلم علمًا يقينيًّا أن لشكره عاقبة ومنزلة عظمى، فبالشكر تقيد للنعم الحاضرة، وجلب للنعم المفقودة، فضلًا على أن الشكر سبب لزيادة النعم وبقائها، يقول سُبْحَانَهُ تَعَالَى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
وبالمقابل: كفران النعم وجحودها مؤذن بزوالها، يقول تَعَالَى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 112، 113].
يقول السعدي رحمه الله في تفسير الآية: وهذه القرية هي مكة المشرفة التي كانت آمنة مطمئنة لا يهاج فيها أحد، وتحترمها الجاهلية الجهلاء، حتى إن أحدهم يجد قاتل أبيه وأخيه، فلا يهيجه مع شدة الحمية فيهم، والنعرة العربية، فحصل لها من الأمن التام ما لم يحصل لسواها وكذلك الرزق الواسع، كانت
بلدة ليس فيها زرع ولا شجر، ولكن يسَّر الله لها الرزق يأتيها من كل مكان، فجاءهم رسول منهم يعرفون أمانته وصدقه، يدعوهم إلى أكمل الأمور، وينهاهم عن الأمور السيئة، فكذبوه وكفروا بنعمة الله عليهم، فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد، والخوف الذي هو ضد الأمن؛ وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم قال تَعَالَى:{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33]
(1)
.
ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من زوال النعمة في دعائه، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ»
(2)
.
الأثر السابع: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» :
قال ابن الأثير رحمه الله في شرح حديث: «لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ»
(3)
: «معناه أن اللهتَعَالَى لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه، إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس، ويكفر أمرهم؛ لاتصال أحد الأمرين بالآخر، وقيل معناه: أن من كان عادته وطبعه كفران نعمة الناس وترك شكره لهم؛ كان من عادته كفر نعمة الله عز وجل وترك الشكر له، وقيل: معناه أن من لا يشكر الناس كان كمن لا يشكر الله عز وجل، وأن شكره كما تقول: لا يحبني من لا
(1)
تفسير السعدي (ص: 451).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2739).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(9156)، وأبو داود (4811)، والترمذي، رقم الحديث:(1954)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(1954).
يحبك، أي: أن محبتك مقرونة بمحبتي، فمن أحبني يحبك، ومن لا يحبك فكأنه لم يحبني»
(1)
.
وفي الحديث الآخر: «وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ»
(2)
، وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا «مَنْ أُتِيَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَلْيُكَافِئْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَلْيَذْكُرْهُ، فَمَنْ ذَكَرَهُ، فَقَدْ شَكَرَهُ»
(3)
.
وعن النعمان رضي الله عنه مرفوعًا «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ، لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ، لَمْ يَشْكُرِ اللهَ، التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ»
(4)
، وعن أنس رضي الله عنه، قال:«إن المهاجرين قالوا يا رسول الله: ذهبت الأنصار بالأجر كله، قال: لَا، مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ»
(5)
.
وأولى الناس بالشكر هما: الوالدان، فقد قرن الله شكرهما بشكره، قال تَعَالَى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، فأمر بشكره ثم بشكر الوالدين؛ إذ كانا سبب وجوده في الدنيا، وسهرًا وتعبًا في تربيته وتغذيته، فمن عقهما أو
(1)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (2/ 1200).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(25232)، حكم الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(972).
(4)
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (18740)، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(667).
(5)
أخرجه أبو داود (4812)، والترمذي، رقم الحديث:(2487)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(4812).
أساء إليهما فما شكرهما على صنيعهما؛ بل جحد أفضالهما عليه، ومن لم يشكرهما فإنه لم يشكر الله الذي أجرى تلك النعم على أيديهما، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»
(1)
.
من أذم الخصال: أن لا تشكر المرأة زوجها مع إحسانه، فأكبر إحسان أنه اختار المرأة من نساء العالمين، وربط اسمه باسمها، وجعلها موطن الولد له، وأسكنها بيته، وإبراهيم عليه السلام لما زار بيت ابنه إسماعيل عليه السلام وسأل كيف رزقكم؟ فذمت، فقال: قولي لزوجك إذا أتى يغير عتبة داره، ولما أتى أسماعيل قال: ذاك أبي أبراهيم وأمرني أن أطلقك
(2)
؛ لأنها امرأة لا تشكر، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال:«يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الاسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا أكثر أهل النار؟ قال: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ»
(3)
«جزلة» بفتح الجيم وسكون الزاي أي: ذات عقل ورأي، والجزالة: العقل والوقار، فقد توعد على كفران العشير، وهو في الأصل: المعاشر، والمراد هنا: الزوج، توعد على كفران العشير والإحسان بالنار؛ فدل على أنه كبيرة على نص أحمد رحمه الله بخلاف اللعن، فإنه قال:«تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ» والصغيرة تصير كبيرة بالكثرة.
(1)
أخرجه مسلم (2551).
(2)
أخرجه البخاري (3364).
(3)
أخرجه مسلم (80).
الأثر الرابع: وجوب شكر الله تَعَالَى على نعمائه:
على العبد أن يستشعر وجوب الشكر على كل مكلف بالاتفاق، فهو أساس الإيمان، يقول ابن القيم رحمه الله:«ومقام الشكر جامع لجميع مقامات الإيمان؛ ولذلك كان أرفعها وأعلاها، وهو فوق الرضا، وهو يتضمن الصبر من غير عكس، ويتضمن التوكل والإنابة، والحب والإخبات، والخشوع والرجاء، فجميع المقامات مندرجة فيه، لا يستحق صاحبه اسمه على الإطلاق إلا باستجماع المقامات له، ولهذا كان الإيمان نصفين: نصف صبر، ونصف شكر، والصبر داخل في الشكر، فرجع الإيمان كله شكرًا، والشاكرون هم أقل العباد، كما قال تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]»
(1)
.
وفي الملحق ما يعين- بإذن الله- على تحقيق هذه العبادة العظيمة والمنزلة الكريمة.
الأثر الخامس: دعاء الله باسمه الشكور:
لم يرد الدعاء بالاسم، ولكن ورد الدعاء بمقتضى الاسم، كقوله تَعَالَى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، وقوله تَعَالَى:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
وثبت في السنة والسيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثير الشكر
(1)
مدارج السالكين (1/ 157).
لربه، ومن دعائه:«رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا»
(1)
، ومما روت عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قولها:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى، قام حتى تفطر رجلاه، فتقول: يا رسول الله! أتصنع هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يَا عَائِشَةُ أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»
(2)
، وهي وصيته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، ففي الحديث قال صلى الله عليه وسلم:«يَا مُعَاذُ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، واللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فقال صلى الله عليه وسلم: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(2022)، والترمذي، رقم الحديث:(3551) وابن ماجه، رقم الحديث:(3830)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف الترمذي، رقم الحديث:(3551).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه أبو داود (1522)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1522).
في موضوع الشكر لله سنتطرق للمسائل التالية:
أولًا: تعريف الشكر:
يقول ابن القيم رحمه الله: «الشكر: ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة»
(1)
.
(2)
.
ثانيًا: فضائل الشكر:
لشكر الله فضائل عديدة، ومنافع عظيمة، منها:
الشاكرون هم من أكثر المنتفعين بآيات الله تَعَالَى، فهم ينظرون بعين البصيرة إلى من قص الله أخبارهم في القرآن، كقصة سبأ في سورة سبأ، وقصة أصحاب الجنة في سورة القلم، فيعرفون أن تلك العقوبة جزاء كفرهم
(1)
مفهوم الشكر عند ابن تيمية (ص: 25).
(2)
مدارج السالكين (2/ 244).
نعمة الله تَعَالَى، وأن من فعل مثل فعلهم فعل به مثلهم، هي سنة الله، ولهذا قال سبحانه وتعالى عند ذكره لقصة سبأ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ: 19].
الشكر من مقامات الإيمان؛ ولذلك عمل الشيطان جاهدًا على صد العباد عنه، قال تَعَالَى عن إبليس:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17].
تحقيق الشكر لله تَعَالَى دليل العبودية الحقة، قال تَعَالَى:{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114].
الشكر وسيلة لنيل رضى الرب، قال تَعَالَى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
الشكر إن قُرن بالإيمان مَنَع من العذاب، يقول تَعَالَى:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147].
ثناء الله تَعَالَى في كتابه على أهل الشكر، ووصفه بعض خواص خلقه بهذه الخصلة، قال تَعَالَى عن نوح عليه السلام:{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، وقال تَعَالَى عن إبراهيم:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 120، 121].
الشكر مطلب عباد الله الصالحين، فجاء في القرآن على لسان سليمان عليه السلام قوله تَعَالَى:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل: 19]،
وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا»
(1)
وأوصى عليه السلام معاذًا رضي الله عنه لحبه له أن يستعين بالله على شكره فقال: «يَا مُعَاذُ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، واللهِ إني لَأُحِبُّكَ، فقال: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»
(2)
.
جعل الله الشكر سببًا للمزيد من النعم، فقال تَعَالَى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
جعل الله تَعَالَى شكره هدفًا من أهداف تفضله بالنعم، يقول سُبْحَانَهُ:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، وقال في شأن تسخيره الأنعام:{كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36].
جعل اللهُ شكرَه هدفًا من أهداف العفو والنصر، يقول تَعَالَى في العفو:{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 52]، ويقول في النصر:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].
وعد الله تَعَالَى الشاكرين بأحسن الجزاء فقال تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145] وبين أنه تَعَالَى وإن كان يحب الشاكرين إلا أنه لا يعود عليه شيء من النفع بشكرهم، بل النفع لهم، قال تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12].
الشكر يرفع منزلة المفطر إلى منزلة الصائم، فقد روى الترمذي وحسنه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ»
(1)
.
ثالثا: مسألة: أيهما أفضل الشكر أم الصبر؟
يقول ابن القيم رحمه الله: «حكى ابن الجوزي في ذلك ثلاث أقوال:
القول الأول: أن الصبر أفضل.
القول الثاني: أن الشكر أفضل.
القول الثالث: أنهما سواء، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت)
(2)
.
ثم قال: «وانبنى على هذه المسألة مسألة: الغني الشاكر، والفقير الصابر، أيهما أفضل؟
والتحقيق أن يقال: أفضلهما أتقاهما لله تَعَالَى، فإن فرض استواؤهما في التقوى استويا في الفضل، فإن الله سُبْحَانَهُ لم يفضل بالفقر والغنى كما لم يفضل بالعافية والبلاء، وإنما فضل بالتقوى، كما قال تَعَالَى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(7921)، والترمذي، رقم الحديث:(2486)، وابن ماجه، رقم الحديث:(1764)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث (2486).
(2)
الرسالة القشيرية (1/ 327).
والتقوى مبنية على أصلين: الصبر والشكر، وكل من الغنى والفقير لا بد له منهما، فمن كان صبره وشكره أتم كان أفضل، فإن قيل: فإذا كان صبر الفقير أتم وشكر الغني أتم فأيهما أفضل؟ قيل: أتقاهما لله في وظيفته ومقتضى حاله، ولا يصح التفضيل بغير هذا البته، فإن الغني قد يكون أتقى لله في شكره من الفقير في صبره، وقد يكون الفقير أتقى لله في صبره من الغني في شكره، فلا يصح أن يقال: هذا بغناه أفضل، ولا هذا بفقره أفضل، ولا يصح أن يقال: هذا بالشكر أفضل من هذا بالصبر، ولا بالعكس، لأنهما مطيتان للإيمان لا بد منهما»
(1)
.
رابعًا: أركان شكر الله تعالى:
الشكر في حقيقته هو القيام بثلاثة أركان، وهي:(شكر القلب، وشكر اللسان، وشكر الجوارح)، مع ما يكمل ذلك من محبة المشكور والخضوع له، واستعمال نعمه في مرضاته، على أن الإنسان لا يمكن أن يكافئ نعم الله عليه، ولا أن يقوم بوظيفة الشكر لله تَعَالَى، كما دل على ذلك قوله تَعَالَى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]، وقد دل آخر الآية على تقصير بني آدم في شكر النعم؛ لأن من لا يستطيع إحصاء النعم كيف يقوم بشكرها؟ بل وأي نعمة يعرفها قد لا يدرك حقيقتها، فكيف يقوم باتمام شكرها؟ ولكن حسب الإنسان أن يسدد ويقارب.
(1)
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم الجوزية (ص: 76).
وفيما يلي بيان موجز لهذه الأركان:
1 -
شكر القلب:
وهو معرفة القلب وإقراره بأن ما بالعبد من نعمة فهي فضل من الله تَعَالَى وحده، وأن ذلك إحسان منه رحمه الله، حتى لو وصلت بعض هذه النعم على يد عبد من عباد الله، إلا أن الشكر أولًا وأخيرًا لله الذي سخر ذلك العبد ليوصلها إليك، فالله تَعَالَى هو الذي أجراها على يديه، وإلا فهو لا يد له فيه ولا صنع، يقول سبحانه وتعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].
وهذا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، حين أمر المسلم أن يقول إذا أصبح وإذا أمسى:«مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ، أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ ذَلِكَ اليَوْمِ»
(1)
.
ومن هنا ندرك أن العبد لا خروج له عن نعمة ربه وفضله ومنته وإحسانه طرفة عين، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فالله تَعَالَى هو الذي يمنح النعم لا أحد سواه يشاركه، فلا يقول الإنسان كما قال قارون في قوله تَعَالَى:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78].
ويقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «الشكر: اسم لمعرفة النعمة؛ لأنها السبيل إلى معرفة المنعم، ولهذا سمى الله تَعَالَى الإسلام والإيمان في القرآن: شكرًا، فمعرفة النعمة: ركن من أركان الشكر، لا أنها جملة الشكر
…
، فالشكر
(1)
أخرجه ابن حبان (861)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، رقم الحديث:(5730).
اسم لمعرفة النعمة، مستلزمًا لمعرفة المنعم، ومعرفته تستلزم محبته، ومحبته تستلزم شكره»
(1)
.
2 -
شكر اللسان:
وهو الثناء على الله تَعَالَى بنعمه، وحمده عليها مع محبته والتحدث بها على سبيل الاعتراف بفضله وإظهار الفاقة، لا لرياء وسمعة وخيلاء؛ ليكون الذكر داعيًا إلى شكر القلب والجوارح.
«وشكر اللسان المتعلق بالنعمة نوعان:
عام: وهو وصفه بالجود والكرم، والبر والإحسان، وسعة العطاء، ونحو ذلك.
خاص: وهو التحدث بنعمته، والإخبار بوصولها إليه من جهته، كما قال تَعَالَى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، وفي هذا التحديث المأمور به قولان:
- أحدهما: أنه ذكر النعمة، والإخبار بها، وقوله: أنعم الله عليَّ بكذا وكذا، قال مقاتل: يعني اشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة: من جبر اليتم، والهدى بعد الضلال، والإغناء بعد العيلة، والتحدث بنعمة الله شكر، كما في حديث جابر مرفوعًا:«مَنْ أُتِيَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَلْيُكَافِئْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَلْيَذْكُرْهُ، فَمَنْ ذَكَرَهُ، فَقَدْ شَكَرَهُ، وَمَنْ تَشَبَّعَ بِمَا لَمْ يَنَلْ، فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ»
(2)
.
(1)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 238).
(2)
سبق تخريجه.
فذكر أقسام الخلق الثلاثة: شاكر النعمة المثني بها، والجاحد لها والكاتم لها، والمظهر أنه من أهلها، وليس من أهلها، فهو متحل بما لم يعطه.
- والقول الثاني: أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية: هو الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالته، وتعليم الأمة، قال مجاهد: هي النبوة، قال الزجاج: أي بلغ ما أرسلت به، وحدث بالنبوة التي آتاك الله. وقال الكلبي: هو القرآن، أمره أن يقرأه.
- والصواب: أنه يعم النوعين؛ إذ كل منهما نعمة مأمور بشكرها والتحدث بها، وإظهارها من شكرها»
(1)
.
3 -
شكر الجوارح:
يقول ابن القيم رحمه الله: «وأما الشكر فهو القيام له بطاعته والتقرب إليه بأنواع محابه ظاهرًا وباطنًا»
(2)
، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:«الشكر هو الاعتراف بالنعمة، والقيام بالخدمة»
(3)
.
فشكر الجوارح معناه: قيام الجوارح بالعبودية لله رب العالمين؛ لأن كل جارحة لها حظها من العبودية، ولا يتم ذلك إلا بالعمل بطاعة الله تَعَالَى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بفعل المأمور واجتناب المحذور، ويدخل في ذلك صرف نعمه فيما يحبه ويرضاه، والاستعانة بها على طاعته، والحذر من صرفها في معصيته، أو الاستعانة بها على ذلك، ومن لوازم ذلك معرفة ما يحبه
(1)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (2/ 239).
(2)
الفوائد (ص: 234).
(3)
فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني (3/ 15).
الله تَعَالَى لأجل أن تستعمل نعمه في محابه، قال تَعَالَى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، فجعل سبحانه وتعالى العمل شكرًا، ذلك أن الشكر سلوك عملي، وليس كلمة تقال باللسان، كما أن الإيمان سلوك عملي وليست كلمة تقال باللسان، يقول صلى الله عليه وسلم:«يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى»
(1)
، وهذا الحديث دليل بين على أن الشكر يكون بالعمل والطاعة.
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(720).
(2)
عدة الصابرين، لابن القيم (ص 134).
ومن هذا الباب: شُرع سجود الشكر عند تجدد النعم أو اندفاع النقم، سواء كانت عامة أو خاصة، وذلك بأن يخر المسلم لله ساجدًا، فيضع أشرف عضو من أعضائه- وهو الوجه - على الأرض، ويذكر الله ربه في هذا السجود، وهو على هذه الحال بأنواع الذكر من الشكر والتسبيح والدعاء والاستغفار وغيرها، فيكون قد شكر المنعم رحمه الله بهذا السجود بقلبه ولسانه وجوارحه، وقد ثبت في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه أنه لما جاءه البشير بتوبة الله عليه خر ساجدًا لله تَعَالَى
(1)
.
خامسًا: تحقيق مرتبة الشكر لله تعالى:
لا بد للعبد- ليكون من الشاكرين- أن يستحضر عدة أمور ويستشعرها، ويحرص أن لا تغيب عن ذهنه، ومنها:
التفكر في نعم الله تَعَالَى واستحضارها وتذكرها؛ فالإنسان في كل حالة من أحواله في نعمة، بل لا يمر عليه لحظة في حياته إلا وهو يتقلب في نعم الله تَعَالَى، واستحضار هذه النعم والوقوف عليها يوجه انتباهه لنعم كثيرة كان غافلًا عنها فيزداد شكرًا لله تَعَالَى، وفي هذا استجابة لأمر الله تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [فاطر: 3].
النظر إلى من هو أقل في أمور الدنيا؛ إن نظر الإنسان إلى من هو دونه في الدنيا يجعله يعلم ويستعظم ما أعطاه الله تَعَالَى وفضله به من نعم على غيره، فمن كان دخله مئتين فلينظر إلى من دخله مئة، ومن كان بعين واحدة فلينظر إلى من فقد كلتا عينيه، ومن كان مريضًا بمرض واحد فلينظر إلى من مرض
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4418)، ومسلم، رقم الحديث:(2769).
بعدة أمراض، وهذا أجدر لمعرفة النعم واستشعارها، قال صلى الله عليه وسلم:«انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»
(1)
، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مُبْتَلًى، فَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَيكَ، وَعَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ تَفْضِيلًا؛ كَانَ شَكَرَ تِلْكَ النِّعْمَةِ»
(2)
.
أن يفكر الإنسان في حاله، ويتأمل حياته لو أنه خسر هذه النعمة؛ فينظر كيف حاله، فإن كان غنيًّا فإلى حاله لو كان فقيرًا، وإن كان صحيحًا فإلى حاله لو كان في عداد المرضى، وهكذا كل نعمة لديه ينظر إلى حاله لو خسرها؛ ليعرف بذلك قدرها فيشكرها.
دعاء العبد ربه وسؤاله إياه أن يجعله من الشاكرين؛ فالعبد لا يستطيع أن يصل إلى مقام من مقامات الإيمان إلا بتوفيق الله تبارك وتعالى؛ ولذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: كن ذاكرًا شاكرًا وأحسن العبادة، وإنما أمره أن يدعو الله أن يعينه على ذلك؛ فقال صلى الله عليه وسلم له:«لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»
(3)
.
قراءة أخبار الشاكرين؛ فمن وقف على تراجم الشاكرين من العلماء والعباد والزهاد؛ اقتدى بهم؛ فازداد شكرًا لله تَعَالَى.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2963).
(2)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(4129)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(555).
(3)
سبق تخريجه.
استشعار سؤال الله عباده يوم القيامة عن شكر النعمة؛ فالعاقل يسأل نفسه الآن، فالوقت بين يديه، يستطيع إن لم يجد جوابًا أن يعمل ويحسن ويستعد بالجواب والصواب؛ لأن الله تَعَالَى سيسأله في يوم لايستطيع فيه العمل، يقول الله تَعَالَى:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، قال ابن كثير رحمه الله:«أي: ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك، ماذا قابلتم به نعمه من شكر وعبادة؟»
(1)
.
7 -
أن يعلم الإنسان يقينًا أن النعم إذا شُكرت استقرت وزادت، وإذا كُفرت فرَّت وزالت؛ يقول تَعَالَى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
8 -
عدم نسبة النعمة لغير الرب رحمه الله؛ فنسبة النعمة لغير الله من كفر النعمة، فمن كان مريضًا فشفي، فشفاؤه بفضل الله أولًا، ثم بالأسباب الأخرى التي من فضل الله سُبْحَانَهُ أن سخرها له، يقول تَعَالَى في ذلك:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83] يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: «أي: يعرفون أن الله تَعَالَى هو المسدي إليهم ذلك، وهو المتفضل به عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك، ويعبدون معه غيره، ويسندون النصر والرزق إلى غيره»
(2)
.
اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، لك طائعين، إليك مخبتين، لك أواهين منيبين، اللهم اقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسننا، واسلل سخيمة قلوبنا.
(1)
تفسير القرآن العظيم (8/ 494).
(2)
تفسير القرآن العظيم (4/ 592).
الشَّهيدُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الشهادة: خبر قاطع، تقول منه: شهد الرجل على كذا، وربما قالوا: شهد الرجل، بسكون الهاء للتخفيف»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(شهد) الشين والهاء والدال أصل يدل على حضور وعلم وإعلام، لا يخرج شيء من فروعه عن الذي ذكرناه، من ذلك الشهادة، يجمع الأصول التي ذكرناها من الحضور، والعلم، والإعلام
…
والشاهد: الملك»
(2)
.
ورود اسم الله (الشهيد) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (الشهيد) في كتاب الله ثماني عشرة مرة، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166].
قوله عز وجل: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117].
3 -
قوله عز وجل: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46].
(1)
الصحاح (2/ 56).
(2)
مقاييس اللغة (3/ 221).
ورود اسم الله (الشهيد) في السنة النبوية:
ورد اسم (الشهيد) في السنة النبوية، و من وروده ما يلي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَال: ائْتِنِي بالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى باللهِ شَهِيدًا، قال: فَأْتِنِي بالكَفِيلِ، قال: كَفَى باللهِ كَفِيلًا، قال: صَدَقْتَ»
(1)
، وسيأتي-بإذن الله- تتمة الحديث في الأثر الثالث من الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الشهيد).
معنى اسم الله (الشهيد) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله في قولهتَعَالَى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 116، 117]: «وأنت تشهد على كل شيء؛ لأنه لا يخفى عليك شيء»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله، قال:«هو الذي لا يغيب عنه شيء، يقال: شاهد وشهيد، كعالم وعليم، أي: كأنه الحاضر الشاهد الذي لا يعزب عنه شيء»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2291).
(2)
تفسير الطبري (9/ 137).
(3)
شأن الدعاء (ص: 75).
قال ابن الأثير رحمه الله: «في أسماء اللهتَعَالَى «الشهيد» هو الذي لا يغيب عنه شيء، والشاهد: الحاضر وفعيل من أبنية المبالغة في فاعل، فإذا اعتبر العلم مطلقًا فهو العليم، وإذا أضيف إلى الأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد»
(1)
.
قال ابن الأثير رحمه الله في تفسير اسم الله الشهيد: «أنه يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «من أسمائه: (الشهيد) الذي لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء؛ بل هو مطلع على كل شيء، مشاهد له، عليم بتفاصيله»
(3)
.
قال ابن كثير رحمه الله: في قوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]«عليم بسرائرهم وما تُكِنُّ ضمائرهم»
(4)
.
قال عند قوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]: «أي: شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم»
(5)
.
(1)
النهاية في غريب الحديث (2/ 513).
(2)
النهاية في غريب الحديث (2/ 513).
(3)
مدارج السالكين (3/ 433).
(4)
تفسير ابن كثير (5/ 402).
(5)
المرجع السابق (5/ 402).
قال السعدي رحمه الله في قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء: 33]: «مطلعًا على كل شيء بعلمه لجميع الأمور، وبصره لحركات عباده، وسمعه لجميع أصواتهم»
(1)
.
وقال أيضًا رحمه الله موضحًا العلاقة بين اسم الله الرقيب واسمه الشهيد: «(الرقيب) و (الشهيد) مترادفان، وكلاهما يدل على إحاطة سمع الله بالمسموعات، وبصره بالمبصرات، وعلمه بجميع المعلومات الجلية والخفية، وهو الرقيب على ما دار في الخواطر، وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان، قال تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وقال تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6]»
(2)
.
اقتران اسم الله (الشهيد) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله الشهيد بأي اسم من أسماء الله تَعَالَى.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الشهيد):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الشهيد) من الصفات، ودلالته على التوحيد:
الله سُبْحَانَهُ الشهيد الذي شهد بعلمه وسمعه وبصره، فعلمه أحاط بالمعلومات، وسمعه أحاط بالمسموعات، وبصره أحاط بالمبصرات، فلا يخفى عليه شيء من مخلوقاته ظاهرها وباطنها، كبيرها وصغيرها، يرى
(1)
تفسير السعدي (ص: 176).
(2)
الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 58 - 59).
مكانها، ويسمع أصواتها، ويعلم أحوالها كما قال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5].
- ومن مظاهر شهوده سُبْحَانَهُ:
- هو الشهيد الذي يرى الكون كله وهو مستو على عرشه، يرى الهباءة الطائرة والجبال الشاهقة، ويرى الحيوانات والنباتات والذرات في قعر البحر الأسود، ويسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء فسبحان {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 9].
- هو الشهيد القريب من خلقه، الذي يراهم جميعًا في آن واحد، ويسمع ما يتناجون به ويرى ما يخوضون فيه، ويعلم ما يجول في خواطرهم، وما تهجس به ضمائرهم، ولا يغيب عنه من أمرهم شيء يقولونه أو يفعلونه أو يكتمونه قال تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ
(1)
وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].
- هو الشهيد الذي يشهد أعمال العباد، ظاهرها وباطنها، خيرها وشرها، ويحصيها عليهم قبل فعلها وبعد فعلها؛ لأنه علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ، قال تَعَالَى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6]
(2)
.
(1)
تخصيص القرآن بالذكر مع أنه داخل فيما قبله {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} وما بعده {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} تعظيمًا لشأنه ودعوة للعناية به.
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 918).
- هو الشهيد على ما يكون بين العباد من حقوق ومظالم وخصومات، فيشهد ويفصل بينهم يوم القيامة، كما قال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17].
- هو الشهيد الذي شهد بالحق، فشهد لنفسه بالتوحيد، فقال سُبْحَانَهُ:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]«فتضمنت هذه الآية أجل شهادة وأعظمها، وأعدلها وأصدقها، من أجل شاهد بأجل مشهود»
(1)
.
شهد لكتابه بأنه منزل من عنده، فقال سُبْحَانَهُ:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166].
وشهد لرسوله بالرسالة والصدق، فقال سُبْحَانَهُ:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43].
- وشهادته سُبْحَانَهُ أعظم وأعلى وأرفع شهادة، شهادة حضور ومعاينة، فلا يخفى عليه شيء من جوانب الحقيقة كما يحدث للبشر، لا غلط فيها ولا ظلم تَعَالَى عن ذلك، فمن شهد الله له فهو حسبه، ولا يحتاج إلى شهادة غيره، ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين الذين ينازعونه في التوحيد وفي صدق ما جاء قال تَعَالَى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ
(1)
مدراج السالكين، لابن القيم (3/ 418).
لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19]
(1)
، وفي حجة الوداع أشهد النبي صلى الله عليه وسلم ربه على إبلاغه الرسالة، وأداءه الأمانة، فقال صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلِّغٍ يُبَلِّغُهُ لِمَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ»
(2)
.
ومن رضي بشهادة «الشهيد» عز وجل لم يخيبه أبدًا، بل إنه سُبْحَانَهُ يملأ قلبه طمأنينة ورضا بأنه شهيد له وعليه، وكفى به شهيدًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: فَأْتِنِي بِالكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي البَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ التَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ
(3)
مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلَا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي
(1)
ينظر: المصدر السابق (635).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7078)، ومسلم، رقم الحديث:(1679).
(3)
أي: سوى موضع النقر وأصلحه، ويحتمل أن يكون مأخوذًا من الزج، وهو النصل، كأن يكون النقر في طرف الخشبة، فشد عليه زجًّا ليمسكه ويحفظ ما فيه، وقيل: معناه: سمرها بمسامير كالزج أو حشى شقوق لصاقها بشيء ورقعه بالزج. ينظر: النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير (2/ 296)، وفتح الباري، ابن حجر (4/ 471).
ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا»
(1)
.
فإذا تيقن العبد عِظم شهادة الشهيد، وأنه لا أكبر منها ولا أعظم، وأيقن إقامته للشهود، ثم علم أنه شهد لنفسه بالتوحيد وأشهد خواص خلقه من الملائكة وأهل العلم عليه، كما قال سُبْحَانَهُ:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
[آل عمران: 18]؛ أقام نفسه على توحيده سُبْحَانَهُ وإفراده بالعبادة، فلم يتوجه ولم يقصد غيره سُبْحَانَهُ
(2)
.
الأثر الثاني: الشهيد سُبْحَانَهُ يقيم شهودًا من خلقه يوم القيامة؛ لكمال عدله:
ومع أن شهادته سُبْحَانَهُ تعتبر أكبر شهادة وكفى بها، إلا أن الله من تمام عدله لا يكتفي بشهادة نفسه سُبْحَانَهُ بل يقيم الشهود يوم القيامة، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزمر: 69].
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2291).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 124 - 125).
(1)
.
فيشهد الأنبياء على أممهم، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ} [النحل: 89]، وقال أيضًا:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41].
وتشهد أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم بتبليغ الأنبياء رسالات الله إليهم، قال تَعَالَى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]، وقال تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
وجاء تفسير هذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ،
(1)
المرجع السابق (ص: 730).
فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ:{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]» والوسط: العدل.
(1)
وأيضًا هذه الأمة يشهد بعضها على بعض، فتقبل شهادتها: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «مَرُّوا بِجِنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ» . ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وَجَبَتْ». فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: مَا وَجَبَتْ؟ قال: هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الأَرْضِ»
(2)
.
وتشهد الملائكة الكرام الكاتبون الذين يرقبون أعمال العبد وأقواله، ويتلقيان أعماله كلها، كما قال تَعَالَى:{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17] ويشهدان عليه بما عمل، قال تَعَالَى:{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21]، قال ابن كثير رحمه الله:«ملك يسوقه إلى المحشر، وملك يشهد عليه بأعماله»
(3)
.
وتشهد الجوارح والأعضاء على أصحابها، فإن الكافر يوم القيامة يحاول الفرار من عذاب الله بكتمان ما عمل كما قالسُبْحَانَهُ:{فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 28]، وقال حكاية
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4487).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1367) واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(949).
(3)
تفسير ابن كثير (7/ 401).
عن قولهم: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر: 74] وقولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، فإذا أنكرت ألسنتهم ما عملوه، أقام الشهيد عليهم شهادة الجوارح والأعضاء فيشهد عليهم كل عضو من أعضائهم، فكل عضو يقول: أنا فعلت كذا وكذا، يوم كذا وكذا
(1)
كما قال سُبْحَانَهُ: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، وقال تَعَالَى:{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 20، 21].
(2)
.
وكما أن هذه الأعضاء تشهد على أصحابها بكل سوء عملوه، كذلك تشهد لهم بكل خير عملوه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأصابع حين يسبح بها الله: «عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ
(1)
تفسير السعدي (747).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2969).
مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ»
(1)
.
بل لو قدر الله بعدله دخول أحد من عباده النار لذنوبه، فإن من كرمه تَعَالَى أن النار لا تمس مواضع الوضوء والسجود، جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«وَحَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ»
(2)
.
وتشهد الأرض بما عمل عليها من خير أو شر، كما قال تَعَالَى:{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 4]، قال ابن كثير رحمه الله:«تحدث بما عمل العاملون على ظهرها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]، قال: أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا، أَنْ تَقُولَ: عَمِلْتَ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، قال: فَهُوَ أَخْبَارُهَا»
(3)
»
(4)
.
فإذا علم العبد هذا حرص أن يطيع الله بهذه الجوارح والجلود، وحرص على أن لا يعصي الله على أرضه، وإذا حصلت منه معصية حاول محيها بفعل طاعة في نفس الموطن، مستشعرًا قول الله تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(27731)، والترمذي، رقم الحديث:(3583). حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي (3583).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(806).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8989)، والترمذي، رقم الحديث:(2429)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2429).
(4)
تفسير ابن كثير (8/ 461).
ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:«وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا»
(1)
قالوا: الحسنة قول العبد: أستغفر الله، وقيل: فعل الطاعة.
الأثر الثالث: مراقبة الله الشهيد:
إذا أيقن المؤمن بشهادة الشهيد جل جلاله، وعلم أن ربه شهيد عليم خبير يراه، ويسمع كلامه ويعلم سره وعلانيته، أورثه ذلك مراقبة الله التي توجب له حراسة باطنه عن كل فكر وهاجس يبغضه الله، وحفظ ظاهره عن كل قول أو فعل يسخط الله، وتعبد بمقام الإحسان فعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه
(2)
.
كما يورث العبد تحري الإخلاص في أقواله وأعماله؛ لأن الله عز وجل شاهد على ما في القلوب من النوايا والمقاصد، قال تَعَالَى:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، ولا يقبل إلا ما كان خالصًا صوابًا.
ويقين العبد باسم الله الشهيد يورثه- أيضًا- الحذر من ظلم العباد والتعدي على حقوقهم؛ لأن الله شاهد على ذلك، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17].
الأثر الثالث: الحياء من الله الشهيد جل جلاله
-:
إذا علم العبد أن الله شهيد مطلع عليه، عالم بسره ونجواه، وغيبه وشهادته؛ أورثه ذلك الحياء منه، فاستحيا أن يراه حيث نهاه، وألا يكون حيث أمر الله.
(1)
أخرجه أحمد (21750)، والترمذي، رقم الحديث:(1987)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(1987).
(2)
ينظر: الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 58 - 59).
والحياء من الله أعظم الحياء شأنًا وأعلاه مكانة، وينشأ عن أمور ثلاثة:
الأول: رؤية نعمة الله ومنته وفضله على العبد.
الثاني: رؤية تقصير العبد في حق الله، وقيامه بما يجب عليه من امتثال أوامره واجتناب نواهيه.
الثالث: رؤية اطلاع الله على العبد في كل أحواله وشؤونه.
فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة في القلب، تحرك فيه الحياء من الله، الذي ينشأ عنه كل خير وفضيلة كما قال صلى الله عليه وسلم:«الحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ»
(1)
، فإذا وجد انكفت النفس عن الأخلاق الرذيلة، والمعاملات السيئة والأفعال المحرمة، وأقبلت النفس على فعل الواجبات، والعناية بمكارم الأخلاق وعظيم الآداب وجميلها.
الأثر الرابع: محبة الله الشهيد:
إذا علم العبد أن الله شهيد، وأنه يراه ويسمع كلامه، ويعلم سره وعلانيته، وهو أقرب إليه من نفسه وشهد ذلك كله، أورثه هذا حبه والسعي إلى مرضاته.
الأثر الخامس: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33]:
على العبد إذا علم أن الله شاهد على جميع شئونه أن يؤدي حق الشهادة، ومن ذلك:
1 -
الإشهاد فيما أمر الله أن يشهد فيه، كالإشهاد في أداء مال اليتيم، قال تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6117)، ومسلم، رقم الحديث:(37).
وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6].
2 -
أداءها وعدم كتمانها، قال تَعَالَى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، فإذا دعي الشاهد لأدائها فعليه الإجابة
(1)
.
وقد حرم الله تَعَالَى كتمانها، فقال سُبْحَانَهُ:{فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]؛ لأن الحق مبني عليها لا يثبت بدونها، فكتمها من أعظم الذنوب، لأنه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق ويخبر بضده وهو الكذب، ويترتب على ذلك فوات حق من له الحق
(2)
.
3 -
إقامتها من غير خيانة ولا تزوير، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33].
قال السعدي رحمه الله: «لا يشهدون إلا بما يعلمونه، من غير زيادة ولا نقص ولا كتمان، ولا يحابي فيها قريبًا ولا صديقًا ونحوه، ويكون القصد بها وجه الله»
(3)
.
ووردت نصوص تحذر من شهادة الزور، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ، ثَلَاثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 725).
(2)
تفسير السعدي (ص: 120).
(3)
المصدر السابق (ص: 887).
الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ»
(1)
؛ لأن مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد بخلاف مفسدة الشرك؛ إذ إنها قاصرة عليه.
4 -
عدم شهادة مجالس الزور، قال تَعَالَى في وصف عباده:{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] أي: لا يحضرون الزور من القول والفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة، كالشهادة بالباطل، والخوض في آيات الله، والجدال الباطل، والغيبة والنميمة، والسب والقذف، والاستهزاء، والغناء المحرم، وشرب الخمر، وفرش الحرير، والصور، ونحو ذلك
(2)
.
الأثر السادس: الحرص على شهود الأوقات الفاضلة:
معرفة العبد بأن ربه شهيد؛ يجعله حريصًا كل الحرص على شهود الأوقات التي تتنزل فيها الرحمات، ويتقرب فيها من الحق عز وجل، ومن تلك الأوقات:
صلاة الفجر: قال تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
يقول ابن القيم رحمه الله: «قيل: يشهده الله عز وجل، وملائكته، وقيل: يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فيتفق نزول هؤلاء وصعود أولئك، فيجتمعون في صلاة الفجر؛ وذلك لأنها أول ديوان النهار وآخر ديوان الليل، فيشهدها
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2654)، ومسلم، رقم الحديث:(87).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 587).
ملائكة الليل والنهار، واحتج لهذا القول بما في الصحيح من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلَاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً، وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ» . يقول أبو هريرة: واقرأوا إذا شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78])
(1)
، وهذه الشهادة شهادة خاصة، وهي شهادة حضور ودنو متصل بدنو الرب، ونزوله إلى سماء الدنيا في الشطر الأخير من الليل، كما جاء في الأحاديث الصحاح التي أثبتت نزول الرب رحمه الله، وهو نزول يليق بجلاله وعظمته وندائه لأهل الأرض:«إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ، أَوْ ثُلُثَاهُ، يَنْزِلُ اللهُ تبارك وتعالى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ»
(2)
.
ففي هذه الأحاديث: أن النزول يدوم إلى صلاة الفجر، وعلى هذا يكون شهود الله لقرآن الفجر مع شهود ملائكة الليل والنهار له هذه خاصة بصلاة الصبح ليست لغيرها من الصلاة، (حَتَّى يَسْطَعَ الفَجْرُ)
(3)
، وذلك هو وقت صلاة الفجر
…
»
(4)
.
فإذا علم العبد ذلك الفضل العظيم حرص على هذا الوقت الشريف وشهوده، كما جاء في الحديث:«مَنْ صَلَّى صلاة الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ»
(5)
أي:
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4717).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث (758).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(3898)، وابن خزيمة في التوحيد، رقم الحديث:(1/ 137).
(4)
طريق الهجرتين، ابن القيم (ص: 212 - 213).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(657).
حفظه، وفي رواية:«وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ»
(1)
.
2 -
يوم الجمعة: لأن هذا اليوم يشهد عليك أو يشهد لك أمام الله، وقد فسر بعض العلماء الشاهد في قوله تَعَالَى:{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] بالجمعة، قال ابن جرير رحمه الله:«وأقسم بشاهد، قالوا: وهو يوم الجمعة، ومشهود، قالوا: وهو يوم عرفة»
(2)
.
3 -
يوم عرفة: الذي يدنو فيه الرب عز وجل، ويباهي بأهل الموقف أهل سمواته، ثم يقول سبحانه وتعالى:«مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟»
(3)
، وقد فسر بعض العلماء المشهود في قوله تَعَالَى:{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] بعرفة، قال ابن جرير رحمه الله:«ومشهود، قالوا: وهو يوم عرفة»
(4)
.
4 -
مجالس الذكر: التي تحفُّها الملائكة وتغشاها الرحمة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»
(5)
.
فاللهم يا شهيد يا مجيد، اجعلنا ممن يعبدك كأنه يراك، واجعلنا ممن يشهد كل خير.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(656).
(2)
تفسير الطبري (24/ 263).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
تفسير الطبري (24/ 263).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2699).
الصَّمدُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «
…
والمصمد: لغة في المصمت، وهو الذي لا جوف له
…
وصمده يصمده صمدًا، أي: قصده. والصمد: السيد؛ لأنه يُصمد إليه في الحوائج»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(صمد) الصاد والميم والدال أصلان: أحدهما القصد،
…
فالأول: الصمد: القصد. يقال: صمدته صمدًا، وفلان مصمد؛ إذا كان سيدًا يقصد إليه في الأمور، وصمد أيضًا، والله جل ثناؤه الصمد؛ لأنه يصمد إليه عباده بالدعاء والطلب
…
»
(2)
.
ورود اسم الله (الصمد) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الصمد) في كتاب الله مرة واحدة، وذلك في قوله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2].
(1)
الصحاح، للجوهري (2/ 499).
(2)
مقاييس اللغة، لابن فارس (3/ 309).
ورود اسم الله (الصمد) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الصمد) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
(1)
.
(2)
.
معنى اسم الله (الصمد) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «(الصمد): الذي ليس بأجوف»
(3)
قال ابن عباس أيضًا: «هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد عظم في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22965)، وأبو داود (1493)، والترمذي، رقم الحديث:(3475)، حكم الألباني: صحيح، صحيح سنن أبي داود، رقم الحديث:(1493).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
تفسير الطبري (24/ 731).
جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سُبْحَانَهُ هذه صفته، لا تنبغي إلا له»
(1)
.
قال الشعبي رحمه الله: «(الصمد) الذي لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب»
(2)
.
قال عكرمة رحمه الله: «الذي لم يخرج منه شيء، ولم يلد، ولم يولد»
(3)
.
قال الطبري: الصمد عند العرب: هو السيد الذي يصمد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمى أشرافها»
(4)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «الصمد: السيد الذي قد انتهى سودده، فالناس يصمدونه في حوائجهم، أي: يقصدونه ويعتمدونه»
(5)
.
قال الخطابي رحمه الله: «(الصمد): هو السيد الذي يصمد إليه في الأمور، ويقصد في الحوائج والنوازل»
(6)
.
قال الحليمي رحمه الله: «ومنها الصمد: ومعناه المصمود بالحوائج، أي المقصود»
(7)
.
(1)
تفسير الطبري (24/ 736).
(2)
تفسير الطبري (24/ 732).
(3)
تفسير الطبري (24/ 736).
(4)
ينظر: تفسير الطبري (24/ 691 - 693).
(5)
اشتقاق أسماء الله (ص: 252).
(6)
شأن الدعاء، للخطابي (ص 58).
(7)
المنهاج في شعب الإيمان، للحليمي (1/ 201).
قال ابن القيم رحمه الله: «فإن الصمد من تصمد نحوه القلوب بالرغبة والرهبة؛ وذلك لكثرة خصال الخير فيه، وكثرة الأوصاف الحميدة له»
(1)
.
قال السعدي رحمه الله: «الصمد: هو الذي تقصده الخلائق كلها في جميع حاجاتها وأحوالها وضروراتها؛ لما له من الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله»
(2)
.
(3)
.
وكل ما سبق من الأقوال يصح أن يوصف به ربنا عز وجل؛ لأن الصمد اسم دال على جملة من الأوصاف، لا على صفة معينة
(4)
.
قال أبو القاسم الطبراني رحمه الله كما نقل ابن كثير بعد إيراده لكثير من الأقوال في تفسير الصمد-: «وكل هذه صحيحة، وهي صفات ربنا عز وجل، وهو الذي يصمد إليه في الحوائج، وهو الذي قد انتهى سؤدده، وهو الصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خلقه»
(5)
.
(1)
الصواعق المرسلة، لابن القيم (3/ 1025).
(2)
تفسير السعدي (ص: 945).
(3)
الحق الواضح المبين، للسعدي (ص 75).
(4)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 99).
(5)
تفسير ابن كثير (8/ 529).
وقال ابن القيم رحمه الله:
وَهوَ الإِلَهُ السَّيِّدُ الصَّمَدُ الَّذِي
…
صَمَدَتْ إِلَيْهِ الخَلْقُ بِالإِذْعَانِ
الكَامِلُ الأَوْصَافِ مِنْ كُلِّ الوُجُو
…
هِ كَمَالُهُ مَا فِيهِ مِنْ نُقْصَانِ
(1)
اقتران اسم الله (الصمد) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
- اقتران اسم الله الصمد باسمه الأحد:
لم يقترن اسم الله «الصمد» إلا باسم الله «الأحد» ، وذلك في قوله تَعَالَى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2].
وجه الاقتران راجع إلى أمرين:
للدلالة على أن الأحد المتفرد بالكمال في أسمائه وصفاته وأفعاله هو المستحق بأن تصمد له القلوب وتنزل به الحوائج.
للدلالة على انفراد الله عز وجل بجميع صفات الكمال، قال ابن رجب رحمه الله:«فالصمدية تثبت الكمال المنافي للنقائص، والأحدية تثبت الانفراد بذلك»
(2)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الصمد):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الصمد) من الصفات:
الله عز وجل الصمد السيد العظيم الذي له الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، قال تَعَالَى:{اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2]
(3)
.
(1)
نونية ابن القيم (ص: 209).
(2)
تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 671).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 945)
فهو الصمد في ذاته التي لا يقدر قدرها ولا كمالها ولا جلالها إلا هو سُبْحَانَهُ، فتعالت ذاته العلية عن النقائص فلم تحتج إلى جوف ولا أحشاء ولا طعام ولا شراب ولا داخل ولا خارج، كما هو الحال في المخاليق، قال تَعَالَى:{اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 2، 3]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] وقرأ بعضهم بالفتح: «ولا يَطْعَمُ» أي: لا يأكل
(1)
.
وهو الصمد في أسمائه فكلها حسنى بلغت من الكمال المنتهى، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]، و تعالت عن الدلالة على الذم والقدح، أو الدلالة على الاسم المجرد عن الصفة قال تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
وهو الصمد في صفاته، فلم يبق صفة كمال إلا اتصف بها، ووصف بغايتها وكمالها
(2)
.
فهو صمد في غناه، فلم يحتج للوالد ولا للولد فضلًا عن الصاحبة، قال تَعَالَى:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3]، وقال سُبْحَانَهُ:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]، أي: «كيف يكون لله الولد، وهو الإله السيد الصمد الذي لا صاحبة له، أي: لا زوجة له، وهو الغني عن مخلوقاته، وكلها فقيرة إليه، مضطرة في جميع أحوالها إليه، والولد لا بد أن يكون من جنس والده، والله
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 243).
(2)
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، للسعدي (ص: 202).
خالق كل شيء، وليس شيء من المخلوقات مشابهًا لله بوجه من الوجوه»
(1)
.
ولم يحتج للشريك ولا للوزير ولا للمعين ولا للنصير، قال تَعَالَى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
ولم يحتج للطعام ولا للشراب، قال تَعَالَى:{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57، 58]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14].
وهو صمد في حياته، فلم يحتج معها إلى خالق ولا والد ولا حافظ، قال تَعَالَى:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3]؛ فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، كما جاء في الحديث:«اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ»
(2)
.
ولا يعتري حياته ما ينقص كمالها من النوم والنعاس، ولا يهددها الموت، وإنما حياة دائمة، وبقاء لا انقطع معه، قال تَعَالَى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وقال سُبْحَانَهُ:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقال تَعَالَى أيضًا:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27].
وهو صمد في علوه، فما زال جل جلاله ولا يزال عاليًا بذاته مستويًا على عرشه، عاليًا بأسمائه وصفاته وأفعاله، لا يعلوه أحد، ولا يكون فوقه أحد لا في
(1)
تفسير السعدي (ص: 267).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2713).
الذات ولا في الأسماء ولا في الصفات ولا في الأفعال، قال تَعَالَى:{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]، وقال صلى الله عليه وسلم:«وأَنَتْ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ»
(1)
.
وهو الصمد في أفعاله فكلها حكمة، ورحمة، ومصلحة، وعدل كما جاء في الحديث:«لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ كُلُّه بِيَدِكَ، والشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ»
(2)
.
تعالت أفعاله سُبْحَانَهُ عن العبث واللهو، والظلم والجور، ونحو ذلك من النقائص.
وبذلك اجتمعت في الصمد صفات الشرف جميعها في الذات والأسماء والصفات والأفعال، واجتمعت فيه صفات السيادة كلها على وجه الكمال والدوام، فهي باقية لم تزل ولا تزال أبدًا، لا يطرأ عليها النقص ولا الآفات ولا الاختلال، كما هو الحال في المخلوق الذي يكون سؤدده وكماله في حال دون حال، ويعتيريه من النقص ما يعتريه
(3)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (الصمد) على التوحيد:
إن اسم الله «الصمد» وما فيه من الدلالة على صفات الكمال لله عز وجل؛ دال على أنواع التوحيد الثلاثة، وبيان ذلك على النحو الآتي:
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
ينظر: تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 671)، والحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 75)، والنهج الأسمى، للنجدي (2/ 102)، وفقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 130 - 131).
1 -
دلالته على توحيد الألوهية والربوبية:
إن اسم الله «الصمد» يضم جملة من الأسماء والصفات الدالة على الربوبية كالخلق، والرزق، والملك، والتدبير، والإحياء والإماتة ونحو ذلك، فإثباته إثبات لها على وجه الكمال؛ لما سبق من دلالة الصمد على الكمال.
ثم إن كل صفة من صفات الربوبية منفردة تدعو العبد إلى إفراد الله عز وجل بها، قال تَعَالَى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2]، فلا مثيل ولا نظير ولا شريك ولا والد ولا ولد، قال تَعَالَى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]
(1)
، ولا يستحق العبادة إلا هو سُبْحَانَهُ، وعبادة ما سواه باطل
(2)
، وحينئذ يفرد العبد ربه الصمد بجميع أنواع العبادة، فلا يَسجد ولا يركع ولا يصلي إلا لله، ولا يستغيث ولا يستعين، ولا يستعيذ إلا بالله، ولا يخاف ولا يرهب، ولا يشفق إلا من الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يرجو ولا يدعو ولا يسأل إلا الله الصمد تبارك وتعالى.
2 -
دلالته على توحيد الأسماء والصفات:
إن اسم الله «الصمد» وما فيه من الدلالة على قصد الخلائق له وصمودهم بين يديه؛ دال على اتصافه تبارك وتعالى بصفات الكمال، قال ابن رجب رحمه الله:«فإن السيد الذي يصمد إليه لا يكون إلا متصفًا بجميع صفات الكمال التي استحق لأجلها أن يكون صمدًا»
(3)
، وذلك كالحياة والعلم، والسمع، والبصر،
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 100 - 101).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 498).
(3)
ينظر: تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 671).
والغنى، والقدرة، والكلام، والاستواء، والعلو، ونحو ذلك، كما يدل- أيضًا- على انتفاء النقائص عنه سُبْحَانَهُ.
الأثر الثالث: محبة الله الصمد:
لا شك أن اسم الله «الصمد» يقود مَنْ تدبره وتأمل فيه لمحبة الله عز وجل؛ وذلك لأنه دال على صفات الكمال والجمال على الدوام للرب عز وجل من الحياة، والغنى، والعلو، وقصد الخلائق وهرعهم إليه في قضاء الحاجات وتفريج الكربات، إلى غير ذلك مما يدل عليه من الكمالات، ومن المعلوم أن القلوب فطرت على محبة من له الكمال والجمال.
ثم إذا تذكر العبد- أيضًا- أن كل كمال للمخلوق يشاهده أويسمع به، فيعجبه ويحب صاحبه لا شيء أمام كمال الله عز وجل يورثه ذلك محبة الله الذي هو أولى مَنْ يُحَب وَيُجَل.
الأثر الرابع: الزهد في الدنيا وعدم الاغترار بها:
إذا علم العبد أن ربه الصمد باق دائم بعد خلقه، قال تَعَالَى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فكل شيء زائل فان، المال والمتاع والجاه والسلطة والقوة، بل والأرض ومن عليها، والسماء وما فيها ومن فيها، والكون كله ما نعلم منه وما نجهل، كله هالك إلا وجه الله الصمد الباقي المتفرد بالبقاء
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلك أهل الأرض، فنزلت: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فأيقنت الملائكة بالهلاك»
(1)
.
(1)
تفسير القرطبي (17/ 165).
فمن عرف ذلك وتيقنه؛ زهد في الدنيا ومتاعها، وطلب الآخرة ونعيمها، قال تَعَالَى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60].
بخلاف من غفل عن ذلك أو تغافل، فألهته الدنيا بزخرفها، وصارت غايته وأكبر همه، وراح يطلبها بالمباح وبالحرام، حتى إنه ليعمل الصالحات يريد بها عرضًا من الدنيا غافلًا عن ثواب الآخرة، قال تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]، وقال عز وجل:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16].
وقوله تَعَالَى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15] أي: نعطيهم من متاع الدنيا ما كتب وقدر لهم في اللوح المحفوظ، لا ينقصون شيئًا منه، ولا يزيدون شيئًا منه، وإن بلغوا من الحرص عليها كل مبلغ
(1)
.
وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، والدِّرْهَمِ، والقَطِيفَةِ، والخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ»
(2)
.
قال ابن حجر رحمه الله: «قال الطيبي: قيل: خص العبد بالذكر؛ ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها، كالأسير الذي لايجد خلاصًا
…
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص 378).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2886).
وفيه إشارة إلى الدعاء عليه بما يثبطه عن السعي والحركة وسوغ الدعاء عليه؛ كونه قصر عمله على جمع الدنيا واشتغل بها عن الذي أمر به من التشاغل بالواجبات والمندوبات»
(1)
.
الأثر الخامس: قصد الله الصمد في جميع الحاجات:
لما كان ربنا عز وجل صمد، متصف بالكمال المطلق، فلا شيء فوقه، ولا شيء يعجزه، ولا شيء يفقره؛ صمدت إليه جميع المخلوقات، وقصدته كل الكائنات، وفزع إليه العالم بأسره، أهل سمائه وأرضه، صغيره وكبيره، ذكره وأنثاه، غنيه وفقيره، مسلمه وكافره، فالكل مفتقر إليه غاية الافتقار، قاصد إياه في جميع أحواله وشؤونه في أمر دينه ودنياه وآخرته، طارق بابه في مطالبه ومساعيه الضروري منه، والحاجي، والكمالي، يسأله بلسان الحال والمقال، لا يستغني عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، إليه وحده المفر، وفيه المرغب والمطمع، قال تَعَالَى:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
فهؤلاء الملائكة صمدوا إليه، فسألوه لأهل الإيمان، كما قال تَعَالَى:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} [غافر: 7، 8] الآيات.
وهؤلاء الأنبياء والمرسلين صمدوا إليه في مختلف أحوالهم، فسألوه في حال عبادتهم، كما قال تَعَالَى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
(1)
فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لابن حجر (11/ 254).
وسألوه في حال تقصيرهم وخطئهم، قال تَعَالَى عن آد عليه السلام م:{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقال تَعَالَى عن موسى عليه السلام لما قتل القبطي:{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16].
وسألوه في حال كربهم وشدتهم، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84].
وسألوه في حال نعمته عليهم، كما قال سُبْحَانَهُ عن سليمان عليه السلام:{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].
وسألوه ما يتعلق بالآخرة، كما قال سُبْحَانَهُ عن إبراهيم عليه السلام:{وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}
[الشعراء: 85 - 87].
وصمد إليه كذلك عباده الصالحون، كما قال سُبْحَانَهُ:{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10]، وقال:{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250].
بل وصمد إليه الكافرون المشركون، كما قال سُبْحَانَهُ: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ
وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22]، وقال تَعَالَى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
وكل هذا يوجب للعبد ألا يلجأ إلا لربه الصمد، ولا يطلب حاجته إلا منه، ولا تكون استعانته إلا به، ولا يكون توكله إلا عليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لا بن عباس رضي الله عنهما معلمًا ولغيره من الأمة:«يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»
(1)
(2)
.
فتجد المؤمن يصمد إلى ربه الصمد، فيرفع حوائجه إليه، ولا يشكو فاقته إلا إليه، ويتعلق به، ويتضرع إليه، ويرفع كفيه إليه يناديه ويناجيه، فما يلبث إلا ودعاؤه مجاب، وفاقته مسدوده، وحاجته مقضيه، كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ، لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ، أَوْشَكَ الله لَهُ بِالْغِنَى، إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ، أَوْ غِنًى عَاجِلٍ»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(2713)، والترمذي، رقم الحديث:(2516)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2516).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 106).
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1645)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1645).
ولا يقتصر في سؤاله على مطالب الدنيا، بل يضم إلى ذلك مطالب الدين والآخرة؛ فيقصد ربه الصمد بسؤال الهداية والإعانة على الطاعة، والمغفرة والرحمة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار ونحو ذلك؛ كما جاء في حديث محجن بن الأدرع «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فإذا رجل قد قضى صلاته، وهو يتشهد فقال: اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قَدْ غُفِرَ لَهُ. ثلاثًا»
(1)
.
ويقصده- أيضًا- بالاستغفار والتوبة عند الوقوع في المعصية، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آلعمران: 135]، وجاء عن أنس رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قَالَ الله تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»
(2)
.
الأثر السادس: عدم قصد المخلوق بالسؤال:
إذا تأمل العبد في اسم الله (الصمد) وما فيه من الترغيب في قصد بابه، باب من بيده مقاليد كل شيء، باب من هو على كل شيء قدير، باب الكريم
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3540)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3540).
الجواد الذي يحب أن يسأل ويرغب إليه في الحوائج والنوائب والمزعجات، ويحب أن يتضرع إليه في الشدائد والكربات والملمات، ويحب أن يستغاث به في المصاعب والمشقات، ويحب الإلحاح في السؤال والدعاء، ويغضب على من لا يسأله، ويدعو عباده لسؤاله: هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وهو عند حاجة خلقه، ولديه تفريج كربهم، السميع لندائهم، العليم بحالهم، واسع الرحمة والرأفة والحنان والكرم، عظيم القدرة والعزة والسلطان
(1)
.
ثم نظر متأملًا في المخلوق وما فيه من الفقر والعجز والشح والكره للسؤال والإلحاح فيه، والرغبة في عدمه؛ دعاه هذا إلى الزهد في سؤال المخلوق وقصد بابه، وقطع تعلق القلب به وإن عظم جاهه وعلا منصبه، ولهذا قال وهب بن منبه رحمه الله لرجل كان يأتي الملوك:«ويحك، تأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره، ويواري عنك غناه، وتدع من يفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول: ادعني أستجب لك؟!»
(2)
.
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 830، 937)، الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 75).
(2)
صفة الصفوة، لابن الجوزي (1/ 454).
(3)
المصدر السابق (1/ 454).
ودخل هشام بن عبدالملك الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبدالله، فقال له: يا سالم سلني حاجة، فقال له: إني لأستحيي من الله أن أسأل في بيت الله غير الله، فلما خرج خرج في أثره، فقال له: الآن قد خرجت، فسلني حاجة، فقال له سالم: حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال: بل من حوائج الدنيا، فقال له سالم: ما سألت من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها
(1)
.
ومن هنا كان سؤال المخلوق مذمومًا، ووبالًا على صاحبه يوم القيامة إن كان من غير حاجة؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ»
(2)
.
وقد تكفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة لمن ترك السؤال، فعن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَكَفَّلَ لِى أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا وَأَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟ فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل الناس شيئًا»
(3)
، فحري بالعبد أن يزهد في سؤالهم، ويرغب في باب ربه الصمد.
الأثر السابع: دعاء الله باسمه الصمد:
إن يقين العبد باسم الله «الصمد» الذي تصمد إليه الخلائق كلها، وتقصده بالدعاء في الشدائد والمسرات ومختلف الأحوال، يدعو العبد إلى قصد باب
(1)
المصدر السابق (1/ 353).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1040).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22807)، وأبو داود، رقم الحديث:(1643)، وابن ماجه، رقم الحديث:(1837)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1643).
الصمد، والتضرع إليه بالدعاء والسؤال، ولا سيما باسمه الصمد؛ امتثالًا لقوله تَعَالَى:
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
ولا سيما- أيضًا- بما ورد في السنة مما هو مظنة الإجابة؛ فعن محجن بن الأدرع رضي الله عنه، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فإذا رجل قد قضى صلاته، وهو يتشهد فقال: اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قَدْ غُفِرَ لَهُ. ثلاثًا
(1)
.
وعن عبدالله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال:«سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا، يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله في هذا الدعاء: «فهذا توسل إلى الله بتوحيده، وشهادة الداعي له بالوحدانية، وثبوت صفاته المدلول عليها باسم الصمد
…
وبنفي التشبيه والتمثيل عنه، بقوله تَعَالَى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة، والتوسل بالإيمان بذلك»
(3)
.
فاللهم إنا نسالك يا الله بأنك الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أن تغفر لنا ذنوبنا؛ إنك أنت الغفور الرحيم.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 47).
الظَّاهر والباطنُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
أولًا: المعنى اللغوي لاسم (الظاهر):
قال الجوهري رحمه الله: «الظهر: خلاف البطن، وقولهم: لا تجعل حاجتى بظهر، أي: لا تنسها»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الظاء والهاء والراء أصل صحيح واحد يدل على قوة وبروز، من ذلك: ظهر الشيء يظهر ظهورًا فهو ظاهر؛ إذا انكشف وبرز، ولذلك سمي وقت الظهر والظهيرة، وهو أظهر أوقات النهار وأضوؤها، والأصل فيه كله: ظهر الإنسان، وهو خلاف بطنه، وهو يجمع البروز والقوة
…
»
(2)
.
ثانيًا: المعنى اللغوي لاسم (الباطن):
قال الجوهري رحمه الله: «البطن: خلاف الظهر»
(3)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الباء والطاء والنون أصل واحد لا يكاد يخلف، وهو إنسي الشيء والمقبل منه، فالبطن خلاف الظهر، تقول: بطنت الرجل: إذا
(1)
الصحاح (2/ 293).
(2)
مقاييس اللغة (3/ 471).
(3)
الصحاح (5/ 357).
ضربت بطنه، قال بعضهم: إذا ضربت موقرًا فابطن له، وباطن الأمر دخلته، خلاف ظاهره، والله تَعَالَى هو الباطن؛ لأنه بطن الأشياء خبرًا، تقول: بطنت هذا الأمر: إذا عرفت باطنه»
(1)
.
ورود اسم الله (الظاهر و الباطن) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الظاهر و الباطن) في كتاب الله مرة واحدة، وهي: قول الله عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
ورود اسم الله (الظاهر و الباطن) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الظاهر و الباطن) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
(2)
.
(1)
مقاييس اللغة (1/ 259).
(2)
أخرجه مسلم (2713).
معنى اسم الله (الظاهر و الباطن) في حقه سُبْحَانَهُ:
أولًا: معنى اسم «الظاهر» في حقه تعالى:
يدور معنى اسم الله «الظاهر» في حقه تَعَالَى حول علو الله تَعَالَى وفوقيته، وأحسن التفسيرات للمعنى وأكملها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم:«وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ»
(1)
.
ومن أقوال العلماء في ذلك:
قال الطبري رحمه الله: «وهو الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «اسمه (الظاهر) من لوازمه: أن لا يكون فوقه شيء، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ»
(3)
؛ بل هوسُبْحَانَهُ فوق كل شيء، فمن جحد فوقيته سُبْحَانَهُ فقد جحد لوازم اسمه الظاهر، ولا يصح أن يكون الظاهر هو من له فوقية القدر فقط،
…
مقابلة الاسم بـ «الباطن» ، وهو الذي ليس دونه شيء، كما قابل الأول الذي ليس قبله شيء، بـ «الآخر» الذي ليس بعده شيء»
(4)
.
قال السعدي رحمه الله: «والظاهر: يدل على عظمة صفاته، واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات، وعلى علوه»
(5)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
تفسير ابن جرير (22/ 385).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
مدارج السالكين (1/ 55).
(5)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 170).
وقد ذكره ابن القيم رحمه الله في نونيته:
والظَّاهِرُ العَالِي الَّذِي مَا فَوْقَهُ
شَيْءٌ كَما قَدْ قَالَ ذُو البُرْهَانِ
حَقًّا رَسُولُ اللهِ ذَا تَفْسِيرُهُ
وَلَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِضَمَانِ
ثانيًا: معنى اسم الله «الباطن» في حقه تعالى:
أحسن التفاسير وأكملها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: «وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ»
(1)
.
قال الطبري رحمه الله: «{وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] يقول: وهو الباطن جميع الأشياء، فلا شيء أقرب إلى شيء منه، كما قال تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]»
(2)
.
قال الزجاج رحمه الله: «الباطن هو العالم ببطانة الشيء، يقال: بطنت فلانًا وخبرته، إذا عرفت باطنه وظاهره، والله تَعَالَى عارف ببواطن الأمور وظواهرها، فهو ذو الظاهر وذو الباطن»
(3)
.
(4)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
تفسير الطبري (22/ 385).
(3)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 61).
(4)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 170).
اقتران اسم الله (الظاهر و الباطن) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله الظاهر والباطن إلا باسم الله الأول الآخر، وذلك في آية واحدة، وهي قوله تَعَالَى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، وقد تقدم بيان مناسبة الاقتران في اسمي الله الأول والآخر.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الظاهر و الباطن):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسمي الله (الظاهر والباطن) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
إن مدار هذين الاسمين على بيان إحاطة الرب بكل شيء، فقد أحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، فالله سُبْحَانَهُ هو العليم، الخبير، المحيط، المطلع على خفايا الأمور وأسرارها، العلي الأعلى المتعال، فهو مع كمال علوه على عرشه قريب من خلقه، محيط بهم، فلا تواري منه سماءٌ سماءً، ولا أرض أرضًا، ولا يحجب عنه ظاهر باطنًا؛ بل الباطن له ظاهر والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية، تستوي في علمه الأمور، يقول تَعَالَى:{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]، يستوي عنده من هو مختف في قعر داره، ومن هو سائر في سربه طريقه في بياض النهار وضيائه، فعلم الله يتعقب كل فرد من بين يديه ومن خلفه، ويقيد عليه كل شاردة وكل واردة آناء الليل وأطراف النهار، يقول تَعَالَى
في معرفته ببواطن الأمور وخفاياها مع علوه سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16].
فهو سُبْحَانَهُ المتفرد بخلق جنس الإنسان، ذكورهم وإناثهم، ويعلم أحواله، وما يسره، ويوسوس في صدره، فهو أقرب إليه من حبل الوريد، الذي هو أقرب شيء إلى الإنسان
(1)
.
فـ «الظاهر» سُبْحَانَهُ هو المدرك بالعقول والدلائل الدالة عليه، والأفعال المؤدية إلى العلم به ومعرفته، وهو الباطن سُبْحَانَهُ غير المشاهد، كسائر الأشياء المشاهدة في الدنيا تَعَالَى الله عزوجل عن ذلك علوًّا كبيرًا، يظهر ويتجلى لبصائر المتفكرين، ويحتجب عن أبصار الناظرين، كما قال سُبْحَانَهُ:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].
ومن آمن باسمي الله «الظاهر» و «الباطن» ؛ تعلق قلبه بالله، وشهد وجود الله محيطًا به في كل لحظة من لحظات حياته، وأخلص له في توحيده بألوهيته وربوبيته، حتى يصل لمقام الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله يراه.
وكما أن اسمي الله «الظاهر» و «الباطن» دالان على الربوبية والألوهية، فكذا هما دالان على الأسماء والصفات؛ إذ يدلان على اسم الله العليم، والمحيط، والقدير، والعلي، والقريب، إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
(1)
انظر: تفسير السعدي (ص: 805).
الأثر الثاني: الثقة بنصر الله لدينه:
من علم أن الله هو «الظاهر» الغالب؛ علم أنه ناصر لدينه على جميع الأديان بعز عزيز أو بذل ذليل، يقول تَعَالَى:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، ويقول تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].
فأهل هذا الدين منصورون غالبون عالون، ويتفاوت نصرهم وعلوهم بقدر ما معهم من الإيمان قولًا وعلمًا وعملًا ظاهرًا وباطنًا، فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، يقول الله تَعَالَى:{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
وقد أطال ابن القيم رحمه الله في ذكر الحكمة من ظهور الكفار في بعض الأحيان، وذكر أصولًا كثيرة، منها:
« .... الأصل الثاني: أن ما يصيب المؤمنين في الله تَعَالَى مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا فمعولهم على الصبر، وعلى الاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته؛ فإنهم كلما شاهدوا العوض هان عليهم تحمل المشاق والبلاء، والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه تَعَالَى على ذلك في قوله:{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104]؛ فاشتركوا في الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تَعَالَى.
الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم، وكسرهم لهم أحيانًا، فيه حكمة عظيمة لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل.
فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائمًا منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا.
ولو كانوا دائمًا مقهورين مغلوبين منصورًا عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارةً، وكونهم مغلوبين تارةً؛ فإذا غلبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه.
ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا منصورين، غالبين، قاهرين؛ لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول؛ فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائمًا لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة، وعليهم تارة، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سُبْحَانَهُ يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سُبْحَانَهُ على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها؛ كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد،
والجوع والعطش، والتعب والنصب، وأضدادها، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم، ويخلصهم، ويهذبهم؛ كما قال تَعَالَى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139 - 141]»
(1)
.
الأثر الثالث: استشعار قرب الله الخاص من عباده المؤمنين:
ولأنه سُبْحَانَهُ «الباطن» الذي ليس دونه شيء، فهو سُبْحَانَهُ أقرب إلى كل شيء، ومن أعظم ثمرات الإيمان به سُبْحَانَهُ: استشعار قرب الله الخاص من عباده المؤمنين.
يقول ابن القيم رحمه الله: «وأما القرب المذكور في القرآن والسنة فقرب خاص من عابديه وسائليه وداعيه، وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن، قال تَعَالَى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
ومن رام هذا القرب سعى لتحصيل أسبابه
(2)
، فهو القريب سُبْحَانَهُ لمن دعاه {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] وهو القريب سُبْحَانَهُ ممن
(1)
إغاثة اللهفان (2/ 187).
(2)
ستأتي مفصلة في اسم الله «القريب» سُبْحَانَهُ.
أحسن {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، فوجد الخبر، وهو:«قريب» عن لفظ الرحمة، وهي مؤنثة؛ إيذانًا بقربه تَعَالَى من المحسنين، فكأنه قال: إن الله برحمته قريب من المحسنين.
وأقرب الهيئات إلى الله: السجود له، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ»
(1)
، وأقرب الأوقات له سُبْحَانَهُ جوف الليل، «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخر»
(2)
، فهذا قرب خاص غير قرب الإحاطة وقرب البطون، وفى الصحيح من حديث أبي موسى رضي الله عنه، أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فارتفعت أصواتهم بالتكبير، فقال:«أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ، فإنكم لا تَدْعُونَ أَصمَّ وَلا غاَئِبًا، إِنَّه معكم سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تباركَ اسمُه وتعالى جدُّه»
(3)
، فهذا قربه من داعيه وذاكره، يعنى: فأي حاجة بكم إلى رفع الأصوات وهو لقربه يسمعها وإن خفضت، كما يسمعها إذا رفعت؛ فإنه سميع قريب، وهذا القرب هو من لوازم المحبة، فكلما كان الحب أعظم كان القرب أكثر، والتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة وصفو الوداد، وأن يكون الإله أقرب إليه من كل شيء وأقرب إليه من نفسه، مع كونه ظاهرًا ليس فوقه شيء.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(482).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3579)، والنسائي، رقم الحديث:(571)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3579).
(3)
سبق تخريجه.
الأثر الرابع: محبة الله الظاهر والباطن سُبْحَانَهُ:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تَعَالَى في طريق الهجرتين: «
…
والمقصود: أن التعبد باسمه (الظاهر) يجمع القلب على المعبود، ويجعل له ربًّا يقصده، وصمدًا يصمد إليه في حوائجه، وملجأً يلجأ إليه، فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسمه (الظاهر) استقامت له عبوديته، وصار له معقل وموئل يلجأ إليه، ويهرب إليه، ويفر في كل وقت إليه
…
وأما التعبد باسمه (الباطن) فإذا شهدت إحاطته بالعوالم وقرب البعيد منه، وظهور البواطن له، وبدو السرائر وأنه لا شيء بينه وبينها؛ فعامِله بمقتضى هذا الشهود، وطهِّر له سريرتك؛ فإنها عنده علانية، وأصلِح له غيبك؛ فإنه عنده شهادة، وزكِّ له باطنك؛ فإنه عنده ظاهر»
(1)
، ومَن فَقه ما تقدم أحبَّ «الظاهر» الباطن سُبْحَانَهُ.
الأثر الخامس: الشوق لرؤية الله تعالى، والعمل له:
إيماننا بأنه سُبْحَانَهُ «الباطن» الذي لا تدركه أبصار خلقه في الدنيا، تجعلنا نسعى لرؤيته سُبْحَانَهُ في الآخرة، عند البخاري من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:«أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لَا تُضَامُّونَ أَوْ لَا تُضَاهُونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَالَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا»
(2)
.
(1)
طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 21).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(554)، ومسلم، رقم الحديث:(633) واللفظ له.
ومن تلك الأسباب التي توصل لرؤية الله في الآخرة:
المحافظة على صلاة العصر والفجر في وقتها، فعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه، قال:«كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لَا تُضَامُّونَ أَوْ لَا تُضَاهُونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَالَ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا»
(1)
.
الإحسان، يقول تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، فالحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجهه الكريم، فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه قال:«قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل»
(2)
.
اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، وأن تجعلنا من عبادك السابقين، وأوليائك الصالحين.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(181).
الأثر السادس: ترك الذنوب والمعاصي في السر والعلن:
من آمن بالظاهر والباطن سُبْحَانَهُ، ترك ظاهر الإثم وباطنه، يقول تَعَالَى:{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120]، قال مجاهد رحمه الله:{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} المعصية في السر والعلانية، وفي رواية عنه: هو ما ينوي مما هو عامل، وقال قتادة رحمه الله:{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} أي: سره وعلانيته قليله وكثيره
(1)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «المراد بالإثم: جميع المعاصي التي تؤثم العبد، أي: توقعه في الإثم والحرج من الأشياء المتعلقة بحقوق الله، وحقوق عباده، فنهى الله عباده، عن اقتراف الإثم الظاهر والباطن، أي: السر والعلانية، المتعلقة بالبدن والجوارح والمتعلقة بالقلب، ولا يتم للعبد ترك المعاصي الظاهرة والباطنة إلا بعد معرفتها، والبحث عنها، فيكون البحث عنها ومعرفة معاصي القلب والبدن والعلم بذلك واجبًا متعينًا على المكلف، وكثير من الناس تخفى عليه كثير من المعاصي، خصوصًا معاصي القلب، كالكبر والعجب والرياء، ونحو ذلك، حتى إنه يكون به كثير منها، وهو لا يحس به ولا يشعر، وهذا من الإعراض عن العلم، وعدم البصيرة.
ثم أخبر تَعَالَى أن الذين يكسبون الإثم الظاهر والباطن، سيجزون على حسب كسبهم، وعلى قدر ذنوبهم، قلت أو كثرت، وهذا الجزاء يكون في الآخرة، وقد يكون في الدنيا، يعاقب العبد، فيخفف عنه بذلك من سيئاته»
(2)
.
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 206).
(2)
تفسير السعدي (ص: 271).
الأثر السابع: قمع وساوس الشيطان المهلكة للإنسان:
في اسم الله الظاهر والباطن جماع المعرفة بالله وجماع العبودية له، كما أن فيها قمعًا للوساوس المهلكة، والشكوك المردية التي يلقيها الشيطان في قلب الإنسان؛ بغية إهلاكه وصرفه عن الإيمان.
وقد بين لنا ابن عباس رضي الله عنهما العلاج من وساوس الشيطان، عن أبي زميل سماك بن الوليد رحمه الله قال:«سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: وَاللهِ مَا أَتَكَلَّمُ بِهِ. قَالَ: فَقَالَ لِي: أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قَالَ وَضَحِكَ قَالَ: مَا نَجَا أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ عز وجل {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] الآية، قَالَ: فَقَالَ لِي: إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُلْ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]»
(1)
، فأرشد رضي الله عنه إلى هذا الذكر الحكيم لطرد الوساوس، وقطع الشكوك.
يقول ابن القيم رحمه الله: «فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة العقل، وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء، كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء، كما أن ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء، ولو كان قبله شيء يكون مؤثرًا فيه لكان ذلك هو الرب الخلاق، ولا بد أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق وغني عن غيره، وكل شيء فقير إليه قائم بنفسه، وكل شيء قائم به موجود بذاته، وكل شيء موجود به.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5110)، والبيهقي في الدعوات الكبير، رقم الحديث:(613)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5110).
قديم لا أول له، وكل ما سواه فوجوده بعد عدمه باق بذاته، وبقاء كل شيء به فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، الباطن الذي ليس دونه شيء»
(1)
.
الأثر الثامن: التقرب للباطن سُبْحَانَهُ بخبيئة لا يعلمها غيره.
الباطن سُبْحَانَهُ يحب أن يكون لعبده خبايا من أعمال صالحة يتقرب بها إليه، يقول ابن القيم رحمه الله عند قوله تَعَالَى:{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]: «فأخبر أن إعطاءها للفقير في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها، وتأمل تقييده تَعَالَى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة، ولم يقل: (وإن تخفوها فهو خير لكم)، فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش، وبناء قنطرة، وإجراء نهر أو غير ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد؛ الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أن يده هى اليد السفلى، وأنه فقير لا شيء له، فيزهدون في معاملته ومعاوضته، وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص، وعدم المراءاة وطلبهم المحمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيرًا من إظهارها بين الناس، ومن هذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم صدقة السر وأثنى على فاعلها، وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة»
(2)
، وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
(1)
زاد المعاد (2/ 422).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(660)، ومسلم، رقم الحديث:(1031).
العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَنِيَّ، الخَفِيَّ»
(1)
، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ»
(2)
.
الأثر التاسع: الدعاء باسم الله الظاهر و الباطن:
(3)
.
اللهم يا من أظهر الجميل وستر القبيح، نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2965).
(2)
أخرجه الضياء في المختارة، رقم الحديث:(883)، والخطيب في تاريخ بغداد، رقم الحديث:(6024)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(6018).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2713).
العزيزُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «العز: خلاف الذل .. والاسم: العزة، وهي القوة والغلبة»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(عز): العين والزاي أصل صحيح واحد، يدل على شدة وقوة وما ضاهاهما من غلبة وقهر، قال الخليل: العزة لله جل ثناؤه، وهو من العزيز»
(2)
.
ورود اسم الله (العزيز) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (العزيز) في كتاب الله اثنتين وتسعين مرة، ومن وروده ما يلي:
قوله سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].
قوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4].
قوله سبحانه وتعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص: 66].
(1)
الصحاح (3/ 885 - 886).
(2)
مقاييس اللغة (4/ 38).
ورود اسم الله (العزيز) في السنة النبوية:
ورد اسم (العزيز) في السنة النبوية، ومن وروده يلي:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت:«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تضور- أي: تقلب- من الليل قال: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ»
(1)
.
جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«علمني كلامًا أقوله، قال: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، والحَمْدُ للهِ كَثِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، قال: فهؤلاء لربي، فما لي؟ قال: قُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، واهْدِنِي وارْزُقْنِي»
(2)
.
معنى اسم الله (العزيز) في حق الله تعالى:
العزيز الذي له العزة بجميع معانيها، قال تَعَالَى:{فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] عزة القوة، وعزة القهر والغلبة، وعزة الغنى والامتناع.
وحول هذه المعاني تدور أقوال العلماء رحمهم الله:
قال قتادة رحمه الله: «(العزيز) أي: في نقمته إذا انتقم»
(3)
.
قال الطبري رحمه الله: «(العزيز) في انتقامه ممن أراد الانتقام منه، لا يقدر
(1)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10634)، وابن حبان، رقم الحديث:(5530)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2066).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2696).
(3)
أخرجه الطبري في تفسيره (22/ 154).
أحد يدفعه عنه»
(1)
، وقال أيضًا:«القوي الذي لا يعجزه شيء أراده»
(2)
.
قال الزجاج رحمه الله: «والله تَعَالَى هو الغالب كل شيء، فهو العزيز الذي ذل لعزته كل عزيز»
(3)
.
قال الخطابي رحمه الله: «العزيز: هو المنيع الذي لا يغلب»
(4)
.
والعز في كلام العرب على ثلاثة أوجه: أحدها: بمعنى الغلبة
…
والثاني: بمعنى الشدة والقوة
…
والوجه الثالث: أن يكون بمعنى: نفاسة القَدْر، يقال منه: عز الشيء يعز- بكسر العين- من يعز، فيتأول معنى العزيز على هذا، أنه الذي لا يعادله شيء، وأنه لا مثل له، ولا نظير»
(5)
.
قال الحليمي رحمه الله: «الذي لا يوصل إليه ولا يمكن إدخال مكروه عليه»
(6)
.
قال القرطبي رحمه الله: «(والعزيز) معناه: المنيع الذي لا ينال ولا يغالب»
(7)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «(العزيز) أي: الذي قد عز كل شيء فقهره وغلب الأشياء؛ فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه»
(8)
.
(1)
تفسير الطبري (9/ 139).
(2)
تفسير الطبري (3/ 88).
(3)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 34).
(4)
شأن الدعاء (ص 47).
(5)
شأن الدعاء (1/ 47 - 48).
(6)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 195).
(7)
تفسير القرطبي (2/ 131).
(8)
تفسير ابن كثير (8/ 80).
قال السعدِي رحمه الله: «(العزيز) الذي له العزة كلها: عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، فامتنع أن يناله أحد من المخلوقات، وقهر جميع الموجودات، دانت له الخليقة وخضعت لعظمته»
(1)
.
قال ابن القيمِ رحمه الله:
وَهُوَ العَزِيزُ فَلَنْ يُرَامَ جَنَابُهُ
…
أَنَّى يُرَامُ جَنَابُ ذِي السُّلْطَانِ؟!
وَهُوَ العَزِيزُ القَاهِرُ الغَلَّابُ لَمْ
…
يَغْلبْهُ شَيْءٌ هَذِهِ صِفَتَانِ
وَهُوَ العَزِيزُ بِقُوةٍ هِيَ وَصْفُهُ
…
فَالعِزُّ حِينَئذٍ ثَلاثُ مَعَانِ
وَهِيَ التِي كَمُلَتْ لَهُ سُبْحَانَهُ
…
مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَادِمِ النُّقْصَانِ
(2)
اقتران اسم الله (العزيز) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
اقترن اسمه سُبْحَانَهُ (العزيز) بأسمائه سُبْحَانَهُ: الغفور، الغفار، الوهاب، المقتدر، العليم، القوي، الحكيم، الرحيم، الحميد.
أولًا: اقتران اسم الله (العزيزِ) باسمه سُبْحَانَهُ (الغفور- الغفار):
اقترن اسم الله (العزيز) باسمه (الغفور- الغفار) في خمس مواضع من كتاب الله، في موضعين اقترن بالغفور، وفي ثلاث اقترن بالغفار، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]، وقوله تَعَالَى:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص: 66].
(1)
تفسير السعدي (ص: 946).
(2)
النونية، (ص: 205).
وجه الاقتران:
أن الله عز وجل العزيز الغالب لكل شيء، قادر على أن يأخذ عباده بذنوبهم، ولكنه سُبْحَانَهُ غفور رحيم عن عزة وقدرة، لا عن ضعف وعجز؛ فهو كامل في عزته، وكامل في مغفرته.
ثانيًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العزيز) باسمه سُبْحَانَهُ (الوهاب):
اقترن اسم الله (العزيز) باسمه الوهاب في قوله تَعَالَى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص: 9] للدلالة على أن تصرفه التام في صنوف العطاء المادي والمعنوي لا ينازعه فيه منازع، ولا يغالبه فيه مغالب، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينوب عنه نائب، ولا يصل عطاء من معط إلى معطًى إلا بإذنه سُبْحَانَهُ، فعزته متضمنة الإنعام على خلقه، والتفضل عليهم، وتفضله وإنعامه سُبْحَانَهُ صادران عن عزة وقدرة وغنًى وتفضل، لا لجلب نفع أو دفع ضر.
ثالثًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العزيز) باسمه سُبْحَانَهُ (المقتدر):
اقترن اسم الله (العزيز) باسمه المقتدر في قوله تَعَالَى: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42]، والعزيز الظاهر الذي لا يغلب أبدًا، والمقتدر الذي لا يعجزه شيء، واقترانهما فيه معنًى زائد، وكمال آخر يفيد قوة الأخذ والعقاب.
رابعًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العزيزِ) باسمه سُبْحَانَهُ (العليمِ):
اقترن اسم الله (العزيز) باسمه (العليم) في خمس آيات من كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]، وقوله تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل: 78].
وجه الاقتران:
أن عزة الله وقهره وغلبته صادرة عن علم شامل وإحاطة تامه بكل شيء، فعزته تنفذ بعلم ومعرفة بمواطن الأمور وعواقبها، ليس كعزة وقوة المخلوق التي تنطلق في الغالب من الهوى والظلم، لا من العلم والحكمة.
خامسًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العزيز) باسمه سُبْحَانَهُ (القوي):
اقترن اسم الله (العزيز) باسمه (القوي) في سبع آيات، منها:
قوله تَعَالَى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 74]، وقوله تَعَالَى:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25].
وجه الاقتران:
أن في اجتماعهما معنى زائد، وهو أن العزة التي يتضمنها اسم الله عز وجل (العزيز) هي عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، ووصف الله عز وجل بالقوة راجع إلى كمال عزته.
سادسًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العزيز) باسمه سُبْحَانَهُ (الحكيمِ):
تقدم بيانه في اسم الله الحكيم.
سابعًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ العزيز باسمه «الرحيم» :
تقدم بيانه في اسم الله «الرحيم» .
ثامنًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ العزيز باسمه «الحميد» :
تقدم بيانه في اسم الله «الحميد» .
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (العزيز):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (العزيز) من صفاته سُبْحَانَهُ:
الله العزيز الذي له العزة كلها: عزة القوة، والقهر، والغنى والامتناع، قال تَعَالَى:{فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10].
1 -
عزة القوة:
الله العزيز القوي الذي لا يعجزه شيء أراده، ولا يلحقه ضعف ولا نصب، ولا يغلبه غالب ولا يقهره قاهر ولا يقدر عليه قادر، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
بعزته وقوته خلق المخلوقات وسخرها لما خلقها له، فجرت مذللة مسخرة بأمره، لا تتعدى ما حده لها، ولا تتقدم عنه ولا تتأخر منقادة لعزته، خاضعة لجلاله.
فخلق السموات والأرض في ست أيام مع عظمهما وسعتهما، وإحكامهما، وإتقانهما، وبديع خلقهما، قال تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، وقال سُبْحَانَهُ:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12]
(1)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 266، 424).
وخلق الليل والنهار والشمس والقمر، وقدر ذلك كله على منوال عجيب لا اختلاف فيه ولا تعاكس، قال تَعَالَى:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]، وقال سُبْحَانَهُ:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر: 5]
(1)
.
وخلق المتضادات التي أصلها واحد، ومادتها واحدة، وفيها من التفاوت والفرق ما هو مشاهد معروف، قال تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27]
(2)
.
وبعزته وقوته تبارك وتعالى أحيا الموتى ويحيهم، قال تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].
وبعزته وقوته غلب، ويغلب أعداءه ونصر، وينصر جنده، فلا ينفع أهل القوة قوتهم، ولا أهل العزة عزتهم، فتبارك القوي العزيز
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (6/ 577).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 688).
(3)
ينظر: المرجع السابق (ص: 662).
غلب أحزاب الكفر: قوم نوح ولوط، وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وفرعون وجنده، وجعل في ذلك كله آية وعبرة، قال تَعَالَى بعد ذكر هلكهم:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 190، 191].
وغلب اليهود وما دبروه من مكائد لقتل عيسى عليه السلام، قال تَعَالَى:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157، 158].
وغلب جمع الأحزاب الذين تحزبوا على رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تَعَالَى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25 - 27].
وبعزته وقوته ينصر أولياءه وإن ضعف عَددهم وعُدَدهم، وقوي عدد عدوهم وعدتهم، قال تَعَالَى:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]
(1)
.
2 -
عزة القهر:
الله العزيز القاهر القهار الذي بعزته قهر جميع الكائنات، وذلت له جميع
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 540).
المخلوقات، ودانت له البريات، فلهج الحيوان الناطق منه والصامت مسبحًا بحمده، ومنزهًا له عما لا يليق بجلاله، قال تَعَالَى:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1]
(1)
.
وبعزته وقهره ينفذ حكمه وأمره في عباده، فيحكم بما يشاء ويقضي بما أراد، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]، وقال سُبْحَانَهُ:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6].
وبعزته وقهره يعز من يشاء ويذل من يشاء، بلا معقب على حكمه، وبلا مجير عليه، وبلا راد لقضائه، فهو صاحب الأمر كله، الفعال لما يريد، قال تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
أعز كتابه، قال تَعَالَى:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42] منيعًا من كل من أراد تحريفه أو تبديله، لا يقربه شيطان من شياطين الإنس والجن، لا بسرقة، ولا بإدخال ما ليس منه به، ولا بزيادة ولا نقص، فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه ومعانيه، قد تكفل من أنزله بحفظه، قال تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
كما أعزه بحججه وكماله وشموله، قال تَعَالَى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، فصار حجة
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 837).
الله على العالمين التي انقطعت به حجة الظالمين، وانتفع به المسلمون، فصار هدى لهم يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم، ورحمة ينالون به كل خير في الدنيا والآخرة
(1)
.
وأعز دينه وأهل طاعته، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وأذل الكفر وأهل معصيته، قال تَعَالَى:{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]
(2)
.
وأذل أعداءه وقهرهم، فانتقم وينتقم منهم، لا يفوتونه ولا يعجزونه، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 41، 42]، وقال سُبْحَانَهُ:{مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4]، وقال:{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47].
3 -
عزة الغنى والامتناع:
الله العزيز الذي بعزته اغتنى بذاته، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقرون إليه، قال تَعَالَى:{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57].
وبعزته وتمام غناه ملك خزائن كل شيء، قال تَعَالَى:{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص: 9] ويرزق منها من يشاء من عباده، قال تَعَالَى:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19].
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 183)، وتفسير السعدي (ص: 447، 750).
(2)
تفسير السعدي (ص: 210).
وعزة الامتناع وهي التي بمعنى الغنى التام، والامتناع عن أن يضره أحد أو ينفعه، وفي الحديث القدسي:«يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي»
(1)
.
وغاية الأمر: أنه العزيز الذي كمل من كل وجه، فكان له من العزة ومن كل شيء أكمله وأتمه، وبرئ من كل نقص وسوء، قال تَعَالَى:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60]، وقال تَعَالَى:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] قال الشيخ السعدي رحمه الله: «عز؛ فقهر كل شيء، واعتز عن كل سوء يصفونه به»
(2)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: «العزيز الذي له العزة التامة، ومن تمام عزته: براءته عن كل سوء وشر وعيب؛ فإن ذلك ينافي العزة التامة»
(3)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (العزيز) على التوحيد:
إذا تعرف العبد على اسم ربه العزيز وما يتضمنه من كمال القوة، والقهر، والغنى والامتناع، وتيقن ذلك كله؛ علم أنه لا يستحق أحد كائنًا من كان أن يُعبد مع العزيز تبارك وتعالى؛ إذ كيف يسوى بين الفقير العاجز من جميع الوجوه بالغني القوي من جميع الوجوه، ومن لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، بالنافع الضار، المعطي المانع، مالك الملك، والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف، قال تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2577).
(2)
تفسير السعدي (ص: 709).
(3)
شفاء العليل (ص: 180).
لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73، 74]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سبأ: 27]، وقال تَعَالَى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 62]
(1)
.
ثم إن هذا لازم عزته تبارك وتعالى، فعزته تستلزم توحيده وحده لا شريك له؛ إذ الشركة تنافي كمال العزة، قال ابن القيم رحمه الله:«وهذه العزة مستلزمة للوحدانية؛ إذ الشركة تنقص العزة، ومستلزمة لصفات الكمال؛ لأن الشركة تنافي كمال العزة، ومستلزمة لنفي أضدادها، ومستلزمة لنفي مماثلة غيره له في شيء منها»
(2)
.
الأثر الثالث: الثقة بإعزاز العزيز دينه:
إذا آمن العبد أن ربه العزيز الذي بيده العزة، يعز من يشاء ويذل من يشاء، لا يغلبه غالب ولا يقهره قاهر، فليثق أن العزة والغلبة لدينه وأوليائه، قال سُبْحَانَهُ:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ولا تغرنه قوة الباطل وظهوره فإنه زاهق، كما قال تَعَالَى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].
تحزبت الأحزاب في الخندق، واجتمعت جيوش الكفر للقضاء على الإسلام وأهله، ثم ماذا كان؟
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتدت جموع العرب ما خلا أهل مكة، والمدينة، والطائف، ثم ماذا كان؟
(3)
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 546).
(2)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 242).
(3)
ينظر: الكامل في التاريخ، لابن الأثير (2/ 201) وتاريخ الإسلام، للذهبي (2/ 20)، والبداية والنهاية، ابن كثير (6/ 311).
دخل القرامطة المسجد الحرام وأخذوا الحجر الأسود، وقال قائلهم: أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل؟ ومكث عندهم اثنتين وعشرين سنة، ثم ماذا كان؟
(1)
.
وفي أواخر القرن الخامس أخذ الفرنج بيت المقدس، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيرًا، ثم ماذا كان؟
(2)
.
وفي القرن السابع جاء التتار، فقتلوا حتى صار لا يقال: كم قتلوا، بل كم أبقوا؟
(3)
.
قال ابن الأثير رحمه الله في تعظيم هذا الخطب الجسيم: «فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام، فيا ليت أمي لم تلدني، و يا ليتني مت قبل حدوثها، ثم حثني جماعة على تسطيرها، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الدهور عن مثلها، عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلقه الله إلى
(1)
ينظر: البداية والنهاية، لابن كثير (11/ 160).
(2)
ينظر: البداية والنهاية، لابن كثير (12/ 156).
(3)
ينظر: الكامل في التاريخ، لابن الأثير (10/ 333)، تاريخ الإسلام، للذهبي (44/ 37)، البداية والنهاية، لابن كثير (13/ 86).
الآن لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها، ومن أعظم ما يذكرون: فعل بخت نصر ببني إسرائيل بالبيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين؟! وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى ما قتلوا؟!»
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله متمًّا لكلام ابن الأثير: «ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون» ،
(2)
ثم ماذا كان؟
أعز الله دينه، فولى الأحزاب، والمرتدون، والقرامطة، والفرنج وحتى التتار ولم يبق إلا الإسلام، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36] فلم تجد أموالهم، ولا أسلحتهم ولا قوتهم وجموعهم شيئًا؛ لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق، والله متم نوره ولو كره الكافرون، وناصر دينه، ومعلن كلمته، ومظهر دينه على كل دين.
فهذا الخزي لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار، فمن عاش منهم، رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه، ومن قُتل منهم أو مات، فإلى الخزي الأبدي والعذاب السرمدي
(3)
.
(1)
الكامل في التاريخ، لابن الأثير (10/ 333).
(2)
البداية والنهاية، ابن كثير (13/ 87).
(3)
تفسير ابن كثير (4/ 53).
فعلى المسلم أن يثق بأن العزة للإسلام وأهله، ولو بدا يومًا من الأيام ضعيفًا ذليلًا مقهورًا، فإن مصيره العزة والنصرة والغلبة.
وقد تتابعت النصوص في تقرير هذه الحقيقة
(1)
، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20، 21]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث تميم الداري رضي الله عنه: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ والنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ
(2)
إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الكُفْرَ»، وكان تميم رضي الله عنه يقول:«قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرَ وَالشَّرَفَ وَالْعِزَّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلَّ وَالصَّغَارَ وَالْجِزْيَةَ»
(3)
.
والثقة بنصر الله وغلبته لدينه دأب رسل الله وأوليائه، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام يلقى في النار، فيقول واثقًا بربه:«حسبنا الله ونعم الوكيل» ، فجاء النصر، قال تَعَالَى:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
(1)
للاستزادة يراجع اسم الله «الناصر النصير» .
(2)
المدر جمع مدرة، أي: اللبن بكسر الباء، الذي تتخذ منه بيوت المدن والقرى.
والوبر: شعر الإبل الذي يتخذ منه ومن نحوه الخيام بيوتًا لسكان البوادي.
والمعنى: أن دين الاسلام يبلغ جميع سكان الأمصار والقرى والبوادي. الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، للساعاتي (1/ 90).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(17231)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(3).
وهذا موسى الكليم عليه السلام فرعون بعدته وعتاده وراءه والبحر أمامه، فيقول واثقًا بنصرة الله:{قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، فجاء النصر:{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء: 63 - 66].
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يدخل الغار فارًّا من قريش، فيبلغون مبلغًا حتى لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لأبصره صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فقال ثقة بالله: قال: «يَا أَبَا بكرٍ، ما ظَنُّكَ باثنينِ الله ثالِثُهُمَا»
(1)
، فجاء نصر الله:{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
الأثر الرابع: محبة الله العزيز:
إذا تيقن العبد أن ربه العزيز الذي كمل في عزته، فاقترن معها: رحمته، وعفوه، ولطفه، وكرمه، وعلمه، وحكمته .. إلخ؛ ازداد حبًّا لربه وشوقًا إليه، لا سيما وأن القلوب فطرت على محبة من له صفات الكمال، وربنا العزيز لا أكمل منه ولا أجل تبارك وتعالى.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3653)، ومسلم، رقم الحديث:(2381).
الأثر الخامس: دعاء الله والاستعاذة بعزته:
الله العزيز الذي شرع لعباده سؤاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فقال سُبْحَانَهُ:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم سؤال الله بأسمائه وصفاته، ومن ذلك: عزته التي سأل الله بها وعلم أمته سؤال الله بها، فجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول:«اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، والجِنُّ والإِنْسُ يَمُوتُونَ»
(1)
، وجاء في حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا اشْتَكَيْتَ فَضَعْ يَدَكَ حَيْثُ تَشْتَكِي، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللهِ، أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ مِنْ وَجَعِي هَذَا، ثُمَّ ارْفَعْ يَدَكَ ثُمَّ أَعِدْ ذَلِكَ وِتْرًا»
(2)
.
وأتى عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم وبه وجع كاد يهلكه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امْسَحْهُ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ» . قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللهُ مَا كَانَ بِي، فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ
(3)
.
فحري بالمسلم أن يسأل الله بعزته، ويتحرى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ فإنه أعظم الدعاء وأنفعه.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7383)، ومسلم، رقم الحديث:(2717) واللفظ له.
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3588)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3588).
(3)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(3522)، وأبو داود، رقم الحديث:(3891)، حكم الألباني: صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(3891).
الأثر السادس: الاتصاف بالعزة بالدين:
إذا علم العبد أن الله سُبْحَانَهُ العزيز الذي أعز دين الإسلام وأعز أهله فأرسل خير الرسل صلى الله عليه وسلم لبلاغه، وأنزل لبيانه كتابًا عزيزًا، ونصر أهله، ومكنهم حتى بلغوا مشارق الأرض ومغاربها، قال تَعَالَى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55].
قاده ذلك لشعور بالعزة والأنفة، فاعتز بالدين وتمسك به في سفره وحضره أنى كان، وأثمر في نفسه التعالي على الباطل وأهله، وعدم الاستكانة لهم.
وسيأتي في المحلق التالي تفصيل لذلك- بإذن الله-.
العزيز يحب العزة
في موضوع العزة سنتطرق للمسائل التالية:
أولًا: تعريف العزة:
العزة تنقسم إلى قسمين:
عزة شرعية.
عزة غير شرعية.
القسم الأول: العزة الشرعية:
هي العزة المرادة، ويقصد بها: العزة المرتبطة بالله تَعَالَى ودينه، فيعتز المرء بدينه ويرتفع بنفسه عن مواضع المهانة، فلا يريق ماء وجهه، ولا يبذل عرضه فيما يدنسه، ويتحرر من رق الأهواء ومن ذل الطمع، لا يسير إلا وفق ما يمليه عليه إيمانه والحق الذي يحمله ويدعو إليه.
ومصدرها: الإيمان بالله عز وجل، ولو لم توجد المقومات المادية؛ قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال تَعَالَى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وقال لموسى عليه السلام لما رأى قوة وعزة ملأ فرعون، فأصابه شيء من الخوف أو التردد، قال تَعَالَى:{قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68] أعلى بما معك من الإيمان، لا بعدتك وعتادك.
وهذه العزة- العزة بالإيمان- هي العزة الحقيقة الدائمة الباقية وكل عزة تستمد من غيرها فهي باطلة مكذوبة، وعاقبتها الذل، كما قال عمر رضي الله عنه:«نحن أمة أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله»
(1)
.
القسم الثاني: العزة غير شرعية:
وهي: الاعتزاز بغير الله ودينه، كالاعتزاز بالقبلية، والقومية، والعروبة، والجاه ونحو ذلك، وهذه العزة صورها متعددة، وقد جاءت النصوص بشيء منها، وبينت أن عاقبتها الذل والهوان، ومن تلك الصور:
- الاعتزاز بالكفار وما يظهرونه من قوة، قال تَعَالَى عن المنافقين:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 138، 139].
- الاعتزاز بالآباء والأجداد والقبيلة، قال تَعَالَى عن قوم شعيب:{قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 91، 92].
- الاعتزاز بالمال، قال تَعَالَى:{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] فكان عاقبته الذل والندامة، قال تَعَالَى:{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف: 42، 43].
(1)
أخرجه الحاكم، رقم الحديث:(207)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(164).
- الاعتزاز بالجاه والسلطان، قال تَعَالَى عن فرعون:{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51] فكانت نتيجة هذه العزة: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 55، 56].
ثانيًا: مظاهر العزة الشرعية:
مظاهر هذه العزة عديدة، ومنها:
1 -
التمسك بالدين والثبات عليه ولو قل السالكون؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاَء»
(1)
.
2 -
قول الحق وفعله من غير أن يخشى في الله لومة لائم، قال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
3 -
إظهار شعائر الله من غير حياء ولا خجل، قال تَعَالَى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، ولا شك أن من تعظيمها القيام بها على أتم وجه من غير شعور بخجل أو حياء.
4 -
التحدث باللغة العربية؛ إذ هي مظهر من مظاهر الدين وشعائره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(145).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 519).
5 -
الدعوة للإسلام والتمسك به، قال تَعَالَى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].
6 -
ترك مشابهة الكفار في الظاهر والباطن، كما قال صلى الله عليه وسلم محذرًا من ذلك:«مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»
(1)
.
7 -
عدم الخضوع والذلة للباطل وأهله، حتى حال الهزيمة، قال تَعَالَى:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، وقال أبناء عامر بن صعصعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما كان يعرض نفسه على القبائل في بداية الدعوة: نبايعك على أن تجعل لنا الملك من بعدك، فقال لهم صلى الله عليه وسلم:«الأَمْرُ إِلَى اللهِ، يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ»
(2)
.
ولم يُذَلَّ المسلمون في أُحُد رغم انهزامهم، بل أظهروا العزة والقوة، فهذا أبو سفيان يقول: «أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللهِ يَا عَدُوَّ اللهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ. قَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً، لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: أُعْلُ هُبَلْ، أُعْلُ هُبَلْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تُجِيبُوا لَهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا نَقُولُ؟
(1)
أخرجه أحمد (5209)، وأبو داود (4031)، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود (4031).
(2)
ينظر: الرحيق المختوم، للمباركفوري (ص: 118).
قَالَ: قُولُوا: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. قَالَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تُجِيبُوا لَهُ، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ»
(1)
.
ثالثًا: وسائل تحقيق العزة:
الله العزيز الذي بيده العزة، يهبها من يشاء وينزعها ممن يشاء، وقد جعل لها سُبْحَانَهُ أسبابًا، يستطيع المرء من خلالها تحصيلها بإذن الله، منها:
الإيمان بالله وطاعته، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، قال ابن القيم رحمه الله:«أي: فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعته، وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك»
(2)
.
وعلى قدر الإيمان والطاعة تكون العزة، قال ابن القيم رحمه الله:«للعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان، وقال تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظ من العلو والعزة، ففى مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان، علمًا وعملًا، ظاهرًا وباطنًا»
(3)
.
وقد نص الله في كتابه على وسائل تحصيل العزة، فقال تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]:
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3039).
(2)
الداء والدواء (1/ 146).
(3)
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2/ 181).
(1)
.
الإيمان باليوم الآخر، وذلك أن العبد إذا تيق فناء الدنيا لم يذل نفسه لأجل تحصيل متاعها، ولم يتحسر على فواتها، ولا يحزن على فراق لذاتها، قال تَعَالَى:{يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39].
العلم الشرعي الصحيح؛ قال تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
قال ابن القيم رحمه الله: «إن العلم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة مالا يرفعه الملك ولا المال ولا غيرهما، فالعلم يزيد الشريف شرفًا، ويرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك
…
قال أبو العالية: كنت آتي ابن عباس وهو على سريره وحوله قريش، فيأخذ بيدي، فيجلسني معه على السرير، فتغامز بي قريش، ففطن لهم ابن عباس، فقال: كذا هذا العلم، يزيد الشريف شرفًا، ويجلس المملوك على الأسرة»
(2)
.
كتاب الله عز وجل علمًا وعملًا وتلاوة وحفظًا؛ فعن أبي الطفيل عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ - وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ - فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى، قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ
(1)
تفسير السعدي (ص: 685)
(2)
مفتاح دار السعادة (1/ 164 - 165).
لِكِتَابِ اللهِ عز وجل وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم قد قال: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»
(1)
.
الجهاد في سبيل الله بشروطه؛ فإن تركه سبب للذلة، كما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بالعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»
(2)
.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فقد جعله الله سببًا لعزة الأمة وتكريمها، قال تَعَالَى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
العفو مع القدرة على الانتقام ممن اعتدى عليه عليه وأخطأ في حقه.
التواضع وعدم التعالي والكبر.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلَّا رَفَعَهُ»
(3)
.
قال النووي رحمه الله: «(وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا) فيه- أيضًا- وجهان، أحدهما: أنه على ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح ساد عظم في القلوب وزاد عزه وإكرامه، والثاني: أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(817).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(3462)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(3462).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2588).
قوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلَّا رَفَعَهُ» فيه أيضًا وجهان، أحدهما: يرفعه في الدنيا ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة، ويرفعه الله عند الناس ويجل مكانه، والثاني: أن المراد: ثوابه في الآخرة ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا، قال العلماء: وهذه الأوجه في الألفاظ الثلاثة موجودة في العادة معروفة، وقد يكون المراد الوجهين معًا في جميعها في الدنيا والآخرة»
(1)
.
الصبر على الظلم ولو كان فيه ذل له؛ فعن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا، إِلَّا زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ، إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ»
(2)
.
الاستغناء عن الناس وترك سؤالهم؛ قال تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ «ثُمَّ قَالَ:«يَا مُحَمَّدُ شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ»
(3)
.
وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على ذلك؛ فقال لأبي ذر رضي الله عنه: «لَا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا» قلت: نعم، قال: «وَلَا سَوْطَكَ إِنْ سَقَطَ مِنْكَ، حَتَّى تَنْزِلَ إِلَيْهِ
(1)
شرح النووي على مسلم (16/ 141).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2325)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2325).
(3)
أخرجه الحاكم في المستدرك، رقم الحديث:(8016)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(73).
فَتَأْخُذَهُ»
(1)
وعن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله: «مَنْ يَكْفُل لِي أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، فَأَتَكَفَّل لَهُ بالجَنَّةِ؟ فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدًا شيئًا»
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«اسْتَغْنُوا عَنِ النَّاسِ وَلَوْ بِشَوْصِ سِوَاكٍ»
(3)
.
وذلك كله؛ لأن السؤال فيه ذلة، والمسلم مطالب بالعزة؛ فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الْمَسَائِلُ كُدُوحٌ
(4)
يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، فَمَنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَى وَجْهِهِ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ، إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ ذَا سُلْطَانٍ، أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا»
(5)
، فسائل الناس يسعى بسؤاله إلى ذهاب عرضه وإراقة ماء وجه وذله، ومن أراد بقاء عزه وماء وجهه ترك السؤال وتعفف وسيغنيه الله
(6)
.
11 -
سؤال الله العزة والتعلق به في تحصيلها دون خلقه؛ فإن العزة جميعها ملك لله، وليس شيء منها عند أحد سواه، قال تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، فمن أرادها طلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره، فالخلق كلهم ليسوا مصدرًا للعزة، ولا يملكون أن يعطوها أحدًا أو
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(21909)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(7307).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1643)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1643).
(3)
أخرجه البيهقي في الشعب، رقم الحديث:(3251)، والبزار (4824 - البحر الزخار). حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:947.
(4)
كدوح من الكدح، بمعنى: الجرح أو هي آثار الخموش. عون المعبود وحاشية ابن القيم (5/ 34).
(5)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1639)، حكم الألباني: صحيح وضعيف أبي داود، رقم الحديث:(1639).
(6)
ينظر: عون المعبود وحاشية ابن القيم، (5/ 34).
يمنعوها، وإن كانت لهم قوة فمصدرها الله عز وجل، وإن كانت لهم منعة فواهبها الله عز وجل، فكيف بعد هذا يتوجه إلى الآخذ المستمد لها من الله وهم مثله طلاب محاويج ضعاف؟!
إلهنا، لا إله إلا أنت العزيز الحكيم، تعز من من تشاء
وتذل من تشاء، أعزنا يا عزيز بدينك.