الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العظيمُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «عظم الشيء عظمًا: كبر، فهو عظيم، والعُظَام بالضم مثله، وعظم الشيء: أكثره ومعظمه»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(عظم) العين والظاء والميم أصل واحد صحيح يدل على كبر وقوة، فالعظم: مصدر الشيء العظيم، تقول: عظم يعظم عظمًا، وعظمته أنا، فإذا عظم في عينيك قلت: أعظمته واستعظمته، ومعظم الشيء: أكثره»
(2)
.
ورود اسم الله (العظيمِ) في القرآن الكريم:
ورد اسم (العظيمِ) تسع مرات في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قوله عز وجل: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
قوله عز وجل: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى: 4].
قوله عز وجل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 96].
(1)
الصحاح (5/ 265).
(2)
مقاييس اللغة (4/ 289).
ورود اسم الله (العظيمِ) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (العظيمِ) في السنة النبوية، ومن وروده مايلي:
عن حذيفة رضي الله عنه، قال: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ. فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. ثُمَّ مَضَى. فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ! فَمَضَى فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا! ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا. يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ. ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ
…
»
(1)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب، يقول: لا إِلَهَ إِلَّا الله العَظِيمُ الحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ»
(2)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ الله الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ الله وبِحَمْدِهِ»
(3)
.
معنى اسم الله (العظيمِ) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله: «قالوا: فقوله (العظيم) معناه: المعظم الذي يعظمه خلقه ويهابونه ويتقونه .... وقال آخرون: بل تأويل قوله: (العظيم) هو أن له عظمة هي له صفة، وقالوا: لا نصف عظمته بكيفية، ولكنا نضيف ذلك إليه من جهة الإثبات،
…
وقال آخرون: بل قوله: إنه (العظيم) وصف منه نفسه
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(772).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6345)، ومسلم، رقم الحديث:(2730).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6406).
بالعظم، وقالوا: كل ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر؛ لصغرهم عن عظمته»
(1)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «(العظيم): ذو العظمة والجلال في ملكه وسلطانه»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: «العظيم هو ذو العظمة والجلال، ومعنى العظم في هذا منصرف إلى عظم الشأن، وجلالة القدر»
(3)
.
(4)
.
قال ابن الأثير رحمه الله: «(العظيم) هو الذي جاوز قدره تَعَالَى حدود العقول، حتى لا تتصور الإحاطة بكنهه وحقيقته»
(5)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «(العظيم) الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء، والمجد والبهاء الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء، وإن جلت في الصفة؛ فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم»
(6)
.
(1)
تفسير الطبري (5/ 406).
(2)
اشتقاق أسماء الله، للزجاجي (ص: 111 - 112).
(3)
شأن الدعاء (ص: 64).
(4)
الحجة في بيان المحجة (1/ 141).
(5)
النهاية في غريب الحديث (3/ 259).
(6)
الحق الواضح المبين (ص: 27 - 28).
قال ابن القيم رحمه الله:
وَهوَ العَظِيمُ بِكُلِّ مَعْنًى يُوجِبُ التَّـ
…
ـعْظِيمَ لَا يُحْصِيهِ مِنْ إِنْسَانِ
(1)
اقتران اسم الله (العظيمِ) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (العظيمِ) باسم الله (العليِّ):
وذلك في قوله تَعَالَى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
وجه الاقتران:
وجه الاقتران بين هذين الاسمين الكريمين: «أن لله عز وجل صفة كمال من اسمه (العلي)، وصفة كمال من اسمه (العظيم)، وصفة كمال ثالثة من اجتماعهما، فقد حاز العلو بكل أنواعه، وجمع العظمة بكل صورها، فهو عظيم في علوه، عال في عظمته سُبْحَانَهُ، ولعل تقديم اسم (العلي) على (العظيم) من تقديم السبب على المسبب؛ لأنه عز وجل عظم لعلوه على كل شيء»
(2)
.
ثانيًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العظيمِ) باسمه سُبْحَانَهُ (الحليمِ):
تقدم بيانه في اسم الله (الحليم).
(1)
النونية (ص: 203).
(2)
طابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم، لنجلاء كردي (ص: 474).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (العظيمِ):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (العظيم) من صفات الله تعالى:
الله سُبْحَانَهُ هو العظيم في كل شيء، عظيم في ذاته وفي أسمائه وصفاته، عظيم في رحمته، عظيم في قدرته، عظيم في حكمته، عظيم في جبروته وكبريائه، عظيم في هبته وعطائه، عظيم في لطفه وخبرته، عظيم في بره وإحسانه، عظيم في عزته وعدله وحمده، فهو العظيم المطلق، فلا أحد يساويه، ولا عظيم يدانيه.
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله معلقًا على آية الكرسي: «ففي آية الكرسي ذكر الحياة التي هي أصل جميع الصفات، وذكر معها قيوميته المقتضية لذاته وبقائه، وانتفاء الآفات جميعها عنه من النوم والسنة والعجز وغيرها، ثم ذكر كمال ملكه، ثم عقبه بذكر وحدانيته في ملكه، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ثم ذكر سعة علمه وإحاطته، ثم عقبه بأنه لا سبيل للخلق إلى علم شيء من الأشياء إلا بعد مشيئته لهم أن يعلموه.
ثم ذكر سعة كرسيه، منبهًا به على سعته سُبْحَانَهُ وعظمته وعلوه، وذلك توطئة بين يدي ذكر علوه وعظمته، ثم أخبر عن كمال اقتداره وحفظه للعالم العلوي والسفلي من غير اكتراث ولا مشقة ولا تعب، ثم ختم الآية بهذين الاسمين الجليلين الدالين على علو ذاته وعظمته في نفسه»
(1)
.
وتقوم معاني التعظيم الثابتة لله وحده على نوعين، كالتالي:
«أحدهما: أنه موصوف بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله، وأعظمه وأوسعه، فله العلم المحيط، والقدرة النافذة، والكبرياء، والعظمة،
(1)
صواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (4/ 1371).
ومن عظمته: أن السماوات والأرض في كف الرحمن أصغر من الخردلة، كما قال ذلك ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.
وقال تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].
وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41].
وقال تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5].
وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم، قال:«قال الله عز وجل: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ»
(1)
.
فلله تَعَالَى الكبرياء والعظمة، والوصفان اللذان لا يقدر قدرهما ولا يبلغ كنههما
(2)
.
النوع الثاني من معاني عظمته تَعَالَى: أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظَّم كما يعظَّم الله؛ فيستحق جل جلاله من عباده أن يعظموه بقلوبهم، وألسنتهم، وجوارحهم؛ وذلك ببذل الجهد في معرفته، ومحبته، والذل له، والانكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته.
(1)
خرجه أحمد، رقم الحديث:(9483)، وأبو داود، رقم الحديث:(4090)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(4090).
(2)
يأتي مزيد بيان عن عظمة الله في الأثر الثالث.
ومن تعظيمه: أن يُتقى حق تُقاته؛ فيطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، ومن تعظيمه: تعظيم ما حرمه وشرعه من زمان ومكان وأعمال، قال تَعَالَى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30]، ومن تعظيمه: أن لا يعترض على شيء مما خلقه أو شرعه»
(1)
.
- قال السعدي رحمه الله: «والله تَعَالَى عظيم، له كل وصف ومعنى يوجب التعظيم، فلا يقدر مخلوق أن يثني عليه، كما ينبغي له، ولا يحصي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده»
(2)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (العظيم) على التوحيد:
توحيد الربوبية والألوهية:
من آمن باسم الله العظيم وحَّد ربه بألوهيته وربوبيته وعظمه، ونفي الشركاء والأنداد عنه سُبْحَانَهُ، يقول تَعَالَى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، وقال تَعَالَى:{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]، وكانت عبادته لله بالخشوع والخضوع لله، والاستكانة والتذلل لعظمته وجبروته ومحبته، وإفراده وحده بالعبادة؛ ولذا شرعت الصلاة التي من أولها لآخرها تعظيمًا لله تَعَالَى وخضوعًا لعظمته، وإفراده وحده بالعبادة.
ويصف الإمام ابن القيم رحمه الله الركوع في الصلاة، فيقول: «ثم يرجع جاثيًا له ظهره خضوعًا لعظمته؛ وتذللًا لعزته؛ واستكانة لجبروته، مسبحًا له
(1)
حق الواضح المبين، للسعدي (ص: 27 - 28).
(2)
المرجع السابق.
بذكر اسمه (العظيم)، فنزه عظمته عن حال العبد وذله وخضوعه، وقابل تلك العظمة بهذا الذل والانحناء والخضوع، قد تطامن وطأطأ رأسه وطوى ظهره، وربه فوقه يرى خضوعه وذله؛ ويسمع كلامه، فهو ركن تعظيم وإجلال، كما قال صلى الله عليه وسلم:«فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عز وجل»
(1)
»
(2)
.
توحيد الأسماء والصفات:
إن اسم الله (العظيم) يدل باللزوم على الحياة والقيومية والسيادة والصمدية، والعزة والأحدية، وانتفاء الشبيه والمثلية، وكذلك يدل على السمع والبصر، والعلم والحكمة، والمشيئة والقدرة، وغير ذلك من صفات الكمال.
فهو سُبْحَانَهُ العظيم الواسع الكبير في ذاته وصفاته، الذي جاوز قدره حدود الإدراك والخيال والعقل؛ لجلالته وعظمته، يقول تَعَالَى في كتابه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ويقول سُبْحَانَهُ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، فإذا كان عرشهسُبْحَانَهُ قد وصفه بالعظمة، وخصه بالإضافة إليه والاستواء عليه، فكيف بعظمة من استوى عليه وعلا فوقه سُبْحَانَهُ.
ومن نفى عنه سُبْحَانَهُ صفاته أو أولها أو فوض معانيها؛ بدعوى أن إثباتها يوهم تشبيهه بالمخلوقين؛ فقد ضل ضلالًا مبينًا، ولم يعظم ربه سُبْحَانَهُ.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(479).
(2)
شفاء العليل (2/ 630).
الأثر الثالث: تعظيم ما أمر الله بتعظيمه:
وتعظيم الله تَعَالَى يكون بتعظيم الله سبحانه وتعالى، وتعظيم كل ما أمر العظيم بتعظيمه، ومن ذلك:
1 -
تعظيم أسماء الله وصفاته:
وقد وردت نصوص كثيرة تدل على عظم ذات الله تَعَالَى، منها: ما ورد عند ابن حبان من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ»
(1)
.
وتعظيم أسمائه وصفاته، يكون على نحوين:
أولًا: تعظيم الله في باب الخبر- كالصفات وسائر الغيبيات-: وذلك باثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ولاتكييف ولا تمثيل، يقول تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقد أمر سُبْحَانَهُ بتقديسه باسمه (العظيم)، يقول تَعَالَى:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74].
ثانيًا: تعظيم الله في باب الأمر: وذلك بطاعته عن محبة وتعظيم، والإكثار من ذكره؛ ابتغاء مرضاته، كما قال سُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 - 42] وقال تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41].
(1)
أخرجه ابن حبان، رقم الحديث:(361)، حكم الألباني: ضعيف جدًّا، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(362).
2 -
تعظيم كتابه العظيم:
فإنَّ تعظيمَ كلام الله تعظيمٌ لله تَعَالَى، وقد عظم الله القرآن بقوله تَعَالَى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، يقول النووي رحمه الله:«أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن العزيز على الإطلاق وتنزيهه وصيانته»
(1)
.
والمعظمون لكتاب الله هم الذين يقيمون حروفه وحدوده، بالانقياد والتسليم، والتلاوة والعمل والتعليم، وحسن الاستماع والانصات له، يقول تَعَالَى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، ويقول سُبْحَانَهُ:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].
وللمعظمين لكتاب الله تَعَالَى قصص عظمى، ومواقف تروى، فقد كانوا يمتثلون أمره، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا، ومن أروع القصص في هذا مارواه جابر رضي الله عنه قال: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَأَصَابَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَلَفَ أَنْ لَا أَنْتَهِيَ حَتَّى أُهَرِيقَ دَمًا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْزِلًا فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا؟ فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: كُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلَانِ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ اضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ، وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي، وَأَتَى الرَّجُلُ، فَلَمَّا رَأَى شَخْصَهُ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةٌ لِلْقَوْمِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ، حَتَّى رَمَاهُ بِثَلَاثَةِ
(1)
التبيان في آداب القرآن (ص 164).
أَسْهُمٍ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ انْتَبَهَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَذِرُوا بِهِ هَرَبَ، فَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ مِنَ الدِّمَاءِ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ أَلَا أَنْبَهْتَنِي أَوَّلَ مَا رَمَى؟ قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا»
(1)
.
ومما يروى عن الإمام البخاري رحمه الله أنه «كان ذات يوم يصلي فلسعه الزنبور سبع عشرة مرةً، فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء هذا الذي آذاني في صلاتي، فنظروا فإذا الزنبور قد ورمه في سبعة عشر موضعًا، ولم يقطع صلاته. وقال مرة: كنت في آية فأحببت أن أتمها»
(2)
.
3 -
تعظيم نبيه صلى الله عليه وسلم:
الذي شهد له ربه بقوله تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وتعظيمه يكون بالاتباع والطاعة والنصرة له ومحبته، وذكر مناقبه والتعرف على سيرته، واعتقاد أنه لا سبيل يقرب إلى الله، وتنال به مرضاته إلا السلوك خلفه، واقتفاء أثره وسنته، قال تَعَالَى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8 - 9].
يقول السعدي رحمه الله عند هذه الآية: «{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} أي: تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم وتوقروه أي: تعظموه وتجلوه، وتقوموا بحقوقه، كما كانت له المنة العظيمة برقابكم، {وَتُسَبِّحُوهُ} أي: تسبحوا لله {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} أول النهار وآخره، فذكر الله في هذه الآية الحق المشترك بين الله
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(14930)، وأبو داود، رقم الحديث:(198)، حكم الألباني: حسن، صحيح أبي داود، رقم الحديث:(198).
(2)
نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إشراف: صالح بن حميد (3/ 1043).
وبين رسوله، وهو الإيمان بهما، والمختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير، والمختص بالله، وهو التسبيح له والتقديس بصلاة أو غيرها»
(1)
.
ولا يؤمن أحد حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأهله والناس أجمعين.
أما الغلو والمبالغة في التعظيم فهو مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ حمايةً لجناب التوحيد، فقال صلى الله عليه وسلم:«لَا تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ الله، وَرَسُولُهُ»
(2)
.
4 -
تعظيم حرمات الله تعالى:
فمن عظم الله تَعَالَى سارع إلى مرضاته، وغار على حرماته، وأدى الواجبات، وأقبل في الخيرات، حتى تصبح المباحات لديه طاعات وقربات، تشهد بتوحيده لله وعبوديته وتعظيمه ومحبته، يقول تَعَالَى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، ويقول سُبْحَانَهُ:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30].
يقول ابن القيم رحمه الله عن تعظيم أوامر الله تَعَالَى ومناهيه: «تعظيم الأمر والنهي ناشئ عن تعظيم الآمر والناهي؛ فإن الله تَعَالَى ذم من لا يعظم أمره ونهيه، وقال سبحانه وتعالى:{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]، قالوا- في تفسيرها-: ما لكم لا تخافون لله تَعَالَى عظمة
…
وأول مراتب تعظيم الحق
(1)
تفسير السعدي (ص: 792).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3445).
عز وجل: تعظيم أمره ونهيه
…
وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تَعَالَى ونهيه دالًّا على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق، وصحة العقيدة، والبراءة من النفاق؛ فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع على المناهي، فهذا ليس فعله وتركه صادرًا عن تعظيم الأمر والنهي، ولا تعظيم الآمر والناهي.
ومن علامات التعظيم للأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحينها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها؛ كمن يحزن على فوت الجماعة، ويعلم أنه لو تُقُبِّلَت منه صلاته منفردًا؛ فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفًا، ولو أن رجلًا يعاني البيع والشراء تفوته صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة قيمتها سبعة وعشرون دينارًا لأكل يديه ندمًا وأسفًا، فكيف وكل ضِعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف، وألف ألف، وما شاء الله تَعَالَى، فإذا فوت العبد عليه هذا الربح قطعًا، وهو بارد القلب فارغ من هذه المصيبة غير مرتاع لها، فهذا من عدم تعظيم أمر الله تَعَالَى في قلبه.
وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تَعَالَى، أو فاته الصف الأول، وكذلك فوت الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها.
وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال
عند الله تَعَالَى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان، والإخلاص، والمحبة، وتوابعها.
وأما علامات تعظيم المناهي: فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها، وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها؛ كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها، وأن يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، ومجانبة من يجاهر بارتكابها، ويحسنها، ويدعو إليها، ويتهاون بها، ولا يبالي بما ارتكب منها؛ فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تَعَالَى وغضبه، ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تَعَالَى وحرماته.
ومن علامات تعظيم النهي: أن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزنًا وحسرةً إذا عُصي الله تَعَالَى في أرضه، ولم يضطلع بإقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.
ومن العلامات أيضًا: أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيًا غير مستقيم على المنهج الوسط؛ مثال: ذلك أن السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر، فالترخص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه؛ فيكون مترخصًا جافيًا.
فحقيقة التعظيم للأمر والنهي: أن لا يعارَضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال؛ فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه.
وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان؛ إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين.
كذلك من علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلم لأمر الله تَعَالَى وحكمه، ممتثلًا ما أمر به، سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر، فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد والبذل والتسليم»
(1)
.
فالمعظِّم الحقيقي لحرمات الله، لاينظر لصغر المعصية، ولكن ينظر لعظمة من عصى سُبْحَانَهُ، فإن القلب إن لم يؤمن بعظمة الله حقيقة لن يطيعه على الدوام، يقول تَعَالَى:{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 30 - 34].
5 -
تعظيم بيوت الله:
وقد أقام الإسلام تعظيم بيوت الله، وصيانة حرمتها، وإبقاء قدسيتها على ثلاثة أركان:
1 -
التقدير، يقول تَعَالَى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، كذلك يسن لمن دخل المسجد ألا يجلس مباشرة، بل يركع ركعتين، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ في قوله:«إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ»
(2)
.
2 -
التطهير، يقول تَعَالَى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].
(1)
انظر: الوابل الصيب (ص: 12 - 26).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(444)، ومسلم، رقم الحديث:(714).
3 -
التعمير، وقد وصف الله من يقوم بعمارة المسجد بالإيمان، فقال:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].
الأثر الرابع: نماذج من تعظيم الأنبياء والصالحين لله العظيم سُبْحَانَهُ:
من تأمل في حال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، رأى عظم تعظيمهم لله تَعَالَى، ومن ذلك:
تأدب الأنبياء مع العظيم سُبْحَانَهُ في ألفاظهم، ومن ذلك: خطاب إبراهيم عليه السلام لربه في قوله تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 78 - 82].
يقول السعدي رحمه الله في جمعه لمواضع تشمل الأدب مع الله في اللفظ: «فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] وأما الخير، فأضافه إلى الله تَعَالَى لقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]، كما قال إبراهيم عليه السلام {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، مع أن الكل بقضاء الله وقدره»
(1)
.
كان النبي صلى الله عليه وسلم لايغضب لنفسه أبدًا، وإنما يغضب بشدة إذا انتهكت حدود الله، وهذا واضح في قصة المرأة المخزومية التي سرقت واستشفع أسامة لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» !
(1)
تفسير السعدي (ص: 482).
(1)
، وشواهد السنة كثيرة في ذلك.
موقف صحابة النبي صلى الله عليه وسلم عندما نزل تحريم الخمر فعن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، «كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ»
(2)
قول ابن مسعود رضي الله عنه: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به، وأشار بيده هكذا»
(3)
.
قول الشافعي رحمه الله: «ما حلفت بالله صادقًا ولا كاذبًا»
(4)
، وما كان إلا توقيرًا لاسم الله تَعَالَى.
اللهم اجعلنا ممن عظمك حق تعظيمك، وتب علينا واغفر لنا.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6788) واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(1688).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2464) واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(1980).
(3)
الداء والدواء، لابن القيم (ص: 58).
(4)
طبقات الشافعيين، لابن كثير (ص: 22).
الأثر الخامس: محبة الله العظيم:
إن الإيمان بعظمة الله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته يدفع المسلم لمحبة ربه؛ فهو العظيم في نفسه، والعظيم في أفعاله، والعظيم في جماله، والعظيم في جلاله.
وهذا الحب هو في ذاته تعظيم لله -جل وعلا-، فكلما زاد حب العبد لربه تَعَالَى، زاد تعظيمه، وتعظيم شرعه الحنيف.
الأثر السادس: دعاء الله تَعَالَى باسمه العظيم:
وفي السنة شواهد ودلائل كثيرة على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ربه باسمه العظيم، ومن ذلك:
(1)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا الله العَظِيمُ الحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(4877)، وأبو داود، رقم الحديث:(5074)، والنسائي في السنن الكبرى (10325)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3871)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5074).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6345)، ومسلم، رقم الحديث:(2730).
وصح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا دخل المسجد قال: أَعُوذُ بِالله الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(466)، والبيهقي في الدعوات الكبير، رقم الحديث:(68)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(466).
العَفُوُّ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «وعفوت عن ذنبه، إذا تركته ولم تعاقبه، والعفُوُّ: الكثير العفو، وعفا الماء: إذا لم يطرقه شئ يكدره»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(عفو) العين والفاء والحرف المعتل أصلان يدل أحدهما على ترك الشيء، والآخر على طلبه، والعفو: عفو اللهتَعَالَى عن خلقه، وذلك تركه إياهم فلا يعاقبهم، فضلًا منه، قال الخليل: وكل من استحق عقوبة فتركته فقد عفوت عنه»
(2)
.
ورود اسم الله (العفو) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (العفو) في القرآن الكريم في خمس آيات، ومن وروده ما يلي:
قوله عز وجل: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99].
قوله عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149].
(1)
الصحاح (6/ 283).
(2)
مقاييس اللغة (4/ 56).
قوله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60].
ورود اسم الله (العفو) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (العفو) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت:«يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَدْعُو؟ قَالَ: تَقُولِينَ: اللهمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»
(1)
.
(2)
.
معنى اسم الله (العفو):
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]-:
«إن الله لم يزل عفوًّا عن ذنوب عباده، وتركه العقوبة على كثير منها ما لم
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3515)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3850) واللفظ له، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف ابن ماجه، رقم الحديث:(3850).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(4057)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(8572)، والبيهقي في الكبرى، رقم الحديث:(17690). حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1638).
يشركوا به»
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «العفو: الصفح عن الذنوب، وترك مجازاة المسيء»
(2)
.
قال القرطبي رحمه الله: «قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]، أي: لم يزل كائنًا يقبل العفو وهو السهل، ويغفر الذنب، أي: يستر عقوبته فلا يعاقب»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «العفو: الغفور الغفار، الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفًا، وبالغفران، والصفح عن عباده موصوفًا»
(4)
.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
وَهوَ العَفُوُّ فَعَفْوُهُ وَسِعَ الوَرَى
لَوْلَاهُ غَارَ الأَرْضُ بِالسُّكَّانِ
(5)
اقتران اسم الله (العفو) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (العفو) باسم الله (الغفور):
ورد ذلك في القرآن الكريم أربع مرات، ومن ذلك: قوله سُبْحَانَهُ: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99].
(1)
تفسير الطبري (8/ 426).
(2)
شأن الدعاء (ص: 90).
(3)
تفسير القرطبي (5/ 241).
(4)
تفسير السعدي (ص: 946)
(5)
النونية (2/ 227).
فالله العفو الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفًا، يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي، وهو قريب من الغفور، ولكنه أبلغ منه؛ فإن الغفران ينبني عن الستر، والعفو ينبني عن المحو، والمحو أبلغ من الستر
(1)
.
قال الكفوي رحمه الله: «يتمثل الفرق بين العفو والغفران في أمور عديدة، أهمها:
أن الغفران يقتضي إسقاط العقاب، ونيل الثواب، ولا يستحقه إلا المؤمن، ولا يكون إلا في حق البارئ تَعَالَى؛ أما العفو فإنه يقتضي إسقاط اللوم والذم ولا يقتضي نيل الثواب، ويستعمل في العبد- أيضًا-.
العفو قد يكون قبل العقوبة أو بعدها، أما الغفران؛ فإنه لا يكون معه عقوبة البتة، ولا يوصف بالعفو إلا القادر عليه.
في العفو إسقاط للعقاب، وفي المغفرة ستر للذنب وصون من عذاب الخزي والفضيحة»
(2)
.
ثانيًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العفو) باسمه سُبْحَانَهُ (القدير):
جاء هذا الاقتران مرة واحدة في القرآن الكريم، وذلك في قوله تَعَالَى:{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149].
وجه الاقتران:
«من المعلوم أن العفو الممدوح هو الذي يصدر مع القدرة على
(1)
ينظر: تفسير القرطبي (1/ 397)، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، لنظام الدين النيسابوري (2/ 421).
(2)
الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، للكفوي (ص: 633).
الانتقام، وكماله لا يكون إلا من الله تَعَالَى الذي عفوه ومغفرته ناشئان عن قدرته وحكمته، لا عن عجز وضعف؛ ولذا قرن الله عز وجل بين عفوه وقدرته، فهو سُبْحَانَهُ كامل في عفوه، وكامل في قدرته، وكامل في عفوه مع مقدرته»
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (العفو):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (العفو) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
الله سُبْحَانَهُ هو صاحب العفو الشامل، الذي يسع ما يصدر عن العباد من الذنوب، لاسيما إذا أتوا بما يوجب العفو عنهم من الاستغفار والتوبة والإيمان، والأعمال الصالحة، فهو سُبْحَانَهُ يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
ومن مظاهر كمال عفوه سُبْحَانَهُ مايلي:
العفو عن المذنب: فمهما أسرف العبد على نفسه، ثم تاب إلى ربه ورجع، غفر له ربه جميع جرمه، يقول تَعَالَى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، ولولا كمال عفوه وسعة حلمه سُبْحَانَهُ ما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب، ولا نفس تطرف، قال تَعَالَى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61].
(1)
ولله الأسماء الحسنى، للجليل (ص: 425).
العفو في الأحكام الشرعية للمحتاج: فهو سُبْحَانَهُ وإن كان أوجب الوضوء لمن أراد الصلاة، إلا أنه عفا عمن لا يجد الماء أو لم يستطيع استعماله، وأباح له التيمم مراعاة لضعفه، ولو شاء لأعنته، وألزمه بالوضوء أبدًا، يقول تَعَالَى:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43].
العفو في ستر عباده في الدنيا والآخرة: فلايفضحهم في الدنيا، ويستر على كثير منهم في الآخرة، فيعرِّفهم بعض ذنوبهم، ثم يسترهم بغفرانه لها، بل ويبدلها حسنات، فَسُبْحَانَهُ ما أكرمه! وما أعظم عفوه وغفرانه! يقول تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32].
فالله سُبْحَانَهُ بهذا الشمول الإلهي في عفوه قد أقام الحجة على عباده كلهم، فحري بهم أن يحسنوا عبادة ربهم، ويخلصوا توحيده سُبْحَانَهُ.
الأثر الثاني: الثقة بعفو الله وعدم تضييع أمره ونهيه:
فإن كون الله سُبْحَانَهُ عفو كريم غفور لا يعني أن يسرف العبد في الخطايا والذنوب، ويتجرأ على معصية الله تَعَالَى، بحجة أن الله عفو غفور رحيم؛ لأن المغفرة لا تكون إلا بشروطها وانتفاء موانعها، قال سُبْحَانَهُ:{إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] وقال عز وجل: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل: 11]، وهناك فرق كبير بين حسن الظن بالله والغرور.
وعن هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه الله: «وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه، وضيعوا أمره ونهيه، ونسوا أنه شديد العقاب، وأنه لا يُرد بأسُه عن القوم المجرمين، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند.
قال الإمام أحمد رحمه الله
…
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا رَأَيْتَ اللهَ عز وجل يُعْطِي العَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثم تلا قوله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]»
(1)
.
وقال بعض السلف: «إذا رأيت الله يتابع عليك نعمه، وأنت مقيم على معاصيه فاحذره؛ فإنما هو استدراج منه يستدرجك به، وقد قال تَعَالَى:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33 - 35]. وقد رد سُبْحَانَهُ على من يظن هذا الظن بقوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 17] أي: ليس كل من أنعمته ووسعت عليه رزقه أكون قد أكرمته، وليس كل من ابتليته وضيقت عليه رزقه أكون قد أهنته، بل ابتلي هذا بالنعم، وأكرم هذا بالابتلاء.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(17584)، والطبراني في الأوسط، رقم الحديث (9272)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(4220) حكم الألباني: إسناده جيد، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(5201).
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ الله عز وجل يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ»
(1)
، وقال بعض السلف: رب مُستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم، ورب مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم، ورب مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم»
(2)
.
الأثر الثالث: الحرص على تحصيل ثواب العفو وفضله:
للعافين عن الناس ثواب عظيم في الدنيا والآخرة، ومن ذلك مايلي:
أولًا: ثواب الدنيا، ومنه:
تحقيق الامتثال لأمر الله تعالى، فقد أمر بالعفو على سبيل العموم في قوله تَعَالَى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]
بل وأمر نبيه بالعفو مع أهل الخيانة والغدر، فكيف بالعفو!!!؟ وأخبره أنه يحب أهل الإحسان، يقول تَعَالَى عن بني إسرائيل:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]
محبة الله للعفو، ففي الحديث:«اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(3746)، ومسند البزار (2026)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 166)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(1625).
(2)
ينظر: الداء والدواء، لابن القيم (ص: 74 - 78).
(3)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(3850)، حكم الألباني: صحيح، رقم الحديث:(3850).
انقلاب العدو لولي حميم، يقول تَعَالَى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 36]
نيل العزة، ففي الحديث: عن أبى هريرة رضي الله عنه، «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ الله ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ»
(1)
(2)
.
ثانيًا: ثواب الآخرة:
أجر العافين على الله: يقول تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، ومن أحب أن يعفو الله عنه عفا عن خلقه، يقول تَعَالَى:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].
وقد كان سبب نزولها: ما رواه البخاري أن مِسطَح بن أُثاثة تكلم مع من تكلم في عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، فلما أنزل الله براءة عائشة، قَالَتْ: فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2558).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18316)، والترمذي، رقم الحديث:(2325)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2325).
مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور: 22]، يعني: أبا بكر رضي الله عنه، {وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} [النور: 22] يعني: مسطحًا، إلى قوله:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: بَلَى وَاللهِ يَا رَبَّنَا، إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا، وَعَادَ لَهُ بِمَا كَانَ يَصْنَعُ
(1)
.
نيل المغفرة والجنة: يقول تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134].
الأثر الرابع: محبة الله العَفُو:
من علم أن الله عفو غفور رحيم أثمر في قلبه محبته تَعَالَى، والتوقي عن معصيته بقدر الطاقة، وإذا زلت القدم ووقع المؤمن في الذنب فإنه يتذكر أن الله عفو يحب العفو، فيسري الرجاء في قلبه، ويقطع الطريق على اليأس من رحمة الله تَعَالَى، ويحسن الظن بربه الذي يعفو عن المسيئين، ويغفر الذنوب جميعًا.
الأثر الخامس: اتصاف العبد بالعفو:
العفو والتجاوز لا يقتضي الذلة والضعف، بل إنه قمة الشجاعة والامتنان وغلبة الهوى، لا سيما إذا كان العفو عند المقدرة على الانتصار.
وقد بوب البخاري في صحيحه بابًا عن الانتصار من الظالم؛ لقوله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]، وذكر عن إبراهيم النخعي رحمه الله
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4757).
قوله: «كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا»
(1)
، قال الحسن بن علي رضي الله عنهما:«لو أن رجلًا شتمني في أذني هذه، واعتذر في أذني الأخرى، لقبلت عذره»
(2)
.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ، ثُمَّ أَعَادَ إِلَيْهِ الْكَلَامَ، فَصَمَتَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ: اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً»
(3)
.
وقال جعفر الصادق رحمه الله: «لأن أندم على العفو عشرين مرة، أحب إلي من أندم على العقوبة مرة واحدة»
(4)
.
(5)
.
(1)
صحيح البخاري (3/ 129).
(2)
الآداب الشرعية، ابن مفلح (1/ 319).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(6006)، وأبو داود، رقم الحديث:(5164)، والترمذي، رقم الحديث:(1949)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5164).
(4)
أدب المجالسة، لابن عبد البر (ص: 116).
(5)
تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3280).
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ومن تأمل في السيرة النبوية وجدها مليئة بنماذج، يتجلى فيها عفو النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بحق نفسه، ولا يغضب من أجلها، ومن هذه النماذج:
عفوه صلى الله عليه وسلم عن رجل قد هم بقتله، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:«قَاتَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُحَارِبَ خَصَفَةَ بِنَخْلٍ فَرَأَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللهُ، فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ، وَلَا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ فَخَلَّى سَبِيلَهُ قَالَ: فَذَهَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ»
(1)
.
عفوه صلى الله عليه وسلم عن امرأة يهودية، تضع سمًّا في طعامه، وعندما أصيب النبي بهذا السم نهى عن قتلها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه:«أَنَّ يَهُودِيَّةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا، فَقِيلَ: أَلَا نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: لَا. فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»
(2)
.
عفوه صلى الله عليه وسلم عن قاتل عمه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «لمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ قَتْلَى أُحُدٍ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى مَنْظَرًا أَسَاءَهُ؛ رَأَى حَمْزَةَ قَدْ شُقَّ بَطْنُهُ، وَاصْطُلِمَ أَنْفُهُ، وَجُدِعَتْ أُذُنَاهُ، فَقَالَ:
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(15159)، وأبو يعلى، رقم الحديث:(1778)، وابن حبان، رقم الحديث:(2883)، حكم الألباني: صحيح، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(2872).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2617).
لَوْلَا أَنْ يَحْزَنَ النِّسَاءُ، أَوْ يَكُونَ سُنَّةً بَعْدِي لَتَرَكْتُهُ، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللهُ مِنْ بُطُونِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ، لَأُمَثِّلَنَّ مَكَانَهُ بِسَبْعِينَ رَجُلًا ". ثُمَّ دَعَا بِبُرْدِهِ فَغَطَّى بِهَا وَجْهَهُ، فَخَرَجَتْ رِجْلَاهُ، فَغَطَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجْهَهُ، وَجَعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْإِذْخِرِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ جَعَلَ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ وَحَمْزَةُ مَكَانَهُ، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً، وَكَانَ الْقَتْلَى سَبْعِينَ، فَلَمَّا دُفِنُوا، وَفَرَغَ مِنْهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] إلى قوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] فَصَبَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُمَثِّلْ بِأَحَدٍ»
(1)
.
والمعروف أن الذي قتل حمزة رضي الله عنه هو وحشي، فلما فتح رسول الله مكة هرب إلى الطائف، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله ليعلنوا إسلامهم ضاقت على وحشي السبل، وبعد فترة قدم على رسول الله المدينة وكان قد أسلم، قال وحشي: فَلَمَّا رَأنِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَحْشِيٌّ» قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «اجْلِسْ فَحَدِّثْنِي كَيْفَ كَانَ قَتْلُكَ حَمْزَةَ» فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثْتُهُ كَمَا حَدَّثْتُكُمَا فَقَالَ:«وَيْحَكَ غَيِّبْ عَنِّي وَجْهَكَ بِأَنْ لَا أَرَاكَ» قَالَ: فَكُنْتُ أَتَنَكَبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حِينَ كَانَ حَيًّا حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ عز وجل رَسُولَهُ»
(2)
.
(1)
أخرجه الدارقطني، رقم الحديث:، (4209)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (1/ 240).
(2)
أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، رقم الحديث:(483)، وابن حبان، رقم الحديث:(7017)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(2947) والبيهقي في الكبرى، رقم الحديث:(18258)، حكم الألباني: صحيح، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(6978)، وينظر: أسباب النزول، الواحدي (ص: 56).
فهذا موقف يبين كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكظم غيظه، فأي كظم للغيظ هذا؟ بل أي حلم وعفو هذا الذي يلقى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل عمه الأثير وصديقه النصير، وشريكه في الجهاد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قادرًا على أن يثأر لعمه، بل كان كثير من الصحابة الكرام ينتظر إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتل بها وحشيًّا؛ ليشفي غيظ نبيه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفى عنه ابتغاء وجه الله تَعَالَى، وفي هذا بيان لأمته أن تتعلم العفو والصفح الجميل.
عفوه صلى الله عليه وسلم العفو الشامل العام في فتح مكة، عندما وقف مخاطبًا أهل مكة قائلًا:«مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟ قالوا: خيرًا؛ أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»
(1)
.
نماذج من تخلق السلف الصالح بخلق العفو:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كان يحسن إلى مسطح الذي مس ابنته عائشة رضي الله عنها في عرضها، عندها أوقف الصديق المعونة عنه، فجاء العتاب الإلهي، قال تَعَالَى:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، فكان الصديق يقرأ هذه الآية ويبكي، يقول: بلى، أحب أن يغفر الله لي، وعاد على مسطح بالمساعدة!
(2)
.
(1)
زاد المعاد، ابن القيم (3/ 359).
(2)
سبق تخريجه.
أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها: قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: «روينا أن جارية لصفية أتت عمر بن الخطاب، فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود، فبعث عمر يسألها، فقالت: أما السبت، فلم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة؛ وأما اليهود، فإن لي فيهم رحمًا، فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان: قالت: فاذهبي، فأنت حرة»
(1)
.
ومن الأمور المعينة لتربية النفس على العفو عن الناس ما يلي:
تنقية القلب من شوائب الحقد والحسد، أو الغل على المسلمين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ عز وجل وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ، وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ. قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ
(1)
الاستيعاب على هامش الإصابة، لابن عبد البر (4/ 202).
صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ الْمَرَّاتِ (3)، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ»
(1)
.
استشعار الحاجة لعفو الله ورحمته ومغفرته، يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «اعلم أن لك ذنوبًا بينك وبين الله تخاف عواقبها، وترجوه أن يعفو عنها، ويغفرها لك، ويهبها لك، ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله، فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه، وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله هذه المعاملة، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك، جزاء وفاقًا، فانتقم بعد ذلك أو اعفُ، وأحسن أو اترك، فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباده يُفعل معك، فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه، هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي شكى إليه قرابته وأنه يحسن
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12894)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10633)، وعبد الرزاق في المصنف، رقم الحديث:(20559)، ومسند البزار (6308)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(6181)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(1728).
إليهم وهم يسيئون إليه، فقال:(لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُم المَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ)
(1)
».
قطع طريق الشيطان في الاسترسال باستدعاء تفاصيل خطأ من ظلم، فإن الاسترسال يؤجج نار العداوة، ويضرب القلوب بعضها ببعض؛ ولذا جاءت آية العفو مقرونة بالأمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، يقول تَعَالَى:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 199 - 200].
بل يأتي الأمر الإلهي باختيار أحسن الكلام عند مخاطبة الناس؛ حتى لا يترك للشيطان فرصة للإفساد، يقول تَعَالَى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]، ويقول تَعَالَى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 36].
العفو عن المسيء والدعاء له: وذلك تأسيًا برسل الله الكرام، فهذا يوسف عليه السلام ألقاه أخوته في البئر، وقال تَعَالَى عنهم:{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77]، فكان رد يوسف عليه السلام عندما اقتدر ودخلوا عليه في ملكه:{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، فابتدأ كلامه بنفي التعيير والتوبيخ، ثم دعا لهم.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2558).
وفي الصحيحين حكاية رسول الله عن نبي من الأنبياء، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللهمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»
(1)
.
(2)
.
بذل الهدية والعطية، يقول صلى الله عليه وسلم:«تَهَادُوا؛ فَإِنَّ الهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ، وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ شِقَّ فِرْسِنِ شَاةٍ»
(3)
.
صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فهي كفيلة بغسل قلب المؤمن، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3477) واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(1792).
(2)
بدائع الفوائد (2/ 243).
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2130)، حكم الألباني: ضعيف لكن الشطر الثاني منه صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2130).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(23539)، والطيالسي، رقم الحديث:(484)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(3804).
ومما تجدر الإشارة إليه: أن المؤمن مكلف بالعفو مع الإصلاح، يقول تَعَالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 39 - 40].
ومن فضل الله وسعة كرمه: أنه لم يلزم عباده بالعفو عمن أساء إليهم، يقول تَعَالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 39 - 41].
(1)
.
الأثر السادس: الدعاء باسم الله العفو:
عفو الله تَعَالَى من أعظم العطاء الذي يعطيه الله لعبده، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير السؤال به، وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الكلمات حين يمسي وحين يصبح: اللهمَّ إِنِّي
(1)
الروح (ص: 242).
أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخرة، اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللهمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللهمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي»
(1)
.
وعن أنس رضي الله عنه، قال:«فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «سَلِ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ، ثُمَّ أَتَاهُ الْغَدَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:«سَلِ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ»
(2)
.
وفي أفضل ليالي السنة دل رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة إلى سؤال العفو، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال:«قُولِي: اللهمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»
(3)
.
فاللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(637)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الأدب المفرد، رقم الحديث:(637).
(3)
سبق تخريجه.
الأعلَى العلِيُّ المُتعَالِ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «علا في المكان يعلو علوًّا، وعلي في الشرف بالكسر يعلى علاء، ويقال أيضًا: علا بالفتح يعلى،
…
والعُلاء والعَلاء: الرفعة والشرف»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «العين واللام والحرف المعتل- ياءً كان أو واوًا أو ألفًا- أصل واحد يدل على السمو والارتفاع، لا يشذ عنه شيء، ومن ذلك: العلاء والعلو، يقولون: تَعَالَى النهار، أي: ارتفع
…
، والعلو: العظمة والتجبر»
(2)
.
ورود اسماء الله (العَلِيِّ -الأعلى- المُتَعَالِ) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله العلي في ثمانية مواضع من القرآن، ومن وروده ما يلي:
قوله عز وجل: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
قوله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62].
(1)
الصحاح (6/ 284).
(2)
مقاييس اللغة (4/ 112 - 113).
قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23].
وأما (الأَعْلَى) فقد ورد مرتين، وهما:
قوله عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1].
قوله عز وجل: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20].
وأما (المُتَعَالِ) فقد ورد مرة واحدة، وهي:
قوله عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9].
ورود اسم الله (العلي- المتعالِ) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (العلي) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ- حِينَ يَسْتَيْقِظُ-: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لله، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، ثُمَّ قال: اللهم اغْفِرْ لِي، أو دعا، استُجيب له، فَإِنْ تَوَضَّأَ، قُبِلَتْ صَلَاتُهُ»
(1)
.
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1154).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(3417)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3883)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2045).
ورد اسم الله (الأعلى) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
1 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى»
(1)
.
2 -
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ، وَإِذَا سَجَدَ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ»
(2)
.
3 -
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ. فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ. ثُمَّ مَضَى. فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ! فَمَضَى فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا! ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ
آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا. يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ. ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ. فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ. ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(2095)، وأبو داود، رقم الحديث:(883)، والحاكم، رقم الحديث:(970)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(883).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(886)، والترمذي، رقم الحديث:(261)، وابن ماجه، رقم الحديث:(890)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(886).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(772).
ورد اسم الله (المتعالِ) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
(1)
.
معنى أسماء الله (العَلِيِ- الأعلى - المتعالِ) في حقه سُبْحَانَهُ:
أولًا: معنى اسمي الله (العلي، الأعلى):
هو الذي له العلو المطلق بجميع أنواع العلو الثلاثة:
1 -
علو الذات.
2 -
علو القهر والغلبة.
3 -
علو المكانة والقدر والصفات.
وحول أنواع العلو تدور أقوال العلماء، ومنها
(2)
:
قال الطبري رحمه الله: «هو ذو العلو والارتفاع على كل شيء، والأشياء كلها دونه؛ لأنهم في سلطانه، جارية عليهم قدرته، ماضية فيهم مشيئته»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(5712)، وابن خزيمة في التوحيد، رقم الحديث:(1/ 171)، والبيهقي في الأسماء والصفات، رقم الحديث:(52)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(3196).
(2)
مزيد من التفصيل في أنواع العلو سيكون في الأثر الثاني من الآثار الإيمانية والمسلكية.
(3)
تفسير الطبري، (20/ 466).
قال البغوي رحمه الله: «هو العالي على كل شيء»
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «كل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته، لا إله إلا هو، ولا رب سواه؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي لا أكبر منه، تَعَالَى وتقدس وتنزه عز وجل عما يقول الظالمون المعتدون علوًّا كبيرًا»
(2)
، وقال أيضًا:«هو العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء، فكل شيء خاضع حقير بالنسبة إليه»
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «فإن من لوازم اسم (العلي): العلو المطلق، بكل اعتبار، فله العلو المطلق من جميع الوجوه: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات؛ فمن جحد علو الذات فقد جحد لوازم اسمه (العلي)»
(4)
.
(5)
.
(1)
معالم التنزيل (5/ 397).
(2)
تفسير ابن كثير (5/ 449).
(3)
المرجع السابق (6/ 350).
(4)
التفسير القيم (ص: 35).
(5)
تفسير السعدي (ص: 946).
ثانيًا: معنى اسم الله (المتعالِ):
قال ابن كثير رحمه الله: «المتعال على كل شيء قد أحاط بكل شيء علمًا، وقهر كل شيء فخضعت له الرقاب، ودان له العباد طوعًا وكرهًا»
(1)
.
فالمتعال هو الذي ليس فوقه شيء في قهره وقوته، فلا غالب ولا منازع
له سُبْحَانَهُ، بل كل شيء تحت قهره وسلطانه، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]، وقال تَعَالَى:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] فلو فرضنا وجود إلهين اثنين متنازعين متشاكسين، مختلفين ومتضادين، وأراد أحدهما شيئًا خالفه الآخر، فلا بد عند التنازع من غالب وخاسر، فالذي لا تنفذ إرادته فهو المغلوب العاجز، والذي نفذت إرادته هو المتعالي القادر، وقد أحسنت الجن لما قالت:{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3].
قال ابن القيم رحمه الله:
هَذَا وَثَانِيهَا صَرِيحُ عُلُوِّهِ
…
وَلَهُ بِحُكْمِ صَرِيحِهِ لَفْظَانِ
لَفْظُ العَلِيِّ وَلَفْظَةُ الأَعْلَى مَعْرِ
…
فَةً أَتَتْكَ هُنَا لِقَصْدِ بَيَانِ
إِنَّ العُلُوَّ لَهُ بِمُطْلَقِهِ عَلَى التَّـ
…
عْمِيمِ والإِطْلَاقِ بِالبُرْهَانِ
وَلَهُ العُلُوُّ مِنَ الوُجُوهِ جَمِيعِهَا
…
ذَاتًا وَقَهْرًا مِنْ عُلُوِّ الشَّانِ
(2)
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 504).
(2)
النونية (ص: 73).
اقتران اسم الله (العَليِّ) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العليِّ) باسمه سُبْحَانَهُ (الحكيمِ):
تقدم بيانه في اسم الله (الحكيم).
ثانيًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العَلِي) باسمه سُبْحَانَهُ (العظيمِ):
تقدم بيانه في اسم الله (العظيم).
ثالثا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العَلِيِّ) واسمه سُبْحَانَهُ (المُتَعَالِ) باسمه سُبْحَانَهُ (الكبيرِ):
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العليِّ) باسمه سُبْحَانَهُ (الكبيرِ):
ومن وروده ما يلي: يقول تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34].
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (المُتَعَالِ) باسمه سُبْحَانَهُ (الكبيرِ):
لم يرد إلا مرة واحدة، في قوله تَعَالَى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9].
وجه الاقتران فيهما:
يقول السعدي رحمه الله: «وهو (العلي) بذاته فوق جميع المخلوقات، وقهره لهم وعلو قدره؛ لما له من الصفات العظيمة الجليلة المقدار، (الكبير) في ذاته وصفاته، ومن علوه: أن حكمه تَعَالَى يعلو وتذعن له النفوس حتى نفوس المتكبرين والمشركين»
(1)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 678).
الآثار المسلكية للإيمان باسماء الله (العَلِي- الأعلى- المتعال):
الأثر الأول: إثبات ما تتضمنه أسماء الله (العلي، الأعلى، المتعال) من الصفات:
فالله سُبْحَانَهُ هو العلي الأعلى المتعال، له جميع أنواع العلو بكمالها وتمامها، ومن أنكر شيئًا منها فقد ضل ضلالًا بعيدًا، ولإثبات أنواع العلو لله شواهد وأدلة، ومنها ما يلي:
علوُّ الذَّاتِ، فالله تبارك وتعالى مستو على عرشه، وعرشه فوق مخلوقاته، كما قال تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]، وقال:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2].
والله مستو على عرشه فوق عباده، كما قال تبارك وتعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، وقال عن عباده المؤمنين:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50].
ومن عنده تتنزل الآيات، يقول تَعَالَى:{تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه: 4].
وإليه تعرج وتصعد الملائكة، يقول تَعَالَى:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4].
وإليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح، يقول تَعَالَى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
وفي إثبات علو الذات الإلهية يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته:
فَهوَ العَلِيُّ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ
…
إِذْ يَسْتَحِيلُ خِلَافُ ذَا بَبَيَانِ
وَهوَ الَّذِي حَقًّا عَلَى العَرْشِ اسْتَوى
…
قَدْ قَامَ بِالتَّدْبِيرِ لِلْأَكْوَانِ
(1)
علوُّ القهرِ والغَلَبِ، كما قال تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4]، فلا ينازعه منازع، ولا يغلبه غالب، وكل مخلوقاته تحت قهره وسلطانه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد وصف الحق نفسه بصفات كثيرة، تدل على علو القهر والغلب كالعزيز، والقوي، والقدير، والقاهر والغالب، ونحو ذلك، يقول سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]،
علو المكانة والقدر، فله سُبْحَانَهُ كمال الحياة والدوام، وكمال الجمال والجلال، وكمال العلم والقدرة، وكمال الجود والرحمة، وكمال الحكمة، والحلم، فلله سُبْحَانَهُ المثل الأعلى والصفات العليا التي لا يستحقها غيره، يقول سُبْحَانَهُ:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، ويقول تَعَالَى:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27].
(1)
النونية (ص 203).
فالله سُبْحَانَهُ هو الإله الواحد الأحد، وهو المتعال عن الشريك والمثيل والند والنظير، يقول سُبْحَانَهُ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4].
وفي إثبات كل أنواع العلو للعلي العظيم يقول ابن القيم رحمه الله:
وَهوَ العَلِيُّ فَكُلُّ أَنْوَاعِ العُلُـ
…
ـوِّ لَهُ فَثَابِتَةٌ بِلَا نُكْرَانِ
(1)
الأثر الثاني: توحيد الله باسمائه العلي الأعلى المتعال:
- دلالة أسماء الله العلي الأعلى المتعال على توحيد الربوبية والألوهية:
إن من آمن أن الله سُبْحَانَهُ له كمال العلو بأنواعه وحده، علم أنه وحده العلي بذاته فوق كل خلقه، المسيطر عليهم بقهره وقوته وقدرته، المدبر لأمورهم بكمال علمه وحكمته ورحمته، وهو الذي له الأمر من قبل ومن بعد، فلا راد لأمره وقضائه، ولا تدبير إلا تدبيره، ولا يجري من الأقدار إلا ما أراده سُبْحَانَهُ، فهو الرب الخالق العلي المستحق للعبادة وحده دون سواه، يقول تَعَالَى في أعظم آية:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، يقول تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]
(1)
النونية (ص: 203).
ومن مقتضى الإيمان بعلو الله في ذاته، وقدره، وغلبته: أن يسبح المؤمن ربه عما لا يليق به تَعَالَى من قول المشركين، وأنه ينزه عن النقص بكل وجوهه مما يصفه به الملحدون، يقول تَعَالَى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 - 3]، وقال سُبْحَانَهُ:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3]، وقال تَعَالَى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
- دلالة أسماء الله العلي الأعلى المتعال على توحيد الأسماء والصفات:
فعقيدة المسلم إثبات العلو المطلق الكامل لله كما يليق بجلاله، دون تعطيل أو تحريف أو تأويل أو تشبيه، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله عددًا من النصوص المتنوعة المحكمة الدالة على علو الله على خلقه وكونه فوق عباده، ومنها:
أحدها: التصريح بالفوقية، مقرونة بأداة (من) المعينة لفوقية الذات نحو، قال تَعَالَى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]
الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله تَعَالَى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18].
الثالث: التصريح بالعروج إليه، نحو قوله تَعَالَى:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ثم يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(555)، ومسلم، رقم الحديث:(632).
الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله تَعَالَى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10].
الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، كقوله تَعَالَى:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقوله تَعَالَى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55].
السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتًا وقدرًا وشرفًا، كقوله تَعَالَى:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى: 4]، وقوله تَعَالَى:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23].
السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله تَعَالَى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]{تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102].
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله تَعَالَى:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19].
التاسع: التصريح بأنه سُبْحَانَهُ في السماء، وهذا عند أهل السنة على أحد وجهين: إما أن تكون «في» بمعنى «على» ، وإما أن يراد بالسماء: العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز حمل النص على غيره.
العاشر: التصريح بنزوله سُبْحَانَهُ كل ليلة إلى السماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل
(1)
.
(1)
ينظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (2/ 215).
الأثر الثالث: تعظيم العلي الأعلى المتعال سُبْحَانَهُ:
(1)
.
وبذلك يثمر الإخلاص والتعظيم في قلبه لله تَعَالَى، فلا يخشى سواه ولايطلب الثواب من غيره سُبْحَانَهُ، ويكون ممن قال الله عنهم سُبْحَانَهُ:{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19 - 20].
ولذا فمن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في سجود الصلاة قوله: «سبحان ربي الأعلى» ، وعلل ذلك بأن السجود غاية في الخضوع والتذلل من العبد بأشرف شيء فيه لله- وهو وجهه- بأن يضعه على التراب؛ فناسب في غاية سفوله أن يصف ربه بأنه الأعلى؛ فالعبد ليس له من نفسه شيء، وليس له من العظمة نصيب؛ فهو خلق من العدم.
الأثر الرابع: محبة العلي الأعلى المتعال:
فمتى استوطنت في نفس العبد معرفة الله تَعَالَى بأسمائه العلي الأعلى المتعال سُبْحَانَهُ، فعلم كماله من كل الوجوه، وتنزهه عن النقص من كل الوجوه، وأخلص له عالمًا أنه المرجو وحده، والمخوف وحده سبحانه وتعالى؛
(1)
طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (ص: 43).
إذ تدبير أموره وأمور كل الخلق راجع إليه، ونظر فرأى كمال لطف العلي سُبْحَانَهُ ورحمته وحكمته في هذا التدبير، ورأى كمال قدرته وقوته، ورأى كمال عظمته وجلاله سُبْحَانَهُ، أورثه ذلك- مع الخضوع والإخبات لربه- محبة تنقدح في نفسه، وتنمو في روحه، وتزداد بازدياد معرفته بخالقه سُبْحَانَهُ؛ وذلك لأن العبد مجبول على حب من حظه من الصفات أعلاها وأتمها.
الأثر الخامس: من آمن بالأعلى سُبْحَانَهُ تواضَع:
فإن الإيمان بعلوه سُبْحَانَهُ وقهره لعباده، يورث في القلب تواضعًا وحياءً، وتعظيمًا لله تَعَالَى وأوامره ونواهيه، فإن أوتي العبد شيء من العلو في الدنيا فإنما هو علو نسبي، وبإعلاء الله له، فلا فضل له فيه ولا منة، يقول تَعَالَى:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، كما علم أن الله الذي رفع منزلته وأعلى شأنه في الأرض قادر على أن يمحقه ويجعله من الأسفلين، يقول تَعَالَى:{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [البقرة: 253].
وعليه فيجب الحذر من العلو على الناس، واجتناب ظلم العباد والتكبر عليهم وقهرهم والعدوان عليهم، ولا ينجو من ذلك إلا من تذكر علو الله تَعَالَى وقهره، وأن العبد مهما علا وظلم وقهر فإن الله (العلي المتعال) فوقه يراه، وسيقتص للمظلومين ممن ظلمهم، وما من جبار علا في الأرض وتجبر إلا وقصمه الله تَعَالَى وأهلكه؛ ولذلك لما ذكر سُبْحَانَهُ علاج من يخاف نشوزها من الزوجات في سورة النساء ختم ذلك باسميه سُبْحَانَهُ (العلي)(الكبير)، قال تَعَالَى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34].
يقول القاسمي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]: «فاحذروه بتهديد الأزواج على ظلم النسوة من غير سبب؛ فإنهن وإن ضعفن عن دفع ظلمكم، وعجزن عن الإنصاف منكم، فالله سُبْحَانَهُ علي قاهر كبير قادر، ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن، فلا تغتروا بكونكم أعلى يدًا منهن، وأكبر درجةً منهن؛ فإن الله أعلى منكم وأقدر منكم عليهن، فختم الآية بهذين الاسمين فيه تمام المناسبة»
(1)
.
الأثر السادس: دعاء الله باسمه العلي الأعلى المتعال:
من الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء باسمه العلي، حديث عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ- حِينَ يَسْتَيْقِظُ-: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لله، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، ثُمَّ دَعَا: رَبِّ اغْفِرْ لِي، غُفِرَ لَهُ، قال الوليد: أو قال: دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ قَامَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ»
(2)
.
فاللهم يا علي يا عظيم، وفقنا لما تحب وترضى.
(1)
محاسن التأويل (3/ 100).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1154)، واللفظ لابن ماجه، رقم الحديث:(3878).
العليمُ العالِمُ علَّامُ الغُيوب جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «
…
وعلمت الشيء أعلمه علمًا: عرفته، وعالمت الرجل فعلمته، أعلمه بالضم: غلبته بالعلم
…
ورجل علامة، أي: عالم جدًّا، والهاء للمبالغة، كأنهم يريدون به داهيةً
…
».
(1)
قال ابن فارس رحمه الله: «(علم) العين واللام والميم أصل صحيح واحد،
…
والعلم: نقيض الجهل، وقياسه قياس العلم والعلامة»
(2)
.
ورود اسم الله (العليم - العالم - علام الغيوب) في القرآن الكريم:
أولًا: ورود اسم الله العليم في القرآن:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (العليم) في القرآن الكريم مائةً وسبعًا وخمسين مرة، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32].
قوله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115].
(1)
الصحاح (5/ 1990).
(2)
مقاييس اللغة (4/ 109).
قوله عز وجل: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2].
ثانيًا: ورود اسم الله العالم في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (العالم) في القرآن الكريم ثلاثة عشر مرة، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 92].
قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فاطر: 38].
قوله عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26].
ثالثًا: ورود اسم الله علام الغيوب في القرآن:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (علام الغيوب) في القرآن الكريم أربع مرات، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109].
قوله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة: 78].
قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سبأ: 48].
ورود اسم الله (العليم-العالم-علام الغيوب) في السنة النبوية:
أولًا: ورود اسم الله (العليم) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (العليم) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ قَالَ: بِسْمِ اللهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلَاءٍ حَتَّى يُمْسِيَ»
(1)
.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ، ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ- ثلاثًا-، ثُمَّ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا- ثلاثًا- أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(535)، وأبو داود، رقم الحديث:(5088) واللفظ له، والترمذي، رقم الحديث:(3388)، والنسائي، رقم الحديث:(347)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3869)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5088).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(11649)، وأبو داود، رقم الحديث:(775)، والترمذي، رقم الحديث:(الحديث: (242)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(775). داود، تخريج الكلم الطيب، رقم الحديث:(130).
ثانيًا: ورود اسم الله (العالم) في السنة النبوية:
وورد اسم الله (العالم) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رحمه الله، قال:«سألت عائشة أم المؤمنين، بأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قال: اللهمَّ رَبَّ جِبرِيلَ ومِيكائِيلَ وإِسرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمواتِ والأرضِ، عَالمَ الغَيبِ والشهادَةِ، أَنتَ تَحكم بَينَ عِبَادِكَ فيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفون، اهدني لِما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بِإِذنِكَ، إِنَّكَ تَهدي مَن تَشاءُ إلى صِراطٍ مُستَقيمٍ»
(1)
.
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال:«يا رسول الله، مُرني بكلمات أقولهن إذا أمسيت وإذا أصبحت. قال: قُلْ: اللهمَّ فَاطِرَ السمواتِ والأرضِ، عالِمَ الغيب والشَّهادَةٍ، رَبَّ كُلِّ شَيءٍ ومَليكَهُ، أَشْهَدُ أن لا إلهَ إلا أَنْتَ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَشَرِّ الشيطانِ وشِرْكِهِ، قال: قُلهَا إذَا أصْبَحْتَ، وإذَا أمْسَيْتَ، وإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَك»
(2)
.
ثالثًا: ورود اسم الله (علام الغيوب) في السنة النبوية:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (علام الغيوب) في السنة النبوية، ومن وروده ما جاء في حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه: قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(770).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(64)، وأبو داود، رقم الحديث:(5067)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5067).
في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللهمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللهمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الأَمْرَ- ثُمَّ تُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ- خَيْرًا لِي فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - قَالَ: أَوْ فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، اللهمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- أو قال: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ»
(1)
.
معنى اسم الله (العليم-العالم-علام الغيوب) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله في قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]: «إنك أنت يا ربنا العليم من غير تعليم بجميع ما قد كان وما هو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك»
(2)
، وقال أيضًا:«إن الله ذو علم بكل ما أخفته صدور خلقه من إيمان وكفر، وحق وباطل، وخير وشر، وما تستجنه مما لم تجنه بعد»
(3)
.
قال الزجاج رحمه الله: «العليم والعالم بمعنى واحد
…
وحسن الإعادة لاختلاف معنييهما؛ لأن العليم فيه صفة زائدة على ما في العالم»
(4)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «العليم والعالم صفتان مشتقان من العلم،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7390).
(2)
تفسير الطبري (1/ 495).
(3)
المرجع السابق (15/ 239).
(4)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 39).
فالعالم اسم الفاعل من علم يعلم فهو عالم، والعليم من أبنية المبالغة في الوصف بالعلم
…
»
(1)
.
(2)
قال الحليمي رحمه الله: «ومنها العليم: لأن معناه: المدرك لما يدركه المخلوقون بعقولهم وحواسهم، وما لا يستطيعون إدراكه، من غير أن يكون موصوفًا بعقل أو حس، وذلك راجع إلى أنه لا يعزب عنه شيء، ولا يعجزه إدراك شيء، كما يعجز عن ذلك من لا عقل له ولا حسن من المخلوقين، ومعنى ذلك: أنه يشبههم ولا يشبهونه.
ومنها العلام: ومعناه العلام بأصناف المعلومات على تفاوتها، فهو يعلم الموجود، ويعلم ما هو كائن، وإنه إذا كان كيف يكون، ويعلم ما ليس بكائن، وأنه لو كان كيف كان يكون»
(3)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الرعد: 9] أي: يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم، ولا يخفى عليه منه شيء»
(4)
.
(1)
اشتقاق أسماء الله الحسنى، للزجاجي (ص: 50 - 57).
(2)
شأن الدعاء (1/ 57).
(3)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 199).
(4)
تفسير ابن كثير (4/ 437).
قال السعدي رحمه الله: «الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والإسرار، والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات، والممكنات وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله:
وَهوَ العَلِيمُ بِمَا يُوَسْوِسُ عَبْدُهُ
…
فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ نُطْقِ لِسَانِ
بَلْ يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ الدَّانِي مَعَ الـ
…
قَاصِي وَذُو الإِسْرَارِ وَالإِعْلَانِ
وَهوَ العَلِيمُ بِمَا يَكُونُ غَدًا وَمَا
…
قَدْ كَانَ والمعْلُوم فِي ذَا الآنِ
وَبِكُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْـ
…
ـفَ يَكُونُ مَوْجُودًا لَدَى الأَعْيَانِ
(2)
اقتران اسم الله (العليم-العالم-علام الغيوب) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (العليم) باسم الله (الحكيم):
تقدم بيانه في اسم الله (الحكيم).
(1)
تفسير السعدي (ص: 945).
(2)
نونية ابن القيم (ص: 36).
ثانيًا: اقتران اسم الله (العليم) باسم الله (العزيز):
تقدم بيانه في اسم الله (العزيز).
ثالثًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العليم) باسمه سُبْحَانَهُ (الواسع):
اقترن اسم الله العليم باسم الله (الواسع) في سبع آيات من القرآن الكريم، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]، وقوله سُبْحَانَهُ:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
وذلك للدلالة على أن سعة فضله وعطائه وجوده؛ راجع إلى علمه بمن يستحق ذلك من خلقه، قال ابن القيم رحمه الله في قوله تَعَالَى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]: «
…
ثم ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقهما، وهما:(الواسع)، (العليم)، فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة، ولا يضيق عنها عطاؤه؛ فإن المضاعِف واسع العطاء، واسع الغنى، واسع الفضل، ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق؛ فإنه عليم بمن تصلح له المضاعفة، وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها؛ فإن كرمه وفضله تَعَالَى لا يناقض حكمته، بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته، ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه»
(1)
.
(1)
طريق الهجرتين (1/ 540).
رابعًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العليم) باسمه سُبْحَانَهُ (القدير):
جاء اقتران اسم الله (العليم) باسم الله (القدير) في أربعة مواضع من كتاب الله، منها: قوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: 70]، وقوله سُبْحَانَهُ:{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 50].
وذلك للدلالة على كمال الله عز وجل؛ إذ «العلم بدون قدرة عجز، والقدرة بدون علم مظنة الإفساد والظلم والطغيان»
(1)
.
خامسًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العليم) باسمه سُبْحَانَهُ (الفتاح):
ورد اقتران اسم الله (العليم) باسمه (الفتاح) مرة واحدة في القرآن الكريم، وذلك في قوله تَعَالَى:{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 26].
(والفتاح) له معنى عام يشمل فتح كل مغلق من الأسباب كالرزق والعلم، وله معنى خاص، كما هو المراد من آية (سبأ)، وهو الفصل والحكم الحق؛ ولذا فيقال- في وجه اقتران هذين الاسمين الجليلين-: «إنه إذا حمل الفتح على عموم معناه، فشمل فتح كل مغلق من الأسباب، كالرزق والعلم كان اقتران اسم (العليم) به دالًّا على كمال الفتح، وأنه يجري على مقتضى العلم، وفي ذلك صلاح العباد واستقامة أحوالهم، بخلاف ما لو كان فتحًا بغير علم، تَعَالَى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
(1)
مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام، لنجلاء كردي (ص: 433).
وإذا أريد بالفتح: القضاء والحكم كان اقتران (الفتاح) بـ (العليم) دالًّا على كمال الفتح- أي: الحكم- مشيرًا إلى استقامته على العدل والقسط، فلا تميل به الأهواء، ولا ينحرف به الجهل، ومثل هذا الحكم جدير بأن يرهب ويخاف»
(1)
.
سادسًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العليم) باسمه سُبْحَانَهُ (الخلاق):
تقدم بيانه في اسم الله (الخالق الخلاق).
سابعًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العليم) باسمه سُبْحَانَهُ (السميع):
تقدم بيانه في اسم الله (السميع).
ثامنًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العليم) باسمه سُبْحَانَهُ (الشاكر):
تقدم بيانه في اسم الله (الشاكر الشكور).
تاسعًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العليم) باسمه سُبْحَانَهُ (الحليم):
تقدم بيانه في اسم الله (الحليم).
عاشرًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (العليم) باسمه سُبْحَانَهُ (الخبير):
تقدم بيانه في اسم الله (الخبير).
ثانيًا: اقتران اسم الله (العالم) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ:
لم يقترن اسم الله (العالم) بأي اسم من أسماء الله الحسنى.
ثالثًا: اقتران اسم الله (علام الغيوب) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ:
لم يقترن اسم الله (علام الغيوب) بأي اسم من أسماء الله الحسنى.
(1)
المرجع السابق (ص: 638).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (العليم- العالم- علام الغيوب):
الأثر الأول: إثبات ما تتضمنه اسماء الله (العليم- العالم- علام الغيوب) من الصفات:
الله عز وجل العليم العالم، علام الغيوب الذي أحاط علمه بالعالم العلوي والسفلي، ووسع ما فيه من المخلوقات علمًا، فلا يخلو عن علمه ذات ولا حال ولا مكان ولا زمان، قال تَعَالَى:{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، وقال:{وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81].
(1)
ومن مظاهر سعة علمه سُبْحَانَهُ
(2)
:
شمول علمه وإحاطته لكل ما في السموات السبع، والأرضين السبع من المخلوقات والكائنات الصغيرة والكبيرة، والدقيقة والجليلة، الساكنة والمتحركة، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16]، وقال سُبْحَانَهُ:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقال:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [العنكبوت: 52].
(3)
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 265)، والحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 37).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (216، وما بعدها).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (22/ 319)، وتفسير ابن كثير (8/ 136)، وفتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 46)، والحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 37 - 38)
فيعلم العليم سُبْحَانَهُ ما في سمائه من الملائكة، على الرغم من كثرتهم، حتى قال صلى الله عليه وسلم عنها:«أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله»
(1)
.
ويعلم العليم سُبْحَانَهُ ما في الأرض من البراري والقفار، وما فيها من الحيوانات، والأشجار، ويعلم ما فيها من البحار وحيواناتها، ومعادنها، وصيدها، وغير ذلك مما تحتويه أرجاؤها، ويشتمل عليه ماؤها، قال تَعَالَى:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]
(2)
.
إحاطة علمه بأحوال خلقه في جميع مراحلهم: قبل الخلق، وبعد الخلق في الحياة، والممات، والمعاد وما يكون من الجزاء في دار القرار، قال تَعَالَى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255].
فعلم العليم قبل أن يخلق الخلق كل شيء كائن، علمه بكلياته وجزائيته وتفاصيله ودقائقه، وكتب ذلك كله في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه، قال:«كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(21916)، والترمذي، رقم الحديث:(2312)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4190). حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2312).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 259).
(3)
ينظر: شرح الأربعين النووية، لصالح آل الشيخ (ص: 66).
وعلم العليم بعد خلقهم جميع أمورهم، فيعلم ما في الأرحام من حمل كل إناث الحيوانات، قال تَعَالَى:{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8]، ويعلم هل هو ذكر أو أنثى، حسن أو قبيح، غني أو فقير، طويل الأجل أو قصير، شقي أو سعيد.
ويعلم العليم بعد خروجهم على وجه الأرض أعمالهم وأقوالهم الظاهرة والباطنة، قال تَعَالَى:{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25].
إحاطة علمه بالظواهر والبواطن، والإعلان والإسرار، بل علمه بما هو أخفى منها مما تنطوي عليه الصدور وتواريه، قال تَعَالَى:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]، قال تَعَالَى:{يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5].
فيعلم العليم سُبْحَانَهُ ما يظهر من الأقوال ولو صدرت في آن واحد، ويعلم الأعمال ولو صغرت، خيرها وشرها، قال تَعَالَى:{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء: 4]، وقال تَعَالَى:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور: 28]
(1)
.
ويعلم العالم سُبْحَانَهُ السر كعلمه بالجهر؛ فالكل سواء، والعامل في ظلمة الليل المدلهم كالعامل في وضح النهار سيان، قال تَعَالَى:{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].
ويعلم سُبْحَانَهُ ما تكنه القلوب، وتخفيه الصدور من الإيمان والكفر والنفاق، وما تخفيه من النوايا الطيبة والخبيثة، والمقاصد الحسنة والقبيحة،
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 414).
وما تخفيه من أعمال القلوب الصالحة والفاسدة، قال تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235].
إحاطة علمه بما يصلح لخلقه من الأحكام الشرعية والقدرية، قال تَعَالَى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]
فيعلم ما يصلحهم من الشرائع التي تنتهي بهم إلى سعادة الدارين، والتي أرسل بها الرسل وأنزل بها الكتب، قال تَعَالَى:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166]، وكثير من آيات الأحكام يختمها الله عز وجل بقوله:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب: 1]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4] كما في أحكام المواريث، والنكاح، والكفارات، والحدود، وغيرها، إشارة إلى أن هذه الأحكام إنما صدرت عن علم تام، وحكمة بالغة.
ويعلم ما يصلح لهم من الأقدار غنى وفقرًا، وصحة ومرضًا، وولدًا وعقمًا، ونحو ذلك؛ وبناء عليه قدَّر وقضى، قال تَعَالَى:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62]، وهذا يظهر بجلاء في قصة الخضر مع موسى عليه السلام؛ إذ قدر سُبْحَانَهُ لأصحاب السفينة واليتيمين ما فيه صلاح دنياهم، وقدر لوالدي الغلام ما فيه صلاح دينهم، وإن كان ظاهر الأمر في أوله شر وسوء
(1)
.
إحاطة علمه بالأزمان كلها؛ فيعلم ما كان من الماضي، قال تَعَالَى عن قول فرعون وجواب موسى عليه السلام له، قال تَعَالَى:{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 51 - 52].
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 485).
ويعلم ما يكون في الحاضر، قال تَعَالَى:{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ} [الرعد: 8]، ويعلم ما سيكون في المستقبل الذي لا نهاية له؛ قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
ويعلم سُبْحَانَهُ ما لم يكن لو كان كيف يكون، قال تَعَالَى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
ومن ذلك: علمه بمفاتح الغيب التي طوى علمها عن جميع خلقه، فلا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا بتعليمه إياه، قال تَعَالَى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]
(1)
، وفسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ، ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]»
(2)
.
وما سبق كله دال على عظمة علم الله عز وجل وسعته، وأن الخلق من أولهم إلى آخرهم لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض هذه الصفة لم يكن لهم قدرة ولا وسع في ذلك، فتبارك الرب الواسع العليم، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]
(3)
.
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 653).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4778).
(3)
ينظر: المرجع السابق (ص: 259).
ثم إن هذا ليس مقتصرًا على صفة العلم، بل كذا ذاته العلية وأسمائه الحسنى وصفاته الأخرى لا يحيط الخلق بها، ولا يعلمون منها إلا ما أعلمهم العليم وأطلعهم عن طريق رسله وكتبه، قال تَعَالَى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255]، وقال سُبْحَانَهُ:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]
(1)
.
الأثر الثاني: توحيد الله بأسمائه العليم العالم علام الغيوب:
- دلالة أسماء الله العليم، العالم، علام الغيوب، على توحيد الألوهية والربوبية:
فأسماء الله: العليم، العالم، علام الغيوب؛ تدعو العباد إلى توحيد الله تبارك وتعالى بعلم الغيب؛ إذ لا يعلم الغيب إلا الله، قال تَعَالَى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]، ويقول صلى الله عليه وسلم:«مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]»
(2)
.
فالغيب خاص بعلام الغيوب، لا يشاركه في علمه أحد من خلقه ولو كان ملكًا أو نبيًّا، يقول تَعَالَى على لسان الملائكة:{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، ويقول أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم لما سأله أشرف رسول ملكي وهو جبريل عليه السلام فقال: أخبرني
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 680).
(2)
سبق تخريجه.
عن الساعة؟ قال: «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»
(1)
، أي: كما أنه لا علم لك بها، فلا علم لي بها أيضًا
(2)
.
ومن هنا فاختصاص الله وحده بعلم الغيب واطلاعه على كل شيء أكبر داع إلى توحيد العبادة، يقول تَعَالَى:{أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 64 - 65].
- دلالة أسماء الله العليم العالم علام الغيوب على توحيد الأسماء والصفات:
كما أن أسماء الله العليم العالم علام الغيوب تدل على توحيد الربوبية والألوهية، فهي تدل- أيضًا- على توحيد الأسماء والصفات، وتدل على عدد كبير منها كالبصير، والسميع، والقدير، والخبير، وغيرها من الأسماء الدالة على ذلك.
الأثر الثالث: تحريم إتيان من ادعى علم الغيب:
من آمن بأسماء الله العليم العالم علام الغيوب؛ أيقن أن الكهان والعرافين ونحوهم لا يعلمون شيئًا من الغيب، وإنما يخبرون بما تمليه عليهم الشياطين والجن مما استرقوه من السمع؛ ولذلك جاء النهي عن سؤالهم والتغليظ في ذلك، يقول صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(8).
(2)
ينظر: شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين (1/ 194).
عَلَى مُحَمَّدٍ»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا»
(2)
.
ولذا فمن ادعى علم الغيب، أو اعتقد أن أحدًا من الخلق يشارك لله في ذلك، فإنه كافر وفعله مناقض للإسلام؛ لما فيه من مصادمة النصوص وتكذيبها، يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: «فالكاهن من يزعم أنه يعلم بعض المغيبات، وأكثر ما يكون ذلك ممن ينظرون في النجوم لمعرفة الحوادث، أو يستخدمون من يسترقون السمع من شياطين الجن، كما ورد بالحديث الذي مر ذكره، ومثل هؤلاء من يخط في الرمل أو ينظر في الفنجان أو في الكف ونحو ذلك، وكذا من يفتح الكتاب؛ زعمًا منهم أنهم يعرفون بذلك علم الغيب، وهم كفار بهذا الاعتقاد؛ لأنهم بهذا الزعم يدعون مشاركة الله في صفة من صفاته الخاصة وهي علم الغيب، ولتكذيبهم بقوله تَعَالَى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] وقوله تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، وقوله تَعَالَى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى} [الأنعام: 50]، ومن أتاهم وصدقهم بما يقولون من علم الغيب فهو كافر؛ لما رواه أحمد وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه البزار، رقم الحديث:(3578)، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم (2650).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(16906)، حكم الألباني: صحيح، غاية المرام، رقم الحديث:(284).
قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم
…
»
(1)
»
(2)
.
وقد قسم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله سؤال العراف والكاهن ونحوهما إلى أقسام، فقال:
«القسم الأول: أن يسأله سؤالًا مجردًا؛ فهذا حرام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا)؛ فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه; إذ لا عقوبة إلا على فعل محرم.
القسم الثاني: أن يسأله فيصدقه، ويعتبر قوله؛ فهذا كفر لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن، حيث قال تَعَالَى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]
القسم الثالث: أن يسأله ليختبره: هل هو صادق أو كاذب، لا لأجل أن يأخذ بقوله؛ فهذا لا بأس به، ولا يدخل في الحديث
…
القسم الرابع: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه، فيمتحنه في أمور يتبين بها كذبه وعجزه، وهذا مطلوب، وقد يكون واجبًا
…
»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(10308)، والحاكم، رقم الحديث:(15)، والبيهقي في الكبرى، رقم الحديث:(16592)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(5939).
(2)
مجموع فتاوى ابن باز (2/ 120).
(3)
القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 533 - 534).
الأثر الرابع: الرضا بأقدار العليم العالم علام الغيوب:
إن يقين العبد باسم ربه العليم العالم علام الغيوب وما فيه من العلم السابق للأشياء قبل وقوعها، وكتابته لها في اللوح المحفوظ قبل خلقها، كما قال سُبْحَانَهُ:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقوله تَعَالَى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]- كله داع إلى التسليم والرضا والاطمئنان لحكم الله عز وجل، ولو كان مكروهًا للنفس، شديدًا عليها، لا سيما إذا ضم إليه اليقين بحكمة الله عز وجل، وأنه لم يقدِّر ما قَدَّر عبثًا ولا لهوًا ولا سفاهة وطيشًا.
ولهذا المعنى نجد أنبياء الله عز وجل يذكرون علم الله كعزاء لهم في ما يواجههم من المصائب والآلام، فهذا نبي الله يعقوب عليه السلام يقول عند فقد أبنائه الثلاثة:{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 83]، ولما عاتب الله نوح عليه السلام على سؤاله لابنه، قال معتذرًا:{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47].
ونجد الله عز وجل يختم الآيات التي يذكر فيها تفاوت أرزاق الناس بعلمه سُبْحَانَهُ، كما في قوله تَعَالَى:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62]، وقال تَعَالَى:{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 12].
وإن من التسليم لقدر الله واختياره المبني على علم «دعاء الاستخارة» ؛ إذ فيه التسليم لله وتفويض الحكم والاختيار إليه؛ لتمام علمه وخبرته وقدرته.
قال ابن القيم رحمه الله: «ولما كان العبد يحتاج في فعل ما ينفعه في معاشه ومعاده إلى علم ما فيه من المصلحة، وقدره عليه وتيسره له، وليس له من نفسه شيء من ذلك، بل علمه ممن علم الإنسان ما لم يعلم وقدرته منه، فإن لم يقدره عليه وإلا فهو عاجز، وتيسيره منه، فإن لم ييسره عليه وإلا فهو متعسر عليه بعد أقداره؛ أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى محض العبودية، وهو جلب الخيرة من العالم بعواقب الأمور وتفاصيلها وخيرها وشرها، وطلب القدرة منه؛ فإنه إن لم يقدره وإلا فهو عاجز، وطلب فضله منه، فإن لم ييسره له ويهيئه له وإلا فهو متعذر عليه.
ثم إذا اختاره له بعلمه وأعانه عليه بقدرته ويسره له من فضله؛ فهو يحتاج إلى أن يبقيه عليه ويديمه بالبركة التي يضعها فيه، والبركة تتضمن ثبوته ونموه، وهذا قدر زائد على إقداره عليه وتيسيره له، ثم إذا فعل ذلك كله فهو محتاج إلى أن يرضيه به، فإنه قد يهيء له ما يكرهه؛ فيظل ساخطًا، ويكون قد فضّله الله به.
قال عبد الله بن عمران رحمه الله: الرجل ليستخير الله، فيختار له، فيسخط على ربه، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو قد خار له
…
قال الحسن رحمه الله: لا تكرهوا النقمات الواقعة، والبلايا الحادثة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تؤثره فيه عطبك»
(1)
.
كما قال سُبْحَانَهُ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ولكن كثير من
(1)
شفاء العليل، لابن القيم (ص: 34).
الناس على خلاف هذا، فتجد الواحد منهم يستخير ثم يحدث المقدور على خلاف ما يحب ويشتهي، فيسخط على ربه، ولا يرضى بحكمه، مع أن مقتضى الاستخارة التي لهج بها خلاف ذلك؛ إذ هي توكيل لله العليم الخبير بالأمر؛ ومن ثم الرضى بحكمه والتسليم إليه.
الأثر الخامس: التسليم لشريعة العليم العالم علام الغيوب، والرضى بها:
إذا تيقن العبد اسم ربه العليم العالم علام الغيوب، وما فيه من تمام العلم بالخلق، وتمام الخبرة بما يصلح لهم من الأحكام والشرائع، كما قال تَعَالَى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]، وختم كثير من آيات الأحكام باسمه «العليم الحيكم» كقوله تَعَالَى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، وقوله سُبْحَانَهُ بعد أن ذكر أحكام الاستئذان:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58]، وقوله تَعَالَى بعد أن ذكر المحرمات من النساء:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 24]؛ دفعه هذا إلى التسليم والرضى بحكم الله الشرعي، سواء كان أمرًا أو نهيًا أو خبرًا، بل ويدعوه- أيضًا- إلى الفرح والاغتباط بحكمه؛ لأنه من لدن حكيم عليم.
ثم إن التسليم لحكم الله الشرعي والفرح به يقتضي الحكم به، والتحاكم إليه، وسلامة القلب من الحرج منه، كما قال سُبْحَانَهُ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، بل ويقتضي- أيضًا- رفض ما سواها من السياسات الجائرة، والأقيسة الفاسدة، والأحكام الجاهلية، والسعي بالدعوة والجهاد في سبيل الله لإقامتها حتى يكون الدين كله لله، وينعم الناس بشريعة الله عز وجل المبرأة من الجهل، والظلم، والهوى، والنقص؛ لأنها من لدن حكيم عليم.
الأثر السادس: الثقة بكفاية العليم العالم علام الغيوب شر الأعداء:
إذا تأمل المسلم في اسم الله العليم العالم علام الغيوب، ثم نظر إلى أعداء الإسلام وتكالبهم، وعظم مكرهم وكيدهم، حتى أنهم يعملون الليل والنهار، وينفقون الأموال الطوال؛ حربًا على الإسلام وأهله- بعثت هذه الأسماء الكريمة في نفسه شعورًا بالاطمئنان واستقرار القلب، وثبوت القدم، والإقدام على مواجهة الاعداء ومقارعتهم من غير مهابة ولا وجل، وإنما ذلك لعلمه بأن المسلمين وإن قصر علمهم عن كيد عدوهم ومكرهم، إلا أن ربهم العليم القوي العزيز لا يخفى عليه من أمرهم خافية، وهو من ورائهم محيط وعليهم قدير، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45]، وقال سُبْحَانَهُ:{فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس: 76]، وقال تَعَالَى عن المنافقين:{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، وقال تَعَالَى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، وقال تَعَالَى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 76 - 77].
فسيكفي أهل الإسلام مكر عدوهم، كما كفى نبيه صالح عليه السلام مكر قومه إذ قال الأشقياء منهم:{تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49]، فكانت صيحة العذاب أسرع نزولًا عليهم من تنفيذ مكرهم، قال تَعَالَى:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 50 - 52]
(1)
.
وسيكفيهم العليم، كما كفى عيسى عليه السلام مكر اليهود، حينما خططوا ودبروا لقتله، بل مكر بهم سُبْحَانَهُ كما قال جل في علاه:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 54 - 55].
(2)
وسيكفيهم كما كفى عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم مكر كفار قريش، حينما تشاوروا في دار الندوة فيما يصنعون به صلى الله عليه وسلم من الحبس والإيثاق، أو القتل، أو الإخراج من دارهم، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30]، حتى إذا اتفقوا على
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 606).
(2)
ينظر: المرجع السابق (ص: 132).
قتله وترصدوا به صلى الله عليه وسلم في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه؛ كادهم الله وكفى رسوله صلى الله عليه وسلم مكرهم، فخرج من بين أظهرهم يذر التراب على رؤوسهم، بعد أن أعمى الله أبصارهم، قال تَعَالَى:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]
(1)
.
وكفاه مكر يهود بني النضير، حينما خرج صلى الله عليه وسلم إليهم في نفر من أصحابه يكلمهم في إعانته بالدية، إلا أن نفوسهم الخبيثة سولت لهم قتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى، ويصعد فيلقيها على رأسه يشدخه بها؟ فجاء الوحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام من فوره وتوجه إلى المدينة، ثم أحاط مكرهم به وذاقوا عاقبته، فأجلوا من المدينة إلى الشام، ليس معهم من متاعهم إلا ما تحمله رواحلهم من غير السلاح، قال تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر: 2 - 3]
(2)
.
الأثر السابع: إصلاح الباطن للعليم العالم علام الغيوب:
اسم الله العليم العالم علام الغيوب وما فيه من علم الله بالبواطن وما تخفيه الصدور، كما قال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119]،
وقال: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] يدفع العبد إلى
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 319)، والرحيق المختوم، للمباركفوري (ص: 146 - 148).
(2)
ينظر: الرحيق المختوم، للمباركفوري (ص: 268 - 270).
الاهتمام بباطنه وإصلاحه بالتخلية والتحلية، فيخليه ويخلصه من آفات القلوب التي تخفى على الناس، ولكنها لا تخفى على الله عز وجل كالرياء، والنفاق، والشبه، والشكوك، والحسد، والغل، والعجب، والكبر، و الخواطر الرديئة والوساوس الشيطانية، ونحو ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله: «فإن قلت: فما السبيل إلى حفظ الخواطر قلت: أسباب عدة، أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب سُبْحَانَهُ ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفصيل خواطرك.
الثاني: حياؤك منه.
الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته ومحبته.
الرابع: خوفك أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته
…
»
(1)
.
ثم بعد هذه التخلية يحلي قلبه بالعبادات القلبية التي شرعها الله لعباده وأمرهم بها من المحبة، والرجاء، والخوف، والخشية، والتعظيم، والمراقبة ونحوها من أعمال القلوب.
الأثر الثامن: محبة العليم والعالم وعلام الغيوب:
فإن العبد إذا تيقن علم الله الشامل لكل شيء على وجه لا نقص فيه، ولا عيب معه؛ أثمر ذلك في قلبه حبًّا للعليم العالم علام الغيوب؛ إذ النفوس
(1)
طريق الهجرتين (ص: 175).
جبلت على حب من له صفات الكمال، فكيف إذا كان كماله لا نقص فيه البتة، سُبْحَانَهُ.
الأثر التاسع: اتصاف العبد بطلب العلم:
إن اسم الله العليم العالم علام الغيوب يقتضي حب الله تبارك وتعالى للعلم والعلماء، كما قال ابن القيم رحمه الله: «أحب الخلق إليه: من اتصف بمقتضيات صفاته،
…
عالم يحب العلماء وقادر يحب الشجعان، وجميل يحب الجمال»
(1)
وهذا يدفع العبد إلى طلب العلم وسلوك طريقه؛ إذ هو من أهم الواجبات على العبد، فلا يمكن أن يعبد الرب بما شرع إلا بعد معرفته، ومعرفة دينه، ومعرفة ما يحبه ويرضاه، ومعرفة ما يكرهه ويسخطه.
ومن هنا كان للعلم وأهله المكانة العظيمة والمنزلة الشريفة التي يطول ذكرها، إلا أن منها على وجه الإيجاز:
- رفعة الدرجة في الدنيا والآخرة، قال تَعَالَى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، وعن عامر بن واثلة رضي الله عنه أن: نافع بن عبد الحارث لقي عمر رضي الله عنه بعسفان- وكان عمر رضي الله عنه يستعمله على مكة فقال-: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»
(2)
.
(1)
الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 34).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(817).
- تفضيل العالم على العابد؛ فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: «ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان؛ أحدهما: عابد، والآخر: عالم، فقال رسول الله: فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ»
(2)
.
- طلب المزيد منه دون غيره، قال تَعَالَى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
- تفضيل العلم على نوافل العبادات، قال ابن القيم رحمه الله:«فإنه إذا كان كل من العلم والعمل فرضًا، فلا بد منهما كالصوم والصلاة، فإذا كانا فضلين- وهما النفلان المتطوع بهما- ففضل العلم ونفله خير من فضل العبادة ونفلها؛ لأن العلم يعم نفعه صاحبه والناس معه، والعبادة يختص نفعها بصاحبها، ولأن العلم تبقى فائدته وعلمه بعد موته، والعبادة تنقطع عنه»
(3)
.
وإنما هذه الفضائل لمن طلب العلم فعمل به ودعا إليه، وازداد به خشية، وتواضع له وللخلق، لا من طلبه فأداه علمه للكبر والفخر والمباهاة دون العمل والخشية.
ثم إن العلم ربما حمل صاحبه على الكبر والتعالي، إلا أن مما يعين على التواضع أن يتذكر العالم وطالب العلم أن علمه إنما هو بتعليم الله له، لا بحوله وقوته، قال تَعَالَى:{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، وقال
(2)
أخرجه الترمذي واللفظ له، رقم الحديث:(2685)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(7911)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2685).
(3)
مفتاح دار السعادة، ابن القيم (ص 120).
سُبْحَانَهُ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، وقال:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وقال:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5].
ويتذكر- أيضًا- أن ما أوتيه من العلم إنما هو قطرة من بحر علم الله، قال تَعَالَى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، وقال الخضر لموسى عليهما السلام عندما رأى عصفورًا ينقر بمنقاره في البحر:«يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ البَحْرِ»
(1)
.
فاللهم يا عليم يا عالم يا علام الغيوب، علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3401).
الغفورُ الغفَّارُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الغفر: التغطية، والغفر: الغفران، وغفرت المتاع: جعلته في الوعاء»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الغين والفاء والراء، عظم بابه الستر، ثم يشذ عنه ما يذكر، فالغفر: الستر، والغفران والغفر، يقال: غفر الله ذنبه غفرًا ومغفرة وغفرانًا
…
»
(2)
.
ورود اسم الله (الغفور و الغفار) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الغفور) في القرآن الكريم في إحدى وتسعين آية في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49].
قوله عز وجل: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99].
قوله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].
(1)
الصحاح (2/ 334).
(2)
مقاييس اللغة (4/ 385).
وأما اسمه سُبْحَانَهُ (الغفار) فقد ورد في القرآن الكريم في خمسة مواضع، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر: 5].
قوله عز وجل: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص: 66].
قوله عز وجل: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10].
ورود اسم الله (الغفور- الغفار) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الغفور) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال- لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحيِمُ»
(1)
.
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(834)، ومسلم، رقم الحديث:(2705).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18974)، وأبو داود، رقم الحديث:(985)، والنسائي، رقم الحديث:(1300)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(985).
عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «اللهمَّ إِنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ فِي ذِمَّتِكَ، وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَقِّ، فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»
(1)
.
وورد اسم الله (الغفار) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَضَوَّرَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ»
(2)
.
معنى اسم الله (الغفور- الغفار) في حقه سُبْحَانَهُ:
يدور معنى اسم الله الغفور الغفار- في حقه تَعَالَى- حول ستر الذنوب.
قال الزجاج رحمه الله: «معنى الغفر- في حق الله سُبْحَانَهُ-: هو الذي يستر ذنوب عباده ويغطيهم بستره»
(3)
.
قال الخطابي رحمه الله: «الغفار: الستير لذنوب عباده، والمسدل عليهم ثوب عطفه ورأفته، ومعنى الستر في هذا: أنه لا يكشف أمر العبد لخلقه، ولا
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(16264)، وأبو داود، رقم الحديث:(3202)، وابن ماجه، رقم الحديث:(1499)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داد، رقم الحديث:(3202).
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10634)، وابن حبان، رقم الحديث:(5530)، والطبراني في الدعاء، رقم الحديث:(764)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2066).
(3)
تفسير الأسماء الحسنى (ص: 38).
يهتك ستره بالعقوبة التى تشهره في عيونهم»
(1)
.
(2)
.
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
وَهوَ الغَفُورُ فَلَوْ أَتَى بِقُرَابِهَا
…
مِنْ غَيْرِ شِرْكٍ بَلْ مِنَ العِصْيَانِ
لَأَتَاهُ بِالغُفْرَانِ مِلْءَ قُرَابِهَا
…
سُبْحَانَهُ هُوَ وَاسِعُ الغُفْرَانِ
(4)
الفرق بين اسم الله الغفور، واسمه الغفار:
«أن الغفور الذي يغفر الذنوب العظيمة، والغفار الذي يغفر الذنوب الكثيرة»
(5)
، وقيل: «الغفار: هو المبالغ في الستر، فلا يشهر المذنب لا في الدنيا
(1)
شأن الدعاء (ص: 52).
(2)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 201).
(3)
تفسير السعدي (ص: 946).
(4)
نونية ابن القيم (2/ 231).
(5)
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (1/ 156).
ولا في الآخرة، والغفور: هو الذي يكثر منه الستر على المذنبين من عباده، ويزيد عفوه على مؤاخذته»
(1)
.
اقتران اسم الله (الغفور - الغفار) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله الغفور باسم الله الرحيم:
تقدم بيانه في اسم الله (الرحيم).
ثانيًا: اقتران اسم الله (الغفور- الغفار) باسم الله (العزيز):
تقدم بيانه في اسم الله (العزيز).
ثالثًا: اقتران اسم الله (الغفور) باسم الله (العفو):
تقدم بيانه في اسم الله (العفو).
رابعًا: اقتران اسم الله (الغفور) باسم الله (الشكور):
تقدم بيانه في شرح اسم الله (الشكور).
خامسًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الغفور) باسمه سُبْحَانَهُ (الحليم):
تقدم بيانه في اسم الله (الحليم).
سادسًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الغفور) باسمه سُبْحَانَهُ (الودود):
ومن ذلك قوله تَعَالَى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 12 - 14].
(1)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 201).
يقول ابن القيم رحمه الله في مناسبة هذا الاقتران: «وما ألطف اقتران اسم (الودود) بـ (الرحيم)؛ وبـ (الغفور)؛ فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبه، وكذلك قد يرحم من لا يحب، والرب تَعَالَى يغفر لعبده إذا تاب إليه؛ ويرحمه ويحبه مع ذلك»
(1)
، وقال في موضع آخر:«إن الله تَعَالَى يحب عبده بعد المغفرة فيغفر له ويحبه، كما قال: «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» ، فالتائب حبيب الله، والود أصفى الحب»
(2)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الغفور والغفار):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسمي الله (الغفور والغفار) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
الغفور سُبْحَانَهُ يرخي ستره على عباده، ويغفر لهم، ويعفو عنهم، ويرحمهم، يقول تَعَالَى:{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، وهو سُبْحَانَهُ الذي يفتح للعصاة من خلقه باب التوبة، ويدعوهم إلى الولوج فيه، فيبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وهو الذي يغفر الذنب مهما عظم إن تاب صاحبه منه، يقول تَعَالَى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وفي هذه الآية بشارة ربانية عظيمة، مفادها: أنه مهما كان الذنب عظيمًا، ومهما كانت الخطيئة كبيرة لا تيأس ولا تقنط، بل أقبل على الغفور الغفار فهو
(1)
التبيان في أقسام القرآن (ص: 124).
(2)
روضة المحبين (ص: 47)
وحده غافر الذنب وقابل التوب، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ الله فَاعْبُدِ الله مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى الله، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ» ، قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الْحَسَنُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ
(1)
. فهذا قتل وأكثر، وتاب إلى الله فأدركته الرحمة فكيف بما دون ذلك من الذنوب؟!
ومغفرته سُبْحَانَهُ أعظم من كل ذنب، ففي الحديث القدسي:«قَالَ الله تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2766).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3540)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 231)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3540).
(1)
،
بل من فضله وجوده وكرمه: أن وعد بأن يبدل سيئات المذنبين إلى حسنات، يقول تَعَالَى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70].
فحري بالقلب أن يتعلق بالغفور الغفار سُبْحَانَهُ، ويوحده بألوهيته وربوبيته، وينظر باستحياء لمظاهر مغفرته وعفوه، ويدعوه تضرعًا وخفية بأن يغفر الذنب ويقبل التوب.
وكما أن اسم الله الغفور الغفار دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال على الأسماء والصفات؛ إذ يدل على اسم الله العفو، والرؤوف، والرحمن، والرحيم، والمنان، والكريم إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
الأثر الثاني: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} :
كل الذنوب تحت المشيئة في الآخرة، إن شاء الله غفر لأصحابها، وإن شاء عذبهم، إلا الشرك به سُبْحَانَهُ، فإنه لا يغفره، يقول تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
«وهذا وعيد بأنهتَعَالَى لم يجعل مغفرته لمن أشرك به، وقد قال العلماء في قوله تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]: إن في هذه الآية دليلًا
(1)
تفسير القرطبي (15/ 269).
على أن المغفرة لا تكون لمن أشرك شركًا أكبر، أو أشرك شركًا أصغر؛ فإن الشرك لا يدخل تحت المغفرة، بل يكون بالموازنة، فهو لا يغفر إلا بالتوبة، فمن مات على ذلك غير تائب فهو غير مغفور له ما فعله من الشرك، وقد يغفر اللهتَعَالَى غير الشرك، كما قال تَعَالَى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فجعلوا الآية دليلًا على أن الشرك الأكبر والأصغر لا يدخل تحت المشيئة.
ووجه الاستدلال من الآية: أن (أن) في قوله تَعَالَى: {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] موصول حرفي، فتؤول مع الفعل الذي بعدها وهو يشرك بمصدر- كما هو معلوم-، والمصدر نكرة وقع في سياق النفي، وإذا وقعت النكرة في سياق النفي عمت، قالوا: فهذا يدل على أن الشرك الذي نفي هنا يعم الأكبر والأصغر، والخفي، فكل أنواع الشرك لا يغفرها الله -جل وعلا- وذلك لعظم خطيئة الشرك؛ لأن الله -جل وعلا- هو الذي خلق، ورزق، وأعطى، وهو الذي تفضل، فكيف يتوجه القلب عنه إلى غيره؟! لا شك أن هذا ظلم في حق الله -جل وعلا- ولذلك لم يغفر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وأكثر علماء الدعوة.
وقال آخرون من أهل العلم: إن قوله تَعَالَى هنا: {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}
[النساء: 48] دال على العموم، لكنه عموم مراد به خصوص الشرك الأكبر، فالمقصود بالشرك في قوله تَعَالَى:{لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] هو: الشرك الأكبر فقط دون غيره، وأما ما دون الشرك الأكبر فإنه يكون داخلًا تحت المشيئة، فيكون بالعموم في الآية مرادًا به الخصوص؛ لأنه غالبًا ما يرد في القرآن هذا اللفظ:{أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ونحو ذلك، ويراد به الشرك الأكبر دون الأصغر، وهذا في الغالب- كما سبق- فالشرك غالبًا ما يطلق في
القرآن على الأكبر دون الأصغر، ومن شواهد ذلك، قوله -جل وعلا-:{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]، فقوله في الآية: يشرك هو- أيضًا-: فعل داخل في سياق الشرط، فيكون عامًّا.
لكن هل يدخل فيه الشرك الأصغر والخفي؟ الجواب: أنه لا يدخل بالإجماع؛ لأنه تحريم الجنة، وإدخال النار، والتخليد فيها، إنما هو لأهل الموت على الشرك الأكبر، فدلنا ذلك على أن المراد بقوله تَعَالَى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]
أهل الإشراك بالله الشرك الأكبر، فلم يدخل فيه الأصغر، ولم يدخل ما دونه من أنواع الأصغر، فيكون المفهوم- إذًا- من آيتي سورة النساء كالمفهوم من آية سورة المائدة، ونحوها، وهذا كقوله تَعَالَى في سورة الحج {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
فهذا ونحوه وارد في الشرك الأكبر، ويكون- على هذا القول- المراد بما نفي هنا في قوله تَعَالَى:{لَا يَغْفِرُ أَنْ} [النساء: 48] الشرك الأكبر.
ولما كان اختيار إمام الدعوة، كما هو اختيار عدد من المحققين: كشيخ الإسلام: ابن تيمية، وابن القيم وغيرهما أن العموم هنا شامل لأنواع الشرك: الأكبر، والأصغر، والخفي؛ كان الاستدلال بهذه الآية صحيحًا؛ لأن الشرك أنواع، وإذا كان الشرك بأنواعه لا يغفر، فهذا يوجب الخوف منه أعظم الخوف، فإذا كان الشرك الأصغر: كالحلف بغير الله، وتعليق التميمة،
والحلقة، والخيط، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأصغر، كقولك: ما شاء الله وشئت، ونسبة النعم إلى غير الله، إذا كان ذلك لا يغفر فإنه يوجب أعظم الخوف كالشرك الأكبر.
وإذا كان كذلك، فيقع في الخوف من الشرك من هم على غير التوحيد، كمن يعبدون غير الله، ويستغيثون بغير الله، ويتوجهون إلى غيره، ويذبحون وينذرون لغيره، ويحبون غير الله محبة العبادة، ويرجون غير الله رجاء العبادة، ويخافون خوف السر من غير الله، إلى غير ذلك من ألوان الشرك، فيكون هؤلاء أولى بالخوف من الشرك؛ لأنهم وقعوا فيما اتفق عليه: أنه لا يغفر.
كما يقع في الخوف من الشرك أهل الإسلام الذين قد يقعون في بعض أنواع الشرك الخفي، أو الشرك الأصغر بأنواعه، وهم لا يشعرون أو وهم لا يحذرون»
(1)
.
الأثر الثالث: الأنبياء يطلبون المغفرة من الغفور سُبْحَانَهُ:
من تأمل سيرة صفوة الخلق وهم الأنبياء، وجدهم أكثر الناس توبة واستغفارًا، سواء لأنفسهم أولأممهم، ومن أمثلة ذلك وشواهده:
قول الله على لسان آدم وزوجه عليهما السلام: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
قول الله على لسان نوح عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] وكان من دعائه أيضًا: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28].
(1)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد، لصالح عبدالعزيز آل الشيخ (ص: 45 - 48).
قول الله على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
قول الله على لسان موسى عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [طه: 151]، وقال:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]
قول الله على لسان داود عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 24 - 25].
قول الله على لسان سليمان عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ الله، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»
(1)
، وكانت عائشة رضي الله عنها تصف حال النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول:«ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه قوله تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إلا يقول فيها: سَبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2702).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4967).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2719).
فإن كان هؤلاء الكرام الأصفياء يتضرعون إلى الله بخالص الدعاء، ويستغفرونه ويتوبون إليه؛ فحري بكل عبد دونهم أن يقتدي بهديهم، وأن يستن بسنتهم.
ومن أدعية الاستغفار الجامعة دعاء سيد الاستغفار، وهو مارواه شداد بن أوس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللهمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» ، قال:«وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»
(1)
.
الأثر الرابع: محبة الغفور الغفار سُبْحَانَهُ:
فالغفور الغفار سُبْحَانَهُ هو من أسدل الستر على الذنوب في الدنيا، وتجاوز عن عقوبتها في الآخرة، فأظهر الجميل وستر القبيح بكرمه وجوده وفضله، ومن هذه صفاته فهو أحق بالمحبة الكاملة التامة.
الأثر الخامس: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا} :
إن المغفرة الواسعة صفة اتصف بها الغفور عز وجل، وأودع شيئًا منها في قلوب من يشاء من عباده، بل أمرهم بالتأدب بها، فقال تَعَالَى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14].
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6306).
يقول السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: «يأمر تَعَالَى عباده المؤمنين بحسن الخلق والصبر على أذية المشركين به، الذين لا يرجون أيام الله أي: لا يرجون ثوابه ولا يخافون وقائعه في العاصين، فإنه تَعَالَى سيجزي كل قوم بما كانوا يكسبون، فأنتم يا معشر المؤمنين يجزيكم على إيمانكم وصفحكم وصبركم، ثوابًا جزيلًا»
(1)
.
لذلك يجب أن يتصف الإنسان بالمغفرة للعباد، والصفح عنهم الصفح الجميل، ومن غفر للناس غفر الله له، ومن تجاوز عنهم تجاوز الله عنه، والجزاء من جنس العمل، يقول صلى الله عليه وسلم: «ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ الله لَكُمْ
…
»
(2)
.
(3)
، وهذا يدل على وجوب الستر، وترك التتبع.
(1)
تفسير السعدي (ص: 776).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(7162)، والطبراني في مسند الشاميين، رقم الحديث:(1055)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(6844)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(482).
(3)
أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، رقم الحديث:(1806)، والحاكم، رقم الحديث:(8228)، والبيهقي في الكبرى، رقم الحديث:(17703).
الأثر السادس: التعرض لأسباب المغفرة:
فقد جعل الله سُبْحَانَهُ للمغفرة علامات ومبشرات، فمن رزقها يرجى أن يكون قد غفر له، ومن هذه الأسباب:
الإسلام، فهو يكفر كل ما سبق من السيئات، يقول صلى الله عليه وسلم:«إِذَا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ يُكَفِّرُ اللهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ القَصَاصِ الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، والسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهَا»
(1)
.
الموت على التوحيد، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: «يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»
(2)
.
طاعة الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تَعَالَى:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14].
الأذان، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ، وَالْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَّ صَوْتِهِ، وَيُصَدِّقُهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى مَعَهُ»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(41).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18800)، والنسائي، رقم الحديث:(646)، حكم الألباني، صحيح، صحيح وضعيف سنن النسائي، رقم الحديث:(646).
الذكر عند الأذان، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ المُؤُذِّنَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ باللهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا- غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ»
(1)
.
إحسان الوضوء، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى تَخْرُج مِنْ تَحْتِ أَظَفاِرِهِ»
(2)
.
الصلاة، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَرَأَيْتُم لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ؛ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطَايَا»
(3)
.
صلاة ركعتين بعد الوضوء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ»
(4)
زاد أحمد: «وَغُفِرَ لَهُ»
(5)
.
من وافق تأمينه تأمين الملائكة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(386).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(245).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(667).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(234).
(5)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(17587)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(5802).
(6)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(410).
الذكر دبر كل صلاة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ سَبَّحَ اللهَ فِي دُبُر كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّر اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَام المائَةِ: لَا إِلَهَ إلا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ»
(1)
.
قيام الليل، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ لِلإِثْمِ»
(2)
.
الصدقة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ»
(3)
.
صيام رمضان إيمانًا واحتسابًا، وكذا قيامه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(4)
، ويقول:«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(597).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3549)، وابن خزيمة، رقم الحديث:(1135)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(7466)، والحاكم، رقم الحديث:(1160)، حكم الألباني: حسن، الإرواء، رقم الحديث:(452).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(15517)، والترمذي، رقم الحديث:(614)، وابن حبان، رقم الحديث:(1723)،، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(614).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(38)، ومسلم، رقم الحديث:(760).
(5)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(37)، ومسلم، رقم الحديث:(759).
قيام ليلة القدر، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(1)
.
صيام أيام خاصة تطوعًا، كصيام يوم عرفة، فيقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ-:«يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ»
(2)
، كذلك صيام يوم عاشوراء، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ -:«يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ»
(3)
.
الحج المبرور، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»
(4)
.
العمرة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا»
(5)
.
قول سبحان الله وبحمده، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ»
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1901)، ومسلم، رقم الحديث:(760).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1162).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1162).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1819)، ومسلم، رقم الحديث:(1350).
(5)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1773)، ومسلم، رقم الحديث:(1349).
(6)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6405)، ومسلم، رقم الحديث:(2691).
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً، صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ خَطِيئَاتٍ»
(1)
.
كفارة المجلس، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَكَ اللهمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، فَقَالَهَا فِي مَجْلِسِ ذِكْرٍ كَانَتْ كَالطَّابَعِ يُطْبَعُ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَهَا فِي مَجْلِسِ لَغْوٍ كَانَتْ كَفَّارَتَهُ»
(2)
.
عيادة المريض، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْ رَجُلٍ يَعُودُ مَرِيضًا مُمْسِيًا إِلَّا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ أَتَاهُ مُصْبِحًا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ»
(3)
.
الأثر السابع: ثمرات الاستغفار:
إن العبد إن تاب إلى ربه، واستغفره وأناب إليه؛ أكرمه الله بكرامات عديدة، ومنحه عطايا جليلة، وأغدق عليه الثمرات النافعة في الدنيا والآخرة، ومنها:
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12180)، والنسائي، رقم الحديث:(1296)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن النسائي، رقم الحديث:(1297).
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10185)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(1586)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(81).
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(3098)، والحاكم، رقم الحديث:(1268)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(5717).
انشراح الصدر، يقول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ الله، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ الله لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ»
(2)
.
دواء شافي من الذنوب، يقول تَعَالَى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110].
رحمة الله للمستغفرين، يقول تَعَالَى على لسان شعيب عليه السلام:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90].
جلب النعم عامة، يقول تَعَالَى على لسان نوح عليه السلام:{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}
[نوح: 9 - 12]. ويقول تَعَالَى على لسان هود عليه السلام: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52].
دفع العقوبة عن المستغفرين، يقول تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].
حل المشاكل الصعبة والعويصة، يقول ابن القيم رحمه الله: «وشهدت شيخ الإسلام إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه فر منها إلى التوبة والاستغفار،
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2702).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1518)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3819)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1518).
والاستغاثة بالله واللجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًّا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن من وفق هذا الافتقار علمًا وحالًا، وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد، فقد أعطي حظه من التوفيق، ومن حُرمه فقد منع الطريق والرفيق، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم»
(1)
.
ويمكن إيجاز كل هذه الثمرات بقول: إن المستغفرين وعدوا بالمتاع الحسن في الدنيا، والفضل العظيم في الآخرة، يقول تَعَالَى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك، ونتوب إليك، اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لنا مغفرة من عندك، وارحمنا؛ إنك أنت الغفور الرحيم.
(1)
إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 132).
الغَنِيُّ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «غنى فهو غَنِيٌّ، وتغنى الرجل: أي استغنى وأغناه الله، وتغانَوا: أي استغنى بعضهم عن بعض»
(1)
.
(2)
.
ورود اسم الله (الغني) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الغني) في كتاب الله ثماني عشرة مرة، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263].
قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
(1)
الصحاح (6/ 300).
(2)
مقاييس اللغة (4/ 397 - 398).
قوله عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد: 6].
ورود اسم الله (الغني) في السنة النبوية:
ورد اسم الله الغني في السنة النبوية، ومن وروده فيها ما يلي:
(1)
.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1173)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1173).
معنى اسم الله (الغني) في حقه سُبْحَانَهُ:
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «الغني هو الذي استغنى عن الخلق، وعن نصرتهم وتأييدهم لملكه، فليست به حاجة إليهم، وهم إليه فقراء محتاجون، كما وصف نفسه تَعَالَى، فقال- عز من قائل-: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38]» .
(2)
(3)
.
(1)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 63).
(2)
شأن الدعاء (ص: 92 - 93).
(3)
الأسماء والصفات، للبيهقي (1/ 101).
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وَهوَ الغَنِيُّ بِذَاتِهِ فَغِنَاهُ ذَا
…
تِيٌّ لَهُ كَالجُودِ والإِحْسَانِ
اقتران اسم الله (الغني) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (الغني) باسم الله (الحليم):
تقدم بيانه في اسم الله (الحليم).
ثانيًا: اقتران اسم الله (الغني) باسم الله (الحميد):
تقدم بيانه في اسم الله (الحميد).
ثالثًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الغني) باسمه سُبْحَانَهُ (الكريم):
جاء هذا الاقتران مرة واحده في القرآن الكريم، وهو قول الله عز وجل:{قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].
(1)
تفسير السعدي (ص: 629).
وجه الاقتران:
أن الله غني عن الشكر، كريم يعطي عن كرم، لا عن ارتقاب للشكر على العطاء، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله:«الله سُبْحَانَهُ غني كريم، عزيز رحيم، فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحسانًا»
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الغني):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الغني) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
الغني سُبْحَانَهُ هو المستغني عن الخلق بذاته وصفاته وسلطانه، والخلق جميعًا فقراء إلى إنعامه وإحسانه، فهو سُبْحَانَهُ لم يخلق خلقه ليعتز بهم من ذلة، ولا ليرزقوه ولا لينفعوه ولا ليدفعوا عنه، ولا ليستأنس بهم من وحشة، ولا ليستكثر بهم من قلة، ولا لينصروه على عدو، ولكن خلقهم ليذكروه كثيرًا، ويعبدوه طويلًا، ويسبحوه بكرة وأصيلًا، فهو الذي لا يحتاج لأحد في شيء؛ لأنه المالك لكل شيء، المتصرف بمشيئته في خلقه أجمعين، خزائنه لا تنقص
ولا تنفد، يعطي من يشاء ما يشاء من فضله، ويقسم لكل مخلوق ما يخصه في رزقه، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه،
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - فيما روى عن الله عز وجل أنه قال-: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي، إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ
(1)
إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 41).
الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ الله، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»
(1)
.
فالله غني بذاته عن كل ما سواه، ومن علامات ذلك الغنى:
غناه سُبْحَانَهُ عن الطعام والشراب، وهي دلالة الاستغناء الذاتي، يقول تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58].
غناه سُبْحَانَهُ عن الزوجة والولد، وهذا يعني وحدانية الله المطلقة؛ ليس كما يسبه الكفار أصحاب عقيدة التثليث؛ فإن الحاجة إلى الزوجة والولد ضعف وافتقار، تَعَالَى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، يقول تَعَالَى:{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68].
غناه سُبْحَانَهُ عن خلقه، ومع ذلك فهو محسن إليهم، رحيم بهم، وهذا من كمال غناه وكرمه ورحمته، فهو الغني عن عباداتهم، ومن ذلك:
أ- غناه عن إيمانهم، قال تَعَالَى:{إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8].
ب- غناه عن شكرهم، قال تَعَالَى:{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].
جـ- غناه عن جهادهم، قال تَعَالَى:{وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 6].
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2577).
ويذكر الشيخ السعدي رحمه الله من مظاهر غنى الله عز وجل، فيقول:
«ومن كمال غناه وكرمه: أنه يأمر عباده بدعائه، ويعدهم بإجابة دعواتهم، وإسعافهم بجميع مراداتهم، ويؤتيهم من فضله ما سألوه، وما لم يسألوه.
ومن كمال غناه: أنه لو اجتمع أول الخلق وآخرهم في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلًّا منهم ما سأله، وما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه مثقال ذرة.
ومن كمال غناه وسعة عطاياه: ما يبسطه على أهل دار كرامته من النعيم، واللذات المتتابعات، والخيرات المتواصلات، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ومن كمال غناه: أنه لم يتخذ صاحبًا ولا ولدًا ولا شريكًا في الملك، ولا وليًّا من الذل، وهو الغني الذي كمل بنعوته، وأوصافه، المغني لجميع مخلوقاته»
(1)
.
وحري بمن عرف اسم الله (الغني) ومظاهر غناه وآمن به، أن يوحده سُبْحَانَهُ بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ويستغني به عن خلقه، فيسأله وحده رزقه وبره وغناه.
(1)
الحق الواضح، للسعدي (ص: 47 - 48).
الأثر الثاني: ليس كمثله سُبْحَانَهُ شيء في الغِنى:
الله تبارك وتعالى له صفات الكمال والجلال، ليس كمثله شيء في غناه:
وهذا من وجوه:
الأول: كثرة ما عند الله:
قال تَعَالَى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120].
قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآية-: «أي: هو الخالق للأشياء المالك لها، المتصرف فيها، القادر عليها، فالجميع ملكه وتحت قهره، وقدرته وفي مشيئته، فلا نظير له ولا وزير، ولا عديل ولا والد، ولا ولد، ولا صاحبة، ولا إله غيره، ولا رب سواه»
(1)
.
الثاني: غناه دائم:
فما من مخلوق أصبح غنيًّا إلا بعد فقر، أو تكون عاقبته إلى فقر، أو يفني المال وصاحبه، أما الله جل جلاله فغناه دائم لا يفنى أبدًا، قال تَعَالَى:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، وقال تَعَالَى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27].
الثالث: غناه ذاتي:
أي: أن غنى الله في ذاته، وليس فيما يراه الناس من الملك في السماوات والأرض، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون، ولكن غنى الخلق إنما يكون بما يمتلكون من ثروات وأموال، فكل من وُصف بالغنى من الخلق فإنما يحتاج إلى ما يملك، أما الله جل جلاله فإنما يحتاج كل ملكه وكل خلقه إليه،
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 236).
فلا يحتاج الله إلى العرش ولا حملته، ولا الكرسي وعظمته، ولا يحتاج إلى ميكائيل ليرزق الخلق، ولا إلى جبريل لتبليغ رسالته، بل كل هؤلاء وغيرهم من خلق الله يحتاجون إليه من كل الوجوه، وهو غني عنهم من كل الوجوه.
الرابع: غناه مطلق:
فإن الخلق يحتاجون إلى ما تقوم به أبدانهم وأرواحهم، وهذا يجعلهم فقراء إلى رزق الله من كل الوجوه؛ فإنهم فقراء إلى الطعام وإلى الشراب، والنفس والروح والسعادة والزوجة والولد، والسمع والبصر
…
هذا فقر مطلق إلى الله الذي بيده هذه النعم وغيرها مما لا غنى عنه للخلق، أما الله جل جلاله فإنه غني عن ذلك كله، بل وعن كل ما سواه؛ لذلك فإن غنى الله غنًى مطلق، وكل العباد فقرهم إلى الله فقر مطلق.
الأثر الثالث: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} :
إن الفقر إلى الله سُبْحَانَهُ هو عين الغنى به، فأفقر الناس إلى الله أغناهم به، وأذلهم له أعزهم به، وأضعفهم بين يديه أقواهم، وأجهلهم عند نفسه أعلمهم بالله، وأمقتهم لنفسه أقربهم إلى مرضاة الله، والغنى بالله مع الفقر إليه متلازمان متناسبان، فالغنى على الحقيقة لا يكون إلا بالله الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر، كما هو موسوم بسمة الخلق والصنع
(1)
.
يقول ابن القيم رحمه الله: «إن الله هو الغني المطلق، والخلق فقراء محتاجون إليه، قال سُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، بين سُبْحَانَهُ في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم
(1)
انظر: طريق الهجرتين (ص: 59).
لا ينفك عنهم، كما أن كونه غنيًّا حميدًا ذاتي له، فغناه وحمده ثابت له لذاته، لا لأمر أوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأمر أوجبه، فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان، بل هو ذاتي للفقير، فحاجة العبد إلى ربه لذاته، لا لعلة أوجبت تلك الحاجة، كما أن غنى الرب سُبْحَانَهُ لذاته لا لأمر أوجب غناه، وفقر العباد إلى ربهم فقران:
الأول: فقر اضطراري، وهو فقر عام، لا خروج لبر ولا فاجر عنه، وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا، ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا، ومصنوعًا.
الفقر الثاني: فقر اختياري، وهو فقر الخشية والطاعة وذلة العبودية، وهو نتيجة علمين شريفين؛ أحدهما: معرفة العبد لربه، والثاني: معرفته بنفسه، فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقرًا هو عين غناه، وعنوان فلاحه وسعادته، وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق، عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة، عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام، عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومَن عرف ربه بالعلم التام والحكمة التامة، عرف نفسه بالجهل.
فإن الله تَعَالَى قد أخرج العبد من بطن أمه ضعيفًا مسكينًا، جاهلًا، كما قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]،
وسخر له ما في البر والبحر مما يصلحه ويعينه على أمر دينه ودنياه، فلما شعر بأن له قدرة على السعي، واستطاعة على التدبير ظن المسكين أن له نصيبًا من الملك، وادعى لنفسه ملكًا مع الله سُبْحَانَهُ، ورأى نفسه بغير هذا الضعف
الأول الذي كان عليه، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة؛ حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج، بل كأن ذلك شخص غيره، كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشي (أن النبي صلى الله عليه وسلم بَزَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللهُ: ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدلْتُكَ، مَشيتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي، قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ)
(1)
.
ومن هنا خُذِل مَن خُذِل، ووُفِّقَ مَن وُفِّقَ، فحُجِبَ المخذول عن حقيقته ونسي نفسه، فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى وعتا؛ فحقت عليه الشقوة، قال تَعَالَى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]، وقال تَعَالَى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل 5 - 10]، فأكملُ الخلق أكملُهم عبودية، وأعظمهم شهودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين»
(2)
.
فالله جل جلاله غني عن العلائق والروابط والصلات، فصلته بخلقه صلة رب رزاق لعباد محتاجين، وصلته بهم صلة عطاء وتفضل بعد خلق وإيجاد، أما صلة الخلق به سُبْحَانَهُ فصلة افتقار لرزقه وانتفاع بما عنده، فالعبد يدعو والله يجيب، والخلق يحتاجون والرزاق يعطيهم، والعباد يفتقرون والغني
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18122)، وابن ماجه، رقم الحديث:(2707)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1143).
(2)
طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 8 - 10) بتصرف.
يغنيهم، وإذا قدموا شيئًا من أموالهم فإنما هم الذين ينتفعون بها، ويجازيهم بأضعاف ما عملوا، ويزيدهم من فضله.
الأثر الرابع: محبة الغني سُبْحَانَهُ:
الله عز وجل هو الغني غنًى كاملًا مطلقًا من كل الوجوه، فهو المستغني عن العالمين، وجابر حاجة الفقراء والمساكين، لا يترك من تعلق ببابه ووقف بجنابه بدون غنى، فهو مع غناه وعزته ذو رحمة بالغة، والنفس بطبيعتها تحب صفات الكمال والجلال في الصفات، ولذا فإن العبد المسلم يتعلق ويزداد محبة للغني كلما زادت معرفته له سُبْحَانَهُ.
الأثر الخامس: افتقار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه:
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس افتقارًا إلى ربه، وكان يقول:«دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللهمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ»
(1)
.
فهو يعلم أن قلبه الذي بين جنبيه بيد الرحمن عز وجل لا يملك منه شيئًا، وأن الله سُبْحَانَهُ يصرفه كما يشاء، وكان يدعو:«يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوْبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِيْنِكَ»
(2)
، بدلالة قوله تَعَالَى:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]؛ فضرورته إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به، وحسب قربه منه ومنزلته عنده.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(20759)، وأبو داود، رقم الحديث:(5090)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5090).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12290)، والترمذي، رقم الحديث:(2140)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2140).
فأصبح - بهذا النوع من الافتقار- سيد ولد آدم، وصاحب لواء الحمد، وأول من تفتح له الجنة، وصاحب المقام المحمود، وأسري به في السماوات السبع؛ لأنه كان كامل العبودية، وكامل الافتقار لربه، قال تَعَالَى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]، واستحق أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ففي حديث الشفاعة:«أن المسيح يقول لهم: ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم: عَبْدًا غَفَرَ الله لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ»
(1)
(2)
.
الأثر السادس: الغنى غنى النفس:
فمن أغناه الله من فضله، ووهبه الغنى الحقيقي بأن يخضع لربه، ويتواضع لخلقه، ويعلم أنه مستخلَف في أرضه، مبتلى في ملكه، فرد الفضل لربه، وشكره على نعمه؛ لعلمه بأن الغنى غنى النفس، يقول صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ»
(3)
، ويقول أيضًا:«وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ»
(4)
، وفي صحيح البخاري من حديث الحسن أنه قال: «حدثنا عمرو بن تغلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ سَبْيٍ فَقَسَمَهُ، فَأَعْطَى رِجَالًا وَتَرَكَ رِجَالًا، فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا، فَحَمِدَ اللهَ ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَوَاللهِ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ، وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِي أَدَعُ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4476).
(2)
ينظر: طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 10).
(3)
أخرجه البخارى، رقم الحديث:(6446)، أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1051).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8210)، والترمذي، رقم الحديث:(2305)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2305).
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي، وَلَكِنْ أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الجَزَعِ والهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنَى والخَيْرِ، فَيهِمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، فَوَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ»
(1)
.
ولا يمنع ذلك الأخذ بالأسباب طلبًا للغنى والفضل، والتقوي على طاعة الله، وحفظ النعمة، وإغناء الفقراء من فضل الله، مع ملازمة الاعتقاد بأن في القلب فاقة عظيمة، وضرورة تامة وحاجة شديدة، لا يسدها إلا فوزه بحصول الغنى القلبي، الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإن فاته فاته كل شيء، فكما أنه سُبْحَانَهُ الغنى على الحقيقة ولا غنى سواه، فالغنى به هو الغنى في الحقيقة ولا غنى بغيره ألبتة، فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السوى حسرات، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة، وحَضَرَهُ كل سرور وفرح.
فما أسعد من تعفف عن الناس واستغنى بربه سُبْحَانَهُ في قضاء حوائجه وطلب رزقه، قال صلى الله عليه وسلم:«وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِي أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»
(2)
.
الأثر السابع: للغنى أسباب تطلب:
الغنى والعطاء بيد من له ملك الأرض والسماء، فلا يغتني أحد إلا بإذنه، ولا يُرزق أحد إلا من عطائه، أمر عباده بصدق التوكل عليه واليقين بما لديه، مع تمام بذل أسباب الغنى والعطاء، ومن أسباب نيل الغنى ما يلي:
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(923).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1469)، ومسلم، رقم الحديث:(1053).
1 -
التفرغ للعبادة:
يقول تَعَالَى في الحديث القدسي: «ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي، أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى»
(1)
، والمراد من التفرغ للعبادة:«إيثارها على حظوظ الدنيا والإتيان بما أمر به منها، فلا تلهيه عن ذكر الله، لا أنه لا يفعل إلا العبادة»
(2)
.
ومن هنا يفهم أن الشرع ينهى عن انقطاع العبد عن طلب أسباب رزقه بحجة الاعتكاف في مصلاه، وإنما المراد: ألا يلهيه طلب الرزق عن عبادة الله، بل إن من اعظم أسباب الرزق والغنى الإقبال على عبادة الله، يقول السعدي رحمه الله في تفسير قوله تَعَالَى:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37]: «وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض، فيكون قوله: {وَلَا بَيْعٌ} من باب عطف الخاص على العام؛ لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره، فهؤلاء الرجال، وإن اتجروا، وباعوا، واشتروا، فإن ذلك، لا محذور فيه، لكنه لا تلهيهم تلك، بأن يقدموها ويؤثروها على {ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}، بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم، ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها رفضوه»
(3)
.
2 -
تقوى الله عز وجل:
يقول تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، وقال الله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8817)، والترمذي، رقم الحديث:(2466)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4107)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2466).
(2)
التنوير شرح الجامع الصغير، الكحلاني (3/ 410).
(3)
تفسير السعدي (ص: 569).
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الآخرة هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ،
…
»
(1)
، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينصح بعضهم بعضًا بثلاثة أمور، فيقولون:«من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله الذي بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن اهتم بآخرته كفاه الله أمر دنياه»
(2)
.
3 -
الاستغفار:
يقول تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12]،
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَزِمَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ»
(3)
.
4 -
إنزال الفاقة بالله تعالى:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ، لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللهِ عز وجل، أَوْشَكَ اللهُ لَهُ بِالغِنَى، إِمَّا أَجَلٌ عَاجِلٌ، أَوْ غِنًى عَاجِلٌ»
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(21590)، والترمذي واللفظ له، رقم الحديث:(2465)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4105)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2465).
(2)
الزهد، لوكيع (525).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(3946)، وأبو داود، رقم الحديث:(1645)، والترمذي، رقم الحديث:(2326)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1645).
5 -
المتابعة بين الحج والعمرة:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، فَإِنَّهُما يَنْفِيَانِ الفَقْرَ والذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ
…
»
(1)
.
6 -
إرادة الزواج تعففًا:
يقول تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:«أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح؛ ينجز لكم ما وعدكم من الغنى»
(2)
، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:«التمسوا الغنى في النكاح»
(3)
.
7 -
الاستغناء بالله عن الخلق:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «
…
مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ»
(4)
، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ»
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(3743)، والنسائي، رقم الحديث:(2630)، وابن ماجه، رقم الحديث:(2887)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن النسائي، رقم الحديث:(2630).
(2)
تفسير ابن كثير (3/ 273).
(3)
المصدر السابق (6/ 51).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6446)، ومسلم، رقم الحديث:(1051).
8 -
صلة الرحم:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»
(1)
.
9 -
الزكاة والصدقة:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ لِصَدَقَةٍ أَوْ صِلَةٍ إِلَّا زَادَهُ الله عز وجل بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلَّا زَادَهُ الله بِهَا قِلَّةً»
(2)
.
10 -
الدعاء:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:«إِذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ يَنْزِلُ اللهُ عز وجل إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَرْزِقُنِي فَأَرْزُقَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَكْشِفُ الضُّرَّ فَأَكْشِفَهُ عَنْهُ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الفَجْرُ»
(3)
، وعن سلمان رضي الله عنه، قال: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى آدَمَ عليه السلام قَالَ: وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَكَ وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لِي فَتَعْبَدُنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَكَ فَمَا عَمِلْتَ مِنْ شَيْءٍ جَزَيْتُكَ بِهِ، وَأَنْ أَغْفِرَ فَأَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ؛ وَأَمَّا الَّتِي بَيْنِي
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5986)، ومسلم، رقم الحديث:(2557).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(9755)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(3140)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(5646).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(7625)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(2829). حكم الألباني: صحيح دون جملة الاسترزاق، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(915).
وَبَيْنَكَ فَمِنْكَ الْمَسْأَلَةُ وَالدُّعَاءُ وَمِنِّي الْإِجَابَةُ وَالْعَطَاءُ»
(1)
.
11 -
السعي لطلب الرزق:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا»
(2)
الأثر الثامن: للفقر أسباب تجتنب:
كما أن هناك أسبابًا للعطاء والغني، فكذلك توجد أسباب أخرى من تعرض لها حُرِم العطاء، ومن هذه الأسباب:
1 -
معصية الله تعالى:
جاء في الأثر: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ»
(3)
.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رُوحُ القُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، أَلَا فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»
(4)
.
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(6137)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(1076)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، رقم الحديث:(4058).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(210)، والترمذي، رقم الحديث:(2344)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4164)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2344).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22821)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4022)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، رقم الحديث:(1452).
(4)
أخرجه أبو نعيم في الحلية، رقم الحديث:(10/ 26)، والبغوي في شرح السنة، رقم الحديث:(4112)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(2085).
2 -
سؤال الناس:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ، قال: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ»
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ، لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا باللهِ عز وجل، أَوْشَكَ اللهُ لَهُ بِالغِنَى، إِمَّا أَجَلٌ عَاجِلٌ، أَوْ غِنًى عَاجِلٌ»
(2)
.
3 -
أكل الربا:
قال تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].
قال ابن كثير رحمه الله: «يخبر الله تَعَالَى أنه يمحق الربا يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعدمه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:(الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ)
(3)
»
(4)
.
4 -
الكذب:
عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18031)، والترمذي، رقم الحديث:(2325)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2325).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه أحمد واللفظ له، رقم الحديث:(3831)، وابن ماجه، رقم الحديث:(2279)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(2279).
(4)
تفسير ابن كثير (1/ 310).
مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»
(1)
.
5 -
الحلف في البيع:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ»
(2)
، وعن أبي قتادة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الحَلِفِ فِي البَيْعِ؛ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ، ثُمَّ يَمْحَقُ»
(3)
.
6 -
منع الزكاة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَمْنَعْ قَوْمٌ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا»
(4)
.
7 -
ترك الحكم بما أنزل الله:
فإن من فعل ذلك فقد خالف الغني في حكمه فأفقرهم؛ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَمْسُ بِخَمْسٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا خَمْسٌ بِخَمْسٍ؟ قال: مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلَّا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ، وَمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ الله إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَلَا ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْفَاحِشَةُ إِلَّا فَشَا
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2079)، ومسلم، رقم الحديث:(1532).
(2)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(2087)، ومسلم، رقم الحديث:(1606).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1607).
(4)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(4019)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(3042)، وأبو نعيم في الحلية، رقم الحديث:(3/ 320)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(5204).
فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلَا طفَّفُوا الْمِكْيَالَ إِلَّا مُنِعُوا النَّبَاتَ وَأُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَلَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ إِلَّا حُبِسَ عَنْهُمُ الْقَطْرُ»
(1)
.
8 -
الاهتمام بالدنيا دون الآخرة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ الله عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخرة نِيَّتَهُ، جَمَعَ الله لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»
(2)
، وعليه فإن غض الطرف عن زينة الدنيا من أسباب الرزق ودوامه، يقول تَعَالَى في ذلك:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، ويروى أن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه كان إذا رأى شيئًا من أخبار السلاطين وأحوالهم، بادر إلى منزله فدخله، وهو يقرأ {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131]
…
الآية ثم ينادي بالصلاة: الصلاة يرحمكم الله، ويصلي
(3)
.
اللهم إنا نعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، رب قنعنا بما رزقتنا، وبارك لنا فيه، واخلف علينا كل غائبة لنا بخير.
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(10992)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3240).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2465)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4105)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2465).
(3)
تفسير القرطبي (11/ 263).
فاطرُ السماواتِ والأرض جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «والفطر أيضًا: الشق، يقال: فطرته فانفطر،
…
وتفطر الشيء: تشقق، وسيف فطار، أي: فيه تشقق
…
، والفطر: الابتداء والاختراع، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت لا أدرى ما {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} حتى أتانى أعربيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأتها»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الفاء والطاء والراء أصل صحيح يدل على فتح شيء وإبرازه، من ذلك الفطر: من الصوم .... »
(2)
.
ورود اسم الله (فاطر السماوات والأرض) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (فاطر السماوات والأرض) ست مرات في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
1 -
قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1].
2 -
قوله عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14].
3 -
قوله عز وجل: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ
(1)
الصحاح (2/ 345).
(2)
مقاييس اللغة (4/ 510).
فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
ورود اسم الله (فاطر السماوات والأرض) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (فاطر السماوات والأرض) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رحمه الله، قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ
أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: «اللهمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»
(1)
.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مُرْنِي بِكَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ. قَالَ:«قُلْ: اللهمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، قال: قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(770).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5067)، والترمذي، رقم الحديث:(3392)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(7644)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5067).
3 -
(1)
، قال أحمد شاكر: إسناده ضعيف
(2)
.
معنى اسم الله (فاطر السماوات والأرض) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال السدي وقتادة -رحمهما الله-، وغيرهما في قوله تَعَالَى:{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]: «خالق السماوات والأرض»
(3)
.
قال الطبري رحمه الله: «{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1] مبتدعهما ومبتدئهما وخالقهما»
(4)
.
وقال الحليمي رحمه الله في معنى الفاطر: «إنه فاتق المرتتق من السماء والأرض، قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30]»
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(3993)، والحاكم، رقم الحديث:(3446)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 271).
(2)
تحقيق أحمد شاكر على المسند (4/ 83).
(3)
تفسير الطبري (9/ 175، 176).
(4)
المرجع السابق (11/ 283).
(5)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 194).
قال الخطابي رحمه الله: «الفاطر: هو الذي فطر الخلق: أي: ابتدأ خلقهم، كقوله تَعَالَى: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51]، ومن هذا قولهم: فطر ناب البعير، وهو أول ما يطلع»
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تَعَالَى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]«الذي خلقها وابتدعها على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليها، فلا بد لها من صانع، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه ومليكه»
(2)
.
قال السعدي رحمه الله في قوله تَعَالَى: «{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1] أي: خالقهما بقدرته ومشيئته وحكمته»
(3)
.
اقتران اسم الله (فاطر السماوات والأرض) بأسمائه الأخرىسُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله فاطر السموات والأرض بأي اسم من أسماء الله تعالى.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (فاطر السماوات والأرض):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (فاطر السماوات والأرض) من صفاته سُبْحَانَهُ:
الله عز وجل فاطر السموات والأرض الذي خلقها وأبدعها على غير مثال
(1)
شأن الدعاء (1/ 103).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 482).
(3)
تفسير السعدي (ص: 754).
سابق، يقول تَعَالَى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]، وفي بيان مظاهر ذلك ما يلي:
أنه سُبْحَانَهُ فطر السماء والأرض في ستة أيام، وفطر الأرض الكثيفة العظيمة، في يومين، قال تَعَالَى:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] ثم بسطها في يومين، وجعل فيها رواسي من فوقها، ترسيها عن الزوال والتزلزل، فكمل خلقها، وأخرج أقواتها، وتوابع ذلك قوله تَعَالَى:{فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10]، ثم بعد أن خلق الأرض خلق السماء ذات الجرم العظيم، والخلق القوي، والارتفاع الباهر في يومين، كما قال سُبْحَانَهُ:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12]
(1)
.
كل ذلك من غير تعب، ولا نصب، ولا إعياء، يقول تَعَالَى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38].
(2)
فطر الأرض وبسطها، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 19 - 20] فسهلها غاية التسهيل؛ ليستقر الخلائق على ظهرها، وأودع فيها من المنافع والمصالح لهم ما أودع، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]، فأخرج منها الأشجار والنبات، ومعادن الأرض، وأنواع الصنائع والتجارات، وشق فيها الأنهار
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 745).
(2)
ينظر: المرجع السابق (ص: 807).
والعيون، وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام، وأنواع الحيوانات، وسخر ذلك كله لبني آدم، قال تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]
(1)
.
(2)
، قال تَعَالَى:{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65].
فطر السموات وزينها «بالنجوم الخنس، والجوار الكنس، التي ضربت من الأفق إلى الأفق في غاية الحسن والملاحة»
(3)
، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5].
فطر السموات قال تَعَالَى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} [النازعات: 29] أي: أظلمه، فعمت الظلمة جميع أرجاء السماء، فأظلم وجه الأرض، وقال تَعَالَى:{وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات: 29] أي: أظهر فيه النور العظيم، حينما أتى بالشمس التي جعلها ضياء، قال تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5]
(4)
فـ «جعل سلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل، وقدر القمر منازل، فأول ما يبدو صغيرًا، ثم يتزايد نوره وجرمه، حتى يستوسق ويكمل إبداره، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأول في تمام شهر، كما قال تَعَالَى:
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (8/ 316)، تفسير السعدي (ص: 776، 922).
(2)
المرجع السابق (ص: 647).
(3)
المرجع السابق (ص: 804).
(4)
ينظر: المرجع السابق (ص: 909).
(1)
.
فطرها وعاقب بين ليلها ونهارها، إذا جاء هذا ذهب هذا، وإذا ذهب هذا جاء هذا، لا يتأخر عنه شيئًا، كما قال تَعَالَى:{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف: 54]، وقال تَعَالَى:{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40]، وقال تَعَالَى:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96].
كل ذلك بإتقان وإحكام عجيب لا يرى فيه عيب، ولا خلل ولا إخلال {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]
(2)
.
وقد ضرب الله عز وجل صورة من صور إتقانه لخلقه، فقال سُبْحَانَهُ:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3 - 4] سبع سموات كل واحدة فوق الأخرى لا يرى فيها خلل ولا نقص، ولو كرر العبد النظر إليها والتأمل في أرجائها لعله يجد خلالًا؛ لعاد بصره عاجزًا عن أن يرى خللًا أو فطورًا
(3)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (فاطر السماوات والأرض) على التوحيد:
إذا تأمل العبد أن الله فاطر السماوات بارتفاعها وصفائها، وما فيها من الكواكب النيرة والنجوم الزاهرة، وفاطر الأرض بقوتها وثباتها، وما فيها من
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 248).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 523).
(3)
ينظر: المرجع السابق (ص: 875).
الجبال والسهول، والفيافي والقفار، والأشجار والزروع، والبحور والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان وما في ذلك من عظيم الخلقة وبديع النظام؛ علم أن فاطر ذلك وحده من غير شريك ولا معين هو المألوه المعبود الحق، الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له وحده سُبْحَانَهُ
(1)
.
وقد نبه الله عباده على توحيده وبطلان عبادة غيره، مستدلًّا بخلقه للسموات والأرض في مواضع عدة من كتابه، منها:
قوله تَعَالَى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60].
وقوله تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} [فاطر: 40]، وقوله تَعَالَى:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14]، فالكل خلق مدبرون، وعبيد مسخرون، لربهم العظيم، القاهر المالك، فقيرون لرزقه وعطاءه، فكيف يليق أن يتخذ ولي من هؤلاء المخلوقات العاجزة؟
(2)
.
فمن كان يتولى مخلوقًا لينصره ويعينه، فالله هو فاطر السماوات والأرض، فله السلطان في السماوات والأرض، ومن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه، فالله هو الرازق المطعم لمن في السماوات ومن في الأرض، ففيم
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (6/ 182).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 252).
الولاء لغير صاحب السلطان الرزاق؟
فالله هو الولي وحده، ربًّا، ومعبودًا، وناصرًا، يستنصر به ويعتمد عليه، ويتوجه إليه في الملمات، فيجب إخلاص الولاية له سُبْحَانَهُ، كما قال تَعَالَى بعد أن أنكر أن يُتَّخَذَ وليٌّ غيره:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14].
وتجدر الإشارة إلى أن الله عز وجل كثيرًا ما يحتج على المشركين بما اعترفوا به من توحيد الربوبية على ما أنكروه من توحيد الألوهية؛ وذلك لأن توحيد الربوبية فطرت على قبوله والاعتراف به قلوب بني آدم، فلم ينكره إلا شُذَّاذ قليلون، من بني آدم، ففرعون القائل:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، والقائل:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] معترف في حقيقة الأمر بوجود خالق لهذا العالم، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، وقال موسى عليه السلام لفرعون:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]
(1)
.
والمشركون أنفسهم الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معترفون بالله تَعَالَى، قال تَعَالَى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} ، [يونس: 31]، فمن عرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور؛ أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له
(2)
.
(1)
ينظر: التوحيد وبيان العقيدة السلفية النقية، لعبد الله بن حميد (ص 17 - 20).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص 125).
ومن هنا يظهر خطأ من جعل التوحيد ليس إلا الإقرار بتوحيد الربوبية وأن الله خلق كل شيء، وظن بذلك أنه حقق التوحيد وأثبت لا إله إلا الله، مفسرًا لها بالقدرة على الاختراع، أو نحو ذلك.
ولو كان هذا هو التوحيد الذي يدخل المرء به للإسلام؛ لكان مشركوا العرب الذي قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنين مسلمين؛ لإقرارهم أن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المتصرف في هذا العالم، قال عليه السلام:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89].
(2)
فتوحيد الربوبية وإن كان ركنًا من أركان التوحيد والإيمان بالله إلا أنه لا يحصل به وحده التوحيد الواجب، ولا يخلص صاحبه بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر؛ بل لا بد أن يخلص لله الدين، فلا يعبد إلا إياه، فيكون دينه كله لله
(3)
.
الأثر الثالث: التوكل على فاطر السماوات والأرض:
إذا تأمل العبد في اسم الله فاطر السموات والأرض وعظيم فطرها لهما؛ أيقن قوته جل جلاله وعظيم قدرته، وعلم أنه لا يعجزه شيء، يقول تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]، وأن حاجته ومطلبه مهما عظم لن يعجز فاطر السموات والأرض،
(2)
ينظر: التوحيد وبيان العقيدة السلفية النقية، لعبد الله بن حميد (ص 17 - 20).
(3)
ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 387).
فيورث ذلك قلبه السكينة والطمأنينة لله، فيثق بقدرته ويتوكل عليه ويصدق في الاعتماد عليه في جلب منافعه الدينية والدنيوية، وفي دفع المضار عنه الدينية والدنيوية أيضًا.
وحين يقلب نظره في السماء والأرض ويستشعر عظيم خلقها، ثم يستحضر عظمة خالقهما وفاطرهما، تستقر في نفسه مهابة الله وخشيته، ويستصغر من دون الله -جل وعلا- من العباد مهما كان مقدَّمًا معظَّمًا مبجَّلًا، فيزيد توكله واعتماده على ربه.
فهذا نبي الله هود، ليس له أنصار ولا أعوان، يصرخ في قومه ويناديهم وهم الأعداء الذين لهم السطوة والغلبة، فيقول تَعَالَى:{إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 - 56]
(1)
، وقبله نوح عليه السلام يقول لقومه:{يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71].
الأثر الرابع: التأمل في خلق السماوات والأرض:
وقد دعا الله عز وجل عباده إلى التفكر في آيات الله الكونية وما خلق في السماوات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب، وحثهم على ذلك في مواضع من كتابه، منها:
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 383 - 384).
قوله تَعَالَى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
قال السعدي رحمه الله: «يدعو تَعَالَى عباده إلى النظر لما في السماوات والأرض، والمراد بذلك: نظر الفكر والاعتبار والتأمل، لما فيها، وما تحتوي عليه»
(1)
.
ويقول تَعَالَى في معرض المدح لأهل الإيمان: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
وإنما شرع الله هذه العبادة لما تثمره من توحيده سُبْحَانَهُ ومعرفته بأسمائه وصفاته، فإذا تفكر العبد في خلق السموات والأرض مثلًا وجد «أن خلقها وتدبيرها وتسخيرها دال على نفوذ مشيئة الله وكمال قدرته، وما فيها من الإحكام والإتقان وبديع الصنعة وحسن الخلقة دال على كمال حكمته وعلمه، وما فيها من السعة والعظمة دال على سعة ملكه وسلطانه، وما فيها من المنافع والمصالح الدينية والدنيوية دليل على سعة رحمته، وشمول فضله وإحسانه وبديع لطفه وبره، وكل ذلك دال على أنه وحده المألوه المعبود الذي لا تنبغي العبادة والذل والمحبة إلا له»
(2)
، فتتعلق القلوب به، ويبذل الجهد في مرضاته
(3)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 375).
(2)
تفسير السعدي (ص: 776).
(3)
ينظر: المرجع السابق (ص: 161).
الأثر الخامس: محبة (فاطر السماوات والأرض):
إذا تأمل العبد في اسم الله فاطر السموات والأرض وما يتضمنه من الإحسان لعباده، بخلق السموات والأرض، وما أودع فيهما من مصالح شتى، بها تستقيم حياتهم وتطيب، وما سخره لهم من النعيم يوجب كل ذلك محبة فاطرهما وموجدهما، وأن يحب غاية الحب وأن يتذلل له غاية التذلل، وهذان هما قطبا التعبد لله عز وجل.
الأثر السادس: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]:
التأمل في اسم الله فاطر السماوات والأرض، يشعر بمنة الله على عباده بأن خلق السماوات والأرض وأودع فيهما من المصالح والمنافع التي تعود عليهم بالخير الكثير، وسخر ذلك كله لهم كما قال سُبْحَانَهُ:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13].
فسخر ما في السموات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم، وعاقب بين الليل والنهار والشمس والقمر فحصل بذلك الحر والبرد، والفصول، ومعرفة الأيام والحساب، والاستقرار والسكن في الليل، والانتشار والسعي في النهار
(1)
.
وسخر لهم ما في الأرض من حيوانات، ونبات، وجمادات، فجميع ما في الأرض مسخر لبني آدم، قال تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [الحج: 65] حيواناتها، لركوبه، وحمله، وأعماله، وأكله، وأنواع انتفاعه، وأشجارها، وثمارها، يقتاتها، قال تَعَالَى:{مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 33]، وقد سلط على غرسها واستغلالها، واستخراج معادنها والانتفاع بها.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 249)، تفسير السعدي (ص: 522).
وسخر لهم البحر، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14]
تسير سفنه بتسخيره في البحر العجاج، وتلاطم الأمواج، تجري بأهلها بريح طيبة، ورفق وتؤدة، فيحملون فيها ما شاءوا من متاجر وبضائع ومنافع، من بلد إلى بلد، وقطر إلى قطر، ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء، كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك، مما يحتاجون إليه، وجعل فيها الأسماك والحيتان وأحلها لهم في الحل والحرم، وخلق فيه اللآلئ والجواهر النفيسة، وسهل للعباد صيدها واستخراجها من قرارها
(1)
.
ومن نظر في هذا كله وتأمله أوجب له ذلك حمد فاطر السموات والأرض {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]، وشكره على ما أنعم وأولى، والاستعانة بهذه النعم على طاعته، وترك الاستعانة بشيء منها على معصيته
(2)
.
الأثر السابع: التدرج والأناة في سائر الأمور:
إن المتدبر في اسم الله فاطر السماوات والأرض، يجد التدرج يظهر جليًّا في خلق الله للسموات والأرض، فقد فطرهما سُبْحَانَهُ في ستة أيام، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الحديد: 4] مع أنه قادر على خلقهما في لحظة واحدة، وبكلمة واحدة (كن) ولكن مع أنه قدير، فهو حكيم رفيق، فمن حكمته ورفقه، أن جعل خلقها في هذه المدة المقدرة
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 562)(5/ 451)، تفسير السعدي (ص: 544).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 649).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 745).
لنأخذ من هذا منهجًا شرعيًّا جاءت به الشريعة وأقرته، ألا وهو منهج: التدرج والأناة في الأمر.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم مكث ثلاثًا وعشرين سنة يبني المجتمع الإسلامي لبنة لبنة، قام عليه السلام طيلة هذه السنين يغرس العقيدة في النفوس، ثم تدرج في فرض الأحكام في العهد المدني، بل الفريضة الواحدة تدرج في فرضها، فالصلاة فُرضت أول ما فرضت ركعتين ركعتين ثم أقرت في السفر، وزيدت في الحضر على أربع للظهر والعصر والعشاء، وكذا الصيام فرض أولًا على التخيير من شاء صام ومن شاء أفطر وفدى، ثم فرض على الإلزام.
وحصل التدرج- أيضًا- في التحريم، فالخمر أول ما حرم حرم أوقات الصلوات فقط، ثم حرم مطلقًا، فعلي المسلم أن يلتزم هذا المنهج ويسلكه في حياته ويرفع من قيمة «الإنجاز المتدرج» .
الأثر الثامن: الدعاء باسم (فاطر السماوات والأرض):
أمر الله عباده أن يدعوه على وجه الخصوص باسمه فاطر السموات والأرض، فقال سُبْحَانَهُ:{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46].
قال سعيد بن جبير رحمه الله: «إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط، فسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه: قوله تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46]» .
(1)
(1)
تفسير القرطبي (15/ 265).
ودعاء يوسف عليه السلام ربه باسمه فاطر السموات والأرض، فقال:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه باسمه فاطر السموات والأرض، كما ثبت في جملة من الأحاديث، منها:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني شيئًا أقوله إذا أصبحت و إذا أمسيت، قال:«اللهمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، قال: قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ»
(1)
.
- وما جاء عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي، وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ، وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
…
»
(2)
(3)
.
وما جاء عن أبي سلمة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رحمه الله قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ
أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللهمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ،
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(771).
(3)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 321).
وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»
(1)
، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء في ظلمة الليل، التي هي مظنة الاضطراب لذهاب الضوء، والمؤمن عند الاختلاف يرى الأمور مضطربة، ولا غنى له عن هداية الحق له للحق المختلف فيه.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(770).
القديرُ القادرُ المقتدرُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «قدر الشيء: مبلغه، وقدر الله وقدره بمعنى، وهو في الأصل مصدر، وقال الله تَعَالَى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]، أي: ما عظموا الله حق تعظيمه، والقدر و القدر أيضًا: ما يقدره الله عز وجل من القضاء
…
»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «القدر: مبلغ كل شيء؛ يقال: قدره كذا، أي: مبلغه، وكذلك القدر، وقدرت الشيء أقدره وأقدره من التقدير، وقدرته: أقدره، والقدر: قضاء الله تَعَالَى الأشياء على مبالغها ونهاياتها التي أرادها لها،
…
وقدرة الله تَعَالَى على خليقته: إيتاؤهم بالمبلغ الذي يشاؤه ويريده
…
»
(2)
.
ورود اسم الله: (القدير القادر المقتدر) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (القدير) في كتاب الله (خمسًا وأربعين مرة)، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148].
(1)
الصحاح (2/ 786).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 62 - 63).
وقوله عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149].
وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44].
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (القادر) في كتاب الله (اثنتي عشرة مرة) سبعة، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65].
قوله عز وجل: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37].
قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]
ورد اسمه سُبْحَانَهُ: (المقتدر) في كتاب الله أربع مرات، ومن وروده ما يلي:
قوله عز وجل: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42].
قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55].
قوله عز وجل: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].
ورود اسم الله: (القدير القادر المقتدر) في السنة النبوية:
ورد اسم الله: (القدير) في السنة النبوية، ومن وروده يلي:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ الله، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، ثُمَّ قَالَ: اللهمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ، فَإِنْ تَوَضَّأَ قُبِلَتْ صَلَاتُهُ»
(1)
.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء:«رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللهمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ، وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللهمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
(2)
.
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1154).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6398)، ومسلم، رقم الحديث:(2719).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2723).
ورد اسم الله: (القادر) في السنة النبوية، ومن وروده يلي:
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في آخر رجل يدخل الجنة، أن الله عز وجل يقول له:«يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ، أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟، فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ»
(1)
.
معنى اسم الله (القدير القادر المقتدر):
القدير والقادر والمقتدر أسماء لله عز وجل متقاربة المعاني، ترجع إلى معنيين:
القدرة الكاملة التي لا عجز معها.
التقدير للأشياء.
وحول هذين المعنيين تدور أقوال العلماء:
من الأقوال في المعنى الأول:
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20]: «إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة، أو عفو، قدير»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(187).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 193).
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20]: «قدير، إن شاء انتقم منهم بعنادهم ربهم، وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان، لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يتعذر عليه أمر شاء قضاءه؛ لأن له الخلق والأمر»
(1)
، وقال في قوله تَعَالَى:{فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42]: «مقتدر على ما يشاء، غير عاجز ولا ضعيف»
(2)
.
قال الزجاج رحمه الله: «القادر على ما يشاء، لا يعجزه شيء ولا يفوته مطلوب»
(3)
.
قال البيهقي رحمه الله: «هو الذي له القدرة الشاملة، والقدرة له صفة قائمة بذاته»
(4)
.
قال السعدي رحمه الله: في قوله تَعَالَى: «{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20]، فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئًا فعله من غير ممانع ولا معارض» .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
وَهوَ القَدِيرُ وَلَيْسَ يُعْجِزُهُ إِذَا
…
مَا رَامَ شَيْئًا قَطُّ ذُو سُلْطَانِ
(5)
(1)
تفسير الطبري (2/ 504).
(2)
تفسير ابن جرير (22/ 600).
(3)
تفسير الأسماء (ص: 59).
(4)
الاعتقاد (ص: 63).
(5)
النونية (ص: 205).
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال الخطابي رحمه الله: «وقد يكون القادر بمعنى المقدر للشيء، يقال: قدرت الشيء وقدرته بمعنى واحد كقوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23] أي: نعم المقدرون»
(1)
.
قال الحليمي رحمه الله في (المقتدر): «وإن كان يقدر على أشياء كثيرة لم يفعلها، ولو شاء لفعلها، فاستحق بذلك أن يسمى: مقتدرًا»
(2)
.
(3)
.
الفرق بين القدير والقادر، والمقتدر:
يمكن أن نقول: إن الفرق بين هذه الأسماء أن القادر هو المتمكن، في حين أن القدير صيغة مبالغة منه، والمقتدر أبلغ وأعم.
قال الزجاج رحمه الله: «(المقتدر) مبالغة في الوصف بالقدرة، والأصل في العربية أن زيادة اللفظ زيادة المعنى، فلما قلت: اقتدر، أفادت زيادة اللفظ زيادة المعنى»
(4)
.
(1)
شأن الدعاء (ص: 86).
(2)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 194).
(3)
تفسير السعدي (ص: 947).
(4)
تفسير الأسماء (ص: 59).
قال الخطابي رحمه الله: «(المقتدر)
…
ووزنه: (مفتعل) من القدرة، إلا أن الاقتدار أبلغ وأعم؛ لأنه يقتضي الإطلاق، والقدرة قد يدخلها نوع من التضمين بالمقدور عليه»
(1)
.
قال ابن الأثير رحمه الله في أسماء الله تَعَالَى: (القادر، والمقتدر، والقدير): فالقادر: اسم فاعل، من قدر يقدر، والقدير: فعيل منه، وهو للمبالغة، والمقتدر: مفتعل، من اقتدر، وهو أبلغ»
(2)
.
اقتران اسم الله: (القدير القادر المقتدر) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (القدير) باسمه سُبْحَانَهُ (العليم):
تقدم بيانه في اسم الله (العليم).
ثانيًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ: (القدير) باسمه سُبْحَانَهُ (العفو):
تقدم بيانه في اسم الله (العَفُو).
ثالثًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (القدير) باسميه سُبْحَانَهُ (الغفور الرحيم):
اقترن اسم الله (القدير) باسمه (الغفور الرحيم) مرة واحدة في القرآن الكريم، وذلك في قوله تَعَالَى:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7].
(1)
شأن الدعاء (ص: 86).
(2)
النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير (4/ 22).
ووجه الاقتران بينهما: لدلالة على أن مغفرته ورحمته تبارك وتعالى عن قدرة كاملة تامة، لا عن ضعف وحاجة.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله: (القدير القادر المقتدر):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (القدير، القادر، المقتدر) من صفاته سُبْحَانَهُ:
الله عز وجل قدير، قادر، مقتدر له القدرة والتقدير الشامل التام من كل وجه.
أ- فأما قدرته سُبْحَانَهُ: فله جل جلاله القدرة الواسعة التي وسعت كل شيء، والقدرة الكاملة التي كملت من كل وجه.
فأما سعة قدرته:
فقدرته عامه شاملة لكل شيء، إذا أراد شيئًا قال له:(كن) فيكون، قال تَعَالَى:{أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الطلاق: 12]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].
ومن أثار سعة قدرته ما يلي:
1 -
أنه بقدرته خلق الخلق وأوجدهم من العدم، قال تَعَالَى:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20].
2 -
أنه بقدرته خلق السموات السبع والأرضين السبع على عظمهما وسعتهما، وما فيهما من إتقان وإحكام في ستة أيام من غير تعب ولا نصب،
ونشر بقدرته فيهما أصناف الدواب من الإنس والجن وسائر الحيوانات
(1)
، قال تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29].
3 -
أنه بقدرته نوَّع خلقهم، فاختلفت أشكالهم وألوانهم ولغاتهم، وطباعهم وأجناسهم، وأنواعهم مع أن أصلهم واحد
(2)
، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور: 45]«كما أنزل المطر على الأرض، وهو لقاح واحد، والأم واحدة، وهي الأرض، والأولاد مختلفو الأصناف والأوصاف، قال تَعَالَى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]»
(3)
.
4 -
أنه بقدرته يخلق ما يشاء على ما يشاء من الصفات، ويزيد في خلق بعضهم ما يشاء من القوة، والحسن، وزيادة الأعضاء، وحسن الأصوات، ولذة النغمات ونحو ذلك
(4)
، قال تَعَالَى:{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]، وقال سُبْحَانَهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 207)، تفسير السعدي (ص: 872).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 207)، تفسير السعدي (ص: 571).
(3)
تفسير السعدي (ص: 571).
(4)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 684).
رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: 1].
5 -
أنه بقدرته خلق الآدمي من ماء مهين، ثم نشر منه ذرية كثيرة، وجعلهم أنسابًا وأصهارًا متفرقين ومجتمعين، ومرجعهم كلهم ذلك الماء المهين
(1)
قال تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54].
6 -
أنه بقدرته فاوت بينهم فيما خلق لهم، فمنهم من يهبه البنات، ومنهم من يهبه البنين، ومنهم من يهبه من النوعين ذكورًا وإناثًا، ومنهم من يمنعه هذا وهذا، فيجعله عقيمًا لا نسل له ولا ولد، قال تَعَالَى:{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50]
(2)
.
7 -
أنه بقدرته يقيم الساعة في لمح البصر، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل: 77]، ويجمع الأولين والأخرين في صعيد واحد مهما كان تفرق أبدانهم وأجسادهم، ومهما كان مكان مهلكهم ومصرعهم
(3)
، قال تَعَالَى:{أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29].
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 585).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 216).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (3/ 197)، تفسير ابن كثير (1/ 463).
8 -
أنه بقدرته يكرم أهل الجنة بألوان النعيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من غير انقطاع ولا زوال، قال تَعَالَى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [سورة القمر: 54 - 55]،
وبقدرته يعذب المكذبين بأصناف العذاب وألوان النكال من غير زوال ولا انقطاع بحال من الأحوال
(1)
.
وكل ذلك الخلق وما فيه من كثرة وتنوع واختلاف، والبعث وما فيه من تفرق واجتماع ما هو إلا كخلق نفس واحدة وبعثها؛ إذ لا يتعذر على الله القدير شيء أراده، ولا يمتنع منه شيء شاءه، قال تَعَالَى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، فسواء خلق واحد وبعثه، وخلق الجميع وبعثهم، قال تَعَالَى:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28]
(2)
.
وأما كمال قدرته:
فقدرته تبارك وتعالى كاملة سالمة من اللغوب، والإعياء، والتعب، والعجز عما يريد، قائمة على العلم، والملك، والحكمة، والقهر، والنصر ونحو ذلك من صفات كماله.
فهو القدير الذي أحاط بكل شيء علمًا، فعلم السرائر والضمائر والظواهر، لا تخفى عليه خافية، ولا تغيب عنه مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال، قال تَعَالَى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا
(1)
ينظر: الحق الواضح المبين، للسعدي (ص 45 - 46).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (20/ 153)، تفسير السعدي (ص: 651).
فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 29].
وهو القدير الذي ملك العالم العلوي والسفلي، وتصرف فيه بما شاء، ودبر أمره على ما أراد لا يمتنع عليه أمر من الأمور، ولا يعجزه أحد، بل كل شيء طوع مشيئته وقدرته، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 189]، وقال سُبْحَانَهُ:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120]، وقال تَعَالَى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1]
(1)
.
وهو القدير الذي يحكم في ملكه بما قدر وقضى، فيعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويصح من يشاء، ويمرض من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، قال تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17].
وبقدرته وحكمه أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأقام الحجج، قال تَعَالَى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19]
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 236)، تفسير السعدي (ص: 121، 161).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 227).
وحكم بشرعه، فأحل ما شاء، وحرم ما شاء، وأباح ما شاء، وحظر ما شاء، ونسخ وبدل وغير من أحكامه ما شاء، وأقر منها ما شاء، يحكم بما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، قال تَعَالَى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]
(1)
.
ثم هدى لشرعه من شاء، وضل عنه من شاء، ووفق إليه من شاء، وخذل عنه من شاء، القلوب بيده يصرفها على ما يشاء، قال تَعَالَى:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7]
(2)
.
وهو القدير الذي قهر أعداءه بما أوقع عليهم من أنواع العقوبات وبما أحل عليهم من المَثُلَات، قال تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44].
(3)
.
فها هو فرعون وجنده مع ما هم فيه من الملك والجبروت، لما أتى أمر الله لم يغن عنهم ذلك شيئًا، قال تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
(1)
ينظر: تفسير الطبري (2/ 488)، تفسير ابن كثير (1/ 378).
(2)
طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 128).
(3)
تفسير ابن كثير (6/ 560).
كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 41 - 42] فأبادهم المقتدر ولم يبق منهم مخبرًا ولا عينًا ولا أثرًا
(1)
.
وبقدرته يقهرهم إذا شاء، قال تَعَالَى:{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 41 - 42]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 95]، وقال تَعَالَى:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].
ولو شاء لذهب بقدرته بالخلق، وأتى بخلق جديد خير منهم، قال تَعَالَى:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 39]، لكنه العَفُوُّ سُبْحَانَهُ الذي يعفو عن الزلات والذنوب العظام فيسدل عليهم ستره، ثم يعاملهم بعفوه التام الصادر عن قدرته، قال تَعَالَى:{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149]
(2)
.
وهو القدير الذي نصر حزبه مع ما هم فيه من قلة العدة والعتاد، قال تَعَالَى:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6].
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 481).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 212).
وبقدرته ينصرهم متى ما شاء، كما قال سُبْحَانَهُ:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]، وقال تَعَالَى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
(1)
.
ب- وأما تقديره سُبْحَانَهُ:
فله جل جلاله التقدير العام الشامل لكل شيء، والتقدير الكامل الذي لا نقص فيه.
فأما سعة تقديره:
فتقديره سُبْحَانَهُ واسع وسع الخلائق كلها، فلا يحدث شيء في ملكوته سُبْحَانَهُ إلا وسبقه تقدير من القدير جل جلاله، فلا يتقدم عليه شيء ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص إلا بما تقتضيه حكمته وعلمه، قال تَعَالَى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال تَعَالَى:{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]، وقال تَعَالَى:{وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8].
قال السعدي رحمه الله: «وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية، أن الله تَعَالَى وحده خلقها لا خالق لها سواه، ولا مشارك له في خلقها،
(1)
تفسير السعدي (ص: 156).
وخلقها بقضاء سبق به علمه، وجرى به قلمه، بوقتها ومقدارها، وجميع ما اشتملت عليه من الأوصاف»
(1)
.
ومن تقدير القدير سُبْحَانَهُ خلق الجنين في بطن أمه فدبره في الظلمات، ونقله من نطفة إلى علقه إلى مضغة إلى أن كان جسدًا، ثم نفخ في الروح، وقدر أجله ورزقه وعمله، وشقي أو سعيد
(2)
، قال تَعَالَى:{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 20 - 23]، وقال سُبْحَانَهُ:{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 18 - 19]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، قال:«إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ الله مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ»
(3)
.
وتقدير الأرزاق بين عباده فيعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، كل ذلك بمقدار لا يزيد عنه ولا ينقص، قال تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21]، وقال سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي
(1)
تفسير السعدي (ص: 828).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (8/ 322)، وتفسير السعدي (ص: 904).
(3)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(3208)، ومسلم، رقم الحديث:(2643).
الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]
(1)
.
وقدر إنزال المطر، فينزله بقدر ما يكفي الخلائق، فلا ينقص بحيث لا يكفي الأرض والأشجار فلا يحصل به المقصود، ولا يزيد زيادة لا تحتمل، فتتلف المساكن، وتموت معه النباتات والأشجار، بل أغاث به العباد، وأنقذ به البلاد من الشدة، قال تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11]
(2)
، وقدر الزروع والحبوب وغيرهما مما يخرج من الأرض كالمعادن والجواهر ونحو ذلك، قال تَعَالَى:{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10]
(3)
.
وتقدير الموت بين الخلائق فعجله لبعض الخلق، وأخره عن بعض إلى أجل مسمى، فإذا جاء لم يتقدم ولم يتأخر عما قدر الله، قال سُبْحَانَهُ:{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة: 60]
(4)
.
وتقدير الهداية والضلالة على الخلائق، فهدى من شاء، وأضل من شاء، وأسعد من شاء، وأشقى من شاء، وقدر من شاء للجنة برحمته، وقدر من شاء للنار بعدله، وقدر نعيم أهل الجنة حتى قدر شراب أهلها، قال تَعَالَى:{قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان: 16]، فقدرت على قدر ريِّ أهلها فلا تزيد ولا
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 430).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 549 - 763).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (21/ 437).
(4)
ينظر: تفسير الطبري (23/ 137).
تنقص؛ لأنها لو زادت نقصت لذتها، ولو نقصت لم تف بريهم، وقدر عذاب أهل النار فلا يزاد فيه ولا ينقص عما شاء تبارك وتعالى
(1)
.
وأما كمال التقدير:
فتقدير الله عز وجل كامل لا نقص فيه ولا خلل؛ وذلك أنه قائم على العلم والكتابة السابقتين، والمشيئة التي لا تنفك عن حكمه، والخلق العام.
فالله سُبْحَانَهُ قدر الأشياء؛ بناء على ما علم من حالها، وما يصلح لها؛ فعلم سُبْحَانَهُ من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى، ومن يصلح للمرض ولا يصلح للعافية، ومن يصلح للعقم ولا يصلح للولد، وعلم ضد ذلك فقدر فلم يخرج تقديره عن حكمه، قال تَعَالَى:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27] أي: «لغفلوا عن طاعة الله، وأقبلوا على التمتع بشهوات الدنيا، فأوجبت لهم الإكباب على ما تشتهيه نفوسهم، ولو كان معصية وظلمًا، قال تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} بحسب ما اقتضاه لطفه وحكمته، قال تَعَالَى: {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، كما في بعض الآثار أن الله تَعَالَى يقول: «إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أمرضته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا المرض ولو عافيته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني خبير بصير»
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 902).
(2)
تفسير السعدي (ص: 758).
ثم كتب سُبْحَانَهُ ما علم في اللوح المحفوظ، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»
(1)
.
ثم إنه تبارك وتعالى شاء ما كتب، فخلق الخلق بناء عليه، ووزع أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وما يصيبهم من الأشياء من الرخاء والشدة بناء على ما كتب
(2)
.
فكل شيء كائن كما علم، وكتب، وشاء، وخلق تبارك وتعالى، فما شاء كان ولو حاول منعه كل ممانع، وما لم يشأ لم يكن ولو حاول إيجاده كل موجد، وقدره نافذ لا محاله، قال تَعَالَى:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، قال ابن كثير رحمه الله:«وكان أمره الذي يقدره كائنًا لا محالة، وواقعًا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن»
(3)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (القدير، القادر، المقتدر) على التوحيد:
إذا تأمل العبد في ضعفه وضعف المخلوقات من حوله وعجزهم؛ إذ لا يملك أحد منهم قدرة على الخلق، ولا النفع، ولا الضر، ولا العطاء، ولا المنع، ولا النصر، ولا الامتناع كما قال تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ
(1)
أخرجه أبو داود واللفظ له، رقم الحديث:(4700)، والترمذي، رقم الحديث:(2155)، حكم الألباني: صحيح، صحيح سنن أبي داود، رقم الحديث:(4700).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (20/ 277).
(3)
تفسير ابن كثير (6/ 427).
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان: 54 - 55]، وقال:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]، فالكل فقير مملوك لله عز وجل، نفذت فيه قدرته ومشيئته تبارك وتعالى.
فإذا تؤمل هذا علم أن من هذا حاله لا يستحق شيئًا من العبادة، وإنما العبادة حق للقادر القدير المقتدر لا إله إلا هو، قال تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 6]، وقال سُبْحَانَهُ:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: 9]
(1)
.
الأثر الثالث: الإيمان بالقضاء والقدر:
إذا علم العبد اسم الله (القادر، القدير، المقتدر) وتيقن ما فيه من تقدير نافذ، وقضاء كائن بلا ممانعة ولا مدافعة؛ قاده ذلك للإيمان بالقضاء والقدر الذي هو أصل عظيم من أصول الإيمان، قال تَعَالَى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 45]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، وقال تَعَالَى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل الطويل لما سئل عن الإيمان:«أَنْ تُؤْمِنَ بِالله، وَمَلائِكَتِه، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآَخِر، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 226 - 252 - 585).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(8).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله عز وجل، وآمن بالقدر، فهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن وحد اللهتَعَالَى، وكذب بالقدر؛ نقض التوحيد»
(1)
.
وقال عوف: سمعت الحسن يقول: «من كذب بالقدر، فقد كذب بالإسلام، إن الله عز وجل قدر خلق الخلق بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر»
(2)
.
وحقيقة الإيمان بالقدر: الإيمان بأن كل شيء يحدث في هذا الملكوت بقدر الله علما، وكتابة، ومشيئة، وخلقًا
(3)
؛ إذ الإيمان بالقدر إيمان بأربع مراتب
(4)
:
1 -
الإيمان بعلم الله السابق للأشياء قبل وقوعها جملة وتفصيلًا؛ فإنه سُبْحَانَهُ يعلم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقال تَعَالَى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59].
(1)
القدر، للفريابي (ص: 173)، والإبانة الكبرى، لابن بطة (4/ 158).
(2)
الإبانة الكبرى، ابن بطة (4/ 184).
(3)
ينظر: إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل، لصالح آل لشيخ (1/ 240).
(4)
ينظر: شرح الأربعين النووية، للعثيمين (ص: 49، وما بعدها)، وشرح الأربعين النووية، لصالح آل الشيخ (ص: 65، وما بعدها)، وإتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل، لصالح آل لشيخ (1/ 240، وما بعدها).
2 -
الإيمان بأن الله كتب أحوال الخلق وتفصيلاتها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال تَعَالَى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 53]، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:«إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»
(1)
.
3 -
الإيمان بأن كل ما حدث في الكون ويحدث بمشيئة الله وإرادته كونًا، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال تَعَالَى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وقال تَعَالَى:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39].
4 -
الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء، قال تَعَالَى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وقال سُبْحَانَهُ:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].
فكل شيء مخلوق لله: السموات، والأرض، والبحار، والأنهار، والكواكب، والشمس، والقمر، والإنسان وعمله {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، قال ابن كثير رحمه الله: «يحتمل أن تكون (ما) مصدرية، فيكون تقدير الكلام: والله خلقكم وعملكم، ويحتمل أن تكون بمعنى:(الذي) تقديره: والله خلقكم والذي تعملونه، وكلا القولين متلازم، والأول
(1)
سبق تخريجه.
أظهر؛ لما رواه البخاري في كتاب (أفعال العباد)، عن علي بن المديني، عن مروان بن معاوية، عن أبي مالك، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة مرفوعًا قال:(إِنَّ اللهَ يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ)
(1)
»
(2)
.
فمن آمن بهذه المراتب الأربع آمن بالقدر الذي من ثمراته: الرضى والتسليم لتقدير الله عز وجل خيره وشره، وحلوه ومره لا سيما إذا اقترن مع هذا الإيمان استشعار لعلم الله التام، وحكمته البالغة، ورحمته العظيمة التي صدر عنها هذا التقدير، واستشعار أن الجزع والسخط لا يرد من القدر شيئًا، وإنما يفوت على العبد الأجر والمثوبة، ويعود عليه بالوبال والخسارة.
قال ابن القيم رحمه الله: «من ملأ قلبه من الرضا بالقدر: ملأ الله صدره غنى وأمنًا وقناعة، وفرغ قلبه لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، ومن فاته حظه من الرضا: امتلأ قلبه بضد ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه»
(3)
.
ومن ثمراته- أيضًا- سلامة القلب من الحقد والحسد ونحوهما من أمرض القلوب؛ ذلك لإيمان صاحبه بأن الكل بتقدير الله عز وجل، وأنه سُبْحَانَهُ هو الذي أعطى ومنع، فالفضل فضله، والعطاء عطاؤه، وله في ذلك الحكمة البالغة، والمنة العظيمة
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (ص 46)، والبيهقي في الأسماء والصفات (570)، وابن أبي عاصم في السنة (357)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1637).
(2)
تفسير ابن كثير (7/ 26).
(3)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 202).
(4)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 251).
الأثر الرابع: التوكل على القدير، القادر، المقتدر والثقة به:
إذا آمن العبد باسم الله (القادر، القدير، المقتدر) وتيقن ما تضمنه من القدرة العظيمة التي لا يعجزها شيء في السماء والأرض، ثم نظر إلى مطالبه ومكارهه، وعلم أنها لا تخرج عن قدرة الله عز وجل، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] حمله ذلك على صدق التوكل على القادر عز وجل، والثقة به في جلب مطالبه، ودفع مكارهه، والتعلق به وحده سُبْحَانَهُ دون ما سواه، قال تَعَالَى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: 9]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17]
(1)
.
كما يحمله- يقينه بقدرة الله- على عدم اليأس والقنوط من رحمته؛ فإنه سُبْحَانَهُ لا يتعاظم عليه شيء مهما عظم وكبر، فلا يتعظم عليه أن يغفر الذنوب ولو كانت كالجبال بل قادر سُبْحَانَهُ على أن يبدلها حسنات، ولا يتعاظم عليه أن يرفع بلاء أو يكشف مصاب أو يدفع ضرًّا، فهو القادر سُبْحَانَهُ على أن يبدل المرض عافية، والألم راحة، والسهر نومًا، والخوف أمنًا، والفقر غنًى، والجوع شبعًا، والضعف قوة، والهزيمة نصرًا، وهو على كل شيء قدير.
وهذا اليقين بقدرة الله يحمل العبد- أيضًا- على الثقة بنصره عز وجل للمسلمين؛ إذ قدرته لا تعجز عن نصرهم ورفع المصائب والنكبات عنهم مهما كان ضعفهم وتأخرهم، كما لا تعجز عن قصم عدوهم وكبته مهما كانت قوته وتقدمه، قال سُبْحَانَهُ: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
(1)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 250).
مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 26 - 27]، وقال تَعَالَى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].
ويحمله على الشعور بالعزة والقوة أمام كيد الكافرين ومكرهم، وذهاب الخوف منهم ومن قوتهم؛ للعلم بأنهم في قبضة الله تَعَالَى وتحت قدرته وقهره
(1)
.
الأثر الخامس: الخضوع للقدير والاستعانة به:
جعل الله عز وجل لخلقه قدره تقوم بها حياتهم، كما قال سُبْحَانَهُ في إثباتها:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34]، وقال:{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [يونس: 24] إلا أن قدرة المخلوق مهما بلغت لا تعدل شيئًا أمام قدرة الله عز وجل، وتوضيح ذلك بما يلي:
1 -
قدرة المخلوق مسبوقة بالعجز والضعف، كما في حال الطفولة؛ فالطفل في بداية ولادته لا يستطيع أن يدفع عن نفسه قليلًا ولا كثيرًا، أما قدرة الله عز وجل فأولى وآخرة، لا بداية لها ولا نهاية.
2 -
قدرة المخلوق مكتسبة من إقدار الله له، وليست قدرة مستقلة، بخلاف قدرة الله عز وجل، فقدرته ذاتية مستقلة لم يكتسبها من أحد.
3 -
قدرة المخلوق ناقصة، يعوزها المساعد والمعاون والمستشار والخبير، بخلاف قدرة الله عز وجل، فقدرته كاملة تامة لا تحتاج إلى أحد كائنًا
(1)
ينظر: ولله الأسماء الحسنى، للجليل (ص: 535).
من كان.
4 -
قدرة المخلوق محدودة ببعض الأشياء دون بعض، بخلاف قدرة الله عز وجل، فقدرته عامة لكل شيء، قال تَعَالَى:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].
5 -
قدرة المخلوق فانية، ومهددة بالزوال، بخلاف قدرة الله عز وجل، فقدرته دائمة مستمرة لا زوال لها ولا نهاية.
فإذا علم العبد هذا خضع لله عز وجل، ولم يغتر بقدرته أو يستقل بها في أموره، بل يشعر دومًا بحاجته وفقره لقدرة الله عز وجل، كما جاء في دعاء الاستخارة:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ»
(1)
.
وهذا الشعور يثمر الاستعانة بالله عز وجل، وتمام الالتجاء إليه، كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما والأمة من وراءه بذلك، فقال:«يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ،
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه الترمذي واللفظ له، رقم الحديث:(2516)، والحاكم، رقم الحديث:(6360)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2516).
خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى الله مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِالله وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ الله وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»
(1)
.
فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الإنسان لا يدرك مطالبه من أمور الدين أو الدنيا بالعمل والسعي الجاد في تحصيلها فقط، بل لا بد أن يعطف على سعيه الاستعانة بالله عز وجل؛ لأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ولو صغرت، ودفع مضاره ولو سهلت، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل
(2)
.
الأثر السادس: محبة الله القادر القدير المقتدر:
إذا تأمل العبد في اسم الله (القادر، القدير، المقتدر)، واستشعر كمال قدرته وتقديره؛ فلما قدر حلم، ولما قدر عفا وغفر، ولما قدر عدل ولم يظلم، ولما قدر لم يعجز عن شيء ألبتة، ولما قدر قدر عن علم، وحكمة، ورحمة قاده ذلك كله لمحبته تبارك وتعالى والتعلق به، لا سيما وقد فُطرت القلوب على محبة من له الكمال.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2664).
(2)
ينظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب (2/ 572)، وفقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 251).
الأثر الثامن: الحذر من الظلم:
إذا آمن العبد بقدرة الله عز وجل على الخلق عمومًا، وعلى الظالمين خصوصًا، كما جاء عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ. فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ: أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ، لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ»
(1)
.
وعلم انتقام القدير سُبْحَانَهُ للمظلوم من ظالمه، كما جاء في جملة من الأحاديث، منها:
حديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْوَةُ المَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ تبارك وتعالى: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ»
(2)
.
حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: «اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»
(3)
.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1659).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3598)، وابن ماجه، رقم الحديث:(1752)، وابن حبان واللفظ له، رقم الحديث:(874)، حكم الألباني: حسن لغيره، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(871).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2448)، ومسلم، رقم الحديث:(19).
هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»
(1)
.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ»
(2)
.
إذا علم العبد ذلك ردعه ذلك كله عن العدوان والظلم، لا سيما ظلم العباد في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، كما يدفع الظالم للتوبة والاستغفار والخروج من مظالم الخلق في الدنيا قبل التقاصِّ يوم القيامة.
الأثر التاسع: الدعاء باسم الله القادر القدير المقتدر، والاستعاذة بقدرته:
كل إنسان له مطالب يرغب في تحصيلها، ومخاوف يرغب في دفعها، والكل تحت قدرة الله عز وجل، لا يخرج عنها شيء، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور: 45]، ولا يقدر العبد على ما في يد الله إلا بسؤاله ورجائه، كما قال مطرف بن الشخير رحمه الله:«تذكرت ما جماع الخير، فإذا الخير كثير: الصوم والصلاة، وإذا هو في يد الله عز وجل، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله عز وجل إلا أن تسأله فيعطيك، فإذا جماع الخير الدعاء»
(3)
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2581).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2449).
(3)
الزهد، لأحمد بن حنبل (ص: 195).
(4)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 252).
فإذا علم العبد هذا وتيقنه؛ أدام سؤال الله عز وجل حاجته، وأكثر من دعائه، لا سيما باسمه (القادر، القدير، المقتدر) الذي أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسؤال الله به في جملة من الأدعية والأذكار، منها:
1 -
دعاء الاستخارة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللهمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ»
(1)
.
2 -
الذكر ما بين التشهد والسلام، فعن عطاء بن السائب، عن أبيه رضي الله عنه قال: «صَلَّى بِنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ صَلَاةً، فَأَوْجَزَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَقَدْ خَفَّفْتَ، أَوْ أَوْجَزْتَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: أَمَّا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَامَ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ هُوَ أَبِي غَيْرَ أَنَّهُ كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الدُّعَاءِ، ثُمَّ جَاءَ فَأَخْبَرَ بِهِ الْقَوْمَ: اللهمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللهمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى
(1)
سبق تخريجه.
لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللهمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ»
(1)
.
3 -
رقية المريض، فعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِاسْمِ الله ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِالله وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ»
(2)
.
اللهم إنا نسألك بقدرتك، أن تستعملنا في طاعتك، وتسخر ما أوليتنا به من قدرات في مراضيك ومحابِّك.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18615)، والنسائي واللفظ له، رقم الحديث:(1305)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن النسائي، رقم الحديث:(1305).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2202).
القَريبُ المُجيبُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
أولًا: (القريب):
قال الجوهري رحمه الله: «(قرب) قرب الشيء بالضم يقرب قربًا، أي: دنا
…
تقول: هذه المرأة قريبتي، أي: ذات قرابتي، وقربته بالكسر أقربه قربانًا، أي: دنوت منه
…
والقرب: ضد البعد»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(قرب) القاف والراء والباء أصل صحيح يدل على خلاف البعد، يقال: قرب يقرب قربًا، وفلان ذو قرابتي، وهو من يقرب منك رحمًا
…
»
(2)
.
ثانيًا: (المجيب):
قال الجوهري رحمه الله: «(جوب) الجواب معروف، يقال: أجابه وأجاب عن سؤاله، والمصدر الإجابة، والاسم الجابة بمنزلة الطاعة والطاقة
…
والإجابة والاستجابة بمعنى، يقال: استجاب الله دعاءه
…
»
(3)
.
(1)
الصحاح (1/ 198).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 80)
(3)
الصحاح (1/ 104).
قال ابن فارس رحمه الله: «(جوب) الجيم والواو والباء
…
وأصل آخر، وهو مراجعة الكلام، يقال: كلمه فأجابه جوابًا، وقد تجاوبا مجاوبة، والمجابة: الجواب
…
»
(1)
.
ورود اسم الله (القريب المجيب) في القرآن الكريم:
أولًا: ورود اسم الله القريب:
ورد اسم الله (القريب) ثلاث مرات في كتاب الله، وقد وردت كالتالي:
قوله تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
قوله عز وجل: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61].
قوله عز وجل: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50].
ثانيًا: ورود اسم الله المجيب في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (المجيب) مرتين في كتاب الله، وهما:
قوله تَعَالَى: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61].
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75].
(1)
مقاييس اللغة (1/ 491).
ورود اسمي الله (القريب والمجيبِ) في السنة النبوية:
أولًا: ورود اسم الله القريب:
ورد اسم الله (القريب) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
حديث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، أَوْ قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ. وَأَنَا خَلْفَ دَابَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَنِي وَأَنَا أَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ. قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ»
(1)
، وفي رواية:«وَالَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ»
(2)
.
ثانيًا: ورود اسم الله المجيب:
ورد اسم الله (المجيب) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
حديث أبي موسى رضي الله عنه أيضًا: «أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ قَرِيبًا مُجِيبًا، يَسْمَعُ دُعَاءَكُمْ وَيَسْتَجِيبُ»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(4205)، ومسلم، رقم الحديث:(2704).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2704).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(19914). إسناده صحيح على شرط الشيخين، (كما في مسند أحمد تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرون).
معنى اسم الله (القريب المجيب) في حقه سُبْحَانَهُ:
أولًا: معنى اسم الله (القريب):
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50]: «
…
غير بعيد، فيتعذر عليه سماع ما أقول لكم، وما تقولون، وما يقوله غيرنا، ولكنه قريب من كل متكلم يسمع كل ما ينطق به، أقرب إليه من حبل الوريد»
(1)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «القريب: الذي ليس ببعيد، فالله عز وجل قريب ليس ببعيد، كما قال عز وجل:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] أي: أنا قريب الإجابة، وهو مثل قوله عز وجل:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]
…
وكل هذا يراد به- والله أعلم- إحاطة علمه بكل شيء، وكون كل شيء تحت قدرته وسلطانه وحكمه وتصرفه، ولا يراد بذلك قرب المكان والحلول في بعضه دون بعض، جل الله وتَعَالَى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: «القريب: معناه: أنه قريب بعلمه من خلقه، قريب ممن يدعوه بالإجابة، كقوله تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]» .
(3)
وقال السعدي رحمه الله في قوله تَعَالَى: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61] «أي: قريب ممن دعاه دعاء مسألة، أو دعاء عبادة، يجيبه بإعطائه سؤله، وقبول
(1)
تفسير الطبري (20/ 420).
(2)
اشتقاق أسماء الله الحسنى (ص: 146 - 147).
(3)
شأن الدعاء (ص: 102).
عبادته، وإثابته عليها، أجلَّ الثواب»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وَهوَ القَرِيبُ وَقُرْبُهُ المُخْتَصُّ بِالدَّ
…
اعِي وَعَابِده عَلَى الإِيمَانِ
(2)
ثانيًا: معنى اسم الله (المجيب):
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]، يقول:«إن ربي قريب ممن أخلص له العبادة ورغب إليه في التوبة، مجيب له إذا دعاه»
(3)
.
قال الزجاج رحمه الله: «المجيب هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، وقال الله تَعَالَى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]»
(4)
.
(5)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 384).
(2)
نونية ابن القيم (ص: 208).
(3)
تفسير الطبري (15/ 369).
(4)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 51).
(5)
شأن الدعاء (ص: 72).
قال الحليمي رحمه الله: «الذي ينيل سائله ما يريد، لا يقدر على ذلك غيره»
(1)
.
قال ابن الأثير رحمه الله: «وفي أسماء الله تَعَالَى: (المجيب) وهو الذي يقابل الدعاء والسؤال بالقبول والعطاء، وهو اسم فاعل من: أجاب يجيب»
(2)
.
قال السعدي رحمه الله في قوله تَعَالَى: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]: «يجيبه بإعطائه سؤله، وقبول عبادته، وإثابته عليها، أجل الثواب»
(3)
.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
وَهوَ المُجِيبُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُو أُجِبْـ
…
ـهُ أَنَا المُجِيبُ لِكُلِّ مَنْ نَادَانِي
وَهوَ المُجِيبُ لِدَعْوَةِ المُضْطَرِّ إِذْ
…
يَدْعُوهُ فِي سِرٍّ وَفِي إِعْلَانِ
(4)
اقتران اسم الله (القريب المجيب) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله القريب:
اقترن اسم الله القريب باسم الله (السميع)، واسمه (المجيب).
أولًا: اقتران اسم الله القريب باسمه السميع:
تقدم بيانه في اسم الله (السميع).
(1)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 204).
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر (ص: 310).
(3)
تفسير السعدي (ص: 384).
(4)
نونية ابن القيم (ص 208).
ثانيًا: اقتران اسم الله القريب باسمه المجيب:
اقترن اسم الله القريب باسمه المجيب في قوله تَعَالَى: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61].
وجه الاقتران:
(1)
.
ثانيًا: اقتران اسم الله المجيب:
- اقتران اسم الله (المجيب) باسمه (القريب):
تقدم بيانه في اسم الله (القريب).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (القريب المجيب):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (القريب، المجيب) من الصفات:
لما كان ربنا عز وجل بكل شيء عليم، وبخلقه رحيم، وعليم جواد كريم محسن، وبيده خزائن السموات والأرض كان من أسمائه القريب المجيب، قال تَعَالَى:{إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]، وقد تضمنا صفة القرب والإجابة، وهما على نوعين:
(1)
ولله الأسماء الحسنى، للجليل (2/ 34).
النوع الأول: القرب والإجابة العامة:
القرب العام:
الله عز وجل عال على خلقه، فوق سماواته مستو على عرشه، بائن من خلقه وهم منه بائنون إلا أنه مع ذلك قريب من سائرهم بعلمه وخبرته ومراقبته ومشاهدته وإحاطته
(1)
، قريب من الإنس والجن، والمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والخفي والظاهر، والعاقل وغير العاقل، مطلع على جهرهم وسرهم، ومشاهد لحركاتهم وسكناتهم، ومعهم أينما كانوا، وفي أي ساعة كانوا، وعلى أي حال انقلبوا لا يخفى عليه شيء من أمرهم، قال تَعَالَى:{إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وقال صلى الله عليه وسلم:(والَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ)
(2)
.
وهو سُبْحَانَهُ قريب بسمعه من كل متكلم، يسمع كل ما ينطق به، لا يخفى عليه كلمة ولا يفوته حرف، سواء نطق به سرًّا أم جهرًا، قال تَعَالَى:{إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50]، وقال صلى الله عليه وسلم:(ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ)
(3)
.
فإن استشكل مستشكل قرب ربنا مع علوه، قلنا نقلًا عن ابن القيم رحمه الله: «وهو سُبْحَانَهُ قريب في علوه؛ عال في قربه، كما في الحديث الصحيح
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 87).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2704).
(3)
سبق تخريجه.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فارتفعت أصواتنا بالتكبير، قال: أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)
(1)
.
فأخبر صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق به- أنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، وأخبر أنه فوق سماواته على عرشه؛ مطلع على خلقه؛ يرى أعمالهم، ويرى ما في بطونهم، وهذا حق لا يناقض أحدهما الآخر.
والذي يسهل عليك فهم هذا: معرفة عظمة الرب؛ وإحاطته بخلقه، وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سُبْحَانَهُ يقبض السماوات بيده والأرض بيده الأخرى؛ ثم يهزهن، فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه؛ ويقرب من خلقه كيف شاء وهو على العرش؟!»
(2)
.
الإجابة العامة:
الله عز وجل القريب المجيب الذي يسمع دعاء الداعي وسؤال السائل ومناجاة الطالب، فيعمهم بالإجابة مهما كانوا، وأين كانوا، وعلى أي حال كانوا، وبأي لغة نطقوا، قال تَعَالَى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]
(3)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 482 - 283).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 949).
- يجيب المجيب المؤمن التقي، كما يجيب الكافر الفاجر بمقتضى ربوبيته، قال تَعَالَى:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63 - 64]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
- استجاب لإبليس رأس الكفر حين طلب الإنظار: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 36 - 38].
- واستجاب لقوم سبأ حين أنعم عليهم بالنعم العظيمة، و الآلاء الجسيمة، فاستكثروا نعم الله، وقابلوها بالجحود والنكران، فقالوا:{رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19].
- واستجاب لفرعون هذه الأمة أبي جهل، حين استفتح يوم بدر، فقال:«أينا أقطع للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة، وقال: اللهم انصر أحب الدينين إليك، ديننا العتيق، أم دينهم الحديث، وفي ذلك أنزل الله تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]»
(1)
.
- واستجاب- أيضًا- للنضر بن الحارث حين دعا: اللهم إن كان هذا هو الحق، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، قال عطاء رحمه الله:
(1)
ينظر: تفسير الطبري (13/ 452 - 454)، وتفسير ابن كثير (4/ 32).
«لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية، فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر»
(1)
.
ولا يلزم من إجابته لهم ولا لغيرهم من الكفار محبتهم وإكرامهم والرضى بما هم عليه، وإنما يجيبهم لحِكَم، منها: الابتلاء للعباد كما في إجابة إبليس، ومنها: تكفله برزق خلقه في الدنيا فإذا طلبوا منه ذلك أعطاهم إياه، وأيضًا: إقامة حجته عليهم، وإظهارًا لكرمه وجوده ومنته على العالمين، واستدراجهم بتعجيل الخير لهم في الدنيا ليذوقوا العذاب في العاقبة، قال تَعَالَى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56]، ومنها: الانتصار للمظلوم؛ لتحريم الظلم حتى وإن كان على الكافر كما جاء في الحديث: «اتَّقُوا دَعْوَةَ المَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ»
(2)
.
- ويجيب المجيب أيضًا: المضطر إذا دعاه، ويغيث الملهوف إذا ناداه، ويكشف السوء عمن ناجاه، ويرفع الظلم عمن بث إليه شكواه، قال تَعَالَى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، وقال صلى الله عليه وسلم:«اتَّقُوا دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ»
(3)
، الكل مفتقر إليه، لا قوام لحياته إلا عليه ولا ملجأ له منه إلا إليه، قال تَعَالَى:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]
(4)
.
(1)
تفسير الخازن (3/ 28).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (1/ 206)، وإغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم (1/ 215 - 216).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
ينظر: الاعتقاد، للبيهقي (ص: 59)، تفسير السعدي (ص: 949).
النوع الثاني: القرب والإجابة الخاصة:
القرب الخاص:
خص الله عز وجل أهل طاعته بقرب خاص، قرب يقتضي إجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم، وتوفيقهم وتسديدهم، قال تَعَالَى:{إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]
(1)
.
وخصهم القريب بمزيد من الرحمة، قال تَعَالَى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
كما خصهم بالنصر والتأييد في الحركات والسكنات، قال تَعَالَى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]
(2)
.
وخصهم القريب المجيب بمزيد من إجابة الدعاء، وهو ما يعرف بالإجابة الخاصة.
2 -
الإجابة الخاصة:
خص الله المجيب أهل طاعته وتقواه بمزيد من إجابة الدعاء، سواء أكان ذلك دعاء عبادة، فيجيبهم بالقبول وحسن الثواب، أم دعاء مسألة فيجيهم بإعطائهم سؤلهم وتحقيق مرادهم، قال تَعَالَى:{فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]، وقال سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 949).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 949).
عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]
(1)
.
فهذا نوح عليه السلام طال مقامه في قومه حتى لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، ولم يؤمن منهم إلا قليل، وما زادهم طول المقام إلا تكذيبًا وعتوًّا، وكلما دعاهم ازدادوا نفورًا، فدعا ربه:{أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]، ودعاه {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 26]، فأجابه المجيب القريب {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 11 - 14]، ومدح نفسه بذلك فقال تَعَالَى:{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات: 75، 76]
(2)
.
وهذا أيوب طال بلاؤه، واشتد ضره، ومات أهله، وذهب ماله، فنادى ربه:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] فاستجاب له المجيب القريب: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 84]
(3)
.
وهذا يونس علم أن ربه قريب منه وإن كان في بطن الحوت وقاع البحر وظلمة الليل، فناداه في الظلمات {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] فاستجاب له المجيب، فقال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 385، 949).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 22)، وتفسير السعدي (ص: 705).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 529).
وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]، وقال:{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات: 145 - 148]
(1)
.
وهذا زكريا كبرت سنه ورق عظمه واشتعل رأسه شيبًا، وكانت زوجه عاقرًا، إلا أنه علم أن ربه قريب مجيب على كل شيء قدير، فنادى:{رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89]، فأجابه القريب المجيب:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90].
وهذا يوسف عليه السلام اعتصم بربه واستعان به على كيد النسوة: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]، فاستجاب له القريب المجيب:{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 34 - 35]
(2)
.
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر نظر إلى أصحابه فإذا هم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل القبلة، ثم مد يديه، يستغيث بربه: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ أبدًا، وما زال يستغيث ربه عز وجل ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 367).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 397).
سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]»
(1)
.
وهذا إبراهيم وإسماعيل، ويعقوب وموسى، وعيسى وغيرهم من أنبياء الله عليهم السلام دعوا ربهم، فأجابهم القريب المجيب {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
وكما أجاب أنبيائه ورسله أجاب الصالحين من خلقه، فأجاب آسيا امرأة فرعون لما دعت:{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11]
وأجاب طالوت وأصحابه لما دعوا: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250]، فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت.
وأجاب امرأة عمران لما دعت {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 35 - 36]، فكفى مريم وابنها مس الشيطان، كما جاء في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا مَسَّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّهِ إِيَّاهُ، إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا»
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 18).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 34).
وأجاب أصحاب الكهف لما دعوا: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10] فثبتهم على الحق، وحفظهم من شر قومهم، وجعلهم آية للعالمين.
وأجاب- أيضًا- الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة لما دعوا بتفريجها عنهم، فتزحزحت عن مكانها وظهر النور.
ولا زال ولا يزال القريب المجيب سُبْحَانَهُ يجيب أولياءه وأهل طاعته ولا يخيب رجائهم، إلا أنه قد يستشكل أن جماعة من العباد والصالحين قد دعوا وبالغوا ولم يجابوا؟!
والجواب: إجابة الله للسائل تتنوع: فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور، وتارة يقع ولكن يتأخر لحكمه، وتارة تقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها، وقد تدخر له أجرًا ومثوبة يوم القيامة، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ الله بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخرة، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، قالوا: إذًا نكثر، قال: اللهُ أَكْثَرُ»
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(11302)، والبخاري في الأدب المفرد (710)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(1090)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الأدب المفرد، رقم الحديث:(710).
الأثر الثاني: دلالة اسم الله القريب المجيب على التوحيد:
إن ربوبية الله عز وجل للعالمين اقتضت قربه وإجابته لخلقه فيجيب مطلوبهم، ويكشف ضرهم، وينجيهم في ظلمات البر والبحر، وينجيهم من كل كرب، قال تَعَالَى:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63 - 64].
وهذا يقتضي عبادته ودعاءه وحده، قال تَعَالَى:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]، وجاء في حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ»
(1)
؛ وذلك أنه وحده المقتدر على جلب المطلوب وكشف الضر، وكل ما سواه عاجز لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فضلًا عن ملكه لغيره، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13 - 14]، وقال سُبْحَانَهُ:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
فهل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده؟ ومن يكشف البلاء والشر والنقمة إلا الله وحده؟ أإله مع الله يفعل هذه الأفعال؟!
لا أحد يفعل مع الله شيئًا من ذلك، حتى بإقرار المشركين، ولهذا كانوا
(1)
سبق تخريجه.
إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين، قال تَعَالَى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65]؛ لعلمهم أنه وحده المقتدر على دفعه وإزالته، وهذا يلزم منه إخلاص الدعاء إليه في حال الرخاء واليسر، كما أخلصوا له في حال الشدة والعسر، وألا يشركوا معه غيره
(1)
.
الأثر الثالث: محبة الله القريب المجيب:
إذا تأمل العبد اسم الله القريب المجيب وما فيه من إجابة الداعين، وإسعاف السائلين، وكفاية المضطرين مع الإنعام قبل النداء، والتفضل قبل الدعاء؛ حمله ذلك على محبته تبارك وتعالى، لا سيما وأن القلوب فُطرت على محبة من يحسن إليها ويقضي حاجتها.
كما أن هذا الاسم وما يقتضيه من الكمالات كالعلم، والسمع، والقدرة، والغني، والملك كلها توجب للقلب محبته؛ لما فطرت على محبة مَن له الكمال.
الأثر الرابع: الرجاء في الله (القريب المجيب) والتعلق ببابه:
من عرف اسم ربه القريب المجيب وضم إليه الكريم الجواد المحسن، وتيقن أنه سُبْحَانَهُ بيده ملكوت كل شيء، وإليه حكم كل شيء، فحكمه نافذ في السموات وأقطارها، وفي الأرض وما عليها وما تحتها، وكذا في البحار والجو، وفي سائر أجزاء العالم وذراته يقلبها ويصرفها ويحدث فيها ما يشاء، فما شاء كان في الوقت الذي يشاء على الوجه الذي يشاء من غير زيادة ولا نقصان، ولا تقدم ولا تأخر، له الخلق والأمر، وله الملك، وله الدنيا والآخرة،
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 608، 635).
وخزائنه ملأى لا تنفد ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأولين والأخرين من الإنس والجن، وأجابهم في كل ما سألوه، كما جاء في الحديث عن ربنا عز وجل أنه قال:«يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي، إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ»
(1)
(2)
.
وعلم أنه يحب الداعين، ويستحي أن يردهم صفرًا خائبين، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الله حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ»
(3)
، بل وينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول:«مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»
(4)
.
أوجب له ذلك كله التعلق بباب الله القريب المجيب، والتضرع بين يديه، وإنزال الحوائج إليه مع قوة الرجاء فيه، وحسن الظن به، والثقة بإجابته وإن عظمت المسألة، وكثر المطلوب، وتنوع المرغوب.
وعلى الضد من ذلك يوجب للقلب التخلص من داء القنوط من رحمة الله واليأس من روحه، كما يوجب تخلصه من التعلق بالمخاليق ورفع الحوائج
(1)
سبق تخريجه.
(2)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 287، 290).
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1488)، والترمذي واللفظ له، رقم الحديث:(3556)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3865)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3556).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1145)، ومسلم، رقم الحديث:(758).
إليهم، وشكوى الكرب بين يديهم؛ فإن الله أقرب منهم لعبده، وبه أرحم منهم، وعلى مطلوبه أقدر، وهو الجواد الكريم
(1)
.
الأثر الخامس: دعاء الله القريب المجيب
(2)
:
الله تَعَالَى القريب المجيب، لمَّا علم أن الإنسان لا ينفك عن الحاجة سواء الدنيوية أو الدينية، وبطبعه عاجز عن تحقيقها وحده، فلا مرغوب يستطيع جلبه، ولا مرهوب يستطيع دفعه؛ لطف به ورحمه، وأنعم عليه، فشرع له دعاءه والتعلق به في حاجته، بل وحثه ورغبه في ذلك بطرائق عدة، منها:
الأمر بالدعاء، قال تَعَالَى:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14]، وقال سُبْحَانَهُ:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].
بيان أن الدعاء هو العبادة؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ، وقرأ: قال تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]» .
بيان محبته للدعاء وغضبه على تاركه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ عز وجل مِنَ الدُّعَاءِ»
(3)
، وعنه
(1)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى (ص: 287، 289)
(2)
ينظر: شروط الدعاء وموانع الإجابة في ضوء الكتاب والسنة (ص: 15)، وما بعدها، لسعيد القحطاني.
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8869)، والترمذي، رقم الحديث:(3370)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3829)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3370).
أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ»
(1)
.
توعد المستكبر عن الدعاء، قال تَعَالَى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
الوعد بالإجابة على الدعاء، قال تَعَالَى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
إلا أن الوعد بالإجابة له شروط وموانع، فمتى ما وجد الشرط وانتفى المانع حصلت الإجابة بإذن الله، كما أن له آدابًا، والتحلي بها مدعاة للإجابة.
قال ابن القيم رحمه الله: «والأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحًا تامًّا لا آفة به، والساعد ساعد قوي، والمانع مفقود؛ حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير»
(2)
.
وبيان بعض هذه الشروط والموانع و الآداب على النحو الآتي:
أ- شروط إجابة الدعاء
(3)
:
1 -
الإخلاص؛ فإن الدعاء عبادة، وشرط قبول العبادات الإخلاص،
(1)
أخرجه الترمذي واللفظ له، رقم الحديث:(3373)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(658)، والحاكم، رقم الحديث:(1812)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3373).
(2)
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (1/ 26).
(3)
ينظر: مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (1/ 93، وما بعدها).
قال تَعَالَى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]، وعلى هذا لا يصرف الدعاء لغير الله، ولا يدعى رياء ولا سمعة.
2 -
المتابعة؛ فإن الدعاء عبادة، وشرط قبول العبادات المتابعة، فيتابع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء، ويوافق فيه شرع الله.
3 -
حضور القلب أثناء الدعاء مع الرغب والرهب، قال تعالى:{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، وقال سُبْحَانَهُ بعد ذكر إجابته لدعوات أنبيائه:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، قال الشيخ السعدي رحمه الله:«أي: يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، وهم راغبون راهبون لا غافلون، لاهون ولا مدلون»
(1)
.
وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»
(2)
.
4 -
الثقة بالله واليقين بالإجابة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادْعُوا الله وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ»
(3)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 530).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3479)، والحاكم، رقم الحديث:(1823)، والطبراني في الدعاء، رقم الحديث:(62)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3479).
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3479)، والحاكم، رقم الحديث:(1823)، والطبراني في الدعاء، رقم الحديث:(62)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3479).
5 -
الجزم في الدعاء وعدم الاستثناء؛ فقد جاء في الحديث عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، وَلَا يَقُولَنَّ: اللهمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي، فَإِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ»
(1)
، وفي رواية:«فَإِنَّ الله لَا مُكْرِهَ لَهُ»
(2)
، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللهمَّ اغْفِرْ لِي، اللهمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ»
(3)
.
ب- موانع إجابة الدعاء:
أكل الحرام؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الله طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ الله أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟»
(4)
.
قال أهل العلم: قد أتى هذا الرجل بأربعة أسباب من أسباب الإجابة:
الأول: إطالة السفر.
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(6338)، ومسلم، رقم الحديث:(2678).
(2)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(3854)، حكم الألباني: صحيح، صحيح ابن ماجه، رقم الحديث:(3854).
(3)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(6339)، ومسلم، رقم الحديث:(2679).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1015).
والثاني: حصول التبذل في اللباس والهيئة؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ»
(1)
.
والثالث: يمد يديه إلى السماء «إِنَّ رَبَّكُمْ تبارك وتعالى حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحْي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خائبتين»
(2)
.
والرابع: الإلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيته، وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء.
ومع ذلك كله قال صلى الله عليه وسلم: «فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟»
(3)
، وهذا استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد
(4)
.
الاستعجال وترك الدعاء؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»
(5)
، وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ»
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2622).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
ينظر: شرح الأربعين النووية، ابن عثيمين (ص: 143، وما بعدها).
(5)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6340)، ومسلم، رقم الحديث:(2735).
(6)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2735).
التفريط في الواجبات والوقوع في المحرمات؛ فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ الله أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ»
(1)
، وقال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طريقها بالمعاصي.
وقال ابن القيم رحمه الله: «وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف عنه أثره
…
وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام، والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو وغلبتها عليها»
(2)
.
الدعاء بإثم أو قطيعة رحم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ،
…
»
(3)
، وذلك كأن يدعو بأن يمكنه الله من معصية ما، أو يدعو على أقرابه وأرحامه ظلمًا وعدوًا.
الاعتداء في الدعاء؛ قال تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].
قال ابن القيم رحمه الله: «فالاعتداء بالدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات، وتارة بأن يسأل ما لا يفعله الله، مثل: أن
(1)
أخرجه أحمد واللفظ له، رقم الحديث:(23775)، والترمذي رقم الحديث:(2169)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2169).
(2)
الداء والدواء (ص 9).
(3)
سبق تخريجه.
يسأله تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو يسأله أن يطلعه على غيبه، أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يسأله أن يهب له ولدا من غير زوجة، ولا أمة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء؛ فكل سؤال يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء، لا يحبه الله، ولا يحب سائله»
(1)
.
حكمة الله عز وجل، ويعطى الداعي أفضل مما سأل؛ فعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ الله بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخرة، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، قالوا: إذًا نكثر، قال: اللهُ أَكْثَرُ»
(2)
.
ج- آداب الدعاء:
الاستجابة لله عز وجل والمسارعة في الخيرات، قال تَعَالَى بعد ذكر إجابته لدعوات أنبيائه:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «فمن دعا ربه بقلب حاضر، ودعاء مشروع، ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء، كأكل الحرام ونحوه، فإن الله قد
(1)
بدائع الفوائد (3/ 13).
(2)
سبق تخريجه.
وعده بالإجابة، وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء، وهي: الاستجابة لله تَعَالَى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية، والإيمان به، الموجب للاستجابة»
(1)
.
تحري أوقات وأماكن وأحوال إجابة الدعاء، كالدعاء بين الأذان والإقامة، وفي ساعة الجمعة، وحال السجود، والسفر، وفي عرفة، وداخل الحجر، ونحو ذلك مما يطول ذكره.
الوضوء قبل الدعاء؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه خبر موت أبي عامر دعا بماء فتوضأ منه، ثم رفع يديه فقال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدِ أَبِي عَامِرٍ
…
»
(2)
.
مد اليدين بالدعاء واستقبال القبلة؛ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللهمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإسْلَامِ لَا تُعْبَد فِي الأَرْضِ، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ
…
»
(3)
.
وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رَبَّكُمْ تبارك وتعالى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»
(4)
.
خفض الصوت ما بين المخافتة والجهر حال الدعاء؛ قال تَعَالَى:
(1)
تفسير السعدي (ص: 87).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4323)، ومسلم، رقم الحديث:(2498).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1763).
(4)
سبق تخريجه.
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وجاء في الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه قال:«كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ»
(1)
.
الدعاء في الرخاء والشدة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ الله لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكَرْبِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ»
(2)
، وقال الله في يونس عليه السلام حينما دعاه فأنجاه:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144].
الثناء على الله في الدعاء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: «سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللهَ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عَجِلَ هَذَا. ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إذا صَلَّى أحَدُكُم فليَبْدأ بتَمْجيدِ رَبَّه والثَّناءِ عليه، ثم يُصَلَّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعدُ بما شاءَ»
(3)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3382)، وأبو يعلى، رقم الحديث:(6396)، والطبراني في الدعاء، رقم الحديث:(45)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3382).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(24568)، والترمذي، رقم الحديث:(3477)، وأبو داود واللفظ له، رقم الحديث:(1481)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1481).
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا آخر يصلي فمجد الله، وحمده، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ادْعُ تُجَبْ، وَسَلْ تُعْطَ»
(1)
.
التوسل لله عز وجل بأسمائه وصفاته؛ قال تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
الاعتراف بالذنب والنعمة حال الدعاء؛ كما في دعاء يونس عليه السلام: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، قال صلى الله عليه وسلم:«دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ الله لَهُ»
(2)
.
(3)
.
(1)
أخرجه النسائي، رقم الحديث:(1283)، والطبراني في الدعاء، رقم الحديث:(90)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن النسائي، رقم الحديث:(1284).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3505)، والحاكم، رقم الحديث:(3464)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3505).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6306).
الدعاء بالجوامع وأدعية الأنبياء عليهم السلام؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحِبُّ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ»
(1)
.
وعَنِ ابْنٍ لِسَعْدٍ قَالَ: سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَبَهْجَتَهَا، وَكَذَا وَكَذَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَسَلَاسِلِهَا، وَأَغْلَالِهَا، وَكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ. فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، إِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَ الْجَنَّةَ أُعْطِيتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنْ أُعِذْتَ مِنَ النَّارِ أُعِذْتَ مِنْهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الشَّرِّ»
(2)
.
التضرع والافتقار لله عز وجل في الدعاء، قال تَعَالَى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وقال تَعَالَى بعد إجابته لدعوات أنبيائه:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، فيدعو مستشعرًا بأنه في أمسِّ الحاجة بل في أمس الضرورة إلى الله، وأنه سُبْحَانَهُ وحده هو الذي بيده إجابة دعائه وتفريج كربته ورفع بلائه، وأنه إن لم يأذن بذلك فلا فرج ولا رفع للبلاء
(3)
.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1482)، والطبراني في الدعاء، رقم الحديث:(50)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1482).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(17070)، وأبو داود واللفظ له، رقم الحديث:(1480)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3864)، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود (1480).
(3)
ينظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (1/ 93).
الإلحاح في الدعاء؛ فعن أنس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «أَلِظُّوا
بِيَا ذَا الجَلَالِ والإِكْرَام»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»
(2)
.
تكرار الدعاء ثلاثًا؛ فإن ذلك من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه في قصة وضع سلا الجزور على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دعا عليهم: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ»
(3)
ثلاث مرات.
عدم تكلف السجع في الدعاء؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ، يَعْنِي: لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ الِاجْتِنَابَ»
(4)
.
عدم الدعاء على الأهل والولد والمال ونحو ذلك؛ فعن جابر رضي الله عنه أن رجلًا لعن بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: انْزِلْ عَنْهُ، فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ، لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ الله سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ»
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3524) و (3525)، والطبراني في الدعاء، رقم الحديث:(93) و (94)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3525).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(240)، ومسلم، رقم الحديث:(1794).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6337).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(3014).
ثم إذا عُلم هذا فليعلم أن خير ما يدعى به القريب المجيب ما جاء في القرآن من الدعوات، وما أُثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء؛ فإنه أعلم الخلق بالله، وأنصحهم، وأتقاهم، قال تَعَالَى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
الأثر السادس: الاستجابة والتقرب لله القريب المجيب:
إذا عرف العبد اسم ربه القريب المجيب وما فيهما من القرب الخاص والإجابة الخاصة، تطلع إلى تحصيل هذا الفضل العظيم ورجى أن يكون من أهله، وإنما ذلك يكون بالتقرب لله عز وجل بفعل الطاعات واجتناب المنهيات؛ فإن الله عز وجل قريب ممن أطاعه، قال تَعَالَى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، وجاء في الحديث القدسي: «وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا
…
»
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وليس بين الرب والعبد إلا محض العبودية، فكلما كملها قرب العبد إليه؛ لأنه سُبْحَانَهُ بر جواد محسن، يعطي العبد ما يناسبه، فكلما عظم فقره إليه كان أغنى؛ وكلما عظم ذله له كان أعز»
(2)
.
وهذا التقرب لله عز وجل هو حقيقة الاستجابة، فإنها: الانقياد للأوامر بالفعل، وللنواهي بالترك، وقد دعانا الله عز وجل إليها بقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2687).
(2)
مجموع الفتاوى (5/ 238).
بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وقوله تبارك وتعالى:{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى: 47].
وضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في الاستجابة لله عز وجل؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: «كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنَادِيًا يُنَادِي: أَلَا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا، فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا»
(1)
.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت:«يَرْحَمُ اللهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] شَقَقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا»
(2)
.
وللاستجابة ثمرات عدة في الدنيا والآخرة، ومنها:
الحياة الحسنة في الدنيا والآخرة؛ قال تَعَالَى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرعد: 18].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «فلهم {الْحُسْنَى} أي: الحالة الحسنة والثواب الحسن. فلهم من الصفات أجلها ومن المناقب أفضلها ومن الثواب العاجل والآجل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2464)، ومسلم، رقم الحديث:(1980).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4758).
(3)
تفسير السعدي (ص: 416).
وقال تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].
(1)
.
إجابة الدعاء، قال تَعَالَى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا} [البقرة: 186].
حصول الرشد والهدى، قال تَعَالَى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة، ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة» .
(2)
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 90).
(2)
تفسير السعدي (ص: 87).
حصول الكفاية وإصلاح الشأن؛ قال تَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 172 - 174].
مغفرة الذنوب والنجاة من العذاب، قال تَعَالَى على لسان منذر الجن:{يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31].
الفوز بالجنة، قال تَعَالَى:{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} [الرعد: 18]، قال الطبري رحمه الله:«فإن لهم الحسنى، وهي الجنة»
(1)
.
وكل هذه الثمار وغيرها تدعو العبد إلى مجاهدة نفسه وحملها على الاستجابة لله عز وجل.
فاللهم يا قريب يا مجيب، اجعلنا ممن استجاب وأناب، ففاز برضاك.
(1)
تفسير الطبري (16/ 416).
القاهرُ القهَّارُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «قهره قهرًا: غلبه
…
»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «القاف والهاء والراء كلمة صحيحة تدل على غلبة وعلو، يقال: قهره يقهره قهرًا، والقاهر: الغالب
…
»
(2)
.
ورود اسم الله (القاهر- الْقَهَّار) في القرآن الكريم:
أولًا: ورود اسم الله القاهر في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (القاهر) في القرآن مرتين، هما:
1 -
قوله تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]
2 -
قوله تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]
(1)
الصحاح (2/ 801).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 35).
ثانيًا: ورود اسم الله القهار في القرآن الكريم:
ورد اسم الله القهار في القرآن ست مرات، ومن وروده ما يلي:
1 -
قول الله عز وجل: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]
2 -
قول الله عز وجل: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]
3 -
قول الله عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48].
ورود اسم الله (القاهر- الْقَهَّار) في السنة النبوية:
ورد اسم الله القهار في السنة، ومن وروده ما يلي:
ما جاء عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَضَوَّرَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ»
(1)
.
ما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُنَادِي مُنَادٍ بَيْنَ يَدَيِ الصَّيْحَةِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ، وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ، فَيَسْمَعُهُ الأَحْيَاءُ والأَمْوَاتُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ؟ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ»
(2)
.
(1)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(7641)، وابن حبان، رقم الحديث:(5530)، حكم الألباني، صحيح، صحيح الجامع وزيادته، رقم الحديث:(4693).
(2)
قال ابن القيم رحمه الله: «وسليم هذا صدوق، خرج له مسلم» ، مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 455).
معنى اسم الله (القاهر - الْقَهَّار):
القهار صيغة مبالغة من القاهر، تدل على كثرة القهر، ومن أقوال العلماء في ذلك:
قال الطبري رحمه الله في قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]: «المذلل المستعبد خلقه، العالي عليهم، وإنما قال: {فَوْقَ عِبَادِهِ} لأنه وصف نفسه تَعَالَى ذكره بقهره إياهم، ومن صفة كل قاهر شيئًا أن يكون مستعليًا عليه، فمعنى الكلام إذًا: والله الغالب عباده، المذللهم، العالي عليهم بتذليله لهم، وخلقه إياهم، فهو فوقهم بقهره إياهم، وهم دونه»
(1)
، وقال في موضع آخر:«القاهر: المذلل المستعبد خلقه، العالي عليهم»
(2)
.
قال الزجاج رحمه الله: «القهار
…
والله تَعَالَى قهر المعاندين بما أقام من الآيات والدلالات على وحدانيته، وقهر جبابرة خلقه بعز سلطانه، وقهر الخلق كلهم بالموت»
(3)
.
قال الخطابي رحمه الله: «القهار: هو الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة، وقهر الخلق كلهم بالموت»
(4)
.
قال القرطبي رحمه الله: «القهار: الغالب لكل شيء، الذي يغلب في مراده كل مريد»
(5)
، وقال: «والقاهر: الغالب، وأقهر الرجل إذا صير بحال
(1)
تفسير الطبري (11/ 288).
(2)
تفسير الطبري (11/ 288).
(3)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 38).
(4)
شأن الدعاء (1/ 53).
(5)
تفسير القرطبي (9/ 304).
المقهور الذليل»
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]: «وهو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له لوجوه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه، وعظمته وعلوه، وقدرته على الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه، وتحت حكمه وقهره»
(2)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «القهار لكل شيء، الذي خضعت له المخلوقات، وذلت لعزته وقوته وكمال اقتداره»
(3)
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
وَكَذَلِكَ القَهَّارُ مِنْ أَوْصَافِهِ
…
فَالخَلْقُ مَقْهُورُونَ بِالسُّلْطَانِ
لَوْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا عَزِيزًا قَادِرًا
…
مَا كَانَ مِنْ قَهْرٍ وَمِنْ سُلْطَانِ
(5)
(1)
تفسير القرطبي (6/ 399).
(2)
تفسير ابن كثير (3/ 219).
(3)
تفسير السعدي (ص: 947).
(4)
الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 76).
(5)
النونية، لابن القيم (ص: 209).
اقتران اسم الله (القاهر - القهار) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (القاهر) بأسمائه الاخرى:
- اقتران اسم الله القاهر باسمه الحكيم:
تقدم بيانه في اسم الله الحكيم.
- اقتران اسم الله القاهر باسمه الخبير:
تقدم بيانه في اسم الله الخبير
ثانيًا: اقتران اسم الله (القهار) بأسمائه الأخرى:
لم يقترن اسم الله (القهار) إلا باسم الله (الواحد) وذلك في ستة مواضع، منها: قوله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65]، وقوله سُبْحَانَهُ:{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4].
وجه الاقتران:
بيان كماله جل في علاه ونفي ما قد يتوهم من الحاجة؛ إذ: «الغلبة والإذلال من ملوك الدنيا، إنما يكون بأعوانهم وجندهم وعددهم و عددهم، والله تَعَالَى يقهر كل الخلق، وهو واحد أحد فرد صمد، مستغن عن ظهير سُبْحَانَهُ»
(1)
.
(1)
ينظر: عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، للحلبي (3/ 344)، ومطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم، لنجلاء الكردي (ص: 292).
بيان استحقاقه وحده للتوحيد، قال ابن القيم رحمه الله: «
…
لا يكون القهار إلا واحدًا؛ إذ لو كان معه كفؤ له فإن لم يقهره لم يكن قهارًا على الإطلاق، وإن قهره لم يكن كفؤًا، وكان القهار واحدًا»
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (القاهر - القهار):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (القاهر، القهار) من صفاته سُبْحَانَهُ:
الله سُبْحَانَهُ القاهر القهار، الذي عم قهره العالم العلوي والسفلي حتى أعتى الخلق منهم، وأشدهم جبروتًا وسطوة يتضاءل ويتلاشى أمام قهر الله وجبروته، فالكل تحت قهره مغلوبًا ذليلًا، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]
(2)
.
ومن مظاهر هذا الاسم:
أنه القاهر القهار الذي قهر العالمين بسلطانه وملكه، فلا يستطيع أحد منهم الخروج عنه طرفة عين، ولا التصرف فيه إلا وفق ما رسم له، فالليل يعقب النهار، والنهار يعقب الليل من غير اختلاف أو امتناع، والشمس والقمر والنجوم الكل يجري ويتردد على الدوام على وفق ما قدر الله له
(3)
، والأعضاء التي خلقها الله في جسم الإنسان وغيره من الكائنات تعمل على وفق ما أراد الله
(1)
الصواعق المرسلة، لابن القيم (3/ 1032).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 830)، والنهج الأسمى، للنجدي (1/ 183).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 696).
من غير امتناع أو توقف إلا أن يشاء الله، فالكل مدبر تحت قهر القهار وسلطانه، قال تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16].
أنه القاهر القهار الذي قهر العالمين بمشيئته وإرادته النافذة، فلا يتصرف منهم متصرف، ولا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن إلا بمشيئته وأذنه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن
(1)
، ولو دبر صاحبه كل تدبير وكاد ما شاء، فهؤلاء أهل الشرك والأوثان قوم إبراهيم عليه السلام تنادوا:{حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68]، فجمعوا حطبًا كثيرًا جدًّا، ثم أضرموا النيران فيه، وألقوا إبراهيم عليه السلام، فقهرهم القهار بقوله للنار:{يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 69 - 70].
(2)
وهؤلاء إخوة يوسف عليهم السلام دبروا وخططوا لإقصاء يوسف وإبعاده؛ حتى لا يتمكن أبوه من رؤيته، فيتفرغ لهم، ويقبل عليهم بالشفقة والمحبة، قال تَعَالَى عن قولهم:{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 9 - 10]، لكن كان قهر الله وتدبيره بخلاف ما أرادوا، فأبقى ذكر أبيه له حتى مع غياب شخصه {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84].
قال ابن كثير رحمه الله: «أعرض عن بنيه، وقال متذكرًا حزن يوسف القديم الأول: {يَاأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ} جدد له حزن الابنين الحزن الدفين»
(3)
، فقالوا
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 252، 259).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 351).
(3)
المرجع السابق (4/ 405).
متعجبين: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85]
(1)
.
وهذا فرعون بلغه أن هلاك ملكه على يد غلام من بني إسرائيل، فأمر بقتل ذكور بني إسرائيل، فقهره القهار بأن أبقى موسى عليه السلام حيًّا، بل وجعل منشأه ومرباه على فراشه، وفي داره، وغذاءه من طعامه، وتحت تربيته ودلاله، ثم جعل هلاكه وهلاك جنده على يديه؛ ليُعلم العالمين أن رب السموات العلا هو القاهر القهار القادر الغالب، العزيز القوي شديد المحال، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن
(2)
.
وهؤلاء اليهود- عليهم لعنة الله- أرادوا قتل عيسى عليه السلام وصلبه، فقهرهم القهار بأن رفع عيسى إليه، وألقى شبهه على غيره، فأخذوا من ألقي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه، وباءوا بالإثم العظيم بنيتهم أنه رسول الله، قال تَعَالَى:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]
(3)
.
وهذه قريش عام الهجرة همت بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد القبض عليه وعلى صاحبه، فأعلنت عن مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة، بدل كل واحد منهما، لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، فجد الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن قهرهم القهار فعاد الكل بغير جدوى ومن دون عائد، على الرغم من وصولهم إلى باب الغار، قال أبو بكر رضي الله عنه: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 394، 404).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (6/ 220 - 221).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 132).
لأبصرنا، ولكن الله غالب على أمره
(1)
.
إنه القاهر القهار الذي قهر العالين بقضائه النافذ، وقدره الواقع، يحكم بما شاء ويقضي بما أراد، لا راد لقضائه، ولا ناقض لحكمه، ولا معقب له، يقضي بما أراد سُبْحَانَهُ من الفقر والمرض والعسر والهم والغم، ولا يملك أحد رده ولا كشفه ولو اجتمع الجن والإنس على ذلك، ويقضي بالخير من الغنى والصحة والفرح والسرور واليسر، ولا يملك أحد منعه ولا حجبه ولو اجتمع الجن والإنس على ذلك، قال تَعَالَى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 17 - 18]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ»
(2)
.
إنه القاهر القهار الذي قهر العالمين بما قضاء عليهم من الموت والفناء، وإن طال بهم المدى وعمروا سنين عددًا، واتخذوا من الأسباب ما اتخذوا، فإذا نزل بهم ما استطاع أحد من الخلق رده أو دفعه عن نفسه ولو أتي من القوة والجبروت ما أوتي، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 155)، والرحيق المختوم، للمباركفوري (ص: 150).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 252).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 523)، والنهج الأسمى، للنجدي (1/ 183).
أنه القاهر القهار الذي قهر الجبابرة وقرى الطغيان بما أنزل عليهم من العذاب الأليم، فما استطاعوا فرارًا ولا امتناعًا ولا انتصارًا، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]، وقال سُبْحَانَهُ:{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78].
قهر عاد التي بلغت من القوة كل مبلغ، حتى أنه لم يخلق في البلاد مثلها قوة وشدة،، قال تَعَالَى:{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] فلما عتت عن أمر ربها وكذبت رسله، وقالت: من أشد منا قوة؟! قهرهم القهار {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 6 - 8]
(1)
.
وقهر ثمود التي من قوتها نحتت الصخور واتخذتها مساكن، فلما كان منها ما كان قهرها القهار بالصيحة العظيمة التي انصدعت منها القلوب وزهقت لها الأرواح، فأصبحت موتى لا يرى إلا مساكنها وجثثها
(2)
.
وقهر فرعون ذو الملك والجند والعدد والعتاد فلما استكبر، وقال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38]، قهره القهار بالغرق فأغرق وجنده جميعًا في صبيحة واحدة، وألقي ببدنه على الأرض ليكون عبرة وآية لكل جبار متكبر
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 923).
(2)
ينظر: المرجع السابق (ص: 882).
(3)
ينظر: المرجع السابق (ص: 372، 739).
وقهر قارون الذي كان له من الكنوز العجب، حتى أن مفاتح خزائنها لتثقل جماعة الرجال الأقوياء عن حملها، فهذه المفاتيح، فما الظن بالخزائن؟! فلما كفر نعمت الله عليه وطغى وبغى قهره القهار فخسف به وبداره الأرض جزاء من جنس عمله، فكما رفع نفسه على عباد الله، أنزله الله أسفل سافلين، هو وما اغتر به، من داره وأثاثه، ومتاعه
(1)
.
وقهر أصحاب الفيل الذين كادوا بيته الحرام وأرادوا خرابه، فتجهزوا بجمع لا قبل للعرب به، واستصحبوا معهم الفيل لهدم البيت، فقهرهم القهار بطير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فخمدوا وهمدوا، وصاروا كعصف مأكول
(2)
.
وقهر قريشًا وعلى رأسها أبو جهل فرعون هذه الأمة بما أنزل بهم يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم الفتح حتى انتهت قريش ودخلت جموعها في دين الله أفواجًا.
إنه القاهر القهار الذي يقهر العالمين يوم القيامة بالذل والخضوع، فلا تكلم نفسه إلا بإذنه، ويقهرهم بتلاشي أملاكهم قليلها وكثيرها، فلا ملك إلا ملكه، قال تَعَالَى:{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]
(3)
.
إنه القاهر القهار، الذي قهر العالمين بنفوذ حكمه الجزائي فيهم، فلا يمتنع مجرم أُمر به إلى النار من أن يدخلها، ولا ناصر له ومدافع ولو كثر
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 623 - 624).
(2)
تفسير السعدي (1/ 934).
(3)
ينظر: المرجع السابق (ص: 735).
جنده، وعظم سلطانه، وعرض جاهه، ثم إذا دخلوها فلا يملكون الخروج منها، ولا تخفيف عذابها ولا إيقافه برهة إلا أن يشاء الله، قال تَعَالَى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 48 - 50]، وقال سُبْحَانَهُ:{قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 106 - 109]
(1)
.
وهو سُبْحَانَهُ مع هذا القهر الواسع العظيم إلا أنه في غاية الكمال والجمال؛ إذ قهره سُبْحَانَهُ عن علم وخبرة بمصالح الأشياء ومضارها، ومن يستحق القهر ومن لا يستحقه، وعن حكمة بالغة يضع معها قهره في الموضع المناسب له، وعن عدل تام لا ظلم معه ولا جور، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]
(2)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (القهار) على التوحيد:
إذا تأمل العبد في الكون من حوله وجد أن كل مخلوق فوقه مخلوق يقهره أو له مخلوق يضاده؛ فخلق الله الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها وتكسر ثورتها وتذهب بها، وخلق الماء وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره، وخلق النار وسلط عليها الماء يكسرها ويطفئها، وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته، وخلق الحجارة وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها، وخلق آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته، وخلق إبليس وذريته وسلط عليهم الملائكة
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 58، 884).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (11/ 288).
يشردونهم كل مشرد ويطردونهم كل مطرد، وخلق الحر والبرد والشتاء والصيف وسلط كلًّا منهما على الآخر يذهبه ويقهره، وخلق الليل والنهار، وقهر كلًّا منهما بالآخر، وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر لكل منه مضاد ومغالب، ثم إن هذا القهر كله لا بد أن ينتهي لقاهر واحد حي، قيوم، عليٍّ، مالك، قادر، قوي، عزيز، عليم، حكيم، لا والد له ولا ولد، ولا أحد كذلك إلا الله الواحد القهار، قال تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]، وقال تَعَالَى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 17 - 18]، وقال تَعَالَى:{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4].
(1)
قال الشيخ السعدي رحمه الله في التعليق على الآية السابقة: «القهار لجميع العالم العلوي والسفلي، فلو كان له ولد لم يكن مقهورًا، ولكان له إدلال على أبيه ومناسبة منه»
(2)
.
وبهذا يكون اسم الله القاهر القهار دالًّا على توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
ثم إن من له القهر بكماله وتمامه، لا قاهر له ولا مغالب، هو المستحق أن يعبد وحده دون ما سواه؛ إذ إن ما سواه مقهور مربوب مملوك للواحد القهار، فكيف يساوى بالواحد القهار في العبودية؟!! قال تَعَالَى:
(1)
ينظر: طريق الهجرتين (1/ 233)، وتفسير السعدي (ص: 415، 716).
(2)
تفسير السعدي (ص: 719).
{يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39 - 40]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65]، قال الشيخ السعدي رحمه الله:«هذا تقرير لألوهيته، بهذا البرهان القاطع، وهو وحدته تَعَالَى، وقهره لكل شيء، فإن القهر ملازم للوحدة، فلا يكون قهَّاران متساويَيْن في قهرهما أبدًا، فالذي يقهر جميع الأشياء هو الواحد الذي لا نظير له، وهو الذي يستحق أن يعبد وحده، كما كان قاهرًا وحده»
(1)
.
الأثر الثالث: طمأنينة القلب وسكينته بالله القاهر القهار:
اسم الله القاهر القهار يدعو النفوس للاطمئنان والسكينة، لا سيما المظلومة منها؛ ليقينها بقهر الله للظلمة وقدرته عليهم، مع اطلاعه على ظلمهم وعدم غياب ذلك عنه، قال تَعَالَى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42]، ويقينه أن حقه محفوظ عنده، وسيأخذه له من ظالمه ولو بعد حين، كما جاء في الحديث:«ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ، الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ، حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، يَرْفَعُهَا الله دُونَ الْغَمَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ: بِعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ»
(2)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 716).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2526)، وابن ماجه، رقم الحديث:(1752)، حكم الألباني: ضعيف، سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم الحديث:(1358).
ومن ذلك: نفوس المؤمنين الذين تكالبت عليهم الأعداء، وتحزبت عليهم الأحزاب، وخذلهم القريب والبعيد، فإنهم إذا نظروا إلى ضعفهم وقلة حيلتهم وما أصابهم من جراح وقتل ومآسٍ، وبالمقابل قوة عدوهم وبطشه وغناه، ثم تذكروا أن ربهم قاهر قهار، لا يخرج ظالم مهما قوي عن قهره؛ عاد ذلك على نفوسهم بالاطمئنان والسكينة والأمل بنصر الله عز وجل، قال تَعَالَى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
الأثر الرابع: محبة الله القاهر، القهار:
متى عرف العبد أن معبوده تبارك وتعالى قاهر قهار، لا يُغلب ولا يقوم أمام قهره شيء، وأنه بعبادته له يأوي إلى ركن شديد، يدفع عنه ما يمكن أن يتسلط عليه؛ أثمر ذلك في قلبه محبةً وتعلقًا به جل في علاه.
الأثر الخامس: التواضع والخضوع للقاهر القهار:
إذا تأمل العبد في اسم القاهر القهار، ثم نظر في نفسه وكيف أنه تحت قهره لا يد له في الخلق، ولا التدبير، ولا الرزق، يتمنى أن يولد له فلا يولد، وألا يمرض فيمرض، وأن يستغني فيفتقر، وأن يحيى أبدًا فيموت، كل ذلك بغلبة من الله وقهره؛ أورثه ذلك ذلًّا وخضوعًا للقهار، وتواضعًا لخلقه، فلا يغره ملكه وقوته ولا جاهه ونسبه، ولا يقدم على قهر مخلوق، لا سيما الضعيف منهم، قال تَعَالَى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9]، قال القرطبي رحمه الله:«خص اليتيم؛ لأنه لا ناصر له غير الله تَعَالَى، فغلظ في أمره، بتغليظ العقوبة على ظالمه»
(1)
.
(1)
تفسير القرطبي (20/ 100).
الأثر السادس: الحذر من اتصاف المخلوق بالقهر:
إذا تأمل العبد في اقتران اسم الله (القاهر) باسمه الحكيم الخبير؛ علم أن قهره تبارك وتعالى صفة كمال في حقه بخلاف المخلوق؛ إذ قهره عن جهل وسفه وظلم وعدوان، إضافة إلى كونه مربوبًا مقهورًا عاجزًا، تؤذيه البعوضة، وتشوشه الذبابة، ويأسره الجوع، ويصرعه الشبع، فمن كان كذلك كيف يليق به القهر والكبر والتجبر؟!
(1)
.
بل إن اتصافه بذلك وتسميه بما يدل عليه محل نقص وصفة ذم نهى الله عنها، قال تَعَالَى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9]؛ وذلك لقيامها على الظلم والطغيان، والتسلط على الضعفاء والفقراء، كما قال فرعون:{سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127]
(2)
.
وقد تتابعت النصوص في النهي عن الظلم والتحذير منه والتشنيع على صاحبه، ومن ذلك:
أن الله حرمه على نفسه وعلى عباده؛ فعن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا»
(3)
.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعاذ من أن يظلم أو يظلم وأمر بذلك؛ فعن أم سلمة، قالت: مَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ
(1)
شرح الأسماء، للرازي (ص: 199).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 184).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2577).
إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «اللهمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ، أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ، أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ، أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ»
(1)
، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: «دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو أُمَامَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟ قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي، وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللهُ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ
(2)
. قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللهُ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي»
(3)
.
أن صاحبه منهي عن مجالسته ومصاحبته، قال تَعَالَى:{فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
أن صاحبه معرض لدعوة المظلوم التي لا ترد؛ فعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثَةٌ تُسْتَجَابُ دَعْوَتُهُمْ:
(1)
أخرجه أبو داود واللفظ له، رقم الحديث:(5094)، والترمذي، رقم الحديث:(3427)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3884)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5094).
(2)
قهر الرجال، أي: غلبتهم، وهي شدة تسلطهم بغير حق تغلبًا وجدلًا. ينظر: مشكاة المصابيح مع شرحه مرقاة المفاتيح (8/ 435).
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1555)، والبيهقي في الدعوات الكبير، رقم الحديث:(305)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن أبي داود. رقم الحديث:(1555).
الوَالِدُ، والمُسَافِرُ، والمَظْلُومُ»
(1)
، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ»
(2)
، وفي رواية:«اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ»
(3)
.
وروى البخاري عن جابر بن سمرة، قال: «شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا
…
إلى أن قال: فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا، أَوْ رِجَالًا، إِلَى الْكُوفَةِ فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكَنَّى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لَا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ. وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ»
(4)
.
وروى مسلم- أيضًا- قصة أروى بنت أوس، وقد ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئًا من أرضها
…
فقال سعيد: «اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَعَمِّ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا. قَالَ: فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، ثُمَّ بَيْنَا هِيَ تَمْشِي فِي
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(9737)، وابن خزيمة واللفظ له، رقم الحديث:(2478)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(939)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع، رقم الحديث:(3049).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8917)، والطيالسي، رقم الحديث:(2450)، والطبراني في الدعاء، رقم الحديث:(1318)، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(767).
(3)
أخرجه أحمد واللفظ له، رقم الحديث:(12744)، وابن حبان، رقم الحديث:(361)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(119).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(755).
أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ»
(1)
.
أن صاحبه لا يوفق للحق والهدى، بل إلى الضلال والشقاء، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، وقال سُبْحَانَهُ:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
أن صاحبه محروم من محبة الله، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57].
أن صاحبه لا يفلح، فلا يفوز بمطلوبه ولا ينجو من مكروه، قال تَعَالَى:{إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21].
أن صاحبه هالك، قال تَعَالَى:{هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 47]، وقال تَعَالَى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13].
أن صاحبه ملعون من الله عز وجل، قال تَعَالَى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، وقال تَعَالَى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44].
أن صاحبه معرض لغضب الله عز وجل؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، قال:«وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ منَ اللهِ عز وجل»
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1610).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(3598)، وابن ماجه، رقم الحديث:(2320)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن أبي دواد، رقم الحديث:(3598).
أن صاحبه متوعد بيوم القيامة، قال تَعَالَى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
(1)
.
اللهم يا قاهر يا قهار، نعوذ بك من الهم والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدين، وقهر الرجال.
(1)
تفسير السعدي (ص: 427).
الكبيرُ المتكبِّرُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «كبر: الكبر في السن، وقد كبر الرجل يكبر كبرًا، أي: أسن
…
، وكبر بالضم يكبر: أي: عظم، فهو كبير وكبار، فإذا أفرط قيل: كبار بالتشديد، والكبر بالكسر: العظمة، وكذلك الكبرياء»
(1)
.
(2)
.
ورود اسم الله (الكبير- المتكبر) في القرآن الكريم:
أولًا: وود اسم الله (الكبير) في ستة مواضع من كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9].
قوله تَعَالَى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62].
(1)
الصحاح (2/ 365).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 153).
قوله تَعَالَى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12].
ثانيًا: ورود اسم الله (المتكبر) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (المتكبر) في آية واحدة في القرآن الكريم، في قوله تعالى:{الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23].
ورود اسم الله (الكبير- المتكبر) في السنة النبوية:
أولًا: ورد اسم الله (الكبير) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا قَضَى الله الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ؛ كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانَ- قال علي: وقال غيره: صفوان ينفذُهُمْ ذَلِكَ- فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيْرُ
…
»
(1)
.
ثانيًا: وورد اسم الله (المتكبر) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4701).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(5515)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(7649)، وابن حبان، رقم الحديث:(7327)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(3196).
معنى اسم الله (الكبير- المتكبر) في حقه سُبْحَانَهُ:
أولًا: الكبير:
قال الطبري رحمه الله: «هو العظيم، الذي كل شيء دونه، ولا شيء أعظم منه»
(1)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «هو العظيم الجليل
…
، وكبرياء الله: عظمته وجلاله»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: «هو الموصوف بالجلال وكبر الشأن، فصغر دون جلاله كل كبير، ويقال: هو الذي كبر عن شبه المخلوقين»
(3)
.
قال القرطبي رحمه الله: «أي: الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن، وقيل: الكبير ذو الكبرياء، والكبرياء عبارة عن كمال الذات، أي: له الوجود المطلق أبدًا وأزلًا، فهو الأول القديم، والآخر الباقي بعد فناء خلقه»
(4)
.
(5)
.
(1)
تفسير الطبري (18/ 676).
(2)
اشتقاق أسماء الله الحسنى (ص: 155).
(3)
شأن الدعاء (ص: 66).
(4)
تفسير القرطبي (12/ 91).
(5)
تفسير السعدي (ص: 543)
ثانيًا: المتكبر:
قال الخطابي رحمه الله: «(المتكبر): المتعالي عن صفات الخلق، ويقال: هو الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة فيقصمهم، والتاء في المتكبر: تاء التفرد، والتخصص بالكبر، لا تاء التعاطي والتكلف»
(1)
.
قال القرطبي رحمه الله: «المتكبر: الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله، وقيل: المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدث والذم، وأصل الكبر والكبرياء: الامتناع وقلة الانقياد
…
، وقيل: المتكبر معناه: العالي، وقيل: معناه الكبير؛ لأنه أجل من أن يتكلف كبرًا»
(2)
.
قال ابن الأثير رحمه الله: «العظيم ذو الكبرياء، وقيل: المتعالي عن صفات الخلق، وقيل: المتكبر على عتاة خلقه، والكبرياء: العظمة والملك، وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، ولا يوصف بها إلا الله تَعَالَى»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «الذي له الكبرياء والعظمة، المتنزه عن جميع العيوب والظلم والجور»
(4)
.
(1)
شأن الدعاء (ص: 48).
(2)
تفسير القرطبي (18/ 47).
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 140).
(4)
تفسير السعدي (ص: 854).
اقتران اسم الله (الكبير- المتكبر) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله الكبيرِ باسم الله العلي:
تقدم بيانه في اسم الله (العلي).
ثانيًا: اقتران اسم الله (المُتَكَبِّر) باسم الله (العزيز الجبَّار)
(1)
:
ورد في آية واحدة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23].
وجه الاقتران:
يقول ابن القيم رحمه الله في مناسبة هذا الاقتران-: «جعل سُبْحَانَهُ اسمه الجبار مقرونًا بالعزيز والمتكبر، وكل واحد من هذه الأسماء الثلاثة تضمن الاسمين الآخرين، وهذه الأسماء الثلاثة نظير الأسماء الثلاثة، وهي: الخالق البارئ المصور، فالجبار المتكبر يجريان مجرى التفصيل لمعنى اسم العزيز؛ كما أن البارئ المصور تفصيل لمعنى اسم الخالق، فالجبار من أوصافه يرجع إلى كمال القدرة والعزة والملك؛ ولهذا كان من أسمائه الحسنى»
(2)
.
يقول الطاهر ابن عاشور رحمه الله: «ووجه ذكر هذه الصفات الثلاث عقب صفة المهيمن: أن جميع ما ذكره آنفًا من الصفات لا يؤذن إلا باطمئنان العباد
(1)
تم إيراد الاقتران هنا على خلاف المنهج في إيراد الاقتران بحسب الترتيب الأبجدي للاسم؛ لأنه في آية سورة الحشر اقترن اسم الله المتكبر باسمين هما (العزيز) و (الجبار) سُبْحَانَهُ، فناسب إيراده في هذا الموضع.
(2)
شفاء العليل (ص: 121).
لعناية ربهم بهم، وإصلاح أمورهم، وأن صفة المهيمن تؤذن بأمر مشترك، فعقبت بصفة العزيز؛ ليعلم الناس أن الله غالب لا يعجزه شيء، واتبعت بصفة الجبار الدالة على أنه مسخر المخلوقات لإرادته، ثم صفة المتكبر الدالة على أنه ذو الكبرياء، يصغر كل شيء دون كبريائه، فكانت هذه الصفات في جانب التخويف، كما كانت الصفات قبلها في جانب الإطماع»
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسمي الله (الكبير المتكبر):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسمي الكبير المتكبر من صفات الله تعالى:
فالله سُبْحَانَهُ هو الكبير المتكبر وحده لا شريك له، له الكبرياء والعظمة، وسائر صفات الجلال والجمال، فهو الكبير في ملكه، والكبير في رحمته، والكبير في قدرته، والكبير في غناه، والكبير في بسطه وقبضه، والكبير في عزه وعفوه سُبْحَانَهُ.
ومن مظاهر هذين الاسمين ما يلي:
أنه الكبير المتكبر في ذاته سُبْحَانَهُ عن كل سوء وشر، فهو الكبير عن ظلم العباد، يقول تَعَالَى في الحديث القدسي:«يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا»
(2)
، ولايرضى الظلم منهم، يقول سُبْحَانَهُ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ
(1)
التحرير والتنوير (28/ 122).
(2)
سبق تخريجه.
اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]
أنه الكبير المتكبر العظيم سُبْحَانَهُ، وكل ما دونه حقير صغير، فلا إله بحق غيره، ولا شبيه له ولا نظير، ولا ولد له ولا والد، ولا صاحبة له ولا شريك، ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء، ولا يبلغ كنه صفته الواصفون ولا يحيط بأمره المتفكرون، يقول تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]
أنه الكبير المتكبر في سعة علمه وكماله سُبْحَانَهُ، يقول تَعَالَى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9].
أنه الكبير المتكبر في قلوب أهل السماء والأرض سُبْحَانَهُ، يقول تَعَالَى:{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 37]
أنه الكبير المتكبر في الآخرة سُبْحَانَهُ، فالأرض قبضته والسماوات مطويات بيمينه، يقول تَعَالَى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، وفي الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم»
(1)
، وكرسيه سُبْحَانَهُ يسع السماوات والأرض، يقول تَعَالَى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255].
أنه الكبير المتكبر على عتاة خلقه وجبابرتهم، فإن نازعوه العظمة قصمهم، يقول الله تَعَالَى في الحديث القدسي: «الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالعَظَمَةُ
(1)
أخرجه الطبري في التفسير (20/ 246).
إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي النَّارِ»
(1)
، وفي رواية:«قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ»
(2)
، ويقول سُبْحَانَهُ:{فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف: 20].
أنه الكبير المتكبر عن مشابهة صفات خلقه سُبْحَانَهُ، قال تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] يقول ابن عباس رضي الله عنهما: «السماوات السبع، والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن كخردلة في يد أحدكم»
(3)
.
فالله سُبْحَانَهُ كبير متكبر متعال، له العلو المطلق والكبرياء الكامل سُبْحَانَهُ وتقدس.
الأثر الثاني: توحيد الله باسميه الكبير المتكبر:
- دلالة اسمي الكبير المتكبر على توحيد الألوهية والربوبية:
يقول ابن تيمية رحمه الله: «فالعظمة والكبرياء من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار»
(4)
.
ومن الآيات التي تقطع أصول الشرك وفروعه: قوله تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ
(1)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(4175)، وابن حبان، رقم الحديث:(5672)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(541).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى، رقم الحديث:(237).
(4)
مجموع الفتاوى (10/ 196).
وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 22 - 23].
يقول السعدي رحمه الله: «قل يا أيها الرسول، للمشركين بالله غيره من المخلوقات، التي لا تنفع ولا تضر، ملزمًا لهم بعجزها، ومبينًا لهم بطلان عبادتها:{ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ: 22] أي: زعمتموهم شركاء لله، إن كان دعاؤكم ينفع، فإنهم قد توفرت فيهم أسباب العجز، وعدم إجابة الدعاء من كل وجه، فإنهم ليس لهم أدنى ملك فـ {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 22] على وجه الاستقلال، ولا على وجه الاشتراك
…
، {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]، فلم يبق إلا الشفاعة، فنفاها بقوله:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، فهذه أنواع التعلقات، التي يتعلق بها المشركون بأندادهم، وأوثانهم، من البشر، والشجر، وغيرهم، قطعها الله وبين بطلانها، تبيينًا حاسمًا لمواد الشرك، قاطعًا لأصوله؛ لأن المشرك إنما يدعو ويعبد غير الله،؛ لما يرجو منه من النفع، فهذا الرجاء، هو الذي أوجب له الشرك، فإذا كان من يدعوه (غير الله)، لا مالكًا للنفع والضر، ولا شريكًا للمالك، ولا عونًا وظهيرًا للمالك، ولا يقدر أن يشفع بدون إذن المالك، كان هذا الدعاء، وهذه العبادة، ضلالًا في العقل، باطلة في الشرع»
(1)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 678).
ولذا فكل مستكبر عن عباده الله فهو مشرك، وفرعون من أعظم الخلق استكبارًا عن عبادة الله كان مشركًا، يقول تَعَالَى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر: 23 - 24] إلى قوله: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر: 27]- إلى قوله: - {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].
- دلالة اسمي الكبير المتكبر على توحيد الأسماء والصفات:
كما أن اسمي الله الكبير المتكبر يدلان على توحيد الربوبية والألوهية، فهما يدلان أيضًا على توحيد الأسماء والصفات، ويدلان على عدد كبير منها؛ كالقدير، والخبير، والعلي المتعال، وذو الجلال والإكرام، والجبار، وغيرها من الأسماء الدالة على ذلك.
الأثر الرابع: مواضع قول: «الله أكبر» ، وفضلها:
من مظاهر عظمة هذين الاسمين، أنهما يدوران على ذكر عظيم وهو (الله أكبر)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن معنى (الله أكبر):«وفي قول (الله أكبر) إثبات عظمته؛ فإن الكبرياء يتضمن العظمة، ولكن الكبرياء أكمل؛ ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول: (الله أكبر) فإن ذلك أكمل من قول: (الله أعظم)»
(1)
.
ومن تأمل في المواضع المخصوصة التي أمرنا بالتكبير فيها، وجد أنه كما قال ابن تيمية رحمه الله: «مشروع في المواضع الكبار لكثرة الجمع، أو
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 253).
لعظمة الفعل، أو لقوة الحال، أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة؛ ليبين أن الله أكبر، ويستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء تلك الأمور الكبار؛ فيكون الدين كله لله، ويكون العباد له مكبرين، فيحصل لهم مقصودان: مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله، ومقصود الاستعانة بانقياد الطالب لكبريائه»
(1)
، ومن هذه المواضع:
شرع التكبير لصحة الدخول في الصلاة، يقول ابن القيم رحمه الله في سر ذلك:«لما كان المصلي قد تخلى عن الشواغل وقطع جميع العلائق، وتطهر وأخذ زينته، وتهيأ للدخول على الله تَعَالَى ومناجاته؛ شُرع له أن يدخل دخول العبيد على الملوك، فيدخل بالتعظيم والإجلال، فشرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى وهو قول: (الله أكبر) فإن في اللفظ من التعظيم والتخصيص والإطلاق- في جانب المحذوف المجرور بمن- ما لا يوجد في غيره»
(2)
.
شرع التكبير على الهداية والرزق والنصر؛ وفي سر ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: «لأن هذه الثلاث أكبر ما يطلبه العبد، وهي جماع مصالحه، والهدي أعظم من الرزق والنصر؛ لأن الرزق والنصر قد لا ينتفع بهما إلا في الدنيا، وأما الهدي فمنفعته في الآخرة قطعًا، وهو المقصود بالرزق والنصر؛ فخص بصريح التكبير»
(3)
، ومما ورد في ذلك: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهَا لَيْلًا وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَوْمًا بِلَيْلٍ لَا يُغِيرُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ يَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ فَلَمَّا
(1)
المرجع السابق (4/ 229).
(2)
بدائع الفوائد (2/ 195).
(3)
مجموع الفتاوى (4/ 229).
رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللهُ أَكْبَرُ، خَربَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ»
(1)
.
شرع التكبير في بدء العبادات أو تمامها، ومن ذلك: جاء التكبير مكررًا في الأذان في أوله وفي آخره، وفي أثناء الصلاة وهو حال الرفع والخفض والقيام إليها، وذكره الله بعد آيات الصيام، قال تَعَالَى:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]؛ وعند ذبح الأنساك في الحج، قالتَعَالَى:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].
شرع التكبير عند كل علو وارتفاع، كعلو نشز من الأرض عامة، أو صعود على الصفا والمروة خاصة، وفي حديث جابر:«كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا»
(2)
.
ومواطن التكبير في الشريعة الإسلامية كثيرة جدًّا، ولعل جماعها: أن التكبير شرع عند كل أمر كبير، سواء كان مكانًا، أو زمانًا، أوحالًا.
أما فضائل قول: «الله أكبر» ، فهي كثيرة، ومنها:
(الله أكبر) تكتب عشرين حسنة وتحط عشرين سيئة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الله اصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ أَرْبَعًا: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ، فَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله، كَتَبَ الله لَهُ عِشْرِينَ حَسَنَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ عِشْرِينَ سَيِّئَةً، وَمَنْ قَالَ: الله أَكْبَرُ، فَمِثْلُ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله،
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(2945)، ومسلم، رقم الحديث:(1365).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2993).
فَمِثْلُ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، كُتِبَتْ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً، أَوْ حُطَّ عَنْهُ ثَلَاثُونَ سَيِّئَةً»
(1)
.
(الله أكبر) كلمة تنفض الخطايا، عن أنس رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ غصنا فنفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فلم ينتفض، ثم نفضه فانتفض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ سُبحانَ الله، والحَمدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله يَنفُضنَ الخَطايا كَما تَنفُضُ الشَّجرةُ ورَقَها»
(2)
.
(الله أكبر) تغرس شجرة في الجنة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ غَرَسَ الله تَعَالَى لَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ شَجَرَةً فِي الْجَنَّةِ»
(3)
.
(الله أكبر) من أحب الكلام إلى الله، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى الله أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ. لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ»
(4)
.
(الله أكبر) تثقل الميزان، عن أبي سلمى رضي الله عنه راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بَخٍ بَخٍ، لَخَمْسٌ مَا
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8127)، والبزار، رقم الحديث:(3074 - كشف الأستار)، والنسائي في عمل اليوم والليلة، رقم الحديث:(840)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1718).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12729)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(634)، حكم الألباني: حسن، صحيح الأدب المفرد، رقم الحديث:(634).
(3)
أخرجه الطبراني في الدعاء، رقم الحديث:(1676)، والطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(8475)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2880).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2137).
أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزَانِ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَالله أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى فَيَحْتَسِبُهُ، وَالِدَاهُ»
(1)
.
(الله أكبر) من الباقيات الصالحات، عن الحارث مولى عثمان رضي الله عنه قال:«جَلَسَ عُثْمَانُ يَوْمًا، وَجَلَسْنَا مَعَهُ، فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ أَظُنُّهُ سَيَكُونُ فِيهِ مُدٌّ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى صَلاةَ الظُّهْرِ، غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصُّبْحِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ لَعَلَّهُ أَنْ يَبِيتَ يَتَمَرَّغُ لَيْلَتَهُ، ثُمَّ إِنْ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الصُّبْحَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الْعِشَاءِ، وَهُنَّ الْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات» ، قَالُوا: هَذِهِ الْحَسَنَاتُ، فَمَا الْبَاقِيَاتُ يَا عُثْمَانُ؟ قَالَ: هُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ»
(2)
.
قول: (الله أكبر) مائة مرة فإنها تعدل مائة بدنة مقلدة متقبلة، عن أم هانئ رضي الله عنها قالت: «مَرَّ بِي ذَاتَ يَوْمٍ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ - أَوْ كَمَا قَالَتْ -، فَمُرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ وَأَنَا جَالِسَةٌ. قَالَ: سَبِّحِي الله مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَإِنَّهَا تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ رَقَبَةٍ تُعْتِقِينَهَا مِنْ
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(15902)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(9923)، وابن حبان، رقم الحديث:(833)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1204).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(520)، والضياء في الأحاديث المختاره، رقم الحديث:(323)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(2560)، قال أحمد شاكر في تحقيق المسند: إسناده صحيح، رقم الحديث:(513).
وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاحْمَدِي الله مِائَةَ تَحْمِيدَةٍ، فإنها تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ فَرَسٍ مُسْرَجَةٍ مُلْجَمَةٍ، تَحْمِلِينَ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ الله، وَكَبِّرِي الله مِائَةَ تَكْبِيرَةٍ، فَإِنَّهَا تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ، وَهَلِّلِي الله مِائَةَ تَهْلِيلَةٍ، قَالَ ابْنُ خَلَفٍ: أَحْسِبُهُ قَالَ، تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَا يُرْفَعُ يَوْمَئِذٍ لِأَحَدٍ مِثْلُ عَمَلِكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ مَا أَتَيْتِ بِهِ»
(1)
.
قول: (الله أكبر) مائة مرة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها أفضل من عتق مائة رقبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله مِائَةَ مَرَّةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ مِائَةِ بَدَنَةٍ، وَمَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مِائَةَ مَرَّةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ مِائَةِ فَرَسٍ يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وَمَنْ قَالَ: الله أَكْبَرُ مِائَةَ مَرَّةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عِتْقِ مِائَةِ رَقَبَةٍ، وَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِائَةَ مَرَّةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، لَمْ يَجِئْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدٌ بِعَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِهِ إِلَّا مَنْ قَالَ قَوْلَهُ أَوْ زَادَ»
(2)
.
(الله أكبر) صدقة، عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(27553)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10613)، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1316).
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10588)، والطبراني في الشاميين، رقم الحديث:(516).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(720).
هذه بعض فضائل هذا الذكر العظيم، وإلا ففضله كبير، والنصوص الواردة فيه كثيرة.
الأثر الخامس: محبة الكبير المتكبر:
من آمن أن الله تَعَالَى أكبر من كل شيء وأجل من كل شيء، وأعلى من كل شيء، وكل شيء أمامه سُبْحَانَهُ حقير ضئيل ضعيف، فله الكمال والعظمة التامة المطلقة سُبْحَانَهُ؛ أورث ذلك كله في قلب العبد محبة لربه وثقة وإجلالًا.
الأثر السادس: الحذر من الكبر:
(1)
.
وفي الملحق الآتي ما يعين -بإذن الله- على الحذر من هذه الصفة.
(1)
شرح رياض الصالحين (3/ 540 - 541).
«إياك والكِبْر»
في موضوع الكبر سنتطرق لعدة مسائل، وهي:
أولًا: معنى الكبر:
قال السعدي رحمه الله: «التكبر هو: رد الحق، واحتقار الخلق، وضد ذلك التواضع»
(1)
قال ابن عثيمين رحمه الله: «الكبر فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)
(2)
فمعنى بطر الحق: يعني رده»
(3)
.
ثانيًا: أنواع الكبر:
ذكر ابن عثيمين رحمه الله نوعين للكبر، وهما:
الأول: الكبر ببطر الحق، يعني: رده، أن يرد الإنسان الحق، مثل أن يقول قولًا، ثم يقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، أعني: خلاف قول هذا الرجل، ولكنه يرد ما قاله الرسول ويبقى على قوله، وهذا كبر، وهذا من أعظم أنواع الكبر؛ لأنه رد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك لو قيل له: قال الله كذا وكذا، خلاف ما يقول هو، وأصر على قوله؛ فهذا كبر، وهو أعظم أنواع
(1)
تفسير السعدي (ص: 943).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(91).
(3)
فتاوى نور على الدرب (6/ 2).
الكبر؛ لأنه رد لقول الله تبارك وتعالى، هذا قسم من أقسام الكبر رد الحق، وكذلك لو كان الإنسان مجتهدًا في حكم من الأحكام، فنوقش فيه، وتبين أن الحق في خلاف قوله وإن لم يكن نصًّا في المخالفة، ولكنه أصر على ما يقول، فهذا أيضًا من الكبر.
الثاني: غمط الناس، يعني: احتقارهم وازدراءهم، بحيث لا يرى الناس شيئًا، ويرى أنه فوق الناس، فإن هذا من الكبر، وعلامته: أن يصعِّر خده للناس، وأن يمشي في الأرض مرحًا، وأن يتخيل أنه فوق رؤوس الجبال، وأن الناس في قعر الآبار، هذا من الكبر، ولما قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)
(1)
.
وعلى هذا فتجمل الإنسان في ثيابه التي على الجسد أو التي يركبها وهي النعال، ليس من الكبر في شيء، «إلا أن يصحبه ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بكونه يغمط الناس أو يحتقرهم، فيحتقر من لم يلبس مثل لباسه، ويحتقر الفقراء، وما أشبه ذلك فهذا كبر»
(2)
.
ثالثًا: عاقبة المتكبرين:
أعد الله تَعَالَى للمتكبرين عقوبات كثيرة، منها:
الكبر من أقوى عوامل الصرف عن الحق:
قال تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
فتاوى نور على الدرب (24/ 2).
يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].
المتكبرون لا تُفَتَّح لهم أبواب السماء:
قال تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 40]
المتكبرون لا يدخلون الجنة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال: إِنَّ الله جَمِيْلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»
(1)
.
يحشرون كأمثال الذر:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ»
(2)
.
رابعًا: طرق الوقاية من الكبر:
ما من مرض بدني أو نفسي أو قلبي إلا وله علاج يستأصله من جذوره، أو على الأقل يخففه تدريجيًّا إلى أن يشفى منه الإنسان نهائيًّا.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(6788)، والترمذي، رقم الحديث:(2492)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2492).
والكبر- لا شك- مرض كغيره من الأمراض القلبية التي تصيب الإنسان، ولابد أن له علاجًا بإذن الله، فعلى من ابتلي بشيء منه أن لا يهمله ويركن إليه ويستمر عليه، بل لا بد له أن يسعى جهده لعلاجه والتخلص منه قبل أن يفتك به ويهلكه.
وقد ذكر العلماء للكبر علاجًا ناجحًا بإذن الله، يتمثل في عدة أمور منها:
أولًا: أن يعرف الإنسان ربه، ويعرف نفسه، ويعرف أصله وفقره وحاجته، ويعرف نعم الله عليه، ويتذكر مقامه بين يديه وعاقبة الكبر يوم القيامة، فإنه إذا عرف كل ذلك حق المعرفة علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله، وإذا عرف نفسه علم أنه ضعيف ذليل لا يليق به إلا الخضوع لله والتواضع والذلة له، والتواضع ولين الجانب لخلقه، قال تَعَالَى-:{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17].
ثانيًا: التواضع لله بالفعل ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين المتبعين لسنة سيد المرسلين، وأن يدرك المتكبر أن الذي يتكبر عليه أو يسخر منه قد يكون خيرًا منه عند الله، ولينظر كل ما يقتضيه الكبر من الأفعال فليواظب على نقيضها حتى يصير التواضع له خلقًا، فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل.
- فإن كان التكبر بسبب القوة، فالعلاج: أن يعلم أن القوة لله جميعًا، ويعلم ما سلط عليه من العلل والأمراض، وأنه لو تألم له أصبع أو عرق من عروق بدنه لتألم، وصار أعجز من كل عاجز، وأذل من كل ذليل، ثم إن من البهائم ما هو أقوى منه بكثير، فمن كانت هذه حاله فما يليق به الكبر.
- وإن كان التكبر بسبب المال، فالعلاج: أن يعلم أن المال عرَض زائل، وأن المال من الله أعطاه إياه واستخلفه عليه فقط، والمتكبر بماله أو عقاره لو
ذهب عنه ذلك لعاد في لحظة ذليلًا حقيرًا من أذل وأحقر الناس، وكل متكبر بأمر خارج عن ذاته من أجهل الخلق.
- وإن كان التكبر بالعلم وهو أعظم الآفات، فعلاجه: أن يعلم العالم أن حجة الله على أهل العلم آكد، وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل من العالم، وأن من عصى الله على علم ومعرفة أعظم جناية ممن عصى الله على جهل، وإذا تفكر فيما أمامه من الخطر العظيم وعلم ما كان عليه السلف الصالح من التواضع والخوف من الله امتنع بإذن الله من الكبر.
- وإن كان التكبر بسبب المنصب، فليعلم: أن المنصب عرض زائل، فكما ذهب عن غيره سيذهب عنه ويصبح بلا منصب، وليس له أي قيمة، وسيتفرق عنه أهل التزلف المحيطون به فيصبح وحيدًا أعزل لا صديق ولا رفيق.
- وإن كان التكبر بسبب أصله ونسبه، فأصله في الحقيقة: طين وماء ثم نطفة ثم مضغة ثم علقة
…
إلخ. أما آباؤه وأجداده فما شرفوا إلا بصفاتهم وأخلاقهم وحسن أعمالهم، فإن فعل مثلهم فقد شرف بعمله لا بهم، وإن انحط في صفاته وأخلاقه فما ينفعه كرم آبائه وشرف أجداده، بل يصدق فيه قول الشاعر:
لَئِنْ فَخرتُ بآبَاءٍ ذَوِي شَرَفٍ
…
لَقَدْ صَدَقْتُ وَلَكِنْ بِئْسَمَا وَلَدُوا
اللهم طهِّر قلوبنا من الكِبر والعجب، وارزقنا اللهم التواضع ولين الجانب، والتخلُّق بأحسن المحامد.
الكريمُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الكرم: ضد اللؤم .... والكريم: الصفوح، وكرم السحاب، إذا جاء بالغيث ...... »
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(كرم) الكاف والراء والميم أصل صحيح له بابان: أحدهما: شرف في الشيء في نفسه أو شرف في خلق من الأخلاق
…
والكرم في الخلق يقال: هو الصفح عن ذنب المذنب. قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: الكريم: الصفوح، والله تَعَالَى هو الكريم الصفوح عن ذنوب عباده المؤمنين
…
»
(2)
.
ورود اسم الله (الكريم والأكرم) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الكريم) ثلاث مراتٍ في كتاب الله، وهي:
(1)
الصحاح (5/ 2019 - 2021).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 171 - 172).
قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الإنفطار: 6].
قوله عز وجل: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116] على قراءة من قرأ برفع «كريم» على أنه صفة للرب
(1)
.
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الأكرم) مرة واحدة في كتاب الله، وهي:
في قوله عز وجل: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3].
ورود اسم الله (الكريم) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الكريم) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رَبَّكُمْ تبارك وتعالى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»
(2)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله الْعَظِيْمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيْمِ»
(3)
.
معنى اسم الله (الكريم) في حقه سُبْحَانَهُ:
يدور معنى اسم الله (الكريم) في حق الله تَعَالَى حولَ عدة معانٍ، منها:
الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل.
(1)
ينظر: تفسير القرطبي (12/ 157)، فقه الأسماء الحسنى، للبدر (214).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2730).
الجود والإحسان.
العفو الذي يصفح.
من الأقوال في المعنى الأول:
قال ابن الأثير رحمه الله في قوله: «(الكريم: الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل»
(1)
.
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال الطبري رحمه الله: «كريم، ومن كرمه: إفضاله على من يكفر نعمه، ويجعلها وصلة يتوصل بها إلى معاصيه»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: «إنه الذي يبدأ النعمة قبل الاستحقاق، ويتبرع بالإحسان من غير استثابة»
(3)
.
قال ابن الأثير رحمه الله: «(الكريم) هو: الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه»
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «إن (الكريم) هو البهي، الكثير الخير، العظيم النفع، وهو من كل شيء أحسنه وأفضله، والله سُبْحَانَهُ وصف نفسه بالكرم، ووصف به كلامه، ووصف به عرشه، ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره»
(5)
.
(1)
النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 167).
(2)
تفسير الطبري (19/ 469).
(3)
شأن الدعاء (ص: 71).
(4)
النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 167).
(5)
التبيان في أقسام القرآن (ص: 286).
قال السعدي رحمه الله: «كثير الخير يعم به الشاكر، والكافر، إلا أن شكر نعمه داع للمزيد منها، وكفرها داع لزوالها»
(1)
(2)
.
من الأقوال في المعنى الثالث:
قال الخطابي رحمه الله مفسرًا اسم الله الكريم: «يغفر الذنب، ويعفو عن المسيء، ويقول الداعي في دعائه: يا كريم العفو، فقيل: إن من كرم عفوه: أن العبد إذا تاب عن السيئة محاها عنه، وكتب له مكانها حسنة»
(3)
.
من الأقوال التي تجمع بين المعاني الثلاثة:
(4)
.
(1)
تفسير أسماء الله الحسنى، للسعدي (ص: 70).
(2)
تفسير السعدي (ص: 946).
(3)
شأن الدعاء (ص: 71).
(4)
اشتقاق الأسماء (ص: 176).
قال القرطبي رحمه الله بعد أن ذكر أن الكريم له ثلاثة أوجه هي: الجواد والصفوح والعزيز: «وهذه الأوجه الثلاثة يجوز وصف الله عز وجل بها، فعلى أنه جواد كثير الخير، صفوح لا بد من متعلق يصفح عنه وينعم عليه، وإذا كان بمعنى العزيز كان غير مقتض مفعولًا في أحد وجوهه، فهذا الاسم متردد بين أن يكون من أسماء الذات، وبين أن يكون من أسماء الأفعال، والله عز وجل لم يزل كريمًا ولا يزال، ووصفه بأنه كريم هو بمعنى نفي النقائص عنه، ووصفه بجميع المحامد، وعلى هذا الوصف يكون من أسماء الذات؛ إذ ذلك راجع إلى شرفه في ذاته وجلالة صفاته، وإذا كان فعليًّا كان معنى كرمه ما يصدر عنه من الإفضال والإنعام على خلقه»
(1)
.
معنى اسم الله (الأكرم) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الخطابي رحمه الله: «هو أكرم الأكرمين، لا يوازيه كريم ولا يعادله نظير، وقد يكون (الأكرم) بمعنى الكريم، كما جاء الأعز والأطول بمعنى: العزيز والطويل»
(2)
.
قال القرطبي رحمه الله: «أي: الكريم»
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «أعاد الأمر بالقراءة مخبرًا عن نفسه بأنه الأكرم، وهو الأفعل من الكرم، وهو كثرة الخير ولا أحد أولى بذلك منه سُبْحَانَهُ، فإن الخير كله بيده والخير كله منه والنعم كلها هو موليها، والكمال كله والمجد
(1)
الأسنى في شرح الأسماء الحسنى (1/ 112).
(2)
شأن الدعاء (ص: 103).
(3)
تفسير القرطبي (20/ 119).
كله له فهو الأكرم حقًّا»
(1)
(2)
.
قال السعدي رحمه الله: «أي: كثير الصفات واسعها، كثير الكرم والإحسان، واسع الجود»
(3)
.
اقتران اسم الله (الكريم) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله (الكريم) إلا باسم الله (الغني):
تقدم بيانه في اسم الله (الغني).
اقتران اسم الله (الأكرم) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله (الأكرم) بأي اسم من أسماء الله تَعَالَى.
الآثار المسلكية للإيمان باسمي الله (الكريم والأكرم):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسمي الله (الكريم والأكرم) من صفات الله سُبْحَانَهُ:
الله عز وجل الكريم الذي له شرف الذات وكمال الصفات، قال تَعَالَى:{فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]، فهو الرحمن الرحيم، الغفور، الودود، الخالق، البارئ،
(1)
مفتاح دار السعادة (1/ 342).
(2)
المرجع السابق (1/ 241).
(3)
تفسير السعدي (ص: 930)
المصور، العزيز، الحكيم إلى آخر صفات كماله كل ذلك؛ لأنه الكريم جل جلاله، فكلمة (الكريم) شاملة واسعة لكل صفة محمودة.
وهو الكريم الذي تنزه عن النقائص والآفات على الإطلاق والتمام والكمال من كل وجه، وفي كل حال، قال تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].
قال السعدي رحمه الله: «{الْقُدُّوسُ السَّلَامُ} [الحشر: 23] أي: المقدس السالم من كل عيب وآفة ونقص، المعظم الممجد؛ لأن القدوس يدل على التنزيه عن كل نقص، والتعظيم لله في أوصافه وجلاله»
(1)
.
وهو الكريم الذي له القدر العظيم والشأن الكبير الجليل، فلا يقدر قدره، ولا يدرك العباد كنهه، قال تَعَالَى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255].
وهو الكريم المنعم المتفضل، الذي بيده مقاليد السموات والأرض، وخزائن كل شيء، قال تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21]، وقال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] الخير كله بيديه، كما جاء في الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ حَنِيفًا
…
لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ والخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، والشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ»
(2)
لا ينقطع خيره
(1)
تفسير السعدي (ص: 854).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(771).
ولا ينفد، بل خيره متصل في الدنيا والآخرة، كما قال سُبْحَانَهُ:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَدُ الله مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وقال: عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى المِيزَانُ، يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ»
(1)
.
فهو سُبْحَانَهُ الكريم الذي كثر خيره وعظم عطاؤه، إذا أعطى أجزلَ، وزاد على منتهى الرجا، فأعطى أهل الجنة مُناهم، وزادهم على ما يعلمون، كما جاء في الحديث القدسي أنه تبارك وتعالى قال:«أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]»
(2)
.
يعطي لا لعوض، فهو الغني الكريم، قال تَعَالَى:{فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}
[النمل: 40]، ويعطي لا للسبب، ويحسن من غير طلب ولا سؤال أو منة؛ فهو المتفضل بالنوال من غير سؤال، بدأ الخلق بالنعم، وأوسع عليهم فيها حتى عجزوا عن إحصائها، قال تَعَالَى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].
وهو سُبْحَانَهُ الكريم الذي عم عطائه خلقه فشمل البر والفاجر، والمؤمن والكافر، بل ربما خص الكافر في الدنيا بمزيد عطاء ولكن الآخرة للمتقين، قال تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(7411)، ومسلم، رقم الحديث:(993).
(2)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(3244)، ومسلم، رقم الحديث:(2824).
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32].
أعطى إبليس الحياة الطويلة، وأعطاه القدرة على الوسواس، وأعطى الكفار القدرة المادية والخضرة والطبيعة والجمال وكثرة الأموال، قال تَعَالَى:{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196 - 197] يعطي من يستحق ومن لا يستحق، يعطي من احتاج ومن لم يحتج حتى يصب عليه الدنيا صبًّا، فلا يبالي من أعطى، وكم أعطى؟!!
وهو الكريم الذي لا يخص بكبير من الحوائج دون صغيرها، بل يرفع إليه الكل، قال تَعَالَى:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، سهل خيره وقرب تناوله؛ فإنه ليس بينه وبين العبد حجاب، وهو قريب لمن استجاب، قال تَعَالَى:{إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61] لا يضيع من التجأ إليه ولاذ به {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] بل من كرمه جل في علاه إذا رفع العبد يديه يدعوه ويسأله يستحي أن لا يجيبه، وأن يرده خائبًا، كما جاء في الحديث عن سلمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رَبَّكُمْ تبارك وتعالى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِه إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»
(1)
.
وهو (الكريم) الذي إذا وعد وفى، فإن كل من يعد يمكن أن يفي، ويمكن أن يقطعه عذر، ويحول بينه وبين الوفاء أمر، والباري صادق الوعد، كما قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9]؛ وذلك لعموم قدرته وعظيم ملكه، لا مانع لما أعطى ولا معطي لا منع.
(1)
سبق تخريجه.
وهو الكريم الذي يتجاوز عن الذنوب ويغفر السيئات، لا يتعظمه ذنب أن يغفره {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] يجود بالتوبة على التائبين، ويتفضل بقبولها منهم، بل أعظم من ذلك أنه يبدل سيئاتهم حسنات، قال تَعَالَى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]
(1)
.
وهو الكريم الذي كرم كل كريم من كرمه، فمن أكرمه الله أكرم ومن أهانه أهين، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
[الحج: 18]
(2)
.
وصف كلامه بالكريم، كما في قوله تَعَالَى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] أي: كثير الخير، غزير العلم، فكل خير وعلم، فإنما يستفاد ويستنبط منه، كما أنه كريم، بمعنى: عظيم معظم في كتاب محفوظ موقر
(3)
.
ووصف عرشه بذلك أيضًا، فقال تَعَالَى:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116] على قراءة من قرأ بالكسر على أنه صفة للعرش، والمعنى:«حسن المنظر بهي الشكل»
(4)
.
ووصف ثوابه العظيم ونعيمه المقيم الذي أعده لعبادة المتقين بالكرم، فقال تَعَالَى:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [سبأ: 4] والرزق الكريم، كما قال ابن كثير رحمه الله: «الحسن
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 387).
(2)
ينظر: الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، للقرطبي (1/ 116 - 117)، وفقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 215 - 217).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 544)، تفسير السعدي (ص: 836).
(4)
تفسير ابن كثير (5/ 500).
الكثير الطيب الشريف، دائم مستمر أبدًا لا ينقطع ولا ينقضي، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه»
(1)
، ووعدهم بالمدخل الكريم، فقال:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] سالمًا من الآفات والعاهات، ومن الهموم والأحزان، ومن المنغضات والمكدرات
(2)
.
ووصف بذلك رسله من الملائكة والبشر، فقال تَعَالَى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19 - 20]«أي: ملك شريف حسن الخلق، بهي المنظر، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام»
(3)
، وقال تَعَالَى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40 - 41]، وقال تَعَالَى:{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان: 17]«فيه الكرم ومكارم الأخلاق ما ليس في غيره»
(4)
.
ووصف بذلك ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره، فقال تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7]، وقال تَعَالَى:{وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان: 26]
(5)
(6)
.
(1)
المرجع السابق (4/ 99).
(2)
تفسير الطبري (8/ 259).
(3)
تفسير ابن كثير (8/ 338).
(4)
تفسير السعدي (ص: 773).
(5)
ينظر: تفسير الطبري (19/ 335) و (22/ 32)، تفسير ابن كثير (7/ 252)، تفسير السعدي (ص: 589).
(6)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى، للبدر (214 - 215).
الأثر الثاني: دلالة اسمي الله (الكريم والأكرم) على التوحيد:
إذا تأمل العبد اسمي الله الكريم والأكرم وما تضمناه من عظيم الجود والعطاء، وعلم أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها منه خلقًا وتسخيرًا، وأنه لا أحد من الخلق يملك ذلك؛ تيقن أنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه
(1)
.
وقد نبه الله عز وجل عباده على هذا المعنى، فبعد ما ذكر في سورة النحل «ما خلقه من المخلوقات العظيمة، وما أنعم به من النعم العميمة ذكر أنه لا يشبهه أحد ولا كفء له ولا ند له، فقال تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]، أفمن يخلق جميع المخلوقات وهو الفعال لما يريد {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} شيئًا لا قليلًا ولا كثيرًا {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} فتعرفون أن المنفرد بالخلق أحق بالعبادة كلها، فكما أنه واحد في خلقه وتدبيره فإنه واحد في إلهيته وتوحيده وعبادته»
(2)
.
الأثر الثالث: تأملات في كرم الكريم سُبْحَانَهُ:
عبادة التأمل والتفكر هي عبادة أولي الألباب الذين أثنى الله عليهم ومدحهم بقوله تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190 - 192].
وإذا آمن العبد باسم الله الكريم وتأمل فيه؛ ظهر له كرمه في أمور كثيرة،
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 125).
(2)
تفسير السعدي (ص: 438).
ومن أقربها كرمه سُبْحَانَهُ على الإنسان، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، ومن ذلك:
خلقه وإيجاده على أحسن صورة من غير سؤال ولا طلب، قال تَعَالَى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]«تام الخلق، متناسب الأعضاء، منتصب القامة، لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرًا أو باطنًا شيئًا»
(1)
.
رعايته وهو جنين، وطفل رضيع لا يملك حول ولا قوة.
قال ابن القيم رحمه الله: «تدبر وأنت جنين في بطن أمك في موضع لا يد تنالك ولا بصر يدركك ولا حيلة لك في التماس الغذاء، ولا في دفع الضرر، فمن الذي أجرى إليك من دم الأم ما يغذوك، كما يغذو الماء النبات، وقلب ذلك الدم لبنًا، ولم يزل يغذيك به في أضيق المواضع، وأبعدها من حيلة التكسب والطلب.
حتى إذا كمل خلقك واستحكم، وقوي أديمك على مباشرة الهواء، وبصرك على ملاقاة الضياء، وصلبت عظامك على مباشرة الأيدي، والتقلب على الغبراء، هاج الطلق بأمك فأزعجك إلى الخروج أيما ازعاج إلى عالم الابتلاء، فركضك الرحم ركضةً من مكانك كأنه لم يضمك قط ولم يشتمل عليك فيما بعد، ما بين ذلك القبول والاشتمال حين وضعت نطفة، وبين هذا الدفع والطرد والإخراج، وكان مبتهجًا بحملك، فصار يستغيث ويعج إلى ربك من ثقلك.
(1)
تفسير السعدي (ص: 929).
فمن الذي فتح لك بابه حتى ولجت؟! ثم ضمه عليك حتى حفظت وكملت، ثم فتح لك ذلك الباب ووسعه حتى خرجت منه كلمح البصر لم يخنقك ضيقه ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه.
فلو تأملت حالك في دخولك من ذلك الباب، وخروجك منه، لذهب بك العجب كل مذهب! فمن الذي أوحى إليه أن يتضايق عليك وأنت نطفة حتى لا تفسد هناك؟! وأوحى إليه أن يتسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليمًا، إلى أن خرجت فريدًا وحيدًا ضعيفًا، لا قشرة ولا لباس ولا متاع ولا مال! أحوج خلق الله، وأضعفهم وأفقرهم، فصرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذى به في بطن أمك إلى خزانتين معلقتين على صدرها، تحمل غذاءك على صدرها، كما حملتك في بطنها، ثم ساقه إلى تينك الخزانتين ألطف سوق على مجار وطرق قد تهيأت له، فلا يزال واقفًا في طرقه ومجاريه حتى تستوفي ما في الخزانة، فيجري وينساق إليك؛ فهو بئر لا تنقطع مادتها، ولا تنسد طرقها، يسوقها إليك في طرق لا يهتدي إليها الطواف، ولا يسلكها الرجال.
فمن رققه لك وصفَّاه، وأطاب طعمه، وحسن لونه، وأحكم طبخه أعدل إحكام، لا بالحار المؤذي، ولا بالبارد الردي، ولا المر ولا المالح، ولا الكريه الرائحة، بل قلبه إلى ضرب آخر من التغذية والمنفعة، خلاف ما كان في البطن، فوافاك في أشد أوقات الحاجة اليه على حين ظمأ شديد، وجوع مفرط، جمع لك فيه بين الشراب والغذاء، فحين تولد قد تلمظت وحركت شفتيك للرضاع فتجد الثدي المعلق كالإداوة قد تدلى إليك، وأقبل بدره عليك، ثم جعل في رأسه تلك الحلمة، التي هي بمقدار صغر فمك، فلا يضيق عنها، ولا تتعب بالتقامها، ثم نقب لك في رأسها نقبًا لطيفًا بحسب احتمالك ولم يوسعه فتختنق
باللبن، ولم يضيقه فتمصه بكلفة، بل جعله بقدر اقتضته حكمته ومصلحتك.
فمن عطف عليك قلب الأم، ووضع فيه الحنان العجيب والرحمة الباهرة، حتى تكون في أهنأ ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها، فإذا أحست منك بأدنى صوت أو بكاء قامت إليك، وآثرتك على نفسها، على عدد الأنفس منقادةً إليك بغير قائد ولا سائق، إلا قائد الرحمة وسائق الحنان، تود لو أن كل ما يؤلمك بجسمها، وأنه لم يطرقك منه شيء، وأن حياتها تزاد في حياتك.
فمن الذي وضع ذلك في قلبها؟! حتى إذا قوي بدنك واتسعت أمعاؤك، وخشنت عظامك، واحتجت إلى غذاء أصلب من غذائك ليشتد به عظمك، ويقوى عليه لحمك، وضع في فيك آلة القطع والطحن، فنصب لك أسنانًا تقطع بها الطعام، وطواحين تطحنه بها، فمن الذي حبسها عنك أيام رضاعك رحمةً بأمك ولطفًا بها، ثم أعطاكها أيام أكلك رحمةً بك، وإحسانًا إليك، ولطفًا بك.
فلو أنك خرجت من البطن ذا سن وناب وناجذ وضرس، كيف كان حال أمك بك، ولو أنك منعتها وقت الحاجة إليها كيف كان حالك بهذه الأطعمة، التي لا تسيغها إلا بعد تقطيعها وطحنها، وكلما ازددت قوة وحاجة إلى الأسنان في أكل المطاعم المختلفة زيد لك في تلك الآلات حتى تنتهي إلى النواجذ، فتطيق نهش اللحم وقطع الخبز وكسر الصلب، ثم إذا ازددت قوةً زيد لك فيها حتى تنتهي إلى الطواحين التي هي آخر الأضراس، فمن الذي ساعدك بهذه الآلات وأنجدك بها ومكنك بها من ضروب الغذاء»
(1)
.
تميزه بالعقل، وتعليمه للعلم بعد أن خرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا،
(1)
مفتاح دار السعادة (1/ 256 - 257).
قال تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] فرزقه السمع الذي به يدرك الأصوات، والأبصار التي بها يحس المرئيات، والأفئدة التي يعقل به الأمور.
علمه البيان كما قال سُبْحَانَهُ: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4] أي: التبيين عما في ضميره، سواء بالنطق بتيسيره وتسهيل مخرج حروفه ومواضعها من الحلق واللسان والشفتين، أو بالخط الذي به تحفظ العلوم، وتضبط الحقوق، وتكون رسلًا للناس تنوب مناب خطابهم، قال تَعَالَى:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3 - 5]
(1)
.
هدايته للإسلام والإيمان، وإنزال القرآن وتعليمه إياه، قال تَعَالَى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، قال الشيخ السعدي رحمه الله:«{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} الذي هو القرآن، الذي هو أعظم نعمة ومنة، وفضل تفضل الله به على عباده {وَبِرَحْمَتِهِ} الدين والإيمان، وعبادة الله ومحبته ومعرفته، {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} من متاع الدنيا ولذاتها»
(2)
، وقال تَعَالَى ممتنًّا على عباده بتعليمهم القرآن:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1 - 2] علمهم لفظه ومعانيه، ويسره عليهم، كما قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17].
5 -
توفيقه لطاعته وفتح أبواب الخير له، فتوفيقه للصلاة كرم، وتوفيقه لصيام كرم، وتوفيقه للذكر كرم، ومن حُرم الطاعة فقدم حُرم الخير كله.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 590)، تفسير السعدي (ص: 828).
(2)
تفسير السعدي (ص: 367).
تسخير الكون له بما فيه من خيرات ونعم لا تعد ولا تحصى لخدمته وراحته، قال تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]، وقال تَعَالَى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الإسراء: 70] فحملهم في البر على الركاب من الإبل والبغال والحمير والمراكب المختلفة، وفي البحر على السفن، ورزقهم من المآكل والمشارب والملابس والمناكح، فما من طيب تتعلق به حاجتهم إلا وأكرمهم الكريم به وسخره لهم غاية التسخير
(1)
.
مضاعفته سُبْحَانَهُ جزاء الأعمال الصالحة دون السيئة، قال تَعَالَى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160]، جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ، فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَكَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ سَبْعُ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ»
(2)
(3)
، وجاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: «إِنَّ الله كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 463).
(2)
مخطومة، أي: فيها خطام وهو قريب من الزمام. شرح النووي على مسلم، رقم الحديث:(13/ 38).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1892).
بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»
(1)
(2)
.
ويدل الحديث- أيضًا- على مظهر أخر من مظاهر كرم الله وجوده تبارك وتعالى؛ وذلك بمكافأة من نوى عمل الطاعة ولو لم يعمله، كما يكافئسُبْحَانَهُ من تمنى العمل الذي لا يستطيع بلوغه فيعطيه أجر العامل لنيته الحسنة؛ فعن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ .... وَأَمَّا الَّذِي أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٌ رَزَقَهُ الله مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ، قال: فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، قال: وَعَبْدٌ رَزَقَهُ الله عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، قال: فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ عَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، قال: فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، قال: وَعَبْدٌ رَزَقَهُ الله مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، قال: وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ الله مَالًا، وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، قال: هِيَ نِيَّتُهُ، فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ»
(3)
.
إكرامه لعبده المؤمن عند موته وانتقاله لمنازل الآخرة، فيثبته عند النزع وعند السؤال في القبر، كما قال تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6491)، ومسلم، رقم الحديث:(131).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي، (1/ 388).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18316)، والترمذي، رقم الحديث:(2325)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2325).
يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، ويمثَّل عمله الصالح له بصورة رجل طيب الرائحة حسن الوجه حسن الثياب، ويقول: أنا عملك الصالح؛ ليؤنس وحشته، ويقلب الحفرة الضيقة إلى روضة خضراء من رياض الجنة، وينزل عليه الملائكة عند الحشر لتقول له:{أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، ويدله على طريق جنته ومنازله فيها، قالتَعَالَى:{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6]، ثم يحفه ويحوطه بكرمه وعظيم عطاءه ومنته مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ويظهر كرمه جليًّا سُبْحَانَهُ في آخر رجل يدخل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: «آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ، فَهُوَ يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ، لَقَدْ أَعْطَانِيَ اللهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا! فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: يَا ابْنَ آدَمَ، لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: لَا، يَا رَبِّ، وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَى، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا؟ فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي
أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ، أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ»
(1)
.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ، قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَا هُنَا» ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ»
(2)
، فأي كرم أعظم من هذا الكرم والجود؟!
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(189).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(190).
الأثر الرابع: محبة الله تَعَالَى الكريمِ والأكرم:
حين يتأمل العبد في اسمي الله (الكريم والأكرم) وكيف أنه يعطي بلا مقابل، وينعم ولا ينتظر جزاء، ويكرم ولا ينتظر شكرًا، بل يسيء العبد ويزل فيتكرم عليه بالعفو والمغفرة، حين يتأمل هذه المعاني الإيمانية، ويتذوق هذا الكرم الرباني فإن القلب يذوب حبًّا لربه الكريم.
الأثر الخامس: شكر الكريم على كرمه:
إذا نظر الإنسان في نفسه وما يحيطه من كرم الله عليه وجوده وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة، من جميع أصناف النعم مما يعرف ومما لا يعرف، وما دفع عنه من ألوان النقم والبلايا التي يعجز عن عدها فضلًا عن شكرها، قال تَعَالَى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18] علم أن حق هذه النعم أن يشكر واهبها ولا يكفر، فيعترف القلب ويقر بنعم الله، ويثني عليه بها بلسانه، ويصرفها في مرضاته وطاعته، ويصونها عن صرفها في معصيته
(1)
.
وقد نبه الله عباده على شكره بعد ما ذكر جملة من نعمه في مواضع عدة من كتابه، منها:
- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 422، و 437 - 438).
- {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية: 12].
فدلت هذه الآيات على أن النعم تقابل بالشكر، فإذا ما قابلها العبد به جزاه الله بالزيادة منها، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
الأثر السادس: إكرام من شهد الله بتكريمه:
المكرَم من أكرمه الله تَعَالَى بالإيمان والهدى، والمهان من أهانه الله تَعَالَى بالكفر والفسوق والعصيان ولو وجيهًا:{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]
فقد جعل الله ميزان الكرامة عنده تقواه، كما قال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] فهذا هو ميزان الإكرام الحقيقي، وليس الميزان ميزان المال والبنين والجاه والسلطان، التي يوزن الناس بها اليوم، قال الله عز وجل:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} الآية [الفجر: 15 - 17]، وقال تَعَالَى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56].
فمن هداه لله لدينه، وأنعم عليه بطاعته وتقواه فهو الكريم، وحقه أن يكرم كما أكرمه الله -جل وعلا-، فيكرم الرسل وأتباعهم من العلماء والصالحين، ويكرم ذا الشيبة المسلم، وحامل القرآن، والسلطان المقسط، كما جاء في الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ
إِجْلَالِ الله إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ، غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ، وَلَا الْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المقسط»
(1)
.
الأثر السابع: الاتصاف بالكرم:
الله عز وجل كريم يحب أن يتصف عباده بالكرم والسخاء دون إسراف وتبذير، ويبغض منهم البخل والشح، قال ابن القيم رحمه الله: «وقد مدح تَعَالَى أهل التوسط بين الطرفين المنحرفين في غير موضع من كتابه، فقال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
وقال تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26]، فمنع ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم انحراف في جانب الإمساك، والتبذير انحراف في جانب البذل، ورضا الله فيما بينهما»
(2)
.
والكرم من أهم مكارم الأخلاق وأجلِّها، فعلى المسلم أن يتخلق بهذا الخلق الكريم، ويسعى لتحقيقه، وسيتناول الملحق- بإذن الله- ما يعين على ذلك.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4843)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(357)، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(4843).
(2)
الصلاة وحكم تاركها، لابن القيم (ص: 226).
الأثر الثامن: دعاء الكريم الأكرم:
الله تَعَالَى هو الكريم الذي فتح لنا باب الدعاء والرجاء، ورغبنا في الضَّرَاعَةِ إليه في جميع الأحوال والأوقات، ووعدنا بالإجابة كما قال سُبْحَانَهُ:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ رَبَّكُمْ تبارك وتعالى حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحْي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»
(1)
.
كل هذا يدعو العبد إلى كثرة دعائه لربه ورفع حاجته إليه ولو صغرت، فقد كان السلف يسألونه في شرك نعلهم إذا انقطع، وكانوا يسألونه الملح في طعامهم.
ويدعوه- أيضًا إلى إحسان الظن بربه ولو تأخرت الإجابة أو منعت؛ لعلمه أن منعها كرم منه سُبْحَانَهُ ورحمة لا قدح في كرمه وجوده؛ إذ قد يكون في قضاء حاجته هلاكه في دينه أو دنياه، والكريم بمنه وكرمه ورحمته لا يستجيبها لما فيها من الشر والضرر العائد عليه.
ويحسن بالعبد أن يدعو ربه باسمه الكريم تبارك وتعالى، ممتثلًا قوله جل جلاله:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
وقد وردت أحاديث كثيرة ترغب في الدعاء باسم الله (الكريم)، ومنها:
- عن علي رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلْتَهُنَّ غَفَرَ الله لَكَ، وَإِنْ كُنْتَ مَغْفُورًا لَكَ؟ قَالَ: قُلْ: لَا
(1)
سبق تخريجه.
إِلَهَ إِلَّا الله الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله، سُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ»
(1)
.
-عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: أَعُوذُ بِالله الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ!»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(723)، والترمذي، رقم الحديث:(3504)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(8361)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(2621).
(2)
أخرجه أبو داود واللفظ له، رقم الحديث:(466)، والبيهقي في الدعوات الكبير (68)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف أبي داود، رقم الحديث:(466).
سنتطرق في موضوع الكرم لعدة مسائل، وهي:
أولًا: تعريف الكرم:
قال ابن مسكويه رحمه الله: «الكرم إنفاق المال الكثير بسهولة من النفس في الأمور الجليلة القدر، الكثيرة النفع»
(1)
.
وقيل: الكرم هو: الإعطاء بالسهولة.
وقيل: الكرم إيصال النفع بلا عوض
(2)
.
ثانيًا: مظاهر الكرم:
للكرم مظاهر كثيرة، تتجلي في أكثر من صورة يتحلى بها المسلم وهو يسير في ضياء من القرآن والسنة، ومن هذه المظاهر:
إكرام الضيف، فقد جعله الله تَعَالَى دليلًا على كمال إيمان العبد وتقواه، فعن أبى هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ
(1)
تهذيب الأخلاق (ص: 30).
(2)
ينظر: التعريفات، للجرجاني (ص: 184)، والتوقيف على مهمات التعاريف، لابن المناوي (ص: 281).
الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ»
(1)
، ومدح إبراهيم عليه السلام به، فقال تَعَالَى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 24 - 28].
ومظاهر كرمه عليه السلام متعددة، منها:
أنه أول من ضيف الضيفان.
أن بيته كان مأوى للطارقين والأضياف؛ لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان، وإنما سلكوا طريق الأدب، في الابتداء بالسلام.
جمع لأضيافه بين الإكرام بالقول والفعل:
فإكرامه لأضيافه بالقول يتمثل في:
- رده السلام عليهم بصيغة أكمل وأتم من سلامهم؛ لأنه أتى به بجملة اسمية، دالة على الثبوت والاستمرار.
- ملاطفته لهم بالكلام اللين، حيث قال:{قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} ولم يقل: «أنكرتكم» (وبين اللفظين من الفرق، ما لا يخفى)، وعند تقديم الطعام عرض عليهم عرضًا لطيفًا، وقال:{أَلَا تَأْكُلُونَ} ولم يقل: «كلوا» ونحوه من الألفاظ، التي غيرها أولى منها، بل أتى بأداة العرض، فقال:{أَلَا تَأْكُلُونَ} .
أما إكرامه لأضيافه بالفعل فيتثمل في:
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(47).
- مبادرته إلى الضيافة والإسراع فيها، ولم يمتن عليهم أولًا بقوله:«نأتيكم بطعام؟» بل جاء به بسرعة.
- ذهابه إلى أهله بخفاء، بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي منه.
- خدم أضيافه بنفسه، وهو خليل الرحمن، وكبير من ضيَّف الضيفان.
- قرب الطعام إلى أضيافه في المكان الذي هم فيه، ولم يجعله في موضع، ويقول لهم: تفضلوا، أو ائتوا إليه؛ لأن هذا أيسر عليهم وأحسن.
- أتى بأفضل ما وجد من ماله، وهو عجل مشوي فتي سمين لا هزيل، ومثل هذا العجل يتخذ للاقتناء والتربية عادة، إلا أنه آثر به ضيفانه.
- أتى بعجل كامل ولم يأت ببعض منه، وهذا من تمام كرمه عليه الصلاة والسلام
(1)
.
إكرام اليتيم بكفالته والإحسان إليه، وقد رتب الكريم على هذا الفعل الأجر العظيم؛ فعن سهل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا» وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا»
(2)
.
إكرام الشيخ الكبير بتوقيره في المجالس والرفق به والشفقة عليه، وإجلاله من إجلال الله كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ إِجْلَالِ الله: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ، غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ، وَلَا الْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 421)، وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب، (2/ 148 - 150)، وتفسير السعدي، (ص: 810).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5304).
السُّلْطَانِ المقسط»
(1)
.
إكرام حافظ القرآن وقارئه ومفسره، وهذا- أيضًا- من إجلال الله عز وجل كما يتضح من الحديث السابق.
إكرام السلطان العادل، سواء أكان حاكمًا أو دون ذلك من أصحاب السلطات، فما دام عادلًا مقسطًا فإن إكرامه من إجلال الله سُبْحَانَهُ كما تقدم في الحديث سابقًا.
إكرام الزوجة، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ورغب فيه، وجعله دليلًا على كمال الإيمان، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا، أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَأَلْطَفَهُمْ بِأَهْلِهِ»
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً
(3)
إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»
(4)
.
والكرم ليس قاصرًا على هذه الصور، بل يشمل كل شيء، من إكرام: القريب، والصديق، والجار، والصغير، والفقير، بل وحتى الحيوانات.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4843)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(357)، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(4843).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(24841)، والترمذي، رقم الحديث:(2612)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2612).
(3)
لا يفرك، أي: لا يبغض. ينظر: شرح النووي على مسلم، (10/ 58).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1469).
ثالثًا: فضل الكرم:
الكرم من الصفات المحمودة التي حض عليها الإسلام، وتخلق بها الرسول العدنان صلى الله عليه وسلم، وهذا الخلق الكريم له في الإسلام فضائل عدة منها، أنه:
يحصل به تكميل الإيمان؛ فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ، قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»
(1)
.
2 -
يحصل به التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم سخيًّا كريمًا لا يُسئل شيئا إلا أعطاه؛ فعن جابر رضي الله عنه قال: «مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لَا»
(2)
، وعن أنس رضي الله عنه قال:«مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ، أَسْلِمُوا! فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ» . وفي رواية: «لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ. فَقَالَ أَنَسٌ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا»
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا يُسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا يَأْتِي عَلَيَّ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6019)، ومسلم، رقم الحديث:(48).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6034)، ومسلم، رقم الحديث:(2311).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2312).
ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلَّا دِينَارًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ عَلَيَّ»
(1)
.
3 -
إصابة دعوة الملِك بالخلف؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللهمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»
(2)
.
4 -
سبب في زيادة المال ونمائه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»
(3)
، ويدل عليه- أيضًا- حديث أبي هريرة السابق في دعاء الملكين له بالخلف.
5 -
سبب في ثناء الناس على صاحبه؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «سادات الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء»
(4)
، لا سيما وأنه سبب في ستر عيوبه عن الناس، قال الشافعي رحمه الله:
وَإِنْ كَثُرَتْ عُيُوبُكَ فِي البَرَايَا
…
وَسَرَّكَ أَنْ يَكُونَ لَهَا غِطَاءُ
تَسَتَّرْ بالسَّخَاءِ فَكُلُّ عَيْبٍ
…
يُغَطِّيهِ كَمَا قِيلَ السَّخَاءُ
(5)
6 -
سبب في محبة الله؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ وَمَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَيُبْغِضُ سَفْسَافَهَا»
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2389)، ومسلم، رقم الحديث:(991).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1442)، ومسلم، رقم الحديث:(1010).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5352)، مسلم، رقم الحديث:(993).
(4)
ينظر: نضرة النعيم، لابن حميد (6/ 2255).
(5)
الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة، للحمد (ص: 27).
(6)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(5928)، والحاكم، رقم الحديث:(152)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(7646)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1890).
7 -
موعود صاحبه بالمنازل والغرف في الجنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لِمَنْ أَطَابَ الكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ»
(1)
، وإطعام الطعام صورة من صور الكرم والجود.
8 -
سبب للنجاة من الخسارة؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه، قال:«انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ: هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، قال: فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ فَلَمْ أَتَقَارَّ أَنْ قُمْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا- مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ- وَقَلِيلٌ مَا هُمْ»
(2)
.
فاللهم أكرمنا بكرمك، وأنعم علينا من فضلك.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(1354)، والترمذي، رقم الحديث:(1984)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(1984).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6638)، ومسلم واللفظ له، رقم الحديث:(990).
اللطيفُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «لَطُف الشيء بالضم، يلطف لطافة، أي: صَغُر، فهو لطيف.
واللطف في العمل: الرفق فيه، واللطف من الله تَعَالَى: التوفيق والعصمة، وألطفه بكذا، أي: بره به»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(لطف) اللام والطاء والفاء أصل يدل على رفق ويدل على صغر في الشيء، فاللطف: الرفق في العمل؛ يقال: هو لطيف بعباده، أي رءوف رفيق»
(2)
.
ورود اسم الله (اللَّطِيف) في القرآن:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (اللَّطِيف) سبع مرات في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103].
قوله عز وجل: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ
(1)
الصحاح (4/ 1426).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 250).
أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
قوله عز وجل: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
ورود اسم الله (اللَّطِيف) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (اللَّطِيف) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ، فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ، فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ، فَانْحَرَفْتُ فَأَسْرَعَ، فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ، فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ فَسَبَقْتُهُ، فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ، فَدَخَلَ فَقَالَ: مَا لَكِ؟ يَا عَائِشُ! حَشْيَا رَابِيَةً! قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ، قَالَ: لَتُخبِرِينِي أو لَيُخبِرَنِّي (اللَّطِيفُ) الخبيرُ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ
…
»
(1)
.
معنى اسم (اللَّطِيف) في حقه سُبْحَانَهُ:
يدور معنى اسم الله (اللطيف) في حق الله تَعَالَى حول معنيين:
- المعنى الأول: أنه الخبير الذي أحاط علمه بالأسرار والبواطن والخبايا والخفايا.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(974).
- المعنى الثاني: الذي يلطف بعبده ويلطف له، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، و يعصمه من الشر، من حيث لا يحتسب
(1)
.
ومن أقوال العلماء في ذلك:
من أقوال العلماء في المعنى الأول والثاني:
قال ابن الأثير رحمه الله: «هو الذي اجتمع له الرفق في الفعل، والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدرها له من خلقه»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «فأخبر أنه يلطف لما يريده، فيأتي به بطرق خفية لا يعلمها الناس، واسمه اللطيف يتضمن علمه بالأشياء الدقيقة وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية»
(3)
.
قال الكفوي رحمه الله: «و (اللطيف): من الأسماء الحسنى معناه: البر بعباده، المحسن إلى خلقه بإيصال المنافع إليهم برفق، ولطف، العالم بخفايا الأمور ودقائقها»
(4)
.
قال السعدي رحمه الله: «(اللطيف): الذي لطف علمه حتى أدرك الخفايا، والخبايا، وما احتوت عليه الصدور، وما في الأراضي من خفايا البذور، ولطف بأوليائه، وأصفيائه، فيسرهم لليسرى وجنبهم العسرى، وسهل لهم كل طريق يوصل إلى مرضاته وكرامته، وحفظهم من كل سبب ووسيلة
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 876)، والمواهب الربانية، للسعدي (ص: 120).
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 251).
(3)
شفاء العليل (ص: 34).
(4)
الكليات (ص: 797).
توصل إلى سخطه، من طرق يشعرون بها، ومن طرق لا يشعرون بها، وقدر عليهم أمورًا يكرهونها؛ لينيلهم ما يحبون، فلطف بهم في أنفسهم فأجراهم على عوائده الجميلة، وصنائعه الكريمة، ولطف لهم في أمور خارجة عنهم لهم فيها كل خير وصلاح ونجاح»
(1)
.
من أقوال العلماء في المعنى الثاني:
قال الزجاج رحمه الله: «المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: «اللطيف: هو البر بعباده، الذي يلطف لهم من حيث لا يعلمون ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون»
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته
(4)
:
وَهوُ (اللَّطِيفُ) بِعَبْدِهِ وَلِعَبْدِهِ
…
واللُّطْفِ فِي أَوْصَافِهِ نَوْعَانِ
إِدْرَاكُ أَسْرَارِ الأُمُورِ بِخِبْرَةٍ
…
واللُّطْفُ عِنْدَ مَوَاقِعِ الإِحْسَانِ
فَيُرِيكَ عِزَّتَهُ وَيُبْدِي لُطْفَهُ
…
والعَبْدُ فِي الغَفَلَاتِ عَنْ ذَا الشَّانِ
(1)
تفسير السعدي (ص: 71).
(2)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 44).
(3)
شأن الدعاء (1/ 62).
(4)
النونية (ص: 207).
اقتران اسم الله (اللَّطِيف) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
اقتران اسم الله (اللَّطِيف) باسم الله (الخَبِيْر):
تقدم بيانه في اسم الله (الخبير).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (اللَّطِيف):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (اللطيف) من الصفات، ودلالته على التوحيد:
الله سُبْحَانَهُ هو اللطيف الذي دق علمه فأدرك الخفايا، وأحاط بكل شيء فلا يفوت علمه شيء من الخبايا؛ يقول تَعَالَى- على لسان لقمان-:{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]، قال ابن كثير رحمه الله:«ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء، أو غائبة ذاهبة في أرجاء السموات أو الأرض، فإن الله يأتي بها؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض؛ ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي: لطيف العلم، فلا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت وتضاءلت {خَبِيرٌ} بدبيب النمل في الليل البهيم»
(1)
.
وهو اللطيف الذي أوصل بره وإحسانه لعباده بطرق خفية لم يحتسبوها.
(1)
تفسير ابن كثير (6/ 338).
ومن مظاهر لطفه سُبْحَانَهُ:
خلق الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث، وحفظه فيها، وتغذيته بواسطة السرة، إلى أن ينفصل، فيستقل بالتناول بالفم، ثم إلهامه إياه عند الانفصال التقام الثدي وامتصاصه ولو في ظلام الليل، من غير تعليم ولا مشاهدة
(1)
.
ومن لطفه أنه يعلم مواقع القطر من الأرض، وبذور الأرض في باطنها، فيسوق ذلك الماء إلى ذلك البذر، الذي خفي على علم الخلائق فينبت منه أنواع النبات؛ لذا قال تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)} [الحج: 63].
ومن لطف الله بعباده: أنه يقدر أرزاقهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم، فقد يريدون شيئًا وغيره أصلح، فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه لطفًا بهم وبرًّا وإحسانًا، قال تَعَالَى:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19]، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27].
ومن لطفه بعباده المؤمنين: أنه يتولاهم بلطفه، فيخرجهم من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل، والكفر، والبدع، والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة.
ومن لطفه بعباده: أن يقدر لهم أن يتربوا في ولاية أهل الصلاح، والعلم، والإيمان، وبين أهل الخير ليكتسبوا من أدبهم، وتأديبهم وصلاحهم
(1)
ينظر: المقصد الأسنى، للغزالي (ص: 101).
وإصلاحهم، كما امتن الله على مريم في قوله تَعَالَى:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] إلى آخر قصتها، ومن ذلك إذا نشأ بين أبوين صالحين وأقارب أتقياء، أو في بلد صلاح، أو وفقه الله لمقارنة أهل الخير وصحبتهم، أو لتربية العلماء الربانيين، فإن هذا من أعظم لطفه بعبده، فإن صلاح العبد موقوف على أسباب كثيرة منها، بل من أكثرها وأعظمها نفعًا هذه الحالة.
ومن لطف الله بعباده: أن يجعل رزقهم حلالًا في راحة وقناعة يحصل به المقصود، ولا يشغلهم عما خُلقوا له من العبادة والعلم والعمل، بل يعينهم على ذلك، ويفرغهم ويريح خاطرهم وأعضاءهم، ولهذا من لطف الله تَعَالَى لعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية التي يظن فيها إدراك بغيته، فيعلم الله تَعَالَى أنها تضره وتصده عما ينفعه، فيحول بينه وبينها، فيظل العبد كارهًا، ولم يدر أن ربه قد لطف به حيث أبقى له الأمر النافع، وصرف عنه الأمر الضار، قال تَعَالَى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، ولهذا كان الرضى بالقضاء في مثل هذه الأشياء من أعلى المنازل.
ومن لطف الله بعباده: أنه إذا قدر لهم طاعة جليلة لا تنال إلا بأعوان، أن يقدر لهم أعوانًا عليها ومساعدين على حملها؛ قال موسى عليه السلام:{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 29 - 34]، فامتن الله عليه بإجابته لسؤاله سُبْحَانَهُ:{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه: 36 - 37]، وكذلك امتن على عيسى عليه السلام بقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي
وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]، وامتن على سيد الخلق في قوله تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62].
ومن لطف الله بعباده: أن يعطي عباده من الأولاد، والأموال، والأزواج ما به تقر أعينهم في الدنيا، ويحصل لهم السرور، ثم يبتليهم ببعض ذلك ويأخذه، ويعوضهم عليه الأجر العظيم إذا صبر واحتسب، فنعمة الله عليه بأخذه على هذا الوجه أعظم من نعمته عليه في وجوده وقضاء مجرد وطره الدنيوي منه، وهذا- أيضًا- خير وأجر خارج عن أحوال العبد بنفسه، بل هو لطف من الله له أن قيض له أسبابًا أعاضه عليها الثواب الجزيل، والأجر الجميل.
ومن لطف الله بعبده: قدر الواردات الكثيرة، والأشغال المتنوعة، والتدبيرات، والمتعلقات الداخلة والخارجة التي لو قُسمت على أمة من الناس لعجزت قواهم عنها أن يمنَّ عليه بخلق واسع، وصدر متسع، وقلب منشرح؛ بحيث يعطي كل فرد من أفرادها نظرًا ثاقبًا وتدبيرًا تامًّا وهو غير مكترث ولا منزعج لكثرتها وتفاوتها، بل قد أعانه الله تَعَالَى عليها ولطف به فيها، ولطف له في تسهيل أسبابها وطرقها.
وإذا أردت أن تعرف هذا الأمر، فانظر إلى حالة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله بصلاح الدارين وحصول السعادتين، وبعثه مكملًا لنفسه ومكملًا لأمة عظيمة هي خير الأمم، ومع هذا مكنه الله ببعض عمره الشريف في نحو ثلث عمره أن يقوم بأمر الله كله على كثرته وتنوعه، وأن يقيم لأمته جميع دينهم، ويعلمهم جميع أصوله وفروعه، ويخرج الله به أمة كبيرة من الظلمات إلى النور، ويحصل به من المصالح والمنافع والخير والسعادة للخاص والعام ما لا تقوم به أمة من الخلق.
ومن لطفه بعبده الحبيب عنده: إذا مالت نفسه مع شهوات النفس الضارة، واسترسلت في ذلك أن ينغصها عليه ويكدرها، فلا يكاد يتناول منها شيئًا إلا مقرونًا بالمكدرات، محشوًّا بالغصص؛ لئلا يميل معها كل الميل، كما أن من لطفه به أن يلذذ له القربات، ويحلي له الطاعات ليميل إليها كل الميل.
ومن لطيف لطف الله بعبده: أن يأجره على أعمال لم يعملها، بل عزم عليها فيعزم على قربة من القرب، ثم تنحل عزيمته لسبب من الأسباب، فلا يفعلها، فيحصل له أجرها، فانظر كيف لطف الله به فأوقعها في قلبه وأدارها في ضميره، وقد علم تَعَالَى أنه لا يفعلها؛ سوقًا لبره لعبده وإحسانه بكل طريق.
وألطف من هذا: أن يقدر تَعَالَى لعبده ويبتليه بوجود أسباب المعصية ويوفر له دواعيها، وهو تَعَالَى علم أنه لا يفعلها؛ ليكون تركه لتلك المعصية التي توفرت أسباب فعلها من أكبر الطاعات، كما لطف بيوسف عليه السلام في مراودة المرأة، وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين.
ومن لطف الله بعباده: أن يقدر خيرًا وإحسانًا من عبده، ويجزيه على يد عبده الآخر، ويجعله طريقًا إلى وصوله إلى المستحق، فيثيب اللهُ الأولَ والآخرَ.
ومن لطف الله بعباده: أن يجري بشيء من مالهم شيئًا من النفع وخيرًا لغيرهم، فيثيبهم من حيث لا يحتسبوا، فمن غرس غرسًا أو زرع زرعًا فأصابت منه روح من الأرواح المحترمة شيئًا آجر الله صاحبه، وكذلك لو كان له بهائم انتفع بدرِّها، وركوبها، والحمل عليها، أو مساكن انتفع بسكناها ولو شيئًا
قليلًا، أو ماعون ونحوه انتفع به، أو عين شرب منها، وغير ذلك ككتاب انتفع به في تعلم شيء منه، أو مصحف قرأ فيه، والله ذو الفضل العظيم.
ومن لطف الله بعباده: أن يفتح لهم بابًا من أبواب الخير لم يكن لهم على بال، وليس ذلك لقلة رغبتهم فيه، وإنما هو غفلة منهم وذهول عن ذلك الطريق، فلم يشعروا إلا وقد وجد في قلوبهم الداعي إليه والملفت إليه، فيفرحوا بذلك
(1)
.
وما مضى شيئ يسير من ألطافه سُبْحَانَهُ الخفية، أما ألطافه الظاهرة فهي في كل نعمة من نعمه سُبْحَانَهُ التي لا تعد ولا تحصى مما يشاهد في الآفاق، يقول تَعَالَى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، ولو استعرض لطفه سُبْحَانَهُ في نعمه الظاهرة لفنيت الأعمار ولم ندرك لها عدًّا.
ويكفي ذكر لطفه سُبْحَانَهُ في تيسير لقمة واحدة يتناولها العبد من غير كلفة يتجشمها، وقد تعاون على إصلاحها خلق كثير من مصلح الأرض، وزارعها، وساقيها، وحاصدها، ومنقيها، وطاحنها، وعاجنها، وخابزها، وتيسير مضغها مما وضع الله في الفم من أسنان طاحنة وقاطعة، ولسان يدير اللقمة ويسهلها للبلع، ولعاب يسهل مرورها في المريء، إلى آخر هذه الألطاف الربانية
(2)
.
وفي ألطافه سُبْحَانَهُ دليل على توحيده، وأنه المألوه وحده دون ما سواه، وذلك أن «من عرف أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها من الله، وأنه ما من نقمة ولا شدة ولا كربة إلا وهو الذي ينفرد بدفعها، وأن أحدًا من
(1)
ينظر: المواهب الربانية من الآيات القرآنية، للسعدي (ص: 71 - 76).
(2)
ينظر: المقصد الأسنى، للغزالي (ص: 102).
الخلق لا يملك لنفسه- فضلًا عن غيره- جلب نعمة ولا دفع نقمة، تيقن أن عبودية ما سوى الله من أبطل الباطل، وأن العبودية لا تنبغي إلا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار»
(1)
.
وكما أن اسم الله (اللطيف) دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال على الأسماء والصفات؛ إذ يدل على اسم الله الرؤوف، والرحمن، والرحيم، والطيب، إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
الأثر الثاني: مراقبة اللطيف سُبْحَانَهُ:
إذا علم العبد أن ربه لطيف دق علمه، محيط بكل صغير وكبير، كما قال سُبْحَانَهُ:{يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] أورثه ذلك مراقبته عز وجل.
يقول السعدي رحمه الله: «والمقصود من هذا: الحث على مراقبة الله، والعمل بطاعته، مهما أمكن، والترهيب من عمل القبيح، قل أو كثر»
(2)
.
وأورثه- أيضًا- محاسبة نفسه على أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، فإنه في كل وقت وحين، بين يدي اللطيف الخبير، قال تَعَالَى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، يقول الحسن رحمه الله في ذلك-: «إن المؤمن- والله- لا تراه إلا قائمًا على نفسه: ما أردت بكلمة كذا؟ ما أردت بأكلة كذا؟ ما أردت بمدخل كذا، ومخرج كذا؟ ما أردت بهذا؟ ما لي ولهذا؟
(1)
تفسير السعدي (ص: 125).
(2)
المرجع السابق (ص: 6 وما بعدها).
والله لا أعود إلى هذا! فبمحاسبتها يطلع على عيوبها ونقائصها فيسعي في إصلاحها»
(1)
.
وأورثه كذلك الحرص على إصلاح باطنه والعناية به؛ فإن الناس وإن لم يروا إلا الظاهر، إلا أن (اللطيف) يرى باطنه، فلا يليق بالمؤمن أن يهمله.
الأثر الثالث: لطف الله بعباده في المصائب والابتلاءات:
إن اللطف الذي يطلبه العباد من الله بلسان المقال، ولسان الحال هو من الرحمة، بل هو رحمة خاصة، فالرحمة التي تصل العبد من حيث لا يشعر بها أو لا يشعر بأسبابها هي اللطف، وعليه فمن لطف الله بعباده أن جعل المصائب بأنواعها، والمحن بأصنافها، والابتلاءات كلها، في حقيقتها رحمة من اللطيف ولطفًا، وسوقًا إلى مراتب النقاء والكمال، يقول سُبْحَانَهُ:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
ومن لطفه سُبْحَانَهُ: أن يوفق عبده في البلايا والمصائب بالقيام بوظيفة الصبر فيها، فيناله درجات عالية لا يدركها بعمله، وقد يشدد عليه الابتلاء بذلك كما فعل بأيوب عليه السلام، ويوجِد في قلبه حلاوة روح الرجاء وتأميل الرحمة، وكشف الضر، فيخف ألمه وتنشط نفسه، ولهذا من لطف الله بالمؤمنين أن جعل في قلوبهم احتساب الأجر فخفت مصائبهم، وهان ما يلقون من المشاق في حصول مرضاته.
ومن لطفه سُبْحَانَهُ: أن يرزق أولياءه وقت المصيبة العظيمة السكينة والتثبيت، يقول ابن القيم رحمه الله: «وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 510 - 511).
والسكون، الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات؛ ولهذا أخبر سُبْحَانَهُ عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب، كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رءوسهم، لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما، وكيوم حنين حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار، لا يلوي أحد منهم على أحد، وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم، ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس، وحسبك بضعف عمر رضي الله عنه عن حملها- وهو عمر- حتى ثبته الله بالصِّدِّيق رضي الله عنه»
(1)
.
ومن لطف سُبْحَانَهُ بعبده الضعيف: أن يعافيه من أسباب الابتلاء التي تضعف إيمانه وتنقص يقينه، كما لطف بالمؤمن القوي، فهيأ له أسباب الابتلاء والامتحان، وأعانه عليها، فزاد بذلك إيمانه وعظم أجره، فسبحان اللطيف في ابتلائه، وعافيته، وعطائه، ومنعه
(2)
.
ومن تأمل في قصص أنبياء الله، رأى في ظاهرها محنًا وابتلاءات، ولكنها في الباطن طرق خفية أدخلهم بها إلى غاية كمالهم وسعادتهم، ومن شواهد ذلك:
أكل آدم من الشجرة التي نهى عنها، وإخراجه بسببها من الجنة، كم فيه من حكمة بالغة لا تهتدي العقول إلى تفاصيلها!
- في قصة موسى، وما لطف له من إخراجه في وقت ذبح فرعون
(1)
مدارج السالكين (2/ 503).
(2)
ينظر: المواهب الربانية من الآيات القرآنية، للسعدي (71 - 76).
للأطفال، ووحيه إلى أمه أن تلقيه في اليم، وسوقه بلطفه إلى دار عدوه الذي قدر هلاكه على يديه، ثم قدر له سببًا أخرجه من مصر وأوصله به إلى موضع لا حكم لفرعون عليه، ثم قدر له سببًا أوصله به إلى النكاح والغنى، ثم ساقه إلى بلد عدوه، فأقام عليه به حجته، ثم أخرجه وقومه في صورة الهاربين الفارين منه، وكان ذلك عين نصرتهم على أعدائهم وإهلاكهم وهم ينظرون.
في قصة يوسف حين قص على يعقوب رؤياه؛ فعلم أن أخوته سيكيدون له، ثم تآمر إخوة يوسف أن يقتلوه، فلطف به وأشار لهم أخوهم بعدم قتله وإلقائه في الجب، ثم ما آلمه في الجب من خوف وظلمة، وبعد ذلك شراء عزيز مصر له، ومراودة امرأة العزيز والنسوة له، ومكثه في السجن سنين، فلطف به (اللطيف) وأوَّل رؤيا الفتيين، ثم الملك، وسبحان من لطف به بهذه الرؤيا حتى يمكَّن في مصر، فيقدر الله الجدب للبلاد حتى يلتقي بإخوته، حتى جاء بأبيه وإخوته لأرض مصر، وما زال في كل ذلك صابرًا محسنًا، ليقول- بعد كل هذه البلايا والمحن-:{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 100].
وهذا كله مما يبين أنه سُبْحَانَهُ يفعل ما يفعله لما يريده من العواقب الحميدة، والحكم العظيمة، التي لا تدركها عقول الخلق، مع ما في ضمنها من الرحمة التامة والنعمة السابغة، والتعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته، وكذلك ما قدره لسيد ولده من الأمور التي أوصله بها إلى أشرف غاياته، وأوصله بالطرق الخفية فيها إلى أحمد العواقب، فتبارك اللطيف الرحيم الحكيم سُبْحَانَهُ
(1)
.
(1)
بنظر: شفاء العليل، لابن القيم (12/ 14).
الأثر الثالث: محبة الله اللطيف:
فاللطيف يلطف بعباده المؤمنين، ويحسن إليهم، ويرفق بهم، فلا يعجل عليهم العقوبة، ويسوق لهم الخير من حيث يحتسبون، ومن حيث لا يحتسبون، بل يسوق لهم الخير من حيث يكرهون، كل هذا وغيره من ألطاف الله يدعو القلوب لمحبته والتعلق به سُبْحَانَهُ، وهذه المحبة تثمر التقرب إليه سُبْحَانَهُ بأنواع العبوديات، كما تثمر الحياء والإجلال له سُبْحَانَهُ، الذي يدفع العبد إلى تعظيم حرماته فلا يغشاها، وحدوده فلا يقربها، كما تثمر هذه المحبة الدعوة إليه سُبْحَانَهُ والجهاد في سبيله، والتضحية بالنفس والمال في سبيل مرضاته عز وجل.
الأثر الرابع: اللطف بعباد الله تعالى:
(1)
.
وقد جاءت أحاديث صحيحة كثيرة، تدعو إلى الرفق وترغب فيه:
عن المقدام بن شريح رحمه الله، قال: رَكِبَتْ عَائِشَةُ بَعِيرًا فَكَانَتْ فِيهِ صُعُوبَةٌ، فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»
(2)
.
(1)
ولله الأسماء الحسنى، للجليل (278).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2594).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ، مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ، فَارْفُقْ بِهِ»
(1)
.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ»
(2)
.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرَادَ الله عز وجل بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا، أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ»
(3)
.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ»
(4)
.
بل دلت الأحاديث على اللطف حتى مع الصغير، وللحسن بن علي رضي الله عنه قصة في ركوبه على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد وإطالته السجودَ من أجله، وقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك-:«إِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أَعْجَلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ»
(5)
، بل إن اللطف يتعدى ذلك إلى
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1828).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(25896)، والترمذي، رقم الحديث:(2013)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف الترمذي، رقم الحديث:(2013).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(25065)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(303).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2865).
(5)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(16279)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، رقم الحديث:(934)، والبيهقي في الكبرى، رقم الحديث:(3476)، والنسائي، رقم الحديث:(1140)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف النسائي، رقم الحديث:(1141).
اللطف بالحيوان والرفق به، ولذلك شواهد عديدة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «عُذِّبَتِ امْرَأةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلتْ فِيْهَا النَّارَ؛ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»
(1)
.
(2)
.
الأثر الخامس: الدعاء باسم الله اللطيف جل جلاله
-:
اعلم أن اللطف الذي يطلبه العباد من الله بلسان المقال، ولسان الحال هو من الرحمة، بل هو رحمة خاصة فالرحمة التي تصل العبد من حيث لا يشعر بها أو لا يشعر بأسبابها هي اللطف، فإذا قال العبد: يالطيف الطف بي أو لي، وأسألك لطفك، فمعناه: تولني ولاية خاصة، بها تصلح أحوالي الظاهرة والباطنة، وبها تندفع عني جميع المكروهات من الأمور الداخلية والأمور الخارجية، فالأمور الداخلية لطف بالعبد، والأمور الخارجية لطف للعبد، فإذا يسر الله عبده وسهل طريق الخير وأعانه عليه فقد لطف به، وإذا قيض الله له أسبابًا خارجية غير داخلة تحت قدرة العبد فيها صلاحه فقد لطف له
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3482).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(2675)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف أبي داود، رقم الحديث:(2675).
(3)
تفسير أسماء الله الحسنى، السعدي، رقم الحديث:(ص: 226)
يقول السعدي رحمه الله: في الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ»
(1)
اللهم الطف بنا في قضائك وبارك لنا في قدرتك حتى لا نحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت
(2)
.
وقد اشتهر بين كثير من الناس الدعاء التالي: «اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه» ، وللعلامة ابن عثيمين رحمه الله توضيح للحكم الشرعي في هذا الدعاء، فقد قال: «وفي هذا المقام ينكر على من يقولون: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه) فهذا دعاء بِدْعِي باطل، فإذا قال:(اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه) معناه: أنه مستغن، أي: افعل ما شئت، ولكن خفف وهذا غلط، فالإنسان يسأل الله عز وجل رفع البلاء نهائيًّا، فيقول- مثلًا-: اللهم عافني، اللهم ارزقني وما أشبه ذلك.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللهمَّ اِغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ»
(3)
فقولك: (لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه) أشد، واعلم أن الدعاء قد يردُّ القضاء، كما جاء في الحديث:«لَا يَرُدُّ القَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ»
(4)
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3491)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث (3491).
(2)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 226).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7477)، ومسلم، رقم الحديث:(2679).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22848)، وابن ماجه، رقم الحديث:(90)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف ابن ماجه، رقم الحديث:(90).
(5)
شرح الأربعين النووية، لابن عثيمين (ص: 66).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدعاء ما شاء من القدر»
(1)
، وقال أيضًا:«الدعاء يدفع القدر»
(2)
، وكان عمر رضي الله عنه يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول:«اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني، وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب»
(3)
.
اللهم إنا نسألك لطفك يا لطيفًا بالعباد.
(1)
أخرجه الحاكم، رقم الحديث:(3353)، والبيهقي في القضاء والقدر، رقم الحديث:(254).
(2)
أخرجه البيهقي في القضاء والقدر، رقم الحديث:(253).
(3)
أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى، رقم الحديث:(1565).
الله جل جلاله
-
المعنى اللغوي للاسم الأعظم (الله):
اختلف العلماء هل اسم (الله) مشتق، أم هو اسم جامد؟
على قولين؛ أصحهما: أنه مشتق، وأصل اشتقاقه من (إله)
(1)
.
قال الجوهري رحمه الله: «أله بالفتح إلاهةً، أي: عبد عبادةً، ومنه قرأ ابن عباس رضي الله عنهما:(ويذرك وإلاهتك) بكسر الهمزة، قال: وعبادتك
…
ومنه قولنا: (الله)، وأصله: إلاه، على فعال، بمعنى: مفعول؛ لأنه مألوه، أي: معبود، كقولنا: إمام فعال، بمعنى: مفعول؛ لأنه مؤتم به، فلما أدخلت عليه الألف واللام، حذفت الهمزة تخفيفًا؛ لكثرته في الكلام
…
والتأليه: التعبيد، والتأله: التنسك والتعبد»
(2)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الهمزة واللام والهاء أصل واحد، وهو التعبد، فالإله: الله تَعَالَى، وسمي بذلك؛ لأنه معبود، ويقال: تأله الرجل: إذا تعبد»
(3)
.
(1)
ينظر: بدائع الفوائد، لابن القيم (1/ 26).
(2)
الصحاح (6/ 2223).
(3)
مقاييس اللغة (1/ 127).
ورود اسم (الله) في القرآن الكريم:
ورد لفظ الجلالة (الله) -جل وعلا-، في القرآن الكريم (2724) مرةً:
ومن وروده في القرآن ما يلي:
1 -
قال تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]
2 -
قال تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2].
3 -
قال تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
ورود اسم (الله) في السنة النبوية:
ورد اسم (الله) في السنة النبوية مرات كثيرة، ومن وروده ما يلي:
1 -
(1)
.
2 -
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الله لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(20).
(2)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(100)، و مسلم، رقم الحديث:(2673).
3 -
(1)
.
معنى اسم (الله) جل جلاله
-:
يدور اسم (الله) على معنيين عظيمين متلازمين:
المعنى الأول: هو الإله الجامع لجميع صفات الألوهية.
المعنى الثاني: هو المألوه، أي: المعبود الذي لا يستحق العبادة أحد سواه.
ومن أقوال العلماء في ذلك:
من الأقوال التي تجمع بين المعنى الأول والثاني:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «(الله) ذو الألوهية والمعبودية على خلقه أجمعين»
(2)
.
قال القرطبي رحمه الله: «فـ (الله) اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو سُبْحَانَهُ، وقيل: معناه الذي يستحق أن يعبد»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(831)، ومسلم، رقم الحديث:(402).
(2)
تفسير الطبري (1/ 123).
(3)
تفسير القرطبي (1/ 102).
قال ابن القيم رحمه الله: «الإله هو المستحق لصفات الكمال المنعوت بنعوت الجلال، وهو الذي تألهه القلوب، وتصمد إليه بالحب والخوف والرجاء»
(1)
.
قال السعدي رحمه الله: «الله: هو المألوه المعبود، ذو الألوهية، والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال»
(2)
.
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال الطبري رحمه الله: «وأما تأويل قول الله تَعَالَى ذكره (الله)، فإنه على معنى ما روي لنا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: هو الذي يألهه كل شيء، ويعبده كل خلق»
(3)
.
قال الزجاج رحمه الله في معنى اسم (الله): «ومعنى قولنا: إلاه، إنما هو الذي يستحق العبادة، وهو تَعَالَى المستحق لها دون من سواه»
(4)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «معنى الإله في الحقيقة: هو ذو الألوهية أي: المستحق للألوهية والعبادة، والمعبود إنما هو اسم المفعول من عبد فهو معبود، وإنما قيل: تألهنا أي: تعبدنا
…
»
(5)
.
(1)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 139).
(2)
تفسير السعدي (ص: 945).
(3)
تفسير الطبري (1/ 122).
(4)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 26).
(5)
اشتقاق أسماء الله (ص: 30).
قال الحليمي رحمه الله: «الله، ومعناه: إله، وهذا أكثر الأسماء وأجمعها للمعاني»
(1)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: «الإله هو المألوه، أي: المستحق لأن يؤله، أي: يُعبد، ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا الله وحده»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «واسم (الله) دال على كونه مألوهًا معبودًا، تألهه الخلائق محبة، وتعظيمًا، وخضوعًا، وفزعًا إليه في الحوائج والنوائب»
(3)
(4)
.
لفظ الجلالة (الله) والاسم الأعظم:
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة من الأحاديث أن لله عز وجل اسمًا أعظم، إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.
(5)
.
(1)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 190).
(2)
مجموع الفتاوى (13/ 202).
(3)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 56).
(4)
مدارج السالكين (3/ 27).
(5)
مجموع الفوائد واقتناص الأوابد (ص: 250).
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تعيينه على نحو من عشرين قولًا
(1)
، أشهرها وأقواها ثلاثة:
الأول: أن الاسم الأعظم (الله) جل جلاله.
الثاني: أن الاسم الأعظم (الحي القيوم) جل جلاله.
الثالث: أن الاسم الأعظم كل اسم مفرد أو مقرون مع غيره إذا دل على جميع صفات الله عز وجل الذاتية والفعلية.
قال بالأول: أكثر أهل العلم رحمهم الله، منهم: أبو حنيفة، والطحاوي
(2)
، وابن منده
(3)
، والرازي
(4)
.
واستدلوا: بما خص الله به هذا الاسم من خصائص وميزات، منها
(5)
:
1 -
أنه الأصل لجميع أسماء الله الحسنى، فسائر الأسماء تضاف إليه وتجري معه مجرى الصفات مع الأسماء، فيقال: الرحمن الرحيم، الخالق الرازق، الحي القيوم، العزيز الحكيم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحمن، ولا من أسماء العزيز ونحو ذلك، كما قال سُبْحَانَهُ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ
(1)
تراجع في: فتح الباري، لابن حجر (11/ 224).
(2)
ينظر: شرح مشكل الآثار (1/ 161).
(3)
ينظر: التوحيد (2/ 21).
(4)
ينظر: تفسير الرازي (1/ 111).
(5)
ينظر: مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 32 - 33)، والنهج الأسمى، للنجدي (ص: 65) وما بعدها.
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 - 24]، وقال تَعَالَى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] فأضاف سائر الأسماء إليه، ولا شك أن الموصوف أشرف وأعظم من الصفة.
2 -
أنه مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفاته.
3 -
أنه اسم خاص بالله عز وجل، لم يتسم به أحد سواه، ولم يدع به شيء غيره؛ فقد قبض الله عنه الألسن، وكاد يتعاطاه المشركون اسمًا لبعض أصنامهم التي كانوا يعبدونها، فصرفهم الله إلى «اللات» صيانة لهذا الاسم، وذبًّا عنه، قال تَعَالَى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] أي- على أحد أوجه التفسير-: هل تعلم أحدًا يسُمَّى الله غير الله، أو يقال له: الله إلا الله؟!
(1)
.
4 -
أنه لا يسقط عنه الألف واللام في حال النداء، فيقال: يا الله، فصار الألف واللام كالجزء الأساسي في الاسم، بخلاف سائر الأسماء؛ فإن النداء إذا دخل عليها أسقط عنها الألف واللام، فيقال: يا رحمن، يا عزيز، يا حليم، ولا يقال: يا الرحمن، يا العزيز، يا الحليم.
وفي هذا إشارة إلى أن هذا الاسم العظيم معرفة أبدًا، لا تزول ألبتة؛ وذلك أن الألف واللام للتعريف؛ فعدم سقوطهما دال على ذلك.
(1)
ينظر: اشتقاق أسماء الله، للزجاجي (ص: 31)، وشأن الدعاء، للخطابي (1/ 30)، والمنهاج في شعب الإيمان، للحليمي (1/ 190)، وتفسير القرطبي (11/ 130)، وتفسير ابن كثير (1/ 122 - 123).
5 -
أنه أكثر الأسماء ورودًا في القرآن، فقد ورد (2724) مرةً، وهذا ما لم يقع لغيره من الأسماء.
6 -
أنه مقترن بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، التي لا يصح إسلام الكافر إلا بها، ولو استبدلت بغيرها، فقيل: أشهد أن لا إله إلا الرحمن الرحيم، لم يصح في الدخول للإسلام، والخروج من الكفر.
7 -
أنه الاسم الذي تعرف الله به إلى عباده، كما في قوله تَعَالَى لموسى:{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 13 - 14]، وقال في مطلع آية الكرسي معرفًا بنفسه لعباده:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255].
8 -
أنه أكثر الأسماء دعاء به، حيث يقال:(اللهم)، ومعناها: يا الله؛ ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب، فلا يقال: اللهم غفور رحيم، بل يقال: اللهم اغفر لي وارحمني.
ومن دعاء الله بها قوله تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46]، وقوله:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند النوم: «اللهمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ؛ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ،
…
» الدعاء
(1)
، ويدعو في سجوده: «اللهمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7488).
وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»
(1)
.
إلى غير ذلك من الخصائص اللفظية لهذا الاسم الكريم، وأما الخصائص المعنوية له، فقد قال فيها ابن القيم رحمه الله: «وأما خصائصه المعنوية فقد قال فيها أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم: (لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)، وكيف تحصى خصائص اسم مسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح، وكل حمد، وكل ثناء، وكل مجد، وكل جلال، وكل إكرام، وكل عز، وكل جمال، وكل خير وإحسان وجود وبر وفضل فله ومنه؟!
فما ذُكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنيًّا، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه، فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنزل به البركات والدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتستجلب به الحسنات»
(2)
.
لا سيما وقد ورد هذا الاسم الكريم في جميع الأحاديث التي فيها الإشارة إلى الاسم الأعظم، ومن ذلك:
حديث بريدة رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(486).
(2)
نقله عنه: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، لسليمان ابن عبد الوهاب (ص: 14).
يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ الله بِالِاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ»
(1)
.
حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْن: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، وفاتحة سورة آل عمران: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 1 - 2]» .
(2)
(3)
.
وقال بالثاني: أن اسم الله الأعظم: (الحي القيوم): بعض أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية
(4)
، وابن القيم
(5)
، وابن عثيمين
(6)
رحمهم الله.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(23508)، وأبو داود، رقم الحديث:(1493). حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1493).
(2)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(3855)، وأبو داود، رقم الحديث:(1496)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1496).
(3)
أخرجه أحمد واللفظ له، رقم الحديث:(12806)، وأبو داود، رقم الحديث:(1495)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1495).
(4)
ينظر: مجموع الفتاوى (18/ 311).
(5)
ينظر: زاد المعاد (4/ 185).
(6)
ينظر: تفسير العثيمين (3/ 258).
واستدلوا: بما تضمنهما هذين الاسمين الجليلين من دلالة على سائر الأسماء، قال ابن القيم رحمه الله:«صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال؛ ولهذا كان اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى هو اسم الحي القيوم»
(1)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «قال أهل العلم: وإنما كان الاسم الأعظم في اجتماع هذين الاسمين؛ لأنهما تضمنا جميع الأسماء الحسنى؛ فصفة الكمال في (الحي)؛ وصفة الإحسان، والسلطان في (القيوم)»
(2)
.
وقال بالثالث: أن الاسم الأعظم كل اسم مفرد أو مقرون مع غيره إذا دل على جميع صفات الله عز وجل الذاتية والفعلية.
الشيخ السعدي رحمه الله، حيث يقول: «فالصواب: أن الأسماء الحسنى كلها حسنى، وكل واحد منها عظيم، ولكن الاسم الأعظم منها كل اسم مفرد أو مقرون مع غيره إذا دل على جميع صفاته الذاتية والفعلية، أو دل على معاني جميع الصفات، مثل:
(الله) فإنه الاسم الجامع لمعاني الألوهية كلها، وهي جميع أوصاف الكمال، ومثل:(الحميد المجيد) فإن (الحميد) الاسم الذي دل على جميع المحامد والكمالات لله تَعَالَى، و (المجيد) الذي دل على أوصاف العظمة والجلال ويقرب من ذلك (الجليل الجميل الغني الكريم).
ومثل: (الحي القيوم)، فإن (الحي) من له الحياة الكاملة العظيمة الجامعة لجميع معاني الذات، و (القيوم) الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع
(1)
زاد المعاد (4/ 185).
(2)
تفسير العثيمين (3/ 258).
خلقه، وقام بجميع الموجودات، فهو الاسم الذي تدخل فيه صفات الأفعال كلها.
ومثل: اسمه (العظيم الكبير) الذي له جميع معاني العظمة والكبرياء في ذاته وأسمائه وصفاته، وله جميع معاني التعظيم من خواص خلقه.
ومثل قولك: (يا ذا الجلال والإكرام) فإن الجلال صفات العظمة والكبرياء، والكمالات المتنوعة، والإكرام استحقاقه على عباده غاية الحب، وغاية الذل وما أشبه ذلك.
فعلم بذلك أن الاسم الأعظم اسم جنس، وهذا هو الذي تدل عليه الأدلة الشرعية والاشتقاق، كما في السنة أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول:«اللهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، فقال: «لَقَدْ سَأَلْتَ اللهَ بِالاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ»
(1)
»
(2)
.
ومما سبق يظهر- والله أعلم- رجحان كون الاسم الأعظم هو اسم (الله) جل جلاله؛ لقوة أدلته وظهورها.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
مجموع الفوائد واقتناص الأوابد (ص: 250 - 252).
الآثار المسلكية للإيمان باسم (الله):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم (الله) من الصفات:
الله تَعَالَى هو ذو الألوهية التي بها استحق أن يكون المعبود المألوه الحق، بل استحق ألا يشاركه في هذا الوصف العظيم أحد سواه، كما قال تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]، وقال سُبْحَانَهُ:{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32].
اتصف بصفات الألوهية التي تجمع صفات الكمال، وأوصاف الجلال والعظمة والجمال، وأوصاف الرحمة والبر والكرم والإحسان، قال تَعَالَى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8]، وقال سُبْحَانَهُ:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22 - 24]، فاستحق بهذه الصفات أن يُعبد ويُؤلَه.
فهو المألوه لانفراده بالحياة التامة والقيومية المطلقة، قال تَعَالَى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وقال:{هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65].
وهو المألوه لانفراده بالربوبية خلقًا ورزقًا وملكًا وتدبيرًا وضرًّا ونفعًا، كما قال سُبْحَانَهُ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102]، وقال جل في علاه:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 2 - 3]، وقال تَعَالَى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ} [القصص: 71]، وقال تَعَالَى:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116].
وهو المألوه لانفراده بالرحمة وإيصال النعم الظاهرة والباطنة إلى جميع خلقه، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، وقال تَعَالَى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].
وهو المألوه لما له من إحاطة بكل شيء علمًا وحكمًا وحكمة وعزة وقهرًا، قال تَعَالَى:{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]، وقال تَعَالَى:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6]، وقال تَعَالَى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65].
وهو المألوه لانفراده بالغنى المطلق التام من كل وجه، كما أن كل من سواه مفتقر إليه على الدوام من كل وجه، مفتقر إليه في إيجاده وتدبيره، مفتقر إليه في إمداده ورزقه، مفتقر إليه في حاجاته ومطالبه كلها، مفتقر إليه في أعظم الحاجات وأشد الضرورات قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقال سُبْحَانَهُ:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] فتبارك الله الإله الحق
(1)
.
وهو الإله الذي يعبده ويتأله له من في السموات والأرض، قال تَعَالَى:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 84] فتألهه الخلائق أجمعون بالاستسلام والانقياد طوعًا أو كرهًا، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]
حتى سجد وخضع له ظلالهم بالغدو والآصال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]، ولهج الناطق منهم وغير الناطق من الأشجار والنبات والجماد والأموات مسبحًا بحمده:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وتوجه له بالتضرع والاستغاثة في النوائب والشدائد البر والفاجر، قال تَعَالَى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]
(2)
، وأبت القلوب والأرواح السكون إلا إليه، والاطمئنان إلا بذكره، والفرح إلا بمعرفته، قال تَعَالَى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123 - 124]، فتبارك الله إله العالمين.
(1)
ينظر: فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 29 - 30).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 442، 459، 462، 770).
الأثر الثاني: دلالة اسم (الله) على التوحيد:
معرفة العبد لاسم الله جل جلاله وما فيه من معانٍ، تقوده إلى توحيده بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
فأما توحيده بالربوبية:
فإذا عمل العبد بمقتضى اسم (الله) جل جلاله من التعبد والتأله، تضمن عمله توحيد الربوبية، من جهة: أن من عبد الله ولم يشرك معه شيئًا، لا شك أنه يعتقد أنه ربه الخالق والمالك له الذي لا رب له غيره.
قال ابن تيمية رحمه الله: «قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [المؤمنون: 116] فإنه يقتضي انفراده بالألوهية، وذلك يتضمن انفراده بالربوبية، وأن ما سواه عبد له مفتقر إليه، وأنه خالق ما سواه ومعبوده»
(1)
.
وأما توحيده بالألوهية:
فإذا تدبر العبد اسم (الله) جل جلاله وآمن بما فيه من معاني الألوهية في الصفات والأفعال التي لا مشارك له فيها؛ علم أنه المعبود الحق الذي لا يستحق أن يعبد أحد سواه، وأن كل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل
(2)
، وهذه حقيقة كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، التي لا تتم إلا بركنيها:
نفي العبودية عن ما سوى الله عز وجل.
إثبات العبودية لله وحده، قال تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ
(1)
الصفدية (2/ 64).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (13/ 202، 204)، المواهب الربانية من الآيات القرآنية، للسعدي (ص: 107).
إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26 - 28]، وقال سُبْحَانَهُ:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62]، وقال تَعَالَى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64]، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛ حَرُم مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ عز وجل»
(1)
(2)
.
وتحقيق هذا المعنى إنما خلق الله الإنس والجن لأجله، قال تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فأرسل فيهم الرسل وأنزل إليهم الكتب داعية إليه، قال تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
قال ابن القيم رحمه الله: «فالتوحيد الذي جاءت به الرسل هو: إفراد الرب بالتأله الذي هو كمال الذل والخضوع والانقياد له، مع كمال المحبة والإثابة، وبذل الجهد في طاعته ومرضاته، وإيثار محابه ومراده الديني على محبة العبد ومراده؛ فهذا أصل دعوة الرسل، وإليه دَعَوا الأمم، وهو التوحيد الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو الذي أمر به رسله،
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(23).
(2)
ينظر: ثلاثة الأصول (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الأول)(ص: 190)، كتاب التوحيد، لمحمد بن عبد الوهاب (ص: 36 - 37)، والقول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 158).
وأنزل به كتبه، ودعا إليه عباده، ووضع لهم دار الثواب والعقاب لأجله، وشرع الشرائع لتكميله وتحصيله»
(1)
.
ونوَّع سُبْحَانَهُ الأدلة والبراهين على هذا الأصل العظيم، ونفى ضده تحقيقًا له، ومن ذلك
(2)
:
1 -
الاستدلال بالربوبية على الألوهية، فمن عرف أنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور؛ أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، قال تَعَالَى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32]، وقال سُبْحَانَهُ:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 59 - 60] الآيات.
ومن عرف أنه المنفرد بجلب النعم ودفع النقم، فما من نعمة ظاهرة ولا باطنة قليلة أو كثيرة إلا منه سُبْحَانَهُ، و ما من نقمة ولا شدة ولا كربة إلا وهو الذي ينفرد بدفعها، وإن أحدًا من الخلق لا يملك لنفسه- فضلًا عن غيره- جلب نعمة ولا دفع نقمة، تيقن أن عبودية ما سوى الله من أبطل الباطل، وأن العبودية لا تنبغي إلا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار، قال تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ
(1)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص 139).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 125، 640)، القواعد الحسان لتفسير القرآن، للسعدي (ص: 18 - 19)، المواهب الربانية من الآيات القرآنية، للسعدي (ص: 107).
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 17 - 18] الآيات، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 53 - 54]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11].
2 -
الاستدلال بما له من صفات على الألوهية، فمن عرف صفات كماله وأنه لا يماثله شيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله علم أنه المعبود الحق الذي لا يستحق أي مخلوق كائنًا من كان أن يعبد معه، قال تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]،
وقال تبارك وتعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]، وقال سُبْحَانَهُ:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ} [الحشر: 22 - 23] الآيات.
قال ابن تيمية رحمه الله مقررًا هذه المسألة: «والله سُبْحَانَهُ لم يذكر هذه النصوص لمجرد تقرير صفات الكمال له، بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه، فأفاد (الأصلين اللذين بهما يتم التوحيد: وهما إثبات صفات الكمال، ردًّا على أهل التعطيل، وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو، ردًّا على المشركين»
(1)
.
3 -
الاستدلال بصفات الآلهة التي عبدت من دونه على بطلان عبادتها، فإن فيها من صفات العجز، والنقص، والفقر ما يمنع كونها إلهًا يعبد، قال تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ
(1)
مجموع الفتاوى (6/ 83).
لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13 - 14]، وقال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت: 17].
4 -
ضرب الأمثلة الدالة على بطلان الشرك وقبحه، قال تَعَالَى:{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28]، وقال سُبْحَانَهُ:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41].
5 -
الاستدلال بإكرام أهل التوحيد، وإهانة وعقوبة أهل الشرك على أن التوحيد هو الموجب للنجاة، وتركه هو الموجب للهلاك، كما في ذكر الله تبارك وتعالى لقصص الرسل مع أممهم، وما فيها من نزول العذاب على أهل الشرك والنجاة لأهل التوحيد، قال تَعَالَى عن نوح عليه السلام:{فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: 64]، وقال تَعَالَى عن هود عليه السلام:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72]، وقال تَعَالَى عن صالح عليه السلام:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 66 - 67] وهكذا في بقية الرسل عليهم السلام.
وأما توحيده بالأسماء والصفات:
فقد قال ابن القيم رحمه الله: «اسم الله دال على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العليا بالدلالات الثلاث؛ فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له مع نفي أضدادها عنه.
وصفات الإلهية: هي صفات الكمال، المنزهة عن التشبيه والمثال، وعن العيوب والنقائص، ولهذا يضيف الله تَعَالَى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم، كقوله تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]
…
فعلم أن اسمه الله مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دال عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم الله»
(1)
.
الأثر الثالث: الفرح والسرور بمعرفة الله جل جلاله
-:
النفس أحوج ما تكون إلى معرفة خالقها ومعبودها الحق، ولا حاجة إليها فوق حاجتها إلى معرفته، فلا سعادة لها ولا فلاح ولا صلاح ولا نعيم ولا راحة لها إلا بمعرفة ربها ومعبودها وعبادته، فإذا عرفت معبودها الحق (الله) جل جلاله سعدت وفرحت بذلك أشد الفرح، قال ابن القيم رحمه الله:«ليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها ومحبته وذكره والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه والزلفى عنده»
(2)
.
وقال: «فإن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه، ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره، ومحبته، وعبادته وحده، والإنابة إليه، والطمأنينة بذكره، والأنس
(1)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (1/ 55).
(2)
الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، لابن القيم (ص: 9).
بقربه، ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كله، ولو تعوض عنها بما تعوض مما في الدنيا، بل ليست الدنيا بأجمعها عوضًا عن هذه الحياة، فمن كل شيء يفوت العبد عوض، وإذا فاته الله لم يعوض عنه شيء ألبتة»
(1)
.
الأثر الرابع: الاعتزاز بالله جل جلاله والتوكل عليه:
إذا تأمل العبد في اسم (الله) جل جلاله، وما فيه من صفات الكمال؛ إذ هو خالق كل شيء ومالكه، ومدبر أمره، والخاضع له كل شيء الملك والمملوك، والعزيز والذليل، والغني والفقير، والقوي والضعيف، والكبير والصغير.
إذا تأمل هذا شعر بالعزة به سُبْحَانَهُ؛ فتعلق به وحده، وسقط من قلبه الخوف والهيبة من الخلق والتعلق بهم، فلم يعتز ولم يحتم إلا به تبارك وتعالى، ولم يتوكل إلا عليه، قال تَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، فكل من عداه مدبَّر، لا يملك حولًا ولا قوة، ومصيره الفناء؛ فكم من بشر اعتز بماله فما لبث أن ضاع ذلك المال فضاع، وكم من بشر اعتز بسلطانه فجاءت النهاية بزوال سلطانه، فما كان منه إلا أن قال:{يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 25 - 29].
(2)
(1)
ينظر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم (ص: 84).
(2)
ينظر: المرجع السابق (ص: 89 - 90).
الأثر الخامس: محبة الله جل في علاه:
فُطرت القلوب على محبة من له صفات الكمال والإحسان والتفضل على الغير، والله جل جلاله لا أكمل ولا أعظم ولا أجل من صفات ألوهيته تبارك وتعالى، ولا أعظم نعمة وفضلًا على العباد منه، فمن كان هذا حاله فهو أحق من يحب، محبة عظيمة تتقدم على محبة النفس، والأهل، والولد، والناس أجمعين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المحبة:«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»
(1)
.
(2)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «وعباد الرحمن يألهونه ويعبدونه، ويبذلون له مقدورهم بالتأله القلبي، والروحي، والقولي والفعلي، بحسب مقاماتهم ومراتبهم، فيعرفون من نعوته وأوصافه ما تتسع قواهم لمعرفته، ويحبونه من كل قلوبهم محبةً تتضاءل جميع المحاب لها، فلا يعارض هذه المحبة في قلوبهم محبة الأولاد والوالدين وجميع محبوبات النفوس، بل خواصهم
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(16)، ومسلم، رقم الحديث:(43).
(2)
الفوائد، لابن القيم (ص: 183).
جعلوا كل محبوبات النفوس الدينية والدنيوية تبعًا لهذه المحبة، فلما تمت محبة الله في قلوبهم أحبوا ما أحبه من أشخاص وأعمال، وأزمنة، وأمكنة، فصارت محبتهم وكراهتهم تبعًا لإلههم وسيدهم ومحبوبهم.
ولما تمت محبة الله في قلوبهم التي هي أصل التأله والتعبد أنابوا إليه فطلبوا قربه ورضوانه، وتوسلوا إلى ذلك وإلى ثوابه بالجد والاجتهاد في فعل ما أمر الله به ورسوله، وفي ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله، وبهذا صاروا محبين محبوبين له، وبذلك تحققت عبوديتهم وألوهيتهم لربهم، وبذلك استحقوا أن يكونوا عباده حقًا، وأن يضيفهم إليه بوصف الرحمة حيث قال:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]
(1)
.
الأثر السادس: دعاء الله تَعَالَى باسمه الأعظم:
إذا آمن العبد بأن اسم (الله) جل جلاله هو الاسم الأعظم- كما سبق بيانه- الذي لا يخيب من دعا به ولا يرد، لهج بالدعاء به، ولا سيما بما ورد من الأدعية التي نص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اشتمالها على الاسم الأعظم، كالدعاء بـ:«اللهم إني أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد»
(2)
(3)
.
(1)
فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 31 - 32).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
ثم إذا صَاحَب الدعاءَ بالاسم الأعظم حضور قلب وانكسار وذلة لم تكد تُرَد الدعوة، فليحرص العبد على الإكثار من سؤال الله باسمه الأعظم موقنًا بالإجابة
(1)
.
الأثر السابع: الأذكار مقرونة باسم (الله) سُبْحَانَهُ:
خص الله عز وجل اسمه (الله) بأن جعله مقرونًا بعامة الأذكار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتحميد والتسبيح والتهليل والتكبير والحوقلة والاسترجاع والبسملة ونحوها مقرونة به غير منفكة عنه، فإذا كبر المسلم ذكره، وإذا حمد ذكره، وإذا سبح ذكره وهكذا في عامة الأذكار، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ- فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ- حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»
(2)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ الله وبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله الْعَظِيمِ»
(3)
(4)
.
ولم يشرع تبارك وتعالى ذكره بهذا الاسم مفردًا، كما يعتقد بعض الجهال من المسلمين، فيرددون لفظ الجلالة (الله) مرات عديدة، كألف أو ألفين أو أكثر، وأحيانًا يجتمعون على ذلك في حلقات وهم جالسون، أو وهم واقفون يتمايلون ذات اليمين وذات الشمال، ويقفزون بين الحين والآخر، ويصاحب
(1)
ينظر: مجموع الفوائد واقتناص الأوابد، للسعدي (ص: 235).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6405).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6682)، ومسلم، رقم الحديث:(2694).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2137).
ذلك دقات الطبول وأصوات المزامير! وتشتد الأصوات حتى لا تسمع إلا (هو هو هو) أو (آه آه آه) أو (حع حع حع)!!، ونحو ذلك مما لم ينزل الله به سلطانًا، ولم تأت به سنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ»
(1)
(2)
.
قال الإمام النووي رحمه الله: «الرد هنا بمعنى: المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتد به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات»
(3)
.
الأثر الثامن: تسمي العبد بأحب الأسماء إلى الله تعالى:
إذا علم العبد المكانة العظيمة لهذ الاسم الكريم (الله) فليعلم أن أحب الأسماء إليه ما أضيف إلى هذا الاسم، أو أضيف لاسمه الرحمن، كما جاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى الله عز وجل: عَبْدُ الله وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ»
(4)
.
وكشف الإمام ابن القيم رحمه الله سر ذلك في كلامه حول الأسماء والكنى؛ فقال رحمه الله: «ولما كان الاسم مقتضيًا لمسماه، ومؤثرًا فيه كان أحب الأسماء إلى الله ما اقتضى أحب الأوصاف إليه، كعبد الله وعبد الرحمن، وكانت إضافة العبودية إلى اسم (الله) واسم الرحمن، أحب إليه من إضافتها إلى غيرهما،
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(2697)، ومسلم، رقم الحديث:(1718).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (ص: 73 - 74).
(3)
شرح صحيح مسلم، للنووي (12/ 16).
(4)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2833)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2833).
كالقاهر والقادر، فعبدالرحمن أحب إليه من عبدالقادر، وعبدالله أحب إليه من عبدربه؛ وهذا لأن التعلق الذي بين العبد وبين ربه إنما هو العبودية المحضة، والتعلق الذي بين الله وبين العبد بالرحمة المحضة، فبرحمته كان وجوده وكمال وجوده، والغاية التي أوجده لأجلها: أن يتأله له وحده محبةً وخوفًا ورجاءً وإجلالًا وتعظيمًا، فيكون عبدًا لله، وقد عبده لما في اسم (الله) من معنى الإلهية التي يستحيل أن تكون لغيره، ولما غلبت رحمتُه غضبَه، وكانت الرحمة أحب إليه من الغضب؛ كان عبد الرحمن أحب إليه من عبد القاهر»
(1)
.
الأثر التاسع: تحقيق العبودية التامَّة لله تعالى:
إذا علم العبد معنى اسم (الله) ومافيه من صفات الألوهية؛ خضع له سبحانه، إما بالعبودية العامة أو الخاصة.
العبودية العامة: عبودية الملك والقهر والخضوع للأمر الكوني القدري التي بها تعبد أهل السماوات والأرض كلهم؛ برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، قال تَعَالَى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46].
وهذه العبودية لا يصير بها العبد مؤمنًا؛ لأنه مجبور مقهور عليها، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83].
(1)
زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم (2/ 340).
العبودية الخاصة: عبودية الطاعة، والمحبة، واتباع الأوامر، واجتناب النواهي التي بها تعبَّد أهل الإيمان لربهم عز وجل، وتتفاوت مراتبهم ودرجاتهم بناء عليها، قال تَعَالَى:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
وهذه العبودية هي التي يصير بها العبد مؤمنًا، وينال بها رضاه.
فإذا علم العبد هذا، وعلم أن نجاته وفلاحه وسعادته إنما تكون بتحقيق العبودية الخاصة لله عز وجل، قاده ذلك لتحقيقها وتكميلها
(1)
.
وفي الملحق الآتي ما يعين- بإذن الله- على تحقيق العبودية لله عز وجل.
(1)
ينظر: العبودية، لابن تيمية (ص: 50 - 54)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (1/ 125 - 126)، وتفسير السعدي (ص: 813).
«العبودية»
سنتطرق في موضوع العبودية لعدة مسائل، وهي:
أولًا: تعريف العبادة:
العبادة في اللغة:
قال الأزهري رحمه الله: «العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، ويقال: طريق معبد، إذا كان مذللًا بكثرة الوطء، وبعير معبد إذا كان مطليًّا بالقطران»
(1)
.
قال الجوهري رحمه الله: «عبد، بين العبودة والعبودية، وأصل العبودية: الخضوع والذل، والتعبيد: التذليل، يقال: طريق معبد
…
والعبادة: الطاعة، والتعبد: التنسك»
(2)
.
…
العبادة في الاصطلاح:
قال ابن جرير رحمه الله: «معنى العبادة: الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة»
(3)
.
وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله: «حقيقة العبادة: هي الأفعال الواقعة لله عز وجل، على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع»
(4)
.
(1)
تهذيب اللغة (2/ 138).
(2)
الصحاح (2/ 503).
(3)
تفسير الطبري (1/ 362).
(4)
المعتمد في أصول الدين، للقاضي أبي يعلى (103).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة»
(1)
:
ومما سبق يتبين أن العبادة تقوم على أصلين عظيمين، هما:
1 -
غاية الخضوع والذل والانقياد لله عز وجل؛ يقال: طريق معبد، أي: مذلل، فالعابد منقاد لمعبوده خاضع له.
2 -
غاية المحبة لله عز وجل؛ فإذا عظمت محبة الله في قلب العبد قادته إلى الاستقامة على طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
قال ابن تيمية رحمه الله مقررًا هذين الأصلين: «ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدًا له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له، كما قد يحب الرجل ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تَعَالَى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله عنده أعظم من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله»
(2)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: «والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع
…
فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له، لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدًا له حتى تكون محبًّا خاضعًا»
(3)
(4)
.
(1)
العبودية، لابن تيمية (ص: 44).
(2)
العبودية (ص: 48 - 49).
(3)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 95 - 96).
(4)
ينظر: العبودية مسائل وقواعد ومباحث، لآل عبد اللطيف (ص: 33).
ثانيًا: أهمية العبودية وفضلها:
دعا الله عز وجل عباده إلى عبوديته، فقال سُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، ورغبهم فيها ببيان أهميتها وما لأهلها من فضل في الدنيا والآخرة، ومن ذلك:
1 -
بيانه تبارك وتعالى أن العبودية هي الغاية من خلق الخلق، قال تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
2 -
بيانه تبارك وتعالى أنه إنما أنزل الكتب، وأرسل الرسل للدعوة إليها، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وحكى عن جملة من رسله قولهم:{يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 23]
(1)
.
3 -
بيانه تبارك وتعالى أن عبوديته حاجة فطرية فطرت قلوب الخلق للميل إليها، قال تَعَالَى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»
(2)
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله مقررًا تلك الحاجة-: «اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا في محبته، ولا في خوفه، ولا في رجائه، ولا
(1)
ينظر: العبودية، لابن تيمية (ص: 44 - 45).
(2)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(1358)، ومسلم، رقم الحديث:(2658).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 641).
في التوكل عليه، ولا في العمل له، ولا في الحلف به، ولا في النذر له، ولا في الخضوع له، ولا في التذلل والتعظيم، والسجود والتقرب- أعظم من حاجة الجسد إلى روحه، والعين إلى نورها، بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به؛ فإن حقيقة القلب روحه وقلبه، ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره
…
ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له، ورضاه وإكرامه لها»
(1)
.
وكل من استكبر عن عبادة الله التي دعته فطرته إليها عبد غيره ولا شك؛ إذ النفوس جبلت على أن تقصد شيئًا وتريده، وتستعين به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها، وتطمئن وتركن إليه، وتنتهي إليه محبتها، وهو إلهها سواء كان ذلك الله أو غيره.
قال ابن تيمية رحمه الله: «الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارًا عن عبادة الله، كان أعظم إشراكًا بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقرًا وحاجة إلى المراد المحبوب
…
فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبدًا لذلك المراد المحبوب، إما المال وإما الجاه وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهًا من دون الله كالشمس والقمر والكواكب والأوثان
…
»
(2)
(3)
.
(1)
طريق الهجرتين (ص: 57).
(2)
العبودية، لابن تيمية (ص: 100 - 101) بتصرف وتقديم.
(3)
ينظر: جامع الرسائل، لابن تيمية (2/ 231)، وتفسير السعدي (ص: 60 - 61)، والعبودية مسائل وقواعد ومباحث، لعبد العزيز آل عبد اللطيف (ص: 37 - 39، 44 - 45).
4 -
بيانه تبارك وتعالى أن شرف المخلوق وكماله إنما يكون بتحقيقها، فشرف الملائكة بها {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 - 27]، وشرف الأنبياء بها، فقال سُبْحَانَهُ عن أيوب وسليمان عليهما السلام:{نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم بوصفه بها في أعلى مقامات التكريم، فوصفه بها في مقام إنزال القرآن:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، وفي مقام الدعوة:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]، وفي مقام الإسراء:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تَعَالَى، وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته»
(2)
.
5 -
بيانه تبارك وتعالى أن العبودية لازمة للعبد في أحواله كلها، فتلزمه في حياته إلى مماته كما قال تَعَالَى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، أي: الموت، وتلزمه بعد الحياة في البرزخ حينما يسأله الملكان، وتلزمه في القيامة حينما يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود فيسجد المؤمنون ويبقى الكافرون والمنافقون لا يستطيعون السجود، فإذا وصلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف بالعبادة، وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحًا مقرونًا بأنفاسهم لا يجدون له تعبًا ولا نصبًا
(3)
.
(1)
ينظر: العبودية، لابن تيمية (ص: 46 - 47).
(2)
العبودية، لابن تيمية (ص: 80).
(3)
ينظر: مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 124).
6 -
بيانه تبارك وتعالى أن العبادة دأب ملائكته، قال تَعَالَى:{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19 - 20]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 205 - 206]، وفي هذا دعوة للاقتداء بهم.
7 -
بيانه تبارك وتعالى أن إحسان العبودية وتكميلها أعلى مراتب الدين؛ قال صلى الله عليه وسلم عن الإحسان: «أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
(1)
(2)
.
8 -
بيانه تبارك وتعالى ثواب أهلها في الدارين، ومن ذلك:
أ- عدم تسلط الشيطان عليهم؛ قال تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 65]، وقال سُبْحَانَهُ عن إبليس:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39 - 40].
ب- حفظهم من المعاصي والمنكرات، قال تَعَالَى عن نبيه يوسف عليه السلام:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(50)، ومسلم، رقم الحديث:(8).
(2)
ينظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (1/ 124).
ج- اصطفاؤهم لفهم القرآن والعمل به، قال تَعَالَى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، وقال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
د- التمكين لهم في الأرض، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
ر- استثناؤهم من الهلاك الذي يعم قومهم، قال تَعَالَى:{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 73 - 74].
ع- البشارة لهم في الحياة الدنيا بالثناء الحسن، والرؤيا الصالحة، والبشارة لهم في الآخرة عند الموت، وفي القبر، وفي القيامة، وخاتمة البشرى ما يبشرهم به الرب الكريم، من دوام رضوانه وبره وإحسانه وحلول أمانه في الجنة، قال سُبْحَانَهُ:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17]
(1)
.
و- نفي الخوف والحزن عنهم يوم القيامة؛ قال سُبْحَانَهُ: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68].
ي- وعدهم بالجنة، قال تَعَالَى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 61 - 63]، وقال سُبْحَانَهُ:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6]، وقال سُبْحَانَهُ: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 721).
لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الصافات: 40 - 43].
ثالثًا: وسائل تحقيق العبودية:
تحقيق العبودية إنما يكون بالقيام بما يحبه الله ورسوله ويرضاه، من قول اللسان والقلب، وعمل القلب والجوارح.
فقول القلب: هو الاعتقاد الصحيح بما أخبر به سُبْحَانَهُ عن أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وملائكته، ولقائه على لسان رسله.
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك، والدعوة إليه، والذب عنه، وتبيين الباطل و إزهاقه، والقيام بذكره، وتبليغ أوامره.
وعمل القلب: كالمحبة له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه والرجاء له، والصبر على أوامره، وعن نواهيه، وعلى أقداره، والرضى به وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والذل له والخضوع، والإخبات إليه، والطمأنينة به، وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرْضها أفرضُ من أعمال الجوارح، ومستحبُّها أحبُّ إلى الله من مستحبها، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة.
وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك
(1)
.
على أن تكون هذه العبادة كلها قائمة على شرطي القبول:
1 -
الإخلاص، الذي به يتحقق معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
(1)
ينظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (1/ 120).
2 -
المتابعة، التي بها يتحقق معنى شهادة أن محمدًا رسول الله.
وبهذا يتبين أن العبادة على الحقيقة والتحقيق هي الدين كله؛ فلما سأل جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام المشتمل على عبادة الظاهر، والإيمان المشتمل على عبادة الباطن، والإحسان المشتمل على إحسان العبادة وتكميلها، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«فإنَّه جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»
(1)
(2)
.
ووصف الله تَعَالَى أهل عبوديته في كتابه بما يشمل الدين كله من الاعتقادات، والعبادات الظاهرة والباطنة، وآداب السلوك والأخلاق، ومن ذلك:
1 -
قوله تَعَالَى في وصف العبودية الشاملة: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف: 68 - 69]، وقوله:{فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17 - 18].
2 -
قوله تَعَالَى في وصف عبودية الاعتقاد: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17]، وقال سُبْحَانَهُ:{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61]، قال السعدي رحمه الله: «أن الله وعدهم إياها وعدًا غائبًا، لم يشاهدوه ولم يروه، فآمنوا بها، وصدقوا غيبها،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(50)، ومسلم واللفظ له، رقم الحديث:(8).
(2)
ينظر: العبودية، لابن تيمية (ص: 47 - 48)، ومدارج السالكين، لابن القيم (1/ 124).
وسعوا لها سعيها، مع أنهم لم يروها، فكيف لو رأوها،
…
ويكون في هذا مدح له بإيمانهم بالغيب»
(1)
.
3 -
قوله تَعَالَى في وصف عبودية الباطن: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 40]، قال السعدي رحمه الله:«أخلصوا لله الأعمال، فأخلصهم، واختصهم برحمته، وجاد عليهم بلطفه»
(2)
4 -
قوله تَعَالَى في وصف عبودية الظاهر: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 64 - 67]، وقوله سُبْحَانَهُ:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 6 - 8].
5 -
قوله تَعَالَى في وصف عبودية السلوك والأخلاق: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
فاللهمَّ اجعلنا من عبادك الصالحين، مع الذينَ أنعمتَ عليهِم مِنَ النبيينَ والصِّدِّيقينَ والشهداءِ وحَسُنَ أولئِكَ رَفِيقًا
(1)
تفسير السعدي (ص: 497).
(2)
المرجع السابق (ص: 703).
المجيدُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «المجد: الكرم، والمجيد: الكريم، وقد مَجُد الرجل بالضم، فهو مجيد وماجد، قال ابن السكيت: الشرف والمجد يكونان بالآباء، يقال: رجل شريف ماجد: له آباء متقدمون في الشرف، قال: والحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن له آباء لهم شرف، وتماجد القوم فيما بينهم، وماجدته فمجدته أمجده، أي: غلبته بالمجد
…
والتمجيد: أن ينسب الرجل إلى المجد
…
»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(مجد) الميم والجيم والدال أصل صحيح، يدل على بلوغ النهاية، ولا يكون إلا في محمود، منه المجد: بلوغ النهاية في الكرم، والله الماجد والمجيد، لا كرم فوق كرمه
…
»
(2)
.
ورود اسم الله المجيد في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (المجيد) في القرآن مرتين، وذلك في قوله تعالى:
1 -
قوله تَعَالَى: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73].
(1)
الصحاح (2/ 536).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 297).
2 -
قوله تَعَالَى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 14 - 15].
ورود اسم الله المجيد في السنة النبوية:
ورد اسم الله المجيد في السنة النبوية، ومن وروده:
(1)
.
معنى اسم الله المجيد في حقه تعالى:
يدور معنى اسم الله المجيد في حق الله على ثلاثة معان، وهي:
1 -
كمال الذات والصفات مع سعتها وكثرتها.
2 -
كثرة الإحسان للخلق.
3 -
المنيع الذي لا يرام.
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(3370)، ومسلم، رقم الحديث:(406).
وحول هذه المعاني الثلاثة تدور أقوال العلماء:
من الأقوال في المعنى الأول:
قال الطبري رحمه الله: «(مجيد): ذو مجد ومدح وثناء كريم»
(1)
.
قال الزجاج رحمه الله: «فالماجد في اللغة: الكثير الشرف، والله تَعَالَى ذكره أمجد الأمجدين وأكرم الأكرمين»
(2)
.
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تَعَالَى: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]: «الحميد في جميع أفعاله وأقواله، محمود ممجد في صفاته وذاته»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «
…
المجد: هو عظمة الصفات وسعتها، فله صفات الكمال، وله من كل صفة كمال أكملها وأتمها وأعمها»
(4)
(5)
.
قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
وَهوَ المَجِيدُ صِفَاتُهُ أَوْصَافُ تَعْظِ
…
يمٍ فَشَانُ الوَصْفِ أَعْظَمُ شَانِ
(6)
(1)
تفسير الطبري (12/ 47).
(2)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 53).
(3)
تفسير ابن كثير (2/ 452).
(4)
تفسير السعدي (ص: 386).
(5)
الحق الواضح المبين (ص: 33).
(6)
نونية ابن القيم (ص: 203).
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال الشوكاني رحمه الله في قوله: «(مجيد) كثير الإحسان إلى عباده، بما يفيضه عليهم من الخيرات»
(1)
.
من الأقوال التي تجمع بين المعنى الأول والثاني:
قال الزجاجي رحمه الله: «
…
فكأن المجيد المبالغ في الكرم، المتناهي فيه»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: «(المجيد) هو الواسع الكرم
…
»
(3)
.
قال الغزالي رحمه الله: «هو الشريف ذاته، الجميل أفعاله، الجزيل عطاؤه ونوله، فكأن شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمي مجدًا، وهو الماجد- أيضًا- ولكن أحدهما أدل على المبالغة، وكأنه يجمع معاني اسم الجليل والوهاب والكريم»
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «وصف نفسه بالمجيد، وهو المتضمن لكثرة صفات كماله وسعتها، وعدم إحصاء الخلق لها، وسعة أفعاله، وكثرة خيره ودوامه»
(5)
.
من الأقوال التي تجمع بين المعنى الثاني والثالث:
قال الحليمي رحمه الله: «ومنها المجيد: ومعناه المنيع المحمود؛ لأن
(1)
فتح القدير (2/ 511).
(2)
اشتقاق أسماء الله الحسنى (ص: 152).
(3)
شأن الدعاء (74).
(4)
المقصد الأسنى (ص: 123).
(5)
التبيان في أقسام القرآن (2/ 95).
العرب لا تقول لكل محمود: مجيدًا، ولا لكل منيع: مجيدًا، أو قد يكون الواحد منيعًا غير محمود، كالمتآمر الخليع الجائر، أو اللص المتحصن ببعض القلاع، وقد يكون محمودًا غير منيع، كأمير السوقة والصابرين من أهل القبلة، فلما لم يقل لكل واحد منهما: مجيد؛ علمنا أن المجيد من جمع بينهما، فكان منيعًا لا يرام، وكان في منعته حسن الخصال جميل الفعال، والباري جل ثناؤه يجل عن أن يرام وأن يوصل إليه، وهو مع ذلك محسن مجمل لا يستطيع العبد أن يحصي نعمته ولو استنفذ فيه مدته، فاستحق اسم المجيد وما هو أعلى منه»
(1)
.
اقتران اسم الله المجيد بأسماء الله تَعَالَى الأخرى في القرآن الكريم:
اقتران اسم الله المجيد باسمه الحميد:
تقدم بيانه في اسم الله (الحميد).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله المجيد:
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (المجيد) من الصفات:
الله تَعَالَى المجيد، الذي له مجد الذات بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وفعاله المحمودة، وأقواله الكريمة، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 14 - 16].
فأما أسماؤه فكلها مجد، كيف لا وقد بلغت من الحسن منتهاه، ومن الكمال أقصاه، ومن الدلالة على الصفات أعلاها قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]، فلا نقص فيها بوجه من الوجوه، بل لا أحسن منها ولا
(1)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 197).
أكمل، فهي أحسن الأسماء، لا يسد غيرها مسدها، ولا يقوم مقامها، ولا يؤدي معناها»
(1)
.
وأما صفاته فصفات مجد، فـ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 22 - 24] له من هذه الصفات وغيرها من بقية صفاته التي بلغت من الكثرة ما لا يحصيه إلا الله، له منها أكملها وأتمها وأعمها، فلا عيب ولا نقص ولا قصور في شيء منها، ولا مماثلة لصفات المخاليق، بل هي على وجه يليق بجلال الله ومجده
(2)
، قال تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] أي: له كل صفة كمال، حتى قال أهل العلم رحمهم الله:«كل صفة كمال في المخلوقات فخالقها أحق بالاتصاف بها على وجه لا يشاركه فيها أحد، وكل نقص في المخلوق ينزه عنه فتنزيه الخالق عنه من باب أولى وأحرى»
(3)
.
فحياته حياة كمال لم يسبقها عدم، ولا يلحقها فناء ولا زوال، ولا يعتريها نقص ولا ضعف، ولا يتخللها سنة ولا نوم، وعلمه كمال لم يسبقه جهل، ولا يطرأ عليه، بل لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء ولو دق وصغر، وبصره كمال يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 502).
(2)
ينظر: التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (ص 94)، تفسير السعدي (ص: 386).
(3)
تفسير السعدي (ص: 640).
الليلة الظلماء، وسمعه كمال يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، ورحمته كمال فلا ضعف معها ولا حد، وسعت كل شيء، وحكمته كمال عمت كل مخلوق فلا عبث ولا لهو، وقدرته كمال في كل حال وآن لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، وقوته كمال لا ضعف معها ولا وهن، وعزته كمال لا غالب لها ولا ممانع، جل عن أن يرام أو أن يوصل إليه، وجماله لا حد ولا منتهى له، لو كشف حجابه لأحرقت سُبُحَاتُ وَجْهِه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وهكذا في بقية صفاته أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجل وأعلى
(1)
.
وأما أفعاله فأفعال مجد وحمد، قال تَعَالَى:{إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73] دائرة بين الفضل والرحمة والعدل والحكمة، فما من نعمة عطاء ودفع ظاهرة ولا باطنة، صغيرة ولا كبيرة مما يعرف العباد ومما لا يعرفون إلا بفعله وإحسانه وبره، فالإحسان له ومنه، قال تَعَالَى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]
(2)
، وما من نقمة وبلية تنزل بالعبد إلا بفعله العدل الحكيم، فليس في أفعاله سُبْحَانَهُ ظلم ولا جور ولا شر ولا سفه، قال تَعَالَى:{إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، أي:«على عدل وقسط وحكمة وحمد في قضائه وقدره، وفي شرعه وأمره، وفي جزائه وثوابه وعقابه، لا تخرج أفعاله عن الصراط المستقيم التي يحمد ويثنى عليه بها»
(3)
.
وأما أقواله فأقوال مجد وشرف، وصدق وعدل {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115].
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 946)، والحق الواضح المبين (ص: 33).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 437).
(3)
تفسير السعدي (ص: 384).
تكلم بالقرآن المجيد، قال تَعَالَى:{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]، وقال سُبْحَانَهُ:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج: 21] حوى من الفصاحة أكملها، ومن الألفاظ أجزلها، ومن المعاني أعمها وأحسنها، ومن العلوم علم الأولين والآخرين، كثير الوجوه، كثير البركات، جزيل المبرات
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله مقررًا ما سبق: «تمت كلماته صدقًا وعدلًا، وجلت صفاته أن تقاس بصفات خلقه شبهًا ومثلًا، وتعالت ذاته أن تشبه شيئًا من الذوات أصلًا، ووسعت الخليقة أفعاله عدلًا، وحكمة ورحمة وإحسانًا وفضلًا، له الخلق والأمر، وله النعمة والفضل، وله الملك والحمد، وله الثناء والمجد
…
أسماؤه كلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد، ولذلك كانت حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، ونعوته كلها نعوت جلال، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل»
(2)
.
وبعد هذا علم أنه لا مجد إلا مجده ولا عظمة إلا عظمته، ولا جلال ولا جمال ولا كبرياء إلا جلاله وجماله وكبرياؤه، كل مجد لغيره فهو منه عطاء وفضل، تفرد بالكمال المطلق الذي لا يمكن للعباد أن يحيطوا بشيء منه، قال سُبْحَانَهُ:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، وقال صلى الله عليه وسلم:«لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 803).
(2)
مدارج السالكين (1/ 144).
(3)
سبق تخريجه.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (المجيد) على التوحيد:
في اسم الله (المجيد) دلالة على اتصاف الله عز وجل بصفات الكمال؛ «فإن من ليس له صفات كمال ولا أفعال حميدة فليس له من المجد شيء، والمخلوق إنما يصير مجيدًا بأوصافه وأفعاله، فكيف يكون الرب تبارك وتعالى مجيدًا وهو معطل عن الأوصاف والأفعال، تَعَالَى الله عما يقول المعطلون علوًّا كبيرًا»
(1)
.
بل فيه دلالة على كثرة هذه الصفات وعظمتها، قال ابن القيم رحمه الله:«وصف نفسه بالمجيد، وهو المتضمن لكثرة صفات كماله وسعتها وعدم إحصاء الخلق لها»
(2)
، فليست صفاته محصورة بصفة أو صفتين ولا سبع ولا ثمان، بل لا تدخل تحت الحصر، ولا تحد بعدد معين كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء:«أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ»
(3)
، وإذا عرف العبد هذا واعتقده؛ حقق شيئًا من توحيد الأسماء والصفات.
ثم إذا تأمل في هذا الاسم وما فيه من الكمال، لا سيما في الصفات والأفعال، علم أنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، فمن له العلم المحيط بكل الأشياء والقدرة العامة والرحمة الواسعة التي ملأت جميع العوالم، والحمد والمجد والكبرياء والعظمة هو الجدير بالعبادة والذل والخضوع،
(1)
التبيان في أقسام القرآن (2/ 95).
(2)
المرجع السابق (2/ 95).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث (4404)، حكم الألباني: صحيح، تخريج الكلم الطيب، رقم الحديث (124).
قال تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8]، وقال سُبْحَانَهُ:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} الآيات [الحشر: 22].
(1)
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «
…
فأخبر أنه الله المألوه المعبود، الذي لا إله إلا هو، وذلك لكماله العظيم، وإحسانه الشامل، وتدبيره العام، وكل إله سواه فإنه باطل لا يستحق من العبادة مثقال ذرة؛ لأنه فقير عاجز ناقص، لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئًا»
(2)
.
ومن بيده العطاء ومنه النعماء والبر والإحسان هو المستحق أن يُعبد ويُحَب، قال تَعَالَى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 17 - 18].
وكل مَن دونه ناقص من جميع الوجوه، فلا أوصاف كمال ولا شيء من الإنعام، فكيف يُتعلق به ويسوّى بينه وبين الكامل من جميع الوجوه الذي له كل صفة كمال، وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها؟!
(3)
.
الأثر الثالث: محبة الله المجيد:
إذا نظر العبد في اسم الله (المجيد) نظر المتأمل المتفكر امتلأ قلبه حبًّا لله المجيد؛ إذ النفوس فطرت على حب من تكاملت صفاته، وتكامل عطاؤه
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 438).
(2)
المرجع السابق (ص: 854).
(3)
ينظر: المرجع السابق (ص: 438).
وإحسانه، والله المجيد كمل في صفاته، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 60]، وكمل في عطائه وإحسانه، قال تَعَالَى:{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، وكمل في كل شيء، قال تَعَالَى:{إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]، بل له من ذلك الكمال أكمله وأبلغه وأوسعه، فمن كان كذلك كيف لا تحبه القلوب، وتهيم بذكره النفوس؟
قال ابن القيم رحمه الله: «الثناء والحب تبع للأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال، ونعوت الجلال والإحسان إلى الغير؛ فإن هذه هي أسباب المحبة، وكلما كانت هذه الصفات أجمع وأكمل، كان الحمد والحب أتم وأعظم.
والله سُبْحَانَهُ له الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه ما، والإحسان كله له ومنه، فهو أحق بكل حمد، وبكل حب من كل جهة، فهو أهل أن يُحَب لذاته، ولصفاته، ولأفعاله، ولأسمائه، ولإحسانه، ولكل ما صدر منه سُبْحَانَهُ»
(1)
.
الأثر الرابع: تمجيد ما مجده الله عز وجل
-:
الإيمان باسم الله (المجيد) يدعو العبد إلى تمجيد ما مجده ربه عز وجل؛ فقد مجد سُبْحَانَهُ نفسه العلية، ومجد كتابه، ومجد عرشه.
فأما تمجيده لنفسه:
فمجَّد تبارك وتعالى نفسه في كتابه العزيز بما ذكر من أسمائه وصفاته وأفعاله، ومن أعظم آيات القرآن التي حوت ذلك آية الكرسي وسورة الإخلاص والفاتحة.
(1)
جلاء الأفهام (ص: 186 - 187).
ففي آية الكرسي- التي هي أعظم آية في القرآن- خمسة من أسماء الله عز وجل، وفيها من صفات الله ما يزيد على العشرين صفة.
وسورة الإخلاص- التي تعدل ثلث القرآن- جاءت كلها معرفة بالله؛ إذ قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك؟ فأنزلها الله وبين فيها صفاته.
وقال الصحابي صاحب السرية عنها: «لأنها صفة الرحمن» ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِ فَيَخْتِمُ بِـ «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:«أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ»
(1)
، وفي رواية:«حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ»
(2)
.
وفي النصف الأول من سورة الفاتحة- التي هي أعظم سورة في القرآن- الثناء على الله وتمجيده؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ
…
- وفي رواية: فَنِصْفُهَا ليِ وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي- فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فإذا قال:
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7375)، ومسلم، رقم الحديث:(813).
(2)
أخرجه البخاري (1/ 154)، ووصله الترمذي، رقم الحديث (2901)، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2901).
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]، قال: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»
(1)
.
وفي تمجيد الله لنفسه وثنائه عليها دعوة للعباد على أن يمجِّدوا ربهم، وتمجيده تبارك وتعالى يكون بأمور، منها:
تلاوة القرآن المجيد وتدبره؛ فإن القرآن مليء بتمجيد الله وإجلاله، ولا أحد يحصي الثناء على الله وتمجيده كما أثنى هو على نفسه، وفي حديث «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصَفْيَنِ
…
» أن العبد إذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قال الله عز وجل: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي.
وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، قال: مَجَّدَنِي عَبْدِي
(2)
، فدل على أن تلاوة القرآن تمجيد لله عز وجل وثناء عليه.
الثناء على الله بأسمائه وسؤاله بها؛ لأن كل أسماء الله وصفاته تمجيد له تبارك وتعالى، فقولنا: هو الله الواحد الأحد، الصمد، العزيز، الوهاب، الملك الأول، الآخر، الظاهر والباطن، الحميد، السميع، البصير؛ كل هذا من باب التمجيد لله عز وجل، وفي حديث «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ
…
» جعل الله عز وجل قول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] تمجيدًا له تبارك وتعالى من العبد؛ فدل على أن من تمجيده وصفه والاعتراف له بالملك والقهر، والحكم يوم الدين والحساب، وهكذا في سائر أسمائه وصفاته.
الصلاة؛ فالصلاة كلها قائمة على الثناء والتعظيم والتمجيد لله عز وجل، ففي قول:(الله أكبر) تمجيد، وفي الفاتحة تمجيد- كما سبق-، وفي الركوع
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(395).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(395).
تمجيد، وفي قول العبد بعد الرفع من الركوع:«اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» تمجيد بليغ، وفي السجود تمجيد، وفي التشهد ثناء ومجد، ويختم بقول:«إنك حميد مجيد» .
وفي ختام التشهد باسم الله المجيد معنى لطيف، نبه عليه ابن القيم رحمه الله، فقال:«لما طلب للرسول حمدًا ومجدًا بالصلاة عليه، وذلك يستلزم الثناء عليه؛ ختم هذا المطلوب بالثناء على مرسله بالحمد والمجد، فيكون هذا الدعاء متضمنًا لطلب الحمد والمجد للرسول صلى الله عليه وسلم، والإخبار عن ثبوته للرب تبارك وتعالى»
(1)
.
4 -
دوام ذكر الله، والثناء عليه بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير؛ فإن ذلك كله من التمجيد له تبارك وتعالى، وجاء في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ مِمَّا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلَالِ اللهِ التَّسْبِيحَ، والتَّهْلِيلَ، والتَّحْمِيدَ، يَنْعَطِفْنَ حَوْلَ العَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهَا، أَمَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ لَه- أو- لَا يَزَالُ لَهُ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ؟»
(2)
، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ الله تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قال: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قال: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ،
(1)
جلاء الأفهام (ص: 320).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18653)، وأخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(3809)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(3809).
وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قال: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قال: فَيَقُولُونَ: لَا وَالله مَا رَأَوْكَ؟ قال: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قال: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قال: يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قال: يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ، قال: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قال: يَقُولُونَ: لَا وَالله يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قال: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قال: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قال: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، قال: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟، قال: يَقُولُونَ: لَا وَالله يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قال: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قال: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قال: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قال: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: هُمُ الجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ»
(1)
، فإذا كان جليسهم لا يشقى، فكيف الشأن بهم؟!
(2)
.
وأما تمجيده للقرآن:
فقد قال سُبْحَانَهُ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج: 21]، وقال سُبْحَانَهُ:{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]، قال قتادة-:«أي: قرآن كريم» فالقرآن شريف كريم عظيم، ولا غرابة في ذلك؛ فإنه كلام الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
(1)
أخرجه البخاري (6408).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 435).
ومجده راجع إلى عدة أمور، منها:
فصاحته وبلاغته، وحسن تراكيبه ونظمه، فألفاظه بلغت المنتهى في الفصاحة، ونظمه في غاية الإحكام، حتى إن العرب على ما هم عليه من الفصاحة وشدة العداوة للدين ما استطاع أحد منهم أن يعيب القرآن في لفظ من ألفاظه بل قال قائلهم لهم بعد سماعه للقرآن:«فو الله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته»
(1)
.
معانيه الواسعة، وعلومه الغزيرة الشاملة لكل شيء، قال سُبْحَانَهُ:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، قال ابن كثير رحمه الله:«اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وحكم كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم»
(2)
.
عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله، بل ولا سورة من مثله ولو اجتمعوا وتآزروا، قال تَعَالَى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، فأنى لمخلوق ناقص من جميع الوجوه، ليس له علم ولا قدرة ولا إرادة ولا مشيئة ولا كلام ولا كمال إلا من ربه، أن يعارض كلام رب الأرض
(1)
ينظر: شرح الطحاوية، لصالح آل الشيخ (ص: 126).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 594).
والسماوات، المطلع على سائر الخفيات، الذي له الكمال المطلق، والحمد المطلق، والمجد العظيم، الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادًا، والأشجار كلها أقلام، لنفذ المداد، وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلمات الله
(1)
.
حفظه وصيانته من الشياطين وكيد الكفار والمنافقين والحاقدين من أن يغيروا ألفاظه أو يزيدوا فيها أو ينقصوا، أو أن يبدلوا معانيه ويحرفوها، قال تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقال سُبْحَانَهُ:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
(2)
قال يحيى بن أكثم رحمه الله: «كان للمأمون- وهو أمير إذ ذاك- مجلس نظر، فدخل في مجلسه رجل يهودي، حسن الثوب، حسن الوجه، طيب الرائحة، قال: فتكلم، فأحسن الكلام، قال: فلما أن تقوض المجلس، دعاه المأمون، فقال له: إسرائيلي؟: قال نعم! قال له: أسلِم حتى أفعل بك، وأصنع، ووعده، فقال: ديني، ودين آبائي، فانصرف، فلما كان بعد سنة جاءنا مسلمًا، قال: فتكلم على الفقه، فأحسن الكلام.
فلما أن تقوض المجلس دعاه المأمون، فقال له: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى! قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك، فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنا مع ما تراني حسن الخط فعمدت إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل، فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها، ونقصت وأدخلتها البيعة فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 466).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 429).
ثلاث نسخ، وزدت فيها ونقصت وأدخلتها إلى الوراقين، فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة، والنقصان، رموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي.
قال يحيى بن أكثم: فحججت في تلك السنة، فلقيت سفيان بن عيينة، فذكرت له الحديث، فقال لي: مصداق هذا في كتاب الله عز وجل، قال: قلت: في أي موضع؟ قال: في قول الله عز وجل في التوراة، والإنجيل {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44]، فجعل حفظه إليهم، فضاع، وقال عز وجل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع»
(1)
.
حصر الخيرية فيمن تعلمه وعلمه؛ فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَمَّهُ»
(2)
.
رفعة الله لمن عمل به، واتخذه دينًا ومنهجًا، وخفضه وذله لمن تركه وراء ظهره، ورأى أن العمل به رجعية وتخلف وجمود؛ فعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ: أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ - وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ - فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى، قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عز وجل وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم قد قال: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»
(3)
.
(1)
ينظر: دلائل النبوة، للبيهقي (7/ 159).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5027).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(817).
وكذا في الآخرة يرفع صاحبه درجات في الجنة، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المَاهِرُ بالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ»
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجيءُ القرآنُ يومَ القيامةِ، فيقولُ: يا ربُّ حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تاجَ الكرامةِ، ثم يقولُ: يا رَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثم يقولُ: يا رَبِّ ارْضَ عنه فيرضَى عنه، فيقالُ له: اقرأْ وارقَ وتُزَادُ بكلِّ آيةٍ حسنةً»
(2)
.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقالُ لصاحبِ القرآنِ: اقرأْ وارقَ، ورتِّلْ كما كنتَ تُرَتِّلُ في الدنيا؛ فإنَّ منزِلَتَكَ عندَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا»
(3)
.
(4)
.
إكرام الله لصاحبه؛ فقد جعله من أهله وخاصته، كما جاء عن أنس
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(798).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2915)، والحاكم، رقم الحديث:(2036)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2915).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(6917)، وأبو داود، رقم الحديث:(1464)، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف أبي داود، رقم الحديث:(1464).
(4)
معالم السنن، للخطابي (1/ 289).
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ للهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَهْلُ القُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ»
(1)
، قال المناوي رحمه الله:«(هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ) أي: المختصون به، بمعنى: أنه لما قربهم واختصهم كانوا كأهله»
(2)
.
وأما تمجيده للعرش:
فالله المجيد، لا يختار لنفسه إلا الأفضل والأكمل والأتم، قال سُبْحَانَهُ:{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15] بقراءة الجر، أي: العظيم العالي على جميع الخلائق، والذي من عظمته أنه وسع السماوات والأرض، فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة بالنسبة لسائر الأرض
(3)
.
الأثر الخامس: ثواب من مجد الله:
لما دعا الله (المجيد) عباده لتمجيده رغبهم في ذلك بما أعد لهم من الثواب والجزاء، فجعل لمن مجده الرفعة والذكر الحسن جزاء له من جنس عمله، ويتضح هذا جليًّا في خليل الله إبراهيم عليه السلام الذي مجد ربه، وأجلَّه بالتوحيد والبراءة من الشرك {قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78 - 79]، فأعلى الله ذكره وجعل له لسان صدق في العالمين،
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12486)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(2434)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(2165).
(2)
التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 681).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (8/ 372)، تفسير السعدي (ص: 919).
قال تَعَالَى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 108 - 110]، وقال سُبْحَانَهُ:{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} [مريم: 49 - 50].
(1)
.
فكان عليه السلام مقبولًا معظَّمًا مثنًى عليه، في كل الأوقات، وفي جميع الملل، حتى أن اليهود الذين من عادتهم قتل الأنبياء والكفر بهم أحبوه وادعوا أنه منهم، وكذا النصارى، فرد الله عليهم بقوله:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67].
وكان من أفضل المرسلين، ومن أولي العزم من الرسل، واتخذه الله خليلًا، حتى صار يدعى بذلك، فيقال: خليل الرحمن، وجعل ذكره ركنًا من أركان الصلاة، لا تصح بدونه
(2)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 495).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 593).
وليس هذا خاصًّا بنبي الله إبراهيم عليه السلام، بل معه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، الذي مجد ربه بالتوحيد ونصرة الدين وإعلاء كلمته، فجزاه الله من جنس عمله فرفع ذكره في العالمين، قال تَعَالَى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، فجعل ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم مقرونًا بذكره في الشهادة، قال مجاهد: لا أذكر إلا ذكرت معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله
(1)
.
وقال قتادة رحمه الله: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله
(2)
.
ورفع ذكره في الصلاة بالدعاء له بالثناء والبركة؛ فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه، قال:«سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإن الله قد علمنا كيف نسلم عليكم؟ قال: قُولُوا: اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»
(3)
.
ورفع ذكره في كل عبادة؛ إذ كل عبادة لا تصح إلا بالإخلاص والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن فاعل العبادة يستحضر أنه متبع فيها
(1)
تفسير الطبري (24/ 494).
(2)
المرجع السابق.
(3)
سبق تخريجه.
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من رفع ذكره صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ورفع ذكره في الأولين والآخرين، ونوه به حينما أخذ الميثاق على جميع النبيين أن يؤمنوا به، وأن يأمروا أممهم بالإيمان به، قال تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].
(2)
وكل هذا يدعو العبد ويحثه على تمجيد ربه وتعظيمه، جعلنا الله ممن يمجده ويعظمه حق تعظيمه.
فاللهم يا مجيد مُنَّ علينا بالتقوى، وألهمنا تسبيحك وتمجيدك!
(1)
ينظر: تفسير ابن عثيمين لجزء عم (ص: 248).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (8/ 430).
المُستعانُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «العون: الظهير على الأمر، والجمع: الأعوان»
(1)
.
قال الأزهري رحمه الله: «قال الليث: كل شيء أعانك فهو عون لك؛ كالصوم عون على العبادة والجمع: الأعوان، قال: وتقول: أعنته إعانة، واستعنته، واستعنت به، وعاونته، وقد تعاونَّا، أي: أعان بعضنا بعضًا»
(2)
.
ورود اسم الله (المستعان) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (المستعان) مرتين في كتاب الله، ووروده على ما يلي:
قول الله عز وجل: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
قوله عز وجل: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 112].
(1)
الصحاح (7/ 19).
(2)
تهذيب اللغة (3/ 128).
ورود اسم الله (المستعانِ) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (المستعان) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
(1)
.
معنى اسم الله (المستعان):
(2)
.
(3)
.
فالمستعان هو المعتمد عليه في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2616).
(2)
تفسير الطبري (13/ 40).
(3)
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، القرطبي (1/ 545 - 546).
اقتران اسمِ الله (المستعانِ) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يأت اسم الله (المستعان) مقترنًا بغيره من أسماء الله عز وجل.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (المستعانِ):
الأثرالأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (المستعان) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
الله سُبْحَانَهُ هو المعين لعباده، فلا يُطلب العون ولا القوة المطلقتان إلا منه سُبْحَانَهُ؛ لكمال وعظمة أسمائه وصفاته، فكل من في الأرض والسماء دونه عاجز، يقول تَعَالَى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22]، يقول ابن كثير رحمه الله في ذلك:«وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور، بل الخلق كلهم فقراء إليه، عبيد لديه»
(1)
.
وقال سُبْحَانَهُ فيما يستدل به على انفراده واستحقاقه للاستعانه وحده: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
فحمد الله نفسه المقدسة، بأنه الأحد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، لاشريك له في الملك، ولا في الخلق، ولا في الأمر، فهو العزيز الذي لايحتاج إلى ولي، أو وزير، بل هو الله الواحد القهار، وكل
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 536).
خلقه بحاجة إلى الاستعانة به، فلا قيام ولا حياة ولا وجود لهم إلا به، وبقدرته وقوته لا شريك له.
وعليه فمن استعان بالخلق وأعرض عن الخالق، فهو المغبون الهالك، فلا هو حفظ كرامته، ولا حصل غايته
(1)
.
وهذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة، فإنه النافع الضار، المعطي المانع، يقول تَعَالَى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]، فما يمس العباد من فقر ومرض ونحوه لا يرفعه إلا الله؛ لأن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوا بشيء، لم ينفعوا إلا بما كتبه الله، ولو اجتمعوا على أن يضروا أحدًا، لم يقدروا على شيء من ضرره، إذا لم يرده الله، ولهذا قال تَعَالَى:{وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} ، كما قال تَعَالَى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2].
الأثر الثاني: محبة الله المستعان:
الله تَعَالَى هو المستعان، الذي لا يَطلب العون، بل يُطلب منه العون، ويستعين به الخلق كلهم، فلا حول ولا قوة لأحد في السماوات ولا في الأرض إلا بإعانته سُبْحَانَهُ، فهو المتفضل على العباد بالإعانة والإمداد، كما تفضل عليهم بالخلق والإيجاد، لا يذل من أكثر طلبه، بل يعزه ويعظم قدره، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «والعبد كلما كان أذل لله، وأعظم افتقارًا إليه، وخضوعًا له كان أقرب إليه، وأعز له، وأعظم لقدره؛ فأسعد الخلق أعظمهم عبوديةً لله،
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 333).
وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق القائل:
بَيْنَ التَّذَلُّلِ والتَّدَلُّلِ نُقْطَةٌ
…
فِي رَفْعِهَا تَتَحَيَّرُ الأُفْهَامُ»
(1)
فكيف لمن عرف هذا عن ربه، ألا يحبه، ويستغني به عن عموم خلقه!
الأثر الثالث: إعانة الناس وقضاء حوائجهم:
فكما تكون لعباد الله يكون الله لك، وكما تحب أن يعاملك الله سُبْحَانَهُ فعامل الناس، فارحم الناس ليرحمك الله، واستر الناس ليسترك الله، وأعن الناس على حوائجهم يعنك الله، وفرج كرب إخوانك المسلمين يفرج الله عنك، فكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخرة، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ الله فِي الدُّنْيَا وَالآخرة، وَالله فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»
(2)
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (1/ 39).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2699).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2442)، ومسلم، رقم الحديث:(2580).
الأثر الرابع: دعاء الله المستعانِ:
فإن من هدي رسولنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم كثرة الدعاء وصدق الطلب، فعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال:«دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِدُعَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعَوْتَ بِدُعَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، تَقُولُ: اللهمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْكَ البَلَاغُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِالله»
(1)
(2)
.
وفي دعاء الاستخارة منهج دوام الاستعانة بالله، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةَ فِي
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3521)، وقال: هذا حديث حسن غريب، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(679)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الأدب المفرد، رقم الحديث:(679).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(2022)، وأبو داود، رقم الحديث:(1510)، حكم الألباني: صحيح، صحيح سنن أبي داود، رقم الحديث:(1510).
الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللهمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ،
…
»
(1)
.
اللهم ارزقنا صدق الاستعانة بك، فلا حول ولا قوة لنا إلا بك.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7390).
«الاستعانة بالله»
في موضوع الاستعانة سنتطرق للمسائل التالية:
أولًا: تعريف الاستعانة:
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «الاستعانة: طلب العون من الله، ويطلب من المخلوق ما يقدر عليه من الأمور»
(1)
.
(2)
.
ثانيًا: منزلة الاستعانة:
الاستعانة بالله عز وجل هي رفيقة المسافر إلى ربه، فبها يهدى السبيل، وبها يبدأ المسير، وبها يكون الثبات، وبها يبلغ الغايات، فهي ضرورة؛ لينال العبد السعادة والغنى عن كل ما سوى الله، ولينال راحة القلب، واطمئنان النفس، فإذا فقدها فقد سعادته، وكان فقره بين عينيه، وذله للخلق مستوليًا عليه.
(1)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (1/ 103).
(2)
مدارج السالكين (1/ 96).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «إن العبد مجبول على أن يقصد شيئًا ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده» ،
…
(1)
.
ولو تأمل العبد حاجته إليها لعرف أنها ليست فقط في دنياه، بل حتى عند الموت، وبعده من أهوال البرزخ، ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل، ولذا فالمؤمن لايقدم خطوة في طريق العبودية إلا إن سبقها بخطوة في طريق الاستعانة بالله.
يقول ابن القيم رحمه الله: «والعبودية محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها على
(1)
مجموع الفتاوى (1/ 34).
التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى، وهكذا أبدًا، حتى يقضي العبد نحبه»
(1)
.
وهذا يقود للمسألة التالية، وهي: لم قدمت العبادة على الاستعانة في الفاتحة؟
ثالثًا: لم قدمت العبادة على الاستعانة:
أشار الإمام ابن القيم رحمه الله إلى أسباب عدة في تقديم العبادة على الاستعانة، في آية الفاتحة:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وهي كالتالي:
العبادة غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها؛ ومن ثم يكون ذلك من قبيل تقديم الغايات على الوسائل.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} متعلق بألوهيته سُبْحَانَهُ، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} متعلق بربوبيته.
تقديم العبادة على الاستعانة يتناسب مع تقديم اسم «الله» على لفظ «الرب» المذكورين في أول السورة؛ حيث إن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قسم الرب، فكان من الشطر الأول، الذي هو ثناء على الله تَعَالَى؛ لكونه أولى به، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قسم العبد، فكان من الشطر الذي له، وهو {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] إلى آخر السورة.
العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس، فكل عابد لله
(1)
مدارج السالكين (1/ 98).
عبودية تامة: مستعين، ولا ينعكس الأمر؛ لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتم؛ ولهذا كانت قسم المولى عز وجل.
الاستعانة جزء من العبادة من غير عكس، فقدم الكل على الجزء.
الاستعانة طلب منه سُبْحَانَهُ، والعبادة طلب له، فقدم ما هو له على ما هو منه.
العبادة لا تكون إلا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص؛ ومن ثم قدم ما هو محض الإخلاص.
العبادة حق الله الذي أوجبه على العبد، والاستعانة طلب العون على العبادة؛ وذلك بيان لصدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته، فكان ذلك من باب تقديم الأهم على المهم.
العبادة شكر لنعمة الله على العبد، والله يحب أن يشكر، والإعانة فعل الله لعبده وتوفيقه له، فمن التزم عبوديته، ودخل تحت رقها أعانه الله عليها، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة له من الله أعظم؛ ومن ثم فإن في تقديم العبادة تقديمًا للسبب على المسبب.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لله، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] به، والذي له مقدم على ما به؛ لأن ما له: متعلق بمحبته ورضاه، والذي يكون به: متعلق بمشيئته، وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته؛ إذ الكون كله متعلق بمشيئته كذلك، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار والطاعات والمعاصي، والمتعلق بمحبته طاعاتهم وإيمانهم، فالكفار أهل مشيئته،
والمؤمنون أهل محبته؛ ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدًا، وكل ما فيها فإنه به تَعَالَى وبمشيئته
(1)
.
رابعًا: أقسام الاستعانة:
الاستعانة طلب العون وهي أنواع:
الأول: الاستعانة بالله: وهي الاستعانة المتضمنة لكمال الذل من العبد لربه، وتفويض الأمر إليه، واعتقاد كفايته، وهذه لا تكون إلا لله تَعَالَى، ودليلها قوله تَعَالَى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ووجه الاختصاص: أن الله تَعَالَى قدم المعمول {إِيَّاكَ} ، وقاعدة اللغة التي نزل بها القرآن أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والاختصاص، وعلى هذا يكون صرف هذا النوع لغير الله تَعَالَى شركًا مخرجًا عن الملة.
الثاني: الاستعانة بالمخلوق على أمر يقدر عليه: فهذه على حسب المستعان عليه كالتالي:
إن كانت على بر: فهي جائزة للمستعين، مشروعة للمعين؛ لقوله تَعَالَى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
إن كانت على إثم: فهي حرام على المستعين، والمعين؛ لقوله تَعَالَى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
إن كانت على مباح: فهي جائزة للمستعين، والمعين، لكن المعين قد يثاب على ذلك ثواب الإحسان إلى الغير؛ ومن ثم تكون في حقه مشروعة؛ لقوله تَعَالَى:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 75 - 77).
الثالث: الاستعانة بمخلوق حي حاضر غير قادر: فهذه لغو لا طائل تحتها، مثل أن يستعين بشخص ضعيف على حمل شيء ثقيل.
الرابع: الاستعانة بالأموات مطلقًا، أو بالأحياء على أمر غائب لا يقدرون على مباشرته: فهذا شرك؛ لأنه لا يقع إلا من شخص يعتقد أن لهؤلاء تصرفًا خفيًّا في الكون.
خامسًا: تقسيم الناس بحسب الاستعانة:
التعبد باسم الله (المستعان) يوجب على العبد أن يستعين به في كل أحواله، ولكن الناس في الاستعانة بالله تَعَالَى على أقسام.
ذكر الإمامان ابن تيمية، وابن القيم -رحمهما الله- طرفًا من هذه الأقسام، فتحدث كل منهما عن جهة للتقسيم، ومن الأولى بنا أن نذكر كلام الإمامين؛ لتتكامل لدينا الصورة، وتتضح معالمها.
وقد تكلم الإمام ابن القيم عن أقسام الناس في عبادة الله والاستعانة به، وقسمهم إلى أربعة أقسام، وهي:
أجلُّها وأفضلُها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها، ويوفقهم للقيام بها؛ ولهذا كان من أفضل ما يسأل الرب عز وجل الإعانة على مرضاته، وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لحِبه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فعن معاذ رضي الله عنه، قال: «لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكَ. قَالَ: فَإِنِّي أُوصِيكَ بِكَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: اللهمَّ أَعِنِّي
عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»
(1)
؛ فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضاده، وعلى تكميله وتيسير أسبابه، فتأملها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه-: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو: سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
ومقابل هؤلاء: القسم الثاني، وهم المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة ولا استعانة، بل إن سأله أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربه وحقوقه؛ فإنه سُبْحَانَهُ يسأله من في السماوات والأرض، يسأله أولياؤه وأعداؤه، ويمد هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلقه عدوه إبليس، ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها، ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عونًا له على مرضاته، بل كانت زيادة له في شقوته، وبعده عن الله وطرده عنه، وهكذا كل من استعان به على أمر وسأله إياه، ولم يكن عونًا على طاعته كان مبعدًا له عن مرضاته، قاطعًا له عنه ولا بد.
وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره، وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له، وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤه له من هوانه عليه، وسقوطه من عينه، ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له، فيمنعه حماية وصيانة وحفظًا، لا بخلًا، وهذا إنما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبته، ويعامله بلطفه، فيظن- بجهله- أن الله لا يحبه ولا
(1)
أخرجه أحمد واللفظ له، رقم الحديث:(22554)، وأبو داود، رقم الحديث:(1522)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1522).
يكرمه، ويراه يقضي حوائج غيره، فيسيء ظنه بربه، وهذا حشو قلبه ولا يشعر به، والمعصوم من عصمه الله، والإنسان على نفسه بصيرة، وعلامة هذا حمله على الأقدار، وعتابه الباطن لها، كما قيل:
وَعَاجِزُ الرَّأْيِ مِضْيَاعٌ لِفُرْصَتِهِ
…
حَتَّى إِذَا فَاتَ أَمْرٌ عَاتَبَ القَدَرَا
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة، وهؤلاء نوعان:
أحدهما: القدرية القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل؛ فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها، وتعريف الطريق، وإرسال الرسل، وتمكينه من الفعل، فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها، بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة، فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء، ولكن أولياءه اختاروا لنفوسهم الإيمان، وأعداءه اختاروا لنفوسهم الكفر، من غير أن يكون الله سُبْحَانَهُ وفق هؤلاء بتوفيق زائد أوجب لهم الإيمان، وخذل هؤلاء بأمر آخر أوجب لهم الكفر، فهؤلاء لهم نصيب منقوص من العبادة، لا استعانة معه، فهم موكولون إلى أنفسهم، مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد، قال ابن عباس رضي الله عنه: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض تكذيبُه توحيدَه.
النوع الثاني: من لهم عبادات وأوراد، ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، وتلاشيها في ضمنه، وقيامها به، وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له، وأن القدر كالروح المحرك لها، والمعول على المحرك الأول.
فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك، ومن السبب إلى المسبب، ومن الآلة إلى الفاعل، فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم، فقل نصيبهم من:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ولم يجدوا ذوق التعبد بالتوكل والاستعانة، وإن وجدوا ذوقه بالأوراد والوظائف.
فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير، بحسب استعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم، ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه وكان مأمورًا بإزالته لأزاله.
القسم الرابع: وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضر، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يدر مع ما يحبه ويرضاه، فتوكل عليه، واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه، وطلبها منه، وأنزلها به، فقضيت له، وأسعف بها، سواء كانت أموالًا أو رياسة أو جاهًا عند الخلق، أو أحوالًا من كشف وتأثير وقوة وتمكين، ولكن لا عاقبة له، فإنها من جنس الملك الظاهر، والأموال لا تستلزم الإسلام، فضلًا عن الولاية والقرب من الله، فإن الملك والجاه والمال والحال معطاة للبر والفاجر، والمؤمن والكافر، فمن استدل بشيء من ذلك على محبة الله لمن آتاه إياه ورضاه عنه، وأنه من أوليائه المقربين، فهو من أجهل الجاهلين، وأبعدهم عن معرفة الله ومعرفة دينه، والتمييز بين ما يحبه ويرضاه، ويكرهه ويسخطه، فالحال من الدنيا كالمُلك والمال إن أعان صاحبه على طاعة الله ومرضاته، وتنفيذ أوامره ألحقه بالملوك العادلين البررة، وإلا فهو وبال على صاحبه، ومبعد له عن الله، وملحق له بالملوك الظلمة، والأغنياء الفجرة
(1)
.
(1)
ينظر: مدارج السالكين (1/ 99 - 104).
سادسًا: كيف تحقق الاستعانة:
من معينات ووسائل تحقيق صدق الاستعانة بالله تَعَالَى ما يلي:
1 - صدق العبودية:
فكلما تعلقت القلوب بالله، وعلمت بأنه وحده المستعان، وانقطعت عن الخلق وما في أيديهم؛ كان ذلك دليلًا على صدق الاستعانة بالله.
يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «فإذا التزمت عبوديته أعانك عليها، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله أعظم»
(1)
، وهذا هو تحقيق معنى قول العبد:(لا حول ولا قوة إلا بالله) والمعنى: أن العبد لا يتحول حاله من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله عز وجل»
(2)
، وفي أحوال الأنبياء خير شواهد على ذلك، ومنها:
انقطاع قلب يعقوب عليه السلام عن الخلق وتعلقه بالمستعان سُبْحَانَهُ، فرغم المصيبة الكبرى التي يخبره أولاده بها يردد:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ} [يوسف: 18]، فكانت إعانةُ الله له إخراجًا من البدو، ودخولًا على الابن، وقد اعتلى خزائن مصر في صورة تسر الأب المكلوم، يقول تَعَالَى في وصف ذلك:{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 99 - 100].
(1)
مدارج السالكين (1/ 76).
(2)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (ص: 192).
انفلاق البحر لموسى عليه السلام وإطباقه على عدو الله: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61 - 62]، ولكن موسى الذي تلقى الوحي من ربه، لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه، واليقين بعونه، والتأكد من النجاة، وإن كان لا يدري كيف تكون، فكانت النتيجة:{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63].
حال محمد صلى الله عليه وسلم وقد خرج طريدًا ومعه صاحبه، لكن ثقته بربه واستعانته به جعلت السكينة تتنزل عليه، وجند الله تحميه، تأمل:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]، فالقوم على إثرهما يتعقبون، والصديق رضي الله عنه يجزع- لا على نفسه ولكن على صاحبه- أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب، يقول له: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، والرسول صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله سكينته على قلبه، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له:«يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا؟»
(1)
، فكان النصر المؤزر من عند الله بجنود لم يرها الناس، وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار، قال: تَعَالَى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} [التوبة: 40]، وظلت كلمة الله في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة، قال تَعَالَى:{وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40].
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3653) ومسلم، رقم الحديث:(2381).
إن بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قرونًا طويلة، لكن الكلمة تتكرر (معي ربي).
2 - التزام الأعمال الصالحة:
لا سيما الصلاة والصبر، فقد أمر الله بالاستعانة بهما في أكثر من موضع، يقول تَعَالَى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45 - 46].
3 - الاستعانة بأوقات النشاط واستثمارها في الطاعة:
فالعبادة للمؤمن كالوقود الذي يحركه للإنتاج والعطاء والبذل، وأفضل أوقاتها أول الصباح وآخر الليل؛ بداية اليوم ونهايته، وفي الحديث الذي أخرجه البخاري:«إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»
(1)
، فالمقصود بالغداة: ما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس أول النهار، والدلجة: هي آخر الليل، فهذه الأوقات أطيب أوقات المسافرة، فكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرًا إلى مقصد، فنبهه على أوقات نشاطه؛ لأن المسافر إذا سار الليل والنهار جميعًا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة، وحُسن هذه الاستعارة: أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(39).
(2)
ينظر: فتح الباري، لابن حجر (1/ 95).
4 - الدعاء وصدق الطلب:
فسؤال الله الإعانة لا يقتصر على أمر العبادة فحسب، وإنما يشمل الإعانة على قضاء جميع الحوائج، وقد كان هذا هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ إذ جمع صلى الله عليه وسلم الدعاء للصحابة وقرنه بهذا الاسم، ففي الحديث عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال:«دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئًا، قلنا: يا رسول الله، دعوت بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئًا، فقال: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ؟ تَقُولُ: اللهمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله»
(1)
.
وقد كانت هي وصيته لمعاذ رضي الله عنه بعد أن أعلن له صلى الله عليه وسلم محبته له، فاختصر له وصية المحب في بضع كلمات، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال:«أخذ بيدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يَا مُعَاذُ! قلت: لبيك، قال: إِنِّي أُحِبُّكَ، قلت: وأنا والله أحبك، قال: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهَا فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاتِك؟ قلت: نعم، قال: قُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»
(2)
.
كذلك الشأن في الاستخارة، وهي طلب خير الأمرين من الله المستعان، ومما ورد في ذلك عن جابر رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كالسورة من القرآن: إِذَا هَمَّ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُولُ: اللهمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللهمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أو قال: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- أو قال: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ، وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ»
(1)
.
وما كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على تعليمهم إياها كما يعلمهم القرآن إلا لعظيم الحاجة إليها، يقول ابن بطال رحمه الله في شرح الحديث:«ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن؛ لشدة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلها، كشدة حاجتهم إلى القراءة في كل الصلوات»
(2)
.
5 - مساعدة الناس ومعاونتهم:
فإعانة الناس سبب في إعانة الله، وفي الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه:«مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ الله فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ الله عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(3)
.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
شرح صحيح البخارى، لابن بطال (10/ 123).
(3)
سبق تخريجه.
الملِك والمالِك والملِيْك جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «ملكت الشيء أملكه ملكًا
…
وملكت الشيء تمليكًا، أي: جعله ملكًا له، يقال: مَلّكه المال والمُلك، فهو مُملَّك
…
والملكوت من الملك، كالرهبوت من الرهبة، يقال: له ملكوت العراق وملكوة العراق أيضًا، مثال الترقوة: وهو الملك والعز، فهو مليك، وملك وملك، مثل فخذ وفخذ، كأن الملك مخفف من ملك، والملك مقصور من مالك أو مليك، والجمع: الملوك والأملاك، والاسم: الملك، والموضع مملكة، وتملكه، أي: ملكه قهرًا»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الميم واللام والكاف أصل صحيح يدل على قوة في الشيء وصحة، يقال: أملك عجينه، قوى عجنه وشده، وملكت الشيء: قويته
…
ثم قيل: ملك الإنسان الشيء يملكه ملكًا، والاسم الملك؛ لأن يده فيه قوية صحيحة، فالملك: ما ملك من مال»
(2)
.
(1)
الصحاح (4/ 1609).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 351).
ورود اسم الله (الملك - المالك - المليك) في القرآن الكريم:
- ورود اسم الملك في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الملك) خمسَ مرات في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
قوله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ}
[الحشر: 23].
قوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 1 - 2].
- ورود اسم (المالك) في القرآن الكريم:
ورد اسم المالك مرة واحدة بالإضافة إلى الملك، في قول الله عز وجل:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]، ومرة بالإضافة إلى الدين في قوله تَعَالَى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]
- ورود اسم (المليك) في القرآن الكريم:
وورد اسم (المليك) مرة واحدة في كتاب الله، في قوله تَعَالَى:{عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55].
ورود اسم الله (الملك - المالك - المليك) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الملك) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ،
حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللهمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا؛ إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ
…
»
(1)
.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَقْبِضُ الله الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟»
(2)
.
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(771).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4812)، ومسلم واللفظ له، رقم الحديث:(2787).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4811)، ومسلم واللفظ له، رقم الحديث:(2786).
معنى اسم الله (الملك - المالك -المليك) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله: «الملك الذي لا ملك فوقه، ولا شيء إلا دونه»
(1)
.
قال الزجاج رحمه الله: «مالك الملك الله تَعَالَى، يملك الملك، يعطيه من يشاء، وهو مالك الملوك، والملاك يصرفهم تحت أمره ونهيه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع»
(2)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «فالله عز وجل مالك الأشياء كلها، ومصرفها على إرادته، لا يمتنع عليه منها شيء»
(3)
.
قال الخطابي رحمه الله: «وقال أصحاب المعاني: الملك: النافذ الأمر في ملكه؛ إذ ليس كل مالك ينفذ أمره أو تصرفه فيما يملكه، فالملك أعم من المالك، والله تَعَالَى مالك المالكين كلهم، وإنما استفادوا التصرف في أملاكهم من جهته تَعَالَى»
(4)
.
قال الحليمي رحمه الله: «الملك
…
وذلك مما يقتضيه الإبداع هو المخترع للشيء من العدم إلى الوجود، فلا يتوهم أن يكون أحد أحق بما أبدع منه، ولا أولى بالتصرف فيه منه»
(5)
.
(1)
تفسير الطبري (23/ 302).
(2)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 62).
(3)
اشتقاق أسماء الله الحسنى (ص: 43).
(4)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 30).
(5)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 194).
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} [الحشر: 23]: «المالك لجميع الأشياء، المتصرف فيها بلا ممانعة، ولا مدافعة»
(2)
.
قال السعدي رحمه الله: «الملك المالك: الذي له الملك فهو الموصوف بصفة الملك، وهي صفات العظمة والكبرياء، والقهر، والتدبير، الذي له التصرف المطلق في الخلق والأمر والجزاء، وله جميع العالم العلوي والسفلي، كلهم عبيد، ومماليك، ومضطرون إليه، فهو الآمر، الناهي، المعز، المذل، الذي يصرف أمور عباده كما يحب، ويقلبهم كما يشاء، وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى كالعزيز، الجبار، المتكبر
…
»
(3)
.
(1)
بدائع الفوائد (2/ 249).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 343).
(3)
تفسير أسماء الله الحسنى، للسعدي (ص: 79 - 80).
الفرق بين الملك، والمالك:
اختلفت أقوال العلماء في الفرق بينهما: فقيل: (ملك): أعم وأبلغ من (مالك)؛ إذ كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكًا، ولأن الملك نافذ على المالك في ملكه، حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك.
وقيل: بل (مالك) أبلغ؛ لأنه يكون مالكًا للناس وغيرهم، فالمالك أبلغ تصرفًا وأعظم؛ إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التملك.
وقيل: المالك أبلغ مدحًا في حق الخالق، والملك أبلغ مدحًا في حق المخلوقين؛ لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تَعَالَى مالكًا كان ملكًا
(1)
.
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير القرطبي (1/ 140)، وفتح القدير، للشوكاني (1/ 26).
(2)
فتح القدير، للشوكاني (1/ 26).
اقتران اسم الله (الملك- المالك- المليك) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (الملك) بأسمائه الأخرى:
- اقتران اسم الله (الملك) باسم الله (الحق):
تقدم بيانه في اسم الله (الحق).
- اقتران اسم الله (الملك) باسم الله (القدوس):
تقدم بيانه في اسم الله (القدوس).
ثانيًا: اقتران اسم الله (المالك) بأسمائه الأخرى:
لم يقترن اسم الله (المالك) بأي اسم من الأسماء الحسنى.
ثالثًا: اقتران اسم الله (المليك) بأسمائه الأخرى:
تقدم بيانه في أسماء الله (القدير)، و (القادر)، و (المقتدر).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الملك- المالك- المليك):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الملك، والمالك، والمليك) من صفات الله سُبْحَانَهُ:
الله الملك، والمالك والمليك على الحقيقة، قال تَعَالَى:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116]، وذلك أن ملكه راجع إلى ثلاثة أمور:
1 -
ثبوت صفات الملك له:
الملك يستلزم عدة صفات، منها: الحياة، والقوة، والقدرة، والغنى، والعزة، والحكم النافذ، والتصرف التام، والقيام بشؤون المملكة وحفظها.
ولله جل جلاله من هذه الصفات أتمها وأكملها، فحياته حياة لا عدم معها، وقوته وقدرته لا ضعف ولا عجز معها، قال تَعَالَى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1]، وقال: سُبْحَانَهُ {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]، وغناه لا فقر ولا حاجة معه، وعزته لا غالب لها، وحكمه عام نافذ في الدنيا والآخرة، تَعَالَى:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1]، وقيامه وحفظه لا غفلة معه ولا نسيان، قال تَعَالَى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255].
ومع هذا كله سلم وتقدس من آفات الملوك وملكهم، قال تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23].
فملكه عام للخلائق، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الزخرف: 85]، وعام للدنيا والآخرة، بل هو في الآخرة أظهر منه في الدنيا، قال تَعَالَى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73]، وذلك لأن في الدنيا هناك من يدعي الملك بخلاف الآخرة، فلا يدعيه أحد؛ إذ الكل حشر حافيًا عاريًا غُرلًا بُهْمًا، لا يملك شيئًا، كما قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94]، فلا يرى مَلِكًا ولا مالكًا ولا حاكمًا سواه تبارك وتعالى، حتى أنه
جل جلاله يقبض الأرض والسموات بيمينه، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ، أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ
(1)
. أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟
(2)
، وينادي:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه بنفسه:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]
(3)
.
وملكه تبارك وتعالى دائم لا يزال ولا يزول، ولا ينقص ولا ينفذ بكثرة العطاء والجود، كما جاء في الحديث القدسي: «
…
يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ
…
» الحديث
(4)
.
وملكه قائم على علم محيط بالدقيق والجليل، وحكمة بالغة، ورحمة تامة، وأمان من الظلم والجور والغدر والكيد، قال تَعَالَى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 22 - 23].
(5)
2 -
جميع الخلق مماليك له:
العالم العلوي والسفلي وما فيهما من ملوك وملاك، ورؤساء ومرؤسين، وجبارون ومتكبرون الكل ملك وعبيد لمالك الملك تبارك وتعالى، قال تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وقال سُبْحَانَهُ:
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7412)، ومسلم واللفظ له، رقم الحديث:(2788).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4812)، ومسلم، رقم الحديث:(2787).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 134)، وتفسير السعدي (ص: 39).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2577).
(5)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 514)، والتحرير والتنوير (28/ 120 - 121).
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120]، وقال:{مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 2].
فالجميع مفتقر إليه مضطر إلى ملكه قيامًا وتدبيرًا وحكمًا، وليس لأحد منهم الخروج عن ملكه، قال تَعَالَى:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]، ولا الاستغناء عنه طرفة عين.
3 -
تصرفه الحق في ملكه:
فلله الملك جل جلاله تدبير شؤون مملكته علويها وسفليها، وتصريف أمورها بما يريد، لا يخرج شيء عن تصريفه وتدبيره، ولا يملك أحد منعه أو رده أو تعقبه، قال تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وقال سُبْحَانَهُ:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50].
ومن تصرفاته في مملكته ما حكم به من أحكام: قدرية، وشرعية، وجزائية؛ فإن الملك يقتضي عدم ترك ملكه سدى وهملًا، لا قضاء، ولا أمرًا ولا نهيًا، ولا ثوابًا ولا عقابًا.
فأحكامه القدرية التي جرت أمور مملكته إيجادًا وإعدادًا، وإحياء وإماتة وغير ذلك على مقتضى ما قضى وقدر، قال تَعَالَى:{أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [التوبة: 116].
قال ابن القيم رحمه الله: «حقيقة الملك إنما تتم بالعطاء والمنع والإكرام، والإهانة والإثابة والعقوبة، والغضب والرضا، والتولية والعزل، وإعزاز من يليق به العز، وإذلال من يليق به الذل، قال تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26 - 27]، وقال تَعَالَى:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويكشف غمًّا، وينصر مظلومًا، ويأخذ ظالمًا، ويفك عانيًا، ويغنى فقيرًا، ويجبر كسيرًا، ويشفى مريضًا، ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويعز ذليلًا، ويذل عزيزًا، ويعطى سائلًا، ويذهب بدولة ويأتي بأخرى، ويداول الأيام بين الناس، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين.
يسوق المقادير التي قدرها قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها، فلا يتقدم شيء منها عن وقته ولا يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه، وجرى به قلمه، ونفذ فيه حكمه، وسبق به علمه، فهو المتصرف في الممالك كلها وحده تصرف مَلِك قادر قاهر عادل رحيم تام الملك، لا ينازعه في ملكه منازع ولا يعارضه فيه معارض، فتصرُّفه في المملكة دائر بين العدل والإحسان والحكمة والمصلحة والرحمة، فلا يخرج تصرفه عن ذلك»
(1)
.
(1)
طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 123).
وأحكامه الشرعية التي بها أنزل الكتب، وأرسل الرسل، هادية ومرشدة لما فيه صلاح المملكة وقوامها؛ قال تَعَالَى:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
وأحكامه الجزائية التي يحكم بها على مماليكه وعبيده بالثواب والعقاب بحسب ما شهد عليهم من عمل، قال تَعَالَى:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 9]، وقال سُبْحَانَهُ:{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الحج: 56]، وقال سُبْحَانَهُ:{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26].
فلله الحمد في ملكه وخلقه وحكمه وفي أفعاله وصفاته كلها «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» .
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (الملك) على التوحيد:
إذا تعرف العبد على اسم الله (الملك) وتيقنه؛ قاده ذلك لتوحيد الملك جل جلاله في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته.
فأما ربوبيته: فيتيقن أن الله الملك وحده مالك الكون ومن فيه بلا مشارك ولا معين ولا وزير ولا مشير، بل هو تَعَالَى مالك الأشياء وحده، خالقها ومقدرها ومدبرها، قال تَعَالَى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، وقال سُبْحَانَهُ:
(1)
وأما ألوهيته: فالله الملِك، وما سواه مملوك لا يملك شيئًا لا قليلًا ولا كثيرًا، حتى ولا القطمير، ولا مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، قال تَعَالَى:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] لا على وجه الاستقلال يملكونها، ولا على وجه الشركة للملك، بل ولا حتى المعونة والمؤازرة له فيها.
كما أنهم لا يملكون الشفاعة، قال تَعَالَى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43 - 44]، فمن كان هذا حاله لا يستحق أن يُصرف له شيء من العبادة
(2)
، قال الشيخ السعدي رحمه الله: «المشرك إنما يدعو ويعبد غير الله؛ لما يرجو منه من النفع، فهذا الرجاء، هو الذي أوجب له الشرك، فإذا كان من يدعوه (غير الله)، لا مالكًا للنفع والضر، ولا شريكًا للمالك، ولا عونًا وظهيرًا للمالك، ولا يقدر أن
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 130).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 678).
يشفع بدون إذن المالك، كان هذا الدعاء، وهذه العبادة ضلالًا في العقل، باطلة في الشرع»
(1)
.
وأما أسماؤه وصفاته: فاسم الله الملك جل جلاله متضمن لجملة من أسمائه وصفاته، فمن أثبت هذا الاسم الكريم لزمه أن يثبت ما يتضمنه من عزة وجبروت وكبرياء وحكم وخفض ورفع، وإعزاز وإذلال، إلى غير ذلك من الأسماء والصفات العائدة إلى الملك.
(2)
.
الأثر الثالث: تعلق القلب بالملك المالك المليك:
إذا تأمل العبد في اسم الله (الملك، المالك، المليك) جل جلاله وما فيه من سعة، وعظمة، وكمال، ثم تأمل ونظر في نفسه وما فيه من فقر وحاجة وضعف وعجز؛ تعلق قلبه بالملك: خوفًا، ورجاء، وتوكلًا.
(1)
تفسير السعدي (ص: 678).
(2)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 220).
فاليقين بأن الله الملك نواصي العالمين بيده يتصرف فيهم كيف شاء، ليس لأحد منهم الخروج عن ملكه وسلطانه يبعث في النفوس الشعور بالخوف والمهابة للملك وحده تبارك وتعالى؛ فإن كل من دونه مملوك مذلل لا يملك شيئًا من الضر، فالخوف منه وهم باطل؛ لذا لما هدد قوم عاد نبيهم هودًا عليه السلام، قال متحديًا لهم، ذاكرًا صفة الملك والقهر لله تَعَالَى، معرِّضًا بأنهم لا يملكون شيئًا من الضر إلا بإذنه:{إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 - 56].
واليقين بأن الله الملك الذي بيده خزائن السموات والأرض لا تنفذ ولا تنقص، ولا يعجزه ولا يمنعه شيء عن إيصالها لمملوكيه، قال تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] يبعث في النفوس الشعور بالرجاء والطمع فيما عند الملك وحده دون ما سواه؛ فإن من دونه لا يملك شيئًا، فرجاؤه باطل، قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما، مقررًا هذا المعنى وما قبله:«وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ»
(1)
.
ثم إن اليقين بقوله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] مع فقر العبد
(1)
أخرجه الترمذي واللفظ له، رقم الحديث:(2516)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(192)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2516).
وحاجته للملك في وجوده، وحركاته، وسكناته؛ يبعث في النفوس الاعتماد والتوكل على الملك جل جلاله في جلب المنافع ودفع المضار.
ثم إذا حصل هذا اليقين فليعلم العبد أن الملك جل جلاله يحب أن يلوذ به مملوكه ويفزع إليه يستعيذ ويستغيث به في الشدائد والنوائب، قال تَعَالَى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 1 - 4].
قال ابن القيم رحمه الله: «فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب، وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجأهم، فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به وبتدبيره، فليس لهم مَلِك غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدو، ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم»
(1)
.
وقال في موضع آخر: «كما أن من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء أنه يجود ويعطي ويمنح، فمنها: أن يعيذ وينصر ويغيث، فكما يحب أن يلوذ به اللائذون، يحب أن يعوذ به العائذون، وكمال الملوك أن يلوذ بهم
…
والمقصود: أن ملك الملوك يحب أن يلوذ به مماليكه؛ وأن يعوذوا به، كما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم «أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم في غير موضع من كتابه
…
»
(2)
.
الأثر الرابع: محبة الله تَعَالَى الملك المالك المليك:
إذا علم العبد أن الله الملك لجميع الأشياء، المتصرف في ملكه بلا ممانعة ولا مدافعة، المنزه عن نقائص الملوك وآفات الملك، اقترن ملكه
(1)
التفسير القيم (ص: 660).
(2)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص: 240).
بعلمه، وحكمته، ورحمته، وبره، وإحسانه، وعدله؛ امتلأت القلوب بحبه ووده، خاصة أن النفوس تميل إلى حب صاحب الملك والملكوت والغنى.
الأثر الخامس: التذلل والخضوع لله الملك المالك المليك:
التفكر في اسم الله (الملك- مالك الملك) وما فيه من عزة وجبروت وكبرياء، قال تَعَالَى:{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23] يجعل كل من ملك شيئًا في الدنيا صغر أو كبر يذل ويخر صاغرًا لجلال الملك تبارك وتعالى، فماذا عسى أن يملك من كان أمره وناصيته ونفسه بيد سيده، وقلبه بين إصبعين من أصابعه، يقلبه كيف يشاء، وحياته وموته، وسعادته وشقاؤه، وحركاته وسكناته بإذنه ومشيئته، إن وكله إلى نفسه، وكله إلى عجز وضعف وتفريط وذنب وخطيئة، وإن وكله إلى غيره وكله إلى من لا يملك له ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وإن تخلى عنه استولى عليه عدوه وجعله أسيرًا له، فلا غنى له عنه طرفة عين
(1)
.
ثم هذا الذل والصغار واستشعاره يثمر التواضع والخضوع بين يدي الله الملك تبارك وتعالى، كما هو الحال في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد دخل مكة صلى الله عليه وسلم فاتحًا منتصرًا، ومع ذلك لم يصبه الكبر والغرور، وإنما طأطأ رأسه صلى الله عليه وسلم حتى كاد شعر لحيته أن يمس وسط الرحل تواضعًا للملك جل جلاله
(2)
، وخُيِّر صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيًّا ملِكًا أو أن يكون عبدًا نبيًّا،
(1)
ينظر: الفوائد، لابن القيم (ص: 56).
(2)
ينظر: سيرة ابن هشام (2/ 405).
فاختار أن يكون عبدًا نبيًّا؛ من شدة تواضعه صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم:«وَإِنَّ الله أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»
(1)
.
وجاء تواضعه صلى الله عليه وسلم وخضوعه لربه متمثلًا في دعائه؛ فجاء عن عائشة رضي الله عنها في وصف استسقائه صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللهمَّ أَنْتَ الله، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْغَنِيُّ، وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ»
(2)
.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم في الاستفتاح: «اللهمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ»
(3)
.
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد: «اللهمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللهمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2865).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1173)، والطبراني في الدعاء، رقم الحديث:(2172)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1173).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(771).
أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»
(1)
.
الأثر السادس: عدم الاغترار بملك الخلق:
إذا تعرف العبد على اسم الله الملك وما فيه من كمال؛ لم يغتر بملْك ملوك الدنيا مهما ملكوا؛ فإن ملكهم ناقص، من عدة جهات
(2)
، منها:
أن ملكهم بتمليك الله لهم؛ فهو عارية بيدهم سرعان ما ترد لمعيرها، قال تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].
أن ملكهم لا عن كمال صفاتهم وذاتهم، بل فيهم من النقائص والمعايب ما فيهم.
أن ملكهم غير مستكمل لحقيقة الملكية؛ فإنهم ملوك من جهة مملوكين من جهات أخرى.
أن ملكهم فيه شركة لغيرهم، وإن لم يكن شركة فمعاونة ومؤازرة ومشورة وحراسة.
أن ملكهم محدود ببعض الأشياء لا كلها، فلو ملكوا الأرض بأسرها ومن فيها ما ملكوا السماء ومن فيها.
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(1120)، ومسلم، رقم الحديث:(769).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 514)، والتحرير والتنوير (18/ 135).
أن ملكهم محدود ببعض الأوقات، فتجد أحدهم ملِكًا في وقت مملوكًا في أوقات أخرى.
أن مُلكهم مهما عظم وجل مصيره إلى الزوال والنفاد، كما قال تَعَالَى:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96].
ومن تأمل تاريخ ملوك الدنيا وجد هذا ظاهرًا جليًّا، فمهما بلغ ملكهم، وعلا مجدهم فقد ذهب كل ذلك عنهم وعادوا للمَلِك تَعَالَى، تاركين خلف ظهورهم ملكهم وأملاكهم.
فهذا النمرود الذي ملك الأرض كلها، كيف كانت نهايته؟
قال ابن كثير رحمه الله: «استمر- النمرود- في ملكه أربعمائة سنة، وكان قد طغى وبغى وتجبر وعتا وآثر الحياة الدنيا، ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له حمله الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع، فحاجَّ إبراهيم الخليل في ذلك وادعى لنفسه الربوبية
…
قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكًا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى عليه، ثم الثالثة فأبى عليه، وقال: اجمع جموعك، وأجمع جموعي، فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، فأرسل الله عليه ذبابًا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظامًا بادية، ودخلت واحدة منها في منخر الملك، فمكثت في منخره أربعمائة سنة عذبه الله تَعَالَى بها، فكان يضرب رأسه بالمزارب في هذه المدة كلها، حتى أهلكه الله عز وجل بها»
(1)
.
(1)
البداية والنهاية، لابن كثير (1/ 148 - 149).
وهذا فرعون الذي طغى وتجبر وتَعَالَى في قومه قائلًا: {يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]، كيف كانت نهايته؟
(1)
.
وبهذا يتبين أن الملك الحق هو الله جل جلاله، قال تَعَالَى:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116]، قال الشيخ السعدي رحمه الله:«وجوده وملكه وكماله حق، فصفات الكمال لا تكون حقيقة إلا لذي الجلال»
(2)
.
(1)
المرجع السابق (1/ 270 - 272).
(2)
تفسير السعدي (ص: 514).
الأثر السابع: النهي عن التسمي بملك الملوك ونحوه:
إذا علم العبد أن الله الملك الحق تبارك تَعَالَى، كما قال سُبْحَانَهُ:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116]، وكل من دونه ملكه ملك مستعار لا حقيقة له؛ علم أنه لا يستحق أحد أن يُسَمَّى ملك الأملاك، سواه تبارك وتعالى؛ لذا جاء التحذير الشديد من التسمي بهذا الاسم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخْنَعَ
(1)
اسْمٍ عِنْدَ الله رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ»، زاد ابن أبِي شيبة في روايته:«لَا مَالِكَ إِلَّا الله عز وجل»
(2)
، وفي رواية: «أَخْنَى
(3)
الْأَسْمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(4)
، وفي رواية أخرى:«أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ»
(5)
، وفي رواية أيضًا:«وَاشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَى رَجُلٍ تَسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ، لَا مَلِكَ إِلَّا الله عز وجل»
(6)
.
قال سفيان رحمه الله: مثل شاهان شاه، أي: ملك الملوك باللغة الفارسية.
فنبه سفيان رحمه الله على أن الذم لا ينحصر في اسم ملك الأملاك، بل وكل
ما أدى معناه بأي لسان كان
(7)
؟
(1)
أخنع، أي: أوضع وأذل. قال ابن بطال رحمه الله: «وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلًّا» . فتح الباري، لابن حجر (10/ 589).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6206)، ومسلم واللفظ له، رقم الحديث:(2143).
(3)
الخنى: الفحش في القول. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 86).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6205).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2143).
(6)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(10528)، وإسحاق بن راهويه في مسنده، رقم الحديث:(501)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(988).
(7)
ينظر: فتح الباري (10/ 590).
قال ابن حجر رحمه الله: «واستدل بهذا الحديث على تحريم التسمي بهذا الاسم؛ لورود الوعيد الشديد، ويلتحق به ما في معناه، مثل: خالق الخلق، وأحكم الحاكمين، وسلطان السلاطين، وأمير الأمراء»
(1)
.
وعلة النهي كما قال ابن عثيمين رحمه الله: «أن من تسمى بهذا الاسم؛ فقد جعل نفسه شريكًا مع الله فيما لا يستحقه إلا الله؛ لأنه لا أحد يستحق أن يكون قاضي القضاة، أو حاكم الحكام، أو ملك الأملاك، إلا الله تبارك وتعالى؛ فالله هو القاضي فوق كل قاض، وهو الذي له الحكم، ويرجع إليه الأمر كله»
(2)
.
اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربنا ونحن عبيدك، ظلمنا أنفسنا، واعترفنا بذنوبنا، فاغفر لنا ذنوبنا جميعًا؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
(1)
المرجع السابق.
(2)
القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 249).
الغالب الناصر النصير جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
أولًا: (الغالب):
قال الجوهري رحمه الله: «غلبه غلبة وغَلْبًا، وغَلَبًا أيضًا، قال الله تَعَالَى:{وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3]،
…
وتغلب على بلد كذا: استولى عليه قهرًا
…
»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(غلب) الغين واللام والباء أصل صحيح يدل على قوة وقهر وشدة
…
»
(2)
.
ثانيًا: (الناصر، والنصير):
قال الجوهري رحمه الله: «نصر: نصره الله على عدوه ينصره نصرًا، والاسم: النصرة، والنصير: الناصر، والجمع الأنصار، واستنصره على عدوه، أي: سأله أن ينصره عليه
…
»
(3)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «النون والصاد والراء أصل صحيح يدل على إتيان خير وإيتائه، ونَصَرَ اللهُ المسلمين: آتاهم الظفر على عدوهم، ينصرهم
(1)
الصحاح (1/ 215).
(2)
مقاييس اللغة (4/ 388).
(3)
الصحاح (3/ 393).
نصرًا، وانتصر: انتقم»
(1)
.
ورود أسماء الله (الغالب، الناصر، النصير) في القرآن الكريم:
أولًا: ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الغالب) في كتاب الله مرة واحدة، هي:
قول الله عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
ثانيًا: ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الناصر) في كتاب الله مرة واحدة، وذلك بصيغة التفضيل، وهي:
في قوله تَعَالَى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150].
ثالثًا: ورد اسمه سُبْحَانَهُ (النصير) أربع مرات في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قوله عز وجل: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40].
قوله عز وجل: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45].
قوله عز وجل: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31].
(1)
مقاييس اللغة (5/ 435).
ورود أسماء الله (الغالب، الناصر، النصير) في السنة النبوية:
أولًا: ورود اسم الله (الغالب) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله (الغالب) في السنة النبوية.
ثانيا: ورود اسم الله (الناصر- النصير) في السنة النبوية:
من ورودهما ما يلي:
جاء في حديث طويل قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي رَسُولُ الله، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي»
(1)
.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا قَالَ: اللهمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ»
(2)
.
معنى أسماء الله (الغالب، الناصر، النصير):
أولًا: معنى اسم الله الغالب:
- قال الطبري رحمه الله عن سعيد بن جبير رحمه الله: «{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21]، قال: فعال»
(3)
.
- قال الحليمي رحمه الله: «وهو البالغ مراده من خلقه، أحبوا أو كرهوا، وهذا- أيضًا- إشارة إلى كمال القدرة والحكمة، وأنه لا يُقهر ولا يُخدع»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2731).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(2632)، والترمذي، رقم الحديث:(3584)، وقال الترمذي: حسن غريب، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي اود، رقم الحديث:(2632).
(3)
تفسير الطبري (15/ 21).
(4)
الأسماء والصفات، للبيهقي (1/ 111).
- قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21]-: «أي: إذا أراد شيئًا فلا يرد، ولا يمانع، ولا يخالف، بل هو الغالب لما سواه»
(1)
.
- قال السعدي رحمه الله: «أي: أمره تَعَالَى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب»
(2)
.
ثانيًا: معنى اسم الله الناصر النصير:
قال الطبري رحمه الله في قوله سُبْحَانَهُ: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} [آل عمران: 150]: «وليكم وناصركم على أعدائه الذين كفروا، وقال في قوله سُبْحَانَهُ: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45]، وحسبكم بالله ناصرًا لكم على أعدائكم وأعداء دينكم، وعلى من بغاكم الغوائل، وبغى دينكم العوج»
(3)
.
قال القرطبي رحمه الله: «وله معان، منها: العون، يقال: نصره الله على عدوه ينصره نصرًا، فهو ناصر ونصير للمبالغة، والاسم: النصرة، والنصير: الناصر»
(4)
.
قال الحليمي رحمه الله: «الناصر هو الميسر للغلبة، والنصير هو الموثوق منه بأن لا يسلم وليه ولايخذله»
(5)
.
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 378).
(2)
تفسير السعدي (ص 395).
(3)
تفسير الطبري (5/ 75).
(4)
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، للقرطبي (ص: 338).
(5)
المنهاج (1/ 205).
قال ابن كثير رحمه الله: «{فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] يعني: نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء»
(1)
.
قال السعدي رحمه الله: «{وَنِعْمَ النَّصِيرُ}: لمن استنصره فدفع عنه المكروه»
(2)
.
ووجه الربط بين أسماء الله (الغالب والناصر والنصير): أنه إذا وثق العبد أن الله تَعَالَى هو الغالب الفعال لما يشاء، الذي لا يستطيع أحد أن يرد قضاءه وقدره، كان العبد على يقين أنه سينصره على عدوه.
اقتران اسم الله (الغالب، الناصر، النصير) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (الغالب) بغيره من أسماء الله الحسنى:
لم يقترن اسم الله (الغالب) بغيره من أسماء الله.
ثانيًا: اقتران اسم الله (الناصر، النصير) بغيره من أسماء الله الحسنى:
لم يقترن اسم الله (الناصر) بغيره من أسماء الله.
وورد اقتران (النصير) باسمه (الهادي)، وذلك في آية واحدة في قوله تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31].
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 237).
(2)
تفسير السعدي (1/ 546).
وجه الاقتران:
هذان الاسمان الكريمان يتناسبان مع سياق الآية التي يبين فيها الله سُبْحَانَهُ أن من سنته أن يقيض لكل نبي عدوًّا من المجرمين، ولكن الله سُبْحَانَهُ يتولى أنبياءه بهدايتهم إلى الحق، ونصرتهم على أهل الباطل من المجرمين، فهو سُبْحَانَهُ الذي يتولى أنبياءه وأولياءه بالهداية- بكل معانيها- ونصرتهم بجميع أنواع النصرة، بل إن كل من هداه الله نصره، وصاحب الهداية يتولاه الله، فيكون ناصرًا له.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الغالب، الناصر، النصير):
الأثرالأول: إثبات ما تتضمنه أسماء الله (الغالب، الناصر، النصير) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
فالله سُبْحَانَهُ هو الغالب الناصر على الإطلاق، فكل نصر مطلق هو من عند الله تَعَالَى؛ يقول سُبْحَانَهُ:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160]،
يقول السعدي رحمه الله في تفسيرها: «إن يمددكم الله بنصره ومعونته {فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160]، فلو اجتمع عليكم من في أقطارها، وما عندهم من العَدد والعُدد؛ لأن الله لا مغالب له، وقد قهر العباد وأخذ بنواصيهم، فلا تتحرك دابة إلا بإذنه، ولا تسكن إلا بإذنه، {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} ويكلكم إلى أنفسكم {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} فلا بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق، وفي ضمن ذلك: الأمر بالاستنصار بالله والاعتماد عليه، والبراءة من الحول والقوة، ولهذا قال:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]، وتقديم المعمول يؤذن بالحصر، أي: على الله توكلوا لا
على غيره، لأنه قد علم أنه هو الناصر وحده، فالاعتماد عليه توحيد محصل للمقصود، والاعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه، بل ضار، وفي هذه الآية الأمر بالتوكل على الله وحده، وأنه بحسب إيمان العبد يكون توكله»
(1)
.
وقد أوضح الله ذلك في آيات كثيرة، منها، قوله تَعَالَى:{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [التوبة: 116]، وقوله سُبْحَانَهُ:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
ومن الخطأ: قصر مفهوم النصر على الحرب، فهو نصر ومعونة إلهية عامة مطلقة، فما من عبد استنصر بالله، وتولاه، وتوكل عليه، إلا تولاه سُبْحَانَهُ وحفظه وحرسه وصانه، وما من عبد خافه واتقاه، إلا أمنه مما يخاف ويحذر، ويسر له من كل خير وسعة.
ويقول ابن القيم رحمه الله في معنى قوله تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]-: «أي: متى اعتصمتم به تولاكم ونصركم على أنفسكم وعلى الشيطان، وهما العدوان اللذان لا يفارقان العبد، وعدواتهما أضر من عداوة العدو الخارج، فالنصر على هذا العدو أهم، والعبد إليه أحوج، وكمال النصرة على العدو بحسب كمال الاعتصام بالله»
(2)
.
وهذا هو الإيمان الذي استقر في قلوب أنبيائه سُبْحَانَهُ، ومن شواهد ذلك:
قول نوح عليه السلام حين عابوا عليه اتباع الفقراء والضعفاء لدعوته،
(1)
تفسير السعدي (ص: 154).
(2)
مدارج السالكين (1/ 180).
وأمروه بطردهم: {مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 30].
قول صالح عليه السلام: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود: 63].
قول مؤمن آل فرعون: {يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر: 29].
قول النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه: «اللهمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ»
(1)
.
فعلى المؤمن الثقة بنصر الله لعباده المؤمنين، وفتحه ورحمته وقوته وعزته سُبْحَانَهُ، وعدم الرهبة من الكافرين إذا أخذ بالأسباب، وتوكل على الله وحده؛ وتوحيده، فالمنصور من نصره الله تَعَالَى، والمخذول من خذله، يقول تَعَالَى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
الأثر الثاني: تحقق نصر الله لعباده المؤمنين:
نصر الله لعباده المؤمنين وعد ثابت محقق منه سُبْحَانَهُ، يقول تَعَالَى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وهذا النصر متعدد الصور والطرق، ومن أبرز صور النصر ما يلي:
1 -
التمكين:
فالله تَعَالَى ينصر أولياءه بصورة التمكين، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا
(1)
سبق تخريجه.
عَنِ الْمُنْكَرِ} إلى قوله سُبْحَانَهُ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، فعبر عن التمكين بالنصر.
وهذا ما حصل لنبي الله يوسف عليه السلام كما قال تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]، قال القرطبي رحمه الله:«أي: وكما أنقذناه من إخوته، ومن الجب، فكذلك مكنا له، أي: عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتى تمكن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه»
(1)
.
كذلك تمكين الله له على خزائن مصر، في قوله تَعَالَى:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 54 - 56].
2 -
التأييد:
من نصر الله: تأييده لعباده، يقول تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، يقول السعدي رحمه الله عند هذه الآية: «{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} أي: قويناهم ونصرناهم عليهم، {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} عليهم وقاهرين
(1)
تفسير القرطبي (9/ 160).
(لهم)، فأنتم يا أمة محمد، كونوا أنصار الله ودعاة دينه، ينصركم الله كما نصر من قبلكم، ويظهركم على عدوكم»
(1)
.
3 -
الدفاع:
مِن نَصْر الله: دفاعُه عن عباده بحسب قوة إيمانهم، يقول تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]، بل من عجيب هذا النصر: أن يكون الدفاع حتى من شر النفس! وهذا ماذكره السعدي رحمه الله عند تفسير هذه الآية، فقال:«هذا إخبار ووعد وبشارة من الله، للذين آمنوا، أن الله يدافع عنهم كل مكروه، ويدفع عنهم كل شر- بسبب إيمانهم- من شر الكفار، وشر وسوسة الشيطان، وشرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، ويحمل عنهم عند نزول المكاره، ما لا يتحملون، فيخفف عنهم غاية التخفيف، كل مؤمن له من هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه، فمستقل ومستكثر»
(2)
.
4 -
الكيد والمكر بالأعداء:
من صور نصره سُبْحَانَهُ: أن يكيد بمن كاد لأوليائه ويعاديهم، كما في الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي
(1)
تفسير السعدي (ص: 861).
(2)
تفسير السعدي (1/ 539).
لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»
(1)
.
ومن تأمل في سيرة نبي الله يوسف عليه السلام، والمكائد التي تعرض لها، سواء من إخوته حين حاولوا التفريق بينه وبين أبيه، يقول تَعَالَى:{لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5]، أو من امرأة العزيز حين راودته وأودعته السجن، يقول تَعَالَى في ذلك:{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28]، وكذا كيد النسوة له، يقول تَعَالَى:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 33 - 34].
5 -
إجابة الدعاء:
من صور نصر الله: إجابة الدعاء، بل إن المتأمل يعلم أن غاية الداعي تحقيق نصره بإجابة الله لدعوته وتحقيق مطلوبه، يقول صلى الله عليه وسلم:«ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا الله فَوْقَ الغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ»
(2)
.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: «أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا فَكَانَتْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ، عَلَيْهَا وِشَاحٌ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6502).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8158)، والترمذي، رقم الحديث:(3598)، وابن ماجه، رقم الحديث:(1752)، حكم الألباني: ضعيف، لكن صح الشطر الأول بلفظ:«المُسَافِر» مكان «الإِمَام العَادِل» ، وفي رواية:«الوَالِد» . صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3598).
أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ، أَوْ وَقَعَ مِنْهَا، فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ وَهُوَ مُلْقًى فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا فَخَطِفَتْهُ، قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَتْ: فَاتَّهَمُونِي بِهِ، قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ، حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا، قَالَتْ: وَاللهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ، إِذْ مَرَّتِ الْحُدَيَّاةُ فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ، زَعَمْتُمْ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ، قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَتْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ حِفْشٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي، قَالَتْ: فَلَا تَجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِسًا، إِلَّا قَالَتْ:
وَيَوْمَ الوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ رَبِّنَا أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الكُفْرِ أَنْجَانِي»
(1)
.
الأثر الثالث: كيف يكون نصر الله تَعَالَى لأنبيائه ورسله وأوليائه؟
اقتضت حكمة الله تَعَالَى أن ينصر رسله وأولياءه في الدنيا ويوم القيامة، يقول الله تَعَالَى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وهذا النصر بحسب الإيمان، كما أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله، عند قوله تَعَالَى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141]، قال: «فالآية على عمومها وظاهرها، وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضاد الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل، بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسببوا إليه يوم أُحُدٍ بمعصية الرسول ومخالفته، والله سُبْحَانَهُ لم يجعل للشيطان على العبد سلطانًا حتى جعل له العبد سبيلًا إليه بطاعته والشرك به، فجعل الله حينئذ له
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(439).
عليه تسلطًا وقهرًا، فمن وجد خيرًا فليحمد الله تَعَالَى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»
(1)
.
وقد علق الطبري رحمه الله على قوله تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51] باستفهام مجاب عليه، فقال: «يقول القائل: وما معنى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51] وقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه، ومثَّلوا به، كشعياء ويحيى بن زكريا وأشباههما، ومنهم من همَّ بقتله قومه، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيًا بنفسه، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقًا لقومه، وعيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله، فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله، والمؤمنين به في الحياة الدنيا، وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت، وما نصروا على من نالهم بما نالهم به؟
قيل: إن لقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51] وجهين، كلاهما صحيح معناه، أحدهما أن يكون معناه: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا إما بإعلائنا لهم على من كذبهم وإظفارنا بهم، حتى يقهروهم غلبة، ويذلوهم بالظفر ذلة، كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان، فأعطاهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكالذي فعل بمحمد صلى الله عليه وسلم بإظهاره على من كذبه من قومه، وإما بانتقامنا ممن حادهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذبهم وعاداهم، كالذي فعل تَعَالَى ذكره بنوح وقومه، من تغريق قومه وإنجائه منهم، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه؛ إذ أهلكهم غرقًا، ونجى موسى ومن آمن به من بني إسرائيل
(1)
إغاثة اللهفان (1/ 101).
وغيرهم ونحو ذلك، أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتله من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى، من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له، وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم، فهذا أحد وجهيه، وقد كان بعض أهل التأويل يوجه معنى ذلك إلى هذا الوجه»
(1)
.
وينقل ابن كثير رحمه الله كلامًا لابن السدي رحمه الله، يعضد به ما ذهب إليه ابن جرير رحمه الله، فيقول: «قال السدي: لم يبعث الله رسولًا قط إلى قوم فيقتلونه، أو قومًا من المؤمنين يدعون إلى الحق فيُقتلون، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله لهم من ينصرهم، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا، قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يُقتلون في الدنيا، وهم منصورون فيها، وهكذا نصر الله سُبْحَانَهُ نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه، وكذبه وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصارًا وأعوانًا، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر، فنصره عليهم وخذلهم له، وقتل صناديدهم، وأسر سراتهم، فاستاقهم مقرنين في الأصفاد، ثم منَّ عليهم بأخذه الفداء منهم، ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة، فقرت عينه ببلده، وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم، فأنقذه الله به مما كان فيه من الشرك والكفر، وفتح له اليمن، ودانت له جزيرة العرب بكمالها، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.
(1)
تفسير الطبري (21/ 400 - 401).
ثم قبضه الله تَعَالَى إليه؛ لما له عنده من الكرامة العظيمة، فأقام الله أصحابه خلفاء بعده، فبلغوا عنه دين الله، ودعوا عباد الله إلى الله، وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها.
ثم لا يزال هذا الدين قائمًا منصورًا ظاهرًا إلى قيام الساعة؛ ولهذا قال تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] أي: يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل»
(1)
.
ومن تأمل في تطبيقات هذا النصر الإلهي ونماذجه مع الأنبياء؛ تجلي له معنى نصر الله تَعَالَى وتحقيق وعده، ومن هذه النماذج ما يلي:
نصر الله تَعَالَى لنوح عليه السلام، فلما صنع السفينة في أرض صحراء قفر لا ساحل فيها، سخر منه قومه، قال سُبْحَانَهُ:{إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38]، ولما أوحي إليه {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] دعا ربه بثلاث كلمات فقط، واستنصر الغالب الناصر سُبْحَانَهُ، {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]، فنصره نصرًا من السماء والأرض، بل كانت العلامة على بدء هذا النصر مخالفة لما عليه العادة، يقول تَعَالَى:{فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} [المؤمنون: 27]، قال السعدي رحمه الله: «حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه، فضلًا عن كونه منبعًا للماء؛ لأنه موضع النار، يقول تَعَالَى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ
(1)
تفسير ابن كثير (7/ 150).
عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 11 - 12] وقال: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات: 76]»
(1)
.
نصر الله ليوسف عليه السلام بأمور عدة، منها:
أنه لقنه الحجة في الحين، يقول تَعَالَى:{هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26].
اعتراف امرأة العزيز، يقول تَعَالَى:{أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51].
اعتراف زوج المرأة، يقول تَعَالَى:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف: 29].
اعتراف الشهود، يقول تَعَالَى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26].
إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته؛ ذلك أن الله تَعَالَى قال عن يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، وقال الله تَعَالَى على لسان إبليس:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83].
وأعظمها: شهادة الله تَعَالَى له، يقول تَعَالَى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف: 24]، فأتى بلام التأكيد {لِنَصْرِفَ} ولم يصرف السوء والفحشاء عنه، بل صرفه عن السوء والفحشاء، فأبعده الله عن مواطن السوء {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
نصر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن شواهد ذلك:
لما كان صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر في غار حراء في تلك الحالة
(1)
تفسير السعدي (ص 825).
الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل الله عليهما من نصره ما لا يخطر على البال، بداية بمعية الله معهما، فألهمه الثبات والسكينة والطمأنينة، والتأييد والحراسة من الملائكة، وعلو كلمة المؤمنين، يقول تَعَالَى:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
حين طُرد من مكة، فدخلها بعد عشر سنوات فاتحًا، يقول ابن القيم رحمه الله في وصف ذلك: «فصل: لما خرج رسول الله من حصر العدو دخل في حصر النصر: فعبثت أيدي سراياه بالنصر في الأطراف، فطار ذكره في الآفاق، فصار الخلق معه ثلاثة أقسام: مؤمن به، ومسالم له، وخائف منه، ألقى بذر الصبر في مزرعة {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، فإذا أغصان النبات تهتز بخزامى {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194]، فدخل مكة دخولًا ما دخله أحد قبله ولا بعده، حوله المهاجرون والأنصار لا يبين منهم إلا الحدق، والصحابة على مراتبهم، والملائكة فوق رؤوسهم، وجبريل يتردد بينه وبين ربه، وقد أباح له حرمه الذي لم يحله لأحد سواه.
فلما قايس بين هذا اليوم وبين يوم {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] فأخرجوه ثاني اثنين، دخل وذقنه تمس قربوس سرجه خضوعًا وذلًّا لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رؤوسها، ومدت إليه الملوك أعناقها، فدخل مكة مالكًا مؤيَّدًا
منصورًا، وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يُجَرُّ في الرمضاء على جمر الفتنة، فنشر بذي طوى عن القوم من يوم قوله: أحد أحد، ورفع صوته بالأذان، فأجابته القبائل من كل ناحية، فأقبلوا يؤمون الصوت، فدخلوا في دين الله أفواجًا وكانوا قبل ذلك يأتون آحادًا.
فلما جلس الرسول على منبر العز وما نزل عنه قط؛ مدت الملوك أعناقها بالخضوع إليه، فمنهم من سلم إليه مفاتيح البلاد، ومنهم من سأله الموادعة والصلح، ومنهم من أقر بالجزية والصغار، ومنهم من أخذ في الجمع والتأهب للحرب ولم يدر أنه لم يزد على جمع الغنائم وسوق الأسارى إليه، فلما تكامل نصره وبلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاءه منشور {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 1 - 3] وبعده توقيع {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1 - 2] جاءه رسول ربه يخبره بين المقام في الدنيا وبين لقائه، فاختار لقاء ربه شوقًا إليه، فتزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة»
(1)
.
وما سبق بعض من النماذج، وإلا فالسِّيَر غزيرة عظيمة بمظاهر نصر الله تَعَالَى.
الأثر الرابع: تحقيق أسباب النصر:
نصرة العبد لربه في عبادته والقيام بحقوقه، ورعاية عهوده، واجتناب نهيه، قال تَعَالَى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، يقول القرطبي
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 62).
رحمه الله: «فإن قيل: كيف قال تَعَالَى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} ، والنصر هو العون، والله سُبْحَانَهُ لايجوز عونه قولًا ولا يتصور فعلًا؟ فالجواب من أوجه:
أحدها: إن تنصروا دين الله بالجهاد عنه ينصركم.
الثاني: إن تنصروا أولياء الله بالدعاء.
الثالث: إن تنصروا نبي الله، وأضاف النصر إلى الله تشريفًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وأوليائه وللدين، كما قال تَعَالَى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 11]، فأضاف القرض إليه تسلية للفقير»
(1)
.
(2)
.
والله تَعَالَى قادر كمال القدرة على نصر دينه، فإنه نصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فهو القوي القادر على كل شيء، ولكنه ابتلى عباده بذلك ليظهر من ينصر دينه وشرعه ممن يتولى عن نصرته، قال تَعَالَى:{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40].
(1)
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، للقرطبي (ص: 339).
(2)
تفسير السعدي (ص: 785).
وأوجب العزيز الحكيم على نفسه نصرة المؤمنين تكرمًا منه وتفضلًا، فقال جل ذكره:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، «أي: أوجبنا ذلك على أنفسنا وجعلناه من جملة الحقوق المتعينة ووعدناهم به، فلا بد من وقوعه، فأنتم أيها المكذبون لمحمد صلى الله عليه وسلم إن بقيتم على تكذيبكم حلت بكم العقوبة ونصرناه عليكم»
(1)
.
وللنصر تكاليفه وأعباؤه، حين يتأذن الله به، بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه، ومن أهم هذه التكاليف التي يستجلب بها نصر الله ويستدام:
1 -
المداومة على الطاعات خاصة الصلاة، والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يقول تَعَالَى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41].
يقول الشنقيطي رحمه الله: «وهذا دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر، إلا مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فالذين يمكن الله لهم في الأرض ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر؛ فليس لهم وعد من الله بالنصر؛ لأنهم ليسوا من حزبه، ولا من أوليائه الذين وعدهم بالنصر، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه، فلو طلبوا النصر من
(1)
تفسير السعدي (ص: 644).
الله بناء على أنه وعدهم إياه، فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه، ثم يطلب الأجرة، ومن هذا شأنه فلا عقل له»
(1)
.
2 -
الصبر:
فكلما كان العبد صابرًا كان النصر منه قريبًا، فقد جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ»
(2)
، وهذا موافق لقول الله تَعَالَى:{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] وقال تَعَالَى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66].
وأعظم النصر هو أن ينتصر العبد على هواه، ويرد نفسه عن السوء، ويصبر عن معصية الله، ويصبر على طاعة الله، حينها يشعر العبد بحلاوة النصر الحقيقي.
3 -
العدل:
فالله سُبْحَانَهُ حرم الظلم على نفسه وعلى عباده، فقد جاء في الحديث:«يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا»
(3)
، وفي الحديث الآخر: «مَنْ أَصَابَ فِي الدُّنْيَا ذَنْبًا فَعُوقِبَ بِهِ، فَالله أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عُقُوبَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا فَسَتَرَهُ الله عَلَيْهِ، فَالله أَكْرَمُ مِنْ
(1)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 266).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(2849)، والدعاء للطبراني، رقم الحديث:(41)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(6806).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2577).
أَنْ يَعُودَ فِي شَيْءٍ قَدْ عَفَا عَنْهُ»
(1)
، بل أمر الله بالعدل حتى مع الكافر، فقال سُبْحَانَهُ:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
ومتى أقيم العدل حصل النصر، ولو كان الذي أقامه كافرًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة؛ ولهذا يروى: (الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة، وإن كانت مؤمنة)»
(2)
، فالنصر منوط بالعدل، والخذلان منوط بالظلم؛ ولذلك من أراد نصر الله ينبغي له أن يلزم العدل مع نفسه، ومع غيره.
4 -
الأخذ على يد الظالم والمفسد:
فمن حق المسلم أن يأخذ على يد من ظلمه، بل ويؤخذ على يده إن ظلم، وكل هذا من نصرته، ويدل على ذلك حديث:«انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجِزُهُ- أو تَمْنَعُهُ- مِنَ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ»
(3)
، كذلك حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: «كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، للهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ:
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(786)، وابن ماجه، رقم الحديث:(2604)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(2604).
(2)
الحسبة في الإسلام، ابن تيمية (ص: 7).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6952).
أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ- أو لَمَسَّتْكَ النَّارُ»
(1)
.
وعلى العبد المؤمن أن يستشعر أن أعظم النصر هو نصر يوم القيامة، يوم يجتمع الخصوم بين يديه، فيُقتص للمظلوم من الظالم، فيحذر ويبذل أسباب نصره في ذلك اليوم، يقول صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ»
(2)
.
الأثر الخامس: اليقين بأن تأخر نصر الله تَعَالَى لا يعني: انعدامه:
نصر الله سنة ماضية، ووعد منجز، آت لا محالة، يقول تَعَالَى:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]، فالمؤمن الصادق لايقنط من نصر الله ولا ييأس، والله سُبْحَانَهُ يقول:{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
وعلى هذا المنهج ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ففي حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، قال: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَالله لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ،
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1659).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2449).
حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا الله، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»
(1)
.
وتأخر النصر الموعود يعود لأحد سببين، وقد يجتمعان:
السبب الأول: وجود الحكم الربانية.
والسبب الثاني: حصول الموانع له.
وفيما يلي بيان ذلك:
من بحث في الحكم الربانية وجدها متعددة كثيرة، بعضها يفهمه العبد ولو بعد حين، والبعض الآخر استأثر الله بعلمه، ولعل من الحكم المعلومة للعبد ما يلي:
زيادة صلة العبد بربه، وهو يعاني ويتألم ويبذل، ولا يجد له سندًا إلا الله، ولا ملجأ إلا إليه، فإذا حصل النصر لا يطغى و لا ينحرف.
أن يجرب العبد كل القوى، فيدرك أن القوى وحدها بدون سند من الله لا تحقق النصر، إنما النصر من عند الله وحده.
الأخذ بأسباب نصر الله تَعَالَى في الدنيا والآخرة، وذلك بالخضوع لأمره وشريعته ونصرة دينه في نفسه ومع الناس، فالتفريط في الأسباب باب إلى الخذلان والمصائب وتأخر نصر الله تَعَالَى
(2)
.
أن تكون النفوس غير متهيئة بعد لاستقبال الحق والخير، وتحتاج لمزيد من الوقت.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3612).
(2)
سيأتي ذكر أسباب الخذلان.
أن يكون في الشر الذي يقاومه العبد بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منه؛ ليتمحض خالصًا، ويذهب وحده هالكًا، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار!
أن يكون الباطل المقاوم والمحارب لم ينكشف زيفه أمام الناس، فلو حصل النصر في ذلك الوقت لم يجد له أنصارًا من المخدوعين فيه الذين لم يقتنعوا بعد بفساده، وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يتأخر النصر والفرج؛ حتى ينكشف الباطل أمام الناس بوضوح.
لوجود مانع من الموانع- سيرد ذكرها لاحقًا-.
الأثر السادس: الحذر من أسباب الخذلان:
الله سُبْحَانَهُ هو الغالب القاهر دومًا، لا يملك أحد أن يرد ما قضى، أو يمنع ما أمضى، فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
(1)
.
(1)
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، للقرطبي (ص: 304).
(1)
.
ولذا فعلى العبد المؤمن أن يحذر أسباب الخذلان، والتي من أبرزها ما يلي:
الإعراض عن الله تعالى، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ابن القيم رحمه الله:«فأعظم الناس خذلانًا: من تعلق بغير الله، فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات، ومثل المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت، وهو أوهن البيوت، وبالجملة فأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها: التعلق بغير الله، ولصاحبه الذم والخذلان، كما قال تَعَالَى {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22] مذمومًا لا حامد لك، مخذولًا لا ناصر لك»
(2)
.
العُجْبُ: فالعجب طريق إلى خذلان المرء، بحيث يكل الله العبد إلى نفسه فلا ينصره، وقد قال تَعَالَى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 413).
(2)
المرجع السابق (1/ 455).
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]
خذلان الناس وقت حاجتهم، فمن خذل أخاه؛ خذله الله في موقف يحتاج إليه، وفي الحديث:«مَا مِنَ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ الله فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنَ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ الله فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ»
(1)
.
(2)
.
الظلم، يقول تَعَالَى:{وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى: 8]، والظلم ثلاث أنواع، وهي:
ظلم بين العبد وبين ربه، بأن يساوي الله بغيره، وهو المقصود في قوله تَعَالَى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(16630)، و أبو داود، رقم الحديث:(4884)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(4884).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2564).
ظلم بين العبد والناس، وهو المقصود في قوله تَعَالَى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42].
ظلم بين العبد ونفسه، وهو المقصود في قوله تَعَالَى:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32] وقوله: {ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44].
التنازع والاختلاف: قال تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 45 - 46]، فالاختلاف والتنازع مدعاة للفشل، وهو الخيبة والنكول عن إمضاء الأمر، ومن أكبر أسباب الضعف والجبن، ولذلك فسروا قوله تَعَالَى:{فَتَفْشَلُوا} أي: فتجبنوا عن عدوكم وتضعفوا عن قتالهم
…
{وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: تذهب قوتكم ودولتكم، فقد شبهت الدولة في نفاذ أمرها بالريح وهبوبها.
الغرور والرياء: والخروج للقتال على وجه البطر والفخر والرياء، والله تَعَالَى لا يعطي نصره إلا لمن خرج ابتغاء مرضاته ونصرة دينه؛ ولهذا نهى الله تَعَالَى عن مثل هذا الخروج، فقال تَعَالَى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47]، ومعنى {بَطَرًا} أي: فخرًا وأشرًا، {وَرِئَاءَ النَّاسِ} أي: خرجوا ليثني عليهم الناس، أي: يمدحونهم بالشجاعة والسماحة، والمقصود: نهي المؤمنين أن يكونوا أمثال أولئك في البطر والرياء، وأمرهم أن يكونوا أهل تقوى وإخلاص.
الركون إلى الظالمين، يقول تَعَالَى:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113].
الأثر السابع: محبة الغالب الناصر النصير:
إن النفس بطبيعتها تميل إلى حب من يعينها ويمدها بالقوة، تحب من ينصرها ويقهر عدوها، فإذا ماتيقن العبد بأن ربه الذي يأوي إليه غالب، لا يرده أحد عما أراد، ولا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد، وفوق ذلك هو ناصر لا يخذل من تولاه، ولا يحرم من استنصره، وحين يتيقن العبد بذلك؛ يحب ربه ويتعلق به.
الأثر الثامن: الدعاء باسم الله الغالب، الناصر، النصير:
إن شعور العبد بحاجته لنصرة الله تَعَالَى في جميع أحواله وشؤونه، وأنه لا يستغني عن نصرة ربه له طرفة عين، فهو محتاج إلى نصرة الله له على هواه ونفسه أولًا، وعلى شيطانه من الإنس والجن، وعلى أعدائه الكافرين، فبالجملة هو محتاج إلى عون الله ونصرته على فتن الشبهات والشهوات وكيد الأعداء.
ولذا جاءت أدعية كثيرة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في طلب النصرة من الله تَعَالَى على الشر وأهله، ومن هذه الأدعية قوله صلى الله عليه وسلم:«رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِيِ وَيَسِّرْ هُدَايَ إِلَيَّ، وانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَىَ عَلَيَّ»
…
الحديث
(1)
.
وكذلك كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته: أن يدعو الله بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(1)
.
وقد مدح الله عز وجل عباده وأولياءه المجاهدين بأنهم يتبرؤون من الحول والقوة، ويسألونه سُبْحَانَهُ النصر وتثبيت الأقدام، كما جاء ذلك في صفات الربيين، في قوله تَعَالَى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 146 - 147].
اللهم أعنا ولا تُعِن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا و لا تمكر علينا، واهدنا، ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1218).
نورُ السماواتِ والأرض جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «النور: الضياء، والجمع: أنوار»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «النون والواو والراء: أصل صحيح يدل على إضاءة، واضطراب، وقلة ثبات، منه: النور، والنار، سميا بذلك من طريقة الإضاءة؛ ولأن ذلك يكون مضطربًا سريع الحركة»
(2)
.
ورود اسم الله (نور السماوات والأرض) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في القرآن الكريم مرة واحدة، في قوله تَعَالَى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].
ورود اسم الله (نور السماوات والأرض) في السنة النبوية:
ورد وصف الله بالنور في السنة النبوية كثيرًا، ومن وروده: ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في قيامه من الليل
(1)
الصحاح (2/ 402).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 368).
فيقول: اللهمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
…
»
(1)
.
ثبوت اسم (النور) في حق الله تعالى:
اختلف العلماء في اثبات اسم الله (النور) في حق الله تَعَالَى، على قولين:
القول الأول: إن النور من أسماء الله تَعَالَى وصفاته، وإليه ذهب ابن تيمية وابن القيم والسعدي وغيرهم
(2)
، وعلى هذا فلا إشكال عندهم بالتسمي بعبد النور.
القول الثاني: إن النور ليس من أسماء الله تَعَالَى، واستدلوا بأنه لم يرد إلا مضافًا للسماوات والأرض، وإليه ذهب المشايخ: ابن باز رحمه الله، وصالح الفوزان، وعبدالعزيز آل الشيخ، وعليه فلا يصح التسمي بعبد النور
(3)
.
معنى اسم الله (نور السماوات والأرض):
قال الطبري رحمه الله عند قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]: «أي: هادي من في السموات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون»
(4)
، ثم نقل أقوال المفسرين في الآية، فمنهم: من قال: إن معناها: «الله مدبر السموات والأرض»
(5)
،
(1)
سبق تخريجه.
(2)
ينظر: النونية، لابن القيم (ص: 212)، وتفسير أسماء الله الحسنى، للسعدي (ص: 85).
(3)
فتاوى اللجنة الدائمة، المجموعة الثانية، رقم الفتوى:(19346).
(4)
تفسير الطبري (17/ 295).
(5)
المصدر السابق (17/ 296).
ومنهم: من قال: «ضياء السموات والأرض»
(1)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «هو الذي نوَّر قلوب العارفين بمعرفته والإيمان به، ونوَّر أفئدتهم بهدايته، وهو الذي أنار السموات والأرض بالأنوار التي وضعها، وحجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله:
وَالنُّورُ مِنْ أَسْمَائِهِ أَيْضًا وَمِنْ
…
أَوْصَافِهِ سُبْحَانَ ذِي البُرْهَانِ
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَلَامًا قَدْ حَكَا
…
هُ الدَّارِمِيُّ عَنْهُ بِلَا نُكْرَانِ
مَا عِنْدَهُ لَيْلٌ يَكُونُ وَلَا نَهَا
…
رٌ قُلْتُ تَحْتَ الفَلْكِ يُوجِدُ ذَانِ
نُورُ السَّمَواتِ العُلَى مِنْ نُورِهِ
…
والأَرْضِ كَيْفَ النَّجْمُ والقَمَرَانِ!
مِنْ نُورِ وَجْهِ الرَّبِّ جل جلاله
…
وَكَذَا حَكَاهُ الحَافِظُ الطَّبَرَانِي
فَبِهِ اسْتَنَارَ العَرْشُ والكُرْسِيُّ مَع
…
سَبْعِ الطِّبَاقِ وسَائِرِ الأَكْوَانِ
وَكِتَابُهُ نُورٌ كَذَلِكَ شَرْعُهُ
…
نُورٌ كَذَا المَبْعُوثُ بِالفُرْقَانِ
وَكَذَلِكَ الإِيَمانُ فِي قَلْبِ الفَتَى
…
نُورٌ عَلَى نُورٍ مَعَ القُرْآنِ
وَحِجَابُهُ نُورٌ فَلَوْ كَشَفَ الحِجَا
…
بَ لَأَحْرَقَ السُّبُحَاتُ لِلْأَكْوَانِ
وَإِذَا أَتَى لِلْفَصْلِ يُشْرُقُ نُورُهُ
…
فِي الأَرْضِ يَوْمَ قِيَامَةِ الأَبْدَانِ
وَكَذَاكَ دَارُ الرَّبِّ جَنَّاتُ العُلَى
…
نُورٌ تَلَأْلَأَ لَيْسَ ذَا بُطْلَانِ
(3)
(1)
المصدر السابق (17/ 296).
(2)
تفسير السعدي (5/ 303).
(3)
النونية، لابن القيم (2/ 237).
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (نور السماوات والأرض) بأسمائه الأخرى في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله (نور السماوات والأرض) بأي اسم آخر في كتاب الله.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (نور السماوات والأرض):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (نور السماوات والأرض) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
يقول الشيخ السعدي رحمه الله
(1)
: «النور من أوصافه تَعَالَى، وهو على نوعين:
1 -
نور حسي: وهو ما اتصف به سُبْحَانَهُ من النور العظيم، الذي لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاتُ وجهه، ونورُ جلاله ما انتهى إليه بصره من خلقه، وهذا النور لا يمكن التعبير عنه إلا بمثل هذه العبارة النبوية المؤدية للمعنى العظيم، وأنه لا تطيق المخلوقات كلها الثبوت لنور وجهه لو تبدى لها، ولولا أن أهل دار القرار يعطيهم الرب حياة كاملة، ويعينهم على ذلك لما تمكنوا من رؤية الرب العظيم، وجميع الأنوار في السموات العلوية كلها من نوره، بل نور جنات النعيم التي عرضها السموات والأرض- وسعتها لا يعلمها إلا الله- من نوره، فنور العرش والكرسي والجنات من نوره، فضلًا عن نور الشمس والقمر والكواكب.
(1)
تفسير السعدي (ص: 569).
2 -
نور معنوي: وهو النور الذي نور قلوب أنبيائه وأصفيائه وأوليائه وملائكته، من أنوار معرفته وأنوار محبته؛ فإن لمعرفته في قلوب أوليائه المؤمنين أنوارًا بحسب ما عرفوه من نعوت جلاله، وما اعتقدوه من صفات جماله، فكل وصف من أوصافه له تأثير في قلوبهم؛ فإن معرفة المولى أعظم المعارف كلها، والعلم به أجل العلوم، والعلم النافع كله أنوار في القلوب، فكيف بهذا العلم الذي هو أفضل العلوم وأجلها وأصلها وأساسها.
وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم سؤال هذا النور، ففي الحديث:«اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا»
(1)
.
فمن هذا الاسم تنطلق معاني العظمة والكبرياء والجلال والمجد؛ لتملأ القلوب من أنوار الهيبة والتعظيم والإجلال والتكبير، وتظهر معاني الجمال والبر والإكرام من أنوار المحبة والود والشوق، وتظهر معاني الرحمة والرأفة والجود واللطف من أنوار الحب النامي على الإحسان، وأنوار الشكر والحمد بأنواعه والثناء، وتبرز معاني العلم والإحاطة والشهادة والقرب الخاص من أنوار مراقبته، وتوصلهم إلى مقام الإحسان الذي هو أعلى المقامات كلها؛ «أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
(2)
، فكل معنى ونعت من نعوت الرب يكفي في امتلاء القلب من نوره.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6316)، ومسلم، رقم الحديث:(763).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(8).
وقد تحدث ابن القيم رحمه الله عن نور الله المعنوي في قلب المؤمن، عند تفسيره لقول الله تَعَالَى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].
فقال: «لهذا النور فاعل وقابل، ومحل وحامل، ومادة، وقد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل:
فالفاعل: هو الله تَعَالَى مفيض الأنوار، الهادي لنوره من يشاء، والقابل: العبد المؤمن، والمحل قلبه، والحامل: همته وعزيمته وإرادته، والمادة: قوله وعمله.
وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تقر به عيون أهله، وتبتهج به قلوبهم.
وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان:
أحدهما: طريقة التشبيه المركب، وهي أقرب مأخذًا، وأسلم من التكلف، وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ومقابلته بجزء من المشبه به، وعلى هذا عامة أمثال القرآن الكريم.
فتأمل صفة مشكاة، وهي كوة لا تنفذ لتكون أجمع للضوء قد وضع فيها مصباح، وذلك المصباح داخل زجاجة، تشبه الكوكب الدري في صفائها
وحسنها، ومادته من أصفى الأدهان، وأتمها وقودًا من زيت شجرة في وسط القراح
(1)
، لا شرقية، ولا غربية، بحيث تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار، بل هي في وسط القراح محمية بأطرافه، تصيبها الشمس أعدل إصابة، والآفات إلى الأطراف دونها، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائه وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار، فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تَعَالَى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به.
الطريقة الثانية: طريقة التشبيه المفصل، فقيل: المشكاة صدر المؤمن والزجاجة قلبه، وشبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها، وكذلك قلب المؤمن؛ فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة، فهو يرحم، ويحسن، ويتحنن، ويشفق على الخلق برقته، وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه، ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء، وبصلابته يشتد في أمر الله تَعَالَى، ويتصلب في ذات الله تَعَالَى، ويغلظ على أعداء الله تَعَالَى، ويقوم بالحق لله تَعَالَى، وقد جعل الله تَعَالَى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف: القلوب آنية الله في أرضه، وأحبها إليه أرقها، وأصلبها، وأصفاها»
(2)
.
(1)
القراح من الأرض: «التي ليس بها شجر ولم يختلط بها شيء» . تهذيب اللغة، للأزهري (4/ 28).
(2)
ينظر: اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم (2/ 50 - 52).
الأثر الثاني: الإيمان بأن كتب الله ورسله ودينه نور من عنده:
فكل الكتب المنزلة من عنده تَعَالَى- قبل تحريف أقوامها
(1)
- هي نور يضيء الله به قلوب العباد، في كل زمان ومكان، ومن شواهد ذلك:
قوله تَعَالَى عن التوراة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وقال تَعَالَى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].
قوله تَعَالَى عن الإنجيل: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46].
قوله تَعَالَى عن القرآن: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174]، وهو أعظم الأنوار المنزلة.
قوله تَعَالَى عن محمد صلى الله عليه وسلم: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46]، وفي موضع آخر قال سُبْحَانَهُ:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة، 15]، وقد تنوعت أقوال
(1)
فكل الكتب السماوية تعرضت للتحريف، عدا القرآن الكريم الذي تولى الله حفظه، يقول تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
المفسرين في المراد بالنور في هذه الآية على ثلاثة أقوال
(1)
، وهي:
القرآن الكريم.
محمد صلى الله عليه وسلم.
الإسلام.
ووجه تسمية كل من هذه الثلاثة نورًا؛ لاشتراكهم في هداية الناس لنور الله، وإخراجهم من ظلمات الغي والضلالة لأنوار الحق والهداية، فلولا النورالحسي لما أدرك البصر شيئًا من المبصرات، ولولا ما جاء به النبي من القرآن والإسلام لما أدرك ذو البصيرة الحق من الباطل.
الأثر الثالث: محبة الله نور السموات والأرض:
حري بالمسلم أن يحب هذا الإله العظيم الكريم الذي ينير لعباده طريق دنياهم وآخرتهم، ويمن عليهم بإخراجهم من الظلمات إلى النور، يقول الله تَعَالَى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]، ويقول- جل في علاه-:{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16].
ولو تأمل العبد في قوله تَعَالَى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] لعرف أن طرق الباطل كثيرة، وهي ظلمات عديدة،
(1)
انظر: تفسير الطبري (10/ 143)، وتفسير السعدي (ص: 226).
وطريق الحق واحدة وهو نور واحد، والله الهادي إلى هذا النور بكرمه؛ فالحمد لله {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ومن فيهن.
الأثر الرابع: نور الله (دينه) باقٍ بحفظ الله:
فمهما اجتهد الكفار والمنافقون في أي زمان ومكان، بأن يحرفوا هذا القرآن، ويطعنوا بلغته ودينه، فسيبقى إلى يوم الدين، وهذا من الإعجاز القرآني، فالله حافظ كتابه، وكتابه حافظ لهذه الأمة من الزوال، يقول تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وغاية ما يسعهم في محاولة الإطفاء: الكلمة؛ سواء ببث الأكاذيب والدسائس للتشكيك في دين الله، أو بالتحريض على أهل الإسلام والعلماء، ولذا تكرر ذكر «بأفواههم» في القرآن، كما في قوله تَعَالَى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] إشارة منه سُبْحَانَهُ إلى أن هذا سلاحهم الضعيف في المعركة محسومة النتائج.
ورد الله على محاولتهم الكلامية الطائشة التي لا يمكنها أن تقاوم نور الله، بأن الله متم نوره رغم كرههم، وأن دين الحق والنور سيبقى ظاهرًا على كل الأديان وفي كل الأزمان {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، وهذا وعد تطمئن له قلوب المؤمنين، فيصبرون على الأذى والمشقة؛ لأن النتائج عظيمة لصالحهم، فدين الله سيعلو على سائر الأديان.
الأثر الخامس: السعي للعمل الصالح الذي ينير للعبد يوم القيامة:
فإن العبد أفقر ما يكون إلى أن يفتح الله له أبواب رحمته، فيشرح صدره للهدى وينور طريقه للصلاح، ويأخذ بيده إلى طريق فلاحه ونجاحه، ولا
يوفق العبد لذلك إلا بمعونة من الله وفضل، قال تَعَالَى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22].
والمؤمن متى استسلم لأمر ربه، والتزم بفرائضه، وأدى أوامره، واجتنب نواهيه؛ فإنه بهذا العمل يتقرب إلى الله ويتحبب إليه، فيقذف الله في قلبه نورًا، حتى إذا ما امتلأ القلب بنور الله، استنار به الوجه في الدنيا والآخرة، وانقادت الجوارح بالطاعة راغبة، وهذا النور الذي في القلب هو الذي يمنع العبد من ارتكاب الفواحش، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ»
(1)
، فأخبر أن وقوع هذه الكبائر لا يكون ولا يقع مع وجود الإيمان ونوره
(2)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «قال ابن عباس: إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلمة في القلب، وغبرة في الوجه، وضعفًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق»
(3)
.
وهذا أمر محسوس لمن كان له قلب؛ فإن ما في القلب من النور والظلمة، والخير والشر يسري كثيرًا إلى الوجه والعين، وهما أعظم الأشياء ارتباطًا بالقلب؛ ولهذا يروى عن عثمان، أو غيره أنه قال: «ما أسرَّ أحد بسريرة، إلا
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2475)، ومسلم، رقم الحديث:(57).
(2)
ينظر: فتح الرحيم العلام، للسعدي (ص 62 - 65).
(3)
الداء والدواء، لابن القيم (ص: 135).
أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه»
(1)
.
ومن صور الأعمال الصالحة المخصوصة التي ورد فيها نصوص تدل على أنها تنور وجه العبد يوم القيامة، ما يلي:
الصلاة، وخاصة قيام الليل:
(2)
، ويقول تَعَالَى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح: 29].
ويقول بعض السلف في ذلك: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار»
(3)
.
قراءة القران:
فعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْصِنِي، قَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى الله، فَإِنَّهُ رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زِدْنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ الله، فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ، وَذُخْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ
…
»، رواه ابن حبان في صحيحه، في حديث طويل
(4)
.
(1)
الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/ 136).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(223).
(3)
عزاه السيوطي لشريك، قاله عن ثابت بن موسى الزاهد. ينظر: تدريب الراوي (1/ 287).
(4)
أخرجه ابن حبان، رقم الحديث:(361)، حكم الألباني: ضعيف جدًّا، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(362).
تعليم حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
فمن بلَّغ الأحاديث رُزق النضارة، يقول صلى الله عليه وسلم:«نَضَّرَ اللهُ امْرأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ»
(1)
.
ويقول سفيان بن عيينة رحمه الله: «ما من أحد يطلب الحديث إلا وفي وجهه نضرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نَضَّرَ اللهُ امْرأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ)
(2)
»
(3)
.
المشي إلى المساجد في الظلمات، خاصة صلاة الفجر وصلاة العشاء:
يقول صلى الله عليه وسلم: «بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ، بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(4)
.
إتمام غسل الأعضاء كاملة عند الوضوء:
يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ»
(5)
.
قراءة سورة الكهف يوم الجمعة:
يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَمَا أُنْزِلَتْ، كَانَتْ لَهُ
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(4240)، وأبو داود، رقم الحديث:(3660)، والترمذي، رقم الحديث:(2656)، وابن ماجه، رقم الحديث:(232)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(3660).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
شرف أصحاب الحديث، للخطيب (ص: 19).
(4)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(561)، والترمذي، رقم الحديث:(223)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(561).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(246).
نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا ثُمَّ خَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللهمَّ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ كُتِبَ فِي رَقٍّ، ثُمَّ طُبِعَ بِطَابَعٍ فَلَمْ يُكْسَرْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
(1)
.
الشيب في الإسلام:
يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ القِيَامَةِ»
(2)
.
وفي الحديث الآخر: «الشَّيْبُ نُورٌ فِي وَجْهِ الْمُسْلِمِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُمْ يَنْتِفُونَ قَال: فَمَنْ شَاءَ فَلْيَنْتِفْ نُورَهُ»
(3)
.
رمي الجمار:
يقول صلى الله عليه وسلم: «إذَا رَمَيْتَ الْجِمَارَ، كَانَ لَكَ نُورًا يَومَ الْقِيَامَةِ»
(4)
.
(1)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10722)، والحاكم، رقم الحديث:(2080)، الطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(1455)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2651).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(1634)، والنسائي، رقم الحديث:(3144)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(1634).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(24585)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(5971)، وابن عدي في الكامل واللفظ له، رقم الحديث:(5/ 250)، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1244).
(4)
أخرجه البزار، رقم الحديث:(1140)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(526).
رمي سهم في سبيل الله:
يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ كَانَ لَهُ نُورًا يَوْمَ القِيَامَةِ»
(1)
.
المحبة في الله ولله:
(2)
.
المقسطون في ولاياتهم:
يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ الله عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عز وجل، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»
(3)
.
وبالجملة: فالحسنة والطاعة هي التي تنير الوجه، وتضيء القلب، وتشرح الصدر، وليست آية معينة، ولا سورة مخصوصة، بل القرآن الكريم،
(1)
أخرجه البزار، رقم الحديث:(9312)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2555).
(2)
أخرجه ابن حبان، رقم الحديث:(573)، والبيهقي في شعب الإيمان (8584)، حكم الألباني: صحيح، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(572).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1827).
والعمل الصالح بعمومه، ولا يجوز تخصيص شيء من الدين بفضل خاص، إلا بدليل، وإلا أصاب العبدُ نصيبًا من الابتداع المذموم.
الأثر السادس: دعاء الله باسمه نور السموات والأرض:
فمن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يرزقه الله النور في كل حاسة، وفي كل اتجاه، أخرج البخاري
(1)
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم الليل:«وكان يقول في دعائه: اللهمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا، قَالَ كُرَيْبٌ: وَسَبْعٌ فِي التَّابُوتِ. فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ فَذَكَرَ: عَصَبِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي»
(2)
.
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم يقول هذا الدعاء- أيضًا- في قيام الليل قبل صلاة الفجر؛ لأن الليل مظلم، والعبد في الظلمة يحتاج إلى نور، فناسب ذكر هذا الدعاء، كما ثبت أنه قاله في سجوده
(3)
، وهو أقرب ما يكون العبد من ربه، وحري بمن سأل الله في السجود أمرًا أن يستجاب له.
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم أيضًا في قيام الليل: «اللهمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6316).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
ذكر الروايات في موطن هذا الدعاء ابن حجر في فتح الباري (3/ 78).
(4)
سبق تخريجه.
وقد ثبت من دعائه صلى الله عليه وسلم في أذكار الصباح والمساء قوله: «إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الْيَوْمِ فَتْحَهُ، وَنَصْرَهُ، وَنُورَهُ، وَبَرَكَتَهُ، وَهُدَاهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ، ثُمَّ إِذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ»
(1)
، كأنها إشارة إلى أن الكون لايكون مضيئًا دون أن ينال من نور الله المعنوي نصيب.
اللهم إنا نسألك أن تجعل في قلوبنا نورًا، وفي أبصارنا نورًا، وفي سمعنا نورًا، وعن يميننا نورًا، وعن يسارنا نورًا، وفوقنا نورًا، وتحتنا نورًا، وأمامنا نورًا، وخلفنا نورًا، واجعل لنا نورًا.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5084)، والطبراني في الكبير (3453)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5084).
الواحد الأحد جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «أحد بمعنى الواحد، وهو أول العدد
…
واستأحد الرجل: انفرد»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(وحد) الواو والحاء والدال: أصل واحد يدل على الانفراد، من ذلك الوحدة، وهو واحد قبيلته، إذا لم يكن فيهم مثله»
(2)
.
ورود اسم الله (الواحد - الأحد) في القرآن الكريم:
أولًا: ورد اسم الله (الواحد):
ورد اسم الله الواحد ثنتين وعشرين مرةً في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163].
قوله عز وجل: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39].
3 -
قوله عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48].
(1)
الصحاح (2/ 440).
(2)
مقاييس اللغة (6/ 90).
ثانيًا: ورد اسم الله (الأحد):
ورد اسم الله (الأحد) مرة واحدة في كتاب الله، وذلك في قوله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1].
ورود اسم الله (الواحد، الأحد) في السنة النبوية:
أولًا: ورد اسم الله (الواحد الأحد) في السنة النبوية مقترنًا، ومن وروده ما يلي:
(1)
.
ثانيًا: ورد اسم الله (الواحد) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ القُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: الله الوَاحِدُ الصَّمَدُ، ثُلُثُ القُرْآنِ»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(19278)، وأبو داود، رقم الحديث:(985)، والنسائي، رقم الحديث:(1300)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف أبي داود، رقم الحديث:(985).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5015).
ثالثًا: ورد اسم الله (الأحد) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قال الله: كَذَّبَنِي ابنُ آدَمَ ولم يَكُنْ له ذلك، وشَتَمَنِي ولم يَكُنْ له ذلك، فأمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فقولُهُ: لن يُعِيدَني كما بَدَأني، وليسَ أول الخلقِ بأهونَ عليَّ مِن إعادَتِهِ، وأمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فقولُهُ: اتَّخَذَ الله ولدًا، وأنا الأحدُ الصمدُ، لم أَلِدْ، ولم أُولَدْ، ولم يكن لي كُفْئًا أحدٌ»
(1)
.
حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ»
(2)
.
معنى اسم الله (الواحد، الأحد) في حقه- سُبْحَانَهُ:
- قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]-: «
…
معبود واحد ورب واحد، فلا تعبدوا غيره، ولا تشركوا معه سواه، فإن من تشركونه معه في عبادتكم إياه، هو خلق من خلق إلهكم مثلكم، وإلهكم إله واحد، لا مثل له ولا نظير».
واختلف في معنى وحدانيته- تَعَالَى ذكره-:
فقال بعضهم: معنى وحدانية الله معنى نفي الأشباه والأمثال عنه، كما يقال: فلان واحد الناس، وهو واحد قومه، يعني بذلك: أنه ليس له في الناس
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4974).
(2)
سبق تخريجه.
مثل، ولا له في قومه شبيه، ولا نظير؛ فكذلك معنى قول الله {وَاحِدٌ} يعني به الله: لا مثل له، ولا نظير
…
وقال آخرون: معنى وحدانيته- تَعَالَى ذكره- معنى انفراده من الأشياء، وانفراد الأشياء منه، قالوا: وإنما كان منفردًا وحده؛ لأنه غير داخل في شيء ولا داخل فيه شيء
…
»
(1)
.
قال الزجاج رحمه الله: «تفرده بصفاته التي لا يشركه فيها أحد، واللهتَعَالَى هو الواحد في الحقيقة، ومن سواه من الخلق آحاد تركبت»
(2)
.
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «في (الأحد) نفي لكل شريك لذي الجلال»
(4)
.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]: «يعني: هو الواحد الأحد، الذي لا نظير له ولا وزير، ولا ندّ ولا شبيه ولا عديل»
(5)
.
(1)
تفسير الطبري (2/ 745).
(2)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 56).
(3)
شأن الدعاء (ص: 81).
(4)
زاد المعاد (4/ 181).
(5)
تفسير ابن كثير (8/ 527).
قال السعدي رحمه الله في تفسير قوله تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163]، أي: متوحد منفرد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فليس له شريك في ذاته، ولا سمي له ولا كفؤ له، ولا مثيل، ولا نظير، ولا خالق، ولا مدبر غيره، فإذا كان كذلك، فهو المستحق لأن يؤلَه ويُعبَد بجميع أنواع العبادة، ولا يشرك به أحد من خلقه»
(1)
.
(2)
.
الفرق بين الواحد والأحد:
الفرق بينهما راجع إلى كون «الواحد» : المتفرد بذاته فلا يضاهيه أحد، و «الأحد»: المنفرد بصفاته ونعوته فلا يشاركه فيها أحد
(3)
، وقيل: بل هو أعم يشمل تفرد الذات والصفات
(4)
(5)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 77).
(2)
المرجع السابق (ص: 945).
(3)
ينظر: شأن الدعاء، للخطابي (ص: 83)، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 159)، وتفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 665).
(4)
ينظر: تفسير أسماء الله الحسنى، للزجاج (ص: 58).
(5)
ذكر ابن رجب فروقًا أخرى، تراجع في المجموع من تفسيره (2/ 665).
اقتران اسم الله (الواحد - الأحد) بأسمائه الأخرى- سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (الواحد) بأسمائه الأخرى:
- اقتران اسم الله (الواحد) باسم الله (القهار):
تقدم بيانه في اسم الله (القهار).
ثانيًا: اقتران اسم الله (الأحد) بأسمائه الأخرى في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله (الأحد) بأي من أسماء الله تَعَالَى.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الواحد، الأحد):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الواحد، الأحد) من الصفات:
الله عز وجل الواحد الأحد الذي توحد بجميع الكمالات، وتفرد بكل كمال، وباين بأحديته جميع الموجودات، فلا يشاركه مشارك لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل واحد أحد فيها، قال تَعَالَى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]
(1)
، وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
1 -
وحدانية الله عز وجل في ذاته:
الله عز وجل واحد أحد في ذاته المقدسة، بائن من خلقه، مستو على عرشه، لم يكن له صاحبة، ولم يتخذ ولدًا، ولا شريكًا في الملك، ولا وليًّا من الذل،
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 77 - 78).
يقول تَعَالَى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
2 -
وحدانية الله عز وجل في أسمائه:
الله عز وجل واحد أحد في أسمائه الحسنى التي تليق بجلاله وعظمته وكماله، تفرد بحسنها فلا أحسن منها، وتفرد بعددها فلا يشاركه أحد في كثرتها ولا في العلم بجميعها، وتفرد بأسماء منها اختص بها فلا يتسمى بها غيره، كاسمه: الله، والأحد، والصمد، والرحمن، والخالق، والرازق
(1)
.
وواحد أحد في كمالها، فبعض أسمائه وإن تسمى بها غيره إلا أنه واحد أحد في كمالها؛ فهي دالة على صفات كمال ونعوت جلال، لا أعلام محضة، بخلاف تسمي البشر بها، فربما تسمى الواحد منهم بعزيز، وكريم، وعليم وليس هو كذلك، وربما كان كذلك إلا أن اتصافه بما يدل عليه الاسم ناقص يليق بحاله وعجزه وضعفه؛ ولذا قال تَعَالَى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].
3 -
وحدانية الله عز وجل في صفاته:
الله عز وجل واحد أحد في صفاته العلية، متفرد بأوليته في الوجود بلا ابتداء كما جاء في الحديث:«كَانَ اللَّه وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ»
(2)
، ومتفرد بآخريته بالديمومة والبقاء بلا انتهاء، قال تَعَالَى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3].
(3)
وواحد أحد في كمال صفاته وجلالها؛ فهو الأحد في قهره وغلبته لكل
(1)
ينظر: تحفة المودود بأحكام المولود، لابن القيم (ص: 125).
(2)
أخرجه البخاري (3191).
(3)
ينظر: إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 3).
شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16].
وهو الأحد في صمديته وكماله من كل وجه، وقصد سائر العباد له في جميع الحوائج والنوائب والمدلهمات، قال تَعَالَى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2].
وهو الأحد كذلك في حياته، وقيوميته، وعلمه، وقدرته، وعظمته، وجلاله، وجماله، وحمده، وحكمته، ورحمته، وغيرها من صفاته، موصوف فيها بغاية الكمال ونهايته، قال تَعَالَى:{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].
ولما كان كذلك تعذر على جميع الخلق الإحاطة بشيء منها، أو إدراك شيء من نعوتها، فضلًا عن مماثلة شيء منها، قال تَعَالَى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، وقال سُبْحَانَهُ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فليس له فيها مثيل ولا نظير، ولا مكافئ بوجه من الوجوه
(1)
.
4 -
وحدانية الله عز وجل في أفعاله:
الله عز وجل واحد أحد في أفعاله وربوبيته لا شريك له ولا ظهير ولا معين، ولا منازع ولا مغالب
(2)
، قال تَعَالَى:{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 4 - 5]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16].
(1)
ينظر: فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 60 - 61).
(2)
ينظر: فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 60).
(1)
.
وواحد متفرد في ملكوته تشريعًا وحكمًا دينيًّا ودنيويًّا، قال تَعَالَى:
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، وقال سُبْحَانَهُ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، قال صلى الله عليه وسلم:«أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ»
(2)
.
(1)
معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، للحكمي (1/ 136).
(2)
أخرجه الترمذي واللفظ له، رقم الحديث:(3095)، والبيهقي في الكبرى، رقم الحديث:(20409)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3095).
وواحد متفرد في ملكوته في الآخرة- كما تفرد في ملكوته في الدنيا- بأنواع التصرفات من إفناء الأحياء، وقبض الأرض وطي السماء، والإذن بالنفخ في الصور، وبعث الموتى ونشرهم، وكسوة من شاء من الخلق، وظل من شاء تحت ظل عرشه، والشفاعة والإذن فيها لمن شاء، كما قال سُبْحَانَهُ:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]، والعرض والحساب، ونصب الصراط وتثبيت الأقدام، والجزاء بالجنة أو النار، قال تَعَالَى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]، وقال سُبْحَانَهُ:{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].
وواحد أحد في كمال الأفعال؛ فكلها حكمة، وعدل، ورحمة، وإحسان ليس فيها فعل بلا مصلحة، ولا فعل عشواء وعبث، كما جاء في الحديث:«والخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، والشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ»
(1)
.
ثم إنه سُبْحَانَهُ في جميع ما سبق من الذات والأسماء والصفات والأفعال واحد أحد متفرد عن كل نقص، وعيب، وسوء؛ لكماله من كل وجه وفي كل حال، قال تَعَالَى:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27]، وقال سُبْحَانَهُ:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(771).
الأثر الثاني: توحيد الله الواحد الأحد، ودلالة الاسمين الكريمين عليه
(1)
.
إن أعظم أثر وموجب لهذين الاسمين الجليلين الكريمين: توحيد الله عز وجل، وإفراده بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات؛ إذ معناهما- كما سبق- دال على تفرده بالأفعال مما يوجب على العبد أن يوحد ربه بالربوبية، فيعتقد أنه وحده الرازق ولا رازق غيره، ووحده الضار النافع، ولا ضار ولا نافع غيره، ووحده الشافي ولا شافي غيره، ووحده منزل المطر ومجري السحاب وليس ذلك لأحد سواه، ووحده الذي بيده الشفاعة وليست لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لولي تقي، بل لله يأذن بها لمن يشاء ويرضى، ونحو ذلك مما يتعلق بأفعال الله عز وجل، كما قال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 4 - 5]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16].
ثم إذا اعتقد العبد هذا لزمه أن يعتقد وحدانية الله في الألوهية؛ فإن المتفرد بالربوبية هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له كما قرر الله عز وجل ذلك في جملة من الآيات، قال تَعَالَى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص: 65 - 66]،
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 90 - 92).
وقال تَعَالَى: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «فإن القهر ملازم للوحدة، فلا يكون اثنان قهاران متساويين في قهرهما أبدًا، فالذي يقهر جميع الأشياء هو الواحد الذي لا نظير له، وهو الذي يستحق أن يعبد وحده كما كان قاهرًا وحده»
(1)
.
ومعنى توحيد الألوهية: إفراد الله عز وجل بجميع أنواع العبادات، سواء أكانت قلبية كالمحبة والخوف والخشية والرجاء والاستعانة والتوكل، أو قولية كالدعاء والاستغاثة والاستعاذة والنذر، أو فعلية كالصلاة والطواف والحج والذبح، فلا يصرف منها شيء لغير الله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2]
(2)
.
كما يفرده بالطاعة والتحكيم والتشريع، سواء فيما يتعلق بأمر الدنيا أو الدين، كما قال سُبْحَانَهُ:{يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 39 - 40].
وإن تحقيق هذا التوحيد يعود على العباد بثمار طيبة في الدنيا والآخرة، ومنها
(3)
:
(1)
تفسير السعدي (ص: 716).
(2)
ينظر: معارج القبول بشرح سلم الوصول، للحكمي (2/ 393).
(3)
نصينا على ثمار التوحيد- بخلاف العادة -؛ لأن أعظم أثر لاسم الله الواحد الأحد: التوحيد.
الهداية والتوفيق إلى الصراط المستقيم، قال تَعَالَى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ:{يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]»
(1)
.
الأمن التام في الدنيا والآخرة، قال تَعَالَى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] بخلاف المشرك فإنه «يخاف المخلوقين ويرجوهم، فيحصل له رعب، كما قال تَعَالَى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151]»
(2)
.
تفريج الكربات، كما في قصة يونس عليه السلام وندائه بالتوحيد:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] فأتاه الفرج: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88].
حتى إن المشركين ليعلمون أن في التوحيد تفريجًا للكرب، كما قال سُبْحَانَهُ عنهم:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(6937)، ومسلم، رقم الحديث:(124).
(2)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (10/ 257).
قال ابن القيم رحمه الله: «فما دُفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد، ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد، ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد، فلا يلقى في الكرب العظام إلا الشرك، ولا ينجي منها إلا التوحيد»
(1)
.
السعادة بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ»
(2)
.
منع الخلود في النار؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي»
(3)
(4)
.
دخول الجنة؛ فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ لَقِيَ الله لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ»
(5)
.
وهذه الثمار تدعو العبد إلى تعلم التوحيد وتحقيقه وتكميله، وتعلم
(1)
الفوائد (ص: 53).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(99).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(13424)، وأبو داود، رقم الحديث:(4739)، والترمذي، رقم الحديث:(2435)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف أبي داود، رقم الحديث:(4739).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7510).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(93).
ضده- أيضًا- وتوقيه والحذر منه والخوف، كما تدعوه إلى سؤال ربه دومًا أن يرزقه التوحيد، ويثبته عليه إلى الممات، ويقيه من ضده، كما قال خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35 - 36].
وعلَّمنا صلى الله عليه وسلم الاستعاذة من الشرك، لا سيما الخفي، فقال لأبي بكر رضي الله عنه:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟» قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ»
(1)
.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الفَقْرِ والكُفْرِ، والفُسُوقِ، والشِّقَاقِ، والنِّفَاقِ، والسُّمْعَةِ، والرِّيَاءِ»
(2)
.
واسم الله الواحد الأحد دال أيضًا- كما سبق- على تفرد الله عز وجل بالأسماء والصفات، وهذا يوجب للعبد أمرين:
الأول منهما: إثباتها من غير تعطيل ولا تحريف.
والثاني: نفي المشابه والمماثل له فيها.
وهذه حقيقة توحيد الأسماء والصفات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
(1)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(716)، وأبو يعلى، رقم الحديث:(58)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الأدب المفرد، رقم الحديث:(716).
(2)
أخرجه ابن حبان، رقم الحديث (1023)، و الحاكم، رقم الحديث (1950)، والبيهقي في الدعوات الكبير، رقم الحديث (348)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1285).
الأثر الثالث: محبة الله الواحد الأحد:
إن معرفة اسم الواحد الأحد وما فيه من تفرد بالكمال والجمال في الذات والأسماء والصفات والأفعال، يدعو العبد إلى محبة الله عز وجل وإفراده بذلك، كما جاء في الحديث:«إنَّ الله وترٌ يحبُّ الوترَ»
(1)
، لا سيما وقد فُطرت القلوب على محبة من له الكمال، فكيف بمن بلغ المنتهى في الكمال وتفرد به، فلم يشركه فيه أحد؟!
الأثر الرابع: التعلق بالله الواحد الأحد في المطالب، والاطمئنان إليه:
إن يقين العبد باسم الله الواحد الأحد الذي تصمد إليه الخلائق في حاجاتها وضروراتها، وهو القادر على كل شيء، والمالك لكل شيء، والمتصرف في كل شيء، والمتفرد بالنفع والضر؛ يثمر في قلب العبد تعلقًا بالواحد الأحد وتوجهًا إليه وحده لا شريك له، قال تَعَالَى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2].
وبالمقابل يثمر قطع التعلق بمن لا يملكون شيئًا، ولا يقدرون على شيء إلا بما أقدرهم الله عليه، ولا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، فضلًا عن أن يملكوه لغيرهم.
وهذا يريح القلب من الشتات والإضطراب، ويجعله يسكن إلى واحد في وجهته، وطلبه، وقصده، فيستريح ويطمئن؛ لأنه أسلم وجهه وقلبه لله وحده،
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2677).
ولم يتوجه لوجهات متعددة وشركاء متشاكسين يعيش بينهم في حيرة وقلق وصراع مرير، وقد ضرب الله تَعَالَى مثلًا للموحد الذي يعبد إلهًا واحدًا هو الله عز وجل، وللمشرك الذي تنازعه آلهة شتى يستعبدونه ويمزقونه، قال تَعَالَى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]؛ فالمشرك عبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضًا فيه، وهو بينهم موزع، ولكل منهم فيه توجيه، ولكل منهم عليه تكليف؛ وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق، ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه، فيعيش معذبًا قلقًا، لا يستقر على حال، ولا يرضي واحدًا منهم، فضلًا عن أن يرضي الجميع!
والموحد عبد يملكه سيد واحد، يعلم ما يطلبه منه، وما يكلفه به، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح، لا يعرف إلا مصدرًا واحدًا للحياة، والقوة، والرزق، ومصدرًا واحدًا للنفع والضر، ومصدرًا واحدا للمنح والمنع، فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد، يستمد منه وحده، ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته، ويتجه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه، ويخدم سيدًا واحدًا يعرف ماذا يرضيه فيفعله، وماذا يغضبه فيتقيه؛ وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد، فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء.
الأثر الخامس: ذكر الله الواحد الأحد بالتوحيد:
إن اسم الله الواحد الأحد وما فيه من الدلالة على التوحيد، يدعو العبد إلى تجديد توحيده والإكثار من ذكره واللهج به، لا سيما وقد جاء في كثير من أذكار اليوم والليلة والمناسبات الشرعية الحث على الأذكار التي فيها توحيد الله عز وجل، ومنها:
كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» ؛ فعن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا الله»
(1)
(2)
.
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ»
(3)
.
دعاء يوم عرفة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» ؛ فعن أُبَي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ،
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3383)، والنسائي في الكبري، رقم الحديث:(10599)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف الترمذي، رقم الحديث:(3383).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8831)، والبزار، رقم الحديث:(664 - كشف الأستار)، حكم الأ لباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، رقم الحديث:(2626).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2695).
وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
(2)
.
(3)
.
- وبما جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُولَ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ وَإِذَا أَخَذْتُ مَضْجَعِي مِنَ اللَّيْلِ: «اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3293)، ومسلم، رقم الحديث:(2691).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(7080)، والترمذي واللفظ له، رقم الحديث:(3585)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف الترمذي، رقم الحديث:(3585).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2723).
وَرَسُولُكَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ»
(1)
.
الذكر بعد الوضوء؛ فعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ -أو فَيُسْبِغُ- الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ»
(2)
.
الذكر في دعاء الاستفتاح؛ فعن علي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
…
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللهمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
…
» إلخ
(3)
.
الذكر بعد الصلاة؛ فعن وراد مولى المغيرة بن شعبة، قال: كتب المغيرة إلى معاوية بن أبي سفيان: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد واللفظ له، رقم الحديث:(82)، وأبو داود، رقم الحديث:(5067)، والترمذي، رقم الحديث:(3392)، حكم الألباني: صحيح، تخريج الكلم الطيب، رقم الحديث (22).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(234).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(771).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(844)، ومسلم، رقم الحديث:(593).
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ سَبَّحَ الله فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ الله ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ الله ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ: تَمَامَ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»
(1)
.
الذكر عند الانتباه من النوم؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ الله، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، ثُمَّ قَالَ: اللهمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ»
(2)
.
فحري بالعبد أن يحرص على مثل هذه الأذكار، التي فيها توحيد الواحد الأحد.
الأثر السادس: قراءة سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وتدبرها:
ورد اسم الله (الأحد) في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:«أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ القُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟ فشق ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: اللهُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ القُرْآنِ»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(597).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1154).
(3)
سبق تخريجه.
وفي رواية: أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» ، يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ»
(1)
.
وإنما عدلت ثلث القرآن- كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ناقلًا عن أبي العباس بن سريج رحمه الله ومستحسنًا-؛ لأن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام: ثلث منه أحكام، وثلث منه وعد ووعيد، وثلث منه أسماء وصفات، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات
(2)
.
ولهذه السورة فضائل أخرى، منها
(3)
.
1 -
أنها صفة الرحمن؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَخْبِرُوهُ أَنَّ الله يُحِبُّهُ»
(4)
.
2 -
أن حبها يوجب محبة الله؛ كما جاء في حديث عائشة آنف الذكر، وفيه:«أَخْبِرُوهُ أَنَّ الله يُحِبُّهُ»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5013).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (17/ 103).
(3)
ينظر: تفسير ابن رجب الحنبلي (2/ 654، وما بعدها).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سبق تخريجه.
3 -
أنها تمنع صاحبها من الشر وتكفيه؛ فعن عبدالله بن خبيب رضي الله عنه، أنه قال:«خَرَجْنَا فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي لَنَا، قَالَ: فَأَدْرَكْتُهُ، فَقَالَ: قُلْ، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: قُلْ، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، قَالَ: قُلْ، فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي، وَحِينَ تُصْبِحُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»
(1)
.
وعن عائشة رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا: «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» ، وَ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» ، وَ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ»
(2)
.
4 -
أن حبها يوجب دخول الجنة؛ فعن أنس رضي الله عنه، «أَنَّ رَجُلًا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُحِبُّ «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ»
(3)
.
وفي رواية: قال أنس رضي الله عنه: «كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ يَقْرَأُ بِهَا، افْتَتَحَ بِقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ بِسُورَةٍ أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَقْرَأُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِيكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِسُورَةٍ أُخْرَى، فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِسُورَةٍ أُخْرَى،
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5082)، والترمذي واللفظ له، رقم الحديث:(3575)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3575).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5017).
(3)
أخرجه البخاري (1/ 155) معلقًا. وابن حبان رقم الحديث: (792)، حكم الألباني: صحيح، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(789).
قَالَ مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِهَا فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَهُ أَفْضَلَهُمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ، مَا يَمْنَعُكَ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ أَصْحَابُكَ، وَمَا يَحْمِلُكَ أَنْ تَقْرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُحِبُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ حُبَّهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ»
(1)
.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال:«أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع رجلًا يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَجَبَتْ، قلت: وما وجبت؟ قال: الْجَنَّةُ»
(2)
.
وهذه الفضائل وغيرها تدعو العبد إلى قراءتها، وتردادها، وتدبر معانيها، ومحبتها.
الأثر السابع: دعاء الله باسمه الواحد الأحد:
إن معرفة العبد لاسم الله الواحد الأحد يدعوه إلى دعاء الله وسؤاله بهما؛ امتثالًا لقوله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] لا سيما وقد جاء ما يدل على أن اسم الله الأحد هو الاسم الأعظم؛ فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يقول في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، فقال رسول الله
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2901)، وأبو يعلى، رقم الحديث:(3335)، وابن خزيمة، رقم الحديث:(537)، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2901).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8126)، والترمذي، رقم الحديث:(2897)، والنسائي، رقم الحديث:(993). حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2897).
صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ سَأَلَ الله بِاسْمِهِ الأعظمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وإذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ»
(1)
، وجاء في فضل الدعاء بهما حديث محجن بن الأدرع رضي الله عنه، «أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دخلَ المسجدَ، إذا رجلٌ قد قَضى صلاتَهُ وَهوَ يتشَهَّدُ، فقالَ: اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ يا اللَّهُ بأنَّكَ الواحدُ الأحدُ الصَّمدُ، الَّذي لم يَلِدْ ولم يولَدْ ولم يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أن تغفِرَ لي ذُنوبي، إنَّكَ أنتَ الغَفورُ الرَّحيمُ، قال: فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، ثلاث مرار»
(2)
.
كما يدعوه إلى سؤال الله بما تضمنه اسمه الواحد الأحد من التوحيد؛ فإن التوحيد لما عظم مقامه عند الله كان التوسل به مظنة للإجابة، وقد جاء في نصوص الوحيين التوسل لله به، ومن ذلك:
1 -
دعاء ذي النون، قال تَعَالَى:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87 - 88].
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ الله لَه»
(3)
.
2 -
دعاء يوم عرفة؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3505)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10417)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3505).
(1)
.
3 -
دعاء سيد الاستغفار؛ فعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللهمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، قال: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»
(2)
.
4 -
دعاء الكرب والهم؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله العَظِيمُ الحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا الله رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ»
(3)
.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللهمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»
(4)
.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث (3585)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف الترمذي، رقم الحديث (3585).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6306).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6346)، ومسلم، رقم الحديث:(2730).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(20759)، وأبو داود، رقم الحديث:(5090)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10412)، حكم الألباني، حسن، صحيح وضعيف أبي داود، رقم الحديث:(5090).
5 -
دعاء كفارة المجلس؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللهمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ»
(1)
.
دعاء ما بعد التشهد الأخير؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: اللهمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»
(2)
.
فعلى العبد أن يدعو الله بهذه الدعوات وبغيرها، متوسلًا بالتوحيد، متيقنًا معناه؛ فإنه أعظم ما يتقرب لله به.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، أن تغفر لنا ذنوبنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3433)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10157)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف الترمذي، رقم الحديث:(3433).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(771).
الوَدودُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «وددت الرجل أوده ودًّا، إذا أحببته، والوُد والوَد والوِد: المودة
…
»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الواو والدال: كلمة تدل على محبة، وددته: أحببته، ووددت أن ذاك كان: إذا تمنيته
…
»
(2)
.
ورود اسم الله (الودود) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الودود) في القرآن مرتين، هما:
1 -
قوله تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90].
2 -
قوله تَعَالَى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 13 - 14].
ورود اسم الله (الودود) في السنة النبوية:
لم يرد اسمه سُبْحَانَهُ (الودود) في السنة النبوية، إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي.
(1)
تاج اللغة (2/ 549).
(2)
مقاييس اللغة (6/ 75).
معنى اسم الله (الودود):
يدور اسم (الودود) في حقه تَعَالَى حول معنيين:
ودود بمعنى فاعل، أي: واد، وهو الذي يحب أنبياءه ورسله وعباده الصالحين.
ودود بمعنى مفعول، أي: مودود، وهو المحبوب سُبْحَانَهُ، ولا يستحق المحبة الكاملة إلا هو سُبْحَانَهُ.
وحول هذه المعاني الثلاثة تدور أقوال العلماء.
من الأقوال في المعنى الأول:
قال الطبري رحمه الله: «ذو محبة لمن أناب وتاب إليه، يوده ويحبه»
(1)
.
قال القرطبي رحمه الله: «المحب لخلقه، والمثني عليهم والمحسن إليهم»
(2)
.
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «والودود: الحبيب»
(3)
.
قال الحليمي رحمه الله: «الودود بكثرة إحسانه، أي: المستحق لأن يُوَد فيُعبَد ويُحمَد»
(4)
.
(1)
تفسير الطبري (15/ 456).
(2)
الأسنى (ص: 384).
(3)
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (133).
(4)
المنهاج (1/ 206).
من الأقوال التي تجمع بين المعنى الأول والثاني:
قال الخطابي رحمه الله: «اسم مأخوذ من الود وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون فعولًا في محل مفعول،
…
أي: أنه سُبْحَانَهُ مودود في قلوب أوليائه؛ لما يتعرفونه من إحسانه إليهم وكثرة عوائده عندهم، والوجه الآخر: أن يكون الودود بمعنى: الواد، أي: أنه يود عباده الصالحين، بمعنى: أن يرضى عنهم ويتقبل أعمالهم، وقد يكون معناه أن يوددهم إلى خلقه»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «وأما الودود ففيه قولان؛ أحدهما: أنه بمعنى فاعل، وهو الذي يحب أنبياءه ورسله وأولياءه وعباده المؤمنين، والثاني: أنه بمعنى: مودود، وهو المحبوب الذي يستحق أن يُحب الحب كله، وأن يكون أحب إلى العبد من سمعه، وبصره، وجميع محبوباته»
(2)
.
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وهوَ الوَدُودُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّهُ
…
أَحْبَابُهُ والفَضْلُ لِلْمَنَّانِ
وَهوَ الَّذِي جَعَلَ المَحَبَّةَ فِي قُلُو
…
بِهْم وَجَازَاهُمْ بِحُبٍّ ثَانِ
(1)
شأن الدعاء (1/ 74).
(2)
جلاء الأفهام (ص: 315).
(3)
الحق الواضح المبين (ص: 69 - 70).
هَذَا هُوَ الإِحْسَانُ حَقًّا لَا مُعَا
…
وَضَةً وَلَا لِتَوَقُّعِ الشُّكْرَانِ
(1)
.
اقتران اسم الله (الودود) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الودود) باسمه سُبْحَانَهُ (الرحيم):
تقدم بيانه في اسم الله (الرحيم).
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الودود) باسمه سُبْحَانَهُ (الغفور):
تقدم بيانه في اسم الله (الغفور).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الودود):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الودود) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
الودود سُبْحَانَهُ هو المتحبب إلى عباده بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، التي إن لامست القلوب رأت ربًّا رحيمًا عظيمًا كريمًا قويًّا قادرًا، له الجلال والكمال والعزة والسلطان، فعند ذلك تفيئ إليه وحده، وتقبل عليه دون سواه، وتتخذه إلهًا معبودًا، وبذلك تخلص لربها، وتوحده وتتخلص من العبودية لغيره؛ فتنال سعادة الدنيا والآخرة.
ومن أبرز مظاهر تودد الله لعباده ما يلي:
تعريف عباده بذاته سُبْحَانَهُ: فهو سُبْحَانَهُ المتودد إلى خلقه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، التي إن عرفها العباد وآمنوا بها تعلقت قلوبهم بربهم،
(1)
النونية (ص: 208).
وصارت محبتهم له هي المحرك لعزائمهم إذا فتروا، والمثير لهممهم إذا قصروا؛ وذلك لأن القلوب والأرواح الصحيحة مجبولة على محبة الكمال، والله تَعَالَى له الكمال التام المطلق، فكل وصف من صفاته له خاصية في العبودية، وسبب لانجذاب القلوب إليه وحده سُبْحَانَهُ
(1)
.
يقول ابن القيم رحمه الله في وصف محبة الله تَعَالَى: «وكما أنه ليس كمثله شيء، فليس كمحبته محبة»
(2)
.
تعدد أنعامه وأفضاله سُبْحَانَهُ على عباده في شؤون دينهم ودنياهم: فبنعمه أوجدهم، وأبقاهم وأحياهم، وأصلحهم، وأتم لهم الأمور، وكمل لهم الضروريات والحاجيات والكماليات، وهداهم للإيمان والإسلام، وهداهم لحقائق الإحسان، ويسر لهم الأمور، وفرج عنهم الكربات، وأزال المشقات، وشرع لهم الشرائع، ويسرها ونفى عنهم الحرج، وبين لهم الصراط المستقيم وأعماله وأقواله، ويسر لهم سلوكه وأعانهم على ذلك شرعًا وقدرًا، ودفع عنهم المكاره والمضار كما جلب لهم المنافع والمسار، ولطف بهم ألطافًا شاهدوا بعضها وما خفي عليهم منها أعظم.
فجميع ما في الخليقة من محبوبات القلوب والأرواح والأبدان، الداخلية والخارجية، الظاهرة والباطنة، فإنها من كرمه وجوده، يتودد بها إليهم، فالقلوب مجبولة على محبة المحسن إليها، وأي إحسان أعظم من هذا الإحسان الذي يتعذر إحصاء أجناسه، فضلًا عن أنواعه، فضلًا عن
(1)
وهذا يتجلى في معاني أسماء الله الحسنى كلها.
(2)
الفوائد (ص: 183).
أفراده، وكل نعمه منه تطلب من العباد أن تمتلئ قلوبهم من مودته وحمده وشكره والثناء عليه.
قربه من أوليائه، وتسديده لهم: فمن كان الله وليه حفظه في حركاته وسكناته، وجعله مجابًا للدعوة وجيهًا عنده، كما في الحديث القدسي:«لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي المُؤْمِن، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»
(1)
.
حلمه على العصاة وقربه من التائبين من عباده، فعرفهم بسعة رحمته، وعظيم مغفرته، ودعاهم إلى الفيئة والرجوع إليه، ووعدهم على ذلك أن يقبل توبتهم، ويبدل سيئاتهم حسنات، قال سُبْحَانَهُ {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] وقال تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]
(2)
، فهو الذي يفرح بتوبة عباده مع غناه عنهم وعن عبادتهم، وإن أصر العبد على العصيان، وتجرأ على المحرمات، وقصر في الواجبات ستره الودود، وحلم عليه، وأمده بالنعم، ولم يقطع عنه منها شيئًا، ثم يقيض له من الأسباب والتذكيرات والمواعظ والإرشادات ما يجلبه إليه، فيتوب إليه وينيب، فيغفر له تلك الجرائم، ويمحو عنه ما أسلفه من الذنوب العظائم، ويعيد عليه وده وحبه.
(1)
أخرجه البخاري (6502).
(2)
أسماء الله الحسنى (ص: 187).
وعليه فحري بمن عرف اسم الله الودود وآمن به أن يوحده سُبْحَانَهُ بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ويستغني به عن خلقه، فيسأله وده ورحمته وفضله وهبته.
الأثر الثاني: محبة الودود سُبْحَانَهُ:
إن محبة الله سُبْحَانَهُ من الفطرة التي فُطرت القلوب عليها، يقول ابن تيمية رحمه الله:«والقلب إنما خُلق لأجل حب الله تَعَالَى، وهذه الفطرة التي فطر الله عليها عباده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]
(1)
، فالله سُبْحَانَهُ فطر عباده على محبته وعبادته وحده، فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفًا بالله، محبًّا له، عابدًا له وحده»
(2)
.
ويقول ابن القيم رحمه الله: «فإن الله فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، وإذا كانت هذه فطرة الله التي فطر عليها قلوب عباده، فمن المعلوم أنه لا أحد أعظم إحسانًا منه، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل»
(3)
.
فأصحاب الفطر السوية، والقلوب النقية، والتأملات في ملكوت الله العلية، أعظم شيء لديهم هو محبة الله، ولذا سعى إليها السائرون، وشمر لها
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1358). ومسلم واللفظ له، رقم الحديث:(2658).
(2)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (10/ 134 - 135).
(3)
طريق الهجرتين (ص: 250).
العابدون، فعرفوا ربهم، والتفت إليه قلوبهم، وتخلت عن كل ما عداه.
يقول ابن تيمية رحمه الله في ذلك: «وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله»
(1)
.
ولمحبة الله الصادقة أربعة شروط، ذكرها ابن القيم رحمه الله، وهي:
الأول: أن يحب الله عز وجل حبًّا من جنس حب العبادة المقرون بالذلة والخضوع والإفتقار والطاعة المطلقة، حبًّا لا يشابه أي حب آخر، حبًّا لا يشابه حب الشهوة للنساء، ولا حب البر للآباء، ولا حب الشفقة بالأبناء، ولا حب الندية للأصدقاء بل يحبه حب العابد لربه، والمخلوق لخالقه، والمملوك لمالكه، والمرزوق لرازقه، حبًّا مقرونًا بالخشية، قال تَعَالَى:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
الثاني: ألا يحب شيئًا مثله معه، بل ولا تبقى مثقال ذرة من هذا الحب- أي حب العبادة- إلا صرفها لله وحده، فلا يحب أحدًا غير الله عز وجل مثله في النوع، وكذلك في الكمية، فلا يحب أحدًا أكثر من الله، بل لا يحب أحدًا مثل الله أصلًا، حتى وإن كان حبه لهذه الأشياء ليس حب العبادة، فمن فعل ذلك عرض نفسه لعقوبة الله عز وجل، فقد قال تَعَالَى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24].
(1)
مجموع الفتاوى (28/ 32).
الثالث: ألا يحب شيئًا غير الله إلا من أجله، وهو الحب في الله.
الرابع: أن يبغض ما يباعده عن الله أشد من بغضه لأبغض الأشياء إليه، وهي النار» وقد جمع ثلاثةً منها حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه:«ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ- بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ- كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»
(1)
.
الأثر الثالث: نيل ثمرات محبة الله للعبد:
لا شك أن أعظم رتبة يبلغها المؤمن أن يكون من الذين يحبهم الله عز وجل، فهي المنزلة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتفانى فيها المحبون، هي قوت القلوب، وقرة العيون، والمحبة التي توصل المؤمن إلى مراتب الخير والفلاح في الدنيا والآخرة، ومن أبرز ثمرات محبة الله لعبده ما يلي:
1 -
الحصول على الإيمان:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إِنَّ اللهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَإِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الْإِيمَانَ»
(2)
.
والله يعطي المال للبر والفاجر، والتقي والغني، فيسوق له الدنيا، ولكن لا يعطي الإيمان إلا لمن يحب، فهي الطريق المستقيم ومفتاح الجنة.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(16)، ومسلم، رقم الحديث:(43).
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(8990)، قال الهيثمي: رواه الطبراني موقوفًا، ورجاله رجال الصحيح. ينظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 90).
2 -
تحقيق الأمن التام، وقلب المخاوف أمنًا:
فمن تأمل قصة موسى عليه السلام في سورة طه، وقول الله تَعَالَى:{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 37 - 39] رآها حركات كلها عنف، وخشونة، قُذف في التابوت بالطفل، وقذف في اليم بالتابوت، وإلقاء للتابوت على الساحل، ثم ماذا؟ يذهب التابوت المقذوف فيه بالطفل المقذوف في اليم الملقى به على الساحل، فيستلمه {عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه: 39].
وفي زحمة هذه المخاوف كلها، وبعد تلك الصدمات كلها، ما الذي حدث للطفل الضعيف المجرد من كل قوة؟ ما الذي جرى للتابوت الصغير المجرد من كل وقاية؟ {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] جرى أمر الله أن يتربى موسى في بيت فرعون {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].
3 -
الحفظ والحماية من الدنيا:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا حَمَاهُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمْ سَقِيمَهُ الماءَ»
(1)
.
4 -
المعية الإلهية:
يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(4296)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(282).
يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»
(1)
.
قال الحارث المحاسبي رحمه الله: «إن علامة محبة الله للعبد أن يتولى الله سياسة همومه، فيكون في جميع أموره هو المختار لها»
(2)
.
5 -
مغفرة الذنوب، والعتق من النار والعذاب:
يقول تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، وكذلك رَدَّ الله تَعَالَى على اليهود والنصارى ادعاءهم أنهم أحبابه فقال سُبْحَانَهُ:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]، وفي السنة ما رواه أنس رضي الله عنه، قال:«كَانَ صَبِيٌّ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَمَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَأَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ الْقَوْمَ خَشِيَتْ أَنْ يُوطَأَ ابْنُهَا، فَسَعَتْ وَحَمَلَتْهُ، وَقَالَتِ: ابْنِي ابْنِي، قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُلْقِيَ ابْنَهَا فِي النَّارِ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا، ولَا يُلْقِي اللهُ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6502).
(2)
حلية الأولياء، للأصفهاني (10/ 99).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(13671)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(7095).
6 -
التوفيق للعمل الصالح والتوبة بعد الذنوب:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا عَسَلَهُ» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا عَسَلُهُ؟ قَالَ: «يُوَفِّقُ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ جِيرَانُهُ «أَوْ قَالَ: مَنْ حَوْلَهُ»
(1)
، قال الفضيل رحمه الله:«وإذا أحب الله عبدًا وفقه لعمل صالح، فتقربوا إلى الله بحب المساكين»
(2)
، وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم:«وَإِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الرِّفْقَ، مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُحْرَمُونَ الرِّفْقَ إِلَّا حُرِمُوا»
(3)
.
7 -
إلقاء محبة عبده في قلوب الخلق:
كما قال الله تَعَالَى عن موسى عليه السلام: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] وقال تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] أي: محبة في قلوب العباد، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عبَدْاً دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قال: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قال: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ»
(4)
، قال
(1)
أخرجه الحاكم، رقم الحديث:(1262). حكم الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(3357).
(2)
اعتقاد أهل السنة، للالكائي (1/ 141).
(3)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(2274)، قال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله ثقات، وله في الصحيح:«مَنْ يُحْرَم الرِّفْقَ يُحْرَم الخَيْرَ» . فقط، ينظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (8/ 18).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3209)، ومسلم واللفظ له، رقم الحديث:(2637).
الفضيل رحمه الله: «عاملوا الله عز وجل بالصدق في السر، فإن الرفيع من رفعه الله، وإذا أحب الله عبدًا أسكن محبته في قلوب العباد»
(1)
.
الأثر الرابع: السعي لتحصيل الأسباب الجالبة لمحبة الله للعبد:
إن محبة الله تَعَالَى هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حُرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام
(2)
.
والمؤمنون في درجة محبتهم لربهم متفاوتون، وفي قربهم من الله متفاضلون، وإن كانوا جميعًا يطمحون لزيادة محبتهم لربهم، محبة تحببهم في طاعته سُبْحَانَهُ، والبعد عن معصيته.
ومن الأعمال التي تزيد محبة الله تَعَالَى في قلوب عبيده، وبها يحب الله عباده، ما يلي:
أولًا: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه، وتفطن مراد الله منه:
ولا عجب أن يكون القُرْب من كتاب الله من أعظم القُرَب الموجبة لمحبة الله، فإذا كان الله تَعَالَى قد شاء بحكمته أن يكون الإيمان به من الإيمان بالغيب؛ فإنه قد شاء- أيضًا- أن يكون خطابه لعباده وحديثه إليهم من أمر الشهادة، فجعل كلامه مسطورًا، يُسمع ويُقرأ، ويتكرر وقعه بلفظه ومعناه على القلوب والأفئدة.
(1)
الحلية (8/ 88).
(2)
ينظر: مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 8).
ولا شك أن من أكبر الدلائل على محبة القرآن: السعي إلى تفهمه وتدبره والتفكر في معانيه، كما أن من دلائل خفة تلك المحبة أو عدمها: الإعراض عن تدبره وتأمل معانيه، قال تَعَالَى ذامًّا المنافقين على عدم تدبر القرآن:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
ولذا كان السلف يستشعرون هذا المعنى وهم يقرءون القرآن، حتى إنهم كانوا يتلقونه تلقي الغائب الغريب لرسالة جاءت على شوق من الحبيب، قال الحسن بن علي رضي الله عنه:«إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها بالنهار»
(1)
.
فقراءة القرآن وتدبره تشريف للبشر وكرامة، يقول ابن الصلاح رحمه الله:«قراءة القرآن كرامة أكرم الله بها البشر، فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك، وأنها حريصة على استماعه من الإنس»
(2)
، ولأن القرآن هو الدال على الله وعلى محاب الله، فلا جرم أن كانت محبته هي طريق القلب والعقل لمعرفة الله وما يحبه، ومما يدل على ذلك: أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، استجلب محبة الله بتلاوة سورة واحدة وتدبرها ومحبتها، وهي سورة الإخلاص التي فيها صفة الرحمن سُبْحَانَهُ فظل يرددها في صلاته، فلما سئل عن ذلك قال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ»
(3)
، وفي الحديث الآخر، قال ابن مسعود رضي الله عنه:
(1)
التبيان في آداب حملة القرآن، للنووي (ص: 28).
(2)
الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (1/ 291).
(3)
سبق تخريجه.
«من أحب القرآن، فهو يُحِب اللهَ ورسولَه»
(1)
، وأهل القرآن هم خاصة الله تَعَالَى، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ للهِ عز وجل أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَهْلُ القُرْآنِ، هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ»
(2)
.
ثانيًا: التقرب إلى الله تَعَالَى بالنوافل بعد الفرائض:
فمؤدي الفرائض كاملة محب لله، ومؤديها وبعدها النوافل محبوب من الله، ويدل على ذلك الحديث القدسي، وفيه: «
…
وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»
(3)
، فالمحبون هم المتقربون بالفرائض، والمحبوبون هم المتقربون بالنوافل بعد الفرائض، وهم أولياء الله وأصفياؤه، وخيرته من الخلق.
يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله: «أولياء الله المقربون قسمان:
أحدهما: من تقرب إلى الله بأداء الفرائض،
…
وأهل هذا القسم هم المقتصدون الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [فاطر: 32]، وهم أصحاب اليمين الذين قال فيهم:{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27]، فأداء الفرائض أفضل الأعمال؛ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله عز وجل.
(1)
تفسير ابن رجب (2/ 217).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12486)، وابن ماجه، رقم الحديث:(215)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(215).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6502).
الثاني: من تقرب إلى الله تَعَالَى بعد أداء الفرائض بالنوافل، وهم أهل درجة السابقين المقربين .. لأنهم تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع»
(1)
.
ثالثًا: دوام ذكره سُبْحَانَهُ على كل حال:
فذكر الله تَعَالَى هو شعار المحبين له، المحبوبين منه تَعَالَى، يقول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إذا هو ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ»
(2)
.
فصاحب الذكر مذكور عند الله بالثناء والمحمدة والمحبة، وموعود بالمغفرة والأجور العظيمة، يقول تَعَالَى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، ويقول سُبْحَانَهُ:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
ولهذا كان الذكر روح الأعمال، ويظهر ذلك من اقتران أكبر الأعمال الصالحة به في القرآن.
الشهادة، ف، (لا إله إلا الله) أفضل ما يذكر به الذاكرون.
الصلاة، قال تَعَالَى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]
الحج، قال تَعَالَى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].
(1)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي (2/ 330).
(2)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(3792)، حكم الألباني: صحيح، صحيح ابن ماجه، رقم الحديث:(3792).
الجهاد، قال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
(1)
.
رابعًا: إيثار محاب الله على كل محاب النفس والهوى:
والقرآن والسنة مملؤان بذكر ما يحبه الله سُبْحَانَهُ من أفعال عباده المؤمنين، وأقوالهم وأخلاقهم، فمن محابه سُبْحَانَهُ التي وردت في كتابه وسنة نبيه:
التقوى، يقول تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]
الإحسان، يقول تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
التوبة والطهارة، يقول تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
(1)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 396).
الصلاة على وقتها، سئل صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»
(1)
.
الصبر، يقول تَعَالَى:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].
التوكل عليه، يقول تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]
الجهاد، يقول تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
الذكر، يقول صلى الله عليه وسلم:«كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ»
(2)
.
الحلم والأناة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- لأشج عبد القيس:«إِنَّ فِيكَ لَخْصَلَتَيْنِ يُحِبُّهُما اللهَ: الِحلِمْ وَالأَنَاةُ»
(3)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «يحتاج المسلم إلى أن يخاف الله، وينهى النفس عن الهوى، ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، بل على اتباعه، والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها، كان نهيه عبادة لله، وعملًا صالحًا»
(4)
.
يقول ابن القيم رحمه الله: «إيثار رضى الله عز وجل على غيره، وهو يريد أن يفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق، هي درجة الإيثار وأعلاها للرسل
(1)
أخرجه البخاري (527).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6406)، ومسلم، رقم الحديث:(2694).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(18).
(4)
فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، لمحمد عويضة (5/ 178).
عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
خامسًا: مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته ومشاهدتها:
فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة، وقد بوب البخاري رحمه الله على قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أَنَا أَعْلَمُكُمْ باللهِ» ، باب:«المعرفة فعل القلب»
(2)
، لقوله تَعَالَى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، يقول ابن حجر رحمه الله:«قوله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ باللهِ» ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم منه في أعلى الدرجات، والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه، وما يتعلق بذلك، فهذا هو الإيمان حقًّا»
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «فإن أوصاف المدعو إليه، ونعوت كماله، وحقائق أسمائه هي الجاذبة للقلوب إلى محبته، وطلب الوصول إليه؛ لأن القلوب إنما تحب من تعرفه، وتخافه، وترجوه، وتشتاق إليه، وتلتذ بقربه، وتطمئن إلى ذكره بحسب معرفتها بصفاته»
(4)
، وفي ذات المعنى يقول الحسن البصري رحمه الله:«من عرف ربه أحبه»
(5)
.
(1)
المرجع السابق، نفس الصفحة.
(2)
أخرجه البخاري تعليقًا في كتاب الإيمان، (13).
(3)
فتح الباري (1/ 89).
(4)
مدارج السالكين (3/ 351).
(5)
مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة (ص: 332).
سادسًا: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة:
فالإنعام والبر واللطف معان تسترق مشاعره، وتستولي على أحاسيسه، وتدفعه إلى محبة من يسدي إليه النعمة، ويهدي إليه المعروف، والناس مجبولون على محبة من يحسن إليهم، ولا منعم على الحقيقة، ولا محسن إلا الله، فلا محبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تَعَالَى، ولا مستحق للمحبة كلها سواه، وإنما يُحَب غيره تبعًا لمحبته سُبْحَانَهُ، وصورُ إحسانه ومظاهرها أجلُّ من أن يحيط بها العبد.
يقول ابن القيم رحمه الله: «لا أحد أعظم إحسانًا من الله سُبْحَانَهُ؛ فإن إحسانه على عبده في كل نفس ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان، فضلًا عن أنواعه، أو عن أفراده، ويكفي أن من بعض أنواعه نعمة النفس التي لا تكاد تخطر ببال العبد، وله عليه في كل يوم وليلة أربعة وعشرين ألف نعمة، فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفَس، وكل نفَس نعمة منه سُبْحَانَهُ، فإذا كان أدنى نعمة عليه في كل يوم أربعة وعشرين ألف نعمة، فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18].
هذا إلى ما يصرف عنه من المضرات، وأنواع الأذى التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور به بأكثرها أصلًا، والله سُبْحَانَهُ يكلؤه منها بالليل والنهار، كما قال تَعَالَى:{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42]»
(1)
.
(1)
طريق الهجرتين (ص: 315).
سابعًا: انكسار القلب بكُلِّيَّته بين يدي الله:
والانكسار بمعنى الخشوع، وهو الذل والسكون، يقول تَعَالَى:{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108]، والخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار
(1)
.
وعليه فإن الخشوع معنى أعم من أن ينحصر في الصلاة؛ لأن التعظيم والمحبة والانكسار لله، مطلوب من المؤمن في كل حال، وإن كانت الصلاة موضعًا لظهور أثر الخشوع؛ لأنها أقرب ما يكون العبد إلى ربه.
وقد كان السلف يحذرون من التكلف أو التصنع في الخشوع، ومن شواهد ذلك:
قال حذيفة رضي الله عنه: «إياكم وخشوع النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع»
(2)
.
رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلًا طأطأ رقبته في الصلاة فقال: «يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إن الخشوع في القلوب»
(3)
.
ثامنًا: الخلوة به تَعَالَى وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه:
فأصحاب الليل هم- بلا شك- من أهل المحبة، بل هم من أشرف أهل المحبة؛ لأن قيامهم في الليل بين يدي الله تَعَالَى يجمع لهم جل أسباب المحبة
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 518).
(2)
المصدر السابق (1/ 517).
(3)
المصدر السابق (1/ 517).
التي سبق ذكرها، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:«واعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ»
(1)
، ويقول الحسن البصري رحمه الله:«لم أجد من العبادة شيئًا أشد من الصلاة في جوف الليل، فقيل له: ما بال المجتهدين من أحسن الناس وجوهًا؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره»
(2)
.
ولمنزلة أهل القيام عند ربهم قال الله تَعَالَى عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16]،
وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتين الآيتين لمعاذ رضي الله عنه في معرض جوابه عن سؤاله: «أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار» ، وقد جاء في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:«أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حَتَّى بَلَغَ: «يَعْمَلُونَ» »
(3)
.
ولفظ الآية عام في كل عبادة ودعاء في الليل، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم خص قيام الرجل في جوف الليل؛ لأن صلاة الليل هي أفضل نوافل الصلاة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ»
(4)
.
(1)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(10058)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(73).
(2)
مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة (ص: 67).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث (22016)، والترمذي، رقم الحديث (2616) والنسائي في الكبرى، رقم الحديث (11330)، ابن ماجه، رقم الحديث:(3973)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف ابن ماجه، رقم الحديث:(3973).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1163).
تاسعًا: مجالسة المحبين والصادقين:
إن محبة المسلم لأخيه المسلم في الله، ثمرة لصدق الإيمان وحسن الخلق، وهي سياج واق يحفظ الله بها قلب العبد، ويشد فيها الإيمان حتى لا يتفلت أو يضعف، وورد في ذلك شواهد كثيرة، منها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ عز وجل: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، واِلْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، واِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ»
(1)
.
روى أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي، قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا عَلَيْهِ؟ قالَ: لَا؛ غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ في اللهِ تَعَالَى، قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللهِ إَلَيْكَ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ»
(2)
.
(3)
.
(1)
اخرجه ابن حبان، رقم الحديث:(575)، حكم الألباني: صحيح، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(574).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2567)(المدرجة) بفتح الميم والراء: هي الطريق، وقوله:(تَرُبُّهَا): أي: تقوم بها وتسعى في صلاحها.
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(21).
عاشرًا: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل:
فالقلب إذا فسد لن يجد المرء فائدة فيما يصلحه من شئون دنياه، ولن يجد نفعًا أو كسبًا في أخراه، قال تَعَالَى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم:«وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا»
(1)
.
والقلب السليم هو السليم مما سوى الله، أو مما سوى عبادة الله، أو مما سوى إرادة الله، أو مما سوى محبة الله، وجماع سلامة القلب بالتزام الطاعات واجتناب النواهي، يقول تَعَالَى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].
يقول الحسن البصري رحمه الله: «زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم- أي: امتحنهم- بهذه الآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}
[آل عمران: 31]»
(2)
.
الأثر الخامس: الحذر مما لا يحب الله تعالى:
على العبد أن يحذر ويجتنب كل مايبغضه ربه ويكرهه؛ فإن الله إذا أبغض عبدًا أبغضه الكون كله طوعًا لله تَعَالَى، يقول صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قال: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ
(1)
أخرجه النسائي، رقم الحديث:(1303)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن النسائي، رقم الحديث:(1304).
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 32).
يُنَادِي- فِي أَهْلِ السَّمَاءِ- إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قال: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ البَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ»
(1)
.
وجماع مايبغضه الله تَعَالَى: هو ماتعوذ منه رسوله صلى الله عليه وسلم، في قوله:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأَخْلَاقِ، والأَعْمَالِ، والأَهْوَاءِ»
(2)
.
والأمور المبغضة عند الله تَعَالَى كثيرة، وردت في القرآن والسنة، ومنها ما يلي:
الكفر، يقول تَعَالَى:{فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
الظلم، يقول تَعَالَى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]، وأكبره: الشرك، يقول تَعَالَى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
الاعتداء، يقول تَعَالَى:{وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87].
الإفساد، يقول تَعَالَى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64].
الخيانة، يقول تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]
الخيلاء، يقول تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36].
الاستكبار، يقول تَعَالَى:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23].
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2637).
(2)
أخرجه الترمذي واللفظ له، رقم الحديث:(3591)، والحاكم، رقم الحديث:(1955)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3591).
الإسراف، يقول تَعَالَى:{وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].
الإسبال، يقول صلى الله عليه وسلم:«يَا سُفْيَانُ بْن سَهْلٍ؛ لَا تُسْبِلْ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُسْبِلِينَ»
(1)
.
وفي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم العديد من الأعمال والأقوال التي يبغضها الله سُبْحَانَهُ، فعلى العبد المؤمن أن يبغضها ويجتنبها.
الأثر السادس: دعاء الله باسمه تَعَالَى (الودود):
محبة الله هي روح الأعمال، وأصل العبودية الظاهرة، والباطنة، فمحبة العبد لربه ليست بحول من العبد ولا قوة، وإنما هي فضل من الله وإحسان، فهو تَعَالَى الذي أحب عبده فجعل المحبة في قلبه، ثم لما أحبه العبد بتوفيقه جازاه الله بحب آخر، فهذا هو الإحسان المحض على الحقيقة؛ إذ منه السبب، ومنه المسبب؛ ولأن محبة الله تَعَالَى من أعظم العطاء الذي يعطيها الله لعبده، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير السؤال لها، ففي الحديث عن ثوبان رضي الله عنه قال: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ: «إِنَّ رَبِّي أَتَانِي اللَّيْلَةَ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟
…
ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ تُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، قَالَ: قُلْتُ: فَعَلِّمْنِي، قَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18473)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3574)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(3574).
تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِنْ أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ وَأَنَا غَيْرُ مَفْتُونٍ، اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبًّا يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ»
(1)
.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ»
(2)
.
فاللهم يا ودود، ارزقنا حبك، وحب من يحبك،
وحب عمل يقربنا إلى حبك.
(1)
أخرجه البزار في البحر الزخار، رقم الحديث:(4172)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه البزار من طريق أبي يحيى، عن أبي أسماء الرحبي، وأبو يحيى لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات، رقم الحديث:(11742).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3235)، وقال: حسن صحيح، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3235).
الوكيل والكفيل والكافي جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
أولًا: (الوكيل):
قال الجوهري رحمه الله: «وَكَل بالتحريك، وَوُكَلَة أيضًا مثل هُمَزَة، وتُكَلَة، يقال: فلان وكلَة تُكلَة، أي: عاجز يكل أمره إلى غيره، ويتكل عليه
…
والوكيل معروف، يقال: وكلته بأمر كذا توكيلًا، والاسم: الوِكالة والوَكالة. والتوكل: إظهار العجز والاعتماد على غيرك، والاسم: التكلان، واتكلت على فلان في أمري، إذا اعتمدته
…
ووكله إلى نفسه وكلًا كولًا، وهذا الأمر موكول إلى رأيك
…
وواكلت فلانًا مواكلة، إذا اتكلت عليه واتكل هو عليك»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(وكل) الواو والكاف واللام: أصل صحيح يدل على اعتماد غيرك في أمرك، من ذلك الوُكَلَة، والوَكَل: الرجل الضعيف، يقولون: وُكَلَة تُكَلَة، والتوكل منه، وهو إظهار العجز في الأمر والاعتماد على غيرك، وواكل فلان، إذا ضيع أمره متكلًا على غيره، وسمي الوكيل لأنه يوكل إليه الأمر
…
»
(2)
.
(1)
الصحاح (5/ 1844).
(2)
مقاييس اللغة (6/ 136).
ثانيًا: (الكفيل):
قال الجوهري رحمه الله: «الكِفْل: الضعف، قال تَعَالَى:{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28]، ويقال: إنه النصيب، وذو الكفل: اسم نبى من الانبياء عليهم السلام، وهو من الكفالة
…
والكفيل: الضامن، يقال: كفلت به كفالة، وكفلت عنه بالمال لغريمه
…
وكفلته إياه فكفل هو به كفلًا وكفولًا، والتكفيل مثله، وتكفل بدينه تكفلًا، والكافل: الذي يكفل إنسانًا يعوله، ومنه قوله تَعَالَى:{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37]، وذكر الأخفش أنه قرئ أيضًا:(وكفلها) بكسر الفاء»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(كفل) الكاف والفاء واللام أصل صحيح يدل على تضمن الشيء للشيء
…
ومن الباب- وهو يصحح القياس الذي ذكرناه- الكفيل، وهو الضامن، تقول: كفل به يكفل كفالة، والكافل: الذي يكفل إنسانًا يعوله، قال الله جل جلاله:{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37]، وأكفلته المال: ضمنته إياه
…
»
(2)
.
ثالثًا: (الكافي):
قال الجوهري رحمه الله: «(كفى) كفاه مؤنته كفاية
…
وكفاك الشيء يكفيك، واكتفيت به.
واستكفيته الشيء فكفانيه، وكافيته من المكافأة، ورجوت مكافأتك، أي: كفايتك
…
وكفيك بتسكين الفاء، أي: حسبك»
(3)
.
(1)
الصحاح (5/ 1810).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 187).
(3)
الصحاح (6/ 2475).
قال ابن فارس رحمه الله: «الكاف والفاء والحرف المعتل أصل صحيح يدل على الحسب الذي لا مستزاد فيه، يقال: كفاك الشيء يكفيك، وقد كفى كفاية، إذا قام بالأمر، والكفية: القوت الكافي، والجمع: كفى، ويقال: حسبك زيد من رجل، وكافيك»
(1)
.
ورود أسماء الله (الوكيل، والكفيل، والكافي) في القرآن الكريم:
أولًا: ورود اسم الله الوكيل:
ورد اسم الله الوكيل معرفًا بالألف واللام مرة واحدة في كتاب الله، وذلك في قوله تَعَالَى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
وورد بغير الألف واللام في ثلاثة عشر موضعًا، ومن وروده ما يلي:
1 -
قول الله عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].
2 -
قوله عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102].
3 -
قوله عز وجل: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9].
ثانيًا: ورود اسم الله الكفيل:
ورد اسم الله (الكفيل) في القرآن الكريم مرة واحدة، وذلك في قوله تَعَالَى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91].
(1)
مقاييس اللغة (5/ 188).
ثالثًا: ورود اسم الله الكافي:
ورد اسم الله (الكافي) في القرآن الكريم مرة واحدة، في قوله تبارك وتعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36].
ورود اسماء الله (الوكيل، والكفيل، والكافي) في السنة النبوية:
أولًا: ورود اسم الله الوكيل:
ورد اسم الله (الوكيل) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ، مَتَى يُؤْمَرُ بالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُمْ: قُولُوا: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا»
(1)
.
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّا نَسْأَلُكَ عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ أَنْبَأْتَنَا بِهِنَّ عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتَّبَعْنَاكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إِسْرَائِيلُ عَلَى بَنِيهِ إِذْ قَالُوا: اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، قَالَ: هَاتُوا، قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ عَلَامَةِ النَّبِيِّ؟ قَالَ: تَنَامُ عَيْنَاهُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا كَيْفَ تُؤْنِثُ الْمَرْأَةُ، وَكَيْفَ تُذْكِرُ؟ قَالَ: يَلْتَقِي المَاءَانِ، فَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجِلِ مَاءَ المَرْأَةِ أَذْكَرَتْ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ المَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ آنَثَتْ،
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث (3066)، والترمذي واللفظ له، رقم الحديث (2431)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف الترمذي، رقم الحديث:(2431).
قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا أَلْبَانَ كَذَا وَكَذَا- قَالَ أَبِي: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي: الْإِبِلَ- فَحَرَّم لُحُومَهَا، قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا هَذَا الرَّعْدُ؟ قَالَ: مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ عز وجل مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ بِيَدِهِ- أو فِي يَدِهِ- مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ، يَزْجُرُ بِهِ السَّحَابَ، يَسُوقُهُ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ، قَالُوا: فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي نَسْمَعُ؟ قَالَ: صَوْتُهُ، قَالُوا: صَدَقْتَ، إِنَّمَا بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الَّتِي نُبَايِعُكَ إِنْ أَخْبَرْتَنَا بِهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ، فَأَخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ عليه السلام، قَالُوا: جِبْرِيلُ ذَاكَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ وَالْعَذَابِ عَدُوُّنَا، لَوْ قُلْتَ: مِيكَائِيلُ الَّذِي يَنْزِلُ بِالرَّحْمَةِ وَالنَّبَاتِ وَالْقَطْرِ لَكَانَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ [البقرة: 97]»
(1)
.
ثانيًا: ورود اسم الله الكفيل:
ورد اسم الله (الكفيل) في السنة النبوية، ومن وروده
ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ: ائْتِنِي بالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ، فَقَالَ: كَفَى باللهِ شَهِيدًا، قَالَ: فَأْتِنِي بالكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى بِاللهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ
…
»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد واللفظ له، رقم الحديث (2522)، والترمذي، رقم الحديث:(3117)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث (9024)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الترمذي باختصار، رواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات، (8/ 242).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2290).
ثالثًا: ورود اسم الله الكافي:
لم يرد اسم الله (الكافي) في السنة النبوية.
معنى أسماء الله (الوكيل، والكفيل، والكافي) في حقه سُبْحَانَهُ:
أولًا: (الوكيل):
يدور معنى «الوكيل» في حق الله تَعَالَى على معنيين:
1 -
الكفيل الذي تكفل بالأرزاق، وتدبير الشؤون، وحفظ الخلائق.
2 -
الكافي خلقه ما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم، فيتوكلون عليه ويفوضون حاجتهم إليه.
- وحول هذين المعنيين تدور أقوال العلماء.
من الأقوال في المعنى الأول:
قال الطبري رحمه الله: «{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] والله على كل ما خلق من شيء رقيب وحفيظ، يقوم بأرزاق جميع خلقه وأقواتهم وسياستهم وتدبيرهم»
(1)
، وقال في تفسير قول الله تَعَالَى:«{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]: وحسب ما في السموات وما في الأرض بالله قيمًا ومدبرًا ورازقًا، من الحاجة معه إلى غيره»
(2)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «والوكيل: الكفيل أيضًا، كذلك قالوا في قوله عز وجل في سورة يوسف:{وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] أي:
(1)
تفسير الطبري (12/ 13).
(2)
المرجع السابق (9/ 424).
كفيل، ويقال: رجل وكلة تكلة، إذا كان يكل أمره إلى غيره»
(1)
.
(2)
.
قال القرطبي رحمه الله: «المستقل بجميع ما يحتاج إليه جميع الخلق من الكفاية والوقاية، والغياث والنصرة، والرزق والإقامة، والحفظ والرعاية، إلى ذلك من معاني التدبير»
(3)
.
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
(4)
.
(1)
اشتقاق أسماء الله الحسنى (ص: 136).
(2)
شأن الدعاء (1/ 77).
(3)
الأسنى في شرح الأسماء الحسنى (ص: 505).
(4)
تفسير الطبري (6/ 245).
(1)
.
قال الحليمي رحمه الله: «الوكيل: وهو الموكل والمفوض إليه، علمًا بأن الخلق والأمر، لا يملك أحد من دونه شيئًا»
(2)
.
(3)
.
ثانيًا: (الكفيل):
يدور اسم الله الكفيل على معنيين:
1 -
الوكيل الذي ضمن للخلق رزقهم، وكفايتهم. 2 - الشهيد.
وحول هذين المعنيين تدور أقوال العلماء.
من الأقوال في المعنى الأول:
قال مجاهد رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]: «وكيلًا»
(4)
.
(1)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 54).
(2)
المنهاج (1/ 208).
(3)
تفسير السعدي (ص: 947).
(4)
تفسير الطبري (17/ 283).
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]: «وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه على أنفسكم راعيًا يرعى الموفى منكم، بعهد الله، الذي عاهد على الوفاء به والناقض»
(1)
.
(2)
.
قال القرطبي رحمه الله: «يقال منه: كفل يكفل وتكفل يتكفل: إذا ضمن والتزم»
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله:
وَهوَ الكَفِيلُ بِكُلِّ مَا يَدْعُونَهُ
…
لَا يَعْتَرِي جَدْوَاهُ مِنْ نُقْصَانِ
(4)
(1)
تفسير الطبري (17/ 281).
(2)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 204).
(3)
الأسنى في شرح الأسماء الحسنى (ص: 509).
(4)
النونية (ص: 301).
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال الشعبي رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]: «شهيدًا بالوفاء»
(1)
.
قال القرطبي رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]: «يعني: شهيدًا»
(2)
.
ثالثًا: (الكافي):
(3)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «الكافي اسم الفاعل من كفى يكف فهو كاف، فالله عز وجل كافي عباده؛ لأنه رازقهم وحافظهم ومصلح شؤونهم، فقد كفاهم كما قال الله عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]»
(4)
.
(1)
تفسير البغوي (3/ 93).
(2)
تفسير القرطبي (10/ 170).
(3)
تفسير الطبري (21/ 293).
(4)
اشتقاق أسماء الله الحسنى (ص: 82).
قال الخطابي رحمه الله: «الذي يكفي عباده المهم، ويدفع عنهم الملم؛ وهو الذي يكتفي بمعونته عن غيره، ويستغنى به عمن سواه»
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]: «يعني أنهتَعَالَى يكفي مَن عَبَدَهُ وتوكَّل عليه»
(2)
.
قال السعدي رحمه الله: «الكافي عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه، الكافي كفاية خاصة من آمن به، وتوكل عليه، واستمد منه حوائج دينه ودنياه»
(3)
، وقال رحمه الله:«الكافي عباده كلما إليه يحتاجون، الدافع عنهم كلما يكرهون»
(4)
.
اقتران اسماء الله (الوكيل، والكفيل، والكافي) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله (الوكيل، والكفيل، والكافي) بأي اسم من أسماء الله تَعَالَى.
(1)
شأن الدعاء (ص: 101).
(2)
تفسير ابن كثير (7/ 100).
(3)
تفسير السعدي (ص: 949).
(4)
فتح الرحيم الملك العلام (1/ 46).
الآثار المسلكية للإيمان باسماء الله (الوكيل، والكفيل، والكافي):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الوكيل، والكفيل، والكافي) من صفاته سُبْحَانَهُ:
الله عز وجل الوكيل الكفيل الكافي الذي تولى أمر خلقه بالكفالة والكفاية، فجاءت وكالته وكفالته وكفايته على نوعين:
1 -
الوكالة والكفالة والكفاية العامة.
2 -
الوكالة والكفالة والكفاية الخاصة.
أولًا: الوكالة والكفالة والكفاية العامة:
فوكالته وكفالته وكفايته تبارك وتعالى عامة شاملة لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، إنسهم وجنهم وبهائمهم بل حتى جامدهم، الصغير منهم والكبير، والحقير والجليل، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]، وقال تبارك وتعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]، فالوكيل تَعَالَى خلق الخلائق ولم يتركهم هملًا، بل تكفل بأمرهم، وكفاهم إياه من جميع الوجوه خلقًا، وإعدادًا، وتدبيرًا، وحفظًا، ورزقًا، وقوتًا ووقاية، وتعليمًا، وهداية، إلى غير ذلك من ألطافه وإحسانه، قال تَعَالَى:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171]، وقال سُبْحَانَهُ:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]
(1)
، يقول الطبري
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 363).
رحمه الله في ذلك: «والله على كل ما خلق من شيء رقيب وحفيظ، يقوم بأرزاق جميعه وأقواته وسياسته وتدبيره وتصريفه بقدرته»
(1)
.
ومن صور الوكالة والكفالة والكفاية العامة:
- الرزق: فتكفل الوكيل الكفيل برزق الخلائق، وكفاهم الكافي مؤونته؛ فهيء لهم من جميع الأسباب ما يغنيهم، ويقنيهم، ويطعمهم، ويسقيهم حتى أنه يسوق الرزق لضعيفهم الذي لا يقوى على جمعه وتحصيله، وييسر عليه تحصيله، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض، والطير في الهواء، والحيتان في الماء، والأجنة في بطون الأمهات
(2)
، قال تَعَالَى:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه، يقول:«الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِي»
(3)
.
- الحفظ: فتكفل الوكيل الكفيل بحفظ الخلائق عما يضرهم، وحفظ عليهم أقوالهم وأفعالهم ومعاملتهم فيما بينهم، وكفاهم الكافي بشهادته عليهم، قال تَعَالَى:{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66]، وقال سُبْحَانَهُ:{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28]، وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه
(1)
تفسير الطبري (12/ 13).
(2)
ينظر: المنهاج في شعب الإيمان (1/ 204)، وتفسير ابن كثير (3/ 420).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2715).
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ: ائْتِنِي بالشُّهَدَاءِ أُشْهِدهُمْ، فَقَالَ: كَفَى باللهِ شَهِيدًا، قَالَ: فَأْتِنِي بالكَفِيلِ، قَالَ: كَفَى باللهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ
…
»
(1)
.
وأما الوكالة والكفالة والكفاية الخاصة:
فوكالته وكفالته وكفايته تبارك وتعالى لعباده المتقين المتوكلين عليه، قال تَعَالَى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3]، فتولى الوكيل أمرهم وكفاهم كفاية لا تقييد ولا تخصيص معها، بل تعم أمر دينهم، ودنياهم، وأخراهم، قال تَعَالَى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].
ومن صور الوكالة والكفالة والكفاية الخاصة:
رد السوء والأذى عنهم في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا:
فتكفل الوكيل بكفاية رسله وأوليائه من كل من أرادهم بسوء وأذى، قال تَعَالَى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، وقرأ حمزة والكسائي «عباده» أي: يكفي من عبده وتو كل عليه من الأنبياء والمؤمنين
(2)
، ومن شواهد ذلك:
كفى الوكيل الكافي سُبْحَانَهُ نوحًا عليه السلام مما توعده قومه من الرجم، كما قال سُبْحَانَهُ:{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} [الشعراء: 116 - 121].
وكفى الوكيل الكافيسُبْحَانَهُ إبراهيم الخليل شر النار مع عظمها،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2290).
(2)
ينظر: تفسير القرطبي (15/ 257)، وتفسير ابن كثير (7/ 100).
فأتت كفايته تبارك وتعالى بما يخالف السنن الكونية لتتعطل النار عن الإحراق، قال تَعَالَى:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فكانت عليه بردًا وسلامًا، لم ينله فيها أذى، ولا أحس بمكروه {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70]
(1)
.
وكفى الوكيل الكافي سُبْحَانَهُ يوسف عليه السلام كيد النسوة، فصرف عنه كيدهن، قال تَعَالَى:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف: 32 - 34].
وكفى الوكيل الكافيسُبْحَانَهُ موسى عليه السلام بطش فرعون وجنده، قال تَعَالَى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر: 26 - 28]، «فمنعه الله تَعَالَى بلطفه من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، وقيض له من الأسباب ما اندفع به عنه شر فرعون وملئه»
(2)
.
وكفى الوكيل الكافيسُبْحَانَهُ الرجل المؤمن الناصح عقوبات ما مكر فرعون وآله من إرادة إهلاكه وإتلافه، بل قلب كيدهم ومكرهم على أنفسهم، قال تَعَالَى:{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 45]، فأغرقهم الله تَعَالَى في صبيحة واحدة عن آخرهم
(3)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 351)، وتفسير السعدي (1/ 526).
(2)
تفسير السعدي (ص: 736).
(3)
ينظر: المرجع السابق (ص: 739).
وكفى الوكيل الكافي سُبْحَانَهُ عيسى عليه السلام مكر الكفار من إرادة قتله وإطفاء نوره، بل جازاهم على مكرهم مكرًا خيرًا منه، قال تَعَالَى:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 54 - 55]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157 - 159]
(1)
.
وكفى الوكيل الكافي سُبْحَانَهُ أصحاب الكهف فتنة قومهم لهم عن دينهم، كما كفاهم قتلهم، قال سُبْحَانَهُ حكاية عن قولهم:{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 19 - 20]، فكفاهم ذلك كله، وجعلهم آية وعبرة لقومهم ومن جاء بعدهم، فأظهر أمرهم، ورفع قدرهم
(2)
.
وكفى الوكيل الكافي سُبْحَانَهُ نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه شر الكفار والمنافقين، قال تَعَالَى:{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب: 48]
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 132).
(2)
تفسير السعدي (ص: 473).
- فكفاهم شر قريش في بدر مع كثرة محاربيهم، وما معهم من العدة الكاملة، والسلاح العام، والخيل الكثيرة، فكفاهم بما أمدهم به من الملائكة، فانقلبوا منتصرين، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 123 - 125]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَتَاكَ نَصْرُ اللهِ، هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ»
(1)
(2)
.
- وكفاهم شر أبي سفيان ومن معه من المشركين في أحد، إذ هموا بالرجوع إلى المدينة، واستئصال من بقي من المسلمين، فألقى الكافي سُبْحَانَهُ في قلوبهم الرعب، فاستمروا راجعين إلى مكة، ورجع المؤمنون بنعمة من الله وفضل، قال تَعَالَى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174]
(3)
.
- وكفاهم شر الأحزاب وعددهم وعدّتهم، فلم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم، بل كفاهم بما أرسل على عدوهم من ريح الصبا التي زعزعت مراكزهم، وقوضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وبما قذف في
(1)
أخرجه ابن هشام في السيرة النبوية (2/ 196)، والبيهقي في الدلائل (3/ 81)، حكم الألباني: حسن، فقه السيرة للغزالي:(ص 234).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (7/ 173)، تفسير السعدي (ص: 146).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 169)، تفسير السعدي (ص: 157).
قلوبهم من الرعب، فانصرفوا خائبين، لم يصيبوا خيرًا في الدنيا من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعادة دينه، فكفى الله وحده المؤمنين، ونصرهم، قال تَعَالَى:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ»
(1)
،
(2)
.
- وكفاهم بعد الأحزاب قتال قريش وغزوهم، فوُضعت الحرب بينهم وبين قريش، فلم تغز قريش بعد ذلك، بل كان المسلمون هم من يغزونهم حتى فتحوا مكة، قال تَعَالَى:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأحزاب:«لَنْ تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّكُمْ تَغْزُونَهُمْ»
(3)
، وقال أيضًا:«الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُوننَا»
(4)
(5)
.
- وكفاه شر اليهود والنصارى الذين قالوا: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135]، فقتل منهم بني قريظة وسبى ذراريهم وقسم أموالهم، وأجلى منهم بني قينقاع، وبني النضير وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون، وظنوا- بنو النضير- أنها مانعتهم من بأس الله، فلم تغن عنهم من الله شيئًا
(6)
، وأذل بعضهم وأخزاهم بالجزية والصغار، فتبارك
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث (4114)، ومسلم، رقم الحديث:(2724).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (20/ 242)، تفسير ابن كثير (6/ 396)، تفسير السعدي (ص: 662).
(3)
السيرة النبوية، لابن كثير (3/ 221).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4110).
(5)
ينظر: تفسير ابن كثير (6/ 396).
(6)
ينظر: تفسير ابن كثير (8/ 57).
القائل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]
(1)
.
- وكفاه شر المستهزئين به والساخرين في قديم الزمان وحديثه؛ «فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قِتْلَة»
(2)
، قال سُبْحَانَهُ:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94 - 95]
(3)
.
- وكفاه من دبر وبيت معصيته، ومن أراد خداعه والمكر به، قال تَعَالَى:{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]
(4)
، وقال سُبْحَانَهُ:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]، قال ابن كثير رحمه الله:«صَالِحْهُمْ وتوكل على الله، فإن الله كافيك وناصرك، ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا، {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} أي: كافيك وحده»
(5)
،
(6)
.
- وكفاهم الشياطين وشرهم، قال تَعَالَى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 65]، وعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ، فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلى اللهِ،
(1)
ينظر: تفسير الطبري (3/ 116)، وتفسير السعدي (ص: 68).
(2)
تفسير السعدي (ص: 435).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (17/ 153)، وتفسير السعدي (ص: 435).
(4)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 189).
(5)
تفسير ابن كثير (4/ 84).
(6)
ينظر: تفسير الطبري (14/ 44)، تفسير السعدي (ص: 325).
لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ، قال: يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟»
(1)
.
- وأما في الآخرة:
فتكفل الوكيل بكفاية رسله وأوليائه في الآخرة من كل ما يؤذيهم، ومن ذلك:
كفايته لهم إذا حضرهم الموت الحزن على ما مضى، والخوف على ما يستقبلهم بما ينزل عليهم من الملائكة المبشرين، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32]
(2)
.
كفايته لهم شر فتنة القبر بالتثبيت عند السؤال، والتوفيق لحسن الجواب، قال تَعَالَى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: «وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِه، فَيَقُولانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ الله، فَيَقُولانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الإِسْلامُ، فَيَقُولانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ
(1)
أخرجه أبو داود واللفظ له، رقم الحديث:(5095)، والترمذي، رقم الحديث:(3426)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(9837)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5095).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 748).
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولانِ لَهُ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ الله، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ»
(1)
.
كفايته لهم ضيق القبر بما يوسع لهم فيه، وظلمته بما يجعل لهم من النور، وعذابه بما يفتح لهم من أبواب الجنة، ووحشته بما يجعل لهم من الأنيس، قال صلى الله عليه وسلم في حديث البراء:«فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي؛ فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ» ، قال: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، قال: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ! فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ؛ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي»
(2)
.
كفايته لهم شدة القيامة وهوله بورود الحوض، وبما يمن على من شاء منهم بالظل، وبالنور على الصراط، كما قال سُبْحَانَهُ:{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12]، وقال جل في علاه:{يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل،
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4753)، والحاكم في المستدرك، رقم الحديث:(108)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(4753).
(2)
تقدم قبله.
ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورًا: مَن نوره في إبهامه، يتقد مرة ويطفأ مرة»
(1)
.
(2)
.
- ثم إن هذه الوكالة والكفالة والكفاية العامة والخاصة في منتهى الكمال والتمام {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3]، وكيف لا تكون كذلك، وهو الوكيل الحي الذي لا يموت، قال تَعَالَى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58].
وهو الوكيل الملك الذي ملك المشرق والمغرب وما بينهما، قال تَعَالَى:{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
وهو الوكيل الغني، الذي مهما كفل وأعطى خلقه ما سألوه واحتاجوه لم ينقص ما عنده، بل يمينه سُبْحَانَهُ ملأى لا تغيضها نفقة، ولو أن عباده كلهم قاموا في صعيد واحد، فسألوه فأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك مِن ملكه إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخِلَ البحر.
(1)
تفسير الطبري (23/ 179).
(2)
تفسير السعدي (ص: 531).
وهو الوكيل العليم الذي أحاط علمه بما وكل إليه، قال تَعَالَى:{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].
وهو الوكيل العزيز الرحيم، قال تَعَالَى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 217]«بعزته يقدر على إيصال الخير ودفع الشر عن عبده، وبرحمته به، يفعل ذلك»
(1)
.
وهو الوكيل الحكيم الذي يحكم بحكمه، ولا يضيع من وثق بحسن تدبيره، قال تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
[الأنفال: 49].
وهو الوكيل الهادي الذي يهدي العبد إلى سواء السبيل، قال تَعَالَى:{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
وهو الوكيل الحسيب الكافي الذي يكفي عبده كل ما أهمه، قال تَعَالَى:{قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38].
وهو الوكيل الذي يرجع الأمر كله إليه، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123]، فَسُبْحَانَهُ ما أعظمه وأجله، يقول تَعَالَى:{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].
(1)
تفسير السعدي (ص: 599).
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (الوكيل، الكفيل، الكافي) على التوحيد:
إذا تأمل العبد في اسم الله جل جلاله (الوكيل، والكفيل، والكافي) قاده ذلك لتوحيد ربه عز وجل في الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
فأما الربوبية: فلما تدل عليه هذه الأسماء من قيام بشؤون الخلق كلهم على وجه التفرد تدبيرًا، وتصريفًا، ورزقًا، وهداية، وحفظًا، ونفعًا وضرًّا إلى غير ذلك من أفراد الربوبية، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 132] فـ «لله ملك جميع ما حوته السموات والأرض، وهو القيم بجميعه، والحافظ لذلك كله، لا يعزب عنه علم شيء منه، ولا يؤوده حفظه وتدبيره»
(1)
، وبهذا علم أنه الرب الحق تبارك وتعالى.
وأما الألوهية: فلما تدل عليه هذه الأسماء من استحقاق الله للعبودية وحده لا شريك له؛ فإن الوكيل الذي تولى أمر العباد فتكفل بما يحتاجون إليه من الرزق، والتدبير، والرعاية، والحفظ، والوكيل الذي كفاهم همهم وغمهم وكل ما يضرهم هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، قال تَعَالَى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171].
واستحقاقه على وجه الخصوص الإفراد بالتوكل وتفويض الأمور إليه، قال تَعَالَى آمرًا عباده بذلك:{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3]،
(1)
تفسير الطبري (9/ 297).
وقال تَعَالَى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال سُبْحَانَهُ ناهيًا عباده عن اتخاذ وكيل غيره:
{أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء: 2].
ويعلم من هذا أن صرف التوكل لغير الله شرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«وما رجا أحد مخلوقًا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]»
(1)
.
«لكن التوكل على غير الله قسمان:
أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة، فهذا شرك أكبر فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى.
الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة العادية، كمن يتوكل على أمير أو سلطان، فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك، فهذا نوع شرك خفي.
والوكالة الجائزة هي توكل الإنسان في فعل مقدور عليه، ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكله، بل يتوكل على الله ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه»
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 257).
(2)
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص: 428 - 429).
وأما في الأسماء والصفات: فلما تدل عليه هذه الأسماء من أسماء أخرى له تبارك وتعالى كالحي، والقيوم، والعليم، والحكيم، والقدير، والقوي، ونحو ذلك؛ وذلك لأنه تبارك وتعالى له من الصفات أكملها وأرفعها، فلما كان وكيلًا، كفيلًا، كافيًا فإن تمام ذلك كله وكماله إنما يكون بعلم تام بما تولاه، وقوة وقدرة على التنفيذ، وحكمة في التدبير والتصريف، ولا يكون ذلك إلا من الحي القيوم»
(1)
.
الأثر الثالث: الثقة في الوكيل الكفيل الكافي:
إذا تأمل العبد اسم الله (الوكيل، والكفيل، والكافي)، واستشعر ما فيه من عموم الوكالة التي وسعت جميع الخلائق مع اختلافهم وتعدد حاجتهم، فلم تضق عن أحد منهم دون أحد، ولا عن حاجة دون حاجة بل شملت الجميع؛ أورثه ذلك اليقين بأن وكالته تبارك وتعالى لا تضيق عن حاجته التي أهمته، ولا عن حزنه الذي أحاط به، ولا عن مصابه الذي ألم به و لا عن رزقه الذي أشغله، ولا عن عدوه الذي نزل به ولو كان في غاية القوة، قال تَعَالَى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].
ثم إذا تيقن العبد هذا أورثه ذلك الثقة بالله عز وجل والتعلق به وإنزال حاجته وفاقته به وعدم استكثارها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:«مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللهِ أَوْشَكَ اللهُ لَهُ بِالْغِنَى، إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ أَوْ غِنًى عَاجِلٍ»
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 208).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(3946)، وأبو داود واللفظ له، رقم الحديث:(1645)، والترمذي، رقم الحديث:(2326)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1645).
ثم هذا يعود على قلبه بالطمأنينة والسكون أمام ما يوجهه من المصائب والأهوال، ويعود عليه بالرجاء بنصر الله على أعدائه، وحسن الظن بكفايته لهم ويذهب عنه اليأس والخوف من المخلوق والإحباط والتشاؤم، ويعود عليه- أيضًا- بعدم الشعور بالقلق والهلع على الرزق والمطالب، بل يتوكل على الوكيل الكفيل الكافي فيها، ويأخذ بالأسباب المشروعة، ثم يرضى بما قسم له منها، ويعلم أن ما فاته ليس له نصيب فيه، ولو أن له مثقال ذرة فيه لما فات الكفيل إيصاله إليه، فلا تذهب نفسه عليه حسرات.
الأثر الرابع: محبة الله (الوكيل، الكفيل، والكافي) وشكره:
إن العبد حين يعرف ربه بأسمائه (الوكيل، الكفيل، والكافي) ويوقن أنه تبارك وتعالى تولاه بالكفالة إيجادًا، وإعدادًا، وتدبيرًا، وحفظًا، ورزقًا، فحصل بها وجوده ودوامه وكماله، وتولاه بكفايته عما يحتاجه ويضره في أمر دينه ودنياه، ولم يكله إلى أحد من خلقه، حتمًا سيثمر ذلك في قلبه محبة وتعلقًا، وإقبالًا، وودًّا للوكيل جل في علاه.
الأثر الخامس: الدعاء باسم الله (الوكيل، الكفيل، الكافي):
فالعبد لا غنى له عن ربه طرفة عين، فيحتاج إلى كفالة وكفاية وركن يأوي إليه، ويفوض أمره إليه، ويطلب منه عونه، ويعلق عليه رجاءه محسنًا ظنه به، ولذا فإن من أثر يقين القلب باسم الله الوكيل الكفيل الكافي دعاؤه سُبْحَانَهُ بها وما فيها من صفات، والتوسل إليه بالتعبد بها.
ومما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ما يلي:
1 -
دعاء الخروج من المنزل، كما في حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ
…
قال: فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ»
(1)
.
2 -
دعاء الاستفتاح، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد، قال: اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»
(2)
.
3 -
دعاء قضاء الدين في حديث علي رضي الله عنه وتقدم قريبًا-، وفيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قُل: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّن سِوَاكَ»
(3)
.
4 -
دعاء الاستخارة؛ فعن عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللهمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(1335)، والترمذي، رقم الحديث:(3563)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3563).
فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللهمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الأَمْرَ- ثُمَّ تُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ- خَيْرًا لِي فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - قَالَ: أَوْ فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، اللهمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي- أو قال: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «والمقصود: أن الاستخارة توكل على الله وتفويض إليه واستقسام بقدرته وعلمه وحسن اختياره لعبده، وهي من لوازم الرضى به ربًّا، الذي لا يذوق طعم الإيمان من لم يكن كذلك، وإن رضي بالمقدور بعدها فذلك علامة السعادة»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 406).
الوكيل الكفيل الكافي يحب المتوكلين
أولًا: تعريف التوكل:
- المقصود بالتوكل:
قال الجرجاني رحمه الله: «التوكل هو الثقة بما عند الله، واليأس عما في أيدي الناس»
(1)
.
قال ابن عثيمين رحمه الله: «صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة بالله، وفعل الأسباب التي جعلها الله تَعَالَى أسبابًا»
(2)
.
فتبين مما سبق أن التوكل يقوم على أمرين:
1 -
علم القلب وعمله:
قال ابن القيم رحمه الله: «التوكل يجمع أصلين: علم القلب وعمله، أما علمه: فيقينه بكفاية وكيله، وكمال قيامه بما وكله إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك.
وأما عمله: فسكونه إلى وكيله، وطمأنينته إليه، وتفويضه وتسليمه أمره إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك، ورضاه بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه»
(3)
.
(1)
التعريفات، الجرجاني (ص: 74).
(2)
القول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 575).
(3)
طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 257).
2 -
عمل الجوارح، بالأخذ بالأسباب المشروعة:
فمن كان أكثرُ اعتماده على الأسباب؛ نقص توكله على الله، وقدح في كفايته، وكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب وزوال المكروه.
وبالمقابل: من جعل اعتماده على الله ملغيًا للأسباب، لم يحقق التوكل بل وطعن في حكمة الله؛ لأن الله جعل لكل شيء سببًا، وربط الأسباب بمسبباتها
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «وسر التوكل وحقيقته: هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: توكلت على الله، مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به»
(2)
.
ومما يدل على أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، ما يلي:
1 -
أن الله عز وجل أمر بالأخذ بالأسباب كما أمر بالتوكل، فقال سُبْحَانَهُ لأيوب عليه السلام:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] مع أن ضرب الرجل في الأرض لا ينبع ماء، ولكن لنعلم أنه لا بد من اتخاذ الأسباب ولو كانت ضعيفة، فالأمر أمره والكون كونه، وقال لمريم مع ضعفها:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25]، ومع قدرته تبارك وتعالى على أن ينزل لها الرطب جنيًّا، بل مائدة عليها أشهى
(1)
القول المفيد على كتاب التوحيد (2/ 88).
(2)
الفوائد (ص: 87).
المأكولات من غير هز ولا غيره، إلا أنه سُبْحَانَهُ علمنا بهذا أن نأخذ بالأسباب مع الأمل و الثقة به.
2 -
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من أكمل الناس توكلًا، ومع ذلك أخذوا بالأسباب، فأخذوا الزاد في الأسفار، وتاجروا في الأسواق، واتقو البرد والحر، ولبسوا الدروع والمغافر في الحروب، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر في طريق الهجرة دليلًا يدلهم على الطريق، وخرجا في وقت يغفل الناس فيه، ومن طريق غير متوقع، كل هذا أخذًا بالأسباب، مع أن الله تَعَالَى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62]، وقال تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
3 -
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى لنا كمال توكل الطيور مع أخذها بالأسباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُم تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا
(1)
»
(2)
، قال المناوي رحمه الله: «أشار بذلك إلى أن التوكل ليس التبطل والتعطل، بل لا بد فيه من التوصل بنوع من السبب؛ لأن الطير ترزق بالسعي والطلب، ولهذا قال أحمد: ليس في الحديث ما يدل على ترك الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق، وإنما أراد لو توكلوا على الله في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم وعلموا أن الخير
(1)
(تغدو) أي: تذهب أول النهار (خماصًا) بكسر الخاء جمع خميص، أي: جياعًا (وتروح) أي: ترجع آخر النهار (بطانًا) بكسر الباء جمع بطين، وهو: عظيم البطن، والمراد: شباعًا. ينظر: تحفة الأحوذي (7/ 7).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(210)، والترمذي، رقم الحديث:(2344)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4164)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف الترمذي، رقم الحديث (2344).
بيده، لم ينصرفوا إلا غانمين سالمين كالطير لكن اعتمدوا على قوتهم وكسبهم، وذلك ينافي التوكل»
(1)
.
ومن هنا يعلم الفرق بين التوكل والتواكل، فالتوكل فيه أخذ للأسباب المشروعة، أما التواكل فهو ترك الأسباب، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «يرفع أحدكم يديه إلى السماء يقول: يارب
…
يارب
…
وهو يعلم أن السماء لاتمطر ذهبًا ولا فضة»
(2)
.
ثانيًا: منزلة التوكل وفضله:
التوكل على الله عز وجل مقام جليل عظيم، بل ومن أعظم مقامات الدين، وأفضل الأعمال والعبادات المقربة إلى الله عز وجل، ومما يدل على عظيم منزلته في الدين: أمور عدة، منها:
1 -
أن التوكل نصف الدين؛ فالدين توكل وعبادة، قال تَعَالَى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، والتوكل شامل للاستعانة؛ إذ الاستعانة تكون على الأعمال خاصة، والتوكل أعم من ذلك، فيكون التوكل لذلك ولجلب منفعة، ودفع مضرة
(3)
.
2 -
أن التوكل مطلوب في كل أحوال العبد، سواء كانت دينية أو دنيوية مباحة، ويدل على ذلك: عموم الأدلة الآمرة بالتوكل، قال تَعَالَى:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 13]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3].
(1)
التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي (2/ 306).
(2)
إحياء علوم الدين (2/ 62).
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 177).
3 -
أن التوكل من لوازم الإيمان ومقتضياته، بل جعله الله عز وجل شرطًا في الإيمان، قال تَعَالَى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه، وقال سُبْحَانَهُ:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].
4 -
أن الله عز وجل أمر بالتوكل في مواضع عديدة من كتابه، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«وقد أمر الله بالتوكل في غير آية، أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة»
(1)
، فأمر الله بالتوكل جاء مطلقًا عامًّا في جميع شؤون الحياة، كما في قوله تَعَالَى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3]، وقوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 13]، وجاء مقرونًا بمقامات معينة، تحتاج إلى مزيد توكل، منها:
أ- مقام العبادة، قال تَعَالَى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123].
ب- مقام الدعوة، قال تَعَالَى عن نبيه نوح الذي مكث في الدعوة والإنذار زمنًا طويلًا:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71]، وقال سُبْحَانَهُ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والأمة من بعده:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 128 - 129].
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 16).
ج- مقام الحكم والقضاء، قال تَعَالَى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10].
د- مقام الجهاد والقتال وطلب النصر، قال تَعَالَى:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]، وقال تَعَالَى:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]، وقال تَعَالَى في مقام السلم وانتهاء الحرب:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] دال على بقاء التوكل والارتباط حتى بعد المعركة.
ر- مقام الشورى، قال تَعَالَى:{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
ش- مقام طلب الرزق، قال تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3]،
ص- مقام العهود والمواثيق وإبرام العقود، قال تَعَالَى:{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66]، وقال سُبْحَانَهُ:{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27 - 28].
ن- مقام الهجرة في سبيل الله، قال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41 - 42].
و- مقام المصائب والابتلاء، قال تَعَالَى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].
ي- الاستعاذة من الشيطان، قال تَعَالَى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 98 - 99].
ثالثًا: ثمرات التوكل:
ثمرات التوكل ونتائجه على أهله كثيرة، ومنها:
تحقيق الإيمان؛ فإن الله عز وجل جعل التوكل من شرط الإيمان، قال تَعَالَى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84]، وجعله من صفات المؤمنين، قال تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، وقال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت: 58 - 59].
تحصيل محبة الله عز وجل، قال تَعَالَى:{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وكفى بهذا فضلًا وشرفًا.
التوفيق والهداية والوقاية من كل شر، قال رسول صلى الله عليه وسلم:
(1)
.
ومن ذلك: الوقاية من تسلط الشياطين وشرهم؛ قال تَعَالَى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 99]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10].
جلب الرزق من حيث لا يحتسب المرء؛ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا»
(2)
.
حصول النصر والتمكين، قال تَعَالَى:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
[آل عمران: 160]، وقال سُبْحَانَهُ:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}
[آل عمران: 173 - 174].
الشعور براحة القلب وطمأنينته؛ لثقته بالله وحسن ظنه به، كما يؤدي للثبات أمام الشدائد وزوال الخوف من الخلق، قال تَعَالَى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وقال سُبْحَانَهُ: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي وعدهم الله به، قال تَعَالَى:{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36]
(1)
.
(2)
.
قال ابن قاسم رحمه الله: «فتركوا الشرك رأسًا، ولم ينزلوا حوائجهم بأحد فيسألونه الرقية فما فوقها، وتركوا الكي وإن كان يراد للشفاء، والحامل لهم على ذلك: قوة توكلهم على الله، وتفويض أمورهم إليه، وثقتهم به، ورضاهم عنه، وصدق الالتجاء إليه، وإنزال حوائجهم به تبارك وتعالى، والاعتماد بالقلب
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 32).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5752)، ومسلم، رقم الحديث:(218).
الذي هو نهاية تحقيق التوحيد، وهو الأصل الجامع الذي تفرعت عنه تلك الأفعال والخصال»
(1)
.
تحصيل كفايته للأمر الذي توكل فيه العبد عليه؛ فإن العبد إذا توكل على ربه حق التوكل، بأن اعتمد بقلبه على ربه اعتمادًا قويًّا كاملًا في تحصيل مصالحه ودفع مضاره، وقويت ثقته وحسن ظنه بربه حصلت له الكفاية التامة، وأتم الله له أحواله وسدده في أقواله وأفعاله، وكفاه همه، وجلا عنه غمه، قال تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، أي: كافيه كل أموره الدنيوية والدينية.
قال ابن القيم رحمه الله في توضيح العلاقة بين التوكل والكفاية: «والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك؛ فإن الله حسبه: أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذًى لا بد منه؛ كالحر والبرد، والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدًا، وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له- وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه- وبين الضرر الذي يتشفى به منه.
قال بعض السلف: جعل الله تَعَالَى لكل عمل جزاءً من جنسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال:«ومن يتوكل على الله فهو حسبه» ، ولم يقل: نؤته كذا وكذا من الأجر، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سُبْحَانَهُ كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله تَعَالَى حق
(1)
حاشية كتاب التوحيد (ص: 46).
توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجًا من ذلك، وكفاه ونصره»
(1)
.
وقال أيضًا: «ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه- وكان مأمورًا بإزالته- لأزاله»
(2)
.
رابعًا: الأسباب المعينة على تحقيق عبادة التوكل:
من رحمة الله بعباده وحكمته أن جعل لكل عمل من أعمال القلوب والجوارح بواعث تدفع النفوس إليه، وتحض عليه، ومما يبعث النفوس على التوكل ويعين عليه جملة من الأمور، منها:
معرفة الله بأسمائه الحسنى؛ فمن عرف ربه الوكيل وضم إلى ذلك الحي، القيوم، العليم، الحكيم، الرحيم، اللطيف، العزيز، القادر القدير، الفعال لما يريد، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ وجد نفسه مدفوعًا إلى الاستناد إليه، والتوكل عليه.
ومن عرف ربه الوكيل وضم إلى ذلك أنه الكفيل الرزاق ذو القوة المتين، الذي تكفل بالأرزاق لخلقه وضمن لهم وصولها إليهم، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقال تَعَالَى:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22 - 23] فلا يفوت أحد رزقه، ولا يستطيع أحد أن يأخذه دونه- مُلئ قلبه بالتوكل عليه، ومن عرف ربه الوكيل وضم إلى ذلك أنه الناصر القهار الذي ينصر
(1)
بدائع الفوائد (2/ 766).
(2)
مدارج السالكين (1/ 103).
أوليائه الذين آمنوا على عدوهم، ويؤيدهم بمعونته، ويملي للظالمين، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ويمهل، ولا يهمل- توكل عليه وأحسن الظن به.
ومن هنا نجد أن الله عز وجل في عدد من الآيات يربط بين التوكل وبين أسمائه الحسنى، ومن ذلك:
- قوله تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49].
- وقوله سُبْحَانَهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217 - 220].
- وقوله: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29].
تأمُّل الإنسان في ضعفه؛ فإن العبد إذا تأمل في نفسه وكيف أنه لم يكن شيئًا مذكورًا، ثم خُلِقَ من ماء مهين، ثم خرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا، ثم علَّمه الله بما أعطاه من أدوات السمع والبصر والفؤاد؛ ليتعلم ما لم يكن يعلم، ومنحه من الإرادة والقدرة ما يمكنه من أداء رسالته في الأرض، إلا أن ذلك كله محدود بما يناسب ضعف البشر وعجزهم، ثم بعدُ يموت ويفنى.
ثم إذا تأمل أن وجوده، وحياته، وبقاءه، وعلمه، وإرادته، كلها ليست بذاته ولا من ذاته، بل بالله عز وجل؛ علم حقَّ العلم وتيقَّن أنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، الذي خلقه فسواه، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فقاده ذلك العلم واليقين إلى التوكل عليه والتعلق به تعلق العاجز بالقدير، والضعيف بالقوي، والفقير بالغني، والجهول بالعليم، والمحدَث بالأول، والذليل بالعزيز، والفاني بالباقي.
تحقيق التوحيد؛ فإن العبد إذا حقق التوحيد كان نصيبه من التوكل أعظم، قال تَعَالَى:{فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة: 129].
الاشتغال بالآخرة ورضا الله عز وجل؛ فعن عبد الله رضي الله عنه، قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ جَعَلَ الهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا- هَمَّ المَعَادِ- كَفَاهُ اللهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهِ هَلَكَ»
(1)
، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»
(2)
.
وقال عون بن عبد الله بن عتبة رحمه الله: «كان أهل الخير إذا التقوا يوصي بعضهم بعضًا بثلاث، وإذا غابوا كتب بعضهم إلى بعض: من عمل لآخرته كفاه الله دنياه، ومن أصلح فيما بينه وبين الله كفاه الله الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته»
(3)
.
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه، قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا
(1)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(4106)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(1744)، والبزار، رقم الحديث:(1638 - البحر الزخار)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف ابن ماجه، رقم الحديث): 4106).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2465)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(9855)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف الترمذي، رقم الحديث): 2465).
(3)
الزهد، لهناد بن السري (1/ 300).
النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ، اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيه. قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي
(1)
؟ فقال: مَا شِئْتَ، قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ، قال: مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ، قَالَ: مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا، قَالَ: إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ»
(2)
.
(3)
.
متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره، قال ابن القيم رحمه الله، عند قوله تَعَالَى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر 36]: «والمقصود أن بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة، فالله سُبْحَانَهُ علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاح والعزة، والكفاية والنصرة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة»
(4)
.
(1)
أي: كم أجعل لك من دعائي صلاة عليك؟ ينظر: تحفة الأحوذي (7/ 129).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2457)، والحاكم، رقم الحديث:(3599)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2457).
(3)
مشكاة المصابيح، مع شرحه مرعاة المفاتيح (3/ 546).
(4)
ينظر: زاد المعاد (1/ 36).
صلاة الضحى؛ فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن رسول الله قال:«إِنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، اكْفِنِي أَوَّلَ النَّهَارِ بِأَرْبَعِ رَكعَاتٍ أَكْفِكَ مِنْ آخِرِ يَوْمِكَ»
(1)
، قال العيني رحمه الله:«أكفك آخر النهار من كل شيء، من الهموم والبلايا ونحوهما»
(2)
.
الدعاء وسؤال الله الكفاية كما هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عامر، فقال:«اللَّهُمَّ اكفْنِي عَامِرًا» ، فَكَفَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى نَزَلَ بِفِنَائِهِ، فَرَمَاهُ اللهُ بَالذَّبْحَةِ فِي حَلْقِهِ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ سَلُولٍ
(3)
.
وعلَّم أصحابه والأمة من بعدهم سؤال الكفاية؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ- يعني: إذا خرج من بيته-: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ، يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْه الشَّيْطَانُ»
(4)
.
فاللهم ارزقنا صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك يا الله.
(1)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري (11/ 195).
(2)
المرجع السابق.
(3)
المعجم الكبير، للطبراني، رقم الحديث (5724). قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني، وفيه عبد المهيمن بن عباس وهو ضعيف، رقم الحديث:(10126).
(4)
سبق تخريجه.
الوليُّ الموْلى جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
- قال الجوهري رحمه الله: «الولي: القرب والدنو، يقال: تباعد بعد ولى، و (كُلْ مِمَّا يَلِيكَ)
(1)
، أي: مما يقاربك
…
والوَلِى: ضد العدو، يقال منه: تولاه
…
»
(2)
.
- قال ابن فارس رحمه الله: «الواو واللام والياء: أصل صحيح يدل على قرب، من ذلك الوَلْي: القرب، يقال: تباعد بعد ولي، أي: قرب، وجلس مما يليني، أي: يقاربني
…
»
(3)
.
ورود اسم الله (الولي، المولى) في القرآن الكريم:
أولًا: ورود اسم الله الولي في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (الولي) في كتاب الله في مواضع كثيرة، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257].
قوله تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55].
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5376)، ومسلم، رقم الحديث:(2022).
(2)
الصحاح (6/ 2528).
(3)
مقاييس اللغة (6/ 141).
قوله تَعَالَى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [الأعراف: 155].
ثانيًا: ورود اسم الله المولى في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (المولى) في كتاب الله في اثني عشر موضعًا، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} [البقرة: 286].
قوله تَعَالَى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150].
قوله تَعَالَى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62].
ورود اسم الله (الولي، المولى) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الولي، المولى) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: «جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذا، حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا القَومَ وأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، فَهَزَمُوهُمْ،
…
ثُمَّ أَخَذَ أبو سفيان يَرْتَجِزُ: أُعْلُ هُبَلْ، أُعْلُ هُبَلْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تُجيبوا لَهُ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. قَالَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَلَا تُجِيبُوا لَهُ؟ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3039).
عن زيد بن الأرقم رضي الله عنه، قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ العَجْزِ، والكَسَلِ، والجُبْنِ، والبُخْلِ، والهَرَمِ، وَعَذَابِ القَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا»
(1)
.
معنى اسم الله (الولي، المولى) في حقه سُبْحَانَهُ:
يرجع معنى اسم الله (الولي، والمولى) إلى معنى الولاية العامة، والولاية الخاصة.
فالولاية العامة: تولي الله الخلق بالملك، والتدبير، والتقدير.
والولاية الخاصة: تولي الله المؤمنين بالمحبة، والتوفيق، والنصر، والتأييد، ونحو ذلك.
وعلى هذا تدور أقوال أهل العلم:
قال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]: «نصيرهم وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه»
(2)
.
وقال في قوله تَعَالَى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150]: «وليكم وناصركم على أعدائكم الذين كفروا»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2722).
(2)
تفسير الطبري (5/ 424).
(3)
المرجع السابق (7/ 278).
(1)
.
قال الزجاجي رحمه الله في اسم الله الولي: «فالله عز وجل ولي المؤمنين، أي: ناصرهم ومصلح شؤونهم والمثنى عليهم
…
ويقال: «فلان ولي فلان» أي: ولي نعمته، أي: قد أولاه نعمته وأنعم عليه، وأسداها إليه، فلم يحل بينه وبينها، فالله عز وجل ولي المؤمنين بإنعامه عليهم وإحسانه إليهم»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: «الولي: المتولي للأمر والقائم به، كـ (ولي اليتيم)، و (ولي المرأة في عقد النكاح)، وأصله من (الوَلْي) وهو القرب، فتكون ولاية خاصة»
(3)
، وقال:«المولى: الناصر والمعين»
(4)
.
قال ابن الأثير رحمه الله: «الولي: الناصر، وقيل: المتولي لأمور العالم والخلائق، وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل، وما لم يجتمع فيه ذلك لم يطلق عليه الولي فتكون ولايةً عامةً»
(5)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «والله ولي الذين آمنوا وهم أولياؤه، فهم يوالونه بمحبتهم له، وهو يواليهم بمحبته لهم»
(6)
.
(1)
تفسير الأسماء الحسنى (ص: 55).
(2)
اشتقاق أسماء الله الحسنى (ص: 113).
(3)
شأن الدعاء (ص: 78).
(4)
المرجع السابق (ص: 101).
(5)
النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 227).
(6)
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 229).
قال السعدي رحمه الله في تفسير قوله تَعَالَى: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28]: «الذي يتولى عباده بأنواع التدبير، ويتولى القيام بمصالح دينهم ودنياهم»
(1)
.
وقال في قوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]: «والله تَعَالَى وليهم وناصرهم ومؤيدهم»
(2)
.
اقتران اسم الله (الولي، المولى) بأسمائه الأخرى- سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (الولي) بالأسماء الأخرى:
أولًا: اقترن اسم الله تَعَالَى (الولي) باسمه تَعَالَى (الحميد).
تقدم بيانه في اسم الله (الحميد).
ثانيًا: اقتران اسم الله (المولى) بالأسماء الأخرى:
اقترن اسمه تَعَالَى (المولى) باسمه تَعَالَى (الحق):
تقدم بيانه في اسم الله (الحق).
(1)
تفسير السعدي (ص: 759).
(2)
المرجع السابق (ص: 134).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الولي، المولى):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الولي- المولى) من الصفات:
الله عز وجل الولي المولى الذي خلق الخلق، فلم يتركهم هملًا، بل تولاهم، قال تَعَالَى:{فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: 9]، وقال سُبْحَانَهُ:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62].
وولايته جل جلاله لخلقه على نوعين:
1 -
ولاية عامة.
2 -
ولاية خاصة.
فالنوع الأول: الولاية العامة:
الله جل جلاله الولي المولى، الذي عمت ولايته جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، العاقل منهم وغير العاقل، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].
فتولى السماوات السبع وما فيهن من الملائكة والأجرام شمسًا، وقمرًا، ونجمًا، وما يتبعها من الليل والنهار، قال سُبْحَانَهُ:{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2].
وتولى الأراضين السبع ومن فيهن، من الجن والإنس، يقول تَعَالَى:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 14 - 16].
وتولى الأنبياء الذي هم أتقى الخلق، كما تولى الطغاة الكفرة الذين هم أفجر الخلق، وتولى الشاب القوي القادر كما تولى الرضيع العاجز الذي لا
يملك حولًا ولا قوة، وتولى الصحيح المعافى كما تولى المريض الطريح، وتولى الغني الفرح كما تولى الفقير الكسير، قال تَعَالَى:{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
وتولى - أيضًا- البهائم العجماء، فتولى الأسد على عظم قوته وقدرته على فريسته، كما تولى النمل، والعنكبوت، والبعوض، وسائر الحشر على ضعفها وحقارتها، وتولى الصقر القوي كما تولى العصفور الصغير الذي يخرج خماصًا فيعود بطانًا، قال تَعَالَى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6].
وتولى السفن في البحر، كما تولى الطائرات في السماء، والمراكب في الأرض، قال تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65].
وتولى الريح وتصريفها، كما تولى المطر وقطره، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5].
وهذا التولي يقتضي توليه لهم بحكمه القدري، والشرعي، والجزائي:
فالكل تولاه الولي المولى بحكمه القدري، فنفذ فيه ما شاء من أنواع التدبير، وما قضى من التصريف، وما أراد من التقدير خيرًا وشرًّا، ونفعًا وضرًّا، وحياة وموتًا، قال تَعَالَى:{فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: 9].
وتولاهم بما قدر لهم من نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، وأقام لهم مصالحهم وحاجاتهم؛ ابتدأ بالخلق، ثم الرزق، والتعليم، والحفظ، والشفاء، وكشف الضر، وإجابة الدعاء، وإنزال المطر ونحو ذلك، قال تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28]، وقال سُبْحَانَهُ:{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 2 - 3]
(1)
.
فالكل تحت ولايته ورعايته، وطوع تقديره وحكمه، لا خروج لأحد عنه طرفة عين، قال تَعَالَى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا} [التوبة: 51]، وقال سُبْحَانَهُ:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].
والكل من الثقلين تولاه الولي المولى بحكمه الشرعي، فأنزل الشرائع التي فيها تحقيق مصالحهم وطيب حياتهم في الدنيا والآخرة، فما من أمة إلا وبعث فيها رسولًا مؤيَّدًا بالبراهين والحجج، قال تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] حتى ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله هدى ونورًا للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].
وجمع له الجن مستمعين، فانطلقوا إلى قومهم منذرين، قال تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 759)، والنهج الأسمى، للنجدي (2/ 48).
بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 29 - 32].
كل ذلك توليًا من الله لخلقه، ورحمة منه بهم، قال تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال سُبْحَانَهُ:{طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2].
وبعد هذا يُرد الكل لله الولي المولى، قال سُبْحَانَهُ:{وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [يونس: 30] فيتولاهم بحكمه الجزائي، فيثيبهم على ما عملوا من الخيرات، ويعاقبهم على ما عملوا من الشرور والسيئات، كما قال سُبْحَانَهُ:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]
(1)
.
النوع الثاني: الولاية الخاصة:
فالله جل جلاله الولي المولى الذي اختص عباده المؤمنين، وحزبه المطيعين، وأولياءه المتقين بمزيد من الولاية والرعاية، قال تَعَالَى:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19].
فتولاهم الولي المولى بالهداية للحق، وإخراجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، قال تَعَالَى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]
(2)
.
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 259).
(2)
تفسير السعدي (ص: 111).
تولى محمدًا صلى الله عليه وسلم وصحبه، فأخرجهم من الجاهلية إلى النور، ومن التفرق إلى الاجتماع، ومن الذل إلى العز، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، وقال أيضًا:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103].
ولا يزال جل جلاله يتولى من شاء من خلقه، فيخرجهم من الكفر إلى الإسلام، ويخرج من شاء من العصيان والتقصير والتفريط إلى الطاعة والاستقامة، قال تَعَالَى:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17].
وتولاهم الولي المولى بالتوفيق للطاعات، والحفظ من المعاصي والآثام، كما جاء في حديث الولي:«فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»
(1)
.
تولى يوسف، فحفظه من الوقوع في الفعل القبيح، قال سُبْحَانَهُ:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]
وتولى بني سليم وبني حارثة، فحفظهم من الفشل والفرار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سُبْحَانَهُ:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].
(1)
ينظر: المصدر السابق (ص: 111).
وتولاهم الولي المولى بالرعاية والحفظ وحسن التدبير، قال تَعَالَى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196].
تولى يوسف عليه السلام طفلًا ضعيفًا، فصرف إخوته عما هموا به من القتل، وتولاه في البئر وحيدًا، فحفظه من مخاطره ومخاوفه، بل وبشره بيوم يجتمع فيه بأهله وإخوته وينبئهم بفعلهم
(1)
، وتولاه غلامًا مبيعًا، فاشتراه عزيز مصر وأكرمه، وتولاه شابًّا فآتاه الحكمة والعلم، وصرف عنه كيد النسوة، وتولاه سجينًا فأخرجه منه عزيزًا ممكنًا له في الأرض، وتولى كيده لأخذ أخاه فأخذه، وتولى أهله فأتى بهم إليه من البدو، ويتولاه في الآخرة كما تولاه في الدنيا، قال تَعَالَى:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
وتولى موسى عليه السلام طفلًا رضيعًا، فحفظه في اليم، وحفظه من قتل فرعون وقومه، ثم أعاده لأمه وأهله، وتولاه شابًّا فحفظه من تآمر القوم على قتله، وتولاه في مدين فرزقه عملًا، ومالًا، وزوجًا، ثم تولاه بأعظم صور الولاية، فرزقه النبوة والرسالة، وتولاه بالنصر على فرعون وجنده.
وكذا تولى بني إسرائيل، فأنجاهم من آل فرعون وتعذيبهم، وأغرق فرعون وجنده بمرأى منهم ومسمع، وأورثهم أرض مصر ومكنهم فيها، وأنزل عليهم التوراة هدى ونورًا، وعفا عنهم عبادتهم العجل، وطلبهم النظر إليه، فبعثهم بعد صعقهم، وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه، وفجر لهم
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 395).
الحجر بالماء، وظللهم بالغمام، قال تَعَالَى على لسان موسى عليه السلام:{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155].
وتولى خاتم الأنبياء والمرسلين محمدًا صلى الله عليه وسلم، فتولاه طفلًا رضيعًا، فسخر حليمة السعدية لأخذه ورضاعه، وتولاه يتيمًا، فرعاه جده وعمه، وأكرماه أيما إكرام، وتولاه شابًّا، فحفظه من سفه الشباب وسوء فعالهم، فعُرف بحسن السيرة ومكارم الأخلاق، وتولاه بالزواج من خديجة خير النساء، وتولاه في الأربعين، فأكرمه بالوحي والرسالة وأيده بالقرآن العظيم، وتولاه فحفظه من كيد قومه وإرادتهم قتله، وتولاه بالهجرة إلى المدينة ومناصرة الأنصار، وتولاه بالنصر في بدر، والخندق، وخيبر، وحنين، وتبوك وغيرها، وتولاه فجمع له المال بعد الفقر والفاقة، وتولاه ففتح له مكة ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وتولاه فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويكرمه في الآخرة بالوسيلة والمقام المحمود، قال تعالى:{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 1 - 9].
وتولاهم الولي المولى بالتأييد والنصر على الأعداء، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45]، وقال سُبْحَانَهُ:{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150]، ولما قال أبو سفيان يوم أحد: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَجِيبُوهُ. قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: اللهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4043).
تولى أنبياءه ورسله، فنصرهم على أقوامهم، على الرغم من قلة الرجال، وضعف العدة والعتاد، وكثرة العدو وقوتهم وشدة بطشهم، قال تَعَالَى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وتولى أتباعهم، فنصر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبلهم نصر طالوت، وداود، ومؤمن آل فرعون، قال تَعَالَى:{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 45].
وهذه الولاية الخاصة هي الولاية التي نفاها الله عن الكافرين دون الولاية العامة، قال تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]؛ فالولاية المنفية هنا هي ولاية المحبة والتوفيق والنصر والتأييد، وهي خاصة بالمؤمنين، أما الكفار فوليهم الشيطان، ومولاهم النار، قال تَعَالَى:{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 63]
الأثر الثاني: دلالة اسم الله الولي المولى على التوحيد:
إذا تأمل العبد في اسم الله الولي المولى؛ قاده ذلك إلى توحيد الله في الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، وبيان ذلك على النحو الآتي:
دلالة اسم الله الولي المولى على توحيد الربوبية: اسم الله (الولي، المولى) يتضمن الولاية لجميع الخلق بأفراد الربوبية خلقًا، ورزقًا، وتدبيرًا، وحفظًا، وإجابةً للدعاء، ونفعًا، وضرًّا، وإحياءً وإماتة ونحو ذلك، قال تَعَالَى:{فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: 9]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].
وهذا دال على فقر المخلوقات عن جلب هذه الأفراد لنفسها أو غيرها، وبالتالي وحدانية الله جل جلاله وتفرده بالربوبية، كما قال سُبْحَانَهُ:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16].
دلالة اسم الله (الولي، المولى) على توحيد الألوهية: اسم الله الولي المولى يدل على أن العالم العلوي والسفلي ومن فيه من المخلوقات، كله تحت ولايته وتصريفه وتدبيره، وبالتالي جميع هذه المخلوقات فقيرة ضعيفة عاجزة، فلا خلق بيدها ولا نفع ولا ضر ولا رزق، بل ولا حتى الشفاعة، كما قال سُبْحَانَهُ:{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]، ومن كان كذلك فهل يصح في عقل أو نقل أن يُتخذ وليًّا من دون الله يعبد؟! أو يتخذ شريكًا وندًّا للولي المولى؟! قال تَعَالَى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الرعد: 16]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14]، وقال تَعَالَى مبينًا أنه الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده:{فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: 9]
(1)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 193)، وتفسير السعدي (ص: 251) و (ص: 753).
دلالة اسم الله (الولي، المولى) على توحيد الأسماء الصفات:
اسم الله عز وجل (الولي، المولى) يقتضي أن يكون سُبْحَانَهُ حيًّا، مالكًا، قادرًا، قويًّا، عليمًا، سميعًا، بصيرًا، خالقًا، رازقًا، حفيظًا، قيومًا، نصيرًا ونحو ذلك؛ إذ لا يتصور في المخلوقات- فضلًا عن الخالق- ولي ميت، عاجز، أعمى، أصم، أبكم، جاهل، لا يملك حولًا ولا قوة.
ويدل على هذا: ما جاء من آيات اقترن فيها هذا الاسم الكريم بأسمائه الأخرى أو صفاته، كقوله سُبْحَانَهُ:{فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: 9]، وقوله سُبْحَانَهُ:{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40]، وقوله سُبْحَانَهُ:
{وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].
فإذا علم العبد هذا أقر بهذه الأسماء الكريمة والصفات العلية التي يقتضيها اسم الله الولي المولى، على وجه لا تحريف ولا تعطيل ولا تكيف ولا تمثيل معه؛ امتثالًا لقوله سُبْحَانَهُ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
الأثر الثالث: الثقة بنصر الله (الولي، المولى) لأوليائه، والتوكل عليه، وحسن الظن به:
إن اسم الله الولي المولى، وما فيه من ولاية الله لأهل الإيمان بالنصر والتمكين والغلبة على الأعداء؛ يثمر في قلب المؤمن الثقة بنصره والاطمئنان لوعده، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45]، وقال سُبْحَانَهُ:{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}
[آل عمران: 150]، وقال تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56].
ويثمر هذا- أيضًا- اليقين بذهاب أعداء الله وإن ظهروا في وقت ما لحكمة، فنهايتهم إلى ذهاب؛ لأنهم مقطوعو الصلة بالله الولي المولى، قال تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]، ولما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة:«أَجِيبُوهُ، قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: قُولُوا: اللهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ»
(1)
.
الأثر الرابع: محبة الله الولي المولى سُبْحَانَهُ:
إن اسم الولي المولى يدفع العبد المستشعر لمعناه إلى محبة الله جل في علاه؛ وبيان ذلك: أن الإنسان إذا تولاه أحد من البشر فكفاه حاجته، وأحسن إليه بالطعام والسقاء والإواء، وحماه من أعدائه؛ أحبه وشعر بفضله عليه، مع أن هذا البشر إنما تولاه لحاجة ومطلب في نفسه دنيوي أو خروي، وولايته لا تنفك عن النقص والخلل.
فإذا كان هذا هو الحال، فكيف لا يحب من هو ولي أمورنا كلها المتكفل بها جميعها، وكيف لا يُحَبُّ من هو ولي النعم كلها، وولي إحسان الخلق كافة، فما أحسن مخلوق لمخلوق ولا تولى مخلوق مخلوق إلا بتولي الله وتسخيره له؟!
وكل ذلك مع تمام غناه عنا، فلا هو محتاج إلينا فيتولى، ولا مفتقر إلينا فينعم، وإنما هو محض فضل منه سُبْحَانَهُ {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57].
(1)
سبق تخريجه.
ثم إذا تأمل العبد في ولايته جل جلاله؛ وجدها في غاية الكمال والجمال، مبنية على علم تام، وحكمة بالغة، ورحمة واسعة، وعدل لا ظلم معه، أفلا يكون جل جلاله أحق بالمحبة وأولى؟!
الأثر الخامس: نيل ولاية الله الولي المولى:
لا شك أن معرفة اسم الولي المولى، وما فيه من الولاية الخاصة؛ تثمر لأهلها ثمارًا طيبة في الدنيا والآخرة، منها:
نيل محبة الولي المولى، قال تَعَالَى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وجاء في حديث الولي: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ
…
»
(1)
.
تولي الولي المولى لشؤونهم الدينية والدنيوية بالإصلاح وحسن التدبير، قال تَعَالَى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]، وقال سُبْحَانَهُ:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2].
هداية الولي المولى لهم وتوفيقهم للخيرات، قال تَعَالَى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]، وجاء في حديث الولي: «إِنَّ الله قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ
(1)
سبق تخريجه.
عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»
(1)
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله في معنى الحديث: «والمعنى: توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبة له فيها؛ بأن يحفظ عليه جوارحه، ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش في ما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله»
(3)
.
نصر الولي المولى لهم على أعدائهم، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45]، ولما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة:«أَجِيبُوهُ، قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: قُولُوا: اللهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ»
(4)
.
مغفرة الولي المولى لذنوبهم ورحمته بهم، قال سُبْحَانَهُ:{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155].
إجابة الولي المولى لدعائهم، كما في قوله تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 111).
(3)
فتح الباري، لابن حجر (11/ 344).
(4)
سبق تخريجه.
قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]، قال الله:«قَدْ فَعَلْتُ»
(1)
، وجاء في حديث الولي:«وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»
(2)
.
تثبيت الولي المولى لهم عند المصائب والمخاوف، لا سيما عند الموت، قال تَعَالَى:{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: 30 - 31]، وقال سُبْحَانَهُ:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]
(3)
.
إكرام الولي المولى لهم بدخول الجنة والنجاة من النار، قال تَعَالَى:{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32].
كلها تدفع العبد إلى السعي في تحصيلها، والدخول في جملة أهلها وحزبها، قال تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56].
وقد جعل الله لنيلها أسبابًا، ولأهلها أوصافًا، والتي منها:
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(126).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 748).
الإيمان به جل جلاله، وبملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، قال تَعَالَى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، وقال سُبْحَانَهُ:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]
(1)
.
التقوى التي تصدِّق الإيمان، وذلك: بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19]، وقال سُبْحَانَهُ:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فكل من كان مؤمنًا تقيًّا؛ كان لله وليًّا»
(2)
.
وقال: «وإذا كان أولياء الله هم المؤمنون المتقون، فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تَعَالَى، فمن كان أكمل إيمانًا وتقوى، كان أكمل ولايةً لله، فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله، بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق، قال الله تَعَالَى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125]، وقال تَعَالَى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]، وقال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، وقال تَعَالَى في المنافقين-:
(1)
تفسير السعدي (ص: 368).
(2)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (2/ 224).
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، فبين تبارك وتعالى أن الشخص الواحد، قد يكون فيه قسط من ولاية الله، بحسب إيمانه، وقد يكون فيه قسط من عداوة الله، بحسب كفره ونفاقه»
(1)
.
محبة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة ما يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبغض ما يبغض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} إلى أن قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 54 - 56].
قال ابن القيم رحمه الله: «فالولاية أصلها الحب، فلا موالاة إلا بحب، كما أن العداوة أصلها البغض، والله ولي الذين آمنوا، وهم أولياؤه، فهم يوالونه بمحبتهم له، وهو يواليهم بمحبته لهم، فالله يوالي عبده المؤمن بحسب محبته له.
ولهذا أنكر سُبْحَانَهُ على من اتخذ من دونه أولياء، بخلاف من والى أولياءه، فإنه لم يتخذهم من دونه، بل موالاته لهم من تمام موالاته»
(2)
.
(3)
، قال تَعَالَى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
(1)
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لابن تيمية (ص: 28).
(2)
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 229).
(3)
تفسير السعدي (ص: 128).
قال ابن كثير رحمه الله: «هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله
…
ولهذا قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول
…
وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية»
(2)
.
وبحسب المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تكون الولاية؛ قال ابن القيم رحمه الله: «والمقصود: أن بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة، فالله سُبْحَانَهُ علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح، والعزة والكفاية والنصرة والولاية، والتأييد وطيب العيش، في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار، والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة»
(3)
.
الصلاح، والقيام بالأعمال الصالحة من الفرائض، قال تَعَالَى:{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، قال السعدي رحمه الله:«الذين صلحت نياتهم وأعمالهم وأقوالهم»
(4)
.
وقال سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]، وجاء في حديث الولي: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 32).
(3)
زاد المعاد (1/ 37).
(4)
تفسير السعدي (ص: 312).
عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»
(2)
، وجاء- أيضًا- في الحديث عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع:«أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ المُصَلُّونَ، مَنْ يُقِيمُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْهِ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ، وَيَحْتَسِبُ صَوْمَهُ، يَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَيُعْطِي زَكَاةَ مَالِهِ يَحْتَسِبُهَا، وَيَجْتَنِبُ الكَبَائِرَ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنْهَا»
(3)
.
القيام بالأعمال الصالحة من النوافل، قال تَعَالَى:{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127]، وجاء في حديث الولي:«وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»
(4)
.
التقرب بعبادات السر؛ فقد جاء: أن عمر رضي الله عنه خرج إلى المسجد يومًا، فوجد معاذ بن جبل رضي الله عنه عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي، فقال: ما يبكيك يا معاذ؟ قال: يبكيني حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى للهِ وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَ اللهَ بِالمُحَارَبَةِ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الأَبْرَارَ الأَتْقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا، وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ»
(5)
.
تعلم العلم الشرعي وتعليمه؛ فعن الحسن البصري رحمه الله أنه تلا
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه الطحاوي في المشكل، رقم الحديث:(898)، والطبراني في الكبير رقم الحديث:(101)، والحاكم رقم الحديث:(197)، حكم الألباني: حسن، الإرواء، رقم الحديث:(690).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
أخرجه ابن ماجه رقم الحديث: (3989)، والطحاوي في المشكل رقم الحديث:(1798)، والطبراني في الكبير رقم الحديث:(321)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(3989).
هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} الآية [فصلت: 33]، فقال:«هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله»
(2)
.
ويروى عن الخليل بن أحمد أنه قال: «إن لم تكن هذه الطائفة- يعني: أهل العلم- أولياء الله، فليس لله ولي»
(3)
.
فبهذا تنال ولاية الله، لا بمجرد الدعاوى والأماني؛ فهؤلاء اليهود والنصارى ادعوا أنهم أولياء الله وأحباؤه، فرد الله عليهم بقوله سُبْحَانَهُ:{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18]، وادعاها مشركو العرب؛ لسكنهم مكة، فقال الله تَعَالَى:{وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34].
فليس كل من ادعى الولاية وتظاهر بها يعد وليًّا لله، بل قد يعد وليًّا للشيطان كما هو الحال في أهل الزيغ والضلال الذين تركوا الفرائض، وقارفوا المحرمات، وزعموا أن التكاليف سقطت عنهم؛ لولايتهم، فهؤلاء في الحقيقة أولياء للشيطان، وليسوا من أهل ولاية الله في شيء، قال تَعَالَى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257].
(4)
(2)
تفسير ابن كثير (7/ 180).
(3)
تهذيب الكمال، للمزي (8/ 331).
(4)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 52 - 54).
الأثر السادس: موالاة أولياء الله والحذر من معادتهم:
إذا علم العبد اسم الله الولي المولى وما يقتضيه من اتخاذ الله جل جلاله أولياء، يحبهم وينصرهم، ويعادي من عادهم، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لي وليًّا، فَقَدْ آذنتُهُ بالحَرْبِ»
(1)
.
قاده ذلك إلى مولاة من وال الله ومحبتهم ونصرتهم، والتبرؤ من أعداء الله وبغضهم، قال تَعَالَى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]، وقال تَعَالَى في الموقف من أعدائه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]، وقال سُبْحَانَهُ:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22]، وقال السعدي رحمه الله:«فأداة الحصر في قوله تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55] تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين، والتبري من ولاية غيرهم»
(2)
، وهذا من مقتضيات عقيدة التوحيد، القائمة على الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
تفسير السعدي (ص: 236).
(1)
.
كما يقوده إلى الحذر الشديد من معادة أولياء الله، لا سيما وأن الله جل جلاله قال في الحديث القدسي:«مَنْ عَادَى لِي وَليًّا، فَقَدْ آذنتُهُ بِالحَرْبِ»
(2)
، ومعناه: أعلمته أني محارب له، حيث كان محاربًا لي بمعاداة أوليائي؛ ولهذا جاء في حديث عائشة:«فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي»
(3)
، وخرج ابن ماجه بسند ضعيف عن معاذ بن جبل، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«وَإِنَّ مَنْ عَادَى للهِ وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَ اللهَ بالمُحَارَبَةِ»
(4)
، وغاية هذه المحاربة: الهلاك
(5)
.
قال الشوكاني رحمه الله: «قال ابن هبيرة: ويستفاد من هذا الحديث: تقديم الإعذار على الإنذار، قلت: ووجهه: أنه لما قدم معاداة من هو بهذه الصفة من
(1)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (2/ 334).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(26834)، والبزار، رقم الحديث:(99 - البحر الزخار)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد وفيه عبد الواحد بن قيس بن عروة، وثقه أبو زرعة والعجلي وابن معين في إحدى الروايتين وضعفه وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(4)
أخرجه ابن ماجه واللفظ له، رقم الحديث:(3989)، والطحاوي في المشكل، رقم الحديث:(1798)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(321)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(3989).
(5)
ينظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب (2/ 334).
الولاية لله، فكأنه أعذر إلى كل سامع أن من هذا شأنه لا ينبغي أن يعادى، بل على كل من عرف أن هذه صفته، أن يواليه ويحبه، فإذا لم يفعل فقد أعذر الله إليه، ونبهه على أن من عادى يستحق العقوبة البالغة على عداوته، فقال- منذرًا له-: فقد آذنته بالحرب على ما صنع مع ولي»
(1)
.
الأثر السابع: دعاء الله باسمه (الولي، المولى):
إن اسم الولي المولى يدعو العبد إلى دعاء ربه والتوسل إليه بهذا الاسم الكريم، لا سيما وأن الأنبياء الذين هم قدوة الخلق {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] دعوا ربهم به؛ فهذا يوسف عليه السلام يدعو ربه قائلًا: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
وهذا موسى عليه السلام وصالحو قومه يدعون: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155].
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو قائلًا: «يا وَليَّ الإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، مَسِّكْنِي بِهِ حَتَّى أَلْقَاكَ»
(2)
.
وهذا دعاء المؤمنين الذي أخبر الله عنه: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].
(1)
ولاية الله والطريق إليها، للشوكاني (ص: 344).
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(661)، والبيهقي في الدعوات الكبير، رقم الحديث:(254)، حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1476).
كما يدعو العبد- أيضًا- إلى سؤال الله ولايته ومقتضياتها من الهداية والثبات، والنصر والرحمة والمغفرة، وإصلاح الأمر الديني والدنيوي كله، من غير أن يكل العبد إلى نفسه طرفة عين.
فاللهمَّ يا ولي الإسلام وأهله، مسِّكنا به حتى نلقاك، وأصلح لنا شأننا
كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
الوهَّابُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «وهب، وهبت له شيئًا وهبًا، ووهَبًا بالتحريك، وهِبَة، والاسم: الموهب والموهبة، بكسر الهاء فيهما، والاتهاب: قبول الهبة، والاستيهاب: سؤال الهبة»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الواو والهاء والباء: كلمات لا ينقاس بعضها على بعض، تقول: وهبت الشيء أهبه هبة وموهبًا، واتهبت الهبة: قبلتها
…
»
(2)
.
ورود اسم الله (الوهاب) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (الوهاب) في ثلاثة مواضع من كتاب الله، وهي:
قوله تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
قوله تَعَالَى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} .
قوله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35].
(1)
الصحاح (1/ 257).
(2)
مقاييس اللغة (6/ 147).
ورود اسم الله (الوهاب) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الوهاب) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ دُعَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعِيدَيْنِ: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِيشَةً تَقِيَّةً، وَمِيتَةً سَوِيَّةً، وَمَرَدًّا غَيْرَ مُخْزٍ وَلَا فَاضِحٍ، اللَّهُمَّ لَا تُهْلِكْنَا فَجْأَةً، وَلَا تَأْخُذْنَا بَغْتَةً، وَلَا تُعْجِلْنَا عَنْ حَقٍّ وَلَا وَصِيَّةٍ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفَافَ وَالْغِنَى، وَالتُّقَى، وَالْهُدَى، وَحُسْنَ عَاقِبَةِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّكِّ وَالشِّقَاقِ، وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِي دِينِكَ، يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ»
(1)
.
(2)
.
عن سلمة بن الأكوع قال: «مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِحُ دُعَاءً إِلَّا اسْتَفْتَحَهُ بـ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى الْعَلِيِّ الْوَهَّابِ»
(3)
.
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(7572)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه نهشل بن سعيد وهو متروك، رقم الحديث:(3226).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5061)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10635)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5061).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(16813)، وابن أبي شيبة في المصنف، رقم الحديث:(29961)، قال الهيثمي: فيه عمر بن راشد اليمامي، وثقه غير واحد، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، ينظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10/ 156).
معنى اسم (الوهاب):
قال الطبري رحمه الله: «هو الوهاب لمن يشاء من خلقه ما يشاء، من ملك وسلطان ونبوة»
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «الوهاب هو الذي يجود بالعطاء عن ظهر يد، من غير استثابة»
(2)
.
قال الحليمي رحمه الله: «الوهاب هو المتفضل بالعطايا، المنعم بها، لا عن استحقاق عليه»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «الوهاب: واسع العطايا والهبات، كثير الإحسان، الذي عم جودك جميع البريات»
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وَكَذَلِكَ الوَهَّابُ مِنْ أَسْمَائِهِ
…
فَانْظُرْ مَوَاهِبَهُ مَدَى الأَزْمَانِ
أَهْلُ السَّمَواتِ العُلَى والأَرْضِ عَنْ
…
تِلْكَ المَوَاهِبِ لَيْسَ يَنْفَكَّانِ
(5)
(1)
تفسير الطبري (21/ 156).
(2)
شأن الدعاء (ص: 53).
(3)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 206).
(4)
تفسير السعدي (ص: 123).
(5)
النونية (ص: 210).
اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الوهاب) بأسمائه الأخرى في القرآن الكريم:
اقتران اسمه (الوهاب) باسمه (العزيز) سُبْحَانَهُ:
- تقدم بيانه في اسم الله (العزيز).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الوهاب):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الوهاب) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
الوهاب سُبْحَانَهُ تتابعت نعمه، وفاض كرمه، وزاد بره، وكثر خيره.
(1)
.
وكل إحسان للعباد ينطلق من أسمائه تَعَالَى وصفاته إنما هو من هبات الوهاب سُبْحَانَهُ، يعطيها عباده من غير عوض، ولا ثواب، فحري بمن هذه هباته أن يبذل له الحب كله، وأن يعبد وحده لا شريك له؛ إذ لا يستطيع المخلوق، بل الخلائق جميعها، أن تهب شيئًا من الهبات استقلالًا، كما في قوله عز وجل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ
(1)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (3/ 325).
مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}
[يونس: 31]، وكل ذلك في غير استحقاق من عباده ولا حق لهم عليه.
وعليه فحري بمن عرف اسم الله الوهاب وآمن به أن يوحده سُبْحَانَهُ بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ويستغني به عن خلقه، ويسأله هبته وفضله وإحسانه.
الأثر الثاني: استشعار عظم هبات الله تَعَالَى وشموليتها.
الوهاب هو كثير الهبات، ومتنوعها، فهي تشمل الدين، والدنيا، ويمكن تقسيمها كما يلي:
* أولًا: هبات دينية:
ومن أبرزها والتي ورد فيها نص، ما يلي:
هبة النبوة:
وهي من الهبات التي اختصها الله بمن شاء من عباده، وختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله عن إبراهيم:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27]، وقد أنكر كفار قريش نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حسدًا، فرد الله عليهم بأنها هبة من خزائن رحمته، يقول في كتابه:{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص: 8 - 9]، يقول الطبري رحمه الله في تفسير ذلك: «أم عند هؤلاء المشركين المنكرين وحي الله إلى محمد خزائن رحمة ربك، يعنى: مفاتيح رحمة ربك يا محمد، العزيز في سلطانه، الوهاب لمن
يشاء من خلقه، ما يشاء من ملك وسلطان ونبوة، فيمنعوك يا محمد، ما منَّ الله به عليك من الكرامة، وفضَّلك به من الرسالة»
(1)
.
هبة الهداية:
وهي نوعان:
هداية الدلالة والإرشاد:
وهي من أعظم هبات الوهاب، فهي مصدر التكليف ومناطه، وبها تقوم حجة الله على عباده؛ فإن الله تَعَالَى لا يُدخل أحدًا النار إلا بعد إرسال الرسل الذين يبينون للناس طريق الرشاد من الغي، يقول تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ، ويقول سُبْحَانَهُ:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].
هداية التوفيق:
وهي الهداية الخاصة للأولياء، يقول تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فمن رزقه الله الهداية رُزِق سعادة الدنيا والآخرة، وإذا دخلت الهدايةُ قلبًا وجد السعادة التي طالما بحث عنها، وفي الدعاء المشهور:«اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ»
(2)
، أي: مع من هديت، والمراد بهم: الأنبياء والصالحون، أولئك الذين أنعم الله عليهم بالهداية من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا يمكن أن تستفتح ركعة، بل لا تصح
(1)
تفسير الطبري (21/ 156).
(2)
أخرجه ابن حبان، رقم الحديث:(722)، حكم الألباني: صحيح، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، رقم الحديث:(429).
أي صلاة حتى تطلب الهداية، وهي هداية الثبات على الإسلام، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها.
ولعظم هذه الهداية كان الدعاء باستدامة هذا الثبات ورسوخه من منهج الأنبياء والراسخين في العلم، فعن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ عز وجل يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ»
(1)
، ويقول الله تَعَالَى على لسان الراسخين في العلم:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]
(2)
.
هبة الأخ الصالح والصديق الناصح:
وهم الذين يعينون العبد على الخير، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تَعَالَى»
(3)
، «والبطانة بالكسر: الصاحب الوليجة، وهو الذي يعرفه الرجل أسراره ثقة به، شُبِّه ببطانة الثوب»
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12290)، والترمذي، رقم الحديث:(2140)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2140).
(2)
للاستزادة من مطالعة الهداية الخاصة والعامة يرجع لاسم الله (الهادي).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7198).
(4)
تحفة الأحوذي، للمباركفوري (7/ 32)
ولذا طلب نبي الله موسى عليه السلام من ربه- عندما أرسله- أن يرسل معه أخاه هارون، فاستجاب الله دعاءه، وامتن عليه بذلك، فقال تَعَالَى:{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53]، ووهب له أخًا صالحًا يعينه، وكانت أعظم شفاعة في التاريخ شفاعة موسى لأخيه، أن سأل له النبوة.
* ثانيًا: هبات دنيوية:
الهبات الدنيوية متتالية متداخلة تشمل الخلائق كلها، ولا تنفك عنهم في أي طَرفة ولحظة، ومنها:
هبة الحياة:
فالله عز وجل هو واهب الحياة من غير طلب، يقول تَعَالَى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].
هبة العافية:
تنوعت هبات الوهاب للعبد في بدنه، لحفظ عافيته، ففي جسد الإنسان عدد كبير من الخلايا، وليس معنى ذلك: أنه يملك من النعم في جسده بعدد هذه الخلايا! بل داخل كل خلية العديد من النعم، وكل خلية عرضة لما لا يمكن إحصاؤه من الآفات، والعلل التي من المحتمل أن تصيبها، والله- بقدرته ورحمته- يحفظها في جسد الإنسان من هذه العوارض، ولذا فكثير من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم هو في سؤال العفو العافية، فعن أبي بكر الصديق أنه قال: «قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْأَوَّلِ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: اسْأَلُوا اللهَ
العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ اليَقِينِ خَيْرًا مِنَ العَافِيَةِ»
(1)
، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: تَسْأَلُ رَبَّكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا، والآخِرَةِ؛ فَإِنَّكَ إِذَا أُعْطِيتَهُمَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أُعْطِيتَهُمَا فِي الآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ»
(2)
.
وهكذا الإنسان لو ذهب يعدد نعم الله تَعَالَى المثبتة عليه في بدنه، لوجد أنه غير قادر على عدها، ولو استطاع ذلك فكيف له أن يعد نعم الله التي هي عبارة عن نقم دفعها الله عنه، أو ابتلاه بها ثم رفعها عنه! فكشف البلاء هبة من الوهاب.
هبة الأزواج والذرية:
وهم الذين تقرُّ بهم الأعين في الدنيا والآخرة، ومن تتبع لفظ (وهبنا) في القرآن وجد قبلها دعوةً أُجيبَتْ، ومن ذلك: ما جاء في ذكر دعاء عباد الرحمن في قوله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، ويقول أيضًا:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50]، يقول السعدي رحمه الله عن هذه الآية:«فيها الإخبار عن سعة ملكه تَعَالَى، ونفوذ تصرفه في الملك في الخلق لما يشاء، والتدبير لجميع الأمور»
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3558)، وقال: حسن غريب، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3558).
(2)
أخرجه أحمد واللفظ له، رقم الحديث:(12485)، والترمذي، رقم الحديث:(3512)، وقال: حسن غريب، إنما نعرفه من حديث سلمة بن وردان، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3512).
(3)
تفسير السعدي (ص: 762).
وقد امتن الله على رسله وأنبيائه بما وهبهم إياه من الذرية الصالحة؛ فمنهم:
إبراهيم عليه السلام: وهب له بعد كبر السن ووهن العظم إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وجعل في ذريته الكتاب والنبوة، قال تَعَالَى:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27]، وقال تَعَالَى على لسان إبراهيم عليه السلام:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39].
داود عليه السلام: وهب له سليمان عليه السلام، قال تَعَالَى:{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30].
زكريا عليه السلام: وهب له يحيى بعد أن طعن في العمر، وشاخ، وكانت امرأته عاقرًا أيضًا، قال تَعَالَى:{وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء: 90].
هبة كشف البلاء:
فكشف البلاء ورفعه عن العباد هبة عظيمة من الله تَعَالَى، ومن شواهد ذلك: قصة أيوب عليه السلام حين ابتلاه الله في جسده، فذهب ماله، وفقد ولده، ثم رفع عنه البلاء، ووهبه مثلي ما أخذ منه من الأهل والولد، قال تَعَالَى:{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43].
هبة الملك والسلطان لمن يشاء الله من عباده:
يقول تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247]، وقد سأل سليمان عليه السلام الوهاب سُبْحَانَهُ الملك، فقال:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]،
فاستجاب الوهاب له: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 36 - 39].
ومن تأمل فيما تقدم، كان عليه شكر الوهاب على كثير هباته، وحمده سُبْحَانَهُ، يقول تَعَالَى على لسان إبراهيم عليه السلام:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39].
ويقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «فإن النعم نوعان: مستمرة، ومتجددة، فالمستمرة شكرها بالعبادات والطاعات، والمتجددة شرع لها سجود الشكر؛ شكرًا لله عليها، وخضوعًا له وذلًّا»
(1)
.
الأثر الثالث: محبة الوهاب -جل وعلا
-:
يورث اسم الله (الوهاب) في نفس المؤمن محبة عظيمة لله سُبْحَانَهُ فهو الذي تتجدد هباته في أمور خلقه كلها بالليل والنهار، بل ومع كل نفس من أنفاسهم، فبيده خزائن كل شيء، وملك كل شيء.
ولا شك أن المسلم إذا تدبر في ذلك وتفكر فيه؛ فسيزداد تعلقًا بالله ورحمته، وكرمه وجوده.
الأثر الرابع: شكر الوهاب على هباته:
تحفظ مواهب الوهاب سُبْحَانَهُ وتزيد بالشكر، الذي هو: «هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى
(1)
إعلام الموقعين (2/ 296).
جوارحه انقيادًا وطاعة، والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره، فهذه الخمس: هي أساس الشكر وبناؤه عليها، فمتى عدم منها واحدة: اختل من قواعد الشكر قاعدة»
(1)
.
وقد أمر الله تَعَالَى عباده الذاكرين أن يكثروا من ذكره، ويداوموا على شكره، فقال:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]
يقول السعدي رحمه الله في هذه الآية: «{وَاشْكُرُوا لِي}، أي: على ما أنعمت عليكم بهذه النعم، ودفعت عنكم صنوف النقم، والشكر فيه بقاء النعمة الموجودة، وزيادة في النعم المفقودة، قال تَعَالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]»
(2)
.
الأثر الخامس: المحافظة على هبات الوهاب من الفقد:
إن السلب بعد العطاء، والنقصان بعد الزيادة شيء ثقيل على النفس، وهو الحور الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ رضي الله عنه قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ»
(3)
، والحور هو: النقصان، والكور هو: الزيادة، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في الدعاء أن يقول- أيضًا-: «اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ
(1)
مفهوم الشكر عند ابن تيمية (1/ 25).
(2)
تفسير السعدي (ص: 74).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1343).
عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ»
(1)
، أي: يا الله ألتجئ إليك من ذهاب جميع نعمك الظاهرة والباطنة، الدنيوية والأخروية ما علمتها، وما لم أعلمها؛ لأن نعمك لا تحصى، ولا تعد، ثم يستعيذ من تحول العافية وتبدلها.
ومن أعظم أسباب زوال الهبات والنعم ما يلي:
- الذنوب والمعاصي:
وقد حذر الله عباده من الذنوب والمعاصي، وبين أنها سبب الهلاك والعقاب، يقول تَعَالَى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49]، وقال تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأعراف: 100].
يقول ابن القيم رحمه الله
(2)
: «ومن عقوبات الذنوب: أنها تزيل النعم، وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفِعَ إلا بتوبة، وقد قال تَعَالَى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]، فأخبر الله تَعَالَى أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غير غير عليه، جزاء وفاقًا، وما ربك بظلام للعبيد.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2739).
(2)
الجواب الكافي (ص 74).
فإن بدل العبد المعصية بالطاعة، بدل الله له العقوبة بالعافية، والذل بالعز، يقول تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].
- كفر النعم، وعدم شكرها:
وقد مضت سنة الله في خلقه أن من كفر نعمة الله، ولم يشكر الله عليها يسلبها منه، ويذيقه ضدها، يقول تَعَالَى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58].
ومن شواهد ذلك القرآنية: قصة سبأ، يقول تَعَالَى عنهم:{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 15 - 16].
ويقول سُبْحَانَهُ في موضع آخر: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
الأثر السادس: الصبر عند سلب النعم ورفع الهبات:
فقد يكون المنع هو عين العطاء، والوهاب ما حرم عبده إلا ليعطيه، وما منعه إلا ليقربه، فلكل فعل من أفعاله تَعَالَى حكمة وهدف، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحمد الله على كل حال، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قَالَ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ
الصَّالِحَاُت، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ: الحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»
(1)
.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»
(2)
.
ومن أعظم الأمور التي تُسلي العبد المؤمن، وتصبره على المصائب ما يلي:
استشعار محبة الله للصابرين، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، وقرب الله أجمل من كل قريب، وحب الله أحلى من حب كل حبيب.
ولله در القائل:
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا فَارَقْتُه عِوَضٌ
…
وَلَيْسَ للهِ إِنْ فَارَقْتَ مِنْ عِوَضِ
إرجاع الأمر لصاحبه سُبْحَانَهُ، يقول تَعَالَى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، وتسليمه الملك لمالكه، وعلمه ألا حق له في النعم، ولله أن يعطي ويمنع، ويقبض ويبسط، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وأمره كله خير؛ لا يسأل عما يفعل سُبْحَانَهُ، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال: «أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه أن ابنًا لي قُبض، فَأْتِنَا، فأرسل يقرئ السلام، ويقول: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ
(1)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(3803)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(3803).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2999).
مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ، وَلْتَحْتَسِبْ»
(1)
.
الثقة بأن الله يجزي الصابر على مصيبته والمحتسب، بخير مما فقد منه في الدنيا والآخرة، كما قال تَعَالَى في الحديث القدسي:«إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الجَنَّةَ» ، يريد: عينيه
(2)
.
أن الله وإن ابتلى عبدًا بمصيبة فإنما يبتليه بشيء من المصائب، ولكنه يعافيه في كثير من النعم، وينزل عليه- أيضًا- كثيرًا من الرزق، فإذا تذكر العبد ما أنعم الله به عليه هان عليه ما أصابه من البلاء، وأعانه ذلك على الصبر، والرضا بما قدره له الله.
وتأمل في تعليل الخضر لموسى عليه السلام، حين قتل الغلام في سورة الكهف {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80 - 81].
فكان ظاهر المصيبة فقد الولد، وباطنها الحفاظ على دين الوالدين، وهو أجلُّ النعم وأعظمها، مع إبدالهما خيرًا من الولد الذي قتل، فهو منعٌ حقيقته عظيم العطاء.
الأثر السابع: السعي للبذل والهبة لمن يستحق ذلك:
التعبد باسم الله (الوهاب) يستلزم أن يكون للعبد حظ من هذا الاسم المقدس، والوهاب من العباد هو الذي يعطي خلق الله ما يحتاجون إليه؛ طمعًا في ثواب الله، وخوفًا من عقابه، ورغبة في الجزاء المقيم في جنة رب العالمين،
(1)
أخرجه البخاري واللفظ له، رقم الحديث:(1284)، ومسلم، رقم الحديث:(923).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5653).
يقول تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8 - 9].
بل إن من أسباب دوام الهبات والنعم: بذل حقها وزكاتها، بنفع الآخرين، فمن كان ذو موهبة من علم أو صنعة أو مال، عليه ألا يبخل ببذله لمن احتاجه، وإلا نُزعت هذه النعمة، يقول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ للهِ عِبَادًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لمنَافِعِ العِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ، فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ»
(1)
.
ويقول تَعَالَى في النهي عن البخل لمن كان ذا صنعة، في آية الدَّيْن:{وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، وفي إنفاق المال يقول تَعَالَى:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:«بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ. قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ، حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ»
(2)
.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتنافسون في البذل والصدقة والهبة لمن يحتاج، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ فَقُلْتُ: مِثْلَهُ قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: مَا أَبْقَيْتَ
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(5162) حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(2164).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1728).
لِأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُلَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ قُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا»
(1)
.
وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا حَسَدَ إِلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ القُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وآنَاءِ النَّهَارِ»
(2)
.
وفي حديث جامع عظيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرشد لبذل الخير وإن دق، عند الإمام أحمد من حديث أبي ذر:« .... وَتَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ، وتَعْزِلُ الشَّوْكَةَ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ والعَظْمَ والحَجَرَ، وتَهْدِي الأَعْمَى، وتُسْمِعُ الأَصَمَّ والأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهَ، وَتَدُلُّ المُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللَّهْفَانِ المُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ»
(3)
.
الأثر الثامن: دعاء الله تَعَالَى باسمه (الوهاب):
الدعاء نعمة كبرى، ومنحة عظمى، جاد بها المولى الوهاب، وامتن بها على عباده، حيث أمرهم بالدعاء، ووعدهم بالإجابة والإثابة، فما استُجلبت النعم بمثله، ولا استدُفعت النقم بمثله؛ وقد دعا سليمان عليه السلام ربه الوهاب بدعوة أجيبت له، وخص بها:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]، يقول ابن عاشور رحمه الله: «ودلت صيغة
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1678)، والترمذي رقم الحديث:(3675)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(1678).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7529)، ومسلم، رقم الحديث:(815).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(21884)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(575).
المبالغة في (الوهاب) على أنه تَعَالَى يهب الكثير والعظيم؛ لأن المبالغة تفيد شدة الكمية أو شدة الكيفية أو كلتيهما بقرينة مقام الدعاء، فمغفرة الذنب من المواهب العظيمة؛ لما يرتب عليه من درجات الآخرة»
(1)
.
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» فلما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] قال: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؛ إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ»
(2)
، وكان صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من الليل قال:«لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ، اللهمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللهمَّ زِدْنِي عِلْمًا، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ»
(3)
.
فكان دعاء المغفرة وسؤال الثبات من رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه باسمه الوهاب، وكذلك سأل الراسخون في العلم ربهم الوهاب أن يثبتهم على الهداية {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
فمهما كانت أمانيك ومطالبك في الدنيا والآخرة، سلها كثيرَ العطايا والهبات، وثق بأن الوهاب كريم لا يعجزه شيء سُبْحَانَهُ.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
(1)
التحرير والتنوير (23/ 263).
(2)
أخرجه الحاكم، رقم الحديث (1855)، وقال: إسناد صحيح إن كان أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود سمع من أبيه، ولم يخرجاه.
(3)
سبق تخريجه.