الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البَرُّ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(بر) الباء والراء في المضاعف أربعة أصول: الصدق
…
، فأما الصدق فقولهم: صدق فلان وبَرَّ، وبرَّتْ يمينُه: صدقت
…
»
(2)
.
ورود اسم الله تَعَالَى (البَر) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (البر) في كتاب الله مرة واحدة، وهي:
قوله عز وجل: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28].
(1)
الصحاح (2/ 588).
(2)
مقاييس اللغة (1/ 179).
ورود اسم الله تَعَالَى (البَر) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله تَعَالَى (البَر) في السنة النبوية.
معنى اسم الله (البَر) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28]«يعني: اللطيف بعباده»
(1)
.
قال الزجاج رحمه الله: «والله تَعَالَى بَرٌّ بخلقه بمعنى: أنه يحسن إليهم، ويصلح أحوالهم»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: «البر هو العَطُوفُ على عباده، المحسن إليهم، عَمَّ ببرِّهِ جميع خلقه، فلم يبخل عليهم برزقه»
(3)
.
(4)
.
قال السعدي رحمه الله: «وصفُهُ البَرُّ، وآثار هذا الوصف: جميع النعم الظاهرة والباطنة؛ فلا يستغني مخلوق عن إحسانه وبره طرفة عين»
(5)
.
(1)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن (21/ 591).
(2)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 61).
(3)
شأن الدعاء (1/ 89).
(4)
المنهاج (1/ 204).
(5)
الحق الواضح المبين (ص: 84).
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
والبَرُّ فِي أَوْصَافِهِ سُبْحَانَهُ
…
هُوَ كَثْرَةُ الخَيْرَاتِ والإِحْسَانِ
صَدَرَتْ عَنِ البَرِّ الَّذِي هُوَ
…
وَصْفُهُ فَالبِرُّ حِينَئِذٍ نَوْعَانِ
وَصْفٌ وَفِعْلٌ فَهُوَ بَرٌّ مُحْسِنٌ
…
مُولِي الجَمِيل ودَائِمُ الإِحْسَانِ
(1)
اقتران اسم الله (البَر) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
- اقترن اسم الله (البَر) باسمه (الرحيم):
وذلك في آية واحدة، وهي قوله عز وجل:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28]
وجه الاقتران:
لعل اقترانهما من باب المسبب والسبب، فإن بِر الله عز وجل بعباده- الذي هو عبارة عن توالي مننه، وتتابُع إحسانه وإنعامه- أثر من آثار رحمته الواسعة التي غمرت الوجود، وتقلَّب فيها كلُّ موجود، وعن طريق تلك المنن الجزيلة، وذلك الإحسان العميم عرف العباد أن ربهم رحيم، وتقديم (البَر) على (الرحيم) أبلغ في المدح والثناء، بالترقي من الأخص إلى الأعم، ومن المسبب إلى السبب
(2)
.
(1)
النونية (ص: 210).
(2)
مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم، لنجلاء كردي (ص: 624).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (البَر):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم (البر) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتوحيد الله به:
الله تبارك وتعالى بر رحيم لطيف رؤوف بعباده، عطوف عليهم، محسن إليهم، مصلح لأحوالهم في الدنيا والدين، ومن مظاهر بره سُبْحَانَهُ ما يلي:
بر الله تَعَالَى لعباده في الدنيا:
من بره سُبْحَانَهُ بخلقه وإحسانه إليهم: أن جعل بره وفضله مشتركًا فيه المؤمن والكافر، فهو سُبْحَانَهُ الكريم الذي لا ساحل لكرمه، خيره إليهم نازل وشرهم إليه صاعد، يتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إليه بالمعاصي، يرسل السماء عليهم مدرارًا، ويمددهم بأموال وبنين، ويجري لهم الأنهار وينبت لهم جنان الأرض، ويخرج لهم كنوزها، يقول تَعَالَى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، ويقول سُبْحَانَهُ:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]، وكل ما في هذه الدنيا لا يأتي قطرة من بره سُبْحَانَهُ بعباده المؤمنين في الآخرة في جنات النعيم، ففيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون، لا يهرمون ولا يبأسون، ولا يموتون، ولا يمرضون {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74]
ومن بره سُبْحَانَهُ: أنه أعطى عباده وقسم لهم من الصحة والقوة والمال والجاه والأولاد والأنصار، يقول سُبْحَانَهُ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ
وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ} [الأعراف: 44]، ويدخل في ذلك كل معروف وإحسان؛ لأنها ترجع إلى البِر.
بر الله تَعَالَى لعباده في الدين:
فالبرسُبْحَانَهُ كثير الخيرات، صاحب الإحسان المطلق الذي لا ينقطع حتى مع العبد العاصي.
فمن بره سُبْحَانَهُ لعباده المؤمنين: التوفيق للإيمان والطاعات، ثم إعطاؤهم الثوابَ الجزيل على ذلك في الدنيا والآخرة، فهو الذي وفَّق وأعان أولًا، وأثاب وأعطى آخرًا.
ومن بره سُبْحَانَهُ: أنه بارٌّ بأوليائه، صادق فيما وعدهم به من الأجر والثواب، يقول تَعَالَى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44]، وقال تَعَالَى:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74].
(1)
.
ومن بره سُبْحَانَهُ بعباده: إمهاله للمسئ منهم، وإعطاؤه الفرصة بعد الفرصة للتوبة، مع قدرته على المعاجلة بالعقوبة، يقول سُبْحَانَهُ: {وَرَبُّكَ
(1)
طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 99).
الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف: 58].
ومِن بِرِّه سُبْحَانَهُ أيضًا: معاملة عباده بالصفح والعفو وستر الذنوب والتجاوز عنها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]»
(1)
.
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2441)، ومسلم، رقم الحديث (2768).
(2)
مدارج السالكين (1/ 223).
وقد أطال ابن القيم رحمه الله في شرح مظاهر البر في قبول توبة العبد، وملخص ما قال:
شهود حلم الله في إمهال راكب الخطيئة، ولو شاء لعاجله بالعقوبة.
معرفة العبدِ كرمَ ربِّهِ في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه، فيقبل عذره بكرمه وجوده، فيوجب له ذلك اشتغالًا بذكره وشكره، ومحبة أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك، فإن محبتك لمن شكرك على إحسانك وجازاك به، ثم غفر لك إساءتك ولم يؤاخذك بها- أضعاف محبتك على شكر الإحسان وحده، والواقع شاهد بذلك؛ فعبودية التوبة بعد الذنب لون، وهذا لون آخر.
أن يشهد فضله في مغفرته، فإن المغفرة فضل من الله، وإلا فلو أخذك بمحض حقه كان عادلًا محمودًا، وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك، فيوجب لك ذلك- أيضًا- شكرًا له ومحبةً، وإنابةً إليه، وفرحًا وابتهاجًا به، ومعرفةً له باسم (الغفار) ومشاهدةً لهذه الصفة، وتعبدًا بمقتضاها، وذلك أكمل في العبودية، والمحبة والمعرفة
(1)
.
وحري بمن عرف اسم الله البر ومظاهر بره وآمن به، أن يوحده سُبْحَانَهُ بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ويستغني به عن خلقه، فيسأله وحده بره ورفقه.
(1)
ينظر: مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 223).
الأثر الثاني: محبة البَر سُبْحَانَهُ:
(1)
، وهو الواسع الجود الذي عطاؤه حكمة ومنعه رحمة؛ لأنه لا ينقصه إعطاء ولا يزيده منع، فهو يَبَرُّ عبدَه المؤمن بما يوافق نفسه، فربما بَرَّهُ بالنعمة وربما بَرَّهُ بالبؤس، فهو يختار له من الأحوال ما هو خير له ليوسع له في العقبى»
(2)
ومن كانت هذه صفته، فقد وجبت محبته سُبْحَانَهُ.
الأثر الثالث: الثقة بالبر سُبْحَانَهُ والرضى بأقداره:
من آمن باسم الله البر اطمأن قلبه، وعلم أن ما يعيشه من محنة فمن البر الرحيم سُبْحَانَهُ، وما ابتلاه إلا لأنه أحبه، وبعد كل عسر يسران، ومع شدة الليل يكون ظهور الفجر، و مع المحن المنح، ولذلك كان من أخلاق الأبرار:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]؛ لأن لديهم من بعد النظر ما يجعلهم لا يقفون مع ظاهر المصيبة، وإنما يتأملون ما بعدها من حسن العاقبة.
كما رُزقت أمهات المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم زوجًا بعد مصائب عظيمة عانينها، ومن ذلك: أم سلمة يموت زوجها، ورملة بتنصُّر زوجها الذي
(1)
فقه الأسماء الحسنى، لعبد الرزاق البدر (ص: 226).
(2)
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي (7/ 301).
خرج مهاجرًا، وصفية السيدة تقع في الأسر لتكون سبيًا، وعائشة تبتلى في عرضها لينزل فيها قرآن حتى قالت مقولتها:«وَلَكِنْ وَاللهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى»
(1)
، وقصة صاحبة الوشاح التي كان سبب دخولها الإسلام اتهامها بالسرقة، فعن عائشة رضي الله عنها: «أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا فَكَانَتْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ، عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ، أَوْ وَقَعَ مِنْهَا، فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ
(2)
، وَهُوَ مُلْقًى فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا فَخَطِفَتْهُ، قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَتْ: فَاتَّهَمُونِي بِهِ، قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ، حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا، قَالَتْ: وَاللهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ، إِذْ مَرَّتِ الْحُدَيَّاةُ فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِه، زَعَمْتُمْ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ، قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَتْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ حِفْشٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي، قَالَتْ: فَلَا تَجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِسًا، إِلَّا قَالَتْ:
وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ رَبِّنَا
أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا شَأْنُكِ، لَا تَقْعُدِينَ مَعِي مَقْعَدًا إِلَّا قُلْتِ هَذَا؟ قَالَتْ: فَحَدَّثَتْنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ»
(3)
.
وقصة يوسف عليه السلام قصة لكل محزون، تجعل الأمل لا يفارقه البتة، وهي قصة من أحسن القصص وأوضحها وأبينها؛ لما فيها من أنواع التنقلات،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4141).
(2)
حدياة: هي طائر، قيل: يأكل الجرذان، وهي الحدأة، وهي من الحيوانات المأذون بقتلها للمحرم، وفي الحرم.
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(439).
من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن محنة إلى منحة ومنَّة، ومن ذل إلى عز، ومن رقٍّ إلى ملك، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، ومن حزن إلى سرور، ومن رخاء إلى جدب، ومن جدب إلى رخاء، ومن ضيق إلى سعة، ومن إنكار إلى إقرار، فتبارك مَن قصها فأحسنها، ووضحها وبيَّنها.
وهذا إنما هو بِر البَر الرحيم سُبْحَانَهُ في عباده المصابين المكروبين في الدنيا، فكيف ببره لهم في الآخرة!
في موضوع البر سنتطرق لعدة مسائل، وهي:
أولًا: تعريف البر:
(1)
.
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 172).
وقال رحمه الله في موضع آخر: «فكان كل ما يحبه الله يدخل في اسم الإيمان، وكذلك لفظ (البر) يدخل فيه جميع ذلك إذا أطلق، وكذلك لفظ (التقوى)، وكذلك (الدين، أو دين الإسلام) وكذلك روي أنهم سألوا عن الإيمان، فأنزل الله هذه الآية:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}
…
الآية [البقرة: 177]، وقد فسر البر بالإيمان، وفسر بالتقوى، وفسر بالعمل الذي يقرب إلى الله، والجميع حق، وقد روي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الإيمان بالبر
(1)
، وجاء في الأثر أن رجلًا جاء إلى أبي ذر، فسأله عن الإيمان، فقرأ:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] إلى آخر الآية؛ فقال الرجل: ليس عن البر سألتك، فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلت لي، فلما أبى أن يرضى قال له: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته، ورجا ثوابها، وإذا عمل السيئة ساءته، وخاف عقابها»
(2)
.
ثانيًا: فضائل البر وأهله:
فضائل البر كثيرة، منها:
1 -
أن أهل البر في الدنيا يلحقون بالبررة في السماوات العلى، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم:«الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ»
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، رقم الحديث:(1539).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 180).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(798).
أمنية عباد الله الصالحين- الذين أثنى الله على دعائهم في القرآن-: الوفاة مع الأبرار، يقول تَعَالَى:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] وقد ذكر القَفَّال في تفسير هذه المعية وجهين:
أن وفاتهم معهم هي أن يموتوا على مثل أعمالِهم، حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة، فقد يقول الرجل: أنا مع الشافعي في هذه المسألة، ويريد به كونَهُ مساويًا له في ذلك الاعتقاد.
يقال: فلان في العطاء مع أصحاب الألوف، أي: هو مشارك لهم في أنه يعطي ألفًا.
النعيم العظيم في الحياة الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة، يكون للأبرار، يقول ابن القيم رحمه الله
(1)
: «ولا تظنَّ أن قوله تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14 - 13] يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دُورِهِمُ الثلاثةِ، وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة، وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب مِن بِر القلب وسلامة الصدر، ومعرفة الرَّب تَعَالَى، ومحبته والعمل على موافقته.
الخير العظيم من الله الذي يرتقبه الأبرار، فهو جنات تجري من تحتها الأنهار، تأمَّلْ قوله تَعَالَى:{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198].
(1)
الجواب الكافي (ص 121).
أسماء الأبرار مرقومة في عليين، يقول تَعَالَى:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 18 - 21]، فكتابهم في (عِلِّيِّين) أعلى الجنان وأوسعها، يَشهدُ رقم أسمائهم في هذا الكتاب المبارك الملائكةُ المقرَّبون وأرواحُ الأنبياء والصديقين والشهداء.
الأبرار ينالون خير نعيم وأعظمه، وهو النظر لوجه البَر:{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين: 21 - 28].
ثالثًا: من هم الأبرار؟
1 - الأبرار هم أهل بِر الوالدين والإحسان إليهم:
الذين اقتدوا بأنبياء الله والبررة من عباده، يقول تَعَالَى عن نبيه يحيى عليه السلام:{وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14] وقال عن عيسى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32]، فهم الذين التزموا وصيةَ الله:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 46].
وهم الذين تقرَّبوا بأحب الأعمال إلى الله، كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ»
(1)
.
وَلْيَهْنَهُمْ ما بشَّرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن عملهم أفضل من الجهاد في سبيل الله؛ فقد «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»
(2)
.
وهم الموفقون، أهل الرزق في الدنيا وطول العمر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»
(3)
.
2 - الأبرار هم أهل الصدقات:
وهم أهل البذل، والإحسان على كل قريب ويتيم وفقير ومحتاج، وأموالهم في كل وجه للخير تبذل {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].
فالإسلام دين يقوم على البذل والإنفاق، ويضيق على الشُّحِّ والإمساك؛ ولذلك حَبَّبَ إلى بنيه أن تكونَ نفوسُهم سخيَّةً، وأكفُّهم نديَّةً، وأوصاهم بالمسارعة إلى دواعي الإحسان ووجوه البر، وأن يجعلوا تقديم الخير إلى
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(527)، ومسلم، رقم الحديث:(85).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3004)، ومسلم، رقم الحديث:(2549).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5985).
الناس شغلهم الدائم، لا ينفكون عنه في صباح أو مساء:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]
والبذل الواسع عن إخلاص ورحمة يغسل الذنوب ويمسح الخطايا، قال الله تَعَالَى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]، وقال:{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [التغابن: 17 - 18]
والعبد إذا انزلق في ذنب، وشعر بأنه باعد بينه وبين ربه، فإن الطهور الذي يعيد إليه نقاءَهُ، ويردُّ إليه ضياءَهُ، ويلفُّهُ في ستار الغفران والرضا: أن يجنحَ إلى مالٍ عزيزٍ عليه فينخلع عنه للفقراء والمساكين، زلفى يتقرب بها إلى أرحم الراحمين، وقد غفر الله لبغيٍّ من بني إسرائيل بشربة ماء لكلب أرهقه العطشُ، كما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا»
(1)
.
بل إن المرء وقت الاحتضار يتمنى الاستزادة من جميع الطاعات على وجه العموم، والصدقات على وجه الخصوص، يقول تَعَالَى:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10]
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2245).
3 - الأبرار هم أهل الخُلق الحسن:
عن النواس بن سمعان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»
(1)
، وأهل الأخلاق الحسنة هم خير الناس، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال:«لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا»
(2)
.
والخلق الحسن به يثقل ميزان العبد يوم القيامة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ»
(3)
، وزاد في رواية له:«وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ»
(4)
.
(5)
، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2553).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث (3559)، ومسلم، رقم الحديث:(2321)، واللفظ للبخاري.
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث (4799)، والترمذي، رقم الحديث:(2002)، واللفظ للترمذي، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2002).
(4)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2003)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2003).
(5)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2004)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4246)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2004).
مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ»
(1)
.
وعند أحمد في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فأعادها مرتين أو ثلاثًا، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: أَحْسَنُكُمْ خُلُقًا»
(2)
.
4 - الأبرار هم أهل الصدق:
الصدق معنى واسع يدخل فيه صدقك مع ربك أولًا، ثم مع نفسك، ثم مع الناس، والصدق يهدي صاحبَهُ لجميع أنواع الخيرات، ويقوده إلى الجنة، وفي الحديث الصحيح:«عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ»
(3)
.
وكان أبغض خُلُق إلى رسول الله الكذب؛ فعن عائشة رضي الله عنها، قالت:«مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْكَذِبِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْكَذِبَةَ، فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً»
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4800)، والبيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(7653)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(4800).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(6735)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(2650).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2607).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث (25822)، والترمذي، رقم الحديث:(1973) حكم الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(18).
5 - الأبرار هم من يخلصون في أعمالهم ويبتغون وجه الله تعالى:
الأبرار هم الذين لم يتركوا بابًا للخير إلا طرقوه، إن تكلموا عُلم مافي قلوبهم من إيمان عظيم بالله وملائكته واليوم الآخر، وإن أصابتهم السراء شكروا، وإن أصابتهم الضراء صبروا، قال الله عنهم في آية جامعة لصفاتهم:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]
نسأل الله البر سُبْحَانَهُ أن يسلك بنا سبيل الأبرار، وأن يتوفانا معهم، وأن نقول غدًا إذا تمَّت لنا النعمة في جنات النعيم:{ى ى ئا ئا ئ? ئ? ئو ئو ئ? ئ?} [الطور: 28].
الحسيب الديَّان جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
أولًا: (الحسيب):
قال الجوهري رحمه الله: «حسب: حَسَبْتُهُ أَحْسَبُهُ بالضم حَسْبًا وحسابًا وحسبانًا وحسابة، إذا عددته
…
والمعدود محسوبٌ وحَسَبٌ أيضًا
…
وحاسبته من المحاسبة واحتسبت عليه كذا، إذا أنكرته عليه. قاله ابن دريد، واحتسبت بكذا أجرًا عند الله، والاسم: الحِسْبة بالكسر، وهي الأجر، والجمع: الحِسب
…
»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(حسب) الحاء والسين والباء أصول أربعة:
فالأول: العد، تقول: حسبت الشيء أحسبه حسبًا وحسبانًا، قال الله تَعَالَى:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]
…
ومن الباب الحَسَبُ الذي يعد من الإنسان، قال أهل اللغة: معناه أن يعد آباء أشرافًا.
والأصل الثاني: الكفاية، تقول: شيء حِسَابٌ، أي: كاف، ويقال: أَحْسَبْتُ فلانًا، إذا أعطيته ما يرضيه
…
»
(2)
.
(1)
الصحاح (1/ 110).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 59 - 61).
ثانيًا: (الديَّان):
قال الجوهري رحمه الله: «الدَّيْنُ: واحد الديون، تقول: دِنْتُ الرجل أقرضته، فهو مدينٌ ومَدْيونٌ
…
والدينُ بالكسر: العادة والشأن
…
والدينُ: الجزاء والمكافأة، يقال: دانَهُ دينًا، أي: جازاه، يقال:(كَمَا تَدِينُ تُدانُ)
(1)
، أي: كما تُجازِي تُجازَى، أي: تُجازى بفعلك وبحسب ما عملت، وقوله تَعَالَى:{أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] أي: مجزيُّون محاسَبون، ومنه: الدَيَّانُ في صفة الله تَعَالَى
…
»
(2)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(دين) الدال والياء والنون أصل واحد، إليه يرجع فروعه كلها:
ومنه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، أي: يوم الحكم، وقال قوم: الحساب والجزاء، وأي ذلك كان فهو أمر ينقاد له
…
ومن هذا الباب الدَّيْنُ، يقال: دَايَنْتُ فلانا، إذا عاملته دَيْنًا، إما أخذًا وإما إعطاء»
(3)
.
(1)
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات، رقم الحديث:(132)، حكم الألباني: ضعيف، السلسلة الضعيفة، رقم الحديث:(1576).
(2)
الصحاح (5/ 2117).
(3)
مقاييس اللغة (2/ 319).
ورود اسمي الله (الحسيب - الديَّان) في القرآن الكريم:
أولًا: ورود اسم الله (الحسيب):
- ورد اسم الله (الحسيب) ثلاث مرات في كتاب الله عز وجل، ووروده كالتالي:
قوله عز وجل: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6].
قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86].
قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].
ثانيًا: ورود اسم الله (الديّان) في القرآن الكريم:
لم يرد اسم الله (الديان) في القرآن الكريم.
ورود اسمي الله (الحسيب - الديان) في السنة النبوية:
أولًا: ورود اسم الله (الحسيب) في السنة:
لم يرد اسم الله (الحسيب) في السنة النبوية.
ثانيًا: ورود اسم الله (الديان) في السنة:
من وروده ما يلي:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرًا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أُنيس رضي الله عنه، فقلت للبواب:
قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديثًا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -أَوْ قَالَ الْعِبَادُ- عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ [مَنْ قَرُبَ]: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةَ، قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللهَ عز وجل عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قَالَ: بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ»
(1)
.
(2)
.
ثبوت اسم الله (الديان) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسم الله (الديان) في حق الله تَعَالَى:
- ابن القيم رحمه الله: يقول في نونيته:
جَهْمُ بْنُ صَفْوَانٍ وَشِيعَتُهُ الأُلَى
…
جَحَدُوا صِفَاتِ الخَالِقِ الدَّيَّانِ
(3)
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث (16288)، والبخاري في الأدب المفرد (970)، حكم الألباني: حسن، صحيح الأدب المفرد، رقم الحديث:(570).
(2)
أخرجه الحاكم، رقم الحديث:(3659).
(3)
نونية ابن القيم (ص: 7).
- ابن منده رحمه الله، قال:«ومن أسماء الله عز وجل: الدائم والدافع والديان، قال عمر رضي الله عنه: ويل لديان الأرض من ديان السماء»
(1)
.
معنى اسمي الله (الحسيب- الديان) في حقه سُبْحَانَهُ:
أولًا: معنى اسم الله (الحسيب) في حق الله عز وجل:
أ- يدور اسم الله الحسيب على معنيين
(2)
:
الأول: الكفاية.
الثاني: الحفظ للعمل والمحاسبة عليه.
وحول هذين المعنيين تدور أقوال العلماء.
من الأقوال في المعنى الأول:
قال أبو عبيدة رحمه الله في قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86]«أي كافيًا مقتدرًا، يقال: أَحْسَبَنِي هذا، أي: كفاني»
(3)
.
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]«وكفى بالله كافيًا من الشهود الذين يشهدهم والي اليتيم على دفعه مال يتيمه إليه»
(4)
.
(1)
التوحيد لابن منده (2/ 118).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 367)، فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 266).
(3)
مجاز القرآن، لأبي عبيدة (ص: 135).
(4)
تفسير الطبري (6/ 429).
قال ابن الأثير رحمه الله: «الحسيب: هو الكافي، فعيل بمعنى مُفْعِلٍ، من أَحْسَبَنِي الشيء: إذا كفاني، وأَحْسَبْتُهُ وحَسَّبْتُهُ بالتشديد: أعطيته ما يرضيه حتى يقول: حَسبي»
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله:
وَهوَ الحَسِيبُ حِمَايَةً وَكِفَايَةً
…
وَالحَسْبُ كَافِي العَبْدِ كُلَّ أَوَانِ
(2)
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86]: «إن الله كان على كل شيء مما تعملون- أيها الناس- من الأعمال من طاعة ومعصية حفيظًا عليكم، حتى يجازيكم بها جزاءه
…
وأصل الحسيب في هذا الموضع عندي: فعيل من الحساب الذي هو في معنى الإحصاء، يقال منه: حاسبت فلانًا على كذا وكذا، وفلان حاسبه على كذا وهو حسيبه، وذلك إذا كان صاحب حسابه»
(3)
.
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]«أي: وكفى بالله محاسبًا وشهيدًا ورقيبًا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام، وحال تسليمهم للأموال: هل هي كاملة موفرة، أو منقوصة مبخوسة مُدْخَلَة مُرَوَّجٌ حسابُها مُدَلَّسٌ أمورُها؟ الله عالم بذلك كله»
(4)
.
(1)
النهاية في غريب الحديث (1/ 381).
(2)
النونية (ص: 210).
(3)
تفسير الطبري (7/ 278 - 279).
(4)
تفسير ابن كثير (2/ 219).
من الأقوال في المعنى الأول والثاني:
قال الزجاج رحمه الله: «الحسيب يجوز أن يكون من حسبتُ الحساب، ويجوز أن يكون أحسبني الشيء إذا كفاني
…
فالله تَعَالَى محسب، أي: كاف، فيكون فعيلًا في معنى مفعل، كأليم ونحوه»
(1)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «الحسيب: المحاسب على الشيء، الموافق عليه، فالله عز وجل حسيب عباده، أي: محاسبهم على أعمالهم، ومجازيهم عليها
…
والحسيب: الكفي
…
ويقال: (حسبك كذا)، أي: يكفيك، ومنه قوله عز وجل:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] أي: يكفيك الله ومن اتبعك من المؤمنين
…
»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: «الحسيب: هو المكافئ، فعيل بمعنى: مُفْعِل، كقولك: أليم بمعنى مؤلِم، تقول العرب: نزلت بفلان فأكرمني وأَحْسَبَنِي، أي: أعطاني ما كفاني حتى قلت: حسبي
…
والحسيب أيضًا بمعنى المحاسب، كقولهم: وزير، ونديم: بمعنى موازر ومنادم، ومنه قول الله سُبْحَانَهُ:{كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] أي: محاسبًا»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «والحسيب بمعنى: الرقيب، المحاسب لعباده، المتولي جزاءهم بالعدل، وبالفضل، وبمعنى: الكافي عبده همومه، وغمومه،
(1)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 49).
(2)
اشتقاق أسماء الله (ص: 129).
(3)
شأن الدعاء (ص: 96 - 70).
وأخص من ذلك: أنه الحسيب للمتوكلين {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: كافيه أمور دينه ودنياه»
(1)
، وقال في قوله تَعَالَى:{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]«أي: عالمًا بأعمال العباد، حافظًا لها، مثبتًا لها في الكتاب، عالمًا بمقاديرها ومقادير ثوابها، وعقابها، واستحقاقها، موصلًا للعمال جزاءها»
(2)
.
ثانيًا: معنى اسم الله (الديّان) في حق الله عز وجل:
يدور اسم الله (الديان) على معنيين:
1 -
الحاكم القاضي الذي دانت له الخليقة.
2 -
المحاسب المجازي.
وحول هذين المعنيين تدور أقوال العلماء.
من الأقوال في المعنى الأول:
قال ابن الأثير رحمه الله: «في أسماء الله تَعَالَى (الديان) قيل: هو القهار، وقيل: هو الحاكم والقاضي، وهو فعال، من دان الناس: أي: قهرهم على الطاعة، يقال: دنتهم فدانوا: أي قهرتهم فأطاعوا»
(3)
.
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال الحليمي رحمه الله: «وهو الحاسب والجازي، لا يضيع عملًا،
(1)
توضيح الكافية الشافية، للسعدي (ص: 197).
(2)
تفسير السعدي (ص: 525).
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 148).
ولكنه يجزي بالخير خيرًا، وبالشر شرًّا»
(1)
.
من الأقوال في المعنى الأول والثاني:
قال الخطابي رحمه الله: «(الديان): وهو المجازي، يقال: دنت الرجل؛ إذا جزيته، أدينه، والدين: الجزاء
…
والديان أيضًا: الحاكم، ويقال: من ديان أرضكم؟ أي: من الحاكم بها؟»
(2)
.
اقتران اسم الله (الحسيب) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله (الحسيب) بغيره من الأسماء.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الحسيب - الديان):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الحسيب- الديان) من صفاته سُبْحَانَهُ:
اسم الله (الحسيب- الديان) يقتضي إثبات جملة من الصفات لله عز وجل، والتي منها:
أ- الكفاية:
فهو جل جلاله الحسيب الكافي، الذي كفى خلقه ما أهمهم من أمور دينهم ودنياهم، فيسر لهم كل ما يحتاجونه من الطعام، والشراب، واللباس، والمركب،
(1)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 206).
(2)
شأن الدعاء (1/ 105).
والرزق، والأمان، ونحوها، وبالمقابل حفظهم من الشرور وكفاهم إياها، فدفع عنهم كل ما يكرهون من الأمراض، والأسقام، والأوجاع، والمخاوف، والهموم، والغموم ونحوها، قال تَعَالَى:{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]
(1)
.
ثم إن كفاية الحسيب على ضربين
(2)
:
الكفاية العامة، وهي: كفايته لجميع خلقه ما أهمهم من تحصيل المنافع، ودفع المضار، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86].
الكفاية الخاصة، وهي: كفايته لأوليائه وأهل طاعته كفاية يصلح بها أمر دينهم ودنياهم، قال تَعَالَى:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]، وقال سُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]، أي: كافيك وكافي أتباعك من المؤمنين شر أعدائهم، سواء أكانوا كفارًا أم منافقين أم فاسقين أم ظالمين، أكانوا أقوياء أم ضعفاء، كثارًا أم قلالًا، فالكل كافيك الحسيب شره»
(3)
.
ثم إن كفاية الحسيب وحفظه للعبد مرتبط بحكم الله القدري، فمن شاء كفاه، ومن شاء أصابه ما قدر عليه، كما جاء عن ابن عباس في قوله تَعَالَى:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] قال: «ملائكة
(1)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 266).
(2)
ينظر للاستزادة: اسم الله الكافي.
(3)
ينظر: تفسير الطبري (14/ 48)، وتفسير السعدي (ص: 325).
يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدره خلوا عنه»
(1)
.
وقال مجاهد رحمه الله: «ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءك! إلا شيئًا يأذن الله فيه فيصيبه»
(2)
.
ب- الحكم والقضاء
(3)
:
فهو جل جلاله الديان الذي له الحكم والقضاء، فيحكم في خلقه قبل خلقهم بحكمه الكوني القدري، ويحكم فيهم بعد خلقهم بحكمه الشرعي، ويحكم فيهم يوم الدين بحكمه الجزائي العدل، قال تَعَالَى:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62].
وبهذه الأحكام الثلاثة دانت الخلائق للديان، فالكل منها مقهور مدبر لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، والكل منها وجهه عانٍ للحي القيوم، ذليل لعظمته، خاضع لعزته، ملك قاهر على عرش السماء مهيمن، يرضى على من يستحق الرضا ويثيبه ويكرمه ويدنيه، ويغضب على من يستحق الغضب ويعاقبه ويهينه ويقصيه، فيعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويقرب من يشاء، ويقصي من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، فتبارك الديان الحكم رب العالمين.
ج- الحفظ والإحصاء:
فهو جل جلاله الحسيب الديان الذي أحصى كل شيء عددًا، فلا يفوته
(1)
تفسير الطبري (16/ 371).
(2)
المرجع السابق (16/ 373).
(3)
للاستزادة ينظر: اسم الله الحكم الحاكم جل في علاه.
مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، بل الكل مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة.
ومن ذلك: أعمال العباد، فقد علمها وحفظها وأحصاها قبل أن يخلقهم، وبعد أن خلقهم، فالكل محسوب محصى صغيره وكبيره، دقيقه وجليله، ظاهره وباطنه، مميز صالحه من فاسده، وحسنه من قبيحه، وخيره من شره، لا يخفى عليه شيء منه، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86].
علم مقاديره، ومقادير ثوابه وعقابه، وما يستحقه عامله من الجزاء قبل الخلق وبعد الخلق ويوم العرض {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]
(1)
.
ومن تمام حفظ الحسيب الديان لها: أمر الملائكة الحفظة أن يدونوا جميع أعمال الخلق صغيرها وكبيرها، قال تَعَالَى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]، وقال سُبْحَانَهُ:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] قال ابن عباس رضي الله عنهما: «يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر ما كان من خير أو شر وألقى سائره، فذلك قوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]»
(2)
.
وبهذه الكتابة صارت الدواوين عند الديان عز وجل ثلاثة:
(3)
(1)
تفسير السعدي (ص: 525).
(2)
تفسير ابن كثير (7/ 399).
(3)
ينظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 19).
1 -
ديوان لا يغفر منه شيئًا، وهو الشرك به،، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
2 -
ديوان لا يترك منه شيئًا، وهو ظلم العباد بعضهم بعضًا، فإن الله تَعَالَى يستوفيه كله، ويقتص لصاحبه؛ فعن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، قال: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ - أو قال: الْعِبَادُ- عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا، قال: قلنا: وما بُهمًا؟ قال: لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ، قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلًا بهمًا؟ قال: بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ»
(1)
.
3 -
ديوان لا يعبأ به، وهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء، كما قال:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
د- المحاسبة على الأعمال:
فهو جل جلاله الحسيب الديان الذي يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة يوم الدِّين، عراة ليس عليهم ثياب، حفاة بلا نعال، غرلًا غير مختتنين، بُهمًا ليس معهم شيء من متاع الدنيا، وإنما هي أعمالهم حاضرة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة حتى ما يزن حبة الخردل {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا
(1)
سبق تخريجه.
حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وحتى ما كان خفية من العمل {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، فالكل مكشوف الجسد، والعمل، والنفس، والقلب، وما تكنه الصدور، ساقطة جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار وما يخفيه الإنسان ويحرص على ستره حتى عن نفسه.
فتقف الحشود من خلق الله إنسًا وجنًّا وملائكة تحت جلال الله، وعرشه مرفوع فوق الجميع {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 13 - 18].
فينادينهم الديان جل في علاه بصوت يسمعه القريب والبعيد على حد سواء، فيقول:«أَنَا المَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ»
(1)
.
والكل خاضع خاشع لهيبة الله وعظمته {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108].
حتى إذا اشتد الكرب بأهل الموقف لطول العناء والانتظار وشدة الأهوال، ذهبوا للأنبياء ليشفعوا لهم عند الديان جل جلاله؛ ليفصل بينهم، فيجيء الديان لفصل القضاء كما قال سُبْحَانَهُ:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقال: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ
(1)
صحيح البخاري، رقم الحديث:(9/ 141).
أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر: 69 - 70]
(1)
.
فتتطاير الصحف في الأيمان والشمائل، وينادى العباد بأسمائهم على رؤوس الخلائق: أين فلان بن فلان؟ هلم إلى العرض على الديان.
وقد وكلت الملائكة بأخذ المنادى، لا يمنعها اشتباه الأسماء والألوان والأشكال حتى توقفه ماثلًا بين يدي الله الحسيب، وصحيفته في يده مخبرة بعمله، لا تغادر بلية كَتَمَها، ولا مخبأة أَسَرَّهَا، ويقال:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14].
فكم من بلية نسيها صاحبها قد ذكره إياها! وكم من سيئة أخفاها قد أظهرها وأبداها! وكم من عمل ظن أنه سلم وخلص فرد عليه وأحبط
(2)
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور: 25] أي: حسابهم
(3)
.
ثم إن هذا الحساب بين يدي الحسيب الديان يبدأ بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويتفاوت بحسب أعمال العباد، فمنهم من حسابه عسير، فهؤلاء هم: الكفرة المجرمون الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وتمردوا على شرع الله، وكذبوا بالرسل، وبعض عصاة الموحدين قد يطول حسابهم ويعسر بسبب كثرة الذنوب وعظمها.
وكل ما كان العبد أشد عصيانًا وتمردًا، كلما كان الله أشد حسابًا له، كما قال سُبْحَانَهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا
(1)
ينظر: تفسير الطبري (21/ 335).
(2)
ينظر: التوهم في وصف أحوال الآخرة، للحارث المحاسبي (ص: 22)، والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، للقرطبي (1/ 331 - 332).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (19/ 141).
وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الطلاق: 8 - 10].
ومنهم من يكون حسابه يسيرًا، فلا يناقش في الحساب، ولا يدقق ويحقق معه، وإنما تعرض عليه ذنوبه ثم يتجاوز له عنها، وإنما ذلك إظهارًا لنعمة الله عليه بالستر في الدنيا، وبالعفو في الآخرة.
وهذا معنى قوله تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 7 - 12].
(1)
.
ومنهم من يدخل الجنة بغير حساب، كما جاء في الحديث «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ،
…
فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلَأَ الْأُفُقَ، قِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ
…
هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»
(2)
.
ثمّ إن هذه المحاسبة والمحاكمة من الحسيب الديان بلغت الكمال الذي
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6537).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5705)، ومسلم، رقم الحديث:(220).
لم تشهد البشرية له مثيل من قبل، قال تَعَالَى:{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39]؛ وذلك أن محاكمة الديان عز وجل ومحاسبته قائمة على جملة من القواعد، والتي منها:
العدل الذي لا يشوبه ظلم بوجه من الوجوه، فيوفى كل عامل عمله من غير أن يزاد في السيئات، أو ينقص من الحسنات، قال تَعَالَى:{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 17]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
لا يؤخذ أحد من الخلق بجريرة غيره؛ قال تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13 - 14]، فكل إنسان يلازمه عمله خيره وشره ولا يتعداه إلى غيره، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]
(1)
.
إطلاع العباد على ما قدموه من العمل، وذلك بإعطائهم صحائف أعمالهم، وقراءتهم لما قدموه من صالح أعمالهم وطالحها، فيحكموا على أنفسهم، ولا يكون لهم بعد ذلك عذر، قال تَعَالَى:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]، وقال سُبْحَانَهُ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 455).
أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
إقامة الشهود على العباد، قال تَعَالَى:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزمر: 69].
وأعظم الشهداء عليهم ربهم وخالقهم وفاطرهم، الذي لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء: 33]، ولكنه سُبْحَانَهُ يحب الإعذار على خلقه، فيبعث من مخلوقاته شهداء، فتشهد الملائكة، والرسل، والجوارح والأعضاء، والأرض
(1)
.
مضاعفة الحسنات دون السيئات، قال تَعَالَى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160]، وجاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه، عز وجل قال:«إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»
(2)
.
إطلاع العباد على مقادير أعمالهم، وذلك بنصب الموازين التي تزن أعمالهم، كما قال سُبْحَانَهُ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ
(1)
للاستزادة ينظر: اسم الله الشهيد.
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6491)، ومسلم، رقم الحديث:(131).
نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
سرعة الحساب؛ قال تَعَالَى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62].
قال الحسن البصري رحمه الله: «حسابه أسرع من لمح البصر»
(1)
.
وقيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: «كما يرزقهم في يوم»
(2)
.
(3)
.
ثم هو سهل لا مشقة فيه على الحاسب جل في علاه، بل هو يسير عليه، فكما أن خلقهم وبعثهم كنفس واحدة {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28]، فكذلك حسابهم كنفس واحدة
(4)
.
هـ- الجزاء على الأعمال:
(1)
تفسير القرطبي (2/ 435).
(2)
المرجع السابق (2/ 435).
(3)
تفسير الطبري (9/ 293).
(4)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 374).
فهو جل جلاله الديان الذي يملك يوم الدين، كما قال سُبْحَانَهُ:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] أي: يوم القيامة، وإنما سمي بيوم الدين؛ لأنه يوم الجزاء على الأعمال، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«ويوم الدين يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، إلا من عفا عنه»
(1)
.
فلا يضيع عمل خلقه، بل يجازيهم على الخير والشر وإن صغر وقل، قال تَعَالَى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] وقال تَعَالَى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 17]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
وهذا الجزاء قد يعجل لصاحبه في الدنيا، وهذا يكثر في أعمال البر التي يعملها الكفار، كما جاء في الحديث:«إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتٍ مَا عَمِلَ بِهَا لِلهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا»
(2)
، وربما يؤخر الجزاء إلى الآخرة، وربما يجمع لصاحبه بين الجزاءين؛ جزاء الدنيا والآخرة، نسأل الله من فضله.
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 134).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2808).
الأثر الثاني: دلالة اسماء الله (الحسيب- الديان) على التوحيد:
إذا علم العبد أن من معاني اسم الله الحسيب «الكافي» ، فلا بد أن يعلم أن الكفاية إنما تكون من الله الحسيب وحده لا مشارك له فيها، قال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64].
قال ابن القيم رحمه الله: «أي: الله وحده كافيك، وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه إلى أحد
…
فإن (الحسب) و (الكفاية) لله وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة، قال الله تَعَالَى:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]، ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى الله سُبْحَانَهُ على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تَعَالَى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله
…
ونظير هذا قوله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله كما قال تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا: حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه
…
فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود لله وحده، والنذر والحلف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى.
ونظير هذا قوله تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] فالحسب: هو الكافي، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده
…
»
(1)
.
ثم إن الكفاية التي قد تتوهم من المخلوقين إنما هي مجرد أسباب سخرها الله، فكل شيء لا يتم إلا بخلق الله وأمره وتقديره؛ فحاجة الإنسان للطعام والشراب، والأرض والسماء، والشمس ونحو ذلك لا يعني كفايتها له، وأنها حَسْبُه، بل الله الحسيب هو الذي كفاه بخلقها وتسخيرها، فلولاه ما وجد الطعام والشراب، وما طلعت الشمس ولا استقرت الأرض و لسقطت السماء.
وحاجة الطفل إلى أمه في الرضاع والرعاية والحضانة لا يعني كفايتها له وأنها حسبه، بل الله الحسيب هو الذي كفاه بخلق أمه، وخلق اللبن في ثديها، وخلق الهداية له إلى التقامِه، وخلق الشفقة والمودة في قلب الأم حتى مَكَّنَتْهُ من الالتقام، ودعته إليه وحملته عليه، ونحو ذلك.
فالكفاية إنما حصلت بهذه الأسباب، والله وحده المتفرد بخلقها
(2)
.
وهذا كله دال على توحيد الربوبية، من جهة أن الكفاية ملك لله وحده تفرد بها، ودال- أيضًا- على توحيد الألوهية من جهتين:
توحيد الله الحسيب في طلب الكفاية؛ إذ هي ملك له وحده دون ما سواه.
ومن هنا: يقال: حسبي الله، ولا يقال: حسبي فلان، أو كافني فلان، ونحو ذلك.
(1)
زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 37 - 39).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 367 - 369).
2 -
توحيد الله الحسيب بالعبادة؛ إذ إن من بيده كفاية العباد وحده مع فقر كل من سواه إليها، هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، قال تَعَالَى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129].
ثم إن معنى المحاسبة في هذه الأسماء الكريمة دال على توحيد الألوهية أيضًا، من جهة أنه يبعث على التساؤل: ما أعظم ما يحاسب الله العباد عليه؟
والجواب: حقه على العباد، كما جاء في حديث معاذ:«فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا»
(1)
فمن حقق ذلك كان مآله الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ»
(2)
، ومن أخل بذلك بالشرك كان مآله النار- والعياذ بالله-، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2856)، ومسلم، رقم الحديث:(30).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3435)، ومسلم، رقم الحديث:(28).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(93).
الأثر الثالث: التوكل على كفاية الله الحسيب:
إذا تأمل الإنسان في نفسه وحاجته للكفاية في وجوده، ودوام وجوده، وكمال وجوده، حاجته للكفاية جنينًا في بطن أمه، ومولدًا خارج بطن أمه، وطفلًا وغلامًا وشابًّا وشيبًا، بل وميتًا
(1)
.
ثم نظر في اسم الله الحسيب، وعلم أن من معانيه الكافي الذي يكفي خلقه تحصيل المنافع بمختلف أنواعها، ودفع المضار بمختلف أنواعها {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]؛ قاده ذلك للتعلق به سُبْحَانَهُ والتوكل عليه في سائر شؤونه، ورفع حوائجه إليه دون غيره، والثقة به دون الركون للأسباب والاعتماد عليها.
ولا سيما إذا علم أن الله خص المتوكلين عليه بمزيد من الكفاية، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3].
قال ابن القيم رحمه الله: «والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك؛ فإن الله حسبه، أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذًى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش
…
قال بعض السلف: جعل الله تَعَالَى لكل عمل جزاءً من جنسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] ولم يقل: نُؤْتِهِ كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سُبْحَانَهُ كافي عبده
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 367 - 368).
المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله تَعَالَى حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجًا من ذلك وكفاه ونصره»
(1)
.
الأثر الرابع: الاطمئنان إلى الله الحسيب الديان:
من علم يقينًا اسم الله الحسيب الديان؛ لم يستوحش من إعراض الخلق عنه، ولم يستأنس بقبولهم له؛ ثقة بأن الذي قُسم له لا يفوته وإن أعرضوا، والذي لم يقسم له لا يصل إليه ولو أقبلوا.
إذ إن الإيمان باسم الله الحسيب الديان يورث العبد الاطمئنان والراحة، وذلك من جهتين:
دلالته على الكفاية؛ إذ تذكره يكسب القلب الطمأنينة والسكينة بكفاية الله الحسيب لجميع ما يهمه من أمور الدين والدنيا، وما يهمه من تحصيل المنافع ودفع المضار.
وهذا بدوره يزيل القلق والهلع على الرزق؛ إذ تكفل سُبْحَانَهُ بأرزاق العباد بالليل والنهار وكفاهم إياها، فلا بد أن تصل إليهم شاء من شاء وأبى من أبى، كما جاء في الحديث:«أَيُّهَا النَّاسُ! اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ»
(2)
، وقد أرشد الله لهذا بقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا
(1)
بدائع الفوائد، لابن القيم (2/ 239 - 240).
(2)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(2144) واللفظ له، وابن حبان، رقم الحديث:(3239)، حكم الألباني: صحيح لغيره، التعليق الرغيب، رقم الحديث:(3/ 7).
مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59].
كما يزيل- أيضًا- الخوف والخشية من المخلوقين، وإن عظمت قوتهم وجاههم وسلطانهم وأموالهم؛ فهو الحسيب الكافي الذي يكفى العبد شرورهم.
ولذا شرع لمن خاف من المخلوقين أن يتذكر ربه الحسيب، فيلهج قائلًا:«حسبي الله ونعم الوكيل» متذكرًا قول إبراهيم عليه السلام لها حين ألقي في النار، فجاءته كفاية الحسيب؛ إذ قال للنار:{يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
ومتذكرًا قول محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه لها، حينما قيل لهم بعد أُحُد:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، فكفاهم الله شر أبا سفيان وجيشه بالخوف؛ إذ قذف الحسيب في قلوبهم الرعب، فرجعوا إلى مكة خائبين، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى المدينة ظافرين برضوان الله {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]
(1)
.
ومعناها
(2)
:
- «حسبنا الله» أي: كافينا كل ما أهمنا، فلا نتوكل إلا عليه ولا نعتمد إلا عليه، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
(1)
ينظر: فقه الأدعية والأذكار (3/ 191 - 192).
(2)
ينظر: المرجع السابق (3/ 191).
- «ونعم الوكيل» أي: نعم المتوكل عليه في جلب النعماء ودفع الضر والبلاء وكيد الأعداء، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].
(1)
.
دلالته على محاسبة الظالم والاقتصاص منه؛ إذ تذكُّر المظلوم لهذا، وتذكُّره لنداء الرب عز وجل:«أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةَ»
(2)
، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»
(3)
- سبب في تسليته واطمئنان
(1)
بدائع الفوائد (3/ 344).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(16288)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(970)، وفي خلق أفعال العباد (ص 98)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(3250).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2582).
قلبه؛ ليقينه بأن هناك يومًا لا ريب فيه، سيقتص فيه الديان سُبْحَانَهُ له من ظالمه، ويشفي صدره ممن ظلمه، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
وقد يعجل عقوبته ويجازيه على ظلمه وطغيانه في الحياة الدنيا قبل الآخرة، كما حصل ذلك لكثير من الظالمين والطغاة والجبابرة.
الأثر الخامس: متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحصيلًا لكفاية الحسيب:
إذا علم العبد أن من معاني اسم الله الحسيب: (الكافي)، وأن هذه الكفاية نوعان: عامة وخاصة، والخاصة أعظم الكفايتين؛ تطلع إليها، وتاقت نفسه لتحصيلها، والدخول في زمرة أهلها.
ولا بد أن يُعلم أن هذه الكفاية الخاصة إنما تكون بقدر متابعة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]
(1)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «أي: كافيك وكافي أتباعك، فكفاية الله لعبده بحسب ما قام به في متابعة الرسول ظاهرًا وباطنًا، وقيامه بعبودية الله تَعَالَى»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «والمقصود: أنه بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 371).
(2)
الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 78).
والنجاة، فالله سُبْحَانَهُ علَّق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاح والعزة، والكفاية والنصرة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصَّغار، والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة»
(1)
.
ولا شك أن هذا يدعو العبد إلى المتابعة واقتفاء أثر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
الأثر السادس: محبة الله الحسيب الديان:
من تأمل في اسم الله الحسيب الديان، وقف على عدة معاني، الواحدة منها كافية في ملأ القلب من محبته عز وجل، ومن هذه المعاني:
- الكفاية: فإذا تأمل العبد في كفاية الله عز وجل له، التي بها وصلته كثير من النعم، واندفعت عنه كثير من النقم؛ أحبه جل في علاه.
ثم إذا تأمل أن هذه الكفاية لم تقتصر عليه، بل شملت غيره، حتى العاصي والمنافق والكافر، بل وحتى الحيوان والنبات؛ امتلأ قلبه بمحبته.
- مضاعفة الحسنات دون السيئات: فإذا تأمل العبد في كرم ربه في الحساب، وعظم جوده وفضله؛ دفعه ذلك لمحبته.
- العدل: فإذا تأمل العبد في أن ربه مع كمال ملكه وقدرته وغناه وقوته، لا يُسأل عما يَفعل، حكم بالعدل في الدنيا وكذا في الآخرة؛ امتلأ قلبه بمحبته.
ثم إذا تأمل تمام عدله يوم الدين من إحضار الصحف، وإقامة الشهود،
(1)
زاد المعاد، لابن القيم (1/ 35).
ونصب الموازين؛ زاد حبه للديان العدل جل في علاه.
- الاقتصاص للمظلوم من ظالمه: فإذا تأمل المظلوم أن ربه معه ينصره ويجيب دعوته، و يأخذ له حقه من ظالمه؛ أحبه كما يحب من يدافع عنه وينصره على ظالمه من البشر.
الأثر السابع: الاستعداد ليوم الحساب:
إذا عرف العاقل أن ربه سُبْحَانَهُ الحسيب الحاسب الديان، وأن يوم القيامة يوم الجزاء والحساب، الذي قال الله فيه:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وأيقن أنه ملاقٍ ربه الديان الحكم العدل لا محالة، واقف بين يديه للحساب، وعمله كله محضر خيره وشره، حسنه وسيئه {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]- خاف من ربه عز وجل، وخاف من القدوم عليه يوم الحساب مفلسًا، كما قال سُبْحَانَهُ عن أولي الألباب:{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21]
(1)
،
وقاده هذا الخوف إلى الاستعداد لهذا اليوم العظيم والموقف المهيب، فيحسب له حسابه ويُعدُّ له عدَّته.
وإنما يكون ذلك بفعل الخيرات والاستزادة من الطاعات، والتي من أهمها:
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 417).
- الصلاة: التي هي أول ما يحاسب عليه العباد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ تبارك وتعالى: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ»
(1)
.
- أداء الأمانة التي تحملها: فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ، قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»
(2)
.
فمن أدى الأمانة استحق الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها استحق من الله العقاب الوبيل، وصار خائنًا لله ولرسوله ولأمانته.
- التجاوز عن المعسر والفقير والمسكين ونحوهم: لعل الله أن يتجاوز عن العبد يوم الدين، وقد جاء في الحديث عن أبي مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(413)، واللفظ له، والنسائي، رقم الحديث:(465)، وابن ماجه، رقم الحديث:(1425)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(892).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(893)، واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(1829).
شَيْءٌ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ، قَالَ: قَالَ اللهُ عز وجل: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ»
(1)
.
وما من عبد كان مع الناس سهلًا ميسرًا هينًا لينًا، إلا كان الله معه في الحساب كذلك، وما من عبد كان مع الناس عسيرًا شديدًا إلا كان الله معه في الحساب شديدًا عسيرًا، والجزاء من جنس العمل.
- الدعاء بالنجاة والمغفرة، كما قال سُبْحَانَهُ عن قول إبراهيم:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]، وقوله:{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82].
ثم إن الدعاء بالمغفرة يوم الدين من دعاء الملائكة لأهل الإيمان، فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»
(2)
.
بل وذم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن جدعان بعدم دعائه به؛ فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1561).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(555)، ومسلم، رقم الحديث:(632).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(214).
ويكون كذلك باجتناب المحرمات، ومظالم الناس كما سيأتي في الأثر التالي.
الأثر الثامن: اجتناب مظالم العباد ورد حقوقهم
(1)
:
اسم الله الحسيب الديان دال على محاسبة الله للظالم، وأخذه بظلمه، والاقتصاص للمظلوم من ظالمه، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرب عز وجل بنادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فيقول:«أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ»
(2)
.
وهذا يدعو العباد إلى الحذر من الظلم واجتنابه، والخروج من المظالم وردها إلى أهلها قبل أن ترد يوم القيامة؛ فعن عائشة رضي الله عنها:«أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ كَانَ كَفَافًا، لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمُ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ» ، قَالَ: فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ:
(1)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 316 - 318).
(2)
سبق تخريجه.
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]،، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَجِدُ لِي وَلهُمْ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ»
(1)
.
ثم إن وفاء الحقوق وردها يوم القيامة لا يكون بالدينار والدرهم، وإنما بالحسنات والسيئات، التي أحوج ما يكون الإنسان إليها في ذلك اليوم، كما جاء في حديث المفلس الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»
(2)
، وقال الشافعي رحمه الله:«بئس الزاد إلى المعاد: العدوان على العباد»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(27044)، والترمذي، رقم الحديث:(3165)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3128).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2581).
(3)
سير أعلام النبلاء (10/ 41).
ويدعوهم أيضًا إلى توخي العدل مع الناس، لا سيما من ابتلي منهم بالحكم بينهم، أو مجازاتهم في الدنيا.
كما يدعوهم إلى الحكم بين الناس بما أنزل الله؛ لأنه الحكم العدل الذي لا يتطرق إليه ظلم ولا جهل ولا هوى، وكل ما سواه من الأحكام لا يخلو من النقص والظلم والجهل والهوى، قال عمر رضي الله عنه:«وَيْلٌ لِدَيَّانِ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ دَيَّانِ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ، إِلَّا مَنْ أَمَّ الْعَدْلَ وَقَضَى بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَقْضِ عَلَى هَوًى، وَلَا عَلَى قَرَابَةٍ، وَلَا عَلَى رَغَبٍ وَلَا عَلَى رَهَبٍ، وَجَعَلَ كِتَابَ اللهِ مِرْآةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ»
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد في الزهد، رقم الحديث:(663)، و البيهقي في السنن الكبرى، رقم الحديث:(20418)، حكم الألباني: صحيح، مختصر العلو، رقم الحديث:(ص 103).
«المحاسبة»
(1)
في موضوع المحاسبة سنتطرق للمسائل التالية:
أولًا: تعريف المحاسبة:
قال الماوردي رحمه الله في تعريف المحاسبة: «أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن، وإن لم يمكن فيتبعها بالحسنات لتكفيرها وينتهي عن مثلها في المستقبل»
(2)
.
ثانيًا: ثمرات المحاسبة:
للمحاسبة ثمرات عديدة، ومنافع عظيمة، منها:
امتثال أمر الله عز وجل؛ إذ يقول سُبْحَانَهُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، قال الشيخ السعدي رحمه الله: «وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه والتوبة النصوح والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرًا في أمر من أوامر
(1)
ينظر: إغاثة اللهفان، لابن القيم (1/ 81)، وما بعدها.
(2)
أدب الدنيا والدين (ص 356).
الله بذل جهده واستعان بربه في تتميمه وتكميله وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وبين تقصيره هو في حق الله، فإن ذلك يوجب الحياء لا محالة»
(1)
.
الاطلاع على عيوب النفس وعدم الاغترار بها، ومن ثمَّ إصلاح عيبها؛ فإن من لم يعرف العيب لم يمكنه إزالته.
قال مالك بن دينار رحمه الله: «رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمَّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله تَعَالَى فكان لها قائدًا»
(2)
.
الخوف والحياء من الله عز وجل؛ إذ المحاسب يقف على تقصيره العظيم في الواجبات، وتفريطه في النوافل، وارتكابه للذنوب والمكاره، وكل ذلك موجب للخوف والحياء من الله عز وجل.
تعين صاحبها على استدراك ما نقص من الفرائض والنوافل؛ إذ المحاسب يقف على تقصيره فيستدركه.
التوبة وكثرة الاستغفار؛ إذ المحاسب يقف على تقصيره وذنبه فيتوب منه ويستغفر، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
الاستعداد للقاء الله، قال عمر رضي الله عنه:«حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم»
(3)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 853).
(2)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 405).
(3)
إحياء علوم الدين، للغزالي (4/ 394).
ثالثًا: تحقيق المحاسبة:
تحقيق المحاسبة إنما يكون بالقيام بنوعين من أنواعها:
المحاسبة قبل العمل.
المحاسبة بعد العمل.
فأما المحاسبة قبل العمل، فيراد بها: التفكر قبل البدء في العمل، وذلك في جملة من الأمور، والتي منها:
التفكر في العمل، هل هو مقدور عليه أو غير مقدور عليه؟ فإن كان غير مقدور تُرك حتى لا يضيع الوقت، وإن كان مقدورًا أتبعه بالتفكر.
التفكر في العمل، هل فعله خير من تركه، أو تركه خير من فعله، فإن كان فعله خير من تركه عمله، وإن كان تركه خيرًا من فعله أتبعه بالتفكر.
التفكر في النية والقصد، هل مراده بالعمل الله عز وجل أو مراده غيره، فإن كان مراده الله أمضاه وإلا تركه، قال الحسن البصري رحمه الله:«رحم الله عبدًا وقف عند همِّه، يحاسب، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر ولم يعمل»
(1)
.
وأما المحاسبة بعد العمل، فهي على ثلاثة أنواع:
المحاسبة على الطاعة، هل قام بحق الله فيها؟ وحقه فيها: الإخلاص له، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، والإحسان والإتقان في أدائها، ومشاهدة منته عليه بالتوفيق إليها، ومشاهدة تقصيره بعد الانتهاء منها، وأنه مهما عمل لله فهو مقصر.
(1)
إغاثة اللهفان، لابن قيم الجوزية (1/ 138).
المحاسبة على عمل كان تركه خيرًا من فعله، ويدخل في هذا: المعاصي، والاشتغال بالمفضول عن الفاضل، فيحاسب نفسه عليها باللوم والتوبيخ والندم ونحو ذلك.
المحاسبة على العمل المباح، هل كان له فيه نية صالحة يحصل بها الأجور، أم غفل عن ذلك وعمله على سبيل العادة، ففاته الأجر؟
ويمكن للإنسان أن يحاسب نفسه أيضًا عن طريق التفكر في الجوارح: ماذا فعلت برجلي؟ بيدي؟ بسمعي؟ ببصري؟ بلساني؟ ثم التفكر في النوايا: ماذا أردت بعملي هذا؟ وما نيتي فيه؟ ونحو ذلك.
فيجعل له ساعة من ليل أو نهار يطالب فيها نفسه، ويحاسبها على جميع ما كان منها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء، فينظر في رأس المال وفي الربح وفي الخسران لتتبين له الزيادة من النقصان، فرأس المال في دينه: الفرائض، وربحه: النوافل والفضائل، وخسرانه: المعاصي.
(1)
.
(1)
إغاثة اللهفان (1/ 133).
وأول ما يبدأ الإنسان، يحاسب نفسه عليه:
- الفرائض: فإذا رأى فيها نقصًا تداركه، بالقضاء أو التكميل والإتمام.
-ثم المحرمات: فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئًا، تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والاستغفار، والحسنات الماحيات ولا يتساهل ويتهاون؛ فإنه لو رمى بكل معصية يفعلها حجرًا في داره لامتلأت الدار في مدة يسيرة، ولكنه التساهل في حفظ المعاصي وهي مثبتة {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].
- ثم ما يصدر منه من الغفلة، فإذا لحظ من نفسه ذلك، تداركه بالذكر والإقبال على الله، وحضور مجالس الذكر ونحو ذلك.
وإن مما يعيين على تحقيق المحاسبة ما يلي:
تذكر أسماء الله وصفاته واستشعارها على الدوام، فاستشعار اسم الله العليم، الرقيب، الشهيد، الحفيظ، الحسيب، الديان، ونحوها يدعو الإنسان إلى مراجعة العمل والنظر فيه قبل البدء وبعده.
تذكر اليوم الآخر، وما فيه من الحساب والعرض على الملك الديان، قال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
النظر في سير السلف الصالح، وتأمل ما هم عليه من المحاسبة؛ ومن ثمَّ الاقتداء والتأسي بهم.
فاللهم إنا نسألك يا حسيب يا ديان، أن ترزقنا محاسبة أنفسنا، وأن تثقل موازينا وتيمن كتابنا، وتجعلنا ممن يدخل الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب.
الحفيظُ الحافظُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «حفظت الشيء حفظًا، أي: حَرَسْتُه، وحَفِظْتُهُ أيضًا بمعنى: استظهرته
…
والمحافظة: المراقبة
…
والحفيظ: المحافظ، ومنه قوله تَعَالَى:{وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} ، يقال: احتفِظ بهذا الشيء، أي: احفظه، والتحفُّظ: التيقُّظ وقلَّة الغفلة، وتَحَفَّظْتُ الكتاب، أي: استظهرته شيئًا بعد شيء»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الحاء والفاء والظاء أصل واحد يدل على مراعاة الشيء، يقال: حفظت الشيء حفظًا
…
والحفاظ: المحافظة على الأمور»
(2)
.
ورود اسم الله (الحفيظ- الحافظ) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الحفيظ) في القرآن الكريم ثلاث مرات، ووروده كالتالي::
قوله تَعَالَى: {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 57].
قوله عز وجل: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 21].
(1)
الصحاح (3/ 1172).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 87).
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} [الشورى: 6].
وورد اسمه سُبْحَانَهُ (الحافظ) مرة واحدة، وهي:
قوله عز وجل: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64].
وورد مرتين بصيغة الجمع:
قوله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
قوله عز وجل: {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: 82].
ولم يرد اسم الله (الحفيظ- الحَافِظ) في السنة النبوية.
معنى اسم الله (الحفيظ- الحافظ) في حقه سُبْحَانَهُ:
يدور معنى اسم الله الحافظ الحفيظ على معنيين:
الحافظ الذي يحفظ المخلوقات من سماء وأرض وما فيهما.
الحافظ الذي يحفظ أعمال عباده خيرها وشرها
(1)
.
وحول هذين المعنيين تدور أقوال العلماء:
من الأقوال في المعنى الأول:
قال الخطابي رحمه الله أيضًا، قال: «الحفيظ هو الحافظ، فعيل بمعنى: فاعل؛ كالقدير والعليم يحفظ السموات والأرض وما فيها لتبقى مدة بقائها،
(1)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 191).
فلا تزول ولا تندثر؛ كقوله عز وجل: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]، وقال:{وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 7]، أي: حفظناها حفظًا، والله أعلم، وهو الذي يحفظ عبده من المهالك والمعاطب، ويقيه مصارع السوء؛ كقوله سُبْحَانَهُ:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، أي: بأمره»
(1)
.
قال الحليمي رحمه الله: «(الحافظ) ومعناه: الصائن عبده عن أسباب الهلكة في أمور دينه ودنياه»
(2)
.
قال القرطبي رحمه الله أيضًا، قال: «فهذا الاسم يكون من أوصاف الذات، ومن أوصاف الفعل
…
وإذا كان من صفات الفعل فيرجع إلى حفظه للوجود، وضد هذا الحفظ الإهمال، وعلى هذا خرج قوله تَعَالَى:{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} [يوسف: 64]»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله أيضًا: «الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون»
(4)
.
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال الطبري رحمه الله، في قوله تَعَالَى:{وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 21]: «وربك يا محمد على أعمال هؤلاء الكفرة به، وغير ذلك من الأشياء كلها (حفيظ) لا يعزب عنه علم شيء منه، وهو مُجَازٍ جميعهم يوم
(1)
شأن الدعاء (ص 67 - 68).
(2)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 204).
(3)
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (1/ 309).
(4)
الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 159).
القيامة بما كسبوا في الدنيا من خير وشر»
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «الحفيظ هو الحافظ
…
يحفظ على الخلق أعمالهم، ويحصي عليهم أقوالهم، ويعلم نياتهم وما تُكِنَّ صدورهم، ولا تغيب عنه غائبة ولا تخفى عليه خافية»
(2)
.
قال السعدي رحمه الله: «حفظ على عباده ما عملوه من خير، وشر، وطاعة، ومعصية، فإن علمه محيط بجميع أعمالهم ظاهرها وباطنها، وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ»
(3)
.
قال ابن القيم رحمه الله:
وهوَ الحفيظُ عليهِمُ وهوَ الكفيـ
…
ـلُ بحفظِهِم مِنْ كلِّ أمرٍ عان
(4)
اقتران اسم الله (الحَفِيظ- الحَافِظ) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله الحفيظ بأي اسم من أسمائه سُبْحَانَهُ.
(1)
تفسير الطبري (20/ 393).
(2)
شأن الدعاء (ص: 67 - 68).
(3)
الحق الواضح المبين (ص: 159).
(4)
النونية (ص: 207).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الحَفِيظ- الحَافِظ):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الحافظ الحفيظ) من الصفات:
الله سُبْحَانَهُ الحفيظ الذي حفظ كل شيء {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 21]، فلا يخرج شيء ولا يند عن حفظه، حفظ على العباد ما عملوه من خير، وشر، وطاعة، ومعصية، فلا يضيع منها شيئًا، و لا ينسى ولا يغيب عنه شيء منها لكمال علمه وحفظه، قال تَعَالَى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، وقال:{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52].
فهو الحفيظ الذي يحفظ على الخلق أعمالهم، ويحصي عليهم أقوالهم، ويعلم ما تكن صدروهم، {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 52، 53]، فكل ما فعلوه من خير وشر مكتوب عليهم، مسطر في الكتب القدرية، قال السعدي رحمه الله:«وهذا حقيقة القضاء والقدر، وأن جميع الأشياء كلها، قد علمها الله تَعَالَى، وسطرها عنده في اللوح المحفوظ، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه»
(1)
.
وهو الحفيظ الذي وكل ملائكة كرام كاتبين يحفظون على العباد أعمالهم، قال تَعَالَى:{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]
(2)
، فلا يسقط من الصحف التي كتبوها شيء من عمل العبد ولو صغر،
(1)
تفسير السعدي (ص: 828).
(2)
ينظر: الحق الواضح المبين، للسعدي (ص 59 - 61)، وفقه الأسماء الحسنى، لعبد الرزاق البدر (ص: 190 - 191)، والنهج الأسمى، للنجدي (1/ 353).
قال تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
وهو الحفيظ الحافظ للمخلوقات من سماء وأرض وما فيهما، حفظ بحفظه العام، وحفظ بحفظه الخاص، فأما حفظه العام:
حفظه لجميع المخلوقات، فحفظ السماء بإقامتها بلا عَمَدٍ، وحفظها من الزوال والدثور، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41]، وحفظها من أن تقع على الأرض:{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]، كل ذلك من غير أن يثقله ويعجزه {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]
(1)
.
وجعلها سقفًا محفوظًا {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] من أن تنال الشياطين أسرارها، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 16 - 18]، وحفظها من أن ينالها أحد بهدم أو نقض أو يصل لها بحيلة
(2)
.
وحفظ الأرض أن تميد أو تضطرب بما جعل عليها من الجبال الرواسي {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31].
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 344).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (14/ 11)، وتفسير القرطبي (11/ 285).
وحفظ ما فيها مما يدب على ظهرها بتيسيره ما يقيتها ويحفظ بنيتها، وتسيرها إلى هدايتها، وإلى مصالحها، وهدايته العامة لها التي قال عنها:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، هدى كل مخلوق إلى ما قَدَّرَ له وقَضَى له من ضروراته وحاجاته، كالهداية للمأكل، والمشرب، والمنكح، والسعي في أسباب ذلك، فلو تأملنا النملة كيف تخزن طعامها وتحفظه من الفساد وكيف تقسم الحبة إلى فلقتين كي تحميها من أن تنبت؛ لعلمنا عظمة من خلقها وحفظها بهدايته لها إلى ذلك.
ولو تأملنا خلية نحل ورأينا سكانها من ملكة وجنود وخادمات، وكيف يقمن بخدمة البيض ويرعينه؛ حتى لا يتعرض للخطر، فيقمن بتهوية مكانه، وتهيئة أسباب السلامة فيه حتى يفقس، فسبحان من حفظها.
ومن حفظه العام: أن يدفع عن خلقه أصناف المكاره، والمضار، قال تَعَالَى:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، قال ابن كثير رحمه الله: «للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حرس بالليل وحرس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين وعن الشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل، حافظان وكاتبان، كما جاء في الصحيح: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»
(1)
.
وقال مجاهد رحمه الله: «ما من عبد إلا وله ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما من شيء يأتيه إلا قال له: وراءَك، إلا شيئًا أذن الله فيه فيصيبه»
(2)
.
وهذا الحفظ يشترك فيه البَرُّ، والفاجرُ، بل حتى الحيوانات، وغيرها من خلق الله عز وجل
(3)
.
وأما حفظه الخاص:
فحفظه لأوليائه سوى ما تقدم، بحفظهم عما يضر إيمانهم أو يزلزل يقينهم من الشُّبَهِ، والفتن، والشهوات، فيعافيهم منها، ويخرجهم منها بسلامة، وحفظ، وعافية، ويحفظهم من أعدائهم من الجنِّ والإنس فينصرهم عليهم ويدفع عنهم كيدَهم، قال الله تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]، وهذا عام في دفعِ جميعِ ما يضرُّهم في دينهم ودنياهم»
(4)
.
فحفظه سُبْحَانَهُ لهم على ضربين:
الأول: حفظهم في مصالح دنياهم، كحفظهم في أبدانهم وأهلهم وأولادهم وأموالهم.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(555)، ومسلم، رقم الحديث:(632).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 437 - 438).
(3)
ينظر: الحق الواضح المبين، للسعدي (ص 59 - 61)، وفقه الأسماء الحسنى، لعبد الرزاق البدر (ص: 191).
(4)
ينظر: الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 59 - 61).
الثاني: حفظهم في دينهم وإيمانهم، فيحفظهم في حياتهم من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة، ويحفظهم عند موتهم فيتوفاهم على الإيمان
(1)
.
ومن صور حفظه لهم، ما يلي:
حفظه لأوليائه من مكر الأعداء:
إبراهيم عليه السلام وضعه قومه في المنجنيق؛ ليرموه في النار التي أشعلوها، فأتى جبريل عليه السلام لإبراهيم، فقال له:«هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأمَّا إلى الله فَبَلَى، فقال إبراهيم عليه السلام: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] فقال الله للنار: {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]»
(2)
.
رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمع الكفار على قتله، وأسندوا المهمة إلى شباب ذوي قوة وجَلَد من قبائلهم، فحفظه الله بحفظه ورد كيدهم، ثم دخل الغار مع أبي بكر، وصارت قريش قاب قوسين أو أدنى منه عليه الصلاة والسلام، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه قال:«لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا»
(3)
، فحفظه الله من قريشٍ ولم يروه {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ
(1)
ينظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/ 465 - 469).
(2)
ينظر: البداية والنهاية، لابن كثير (1/ 169).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4663).
كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]، ثم يدركه سراقة بن مالك، فغارت قدَما فرسه في الأرض حتى بلغت الركبتين، فخرَّ عنها، فاستسلم وبشَّرَهُ الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يلبسَ سوارَي كسرى»
(1)
.
حفظه لأوليائه بتسخير الكون لهم:
موسى عليه السلام، حفظه الله، فها هي أمه ترضعه، وتحذَرُ عليه من فرعونَ ومَلَئِهِ أن يقتلوه، فيوحي الله إليها {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]، فيذهب به البحر إلى دار فرعون {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ، فحفظه الحفيظ في أمواج البحر المتلاطمة، وحفظه في قصر فرعون، بل وأنزل محبته في قلوبهم {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9].
يونس عليه السلام، حفظه الله في بطن الحوت، فلم يكسر له عظمًا، ولا أكل له لحمًا، بل يُذكر أنه أوحي إلى الحوت: إن يونس ليس لك رزقًا، وإنما بطنك له يكون سجنًا
(2)
.
حفظه لأوليائه في دينهم:
حفظ الله يوسف عليه السلام من الوقوع في السوء والفحشاء، مع قوة الدواعي الداعية للوقوع فيها، فهو شاب عزب، غريب، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا
(1)
ينظر: البداية والنهاية، لابن كثير (3/ 222 - 227).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 366).
كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسير تحت يدي المرأة، وهي سيدته، و تحت تدبيرها، والمسكن واحد، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد، ولا إحساس بشر،، ومع ذلك {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف: 23]، وصار المحل خاليًا، وهما آمنان من دخول أحد عليهما، ودعته إلى نفسها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك، وقد توعدته، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن، أو العذاب الأليم، ومع ذلك كله حفظه الحفيظ في دينه، قال تَعَالَى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]
(1)
.
وحينما يتكفل الحفيظ بحفظ شيء، فمن المحال أن يضيع أو يهلك، وكيف يهلك وقد تعهد الله بحفظه وتولاه برعايته، وهو خير الحافظين، قال تَعَالَى:{فَالله خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64].
تكفَّل بحفظ كتابه العزيز من التحريف والتغيير والتبديل على مر العصور والدهور {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فبقى هذه القرون الطويلة محفوظًا بحفظ الحفيظ له تبارك وتعالى، بينما التوراة والإنجيل لما أوكل حفظها إلى الرَّبَّانيين والأحبار {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44]؛ حصل التبديل والتغيير
(2)
.
وتكفل بحفظ بيته الحرام، قال ابن تيمية رحمه الله: «وكذلك الكعبة؛ فإنها بيت من حجارة بوادٍ غير ذي زرع، ليس عندها أحد يحفظها من عدو، ولا
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 396).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 344 - 345).
عندها بساتين وأمور يرغب الناس فيها، فليس عندها رغبة ولا رهبة، ومع هذا فقد حفظها بالهيبة والعظمة، فكل من يأتيها يأتيها خاضعًا ذليلًا متواضعًا في غاية التواضع، وجعل فيها من الرغبة ما يأتيها الناس من أقطار الأرض محبةً وشوقًا من غير باعث دنيوي، وهي على هذه الحال من ألوف السنين، وهذا مما لا يعرف في العالم لبنية غيرها، والملوك يبنون القصور العظيمة فتبقى مدة، ثم تهدم لا يرغب أحد في بنائها ولا يرهبون من خرابها.
وكذلك ما بني للعبادات قد تتغير حاله على طول الزمان، وقد يستولي العدو عليه كما استولى على بيت المقدس، والكعبة لها خاصة ليست لغيرها، قصدها جيش عظيم ومعهم الفيل، فهرب أهلها منهم فبرك الفيل وامتنع من المسير إلى جهتها، وإذا وجهوه إلى غير جهتها توجه، ثم جاءهم من البحر طير أبابيل، أي: جماعات في تفرقة فوجًا بعد فوج، رموا عليهم حصى هلكوا به كلهم؛ فهذا مما لم يوجد نظيره في العالم، فآيات الأنبياء هي أدلة على صدقهم»
(1)
.
وتكفل بحفظ دينه «ولو كره المشركون ذلك وبغوا له الغوائل، ومكروا مكرهم، فإن المكر السيئ لا يضر إلا صاحبه»
(2)
، قال تَعَالَى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32 - 33].
(1)
ينظر: النبوات (ص 160 - 161).
(2)
تفسير السعدي (ص: 335).
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (الحافظ الحفيظ) على التوحيد:
إذا تأمل العبد في سعة حفظ الحفيظ للخلائق كله، وأن كل شيء إنما حفظ بحفظه وقام بقيوميته، فهو الحي القيوم الذي قام بنفسه فاستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بغيره فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في الإيجاد والإعداد والإمداد والحفظ- تيقن أنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، فإن كل من دونه عاجز عن حفظ نفسه، فضلًا عن أن يحفظ غيره
(1)
، فلو أوكل سُبْحَانَهُ حفظ هذه الكواكب والنجوم إلى ذواتها ولم يتولَّها بحفظه ورعايته، لتهافتت وتهاوت وتساقطت، وذهب كلٌّ منها إلى حيث لا يُعلم له غاية ولا مستقر، ولو أوكل حفظ السماء والأرض للخلق، لعجزت قواهم عنها:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41]، فمن كان هذا حاله كيف يتخذ إلهًا من دون الله؟!
كما أن العبد إذا تأمل في حفظ الحفيظ لأهل التوحيد وإكرامه لهم، والإهانة والعقوبة لأهل الشرك- كان في ذلك دلالة له على توحيد الله دون ما سواه، وما ذاك إلا لأن التوحيد جعله الله موصلًا إلى كل خير، دافعًا لكل شر ديني ودنيوي، وجعل الشرك به والكفر سببًا للعقوبات الدينية والدنيوية، ولهذا إذا ذكر تَعَالَى قصص الرسل مع أمم المطيعين والعاصين، وأخبر عن عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن تبعهم، قال عقب كل قصة:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [البقرة: 248] أي: لعبرة يعتبر بها المعتبرون، فيعلمون أن توحيده هو الموجب للنجاة، وتركه هو الموجب للهلاك
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 121).
(2)
ينظر: المرجع السابق (125).
الأثر الثالث: محبة الله الحفيظ:
إن التفكر والتدبر في حفظ الله للعبد يملأ القلب حبًّا للحفيظ سُبْحَانَهُ، الذي حفظ له دينه وحفظ له جوارحه، وحفظ له معاشه في هذه الدنيا؛ إذ لو خُلِّيَ بين العبد وبين المهلكات؛ لَمَا بَقِيَ على ظهرها مِن دابَّة {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61].
وهذا حفظه العام للناس- مؤمنهم وكافرهم- أما حفظه الخاص لأوليائه فشيء آخَرُ ونعمة أخرى تقتضي من أهلها المحبة العظيمة والحمد والقيام بحقوق عبوديته سُبْحَانَهُ وطاعته، وبقدر تحقيق العبودية والطاعة لله عز وجل يكون الحفظ والرعاية من الله عز وجل لعبده.
الأثر الرابع: مراقبة العبد للحافظ الحفيظ:
إذا علم العبد أن الله عز وجل حفيظ يحفظ عليه عمله ويرصد أقواله وأفعاله ولا يفوته شيء منها، ثم هو سُبْحَانَهُ يحاسبه عليها يوم القيامة؛ دفعه ذلك إلى مراقبتهسُبْحَانَهُ في السر والعلن، في ظاهره وباطنه، في حركاته وسكناته حتى يصل إلى درجة الإحسان التي فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:«أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
(1)
، فيعبد ربه مستحضرًا قربه وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة:«أَنْ تَخْشَى اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»
(2)
، ويوجب له- أيضًا- النصح
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(50)، ومسلم، رقم الحديث:(9).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(10).
في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها
(1)
.
الأثر الخامس: «احفظ الله يحفظك» :
ليس ثَمَّ حافظ حفيظ غير الله جل جلاله، فهو سُبْحَانَهُ وحده الذي يحفظ من الشرور والآفات والمهالك، يحفظ من عقابه وعذابه وسخطه
(2)
.
وإنما حظ العبد من حفظه سُبْحَانَهُ، بحسب ما عنده من إيمان وتقوى، كما قال صلى الله عليه وسلم:«احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ»
(3)
، قال ابن رجب رحمه الله:«يعني: احفظْ حدود الله، وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ولا يتعدَّى ما أمر به إلى ما نهي عنه»
(4)
.
وقد مدح الله سُبْحَانَهُ عباده الذين يحفظون حقوقه وحدوده، فقال في معرض بيانه لصفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة:{وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112]، وقال:{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32 - 33].
وأعظم ما يجب على المسلم حفظه من أوامر الله: حق الله في التوحيد، فيعبده وحده ولا يشرك به شيئًا {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]،
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ:
(1)
ينظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/ 126).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 346).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(2713)، والترمذي، رقم الحديث:(2516)، حكم الألباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(5302).
(4)
نور الاقتباس، لابن رجب (ص 34).
هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ»
(1)
، فهذا هو الحق العظيم الذي أمر الله سُبْحَانَهُ عباده أن يحفظوه ويراعوه، وهو الذي من أجل حفظه أرسل الرسل وأنزل الكتب.
ومن أعظم ما أمر الله بحفظه: الصلاة، قال تَعَالَى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وقال:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9، المعارج: 34].
فمن حافظ على الصلوات وحفظ أركانها، حفظه الله من نقمته وعذابه، وكانت له نجاة يوم القيامة.
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5967)، ومسلم، رقم الحديث:(30).
(2)
الطب النبوي (ص 332).
ومما أمر الله بحفظه: السمع والبصر والفؤاد، قال سُبْحَانَهُ:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
وأمر بحفظ الفروج، فقال سُبْحَانَهُ:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]، ومدح المؤمنين بذلك، فقال:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6]، وقال عليه السلام:«مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»
(1)
.
وأمر بحفظ الأيمان، فقال:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]، وحفظ اليمين يدل على إيمان المرء وورعه، فكثير من الناس يتساهل في الحلف والقسم، وقد تلزمه كفارة وهو لا يدري، أو يعجز عنها، فيقع في الإثم لتضييعه وعدم حفظه لأيمانه
(2)
.
والمؤمن مأمور بحفظ دينِه أجمع، فلا يترك منه شيئًا إلا حفظه، وبقدر حفظه يكون حفظ الله له في دينه وماله وولده، وجميع ما آتاه من فضله؛ فإن الجزاء من جنس العمل، قال تَعَالَى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، وقال:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، وقال:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6474).
(2)
ينظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/ 462 - 465).
(3)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/ 465)، الحق الواضح المبين، للسعدي (ص 59 - 61).
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله عز وجل:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه»
(1)
.
ومَن حَفِظَ اللهَ في صباه وقوته، حفظه اللهُ في حال كبره وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله.
وقد يحفظ اللهُ العبدَ بصلاحه بعد موته في ذريته، كما قيل في قوله تَعَالَى:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]: أنهما حفظا بصلاح أبيهما، قال سعيد بن المسيب رحمه الله لابنه:«لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، ثم تلا هذه الآية {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82]»
(2)
، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله:«ما من مؤمن يموت، إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه»
(3)
.
وقال محمد بن المنكدر رحمه الله: «إِنَّ اللَّهَ لَيُصْلِحَ بِصَلَاحِ الْعَبْدِ وَلَدَهُ، وَوَلَدَ وَلَدِهِ، وَيَحْفَظُهُ فِي دُوَيْرَتِهِ، وَالدُّوَيْرَاتِ الَّتِي حَوْلَهُ مَا دَامَ فِيهِمْ»
(4)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في التفسير، رقم الحديث:(1359)، والطبري في التفسير، رقم الحديث:(20217).
(2)
تفسير البغوي (5/ 196).
(3)
الجامع العلوم والحكم، لابن رجب (2/ 555).
(4)
أخرجه ابن المبارك في الزهد، رقم الحديث:(330)، والحميدي في المسند، رقم الحديث:(377).
النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإيمان.
وفي الجملة، فإن الله عز وجل يحفظ على المؤمن الحافظ لحدود دينه، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها، وقد يكون كارهًا له، كما قال في حق يوسف عليه السلام:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تَعَالَى: {أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، قال:«يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار»
(1)
.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه، فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإنه إن يسرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير يقول: سبقني فلان دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله عز جل»
(2)
.
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك، رقم الحديث:(3265)، والبيهقي في القضاء والقدر، رقم الحديث:(327).
(2)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/ 465 - 469).
الأثر السادس: الأسباب المحصلة لحفظ الحفيظ:
شرع الله أسبابًا تعين العبد على الفوز بحفظه تبارك وتعالى، ومن ذلك:
1 -
الصلاح والتقوى:
فكلما كان العبد أكثر صلاحًا وتقوى، كلما كان أقرب إلى حفظ الله تَعَالَى، وكلما كان محافظًا على حدوده، مجتنبًا لمحارمه؛ كان بحفظه أحظى، كما قال صلى الله عليه وسلم:«احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ»
(1)
.
(2)
»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(2713)، والترمذي، رقم الحديث:(2516)، حكم الألباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(5302).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(20664)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2935).
(3)
جامع العلوم والحكم (2/ 555).
2 -
التوكل على الله:
فإن العبد إذا توكل على الله واعتمد عليه في جلب منافعه ودفع مضاره، وأخذ مع ذلك بالأسباب، وجد الله متوليًا لأمره، مراعيًا لحاله، حافظًا له {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] «كافيه الأمر الذي توكل عليه به، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي العزيز الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء»
(1)
، وهذا عين التوفيق.
وضد ذلك: الخذلان، فإن العبد إذا اعتمد على نفسه وحوله وقوته؛ تركه الله لهذا كلِّه وخلَّاه، وهذا هو عين الخذلان.
وأوضح الله لنا هذا المعنى بما أورد في كتابه من قصص:
فها هي أم موسى لما فوَّضَت أمرها إلى الله حفظ ابنها وردَّه إليها، قال تَعَالَى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 7 - 8].
وهذا موسى يقول له قومه- بعد أن كان البحرُ أمامَهم والعدوُّ وراءَهم-: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ، فيصدع قائلًا:{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، فأوحى الله إليه:{أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء: 63]، فكانت النتيجة {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63].
(1)
تفسير السعدي (ص: 870).
والصحابة عندما أعجبتُهُم كثرتُهُم يومَ حنينٍ فاعتمدوا عليها، تخلَّى الله عنهم، قال تَعَالَى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
بينما في بدر كان العدد قليلًا، والعتاد قليلًا، لكن التوكُّل على الله كبير، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123].
3 -
تلاوة القرآن:
أنزل الله كتابه وجعله هدى ورحمة {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 77]، ومن هدايته ورحمته: أن بعض سوره وآياته نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها حفظ ووقاية للعبد من الشرور، ومن ذلك:
آية الكرسي:
جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: «وَكَّلَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: وَاللهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: دَعْنِي،
فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، لَا أَعُودُ فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتَ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ، وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ، قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُوَ قَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتَ: يَا رَسُولَ اللهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللهُ بِهَا فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: قَالَ لِي إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الْخَيْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ»
(1)
.
وعن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه، «أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ جُرْنٌ فِيهِ تَمْرٌ، وَكَانَ أُبَيٌّ يَتَعَاهَدُهُ، فَوَجَدَهُ يَنْقُصُ، فَحَرَسَهُ، فَإِذَا هُوَ بِدَابَّةٍ تُشْبِهُ الْغُلَامَ الْمُحْتَلِمَ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ أَجِنٌّ أَمْ إِنْسٌ؟ قَالَ: جِنٌّ، قَالَ: فَنَاوِلْنِي يَدَكَ، فَنَاوَلَنِي يَدَهُ، فَإِذَا يَدُ كَلْبٍ، وَشَعَرُ كَلْبٍ، قَالَ: هَكَذَا خَلْقُ الْجِنِّ؟ قَالَ: لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنُّ مَا فِيهِمْ أَشَدُّ مِنِّي، قَالَ لَهُ أُبَيٌّ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2311).
قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّكَ رَجُلٌ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ، فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُصِيبَ مِنْ طَعَامِكَ، قَالَ أُبَيٌّ: فَمَا الَّذِي يُجِيرُنَا مِنْكُمْ؟ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ; آيَةُ الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ غَدَا أُبَيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ الْخَبِيثُ»
(1)
.
خواتيم سورة البقرة:
جاء في الحديث، عن أبي مسعود رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ»
(2)
.
(3)
.
وجاء عن النعمان بن بشير، قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَأَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ فَخَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَلَا يُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبُهَا الشَّيْطَانُ»
(4)
.
(1)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10730)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(662).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4008)، ومسلم، رقم الحديث:(808).
(3)
فتح الباري (9/ 56).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18640)، والترمذي، رقم الحديث:(2882)، حكم الألباني: صحيح، الجامع الصغير، رقم الحديث:(2680).
سورة البقرة:
جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ»
(1)
.
وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«اقْرَؤُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» البطلة: السحَرة
(2)
.
سورة الإخلاص والمعوذتان:
(3)
.
ومعنى «تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» : من كل شر وتدفع عنك كل سوء، ويحتمل أن يكون المعنى: تغنيك على كل ورد يتعوذ به
(4)
.
4 -
ذكر الله عز وجل:
شرع الله عز وجل ذكره، وجعله حرزًا للعبد يحترز به من الشرور كلها، كما قال صلى الله عليه وسلم: «وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللهَ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(780).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(804).
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5082)، والترمذي، رقم الحديث:(3575)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3575).
(4)
ينظر: عون المعبود، للعظيم آبادي (13/ 290)، وتحفة الأحوذي، للمباركفوري (10/ 21).
خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ»
(1)
.
(2)
.
والأذكار التي ورد النص بحفظها للعبد كثيرة، ومنها:
أ- ما جاء في حديث خولة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ»
(3)
(4)
، أي: لم تضرك العقرب، بأن يُحَالَ بينك وبين كمال تأثيرها، بحسب كمال التعوُّذ وقوته وضعفه؛ لأن الأدوية الإلهية تمنع من الداء بعد حصوله، وتمنع من وقوعه، وإن وقع لم يضرَّهُ»
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2863)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2863).
(2)
الوابل الصيب (ص: 36 - 37)
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2708).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2709).
(5)
أوجز المسالك إلى موطأ مالك، للكاندهولي المدني (17/ 66).
(1)
.
ج- ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»
(2)
.
د- ما جاء عن عثمان بن عفان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَيَضُرَّهُ شَيْءٌ»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(15700)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(840).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3293)، ومسلم، رقم الحديث:(2691).
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5088)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3869)، واللفظ له، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3388).
5 -
التصبح بسبع تمرات من العجوة:
جاء في الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ - وفي رواية: مِمَّا بَيْنَ لَابَتَيْهَا» ، أي: لابتي المدينة
(1)
.
6 -
استيداع الله الأمور:
جاء في الحديث، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا اسْتُودِعَ اللهُ شَيْئًا حَفِظَهُ»
(2)
.
7 -
الدعاء:
الدعاء من أهم الوسائل التي يحصل بها العبد حفظ الله عز وجل
(3)
، لذا كثرت الأدعية النبوية في سؤال الله الحفظ، ومن ذلك:
(4)
.
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي، وَقَالَ عُثْمَانُ:
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5445)، ومسلم، رقم الحديث:(2047).
(2)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10269)، وابن حبان، رقم الحديث:(2693)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(14).
(3)
فقه الأسماء الحسنى، لعبد الرزاق البدر (ص: 193).
(4)
أخرجه الحاكم، رقم الحديث:(1930)، والطبراني في الدعاء، رقم الحديث:(1445)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1260).
عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي»
(1)
.
فاللهم يا حفيظ، إنا نعوذ بك من جهد البلاء، وَدَرَك الشَّقاء،
وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5074)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3871)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(3871).
ذُو الفضلِ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الفضل والفضيلة: خلاف النقص والنقيصة، والإفضال: الإحسان»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(الفاء والضاد واللام) أصل صحيح يدل على زيادة في شيء، من ذلك: الفَضل: الزيادة والخير، والإفضال: الإحسان»
(2)
.
ورود اسم الله (ذي الفضل) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (ذو الفضل) في كتاب الله اثنتي عشرة مرة، ومن وروده ما يلي:
قول الله عز وجل: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]
قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]
(1)
الصحاح (5/ 69).
(2)
مقاييس اللغة (4/ 508).
قوله عز وجل: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29]
ورود اسم الله (ذي الفضل) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله (ذو الفضل) في السنة النبوية.
معنى اسم الله (ذي الفضل) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74]: «ذو فضل، يتفضل به على مَن أَحَبَّ وشاء مِن خلقه، ثم وصف فضله بالعِظَم، فقال: فضله عظيم؛ لأنه غير مشبه في عظم موقعه ممن أفضله عليه إفضال خلقه، ولا يقاربه في جلالة خطره ولا يدانيه»
(1)
.
(2)
.
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تَعَالَى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74]: «أي: اختصكم- أيها المؤمنون- من الفضل بما لا يُحَدُّ ولا يوصف، بما شرَّف به نبيَّكم محمدًا صلى الله عليه وسلم على
(1)
تفسير الطبري (5/ 507).
(2)
الأسنى شرح أسماء الله الحسنى (1/ 511).
سائر الأنبياء وهداكم به لأحمدِ الشرائع»
(1)
.
قال الشوكاني رحمه الله: «فضل الله يؤتيه من يشاء، أي: يعطيه من يشاء إعطاءه إيَّاه تفضلًا وإحسانًا، والله ذو الفضل العظيم، فهو يتفضل على من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، والخير كله بيده، وهو الكريم المطلق، والجواد الذي لا يبخل»
(2)
.
قال السعدي رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]: «الذي لا يصفه الواصفون، ولا يخطر بقلب بشر، بل وصل فضله وإحسانه إلى ما وصل إليه علمه {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7]»
(3)
.
فكل خير يناله العباد في دينهم أو دنياهم إنما هو من عند الله، يتفضل به عليهم ذو الفضل سُبْحَانَهُ!
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في نونيته:
يَا مَنْ يُرِيدُ وِلَايَةَ الرَّحمنِ دُو
…
نَ وِلَايَةِ الشَّيْطَانِ والأَوْثَانِ
فَارِقْ جَمِيعَ النَّاسِ في إشراكِهِم
…
حتَّى تَنَالَ ولايةَ الرَّحمنِ
يَكفِيكَ مَن وَسِعَ الخلائقَ رحمةً
…
وكفايةً ذو الفَضْلِ والإِحْسَانِ
(1)
تفسير القرآن العظيم (2/ 60).
(2)
فتح القدير (5/ 211).
(3)
تفسير السعدي (ص 134).
يَكفِيكَ رَبٌّ لم تزلْ ألطافُهُ
…
تأتي إليكَ برحمةٍ وحنانِ
يَكفِيكَ رَبٌّ لم تزلْ في ستْرِهِ
…
ويراكَ حينَ تجيءُ بِالعصيانِ
(1)
اقتران اسم الله (ذي الفضل) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يرد اسم الله (ذو الفضل) مقترنًا بأسماء أخرى.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (ذي الفضل):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (ذو الفضل) من صفات الله، وتحقيق التوحيد له:
الله سُبْحَانَهُ ذو الفضل الواسع والنعيم الوفير، ينعم على عباده بفضله ويمتن عليهم بخيره، ومن مظاهر أفضال الله تَعَالَى ما يلي:
أولًا: الأفضال الدنيوية:
وهي الأفضال التي تعم المسلم والكافر، البَر والفاجر، الإنسان والحيوان، بل كل ما سوى الله متقلِّب في فضله وبرِّه، ومن أمثلة هذه الفضائل: الرزق، فكل ما رزقك إياه في الدنيا: من عافية وسعة رزق وبيت وولد ووالد، تنام بالليل، وتسعى بالنهار، لا تعاني من قلق وأرق، ولا تعيش بطالة وكسلًا، هو من فضله تَعَالَى، تأمل قول سُبْحَانَهُ:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، وقوله تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [غافر: 61]
(1)
النونية (ص 300).
وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أخذ مضجعه: «الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي كَفَانِي، وَآوَانِي، وَأَطْعَمَنِي، وَسَقَانِي، وَالَّذِي مَنَّ عَلَيَّ فَأَفْضَلَ، وَالَّذِي أَعْطَانِي فَأَجْزَلَ، الْحَمْدُ لِلهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، اللَّهُمَّ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ أَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ»
(1)
.
ثانيًا: الأفضال الدينية:
وهي الأفضال التي تخص المؤمن في دينه، ومن أبرزها:
فضل الهداية للإسلام، يقول تَعَالَى:{وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 73]
فضل تزكية نفوس المؤمنين وتنوير بصائرهم، يقول سُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]
يقول ابن القيم رحمه الله: «فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زَكَتْ منهم نفس واحدة؛ فإذا أراد اللهسُبْحَانَهُ بها خيرًا جعل فيها ما تزكو به وتصلح- من الإرادات والتصورات- وإذا لم يُرد بها ذلك تركها على حالها التي خُلِقَتْ عليها من الجهل والظلم»
(2)
.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5058)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(7647)، والبيهقي في الدعوات الكبير، رقم الحديث:(398)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5058).
(2)
إغاثة اللهفان (1/ 77).
فضل إنزال القرآن، يقول تَعَالَى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في معنى الآية:«بِفضل الله: القرآن، وبرحمته: أن جعلكم من أهله»
(1)
، ومن فضل القرآن: أن جعله ذو الفضل شفيعًا لأصحابه يوم القيامة، فعن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ»
(2)
.
ومن فضله أيضًا: أن الله يرفع قدر أهل البيت الذين يتلى في بيوتهم كلام الرحمن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُم فِي بُيُوْتِكُم، وَلَا تَجْعَلُوْهَا عَلَيْكُم قُبُوْراً، كَمَا اتَّخَذَتِ اليَهُوْدُ وَالنَّصَارَى فِي بُيُوْتِهِم قُبُوْراً، وَإِنَّ البَيْتَ لَيُتْلَى فِيْهِ القُرْآنُ، فَيَتَرَاءى لأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تَتَرَاءى النُّجُوْمُ لأَهْلِ الأَرْضِ»
(3)
.
فضل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لهداية الناس إلى الطريق القويم، ومَن تأمَّل ما جاء به صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلًا؛ عرف أنه لا صلاح للبشر إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وأنه كما أن بهما إصلاح العقائد والأخلاق والأعمال، فقد جاء فيهما ما يصلح أمور الدنيا كذلك، وكل ما يعود إلى الخير والنفع العام والخاص.
(1)
أخرجه الطبري في التفسير (12/ 194).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(6736)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(14672)، والحاكم، رقم الحديث:(2043)، حكم الألباني: صحيح، المشكاة، رقم الحديث:(1963).
(3)
أخرجه الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/ 29)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(3112).
فضل تثبيت المؤمنين على دينهم، ومدافعته عنهم، ونصرتهم على أعدائهم، فيعصمهم من الزيغ والخذلان واتباع الشيطان، يقول تَعَالَى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا} [آل عمران: 173 - 174]، وقال تَعَالَى:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
فضل طلب الجنة، والسعي للوصول إليها، يقول تَعَالَى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]
فضل تنوير بصائر من اتقاه، وتكفيره لسيئاته، ومغفرته لذنوبه، وتزكية نفسه، قالسُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]
فضل إعطاء المؤمنين فوق ما يستحقون من ثواب، يقول تَعَالَى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 173]
فحري بالقلب أن يتعلق بصاحب الفضائل سُبْحَانَهُ، ويوحده بألوهيته وربوبيته، ويديم النظر والتفكر في آلائه وأسمائه وصفاته، ويكثر من التضرع بأن يمن الله عليه من أفضال الدنيا والآخرة.
كما أن اسم الله (ذا الفضل) دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال على الأسماء والصفات؛ إذ يدل على اسم الله (ذي الجلال والإكرام)، و (المنان)، و (الكريم)، و (الرحيم)، إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
الأثر الثاني: تحقيق صدق الافتقار لذي الفضل سُبْحَانَهُ:
من أيقن أن الفضل بيد ذي الفضل وحده سُبْحَانَهُ؛ صح في قلبه صدق الاضطرار وكمال الافتقار، وتجرد من جبروت النفس والجاه والمال، يقول الله تَعَالَى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:«وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ»
(1)
.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح الحديث: «الأمة كلها من أولها إلى آخرها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وعلى هذا فإن نفع الخلق الذي يأتي للإنسان فهو من الله في الحقيقة؛ لأنه هو الذي كتبه له، وهذا حث لنا على أن نعتمد على الله عز وجل، ونعلم أن الأمة لا يجلبون لنا خيرًا إلا بإذن الله عز وجل»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(2713)، والترمذي، رقم الحديث:(2516)، حكم الألباني: صحيح، المشكاة، رقم الحديث:(5302).
(2)
شرح الأربعين النووية، لابن عثيمين (ص: 202)
«فإذا جرَّد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تَعَالَى، بل يفرد الله بالمخافة وقد أمنه منه وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه، وتجرد الله محبة وخشية وإنابة وتوكلًا واشتغالًا به عن غيره، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولى حفظه والدفع عنه،
…
قال بعض السلف: من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة، ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة، ومن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة، فالتوحيد حصن الله الأعظم، الذي من دخله كان من الآمنين: قال بعض السلف: من خاف الله آمنه من كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء»
(1)
.
الأثر الثالث: محبة ذي الفضل سُبْحَانَهُ:
إن العبد إذا عرف فضل الله عز وجل، وآمن بأنه ذو الفضل العظيم؛ ازداد حبُّه لله، وعظم شوقه إلى لقائه، فيكون راجيًا فضل ربه، محسنًا الظن بخالقه تبارك وتعالى.
الأثر الرابع: الفرح بفضل الله تعالى:
فالله سُبْحَانَهُ يحب أن يرى فرح وسعادة عبده بكريم وجزيل فضله، يقول تَعَالَى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «ففضله: الإسلام والإيمان، ورحمته: العلم والقرآن، وهو يحب من عبده: أن يفرح بذلك ويسر به، بل يحب من عبده: أن يفرح بالحسنة إذا عملها وأن يسر بها، وهو في الحقيقة فرح بفضل
(1)
بدائع الفوائد، لابن القيم (2/ 245)
الله، حيث وفقه الله لها، وأعانه عليها ويسرها له، والفرح أعلى أنواع نعيم القلب، ولذته وبهجته،
…
والفرح بالشيء فوق الرضا به، فإن الرضا طمأنينة وسكون وانشراح، والفرح لذة وبهجة وسرور، فكل فَرِح راض، وليس كل راضٍ فَرِحًا، ولهذا كان الفرح ضد الحزن، والرضا ضد السخط، والحزن يؤلم صاحبه، والسخط لا يؤلمه، إلا إن كان مع العجز عن الانتقام، والله أعلم»
(1)
.
«وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين: مطلق ومقيد، فالمطلق: جاء في الذم، كقوله تَعَالَى:{لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]، وقوله:{إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10].
والمقيد: نوعان أيضًا:
مقيد بالدنيا: يُنسي صاحبه فضل الله ومنته، فهو مذموم، كقوله:{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
والثاني: مقيد بفضل الله وبرحمته، وهو نوعان أيضًا:
فضل ورحمة بالسبب، وفضل بالمسبب، فالأول: كقوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] والثاني: كقوله: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170]، فالفرح بالله، وبرسوله، وبالإيمان، وبالسنة، وبالعلم، وبالقرآن: من أعلى مقامات العارفين، قال الله تَعَالَى:
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124]، وقال:{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36]، فالفرح بالعلم والإيمان والسنة:
(1)
مدارج السالكين (3/ 158).
دليل على تعظيمه عند صاحبه، ومحبته له، وإيثاره له على غيره، فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله له: على قدر محبته له، ورغبته فيه، فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله له، ولا يحزنه فواته، فالفرح تابع للمحبة والرغبة»
(1)
.
الأثر الخامس: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»
(2)
:
على العبد أن يكون باذلًا لخلق الله الفضل، يرجو ببذله أن يناله فضلُ الله ورحمته، فالله عز وجل يحب المحسنين إلى خلقه، ويحسن إليهم، كما دل عليه الحديث الصحيح عن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ، قَالَ: قَالَ الله عز وجل: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ»
(3)
.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا عَنْهُمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ»
(4)
.
فينبغي على العبد أن يسارع ببذل الفضل الذي أنعم الله به تَعَالَى عليه، فيبذل ماله إن كان ذا مال؛ تقربًا به لله، وشاكرًا لنعمه عليه، وكذا صاحب الجاه وصاحب العلم، وليتذكر دائمًا حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه أبو
(1)
مدارج السالكين (3/ 158).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2699).
(3)
أخرجه مسلم (1561).
(4)
أخرجه البيهقي في الشعب، رقم الحديث:(7256)، والطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(5162)، حكم الألباني: ضعيف، السلسلة الضعيفة، رقم الحديث:(2627).
(1)
، وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا عَنْهُمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ»
(2)
.
وهذا من باب المسارعة إلى فعل الخيرات، التي أمر الله بالسباق إليها والزحام عليها، قال تَعَالَى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21] وهذه المغفرة والجنة فضل يؤتيه الله من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم.
فاللهم يا بَر، يا رؤوف، يا رحيم، يا ذا الفضلِ العظيم، يا غفور، يا ودود، يا حليم، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
الرَّقيبُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الرقيب: الحافظ،
…
تقول: رقبت الشيء أرقبه رقوبًا، ورِقْبَةً ورِقْبانًا بالكسر فيهما، إذا رَصَدْتَهُ
…
»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(رقب) الراء والقاف والباء أصل واحد مطرد، يدل على انتصاب لمراعاة شيء، من ذلك الرقيب، وهو الحافظ، يقال منه: رقبت أرقب رقبة ورقبانًا
…
»
(2)
.
ورود اسم الله (الرقيب) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الرقيب) في كتاب الله ثلاث مرات، ووروده كالتالي:
قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
قوله عز وجل: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117].
قوله عز وجل: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52].
ورود اسم الله (الرقيب) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله (الرقيب) في السنة النبوية.
(1)
الصحاح (1/ 137 - 138).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 427).
معنى اسم الله (الرقيب) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله عند قوله سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]: «حفيظًا محصيًا عليكم أعمالكم متفقِّدًا رعايتكم حرمة أرحامكم وصلَتكم إياها وقطْعَكُموها وتضييعَكُم حرمتها»
(1)
.
قال الحليمي رحمه الله: «الرقيب الذي لا يَغفل عن ما خلق فيلحقه نقص أو يدخل عليه خلل»
(2)
.
(3)
.
قال الزجاج رحمه الله: «الرقيب هو الحافظ الذي لا يغيب عما يحفظه، يقال: رقبت الشيء أرقبه رقبة، وقال الله تَعَالَى ذكره: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]»
(4)
.
قال السعدي رحمه الله: «(الرقيب) المطلع على ما أَكَنَّتْه الصدور، القائم
(1)
تفسير الطبري (6/ 350).
(2)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 206).
(3)
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (1/ 404 - 405).
(4)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 51).
على كل نفس بما كسبت، الذي حفظ المخلوقات وأجراها على أحسن نظام، وأكمل تدبير»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله:
وَهُوَ الرَّقِيْبُ عَلَى الْخَوَاطِرِ وَاللَّوَا
…
حِظِ كَيْفَ بِالْأَفْعَالِ بِالْأَرْكَانِ
(2)
اقتران اسم الله (الرقيب) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله الرقيب بأي اسم من أسماء الله تعالى.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الرقيب):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الرقيب)، ودلالته على التوحيد:
الله هو الرقيب الذي لا يخرج شيء عن رقابته {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52]«رقيب للمبصرات ببصره الذي لا يغيب عنه شيء، ورقيب للمسموعات بسمعه الذي وسع كل شيء، ورقيب على جميع المخلوقات بعلمه الذي أحاط بكل شيء»
(3)
، يرقب السموات وما فيهن، والأرضين وما فيهن، والبحار وما فيهن، ويرقب عباده وما يصدر منهم.
فهو الرقيب الحفيظ الذي حفظ السموات وما فيها من كواكب ونجوم، حفظها من أن يخرجَ منها جِرْمٌ عن موضعه الذي أقامه فيه، أو ينقص من
(1)
تفسير السعدي (ص: 947).
(2)
النونية (ص: 207).
(3)
فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 182).
سرعته التي أجراه بها وأداره عليها، أو ينحرف عن اتجاهه الذي وجَّهه إليه، لا تشغلُهُ رقابة كبارها عن الرقابة على صغارها، ولا يعوقه حفظ قريبها عن حفظ بعيدها.
ويرقب الأرض فيحفظها في دورتها حول نفسها أمام الشمس؛ حتى لا تنحرف عن دارها الذي رسمه، وحتى تحتفظ بالسرعة التي خصَّها بها، يرقبها في إنباتها وجريان أنهارها، يرقبها من أن تقع السموات عليها {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65].
ويرقب البحار، فيحفظها من أن تطغى على اليابسة، فتكون بحرًا يعج عجاجه وتصطخب أمواجه.
ويرقب الأجنة فيحفظها في بطون أمهاتها، وتطورها في خلقها ونموها، وتغذيتها وتمامها، وخروجها {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6].
ويرقب عباده فيحفظهم من بين يديهم ومن خلفهم، قال تَعَالَى:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] فللإنسان ملائكة يتعاقبون في الليل والنهار يحفظون بدنه وروحه من كل من يريده بسوء
(1)
.
فسبحان الرقيب الذي لولا رقابته على كل هذه المخلوقات ما قام شيء في الوجود، وسبحان الذي لو تخلت رقابته عن هذا العالم طرفة عين لغرق في طوفان من الظلام وأصبح عدمًا.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 414).
وهو الرقيب المطلع على خلقه، يعلم كل صغيرة وكبيرة في ملكه، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، قال تَعَالَى:{عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3].
وهو الرقيب المحصي أعمال عباده، يرقب حركاتهم وسكناتهم وأقوالهم وأفعالهم، بل حتى ما يجول في خواطرهم، قال تَعَالَى:{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]«أي: المطلع على سرائرهم وضمائرهم {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] علمًا وسمعًا وبصرًا، فعلمك قد أحاط بالمعلومات، وسمعك بالمسموعات، وبصرك بالمبصرات، فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر»
(1)
.
وإذا تأمل العبد في عظم رقابة الله عز وجل؛ علم استحقاقه للعبادة وحده دون ما سواه، فهو «رقيب على الأشياء بعلمه المقدس عن مباشرة النسيان، ورقيب للمبصرات ببصره الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ورقيب للمسموعات بسمعه المدرك لكل حركة وكلام، فهو سُبْحَانَهُ رقيب عليها بهذه الصفات تحت رقابته الكليات والجزئيات، وجميع الخفيات في الأرضين والسموات، ولا خفى عنده، بل جميع الموجودات كلها على نمط واحد في أنها تحت رقُبته التي هي من صفته»
(2)
، وكل معبود من دونه لا يملك من ذلك شيئًا، فكيف يتخذ إلهًا يُعبد؟!!
وكما أن اسم الله (الرقيب) دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال
(1)
تفسير السعدي (ص: 249).
(2)
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، للقرطبي (1/ 401 - 402).
على الأسماء والصفات؛ إذ يدل على اسم الله العليم، والشهيد، والحسيب، والسميع والبصير، إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
الأثر الثاني: محبة الله الرقيب:
إذا علم المسلم أن الله الرقيب قائم عليه وعلى كل نفس، قائم بتدبيرها على أكمل نظام وأحسن إحكام، حافظ له وللمخلوقات من حوله فيحفظهم بحفظه ويكلؤهم بعينه، لا يغفل عن خلقه بل يرعاهم ويرعى أحوالهم ويدبر أمورهم، لا شك أن ذلك سيبعث في قلبه محبة الرقيب جل جلاله.
الأثر الثالث: مراقبة الرقيب جل في علاه:
إذا أيقن العبد بأن الله هو الرقيب واستشعر نظره له في ظاهره وباطنه، وصغيره وكبيره؛ أورثه ذلك مراقبته سُبْحَانَهُ في السر والعلن، في الليل والنهار، في الخلوة والجلوة، فصار يلحظ أعماله، ويتفقد أفكاره وخطراته حتى يرتقي إلى درجة الإحسان التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها «أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
(1)
، فيحفظ قلبه وسمعه وبصره ولسانه وجوارحه كلها من أن يكون منها أو فيها ما يسخط الله عز وجل.
ومراقبة الله من أعلى أعمال القلوب، ومن أعظم منازل السائرين إلى الله والدار الآخرة، فعلى المسلم أن يسعى لتحقيقها وأن يكون من أهلها، وسيتناول الملحق- بإذن الله- ما يعين على ذلك.
(1)
سبق تخريجه.
المراقبة
في موضوع المراقبة سنتطرق للمسائل التالية:
أولًا: تعريف المراقبة:
عرفها ابن القيم رحمه الله، فقال:«دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه»
(1)
.
ثانيًا: ثمرات المراقبة:
إذا حقق العبد منزلة المراقبة، لا بد أن يجد ثمارها التي تعود إليه في أمر دينه ودنياه وآخرته، ومن ذلك:
1 - الإخلاص:
إذا راقب العبد ربه وعلم أنه مطلع على نيته ومقصده؛ بعثه ذلك إلى إخلاص عمله لله عز وجل؛ خوفًا وحياء من ربه أن يطلع على قلبه وفيه فلان وفلان من الناس، بل يبعثه ذلك- أيضًا- إلى إخفاء عمله عن أعين الناس، كما في السبعة الذين يظلهم الله في ظله، وذكر منهم:«وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ»
(2)
، فهذا راقب الله، وأراد أن يكون
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 65).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1423)، ومسلم، رقم الحديث:(1031).
عمله خالصًا لوجهه سُبْحَانَهُ، حتى أن جزءًا من جسده وهو يده لم تعلم ما أنفقت يمينه، وهذا من كمال إخلاصه وتجرده لله تَعَالَى.
2 - إتقان العمل:
إذا استحضر العبد حال قيامه بطاعة من الطاعات نظر الله إليه ومراقبته لعمله؛ أوجب ذلك له بذل الجهد في تحسينها وتكميلها وإتمامها
(1)
.
والعبد مأمور بتحسين عمله، كما قال تَعَالَى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2] قال ابن كثير رحمه الله: «خير عملًا، كما قال محمد بن عجلان، ولم يقل: أكثر عملًا»
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الله تبارك وتعالى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ»
(3)
.
ولهذا المعنى جاء الأمر بإقامة الصلاة {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] لا فعلها أو الإتيان بها؛ لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة، فإقامة الصلاة؛ إقامتها ظاهرًا، بإتمام أركانها، وواجباتها، وشروطها، وإقامتها باطنًا بإقامة روحها، وهو حضور القلب فيها، وتدبر ما يقوله ويفعله منها، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، وهي التي يترتب عليها الثواب، فلا ثواب للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها
(4)
.
(1)
ينظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/ 126).
(2)
تفسير ابن كثير (8/ 176).
(3)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(4929)، والطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(899)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(383).
(4)
تفسير السعدي (ص: 41).
3 - حفظ الظاهر والباطن من السيئات:
مراقبة الله عز وجل توجب للعبد صيانة ظاهره وباطنه ووقايته من اقتراف السيئات، فإن العبد إذا استحضر اطلاع ربه على ما بطن وخفي عن أعين الناس؛ دفعه ذلك إلى إصلاح باطنه وصيانته، فيحفظ قلبه من الحرام، ويحفظ فكره من الخواطر الرديئة، ويجرد باطنه من كل شهوة وإرادة تعارض أمر الله، ومن كل محبة تزاحم محبته، وهذه هي حقيقة القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم.
وإذا صلح الباطن صلح الظاهر ولا ريب، فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته، وقد قيل: من راقب الله في خواطره، عصمه في حركات جوارحه، فلا ينطق بحرام، ولا ينظر لحرام، ولا يسمع لحرام، ولا يبطش حرامًا، ولا يمشي لحرام
(1)
.
فاستشعار العبد لرؤية ربه؛ يدفعه إلى الإقلاع عن المعاصي والآثام؛ لذلك فإن الذي يقع في المعصية، لا بد أنه غاب عنه عند مواقعتها أن الله رقيب شهيد، قال ابن الجوزي رحمه الله:«فقلوب الجهال تستشعر البعد؛ ولذلك تقع منهم المعاصي؛ إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر، لَكَفُّوا الأكفَّ عن الخطايا، والمتيقظون علموا قربه، فحضرتهم المراقبة، وكَفَتْهم عن الانبساط»
(2)
.
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 65 - 68).
(2)
صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 213).
4 - أعمال القلوب:
إذا حقق العبد مراقبة الله عز وجل؛ أوجب ذلك له جملة من الأعمال القلبية؛ وذلك أن المراقبة هي أساس أعمال القلب وعمودها الذي تقوم عليه، ومن تلك الأعمال:
- الخوف من الله ومهابته، فإذا هم بمعصية أو قارفها استشعر نظر ربه ورقابته، فخاف منه، واضطربت أركانه هيبة وتعظيمًا له
(1)
.
- محاسبة النفس والخلوة بها، ومعاتبتها بين الفينة والأخرى، فكلَّما همَّ العبد بمعصية استشعر أن ربه ناظر إليه فحاسب نفسه وراجعها، وكلَّما همَّ بتقصير في واجب تذكر مراقبة الله لعمله، فحاسَبَ نفسه وراجعها.
-الحياء من الله عز وجل، فيستحي أن يراه الله حيث نهاه، أو يراه وقد قصّر فيما أمره به، أو يراه وقد جعله أهون الناظرين إليه، كما قال بعض العارفين:«اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك»
(2)
.
5 - تفريج الهموم وتنفيس الكربات:
من حقق مقام المراقبة جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، ومن كل عسر يسرًا:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]، وفي حادثة أصحاب الغار شاهد بيِّن على هذا:
(1)
ينظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/ 126).
(2)
ينظر: المرجع السابق (1/ 131).
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ، فَادْعُوا الله تَعَالَى بِهَا، لَعَلَّ الله يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللهمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَامْرَأَتِي، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ، حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ، فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِيَّ، وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ، فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ الله مِنْهَا فُرْجَةً، فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ، وَقَالَ الْآخَرُ: اللهمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَجِئْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ الله اتَّقِ الله، وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ عَنْهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، فَفَرَجَ لَهُمْ، وَقَالَ الْآخَرُ: اللهمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِنِي حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ فَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرِعَاءَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ الله وَلَا تَظْلِمْنِي حَقِّي، قُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا، فَخُذْهَا فَقَالَ: اتَّقِ الله وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا،
فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِيَ، فَفَرَجَ الله مَا بَقِيَ»
(1)
.
فالثلاثة راقبوا الله، فكان الجزاء أن فرج الله عنهم ما هم فيه، فإذا بالصخرة تتحرك من مكانها، وتفتح لهم باب النجاة، والخلاص من الهمِّ الذي حلَّ بهم.
6 - سرور النفس وطمأنينة القلب:
من استحضر مراقبة الله جل جلاله، وأدام ذكره، واجتنب الغفلة عنه؛ أثمر ذلك سرورًا في قلبه وانشراحًا في صدره {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] وقرت عينه بالقرب من ربه، وأحس بلذة وفرح لا يدانيه فرح من الأفراح عند فعل الطاعات؛ لعلمه أن الله مطلع عليه ناظر إليه وهو الشكور الحميد.
وما يجده المراقب لربه من السرور والحبور من النعيم المعجل في الدنيا
(2)
، قال ابن القيم رحمه الله: «فإن سرور القلب بالله وفرحه به، وقرة العين به، لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا البتة، وليس له نظير يقاس به، وهو حال من أحوال أهل الجنة، حتى قال بعض العارفين: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب.
ولا ريب أن هذا السرور يبعثه على دوام السير إلى الله عز وجل، وبذل الجهد في طلبه، وابتغاء مرضاته، ومن لم يجد هذا السرور، ولا شيئًا منه،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2333)، ومسلم، رقم الحديث:(2743).
(2)
ينظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/ 135)، وفقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 184).
فليتهم إيمانه وأعماله؛ فإن للإيمان حلاوة، من لم يذقها فليرجع، وليقتبس نورًا يجد به حلاوة الإيمان.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذوق طعم الإيمان ووجد حلاوته، فذكر الذوق والوجد، وعلقه بالإيمان، فقال:«ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»
(1)
(2)
.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه- يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحًا، فاتهمه؛ فإن الرب تَعَالَى شكور، يعني: أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول»
(3)
.
7 - زيادة الأجر:
مراقبة الله عز وجل أثناء عمل الخير ولو كان يسيرًا، ترفع من أجره وتعظمه، وتصيرّه كبيرًا مع صغره وكثيرًا مع قلته، وإنما نال السبعة الذين تحت الظل ما نالوا من الكرامة بسبب خشيتهم لله ومراقبته له، قال صلى الله عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(34).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(21)، ومسلم، رقم الحديث:(43).
(3)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 67 - 68).
عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»
(1)
.
فالرجل الذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ما الذي دعاه لذلك والناس لا يرونه؟ والرجل الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال، وغابت عنه العيون ونفسه تشتهي وتتمنى، ما الذي دعاه لقوله: إني أخاف الله؟ والرجل الذي تصدق بيمينه حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه مع أن المال محبوب للنفوس، ولا يسهل عليها أن تجود به إلا بطلب عوض أعظم، ما الذي دعاه للإنفاق؟ والشاب الذي نشأ في طاعة الله عز وجل مع قوة النوازع وتوقد الغرائز، ما الذي دعاه للطاعة والكف عن المعصية؟ إنها مراقبة الله عز وجل التي كانت سببًا لنيلهم هذه المكانة والمنزلة العظيمة.
8 - دخول الجنة ورؤية وجه الله عز وجل
-:
مراقبة العبد ربه سبب لدخوله الجنة، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12] أي: «في جميع أحوالهم، حتى في الحالة التي لا يطَّلع عليهم فيها إلا الله، فلا يُقدِمون على معاصيه، ولا يُقَصِّرون فيما أمر به {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لذنوبهم، وإذا غفر الله ذنوبهم وقاهم شرَّها، ووقاهم عذاب الجحيم، ولهم أجر كبير، وهو ما أعده لهم في الجنة، من النعيم المقيم، والملك الكبير، واللذات المتواصلات، والمشتهيات
…
»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1423)، ومسلم، رقم الحديث:(1031).
(2)
تفسير السعدي (ص: 876).
وأعظم من ذلك: رؤية وجهه تبارك وتعالى، كما قال تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وذلك؛ «لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك النظر إلى الله عيانًا في الآخرة، وعكس هذا ما أخبر الله تَعَالَى به عن جزاء الكفار في الآخرة: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، وجعل ذلك جزاء لحالهم في الدنيا، وهو تراكم الران على قلوبهم، حتى حجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم على ذلك أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة»
(1)
.
ثالثًا: وسائل تحقيق المراقبة:
يمكن للعبد أن يصل لمراقبة الله عز وجل من خلال عدة أمور، منها:
1 -
العلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته؛ فإن العبد كل ما كان بالله أعلم كان له أخشى، كما قال تَعَالَى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]
(2)
، وتوجب له هذه الخشية مراقبته سُبْحَانَهُ في أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته.
ومن ذلك: استحضار معاني الأسماء الحسنى التي تورث مقام المراقبة، كالرقيب، والحفيظ، والعليم، والخبير، والشهيد، والمحيط، واللطيف، والقريب إلى غير ذلك من الأسماء التي إذا أدرك العبد معناها وتعبد ربه بمقتضاها، فإن ذلك يؤدي به إلى تحصيل مقام المراقبة، قال ابن القيم رحمه الله: «والمراقبة هي التعبد باسمه الرقيب، الحفيظ، العليم، السميع، البصير، فمن
(1)
جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/ 126).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 689).
عقل هذه الأسماء، وتعبد بمقتضاها: حصلت له المراقبة»
(1)
.
2 -
كثرة ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان، قال ابن القيم رحمه الله في بيان فوائد الذكر:«يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الاحسان، فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت»
(2)
وذلك لأن العبد كل ما كان لله ذاكرًا كان الله معه، كما جاء في الحديث القدسي:«يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»
(3)
».
3 -
الإكثار من عبادات السر والحرص عليها، كقيام الليل في جوف الليل، وصيام النهار حيث لا يعلم به مخلوق، والقيام بالأعمال الصالحة في غفلة عن المخلوقين، فإن ذلك كله يثمر مراقبة الله عز وجل في النفوس.
4 -
محبة الله؛ فإن المحبوب يلاحظ محاب محبوبه فيسارع إليها، ويلاحظ مساخطه فيبتعد عنها، كل ذلك سعيًا في رضاه عنه، فإذا حقق العبد محبة ربه راقبه في لسانه وجوارحه وقلبه، وسعى في كل قربة وطاعة تقربه إليه، حتى يحبه فيحفظه من الحرام، كما جاء في الحديث القدسي: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي
(1)
مدارج السالكين (2/ 66).
(2)
الوابل الصيب (ص 42).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7405)، ومسلم، رقم الحديث:(2675).
لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»
(1)
.
5 -
تذكر الموت؛ فإن العبد إذا تذكره وتيقن أنه صائر إليه {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] أثمر ذلك في نفسه مراقبة الله في أعماله وأقواله، فلم يخف إلا الله ولم يرج إلا إياه، وفعل ما أمره، وترك ما نهاه عنه، استعدادًا له.
6 -
تذكر الآخرة والوقوف بين يدي الله عز وجل للسؤال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24]؛ فإن العبد إذا استحضر واستشعر سؤال الله أوجب ذلك له مراقبته في السر والعلن في الصغير والكبير، فإذا تذكر مثلًا أنه مسئول عن رعيته كما قال صلى الله عليه وسلم:«كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»
(2)
؛ راقب الله فيهم هل أعطاهم حقهم من التربية والنفقة والعلم
…
إلخ، أو لا؟ وإذا تذكر أن قدمه لن تزول حتى يسأل عن خمس، كما جاء في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ؛ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ»
(3)
؛ راقب الله فيها ففعل ما يرضيه، وترك ما يسخطه فيها.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6502).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(893)، ومسلم، رقم الحديث:(1829).
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2416)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(1647)، حكم الألباني: حسن، المشكاة، رقم الحديث:(5197).
7 -
استحضار الشهود الذين نصبهم الله شهودًا على أعمال العباد، من:
الملائكة الكرام الكاتبين، كما قال تَعَالَى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]، وقال:{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18].
والجوارح، كما قال تَعَالَى:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65].
والجلود، كما قال تَعَالَى:{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21].
والأرض، كما قال تَعَالَى:{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 3 - 4].
8 -
الدعاء، فيسأل العبدُ ربَّه، ويتضرع إليه ليلًا ونهارًا بلسان صادق وقلب خاشع، أن يرزقه خشيته ومراقبته في السر والعلن.
اللهم ارزقنا خشيتك في السر والعَلن، واجعلنا نعبدك كأننا نراك.
الفتَّاحُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «فتحت الباب فانفتح، وفتحت الأبواب، شدد للكثرة، فتفتحت هي،
…
واستفتحت الشيء وافتتحته، والاستفتاح: الاستنصار، والمفتاح: مفتاح الباب وكل مستغلق، والفتح: النصر،
…
والفتاح: الحاكم»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(فتح) الفاء والتاء والحاء أصل صحيح يدل على خلاف الإغلاق، يقال: فتحت الباب وغيره فتحًا، ثم يحمل على هذا سائر ما في هذا البناء، فالفتح والفتاحة: الحكم، والله تَعَالَى الفاتح، أي: الحاكم»
(2)
.
ورود اسم الله (الفتاح) في القرآن:
ورد اسم الله (الفتاح) في كتاب الله مرة واحدة مفردًا، وهي:
1 -
قوله عز وجل: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 26].
(1)
الصحاح (1/ 412).
(2)
مقاييس اللغة (4/ 469).
وورد في كتاب الله مرة واحدة بصيغة الجمع، وهي:
قوله عز وجل: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
ورود اسم الله (الفتاح) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله (الفتاح) في السنة النبوية.
معنى اسم الله (الفتاح):
اسم الله (الفتاح) له ثلاث معان في حق اللهتَعَالَى:
الحاكم الذي يقضي بين عباده بالحق والعدل، بأحكامه الشرعية والقدرية الجزائية.
الذي يفتح لعباده أبواب الرحمة والرزق، وما انغلق عليهم من الأمور.
الناصر لعباده المؤمنين، وللمظلوم على الظالم.
وحول هذه المعاني الثلاثة تدور أقوال العلماء.
من الأقوال في المعنى الأول:
قال قتادة رحمه الله في قوله: {افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89]«أي: اقض بيننا وبين قومنا بالحق»
(1)
.
قال الطبري رحمه الله في تفسير قولهتَعَالَى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89] «احكم بيننا وبينهم بحكمك الحق، الذي لا جور فيه
(1)
أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 321).
ولا حيف ولا ظلم، ولكنه عدل وحق {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89] يعني: خير الحاكمين»
(1)
.
وقال أيضًا رحمه الله في قوله: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 26]«والله القاضي العليم بالقضاء بين خلقه؛ لأنه لا تخفى عنه خافية، ولا يحتاج إلى شهود تعرفه المحق من المبطل»
(2)
.
من الأقوال التي تجمع بين المعنى الأول والثاني:
قال السعدي رحمه الله: «فالفتاح هو الحكم المحسن الجواد،
…
والرب تَعَالَى هو الفتاح العليم الذي يفتح لعباده الطائعين خزائن جوده وكرمه، ويفتح على أعدائه ضد ذلك، وذلك بفضله وعدله»
(3)
.
من الأقوال في المعنى الثالث:
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19]: «يعني بذلك: المشركين، إن تستنصروا فقد جاءكم المدد»
(4)
.
قال ابن عاشور رحمه الله في تفسير قوله تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19]: «فالاستفتاح هنا طلب الفتح، أي: النصر، والمعنى: إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر»
(5)
.
(1)
أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 319).
(2)
أخرجه الطبري في تفسيره (19/ 287).
(3)
الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 84 - 85).
(4)
تفسير الطبري (11/ 90).
(5)
التحرير والتنوير (9/ 301).
قال ابن القيم رحمه الله:
وَكَذَلِكَ الفَتَّاحُ مِنْ أَسْمَائِهِ
…
والفَتْحُ فِي أَوْصَافِهِ أَمْرَانِ
فَتْحٌ بِحُكْمٍ وَهْوَ شَرْعُ إِلَهِنَا
…
والفَتْحُ بِالأَقْدَارِ فَتْحٌ ثَانِ
والرَّبُّ فَتَّاحٌ بِذَيْنِ كِلَيْهِمَا
…
عَدْلًا وَإِحْسَانًا مِنَ الرَّحْمَنِ
(1)
اقتران اسم الله (الفتاح) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
- اقتران اسم الله (الفتاح) باسمه (العليم):
تقدم بيانه في اسم الله (العليم).
الآثار المسلكية لاسم الله الفتاح:
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الفتاح) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
إن فتح الله تَعَالَى ينقسم إلى قسمين: فتح بحكمه الديني والجزائي، وفتح بحكمه القدري، وفي ذلك يقول السعدي رحمه الله: «وفتحه تَعَالَى قسمان: أحدهما فتحه بحكمه الديني وحكمه الجزائي، والثاني: الفتاح بحكمه القدري.
ففتحه بحكمه الديني هو شرعه على ألسنة رسله جميع ما يحتاجه المكلفون، ويستقيمون به على الصراط المستقيم، وأما فتحه بجزائه فهو فتحه بين أنبيائه ومخالفيهم، وبين أوليائه وأعدائه بإكرام الأنبياء وأتباعهم ونجاتهم، وبإهانة أعدائهم وعقوباتهم، وكذلك فتحه يوم القيامة وحكمه بين الخلائق
(1)
النونية (ص: 211).
حين يوفي كل عامل ما عمله.
أما فتحه القدري، فهو ما يقدره على عباده من خير وشر، ونفع وضر، وعطاء ومنع، قالتَعَالَى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2]»
(1)
.
ومن مظاهر فتح الله سُبْحَانَهُ، ما يلي:
الفتح في الحكم بين عباده:
فالله سُبْحَانَهُ هو الحاكم بين عباده في الدنيا والآخرة بالقسط والعدل، يفتح بينهم في الدنيا بالحق بما أرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، ويتضمن ذلك أحكامًا وأحوالًا لا تنضبط بالحد ولا تحصى بالعد، ومن ذلك:
دعوة الأنبياء لربهم بأن يفتح بينهم وبين أقوامهم وينصرهم، ومنهم:
نوح عليه السلام، يقول الله عز وجل على لسانه:{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 117 - 118].
شعيب عليه السلام، يقول الله عز وجل على لسانه:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
فتح الله على من استعجل العذاب من أقوام أنبيائه، ومنهم:
قوم عاد، يقول تَعَالَى:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70] فيأتي الحكم من الله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ
(1)
الحق الواضح المبين (ص: 85).
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72].
قوم ثمود، يقول تَعَالَى:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73]، واستعجل قومه العذاب فأتى الحكم والفتح من الله بقوله:{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 77 - 78].
الفتح في الإيمان والهداية:
فمن فتح الله لعباده المؤمنين: أن حبب لهم الإيمان والطاعة، والأعمال الصالحة، وزينها في قلوبهم، يقول تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8].
ومن فتحه: يسر فهم القرآن وتدبر وحفظه، يقول تَعَالَى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17].
ويقول الطبري رحمه الله عند تفسير قوله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36]: «يقول تَعَالَى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يكبرن عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك، وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربهم والإقرار بنبوتك، فإنه لا يستجيب لدعائك إلى ما تدعوه إليه من ذلك، إلا الذين فتح الله أسماعهم للإصغاء إلى الحق، وسهل لهم اتباع الرشد، دون من ختم الله على سمعه، فلا يفقه من دعائك إياه إلى الله وإلى اتباع الحق إلا ما تفقه الأنعام من أصوات رعاتها»
(1)
.
الفتح في الرزق والرحمة:
فالله سُبْحَانَهُ فتح لعباده أبواب الرحمة والأرزاق المتنوعة، وفتح لهم خزائن جوده وكرمه، فما يأتيهم من مطر، أو رزق، فلا يقدر أحد أن يمنعه، يقول تَعَالَى:{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50]، وما أمسك سُبْحَانَهُ فلا يستطيع أحد أن يرسله، يقول تَعَالَى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2]، عنده الخزائن وبيده الخير، وهو الجواد المنان الفتاح، يفتح ما انغلق من الأمور والأحوال، فييسرها منه كرمًا، ويتفضل بقضاء الحوائج، وتفريج الكربات، ويذهب ضيق النفس، وضيق الجهل، وضيق الفقر، فبعنايته تنفتح المغاليق،
(1)
تفسير الطبري (11/ 341).
وبهداه تنفتح المشكلات، وبتيسيره تنفتح الصعوبات والكربات.
الفتح في العلم والفقه:
ففتح سُبْحَانَهُ لمن يشاء من عباده في أبواب العلم والحكمة والفقه في الدين، ولذا جمع الله بين الفتح والعلم، فقال:{وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 26]، ويقول سُبْحَانَهُ:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22].
فحري بالقلب أن يتعلق بمن يملك هذه المفاتيح، ويوحده، ويديم النظر والتفكر في آلائه وصفاته، ويكثر من التضرع إليه أن يفتح قلبه لهدايته، ومعرفة الحق والانقياد له، وأن يسأله الفتح لأبواب الرزق والخير في الدنيا والآخرة.
الأثر الثاني: اليقين بأن مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو:
وقد مر بأن اسم الله الفتاح لم يقترن إلا باسمه العليم، فهو سُبْحَانَهُ المتفرد بعلم مفاتح الغيب، وهو مستغلق إلا على الرب -جل وعلا- فإنه يعلمه، قال تَعَالَى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، وفي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ، ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان: 34]»
(1)
.
أما الخلق فلا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله سُبْحَانَهُ، ولو كان لمخلوق أن يعلم الغيب لكان الرسل هم الأولى في هذا، ولكنهم بشر، لايعلمون إلا ما أطلعهم الله عليه، يقول تَعَالَى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27]، ويقول سُبْحَانَهُ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4627).
على لسان نبيه: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188].
ومن شواهد ذلك، ما يلي:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت:«وَمَنْ زَعَمَ أَنَّه صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، والله يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]»
(1)
.
ولما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفك لم يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أهي بريئة أم لا؟ حتى أخبره الله تَعَالَى بقوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26].
وذبح إبراهيم عليه الصلاة والسلام عجلًا للملائكة، ولم يعلم بأنهم ملائكة حتى خبروه، وقالوا له {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70].
ولما جاء الملائكة للوط لم يعلم- أيضًا- أنهم ملائكة، ولذا قال تَعَالَى عنه:{سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: 81].
الأثر الثالث: محبة الفتاح:
من آمن باسم الله الفتاح؛ أحبه وتعلق قلبه به، فهو سُبْحَانَهُ وحده بيده مقاليد كل شيء، ومفاتيح العلم والهدى والخير، ومفاتيح الغيب وما انغلق من الأمور، يقول تَعَالَى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]،
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(177).
ومن أحب الفتاح سُبْحَانَهُ أكثر من التضرع إليه بأن يفتح قلبه لهدايته، ومعرفة الحق والانقياد له، وأن يسأله الفتح لأبواب الرزق والخير والنصر.
الأثر الرابع: اليقين بفتح الله تعالى:
فمن آمن باسم الله الفتاح اطمأنت نفسه، وارتاح قلبه؛ وعلم أن ما يفتحه رب العالمين للناس من رحمته وإنعامه عليهم لا يقدر أحد كائنًا ما كان أن يمسكه عنهم، وما يمسكه عنهم من رحمته وإنعامه لا يقدر أحد كائنًا من كان أن يرسله إليهم، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، يقول تَعَالَى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2].
فلا يخاف المؤمن ضياع رزقه، أو انتهاك حقه، فالفتاح سيفتح ويكشف الحقائق ولو بعد زمن، كما برأ سُبْحَانَهُ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين اتهمت في عرضها، فقالت وهي موقنة واثقة بنصر الله: والله لا أقول إلا كما قال يعقوب عليه السلام: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، فجاء الفتح من الله و الحكم ببراءتها في عشر آيات في سورة النور، تُقرأ إلى يوم القيامة.
بل مهما طال ليل الظالم وكثر بغيه وظلمه للعباد؛ لا بد أن يفتح الله بين عباده بحكمه ونصره لمن اتبعه، ومهما تأخر ذلك النصر أو أبطأ ذلك التمكين فلا يتطرق الشك إلى الموحدين، فله سُبْحَانَهُ الحكمة من تأخير الفتح والنصر والتمكين، فلابد أن النصر آت، يقول تَعَالَى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
الأثر الخامس: السعي لتحصيل أسباب نيل الفتح من الله:
إن الفتح لا يكون إلا من الله سبحانه وتعالى، فهو يفتح على من يشاء ويخذل من يشاء، وقد نسب الله الفتوح لنفسه؛ ليبين لعباده أن الفتح منه لا من غيره، يقول تَعَالَى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]، ويقول سُبْحَانَهُ:{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52] وفي الآية الأخرى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، وقد هيأ الله تَعَالَى لعباده أسبابًا عدة لنيل الفتح منه تَعَالَى، ومن ذلك:
الإيمان والتقوى: يقول الله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].
محبة الله ورسوله، يقول صلى الله عليه وسلم يوم خيبر:«لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ»
(1)
.
الصدق، يقول تَعَالَى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
الدعاء، يقول تَعَالَى:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 10 - 11].
تحري أماكن الفتح الإلهي، ومن ذلك المساجد، ففي الحديث: قال صلى الله عليه وسلم: «لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُه»
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث (4210).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(713).
الأثر السادس: ليس كل فتح نعمة، فقد يكون فتنة:
فقد يكون الفتح استدراجًا من الله، يقول صلى الله عليه وسلم:«إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]»
(1)
.
وقال بعض السلف: إذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت مقيم على معاصيه فاحذره؛ فإنما هو استدراج منه يستدرجك به، وقد قال تَعَالَى:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الزخرف: 33 - 35].
وقد رد سُبْحَانَهُ على من يظن هذا الظن بقوله: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [سورة الفجر: 15 - 17]، أي: ليس كل من نعمته ووسعت عليه رزقه أكون قد أكرمته، وليس كل من ابتليته وضيقت عليه رزقه أكون قد أهنته، بل أبتلي هذا بالنعم، وأكرم هذا بالابتلاء
(2)
، وفي الحديث:«وَإِنَّ الله عز وجل وَإِنَّ اللهَ عز وجل يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ»
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(17854)، والطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(9272)، حكم الألباني: إسناده جيد، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(47).
(2)
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم (ص: 35).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(3727)، وأبو نعيم في الحلية، رقم الحديث:(4/ 166)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(1625).
يقول ابن القيم رحمه الله في التفريق بين النعمة والفتنة: «وأما تمييز النعمة من الفتنة: فليفرق بين النعمة التي يرى بها الإحسان واللطف، ويعان بها على تحصيل سعادته الأبدية، وبين النعمة التي يرى بها الاستدراج، فكم من مستدرَج بالنعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجهال عليه، مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه! وأكثر الخلق عندهم أن هذه الثلاثة علامة السعادة والنجاح، ذلك مبلغهم من العلم.
فإذا كملت هذه الثلاثة فيه عرف حينئذ أن ما كان من نعم الله عليه بجمعه على الله فهو نعمة حقيقة، وما فرقه عنه وأخذه منه فهو البلاء في صورة النعمة، والمحنة في صورة المنحة، فليحذر فإنما هو مستدرج، ويميز بذلك- أيضًا- بين المنة والحجة، فكم تلتبس إحداهما عليه بالأخرى!
فإن العبد بين منة من الله عليه، وحجة منه عليه، ولا ينفك عنهما، فالحكم الديني متضمن لمنته وحجته، قال الله تَعَالَى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] وقال {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17] وقال {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]»
(1)
.
الأثر السابع: تذكر يوم الفتح الحقيقي والاستعداد له:
يوم القيامة هو يوم الفتح الحقيقي، فإن الله سُبْحَانَهُ في ذلك اليوم يقضي ويفصل بين جميع العباد، فيبين الضال من المهتدي، وهو سُبْحَانَهُ لا يحتاج إلى شهود ليفتح بين خلقه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، وما كان غائبًا عما حدث في الدنيا سُبْحَانَهُ، يقول تَعَالَى:{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 7]،
(1)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 189).
فيوم القيامة يوم الفتح الأكبر، حيث تجتمع الخلائق كلها في صعيد واحد، فيحكم الله بينهم بالعدل، ويجزي كل عامل بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كما قال تَعَالَى:{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 26]، ويقول سُبْحَانَهُ في المجازاة:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 14 - 16].
وقد سمى الله يوم القيامة بيوم الفتح، فقال سُبْحَانَهُ:{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة: 29]؛ لأن الله عز وجل في هذا اليوم يفتح فيه على المؤمنين.
فعلى المؤمن أن لا يستعجل في دنياه الفتح، ولا ييأس أو يبتئس إن تأخر الفتح من ربه، فالنصر آت، وفتح ربك إن لم تنله في دنياك فهو مدخر لك يوم الفتح الأكبر، يوم تجازى على إحسانك وثقتك بربك وصبرك، فلا تترك للشيطان ووسوسته مجالًا لك.
الأثر الثامن: البذل والعطاء لمن جعل الله له مفاتيح الخير:
فمن مَنَّ الله عليه بشيء من الفتوح، سواء في علم أو مال أو جاه، فعليه أن يشكر الله بكريم بذله، وجزيل عطائه للناس، يقول تَعَالَى:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، وفي الحديث، يقول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ الله مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ الله مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ»
(1)
(2)
.
الأثر التاسع: دعاء الله باسمه الفتاح:
فالمؤمن يسأل الله فتحه في كل أمر يستغلق عليه أو يستصعبه، وقد كان هذا منهج الرسل جميعًا، ومنهم: نوح عليه السلام عندما دعا ربه وسأله الفتح، يقول الله عز وجل على لسانه:{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 117 - 118]، كذلك شعيب عليه السلام، يقول الله عز وجل على لسانه:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
(1)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(237)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(686)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(237).
(2)
أخرجه الطبراني، رقم الحديث:(8350)، حكم الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(2616).
بل إن سؤال الله الفتح ثبت في أذكار الصباح والمساء، ففي الحديث قال صلى الله عليه وسلم:«إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الْيَوْمِ، فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ، وَنُورَهُ وَبَرَكَتَهُ وَهُدَاهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ، ثُمَّ إِذَا أَمْسَى فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ»
(1)
.
اللهم إنا نسألك أن تفتح لنا من رحماتك ما تدخلنا به جناتك، وأفض علينا من خيراتك وبركاتك، إنك أنت الفتاح العليم.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5084)، والطبراني في مسند الشاميين، رقم الحديث:(1675)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5084).
القويُّ المتين جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
أولًا: اسم (القوي):
قال الجوهري رحمه الله: «القوة: خلاف الضعف، والقوة: الطاقة من الحبل، وجمعها: قوى، ورجل شديد القوى، أي: شديد أسر الخلق
…
»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «القاف والواو والياء أصلان متباينان، يدل أحدهما على شدة وخلاف ضعف، والآخر على خلاف هذا، وعلى قلة خير.
فالأول: القوة، والقوي: خلاف الضعيف، وأصل ذلك من القوى، جمع قوة من قوى الحبل
…
والأصل الآخر: القواء: الأرض لا أهل بها، ويقال: أقوت الدار: خلت»
(2)
.
ثانيًا: اسم (المتين):
قال الجوهري رحمه الله: «متن: المتن من الأرض: ما صلب وارتفع، والجمع متان ومتون
…
هو متين، أي: صلب»
(3)
.
(1)
الصحاح (6/ 2469).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 37).
(3)
الصحاح (6/ 2200).
قال ابن فارس رحمه الله: «الميم والتاء والنون، أصل صحيح واحد يدل على صلابة في الشيء مع امتداد وطول، منه المتن: ما صلب من الأرض وارتفع وانقاد، متان، ورأيته بذلك المتن، ومنه شُبِّه المَتْنَانِ من الإنسان: مُكْتَنِفَا الصُّلب من عصب ولحم
…
»
(1)
.
ورود اسم الله (القوي، المتين) في القرآن الكريم:
أولًا: ورود اسم الله (القوي) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (القوي) تسع مرات في كتاب الله، ومن وروده ما يلي:
قوله تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود: 66].
وقوله تَعَالَى: {فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [غافر: 22].
وقوله تَعَالَى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19].
ثانيًا: ورود اسم الله المتين في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (المتين) مرة واحدة في كتاب الله، وذلك في قوله تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].
ورود اسم الله (القوي المتين) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله (القوي) ولا (المتين) في السنة النبوية.
(1)
مقاييس اللغة (5/ 294).
معنى اسم الله (القوي المتين):
أولًا: معنى اسم الله القوي:
قال الطبري رحمه الله: «{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52] لا يغلبه غالب ولا يرد قضاءه رادٌّ، ينفذ أمره ويمضي قضاؤه في خلقه، شديد عقابه لمن كفر بآياته وجحد حججه»
(1)
، وقال رحمه الله:«{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ} [هود: 66] في بطشه إذا بطش بشيء أهلكه، كما أهلك ثمود حين بطش بها»
(2)
.
قال الزجاج رحمه الله: «القوي هو الكامل القدرة على الشيء، تقول: هو قادر على حمله، فإذا زدته وصفًا قلت: هو قوي على حمله، وقد وصف نفسه بالقوة، فقال عز قائلًا: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]»
(3)
.
وقال الزجاجي رحمه الله في موضع آخر: «القوي: ذو القوة والأيد
…
فالله عز وجل قوي قادر على الأشياء كلها، لا يعجزه شيء منها»
(4)
.
قال الخطابي رحمه الله: «القوي قد يكون بمعنى القادر، ومن قوي على شيء فقد قدر عليه، ويكون معناه: التام القوة الذي لا يستولي عليه العجز في حال من الأحوال»
(5)
.
(1)
تفسير الطبري (11/ 233).
(2)
تفسير الطبري (12/ 457).
(3)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 54).
(4)
اشتقاق أسماء الله (ص: 149).
(5)
شأن الدعاء (ص: 77).
قال الغزالي رحمه الله: «القوة تدل على القدرة التامة، والمتانة تدل على شدة القوة، والله سبحانه وتعالى من حيث إنه بالغ القدرة تامها قويٌّ»
(1)
.
قال القرطبي رحمه الله: «وقيل: القوي هو المقوي لغيره، فيكون من صفات الفعل»
(2)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «هذه الأسماء الثلاثة العظيمة (القدير، القوي، العزيز) معانيها متقاربة، فهو تَعَالَى كامل القوة، عظيم القدرة، شامل العزة {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 65]، فمعاني العزة الثلاث كلها كاملة لله العظيم: عزة القوة الدال عليها من أسمائه القوي المتين، وهي وصفه العظيم الذي لا تنسب إليه قوة المخلوقات وإن عظمت
…
»
(3)
.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في النونية:
وَهوَ القَوِيُّ بِقُوَّةٍ هِيَ وَصْفُهُ
…
وَمَلِيكٌ يَقْدرُ يَا أَخَا السُّلْطَانِ
وقال:
وَهوَ القَوِيُّ لَهُ القُوَى جَمْعًا تَعَا
…
لَى اللهُ ذُو الأَكْوَانِ والسُّلْطَانِ
(1)
المقصد الأسنى (ص: 129).
(2)
الأسنى في شرح الأسماء الحسنى (ص: 259).
(3)
الحق الواضح المبين (ص: 44).
ثانيًا: معنى اسم الله المتين:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «قوله: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] الشديد»
(1)
.
قال الطبري رحمه الله: «اختلفت القرَّاء في قراءة قوله (المَتِين)، فقرأته عامة قرَّاء الأمصار- خلا يحيى بن وثاب والأعمش-:{ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] رفعًا، بمعنى: ذو القوة الشديد، فجعلوا المتين من نعت ذي، ووجهوه إلى وصف الله به
…
والصواب من القراءة في ذلك عندنا {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] رفعًا على أنه من صفة الله جل ثناؤه»
(2)
.
قال الأزهري رحمه الله «ذو القوة المتين: ذو الاقتدار الشديد، والمتين في صفة الله تَعَالَى القوي»
(3)
.
قال الخطابي رحمه الله في معنى المتين: «والمتين: الشديد القوي الذي لا تنقطع قوته، ولا تلحقه في أفعاله مشقة ولا يمسه لغوب»
(4)
.
قال الحَليمي رحمه الله: «المتين: وهو الذي لا تتناقص قوته فيهن ويفتر»
(5)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52] أي: لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب»
(6)
.
(1)
تفسير الطبري (12/ 557).
(2)
تفسير الطبري (22/ 445).
(3)
تهذيب اللغة (14/ 218).
(4)
شأن الدعاء (ص: 77).
(5)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 199).
(6)
تفسير ابن كثير (4/ 78).
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «{ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] أي: الذي له القوة والقدرة كلها
…
»
(1)
.
اقتران اسم الله (القوي المتين) بأسمائه الأخرىسُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (القوي) بأسمائه الأخرى:
- اقترن اسم الله القوي باسمه العزيز:
تقدم بيانه في اسم الله (العزيز).
ثانيًا: اقتران اسم الله (المتين) بأسمائه الأخرىسُبْحَانَهُ:
- اقترن اسم الله (المتين) باسم الله (الرزاق):
تقدم بيانه في اسم (الرزاق).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله القوي المتين:
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (القوي، المتين) من صفات الله سُبْحَانَهُ:
الله عز وجل القوي المتين الذي بلغ الغاية في القوة والمنتهى، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] أي: شدة القوة، وشدة العزة، وشدة معاني الجبروت كلها، ومن مظاهر قوته تَعَالَى:
أنه القوي المتين الذي قوته فوق كل قوة، بل القوى تتصاغر أمام قوته، وتتضاءل عند ذكر عظمته، ولا يثبت لها شيء مهما قوي.
(1)
تفسير السعدي (ص: 813).
وما من مخلوق له قوة إلا والله أقوى منه، بل لا تناسب بين القوتين؛ فقوة المخلوق محدودة ببعض الشيء، وقوته سبقها عجز ويلحقها عجز كذلك، وقوته يعتريها التعب والوهن والفتور، وقوته تنزع بعض الأحيان منه، بل ولا بد لها من الفناء والزوال، إضافة إلى أنها قوة فقير يفتقر معها إلى الأعوان والجند، بل يفتقر إلى عون القوي المتين، وقوته تبارك وتعالى لا حدَّ لها، بل هو على كل شيء قدير، لا يستولي عليه العجز في حال من الأحوال، ولا يعيه خلق شيء مهما كان، ولا يمسه نصب ولا لغوب، ولا تتناقص قوته ولا تفنى، بل لها الدوام أبدًا، ومع ذلك لا يحتاج معها إلى جند ولا مدد ولا إلى معين أو عاضد {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]
(1)
.
بل إن قوة المخلوق إنما هي من آثار قوته، فجميع القوى هي له سُبْحَانَهُ، فهو الذي أودع المخلوقات ما فيها من قوة، ولو شاء لسلبها، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال تَعَالَى:{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]
(2)
، ولما اغترت عاد بقوتها، وقالت: من أشد منَّا قوة؟ ذكرهم الله بخلقه لهم ولقواهم، فقال:{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15]
(3)
.
(1)
ينظر: شرح القصيدة النونية، للهراس (2/ 78).
(2)
ينظر: شرح القصيدة النونية، للهراس (2/ 78 - 79).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 169)، وتفسير السعدي (ص: 746)، وشرح القصيدة النونية، للهراس (2/ 79).
وهو القوي المتين، الذي لا يغلبه غالب، ولا يرد قضاءه راد، بل ولا يعارضه معارض، أمره نافذ، وقضاؤه في خلقه ماضٍ، يعز من يشاء، ويذل من يشاء بلا ممانعة ولا مدافعه، فالقوة لله جميعًا، لا منصور إلا من نصر، ولا عزيز إلا من أعز، ولا قوي إلا من قوَّى
(1)
، قال تَعَالَى:{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165]«أي: إن الحكم له وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه»
(2)
.
وهو القوي المتين، الذي له القوة في الدنيا والآخرة، قال تَعَالَى:{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165]
(3)
، ومن شواهد ذلك ما يلي:
- أولًا: شواهد قوته سُبْحَانَهُ في الدنيا
(4)
:
خلقه للمخلوقات العلوية والسفلية، لا سيما ذات القوة والعظمة منها، كما هو الشأن في السماء التي رفعها بغير عمد ووسع أرجاءها وأنحاءها، قال تَعَالَى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]«أي: بقوة. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والثوري، وغير واحد»
(5)
، وكالأرض وما فيها من سعة ومعالم مختلفة: جبال، وهضاب، وأودية، وبحار، وأنهار، وسهول
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 436)، وفقه الأسماء الحسنى، لعبد الرزاق البدر (ص: 178).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 477).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (3/ 283).
(4)
ينظر: تفسير السعدي (546)، والحق الواضح المبين، للسعدي (45 - 46).
(5)
تفسير ابن كثير (7/ 424).
ونحو ذلك، وكالمعادن والصخور والحجارة التي فيها من الصلابة والقسوة ما فيها، قال تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]، وقال سُبْحَانَهُ:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74].
خلقه للسماوات والأرض، مع ما فيهما من عظم الخلقة في ستة أيام، من غير أن يمسه شيء من التعب أو النصب، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، إضافة إلى إمساكه لهما من الزوال من غير أن يثقله ذلك أو يشق عليه، قال تَعَالَى:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
كثرة الخلق واختلاف صورهم وألسنتهم وطباعهم، والكل كخلق نفس واحدة، قال تَعَالَى:{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]
(1)
.
تكفله بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض، صغيرها وكبيرها، بحريها، وبريها، وجويها، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، وقال سُبْحَانَهُ:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19]
(2)
.
نصرته لأوليائه، مع قلة عددهم وعُددهم، على أعدائهم الذين فاقوهم بكثرة العدد والعُدة، قالتَعَالَى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 651).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 305).
قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]، وقال سُبْحَانَهُ:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وقال:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25].
ما أوقعه بالأمم المكذبين، والكفار الظالمين من أنواع العقوبات وحلول المثلات، وأنه لم يغن عنهم كيدهم ومكرهم، ولا أموالهم، ولا جنودهم، ولا حصونهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب، قال تَعَالَى عن عاد:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 16]، وقال سُبْحَانَهُ عن ثمود:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود: 66] وقال عن الأحزاب: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25]، وقال:{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 52].
وكذا في العصر الحاضر، فإن هذه القوة الهائلة، والمخترعات الباهرة التي وصلت إليها مقدرة الأمم هي من آثار قوة الله، وتعليمه إياهم ما لم يكونوا يعلمون، فمن قوة الله وآياته: أن قوَّاهم وقدَّرهم، ومخترعاتُهم لم تغن عنهم شيئًا في صد ما أصابهم من النكبات، والعقوبات المهلكة مع بذل جدهم واجتهادهم في توقي ذلك، ولكن أمر الله غالب، وقوته فوق كل قوة، وقدرته تنقاد لها عناصر العالم العلوي والسفلي.
- ثانيًا: شواهد قوته سُبْحَانَهُ في الآخرة: كما قال سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165]، والتي منها:
ما يحصل للأجرام القوية من ضعف واضطراب، فالأرض ترجف، والجبال تتصدع حتى تكون كالعهن، ثم تدك دكًّا، فتكون هباء منبثًّا، والبحار تسجَّر، والسماء تتفطَّر، والشمس والقمر تكوَّر، والنجوم تنتثر
(1)
.
بعث الخلق كلهم بعد ما مزقهم البلى، وعصفت بترابهم الرياح، وابتلعتهم الطيور والسباع، وتفرقوا وتمزقوا في مهامه القفار، ولجج البحار، فلا يفوته منهم أحد، ويعلم ما تنقص الأرض منهم، ثم إن هذا البعث كله للأولين والآخرين في صيحة واحدة، وكأنهم نفس واحدة، فسبحان القوي المتين
(2)
.
قيام الخلق كلهم، حتى القوي الشديد، خاشعة أبصارهم، ذليلة وجوههم، خاضعة رقابهم، جاثية ركبهم، خارصة ألسنتهم عن الكلام إلا بإذنه
(3)
.
حسابه لعباده حسابًا سريعًا، مع كثرتهم وكثرة أعمالهم، وحكمه الحق فيهم، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء
(4)
.
النار وما فيها من العذاب، والتي إذا أبصرها الظالمون أيقنوا أن القوة
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 513، 532).
(2)
ينظر: المرجع السابق (ص: 813).
(3)
ينظر: المرجع السابق (513).
(4)
ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 463).
لله جميعًا، وأن أندادهم ليس فيها، ولا له من القوة شيء، لا كما اشتبه عليهم في الدنيا، وظنوا أن لها من الأمر شيئًا، وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه، قال تَعَالَى:{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165]
(1)
.
ما يحدثه لأهل النار من أنواع العقاب وأهل الجنة من أنواع الثواب، وأصناف النعيم المستمر الكثير المتتابع الذي لا ينقطع، ولا يتناهى، فسبحان القوي المتين الذي لا انقطاع لقوته ولا نهاية لها.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (القوي، المتين) على التوحيد:
إذا علم العبد أن ربه القوي المتين، وأن كل من دونه ليس له شيء من الحول ولا القوة، فلا تحول له من مرض إلى صحة، ولا من وهنٍ إلى قوة، ولا من نقصان إلى كمال وزيادة إلا بالله القوي المتين، ولا قوة له في جلب خير، ولا دفع ضر، ولا القيام بشأن من شؤونه، أو تحقيق هدفٍ من أهدافه أو غاية من غاياته إلا بالله القوي المتين
(2)
، ولا قدرة له على خلق شيء ولو كان ذبابًا أو بعوضًا، كما قال سُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]- قاده ذلك العلم إلى توحيد الله في العبادة؛ إذ كل ما سواه شأنه ما ذكر، فكيف يتخذ إلهًا يعبد؟ وكيف يجعل مثلَ الله القوي ويشرك معه؟
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 80).
(2)
ينظر: فقه الأدعية والأذكار (1/ 302).
إلا إن عُبَّاد الأوثان كما قال تَعَالَى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 74]
(1)
، ولربما اشتبه عليهم الأمر، ولبَّست عليهم الشياطين، فظنوا أن لأندادهم من الأمر شيئًا، أو أنها تقربهم إلى الله زلفى، فإذا كانت القيامة انكشف الغطاء وتبين لهم بطلان زعمهم وظنهم.
فلا تدفع عنهم أندادُهم شيئًا، ولا تغني عنهم مثقال ذرة من النفع، بل يحصل لهم الضرر منها، من حيث ظنوا نفعها، قال تَعَالَى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 165 - 167]
(2)
.
وكما أن اسمي الله القوي المتين دالان على توحيد الربوبية والألوهية، فكذا هما دالان على توحيد الأسماء والصفات؛ إذ يدلان على اسم الله القدير، والعزيز، والجبار، والقهار، وذو الجلال والإكرام، إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
(1)
ينظر: تفسير الطبري (18/ 686)، وتفسير ابن كثير (5/ 454)، وتفسير السعدي (ص: 546).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 80).
الأثر الثالث: التوكل على الله والاستعانة به:
كل إنسان عنده مطالب ومخاوف، وربما تعلق بما عنده أو عند غيره من القوة البدنية أو المالية أو النسبية أو نحو ذلك؛ لتحصيل مطلوبه أو دفع مكروهه، لكن إذا نظر لنفسه وللخلق من حوله بعين البصيرة، وجد أن الكل ولو أوتي من القوة ما أوتي فقير مسكين، ليس له من القوة ولا الحول إلا ما أعطاه الله إياه وأذن له فيه، ثم إن قوته قد تعجز عن مراده، ولربما بخلت بقضاء حاجته، وربما سعت، لكن وقفت أمامها قوة أخرى، فإذا كان هذا حال قوته، ففيما التعلق به؟!.
ثم إذا نظر من جانب آخر إلى ربه القوي المتين، وجد أنه غني لا يحتاج لإنفاذ قوته لإذن أحد ولا معونته، ثم إنه على كل مطالبه ومخاوفه قادر، وهو مع ذلك كريم لا يبخل، ولا يمكن لقوة مهما كانت أن تغلب قوته أو تدافعها أو تعارضها، فالقوة جميعًا له سُبْحَانَهُ {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة: 165].
فإذا حصل النَّظَران تواضع العبد لربه وخضع، وانقطع عن قلبه التعلق بقوته والاغترار بها
(1)
، وكذا قوة المخاليق من حوله، وتعلق بالقوي المتين توكلًا واستعانة وتفويضًا لأمره كله، وتبرؤًا من الحول والقوة إلا به
(2)
.
وهذه حقيقة «لا حول ولا قوة إلا بالله» ؛ إذ هي كلمة إسلام واستسلام، وتفويض والتجاء وتبرؤ من الحول والقوة إلا بالله، وأن العبد لا يملك من أمره شيئًا، وليس له حيلة في دفع شر، ولا قوة له في جلب خير إلا بإذن الله،
(1)
المراد: قوة نفسه.
(2)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى، البدر (ص: 181).
ولا قوة له على ترك معصية، ولا فعل طاعة إلا بالله، ولا تحوُّل له من حال إلى حال إلا بالله، فلا تحوُّل له من معصية إلى طاعة، ولا من مرض إلى صحة، ولا وهن إلى قوة، ولا من نقص إلى زيادة إلا بالله، ولا قوة للعبد على القيام بأي شأن من شئونه- ولو صغر- إلا بالله، فما شاء الله كان كما شاء في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء من غير زيادة ولا نقصان، ولا تقدُّم ولا تأخر، وما لم يشأ لم يكن، فأزِمَّةُ الأمور بيده سُبْحَانَهُ، وأمورُ الخلائق معقودة بقضائه وقدره، يصرفها كيف يشاء ويقضي فيها بما يريد، لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه، فسبحان القوي المتين
(1)
.
وكلمة «لا حول ولا قوة إلا بالله» كلمة إخلاص لله وحده بالاستعانة، كما أنَّ كلمةَ التوحيد «لا إله إلا الله» إخلاص لله بالعبادة، فلا تتحقق «لا إله إلا الله» إلا بإخلاص العبادة كلِّها لله، ولا تتحقَّق «لا حول ولا قوة إلاَّ بالله» إلا بإخلاص الاستعانة كلِّها لله، وقد جمع الله بين هذين الأمرين في سورة الفاتحة، أفضل سورة في القرآن، وذلك في قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]،
فالأول تبرؤٌ من الشرك، والثاني تبرؤٌ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عز وجل، والعبادة متعلِّقة بألوهية الله سُبْحَانَهُ، والاستعانة متعلِّقة بربوبيَّته، والعبادة غاية، والاستعانة وسيلة، فلا سبيل إلى تحقيق تلك الغاية العظيمة- العبادة- إلا بهذه الوسيلة- الاستعانة بالله الذي لا حول ولا قوة إلاَّ به-
(2)
.
(1)
ينظر: النهج الأسمى (2/ 39 - 40)، وفقه الأدعية والأذكار (1/ 301)، وفقه أسماء الله الحسنى، للبدر (ص: 181).
(2)
ينظر: فقه الأدعية والأذكار (1/ 303).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «تأمَّلتُ أنفعَ الدعاء، فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]»
(1)
.
وقال أيضًا: «وقول: (لا حول ولا قوة إلاَّ بالله) يوجب الإعانة؛ ولهذا سنَّها النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال المؤذِّن: حي على الصلاة، فيقول المجيب: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا قال: حي على الفلاح، قال المجيب: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، وقال المؤمن لصاحبه:{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]، ولهذا يُؤمر بهذا من يخاف العين على شيء، فقوله: ما شاء الله، تقديره: ما شاء الله كان، فلا يأمن، بل يؤمن بالقدر، ويقول: لا قوة إلاَّ بالله
…
وذلك أنَّها تتضمن التوكُّل والافتقار إلى الله تَعَالَى، ومعلوم أنَّه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله وقدرته، وأنَّ الخلق ليس منهم شيء إلا ما أحدثه الله فيهم، فإذا انقطع القلب للمعونة منهم وطلبها من الله فقد طلبها من خالقها الذي لا يأتي بها إلا هو
…
ولهذا يأمر الله بالتوكل عليه وحده في غير موضع، وفي الأثر:(مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ فَلْيَكُنْ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدِهِ)
(2)
»
(3)
.
وإذا علم ما سبق؛ علم خطأ من يقولها حال المصائب بمنزلة الاسترجاع؛ إذ هي كلمة استعانة لا استرجاع
(4)
.
(1)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 100).
(2)
أخرجه الحارث في المسند، رقم الحديث:(1070)، واللفظ له، والحاكم في المستدرك، رقم الحديث:(7702).
(3)
مجموع الفتاوى (9/ 224).
(4)
ينظر: الاستقامة (2/ 81)، وفقه الأدعية والأذكار (1/ 303).
وهذه الكلمة جليلة الشأن، كبيرة القدر، عظيمة الأثر، رغب فيها الشارع ورتب عليها الأجور العظيمة، ومن ذلك
(1)
:
أن النبي صلى الله عليه وسلم دل على قولها من لا يستطيع تعلم القرآن؛ فعن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي مِنْهُ، فَقَالَ: قُلْ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا لِلهِ، فَمَا لِي؟ قَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي، فَلَمَّا قَامَ قَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَهُ مِنَ الْخَيْرِ»
(2)
.
أن عددًا من الصحابة والتابعين عدوها من الباقيات الصالحات، التي قال الله فيها:{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46]؛ فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه سُئل عن «الباقيات الصالحات» ما هي؟ فقال:«هي: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله»
(3)
، وعن سعيد بن المسيب، أنه قال:«الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله»
(4)
.
(1)
ينظر: فقه الأدعية والأذكار (1/ 295، وما بعدها)، وفقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 181).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(19416)، وأبو داود، رقم الحديث:(832)، والنسائي، رقم الحديث:(924)، وعبد بن حميد، رقم الحديث:(524)، حكم الألباني: حسن، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(1807).
(3)
تفسير الطبري (15/ 277).
(4)
تفسير الطبري (15/ 277).
أنها سبب لتكفير السيئات؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا عَلَى الْأَرْضِ رَجُلٌ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَالله أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله، إِلَّا كُفِّرَتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ، وَلَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ»
(1)
.
أنها كنز من كنوز الجنة؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: قُلْ: لَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ»
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، قَالَ: أَحْسِبُهُ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ عز وجل: أَسْلَمَ عَبْدِي وَاسْتَسْلَمَ»
(3)
.
أنها غرس الجنة؛ فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَرَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَنْ مَعَكَ يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ مُرْ أُمَّتَكَ فَلْيُكْثِرُوا مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ تُرْبَتَهَا طَيِّبَةٌ، وَأَرْضَهَا وَاسِعَةٌ، قَالَ: وَمَا غِرَاسُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ»
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(6590)، والترمذي، رقم الحديث:(3460)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1818).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2704).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(10887)، والطبراني في الدعاء، رقم الحديث:(1635)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(2614).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(24035)، وابن حبان، رقم الحديث:(821)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(3898)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(105).
أنها باب من أبواب الجنة؛ فعن قيس بن سعد بن عبادة، أنَّ أباه دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخدمه، قال:«فَمَرَّ بِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْن، فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ»
(1)
.
أنها سبب في تسهيل الصعاب وحمل الثقال؛ قال ابن القيم رحمه الله: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يذكر أثرًا في هذا الباب، ويقول: إن الملائكة لما أمروا بحمل العرش، قالوا: يا ربنا، كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قالوا حملوه
…
وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معالجة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، والدخول على الملوك ومن يُخاف، وركوب الأهوال»
(2)
.
الأثر الرابع: الشعور بالعزة والنصر من القوي المتين:
اليقين باسم الله (القوي المتين) يعطي المسلم شعور بالعزة وعدم الخوف من الخلق مهما كانت قوتهم؛ لأن الكل ضعيف أمام قوة الله عز وجل، لا يملك حولًا ولا قوة.
كما أن هذا الاسم الكريم يعطي المسلم ثقة بنصر الله للإسلام والمسلمين وكفايته لهم، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20 - 21] «وهذا
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(15719)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10115)، والترمذي، رقم الحديث:(3581)، وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(2610).
(2)
الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 77).
وعد لا يخلف ولا يغير؛ فإنه من الصادق القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء يريده»
(1)
.
فلا بد أن ينتصر الإسلام والمسلمين يومًا ما، وإن عظمت قوة أعدائهم وكثر عددهم، فالله فوقهم ونواصيهم بيده، وقوتهم لا شيء في جنب قوته.
ففي يوم الأحزاب الذي اجتمع فيه أهل الكفر من كل حدب وصوب، وجمعوا من القوة ما جمعوا كل ذلك لحرب ثلة من المؤمنين لا تكفؤهم في العدد ولا العدة، ومع ذلك نصر القوي عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ورد جموع الكفر خائبة لم تنل خيرًا، قال تَعَالَى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25]
(2)
.
إلا أنه لا بد للنصر من الأخذ بالأسباب التي من أهمها التمسك بالدين، واجتماع الكلمة، ونصرة الدين بالقول والفعل، واتخاذ العدة والقوة اللازمة، قال تَعَالَى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
الأثر الخامس: محبة الله القوي المتين:
الإنسان بطبعة جُبِل على حُبِّ مَن له الكمال والعظمة، والله عز وجل القوي المتين الذي لا حد لقوته، ولا ضعف معها، ولا عجز، ولا نصب، ولا ظلم، بل بلغ فيها غاية الكمال ومنتهاه.
(1)
تفسير السعدي (ص: 848).
(2)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 40 - 41).
فإذا تيقن العبد هذا؛ أحب الله القوي المتين غاية الحب وأعظمه، فذلك من صفات أهل الإيمان، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165].
الأثر السادس: اتصاف المؤمن بالقوة:
الله عز وجل القوي المتين، ويحب من عباده القوة فيما شرع لهم من الطاعات وأباح لهم من المنافع؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»
(1)
، وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب؛ لقوته في دين الله، فقال: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللهِ عُمَرُ
…
»
(2)
.
والقوة تختلف في كل شيء بحسبه؛ ومن ذلك:
القوة في الدين: القيام بما أوجب الله على أتم الوجوه وأكملها، مع الزيادة عليها بفعل النوافل التي شرعها الله، واجتناب ما حرم الله، مع العزيمة الصادقة والحزم المتين والصبر الجميل أمام المغريات والشهوات
(3)
، قال الإمام النووي رحمه الله في تفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والْمُؤْمِنُ
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2664).
(2)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(154)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(868).
(3)
ينظر: شرح رياض الصالحين، لابن عثيمين (2/ 77).
الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»
(1)
(2)
.
القوة في أخذ الكتاب: التي أمر الله بها يحيى، في قوله:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، وأمر بها موسى وبني إسرائيل، في قوله:{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145]، وقوله:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63] وأمة محمد صلى الله عليه وسلم من بعدهم تكون: بالجد والاجتهاد في حفظ ألفاظ الكتاب، وفهم معانيه، والعمل بأوامره واجتناب نواهيه
(3)
.
القوة في طلب العلم الشرعي: بالاجتهاد في تحصيله حفظًا وفهمًا وعملًا، واتخاذ الوسائل والطرائق الموصلة إلى تثبيت ودوامه واستمراره.
القوة في العمل الدنيوي بالقدرة على القيام به أولًا، ثم الاجتهاد في إتقانه وتكميله، مع مراعاة الأمانة وعدم الخيانة، كما قالت المرأة في وصف
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2664).
(2)
شرح النووي على مسلم (16/ 215).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 490).
موسى عليه السلام: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] «أي: إن موسى أولى من استُؤجِر، فإنه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استؤجَر: من جمعهما، أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملًا بإجارة أو غيرها، فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما باجتماعهما، فإن العمل يتم ويكمل
…
».
(1)
، وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إِنَّ الله تبارك وتعالى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ)
(2)
، وهكذا القوة في سائر الأمور.
وليس معنى هذا: الظلم والتسلط والبطش بالضعفاء والمساكين، ومن تحت يد الإنسان من الزوجة، والولد، والعاملين، والتلاميذ، والخدم، ونحو ذلك، قال تَعَالَى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 9 - 10] بل هذه القوة سبب لعقوبة الله وعذابه، فهذه عادٌ لما استعملت قوتها في الظلم والبغي أهلكها القوي المتين، قال الله عنهم:{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 15 - 16]، وقال لهم نبيهم:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 128 - 131] إلى أن قال سُبْحَانَهُ: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
(1)
تفسير السعدي (ص: 614).
(2)
سبق تخريجه.
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 139 - 141]
(1)
.
وهذا فرعون وملؤه حينما استخدموا قوتهم في تعذيب بني إسرائيل وقهرهم، كما قال سُبْحَانَهُ عن صنيعهم:{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] أخذهم القوي المتين أخذ عزيز مقتدر، قال تَعَالَى:{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 40 - 42]، وهكذا في كل من استعمل قوته البدنية أو المالية أو الجاهية ونحو ذلك في الظلم والبغي؛ فإن كل قويٍّ اللهُ أقوى منه، وأقدر عليه من قدرته على من ظلم؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود إذ رآه يضرب غلامًا له بسوط:«اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ»
(2)
.
فاللهم يا قوي يا متين، لا حول لنا ولا قوة إلا بك، أَعِنَّا بعونك، وَقَوِّنَا بقوتك، وأَمِدَّنَا بمددك، وانصرنا بنصرك.
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (2/ 41 - 42).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث): 1659).
المُبِيْنُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «أبان الشيء فهو مبين، وأبنته أنا: أي أوضحته، واستبان الشيء: وضح، واستبنته أنا: عرفته، والتبيين: الإيضاح، والوضوح»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(بين) الباء والياء والنون أصل واحد، وهو بعد الشيء وانكشافه،
…
وبان الشيء وأبان إذا اتضح وانكشف، وفلان أبين من فلان: أي أوضح كلامًا منه»
(2)
.
ورود اسم الله (المبين) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (المبين) في القرآن الكريم مرة واحدة، في قوله تبارك تَعَالَى:{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25].
ورود اسم الله (المُبِيْنِ) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله المبين في السنة النبوية.
(1)
الصحاح (6/ 361).
(2)
مقاييس اللغة (1/ 328).
معنى اسم الله (المُبِيْنِ):
يدور معنى اسم الله (المُبِيْنِ) في حقه تَعَالَى حول معنيين:
الأول: بيانه وظهوره سُبْحَانَهُ لكل أحد، بأدلة واضحة ظاهرة بيِّنة تدل على وجوده تَعَالَى ووحدانيته في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
الثاني: بيان الله الحق للخلق، وإظهاره لهم بأبين طريق وأوضحه، ومن ذلك إرسال الرسل وإنزال الكتب، وكذلك الأقدار التي تبين للعبد أن الله هو الحق المبين.
وعلى هذين المعنيين تدور أقوال العلماء، ومنها:
قال الطبري عند قوله تَعَالَى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25]«يعلمون يومئذٍ أنَّ الله هو الحق، الذي يُبيِّنُ لهم حقائق ما كان يعدهم في الدنيا من العذاب، ويزول حينئذ الشكُّ فيه عن أهل النفاق الذين كانوا فيما يَعدهم في الدنيا يمترون»
(1)
.
قال الخطابيُّ رحمه الله: «المبين هو البَيِّنُ أمْرُهُ في الوحدانية، وأنه لا شريك له»
(2)
.
وقال الحليميُّ رحمه الله: «المبين وهو الذي لا يَخْفَى
…
؛ لأنَّهُ له من الأفعالِ الدَّالَّةِ عليه ما يستحيلُ معها أن يخفَى»
(3)
.
(1)
تفسير الطبري (18/ 84).
(2)
شأن الدعاء (ص: 102).
(3)
المنهاج (1/ 189).
قال الزجاجيُّ رحمه الله: «
…
فالله عز وجل المُبِيْنُ لعباده سبيلَ الرَّشاد، والموضِّح لهم الأعمالَ الموجبةَ لثوابه والأعمالَ الموجبةَ لعقابه، والمبينُ لهم ما يأتونه ويَذَرُونه»
(1)
.
اقتران اسم الله (المُبِيْنِ) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
- اقتران اسم الله (المُبِيْن) باسمه تَعَالَى (الحقِّ):
تقدم بيانه في اسم الله (الحق).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (المبين):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (المبين) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
إن من أعظم صفات الله عز وجل صفة البيان، فهو سُبْحَانَهُ الذي أبان لخلقه سبيل معرفته، وتوحيده، وأبان منهج الفوز بجنته ومرضاته، والنجاة من عقابه.
وللبيان الرباني مسلكان، وهما:
الأول: البيان بما فَطَرَ الله عليه الناسَ مِن التوحيد {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، وبما أنزل إليهم من الكتب، يقول تَعَالَى عن القرآن:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء: 2]، وبما أرسل إليهم من الرسل، يقول سُبْحَانَهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ
(1)
اشتقاق الأسماء الحسنى (ص: 181).
يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]، وقال عز وجل:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].
ولذا كانت معجزات الرسل آيات بَيِّنَات؛ لتدل على صدق الرسل الذين جاءُوا بها، وصِدْق الدِّينِ الذي جاءُوا به {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة: 211]، وقال:{قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73]، كما بيَّن الله عز وجل الحقَّ في كتبه، وعلى ألسنة رسله في الدنيا، فإنه يُبِيِّن لهم الذي اختلفوا فيه يوم القيامة، قال تَعَالَى:
{وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 92].
الثاني: البيان بالآيات الكونية الدالة عليه سُبْحَانَهُ، يقول ابن القيم رحمه الله:«ومن الآيات التي في الأرض: ما يحدثه الله فيها كل وقت، ما يصدق به رسله فيما أخبرت به، فلا تزال آيات الرسل وأعلام صدقهم، وأدلة نبوتهم، يحدثها الله في الأرض؛ إقامةً للحجة على من لم يشاهد تلك الآيات التي قاربت عصر الرسل، حتى كأن أهل كل قرن يشاهدون ما يشاهده الأولون أو نظيره، كما قال تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]»
(1)
.
فالله سُبْحَانَهُ بهذا التنوع والشمول البياني قد أقام الحجة على عباده كلهم، فصار هذا القرآن نبراسًا وهدىً وبيانًا لمن أراد النفع والهداية في أمر دينه ودنياه، وبه يصل المؤمن لثمار عديدة، لعل من أبرزها:
(1)
التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (1/ 184)، والنهج الأسمى، للنجدي (2/ 19).
- تحقيق التقوى في القلوب: يقول تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
- التأمل والتفكر في مخلوقات الله: يقول تَعَالَى {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219].
- التذكر والاتعاظ: يقول تَعَالَى: {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221].
- سعة العلم: يقول تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230].
- حصول الهداية: يقول تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
- الشكر على النعماء: يقول تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89].
- إعمال العقل بمجاله: يقول تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61].
وحريٌّ بمن عرف اسم الله (المبين) وآمن به أن يوحده سُبْحَانَهُ بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ويستغني به عن خلقه، فيسأله إبانه الحق والهدى والتقوى، وسبل الرحمة والمغفرة.
الأثر الثاني: محبة المبين سُبْحَانَهُ:
إذا علم العبد أن ربه لم يتركه هملًا ولا متخبطًا تائهًا في هذه الحياة، وإنما عرَّفه بخالقه وأسمائه وصفاته، وبيَّن له الغاية من وجوده، ثم بيَّن منهج تحقيق هذه الغاية بتشريع أحكام وعبادات تحقق له الاطمئان والسعادة الأبدية، وتقوده إلى دار الكرامة التي اشتاق لها وعرف الكثير من نعيمها ودوامها، إن علم العبد هذا كله عن ربه أحبه واشتاق لرؤيته وسعى لرضاه ومرضاته.
الأثر الثالث: تدبر كتاب الله المبين:
فهو كلام الله تَعَالَى ومن صفاته: أنه كتاب معجز مبين، يقول تَعَالَى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16]، ويقول سُبْحَانَهُ:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف: 1]، وقال تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 9].
ففي القرآن البيان البيِّن الواضح لكل ما يحتاجه البَشَر في حياتهم، بأروع عبارة وأجمل أسلوب.
وفي القرآن بيان كل شيء من البداية إلى النهاية، حتى يستقر أهل الجنة في نعيمهم، وأهل النار في جحيمهم.
فمعرفة الله سُبْحَانَهُ، ومعرفة أسمائه وصفاته، وما يجب له تَعَالَى وما لا يجب، والعقيدة الإسلامية، وأحكام العبادات والمعاملات، وجميع الشئون الاجتماعية، والأحوال الشخصية، وكل ما تحتاجه المجموعة البشرية، في كل
زمان ومكان، وأحكام المعاد، والبعث والنشور، والحساب والجزاء والعقاب
…
وغير ذلك مما هو مبيَّن وموضَّح، وصدق الله تَعَالَى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12].
وبالقرآن تحدى الله عظماء العرب وبلغاءهم أهل البيان بأن يأتوا بمثل القرآن، في قوله تَعَالَى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، وفي آية أخرى تحدى الله العالمين أن يأتوا بعشر سور من مثل سور القرآن، فقال تَعَالَى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13]، وفي موضع آخرتحداهم بالإتيان بسورة واحدة مثل القرآن الكريم، مهما صغرت هذه السورة، فقال تَعَالَى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24].
فالقرآن كتاب رباني بيِّن معجز في لفظه ومعانيه وأحكامه، وبيانه من عدة وجوه:
1 -
البيان في اللفظ:
فالقرآن نزل باللسان العربي المبين، يقول تَعَالَى:{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 2 - 3]، ولأجل هذا البيان أنكر الله على المشركين اعتراضهم الذي لاوجه له، فقال تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]، ففي هذه الآية:«يخبر تَعَالَى عن فضله وكرمه، حيث أنزل كتابًا عربيًّا، على الرسول العربي، بلسان قومه؛ ليبين لهم، وهذا مما يوجب لهم زيادة الاعتناء به، والتلقي له والتسليم، وأنه لو جعله قرآنًا أعجميًّا، بلغة غير العرب، لاعترض المكذبون، وقالوا: {لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44] أي: هلَّا بُيِّنَت آياته، ووُضِّحت وفُسِّرت {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44] أي: كيف يكون محمد عربيًّا، والكتاب أعجمي؟ هذا لا يكون!! فنفى الله تَعَالَى كل أمر يكون فيه شبهة لأهل الباطل عن كتابه، ووصفه بكل وصف يوجب لهم الانقياد، ولكن المؤمنون الموفقون انتفعوا به، وارتفعوا، وغيرهم بالعكس من أحوالهم»
(1)
.
2 -
البيان في المعنى:
يقول تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]«أي: في أصول الدين وفروعه، وفي أحكام الدارين وكل ما يحتاج إليه العباد، فهو مبين فيه أتم تبيين بألفاظ واضحة ومعان جلية، حتى إنه تَعَالَى يثني فيه الأمور الكبار التي يحتاج القلب لمرورها عليه كل وقت، وإعادتها في كل ساعة، ويعيدها ويبديها بألفاظ مختلفة وأدلة متنوعة لتستقر في القلوب، فتثمر من الخير والبر بحسب ثبوتها في القلب، وحتى إنه تَعَالَى يجمع في اللفظ القليل الواضح معاني كثيرة، يكون اللفظ لها كالقاعدة والأساس»
(2)
.
(1)
تفسير السعدي (1/ 751).
(2)
تفسير السعدي (1/ 446).
3 -
البيان في الأحكام:
فالقرآن بيَّن الأحكام الشرعية ومنهج اتباعها، وعاقبة من استجاب ومن خالف، ومن دلائل أهمية البيان في الأحكام: أن الله سُبْحَانَهُ لايؤاخذ عباده إلا بعد التبيين وإقامة الحجة عليهم، يقول تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115].
(1)
.
الأثر الرابع: اليقين بأن محمد صلى الله عليه وسلم خير مبيِّن للدين:
فكما أن الله عز وجل هو المبين؛ فإنه لا يرسل إلا من يتصف بالقدرة على التبيين وإظهار الدين جليًّا؛ فقد وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه مبين، كما في قوله تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 184]، وقوله:{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89] وغيرها من الآيات.
(1)
المرجع السابق (1/ 353).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم أبان دين الإسلام بما لا يدع- مع بيانه- خفاءً، وبما لا يجعل الناس يجدون لغير دين الله التجاءً، وجد واجتهد لتبليغ رسالة ربه، وتحمل في سبيل ذلك أشد المشقة، وأبلغ العناء، ومن دلائل ذلك قوله:«قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ»
(1)
، وكان هذا البيان المحمدي مثيرًا لاستعجاب المشركين واستنكارهم، ففي الصحيح عن سلمان قال:«قَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَقَدْ عَلَّمَكُمْ صَاحِبُكُمْ حَتَّى يُوشِكَ أَنْ يُعَلِّمَكُمُ الْخِرَاءَةَ، قَالَ: أَجَلْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، أَوْ نَسْتَنْجِيَ بِأَيْمَانِنَا، أَوْ بِالْعَظْمِ، أَوْ بِالرَّجِيعِ، وَقَالَ: لَا يَكْتَفِي أَحَدُكُمْ دُونَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ»
(2)
.
بل إن البيان والوضوح كان من صفاته صلى الله عليه وسلم الشخصية، فقد كان الصحابة يعرفون في وجهه إن كان راضيًا مسرورًا، أو كارهًا غاضبًا، فلم يكن غامضًا، ولذا كانوا يتعلمون وينهلون من قوله وفعله وصمته وإقراره، بل حتى تبسُّمِه.
الأثر الخامس: العناية ببيان العلم وفضله:
فإن كتمان العلم خلق مذموم مطلقًا، وهو من أخلاق المغضوب عليهم، يقول الله سُبْحَانَهُ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(17416)، وابن ماجه، رقم الحديث:(43)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(4607).
(2)
صحيح ابن خزيمة، رقم الحديث:(81).
[النساء: 36 - 37]، فهم في حقيقة الأمر قد جمعوا بين أمرين ذميمين، كل منهما كاف في الشر، وهما: أنهم يبخلون، ويأمرون الناس بذلك أيضًا، فلم يكفهم بخلهم، حتى أمروا الناس بذلك، وحثوهم على هذا الخلق الذميم، سواء بقولهم أو فعلهم، وهذا من إعراضهم عن طاعة ربهم وتوليهم عنها
(1)
، فمن أعرض عن تبليغ ما علمه الله وتفضل به عليه فقد عارض أمر الله تَعَالَى، في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
(2)
.
الأثر السادس: دعاء الله باسمه تَعَالَى (المبين):
من عرف اسم الله المبين دعاه والتجأ إليه، ودعاه أن يريه الحق حقًّا ويرزقه اتباعه، ويريه الباطل باطلًا ويرزقه اجتنابه، سواء في أمر دينه أو دنياه.
وهذا ما فعله الفاروق رضي الله عنه لما نزل تحريم الخمر، قال عمر رضي الله عنه: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ، فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ:
(1)
ينظر: اقتضاء الصراط، لابن تيمية (ص: 6)، وتفسير السعدي (ص: 842).
(2)
تفسير السعدي (ص: 160).
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ، فَنَزَلَتِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ إِلَى قَوْلِهِ:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فَدُعِيَ عُمَرُ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا»
(1)
.
فاللهم يا مبين، أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3049)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3049).
المُحيطُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «
…
وقد حاطه يحوطه حوطًا وحيطة وحياطة، أي كلأه ورعاه .... وأحاط به، أي علمه. وأحاط به علمًا»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الحاء والواو والطاء كلمة واحدة، وهو الشيء يطيف بالشيء
…
»
(2)
.
ورود اسم الله (المحيط) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (المحيط) في كتاب الله ثمان مرات، ومن وروده ما يلي:
1 -
قول الله عز وجل: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19].
2 -
وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].
3 -
وقوله عز وجل: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126].
ورود اسم الله (المحيط) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله (المحيط) في السنة النبوية.
(1)
الصحاح (3/ 1121).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 120).
معنى اسمِ الله (المحيط) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله، في قوله تَعَالَى:{أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]: «ألا أن الله بكل شيء مما خلق محيط علما بجميعه، وقدرة عليه، لا يعزب عنه علم شيء منه أراده فيفوته، ولكن المقتدر عليه العالم بمكانه»
(1)
.
وقال أيضًا في قوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126]: «ولم يزل الله محصيًا لكل ما هو فاعله عباده من خير وشر، عالمًا بذلك، لا يخفى عليه شيء منه، ولا يعزب عنه منه مثقال ذرة»
(2)
.
(3)
.
وقال الخطابي رحمه الله: «المحيط: هو الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وهو الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا»
(4)
.
(1)
تفسير الطبري (21/ 495).
(2)
المرجع السابق (9/ 252).
(3)
اشتقاق أسماء الله الحسنى (ص: 46 - 47).
(4)
شأن الدعاء (ص: 102).
وقال الحليمي رحمه الله: «المحيط: ومعناه الذي لا يقدر على الفرار منه، وهذه الصفة ليست حقًّا إلا لله جل ثناؤه، وهي راجعة إلى كمال العلم ولقدرة، وانتفاء الغفلة والمعجز عنه»
(1)
.
وقال القرطبي رحمه الله: «أحاط علمه بكل شيء. قاله السدي، وقال الكلبي: أحاطت قدرته بكل شيء، وهذا الاسم أكثر ما يجيء في معرض الوعيد، وحقيقته الإحاطة بكل شيء، واستئصال المحاط به»
(2)
.
وقال ابن كثير رحمه الله في قوله تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]: «أي: المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته، وتحت طي علمه، وهو المتصرف فيها كلها بحكمه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن»
(3)
.
وقال السعدي رحمه الله: «المحيط: بكل شيء علمًا، وقدرة، ورحمة، وقهرًا»
(4)
.
اقتران اسم الله (المحيط) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ:
لم يقترن اسم الله المحيط بغيره من الأسماء.
(1)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 197 - 198).
(2)
تفسير القرطبي (15/ 375 - 376).
(3)
تفسير ابن كثير (7/ 188).
(4)
تفسير السعدي (ص: 947).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (المحيط):
الأثر الأول: إثبات ما تضمنه اسم الله المحيط من صفات الله سُبْحَانَهُ:
الله عز وجل المحيط العالي على خلقه، فهو فوق جميع المخلوقات، مستو على عرشه، وعرشه فوق السماوات كلها، قد أحاط بالعوالم كلها، وبجميع ما فيها، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126]، وقال سُبْحَانَهُ:{أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]
(1)
.
وإحاطته سُبْحَانَهُ بالعوالم وما فيها؛ من وجوه؛ منها:
1 -
إحاطة الملك:
فالله عز وجل المحيط الذي أحاط بالسموات والأرض وما بينهما وما فيهما ملكًا، فالجميع ملكه وعبيده، لا يشذ عن ذلك أحد، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126]
(2)
.
2 -
إحاطة القهر:
فالله عز وجل المحيط الذي أحاط بعباده قهرًا، فالكل تحت قهره وفي قبضته، يتصرف فيهم بما شاء، كيف شاء، متى شاء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن
(3)
.
(1)
ينظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم (ص: 417).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 206)، وفتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 41 - 42).
(3)
تفسير ابن كثير (7/ 188).
ثم إنه لا يمكن لأحد كائن من كان أن يخرج عن إرادة المحيط به، أو يمتنع منه، بل الكل مقهور مدان للمحيط القهار، نافذة مشيئته وحكمه فيه
(1)
، قال تَعَالَى:{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60]«فإنه القادر عليهم، وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته»
(2)
.
3 -
إحاطة العلم:
فالله عز وجل المحيط الذي أحاط علمه بجميع المعلومات ظاهرها وباطنها، خفيها وجليها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وأحاط سمعه بجميع الأصوات سرها وعلنها، قريبها وبعيدها، وأحاط بصره بجميع الموجودات دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، فلا يحجبه عن خلقه ظاهر عن باطن ولا كبير عن صغير ولا قريب عن بعيد، بل هو نافذ العلم والسمع والبصر، لا يغيب عنه أحد، ولا يخفى عليه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر منها ولا أكبر، قال تَعَالَى:{وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]
(3)
.
أحاط علمه بذوات خلقه، وبصفاتهم، كما أحاط بجميع أعمالهم: الفعلية بصرًا، والقولية سمعًا، سواء أكانت خيرًا أم شرًّا، حسنة أم قبيحة، ظهرت للناظرين والسامعين أم توارت عنهم، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120]، وقال سُبْحَانَهُ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
(1)
اشتقاق أسماء الله الحسنى، للزجاجي (ص: 46 - 47)، تفسير السعدي (ص: 206).
(2)
تفسير ابن كثير (5/ 91).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (2/ 424)، فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 41)، تفسير السعدي (ص 206).
وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108]، لم يزل لها محصيًا، عادًا، عالمًا بها، لا تخفى عليه ولا تغيب
(1)
.
4 -
إحاطة القدرة:
فالله عز وجل هو المحيط الذي أحاطت قدرته بخلقه إحاطة تامة كاملة، لا يقدرون معها على إعجازه ولا فواته ولا الفرار منه، قال تَعَالَى:{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60]، وقال سُبْحَانَهُ:{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 19 - 20]، فليس لهم ملاذ يلوذون به عنه، ولا ملجأ يلجأون إليه، بل لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه، ولا مفر منه، بل المفر إليه، قال تَعَالَى:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]
(2)
.
ثم إن الملوك والجبابرة وإن عظمت سطوتهم، وعظم ملكهم، وكثر جندهم، واشتد جبروتهم، وتفاقم طغيانهم، فإن الله لهم بالمرصاد، قد أحاط بهم، وأحصى وراقب كل حركاتهم وسكناتهم، ليس لهم خروج عن قدرته، ولا يستطع أحد منهم أن يعجزه، بل نواصيهم بيده {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]
(3)
.
5 -
إحاطة الرحمة:
فالله عز وجل المحيط الذي أحاط كل شيء برحمته، فالعالم العلوي والسفلي وجميع المخلوقات محاطة برحمة الرحمن الرحيم بها، أسبغ عليهم
(1)
تفسير الطبري (9/ 252).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (8/ 373)، تفسير السعدي (ص: 461، 919)، النهج الأسمى، للنجدي (2/ 295 - 296).
(3)
ينظر: فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 41 - 42).
نعمه الظاهرة والباطنة، وصرف عنهم المضار والمكاره، وبها دبرهم أنواع التدبير، وصرفهم بأنواع التصريف، وبها امتلأت القلوب بالرحمة حتى حنت المخلوقات بعضها على بعض، إلى غير ذلك من آثار رحمة الله المحيطة بالخلق في الدنيا.
ثم إن رحمة المحيط أحاطت بالخلق حتى في الآخرة، بل هي في الآخرة أعظم منها في الدنيا، حتى قال صلى الله عليه وسلم:«وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ»
(1)
(2)
(3)
.
6 -
إحاطة الجزاء:
لما كان ربنا محيطًا؛ كان جزاؤه محيطًا أيضًا:
فجميع أعمال العباد قد أحاط بها، وأحصاها عدًّا، وعلم مقدارها، ومقدار جزائها في الخير والشر، ويجازيهم عليها أتم الجزاء، بما يقتضيه عدله ورحمته
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2755).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2752).
(3)
ينظر: فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 33)، المواهب الربانية، السعدي (ص: 109 - 111).
(4)
ينظر: فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 41).
ثم إن جزاءه محيط، فإذا نزل عذابه على قوم أحاط بهم، فلم يفت منه أحد، ولم يُبق منهم أحد، ولم ينجو إلا من أمر الله بإنجائه
(1)
، ولذا قال شعيب عليه السلام لقومه:{يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84]، وقال الله في بيان إحاطة عذابه النازل بالأمم المكذبة من قوم نوح، وعاد، وثمود، وفرعون، وغيرهم من المعاندين المكذبين:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98]«والركز: الصوت الخفي، أي: لم يبق منهم عين ولا أثر، بل بقيت أخبارهم عبرة للمعتبرين، وأسمارهم عظة للمتعظين»
(2)
.
ثم إنه سُبْحَانَهُ في الآخرة محيط بخلقه، فيبعثهم جميعًا، لا يتخلف منهم أحد، ولا ينسى منهم أحدًا، ولا يمتنع منهم أحد {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95].
ثم هم في موقف الحشر محاط بهم أينما ذهبوا، قد طوقتهم الملائكة سبعة صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد منهم على فرار ولا هرب
(3)
حتى يقال لهم على وجه التعجيز: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] «أي: لا تخرجون عنه إلا بقوة وتسلط منكم، وكمال قدرة، وأنى لهم ذلك، وهم لا
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 387).
(2)
تفسير السعدي (ص: 501).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 496).
يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا؟! ففي ذلك الموقف لا يتكلم أحد إلا بإذنه، ولا تسمع إلا همسًا، وفي ذلك الموقف يستوي الملوك والمماليك، والرؤساء والمرءوسون، والأغنياء والفقراء»
(1)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (المحيط) على التوحيد:
لا شك أن اسم الله (المحيط) دال على كمال الله وجلاله وعظمته، فإذا تأمل العبد في هذا الكمال، ثم نظر في المعبودات من حوله، وتأمل ما فيها من المعايب والنقائص حتى في صفات كمالها، فملكهم، وقهرهم، وعلمهم، وقدرتهم، ورحمتهم وغيرها من صفات الكمال ناقصة فيهم، لا محيطة شاملة.
أدرك بذلك أن المعبود الحق هو المتفرد بالوحدانية والمتصف بالكمال والجلال، وليس ذلك إلا لله المحيط، وأدرك- أيضًا- أن كل من دون الله ناقص لا يستحق شيء من العبودية، وبهذا يوحد ربه المحيط بالعبادة.
الأثر الثالث: الخوف من الله (المحيط):
إن اسم الله (المحيط) يورث في قلوب العباد الخوف من الله عز وجل ومهابته وإجلاله وتعظيمه؛ إذ هو المحيط بعباده علمًا، وقدرة، وقهرًا، وملكًا، قال تَعَالَى:{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60].
(1)
تفسير السعدي (ص: 830).
وقد جاءت النصوص مرغبة في الخوف من الله عز وجل بأساليب عدة، ومنها:
الأمر بالخوف منه عز وجل، قال تَعَالَى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40].
بيان أن الخوف من لوازم الإيمان، قال تَعَالَى:{وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، قال الشيخ السعدي رحمه الله:«وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان؛ فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله»
(1)
.
الثناء على صفوة الخلق بالخوف والخشية، قال تَعَالَى عن الملائكة:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]، وقال عن رسله:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].
مدح أهل الخوف، قال تَعَالَى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16].
حصول النجاة من كل سوء في الدنيا و الآخرة، فعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ خَشْيَةُ اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ،
…
»
(2)
.
تحقق الأمن يوم القيامة، قال تَعَالَى:{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 10 - 11]
(1)
تفسير السعدي (ص: 157).
(2)
أخرجه البيهقي في الشعب، رقم الحديث:(731)، وأبو نعيم في الحلية، (2/ 343)، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1802).
الدخول تحت ظل العرش يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» ، وذكر منهم:«وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ»
(1)
.
و للخوف أسباب تعين عليه، ومنها:
معرفة الله بأسمائه وصفاته، فإن من عرف أن الله محيط، عظيم، عزيز، جبار، متكبر، رقيب، حسيب، قوي، متين، شديد العقاب، ذو البطش الشديد، والعذاب الأليم، وأنه لو أهلك العالمين لم يبال ولم يمنعه مانع، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون- خافه وحذر منه، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]
(2)
.
تدبر القرآن الكريم والسنة، قال ابن القيم رحمه الله:«فإذا تدبر المسلم كلام الله وسنة نبيه؛ شهد قلبه أمورًا من صفات الله وعقوباته وانتقامه، وكيف خاف الأنبياء والملائكة والصالحون، وليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمع الفكر على معاني آيات الكتاب العزيز، فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل»
(3)
.
التفكر في الذنوب والسيئات، والتقصير في الطاعات، التي نسي العباد أكثرها، والله محصيها لا يغادر منها صغيرة ولا كبيرة {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28].
(1)
سبق تخريجه.
(2)
ينظر: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين، للقاسمي (ص: 290).
(3)
مدارج السالكين (1/ 451).
التفكر في الموت وما بعده من أهوال القيامة، قال تَعَالَى:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15]، وقال سُبْحَانَهُ:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]، {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 10].
التفكر في النار وشدة عذابها، قال تَعَالَى:{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]، وقال عنها:{إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر: 35].
الدعاء بأن يُرزق العبد الخوف من الله، وقد جاء ذلك في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عنه دعائه:«اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ»
(1)
، وقوله: «
…
اللَّهمَّ وأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
…
»
(2)
.
مجالسة الصالحين والعلماء الذين يكسبون الخشية والخوف من الله، وقراءة سيرهم أيضًا، وما فيها من الخوف من الله عز وجل، وهذه بعض النماذج للسلف رضي الله عنهم في خوفهم من الله تَعَالَى:
- عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لو مات جمل ضياعًا على جانب الفرات؛ لخشيت أن يسألني عنه الله يوم القيامة»
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3502)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10161)، حكم الألباني: حسن، صحيح الكلم الطيب، رقم الحديث:(1268).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18615)، والنسائي، رقم الحديث:(1305)، حكم الألباني: صحيح، المشكاة، رقم الحديث:(2497).
(3)
تاريخ دمشق، لابن عساكر (44/ 356).
- عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يقول: «إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، فتقول زوجته: اللهم أعذه من النار»
(1)
.
الأثر الرابع: الخوف من ظلم العباد:
إذا تأمل العبد في اسم الله «المحيط» ، وما فيه من إحاطة علم الله بجميع عمله، وإحاطة قدرته به؛ خاف من أن يظلم أحدًا، أو يعتدي عليه بقول أو فعل أو ظن سوء، وحذر من ذلك أشد الحذر، لا سيما وأن لله المحيط ينتصر للمظلوم ولا يرد دعوته، قال صلى الله عليه وسلم:«ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ؛ الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، يَرْفَعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عز وجل: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ»
(2)
.
قال أبو الدرداء رحمه الله: «وَإِيَّاكَ وَدَعَوَاتِ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُنَّ يَصْعَدْنَ إِلَى اللهِ عز وجل كَأَنَّهُنَّ شَرَارَاتُ نَارٍ»
(3)
.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: «إن لقيت الله بسبعين ذنبًا فيما بينك وبينه تَعَالَى، أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد»
(4)
؛ وذلك أن حقوق الله مبنية على المسامحة فيغفر الله منها ما شاء، وحقوق العباد مبنية على المشاحة، فيوفي الله أصحاب الحقوق حقوقهم ولا يترك منها شيئًا
(5)
.
(1)
سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم (ص 48).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث (2526)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، رقم الحديث:2592.
(3)
أخرجه البيهقي في الشعب، رقم الحديث:(10183).
(4)
تاريخ دمشق، لابن عساكر (47/ 168).
(5)
ينظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن القيم (ص: 19).
وهذا التأمل- أيضًا- في اسم الله «المحيط» يدعو الظالم إلى التوبة من ظلمه، ورد المظالم والحقوق إلى أهلها، والتحلل منهم، قال ابن القيم رحمه الله:«وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها، واستحلالهم منها»
(1)
.
الأثر الخامس: الثقة بنصر الله المحيط:
إن الإيمان بإحاطة قدرته سُبْحَانَهُ وقهره لكل شيء، تثمر في القلب الاستهانة بقوة المخلوق من الأعداء الكفرة والمنافقين، بعد الأخذ بأسباب المدافعة لشرهم؛ لأن الله عز وجل محيط بهم وقاهرهم.
وإذا حصلت التقوى والصبر من المؤمنين، فلن يضرهم كيد الكائدين؛ لأن الله عز وجل محيط بما يعملون ويكيدون.
قال سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].
الأثر السادس: محبة الله المحيط:
إذا تعرف العبد على اسم ربه «المحيط» وتأمل ما فيه من صفات الكمال والجلال؛ قاده ذلك إلى محبته سُبْحَانَهُ؛ إذ القلوب فطرت على محبة من له الكمال.
ثم إذا تأمل- أيضًا- ما فيه من إحاطة الله لأوليائه بالحفظ والرعاية والنصر على الأعداء؛ زاده ذلك حبًّا وتعلقًا بربه المحيط.
(1)
المرجع السابق.
ثم إذا ضم إلى هذه الصفة الكريمة صفة أخرى كالحلم والقدرة مثلًا، فتأمل كيف أن ربه المحيط أحاط بذنبه وتقصيره وسيء عمله، وهو قادر على معاجلته بالعقوبة وسلب النعمة التي عصاه بها، إلا أنه مع ذلك حلم وأمهل ولطف؛ زاده ذلك حبًّا لله عز وجل.
فاللهم يا من أحاط سمعه بالأصوات، وأحاط بصره بالمرئيات،
وأحاط بما تخفي الصدور، ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة.
المهَيْمنُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «المُهيمن: الشاهد، وهو من آمن غيرَهُ من الخوف، وأصله أَأْمَنَ فهو مُؤَأْمِن، بهمزتين، قُلبت الهمزة الثانية ياءً كراهةً لاجتماعهما، فصار مُأَيْمِن، ثم صُيِّرت الأولى هاء، كما قالوا: أراق الماءَ وهراقه»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «فأما المهيمن، وهو الشاهد .. إنَّما هو من باب أمن، والهاء مبدلة من همزة»
(2)
.
ورود اسم الله (المهيمن) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (المهيمن) في كتاب الله مرة واحدة، في قوله تعالى:{الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} [الحشر: 23].
ورود اسم الله (المهيمن) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله (المهيمن) في السنة النبوية.
(1)
الصحاح (6/ 2217).
(2)
مقاييس اللغة (6/ 63).
معنى اسم الله (المهيمن) في حقه سُبْحَانَهُ:
يدور معنى اسم الله «المهيمن» في حقه تَعَالَى حول أربعة معان:
القائم على خلقه بالرعاية والحفظ.
الرقيب على أعمال الخلق، والشاهد عليها.
الأمين المؤتمن على حق عباده.
المؤمن المصدق.
وحول هذه المعاني الأربعة تدور أقوال العلماء:
من الأقوال في المعنى الأول والثاني:
قال الطبري رحمه الله: «و أصل (الهيمنة): الحفظ والارتقاب، يقال، إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده: قد هيمن فلان عليه، فهو يهيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن»
(1)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «قال ابن عباس وغير واحد: أي: الشاهد على خلقه بأعمالهم. بمعنى: هو رقيب عليهم، كقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 9]، وقوله: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46]»
(2)
.
قال السعدي رحمه الله: «(المهيمن): المطَّلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيءٍ علمًا»
(3)
.
(1)
تفسير الطبري (10/ 377).
(2)
تفسير ابن كثير (8/ 80).
(3)
تفسير السعدي (ص: 947).
قال ابن عاشور رحمه الله: «والمهيمن: الرقيب بلغة قريش، والحافظ في لغة بقية العرب»
(1)
.
من الأقوال في المعنى الثالث:
قال الحليمي في قوله: «ومعناه: لا ينقص المطيعين يومَ الحساب من طاعاتهم شيئًا،
…
لا يزيد العصاةَ على ما اجترحوه من السيئات شيئًا، فيزيدهم، عقابًا على ما استحَقُّوه»
(2)
.
ومن الأقوال في المعنى الرابع:
قال ابن زيد رحمه الله، في قوله:{الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23]: «المصدق لكل ما حدث، وقرأ {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، قال: فالقرآن مصدِّق على ما قبله من الكتب، والله مصدِّق في كل ما حدَّث عما مضى من الدنيا، وما بقي، وما حدَّث عن الآخرة»
(3)
.
قال الحسن البصري رحمه الله: «(المهيمن) المصدق، وهو في حق الله تَعَالَى يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك التصديق بالكلام، فيصدق أنبياءه بإخباره تَعَالَى عن كونهم صادقين.
الثاني: أن يكون معنى تصديقه لهم هو أن يظهر المعجزات على أيديهم»
(4)
.
(1)
التحرير والتنوير (28/ 121).
(2)
الأسماء والصفات، للبيهقي (ص: 164).
(3)
تفسير الطبري (23/ 304).
(4)
تفسير أسماء الله الحسنى، للرازي (ص: 146).
من الأقوال التي تجمع بين الأقوال الأربعة:
قال الطبري رحمه الله: «اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: المهيمن: الشهيد
…
وقال آخرون: المهيمن: الأمين
…
وقال آخرون: (المهيمن): المصدق»
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «المهيمن: هو الشهيد، ومنه قول الله سُبْحَانَهُ:{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، فالله عز وجل المهيمن أي: الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل، كقوله:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].
وقيل: المهيمن، الأمين، وأصله مؤيمن، فقلبت الهمزة هاء؛ لأن الهاء أخف من الهمزة
…
وقيل: المهيمن: الرقيب على الشيء، والحافظ له، وقال بعض أهل اللغة: الهيمنة: القيام على الشيء، والرعاية له»
(2)
.
قال الغزالي رحمه الله جامعًا بين بعض هذه المعاني-: «القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه وحفظه، وكلُّ مشرف على كنه الأمر مسؤول عليه حافظ له، فهو مهيمنٌ عليه، والإشراف يرجع إلى العلم، والاستيلاء إلى كمال القدرة، والحفظ إلى العقل،
(1)
تفسير الطبري (23/ 304).
(2)
شأن الدعاء (1/ 46).
فالجامع بين هذه المعاني اسمه المهيمن»
(1)
.
قال ابن الأثير رحمه الله: «في أسماء الله تَعَالَى (المهيمن) هو الرقيب، وقيل: الشاهد، وقيل: المؤتمن، وقيل: القائم بأمور الخلق»
(2)
.
اقتران اسم الله (المهيمنِ) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسم الله (المهيمن) باسم الله (المؤمن):
اقترن اسم الله «المهيمن» باسمه «المؤمن» ، في قوله تَعَالَى:{الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} [الحشر: 23].
وجه الاقتران:
قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله: «وتعقيب المؤمن بالمهيمن؛ لدفع توهُّم أن تأمينه عن ضعف، أو عن مخافة غيره، فاعلموا أن تأمينه لحكمته، مع أنه رقيب مطَّلع على أحوال خلقه، فتأمينه إيَّاهم رحمة بهم»
(3)
.
ثانيًا: اقتران اسم الله (المهيمن) باسم الله (العزيز):
اقترن اسم الله (المهيمن) باسمه العزيز في قوله تَعَالَى: {الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} [الحشر: 23].
وجه الاقتران:
قال ابن عاشور رحمه الله: «ووجه ذكر هذه الصفات الثلاث- العزيز الجبار المتكبر- عقب صفة المهيمن: أن جميع ما ذكره آنفًا من الصفات، لا
(1)
المقصد الأسنى (ص: 72).
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 275).
(3)
التحرير والتنوير (28/ 122).
يؤذن إلا باطمئنان العباد لعناية ربهم بهم، وإصلاح أمورهم، وأن صفة المهيمن تؤذن بأمر مشترك؛ فَعُقِّبَتْ بصفة العزيز؛ ليعلم الناسُ أن الله غالب لا يُعجزه شيء
…
فكانت هذه الصفات في جانب التخويف، كما كانت الصفات قبلها في جانب الإطماع»
(1)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (المهيمن):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (المهيمن) من صفاته سُبْحَانَهُ:
الله تَعَالَى «المهيمن» الذي لا يخرج شيء عن هيمنته، فالسماء والأرض ومن فيهما صغر أو كبر، دقَّ أو جلَّ، الكل تحت هيمنته جل في علاه {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23] هيمنة القيام والحفظ، وهيمنة الرقابة والشهادة، وهيمنة الأمن والتصديق.
فهو المهيمن القيوم
(2)
الذي قام على الخلائق خلقًا ورزقًا وتدبيرًا وتصريفًا، فبهيمنته أقام السموات والأرض فثبتت ولم تزل، وبهيمنته أقام كل نفس من إنس وجن وغيرهما من سائر الدواب، فقلب الجنين خلقًا بعد خلق في ظلمات ثلاث، يحيل الدَّمَ نطفةً، والنطفةَ علقةً، والعلقةَ مضغةً، والمضغةَ عظامًا، ثم يكسو العظام لحمًا، ثم ينشئه خلقًا آخَرَ، فتبارك الله أحسنُ الخالقين.
وبهيمنته أقام للمكلفين الأديان؛ فأرسل الرسل وأنزل الكتب، ولم يترك عباده سدًى، ولم يدعهم هملًا، بل وضع لهم الشرائع التي تنظم سلوكهم،
(1)
المرجع السابق (28/ 123).
(2)
للاستزادة، يراجع اسم الله الحي القيوم.
وترسم لهم الحدود التي يسيرون فيها، ولا يتجاوزونها في أعمالهم ومعاملاتهم وعقائدهم.
وهو المهيمن الحفيظ
(1)
الذي عم خلقه بحفظه، فبهيمنته حفظ السماء من أن تقع على الأرض، وبهيمنته حفظ الأرض من الاضطراب والميد بأهلها، وبهيمنته حفظ أهلها بما يسر من الأرزاق والأقوات لهم، وحفظهم من أصناف الشرور والمضار بما قيض من أسباب حفظهم.
وهو المهيمن الرقيب الشهيد
(2)
الذي اطلع على جميع الأشياء، وأحاط بها علمًا، ظاهرًا وباطنًا، فبهيمنته رقب الخفيَّات والجليَّات، والماضيات والمستقبَلات، وبهيمنته رقب جميعَ الأصوات؛ سرها وجهرها، وبهيمنته رقب جميع الموجودات؛ دقيقها وجليلها، وصغيرها وكبيرها، لا يحجبه من خلقه ظاهر عن باطن، ولا كبير عن صغير، ولا قريب عن بعيد.
وبهيمنته شهد أعمال العباد فأحصاها، وعلم مقاديرها، ومقدار جزائها خيرها وشرها، ثم يشهد عليهم بما عملوه ويفصل بينهم يوم الدين
(3)
.
وهو المهيمن الأمين الذي لا يضيع عنده حق عباده، فلا ينقصهم شيئًا من حسناتهم، ولا يزيدهم شيئًا من السيئات، بل هم آمنون من ذلك.
قال الحليمي رحمه الله في اسم الله «المهيمن» : «لا ينقص المطيعين يومَ الحساب من طاعاتهم شيئًا، فلا يُثيبهم عليه؛ لأن الثواب لا يُعجزه ولا هو مستكْرَهٌ عليه، فيضطر إلى كتمان بعض الأعمال أو جحدها، وليس ببخيل
(1)
للاستزادة، يراجع اسم الله الحافظ الحفيظ.
(2)
للاستزادة، يراجع اسم الله الرقيب والشهيد.
(3)
ينظر: فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 35 - 36).
فيحمله استكثارُ الثواب إذا كثرت الأعمال على كتمان بعضها، ولا يلحقه نقصٌ بما يثيب فيحبس بعضه؛ لأنه ليس منتفعًا بملكه حتى إذا نفع غيره به زال انتفاعُهُ عنه بنفسه، وكما لا ينقص المطيعَ من حسناته شيئًا، لا يزيد العصاةَ على ما اجترحوه من السيئات شيئًا، فيزيدهم عقابًا على ما استحَقُّوه؛ لأن واحدًا من الكذب والظلم غير جائز عليه، وقد سمَّى عقوبة أهل النار جزاءً، فما لم يقابل منها ذنبًا لم يكن جزاءً، ولم يكن وفاقًا»
(1)
.
وهو المهمين المؤمن
(2)
الذي صدق رسله بما أنزل من كتب وأظهر من معجزات، وصدق كتبه بالقرآن، وجعله مهيمنًا على سائرها، قال تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
(3)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (المهيمن) على التوحيد:
إذا تأمل العبد في قوله تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23]؛ وجد أن الله عز وجل وصف من يستحق
(1)
الأسماء والصفات، للبيهقي (ص: 164).
(2)
للاستزادة يراجع اسم الله «المؤمن» .
(3)
تفسير ابن كثير (3/ 128).
العبادة بصفات الكمال والجلال التي منها الهيمنة، وهذه الصفات لا تكون إلا له سُبْحَانَهُ، فإنها وإن وجدت في مخلوق فلا توجد مجتمعه، كما أنها لا توجد على صورة الكمال بل فيها من النقائص والمعايب ما فيها.
وبهذا يعلم أنه لا أحد كائن من كان يستحق من العبادة مثقال ذرة، وإنما هي خالصه له سبحانه وتعالى عما يشركون
(1)
.
الأثر الثالث: الإيمان بهيمنة القرآن:
امتن الله عز وجل على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وجعله مهيمنًا على سائر الكتب المتقدمة، كما قال تَعَالَى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]، وذلك يعني:
1 -
أنه أمين على كل كتاب قبله وحافظ له؛ وذلك بحفظه لأصول ما في تلك الكتب من عقائد وشرائع، كما قال تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
2 -
أنه شاهد على الكتب قبله؛ وذلك من جهة:
أ - شهادته عليها بالصحة والثبات، كما قال تَعَالَى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا
(1)
تفسير السعدي (ص: 854).
بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ}
[آل عمران: 3 - 4]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46].
ب - شهادته على أصولها بالصدق، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}
[فاطر: 31].
ت - شهادته على ما وقع من أصحابها من تحريف وتبديل وإعراض عن العمل بها، كما قال تَعَالَى:{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، وقال سُبْحَانَهُ:{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} [النساء: 46].
3 -
أنه حاكم عليها بإقرار بعض ما فيها من الشرائع التي مصلحتها كلية لم تختلف باختلاف الأمم والأزمان، كالصوم، قال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وناسخ لبعض ما فيها من الشرائع التي مصلحتها جزئية مؤقته، مراعى فيها أحوال أقوام معينين
(1)
.
قال الطبري رحمه الله: «{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك، يا محمد، مصدِّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله، أمينًا عليها، حافظًا لها»
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 127)، تفسير السعدي (ص: 234)، التحرير والتنوير، لابن عاشور (6/ 222)، مجلة البحوث الإسلامية (21/ 317 - 318)،
(2)
تفسير الطبري (10/ 377).
وإنما كانت هذه المنزلة لهذا الكتاب العظيم:
(1)
.
ولأن الله تكفل بحفظه، فلا يصير إليه النسخ ألبتة، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف، وبهذا تكون شهادته على الكتب السابقة باقية أبدًا، فيبقى العلم بها ببقائه
(2)
.
فإذا تبين هذا؛ فليعلم العبد أن من الإيمان بالقرآن: الإيمان بهيمنته، وهذا الإيمان واليقين يورث في النفس تعظيمه وإجلاله والفرح به أعظم الفرح، كما قال سُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57 - 58].
كما أنه يثمر العمل والحكم به وتحكيمه ورفض ما سواه من أحكام وأهواء، كما نبه الله عز وجل على ذلك، فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا
(1)
مجموع الفتاوى (17/ 44).
(2)
ينظر: تفسير الرازي (12/ 371).
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}.
الأثر الرابع: الرضى بقضاء المهيمن:
إذا آمن العبد أن ربه المهيمن القائم على أمره بالرعاية والتدبير والتصريف؛ أورثه ذلك الرضى بما يقضيه ويقدره عليه خيره وشره؛ لعلمه أن هيمنته إنما هي عن رحمة وعلم وحكمة، ففيها الخير والصلاح له {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
فهذه عائشة رضي الله عنها تقول: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَتَى النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ، أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبِالنَّاسِ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، قَالَتْ: فَعَاتَبَنِي، وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(334)، ومسلم، رقم الحديث:(367).
وهذه امرأة سوداء لبعض العرب، أعتقها أهلها، فكانت تأتي للمسجد فتتحدث عند النساء، فإذا فرغت من حديثها قالت:
وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ رَبِّنَا
…
أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي
فلما أكثرت من ذلك قالت لها عائشة رضي الله عنها: وما يوم الوشاح؟ قالت: خرجت جويرية لبعض أهلي، وعليها وشاح أحمر، فسقط منها، فانحطت عليه الحديا وهي تحسبه لحمًا، فأخذته فاتهموني به، فعذبوني، حتى بلغ من أمري أنهم طلبوا في قبلي، فبينا هم حولي وأنا في كربي، إذ أقبلت الحديا حتى وازت برؤوسنا ثم ألقته، فأخذوه، فقلت لهم هذا الذي اتهمتموني به و أنا منه بريئة، وهو ذا هو، وجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت»
(1)
.
الأثر الخامس: مراقبة الله المهيمن
(2)
:
إذا تقرر عند العبد أن ربه المهيمن مطلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، وظاهر الأقوال والأفعال، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، وقال:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52] شاهد عليها وعلى خلقه بما صدر منهم لا يضل ولا ينسى، ولا يغفل عن شيء منها {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6]، أثمر ذلك في نفسه مراقبة «المهيمن» تبارك وتعالى، فيرقب قوله وفعله وخطره وفكره؛ حذرًا من مشاهدة المهيمن له وقد واقع ما لا يرضيه.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(439).
(2)
للاستزادة يراجع ملحق (المراقبة).
الأثر السادس: الثقة بالمهيمن:
إذا تيقن العبد أن ربه المهيمن بيده كل شيء، يصرفه كيف شاء، وثق بربه في قضاء حوائجه، وفوض أمره إليه مطمئنًا ساكنًا، فلا قلق ولا تعلق بالخلق رجاء ولا خوفًا.
فهذا إبراهيم عليه السلام جمع قومه الحطب، وأطلقوا فيه النيران، فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط، ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق، ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه، حتى إذا تم الوضع ألقوه إلى النار، فعرض له جبريل في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وقال واثقًا بربه مفوضًا أمره إليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال الله:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} »
(1)
.
وهذه أم موسى تلقي وليدها في اليم؛ امتثالًا لأمر ربها، وثقة بوعده:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] فدبر المهيمن الأمور ورده إليها: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 12 - 13].
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل واديًا مع أصحابه، فيأخذ كل واحد منهم مكانه، وينام رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة ويعلق سيفه بغصن من أغصانها، فيأتيه رجل بيده السيف، فلم يشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا
(1)
البداية والنهاية، لابن كثير (1/ 146).
والسيف صلتًا في يده، فقال له: من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهُ، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ فقال: اللهُ، فشام
(1)
الأعرابي السيف»
(2)
.
أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ قُلْتُ: اللهُ فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ. ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْه.
قال ابن حجر رحمه الله: «وكأن الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم، وعرف أنه حيل بينه وبينه تحقق صدقه، وعلم أنه لا يصل إليه، فألقى السلاح وأمكن من نفسه»
(3)
.
وفي غزوة الأحزاب، ضرب الكفار على المسلمين حصارًا عسكريًّا مهيبًا، قال الله عنه:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11] فما كان من المؤمنين إلا أن قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، فرد الله الأحزاب بغيظهم، لم ينالوا خيرًا، وكفى المؤمنين القتال، وكان الله قويًّا عزيزًا مهيمنًا.
(1)
أي: أغمد السيف. فتح الباري، لابن حجر (7/ 427).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2913)، ومسلم، رقم الحديث:(843).
(3)
فتح الباري، لابن حجر (7/ 427).
الأثر السابع: محبة الله تَعَالَى المهيمن:
إذا علم العبد أن ربه المهيمن عز وجل قائم على خلقه رعايةً ورزقًا وحفظًا، وتدبيرًا وتصريفًا لأمورهم، على وفق ما تقتضيه حكمته عز وجل؛ أورثه ذلك محبته تبارك وتعالى والتقرب إليه بالطاعات والقربات؛ تعبدًا له عز وجل، وحبًّا والتماسًا لمرضاته، وشكرًا له على نعمائه وأفضاله وإحسانه.
فاللهم يا مهيمن، تولَّ أمرنا واجْبُر كسرنا، واحفظنا بحفظك
الذي لا يُرام، واكلأنا بعينك التي لا تنام.
المؤْمنُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «(أمن) الأمان والأمانة بمعنًى، وقد أَمِنْتُ فأنا آمِنٌ. وآمَنْتُ غيري، من الأمن والأمان، والإيمان: التصديق، والله تَعَالَى المؤمن؛ لأنه آمَن عبادَه من أن يظلمهم
…
والأمن: ضد الخوف، والأَمَنَةُ بالتحريك: الأَمْنُ، ومنه قوله عز وجل:{أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154]»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(أمن) الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان: أحدهما: الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب، والآخر: التصديق
…
وأما التصديق فقول الله تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي: مصدق لنا، وقال بعض أهل العلم: إن المؤمن في صفات الله تَعَالَى هو أن يصدق ما وعد عبده من الثواب، وقال آخرون: هو مؤمن لأوليائه يؤمنهم عذابه ولا يظلمهم
(2)
.
ورود اسم الله (المؤمن) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (المؤمن) مرة واحدة في القرآن الكريم، وهي:
قول الله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ} [الحشر: 23].
(1)
الصحاح (5/ 2071 - 2072).
(2)
مقاييس اللغة (1/ 133 - 135).
ورود اسم الله (المؤمن) في السنة النبوية:
لم يَرد اسم الله (المؤمن) في السنة النبوية.
معنى اسم الله (المؤمن) في حقه سُبْحَانَهُ:
يدور معنى اسم الله (المؤمن) في حق الله على معنيين، وهما:
المصدق.
المؤَمِّن غيره.
وحول هذه المعاني تدور أقوال العلماء:
من الأقوال في المعنى الأول:
قال مجاهد رحمه الله: «(المؤمن) الذي وحد نفسه بقول: شهد الله أنه لا إله إلا هو»
(1)
.
قال قتادة رحمه الله: «أمن بقوله: إنه حق»
(2)
.
قال الزجاج رحمه الله: «أصل الإيمان التصديق والثقة
…
ويقال: إنما سمى الله نفسه مؤمنًا؛ لأنه شهد بوحدانيته، فقال تَعَالَى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] كما شهدنا نحن»
(3)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «المؤمن من الإيمان، وهو التصديق، فيكون ذلك على ضربين: أحدهما: أن يقال: (الله المؤمن)، أي: مصدق عباده
(1)
تفسير القرطبي (18/ 46).
(2)
تفسير الطبري (23/ 302).
(3)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 31 - 32).
المؤمنين، أي: يصدقهم على إيمانهم، فيكون تصديقه إياهم قبول صدقهم وإيمانهم وإثابتهم عليه، والآخر: أن يكون الله المؤمن، أي: مصدق ما وعده عباده»
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «(المؤمن): أصل الإيمان في اللغة: التصديق، فالمؤمن: المصدِّق، وقد يحتمل ذلك وجوهًا:
أحدها: أنه يَصْدُقُ عبادَه وعدَه، ويفي بما ضمِنه لهم من رزق في الدنيا، وثواب على أعمالهم الحسنة في الآخرة.
والوجه الآخر: أنه يصدق ظنون عباده المؤمنين، ولا يُخيِّب آمالَهم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه- جل وعز-:«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ»
(2)
، وقيل: بل المؤمن: الموحِّدُ نفسَه بقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]»
(3)
.
قال القرطبي رحمه الله: «(المؤمن) أي: المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم، ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب»
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه، وشهد لهم
(1)
اشتقاق أسماء الله (ص: 221 - 223).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(16263)، وابن حبان، رقم الحديث:(633)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1633).
(3)
شأن الدعاء (ص 45 - 46).
(4)
تفسير القرطبي (18/ 46).
بأنهم صادقون بالدلائل التي دل بها على صدقهم قضاء وخلقًا»
(1)
.
قال السعدي رحمه الله: «المصدق لرسله وأنبيائه بما جاءوا به، بالآيات البينات، والبراهين القاطعات، والحجج الواضحات»
(2)
.
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أمَّن خلقه من أن يظلمهم»
(3)
.
قال الطبري رحمه الله: «(المؤمن) يعني بالمؤمن: الذي يؤمن خلقه من ظلمه»
(4)
.
قال الزجاج رحمه الله: «ويقال: إنه في وصف الله تَعَالَى يفيد أنه الذي أمن من عذابه من لا يستحقه»
(5)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «من الأمان أي: يؤمن عباده المؤمنين من بأسه وعذابه، فيأمنون ذلك، كما تقول: (آمن فلان فلانًا)، أي: أعطاه أمانًا ليسكن إليه ويأمن»
(6)
.
قال الخطابي رحمه الله: «وقيل: بل المؤمن: الذي آمن عبادَه المؤمنين في القيامة من عذابه، وقيل: هو الذي آمن خَلْقَهُ مِن ظُلمه»
(7)
.
(1)
مدارج السالكين (3/ 432).
(2)
تفسير السعدي (ص: 854).
(3)
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات، (1/ 107).
(4)
تفسير الطبري (23/ 302 - 304).
(5)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 31 - 32).
(6)
اشتقاق أسماء الله (ص: 221 - 223).
(7)
شأن الدعاء (ص 45 - 46).
قال القرطبي رحمه الله: «(المؤمن)
…
وقيل: المؤمن الذي يؤمن أولياءه من عذابه، ويؤمن عباده من ظلمه»
(1)
.
قال ابن عاشور رحمه الله: «والمؤمن اسم فاعل من آمن الذي همزته للتعدية، أي: جعل غيره آمنًا، فالله هو الذي جعل الأمان في غالب أحوال الموجودات»
(2)
.
اقتران اسم الله (المؤمن) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
اقترن اسم المؤمن سُبْحَانَهُ باسم الله «السلام» ، و «المهيمن» في قوله تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].
وجه الاقتران:
قال ابن عاشور رحمه الله: «وذِكْر وصف المؤمن عقب الأوصاف التي قبله إتمام للاحتراس من توهُّم وصفه تَعَالَى بالمَلك، أنه كالملوك المعروفين بالنقائص. فَأُفِيدَ أولًا: نزاهة ذاته بوصف القدوس، ونزاهة تصرفاته المغيبة عن الغدر والكيد بوصف المؤمن، ونزاهة تصرفاته الظاهرة عن الجور والظلم بوصف السلام
…
وتعقيب المؤمن بالمهيمن؛ لدفع توهم أن تأمينه عن ضعف أو عن مخافة غيره، فاعلموا أن تأمينه لحكمته مع أنه رقيب مطلع على أحوال خلقه، فتأمينه إياهم رحمة بهم»
(3)
.
(1)
تفسير القرطبي (18/ 46).
(2)
التحرير والتنوير (28/ 121).
(3)
التحرير والتنوير (28/ 120، 122).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (المؤمن):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (المؤمن) من صفات:
الله عز وجل المؤمن الذي صدق نفسه وصدق غيره، وهو المؤمن الذي جعل غيره آمنا، فجاءت أوجه تصديقه، وأوجه تأمينه كثيرة متنوعة، وبيانها على النحو الآتي:
أولًا: أوجه تصديقه، منها:
المصدق للحق بإحقاقه وإظهاره واستمراره، وزوال الباطل واضمحلاله، قال تَعَالَى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، وضرب المثل لهما بقوله:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
ومن تصديقه للحق:
- تصديق نفسَهُ بالتوحيد، كما قال تَعَالَى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، وجاء في حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما، أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، صَدَّقَهُ رَبُّهُ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَأَنَا أَكْبَرُ، وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي، وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قَالَ اللهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي
لَا شَرِيكَ لِي، وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، قَالَ اللهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لِيَ الْمُلْكُ وَلِيَ الْحَمْدُ، وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، قَالَ اللهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِي، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ قَالَهَا فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَطْعَمْهُ النَّارُ»
(1)
.
فشهد سُبْحَانَهُ لنفسه بالتوحيد، وصدَّق ذلك بما أقام من الحجج والبراهين القاطعة على توحيده، وأنه لا إله إلا هو، ونوَّع في الأدلة في الآفاق والأنفس على هذا الأصل العظيم
(2)
.
- تصديقه لكتابه بما يقيم من الدلائل على صدقه، قال تَعَالَى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 52 - 53]، قال الشيخ السعدي رحمه الله: «{قُلْ} لهؤلاء المكذبين بالقرآن المسارعين إلى الكفران {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ} هذا القرآن {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} من غير شك ولا ارتياب، {ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
…
فإن قلتم، أو شككتم بصحته وحقيقته، فسيقيم الله لكم، ويريكم من آياته في الآفاق كالآيات التي في السماء وفي الأرض، وما يحدثه الله تَعَالَى من الحوادث العظيمة، الدالة للمستبصر على الحق، {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} مما اشتملت عليه أبدانهم، من بديع آيات الله وعجائب صنعته، وباهر قدرته، وفي حلول العقوبات والمثلات في
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3430) واللفظ له، وابن ماجه، رقم الحديث:(3794)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1390).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 124).
المكذبين، ونصر المؤمنين {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} من تلك الآيات، بيانًا لا يقبل الشك {أَنَّهُ الْحَقُّ} وما اشتمل عليه حق»
(1)
.
- تصديقه رسله وأنبيائه وأتباعهم، بما يظهر من الدلائل الدالة على صدقهم، كما قال تَعَالَى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25]، قال السعدي رحمه الله:«وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاءوا به وحقيته»
(2)
.
وهذه الدلائل والبينات متنوعة، فقد تكون آية خارقة للعادة يجريها على أيديهم، كالناقة التي أخرجها من الصخرة آية لنبيه ورسوله صالح عليه السلام، قال تَعَالَى:{قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73]، وما أجراه على يدي نبيه ورسوله موسى عليه السلام، قال تَعَالَى:{وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل: 10 - 12]، وكذلك عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وغيرهم من الرسل والأنبياء، وإلى غير ذلك من الدلائل التي يصدق الله بها أولياءه.
2 -
المصدق لعباده المؤمنين ما وعدهم به من النصر في الدنيا والتمكين في الأرض، والمصدق الكافرين ما وعدهم به من الخزي والخذلان، قال تَعَالَى:{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء: 9]،
(1)
المرجع السابق (ص: 752).
(2)
المرجع السابق (ص: 842).
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْبِلَادِ، وَالنَّصْرِ وَالرِّفْعَةِ فِي الدِّينِ، وَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا فَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ»
(1)
.
3 -
المصدق لعباده ظنونهم وأمالهم به، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ»
(2)
، وفي رواية:«إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ»
(3)
.
4 -
المصدق عبادَه المؤمنين بما يجيبون به عند السؤال؛ ففي يوم القيامة يُسأل الجميع عن عملهم، كما قال تَعَالَى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93]، فيصدق أهل الإيمان بما يجيبون به، ويُكَذِّبُ الكفرةَ والمجرمين، كما قال سُبْحَانَهُ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث: 1153)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(6416)، والحاكم، رقم الحديث:(21615)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(2825).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(9199)، وابن حبان، رقم الحديث:(639)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1663).
مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 22 - 24]، ويستنطق الجوارح لتشهد عليهم بأعمالهم، كما قال تَعَالَى:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65].
5 -
المصدق عباده المؤمنين ما وعدهم به من الثواب في الآخرة، قال تَعَالَى:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74]، والمصدق الكافرين ما وعدهم به من العذاب والنكال في الآخرة أيضًا، قال تَعَالَى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44]
(1)
.
ثانيًا: أوجه تأمينه، منها:
1 -
المؤمن سُبْحَانَهُ لجميع خلقه، بسوق ما يأمن لهم بقاء حياتهم إلى الأجل الذي أجَّل لهم من الأرزاق، وجلب المنافع، ودفع الشرور والأضرار، حتى أنه سُبْحَانَهُ وكَّل بهم حفظة من الملائكة يحفظون أبدانهم وأرواحهم ممن يريدهم بسوء، قال تَعَالَى:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]
(2)
.
وقد أشار إبراهيم الخليل عليه السلام إلى هذا الأمن، وأن الله سُبْحَانَهُ وحده هو واهب الأمن للعباد، فقال:{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] فآمن
(1)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 125 - 126)، فقه الأسماء الحسنى (205 - 208).
(2)
تفسير السعدي (ص: 414).
بالهداية، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] فآمن بالرزق، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] فآمن بالصحة.
2 -
المؤمن سُبْحَانَهُ للخائفين بإعطائهم الأمان والاطمئنان، كما قال تَعَالَى:{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] لا سيما من التجأ إليه ولاذ به وأقبل عليه، قال ابن القيم رحمه الله:«والمضطر إذا صدق في الاضطرار إليه: وجده رحيمًا مغيثًا، والخائف إذا صدق في اللجوء إليه: وجده مُؤمِّنًا من الخوف»
(1)
.
3 -
المؤمن سُبْحَانَهُ لعباده المنقادين لشرعه، بما شرع لهم من الأحكام والحدود التي يأمنون فيها على دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأعراضهم، وأموالهم سواء على مستوى الفرد، أو الأسرة، أو المجتمع بحيث يعيش الجميع في أمن وسلام في ظل أحكام الله عز وجل:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
4 -
المؤمن سُبْحَانَهُ لعباده المؤمنين، بما يجعل في نفوسهم من الراحة والطمأنينة والأنس إذا أقبلوا عليه، قال تَعَالَى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، قال ابن كثير رحمه الله:«والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت»
(2)
، وقال السعدي رحمه الله:«بطمأنينة قلبه وسكون نفسه، وعدم التفاته لما يشوش عليه قلبه، ويرزقه الله رزقًا حلالًا طيبًا من حيث لا يحتسب»
(3)
.
(1)
مدارج السالكين (3/ 304).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 601).
(3)
تفسير السعدي (ص: 449).
5 -
المؤمن سُبْحَانَهُ لعباده من أن يظلمهم، قال تَعَالَى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، فلا يظلم أحدًا بأن ينقص من حسناته شيئًا، أو يزيد في سيئاته شيئًا، ولو كان مثقال الذر {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، بل أنه سُبْحَانَهُ حتى الكافر يثيبه على حسناته، فيعجل ثوابه في الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الله لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا»
(1)
.
ومن تمام تأمينه لعباده من الظلم وضع الموازين يوم القيامة لتوزن بها الأعمال، قال تَعَالَى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
(2)
6 -
المؤمن سُبْحَانَهُ لأهل توحيده وطاعته من المخاوف والعذاب والشقاء، قال تَعَالَى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
يؤمنهم في الدنيا ويطمئن قلوبهم ويشرح صدورهم، ويؤمنهم عند نزول الموت بهم بما يرسل من ملائكة الرحمة تثبتهم وتبشرهم، كما قال تَعَالَى:{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، تتنزل عليهم مرة بعد أخرى مزيدًا في الأمن
(1)
سبق تخريجه.
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 524).
والاطمئنان
(1)
، «وتقول لهم:{أَلَّا تَخَافُوا} على ما يستقبل من أمركم، {وَلَا تَحْزَنُوا} على ما مضى، فنفوا عنهم المكروه الماضي والمستقبل، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فإنها قد وجبت لكم وثبتت، وكان وعد الله مفعولًا»
(2)
.
وفي حديث البراء رضي الله عنه: «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّة، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عليه السلام، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ» ، قَالَ:«فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ»
(3)
.
ويؤمنهم في أرض المحشر من أهوال القيامة وشدائدها: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103] فلا يقلقون ولا يحزنون إذا فزع الناس أكبر فزع في ذلك اليوم العظيم، بل وتستقبلهم الملائكة بالتهاني قائلين:{هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فليهنكم ما وعدكم الله، وليعظم استبشاركم، بما أمامكم من الكرامة، وليكثر فرحكم وسروركم، بما أمنكم الله من المخاوف والمكاره
(4)
.
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 748).
(2)
المرجع السابق.
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18534)، وهناد في الزهد، رقم الحديث:(339)، حكم الألباني: صحيح، المشكاة، رقم الحديث:(1630).
(4)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 531).
ويؤمنهم من النار وحرها، كما قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 101 - 102].
وهذا الأمن يختلف باختلاف ما معهم من التوحيد والتقوى «فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقًا، لا بشرك، ولا بمعاص؛ حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها»
(1)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (المؤمن) على التوحيد:
إذا تأمل العبد في اسم الله المؤمن وما فيه من تصديق الله للتوحيد بشهادته عليه كما في قوله تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، وإقامته للحجج والبراهين والأدلة النقلية والعقلية عليه، ونصرته لمن قام به ولو كان ضعيف العدة والعتاد، وخذلانه للشرك وأهل الإشراك وإيقاعه ألوان العقوبات عليهم، ووعده لأهل التوحيد بالأمن في الدارين- ساقه ذلك كله لتوحيده وإخلاص العبودية له وحده لا شريك له
(2)
.
(1)
المرجع السابق.
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 124 - 125).
الأثر الثالث: لا يجمع المؤمن سُبْحَانَهُ لعبده أمنين ولا خوفين:
من تأمين الله لعباده ألا يجمع عليهم الخوف في الدارين، بل من خاف في الدنيا وعمل بطاعته أمنه مما يخاف يوم القيامة، ومن أمن في الدنيا من مكر الله وعمل بمعاصيه أخافه الله يوم القيامة، كما جاء في الحديث، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربِّه عز وجل، قال:«وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(1)
.
والخوف من الله عبادة قلبية، عظم الله شأنها ورفع منزلتها، فحث عليها في كتابه وجعلها شرطًا للإيمان به سُبْحَانَهُ، فقال:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، ومدح أهل خوفه وخشيته، وأثنى عليهم بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} إلى أن قال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61].
وسَألتْ عائشةُ رضي الله عنها النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن قول الله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]، أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر؟ قال:«لَا، يَا بُنَيَّةَ أَبِي بَكْرٍ - أَوْ: لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ - وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيُصَلِّي، وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ»
(2)
، قال الحسن: «عملوا- والله-
(1)
أخرجه ابن حبان، رقم الحديث:(640)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(759)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2666).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(25263)، والترمذي، رقم الحديث:(3175)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4198)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(162).
بالطاعات واجتهدوا فيها، وخافوا أن تُرَدَّ عليهم، إن المؤمن جمع إحسانًا وخشيةً، والمنافق جمع إساءَةً وأمنًا»
(1)
.
ورغَّب سُبْحَانَهُ في الخوف منه بما أعد لأهلها من الجزاء في الآخرة، قال تَعَالَى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، وقال:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41].
فعلى المسلم أن يحرص على تحقيق هذه العبادة العظمية، وأن يجمع معها المحبة، والرجاء؛ فإن القلب- في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، «فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فقد أصبح عرضة لكل صائد وكاسر»
(2)
، والاقتصار على واحد من هذه الأمور الثلاثة- دون الباقي- انحراف عن الجادة، وخلل في السلوك.
وأما تغليب أحدها على الآخر، فاستحبه السلف في بعض المواضع، فمثلًا: استحبوا أن يُغلَّبَ في حال الصحة جانبُ الخوفِ على جانب الرجاء؛ لأن العبد لا يزال في ميدان العمل، وهو بحاجة إلى ما يسوقه للعمل، وأما في حال الضعف والخروج من الدنيا؛ يغلب جانب الرجاء؛ ليموت محسنًا الظن بربه، ممتثلًا قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عز وجل»
(3)
.
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 507).
(2)
المرجع السابق (1/ 513).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2877).
والخوف من الله، منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم؛ فالخوف المحمود هو: ما حال بين صاحبه، وبين محارم الله عز وجل، فليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، بل من يترك ما يخاف أن يُعاقَبَ عليه، ومنه: قَدْرٌ واجب ومستحب؛ فالواجب منه: ما حمل على أداء الفرائض، واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في النوافل، والبعد عن المكروهات، وعدم التوسع في فضول المباحات، كان ذلك مستحبًّا، فإن زاد على ذلك، بحيث أدَّى إلى اليأس والقنوط والمرض، وأقعد عن السعي في اكتساب الفضائل كان ذلك هو الخوف المحُرَّم.
الأثر الرابع: محبة الله المؤمن:
الأثر الخامس: أسباب نيل الأمن في الآخرة:
الله المؤمن سُبْحَانَهُ الذي يؤمن عباده في الدارين، وأعظم ما يكون الأمن يوم الفزع الأكبر إذا وقعت الساعة، ورجفت الأرض وارتجت، وزلزلت زلزالها، وتصدعت الجبال، واندكت، وتفطرت السماء وانفطرت، وتكورت الشمس والقمر، وتنثرت النجوم، وكان من القلاقل والبلابل ما تنصدع له القلوب، وتوجل منه الأفئدة، وتشيب منه الولدان، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] أذهب العقول، وفرغ القلوب، وملأها فزعًا وهلعًا، وبلغت القلوب الحناجر، وشخصت الأبصار، وعظ الظالم على يديه قائلًا:{يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان: 27]، {يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 28]، ونصبت الموازين التي يوزن بها مثاقيل الذر من الخير والشر، ونشرت صحائف الأعمال وما فيها من جميع الأعمال والأقوال والنيات من صغير وكبير، ونصب الصراط على متن جهنم، وتزلف الجنة للمتقين، وبرزت الجحيم للغاوين، فزاد الفزع فزعًا، والشدة شدة، إلا أن هناك أقوامًا آمنين لم يصبهم شيء من الفزع والهلع، على الرغم من هذه الأهوال، قال تَعَالَى:{أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]
(1)
.
وإنما نالوا هذا الأمن بفضل الله المؤمن أولًا، ثم بما قاموا به من أسباب كانت سبب في تأمينهم، ومن هذه الأسباب:
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 532 - 533).
1 -
التوحيد، قال تَعَالَى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] الظلم: الشرك، كما جاء في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:«لَمَّا نَزَلَتِ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: 82] قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ، قَالَ: لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ بِشِرْكٍ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]»
(1)
.
2 -
الإيمان بالأركان الستة، وتصديقها بالتقوى التي حقيقتها امتثال الأوامر، واجتناب النواهي
(2)
، كما قال تَعَالَى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [الأحقاف: 13]، وقال:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89].
3 -
الخوف من الله، كما جاء في الحديث، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربِّه -جل وعلا-، قال:«وَعِزَّتِي، لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ، إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3360)، ومسلم، رقم الحديث:(124).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 368).
(3)
سبق تخريجه.
4 -
تنفيس الكرب والشدائد عن المسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
(1)
.
5 -
نصر المسلمين والذب عنهم، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال:«مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ بِالْغَيْبِ نَصَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»
(2)
.
6 -
إنظار المعسر والعفو عنه، كما جاء في حديث أبي اليسر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ»
(3)
.
7 -
أعمال السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ فإن الشمس تدنو من الخلق، حتى تكون منهم قدر مِيْلٍ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العَرَقِ؛ فمنهم: من يكون إلى كعبيه، ومنهم: من يكون إلى ركبتيه، ومنهم: من يكون إلى حِقْوَيْهِ، ومنهم: من يُلجمه العَرَقُ إلجامًا، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ»
(4)
، إلا إن المؤمن سُبْحَانَهُ يأمنهم بظلهم تحت ظله، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الإِمَامُ العَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه البيهقي في الشعب، رقم الحديث (7232).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(3006).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6532)، واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(2863).
وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ الله، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»
(1)
.
الأثر السادس: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»
(2)
:
والعبد المؤمن يأمن الخلق شره وغوائله، ويتصف بالسلامة وكف الشر والأذى عنهم بحيث يأمنون على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
وقد حرص الشارع على تحقيق هذا النوع من الأمن، فتنوعت النصوص الدالة عليه، ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ»
(3)
، أي: لا يكون الرجل مؤمنًا كاملَ الإيمانِ حتى يأمنَ جارُهُ شرورَهُ وغوائِلَهُ، وقوله- أيضًا صلى الله عليه وسلم:«الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»
(4)
، وقوله- أيضًا صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع-:«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ»
(5)
(6)
.
اللهمَّ يا أمان الخائفين، أمِّنَّا يوم الفزع الأكبر، واجعلنا من أوليائك
الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(46).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6016).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(10)، ومسلم، رقم الحديث:(41).
(5)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(24591)، وابن حبان، رقم الحديث:(4862)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(549).
(6)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (1/ 126 - 127)
الهَادِي جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الهدى: الرشاد والدلالة، يؤنث ويذكر، يقال: هداه الله للدين هدى، وقوله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} [السجدة: 26] قال أبو عمرو بن العلاء: أولم يبين لهم، وهديته الطريق والبيت هداية، أي: عرفته»
(1)
.
يقول ابن فارس رحمه الله: «الهاء والدال والحرف المعتل أصلان، أحدهما: التقدم للإرشاد، والآخر: بعثة لطف، فالأول قولهم: هديته الطريق هداية، أي: تقدمته لأرشده، وكل متقدم لذلك هاد، والأصل الآخر الهدية: ما أهديت من لطف إلى ذي مودة»
(2)
.
ورود اسم الله (الهادي) في القرآن الكريم:
ورد اسم الله الهادي في آيتين من القرآن الكريم، وهما:
1 -
قول الله تَعَالَى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54].
2 -
وقول الله تَعَالَى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31].
(1)
الصحاح في اللغة (6/ 383).
(2)
مقاييس اللغة (6/ 42 - 43).
ورود اسم الله (الهادي) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله الهادي في السنة النبوية.
معنى اسم الله (الهادي) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54]-: «أي: وإن الله لمرشد الذين آمنوا بالله ورسوله إلى الحق القاصد، والحق الواضح»
(1)
.
قال الزجاج رحمه الله: «الهادي هو الذي هدى خلقه إلى معرفته وربوبيته، وهو الذي هدى عباده إلى صراطه المستقيم، كما قال تَعَالَى: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]»
(2)
.
قال الخطابي رحمه الله: «(الهادي) هو الذي مَنَّ بهداه على مَن أراد مِن عباده، فخصَّهُ بهدايته، وأكرمه بنور توحيده، كقوله تَعَالَى: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]»
(3)
.
وقال أيضًا رحمه الله: «وهو الذي هدى سائِر الخلق مِن الحيوان إلى مصالحها، وألهمهَا كيف تطلبُ الرزق، وكيف تتقي المضارَّ والمهالِكَ، كقوله تَعَالَى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]»
(4)
.
(1)
تفسير الطبري (18/ 670).
(2)
تفسير الأسماء الحسنى (ص: 64).
(3)
شأن الدعاء (ص: 95).
(4)
المرجع السابق (ص: 95 - 96).
قال الحليمي رحمه الله: «هو الدَّالُّ على سبيل النجاة والمبيِّنُ لها؛ لئلَّا يزيغ العبد ويضل، فيقع فيما يُرديه ويُهلكه»
(1)
.
قال البيهقي رحمه الله: «هو الذي بهدايته اهتدى أهلُ ولايته، وبهدايته اهتدى الحيوان لما يصلحه واتَّقَى ما يضره»
(2)
.
قال ابن الأثير رحمه الله: «هو الذي بصَّر عباده، وعرفهم طريق معرفته، حتى أقروا بربوبيته، وهدى كل مخلوق إلى ما لا بد له منه في بقائه ودوام وجوده»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «الهادي الذي يهدي ويُرشد عبادَه إلى جميع المنافع، وإلى دفع المضار، ويُعلِّمهم ما لا يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبَهم مُنيبة إليه، منقادة لأمره»
(4)
.
اقتران اسم الله (الهادي) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترنِ اسمُ الله (الهادي) إلا باسم الله (النصير)، وذلك في قوله تَعَالَى:{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31].
وجه الاقتران:
أن الاسمين الكريمين يتناسبان مع سياق الآية التي يبين فيها الله أنَّ مِن سُنته أنْ يقيض لكل نبيٍّ عدوًّا مِن المجرمين، ولكن الله سُبْحَانَهُ يتولى أنبياءَهُ
(1)
المنهاج (1/ 207).
(2)
الاعتقاد (ص 66).
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 253).
(4)
تفسير السعدي (ص: 949).
بهدايتهم إلى الحقِّ ونصرتهم على أهل الباطل مِن المجرمين، فهو سُبْحَانَهُ الذي يتولى أنبياءَه وأولياءَه بالهداية- بكلِّ معانيها- ونصرتهم بجميع أنواع النصرة.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الهادي):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الهادي) من الصفات، وتوحيد الله به:
الله سُبْحَانَهُ هو الهادي لعباده، المبين لهم طريق الحق والإيمان، الكريم القريب لعباده، رحيم بهم هاد لهم، وهدايته سُبْحَانَهُ على أربعة أنواع:
النوع الأول: هداية عامة مشتركة بين الخلق:
«الهداية العامة المشتركة بين الخلق، المذكورة في قوله تَعَالَى:{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، فأعطى كلَّ شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره، وأعطى كل عضو شكله وهيئته، وأعطى كل موجود خلقه المختص به، ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال.
وهذه هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، وهداية الجمال المسخر لما خلق له، فله هداية تليق به، كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به وإن اختلفت أنواعها وصورها.
وكذلك كل مخلوق وعضو له هداية تليق به:
فهدى الرجلين للمشي، واليدين للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للإستماع، والعين لكشف المرئيات، وكل عضو لما خلق له.
وهدى الزوجين من كل حيوان إلى الازدواج، والتناسل، وتربية الولد.
وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه.
وطلبه مراتب هدايته سُبْحَانَهُ لا يحصيها إلا هو، فتبارك الله رب العالمين.
وهدى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتًا ومن الشجر، ومن الأبنية، ثم تسلك سبل ربها مذللة لها لا تستعصي عليها، ثم تأوي إلى بيوتها وهداها إلى طاعة يعسوبها واتباعه، والإئتمام به أين توجه بها، ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصنعة المحكمة البناء.
ومن تأمل بعض هدايته المبثوثة في العالم؛ شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.
ومَن فَهم هذا فَهم سر اقتران قوله تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] بقولِهِ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]، وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة، وأنَّ مَن لم يهمِلْ أَمْرَ كلِّ دابة في الأرض ولا طائرٍ، بل جعلها أممًا وهداها غاياتها ومصالِحها، كيف لا يهديكم إلى كمالِكُم ومصالِحِكُم؟ فهذا أحد أنواع الهداية وأعمُّها
(1)
.
(1)
انظر: بدائع الفوائد (2/ 272).
النوع الثاني: هداية البيان والدلالة:
والتعريف لنجدَي الخير والشَّر وطريق النجاة والهلاك، «وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، فهو كما قال تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة: 24]، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه»
(1)
.
وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام؛ فإنها سبب وشرط، وليست موجبًا، كما قال تَعَالَى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] أي: بيَّنَّا لهم وأرشدناهم ودَلَلْنَاهم فلم يهتدوا، ومنها: قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام:
وهي الهداية المستلزمة للاهتداء، فلا يَتخلَّف عنها، وهي المذكورة في قوله:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93]، وفي قوله:{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ. وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ» .
(2)
وفي قوله تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] فنفَى عنه هذه الهداية، وأثبت له هدايةَ الدعوة والبيان في قوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
(1)
تفسير القرطبي (1/ 160).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(867).
وهذا النوع من الهداية هو ما «تفرَّد به سُبْحَانَهُ، فقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب»
(2)
.
وهي أكبر نعمة يُنْعِم بها (الهادي) سُبْحَانَهُ على عباده؛ إذ كل نعمة دونها زائلة ومضمحلَّة، وبقدر هدايته تكون سعادته في الدنيا، وطيب عيشه وراحة باله، وكذا فوزه ودرجته في الآخرة.
النوع الرابع: هداية الآخرة، إلى الجنة أو النار، إذا سيق أهلها إليها:
وهي غاية الهدايات، فإن أجلَّ وأعظم ما يمن به الله على عباده أن يهديهم للجنة، يقول تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9].
«ومن هُدِي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى جنته ودار ثوابه، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط.
فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الركاب، ومنهم من يسعى سعيًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المخدوش المسلم، ومنهم المكردس في النار، فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا، حذو القذة بالقذة، جزاء وفاقًا {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]»
(3)
.
(2)
تفسير القرطبي (1/ 160).
(3)
مدارج السالكين، لابن القيم (1/ 33).
أما أهل النار فقال الله تَعَالَى عنهم: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23]، وهذا جزاء ما عملوا، وما ظلمهم الله، يقول تَعَالَى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، وقال:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 6] في آيات كثيرة.
(1)
.
وحري بمن عرف اسم الله الهادي ومظاهر هدايته وآمن به، أن يوحده سُبْحَانَهُ بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ويستغني به عن خلقه، فيسأله وحده الهداية والتوفيق والسداد.
الأثر الثاني: أعظم نعمة وأجل هداية هي الهداية للإسلام:
إن أجلَّ نِعم الله وأعظم مننه على عباده، هدايته مَن شاء منهم إلى الدين الإسلامي، يقول الله تَعَالَى في التنويه بهذه النعمة، وبيان عظم مكانتها، وأنها منته سُبْحَانَهُ على مَن شاء من عباده:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
(1)
بصائر ذوي التمييز، للفيروزأبادي (5/ 313 - 413).
وهذه الهداية هي الهداية الخاصَّة، وهي خاصة بالله تَعَالَى، لا يقدر عليها إلا هو، ولايشاركه فيها ملك مُقرَّب ولا نبي مُرسَل، يقول تَعَالَى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]،
ويقول أيضًا: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 37].
وهذه الهداية تأتي بعد هداية البيان؛ تحقيقًا لقوله تَعَالَى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]، ولا تُنال إلا لِمَن حقَّق شروطها، واستَوفَى أسبابها، يقول تَعَالَى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16].
وهذا النوع من الهداية يستلزم أمرَين:
أحدهما: فعل الربِّ تَعَالَى، وهو الهدى بخلق الداعية إلى الفعل
والمشيئة له.
الثاني: فعل العبد، وهو الاهتداء وهو نتيجة للفعل الأول «الهدى»؛ قال تَعَالَى:{قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آل عمران: 73]، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]، ولا سبيل إلى وجود الأثر الذي هو الاهتداء من العبد إلا بعد وجود المؤثِّر الذي هو الهداية من الله، فإذا لم يحصل فعل الله لم يحصل فعل العبد، وهذا النَّوع من الهداية لا يقدر عليه أحدٌ إلا الله سُبْحَانَهُ، قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا
لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، كما أنَّ هذا النوع من الهداية هو الذي نَفَاه القرآن عن الظالمين والفاسقين والكاذبين والمسرف المرتاب، وكلُّ آية في القرآن وردَتْ في نفي الهُدَى فيجب حملها على هذا النوع؛ لأن هذا فضله يختصُّ به مَن يشاء من عباده، ولا حرج في ذلك.
الأثر الثالث: محبة الهادي سُبْحَانَهُ:
لا شك أن معرفة الله الهادي تؤدي إلى محبته عز وجل وتعظيمه والثناء عليه، حيث أعطى كل شيء خلقه وهداه إلى ما لا بدَّ منه في قضاء حاجاته، وأعظم من ذلك: هدايته إليه بما أَودع في هذا الكون من الآيات الباهرات التي تدل على وحدانيته سُبْحَانَهُ، وقال تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] يعني: خُلِقتَ ليسعدك لا سعادة تنقطع عند الموت، بل ليسعدك إلى الأبد، وما الحياة الدنيا إلا إعداد لهذه الحياة الأبدية.
الأثر الرابع: الدعاء باسم الله الهادي:
وهو دعاء الراسخين في العلم، يقول تَعَالَى عنهم:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7 - 8]، ولأن حاجتنا لطلب الهداية من مالكِها سُبْحَانَهُ أشد مِن حاجتنا إلى الطعام والشراب، أُمرنا أن نسألَ الله تَعَالَى الهدايةَ في كل ركعة من الصلاة، في قوله سُبْحَانَهُ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7].
والدعاء بالهداية هومنهج الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- وهم أكمل الخلق إيمانًا وهداية- فقد كانوا يسألونها الله تَعَالَى، ومن شواهد ذلك:
- قوله تَعَالَى على لسان موسى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22].
- وكان محمد صلى الله عليه وسلم يسأل ربَّهُ الهدايةَ في دعواته وصلواته، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:«كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»
(1)
.
- وكان صلى الله عليه وسلم يقول أيضًا: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى»
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه:«قُل اللَّهُمَّ اهْدِنِي، وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ»
(3)
(4)
.
الأثر السادس: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]:
ما أفقر العبد إلى الله، وما أحوجه إلى فضله وهداه، أن يثبته على طاعته وأن يزيده من تقواه، فمن قصد الهداية هداه الله، ومن لجأ إليه أعانه، ومن وقف ببابه ما رده.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(770).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2721).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2725).
(4)
للاستزادة: يراجع الملحق في مقومات الثبات على الهداية.
يقول ابن كثير رحمه الله: «والذين قصدوا الهداية وفقهم الله لها فهداهم إليها، وثبتهم عليها وزادهم منها، {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] أي: ألهمهم رشدهم»
(1)
، والذين شرح الله صدورهم للإيمان فاهتدوا لطف الله بهم، فزادهم هدى وأرسخ الإيمان في قلوبهم ووفقهم للتقوى، فاتقوا وغالبوا أهواءهم.
يقول السعدي رحمه الله فيما أعده الله للمهتدين: «ثم بين حال المهتدين، فقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} بالإيمان والانقياد، واتباع ما يرضي الله {زَادَهُمْ هُدًى} شكرًا منه تَعَالَى لهم على ذلك، {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] أي: وفقهم للخير، وحفظهم من الشر، فذكر للمهتدين جزاءين: العلم النافع، والعمل الصالح»
(2)
.
وفي الملحق الآتي بيان هذه المنزلة، وما يعين للوصول إليها.
فاللهم اهدنا، واهد بنا، واجعلنا سببًا لمن اهتدى.
(1)
تفسير ابن كثير (7/ 315).
(2)
تفسير السعدي (ص 786).
«الهادي يحيب المَهدِيين جل جلاله
-
في موضوع الهداية سنتطرق للمسائل التالية:
أولًا: معنى الهداية:
قال الجرجاني رحمه الله: «الهداية: الدلالة على ما يوصِّل إلى المطلوب»
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: «الهداية: هي البيان والدلالة، ثم التوفيق والإلهام، وهو بعد البيان والدلالة، ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل، فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف؛ ترتب عليه هداية التوفيق»
(2)
.
ثانيًا: مقومات الثبات على الهداية:
أعظم نعمة ينعم بها الله على الإنسان نعمة الإسلام والإيمان، وهذه النعمة تحتاج لمقومات تثبتها وترعاها، وإلا فإن القلوب تتقلب، والإيمان يزيد وينقص، والإنسان ما دام في هذه الحياة فهو معرض للفتن العظيمة، ومن أبرز هذه المقومات ما يلي:
(1)
التعريفات (ص: 277).
(2)
مدراج السالكين (1/ 32).
1 - توفيق الله تعالى:
فأساس الهداية توفيق الله، وإعانته وتيسيره، وتسديده، يقول تَعَالَى في الحديث القدسي:«يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ»
(1)
، والعبد لا يرزق الاستدامة على طاعة الله بشيء أعظم من توفيقه له، فمن حرم التوفيق حرم الثبات، يقول تَعَالَى:{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، والهداية منةٌ من الله، يقول تَعَالَى:{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].
2 - تأمل قدرة الله وبديع خلقه:
فإنَّ تأمُّل المخلوقات، وإمعان النظر فيها بعين البصيرة لا البصر؛ تجلي للعبد الهدايات، وتريه الدلائل والمعجزات، فالتأمل في الصُنع يوصل إلى الصانع، والتأمل في الخلق يوصل إلى الخالق، فطريق الخلق أوسع أبواب الهُدى، وأقربها؛ لأنه يضع العبد أمام قدرة وعظمة وحكمة ورحمة وعلم وخبرة الله -جل وعلا-، فالهادي هدى خلقَه بخلقه يقول تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، فرؤية إبراهيم وتأمله في الخلق هنا هي رؤية قلبية لا بصريه فحسب؛ وإلا فالكثير رُزق البصر، ولكن لا يُرى لذلك في قلبه مِن أثر، والمتأمِّلُ لكلام الربِّ -جل وعلا- يجد كثيرًا من الآيات تأمر الإنسان بالنظر في خلق نفسه، وفي خلق الكون، بسمائه وأرضه وجباله وأنهاره وكافة مظاهره، يقول تَعَالَى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2577).
ويقول: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، ويقول تَعَالَى:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ، ويقول تَعَالَى:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4].
وفي ذلك يقول أحد الأعراب: البعرة تدلُّ على البعير، والأثر يدلُّ على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجاج، وبحار ذات أمواج، أَلَا تدلُّ على اللطيف الخبير؟!
ومما يروى عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، أنه جاءه نفر من الزنادقة، فسألوه دليلًا يدلُّهم على وجود الله عز وجل، فقال لهم: أمهلوني ثلاثة أيام، فأمهلوه، وبعد الأيام الثلاثة أقبلوا إليه، وهو منهمك الفكر، فسألوه عن سبب هذا التفكير، فقال لهم: إني أفكر في سفينة مليئة بالأحمال، وليس عليها قائد ولا ربَّان، وتسير في عباب البحر، وتقطع طريقها بدون مَن يقودها، حتى إذا وصلتْ إلى شاطئ البحر أَنزلت حمولتها بنفسها، فقالوا له: أجننتَ، كيف يعقل هذا؟! فقال لهم: فكيف بعالَمٍ فسيح وكون كبير وسموات وأرض وجبال وبحار، أيعقل أن تسير بدون خالق يُدَبِّرُ أمورَها
…
فما كان منهم إلا أن آمنوا بالله ورسوله
(1)
.
(1)
شرح العقيدة الطحاوية (1/ 95).
3 - تدبر القرآن الكريم:
فالقرآن الكريم هو كلام رب العالمين، وكتابه المبين، أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليكون دستورًا للأمة ومخرجًا للناس من الظلمات إلى النور، وهاديًا لهم إلى الرشاد، وإلى الصراط المستقيم، فالقرآن يبيِّن للعبد أصل الخليقة، وأخبار الأولين والآخرين، وخلق السموات والأرض، وحقيقة الدنيا، وما بعدها، والحكمة من الوجود، وتفصيل الأحكام، وأصول الآداب والأخلاق، وأحكام العبادات والمعاملات، وجزاء المؤمنين والكافرين، فهو تبيان لكل شيء، وهدًى ورحمة للمؤمنين، يقول تَعَالَى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
ومن هنا يقال: إن الخلق والقرآن يدلان على الله عز وجل؛ ويهديان إليه، فالخلق هدًى استدلالي، والقرآن هدًى بياني، ولا يفهم من هذا استغناء أحدهما عن الآخر، بل لا يغني أحدهما عن الآخر، فمن قرأ القرآن وعطل التأمل في مخلوقات الله، فقد عطل بعض القرآن؛ لأن القرآن يأمر بالتأمل في كثير من آياته، ومَن صرف وقته في التأمل دون قراءة القرآن، فإنه وإن عرف الصانع، غير أنه لايعرف أمره ونهيه إلا بمطالعة منهجه المكتوب «القرآن» ، ولن يستطيع العبد معرفة ما يحبه الله وما يكرهه، ويأمر به وينهى إلا عن طريق كتابه، قال تَعَالَى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، فالقرآن يشتمل على أحكام، كما يشتمل على أوامر، ونواهٍ؛ فهو منهج كامل.
4 - الإخلاص والمتابعة:
فمن رُزق الإخلاص رُزق سبيل الخلاص، وفُتحت في وجهه أبواب الرحمة، فما سلك طريق إلا سهله الله له، وما أراد بابًا من الخير إلا فتحه الله له، ومن اطلع الله على قلبه فرأى فيه الإخلاص والصدق؛ ثبَّته، وأحبَّه، ووضع له القبول في الأرض، وفي هذا يقول الحسن البصري رحمه الله:«ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي، حتى أنظر على طاعة أو معصية؛ فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت»
(1)
.
5 - مصاحبة الأخيار والابتعاد عن رفقة الأشرار:
فالإنسان لا يستطيع أن يعيش في عزلة، بل لابد له من مخالطة، ولذا جاء أمر الله تَعَالَى بمصاحبة الأخيار والحذر من مصاحبة الأشرار، يقول سُبْحَانَهُ:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]، ويقول تَعَالَى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]، وفي الحديث:«لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ»
(2)
، وذلك لأن الصحبة والطعام تورث المودة.
6 - الإنابة والتوبة والرجوع إلى الله جل جلاله
-.
فأهل التوبة والإنابة يحبهم الله تَعَالَى، يقول سُبْحَانَهُ:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]، ومن أحبَّه الله هداه بهداه، يقول تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ
(1)
مجموع رسائل ابن رجب (2/ 62).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(11512)، وأبو داود، رقم الحديث:(4832)، والترمذي، رقم الحديث:(2395)، حكم الألباني: حسن، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(556).
اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27] ويقول سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17 - 18].
7 - الدعاء:
ومن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما يلي:
قوله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الهُدَى والتُّقَى، والعَفَافَ والغِنَى»
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي»
(2)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ»
(3)
.
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2721).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2725).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18615)، والنسائي، رقم الحديث:(1305)، حكم الألباني: صحيح، المشكاة، رقم الحديث:(2497).
(4)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(1510)، والترمذي، رقم الحديث:(3551)، وابن ماجه (3830)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1411).
ولما سئلت عائشة رضي الله عنها، بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت:«كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»
(1)
.
وفيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى، أنه قال:«يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ»
(2)
، ومن دعاء المؤمنين:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
8 - المجاهدة على فعل الطاعات، وترك المنكرات،
والصبر على ذلك:
يقول تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] يقول السعدي رحمه الله عند هذه الآية: «{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} وهم الذين هاجروا في سبيل الله، وجاهدوا أعداءهم، وبذلوا مجهودهم في اتباع مرضاته، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي: الطرق الموصلة إلينا، وذلك لأنهم محسنون، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] بالعون والنصر والهداية»
(3)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
تفسير السعدي (ص: 636).
9 - التناصح بين الناس:
فمن أعظم نعم الله على عباده المؤمنين: الهداية لدينه، ثم الدعوة للقيام بالواجب تجاه الناس بهدايتهم إلى ما يصلحهم، ودعوتهم لعبادة ربهم، بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، بالأمر بعبادة الله بجميع أنواعها، والحث عليها وتحسينها مهما أمكن، والزجر عما نهى الله عنه وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه، خصوصًا الدعوة إلى أصل دين الإسلام، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن، والنهي عما يضاده من الكفر والشرك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كذلك تحبيب الله إلى عباده، بذكر تفاصيل نعمه، وسعة جوده، وكمال رحمته، وذكر أوصاف كماله، ونعوت جلاله، وكذا الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك بكل طريق موصل إليه كالحث على مكارم الأخلاق، والإحسان إلى عموم الخلق، ومقابلة المسيء بالإحسان، والأمر بصلة الأرحام، وبر الوالدين، إلى غير ذلك مما لا تنحصر أفراده، مما تشمله الدعوة إلى الخير كله، والترهيب من جميع الشر
(1)
.
ثالثًا: أسباب حرمان الهداية:
هناك أسباب لا بد أن يبتعد عنها عبد الهادي، حتى لا يُحرم هداية الله، ومن ذلك:
1) ضعف المعرفة:
فإن كمال العبد في أمرين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، فإن من الناس من يعرف الحق، لكن إيثاره على الباطل قد يكون عنده
(1)
تفسير السعدي (ص: 749).
ضعيفًا، والجاهل إذا عرف كان قريب الانقياد والاتباع، وبهذا يكون قد قطع نصف الطريق إلى الحق وما بقي عليه إلا قوة العزيمة على الرشد «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، والعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ» رواه أحمد
(1)
، {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68]، وهذا السبب هو الذي حال بين كثير من الكفار وبين الإسلام، فإنهم لا يعرفون عنه شيئًا، ومع ذلك يكرهونه، وكما قيل: الناس أعداء لما جهلوا.
2) عدم الأهلية:
فإنه قد تكون المعرفة تامة، لكن يتخلف عنه عدم زكاة المحل وقابليته، يقول تَعَالَى في ذلك:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، مثل: الأرض الصلدة التي يخالطها الماء، فإنه يمتنع النبات فيها لعدم قبولها، فإذا كان القلب قاسيًا لم يقبل النصائح، وأبعد القلوب من الله: القلب القاسي، وكذا إذا كان القلب مريضًا، فلا قوة فيه ولا عزيمة؛ لما يؤثر فيه العلم، فهم كما وصفهم الله:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
3) الإعراض عن شرع الله تعالى:
من أعرض عن طاعة الله، ولم يلتفت إلى ما يصلح حاله، وامتلأ فؤاده بحب الدنيا والشهوات؛ جازاه الله بأن أعرض عنه وصرف عنه هداه، يقول
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(17389)، والنسائي، رقم الحديث:(1304)، وابن حبان، رقم الحديث:(935)، والطبراني، رقم الحديث:(7157)، حكم الألباني: ضعيف، المشكاة، رقم الحديث:(955).
تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127].
يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سُبْحَانَهُ؛ جازاه بأن يعرض عنه، فلا يمكنه من الإقبال إليه»
(1)
(2)
.
(1)
تقسير القيم (ص: 314).
(2)
المرجع السابق (ص: 314 - 315).
4) الحسد والكبر:
وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقوله: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»
(1)
، وضده التواضع، وهو قبول الحق مع من كان، ولين الجانب.
والمتكبر متعصب لقوله وفعله، وذلك هو الذي حمل إبليس على عدم الانقياد للأمر لما أمر بالسجود، يقول تَعَالَى:{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 71 - 76].
وبهذا الداء تخلف اليهود عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقد عرفوه وشاهدوه، وعرفوا صحة نبوته، يقول تَعَالَى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].
5) الظلم:
(2)
، يقول تَعَالَى عنهم:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(91).
(2)
تفسير السعدي (ص: 617).
6) الكذب:
يقول الشيخ السعدي رحمه الله عند قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]: «أي: لا يوفَّق للهداية إلى الصراط المستقيم {مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}، وصفه الكذب أو الكفر، بحيث تأتيه المواعظ والآيات، ولا يزول عنه ما اتصف به، ويريه الله الآيات، فيجحدها ويكفر بها ويكذب، فهذا أنَّى له الهدى وقد سدَّ على نفسه الباب، وعوقب بأن طبع الله على قلبه، فهو لا يؤمن؟»
(1)
.
7) الإسراف:
والمسرف هو من تجاوز المعروف في شيء، يقول تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، «أي: متجاوز الحد بترك الحق والإقبال على الباطل، ووصفه بالكذاب؛ لنسبته ما أسرف فيه إلى الله، فهذا لا يهديه الله إلى طريق الصواب، لا في مدلوله ولا في دليله، ولا يوفق للصراط المستقيم»
(2)
.
8) الفسق:
يقول ابن عاشور رحمه الله عند قوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5]: «والله لا يهدي القوم الفاسقين، أي: المعرضين عن أمر الله، فإن ذلك لا يستهان به؛ لأنه يؤدي إلى الرين على القلب، فلا ينفذ إليه الهدى من بعد، فلا تكونوهم، وكونوا من المهتدين»
(3)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 717).
(2)
تفسير السعدي (ص: 736).
(3)
التحرير والتنوير (7/ 94).
9) قرناء السوء:
فللقرين أثر كبير على قرنائه، يقول صلى الله عليه وسلم:«الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»
(1)
، ومن شواهد أثر قرناء السوء: مارواه ابن المسيب رحمه الله، عن أبيه، أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال:«أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَالَا يُكَلِّمَانِهِ، حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]»
(2)
.
اللهم اجعلنا هداة مهدين، ولاتجعلنا ضالين أو مضلين.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8491)، وأبو داود، رقم الحديث:(4092)، والترمذي، رقم الحديث:(2378)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3545).
(2)
صحيح البخاري، رقم الحديث:(3884).
الوارثُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «تقول: أورثه الشيء أبوه، وهم ورثة فلان، وورثه توريثًا، أي: أدخله في ماله على ورثته، وتوارثوه كابرًا عن كابر»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الواو والراء والثاء: كلمة واحدة، هي الورث، والميراث أصله الواو، هو أن يكون الشيء لقوم، ثم يصير إلى آخرين بنسب، أو سبب»
(2)
.
ورود اسم الله الوارث في القرآن الكريم:
ورد اسم الله (الوارث) في القرآن في ثلاثة مواضع، كلها بصيغة الجمع، ووروده كالتالي:
1 -
قوله تَعَالَى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23].
2 -
وقوله تَعَالَى: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89].
3 -
وقوله تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58].
(1)
الصحاح (1/ 295).
(2)
مقاييس اللغة (6/ 105).
ورود اسم الله (الوارث) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله (الوارث) في السنة النبوية.
معنى اسم الله (الوارث) في حقه تعالى:
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23]«أي: ونحن نرث الأرض ومن عليها بأن نميت جميعهم، فلا يبقى حي سوانا إذا جاء ذلك الأجل»
(1)
، وقال في آية القصص:{وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58] أي: ولم يكن لما خرَّبنا من مساكنهم منهم وارث، وعادت كما كانت قبل سكناهم فيها، لا مالك لها إلا الله الذي له ميراث السماوات والأرض»
(2)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «الله عز وجل وارث الخلق أجمعين؛ لأنه الباقي بعدهم وهم الفانون، كما قال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40]»
(3)
.
قال الخطَّابي رحمه الله: «هو الباقي بعد فناء الخلق، والمسترد أملاكهم وموارثهم بعد موتهم، ولم يزل الله باقيًا مالكًا لأصول الأشياء كلها، يورثها من يشاء، ويستخلف فيها من أحب»
(4)
.
(1)
تفسير الطبري (17/ 89).
(2)
جامع البيان (20/ 61).
(3)
اشتقاق أسماء الله الحسنى (ص: 173).
(4)
شأن الدعاء (96).
قال القرطبي رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23]: «أي: الأرض ومن عليها، ولا يبقى شيء سوانا، نظيره {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40] فملك كل شيء لله تَعَالَى، ولكن ملك عباده أملاكًا، فإذا ماتوا انقطعت الدعاوى، فكان الله وارثًا من هذا الوجه»
(1)
.
قال السعدي رحمه الله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89] أي: «خير الباقين، وخير من خلفني بخير»
(2)
.
وقال في قوله تَعَالَى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58]: «للعباد، نميتهم، ثم يرجع إلينا جميع ما متعناهم به من النعم، ثم نعيدهم إلينا، فنجازيهم بأعمالهم»
(3)
.
اقتران اسم الله (الوارث) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله (الوارث) بغيره من أسماء الله.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله الوارث:
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الوارث) من صفاته سُبْحَانَهُ:
الله تَعَالَى هو الوارث الحق القدير المالك جل في علاه، يقول تَعَالَى:{وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89]، ويقول سُبْحَانَهُ:{وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58].
(1)
تفسير القرطبي (10/ 18).
(2)
تفسير السعدي (1/ 530).
(3)
المرجع السابق (ص: 621).
ومن مظاهر ذلك:
هو الوارث سُبْحَانَهُ الذي يبقى بعد فناء الوارثين، فكل ما سواه زائل، وكل من عداه فان {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23]، ومن ذلك:
يفنى الملوك وأملاكهم، كما فني فرعون وجنده، وقارون وملكه، والنمرود وجبروته.
ويفني أولو القوة والشدة، كما فنيت عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وأصحاب الأيكة، وقوم لوط، فلم يبق منهم عين ولا أثر، بل بقيت أخبارهم عبرة للمعتبرين، وأسمارهم عظة للمتعظين
(1)
، قال تَعَالَى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98].
وتفنى الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها، كما قال سُبْحَانَهُ:{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40][مريم: 39]، ويفنى ما عليها من إنس وجن، ودواب، بل حتى من في السماء يفنى إلا من شاء الله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27]
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 501).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير، رقم الحديث:(7/ 494)، تفسير السعدي، رقم الحديث:(ص: 830)، فقه الأسماء الحسنى، البدر، رقم الحديث:(ص: 295).
فالكل يفنى ويموت ويبيد، ويبقى الوارث الحي الذي لا يموت، والباقي الذي لا يزول، والدائم الذي لا منتهى له، قال تبارك وتعالى:{وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23]، وقال سُبْحَانَهُ:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]
(1)
.
وهو الوارث الذي إليه مرجع كل شيء ومنتهاه، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180]، ومن ذلك:
أنه سُبْحَانَهُ يرث السموات والأرض، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180].
ويرث ما على الأرض جميعًا، قال سُبْحَانَهُ:{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40]، فتبقى ملك للوارث سُبْحَانَهُ ليس لها مالك سواه
(2)
.
ويرثسُبْحَانَهُ الأموال؛ إذ هي منتقلة من أيدي أصحابها، أو هم منتقلون عنها، ثم يعود ملكها بعد ذلك للوارث سُبْحَانَهُ، قال تَعَالَى:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 10]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80]، أي: قوله: لأوتين في الآخرة مالًا وولدًا
(3)
، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى،
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 830).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (18/ 202).
(3)
ينظر: تفسير الطبري (18/ 248)، وتفسير السعدي (ص: 838).
أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ»
(1)
.
ويرث ما أهلك من القرى والمساكن؛ وذلك أن قومها هالكون فانون، فتعود كما كانت قبل سكناهم فيها، لا مالك لها إلا الله، الذي له ميراث السماوات والأرض، قال تَعَالَى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58]
(2)
.
ويرث، ويرث، ويرث حتى تنقطع الدنيا، فتنقطع معها مواريث بني آدم وملكهم، ولا يبقى إلا الوارث الذي له الملك، فيقول إذ ذاك: لمن الملك اليوم؟ ثلاث مرات، ثم يجيب نفسه قائلًا:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]
(3)
.
وهو الوارث سُبْحَانَهُ الذي يورث فضله وملكوته في منازل السماء ومواطن الأرض لمن يشاء من عباده، وحيثما شاء من غير خشية في التفريط أو الضياع؛ لأن إرثها في النهاية راجع إليه، ومن ذلك:
أورث يحيى النبوة لما سأله زكريا وارثًا له، قال تَعَالَى على لسان زكريا:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5 - 6]، أي: يرث النبوة والعلم والدعوة إلى الله
(4)
.
وأورثها سليمان عن أبيه داود، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]«أي: في الملك والنبوة»
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2959).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (19/ 603).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 136)، تفسير السعدي (ص: 735).
(4)
ينظر: تفسير الطبري (18/ 146)، وتفسير ابن كثير (5/ 212).
(5)
تفسير ابن كثير (6/ 182).
وأورث موسى عليه السلام وقومه التوراة، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [غافر: 53 - 54].
وأورث أمة محمد صلى الله وسلم القرآن، مهيمنًا على سائر الكتب:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]
(1)
.
وأورث ويورث الأرض من يشاء من عباده، قال تَعَالَى على لسان موسى:{إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].
ويورث عباده الصالحين جنة الخلد، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقال -جل وعلا-:{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]، وقال:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، فتبارك الله خير الوارثين.
فسبحان الله الحي الذي لا يموت، إليه ترجع أملاك الخلق بعد فنائهم.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (الوارث) على التوحيد:
إذا علم العبد أن الله جل جلاله الوارث الذي يبقى ويفني من سواه، ويدوم وينتهي من عداه، كل شيء هالك إلا وجهه، علم أنه لا يستحق أحد أن يعبد إلا
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 740).
من له الدوام والكمال، قال سُبْحَانَهُ:{هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65]، وعلم أن كل من عداه لا يستحق شيئًا من العبادة؛ إذ كيف يتخذ من يبيد فيزول، ويموت فيفنى، إلهًا يعبد مع الإله الذي لا يبيد ولا يموت؟! تَعَالَى الله عن ما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا
(1)
.
ثم إن العبد إذا تأمل في توريث الله الأرض لأهل التوحيد وإكرامه لهم، وإهانته وعقوبته لأهل الشرك قاده ذلك إلى التوحيد، وعلم أنه سبيل النجاة، وأن الشرك سبيل الهلاك والبوار
(2)
.
الأثر الثالث: التوكل على الوارث سُبْحَانَهُ:
فالإنسان يخاف ويقلق على ما يتركه من بعده من ذرية ومال، ويخشى عليهم الضياع، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 9]، ولكن العبد إذا علم أن ربه الوارث وهو خير الوارثين، وخير من يخلف بخير، وأرحم بعباده منه؛ تعلق قلبه به وتوكل عليه فيما خلف وراءه، فينشرح صدره ويطمئن لوراثته تبارك وتعالى
(3)
.
وخير شاهد على حسن وراثة الله للعبد في ذريته: قوله تَعَالَى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82]، قال ابن كثير رحمه الله: «وذكر
(1)
ينظر: تفسير الطبري (6/ 157).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 125).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 530).
أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان نساجًا
…
وفيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم»
(1)
.
الأثر الرابع: اليقين بتوريث الله الأرض لعباده الصالحين:
إذا علم العبد أن الله (الوارث) الذي يرث الأرض، قد وعد عباده الصالحين بأن يورثهم الأرض ويمكن لهم فيها، كما قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]؛ علم أن وعد الله حق، كائن لا محاله مهما قوي الباطل، فسيأتي اليوم الذي يزهق الله فيه الباطل، كما مكن لبني إسرائيل الذين كانوا خدمة لآل فرعون يسومونهم سوء العذاب، وأورثهم أرض
مصر التي كانوا فيها مستضعفين أذلاء، قال تَعَالَى:{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137]
(2)
، وقال سُبْحَانَهُ:{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 57 - 59]،
وقال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا
(1)
تفسير ابن كثير (5/ 186).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 301).
فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25 - 28]«فسبحان من يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء بطاعته، ويذل من يشاء بمعصيته»
(1)
.
ويورثهم الأرض، كما أورث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه أرض بني قريظة التي كانت من شرفها وعزتها عند أهلها لا يستطيع المسلمون وطأها، قال تَعَالَى:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27]
(2)
، وكما أورث صدر هذه الأمة البلاد والعباد، ففتحوا مشارق الأرض ومغاربها، وحصل مع ذلك الأمن التام والتمكين التام؛ مصداقًا لقوله تَعَالَى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55].
ولا يزال هذا الوعد قائمًا إلى قيام الساعة، فإن قام المسلمون بالإيمان والعمل الصالح، وجدوا ما وعدهم الله به ولو بعد حين، وإنما يسلَّط عليهم الكفار والمنافقون ويدلون عليهم، بسبب إخلالهم بالإيمان والعمل الصالح
(3)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 592).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 662).
(3)
ينظر: المرجع السابق (ص: 573).
الأثر الخامس: محبة الله الوارث:
من آمن باسم ربه (الوراث) الذي يبقى بعد فناء الخلائق، والذي يرث كل شيء، فيرجع ويصير إليه ما في الأرض وما في السماء، فإن قلبه يتعلق به-سُبْحَانَهُ- محبة وتعظيما، سيما أن القلوب فطرت على محبة من له الكمال والعظمة والجلال.
الأثر السادس: الزهد في الدنيا:
إذا تيقن العبد باسم ربه (الوارث) وما فيه من إرث كل شيء؛ علم أن الدنيا وما فيها من مآكل ومشارب لذيذة، ومساكن وقصور طيبة، وأشجار، وأنهار، وزروع، وثمار، ومناظر بهيجة، ورياض أنيقة، وأصوات شجية، وصور مليحة، وملابس فاخرة، وذهب وفضة، وخيل وإبل، وزوجات وأبناء ونحوها فانية مضمحلة، وزائلة منقضية، وستعود صعيدًا جرزًا قد ذهبت لذاتها، وانقطعت أنهارها، واندرست آثارها، وزال نعيمها، ذهبت عن أهلها، وذهبوا عنها، وبقي إرثها للوارث جل في علاه {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40].
مثلها «كمثل المطر، ينزل على الأرض، فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين، وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيمًا تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابًا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب، كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصل درهمها
ودينارها، واقتطف من لذته أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته وماله»
(1)
.
فإذا علم العاقل هذا، وعلم أنه سيعود لربه وحيدًا بلا مال ولا ولد ولا أهل ولا أنصار ولا أعوان، لا يتبعه قليل ولا كثير إلا عمله خيره وشره
(2)
، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80]، وقال:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94]؛ لم يتعلق بالدنيا وزخرفها، ولم يغتر بنعيمها وحبورها، ولم يصحبها صحبة البهائم، ويتمتع بها تمتع السوائم، بل يجعلها منزل عبور لا محل حبور، وشقة سفر، لا منزل إقامة، ووسيلة يتزود بها لأخرته، ومتجرًا يربح به الفوائد الفاخرة، فلا تكون هي محط نظره ومحور اهتمامه ومدار عمله وأمله، بل يظل مدركًا أن الله وارثها وأن بقاءه فيها قنطرة للآخرة، وأن الباقيات الصالحات خير ثوابًا وخير مردًّا
(3)
.
الأثر السابع: الإنفاق في سبيل الوارث تبارك وتعالى
-:
فكل الأموال والأرزاق هي ملك لله أورثها عباده، واستخلفهم فيها، وليست ملكًا لهم، بل لولا فضل الله وإحسانه وتوريثه لم يصل إليهم منها شيء،
(1)
تفسير السعدي (ص: 470).
(2)
ينظر: تفسير الطبري (18/ 249)، تفسير السعدي (ص: 500).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 124، 470، 516).
فلا معنى لمنع فضل الله وإحسانه والبخل بإنفاقه، يقول تَعَالَى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180]، ويقول سُبْحَانَهُ:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7] ثم إن هذا الإحسان من الله عز وجل بالمال موجب للإحسان إلى خلقه، كما قال سُبْحَانَهُ حكاية عن قول الناصحين لقارون:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].
ولا معنى- أيضًا- للبخل بشيء زائل منتقل عنه إلى غيره، قال تَعَالَى:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 10]، فلا يبقى له منه إلا ما أنفقه في سبيل الله، كما جاء في الحديث عن مطرف، عن أبيه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]، قال:«يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟»
(1)
، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي، إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى
(2)
، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2958).
(2)
قال النووي رحمه الله: «ومعناها: ادخره لآخرته، أي: ادخر ثوابه» . شرح النووي على مسلم (18/ 94).
(3)
سبق تخريجه.
ثم إن وجوده بين يديه غنيمة وفرصة للبذل والعطاء، قبل أن ينتقل من يده ويصير إلى غيره، ويحال بينه وبين الإنفاق؛ فيتحسر على تفريطه، ويتمنى أن لو أنفق
(1)
، يقول سُبْحَانَهُ:{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10 - 11].
الأثر الثامن: طلب الإرث الحقيقي (العلم):
الله عز وجل الوارث امتن على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن أورثهم الكتاب، مهيمنًا على كل كتاب، قال تَعَالَى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]«هو الفضل الكبير، الذي جميع النعم بالنسبة إليه، كالعدم، فأجلُّ النعم على الإطلاق، وأكبر الفضل: وراثةُ هذا الكتاب»
(2)
.
ومعنى وراثة الكتاب: وراثة علمه وعمله، ودراسة ألفاظه، واستخراج معانيه، والكل من الأمة له نصيب من ذلك، وإن تفاوتت المراتب، وتمايزت الأحوال.
فإذا علم العبد هذا لم يرض بأن يكون نصيبه من هذا الفضل الكبير أقله وأدناه، بل سعى ليكون أكثره وأوفاه، فتجده يقبل على الكتاب تلاوة، وحفظًا، وفهمًا وتدبرًا، وعملًا، وتعليمًا ودعوة، ويقبل على العلم الذي يعين على فهمه، ومعرفة عقائده وأحكامه، وعبره وأخباره.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 158 - 159، 838 - 839).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2959).
وهذا هو الإرث الحقيقي، والإرث الأعظم، إرث العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لذا كان ميراث الأنبياء عليهم السلام، قال تَعَالَى عن زكريا:{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 6]، قال مجاهد رحمه الله:«كان وراثته علمًا»
(1)
(2)
، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، فَوَقَفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ:
يَا أَهْلَ السُّوقِ، مَا أَعْجَزَكُمْ، قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: ذَاكَ مِيرَاثُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقْسَمُ، وَأَنْتُمْ هَاهُنَا لَا تَذْهَبُونَ فَتَأَخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ! قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجُوا سِرَاعًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَوَقَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا، فَلَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا يُقْسَمُ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدًا؟ قَالُوا: بَلَى، رَأَيْنَا قَوْمًا يُصَلُّونَ، وَقَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَقَوْمًا
(1)
تفسير الطبري (18/ 146).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22129)، وأبو داود، رقم الحديث:(3642)، والترمذي، رقم الحديث:(2682)، وابن ماجه، رقم الحديث:(223)، حكم الألباني: حسن، المشكاة، رقم الحديث:(212).
يَتَذَاكَرُونَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَيْحَكُمْ، فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
وإن لهذا الميراث- العلم- فضائل جمة، منها على سبيل الذكر لا الحصر
(2)
:
أن الله قرن شهادة أهل العلم بشهادته وشهادة ملائكته، كما أنه استشهد بهم على أجل مشهود، ألا وهو التوحيد، قال تَعَالَى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18].
أن الله تَعَالَى نفى التسوية بين أهل العلم وأهل الجهل، قال سُبْحَانَهُ:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
أن الله أمر نبيه بالاستزادة منه، ولم يأمره بالاستزادة من شيء سواه، قال تَعَالَى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
أن الله وعد أهل الجنة برفعة الدرجات، قال الله تَعَالَى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، وهذا شامل للرفعة في الدنيا والآخرة.
أن الله جعل أهله هم أهل خشيته، بل خصَّهم من بين الناس بذلك، قال تَعَالَى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط (1429).
(2)
ينظر للاستزادة: مفتاح دار السعادة، لابن القيم رحمه الله؛ فقد ذكر من فضائل العلم ما يربو على مائة فضيلة.
أن الله جعله دليلًا على إرادته بعبده خيرًا، كما جاء في الحديث:«مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»
(1)
، وإنما يكون هذا إذا أراد صاحبه به العمل به لا مجرد العلم.
أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم؛ توقيرًا وإكرامًا لما يحمله من ميراث النبوة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ العِلْمِ»
(2)
.
أن من في السموات ومن في الأرض يستغفر للعالم، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ»
(3)
.
(4)
.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرغب أحدًا أن يغبط أحدًا على شيء من النعم التي أنعم الله بها، إلا على نعمتين: طلب العلم والعمل به، وصاحب المال الذي جعل ماله خدمة للإسلام؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(71)، ومسلم، رقم الحديث:(1037).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
مفتاح دار السعادة (1/ 64).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا»
(1)
.
أنه طريق موصل للجنة، كما دل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ»
(2)
.
الأثر التاسع: السعي لإرث الجنة:
وعد الله الوارث عز وجل عباده الصالحين بأن يورثهم الأرض، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وإن أعظم أرض تورث جنة الخلد، قال تَعَالَى عن إرث أهل الإيمان لها:{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10 - 11]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، وقال:{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] فيلهج أهلها بشكر الله على إرثها: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] نعم أجرهم؛ إذ ورثوا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عن ربه عز وجل: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(73)، ومسلم، رقم الحديث:(816).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2699).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3244)، ومسلم، رقم الحديث:(2824).
وقد قال ابن القيم رحمه الله في وصف هذا النعيم العظيم، والإرث الكريم: «وكيف يقدرُ قدرَ دار غرسها الله بيده وجعلها مقرًّا لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص.
فإن سألت عن أرضها وتربتها، فهي المسك والزعفران.
وإن سألت عن سقفها، فهو عرش الرحمن.
وإن سألت عن بلاطها، فهو المسك الأذفر.
وإن سألت عن حصبائها، فهو اللؤلؤ والجوهر.
وإن سألت عن بنائها، فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، لا من الحطب والخشب.
وإن سألت عن أشجارها، فما فيها شجرة إلا وساقها من ذهب.
وإن سألت عن ثمرها، فأمثال القلال، ألين من الزبد وأحلى من العسل.
وإن سألت عن ورقها، فأحسن ما يكون من رقائق الحلل.
وإن سألت عن أنهارها، فأنهارها من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى.
وإن سألت عن طعامهم، ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون.
وإن سألت عن شرابهم، فالتسنيم والزنجبيل والكافور.
وإن سألت عن آنيتهم، فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير.
وإن سألت عن سعة أبوابها، فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام.
وإن سألت عن تصفيق الرياح لأشجارها، فإنها تستفز بالطرب من يسمعها.
وإن سألت عن ظلها ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مئة عام لا يقطعها.
وإن سألت عن خيامها وقبابها، فالخيمة من درة مجوفة طولها ستون ميلًا، من تلك الخيام.
وإن سألت عن علاليها وجواسقها، فهي غرف من فوقها غرف مبنية، تجري من تحتها الأنهار.
وإن سألت عن ارتفاعها، فانظر إلى الكواكب الطالع، أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار.
وإن سألت عن لباس أهلها، فهو الحرير والذهب.
وإن سألت عن فرشها، فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرتب.
وإن سألت عن أرائكها، فهي الأسرة عليها البشخانات، وهي: الحجال مزررة بأزرار الذهب، فما لها من فروج ولا خلال.
وان سألت عن وجوه أهلها وحسنهم فعلى صورة القمر.
وإن سألت عن أسنانهم، فأبناء ثلاثة وثلاثين، على صورة آدم عليه السلام، أبي البشر.
وإن سألت عن سماعهم، فغناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيين، وأعلى منهما سماع خطاب رب العالمين.
وإن سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عليها، فنجائب أنشأها الله مما شاء، تسير بهم حيث شاؤوا من الجنان.
وإن سألت عن حليهم وشارتهم، فأساور الذهب واللؤلؤ على الرؤوس ملابس التيجان.
وإن سألت عن غلمانهم، فولدان مخلدون، كأنهم لؤلؤ مكنون.
وإن سألت عن عرائسهم وأزواجهم، فهن الكواعب الأتراب، اللائي جرى في أعضائهن ماء الشباب، فللورد والتفاح ما لبسته الخدود، وللرمان ما تضمنته النهود، وللؤلؤ المنظوم ما حوته الثغور، وللدقة واللطافة ما دارت عليه الخصور، تجري الشمس من محاسن وجهها، إذا برزت ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت
…
هذا وإن سألت: عن يوم المزيد وزيادة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزَّه عن التمثيل والتشبيه كما ترى الشمس في الظهيرة، والقمر ليلة البدر، كما تواتر عن الصادق المصدوق النقل فيه، وذلك موجود في الصحاح والسنن والمسانيد من رواية جرير وصهيب وأنس وأبي هريرة وأبي موسى وأبي سعيد، فاستمع يوم ينادي المنادي يا أهل الجنة إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم، فحيَّ على زيارته، فيقولون: سمعًا وطاعةً، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أُعِدَّت لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعدًا، وجمعوا هناك فلم يغادر الدَّاعي منهم أحدًا، أمر الربُّ تبارك وتعالى بكرسيه فنُصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب ومنابر من فضة، وجلس
أدناهم- وحاشاهم أن يكون فيهم دنيء- على كثبان المسك، وما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا.
حتى إذا استقرَّت بهم مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟! ألم يبيِّض وجوهنا؟! ويثقِّل موازيننا؟! ويدخلنا الجنة؟! ويزحزحنا عن النار؟! فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله وتقدَّست أسماؤه، قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم، فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم، ويقول: يا أهل الجنة، فيكون أول ما يسمعونه منه تَعَالَى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب، ولم يروني؟ فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه، فيكشف لهم الرب جل جلاله الحجب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله تَعَالَى قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تَعَالَى محاضرةً، حتى أنه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكِّره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب ألم تغفر لي، فيقول: بلى بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.
فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الكريم في الدار الآخرة، ويا ذلَّة الرّاجعين بالصفقة الخاسرة، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22 - 25].
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا
…
مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا المُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ تَرَى
…
نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ
(1)
وإن لهذا النعيم العظيم أسبابًا، ينال بها، جلَّاها الله لنا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، منها:
1 -
طاعة الله ورسوله: قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 17]. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»
(2)
.
2 -
التوحيد؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ»
(3)
(4)
.
(1)
ينظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 280 - 284).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7280).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1397)، ومسلم، رقم الحديث:(14).
3 -
العمل الصالح، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124].
4 -
التقوى، قال تَعَالَى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31]، «سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يَلِجُ بِهِ النَّاسُ النَّارَ؟ فَقَالَ: الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ، وَالْفَرْجُ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يَلِجُ النَّاسُ بِهِ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: حُسْنُ الْخُلُقِ»
(1)
.
5 -
المراقبة، قال تَعَالَى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41].
6 -
إقامة الصلاة، لا سيما البردين، قال تَعَالَى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2] إلى أن قال سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 9 - 11]، وعن أبي موسى رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ الجَنَّةَ» أي: الفجر والعصر
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8022)، والترمذي، رقم الحديث:(2004)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4246)، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(977).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(574)، وأخرجه مسلم، رقم الحديث:(635).
7 -
النفقة في سبيل الله، قال تَعَالَى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 133 - 134] إلى أن قال سُبْحَانَهُ: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133 - 137]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 7 - 12].
8 -
الجهاد في سبيل الله: قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ -وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ- كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَتَوَكَّلَ اللهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ: أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يُرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»
(1)
.
9 -
الصبر على البلاء، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت: 58 - 59] لا سيما الصبر على
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2787).
فقد البصر؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ»
(1)
أي: عينيه، والصبر على فقد الأبناء؛ فعن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي! فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ! فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ»
(2)
.
10 -
كفالة اليتيم؛ فعن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«وَأَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا»
(3)
.
11 -
طاعة المرأة لزوجها ورضاه عنها، فعن عبد الرحمن بن عوف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ»
(4)
.
12 -
إحصاء تسعة وتسعين من أسماء الله عز وجل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ لِلهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5653).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(20039)، والترمذي، رقم الحديث:(1021)، واللفظ له، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1408).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5304).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(1683)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(303).
(5)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2736)، ومسلم، رقم الحديث:(2677).
(1)
.
13 -
الدعاء وسؤال الله وراثتها، كما سألها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فقال:{وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 85]، وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ:«كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: أَتَشَهَّدُ، ثُمَّ أَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ»
(2)
.
الأثر العاشر: الدعاء باسم الله الوارث:
يحسن بالعبد الذي عرف اسم ربه الوارث أن يدعوه ويتوسل إليه به؛ امتثالًا لقوله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، واقتداء بنبي الله زكريا عليه السلام الذي سأل ربه الولد به، فقال كما حكى الله عنه:{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89] لا سيما إذا تناسب مطلوبه مع هذا الاسم الكريم، كما في دعاء زكريا عليه السلام؛ فقد كان يرجو وارثًا للنبوة من بعده، كما قال الله عنه: {وَإِنِّي خِفْتُ
(1)
فتح الباري، لابن حجر (13/ 378).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(16143)، وأبو داود، رقم الحديث:(792)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3847)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3163).
الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5 - 6] فناسب أن يسأله باسمه الوارث
(1)
.
كما يحسن بالعبد أن يسأل ربه أن يورثه ما ينفعه؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من دعائه: «اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي جَسَدِي، وَعَافِنِي فِي بَصَرِي، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»
(2)
(3)
، والمعنى: أبقِ السمع والبصر وسائر القوى سليمة صحيحة، نتمتع بها إلى أن نموت؛ لأن الإنسان إذا فقد بصره قبل أن يموت، يكون هو الوارث لبصره، وكذا إذا فقد سمعه قبل أن يموت أو قوته يكون هو الوارث لها؛ لأنه
(1)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 298 - 299).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3825)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، رقم الحديث:(1211).
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3502)، والنسائي في الكبرى، رقم الحديث:(10161)، حكم الألباني: حسن، صحيح الكلم الطيب، رقم الحديث:(1268).
فقدها، أما إذا استمتع ببصره وسمعه وقوته إلى أن مات، فهذه الجوارح هي التي ورثته، فليتأمل هذا؛ فإن فيه فائدة عظيمة.
فاللهم يا وارثَ، متِّعْنَا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا،
واجعله الوارث منا.
الواسِعُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «والوسع والسعة: الجدة والطَّاقة، قال تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] أي: على قدر غناه وسعته، والهاء عوض عن الواو، وأوسع الرجل، إذا صار ذا سعة وغنًى»
(1)
.
(2)
.
ورود اسم الله (الواسع) في القرآن الكريم:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (الواسع) في القرآن تسع مرات، ومن وروده ما يلي:
1 -
قوله تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115].
2 -
وقوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].
(1)
الصحاح (3/ 1298).
(2)
مقاييس اللغة (6/ 109).
3 -
وقوله تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32].
ورود اسم الله (الواسع) في السنة النبوية:
لم يرد اسم الله (الواسع) في السنة النبوية.
معنى اسم الله (الواسع) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]-: «يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال، والجود والتدبير»
(1)
.
قال الخطابي رحمه الله: «(الواسع) هو الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده، ووسع رزقه جميع خلقه»
(2)
.
قال الحليمي رحمه الله: «الكثيرة مقدوراته ومعلوماته، والمنبسط فضله ورحمته، وهذا تنزيه له من النقص والعلة واعتراف له بأنه لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء ورحمته وسعت كل شيء»
(3)
.
قال القرطبي رحمه الله: «أي يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم، وقيل: (واسع) بمعنى أنه يسع علمه كل شيء»
(4)
.
قال السعدي رحمه الله: «واسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها، بحيث لا يحصي أحد ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، واسع العظمة والسلطان
(1)
جامع البيان، للطبري (1/ 403).
(2)
شأن الدعاء (ص: 72).
(3)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 198).
(4)
تفسير القرطبي (2/ 84).
والملك، واسع الفضل والإحسان، عظيم الجود والكرم»
(1)
، وقال أيضًا:«كثير الفضل واسع الرحمة، وصلت رحمته وإحسانه إلى حيث وصل إليه علمه»
(2)
.
اقتران اسم الله (الواسع) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
أولًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ (الواسع) باسمه سُبْحَانَهُ (العليم):
تقدم بيانه في اسم الله «العليم» .
ثانيًا: اقتران اسمه سُبْحَانَهُ «الواسع» باسمه سُبْحَانَهُ «الحكيم» :
تقدم بيانه في اسم الله «الحكيم» .
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الواسع):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الواسع) من الصفات، ودلالته على التوحيد:
الله عز وجل هو الواسع، واسع القدرة، وواسع الملك، وواسع العلم، وواسع المغفرة، وواسع الرحمة، وواسع الرزق، وواسع الفضل والإحسان، وواسع في شرعه وحكمه، وواسع في نعيمه للمؤمنين في الآخرة، يقول تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]، وسعته سُبْحَانَهُ لا حد لتعلقاتها؛ إذ هو الواسع المطلق جل جلاله.
(1)
تفسير السعدي (ص: 949).
(2)
تفسير السعدي (ص: 207).
وبيان سعته فيما سبق يتضح من خلال ما يلي:
- سعة قدرة الواسع:
الله تَعَالَى واسع في قدرته، قدرته التي شملت كل شيء، فلا يقف أمامها شيء، ومن ثم لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44].
ومن تأمَّل في عظم خلق الله علم قدرته، ومن ذلك خلقه للملائكة، وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن جبريل عليه السلام أن له ستمائة جناح؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «الرُّوحُ الأَمِينُ جِبْرِيلُ عليه السلام لَهُ سِتمائِةُ جَنَاحٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ، قَدْ نَشَرَهَا مِثْلَ رِيشِ الطَّوَاوِيسِ»
(1)
.
وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عليه السلام مهبطًا، قَدْ مَلَأ مَا بَيْنَ الخَافِقَيْنِ، عَلَيْهِ ثِيَابُ سُنْدُسٍ، مُعَلَّقٌ بِهَا اللُّؤْلُؤُ وَاليَاقُوتُ»
(2)
.
- سعة ملك الواسع:
الله تَعَالَى واسع في ملكه وعظم سلطانه، فلا يخرج شيء عنه، كما قال سُبْحَانَهُ:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255]، وقال:{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء: 28]، ومن دلائل ذلك، قوله تَعَالَى:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255].
(1)
أخرجه أبو الشيخ في كتاب (العظمة)(2/ 801).
(2)
أخرجه أبو الشيخ في كتاب (العظمة)(2/ 768)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(3485).
(1)
.
(2)
.
- سعة علم الواسع:
الله تَعَالَى واسع في علمه، شامل محيط لا يندُّ عنه شيء في الزمان ولا المكان، ولا الأرض ولا السماء، ولا البر ولا البحر، فسواء عنده ما كان في جوف الأرض أو طباق الجو، لا يخفاه علم حي أو ميت، يابس أو رطب، يقول سُبْحَانَهُ:{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: 89]، ويقول تَعَالَى أيضًا:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
(1)
أخرجه أبو الشيخ في كتاب (العظمة)(2/ 569). حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(109).
(2)
تفسير السعدي (ص: 110).
- سعة مغفرة الواسع:
الله تَعَالَى واسع في مغفرته وعفوه، كما قال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32]«فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض، ولما ترك على ظهرها من دابة»
(1)
، وسعت مغفرته ذنوب العباد، فمهما عظمت فإن عفو الله ومغفرته أوسع وأعظم، قال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
- سعة رحمة الواسع:
الله تَعَالَى واسع في رحمته، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وقال حملة العرش في دعائهم لربهم:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] «من العالم العلوي والسفلي، البر والفاجر، المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمة الله، وغمره فضله وإحسانه، ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة، ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [سورة الأعراف: 156] المعاصي، صغارها وكبارها
…
»
(2)
.
- سعة رزق الواسع:
الله وسع الخلائق برحمته- كما تقدم- التي كان من آثارها: سعة الخلائق بالرزق، فتكفل الله سُبْحَانَهُ بأرزاق الخلائق، صغيرهم وكبيرهم، بحريهم وبريهم، جليلهم وحقيرهم، فلا يخرج أحد عن رزقه كائنًا من كان، قال تَعَالَى:
(1)
تفسير السعدي (ص: 821).
(2)
تفسير السعدي (ص: 305).
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]
(1)
، ويقول تَعَالَى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
- سعة فضل الواسع وإحسانه:
الله تَعَالَى واسع الفضل، وسع الخلائق بفضله وجوده، كما قال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [يونس: 60]، وقال:{وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، وليس لهذا الفضل والجود والكرم والإحسان حد و لا غاية، فلا يحد بطريق معين، بل ولا بطرق معينة، فأسباب فضله وأبواب إحسانه لا نهاية لها، فلا يزال كريما محسنًا متفضلًا على عباده، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74].
- سعة شريعة الواسع:
الله تَعَالَى واسع في تشريعه وحكمه، فالشريعة التي أنزلها الله واسعة كافية كاملة، تفي بكل حاجات العباد، كما قال سُبْحَانَهُ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، «قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهو الإسلام، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدًا»
(2)
.
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 305).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 26).
ومن مظاهر سعتها: أن الله وسع فيها على عباده، فلم يكلفهم ما ليس في وسعهم وطاقتهم، جعل لهم من كل ضيق مخرجًا، ومن كل حرج يسرًا، كما قال سُبْحَانَهُ:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقال سُبْحَانَهُ:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، أي: مشقة وعسر، بل يسره غاية التيسير، وسهله بغاية السهولة، كما قال:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185][البقرة: 185].
ووجه ذلك: أنه سُبْحَانَهُ ما أمر وألزم إلا بما هو سهل على النفوس، لا يثقلها ولا يؤودها، فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تَعَالَى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانًا، ثم إذا عرض بعض الأسباب الموجبة للتخفيف، خفف ما أمر به، إما بإسقاطه، أو إسقاط بعضه، فالصلاة -التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين- تجب في الحضر أربعًا، وفي السفر تقصر إلى ثنتين، وتصلى رجالًا وركبانًا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، والقيام فيها يسقط بعذر المرض، فيصليها المريض جالسًا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات، في سائر الفرائض والواجبات؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:«إِنَّمَا بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»
(1)
، وقال: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ
…
»
(2)
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22722)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(7715)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2924).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(39).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 455 - 456)، تفسير السعدي (ص: 120، 547).
وهذه التوسعة من الله على عباده في دينهم؛ تدعوهم إلى فهم الدين فهمًا صحيحًا لا غلو فيه ولا جفاء، بل الوسطية التي أرادها الله من هذه الأمة، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]
(1)
.
وهذه التوسعة أيضًا تورث في النفوس اغتباطًا وفرحًا بالشريعة التي وفقه الله وهداه للإيمان بها، فيسعى للثبات عليها، والدعوة إليها، والجهاد في سبيل نشرها وإيصالها للمحرومين.
- سعة نعيم الواسع في الأخرة:
الله واسع فيما أعد لعباده الموحدين، مما احتوت عليه دار النعيم من الخيرات والمسرات والأفراح واللذات المتتابعات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فكل ما خطر بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة، فلذة الجنة فوق ذلك، كما قال تَعَالَى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم، واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد، كما قال تَعَالَى على لسان رسوله:«أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»
(2)
(3)
.
وأوضح الله لنا سعة ما فيها من النعيم، فقال:{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] «وهذا لفظ جامع، يأتي على كل نعيم وفرح،
(1)
فيسر الشريعة لا يعني- كما يفهم بعض الناس- ترك الالتزام بالدين، وارتكاب ما حرَّم الله.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير، (6/ 365)، تفسير السعدي (ص: 188).
وقرة عين، وسرور قلب، فكل ما اشتهته النفوس، من مطاعم، ومشارب، وملابس، ومناكح، ولذته العيون، من مناظر حسنة، وأشجار محدقة
…
ومبان مزخرفة، فإنه حاصل فيها، معد لأهلها، على أكمل الوجوه وأفضلها»
(1)
.
وما ذكر من سعة الواسع عز وجل إنما هو غيض من فيضه الواسع سُبْحَانَهُ، وما يمكن لعبد مخلوق أن يكتب فيها وقد وسع كل شيء رحمة وعلمًا! فالله الواسع دائم بلا انتهاء عز شأنه وتقدست أسماؤه.
وإذا تقرر لدى العبد عظمة سعة الواسع وشمولها لصفاته كلها؛ تيقن أن العبادة لا تليق ولا تحسن إلا به عز وجل الرب الواسع الذي له الكمال كله، والمجد كله، والحمد كله، والقدرة كلها، والكبرياء كلها، لا بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين لا يعقلون
(2)
.
وكما أن اسم الله (الواسع) دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال على الأسماء والصفات؛ إذ يدل على اسم الله «ذو الجلال والإكرام» ، و «القدير» ، و (الكريم)، و (الرحيم) إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
الأثر الثاني: محبة الله الواسع:
إن المسلم إذا تأمَّل هذا الاسم الجليل لله تَعَالَى، لا بد أن تأسر قلبه محبة الله، وتزداد تمكُّنًا من سويدائه.
فهو تَعَالَى واسع في رحمته، واسع في مغفرته، واسع في علمه، واسع في جميع صفاته، فلا يجد العاقل بُدًّا من حب هذا الإله الجميل الجليل جل في
(1)
تفسير السعدي (769).
(2)
ينظر: المرجع السابق (ص 125).
علاه؛ مما يثمر الإقبال على طاعته، والبحث عما يرضيه ويحبه، وهذا هو طريق الفلاح في الدنيا والآخرة؛ فإن المحب ساع ولا بد في إرضاء محبوبه.
الأثر الثالث: سؤال الله نعيم الجنة الواسع:
إن من آثار اسم الله «الواسع» سُبْحَانَهُ ما أعده لعباده الموحدين، مما احتوت عليه دار النعيم من الخيرات والمسرات والأفراح واللذات المتتابعات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فخير الدنيا والآخرة وألطافها من فضله وسعته وجميع الأسباب والطرق المفضية إلى الراحات والخيرات، كلها من فضله.
تفكر في آيات الله تَعَالَى، وهو يتحدث عن النعيم الذي أعده لعباده المتقين ووسع به على أحبابه المؤمنين:{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71].
فكل ما تشتهيهه الأنفس في جنة الله الواسع من «المشارب، والمآكل والمناكح، والفرش والسرر، والأواني، وأنواع الحلي والملابس، والخدم إلى غير ذلك.
أما المآكل: فقد قال تَعَالَى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف: 73]، وقال:{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21]، وقال تَعَالَى:{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} ، وقال تَعَالَى:{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما المشارب، فقد قال تَعَالَى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 5 - 6].
وقال تَعَالَى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 17 - 18].
وقوله تَعَالَى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 17 - 19].
وقال تَعَالَى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 45 - 47].
إلى غير ذلك من الآيات.
- وأما الفرش: فانظر إلى ما يتكئون عليه من الفرش والسرر ونحو ذلك، في آيات كثيرة، كقوله تَعَالَى:{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54].
وقوله تَعَالَى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: 56].
وقوله تَعَالَى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة: 15 - 16].
والسرر الموضونة هي المنسوجة بقضبان الذهب»
(1)
.
(1)
أضواء البيان، للشنقيطي (7/ 143 - 144).
(1)
.
فدل على أن المراد بـ «نفس» في هذه الآية أصحاب النفوس البشرية.
فإن مدركات العقول منتهية إلى ما تدركه الأبصار من المرئيات من الجمال والزينة، وما تدركه الأسماع من محاسن الأقوال ومحامدها ومحاسن النغمات، وإلى ما تبلغ إليه المتخيلات من هيئات يركبها الخيال، من مجموع ما يعهده من المرئيات والمسموعات، مثل الأنهار من عسل أو خمر أو لبن، ومثل القصور والقباب من اللؤلؤ، ومثل الأشجار من زبرجد، والأزهار من ياقوت، وتراب من مسك وعنبر، فكل ذلك قليل في جانب ما أعد لهم في الجنة من هذه الموصوفات
(2)
.
ويعقد لنا الشيخ السعدي رحمه الله مقارنة سريعة بين الدنيا والآخرة؛ ليحث العباد إلى السعي؛ لتحصيل ما أعده الواسع لخلقه من النعيم في الآخرة:
«فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة، وأن الآخرة خير منها، في ذاتها، ولذاتها وزمانها، فذاتها- كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه- أنَّ مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
(3)
، ولذاتها صافية عن
(1)
سبق تخريجه.
(2)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (21/ 229 - 230).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3250).
المكدرات، بل كل ما خطر بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة، فلذة الجنة فوق ذلك، كما قال تَعَالَى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وقال الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم:«أَعْدَدْتُ لِعَبادي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»
(1)
.
وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع التنغيص، الذي لو قوبل بين لذاتها وما يقترن بها من أنواع الآلام والهموم والغموم، لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه.
وأما زمانها، فإن الدنيا منقضية، وعمر الإنسان بالنسبة إلى الدنيا شيء يسير، وأما الآخرة فإنها دائمة النعيم وأهلها خالدون فيها، فإذا فكَّر العاقل في هاتين الدارين وتصور حقيقتهما حق التصور؛ عرف ما هو أحق بالإيثار، والسعي له والاجتهاد لطلبه»
(2)
.
الأثر الثالث: إذا أُغلق باب فتح الواسع بابًا آخر:
إذا علم العبد أن اللهتَعَالَى واسع العلم، استكان ورضي بالقدر خيره وشره، قال تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]، فهو تَعَالَى واسع العلم والحكمة، وعام القدرة، ونافذ المشيئة، وواسع الفضل والإحسان والرحمة {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].
(1)
سبق تخريجه.
(2)
تفسير السعدي (ص 187).
فلا يعلق العبد قلبه بالأسباب، بل يعلقه بمسببها، ولا يتشوش إذا انسد عنه باب منها، فإنه يعلم أن الله واسع عليم، وأن طرق فضله لا تعد ولا تحصى، وأنه إذا انغلق منها شيء انفتح غيره مما قد يكون خيرًا وأحسن للعبد عاقبة.
قالتَعَالَى مشيرًا إلى هذه الحالة التي كثير من الناس لا يوفقون لها-: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130] لما كانت هذه الحال، وهي حال الفراق يغلب على كثير من الزوجات الحزن، ويكون أكبر داع لهذا الحزن ما تتوهمه من انقطاع رزقها من هذه الجهة التي تجري عليها، فوعد الله الجميع وبشَّرهم بفتح أبواب الخير لهم، وأنه سيعطيهم من واسع فضله، أما هذه فبزوجٍ هو أصلَحُ لها من المطلِّق الأوِّل، أو برزق واسع وعصمة، وأما هذا فبرزق واسع وزوجة هي أصلح له من المطلَّقة، أو عفَّة {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا} [النساء: 130] لهما في رزقه إياهما وغيرهما من خلقه.
وكم من عبد بهذه المثابة له سبب وجهة من الجهات التي يجري عليه الرزق، فانغلقت، ففتح الله له بابًا أو أبوابًا من الرزق والخير، وبهذا يعرف الله، ويعلم أن الأمور كلها منه، وأنه {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2].
فالله سُبْحَانَهُ واسع العلم بحال خلقه، كثير الإفضال على خلقه، والخلق كلهم يتقلبون في رحمته وفضله، يعطي من يشاء ويمنع، ويخفض من يشاء ويرفع، بعلمه الذي وسع كل شيء وحكمته.
الأثر الرابع: طلب المغفرة والرحمة من الواسع:
الله سبحانه وتعالى هو الواسع، الذي وسع بمغفرته جميع عباده {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32]، ومن سعة مغفرته: أنه يغفر لكل من تاب وأناب مهما بلغت ذنوبه وخطاياه، فهو تَعَالَى:{الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].
فتح للعباد باب التوبة، وبث الأمل في قلوب العصاةوالمذنبين، فمهما عظم الذنب، ومهما كبر الجرم، فما على العبد إلا أن يُقبل على ربه؛ ليشمله بمغفرته ويسعه بعفوه، يقول عز وجل:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 53 - 54]، «إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»
(1)
، يوفق عبده للتوبة، ويقبلها منه، كما قال عز وجل في سورة التوبة:{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]، أي: وفقهم للتوبة ليتوبوا.
والمؤمن الراجي رحمة ربه، ويخاف أن يطرد من جواره، هو من يأخذ بأسباب المغفرة ويبحث عنها، ومن سعة مغفرة الله تَعَالَى، أنه هيأ أسبابًا كثيرة لمغفرته، حتى يسهل للعبد أن يصيبها، ومنها:
الاستغفار: واقرؤوا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110].
فمن لازم الاستغفار؛ كان ذلك أدعى أن يغفر له الله تَعَالَى.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2759).
الذكر: لأن ذكر الله يمحو عن القلب الغفلة، فإذا محيت الغفلة عن القلب، وكان الإنسان في حضرة ربه حاضر القلب، ولم يكن قلبه غافلًا عن جلال الله وهيبته، فإن هذا الحضور المعبَّر عنه بالذكر هو سبب من أسباب المغفرة.
قال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].
فعل الطاعات: قال تَعَالَى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]، فأخذوا بسبب من أسباب المغفرة، ثم طلبوا تلك المغفرة، فقالوا:{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، فما طلبوا المغفرة إلا بعد أن سمعوا وأطاعوا، أي: بعد فعلهم لطاعة الله تبارك وتعالى.
التوبة النصوح في جميع الأوقات من جميع الذنوب والسيئات، قال الله تَعَالَى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] فإذا تبتم أفلحتم ونجحتم وسعدتم في الدنيا والآخرة.
كلمة التوحيد.
اجتناب الكبائر، قال تَعَالَى:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
نسأل الله الكريم أن يسع عباده المؤمنين بفيض عطائه ورحماته،
وأن يتجاوز عنهم ويغفر لهم، إن ربنا واسع المغفرة، إنه البَرّ الرحيم.
الأسماء التي ثيتت في السنة النبوية فقط
الجمِيلُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الجمال: الحُسْن، وقد جَمُلَ الرجلُ- بالضم- جَمالًا فهو جميل»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الجيم والميم واللام أصلان: أحدهما: تَجمُّعُ وَعِظَمُ الخَلق
…
أَجْمَلْتُ الشَّيْء، وهذه جملة الشيء، وَأَجْمَلْتُهُ: حَصَّلْتُهُ
…
والأصل الآخر: الجمال، وهو ضد القبح، ورجل جميل وَجُمَال»
(2)
.
ورود اسم الله (الجميل) في القرآن الكريم:
لم يرد اسم الله (الجميل) في القرآن الكريم.
ورود اسم الله (الجميل) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الجميل) في السنة النبوية، ومن وروده فيها ما يلي:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ
(1)
الصحاح (4/ 1661).
(2)
مقاييس اللغة (1/ 481).
ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ»
(1)
.
ثبوت اسم الله (الجميل) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسم الله (الجميل) في حق الله تَعَالَى:
ابن القيم رحمه الله: في قوله: «ومن أسمائه الحسنى الجميل»
(2)
.
ابن عثيمين رحمه الله: فقد عده من الأسماء المثبتة بالسنة النبوية
(3)
.
معنى اسم الله (الجميل) في حقه تعالى:
قال ابن القيم رحمه الله: «وجماله سُبْحَانَهُ على أربع مراتب: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء، فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة»
(4)
.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله: «الجميل من له نعوت الحُسْن والإحسان، فإنه جميل في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله»
(5)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(91).
(2)
روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 419).
(3)
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص: 15).
(4)
الفوائد (ص: 182).
(5)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 178 - 180).
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وَهوَ الجَمِيلُ عَلَى الحَقِيقَةِ كَيْفَ لَا
…
وَجَمَالُ سَائِرِ هَذِهِ الأَكْوَانِ
مِن بَعْضِ آثَارِ الجَمِيلِ فَرَبُّها
…
أَوْلَى وَأَجْدَرُ عِنْدَ ذِي العِرْفَانِ
فجمالُهُ بالذَّاتِ والأَوْصَافِ والـ
…
أَفْعَالِ والأَسْمَاءِ بالبُرْهَانِ
لا شيءَ يُشْبِهُ ذاتَهُ وصفاتِهِ
…
سُبْحَانَهُ عَنْ إِفْكِ ذِي البُهْتَانِ
(1)
الآثارالمسلكية للإيمان باسم الله (الجميل):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الجميل) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
الله عز وجل جميل يحب الجمال، تفرَّد سُبْحَانَهُ بالجمال الكامل، ووهب بعض الجمال لبعض خلقه وسلبهم الجلال، وأعطى الجلال لبعض خلقه وسلبهم الجمال، وأعطى سُبْحَانَهُ الجمال مع الجلال لبعض خلقه، لكنه سُبْحَانَهُ سلبهم دوام الحال، وتفرَّد الربُّ الجميل سُبْحَانَهُ بالجمال والجلال مع دوام الحال.
(1)
النونية (ص: 203).
يقول ابن القيم رحمه الله: «مِن أعزِّ أنواع المعرفة: معرفة الرب سُبْحَانَهُ بالجمال، وهي معرفة خواص الخلق، وكلهم عرفه بصفة من صفاته، وأتمُّهم معرفة: من عرفه بكماله وجلاله وجماله سُبْحَانَهُ، ليس كمثله شيء في سائر صفاته، ولو فرضتَ الخلقَ كلَّهم على أجملهم صورة وكلهم على تلك الصورة، ونسبتَ جمالهم الظاهر والباطن إلى جمال الرب سُبْحَانَهُ؛ لكان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى قرص الشمس، ويكفي في جماله:(لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)
(1)
، ويكفي أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن آثار صنعته، فما الظنُّ بمن صَدَرَ عنه هذا الجمال.
ويكفي في جماله سُبْحَانَهُ: أن له العزة والقوة، والجود والإحسان، والعلم والفضل، ونور وجهه أشرقت له الظلمات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه:«أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»
(2)
، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:(إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نَورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ)
(3)
، فهو سُبْحَانَهُ نور السموات والأرض، ويوم القيامة إذا جاء لفصل القضاء تشرق الأرض بنوره»
(4)
، فلا يستطيع بشر
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(179).
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(14764)، حكم الألباني: ضعيف، السلسلة الضعيفة، رقم الحديث:(2933).
(3)
أخرجه أبو داود في الزهد، رقم الحديث:(158)، والطبراني في المعجم الكبير، رقم الحديث:(8886)، قال الهيثمي: فيه أبو عبد السلام، قال أبو حاتم: مجهول، ينظر: في مجمع الزوائد (2/ 28).
(4)
الفوائد (ص: 182).
النظر إلى جلاله وجماله في هذه الدار، فإذا رأوه سُبْحَانَهُ في جنات عدن أنستهم رؤيته ما هم فيه من النعيم، فلا يلتفتون- حينئذ- إلى شيء غيره
(1)
.
ومن مظاهر جماله سُبْحَانَهُ:
أنه جميل في ذاته سُبْحَانَهُ: «فلا يمكن لمخلوق أن يعبر عن بعض جمال ذات الله تَعَالَى، حتى إن أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم، واللذات والسرور، والأفراح التي لا يُقَدر قدرها إذا رأوا ربهم، وتمتعوا بجماله؛ نسوا ما هم فيه من النعيم، وتلاشى ما هم فيه من الأفراح، وودُّوا أن لو تدوم هذه الحال؛ ليكتسبوا مِن جماله ونوره جمالًا إلى جمالهم، وكانت قلوبهم في شوق دائم، ونزوع إلى رؤية ربِّهم، ويفرحون بيوم المزيد فرحًا تكاد تطير له القلوب.
أنه جميل في أسمائه سُبْحَانَهُ: فأسماؤه كلها حسنى، بل هي أحسن الأسماء على الإطلاق وأجملها، يقول تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] ويقول سُبْحَانَهُ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، فكلها دالة على غاية الحمد والمجد والكمال، لا يسمى باسم منقسِم إلى كمال وغيره.
أنه جميل في أوصافه سُبْحَانَهُ: فإن أوصافه كلها أوصاف كمال، ونعوت ثناء وحمد، فهي أوسع الصفات، وأعمها، وأكثرها تعلقًا، خصوصًا أوصاف الرحمة، والبر، والكرم، والجود.
(1)
روضة المحبين، لابن القيم (ص: 421).
أنه جميل في أفعاله سُبْحَانَهُ: فإنها دائرة بين أفعال البِر والإحسان- التي يُحمَد عليها، ويُثنى عليه ويُشكر- وبين أفعال العدل التي يُحمَد عليها لموافقتها للحكمة والحمد، فليس في أفعاله عبث ولا سَفه، ولا سُدًى ولا ظلم، كلها خير وهدى، ورحمة ورشد، وعدل، يقول تَعَالَى:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، فلكماله الذي لا يحصي أحد عليه به ثناءً، كَمُلَتْ أفعاله كلها، فصارت أحكامه من أحسن الأحكام، وصنعه وخلقه أحسن خلق وصنع، وأتقن ما صنعه، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]، وأحسن ما خلَق {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7]، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وقال صلى الله عليه وسلم:«حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»
(1)
، فسبحان الله، وتقدَّس عما يقوله الظالمون النافون لكماله علوًّا كبيرًا، وحَسْبُهم مقتًا وخسارًا أنهم حُرموا من الوصول إلى معرفته والابتهاج بمحبته
(2)
.
وحري بمن عرف اسم الله الجميل، وآمن به أن يوحده سُبْحَانَهُ بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ويستغني به عن خلقه، ويسأله وحده جمال عفوه وعافيته في الدنيا والآخرة.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(179).
(2)
تفسير أسماء الله الحسنى، للسعدي (ص: 178 - 180).
الأثر الثاني: أعظم النعيم رؤية الجميل عز وجل في الجنة:
اشتاقت قلوب العابدين والمحبين لرؤية وجه الله الجميل يوم القيامة، يقول الله تَعَالَى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، يقول السعدي رحمه الله عند هذه الآية:«أي: للذين أحسنوا في عبادة الخالق، بأن عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته، وقاموا بما قدروا عليه منها، وأحسنوا إلى عباد الله بما يقدرون عليه من الإحسان القولي والفعلي، من بذل الإحسان المالي، والإحسان البدني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهلين، ونصيحة المعرضين، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان، فهؤلاء الذين أحسنوا، لهم الحسنى، وهي الجنة الكاملة في حسنها، وزيادة، وهي النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، والفوز برضاه والبهجة بقربه، فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمناه المتمنون، ويسأله السائلون»
(1)
.
ولذا كان صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه من قول: «وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ»
(2)
، وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم:«إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل» .
(1)
تفسير السعدي (ص: 362).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18615)، والنسائي، رقم الحديث:(1304)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم الحديث:(1301).
يقول ابن القيم رحمه الله:
أو ما سمعتَ سؤالَ أعرفِ خلقِهِ
…
بجلالِهِ المبعوثِ بالقرآنِ
شوقًا إليه ولَذَّةَ النظرِ التي
…
بجلالِ وجهِ الرَّبِّ ذي السلطانِ
(1)
فالشوقُ لَذَّةُ روحِهِ في هذه الـ
…
ـدُنْيَا ويومَ قيامةِ الأبدانِ
والله ما في هذِهِ الدُّنيا ألـ
…
ـذُ مِن اشتياقِ العبدِ للرحمنِ
ويقول- أيضًا رحمه الله:
والله لولا رؤيةُ الرحمنِ في
…
الجناتِ ما طابَتْ لِذِي عرفانِ
أعلى النعيمِ نعيمُ رؤيةِ وجهِهِ
…
وخطابُهُ في جنةِ الحيوانِ
(2)
فرؤية الله سُبْحَانَهُ هي الغاية التي شمَّر إليها المشمِّرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، ورؤية الله سُبْحَانَهُ إذا نالها أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم.
(1)
النونية (ص: 345).
(2)
النونية (ص: 345).
وقد وردت أحاديث كثيرة في أعمال تورث رؤية الله جل جلاله، منها:
1 -
الإيمان بالله وتوحيده:
يقول تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26]، والإحسان أعلى مراتب الإيمان.
2 -
الحرص على أداء الصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها:
خصوصًا الفجر والعصر، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قال:«كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي الْبَدْرَ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]»
(1)
.
3 -
الابتعاد عن المعاصي والذنوب:
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(554)، ومسلم، رقم الحديث:(633).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(106).
4 -
الدعاء:
يقول تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:«اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ، وَالرِّضَا وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ»
(1)
.
الأثر الثالث: محبة الجميل سُبْحَانَهُ:
المحبة لها داعيان: داعي الجمال والإجلال، والله جميل يحب الجمال، بل الجمال له، والإجلال كله منه، فلا يستحق أن يُحَب بذاته من كل وجه سواه؛ لما له من كمال الجمال في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يُرَى من جمال في خلق الله عز وجل هو من جماله سُبْحَانَهُ، فحقيق بمن هذا وصفُه أن يُحَب لذاته؛ فليس في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله صفة نقص وذم، بل هي جميلة كلها، حسنى كلها، طيبة كلها، خير كلها.
قال ابن القيم رحمه الله: «والله سُبْحَانَهُ تعرَّفَ إلى عباده من أسمائه وصفاته وأفعاله بما يوجب محبتهم له؛ فإن القلوب مفطورة على محبة الكمال ومن قام به، والله له الكمال المطلق من كل وجه؛ الذي لا نقص فيه بوجه ما»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18615) والنسائي، رقم الحديث:(1230)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن النسائي، رقم الحديث:(13005).
(2)
روضة المحبين (ص: 420 - 421).
يقول ابن القيم رحمه الله: «
…
وأما جمال الذات وما هو عليه، فأمر لا يدركه سواه، ولا يعلمه غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تَعَرَّفَ بها إلى مَن أكرمه مِن عباده؛ فإن ذلك الجمال مصون عن الأغيار محجوب بستر الرداء والإزار، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عنه-: (الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي
…
)
(1)
، قال ابن عباس رضي الله عنه:(حجب الذاتَ بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال، فما ظنك بجمالٍ حُجِبَ بأوصاف الكمالِ، وسُتِرَ بنعوت العظمة والجمال)»
(2)
.
الأثر الرابع: الجمال الحقيقي جمال المخبر لا المظهر:
الله جميل يحب الجمال، والجمال الحقيقي هو جمال المخبر لا جمال المظهر، فالقلب هو محل نظر الرب، والسلامة منوطة به في قوله تَعَالَى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88].
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح حديث: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ»
(3)
: «هذا الحديث يدل على ما يدل عليه قول الله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فالله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى العباد إلى أجسامهم هل هي كبيرة أو صغيرة، أو صحيحة، أو سقيمة، ولا ينظر إلى الصور، هل هي جميلة أو ذميمة، كل هذا
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(9016)، وأبو داود، رقم الحديث:(4090)، وهو عند مسلم بنحوه، رقم الحديث:(2620)، حكم الألباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(5110).
(2)
الفوائد، لابن القيم (ص: 182).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2564).
ليس بشيء عند الله، وكذلك لا ينظر إلى الأنساب؛ هل هي رفيعة أو دنيئة، ولا ينظر إلى الأموال، ولا ينظر إلى شيء من هذا أبدًا، فليس بين الله وبين خلقه صلة إلا بالتقوى، فمن كان لله أتقى كان من الله أقرب، وكان عند الله أكرم؛ إذًا لا تفتخر بمالك، ولا بجمالك، ولا ببدنك، ولا بأولادك، ولا بقصورك، ولا سياراتك، ولا بشيء من هذه الدنيا أبدًا، إنما إذا وفقك الله للتقوى فهذا من فضل الله عليك، فاحمد الله عليه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:(وَلكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ)، فالقلوب هي التي عليها المدار»
(1)
.
ولذلك أثنى الله سُبْحَانَهُ على الذين جاءوا من بعد الصحابة، في قوله تَعَالَى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]، وهي أفضل صفة ذكرت فيهم، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:«قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ»
(2)
.
الأثر الخامس: الله عز وجل هو واهب الجمال والحُسْن لمن يشاء:
من تأمل في مخلوقات الله، رأى فيها الجمال والحسن بالخلق والتصور، ومما ورد نصه في القرآن والسنة، ما يلي:
(1)
شرح رياض الصالحين (1/ 63).
(2)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(4216)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(4216).
خلق الإنسان: فقد خلق الله تَعَالَى الإنسان في أحسن صورة وأجمل تقويم، وجعلهم متفاوتين في هذا الحُسن والجمال، وجمال الإنسان على ضربين: جمال مظهر، وجمال مخبر، جمال المظهر الخلق وهبه الله خلقه، وجعلهم متفاوتين فيه، وجمال المخبر الخلق خص به من عباده من شاء:
فأعطى يوسف شطر الحُسن، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صلى الله عليه وسلم، إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ
…
»
(1)
، ويقول تَعَالَى عن حال النسوة لما رأينه:{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]
(2)
، وأعطاه حسن الخلق والإحسان للخلق {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
وأعطي محمد صلى الله عليه وسلم من جمال المظهر والمخبر حظًّا وافرًا،، فعن أنس بن مالك في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: «كَانَ رَبْعَةً مِنَ الْقَوْمِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ أَزْهَرَ اللَّوْنِ لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ وَلَا آدَمَ لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَطٍ وَلَا سَبْطٍ رَجِلٍ
…
»
(3)
، وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(162).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(162).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3547).
أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُ خَلْقًا لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ»
(1)
.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس أخلاقًا: سماحة وشجاعة، وحلمًا وكرمًا، ورحمة وشفقة، وصلة وبِرًّا، كما وصفته خديجة رضي الله عنها بقولها:«إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ»
(2)
، وعن أنس رضي الله عنه قال:«خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ، وَلَا لِمَ صَنَعْتَ، وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ»
(3)
، وقال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ
…
»
(4)
، وفي حديث عن عبد الله بن عمرو، قال:«لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا»
(5)
.
خلق السماء ومافيها: وفي ذلك في آيات كثيرة، منها قوله سُبْحَانَهُ:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]، يقول السعدي رحمه الله عند هذه الآية:«أي ولقد جمَّلنا {السَّمَاءَ الدُّنْيَا} التي ترونها وتليكم، {بِمَصَابِيحَ} وهي: النجوم، على اختلافها في النور والضياء، فإنه لولا ما فيها من النجوم، لكانت سقفًا مظلمًا، لا حسن فيه ولا جمال، ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء، (وجمالًا)، ونورًا وهداية يهتدى بها في ظلمات البر والبحر»
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3549).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3)، ومسلم، رقم الحديث:(160).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6038)، ومسلم، رقم الحديث:(2309).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2820)، واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(2307).
(5)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3599) ومسلم، رقم الحديث:(2321).
(6)
تفسير السعدي (ص: 875).
خلق الأرض وما فيها: وفي ذلك في آيات كثيرة، منها قوله سُبْحَانَهُ:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60]، وقوله سُبْحَانَهُ:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]، فالله هو الذي زين الأرض وجمَّلها بأنواع الحدائق والبساتين والأشجار والأزهار والخضرة، ذات البهجة والحُسن والجمال، بحيث إن الناظر إليها يبتهج وتفرح نفسه بها، وينشرح صدره بسببها.
خلق الأنعام: وفي ذلك يقول تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6]، أي:«في وقت راحتها وسكونها، ووقت حركتها وسرحها، وذلك أن جمالها لا يعود إليها منه شيء، فإنكم أنتم الذين تتجملون بها، كما تتجملون بثيابكم وأولادكم، وأموالكم، وتعجبون بذلك»
(1)
.
ومن نظر في سائر الكون وما يحويه، رأى الإعجاز والجمال والإتقان في كل ما حوله، فتبارك الله وتَعَالَى أحسن الخالقين.
الأثر الخامس: ملازمة كل خلق جميل:
إن من أفاض الله عليه من صفة الجميل فتح له جمال المعاني، وحلاوة الإيمان، وحسَّن خَلْقَهُ وخُلُقَهُ، وزادت هيبته في بحر جماله، فلا يرضى العبدُ بقبيح الفعال وسوء الخصال؛ لئلا يخرج عن فيض الجمال، فيأنف العبد بطبعه وذكاء روحه كل قبيح، ولا يرضى أن يتدنس بحرام قط، أو بخلق ذميم.
(1)
تفسير السعدي (ص: 436).
وبيَّن الله سُبْحَانَهُ في مواضع كثيرة أن جمال الظاهر لا يكفي، وأمر وأوصى نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته بالتجمل في الأقوال والأفعال في آيات عديدة:
فأمر تَعَالَى بالصبر الجميل في قوله: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 5] أي: «اصبر على دعوتك لقومك صبرًا جميلًا، لا تضجر فيه ولا ملل، بل استمر على أمر الله، وادع عباده إلى توحيده، ولا يمنعك عنهم ما ترى من عدم انقيادهم، وعدم رغبتهم؛ فإن في الصبر على ذلك خيرًا كثيرًا»
(1)
.
وأمر تَعَالَى بالهجر الجميل في قوله سُبْحَانَهُ: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]«أمره بالصبر على ما يقول فيه المعاندون له ويسبونه ويسبون ما جاء به، وأن يمضي على أمر الله، لا يصده عنه صادٌّ، ولا يرده رادٌّ، وأن يهجرهم هجرًا جميلًا، وهو الهجر حيث اقتضت المصلحة، الهجر الذي لا أذية فيه، فيقابلهم بالهجر والإعراض عنهم وعن أقوالهم التي تؤذيه، وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن»
(2)
، وقيل: الهجر في ذات الله، كما قال عز وجل:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
وأمر سُبْحَانَهُ بالصفح الجميل، في قوله تَعَالَى:{خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]، أي: الحسن الذي قد سلم من الحقد والأذية القولية والفعلية، دون الصفح الذي ليس بجميل، وهو الصفح في غير محله، فلا يصفح حيث اقتضى المقامُ
(1)
تفسير السعدي (ص 885).
(2)
المرجع السابق (ص: 892).
العقوبةَ، كعقوبة المعتدين الظالمين الذين لا ينفع فيهم إلا العقوبة
(1)
.
أمر سُبْحَانَهُ بالسراح الجميل، في قوله سُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]، وقال- في السورة نفسها-:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]
…
أي: أن يفارقوهن فراقًا جميلًا من غير مخاصمة، ولا مشاتمة، ولا مطالبة، ولا غير ذلك
(2)
.
الأثر السادس: ملازمة كل قول جميل:
وبذلك تظهر جمال اللغة وجمال الأدب، وجمال هذا الدين العظيم، وأصل هذا الباب: قوله تَعَالَى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53]، فالشيطان ينزغ بينهم إذا كلم بعضهم بعضًا بغير التي هي أحسن، فَرُبَّ حربٍ وقودُهَا جثثٌ وهام، أهاجها القبيحُ من الكلام، وفي الصحيحين من حديث سهل بن حنيف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي»
(3)
، و «خَبُثَتْ» ، و «لَقِسَتْ» ، و (غَثتْ) متقاربة المعنى؛ فَكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لفظ (الخبث) لبشاعته، وأرشدهم إلى العدول إلى لفظ هو أحسن منه، وإن كان
(1)
المرجع السابق (ص: 434).
(2)
تفسير السعدي (ص: 668).
(3)
أخرجه البخاري (6179)، ومسلم (2251).
بمعناه تعليمًا للأدب في المنطق، وإرشادًا إلى استعمال الحَسَن، وهجر القبيح من الأقوال، كما أرشدهم إلى ذلك في الأخلاق والأفعال»
(1)
.
يقول ابن القيم رحمه الله: «ومن محاسن الفراسة:
أن الرشيد رأى في داره حزمة خيزران، فقال لوزيره الفضل بن الربيع: ما هذه؟ قال: عروق الرماح يا أمير المؤمنين، ولم يقل: الخيزران؛ لموافقة اسم أمه
(2)
.
ونظير هذا: أن بعض الخلفاء سأل ولده- وفي يده مسواك - ما جمع هذا؟ قال: محاسنك يا أمير المؤمنين
(3)
. وهذا من الفراسة في تحسين اللفظ، وهو باب عظيم، اعتنى به الأكابر والعلماء.
وله شواهد كثيرة في السنة، وهو من خاصية العقل والفطنة، فقد رُوِّينَا عن عمر رضي الله عنه:«أنه خرج يعس المدينة بالليل، فرأى نارًا موقدة في خباء، فوقف وقال: يا أهل الضوء، وكره أن يقول: يا أهل النار»
(4)
.
وسأل رجلًا عن شيء: «هل كان؟ قال: لا. أطال الله بقاءك، فقال: قد علمتم فلم تتعلموا، هلا قلت: لا، وأطال الله بقاءك؟»
(5)
.
وسئل العباس: «أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو أكبر مني، وأنا ولدت قبله»
(6)
.
(1)
الطرق الحكمية، لابن القيم (ص: 40 - 41).
(2)
المصدر السابق (ص 40).
(3)
المصدر السابق (ص 40).
(4)
المصدر السابق (ص 40).
(5)
المصدر السابق (ص 40).
(6)
المصدر السابق (ص 40).
وسئل عن ذلك قَبَاثُ بنُ أَشْيَمَ؟ فقال: «رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسن منه»
(1)
.
وكان لبعض القضاة جليس أعمى، وكان إذا أراد أن ينهض يقول: يا غلام، اذهب مع أبي محمد، ولا يقول: خذ بيده، قال: والله ما أخل بها مرة»
(2)
.
ومن ألطف ما يحكى في ذلك: «أن بعض الخلفاء سأل رجلًا عن اسمه؟ فقال: سعد، يا أمير المؤمنين، فقال: أي السعود أنت؟ قال: سعد السعود لك يا أمير المؤمنين، وسعد الذابح لأعدائك، وسعد بلع على سماطك، وسعد الأخبية لسرك، فأعجبه ذلك»
(3)
.
الأثر السابع: التعبد للجميل بإظهار نعمته على عبده، والتجمل في اللباس والهيئة من غير إسراف ولا مخيلة، ولا بطر ولا تكبر:
الجميل يحب ظهور أثر نعمته على عبده؛ فإنه من الجمال الذي يحبه، وذلك من شُكره على نعمه، وهو جمال باطن، فيحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر بالنعمة، والجمال الباطن بالشكر عليها.
ولمحبته سُبْحَانَهُ للجمال أنزل على عباده لباسًا وزينةً تُجمِّلُ ظواهرهم، وتقوى تُجَمِّلُ بواطنهم، فقال سُبْحَانَهُ:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26].
(1)
المصدر السابق (ص 40).
(2)
المصدر السابق (ص 40).
(3)
المصدر السابق (ص 40).
وقال في أهل الجنة: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 11 - 12]، فهو سُبْحَانَهُ جمَّل وجوهَهُم بالنضرةِ، وبواطنهم بالسرور، وأبدانهم بالحرير.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لنا: إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ، فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ وَلِبَاسَكُمْ؛ حَتَّى تَكُونُوا فِي النَّاسِ كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ، فَإِنَّ الله عز وجل لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، وَلَا التَّفَحُّشَ»
(1)
.
(2)
، وفي الحديث:«إِنَّ اللهَ عز وجل يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ»
(3)
.
قال القرطبي رحمه الله: «فيجب على كل مكلَّف أن يتجمل بالطاعات والأعمال الصالحة، ويجمِّل باطنه كما يجمل ظاهره، وذلك بتصفيته من الأوضار، كالغل والحسد والشماتة وسوء الظن إلى غير ذلك من الاعتقادات الفاسدة، والبدع الضالة المضلَّة، فيكون قلبه موافقًا ظاهرَه؛ ولهذا جاء في الحديث:(وَآفَةُ الْجَمَالِ الْبَغْيُ)
(4)
، وكذلك لا يتعرض بجماله لمعصية
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(17897)، واللفظ له، وأبو داود، رقم الحديث:(4089)، حكم الألباني: ضعيف، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(4089).
(2)
الفوائد (1/ 186).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(8222)، والترمذي، رقم الحديث:(2819)، وقال: حديث حسن، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2819).
(4)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(4326)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(2688)، حكم الألباني: موضوع، السلسلة الضعيفة، رقم الحديث:) 1302).
ربه، وهذه الآفة ربما اعترضت نعمة الجمال، فعرضتها للزوال والنقص والاضمحلال:{وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17]»
(1)
.
والناس في التجمل الظاهر الذي هو الملبس والهيئة على ثلاثة أضرب، بعد اتفاقهم في الجمال الباطن:
فمنهم: من حسن ثوبه، وطيب ريحه، ورجل شعره، وادهن، واكتحل، واقتصد في ذلك كله، واحتسب على الله عز وجل ما وجد حلالًا واتسع له، استقامت قلوبهم على ذلك، وهذه طريقة الشاكرين، وقد دَرَجَ على ذلك الكثيرُ من الصحابة والتابعين.
ومنهم: من لَزم البذاذة والشَّعث، واحتمل التَّفَث في الهيئة، إلا ما أقام به السُّنة، وإن وجد الحلال واتسع له؛ زهدًا في التنعم، وإيثارًا لِشَظَف العيش، وهذه طريقة الخائفين والمحزونين، وقد درج على ذلك كثير من الصحابة والتابعين.
ومنهم: من يتقلَّب بين هذا وهذا، وجد الحلال والاتساع فيه؛ ليعمر إلى ربه الطريقتينِ، وتَسَلَّكَ في عبادته الجادتين، وهذه كانت سنة إمام المتقين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، قد كان يلبس الحُلَّة الحمراء- وكان أحسن شيء فيها- والثوبَ ذا العَلَم تارة، ويلبس الرداء النجراني الغليظ الحاشية، والجبَّة الشامية، ويأكل اللحم، ويجوع مرة، ويشبع أخرى، ويرهن درعَه فيما يؤكَل في بيته، ومات- بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم في كساء مُلَبَّد، وإنما كانوا يراعون في ذلك كله قوامَ قلوبهم، فإذا استقامت قلوبهم لبسوا وأخذوا من ذلك
(1)
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (ص: 230 - 231).
ما استقام عليه أمرهم، مما لا يشهرهم باتِّضاع ولا بارتفاع.
وقد كان لتميم الداري حلة اشتراها بثمانية دراهم يلبسها للجُمَع والأعياد، وكان كثيرًا ما يتطيَّب لقيام الليل ويَدَّهِنُ.
وعن نافع، أن ابن عمر كساه ثوبين وهو غلام، قال: فدخل المسجد فوجده يصلي متوشحًا به في ثوب، فقال:«أَلَيْسَ لَكَ ثَوْبَانِ تَلْبَسُهُمَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنِّي أَرْسَلْتُكَ إِلَى وَرَاءِ الدَّارِ لَكُنْتَ لَابِسَهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ أَمِ النَّاسُ؟ قَالَ نَافِعٌ: فَقُلْتُ: بَلِ اللهُ»
(1)
.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إِذَا وَسَّعَ اللهُ فَأَوْسِعُوا»
(2)
.
فهؤلاء ونظراؤهم- في أعصارهم والأعصار التي بعدهم- هم الذين علموا أن الجمال والتجمل هو الاستقامة فيما بينهم وبين ربهم عز جلاله، فعملوا لذلك وتركوا المذموم من زينة الدنيا وزخرفها، وتفاخرها وتكاثرها، سمعوا الله عز وجل يقول:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14] ثم قال سُبْحَانَهُ: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]، ثم دل على حقيقة الزينة والحسن بقوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ
(1)
أخرجه عبد الرزاق، رقم الحديث:(1390).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(365).
وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 15 - 17].
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله جميلٌ يُحِبُّ الجمالَ»
(1)
، جوابًا لمن قال له:«إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعلُه حسنةً» ، فبين صلى الله عليه وسلم أن مجرد فعل ذلك ومحبته لا يُدخل صاحبَه في الكبر المذموم.
(2)
.
والجنة دار المتواضعين الخاشعين، لا دار المتكبرين الجبارين، سواء كانوا أغنياء أو فقراء؛ فإنه قد ثبت في الصحيحِ قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ»
(3)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
الفوائد (ص: 186).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(91).
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله يحب التَّجمل في اللباس الذي لا يحصل إلا بالغنى، وأن ذلك ليس مِن الكبر.
(1)
.
فعُلم أن من الفقراء من يكون مختالًا فلا يدخل الجنة، وأن من الأغنياء من يكون متجملًا غير متكبر؛ يحب الله جماله، مع قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ»
(2)
.
وعن جمال الصورة واللباس، يقول ابن القيم رحمه الله: «وجمال الصورة واللباس والهيأة ثلاثة أنواع: منه: ما يُحمد، ومنه: ما يُذم، ومنه: ما لا يتعلق به مدح ولا ذم.
فالمحمود منه: ما كان لله، وأعان على طاعة الله، وتنفيذ أوامره، والاستجابة له، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال، ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه؛ فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوه.
والمذموم منه: ما كان للدنيا، والرياسة، والفخر، والخيلاء، والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد، وأقصى مطلبه؛ فإن كثيرًا من النفوس ليس لها همة في سوى ذلك.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(107).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2564).
وأما ما لا يُحمد ولا يُذم: فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرد عن الوصفين»
(1)
.
الأثر الثامن: الرضا عن الجميل، وعن أفعاله وقضائه وقدره، فكلها تتسم بالجمال:
كلما زاد علم العبد بالله زاد رضاه عنه، وكلما قل علمه قل رضاه، فالعلم متعلق بالرضا؛ إذ الرضا من لوازم الإيمان، والسخط من لوازم الكفران، والرضا من لوازم القرب، والسخط من لوازم البعد، فالرضا بما يقدر الله عز وجل ويقضيه من صلب الإيمان، ومما يرقي العبد في درج الجنان؛ لأنه سُبْحَانَهُ لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والخير لعبده المؤمن؛ لأن كل أفعاله جميلة، وما ينشأ من الفعل الجميل إلا جميل، وهذا يثمر في قلب المؤمن الطمأنينة إلى جميع أقدار الله عز وجل، وحسن الظن بالله تَعَالَى، وذلك بعد الأخذ بالأسباب الشرعية لمدافعة ما يمكن مدافعته.
فمن آمن بجميل تولي الله لعبده أنزل الله على قلبه الرحمة، والسكينة التي تسعده ولو فقد كل شيء.
فاللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم جمِّلنا بالصبر الجميل، وَزَيِّنَّا بالخلق الحسن، واهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
(1)
الفوائد، لابن القيم (ص: 186).
الحَيِيُّ السِّتِّير جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
أولًا: معنى (الحيي):
قال الجوهري رحمه الله: «الحياة: ضد الموت، والحى: ضد الميت، والمحيا مفعل من الحياة، تقول: محياى ومماتي، والجمع: المحايى
…
، وقال أبو زيد: حييت منه أحيا: استحييت»
(1)
.
(2)
.
ثانيًا: معنى الستير:
قال الجوهري رحمه الله: «الستر: واحد الستور والأستار، والسترة: ما يستر به كائنًا ما كان .... والستر بالفتح: مصدر سترت الشئ أستره، إذا غطيته
…
»
(3)
.
(1)
الصحاح (6/ 173).
(2)
مقاييس اللغة (2/ 122).
(3)
الصحاح (2/ 239)
- قال ابن فارس رحمه الله: «(سَتَرَ) السين والتاء والراء كلمة تدل على الغِطاء. تقول: سَتَرْتُ الشَّيء سترًا
…
»
(1)
.
ورود اسمي الله (الحيي الستير) في القرآن الكريم:
أولًا: ورود اسم الله الحيي في القرآن الكريم:
لم يرد اسم الله الحيي في القرآن الكريم.
ثانيًا: ورود اسم الله الستير في القرآن الكريم:
لم يرد اسمه سُبْحَانَهُ (الستير) في القرآن الكريم.
ورود اسم الله (الحيي الستير) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الحيي) في السنة النبوية، ومن وروده:
(2)
.
عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»
(3)
.
(1)
مقاييس اللغة (3/ 132).
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4012)، والنسائي، رقم الحديث:(406)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1756).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(24211)، وأبو داود، رقم الحديث:(1488)، والترمذي، رقم الحديث:(3556)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3865)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1757).
ورد اسم الله (الستير) في السنة النبوية، ومن وروده:
(1)
.
ثبوت اسمي الله (الحيي والستير) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسمي الله (الحيي والستير) في حق الله تَعَالَى:
ابن القيم رحمه الله: في قوله: «حيي ستير، يحب أهل الحياء والستر»
(2)
.
السعدي رحمه الله: في قوله: «وهو الحيي الستير، يحب أهل الحياء والستر»
(3)
.
معنى اسم الله (الحيي الستير) في حقه سُبْحَانَهُ:
أولًا: معنى اسم الحيي:
قال ابن القيم رحمه الله: «وأما حياء الرب تَعَالَى من عبده فذاك نوع آخر لا تدركه الأفهام ولا تكيفه العقول، فإنه حياء كرم وبِر وجود وجلال؛ فإنه:(حَيِيٌّ كريمٌ، يَسْتَحْيِي مِن عبدِهِ إذا رفعَ إليه يديه أنْ يردَّهما صفرًا)
(4)
»
(5)
.
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4012)، والنسائي، رقم الحديث:(404)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1756).
(2)
طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم، (ص: 236)
(3)
الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 54)
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سبق تخريجه.
قال الشيخ السعدي رحمه الله عن اسمه سُبْحَانَهُ (الحيي): «هذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله حييٌّ كريمٌ، يَستَحْيِي مِن عبدِهِ إذَا رَفَعَ إليهِ يديهِ أنْ يَردَّهُما صفْرًا)
(1)
، وهذا من رحمته وكرمه وكماله وحلمه، أن العبد يجاهر بالمعصية مع فقره الشديد، حتى أنه لا يمكنه أن يعصي إلا أن يتقوى عليها بنعم ربه، والرب مع كمال غناه عن الخلق كلهم من كرمه يستحيي من هتكه، وفضيحته، وإحلال العقوبة به، فيستره بما يقيض له من أسباب الستر، ويعفو عنه، ويغفر له»
(2)
.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله
(3)
:
وهوَ الحَيِيُّ فليسَ يَفضحُ عبدَهُ
…
عندَ التَّجَاهُرِ منهُ بِالعصيانِ
لكنَّهُ يُلقِي عليهِ سِتْرَهُ
…
فهوَ السَّتِيْرُ وصاحِبُ الغفرانِ
ثانيا: معنى اسم الله (الستير):
قال البيهقي رحمه الله: «وقوله: ستير، يعني: أنه ساتر يستر على عباده كثيرًا، ولا يفضحهم في المشاهد، كذلك يحب من عباده الستر على أنفسهم، واجتناب ما يشينهم»
(4)
.
قال ابن الأثير رحمه الله: «أي: من شأنه وإرادته حب الستر والصون»
(5)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
الحق الواضح المبين، للسعدي (ص 54 - 55).
(3)
النونية (ص 204).
(4)
الأسماء والصفات، للبيهقي (1/ 223).
(5)
النهاية، لابن الاثير (2/ 134).
قال القرطبي رحمه الله: «فالله سُبْحَانَهُ ساتر ذنوب عباده بالتوبة الصادرة منهم، أو بعفوه وغَفْره لهم؛ تفضلًا منه عليهم»
(1)
؛ بل ويستر سُبْحَانَهُ مَن ستر المسلمين؛ ففي الحديث: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله
(3)
:
وَهُوَ الْحَيِيُّ فَلَيْسَ يَفْضَحُ عَبْدَهُ
عِنْدَ التَّجَاهُرَ مِنْهُ بِالْعِصْيَانِ
لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ
فَهْوَ السَّتِيْرُ، وَصَاحِبُ الْغُفْرَانِ
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الحيي الستير):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسمي الله (الحيي الستير) من صفات الله تعالى:
فالله سُبْحَانَهُ هو الحيي الستير، حياء وسترًا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، فحياؤه وستره يتناسب مع سعة رحمته، وكمال جوده وكرمه، وعظيم عفوه وحلمه سُبْحَانَهُ.
ومن مظاهر حياء الله وستره ما يلي:
حياؤه وستره سُبْحَانَهُ، مِن هتك ستر عبده المذنب في الخفاء وفضيحته، في الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُولَ:
(1)
الأسنى، للقرطبي (1/ 167 - 168).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2442).
(3)
النونية (ص: 207).
يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ»
(1)
.
حياؤه وستره سُبْحَانَهُ، لا يقتصر على ستر عبده المذنب، بل إنه سُبْحَانَهُ مَن كمل غناه عن خلقه، إلا أنه يهيئ أسباب التوبة له، ويتوب عليه ويغفر له ذنوبه، يقول تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25].
حياؤه سُبْحَانَهُ من رد دعوة الداعي له، يقول صلى الله عليه وسلم «إِنَّ رَبَّكُمْ تبارك وتعالى حَيِىٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِى مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»
(2)
.
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6069)، ومسلم، رقم الحديث:(2990).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
ستره سُبْحَانَهُ، كما يكون في الدنيا فكذلك يكون في الآخرة، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«لَا يَسْتُرُ اللهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(2)
.
فالله سُبْحَانَهُ كريم عفو غفور، حليم على عباده، يسترهم ولا يفضحهم، ويتحبب لهم بجزيل النعم مع كمال وتمام غناه سُبْحَانَهُ.
الأثر الثاني: توحيد الله باسمي الله الحيي الستير:
- دلالة اسمي الحيي والستير على توحيد الألوهية والربوبية:
من آمن باسمي الله الحيي والستير؛ غلب على قلبه استشعار كمال اطلاع الله على أعمال السر والعلن، وتذكر دوام إحسان الله إليه، وقلة شكره لربه، وعلم أن هناك يومًا ينتظره سيسأل فيه عما اقترف، من آمن بذلك كله علم أنه لا إله يستحق العبادة إلا الله سُبْحَانَهُ، وأخلص التوحيد لله تَعَالَى، وأحسن في العمل والحب والخضوع والتضرع لله تَعَالَى، واستحى أن يخالف أمره، أو يقترف ما نهى عنه سُبْحَانَهُ، يقول تَعَالَى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3].
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2590).
- دلالة اسمي الحيي والستير على توحيد الأسماء والصفات:
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في إثبات الحياء لله عز وجل كما يليق بجلاله: «هو حياء الكمال، يليق بالله عز وجل وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ الله حَيِيٌّ كَرِيمٌ)
(1)
، وقال الله تَعَالَى:{وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53]، والله سبحانه وتعالى يوصف بهذه الصفة، لكن ليس مثل المخلوقين؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]»
(2)
.
فالقول في هذه الصفة كالقول في سائر صفات الرب سُبْحَانَهُ، فتثبت من غير تمثيل ولا تكييف ولا تحريف ولا تعطيل، يقول تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فكما أن لله علمًا ليس كعلم خلقه، وبصرًا ليس كأبصارهم، وسمعًا ليس كسمعهم، فكذلك له حياء وستر ليس كحيائهم وسترهم تَعَالَى وتقدس سُبْحَانَهُ، وعليه فلا يصح تأويل الحياء بالرحمة أو المغفرة أو غير ذلك.
ومن تأمل في هذين الاسمين، وجد فيهما معنى اسم الله العفو والغفور والرحيم والحليم والكريم، إلى غيره من أسماء الله تَعَالَى.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
شرح رياض الصالحين (ص: 1657)
الأثر الثالث: الاقتداء بحياء صفوة البشر:
فمن تأمل في سير الأنبياء والمرسلين، وجدهم أشد الناس حياء من الله؛ وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:«أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: التَّعَطُّرُ، وَالنِّكَاحُ، وَالسِّوَاكُ، وَالْحَيَاءُ»
(1)
، وذلك لكمال معرفتهم بالله وأسمائه وصفاته، ثم يليهم الصحابة وأتباعهم من المؤمنين، ومن شواهد ذلك ما يلي:
- حياء أبينا آدم وأمِّنا حواء:
فحينما أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، بدت لهما سوءاتهما، فأسرعا يأخذان من أوراق الجنة ليسترا عوراتهما، فتحدث القرآن الكريم عن ذلك بقوله:{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22]، وهذا يدل على أن الإنسان مفطور على الحياء، وأما قلة الحياء فهي منافية للفطرة، بل من اتِّباع الشَّيطان.
- حياء موسى عليه السلام:
فكان عليه السلام حييًّا ستيرًا يغتسل بناحية من قومه، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ، إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ: وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى
…
» الحديث
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(24065)، والترمذي، رقم الحديث:(1080)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، رقم الحديث:(760).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3404)، ومسلم، رقم الحديث:(339).
- حياء محمد صلى الله عليه وسلم:
فقد كان أشد الخلق حياءً من الله تَعَالَى، ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ»
(1)
.
- حياء عائشة رضي الله عنها:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت:«كنت أدخل بيتي، الذي دُفِنَ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي، فأضع ثوبي، فأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفن عمر معهم، فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة عليَّ ثيابي؛ حَيَاءً من عمر»
(2)
.
- حياء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(3)
، فكانت تستحي رضي الله عنها من الظهور مجللة على سرير أمام الرجال في حال وفاتها!
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6102)، ومسلم، رقم الحديث:(2320)، واللفظ له.
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(25660)، حكم الألباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(1771).
(3)
أخرجه الحاكم، رقم الحديث:(4791).
- حياء المرأة مع نبي الله موسى عليه السلام:
قال تَعَالَى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25].
وقد أثنى الله على مشيتها، فقال:{تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} مشيةَ الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة، حين تلقى الرجال {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} في غير ما تَبَذُّل ولا تبَرُّجٍ، يقول السعدي رحمه الله:«وهذا يدل على كرم عنصرها، وخلقها الحسن؛ فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة، وخصوصًا في النساء»
(1)
، وقد جاءته لِتُنْهِيَ إليه دعوةً في أقصَر لفظ، وأخصرِه، وأدلِّه، يحكيه القرآن بقوله:{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25].
- حياء المرأة التي تُصرَع:
عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: «أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَع، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي، قَالَ: إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ، فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا»
(2)
.
حدثنا محمد، أخبرنا مخلد عن ابن جريج، أخبرني عطاء:«أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ تِلْكَ امْرَأَةً طَوِيلَةً سَوْدَاءَ عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ»
(3)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 614).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5652)، ومسلم، رقم الحديث:(2576).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5652).
وحكي عن بعض السلف: «خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستَحِ منه على قدر قربه منك» ، وقد يتولد الحياء من الله من مطالعة النعم، فيستحيي العبد من الله أن يستعين بنعمته على معاصيه، فهذا كله من أعلى خصال الإيمان
(1)
.
الأثر الرابع: محبة الحيي الستير:
الإيمان باسمي الله الحيي الستير يورث في القلب محبة الله، وذلك بما يقتضيه معناهما من الحلم، والكرم، والعفو، والحياء، والستر منه سُبْحَانَهُ على عباده، وحق لمن هذه صفاته أن يجرد له الحب كله، والإخلاص، والتعظيم، والحمد والثناء، واللهج بشكره والتقرب إليه بطاعته.
الأثر الخامس: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ»
(2)
:
فالله سُبْحَانَهُ يكره من عبده إذا ابتلي بمعصية أن يذيعها ويشهرها، بل يدعوه إلى أن يتوب إلى الله منها، وسترُ الله مسبولٌ عليه، وعليه أن لا يُظهِرَها لأحد من الناس.
وقد جاءت السُّنَّة بالنهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، فالمجاهر بالمعاصي لا يعافى منها أو من عقوبتها، يقول صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ»
(3)
.
(1)
فتح الباري، لابن رجب (1/ 96).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6069)، ومسلم، رقم الحديث:(2990).
(3)
سبق تخريجه.
وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرينَ» قولان:
الأول: «مُعَافَى» بضم الميم وفتح الفاء، مقصورًا اسم مفعول من العافية، أي: يعفى عن ذنبهم، ولا يؤاخذون به «إِلَّا المُجَاهِرُينَ» بكسر الهاء إلا المعلنون بالفسق؛ لاستخفافهم بحق الله تَعَالَى ورسوله وصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد، فارتكاب المعصية مع سترها أهون وأخف من المجاهرة بها؛ لأن المعصية مع الستر تقبل العفو الإلهي، أما مع المجاهرة فإنه لا يعفى عنها.
ثانيًا: قال الطيبي رحمه الله: والأظهر أن يقال المعنى: كل أمتي يتركون في الغيبة إلا المجاهرين، والعفو بمعنى الترك، ومعنى «مُعَافًى» ، أي: يترك من ألسنة الناس، فلا يغتابونه
(1)
.
(2)
.
(1)
ينظر: شرح المشكاة، للطيبي، (10/ 3119)، وفتح الباري (10/ 478).
(2)
فتاوى نور على الدرب، للعثيمين (24/ 2).
أما في الجمع بين هذا حديث: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ»
(1)
، وحديث ثوبان رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:«لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُم، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا»
(2)
.
قال الشنقيطي رحمه الله: «هناك فرق بين المعصية التي تأتي مع الانكسار، والمعصية التي تأتي بغير انكسار، بين شخص يعصي الله في ستر، وبين شخص عنده جرأة على الله عز وجل، فصارت حسناته في العلانية أشبه بالرياء، وإن كانت أمثال الجبال، فإذا كان بين الصالحين أَحْسَنَ أيما إحسانٍ؛ لأنه يرجو الناس ولا يرجو الله، فيأتي بحسنات كأمثال الجبال، فظاهرها حسنات، لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، فهم في السر لا يرجون لله وقارًا، ولا يخافون من الله سبحانه وتعالى، بخلاف من يفعل المعصية في السر وقلبه منكسر، ويكره هذه المعصية، ويمقتها ويرزقه الله الندم، فالشخص الذي يفعل المعصية في السر، وعنده الندم والحرقة ويتألم، فهذا ليس ممن ينتهك محارم الله عز وجل؛ لأنه- في الأصل- معظِّم لشعائر الله، لكن غلبته شهوته فينكسر لها، أما الآخر فيتسم بالوقاحة والجرأة على الله؛ لأن الشرع لا يتحدث عن شخص أو شخصين، ولا يتحدث عن نص محدد، إنما يعطي الأوصاف كاملة.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(4245) حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(5028).
من الناس من إذا خلا بالمعصية خلا بها جريئًا على الله، ومنهم من يخلو بالمعصية وهو تحت قهر الشهوة وسلطان الشهوة، ولو أنه أمعن النظر وتريث، ربما غلب إيمانُه شهوته وحال بينه وبين المعصية، لكن الشهوة أعمته، والشهوة قد تعمي وتصم، فلا يسمع نصيحة ولا يرعوي، فيهجم على المعصية فيستزله الشيطان، قال تَعَالَى:{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155]، فإذا حصل الاستزلال من الشيطان، فزلت قدم العبد، لكن في قرارة قلبه الاعتراف بالمعصية، والله يعلم أنه لما وقع في المعصية أنه نادم، وأنه كاره لها، حتى إن بعضهم يفعل المعصية وهو في قرارة قلبه يتمنى أنه مات قبل أن يفعلها، فهذا معظم لله عز وجل، ولكنه لم يرزق من الإيمان ما يحول بينه وبين المعصية»
(1)
.
ولذا فعلى المؤمن أن يستتر بستر الله، وأن يجتنب الذنوب ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ عورته، ويصون عرضه، ويجتنب أبواب الرذائل ودروب الفساد، ويقبل على الله تائبًا منيبًا، داعيًا ربه بالستر والعفو والقبول، ومن هنا كان من أذكار الصباح والمساء الدعاء بالستر، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال:«لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي»
(2)
.
(1)
شرح زاد المستقنع، للشنقيطي (332/ 17).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(4877)، وأبو داود، رقم الحديث:(5074)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3871)، حكم الألباني: صحيح، تخريج الكلم الطيب، رقم الحديث:(27).
الأثر السادس: مَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة:
من آمن بأن الله سُبْحَانَهُ رحيم يحب الرحماء، وستير يحب من يستر على عباده، وعفو يحب من يعفو عنهم، ويجازي عباده بحسب هذه الصفات فيهم وجودًا وعدمًا، فمن سترهم سَتَرَه، ومن صفح عنهم صَفَحَ عنه، ومن تتبع عورتهم تتبع عورته، ومن هتكهم هتكه وفضحه، فمن عامل خلقه بصفة عامله الله تَعَالَى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تَعَالَى لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه
(1)
، وجاء في الحديث:«وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»
(2)
.
وليس من سمات المسلم أن يشهِّر بإخوانه، ويتتبَّع عثراتهم، ويتصيد أخطاءهم، ويفضح مستورهم، ويكشف مكنونهم، وكان صلى الله عليه وسلم أعظم المتخلقين بهذا الخلق، والملتزمين بهذا الأدب، والأحاديث بذلك كثيرة، فقد جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنَ الْأَزْدِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ: وَيْحَكِ! ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: وَمَا ذَاكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقَالَ: آنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهَا: حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ، قَالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَ: إِذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا، لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللهِ، قَالَ: فَرَجَمَهَا)
(3)
.
(1)
انظر: الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن القيم (ص: 49).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2699).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1695).
وجاء في الحديث: «جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَعَادَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَاتَّبَعَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ، وَاتَّبَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْظُرُ مَا يَرُدُّ عَلَى الرَّجُلِ، فَلَحِقَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَال: ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ -أَوْ قَالَ ذَنْبَكَ -)
(1)
.
وكان صلى الله عليه وسلم في النصيحة العامة لا يذكر الناس بأعيانهم، بل يعمها بقوله:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ»
(2)
يفعلون كذا
…
وما أحسن تبويب البخاري لمثل هذا الخبر بقوله: «بَابُ: مَنْ لَمْ يُوَاجِهِ النَّاسَ بِالْعِتَابِ» !
(3)
.
قال ابن بطال رحمه الله معلقًا: «هذا العتاب وإن كان خطب به، فلم يعين من أراد به، ولا يقرعه من بين الناس، وكل ما جرى هذا المجرى من عتاب يعم الكل ولا يقصد به أحدًا بعينه، فهو رفق بمن عنى به وستر له، كما أراد عمر بن الخطاب- حين أمر الناس كلهم بالوضوء يوم الجمعة، وهو يخطب- من
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2765).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(456)، ومسلم، رقم الحديث:(1504).
(3)
صحيح البخاري (8/ 26).
أجل الرجل الذي أحدث بين يديه؛ للستر له والرفق به، وليس ذلك بمنزلة أمره له بالوضوء من بينهم وحده في الستر له لو فعل ذلك»
(1)
.
وقد نهج الصحابة رضي الله عنهم وسلف الأمة العظماء هذا النهج الأكمل والخلق الأجمل، كما ذكر طرفًا من ذلك ابن بطال في نصه السالف، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول:«لو أخذت سارقًا لأحببت أن يستره الله، ولو أخذت شاربًا لأحببت أن يستره الله عز وجل»
(2)
.
وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أحد قوَّاده على جيش من الجيوش قال لمن معه: إِنَّكُمْ نَزَلْتُمْ أَرْضًا فِيهَا نِسَاءٌ وَشَرَابٌ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ حَدًّا، فَلْيَأْتِنَا حَتَّى نُطَهِّرَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ:«لَا أُمَّ لَكَ تَأْمُرُ قَوْمًا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَهْتِكُوا سِتْرَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ»
(3)
.
وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، تعبر عن معنى الستر تعبيرًا موجزًا رائعًا بديعًا يأخذ بالألباب، تقول:«يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَعْجِزُ إِحْدَاكُنَّ إِذَا أَذْنَبَتْ فَسَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتُرَهُ عَلَى نَفْسِهَا فَإِنَّ النَّاسَ يُعَيَّرُونَ وَلَا يُغَيِّرُونَ، وَإِنَّ اللَّهَ يُغَيِّرُ وَلَا يُعَيَّرُ»
(4)
.
ومن الستر على عباد الله: النهي عن تتبع عوراتهم، وتوعد صلى الله عليه وسلم في ذلك، ففي الحديث: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا
(1)
شرح ابن بطال لصحيح البخاري (9/ 286).
(2)
مكارم الأخلاق، للخرائطي، رقم الحديث:(538).
(3)
أخرجه وكيع في الزهد، رقم الحديث:(455)، وهناد في الزهد (2/ 646).
(4)
أخرجه إسحاق ابن راهويه في مسنده، رقم الحديث:(1660).
تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ»
(1)
، ويقول تَعَالَى أيضًا:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]، فَمَنِ استتر بستر الله عليه، فلا يجوز فضحُهُ، وكشفُ سترِ الله عليه.
الأثر السابع: العناية بستر العورات:
أمر الله عز وجل بني آدم بستر العورات، وأخبر في كتابه أن كشفها من عمل الشيطان الذي ينزع عن الإنسان لباسه، فحذرنا الله منه، فقال تَعَالَى:{يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاعتناء بالستر، والنهي عن التعري، فقال صلى الله عليه وسلم:«وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً»
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ»
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ قَوْمٌ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ خَالِيًا؟ قَالَ: فَاللهُ
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(19776) وأبو داود، رقم الحديث:(4880)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(7981).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(341).
(3)
سبق تخريجه.
أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ)
(1)
، قال السندي رحمه الله:«أي: فاستر طاعة له وطلبًا لما يحبه منك ويرضيه، وليس المراد، فاستتر منه، إذ لا يمكن الاستتار منه جل ذكره وثناؤه، والله تَعَالَى أعلم»
(2)
وقال صلى الله عليه وسلم: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ»
(3)
.
الأثر الثامن: الحياء من الله عز وجل الحيي الستير:
فأعظم الحياء وأوجبه هو الحياء من الله سُبْحَانَهُ، الذي يمن بنعمة الليل والنهار، ويعلم تقصير عبده ويستره.
ويبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم معنى الحياء الحق في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، فَقُلْنَا: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِي، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى، وَالْبَطْنَ وَمَا وَعَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ»
(4)
.
قال ابن رجب رحمه الله: «يدخل فيه: حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات، وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(20034)، وأبو داود، رقم الحديث:(4017)، والترمذي، رقم الحديث:(2769)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1706).
(2)
فتح الودود في شرح سنن أبي داود (4/ 84).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(16172)، وأبو داود، رقم الحديث:(4014)، حكم الألباني: ضعيف، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(3112).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(3726)، والترمذي، رقم الحديث:(2458)، حكم الألباني: ضعيف، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(1608).
على ما حرَّم الله، ويتضمن- أيضًا- حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب، ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل: اللسان والفرج»
(1)
.
وفي الملحق الآتي ما يعين- بإذن الله- على تحقيق هذه الخلة العظيمة والمنزلة الكريمة.
اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نُغتال من تحتنا، اللهم اغفر ذنوبنا وزلاتنا، واختم بالصالحات أعمالنا وأعمارنا.
(1)
جامع العلوم والحكم (ص: 464).
«حيي ستير، يحب الحياء والستر»
في موضوع الحياء سنتطرق للمسائل التالية:
أولًا: المقصود بالحياء:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «الحياء خُلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «ومقام الحياء جامع لمقام المعرفة والمراقبة»
(2)
.
ثانيًا: فضل الحياء:
ورد في فضل الحياء أدلة وشواهد كثيرة، منها:
أن الحياء علامة الإيمان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإيمانُ بِضْعٌ
(3)
وَسِتُّونَ شُعْبَةً
(4)
، والحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ»
(5)
، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
(1)
فتح الباري، لابن حجر (1/ 52).
(2)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (1/ 157).
(3)
البضع: العدد من ثلاثة إلى تسعة.
(4)
الشعبة: الخصلة.
(5)
سبق تخريجه.
دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ»
(1)
.
الحياء خُلق الإسلام، وكان أخصَّ أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث الصحيح:«إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ»
(2)
، ولقد ضرب رسول الله المثل الأعلى فيه، فقد كان أرقَّ الناس طبعًا، وأنبلهم سيرة، وأعمقهم شعورًا بالواجب، ونفورًا من الحرام، وأشدهم حياء، وعن أبي سَعيد الخدري رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذارء في خِدرها، وكان إذا كره شيئًا عرفناه في وجهه»
(3)
.
الحياء مفتاح كل خير، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:«الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ»
(4)
، يقول ابن القيم رحمه الله:«الحياء أصل كل خير، وذهابه ذهاب الخير أجمعه»
(5)
.
الحياء مغلاق لكل شر، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»
(6)
.
قال المناوي رحمه الله عن القاضي رحمه الله: «معناه: أن مما بقي فأدركوه من كلام الأنبياء المتقدمين: أن الحياء هو المانع من اقتراف القبائح والاشتغال
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(24).
(2)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(4181)، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(940).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(37).
(5)
الداء والدواء، لابن القيم (ص: 96).
(6)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3484).
بمنهيات الشرع ومستهجنات العقل، وذلك أمر قد علم صوابه وظهر فضله واتفقت الشرائع والعقول على حسنه، وما هذه صفته لم يجر عليه النسخ والتبديل»
(1)
.
يقول ابن القيم رحمه الله: «هو مِن أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدرًا وأكثرها نفعًا، بل هو خاصة الإنسانية، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم، وصورتهم الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء»
(2)
.
من أعظم أسباب دخول الجنة، ففي الحديث الصحيح:«الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ»
(3)
.
ذهاب الحياء أمارة النفاق؛ فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ»
(4)
.
الدين كله قائم على الحياء، عن قرة بن إياس رضي الله عنه، قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فذُكر عنده الحياء، فقالوا: يا رسول الله الحياء من الدين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَلْ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ، ثم قال رسول الله
(1)
فيض القدير (1/ 43).
(2)
مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 277 - 278).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(10661)، والترمذي، رقم الحديث:(2009)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4184)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3199).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22743)، واللفظ له، والترمذي، رقم الحديث:(2027)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3201).
صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْعَفَافَ وَالْعِيَّ، عِيَّ اللِّسَانِ لا عِيَّ الْقَلْبِ وَالْعَمَلِ، مِنَ الإِيمَانِ، وَإِنَّهُنَّ يُزِدْنَ فِي الآخِرَةِ وَيُنْقِصْنَ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا يُزِدْنَ فِي الآخِرَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يُنْقِصْنَ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِنَّ الشُّحَّ وَالْفُحْشَ وَالْبَذَاءَ مِنَ النِّفَاقِ، وَإِنَّهُنَّ يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا، وَيُنْقِصْنَ مِنَ الآخِرَةِ، وَمَا يُنْقِصْنَ مِنَ الآخِرَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا»
(1)
.
الحياء من مفاتيح الزينة والبهاء، يقول صلى الله عليه وسلم:«مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا شَانَهُ، وَلَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا زَانَهُ»
(2)
.
ثالثًا: أقسام الحياء:
قسَّم العلماء الحياء باعتبارات مختلفة، قسموه باعتبار أصله، وباعتبار نوعه، وباعتبار المستَحَى منه.
أولًا: تقسيم الحياء من حيث الأصل
إلى قسمين:
حياء فطري غريزي، وهو من أجلِّ الأخلاق التي يمنحها الله للعبد، ويجبله عليها، ومن هذا الحياء: حياء البكر التي جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذنَها صَمْتَهَا، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى سَوْأَةِ بَعْض، وَكَانَ مُوسَى
(1)
أخرجه البيهقي في الشعب، رقم الحديث:(7313)، وأبو نعيم في الحلية، (3/ 125)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(63)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، رقم الحديث:(2534).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12886)، والترمذي، رقم الحديث:(1974)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4185)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الأدب المفرد، رقم الحديث:(601).
عليه السلام يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ، قَالَ: فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، قَالَ: فَجَمَحَ مُوسَى بِإِثْرِهِ، يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى سَوْأَةِ مُوسَى، قَالُوا: وَاللهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، فَقَامَ الْحَجَرُ حَتَّى نُظِرَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللهِ إِنَّهُ بِالْحَجَرِ نَدَبٌ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ، ضَرْبُ مُوسَى بِالْحَجَرِ، ونزل قول الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]»
(1)
.
حياء مكتسب، ويكتسب الإنسان الحياء بقدر معرفته بالله، وقربه منه، وإيمانه باطلاع الله على خائنة العين وما يخفي الصدر، وحُكي عن بعض السلف:«خَفِ اللَّهَ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ، وَاسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ فِي قُرْبِهِ مِنْكَ»
(2)
.
ثانيًا: تقسيم الحياء من حيث النوع:
قسمه ابن القيم رحمه الله إلى عشرة أقسام:
حياء الجناية: فمنه حياء آدم عليه السلام لما فرَّ هاربًا في الجنة، قال الله تَعَالَى:«يَا آدَمُ فِرَارًا مِنِّي؟ قَالَ: بَلْ حَيَاءً مِنْكَ سَيِّدِي»
(3)
.
2 -
حياء التقصير: كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3404)، ومسلم، رقم الحديث:(339).
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في الهواتف، رقم الحديث:(23).
(3)
أخرجه ابن ابي الدنيا في الرقة والبكاء، رقم الحديث:(328).
3 -
حياء الإجلال: وهو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفته بربه يكون حياؤه منه.
4 -
حياء الكرم: كحياء النبي صلى الله عليه وسلم من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطوَّلوا الجلوس عنده، فقام واستحى أن يقول لهم: انصرفوا
(1)
.
5 -
حياء الحشمة: كحياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي؛ لمكان ابنته منه
(2)
.
6 -
حياء الاستحقار، واستصغار النفس: كحياء العبد من ربه عز وجل حين يسأله حوائجه، احتقارًا لشأن نفسه، واستصغارًا لها، وقد يكون لهذا النوع سببان:
أحدهما: استحقار السائل نفسه، واستعظام ذنوبه وخطاياه.
الثاني: استعظام مسئوله، وهو المولى عز وجل.
7 -
حياء المحبة: فهو حياء المحب من محبوبه، حتى إنه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحياء من قلبه، وأحسَّ به في وجهه ولا يُدْرَى ما سببه.
8 -
حياء العبودية: فهو حياء ممتزج من محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، وأن قدرَه أعلى وأجلُّ منها، فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة.
9 -
حياء الشرف والعزة: فحياء النفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء أو إحسان، فإنه يستحيي مع بذله حياء شرف نفس وعزة.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5163)، ومسلم، رقم الحديث:(1428).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(269)، ومسلم، رقم الحديث:(303).
10 -
حياء المرء من نفسه: فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، فيجد نفسه مستحييًا من نفسه، حتى كأن له نفسين، يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحى من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر
(1)
.
ثالثًا: تقسيم الحياء باعتبار المستحيَى منه:
1 - الحياء من الله:
إن أعظم أنواع الحياء على الإطلاق وأرفعها وأجلها: هو الحياء من الله تَعَالَى، يقول تَعَالَى:{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]، ويقول تَعَالَى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]، ويقول أيضًا:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
والحياء من الله يكون باتباع أوامر الله، واجتناب نواهيه، ومراقبة الله في السر والعلن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحْيِيَ مِنَ اللهِ عز وجل، كَمَا تَسْتَحْيِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ قَوْمِكَ»
(2)
وهذا الحياء يسمى حياء العبودية الذي يصل بصاحبه إلى أعلى مراتب الدين، وهي مرتبة الإحسان الذي يُحس فيها العبد دائمًا بنظر الله إليه، وأنه يراه في كل حركاته وسكناته، فيتزين لربه بالطاعات، وهذا الحياء يجعله دائمًا يشعر بأن عبوديته قاصرة حقيرة أمام ربه؛ لأنه يعلم أن قدر ربه أعلى وأجلُّ.
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (2/ 251 - 252).
(2)
أخرجه أحمد في الزهد، رقم الحديث:(248)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(5539)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(2541).
ومن أنواع الحياء من الله: الحياء من نظر الله إليه في حالة لا تليق؛ كالتعري، كما في حديث بهز بن حكيم قال: حدثني أبي عن جدي، قال:«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ عَوْرَاتُنَا، مَا نَأْتِي مِنْهَا، وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ»
(1)
.
ولذلك عقد الإمام البخاري رحمه الله بابًا سماه: «بَابٌ: مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِي الْخَلْوَةِ وَمَنْ تَسَتَّرَ فَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ»
(2)
.
2 - الحياء من الملائكة:
من المعلوم أن الله قد جعل فينا ملائكةً يتعاقبون علينا بالليل والنهار
…
وهناك ملائكة يصاحبون أهل الطاعات مثل: الخارج في طلب العلم، والمجتمعين على مجالس الذكر، والزائر للمريض، وملائكة لا يفارقوننا، وهم الحفظة والكتبة.
قال تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الأنفطار: 10 - 11]، وقال تَعَالَى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 8].
والحياء من الملائكة يكون بالبعد عن المعاصي والقبائح وإكرامهم عن مجالس الخنا، وأقوال السوء، والأفعال المذمومة المستقبحة، قال
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4017)، والترمذي، رقم الحديث:(2769)، وابن ماجه، رقم الحديث:(1920)، حكم الألباني: حسن، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(3117).
(2)
صحيح البخاري، (1/ 64).
صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّيَ، فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عِنْدَ الْغَائِطِ، وَحِينَ يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ»
(1)
.
3 - الحياء من الناس:
وهذا النوع من الحياء هو أساس مكارم الأخلاق، ومنبع كل فضيلة؛ لأنه يترتب عليه القول الطيب، والفعل الحسن، وكل خلق حسن، والحياء من الناس قسمان:
قسم صاحبه يستحي من الناس؛ بأن لا يأتي هذا المنكر والفعل القبيح؛ خوفًا من الله تَعَالَى أولًا، ثم اتقاءَ ملامة الناس وذمهم ثانيًا، فهذا يأخذ أجر حيائه كاملًا؛ لأنه استكمل الحياء من جميع جهاته؛ إذ ترتب عليه الكف عن القبائح التي لا يرضاها الدين والشرع ويذمه عليها الخَلق.
قسم يترك القبائح والرذائل حياءً من الناس، وإذا خلا من الناس لا يتحرَّج من فعلها، وهذا النوع من الناس عنده حياء، ولكنه حياء ناقص ضعيف، يحتاج إلى علاج وتذكير بعظمة ربه وجلاله، وأنه أحقُّ أن يُستحيا منه؛ لأنه القادر المطَّلع الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فكيف يليق به أن يأكل من رزقه ويعصيه، ويعيش في أرضه وملكوته ولا يطيعه، ويستعمل عطاياه فيما لا يرضيه.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2800)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف الجامع الصغير، رقم الحديث:(2194).
وعلى ذلك فإن هذا العبد لا يليق به أن يستحي من الناس الذين لا يملكون له ضرًّا ولا نفعًا، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ثم لا يستحي من الله الرقيب عليه، المتفضل عليه، الذي ليس له غناء عنه.
أما الذي يجاهر بالمعاصي، ولا يستحي من الله، ولا من الناس؛ فهذا من شر ما مُنِيَتْ به الفضيلة، وانتُهكت به العفة؛ لأن المعاصي داء سريع الانتقال، لا يلبث أن يسري في النفوس الضعيفة، فيعم شر معصية المجاهر ويتفاقم خطبها، فشره على نفسه وعلى الناس عظيم، وخطره على الفضائل كبير.
4 - الحياء من النفس:
وهو حياء النفوس العزيزة من أن ترضى لنفسها بالنقص أو تقنع بالدون.
ويكون هذا الحياء بالعفة، وصيانة الخلوات، وحسن السريرة، فيجد العبد المؤمن نفسه تستحي من نفسه، حتى كأنَّ له نَفْسَينِ تستحي إحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء؛ فإن العبد إذا استحى من نفسه فهو بأن يستحي من غيره أجدرُ.
فكما أن هناك نفسًا أمارة بالسوء تأمر صاحبها بالقبائح، قال تَعَالَى على لسان امرأة العزيز:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]، فهناك النفس الأخرى الأمارة بالخير، الناهية عن القبائح وهي النفس المطمئنة، قال تَعَالَى:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30].
وليس من الحياء الإخلال بالحقوق والواجبات الشرعية، ومن فعل الخير والدعوة إلى الله وطلب العلم والتفقه في الدين، فلا يصح الحياء في طلب العلم ولا في السؤال عما يشكل على المؤمن في أمر دينه خاصة.
وقد كانت أم سليم رضي الله عنها تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل دقيقة من أحكام النساء وتستفتح سؤالها بقولها: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ»
(1)
، وفي ذلك يقول مجاهد أيضًا:«لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ»
(2)
، وقالت عائشة رضي الله عنها:«نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ»
(3)
.
رابعًا: تحقيق مرتبة الحياء من الله تَعَالَى:
لا بد للعبد- ليكون من أهل الحياء- أن يستحضر عدة أمور، ويستشعرها، ويحرص أن لا تغيب عن ذهنه، ومنها:
الدعاء: وهو سلاح المؤمن، فيلجأ إلى ربه؛ ليرزقه الحياء، ويصرف عنه سيء الأخلاق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح:«وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ»
(4)
، وكان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6091)، ومسلم، رقم الحديث:(313).
(2)
صحيح البخاري، (1/ 38).
(3)
صحيح البخاري، (1/ 38).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(771).
الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَهْوَاءِ»
(1)
، ولا ريب أن الحياء من الأخلاق الحسنة.
مراقبة الله تَعَالَى في السر والعلن: ومن ثمَّ فيقوى الإيمان في القلب بزيادة الطاعات واجتناب المنكرات، وقال ابن القيم رحمه الله عن الله عز وجل:«فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأى منه ومسمع- وكان حيًّا حَيِيًّا- استحى من ربه أن يتعرض لمساخطه»
(2)
.
العلم بالله عز وجل: وذلك من خلال التفقه في أسمائه وصفاته التي تستوجب مراقبته كالرقيب والشهيد والعليم والسميع والبصير
…
معرفة أهمية الخلق في الإسلام، والتأمل في الآثار المترتبة عليها: ومن ذلك الحياء خاصة، والأخلاق الحسنة بعامة؛ فإن معرفة ثمرات الأشياء، واستحضار حسن عواقبها؛ من دواعي فعلها، وتمثلها، والسعي إليها.
الحذر من اليأس من إصلاح النفس: فهناك من إذا ابتلى بشيء مما يُسيء الأخلاق، وحاول التخلص منه فلم يفلح أيس من إصلاح نفسه، وترك المجاهدة، وهذا الأمر لا يَحْسُن بالمؤمن القوي، بل ينبغي عليه أن يقوي إرادته، وأن يسعى لتكميل نفسه، وأن يجُدَّ في تلافي عيوبه.
مخالطة الصالحين، والتخلق بأخلاقهم: قال مجاهد رحمه الله: «إنَّ المسلم لو لم يُصبْ من أخيه إلا أن حياءه منه يمنعه من المعاصي لكفاه» ، والمرء فطرةً مولعٌ بمحاكاة من حوله، شديد التأثر بمن يصاحبه، فمجالس
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3591)، وابن حبان، رقم الحديث:(960)، حكم الألباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(2471).
(2)
طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 270).
الأخيار تقوي الحياء المكتسب وتنميه، أما مجالسة الأرذال، فإنها تحول بين العبد وبين اكتساب الحياء.
مطالعة سير أهل الفضل والحلم، والنظر في تراجمهم عامةً مما يُحرك العزيمة على اكتساب المعالي، ومكارم الأخلاق؛ ذلك أنَّ حياتهم توحي إلى القارئ بالاقتداء بهم، والسير على منوالهم.
فاللهم إنا نسألك أن ترزقنا مِن خشيتك والحياء منك، ما يحول بيينا وبين معصيتك!
الرفيقُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الرفق: ضد العنف، وقد رفق به يرفق، وحكى أبو زيد: رفقت به وأرفقته بمعنى، وكذلك ترفقت به، ويقال أيضًا: أرفقته، أي نفعته»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الراء والفاء والقاف أصل واحد يدل على موافقة مقاربة بلا عنف، فالرفق: خلاف العنف؛ يقال: رفقت أرفق، وفي الحديث: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ
(2)
»
(3)
.
ورود اسم الله (الرفيق) في القرآن الكريم:
لم يرد اسم الله (الرفيق) في القرآن الكريم.
ورود اسم الله (الرفيق) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الرفيق) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا
(1)
الصحاح في اللغة (4/ 168).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6024)، ومسلم، رقم الحديث:(2165).
(3)
مقاييس اللغة (2/ 418).
عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ»
(1)
.
وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ»
(2)
.
ثبوت اسم الله (الرفيق) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسم الله (الرفيق) في حق الله تَعَالَى:
ابن القيم رحمه الله: في قوله: «وتعبده باسمه البر، اللطيف، المحسن، الرفيق، فإنه رفيق يحب الرفق»
(3)
.
ابن عثيمين رحمه الله: فقد عده من الأسماء المثبتة بالسنة النبوية
(4)
.
معنى اسم الله (الرفيق):
قال الخطابي رحمه الله: «(إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ)
(5)
، أي:«ليس بعجول، وإنما يعجل من يخاف الفوت، فأما من كانت الأشياء في قبضته وملكه فليس يعجل فيها»
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6927)، واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(2593).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2593).
(3)
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (2/ 270).
(4)
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، لابن عثيمين (ص: 15).
(5)
سبق تخريجه.
(6)
النهج الأسمى، للنجدي (3/ 10).
قال الزرقاني رحمه الله: «(إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ)
(1)
، أي: لطيف بعباده، يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، فيكلفهم فوق طاقتهم، بل يسامحهم ويلطف بهم»
(2)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «فالله تَعَالَى رفيق في أفعاله، خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيئًا فشيئًا، بحسب حكمته ورفقه، مع أنه قادر على خلقها دفعة واحدة، وفي لحظة واحدة، ومَن تدبَّر المخلوقات وتدبَّر الشرائع كيف يأتي بها شيئًا بعد شيء، شاهَدَ من ذلك العجبَ العجيبَ»
(3)
.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
وَهُوَ الرَّفِيْقُ يُحِبُّ أَهْلَ الرِّفْقِ يُعْـ
…
ـطِيهِمُ بِالرِّفْقِ فَوْقَ أَمَانِ
(4)
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الرفيق):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الرفيق) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
الرفيق سُبْحَانَهُ هو اللطيف بعباده، القريب منهم، يغفر ذنوبهم ويستر عيوبهم، وهو الذي تكفل بهم من غير عوض أو حاجة، يسَّر أسبابهم، وقدَّر أرزاقهم، وهداهم لما يصلحهم، فنعمته عليهم سابغة، وحكمته فيهم بالغة،
(1)
سبق تخريجه.
(2)
شرح الزرقاني على موطأ مالك (4/ 624).
(3)
الحق الواضح المبين (ص: 63).
(4)
النونية، لابن القيم (ص: 208).
يحب عباده الموحدين، ويتقبل أعمالهم، ويقربهم وينصرهم على عدوهم، ويعاملهم بلطف وعطف ورحمة وإحسان، ويدعو من خالفه إلى التفكر والتذكر والتوبة والإيمان، فهو الرفيق المحسن في خفاء وستر، يتابع عباده في حركاتهم وسكناتهم، ويتولاهم في حلهم وترحالهم بمعية عامة وخاصة، العالم بخفايا أمورهم، والخبير ببواطن شؤونهم، تعددت مظاهر رفقه وإحسانه في خلقه، ومن ذلك:
- رفقه سُبْحَانَهُ في أفعاله:
الرفيق سُبْحَانَهُ خلق المخلوقات كلها بالتدرج شيئًا فشيئًا، بحسب حكمته ورفقه، مع قدرته على خلقها دفعة واحدة، وفي لحظة واحدة، ومن ذلك:
خلق السموات والأرض في ستة أيام، يقول تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
[الأعراف: 54].
خلق الإنسان مراحل من نطفة حتى اكتمل الخلق، يقول تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج: 5].
فخلق الله قائم على التدرج، وهذا دليل على رفق الله وحكمته وعلمه ولطفه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوا ذلك وبينَّوه للناس، وعرفوا أنَّ حدوث الحوادث اليومية المشهودة تدل على أن العالم مخلوق، وأن له ربًّا خلقه ويحدث فيه الحوادث»
(1)
، وكان سُبْحَانَهُ قادرًا على خلق الحوادث كلها في وقت واحد وهيئة واحدة، لكنه الرفيق الذي لا يعجل سُبْحَانَهُ.
رفقه سُبْحَانَهُ في أحكامه:
فالله سُبْحَانَهُ لا يكلف عباده إلا بما يطيقون، فأوامره كلها بقدر الاستطاعة، وما فيه مشقة عليهم أسقطه ورخصه، حتى تزول مشقته.
بل إن الأحكام والتكاليف الشرعية فُرضت على العباد بالتدريج، ولم تفرض دفعة واحدة، حتى تألف النفوس وتلين الطباع ويتم الانقياد، فقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وعشرين سنة يبني المجتمع الإسلامي لبنة لبنة، ويعده نفسيًّا وذهنيًّا لتقبل الأحكام، فالخمر- مثلًا- حُرِّمَ على عدة مراحل، وهي:
تأثيم شرب الخمر، يقول تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
تحريم شرب الخمر وقت الصلاة، يقول تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].
التحريم القطعي، يقول تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
والصلاة كذلك فُرضت في أول الأمر ركعتين ركعتين، ثم أُقرت في
(1)
جامع الرسائل، لابن تيمية (ص: 139).
السفر على هذا، وزِيدت في الحضر إلى أربع (الظهر والعصر والعشاء)، ويدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها تقول:«فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا»
(1)
(2)
والصيام فُرِضَ أولًا على التخيير، فمن شاء صام ومن شاء أفطر وفدى، ثم أنزل الله فرض صيامه في قوله تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وأخرج البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قولها: «إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا»
(3)
.
ومن آثار رفقه سُبْحَانَهُ بعباده: ما شرع لهم من الرخص الشرعية التي ترفع عنهم الحرج، والعبد إذا ترفه بالرخص الشرعية، فإنما يتعبد لله تَعَالَى باسمه «الرفيق» كما وضح ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله: «فرق بين أن يكون التفاته إليها- أي: الرخص- ترفهًا وراحة، وأن يكون متابعة وموافقة،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3935).
(2)
أخرجه ابن خزيمة، رقم الحديث:(944)، وابن حبان، رقم الحديث:(2738)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2814).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4993).
ومع هذا فالالتفات إليها ترفهًا وراحة لا يُنافي الصدق، فإن هذا هو المقصود منها، وفيه شهود نعمة الله على العبد، وتعبد باسمه:(البرِّ)؛ (اللطيف)؛ (المُحسن)؛ (الرَّفيق)، فإنه (رفيق) يحب الرفق»
(1)
.
رفقه سُبْحَانَهُ بعباده العصاة:
فهو الرفيق الذي يمهل من عصاه ليتوب إليه، ولو شاء لعجل بعقوبته، لكنه رفق به وتأنى، وحلم عليه، يقول تَعَالَى:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف: 58]، ويقول سُبْحَانَهُ:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61].
(2)
.
وحري بمن عرف اسم الله الرفيق وآمن به أن يوحده سُبْحَانَهُ بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ويستغني به عن خلقه، فيسأله وحده عفوه ورفقه.
(1)
مدارج السالكين (2/ 282).
(2)
جامع البيان (14/ 85).
الأثر الثاني: محبة الله الرفيق:
إن من رأى آثار لطف الله ورفقه بعباده، في خلقه، وشرعه، وقدرته، ورأفته ورحمته
(1)
، مع غناه سُبْحَانَهُ عن خلقه؛ أحب ربه وعظمه، وأجله وحمده، ووحده.
الأثر الثالث: الرفق في أخذ الدين، وعدم التشدد:
فالإسلام دين يُسر وسهولة، لا يكلف بما لايطاق، والنبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن تكليف النفس فوق ما تطيق ولو كانت عبادة، يقول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»
(2)
.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في شرح الحديث: «ما أعظم هذا الحديث، وأجمعه للخير والوصايا النافعة، والأصول الجامعة، فقد أسس صلى الله عليه وسلم في أوله هذا الأصل الكبير، فقال:(إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ): أي: ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه، فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره: هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب، وتوصِّل مقتديها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب، وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق، وأصلح الأعمال، بها صلاح الدين والدنيا والآخرة، وبفواتها يفوت الصلاح كله، وهي كلها ميسرة مسهلة، كل مكلف يرى نفسه قادرًا عليها لا تشق عليه، ولا تكلفه، عقائده صحيحة
(1)
للاستزادة في آثار الرحمة واللطف تراجع الأسماء: الرحمن، الرحيم، اللطيف.
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(39).
بسيطة، تقبلها العقول السليمة، والفطر المستقيمة
…
وأما من شدد على نفسه فلم يكتف بما اكتفى به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بما علَّمه للأمة وأرشدهم إليه، بل غلا، وأوغل في العبادات: فإن الدين يغلبه، وآخر أمره العجز والانقطاع، ولهذا قال:(وَلَن يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ)، فمن قاوم هذا الدين بشدة وغلو، ولم يقتصد: غلبه الدين، واستحسر ورجع القهقرى»
(1)
.
ومن شواهد الرفق والنهي عن التشدد في العبادة فوق ما شرع الله، ما يلي:
(2)
.
(3)
.
(1)
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، للسعدي (ص: 78).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(785).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5063).
- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَبْلُ؟ قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ»
(1)
.
ومن الرفق في أخذ الدين: الترخص برخص الرفيق سُبْحَانَهُ، واستشعار العبودية في ذلك، وابتغاء محبته ورضاه، فعن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُتْرَكَ مَعْصِيَتُهُ»
(2)
، وفي حديث حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه، أنه قال:«يَا رَسُولَ اللهِ، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ»
(3)
.
الأثر الرابع: الرفق في كل الأمور، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم
-:
كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أرفق الناس، وشواهد رفقه في سنته ظاهرة، ودلائل حلمه وأناته في سيرته واضحة، بل إنه ضرب أروع الأمثلة في تحقيق الرفق والأناة في تعامله مع الناس ودعوته إلى دين الله، ومعالجته لما قد يقع من أخطاء ومخالفات، ومن شواهد ذلك:
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1150)، ومسلم، رقم الحديث:(784).
(2)
أخرجه ابن خزيمة، رقم الحديث:(2027)، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(1059).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1121).
عن أنس رضي الله عنه قال: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُزْرِمُوهُ، ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ»
(1)
.
يبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«دَعُوهُ، وَلَا تُزْرِمُوهُ»
(2)
ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا بدلو من ماء فَصُبَّ عليه، فحلَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسألةَ ببساطة وبغير فظاظة، لا إغلاظ ولا سخرية ولا غيره، وفي رواية أن هذا الأعرابي قال وهو في الصلاة:«اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا»
(3)
.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: قُلْتُ: وَعَلَيْكُم»
(4)
.
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(220).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(284).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6010).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2306)، ومسلم، رقم الحديث:(1601).
(1)
.
(2)
.
عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: «إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: ادْنُهْ فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5809) واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(1057).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(537).
قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ»
(1)
.
عن أنس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على أزواجه، وسَوَّاق يسوق بهن، يقال له: أنجَشَة، فقال: فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالْقَوَارِيرِ»
(2)
.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ وَيُقْعِدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا»
(3)
.
بل إن من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم العامة: الرفق في كل الأمور، ففي الحديث:«إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ، فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ»
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22641)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(7679، 22265)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1/ 713).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6149)، ومسلم، رقم الحديث:(2323).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6003).
(4)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(25259)، وأبو يعلى، رقم الحديث:(4530) حكم الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(2524).
الأثر الخامس: التفريق بين الرفق والتفريط:
إن الرفق لا يعني التفريط والكسل وتفويت فرص الخير، بل الرفق الممدوح وسط بين العجلة والطيش وبين الكسل وتفويت الفرص، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:«والفرق بين المبادرة والعجلة: أن المبادرة انتهاز الفرص في وقتها، ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها، فهو لا يطلب الأمور في إدبارها، ولا قبل وقتها، بل إذا حضر وقتها بادر إليها، ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته، فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نضجها وإدراكها، والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته، فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها، فالمبادرة وسط بين خلقين مذمومين؛ أحدهما: التفريط والإضاعة، والثاني: الاستعجال قبل الوقت؛ ولهذا كانت العجلة من الشيطان، فإنها خفة وطيش، وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعًا من الشرور وتمنعه من الخير، وهي قرين الندامة، فقل من استعجل إلا ندم، كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة»
(1)
.
(2)
.
(1)
الروح، لابن القيم (ص: 258).
(2)
روضة العقلاء، لابن حبان البستي (ص: 216).
(1)
.
الأثر السادس: الرفق في التعامل مع الخلق:
فحقيقة الرفق هي: التحكم في هوى النفس ورغباتها، وحملها على الصبر والتحمل والتجمل، وكفها عن العنف والتعجل، والعلم بأن الصبر بالتصبر، والحلم بالتحلم، والعلم بالتعلم، والرفق بالترفق، وحسن الخلق كله بالتخلق، ومن يتوخ الخير يعطه، ومن يتوقى الشر يوقه.
(2)
.
(1)
المرجع السابق، نفس الصفحة.
(2)
ذم الهوى، لابن الجوزي (ص: 40).
ومن مظاهر رفق المؤمن بغيره ما يلي:
الرفق بأهل البيت خاصة:
فإن أولى الناس بالحلم والرفق واللين: الأهلُ وذوو الأرحام، يقول صلى الله عليه وسلم في ذلك:«إِذَا أَرَادَ اللهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خيرًا أَدْخَلَ عَلَيهِمُ الرِّفْقَ»
(1)
، ويقول:«خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»
(2)
، وقد ورددت نصوص كثيرة في الرفق بأهل البيت، منها:
الرفق بالوالدين، يقول تَعَالَى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24].
الرفق بين الزوجين، فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرًا في قوله:«اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ»
(3)
، وأخبر صلى الله عليه وسلم عن الزوجة الصالحة الخيرة بقوله: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: كُلُّ وَلُودٍ وَدُودٍ،
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(25065)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(303).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3895)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف الترمذي، رقم الحديث:(3895).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3331)، ومسلم، رقم الحديث:(1468).
إِذَا غَضِبَتْ أَوْ أُسِيءَ إِلَيْهَا أَوْ غَضِبَ -أَيْ: زَوْجُهَا- قَالَتْ: هَذِهِ يَدِي فِي يَدِكَ لَا أَكْتَحِلُ بِغُمْضٍ حَتَّى تَرْضَى»
(1)
.
الرفق بالأبناء، وفي ذلك روى أبى هريرة رضي الله عنه، أن الأقرع بن حابس رضي الله عنه أبصر النبى صلى الله عليه وسلم يقبِّل الحسن، فقال: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»
(2)
.
الرفق مع عامة الناس:
(3)
، وفي هذا المعنى شواهد نبوية كثيرة، منها:
قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: «يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ»
(4)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ الله رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ»
(5)
.
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الصغير، رقم الحديث:(118) حكم الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(1941).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5997)، ومسلم، رقم الحديث:(2318).
(3)
الوابل الصيب، لابن القيم (ص: 35).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2593).
(5)
سبق تخريجه.
قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ، فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ»
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: «الأَنَاةُ مِنَ الله، وَالعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ»
(2)
.
الرفق بمن أساء:
كان الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح يتعاملون بالرفق مع من يسيئون إليهم، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لرجل سَبَّهُ-:«يا عكرمة، هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فَنَكَّسَ الرجل رأسه، واستحى مما رأى من حلمه عليهِ»
(3)
، وعن علي بن الحسين رضي الله عنه:«أن رجلًا سَبَّهُ فرمى إليه بخميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فقال بعضهم: جمع له خمس خصال محمودة: الحلم وإسقاط الأذى وتخليص الرجل مما يبعده عن الله عز وجل، وحمله على الندم والتوبة ورجوعه إلى مدحٍ بعد الذم، اشترى جميع ذلك بشيء من الدنيا يسير»
(4)
.
ويدخل هنا- أيضًا- الرفق والإحسان في الدعوة إلى الله، أو التعامل مع المخالف، يقول سُبْحَانَهُ في بيان هذه العلة:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، ويقول تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2013)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(464)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(2013).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2012)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(5702)، حكم الألباني: ضعيف، ضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(65).
(3)
موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق، لياسر عبد الرحمن (1/ 346).
(4)
نضرة النعيم (5/ 1749).
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال:«إِذَا رَأَيْتُمْ أَخَاكُمْ قَارَفَ ذَنْبًا، فَلَا تَكُونُوا أَعْوَانًا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، أَنْ تَقُولُوا: اللَّهُمَّ أَخْزِهِ، اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، وَلَكِنْ سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كُنَّا لَا نَقُولُ فِي أَحَدٍ شَيْئًا، حَتَّى نَعْلَمَ عَلَى مَا يَمُوتُ، فَإِنْ خُتِمَ لَهُ بِخَيْرٍ عَلِمْنَا - أَوْ قَالَ: رَجَوْنَا - أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ خَيْرًا، وَإِنْ خُتِمَ لَهُ بِشَرٍّ، خِفْنَا عَلَيْهِ عَمَلَهُ»
(1)
.
وعليه فالرفق في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر متعيِّن، وهو وظيفة الأنبياء والرسل ومنهجهم جميعهم في الدعوة، ومنه رفق إبراهيم مع أبيه رغم كفره وجفاء قوله، يقول تَعَالَى:{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 42 - 47].
قال الشنقيطي رحمه الله: «بيَّن الله عز وجل في هاتين الآيتين الكريمتين أن إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرفق واللين، وإيضاح الحق، والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يُبصر، ومن عذاب الله تَعَالَى، وولاية الشيطان، خاطبه هذا الخطاب العنيف وسماه باسمه، ولم يقل له: يا بُنَي، في
(1)
أخرجه ابن المبارك في الزهد، رقم الحديث:(896)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(8574).
مقابلة قوله له: يا أبت، وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان، أي: مُعرض عنها لا يريدها؛ لأنه لا يعبد إلا الله وحده عز وجل، وهدده بأنه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه، قيل: بالحجارة، وقيل: باللسان شتمًا، والأول أظهر، ثم أمره بهجره مليًّا، أي: زمانًا طويلًا، ثم بين أن إبراهيم قابل- أيضًا- جوابه العنيف بغاية الرفق واللين، في قوله:{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47]»
(1)
.
الرفق بالحيوان والنبات ونحوه:
ومن الرفق بالحيوان: أن يُدفع عنه أنواع الأذى، كالعطش والجوع، والمرض، والحمل الثقيل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»
(2)
.
وعن سعيد بن جبير رحمه الله، قال: مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا»
(3)
.
(1)
أضواء البيان، للشنقيطي (3/ 427).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2363)، ومسلم، رقم الحديث:(2244).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1958).
ومن الرفق بالنبات ونحوه قوله تَعَالَى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
الأثر السابع: الحرص على نيل ثواب الرفق:
الله سُبْحَانَهُ رفيق يحب الرفق، ويجازي عليه بثواب الدنيا والآخرة، ومن ذلك:
- تحريم النار على كل ليِّن سهل رفيق:
قوله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ»
(1)
، وفي رواية «قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ»
(2)
.
- الخير الجزيل منه سُبْحَانَهُ:
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ»
(4)
، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لمن يتولى أمر المسلمين ويرفق بهم في قوله:«وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ»
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(4017)، والترمذي، رقم الحديث:(2488)، واللفظ له، حكم الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب رقم الحديث:(1744).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(4017)، واللفظ له، والترمذي، رقم الحديث:(1961)، حكم الألباني: ضعيف جداً، السلسلة الضعيفة، رقم الحديث:(154).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2592).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1828).
- الرفق يزين الأشياء كلها:
ففي الحديث: «مَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ، وَمَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ»
(1)
، فالنفوس تنشرح للرفق وتأنس به.
- الرفق سبب في لين القلب:
فقد شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال له:«إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ»
(2)
.
فاللهم ارزقنا الرفق في الأمور كلها، وارفُق بنا، واشملنا بعطفك ورحمتك وغفرانك، اللهم ارزقنا الحلم والأناة، واهدنا إلى ما تحبه من الأعمال والأخلاق.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(7650)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1409).
السُبُّوح القُدُّوس جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
أولًا: (السبوح):
قال الجوهري رحمه الله: «
…
والتسبيح: التنزيه، وسبحان الله، معناه: التنزيه لله، نصب على المصدر، كأنه قال: أبرئ الله من السوء براءة، والعرب تقول: سبحان من كذا، إذا تعجبت منه
…
وسبوح من صفات الله، قال ثعلب: كل اسم على (فعول) فهو مفتوح الاول، إلا السبوح والقدوس، فإن الضم فيهما أكثر»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(سبح) السين والباء والحاء أصلان
…
ومن الباب التسبيح، وهو تنزيه الله جل ثناؤه من كل سوء، والتنزيه: التبعيد، والعرب تقول: سبحان من كذا، أي: ما أبعده
…
وفي صفات الله عز وجل: سبوح، واشتقاقه من الذي ذكرناه أنه تنزه من كل شيء لا ينبغي له»
(2)
.
(1)
الصحاح (1/ 372).
(2)
مقاييس اللغة (3/ 125).
ثانيًا: (القدوس):
قال الجوهري رحمه الله: «والقدوس: اسم من أسماء الله تَعَالَى، وهو فعول من القدس، وهو الطهارة»
(1)
.
(2)
.
ورود اسم الله (السبوح القدوس) في القرآن الكريم:
أولًا: ورود اسم الله السبوح:
لم يرد اسم الله (السبوح) في القرآن.
ثانيًا: ورود اسم الله القدوس:
ورد اسمه سُبْحَانَهُ (القدوس) مرتين في كتاب الله، وهما:
قوله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].
(1)
الصحاح (3/ 99).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 63 - 64).
قوله عز وجل: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1]
ورود اسم الله (السبوح القُدُّوس) في السنة النبوية:
أولًا: ورد اسم الله السبوح في السنة، مقرونًا باسمه القدوس في حديث عائشة:«أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ»
(1)
.
ثانيًا: ورد اسم الله (القدوس).
من وروده ما يلي:
حديث عائشة رضي الله عنها السابق.
حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، قال:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ فِي الْوَتْرِ، قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ»
(2)
.
حديث عائشة رضي الله عنها، لما سئلت بِمَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ إِذَا هَبَّ مِنَ اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ:«لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، كَانَ إِذَا هَبَّ مِنَ اللَّيْلِ كَبَّرَ عَشْرًا وَحَمِدَ عَشْرًا، وَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَشْرًا وَقَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ عَشْرًا وَاسْتَغْفَرَ عَشْرًا، وَهَلَّلَ عَشْرًا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا، وَضِيقِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَشْرًا ثُمَّ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(487).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(21142)، وأبو داود، رقم الحديث:(1430)، واللفظ له، حكم الألباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(1275).
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5085)، حكم الألباني: حسن صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5085).
ثبوت اسم الله (السبوح) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسم الله السبوح
(1)
في حق الله تعالى:
النووي رحمه الله: في قوله: «السبوح القدوس المسبح المقدس، فكأنه قال: مسبَّح مقدَّس، رب الملائكة والروح، ومعنى سُبُّوح: المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق بالإلهية»
(2)
.
ابن عثيمين رحمه الله: فقد عده من الأسماء المثبتة بالسنة النبوية
(3)
.
معنى اسم الله (السُّبُّوح القُدُّوس):
أولًا: (السُّبُّوح):
قال الطبري رحمه الله: «
…
قولهم: (سبوح قدوس)، يعني بقولهم:(سبوح)، تنزيه لله
…
فمعنى قول الملائكة إذًا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30]: ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك، ونصلي لك»
(4)
.
قال الخطابي رحمه الله: «السبوح: المنزه عن كل عيب، جاء بلفظ: فعول من قولك: سبحت الله؛ أي: نزهته، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن تفسير قوله: سبحان الله فقال: (إنكاف الله من كل سوء)؛ أي: تنزيهه»
(5)
.
(1)
لم نورد اسم الله (القدوس) هنا؛ لأنه ثيت بنص القرآن الكريم، فلا حاجة.
(2)
شرح النووي على مسلم، (4/ 204).
(3)
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، لابن عثيمين، (ص: 15).
(4)
تفسير الطبري (1/ 167).
(5)
شأن الدعاء (1/ 154).
قال الحَليمي رحمه الله: «ومنها السبوح: ومعناه: المنزه عن المصائب، والصفات التي تعتور المحدثين من ناحية الحدث، والتسبيح التنزيه»
(1)
.
قال النووي رحمه الله: «السبوح القدوس المسبح المقدس، فكأنه قال: مُسبَّح مُقَدَّس، رب الملائكة والروح، ومعنى سبوح: المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق بالإلهية»
(2)
.
ثانيًا: القدوس:
يدور اسم الله القدوس في حق الله - تَعَالَى - على معنين:
1 -
الطاهر من الأدناس والنقائص والمعايب.
2 -
المبارك ذي الخير الواسع العظيم.
ومن الأقوال في المعنى الأول:
قال الطبري رحمه الله: «والتقديس هو التطهير والتعظيم، فمعنى قول الملائكة: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]: ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك»
(3)
.
قال الخطابي رحمه الله: «القدوس: هو الطاهر من العيوب، المنزه عن الأنداد، والأولاد»
(4)
.
(1)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 197).
(2)
شرح النووي على مسلم (4/ 204).
(3)
تفسير الطبري، (1/ 167).
(4)
شأن الدعاء، (1/ 40).
قال البيهقي رحمه الله: «القدوس: هو الطاهر من العيوب، المنزه عن الأولاد والأنداد، وهذه صفة يستحقها بذاته»
(1)
.
قال البغوي رحمه الله: «(القدوس) الطاهر من كل عيب، المنزه عما لا يليق به»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «(القدوس): المنزه من كل شر ونقص وعيب، كما قال أهل التفسير: هو (الطاهر) من كل عيب المنزه عما لا يليق به، وهذا قول أهل اللغة»
(3)
.
(4)
.
(1)
الاعتقاد، للبيهقي (ص: 59).
(2)
تفسير البغوي (8/ 78).
(3)
شفاء العليل (2/ 510).
(4)
تفسير السعدي (ص: 946).
- قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
هَذَا وَمِنْ أَوْصَافِهِ القُدُّوسُ ذُو التَّـ
…
ـنْزِيهِ بِالتَّعْظِيمِ لِلرَّحْمَنِ
(1)
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال قتادة رحمه الله: «القدوس أي: المبارك»
(2)
.
قال الزجاج رحمه الله: «والقدوس: المبارك»
(3)
.
قال ابن كثير رحمه الله: «قال مجاهد، وقتادة: أي: المبارك»
(4)
.
الفرق بين السُّبُّوح والقُدُّوس:
اختلفت أقوال أهل العلم رحمهم الله في التفريق بينهما، ومن هذه الأقوال:
1 -
أن التسبيح تنزيه الله وتبرئته مما أضافه إليه أهل الشرك، والتقديس نسبته سُبْحَانَهُ إلى ما هو من صفاته من الطهارة من الأدناس، وما أضافه إليه أهل الكفر به. قاله الطبري
(5)
.
2 -
قال الحليمي رحمه الله: «القدوس: ومعناه الممدوح بالفضائل والمحاسن، والتقديس مضمن في صريح التسبيح، والتسبيح مضمن في صريح التقديس؛ لأن نفي المذام إثبات للمدائح،
…
إلا أن قولنا: هو كذا ظاهرة
(1)
النونية (ص: 210).
(2)
تفسير الطبري (23/ 203).
(3)
لسان العرب، لابن منظور (2/ 472).
(4)
تفسير ابن كثير (8/ 79).
(5)
ينظر: تفسير الطبري (1/ 475).
التقديس، وقولنا: ليس بكذا ظاهرة التسبيح؛ لأن التسبيح موجود في ضمن التقديس، والتقديس موجود في ضمن التسبيح، وقد جمع الله تبارك وتعالى بينهما في سورة الإخلاص، فقال عز اسمه:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2]، فهذا تقديس، ثم قال:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 - 4]. فهذا تسبيح»
(1)
.
3 -
أن التسبيح يكون بالقول والعمل، وأما التقديس فيكون بالاعتقاد.
قال ابن عاشور رحمه الله: «فمعنى {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]: نحن نعظمك وننزهك، والأول بالقول والعمل، والثاني باعتقاد صفات الكمال المناسبة للذات العلية، فلا يتوهم التكرار بين (نسبح) و (نقدس)»
(2)
.
4 -
التسبيح يختص بالله عز وجل، بخلاف التقديس، فيستعمل في حق الآدميين، فيقال: فلان رجل مقدَّس إذا أريد تبعيده عن مسقطات العدالة ووصفه بالخبر، ولا يقال: رجل مسبَّح، بل ربما يستعمل في غير ذوي العقول، قال تَعَالَى:{ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21] أي: أرض الشام
(3)
.
(1)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 197).
(2)
التحرير والتنوير (1/ 406).
(3)
ينظر: معجم الفروق اللغوية، لابن مهران (ص: 125).
اقتران اسم الله (القُدُّوس) بأسمائه الأخرى في القرآن الكريم:
أولًا: اقترن اسم الله (القدوس) باسم الله (الملك):
ورد اقتران هذين الاسمين الجليلين في كتاب الله عز وجل في موضعين، هما:
قوله تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
[الحشر: 23].
قوله تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1].
وجه الاقتران:
أن ملكه جل في علاه لا يمثل ملوك الدنيا؛ فقد تنزه عما في ملكهم من النقائص والمعايب
(1)
.
ثانيًا: اقترن اسم الله (القدوس) باسم الله (السلام):
تقدم بيانه في اسم الله (السلام).
(1)
التحرير والتنوير، لابن عاشور (28/ 107).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله السبوح القدوس:
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (السبوح القدوس) من صفاته سُبْحَانَهُ:
الله تَعَالَى هو السبوح القدوس في أسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله؛ فأسماؤه كلها حسنى لا عيب فيها، وصفاته كلها عليا لا نقص فيها، وأفعاله كلها حكمة لا شر فيها، وأقواله كلها فصل لا هزل فيها {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13 - 14].
برأ من كل نقص وعيب، وتنزه عن كل ما لا يليق بجلاله، قال تَعَالَى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23].
ومجموع ما تنزه عنه تبارك وتعالى شيئان:
1 -
تنزهه جل في علاه عن كل ما ينافي صفات كماله، فإن له المنتهى في كل صفة كمال.
فهو السبوح القدوس الحي القيوم الذي تنزه عن ضدها من الموت والفناء، والسنة، والنوم، قالتَعَالَى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58]، وقال سُبْحَانَهُ:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وقال:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ عز وجل لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ»
(1)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(179).
وهو السبوح القدوس العليم الذي تنزه عن الجهل، والنسيان والغفلة، وأن يعزب عنه شيء في السموات والأرض، قال تَعَالَى:{وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 38]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61]، وقال:{لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52].
وهو السبوح القدوس القادر القدير الذي تنزه عن العجز، والتعب، والإعياء، قال تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، وقال:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، وقال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف: 33].
وهو السبوح القدوس الحكيم الذي تنزه عن العبث والسفه، أو أن يفعل أو يشرع ما ينافي الحكمة، قال تَعَالَى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38 - 39]، وقال:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون: 115، 116].
وهو السبوح القدوس الغني الذي تنزه عن الفقر والفاقة، قال تَعَالَى:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آل
عمران: 181]، وتنزه عن الحاجة إلى الولد، والصاحبة، والشريك، والمعين أو إلى أحد من خلقه بوجه من الوجوه، قال تَعَالَى:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3]، وقال سُبْحَانَهُ:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101]، وقال:{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 68]، وقال:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]، وقال:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]، وقال:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، وقال:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
وهو السبوح القدوس الكريم الذي تنزه عن البخل والشح قال تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يَدُ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَقَالَ: عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ، يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ»
(1)
.
وهو السبوح القدوس المؤمن الذي تنزه عن الظلم والجور، قال تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7411).
عَظِيمًا} [النساء: 40]، وقال سُبْحَانَهُ:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وفي الحديث القدسي:
(1)
.
وهو السبوح القدوس الحق الذي تنزه كلامه عن الكذب والباطل، قال تَعَالَى:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، وقال:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
وهكذا في جميع صفاته منزه عن كل ما ينافيها ويضادها.
2 -
تنزهه جل في علاه عن مماثلة أحد من خلقه، قال تَعَالَى:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، وقال سُبْحَانَهُ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال تَعَالَى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]؛ فالمخلوقات كلها وإن عظمت وشرفت وبلغت المنتهى من العظمة والكمال اللائق بها؛ فليس شيء منها يقارب أو يداني الباري جل في علاه، بل جميع صفاتهم تضمحل إذا نسبت إلى صفات باريها وخالقها، بل جميع ما فيها من الكمالات هو الذي أعطاها إياها؛ فهو الذي خلق فيها العقول والسمع والأبصار والقوى الظاهرة والباطنة، وهو الذي علمها وألهمها، وهو الذي نماها ظاهرًا وباطنًا وكملها، فتَعَالَى وتقدس وتنزه.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2577).
وبهذا تنزه جل جلاله عن أن يكون له شريك في عبادته، قال تَعَالَى:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وقال سُبْحَانَهُ:{أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور: 43]، وقال:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
فتبارك السبوح القدوس الذي لما انتفى عنه كل نقص ثبت له كل كمال؛ فكملت أوصافه وكثرت خيراته
(1)
، ولو تتبع المتتبع أوجه كماله وتسبيحه وتقديسه محاولًا استقصائها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛ لأنها لا نهاية لها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»
(2)
، فشأنه وعظمته ونعوت كماله وصفاته أعظم وأجل من أن يحصيها أحد من الخلق، أو أن يبلغ أحد حقيقة الثناء عليه غيره سُبْحَانَهُ
(3)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (السبوح القدوس) على التوحيد:
إذا علم العبد معنى اسم الله جل جلاله (السبوح القدوس) وما فيهما من تنزيه الرب تبارك وتعالى عن النقائص والمعايب وعن كل ما لا يليق بجلاله، فعليه أن يعلم أن تسبيحه وتقديسه إنما يكون مع إثبات المحامد وصفات الكمال له سُبْحَانَهُ؛ وذلك لأن «النفي ليس فيه مدح ولا كمال، إلا إذا تضمن إثباتًا، وإلا
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 577).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(486).
(3)
ينظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم (ص: 273).
فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء هو كما قيل ليس بشيء، فضلًا عن أن يكون مدحًا أو كمالًا، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.
فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنًا لإثبات مدح، كقوله:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] إلى قوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] فَنَفْيُ السِّنةِ والنومِ يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبيِّن لكمال أنه الحي القيوم
…
»
(1)
.
ومن هنا يُعلم أن ما يفعله المعطلة من أهل البدع من النفي المحض، والتعطيل للصفات عن معانيها وحقائقها بحجة التسبيح والتقديس، إنما هو في الحقيقة جحود وإنكار، وضلال وبهتان، نزه الله نفسه عنه بقوله:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 180 - 181] فسبَّح نفسه عما وصفه المخالفون للرسل، وسلَّم على المرسلين لسلامة ما قالوه في حقه سُبْحَانَهُ
(2)
.
ولا بد أن يعلم أن التنزيه عن النقائص، وإثبات الكمال إنما يكون على وفق دلائل الكتاب والسنة، وفي ضوء فهم سلف الأمة، لا على الأهواء
(1)
التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع، لابن تيمية (ص: 57).
(2)
ينظر: التدمرية تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع، لابن تيمية، (ص: 9)، وفقه الاسماء الحسنى، للبدر، (ص: 223 - 224).
المجردة أو الظنون الفاسدة أو الأقيسة العقلية الكاسدة، وهذه حقيقة توحيد الأسماء والصفات
(1)
.
ثم إن تنزيهه تبارك وتعالى شامل لتنزيهه عن الشريك في الربوبية، فلا رب ولا خالق ولا رازق ولا نافع ولا ضار ولا محي ولا مميت معه، قال تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40]، وقال سُبْحَانَهُ:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3]، وقال:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11].
وشامل أيضًا لتنزيهه عن الشريك في الألوهية، فلا إله حق إلا هو، قال تَعَالَى:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وقال سُبْحَانَهُ:{أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور: 43]، وقال:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
وبهذا كان اسم الله (السبوح القدوس) دالًّا على أقسام التوحيد الثلاثة.
(1)
ينظر: فقه الاسماء الحسنى، للبدر، (ص: 223)، النهج الأسمى، للنجدي (1/ 111 - 112).
الأثر الثالث: تنزيه العبد لله السبوح القدوس:
الله عز وجل قدوس سبوح، يحب من عباده أن ينزهوه في أقواله، وأفعاله، وأسمائه وصفاته عن كل نقص وعيب، ويتعبدوا له سُبْحَانَهُ بذلك.
ولهذا التنزيه صور عدة، منها:
1 -
تنزيه الله عز وجل عن الشريك، والند، والمثيل، والصاحبة، والولد، كما قال سُبْحَانَهُ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص].
2 -
تنزيه الله عن العدم، بإثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال سُبْحَانَهُ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فجمع بين نفي مماثلة المخلوقات، وإثبات الصفات، فدل على أن تنزيهه لا يعني نفي الصفات والأفعال التي أثبتها لنفسه
(1)
.
3 -
تنزيه حكم الله الشرعي عن النقص والعيب، واعتقاد كماله؛ تصديقًا لقوله سُبْحَانَهُ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
4 -
تنزيه الله عز وجل عن أن يظن به سوءًا، أو يظن به ما لا يليق بحمده وحكمته ورحمته وعلمه؛ فإن هذا من شأن الكافرين والمنافقين، قال تَعَالَى:{وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 154]، وقال سُبْحَانَهُ: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 754).
السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]، وقال:{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12].
قال ابن القيم رحمه الله معلقًا على آية الفتح، ومستعرضًا لبعض صور سوء الظن بالله تَعَالَى المنافية لتنزيهه سُبْحَانَهُ: «وإنما كان هذا ظن السوء، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظن غير الحق؛ لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، بخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهيه، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون، فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق، إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق، اضمحلالًا لا يقوم بعده أبدًا- فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج
تقديرها عن الحكمة؛ لإفضائها إلى ما يحب، وإن كانت مكروهة له فما قدرها سدى، ولا أنشأها عبثًا، ولا خلقها باطلًا، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27].
وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته.
الأثر الرابع: المحبة للسبوح القدوس:
إذا آمن العبد باسم الله السبوح القدوس، وتدبر ما فيه من كمال، وتعالٍ عن النقائص والمعايب، أورثه ذلك محبته وإجلاله؛ لأن النفوس جبلت على محبة من اتصف بالكمال، ثم هذه المحبة تورث حلاوة في القلب، ونورًا في الصدر، وهذا هو النعيم الدنيوي الحقيقي الذي يصغر بجانبه كل نعيم.
الأثر الخامس: التسبيح لله تَعَالَى وتقديسه جل جلاله
-:
الله جل جلاله لكماله وعظمته وسعة سلطانه لهج ويلهج على الدوام جميعُ ما في السماوات والأرض من الحيوانات الناطقة، والصامتة، والأشجار والنبات، والجوامد، والأحياء، والأموات؛ بالتسبيح والتقديس له بمختلف اللغات، وأنواع الأصوات، قال تَعَالَى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وقال سُبْحَانَهُ:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1]، وقال:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1]
(1)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير، (5/ 79)، وتفسير السعدي (ص: 837).
وهذا التسبيح تسبيح حقيقي يصدر من الكائنات، بحسب ما يليق بحالها دون أن يفقهه الناس أو يسمعونه، كما قال تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]
(1)
.
قال السعدي رحمه الله: «كل له صلاة وعبادة بحسب حاله اللائقة به، وقد ألهمه الله تلك الصلاة والتسبيح، إما بواسطة الرسل، كالجن والإنس والملائكة، وإما بإلهام منه تَعَالَى، كسائر المخلوقات غير ذلك»
(2)
.
فسبحه وقدسه أولياءه، وأهل طاعته من الملائكة والإنس والجن.
فأما ملائكته فتسبيحهم في جميع الأوقات بلا ملل ولا توقف، قال تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وقال سُبْحَانَهُ:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، وقال:{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]، وقال:{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75]
(3)
.
وأما الإنس: فعلى رأسهم الأنبياء عليهم السلام، وقد حكى الله لنا تسبيحهم في كتابه، فقال:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116]،
(1)
ينظر: فقه الأدعية والأذكار، للبدر، (1/ 213، وما بعدها).
(2)
تفسير السعدي (ص: 570).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 520).
وقال سُبْحَانَهُ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143]، وقال في يونس عليه السلام:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144]، وقال:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
وأكثرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من تسبيح ربه، كما جاء في حديث ربيعة بن كعب رضي الله عنه، قوله:«كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَارِي، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ أَوَيْتُ إِلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَبِتُّ عِنْدَهُ، فَلَا أَزَالُ أَسْمَعُهُ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ، سُبْحَانَ رَبِّي، حَتَّى أَمَلَّ أَوْ تَغْلِبَنِي عَيْنِي فَأَنَامُ»
(1)
(2)
.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم قول: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ. في الركوع والسجود»
(3)
، وقول:«سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، ثلاثًا، رافعًا صوته بالآخرة، إذا سلم من الوتر»
(4)
.
(1)
أخرجه الطبراني، رقم الحديث:(4576)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(388).
(2)
قال أهل العلم: ويستفاد من الحديث: أن العبد إذا أنهى ورده قبل النوم، يسن له أن ينتقل إلى التسبيح.
(3)
سبق تخريجه، وينظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، (1/ 211).
(4)
ينظر: المرجع السابق (1/ 326).
وذكر الله تسبيح الصالحين ممن هم دون أنبيائه، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 107، 108]، وقال سُبْحَانَهُ:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36 - 37].
وأما الجن فحكى الله تنزيههم له عن الصاحبة والولد، قال تَعَالَى:{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3].
وسبحه وقدسه الرعد بحمده، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 13].
وسبحه وقدسه الجبال الصم، والطير البهم، قال تَعَالَى:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 18 - 19]، وقال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41].
وسبَّحه وقدَّسه الطعامُ، والحصى الصغارُ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:«وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ»
(1)
، أي: في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو ذر رضي الله عنه: «إِنِّي لَشَاهِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3579).
فِي حَلْقَةٍ، وَفِي يَدِهِ حَصًى، فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ، وَفِينَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، فَسَمِعَ تَسْبِيحَهُنَّ مَنْ فِي الْحَلْقَةِ، ثُمَّ دَفَعَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَسَبَّحْنَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، سَمِعَ تَسْبِيحَهُنَّ مَنْ فِي الْحَلْقَةِ، ثُمَّ دُفِعْنَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ دَفَعَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عُمَرَ، فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ، وَسَمِعَ تَسْبِيحَهُنَّ مَنْ فِي الْحَلْقَةِ، ثُمَّ دَفَعَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ دَفَعَهُنَّ إِلَيْنَا، فَلَمْ يُسَبِّحْنَ مَعَ أَحَدٍ مِنَّا»
(1)
.
وقال عكرمة رحمه الله: «الأسطوانة تسبح، والشجرة تسبح»
(2)
.
وقال بعض السلف: «إن صرير الباب تسبيحه، وخرير الماء تسبيحه، قال الله تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]»
(3)
.
وهذا التسبيح من المخلوقات لا سيما غير المكلف منها، يدعو المكلف للانضمام إلى هذه العوالم ومشاركتها بالتسبيح والتقديس، وسيتناول الملحق- بإذن الله- ما يعين على هذا.
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(1244)، وابن أبي عاصم في السنة، رقم الحديث:(1146).
(2)
ينظر: الدر المنثور (5/ 291).
(3)
ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 80).
«التسبيح والتقديس»
في موضوع «التسبيح والتقديس» سنتطرق للمسائل التالية:
أولًا: تعريف التسبيح والتقديس:
فسر السلف رضي الله عنهم التسبيح، بتنزيه الله عز وجل عن كل ما لا يليق به.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «تنزيه الله عز وجل نفسه عن السوء»
(1)
.
قال ميمون بن مهران رحمه الله: «(سُبْحَانَ اللَّهِ) اسْمٌ يُعَظَّمُ اللَّهُ بِهِ وَيُحَاشَى بِهِ مِنَ السُّوءِ»
(2)
.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى رحمه الله: «(سبحان الله) تنزيه الله وتبرئته»
(3)
.
ونحوه معنى التقديس، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«ونقدس لك، أي: نثني عليك بالقدس والطهارة عما لا يليق بعظمتك وجلالك»
(4)
.
قال الطبري رحمه الله: «ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس، وما أضاف إليك أهل الكفر بك»
(5)
(6)
.
(1)
ينظر: الدر المنثور (1/ 269).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير، رقم الحديث:(344).
(3)
ينظر: الدعاء، للطبراني (ص: 499 - 500).
(4)
تفسير البغوي (1/ 102).
(5)
تفسير الطبري (1/ 475).
(6)
ينظر: فقه الأدعية والأذكار، للبدر (1/ 219).
قال البغوي رحمه الله: «ونقدس لك، أي: نثني عليك بالقدس والطهارة عما لا يليق بعظمتك وجلالك، وقيل: ونطهر أنفسنا لطاعتك، وقيل: وننزهك»
(1)
.
ثانيًا: فضل التسبيح
(2)
؟
شرع الله عز وجل لعباده تسبيحه، وعظم سُبْحَانَهُ شانه؛ فجعله من أفضل العبادات الموصلة إليه، ومن أجلِّ القربات التي يتقرب بها إليه، ونوع الدلائل من الكتاب والسنة في بيان فضله، وعظيم شأنه، ورفيع مكانته، وجزيل ثواب أهله، وبيان هذه الفضائل على النحو الآتي:
أن الله عز وجل كرر ذكر التسبيح في القرآن بصيغ مختلفة وأساليب متنوعة، فورد التسبيح في القرآن أكثر من ثمانين مرة، تارة بصيغة الأمر، كقوله تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 - 42]، وتارة بصيغة الماضي، كما في قوله:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1]، وتارة بالمضارع كقوله:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]، وتارة بلفظ المصدر كقوله:{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36].
وقال بعض أهل العلم: «والتسبيح ورد في القرآن على نحو من ثلاثين وجهًا، ستة منها للملائكة، وتسعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأربعة لغيره
(1)
تفسير البغوي (1/ 102).
(2)
ينظر: الأذكار، للنووي (ص: 15 - 16)، وفقه الأدعية والأذكار، للبدر، (1/ 201، وما بعدها).
من الأنبياء، وثلاثة للحيوانات والجمادات، وثلاثة للمؤمنين خاصة، وستة لجميع الموجودات.
أما التي للملائكة، فمنها قوله تَعَالَى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا} [غافر: 7]
…
، وأما التي لنبينا صلى الله عليه وسلم فمنها قوله تَعَالَى:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 98 - 99]
…
، وأما التي للأنبياء فقول الله تَعَالَى لزكريا عليه السلام:{وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41]
…
، وأما التي للمؤمنين فقوله تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 - 42]
…
، وأما التي في الحيوانات والجمادات فمنها قوله تَعَالَى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]
…
، وأما التي لعموم المخلوقات فمنها قوله تَعَالَى:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 1]
…
»، ولا شك أن هذا التكرار والتنويع دال على جلالة قدر التسبيح، وعظم شأنه في الدين»
(1)
.
أن الله عز وجل جعله من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا بالاقتداء به؛ فعن عائشة رضي الله عنها لما سئلت: بِمَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ إِذَا هَبَّ مِنَ اللَّيْلِ،؟ فَقَالَتْ: «لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ، كَانَ إِذَا هَبَّ
(2)
مِنَ اللَّيْلِ كَبَّرَ عَشْرًا وَحَمِدَ عَشْرًا وَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ
(1)
ينظر: فقه الأدعية والأذكار، للبدر (1/ 201).
(2)
هب، أي: استيقظ، من هب النائم هبًّا وهبوبًا إذا استيقظ. ينظر: عون المعبود وحاشية ابن القيم (13/ 291).
وَبِحَمْدِهِ عَشْرًا وَقَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ عَشْرًا وَاسْتَغْفَرَ عَشْرًا، وَهَلَّلَ عَشْرًا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا، وَضِيقِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَشْرًا ثُمَّ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ»
(1)
.
وعنها رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده وركوعه: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ»
(2)
.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَلَّمَ فِي الْوَتْرِ، قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ»
(3)
.
3 -
أن الله عز وجل جعل التسبيح أفضل الكلام وأحبه إليه، كما في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ»
(4)
، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ»
(5)
، وفي رواية: سُئِلَ: أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَا اصْطَفَى اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ، أَوْ لِعِبَادِهِ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ»
(6)
، وجاء في حديث أبي أمامة رضي الله عنه: «مَنْ هَالَهُ اللَّيْلُ أَنْ يُكَابِدَهُ، وَبَخِلَ بِالْمَالِ أَنْ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2137).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2131).
(6)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2131).
يُنْفِقَهُ، وَجَبُنَ عَنِ الْعَدُوِّ أَنْ يُقَاتِلَهُ، فَلْيُكْثِرْ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإِنَّهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ جَبَلِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ يُنْفَقَانِ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل»
(1)
.
4 -
أن الله عز وجل جعلها سبب لذكره للعبد؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الَّذِينَ يَذْكُرُونَ مِنْ جَلَالِ اللهِ مِنْ تَسْبِيحِهِ وَتَحْمِيدِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ يَتَعَاطَفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يَذْكُرْنَ بِصَاحِبِهِنَّ، أَلَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَزَالَ لَهُ عِنْدَ اللهِ شَيْءٌ يُذَكِّرُ بِهِ؟»
(2)
.
5 -
أن الله عز وجل جعل التسبيح ومعه الحمد، والشهادة، والتكبير خيرًا مما طلعت عليه الشمس؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ»
(3)
.
6 -
أن الله عز وجل جعل التسبيح من أفضل ما يأتي به الآتي يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، أَوْ زَادَ عَلَيْهِ
(4)
.
7 -
أن الله عز وجل جعله سببًا لمغفر الذنوب، وزيادة الحسنات؛ فعن أبي
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(7795)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب، رقم الحديث:(1541).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(18362)، والحاكم، رقم الحديث:(1847)، حكم الألباني: صحيح، مختصر العلو، رقم الحديث:(24).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2695).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2692).
هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ»
(1)
، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:«كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ»
(2)
، وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ -فَقَالَهَا فِي مَجْلِسِ ذِكْرٍ كَانَتْ كَالطَّابَعِ يُطْبَعُ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَالَهَا فِي مَجْلِسِ لَغْوٍ كَانَتْ كَفَّارَتَهُ»
(3)
.
8 -
أن الله عز وجل جعله ثقيلًا في الميزان، كما أخبر صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، حيث يقول:«كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ»
(4)
(5)
،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6405)، ومسلم، رقم الحديث:(2691).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2698).
(3)
أخرجه النسائي في الكبرى، رقم الحديث:(1085)، والحاكم، رقم الحديث:(1976)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(81).
(4)
(5)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6406)، ومسلم، رقم الحديث:(2694).
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وَالْحَمْدُ لِلهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»
(1)
.
9 -
أن الله عز وجل جعل التسبيح غرسًا للجنة؛ فعن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ»
(2)
، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ»
(3)
.
10 -
أن الله عز وجل أخبر أنه من عبادة الملائكة، كما قال الله عنهم:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30].
وما سبق من فضل التسبيح يندرج تحت التقديس؛ إذ كل منهما تنزيه للرب عز وجل من النقائص.
وفي قول الملائكة السابق: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] معنى لطيف للتقديس، ألا وهو تطهير النفس لله عز وجل.
قال البغوي رحمه الله كما سبق: «ونقدس لك، أي: نثني عليك بالقدس
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(223).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3464)، حكم الألباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(2304).
(3)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3462)، حكم الألباني: حسن، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3462).
والطهارة عما لا يليق بعظمتك وجلالك، وقيل: ونطهر أنفسنا لطاعتك، وقيل: وننزهك»
(1)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «يحتمل أن معناها: ونقدسك، فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص، ويحتمل أن يكون: ونقدس لك أنفسنا، أي: نطهرها بالأخلاق الجميلة، كمحبة الله وخشيته وتعظيمه، ونطهرها من الأخلاق الرذيلة»
(2)
.
اللهم يا سبوح يا قدوس، ارزقنا تسبيحك آناء الليل والنهار،
وطهرنا من كل ما لا يرضيك.
(1)
تفسير البغوي (1/ 102).
(2)
تفسير السعدي (ص: 48 - 49).
السَّيِّد جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «ساد قومه يسودهم سيادة وسوددًا وسيدودة، فهو سيدهم، وهم سادة،
…
وقال أهل البصرة: تقدير سيد (فيعل)، وجمع على فعلة، كأنهم جمعوا سائدًا، مثل قائد وقادة»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «السين والياء والدال كلمة واحدة، وهي السيد .... أما السيادة، فقال قوم: السيد: الحليم، وأنكر ناس أن يكون هذا من الحلم، وقالوا: إنما سمي سيدًا؛ لأن الناس يلتجئون إلى سواده
…
والسيد هو: الرئيس
…
وقيل: الكريم»
(2)
.
ورود اسم الله (السيد) في القرآن الكريم:
لم يرد اسم الله (السيد) في القرآن الكريم.
ورود اسم الله (السيد) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (السيد) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه رضي الله عنه، «انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، فَقَالَ: السَّيِّدُ اللهُ،
(1)
الصحاح (2/ 52).
(2)
مقاييس اللغة (3/ 120).
قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا، وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا، فَقَالَ: قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ»
(1)
.
ثبوت اسم الله (السيد) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسم الله (السيد) في حق الله تَعَالَى:
ابن القيم رحمه الله: في قوله: «وأما وصف الرب تَعَالَى بأنه السيد، فذلك وصف لربه على الإطلاق؛ فإن سيد الخلق هو مالك أمرهم، الذي إليه يرجعون، وبأمره يعلمون، وعن قوله يصدرون»
(2)
.
ابن عثيمين رحمه الله: فقد عده من الأسماء المثبتة بالسنة النبوية
(3)
.
معنى اسم الله (السيد) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الخطابي رحمه الله: «قوله صلى الله عليه وسلم: السيد الله، أي: السؤدد كله حقيقة لله عز وجل وأن الخلق كلهم عبيد الله»
(4)
.
قال الحليمي رحمه الله: «السيد المحتاج إليه بالإطلاق، فإن سيد الناس إنما هو رأسهم الذي إليه يرجعون، وبأمره يعملون، وعن رأيه يصدرون، ومن قوله يستهدون، فإذا كانت الملائكة والإنس والجن خلقًا للباري- جل ثناؤه-، ولم يكن بهم غنية عنه في بدء أمرهم وهو الوجود؛ إذ لو لم يوجدهم
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4806)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(211)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(4806).
(2)
تحفة المودود بأحكام المولود (ص: 126)
(3)
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، لابن عثيمين (ص: 15).
(4)
معالم السنن (4/ 112).
لم يوجدوا، ولا في الإبقاء بعد الإيجاد، ولا في العوارض العارضة أثناء البقاء، وكان حقًّا له- جل ثناؤه- أن يكون سيدًا، وكان حقًّا عليهم أن يدعوه بهذا الاسم»
(1)
.
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «سيد الخلق هو مالك أمرهم الذي إليه يرجعون، وبأمره يعملون، وعن قوله يصدرون، فإذا كانت الملائكة والإنس والجن خلقًا له، وملكًا له، ليس لهم غنى عنه طرفة عين، وكل رغباتهم إليه، وكل حوائجهم إليه، كان هو السيد على الحقيقة»
(3)
، وقال:«السيد إذا أُطلق عليهتَعَالَى فهو بمعنى: المالك والمولى والرب؛ لا بالمعنى الذي يطلق على المخلوق»
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وَهوَ الإِلَهُ السَّيِّدُ الصَّمَدُ الَّذِي
…
صَمَدَتْ إِلَيْهِ الخَلْقُ بِالإِذْعَانِ
الكَامِلُ الأَوْصَافِ مِنْ كُلِّ الوُجُو
…
هِ كَمَالُهُ مَا فِيهِ مِنْ نُقْصَانِ
(1)
الأسماء والصفات (1/ 67).
(2)
الحجة في بيان المحجة (1/ 168).
(3)
تحفة المودود بأحكام المولود (ص: 126).
(4)
بدائع الفوائد (3/ 730).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (السيد):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (السيد) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
السيد سُبْحَانَهُ هو الذي ساد الكون سيادة مطلقة بكل أوجه الكمال والجلال، فالسموات والأرض، والملائكة، والإنس والجن، والنبات والحيوان، كل هؤلاء خلق للسيد سُبْحَانَهُ، ليس بهم غنية عنه في بدء أمرهم الوجودي، ولا في الإبقاء بعد الإيجاد، ولا في العوارض التي قد تطرأ أثناء البقاء، فكلها تزيد بأمره، وتنقص بأمره، وتحيا بأمره، وتموت بأمره، وتتحرك بأمره، وتسكن بأمره، وتنفع وتضر بأمره أيضًا، يقول تَعَالَى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 53].
فله سُبْحَانَهُ كل صفات السؤدد وكمالها، «فهو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف: الذي قد كمل في شرفه، والعظيم: الذي قد كمل في عظمته، والحليم: الذي قد كمل في حلمه، والغني: الذي قد كمل في غناه، والجبار: الذي قد كمل في جبروته، والعالم: الذي قد كمل في علمه، والحكيم: الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو اللهسُبْحَانَهُ هذه صفته، لا تنبغي إلا له»
(1)
.
فحري بالعبد الموحد أن يلجأ إلى رب العزة والجلال، السيد سُبْحَانَهُ، ويوحده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ويستغني به عن خلقه.
(1)
تفسير الطبري (30/ 223).
الأثر الثاني: محبة الله السيد:
الإيمان باسم الله السيد يورث في القلب محبة الله عز وجل، ويجعل العبد يدرك ألا مالك للكون سوى السيد سُبْحَانَهُ، ولا مدبر للعالم غيره، ولا مصرف للكائنات إلا هو، فينصرف القلب إلى محبة الله عز وجل، ويزداد ارتباطًا بمن ملك السؤدد كله على الحقيقة، والخلق كلهم عبيده.
الأثر الثالث: لا سيادة لفاسق:
الشرف والسؤدد الحقيقي في هذه الدنيا إنما ينال بطاعة الله وتقواه، حيث إن الكرامة والشرف والرفعة وعلو الذكر- وهذه أركان السؤدد- إنما هي لأنبياء الله عز وجل وأوليائه وهم السادة على الناس، أما الكفرة والمنافقون والفساق فلا كرامة لهم ولا سيادة، وإن حصلت لهم السيادة الزائفة في وقت من الأوقات، ولذا جاء النهي عن تسمية المنافق بالسيد، كما جاء في الحديث:«لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ: سَيِّدٌ»
(1)
، لأن المنافق يقع في فخ الذنوب والمعاصى، ويهوى في درك الفواحش والآثام، وهذا مخالف لمعنى السيد من المنظور الشرعي، الذي هو: الترفع عن الآثام، والتطهر من المعاصي، والتحلى بمعالي الأخلاق، ولذلك قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، للنجاشي عندما سأله عن الإسلام: «أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4977)، والبخاري في الأدب المفرد رقم الحديث:(760)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي دواد، رقم الحديث:(4977).
عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ»
(1)
، فوصف جعفر الإسلام بأنه مجموعة من القيم الأخلاقية، وعليه ينبغي على كل مسلم أن يلتزم بتلك القيم؛ ليرتفع قدره عند خالقه، وليكون سيدًا بين الناس.
الأثر الرابع: التذلل بين يدي السيد:
إن الإنسان مهما بلغ من السؤدد في هذه الدنيا فهو سؤدد ناقص زائل، وهذا الشعور يثمر التواضع في قلب المسوَّد، وعدم استخدام سيادته في ظلم الناس والتكبر عليهم؛ لأن السؤود الحقيقي السرمدي لله عز وجل.
وقد توعد الله من يستكبر عن التذلل بين يديه بالعذاب الأليم، والبعد عن مرضاة رب العالمين، يقول الطبري رحمه الله:«وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا} [النساء: 173]، فإنه يعني: وأما الذين تعظَّموا عن الإقرار لله بالعبودية، والإذعان له بالطاعة، واستكبروا عن التذلل لألوهيته وعبادته، وتسليم الربوبية والوحدانية له {فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 173]، يعني: عذابًا موجعًا {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 173]، يقول: ولا يجد المستنكفون من عبادته والمستكبرون عنها- إذا عذبهم الله الأليم من عذابه- سوى الله لأنفسهم وليًّا؛ ينجيهم من عذابه وينقذهم منه {وَلَا نَصِيرًا} يعني: ولا ناصرًا ينصرهم»
(2)
، فعلى العبد الخضوع والتذلل للسيد سُبْحَانَهُ خضوع الفقير المحتاج الذي لا طاقة له في البعد عن جناب سيده.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(1764)، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير إسحاق، وقد صرح بالسماع، ينظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/ 27).
(2)
تفسير الطبري (7/ 710).
الأثر الخامس: أحسِن لمن تحت يدك:
حين يتعرف العبد على خالقه، ويعلم أن الله له السيادة الكاملة، فالسؤدد كله حقيقة لله، والخلق كلهم عبيده، فإنه يتعامل مع الناس على هذا الأساس، وخاصة مع الخدم، ومن هم أقل منه شأنًا ومنزلة.
ومن يتتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنموذجًا عمليًّا يحتذى به في هذا الجانب، ومن ذلك:
تحذيره صلى الله عليه وسلم من ضرب العبد أو إيذائه، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال:«كنت أضرب غلامًا لي، فسمعتُ مِنْ خَلْفِي صوتًا: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ: أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ، لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ»
(1)
، وجعل صلى الله عليه وسلم كفارة ضرب العبد بعتقه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
…
مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ، فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ»
(2)
.
حضه صلى الله عليه وسلم على المعاملة الحسنة لهم حتى في الألفاظ والتعبيرات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي، وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ، وَفَتَاتِي»
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1659).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1657).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2249).
نهيه صلى الله عليه وسلم عن تكليف العبيد والخدم بأعمال شاقة تفوق طاقتهم، أو الدعاء عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم:«وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»
(1)
، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ»
(2)
.
وصيته صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالعفو عن إساءة الخدم وخطئهم
…
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ، ثُمَّ أَعَادَ إِلَيْهِ الْكَلَامَ، فَصَمَتَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ: اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً»
(3)
.
أمره صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى العبيد والخدم، وعدم الاستهزاء بهم؛ بل وإطعامهم وإلباسهم من نفس طعام ولباس أهل البيت، فعن المعرور بن سويد قال:«لقيت أبا ذر بالربذة (موضع قرب المدينة)، وعليه حُلَّة (ثوب) وعلى غلامه حُلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلًا، فعيرته بأمه، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»
(4)
، وعن
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2545).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(3014).
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(5146)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود، رقم الحديث:(5164).
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2545).
عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا»
(1)
.
بل بلغ اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالعبيد في حياته مبلغًا عظيمًا، حتى أوصى بهم خيرًا حين موته وفي آخر كلامه، فعن علي رضي الله عنه قال:«كَانَ آخِرُ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، اتَّقُوا اللهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
(2)
، وفي هذا كله دلالة على وجوب اللين مع الخدم والعمال والضعاف، واستحضار أن لاسيد إلا الله.
الأثر السادس: حكم إطلاق اسم السيد على المخلوق:
تحرير محل النزاع:
اتفق العلماء على أن إطلاق اسم السيد على المنافق والكافر لا يجوز، لحديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ: سَيِّدٌ، فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عز وجل»
(3)
.
اختلف العلماء على إطلاق اسم السيد على المسلم، على ثلاثة أقوال، وهي:
القول الأول: الجواز، واستدلوا بعدد من الأدلة، منها:
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2328).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(595)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(158)، حكم الألباني: صحيح، الأدب المفرد، رقم الحديث:(158).
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(4977)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي دواد، رقم الحديث:(4977).
قول الله تَعَالَى عن نبيه يحي بن زكريا عليهما السلام: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]، قال ابن الأنباري رحمه الله:«إن قال قائل: كيف سمَّى الله عز وجل يحيى سيدًا وحصورًا، والسيد هو الله؛ إذ كان مالك الخلق أجمعين، ولا مالك لهم سواه؟ قيل له: لم يُرد بالسيد هنا المالك، إنما أراد الرئيس والإمام في الخير، كما تقول العرب: فلان سيدنا، أي: رئيسنا والذي نُعظِّمه»
(1)
.
قول الله تَعَالَى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] فسمى الزوج بالسيد.
القول الثاني: التحريم، واستدلوا بعدد من الأدلة منها:
حديث أبي نضرة عن مطرف، قال: قال أبي: «انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، قَالَ: السَّيِّدُ اللهُ، قَالُوا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا، فَقَالَ: قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ»
(2)
.
القول الثالث: الكراهة، واستدلوا بعدة أدلة منها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالوا له: «أَنْتَ سَيِّدُنَا» ، قال لهم:«السَّيِّدُ اللهُ»
(3)
، مع أنه صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم، وقوله هذا يدل على الكراهة
(1)
اللسان (3/ 2145).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
الشديدة أن يقال لأحد: أنت السيد؛ لأنه قد يفهم منه استغراق معاني السيادة؛ والبشر ليس مستغرقًا لمعاني السيادة، لكن له سيادة تخصه وتميزه»
(1)
.
يقول الشيخ صالح آل الشيخ تعليقًا عليه: «إن إطلاق لفظ السيد على البشر مكروه، ومخاطبته بذلك يجب سدها، فلا يخاطب أحد بأن يقال له: أنت سيدنا، على جهة الجمع، وذلك لأن فيها نوع تعظيم من جهة المخاطبة، يعني: الخطاب المباشر، والجهة الثانية من جهة استعمال اللفظ، والنبي عليه الصلاة والسلام سيد، كما قال عن نفسه:(أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ)
(2)
، ولكن مخاطبته عليه الصلاة والسلام مع كونه سيدًا كرهها ومنع منها؛ لئلا تؤدي إلى ما هو أعظم من ذلك، من تعظيمه والغلو فيه عليه الصلاة والسلام،
…
وفيه ما يفيد أنه عليه الصلاة والسلام حَمَى حِمَى التوحيد، وسد الطرق الموصله للشرك، ومنها طريق الغلو في الألفاظ»
(3)
.
وبعد عرض هذه الأقوال، لعل الصواب والله أعلم: أن إطلاق اسم السيد على المخلوق جائز؛ لأن السيد بمعنى المقدم في القوم، وكذلك بمعنى الرئيس، وبمعنى المولى، وما أشبه ذلك، ولكن إذا أطلق على الله رحمه الله فهو بمعنى الرب المالك المتصرف، فهو غير ما يطلق على البشر، ولا سيما وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ» ، ثم ذكر حديث الشفاعة
(4)
.
(1)
ينظر: التمهيد لشرح كتاب الله التوحيد، لصالح آل الشيخ، (2/ 324).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(11143)، والترمذي، رقم الحديث:(3148)، وابن ماجه، رقم الحديث:(4308)، حكم الالباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(5741).
(3)
المرجع السابق، (ص: 582).
(4)
سبق تخريجه.
فهذا صحيح ثابت عنه صلى الله عليه وسلم، وأما إطلاقه على الله رحمه الله فله معنى غير هذا، وهو المولى والمالك والمتصرف والرب الذي يربي خلقه بالنعم، وبما يصلح لهم، وما يصلحهم
(1)
.
ويمكن الجمع- أيضًا- بأن يحمل النهي على إطلاق لفظ السيد على غير المالك والإذن بإطلاقه على المالك، وكذلك أن الكراهة خاصة بالنداء، فيكره أن يقول: يا سيدي، ولا يكره في غير النداء»
(2)
.
فاللهم إنا نسألك يا الله يا سيدنا، أن تغفر لنا ذنوبنا،
وأن لا تحوجنا لغيرك.
(1)
ينظر: شرح فتح المجيد، للغنيمان. هذا الكتاب عبارة عن دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، ورقم الدرس هو: 134، ويوجد أقوال أخرى في المسألة مدارها على الجواز، وهي: الجواز مطلقًا بلا كراهة، إلا إذا خيف من الغلو؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم خاف عليهم من الغلو، فإذا خيف على الإنسان من الغلو يُنهى عن ذلك، أما إذا لم يُخفْ عليه من الغلو فلا بأس؛ عملًا بالأحاديث الكثيرة التي جاء فيها إطلاق السيد على المخلوق، وهناك قول رابع ألمح إليه المشايخ، وهو: أنه لا يجوز إطلاق السيِّد على الشخص في حضوره ومواجهته، ويجوز إطلاقه عليه وهو غائب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استنكر هذا لما واجهوه به صلى الله عليه وسلم، فيُمنع مواجهة الإنسان بقول:«أنت السيِّد» ، «أنت سيِّدنا» ، أو ما أشبه ذلك؛ خوفًا عليه من الإعجاب بنفسه، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم من مدح الإنسان حال حضوره. إعانة المستفيد (2/ 213/ 214).
(2)
ينظر: فتح الباري، لابن حجر (5/ 179).
الشَّافي جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «وشفاه الله من مرضه شفاء، ممدود،
…
واستشفى: طلب الشفاء، وأشفيتك الشيء: أي أعطيتكه تستشفى به، ويقال: أشفاه الله عسلًا، إذا جعله له شفاء»
(1)
.
(2)
.
ورود اسم الله (الشافي) في القرآن الكريم:
لم يرد اسم الله تَعَالَى (الشافي) في القرآن الكريم.
ورود اسم الله (الشافي) في السنة النبوية:
ورد اسم الشافي في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
- عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا أتى مريضًا أو أتي به، قال: أَذْهِبِ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِى، لَا شِفَاءَ إِلَّا
(1)
الصحاح (6/ 244).
(2)
مقاييس اللغة (3/ 199).
شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا»
(1)
.
ثبوت اسم الله (الشافي) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسم الله (الشافي) في حق الله تَعَالَى:
ابن تيمية رحمه الله: في قوله: «ومن أسمائه التي ليست في هذه التسعة والتسعين
…
اسمه: الشافي، كما ثبت في الصحيح»
(2)
.
ابن عثيمين رحمه الله: فقد عده من الأسماء المثبتة بالسنة النبوية
(3)
.
معنى اسم الله (الشافي) في حقه سُبْحَانَهُ:
الله سُبْحَانَهُ هو الشافي من أمراض الأبدان والشافي من أمراض القلوب.
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]: «يقول تَعَالَى ذكره: وننزل عليك- يا محمد- من القرآن ما هو شفاء يُستشفى به من الجهل ومن الضلالة، ويُبصَّرُ به من العمى للمؤمنين، ورحمة لهم دون الكافرين به»
(4)
.
- قال الحليمي رحمه الله: «الله عز وجل يشفي الصدور من الشبه والشكوك، ومن الحسد والغلول، والأبدان من الأمراض والآفات لا يقدر على ذلك غيره، ولا يدعى بهذا الاسم سواه»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5675)، ومسلم، رقم الحديث:(2191).
(2)
مجموع الفتاوى (22/ 485).
(3)
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص: 15).
(4)
تفسير الطبري (15/ 62 - 63).
(5)
الأسماء والصفات، للبيهقي (1/ 219).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الشَّافي):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الشافي) من الصفات:
الله سُبْحَانَهُ هو الشافي بقدرته وحكمته، وعلمه وإحاطته، فلا شافي على الإطلاق إلا الله وحده، يقول صلى الله عليه وسلم:«وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا»
(1)
، فهو سُبْحَانَهُ الذي يرفع البأس والعلل، ويشفي العليل بالأسباب والأمل، فقد يُبرأ الداء مع انعدام الدواء، وقد يُشفى الداء بلزوم الدواء، ويرتب عليه أسباب الشفاء، وكلاهما باعتبار قدرة الله سواء، فهو الشافي الذي خلق أسباب الشفاء، ورتب النتائج على أسبابها والمعلولات على عللها، فيشفي بها وبغيرها؛ لأن حصول الشفاء عنده يحكمه قضاؤه وقدره، فالأسباب سواء ترابط فيها المعلول بعلته، أو انفصل عنها هي من خلق الله وتقديره، ومشيئته وتدبيره.
وشفاء الشافي سُبْحَانَهُ نوعان، دل عليهما عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً»
(2)
، وهما:
النوع الأول: الشفاء المعنوي الروحي، وهو الشفاء من علل القلوب.
يقول تَعَالَى ممتنًّا على خلقه بما أنزل إليهم من القرآن العظيم على رسوله الكريم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5678).
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: «أي: زاجرًا عن الفواحش، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] أي: من الشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس، {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [يونس: 57] أي: محصل لها الهداية والرحمة من الله تَعَالَى، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه»
(1)
.
ويفصل الإمام ابن القيم رحمه الله القول في أمراض القلوب وشفائها، فيقول: «ومرض القلب نوعان: نوع لا يتألم به صاحبه في الحال؛
…
كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات.
وهذا النوع هو أعظم النوعين ألمًا، ولكن لفساد القلب لا يُحس بالألم، ولأن سَكْرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم، وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له، وهو متوارٍ عنه باشتغاله بضده، وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض.
والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال، كالهم والغم والحزن والغيظ، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية، كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب، وما يدفع موجبها مع قيامها، وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ويشقى بما يشقى به البدن، فكذلك البدن يألم كثيرًا بما يتألم به القلب، ويشقيه ما يشقيه.
فأمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت، وأما أمراضه التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم،
(1)
تفسير ابن كثير (4/ 274).
إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها، فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء، ولهذا يقال:«شفي غيظه» فإذا استولى عليه عدوه آلمه ذلك، فإذا انتصف منه اشتفى قلبه، قال تَعَالَى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 14 - 15]، فأمر بقتال عدوهم، وأعلمهم أن فيه ستَّ فوائد.
فالغيظ يؤلم القلب، ودواؤه في شفاء غيظه، فإن شَفاه بحق اشتفى، وإن شفاه بظلم وباطل زاده مرضًا من حيث ظن أنه يشفيه
…
، وكذلك الجهل مرض يؤلم القلب، فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع، ويعتقد أنه قد صح من مرضه بتلك العلوم، وهي في الحقيقة إنما تزيده مرضًا إلى مرضه؛ لكن اشتغل القلب بها عن إدراك الألم الكامن فيه، بسبب جهله بالعلوم النافعة، التي هي شرط في صحته وبُرْئه، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الذين أفتوا بالجهل، فهلك المستفتي بفتواهم:«قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»
(1)
، فجعل الجهل مرضًا، وشفاءه سؤال أهل العلم.
والمقصود: أن من أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبيعية، ومنها ما لايزول إلا بالأدوية الشرعية الإيمانية»
(2)
.
النوع الثاني: الشفاء المادي، وهو الشفاء من علل الأبدان:
فإن الشفاء من الأمراض لا يحدث بالطبيب وخبرته، أو بالدواء وقوته، وإنما يحدث بإذن الله وقدرته، فالله عز وجل خالق البدن ومدبر أمره، يعلم الداء والدواء
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(336)، حكم الألباني: حسن لغيره، رقم الحديث:(531).
(2)
إغاثة اللهفان (1/ 16 - 19).
جملة وتفصيلًا؛ ولذا جاء الشفاء مخصصًا في قوله تَعَالَى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] بـ (هو)، وكذلك أكدها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:«اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ»
(1)
، ومن دلائل ذلك أيضًا ما يلي:
قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم حين عاده في مرضه، فعن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«يَا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ»
(2)
، فجبريل هو خير الأطباء من الخلق؛ لأنه يعالج بالوحي، والمريض هو خير الناس وأطيبهم بدنًا ونفسًا، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدواء هو خير دواء؛ لأنه رقية (بسم الله الشافي)، ومع ذلك فإن جبريل يتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته، ويقول:«الله يَشْفِيكَ» أي: أن الرقية مني، ولكن الشفاء كله من الله وحده.
ما أكرم الله به نبيه عيسى عليه السلام من شفاء المرضى، وإبراء الأعمى فيبُصر، والأبرص فيُشفى، وحتى إحياء الموتى، ولكن هذا كله بإذن الله، وهذا ما قاله نبي الله عيسى عليه السلام في قوله تَعَالَى:{وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49].
قصة أصحاب الأخدود، عندما جاء جليس الملك وقد عمي إلى الغلام المؤمن بهدايا، وقال:«مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ»
(3)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2186).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(3005).
ومن المعلوم أن اعتقاد العبد وإيمانه بأن الشافي هو الله وحده، وأن الشفاء بيده ليس مانعًا من بذل الأسباب النافعة بالتداوي، وطلب العلاج، وتناول الأدوية المفيدة، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة في الأمر بالتداوي، وذكر أنواع من الأدوية النافعة المفيدة
(1)
، وهذا لا ينافي التوكل على الله واعتقاد أن الشفاء بيده.
الأثر الثاني: توحيد الله باسمه (الشافي):
- دلالته على توحيد الألوهية والربوبية:
إن الله عز وجل هو القدير الحكيم، فبالقدرة خلق الأشياء وأوجدها وهداها وسيَّرها، وانفرد بذلك دون سواه، وهذا توحيد الربوبية، وبالحكمة رتب الأسباب ونتائجها وابتلانا بها، وعلق عليها الشرائع والأحكام تحقيقًا لتوحيد العبودية، والعبد المؤمن يوقن تمامًا بأن الشفاء بيد الله وحده، «وأن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا، أمر مأمور به شرعًا، لا ينافي التوكل على الله بحال؛ لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالًا لأمر ربه، مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه، فهو متوكل على الله، عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر، ولو شاء الله تخلُّف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلَّف»
(2)
.
وفي ذلك يقول السعدي رحمه الله عند قوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
(1)
سيأتي مزيد بيان في الأثر الثالث.
(2)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشنقيطي، (3/ 398).
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 75 - 81]: «فهو وحده سُبْحَانَهُ المنفرد بذلك، فيجب أن يفرد بالعبادة والطاعة، وتترك هذه الأصنام، التي لا تخلق، ولا تهدي، ولا تمرض، ولا تشفي، ولا تطعم ولا تسقي، ولا تميت، ولا تحيي، ولا تنفع عابديها، بكشف الكروب، ولا مغفرة الذنوب، فهذا دليل قاطع، وحجة باهرة، لا تقدرون أنتم وآباؤكم على معارضتها»
(1)
.
- دلالته على توحيد الأسماء والصفات:
وكما تقدم فاسم الله (الشافي) يدل باللزوم على الحياة والقيومية، والسمع والبصر، والعلم والقدرة، والخبرة والحكمة، والغنى والقوة، وغير ذلك من صفات الكمال.
الأثر الثالث: التوكل على الله الشافي:
فالله سُبْحَانَهُ هو خالق الأسباب ومسبباتها، وفارق كبير بين التعلق بالأسباب، والأخذ بالأسباب، فإن من صدق توكل العبد على الله أن يأخذ بالأسباب وهو يعلم أنها لا تنفع ولا تضر إلا بإذنه تَعَالَى، ولا ترد شيئًا من أقداره، ومن أدلة ذلك: ما رواه أبو خزامة، قال:«يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ شَيْئًا؟ قَال: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ»
(2)
.
يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «إن القلب متى اتصل برب العالمين خالق الداء والدواء، ومدبر الطب ومصرفه على ما يشاء، كانت له أدوية
(1)
تفسير السعدي (ص: 592).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2065)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3437)، حكم الألباني: حسن، تخريج مشكلة الفقر، رقم الحديث:(13).
أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه، فإذا قويت النفس بإيمانها وفرحت بقربها من بارئها، وأنسها به وحبها له، وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمع أمورها عليه، واستعانتها به وتوكلها عليه، فإن ذلك يكون لها من أكبر الأدوية في دفع الألم بالكلية»
(1)
.
فالأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله وقدره، لا خروج لها عنه، والله تَعَالَى يتصرف فيها كيف يشاء، إن شاء أبقى سببيتها، وإن شاء غيرها كيف يشاء؛ لئلا يعتمد العباد عليها، وليعلموا كمال قدرته، وأن التصرف المطلق والإرادة المطلقة لله وحده، كما تقدم في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ»
(2)
، والله سُبْحَانَهُ لم ينزل داء إلا ومعه الدواء، كما في الحديث:«فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ»
(3)
، ودل عباده على أسباب تنفع بإذنه تَعَالَى للشفاء، ومن تلك الأسباب:
1 -
القرآن:
قال الله عز وجل عن أثر القرآن في شفاء القلوب وهدايتها: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، وقال تَعَالَى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44].
(1)
الطب النبوي، لابن القيم، (ص: 11).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(3855)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3436)، والطبراني في الكبير، رقم الحديث:(484)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1605).
(1)
.
(2)
.
وعن عائشة رضي الله عنها: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا»
(3)
.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ،
(1)
الطب النبوي، لابن القيم (ص: 272).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5736)، ومسلم، رقم الحديث:(2201).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5016)، ومسلم، رقم الحديث:(2192).
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا - وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَهَا: بِاسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا»
(1)
.
وعلى هذا فالقرآن فيه شفاء لأرواح المؤمنين، وشفاء لأجسادهم.
2 -
العسل:
قال ابن كثير رحمه الله: «أي: في العسل شفاء للناس من أدواء تعرض لهم،
…
ثم ذكر الحديثُ الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اسْقِهِ عَسَلًا، فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَال: إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا، فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا! فَقَالَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا، فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ اللهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ! فَسَقَاهُ فَبَرَأَ
(2)
.
قال بعض العلماء بالطب: «كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلًا وهو حار تحللت، فأسرعت في الاندفاع، فزاده إسهالًا، فاعتقد الأعرابي أنَّ هذا يضره وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد، ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه، وصلح مزاجه،
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2194).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5716)، ومسلم، رقم الحديث:(2217)، واللفظ له.
واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته»
(1)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ»
(2)
.
3 -
الحبة السوداء:
عن عائشة رضي الله عنها، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا مِنَ السَّامِ، قُلْتُ: وَمَا السَّامُ؟ قَالَ: الْمَوْتُ»
(3)
.
4 -
ماء زمزم:
ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم، وأنه قال:«إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ»
(4)
، وقد غسل جبريل عليه السلام صدر النبي صلى الله عليه وسلم بماء زمزم.
5 -
الصدقة:
عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ»
(5)
، وهذا هو الطب الحقيقي الذي لا يخطئ، لكن لا يظهر نفعه إلا لمن رق حجابه وكمل استعداده ولطفت بشريته
…
فإن الصدقة دواء
(1)
تفسير ابن كثير (2/ 701).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5681).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5687).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2473).
(5)
أخرجه البيهقي في الشعب، رقم الحديث:(3279)، حكم الألباني: حسن، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3358).
منجح، ونبه بها على بقية أخواتها من القُرَب، كعتق، وإغاثة لهفان، وإعانة مكروب
(1)
.
يقول ابن القيم رحمه الله: «للصدقة تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر أو من ظالم، بل من كافر، فإن الله تَعَالَى يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به؛ لأنهم جربوه»
(2)
.
6 -
التلبينة:
عن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت تأمر بالتلبين للمريض، وللمحزون على الهالك، وكانت تقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ»
(3)
.
(4)
.
(1)
شرح الجامع الصغير، للمناوي (2/ 2).
(2)
الوابل الصيب (1/ 49).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5689).
(4)
التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوى (1/ 936).
7 -
التداوي بالطب الحديث:
وهو ما يكون على أيدي الأطباء، فعلى المريض مع يقينه بأن الشافي هو الله أن يأخذ بالأسباب بجوارحه دون قلبه، فلا يمتنع من الأسباب ومن بينها الطب الحديث الذي ثبتت دراساته، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك جليًّا لما سأله الأعراب: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللهِ تَدَاوَوْا»
(1)
.
وقال النووي رحمه الله: «إن الطب غير قادح في التوكل؛ إذ تطبب رسول الله صلى الله عليه و سلم والفضلاء من السلف، وكل سبب مقطوع به كالأكل والشرب للغذاء والري لا يقدح في التوكل عند المتكلمين في هذا الباب، ولهذا لم ينف عنهم التطبب»
(2)
.
الأثر الرابع: محبة الله الشافي:
الله عز وجل هو الشافي الذي لا شفاء إلا شفاؤه، والذي لا يكشف الضر إلا هو ولا يأتي إلا بالخير إلا هو، وهو الذي أنزل الكتب وأرسل الرسل؛ ليشفي الناس من أمراض الشرك والكفر والشكوك، والحقد والحسد وغيرها من أمراض القلوب، ويعافيها بالهداية إلى الدين القيم، والصراط المستقيم الذي يوصل إليه، وهو الذي يحفظ أبدانهم ويشفي أبدانهم من الأسقام والآفات، وهذا كله يثمر في القلب محبة مَن هذه صفاته، وتوحيده والتعبد له بكل أنواع العبادة لا شريك له.
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2038)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(291)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الأدب المفرد (291).
(2)
شرح النووي على مسلم (3/ 91).
أي: إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره، بما يقدِّر من الأسباب الموصلة إليه
(1)
.
الأثر الخامس: تحريم التداوي بمحرم:
من آمن باسم الله (الشافي) كان متحريًا في طلب الدواء الحلال، ومتجافيًا عن الحرام الذي يباعد بينه وبين ربه، يقول صلى الله عليه وسلم:«فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَتَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»
(2)
، وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الرُّقَى، وَالتَّمَائِمَ، وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ»
(3)
، فقالت له زوجته: لِمَ تقول هذا؟ والله لقد كانت عيني تقذف، وكنت اختلف إلى فلان اليهودي يرقيني، فإذا رقاني سكنت، فقال عبد الله: إنما ذاك الشيطان كان ينخسها بيده، فإذا رقاها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا»
(4)
.
وعلل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله التحريم بقوله: «التداوي بالمحرم لا يجوز؛ لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرمه عليها؛ ولأن الله لا يحرم علينا الشيء إلا لضرره، والضار لا ينقلب نافعًا أبدًا، حتى لو قيل: إنه اضطر
(1)
تفسير ابن كثير (6/ 147).
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(649)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1633).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(3685)، وأبو داود، رقم الحديث:(3883)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3530)، حكم الألباني: حسن، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(39).
(4)
سبق تخريجه.
إلى ذلك فإنه لا ضرورة للدواء إطلاقًا؛ لأنه قد يتداوى ولا يشفى، وقد يشفى بلا تداوٍ، إذًا: لا ضرورة إلى الدواء»
(1)
.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله عدة أدلة لتحريم التداوي بما حرمه الله، وقسم هذه الأدلة إلى قسمين، كالتالي:
أولًا: الأدلة الشرعية، ومنها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»
(2)
.
عن ابن مسعود رضي الله عنه: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ»
(3)
.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ
(4)
.
حديث طارق بن سويد الجعفي رضي الله عنه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر:«فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ»
(5)
.
(1)
لقاءات الباب المفتوح (56/ 15)، حكم التداوي بالمحرم.
(2)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(3874)، والبيهقي في السنن الكبرى، رقم الحديث:(19743)، حكم الالباني: شطره الأول صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(4538).
(3)
أخرجه الحاكم، رقم الحديث:(7604)، والبيهقي في السنن الكبرى، رقم الحديث:(19741).
(4)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(3867)، والترمذي، رقم الحديث:(2045)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3459)، حكم الألباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(4539).
(5)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1984).
ثانيًا: الأدلة العقلية، ومنها:
أن الله سُبْحَانَهُ إنما حرمه لخبثه، فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيبًا عقوبة لها، كما حرمه على بني إسرائيل، بقوله:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
في التحريم حمية لهم، وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإنه وإن أثر في أزالتها لكنه يعقب سقمًا أعظم منه في القلب، بقوة الخبث الذي فيه، فيكون المداوي به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب.
أن التداوي بالخبيث يكسب الطبيعة والروح صفة الخبث؛ لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالًا بينًا، فإذا كانت كيفيته خبيثة أكسب الطبيعة منه خبثًا، فكيف إذا كان خبيثًا في ذاته.
أن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول، واعتقاد منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء، فإن النافع هو المبارك،
…
ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها وبين حسن ظنه بها
(1)
.
الأثر السادس: {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]:
فإن عقل العبد يعجز ويضيق عن استيعاب كل ما يجري عليه؛ إذ الله يعامله بعلمه، ولا يخلو من فضل تَعَالَى، فكثير مما يُقدر عليه من أمراض أومكروهات هي في ذاتها شفاء لأمراض في القلب قد تفتك به لو استمرت
(1)
انظر: الطب النبوي، لابن القيم (ص: 121).
فيه، فيأتي المرض أو المصيبة؛ ليكونا سببًا في التخلص منها، فالشفاء ليس بالضرورة هو المعافاة من المرض، أو زواله بالكلية، و في هذا يقول ابن القيم رحمه الله وهو يعدد حكم الله عز وجل ورحمته في المصائب:«السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه (الطبيب) العليم بمصلحته، الرحيم به، فليصبر على تجرعه ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه، فيذهب نفعه باطلًا، والثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته، فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره»
(1)
.
(2)
.
ومما يعين العبد على ذلك: أن يعلم بعضًا من الحِكم في دائه الذي يرجو منه شفاء، ومنها:
1 -
مغفرة الذنوب:
عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/ 416).
(2)
تفسير السعدي (1/ 96).
(1)
، والوصب: المرض.
(2)
.
2 -
النجاة من النار:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، «أنَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ مَرِيضًا وَمَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ وَعَكٍ كَانَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَبْشِرْ إِنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ: نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ
(3)
.
3 -
المريض يظفر بمعية الله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّ اللهَ عز وجل يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي؟ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ؟ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5641).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5648).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(9676)، والترمذي، رقم الحديث:(2088)، وابن ماجه، رقم الحديث:(3470)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(32).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2569).
4 -
دخول الجنة:
عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ»
(1)
، بحبيبتيه: أي: عينيه.
وعن عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: «أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي، قَالَ: إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ، فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا»
(2)
.
5 -
أجر عيادة المريض:
عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مَرِيضًا إِلَّا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ كُلُّهُمْ يَسْتَغْفِرُ لَهُ، إِنْ كَانَ مُصْبِحًا حَتَّى يُمْسِيَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُمْسِيًا خَرَجَ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ كُلُّهُمْ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ»
(3)
.
غدوة: ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، العشية: آخر النهار، الخريف: الثمر المخروف: أي: المجتنى.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5641).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5652)، ومسلم، رقم الحديث:(2576).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(612)، والترمذي، رقم الحديث:(969)، وابن ماجه، رقم الحديث:(1442)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(313).
6 -
ومن المرضى من له أجر الشهداء:
عن أنس رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»
(1)
، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ»
(2)
.
المبطون: الذي يموت بداء البطن، والمطعون: الذي يموت بالطاعون، وصاحب الهدم: الذي يموت تحت الهدم.
وعن جابر بن عَتِيكٍ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدَةٌ»
(3)
.
والمريض متسبب في أجر لمن زاره: وهذه بركة خُص بها المريض:
عن علي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الجَنَّةِ»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2830)، ومسلم، رقم الحديث:(1916).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2829)، ومسلم، رقم الحديث:(1914).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(23753)، وأبو داود، رقم الحديث:(3111)، والنسائي، رقم الحديث:(1845)، حكم الألباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(39).
(4)
سبق تخريجه.
غدوة: ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، العشية: آخر النهار، الخريف: الثمر المخروف: أي: المجتنى.
الأثر السابع: الدعاء باسمه (الشافي):
فمتى ما أراد العبد الشفاء، أوبحث عن أسباب الدواء فإن من أهم الاسباب التي يأخذ بها: دعاء الله باسمه (الشافي) أن يتولاه بقدرته ويشفيه، ويدله على دائه ودوائه، كما كان يقول ويفعل نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يمسح على المريض، ويقول:«أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا»
(1)
، ومنه رقية جبريل عليه السلام لنبينا، فقد ثبت في الصحيح أن جبريل أتى النبى صلى الله عليه وسلم:«فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ»
(2)
.
وقد كان ذلك نهج صحابته من بعده، كما ثبت عن أنس رضي الله عنه، قال: لثابت: أَلَا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ:«اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ الْبَاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا»
(3)
.
فاللهم رب الناس، اذهب البأس، أنت الشافي، اشف قلوبنا من عللها، واشف أبداننا من أمراضها، شفاء لا يغادر سقمًا، شفاء أنت أهله ووليه.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2186).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5742).
الطَيِّب جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الطيب: خلاف الخبيث، وطاب الشيء يطيب طيبة وتطيابًا»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الطاء والياء والباء أصل واحد صحيح؛ يدل على خلاف الخبيث»
(2)
.
ورود اسم الله (الطيب) في القرآن الكريم:
لم يرد اسم الله تَعَالَى (الطيب) في القرآن الكريم.
ورود اسم الله (الطيب) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الطيب) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
(1)
الصحاح (1/ 192).
(2)
مقاييس اللغة (3/ 435).
[البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟»
(1)
.
ثبوت اسم الله (الطيب) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسم الله (الطيب) في حق الله تَعَالَى:
ابن القيم رحمه الله: في قوله: «فهو طيب وأفعاله طيبة، وصفاته أطيب شيء، وأسماؤه أطيب الأسماء، واسمه الطيب»
(2)
.
ابن عثيمين رحمه الله: فقد عده من الأسماء المثبتة بالسنة النبوية
(3)
.
معنى اسم الله (الطيب) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال النووي رحمه الله: «قال القاضي: الطيب في صفة اللهتَعَالَى بمعنى: المنَزَّه عن النقائص، وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب: الزكاء والطهارة والسلامة من الخبث»
(4)
.
قال ابن القيم رحمه الله في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ»
(5)
، وذلك في دعاء التشهد: «وكذلك قوله: (وَالطَّيِّبَاتُ) هي
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1015).
(2)
الصلاة وأحكام تاركها (ص: 151).
(3)
ينظر: القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص: 15).
(4)
إكمال المعلم بفوائد مسلم (3/ 535).
(5)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(831)، ومسلم، رقم الحديث:(402).
صفة الموصوف المحذوف أي: الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء لله وحده، فهو طيب وأفعاله طيبة، وصفاته أطيب شيء، وأسماؤه أطيب الأسماء، واسمه (الطيب)، ولا يصدر عنه إلا طيب، ولا يصعد إليه إلا طيب، ولا يقرب منه إلا طيب، وإليه يصعد الكلم الطيب وفعله طيب، والعمل الطيب يعرج إليه، فالطيبات كلها له ومضافة إليه وصادرة عنه ومنتهية إليه»
(1)
.
قال ابن رجب رحمه الله: «الطيب معناه: الطاهر، والمعنى: أن الله مقدس منزه عن النقائص والعيوب كلها»
(2)
، فهوسُبْحَانَهُ المنزه عن الآفات والعيوب، وعن كل وصف خلا عن كمال، أو عن طيب الثناء.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الطيب)
(3)
:
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الطيب) من الصفات، ودلالته على التوحيد:
(4)
.
ومن مظاهر كون الله طيبًا ما يلي:
(1)
الصلاة وحكم تاركها (ص: 214).
(2)
جامع العلوم والحكم (1/ 274).
(3)
للاستزادة: تراجع آثار اسم الله (السبوح القدوس).
(4)
الصلاة وحكم تاركها، لابن القيم (ص: 214).
كلام الطيب أطيب كلام:
فالقرآن أطيب الكلام؛ لأنه خرج من أطيب من تكلم، قال تَعَالَى:{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج: 24].
يقول ابن كثير رحمه الله: «قال بعض المفسرين في قوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج: 24] أي: القرآن، وقيل: لا إله إلا الله، وقيل: الأذكار المشروعة»
(1)
، ويقول السعدي- أيضًا- في تفسير {الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [الحج: 24]: «الذي أفضله وأطيبه كلمة الإخلاص، ثم سائر الأقوال الطيبة التي فيها ذكر الله، أو إحسان إلى عباد الله»
(2)
.
ولا ينبغي أن يتقرب إليه العبد إلا بالطيب من الأقوال، والأعمال المنبعثة من المقاصد الطيبة.
عقيدة الطيب أطيب العقائد:
يقول تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 42 - 52].
قال السعدي رحمه الله: «{كَلِمَةً طَيِّبَةً} : شهادة أن لا إله إلا الله، وفروعها {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} ، وهي النخلة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} في الأرض {وَفَرْعُهَا} منتشر {فِي السَّمَاءِ} وهي كثيرة النفع دائمًا، {تُؤْتِي أُكُلَهَا} أي: ثمرتها {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} فكذلك شجرة الإيمان، أصلها ثابت في قلب المؤمن،
(1)
تفسير ابن كثير (5/ 408).
(2)
تفسير السعدي (ص: 536).
علمًا واعتقادًا، وفرعها من الكلم الطيب، والعمل الصالح والأخلاق المرضية، والآداب الحسنة في السماء دائمًا، يصعد إلى الله منه من الأعمال والأقوال التي تخرجها شجرة الإيمان، ما ينتفع به المؤمن وينفع غيره، ويجد ثمرتها في حياته؛ بل ويجدها بعد مماته وهذه الكلمة مع العبد حتى يصل إلى البرزخ، فإذا قيل: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيثبت الله في ذلك الموقف من يشاء سُبْحَانَهُ»
(1)
.
شرع الطيب أطيب الشرائع:
يقول الطبري رحمه الله في تفسير قول تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58]: «يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر ولاة أمور المسلمين، إن الله نعم الشيء يعظكم به، ونعمت العظة يعظكم بها»
(2)
.
الطيب أحل الطيبات، ورزقه أطيب الأرزاق:
يقول تَعَالَى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، وقال تَعَالَى عن رسوله صلى الله عليه وسلم:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].
وإذا تقرر لدى العبد عظمة سعة طيب الله تَعَالَى، وشموله لصفاته كلها؛ تيقن أن لا إله ولا رب يستحق التوحيد والعبادة إلا الرب الطيب الجميل
(1)
تفسير السعدي (1/ 425).
(2)
تفسير الطبري (8/ 494).
الكريم السبوح القدوس، الذي له الكمال كله، والطيب كله، والحمد كله، والقدرة كلها.
وكما أن اسم الله (الطيب) دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال على الأسماء والصفات؛ إذ يدل على اسم الكريم والجميل والرحيم إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
الأثر الثاني: محبة الله الطيب:
من آمن بأن الله طيب في ذاته، بأسمائه، وصفاته، وطيب في أفعاله، وأنه لايقبل من الصدقات إلا ما كان طيبًا، ولا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبًا؛ أحب ربه وأجله.
الأثر الثالث: المؤمن طيب في أحواله كلها:
أهل الإيمان بالله هم الطيبون الذين عمرت قلوبهم بمحبة الله واتباعه، فطابت أقوالهم وأعمالهم، فلا يحبُّون إلا الطيب من كل شيء، ومن ذلك:
طيب أقوالهم:
فلا يتكلمون إلا بالطيب الحسن من الكلام، كما قالتَعَالَى في وصفهم:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26].
قال مجاهد وابن جبير وأكثر المفسرين: «المعنى: الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من
الناس للطيبات من القول»
(1)
، وقيل المعنى:«الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا الطيبات للطيبين»
(2)
.
وقد قسم اللهتَعَالَى الكلام إلى طيب وخبيث، فقال:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24]، و {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26]، وقالتَعَالَى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10].
يقول ابن القيم رحمه الله عند قوله تَعَالَى: {يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} : «وهو طيب سُبْحَانَهُ، لا يصعد إليه إلا طيب، والكلم الطيب إليه يصعد، فكانت الطيبات كلها له ومنه وإليه، له ملكًا ووصفًا، ومنه مجيئها وابتداؤها، وإليه مصعدها ومنتهاها»
(3)
(1).
طيب أفعالهم:
فلا يقدمون إلا على الأفعال والأخلاق الطيبة؛ وهي التي اجتمعت على حسنها الفِطَرُ السليمةُ مع الشرائع النبوية، وزكتها العقول الصحيحة، فاتفق على حسنها الشرعُ والعقلُ والفِطرةُ، فهي المنبعثة من مقاصد وأهداف طيبة، ومن ذلك قوله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
(1)
تفسير القرطبي (12/ 211).
(2)
المصدر السابق.
(3)
بدائع الفوائد (2/ 162).
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].
ومن أعظم ما تحصل به طيبة الأعمال للمؤمن طيب المطعم، وذلك بأن يكون حلالًا، فيزكو بذلك عمله، يقول تَعَالَى:{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 88].
ولذا أمر الله عباده المؤمنين بأن يأكلوا حلالًا طيبًا ثم يعملوا صالحًا، ولا يقبل الله منهم إلا ما كان طيبًا من الطعام والأعمال، ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الله طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ الله أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟»
(1)
.
ومما ذكره ابن القيم رحمه الله: «فإن الطيب لا يناسبه إلا الطيب، ولا يرضى إلا به، ولا يسكُن إلا إليه، ولا يطمئن قلبُه إلا به، فله من الكلام الكَلِمُ الطيب الذي لا يصعد إلى اللهتَعَالَى إلا هو، وهو أشدُّ شيء نُفرة عن الفحش في المقال، والتفحش في اللسان والبذاء، والكذب والغيبة، والنميمة والبُهت، وقول الزور وكل كلام خبيث، وكذلك لا يألف من الأعمال إلا أطيبها، وهي الأعمال التي اجتمعت على حسنها الفِطَرُ السليمة مع الشرائع النبوية، وزكتها
(1)
سبق تخريجه.
العقول الصحيحة، فاتفق على حسنها الشرع والعقل والفطرة، مثل أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا، ويؤثر مرضاته على هواه، ويتحبب إليه جهده وطاقته، ويُحسن إلى خلقه ما استطاع فيفعل بهم ما يحب أن يفعلوا به، ويعاملوه به ويَدَعَهم مما يحب أن يدعُوه منه، وينصحهم بما ينصح به نفسه، ويحكم لهم بما يحب أن يحكم له به، ويكف عن أعراضهم ولا يقابلهم بما نالوا من عرضه، وإذا رأى لهم حسنًا أذاعه، وإذا رأى لهم سيئًا كتمه، ويقبل أعذارهم ما استطاع؛ فيما لا يُبطل الشريعة، ولا يُناقض لله أمرًا ولا نهيًا، وله- أيضًا- من الأخلاق أطيبها وأزكاها، كالحلم والوقار والسكينة والرحمة والوفاء، وسهولة الجانب ولين العريكة، والصدق وسلامة الصدر من الغل والغش والحقد والحسد، والتواضع وخفض الجناح لأهل الإيمان والعزة، والغلظة على أعداء الله، وصيانة الوجه عن بذله وتذلله لغير الله، والعفة والشجاعة والسخاء والمروءة، وكل خلق اتفقت على حسنه الشرائع والفطر والعقول.
وكذلك لا يختار من المطاعم إلا أطيبها، وهو الحلال الهنيء المريء الذي يُغذِّي البدن والروح أحسن تغذية مع سلامة العبد من تبعته، وكذلك لا يختار من المناكح إلا أطيبها وأزكاها، ومن الروائح إلا أطيبها وأزكاها، ومن الأصحاب والعُشراء إلا الطيبين منهم، فروحه طيبة، وبدنُه طيب، وخُلُقُه طيب، وعملُه طيب، وكلامه طيب، ومطعمه طيب، ومشربه طيب، وملبسه طيب، ومدخله طيب، ومخرجه طيب، ومنقلبه طيب، ومثواه كله طيب، فالله سبحانه وتعالى جعل الطيب بحذافيره في الجنة، وجعل الخبيث بحذافيره في النار.
فجعل الدور ثلاثة: دارًا أخلصت للطيبين، وهي حرام على غير الطيبين،
وقد جمعت كل طيب وهي الجنة، ودارا أخلصت للخبيث والخبائث، ولا يدخلها إلا الخبيثون وهي النار، ودارا امتزج فيها الطيب والخبيث، وخلط بينهما وهي هذه الدار؛ ولهذا وقع الابتلاء والمحنة بسبب هذا الامتزاج والاختلاط، فإذا كان يوم معاد الخليقة ميز الله الخبيث من الطيب، فجعل الطيب وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، وجعل الخبيث وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، فعاد الأمر إلى دارين فقط: الجنة وهي دار الطيبين، والنار وهي دار الخبيثين
(1)
.
الأثر الرابع: الحياة الطيبة جزاء الطيبين في الدنيا والآخرة:
فالمؤمن حاز طيب الحياة الأبدي في الدنيا والآخرة، وبيان ذلك ما يلي:
أولًا: الحياة الطيبة في الدنيا:
إن أطيبَ العيشِ العيشُ مع الله، من ناله فقد نال أوفر الحظ والنصيب، يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك: «قد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته، فقال تَعَالَى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
وقد فسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضا، والرزق الحسن وغير ذلك، والصواب: أنها حياة القلب ونعيمه، وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله، ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة، كما كان بعض العارفين يقول: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب، وقال غيره: إنه ليمر بالقلب أوقات
(1)
ينظر: زاد المعاد (ص 65، 66).
يرقص فيها طربًا، وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح، فإنه ملكها، ولهذا جعل الله المعيشة الضنك لمن أعرض عن ذكره، وهي عكس الحياة الطيبة، وهذه الحياة الطيبة تكون في الدور الثلاث، أعني: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، والمعيشة الضنك- أيضًا- تكون في الدور الثلاث، فالأبرار في النعيم هنا وهنالك، والفجار في الجحيم هنا وهنالك، قال الله تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [النحل: 30]»
(1)
ثانيًا: الحياة الطيبة في الآخرة:
لما طابت أقوال المؤمنين وأفعالهم في الدنيا، طابت لهم الدار الآخرة، وأنزلهم الله المساكن الطيبة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، قَالَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَبَاتَ قَائِمًا وَالنَّاسُ نِيَامٌ»
(2)
، فلايسمعون فيها إلا طيبًا:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25]، ولايرون إلا طيبًا:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، والزيادة هي رؤية وجه الكريم سُبْحَانَهُ، وحتى أنفسهم وأنفاسهم طابت؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ، وَلَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ: جُشَاءٌ، وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ»
(3)
.
(1)
مدارج السالكين، لابن القيم (3/ 243).
(2)
أخرجه الحاكم، رقم الحديث:(1200)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(2825)، حكم الألباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(14).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2835).
يقول تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] وقالتَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]«فعقَّب دخولها على الطيب بحرف الفاء الذي يؤذن بأنه سبب للدخول، أي: بسبب طيبكم قيل لكم: ادخلوها»
(1)
.
وقد وصف الله تَعَالَى منقلَب المؤمنين في الآخرة بالطيب، فحياتهم طيبة، ومساكنهم طيبة ومطاعمهم ومشاربهم طيبة، وذلك في غير ما آية من كتابه، فقالسُبْحَانَهُ:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72].
وقال سُبْحَانَهُ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
وقال سُبْحَانَهُ: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21].
اللهم اجعلنا من عبادك الطيبين الذين يقال لهم يوم القيامة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: 49].
اللهم ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملًا متقبلًا.
(1)
الوابل الصيب (ص: 40).
القابِضُ الباسِطُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
أولًا: معنى القابض:
قال الجوهري رحمه الله: «قبضت الشيء قبضًا: أخذته، والقبض: خلاف البسط، ويقال: صار الشيء في قبضتك، أي: في ملكك»
(1)
.
(2)
.
ثانيًا: معنى الباسط:
قال الجوهري رحمه الله: «بسط الشيء: نشره، وبالصاد أيضًا، وبسط العذر: قبوله، والبسطة: السعة
…
والبساط، بالفتح: الأرض الواسعة»
(3)
.
- قال ابن فارس رحمه الله: «(بسط) الباء والسين والطاء أصل واحد، وهو امتداد الشيء في عرض أو غير عرض، فالبساط: ما يبسط، والبساط: الأرض،
(1)
الصحاح (4/ 237).
(2)
معجم مقاييس اللغة (5/ 50).
(3)
الصحاح (4/ 253).
وهي البسيطة
…
ويد فلان بسط: إذا كان منفاقًا، والبسطة في كل شيء السعة، وهو بسيط الجسم والباع والعلم، قال الله تَعَالَى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247]»
(1)
.
ورود اسم الله (القابض الباسط) في القرآن الكريم:
لم يرد هذان الاسمان في القرآن الكريم.
ورود اسم الله (القابض الباسط) في السنة النبوية:
ورد الاسمان في السنة النبوية، من حديث أنس رضي الله عنه، «قال الناس: يا رسول الله، غلا السعرُ، فَسَعِّرْ لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ عز وجل وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ»
(2)
.
ثبوت اسمي الله (القابض والباسط) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسمي الله (القابض والباسط) في حق الله تَعَالَى:
- ابن القيم رحمه الله: يقول في النونية:
هُوَ قَابِضٌ هُوَ بَاسِطٌ هُوَ خَافِضٌ= هُوَ رَافِعٌ بِالعَدْلِ والإِحْسَانِ
(3)
- ابن عثيمين رحمه الله: فقد عده من الأسماء المثبتة بالسنة النبوية
(4)
.
(1)
معجم مقاييس اللغة (1/ 247).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(14273)، والترمذي، رقم الحديث:(1314)، وابن ماجه، رقم الحديث:(2200)، حكم الألباني: صحيح، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(3).
(3)
نونية ابن القيم (ص: 211).
(4)
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص: 15).
معنى اسمي الله (القابض الباسط) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الطبري رحمه الله في قوله تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]: «(يقبض): يقتر بقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه، ويعني بقوله: (ويبسط): يوسع ببسطة الرزق على من يشاء منهم»
(1)
.
قال الزجاجي رحمه الله: «يقتر على من يشاء ويوسع على من يشاء على حسب ما يرى من المصلحة لعباده، فالقبض ها هنا: التقتير والتضييق والبسط: التوسعة في الرزق والإكثار منه، فالله عز وجل القابض الباسط يقتر على من يشاء ويوسع على من يشاء»
(2)
.
(3)
.
(4)
.
(1)
تفسير الطبري (5/ 289).
(2)
اشتقاق أسماء الله الحسنى (ص: 97).
(3)
شأن الدعاء (1/ 58).
(4)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 203).
قال ابن الأثير رحمه الله: «القابض هو الذي يمسك الرزق وغيره من الأشياء عن العباد بلطفه وحكمته، المتقابلة التي لا يطلق كلُّ واحد منها إلا مع الآخر»
(1)
.
والسبب في ذلك- والله أعلم-: أن الكمال المطلق إنما يكون باجتماعهما؛ وذلك لأن في اجتماعهما جمع بين صفات الجمال والإحسان والتودد والرحمة التي يدل عليها اسم الله (الباسط)، وبين صفات الجلال والعظمة والكبرياء والعدل والانتقام التي يدل عليها اسم الله (القابض)
(2)
، يقول الخطابي رحمه الله: «قد يحسن في مثل هذين الاسمين أن يقرن أحدهما في الذكر بالآخر، وأن يوصل به ليكون ذلك أنبأ عن القدرة، وأدل على الحكمة، كقوله تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]، وإذا ذكرت القابض مفردًا عن الباسط كنت كأنك قد قصرت بالصفة على المنع والحرمان، إذا أوصلت أحدهما بالآخر، فقد جمعت بين الصفتين منبئًا عن وجه الحكمة فيهما
…
»
(3)
.
ويقبض الأرواح عند الممات».
(4)
، وقال في الباسط:«هو الذي يبسط الرزق لعباده ويوسعه عليهم بجوده ورحمته، ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة»
(5)
.
(1)
فتح الرحيم الملك العلام (1/ 41).
(2)
ينظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 339).
(3)
شأن الدعاء (1/ 58).
(4)
النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 6).
(5)
النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 127).
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «هذه الأسماء الكريمة من الأسماء المتقابلات التي لا ينبغي أن يُثنى على الله بها إلا كل واحد مع الآخر؛ لأن الكمال المطلق من اجتماع الوصفين، فهو القابض للأرزاق والأرواح والنفوس، والباسط للأرزاق، والرحمة، والقلوب
…
»
(1)
، وقال في موضع آخر:«من أسمائه الحسنى المزدوجة المتقابلة التي لا يطلق واحد بمفرده على الله إلا مقروناً بالآخر فإن الكمال من اجتماعهما»
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
هُوَ قَابِضٌ هُوَ بَاسِطٌ هُوَ خَافِضٌ
…
هُوَ رَافِعٌ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
(3)
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (القابض الباسط):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (القابض الباسط) من صفاته سُبْحَانَهُ:
الله سُبْحَانَهُ القابض الباسط الذي له الكمال في ذلك والمنتهى؛ فهو القابض الباسط الملك الذي له ملك السموات والأرض وبيده مقاليد كل شيء وخزائنه، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]
(4)
.
(1)
الحق الواضح المبين (ص: 89).
(2)
تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 238).
(3)
نونية ابن القيم (ص: 211).
(4)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 754).
ومن مظاهر قبض الله وبسطه ما يلي:
- هو القابض الباسط الفعال لما يريد، يبسط لمن يشاء ويقبض، ويصرف كيف شاء، لا حجر له، ولا مانع يمنعه مما أراد، قال تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر: 52]، وقال سُبْحَانَهُ:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]
(1)
(2)
.
- هو القابض الباسط العليم الخبير، الذي يعلم أحوال عباده وما يصلح لكل واحد منهم، فيبسط عليهم بعلم، ويقبض عنهم بعلم، قال تَعَالَى:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30]، وجاء في بعض الآثار أن الله تَعَالَى يقول: «إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أمرضته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 238).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(15732)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(699)، وابن أبي عاصم في السنة، رقم الحديث:(381)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الأدب المفرد، رقم الحديث:(697).
يصلح إيمانه إلا المرض ولو عافيته لأفسده ذلك، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني خبير بصير»
(1)
.
- هو القابض الباسط الكريم الحكيم، قال تَعَالَى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] فيداه سحاء الليل والنهار، وخيره في جميع الأوقات مدرارًا، وخزائنه ملأى، لا تغيضها النفقة، فإذا بسط بسط بجوده وكرمه من غير إسراف ولا تبذير، وإذا قبض فلحكمة بالغة، لا بخلًا وشحًّا، ولا نقصًا وفقرًا، ولا ظلمًا وجورًا
(2)
.
- هو القابض الباسط الرحيم اللطيف، يعطي عبده حاجته رحمة منه وشفقة به، ويمنعه رحمة به ولطفًا؛ لعلمه أنه لو بسط له لكان في ذلك هلاكه وشقائه، قال تَعَالَى:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]
(3)
.
- هو القابض الباسط الحليم الذي لا يمنع من عصاه بسطه، ولا يحرمه خيره، فهؤلاء اليهود- قبحهم الله- قالوا مقالتهم القبيحة {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] فلم يمنعه مقالهم من أن يبسط خيره عليهم
(4)
.
- هو القابض الباسط الواسع الذي شمل بسطه الحركات، وقبضه السكنات، قال ابن القيم رحمه الله: «يشهد العبد حركات العالم وسكونه صادرة عن الحق تَعَالَى في كل متحرك وساكن، فيشهد تعلق الحركة باسمه (الباسط)،
(1)
ينظر: تفسير الطبري (21/ 511)، تفسير السعدي (ص: 754، 759).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 238).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 727).
(4)
ينظر: المرجع السابق (ص: 238).
وتعلق السكون باسمه (القابض) فيشهد تفرده سُبْحَانَهُ بالبسط والقبض»
(1)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (القابض الباسط) على التوحيد:
المتأمل في اسم الله القابض الباسط يجده دالًّا على توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
فأما دلالته على الربوبية: فلما فيه من تفرد الله ووحدانيته في القبض والبسط، فهما بيده وتحت تصريفه وتدبيره لا يشاركه فيه أحد
(2)
، قال تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]، قال الطبري رحمه الله:«أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة، واتخذوه ربًّا دونه يعبدونه»
(3)
، ويؤيد ذلك قوله سُبْحَانَهُ:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2]، وقوله:{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 21]، وعن أنس رضي الله عنه قال:«غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر فأسعر لنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى الله وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ»
(4)
، فدل على «أن الغلاء والرخص والسعة والضيق بيد الله دون غيره»
(5)
.
(1)
مدارج السالكين (2/ 141).
(2)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 340 - 341).
(3)
تفسير الطبري (5/ 288).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
تفسير الطبري (5/ 288).
وأما دلالته على الألوهية: لما فيه من إقامة الحجة بما ثبت في الربوبية على الألوهية، قال تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61 - 63] فمن كان بيده القبض والبسط، والنفع والضر، وتدبير الأرزاق مستبدًّا بها من غير مشارك ولا مؤزر؛ استحق العبادة وحده دون ما سواه؛ فكما أنه الواحد في قبضه وبسطه وتصريفه وتدبيره فليكن الواحد في عبادته جل في علاه»
(1)
.
وأما دلالته على الأسماء والصفات: لما في هذا الاسم من الدلالة على أسماء وصفات أخرى، فأما الأسماء: فهذا الاسم دال على اسم الله الحي، القيوم، الرزاق، العزيز، العليم، الخبير، الحكيم، الحليم، الرحيم ونحو ذلك.
وأما الصفات: فهذا الاسم دال على صفة الإرادة، واليدين لله جل جلاله، فأما الإرادة فلكونه تبارك وتعالى يبسط لمن أراد وشاء، ويقبض عمن أراد وشاء، قال سُبْحَانَهُ:{اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26]، وقال:{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 36].
وأما اليدين فلكونه تبارك وتعالى يبسط يداه بما شاء، ويقبضهما بما شاء، قال تَعَالَى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]، وقال سُبْحَانَهُ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (6/ 294)، تفسير السعدي (ص: 635).
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَقْبِضُ اللهُ الْأَرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟»
(1)
، وعنه رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ اللهُ عز وجل قَالَ لِي: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»
(2)
، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ يَمِينَ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْفَيْضُ، أَوِ الْقَبْضُ، يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ»
(3)
، وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إِنَّ اللهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»
(4)
، إلى غير ذلك من الأدلة التي يطول ذكرها
(5)
.
الأثر الثالث: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30]:
وأرزاق الله لعباده عديدة ومتنوعة، لا تقتصر على رزق المال أو الولد، بل هي أعم من ذلك وأشمل، والله سُبْحَانَهُ يبسط بها على من يشاء من خلقه بالتوسيع والكثرة، ويقبضه عمن يشاء بالتضيق والقلة، يقول تَعَالَى:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26].
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4812)، ومسلم، رقم الحديث:(2787).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7496)، ومسلم، رقم الحديث:(993).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4684)، ومسلم، رقم الحديث:(993).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2759).
(5)
ينظر: النهج الأسمى، للنجدي (3/ 133، وما بعدها).
* ومن أنواع الأرزاق:
-الهداية: فيبسط لمن شاء قلبه حتى يتسع لأمر الله انشراحًا وإقبالًا و عملًا، فيستنير قلبه للإسلام ويُهدى إلى سواء السبيل، ويقبض لمن شاء صدره عن الخير فيضل الطريق، قال تَعَالَى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
(1)
- العمر: فيبسطه الله على من يشاء حتى يصل به إلى سن الهرم والشيخوخة، ويضيقه على من يشاء حتى يموت في شبابه وقواه، ولربما زاد تضيقه فيموت في طفولته، بل ربما مات وهو جنين في بطن أمه، قال تَعَالَى:{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ، أَوْ يُنْسَأَ
(2)
لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»
(3)
(4)
.
- الجسم: فيبسط على من يشاء فيه ويقبض على من يشاء، فيظهر القوي والضعيف، والحسن والقبيح، والصحيح والمريض.
- الأولاد: فيعطي من يشاء الذكور، ومن يشاء الإناث، ومن يشاء الذكور
(1)
ينظر: تفسير الطبري (12/ 98)، وتفسير السعدي (ص: 70).
(2)
ينسأ، أي: يؤخر، والأثر: الأجل؛ لأنه تابع للحياة في أثرها. ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 114).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2067)، ومسلم، رقم الحديث:(2557).
(4)
ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 396)، تفسير السعدي (ص: 534).
والإناث، ويمنع من يشاء، كما قال سُبْحَانَهُ:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50].
-العلم والفهم: فيفتح على من يشاء فيه حتى يبلغ المراتب العالية، ويضيق على من يشاء فيقل حظه ونصيبه منه، ولربما ضيق عليه جدًّا، حتى لم يكن له منه حظ أصلًا.
قال تَعَالَى عن طالوت وبسطه له في العلم والجسم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].
- الأموال: فيقبضها ويبسطها سُبْحَانَهُ كيف شاء، فيظهر على أثرها الغني والفقير، والحر صاحب الأملاك والثروات، والرقيق الذي لا يملك شيئًا حتى نفسه التي بين جنبيه، قال سُبْحَانَهُ:{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 21]
(1)
.
- المناصب: فيقسمها على خلقه وينوعها بينهم، فيوجد الرئيس والمرؤوس، والملك والمملوك، والوزير والخادم، قال تَعَالَى:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].
- الأمطار والسحب: فيرسلها على ما يشاء من الأرض، فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج، ويمسكها عما يشاء من الأرض، فتجدب وتغبر لا
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 444).
خضر فيها ولا نبات، قال تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48]
(1)
.
- الرحمة: فيفتح رحمته ويبسطها على من يشاء من خلقه، فيجدها في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان، حيثما كان، وكيفما كان، ويقبضها عمن يشاء فيفقدها في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان، ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان، وما من نعمة إلا وتنقلب عليه نقمة، قال تَعَالَى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2].
الأثر الرابع: الرضى بما قسم القابض الباسط للعبد:
إذا تيقن العبد أن قبض الله وبسطه ناشئ عن علم تام بمصالح العبد، وحكمة بالغة، ورحمة عظيمة؛ رضي بما قسم الله له وقدر من الأرزاق وغيرها، سواء كان بسطًا أو قبضًا، ولم ينظر لمن فوقه نظرة حسد وبغضاء، فيعيش في نكد وشقاء، بل ينظر لمن هو دونه فيزداد بذلك رضى وقناعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»
(2)
.
فله الحمد على كل أفعاله، وله الحمد في خلقه وأمره.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 534، 644).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2963).
الأثر الخامس: التوكل على القابض الباسط:
إذا علم العبد أن الله وحده القابض الباسط، فلا باسط لما قبض ولا قابض لما بسط كما قال صلى الله عليه وسلم في دعائه:«اللهمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللهمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ»
(1)
تعلق قلبه به وحده توكلًا وتفويضًا واعتمادًا واستعانة واستغاثة، وانقطع عن التعلق بالمخاليق ولو كان على يدهم رزقه، فإذا شكرهم لإعطائهم شكرهم شُكر الموقن بأن الله هو الذي بسط له الرزق وأمره بشكر من أحسن إليه، وإذا ذمهم أو مقتهم لمنعهم الرزق فإنما ذلك لكونهم أساؤا إليه مع يقينه أن الله هو الباسط القابض.
ثم إن هذا التوكل لا يعني عدم الأخذ بالأسباب؛ لأن الله عز وجل قدر الأشياء وجعل لها أسبابًا متى قام العباد بها حصلت لهم.
قال الشيخ السعدي رحمه الله في هذا الاسم الكريم وأمثاله: «وكما أنه هو المنفرد بهذه الأمور كلها جارية تحت أقداره، فإن الله جعل لرفعه وعطائه وإكرامه أسبابًا، ولضد ذلك أسبابًا من قام بها ترتبت عليه مسبباتها، وكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيَسَّرون لعمل أهل الشقاوة، وهذا يوجب للعبد القيام بتوحيد الله، والاعتماد على ربه في حصول ما يحب، ويجتهد في فعل الأسباب النافعة، فإنها محل حكمة الله»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
الحق الواضح المبين، للسعدي (ص: 90).
وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين التقدير والأخذ بالأسباب في قوله: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»
(1)
، فبسط الرزق والعمر بيد الله وتقديره، وصلة الرحم سبب من العبد متى ما قام به حصل له الموعود بإذن الله.
وكذلك كون الله هو المسعر «إِنَّ الله هُوَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الرَّازِقُ»
(2)
لا يمنع أن يكون هناك أسباب، إذا قام بها العباد اندفع عنهم الغلاء وحصل لهم الرخص، كما قيل لأحد الفضلاء:«لقد غلت الأسعار! فقال: أرخصوها بالترك»
(3)
.
وهكذا في سائر الأمور، فإن سنة الله وحكمته اقتضت ربط الأسباب بمسباتها، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
الأثر السادس: اليقين بأن القبض والبسط لا يدل على المحبة والبغض:
إذا علم العبد اسم الله (القابض الباسط) وما فيه من التفاوت بين الخلق في البسط والقبض، لا بد أن يعلم أن البسط من الدنيا ليس دليلًا على الرضا والمحبة، وليس القبض منها دليلًا على السخط والبغض، بل ربما كان العكس، فيقبض الله على أوليائه رحمة ولطفًا بهم ومنحة عاجلة توصلهم للنعيم المقيم، كما قال سُبْحَانَهُ:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]، ويوسع ويبسط على أعدائه إملاءً لهم
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
ينظر: إحياء علوم الدين (3/ 87).
واستدراجًا، قال تَعَالَى:{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]، وقال:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56]، فظنوا أن زيادتهم بالأموال والأولاد دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة، وأن هذا امتداد لخير الآخرة ومقدمة له، كما قال سُبْحَانَهُ عنهم:{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35] فرد الله عليهم ظنهم الخاطئ بقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ: 36 - 37]، فبين أن بسط الرزق وتضيقه ليس دليلًا على ما قالوا، بل هو تحت مشيئة الله، إن شاء بسط وإن شاء ضيق، وفق ما تقتضيه حكمته
(1)
.
وقد أشار الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لهذا المعنى، حينما قدم له الطعام وكان صائمًا، فخشي من بسط الدنيا وفتحها عليه، فقال:«قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ، وَأُرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ، أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ»
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 681).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1275).
الأثر السابع: الصبر والشكر فيما يصيب العبد من قبض وبسط:
إذا عُلم ما سبق من أن القبض والبسط ليس دليلًا على الكرامة على الله، ولا الإهانة، كما قال سُبْحَانَهُ:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 17]، فليعم أن الله قدره ابتلاء وامتحان يمتحن به العباد؛ ليرى من يقوم له بالشكر والصبر فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل، ومن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل، كما فعل بقارون، حينما بطر وأشر وكفر نعمة الله عليه {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص: 81]، وكما فعل بصاحب الجنة الذي بُسط له في رزقه، فكان له جنتان من الكروم محفوفتان بسياج من النخيل، تتوسطهما الزروع، ويتفجر من بينهما الأنهار، فأذهله رزقه حتى نسي مُسديه وباسطه، فكفر به وجحد قيام الساعة، فأتاه العذاب الأليم {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف: 42 - 43]
(1)
.
وإذا استشعر العبد هذا وكان له على بال؛ سعى إلى ما يرضي الله في الحالين، فإن قبض عنه وضيق عليه رضي وصبر، وتيقن أن هذا قضاء قُدر عليه قبل أن يخلق، ومع ذلك لم ييأس من رحمة الله وفتحه وتبديل حاله من قبض لبسط، ومن منع لعطاء، ومن عسر ليسر {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6] فيسعى لدفع هذا التضييق بالأسباب المشروعة مع تعلق
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 924).
قلبه بالرَّازق؛ إذ هو مسبب الأسباب وهو القابض الباسط على الحقيقة، حيث لا باسط لما قبض ولا قابض لما بسط، قال سُبْحَانَهُ:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2]،
واللجوء إليه بالتضرع والدعاء، كما قال صلى الله عيله وسلم داعيًا ربه:«اللهمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللهمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ»
(1)
.
وإن بسط له وفتح عليه لم يستعمل ذلك في معصية الله، بل شكره بقلبه اعترافًا واقرارًا بنعمته، وبلسانه حمدًا وتحدثًا بنعمته، وبجوارحه عملًا بها في طاعته، وسعيًا في بذل شيء منها للخلق والإحسان إليهم فيها، قال تَعَالَى:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].
وبهذا يكون المؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»
(2)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2999).
الأثر الثامن: محبة الله القابض الباسط:
إذا تيقن العبد أن البسط والقبض بيد الله عز وجل؛ تولاه بنفسه، ولم يجعل لمخلوق فيه يدًا، فما من نعمة بسطت له إلا بفضله، وما من نعمة قبضت عنه إلا لحكمة وخير أريد به؛ حمله ذلك اليقين على محبته وتوليه، والتجرد إليه إخلاصًا وإقبالًا.
فاللهم يا قابض يا باسط، ابسط علينا من بركاتك
ورحمتك، وفضلك ورزقك.
المُحْسِن جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الحسن: نقيض القبح، والجمع محاسن، على غير قياس
…
والحاسن: القمر، وحسَّنت الشئ تحسينًا: زيَّنته، وأحسنت إليه وبه، وهو يحسن الشئ، أي: يعمله، ويستحسنه: يعده حسنًا، والحسنة: خلاف السيئة، والمحاسن: خلاف المساوي، والحسنى: خلاف السوأى»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «(حسن) الحاء والسين والنون أصل واحد، فالحُسن ضِدُّ القبح، يقال: رجل حسن، وامرَأة حسناء وحسانة
…
والمحاسن من الإنسان وغيره: ضدُّ المساوي
…
»
(2)
.
ورود اسم الله (المحسن) في القرآن الكريم:
لم يرد اسم الله (المحسن) في القرآن الكريم.
ورود اسم الله (المحسن) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (المحسن) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
1 -
ما جاء عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا حَكَمْتُمْ فَاعْدِلُوا، وَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا، فَإِنَّ اللهَ عز وجل مُحْسِنٌ يُحِبُّ الْإِحْسَانَ»
(3)
.
(1)
الصحاح، (6/ 377).
(2)
معجم مقاييس اللغة (2/ 57).
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(2999)، وابن أبي عاصم في الديات (ص 52)، =
= حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(494).
2 -
ماجاء عن شداد بن أوس، قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين قال: «إِنَّ اللهَ عز وجل مُحْسِنٌ يُحِبُّ الْإِحْسَانَ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، ثُمَّ لِيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»
(1)
.
ثبوت اسم الله (المحسن) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسم الله (المحسن) في حق الله تَعَالَى:
ابن القيم رحمه الله: في قوله: «وتعبده باسمه البر، اللطيف، المحسن»
(2)
.
ابن عثيمين رحمه الله: «فقد عده من الأسماء المثبتة بالسنة النبوية»
(3)
.
معنى اسم الله (المحسن) في حقه سُبْحَانَهُ:
يدور معنى اسم الله المحسن في حق الله على معنيين:
1 -
الإتقان والإحكام.
2 -
الإنعام والجود والعطاء.
وحول هذه المعاني تدور أقوال العلماء:
من الأقوال في المعنى الأول:
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تَعَالَى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]: «أحكم خلقها»
(4)
.
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير، رقم الحديث:(7121)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1824).
(2)
مدارج السالكين (2/ 270)
(3)
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص: 15).
(4)
تفسير الطبري (20/ 170).
قال مجاهد رحمه الله: «أتقن كل شيء خلقه»
(1)
.
قال الطبري رحمه الله في قوله سُبْحَانَهُ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]: «وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب على قراءة من قرأه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] بفتح اللام قول من قال: معناه أحكم وأتقن
…
»
(2)
.
قال ابن كثير رحمه الله فيها: «إنه الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها»
(3)
.
من الأقوال في المعنى الثاني:
قال المناوي رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ عز وجل مُحْسِنٌ»
(4)
، «أي: الإحسان له وصف لازم، لا يخلو موجود عن إحسانه طَرْفة عين، فلا بد لكل مُكوَّن من إحسانه إليه بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد»
(5)
.
اقتران اسم الله (المحسن) بأسمائه الأخرى سُبْحَانَهُ في القرآن الكريم:
لم يقترن اسم الله (المحسن) بأي اسم من أسماء الله الحسنى.
(1)
المرجع السابق (20/ 171).
(2)
المرجع السابق (20/ 171).
(3)
تفسير ابن كثير (6/ 360).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
فيض القدير (2/ 264).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (المحسن):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (المحسن) من الصفات:
لما كان لله عز وجل كمال الحُسن في الأسماء والصفات {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] كان كذلك في الأفعال؛ فهو سُبْحَانَهُ المحسن في فعله كله إيجادًا وإنعامًا، وإمدادًا وحكمًا، وهداية وجزاء.
وإحسانه تبارك وتعالى عام وخاص:
فأما العام
(1)
: فعم إحسانه الخلق أجمع، وغمرهم بجوده وفضله، فلا يخلو موجود من إحسان المحسن طرفة عين، بل لا قيم لهم إلا بإحسانه وإنعامه.
أحسن المحسن إلى الخلق بالإيجاد من العدم، قال تَعَالَى على وجه الامتنان:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1]، ثم أحسن إليهم بأن أوجدهم على وجه محمود في غاية الإحكام والإتقان، فلا يرى في خلقهم خلل، ولا نقص، ولا فطور، قال تَعَالَى:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]، وقال سُبْحَانَهُ:{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2]، أي:«خلق الخليقة، وسوى كل مخلوق في أحسن الهيئات»
(2)
، فأبدع خلقه، وأحكم صنعه، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات، وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته، وهيئته، وجعله وافيًا بالمقصود من خلقه، «فصلابة الأرض مثلًا للسير عليها، ورقة الهواء؛
(1)
ينظر: الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، للقرطبي (1/ 512).
(2)
تفسير ابن كثير (8/ 379).
ليسهل انتشاقه للتنفس، وتوجه لهيب النار إلى فوق؛ لأنها لو كانت مثل الماء تلتهب يمينًا وشمالًا لكثرت الحرائق، فأما الهواء فلا يقبل الاحتراق»
(1)
، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
وأحسنَ المحسنُ خلقَ الإنسان، فخلقه في أحسن تقويم، حتى صار في أكمل الصور، وأبهى المناظر، وأحسن الأشكال، وأجمل الهيئات، قال تَعَالَى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن: 3]، وقال سُبْحَانَهُ:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64].
(2)
.
ثم أحسنَ المحسنُ إلى خلقه بعموم نعمه التي لا تبلغ الأوهام تصورها، ولا تطمع العقول في إحصائها وعدها
(3)
، قال تَعَالَى:{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]، وقال سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا
(1)
التحرير والتنوير (21/ 215).
(2)
تفسير السعدي (ص: 741).
(3)
ينظر: طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 470).
إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]، وأحسن إليهم برزقه الواسع الظاهر والباطن، وبرزقه الطيب من المأكل، والمشرب، والمنكح، والملبس، والمنظر، والمسمع، ونحو ذلك، قال تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر: 64]، فذكر إحسانه بخلق الدار، والسكان، والأرزاق، تبارك الله رب العالمين
(1)
.
وأحسن إليهم بالهداية إلى تحصيل المنافع والمصالح، ودفع المضار والمخاطر، حتى أعطى الحيوان البهيم منهم القدرة على ذلك، قال تَعَالَى:{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].
ثم أحسن إليهم المحسنُ غايةَ الإحسان وأعظمه، بأن عرفهم بمعبودهم الحق بما أودع في فطرهم، وبما أرسل إليهم من الرسل، وأنزل من الكتب، ولم يتركهم يتخبطون في معرفته والزلفى إليه.
وأحسن إليهم بما حكم وقضى من الأقدار التي لا تخرج عن الحكمة والمصلحة والعدل والفضل والرحمة، قال تَعَالَى:{فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23]، وأحسن إليهم بما حكم في الشرائع والأديان التي بُنيت على علم، وعدل، ورحمة حتى صارت في غاية الحسن والبهاء والكمال، قال سُبْحَانَهُ:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]
(2)
.
(1)
ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 156)، تفسير السعدي (ص: 741).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 131)، تفسير السعدي (ص: 235).
ثم زاد المحسنُ أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم إحسانًا وفضلًا، بأن شرع لها أحسن الأديان دين الإسلام، قال تَعَالَى:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]، قال الطبري رحمه الله: «يعنى تَعَالَى ذكره بـ (الصبغة: صبغة الإسلام)
(1)
، وكمَّله لهم غاية الإكمال، قال سُبْحَانَهُ:{أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وأنزل لهم أحسن كتاب، وأكمل حديث، قال سُبْحَانَهُ:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] فألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها، ومعانيه أجلُّ المعاني وأعظمها، وقصصه أصدق القصص وأحقُّها، قال تَعَالَى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، فكان بذلك متشابهًا في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف، بوجه من الوجوه
(2)
.
وأما إحسانه الخاص:
فإحسان المحسن سُبْحَانَهُ إلى أوليائه وأهل طاعته، فأحسن إليهم أعظم الإحسان بأن هداهم للدين الحق، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، ويسرهم لليسرى وجنبهم العسرى، ثم أحسن إليهم بما علَّمهم من دينه وشرعه، ورزقهم العمل به، فوفقهم للطاعات ودفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبين فعلها، وأحسن إليهم بعصمته لهم من الذنوب والآثام، فما من قول طاعة ولا فعل طاعة ولا مسابقة للخيرات إلا والله المحسن به على العبد، وما من حرام ولا مكروه ترك ولا مشتبه تورع عنه إلا والله المحسن به
(1)
تفسير الطبري (3/ 117).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 393، 722).
على العبد، لا بحوله وقوته، قال سُبْحَانَهُ:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8]، وأحسن إليهم بأن وفقهم لنشر العلم وتبليغه، وأحسن إليهم بالثبات على الحق إلى الممات
(1)
.
وأحسن إليهم المحسن بمعيته الخاصة، ونصرته، وإجابته لدعواتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»
(2)
.
وأحسن إليهم المحسن بما يجازيهم من حسن الثواب على فعل الخيرات؛ فيجازيهم بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، بل يحسن إليهم بما يعطيهم من الأجور التي لا تبلغها أعمالهم، بل ولا تبلغه أمنيتهم، فيعطيهم من الأجر بلا عدٍّ ولا كيل، قال تَعَالَى:{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 38][النحل: 97]، وقال سُبْحَانَهُ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 39)، فتح الرحيم الملك العلام، للسعدي (ص: 48).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6502).
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]
(1)
.
ويحسن إليهم بما يجازيهم من الجنة الكاملة في حسنها ونعيمها، قال تَعَالَى:{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} [الرعد: 18]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]، بل يزيدهم إحسانًا بما ينعم عليهم من لذة النظر إلى وجهه الكريم، وسماع كلامه العظيم، والفوز برضاه والبهجة بقربه {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26]
(2)
.
ومن صور هذا الإحسان الخاص: إحسانه تبارك وتعالى لنبيه ورسوله يوسف عليه السلام، الذي قال عن ربه:{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} [يوسف: 100]، فأحسن له الإحسان الجسيم من أوجه عدة، منها
(3)
:
1 -
أن صرف إخوته عن قتله إلى إلقائه في غيابات الجب، قال تَعَالَى:{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10].
2 -
أن أوحى إليه في الموقف العصيب، حينما ألقاه إخوته في الجُبِّ، أن العاقبة له، وأنه سيخبر إخوته بفعلهم هذا، قال تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 449).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 362).
(3)
ينظر: تفسير سورة يوسف، للسعدي في تفسيره.
بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15]، وفي هذا بشارة له بأنه سينجو مما وقع فيه، وأن الله سيجمعه بأهله وإخوته على وجه العز والتمكين له في الأرض.
3 -
أنْ حفِظه في الجُبِّ من الهلاك، مع أنه مظنة لذلك.
4 -
أن قدَّر شراء عزيز مصر له دون غيره، وعزمه على إكرامه، قال تَعَالَى:{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ} [يوسف: 21]، وفي هذا مقدمة لتمكينه في الأرض من هذا الطريق.
5 -
أن آتاه النبوة والرسالة وتأويل الرؤيا، قال تَعَالَى:{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 21 - 22].
6 -
أن صرف عنه الوقوع في السوء والفحشاء، مع دعوة امرأة العزيز لذلك، وتوافر الدواعي للإجابة، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
7 -
أن أظهر براءته من الفاحشة، بإنطاق شاهد من أهل بيت المرأة.
8 -
أن صرف عنه كيد النسوة بإجابته لدعوته، حين قال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 33 - 35].
9 -
أن جعله موحدًا مخلصًا العبودية له تبارك وتعالى، وهذا أعظم الإحسان والفضل، قال تَعَالَى حكاية عن قول يوسف:{إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 37 - 38].
10 -
أن رفع شأنه وأعلى ذكره بما قدر من رؤيا المك وتعبيرها، مع عجز القوم عن ذلك.
11 -
أن أخرجه من السجن وأظهر براءته، بقول النسوة لما سألهم الملك:{حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51].
12 -
أن مكَّن ليوسف في الأرض، وجعله على خزائن الأرض واليًا، قال تَعَالَى:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 55، 56].
13 -
أن قدر إتيان إخوته إليه محتاجين، ثم قدر له إبقاء أخيه عنده، قال تَعَالَى:{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
14 -
أن وفقه للإحسان لإخوته بالعفو العظيم والصفح الجميل: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].
15 -
أن أكرمه وأقر عينه بأبويه وإخوته وإتيانهم من البادية إليه، قال تَعَالَى:{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100].
16 -
أن حقق رؤياه التي رأى في الصغر، فأسجد له أبويه وإخوته على وجه الإكرام والتبجيل، قال تَعَالَى:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100].
17 -
أن وفقه لشكر إحسان المحسن إليه، قال تَعَالَى عن قول يوسف:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
18 -
أن أبقى ذكره في العالمين، وجعله قصته أحسن القصص، قال تَعَالَى في مطلع قصة يوسف:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3].
19 -
أن جمع له مع الإحسان في الدنيا الإحسان في الآخرة، الذي به تمام الإحسان وكماله، قال تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 56 - 57].
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (المحسن) على التوحيد:
من تأمل في اسم الله (المحسن) وما فيه من الإحسان إلى الخلق بخلقهم، وتربيتهم بما أدرَّ عليهم من النعم الظاهرة والباطنة؛ علم أن من كان كذلك هو الإله الذي لا تنبغي الألوهية إلا له، ولا تصلح الربوبية لغيره، قال تَعَالَى:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64 - 65]، وقال سُبْحَانَهُ:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات: 125]، فكيف يسوَّى بين الله المحسن جل جلاله وبين صنم لا يضر، ولا ينفع، ولا يخلق، ولا يرزق، بل لا يأكل ولا يتكلم؟ فما هذا إلا من أعظم الضلال والسفه والغي؟!
(1)
.
وكما أن اسم الله (المحسن) دال على الربوبية والألوهية، فكذا هو دال على الأسماء والصفات؛ إذ يدل على اسم الله الخالق، العليم، الرزاق، الرحمن، الرحيم، الكريم، الحليم، إلى غير ذلك من أسمائه سُبْحَانَهُ وما فيها من صفات.
الأثر الثالث: محبة الله المحسن:
إذا تأمل العبد في اسم الله (المحسن) ثم نظر في آثاره عليه، وكيف أنه أحسن إليه بإخرجه من العدم إلى الوجود، وأحسن إليه بكمال الصورة، واعتدال الخلقة وفصاحة اللسان، وسلامة الهيئة من التشوه ونقص الأعضاء،
(1)
ينظر: تفسير الطبري (21/ 410)، وتفسير السعدي (ص: 707).
حتى خرج صحيحًا سليمًا عاقلًا، لا مجنونًا ولا معتوهًا ولا سفيهًا، وأحسن إليه بما رزقه من الطعام والشراب واللباس وسعة المال حتى لا يحتاج معه إلى أحد من الخلق، وأحسن إليه بأن علمه بعد أن كان جاهلًا {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، وأحسن إليه بالأهل والولد والعشيرة الذين يأوي إليهم ويأنس بهم ويتقوى بقربهم، وأحسن إليه بالأمن والاستقرار، إلى غير ذلك من آلائه وإحسانه الذي لا ينقطع مع كل شهيق وزفير
(1)
.
فإذا تأمل ذلك العبد امتلأ قلبه محبة ومودة له تبارك وتعالى؛ «فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن إليها، فأيُّ إحسان أعظم من هذا الإحسان الذي يتعذر إحصاء أجناسه فضلًا عن أنواعه، فضلًا عن أفراده، وكلُّ نعمة منه تطلب من العباد أن تمتلئ قلوبهم من مودته وحمده وشكره والثناء عليه»
(2)
.
الأثر الرابع: الفرح بشريعة المحسن والتمسك بها:
كان من إحسان المحسن عز وجل إلى خلقه أن تولى بنفسه الحكم والفصل بينهم بما أنزل من الأحكام والشرائع، ولم يتركهم هملًا يحكمون بأهوائهم وآرائهم وعقولهم القاصرة، بل تكفل بذلك، فحكم عن رحمة وحكمة وعلم حتى صار حكمه أكمل الأحكام، وشرعه أتم الشرائع وأحسنها، متميزًا عن القوانين الوضعية والديانات المحرفة، قال تَعَالَى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
(1)
ينظر: الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، للقرطبي (1/ 512).
(2)
فتح الرحيم الملك العلام (1/ 42).
ومن أوجه كمال وحسن حكمه وتشريعه
(1)
:
1 -
أنه رباني؛ فالله عز وجل هو الذي خلق الخلق وهو الأعلم بما يصلحهم وبما يفسدهم، فشرع لهم ما يلائمهم ويناسبهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
2 -
أنه شامل لجميع جوانب الحياة الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأخلاقية، والسياسية
…
إلخ، قال تَعَالَى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
3 -
أنه عام شامل للثقلين ولكل زمان ومكان، فلا يختص بشعب دون شعب ولا مجتمع دون مجتمع، قال تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال سُبْحَانَهُ:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].
4 -
أنه باق دائم؛ إذ تكفل الله بحفظه إلى أن يرث الأرض ومن عليها، قال تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
5 -
أنه ثابت مَرِن؛ إذ حوت أحكامه أمورًا تتسم بالثبات، ولا تقبل التغيير أبدًا، وأمورًا أخرى تقبل التغيير بما يتمشى مع المجتمعات والأعراف، وتغير الأحوال والبيئات.
6 -
أنه وسط، بعيدًا عن الإفراط والتفريط في جميع جوانبه، قال تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
(1)
ينظر: مدخل إلى دراسة النظم الإسلامية، لإسماعيل علي محمد، (ص: 142، وما بعدها)، والنظم الإسلامية، لعبد الرحمن الضحياني (ص: 43 - 45).
7 -
أنه مراعٍ للطبيعة الإنسانية وما فيها من حاجات، ورغبات، وضعف، ونسيان، ونحو ذلك.
8 -
أنه قائم على العدل بين العباد، فلا فرق في أحكامها بين العربي والأعجمي، ولا الغني والفقير، ولا الشريف والوضيع، قال تَعَالَى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، وقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»
(1)
.
9 -
أنه جاء بالحرية والإكرام للبشرية؛ إذ يحررهم من التحاكم لأمثالهم من البشر والخضوع إليهم، وينقلهم إلى التحاكم لحكم رب البشر والخضوع إليه الذي هو مقتضى فطرهم وحاجتهم النفسية.
10 -
أنه جمع بين الجزاء الدنيوي والأخروي، ولم يقتصر على الجزاء الدنيوي كما في أحكام البشر، قال تَعَالَى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].
وبهذا كملت وكمل حسنها، قال تَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
ثم إن المؤمن إذا تيقن هذا واستشعره؛ كان ذلك داعيًا له للفرح والغبطة بشرع الله وحكمه، وداعيًا له- أيضًا- لتحكيمه والتمسك به والدعوة إليه،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3475)، ومسلم، رقم الحديث:(1688).
والسعي في نشره، لتهنأ البشرية بهذا الإحسان العظيم من الله المحسن جل في علاه؛ وذلك بالعيش في ظلال الشريعة الحسنى المتقنة التي كفلت الخير والمصلحة للبشرية في الدارين، قال تَعَالَى:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]، وقال:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
الأثر الخامس: اتصاف العبد بالإحسان:
الله سُبْحَانَهُ (المحسن) يحب من عباده أن يتقربوا له بمقتضى معاني أسمائه، فهو الكريم يحب الكرماء، وهو الرحمن يحب الرحماء، وهو المحسن يحب المحسنين، قال تَعَالَى:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].
والإحسان أعلى مراتب الدين وأعظمها، فإذا كان الإسلام هو الأركان الظاهرة، والإيمان هو الأركان الباطنة، فإن الإحسان هو تحسين الظاهر والباطن
(1)
.
وفي الملحق الآتي ما يعين- بإذن الله- على تحقيق هذه الخلة العظيمة والمنزلة الكريمة.
(1)
ينظر: معارج القبول بشرح سلم الوصول، للحكمي (3/ 998).
في موضوع الإحسان سنتطرق للمسائل التالية:
أولًا: تعريف الإحسان:
ينقسم الإحسان إلى قسمين: إحسان في عبادة الله، وإحسان إلى عباد الله.
فأما الإحسان في عبادة الله:
فهو كما عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
(1)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وهو الجد في القيام بحقوق الله على وجه النصح، والتكميل لها»
(2)
.
والإحسان في عبادة الله على مرتبتين
(3)
:
1 -
مرتبية المشاهدة التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»
(4)
، وهي: دوام استحضار قرب الله من عبده ومعيته حتى
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(50)، ومسلم، رقم الحديث:(8).
(2)
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، للسعدي (ص: 141).
(3)
ينظر: شرح الأربعين النووية، لابن عثيمين (ص: 53)، وشرح الأربعين النووية، لصالح آل الشيخ (ص: 73 - 75).
(4)
سبق تخريجه.
كأنه يراه، وهذه المرتبة أعلى المرتبتين.
2 -
مرتبة المراقبة التي أشار لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
(1)
، وهي: استحضار دوام نظر الله للعبد، واطلاعه على سره وعلانيته وباطنه وظاهره.
وأما الإحسان إلى عباد الله:
فهو: «بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون»
(2)
.
قال الراغب رحمه الله: «والإحسان يقال على وجهين: أحدهما: الإنعام على الغير، يقال: أحسن إلى فلان.
والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علم علمًا حسنًا، أو عمل عملًا حسنًا. والإحسان فوق العدل، وذلك أن العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ما له.
والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه، ويأخذ أقل مما له»
(3)
.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «بذل الخير لهم من مال، أو جاه، أو غير ذلك»
(4)
.
والإحسان إلى الخلق على درجتين:
1 -
إحسان واجب، وهو: القيام بما يجب للخلق من حقوق، كالقيام ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإنصاف في جميع المعاملات
(5)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
المرجع السابق (ص: 142).
(3)
المفردات في غريب القرآن (ص 237).
(4)
شرح الأربعين النووية (ص: 53).
(5)
ينظر: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار، للسعدي (ص: 141 - 142).
2 -
(1)
.
قال ابن رجب رحمه الله: «الأمر بالإحسان تارة يكون للوجوب كالإحسان إلى الوالدين والأرحام، بمقدار ما يحصل به البر والصلة والإحسان إلى الضيف بقدر ما يحصل به قراه على ما سبق ذكره، وتارة يكون للندب كصدقة التطوع ونحوها»
(2)
.
ثالثًا: فضائل الإحسان:
للإحسان فضائل عديدة، ومنافع عظيمة، منها:
أن الله عز وجل ذكره في مواضع عديدة من كتابه بصور مختلفة، فتارة يأتي به مقرونًا بالإسلام، كما في قوله سُبْحَانَهُ:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، وتارة مقرونًا بالإيمان والعمل الصالح، كما في قوله سُبْحَانَهُ:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]، وتارة مقرونًا بالتقوى، كما في قوله:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، وتارة مفردًا كقوله تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]
(3)
.
(1)
المرجع السابق (ص: 142).
(2)
جامع العلوم والحكم (1/ 381).
(3)
ينظر: المرجع السابق (1/ 125).
وهذا كله دال على فضله وعظيم شأنه؛ فإن الله عز وجل عظيم ولا يأمر إلا بعظيم، فإذا أمر بالشيء مرة واحدة كان عظيمًا، فكيف إذا كرره وأبداه وأعاده!!.
أن الله عز وجل أمر به في كل شيء، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
(1)
.
قال ابن رجب رحمه الله: «وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال، لكن إحسان كل شيء بحسبه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة: الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب، وأما الإحسان فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب.
والإحسان في ترك الحرمات: الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها، كما قال تَعَالَى:{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120][الأنعام: 120]، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب»
(2)
.
أن الله عز وجل جعل امتحان العباد على حسن العمل، فقال:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، وقال سُبْحَانَهُ:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].
أن الله عز وجل جعل هداية كتابه ورحمته وبشارته لأهل الإحسان، فقال:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 2 - 3]،
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1955).
(2)
جامع العلوم والحكم (1/ 381).
وقال سُبْحَانَهُ: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف: 12].
أن الله عز وجل يحب أهله- أهل الإحسان-، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وقال سُبْحَانَهُ:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
[آل عمران: 134].
أن الله عز وجل أعلن البشرى لأهل الإحسان، فقال:{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].
أن الله عز وجل وعد أهل الإحسان بأنه يجازيهم بالإحسان كما أحسنوا، قال تَعَالَى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
أن الله عز وجل يتقبل من أهل الإحسان، ويحفظ عليهم عملهم، ويشكر سعيهم، قال تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]، وقال:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120]
(1)
.
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 391).
أن الله عز وجل وعد أهل الإحسان بالجزاء الحسن في العاجل والآجل، قال تَعَالَى:{قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر: 10]، وقال سُبْحَانَهُ:{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148]، وقال:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30]، ووعدهم بالزيادة فيه، قال سُبْحَانَهُ:{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 161]
(1)
.
أن الله عز وجل يكون مع أهل الإحسان بالهداية والتوفيق والعون والنصر، قال تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
(2)
.
أن الله عز وجل يهديهم إلى الطرق الموصلة إليه، قال تَعَالَى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
(3)
.
أن الله عز وجل يؤتي أهل الإحسان الحكم والعلم، قال تَعَالَى عن نبيه يوسف عليه السلام:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]، ونبيه موسى عليه السلام:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14].
(1)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 53).
(2)
ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 615)، وتفسير السعدي (646).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 636).
أن الله عز وجل يجازي أهل الإحسان بصلاح ذريتهم بحسب إحسانهم، قال تَعَالَى:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام: 84]
(1)
.
أن الله عز وجل يمكِّن لأهله في الأرض، قال تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56].
أنَّ الله عز وجل ينشر الثناء على أهل الإحسان، ويرفع ذكرهم بحسب إحسانهم إلى يوم الدين، قال تَعَالَى:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 78 - 80]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 108 - 110]، وكذا قال سُبْحَانَهُ في موسى وهارون وآل ياسين
(2)
.
أن الله عز وجل جعل الإحسان سببًا لانشراح الصدر، قال ابن القيم رحمه الله في أسباب انشراح الصدر: «ومنها: الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن وأنواع الإحسان، فإن الكريمَ المحسنَ أشرحُ الناسِ صدرًا، وأطيبُهُم نفسًا، وأنعمُهُم قلبًا، والبخيلُ الذي ليس فيه إحسانٌ أضيقُ الناسِ صدرًا، وأنكَدُهم عيشًا وأَعْظَمُهُم همًّا وغمًّا.
(1)
ينظر: المرجع السابق (ص: 263).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 705).
وقد ضَرَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مثلًا للبخيل والمتصدق، أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:(مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا فَكُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَتِهِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تُعَفِّيَ أَثَرَهُ وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ انْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا وَتَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ فَسَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فَيَجْتَهِدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلَا تَتَّسِعُ)
(1)
؛ فهذا مثل انشراح صدر المؤمن المتصدق وانفساح قلبه، ومثل صدر البخيل وانحصار قلبه»
(2)
.
أن الله عز وجل جعل اللوم ساقطًا عن أهل الإحسان إذا فعلوا ما يقدرون عليه، قال تَعَالَى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91]
(3)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «ويستدل بهذه الآية على قاعدة، وهي: أن من أحسن على غيره، في نفسه أو في ماله، ونحو ذلك، ثم ترتب على إحسانه نقص أو تلف، أنه غير ضامن لأنه محسن، ولا سبيل على المحسنين، كما أنه يدل على أن غير المحسن- وهو المسيء- كالمفرط، أن عليه الضمان»
(4)
.
أن الله عز وجل جعل رحمته قريبة من أهل الإحسان، قال تَعَالَى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2917)، ومسلم، رقم الحديث:(1021).
(2)
زاد المعاد (2/ 22).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 348).
(4)
تفسير السعدي (ص: 348).
قال الشيخ السعدي رحمه الله: «فكلما كان العبد أكثر إحسانًا؛ كان أقرب إلى رحمة ربه، وكان ربه قريبًا منه برحمته، وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى»
(1)
.
أن الله عز وجل جعل الإحسان سببًا لتكفر السيئات، قال تَعَالَى:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 34، 35].
أن الله عز وجل وعد أهل الإحسان بالأجر العظيم، قال تَعَالَى لزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29].
أن الله عز وجل وعد أهل الإحسان بالجنة، قال تَعَالَى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات: 41 - 44]، وقال سُبْحَانَهُ:{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85]، وقال:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 34].
أن الله عز وجل وعد أهل الإحسان بالنظر إلى وجهه الكريم، قال تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26]، والزيادة: النظر لوجه الله الكريم، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(1)
المرجع السابق (ص: 292).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(181).
قال ابن رجب رحمه الله: «وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك: النظر إلى الله عيانًا في الآخرة.
وعكس هذا ما أخبر الله به عن جزاء الكفار في الآخرة: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، وجعل ذلك جزاء لحالهم في الدنيا، وهو تراكم الران على قلوبهم، حتى حُجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم على ذلك أن حُجبوا عن رؤيته في الآخرة»
(1)
.
ثالثًا: تحقيق مرتبة الإحسان:
تحقيق الإحسان إنما يكون بالقيام بقسميه: الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى عباد الله.
وتحقيق الإحسان في عبادة الله إنما يكون بأمور، منها:
1 -
إخلاص العبودية لله عز وجل
(2)
.
2 -
المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أداء العبادة
(3)
.
قال تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «أخلصه وأصوبه»
(4)
، وقال سُبْحَانَهُ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 125).
(2)
ينظر: شرح الأربعين النووية، لابن عثيمين (ص: 53).
(3)
ينظر: المرجع السابق.
(4)
تفسير البغوي (5/ 124).
وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، قال ابن كثير رحمه الله: «وقال سعيد بن جبير: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} أخلص، {وَجْهَهُ} قال: دينه، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن للعمل المتقبل شرطين، أحدهما: أن يكون خالصًا لله وحده، والآخر: أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة، فمتى كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يتقبل؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»
(1)
(2)
.
3 -
بذل الجهد في القيام بالعبادة وتحسينها وإتمامها وإكمالها
(3)
.
وقد وصف الله عز وجل أهل الإحسان بجملة من العبادات، منها:
ب- التقوى، قال تَعَالَى عن إخوة يوسف:{قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، وقال سُبْحَانَهُ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
(1)
أخرجه مسلم (1718).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 385).
(3)
ينظر: جامع العلوم والحكم (1/ 126)، وتفسير السعدي (ص: 292).
وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 31 - 32]، واجتناب الكبائر من التقوى.
ج- الصبر بأنواعه، كما في قول يوسف السابق:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، وكما في قول تَعَالَى:{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115]، لا سيما الصبر في جهاد الأعداء، قال تَعَالَى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
[آل عمران: 146 - 148].
د-اليقين بالآخرة وإقام الصلاة، قال تَعَالَى:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان: 2 - 4]، وقال سُبْحَانَهُ:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 15 - 19].
هـ- الإنفاق في سبيل الله كما في الآيات السابقة، وكما في قول الله تَعَالَى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، وقوله سُبْحَانَهُ:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
و-الدعاء لله عز وجل بقلب مخلص خائف طامع، قال تَعَالَى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55، 56].
ي- الإحسان إلى الخلق الذي هو القسم الثاني من أقسام الإحسان، قال تَعَالَى:{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، وقال:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128].
وأما تحقيق الإحسان إلى عباد الله، فيكون: بالقيام بحقوقهم وبذل الخير لهم، ودفع ما يكرهون، سواء كان ذلك قليلًا أو كثيرًا.
والإحسان للخلق عام لا يخص بصورة معيّنة، ولا بمخلوق دون مخلوق، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الله كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
(1)
.
ومن صور الإحسان للخلق
(2)
:
أ-الإحسان إلى الوالدين، قال تَعَالَى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83]، وقال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
وهذا شامل للإحسان إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والدعاء
(1)
سبق تخريجه.
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 178).
الصادق، وبالفعل الجميل من طاعة أمرهما واجتناب نهيهما، والإنفاق عليهما، وإكرام من له تعلُّق بهما، ونحو ذلك.
وقد أشار الله لهذا الإحسان القولي والفعلي، لا سيما حال الكبر في قوله:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»
(1)
.
ب- إحسان المرأة لزوجها، والرجل لزوجته: قال تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]، قال علي وابن مسعود رضي الله عنهما:«المرأة»
(2)
، وقال سُبْحَانَهُ:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وذلك بالصحبة الجميلة، وحسن المعاملة، وبذل النفقة والكسوة ونحوهم، وكف الأذى حتى مع الكراهة والطلاق والنزاع، قال تَعَالَى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، وقال سُبْحَانَهُ:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، وعدم نسيان الفضل وكفران العشير، قال تَعَالَى:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، وقال ابن
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2551).
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 300).
عباس رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ»
(1)
(2)
.
ج - الإحسان إلى ذوي القربي والأرحام، قال تَعَالَى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36]، وقال سُبْحَانَهُ:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] من صلته وبره وإكرامه بالقول والفعل، والعفو عن زلاته والمسامحة عن هفواته، والنفقة عليه والصدقة على المحتاج، كما قال صلى الله عليه وسلم:«الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صِلَةٌ وَصَدَقَةٌ»
(3)
إلى غير ذلك من أوجه الإحسان
(4)
.
د- الإحسان إلى الجار، قال تَعَالَى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ
والإحسان إلى الجار راجع إلى العرف، ومنه: تعاهده بالهدية والصدقة والدعوة، وملاطفته بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل، وقد حذر
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(29).
(2)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 172).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(16488)، والترمذي، رقم الحديث:(658)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(3858).
(4)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 642).
النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله: «وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الْجَارُ؛ جَارٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، قَالُو: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا بَوَائِقُهُ؟ قَالَ: شَرُّهُ»
(1)
، وفي رواية لمسلم:«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»
(2)
(3)
.
هـ- الإحسان إلى الصاحب، قال تَعَالَى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]، قال زيد بن أسلم رضي الله عنه:«هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر»
(4)
.
والإحسان إليه يكون بمساعدته في أمر دينه ودنياه، وبذل النصح له، والوفاء معه في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، ونحو ذلك.
و- الإحسان إلى عموم الناس، فعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(7878).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(46).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(9758)، وابن حبان، رقم الحديث:(5764)، والبخاري في الأدب المفرد، رقم الحديث:(119)، والبزار، رقم الحديث:(1902 - كشف الأستار).
(4)
تفسير ابن كثير (2/ 300).
النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»
(1)
، كذلك الإحسان إليهم بالكلمة الطيبة، يقول تَعَالَى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]، ويدخل في ذلك النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، وبذل السلام ورده، قال تَعَالَى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، والموعظة والجدال بالأحسن، قال تَعَالَى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، كذلك الإحسان إليهم بقضاء حوائجهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ»
(2)
.
ز- الإحسان إلى الخدم ونحوهم، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ
(3)
جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»
(4)
، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ،
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(21354)، والترمذي، رقم الحديث:(1987)، حكم الألباني: حسن، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(5083).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2989)، ومسلم، رقم الحديث:(1009).
(3)
الخول: جمع خائل، وهم حشم الرجل وأتباعه.
(4)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2545).
فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، أَوْ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ»
(1)
.
ح- الإحسان إلى الحيوانات؛ فعن شداد بن أوس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ الله كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
(2)
، ومن ذلك: الإحسان إليهم بالطعام والشراب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»
(3)
.
ومن الإحسان إليهم: الإحسان حال الذبح والقتل؛ فعن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»
(4)
، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة، وهو يحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: «أَفَلَا قَبْلَ هَذَا، أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَتَانِ!»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2557).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1955).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(2363)، ومسلم، رقم الحديث:(2244).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(1955).
(5)
أخرجه الضياء في المختارة، رقم الحديث:(174)، واللفظ له، والحاكم، رقم الحديث:(7563)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(24).
ومن الإحسان إليهم أيضًا: عدم تعذيبهم وأذيتهم، وقد جاء الوعيد على ذلك، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه مر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها، فلما رأوه تفرقوا عنها، فقال:«من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا»
(1)
، وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ»
(2)
، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي مر على حمار قد وسم وجهه، فقال:«لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ»
(3)
.
وما سبق من الصور ليس على سبيل الحصر وإنما المثال؛ إذ المقام يطول جدًّا بذكرها.
اللهمَّ اجعلنا من عبادك المحسنين، الذين هم أحبابك وأهل معيتك.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5515)، ومسلم، رقم الحديث:(1958).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3318)، واللفظ له، ومسلم، رقم الحديث:(2619).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2117).
المُقدِّمُ المؤخِّرُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
معنى اسم الله (المقدم) في اللغة:
قال الجوهري رحمه الله: «قدم بالفتح يقدم قدمًا، أي: تقدم، قال الله تَعَالَى:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98]
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «القاف والدال والميم أصل صحيح يدل على سَبْقٍ .. »
(2)
.
معنى اسم الله (المؤخر) في اللغة:
(3)
.
(1)
الصحاح (5/ 284).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 65).
(3)
مقاييس اللغة (1/ 70).
ورود اسمي الله (المقدِّم المؤخِّر) في القرآن الكريم:
لم يرد أي من الاسمين في القرآن الكريم.
ورود اسمي الله (المقدِّم المؤخِّر) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (المقدِّم المؤخِّر) في السنة النبوية، ومن وروده ما يلي:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، «أنه كان يدعو بهذا الدعاء: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَمْدِي، وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
(1)
.
2 -
علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يقول:«ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»
(2)
.
3 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ،
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6398)، ومسلم، رقم الحديث:(2719).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(174).
وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَوْ: لَا إِلَهَ غَيْرُكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ»
(1)
.
ثبوت اسمي الله (المقدم والمؤخر) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسمي الله (المقدم والمؤخر) في حق الله تَعَالَى:
- ابن القيم رحمه الله: يقول في نونيته:
وَهُوَ الْمُقَدِّمُ وَالْمُؤَخِّرُ ذَانِكَ الصْـ
…
ـصِفَتَانِ لِلْأَفْعَالِ تَابِعَتَانِ
وَهُمَا صِفَاتُ الذَّاتِ أَيْضًا إِذْ هُمَا
…
بِالذَّاتِ لَا بِالْغَيْرِ قَائِمَتَانِ
(2)
ابن عثيمين رحمه الله: فقد عده من الأسماء المثبتة بالسنة النبوية
(3)
.
معنى اسمي الله (المقدِّم - المؤخِّر) في حقه سُبْحَانَهُ:
قال الخطابي رحمه الله: «(المقدِّمُ) هو المنزل للأشياء منازلها، يقدم ما شاء منها ويؤخر ما شاء، قدم المقادير قبل أن يخلق الخلق، وقدم من أحب من أوليائه على غيرهم من عبيده، ورفع الخلق بعضهم فوق بعض درجات، وقدم
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1120)، ومسلم، رقم الحديث:(769).
(2)
النونية (2/ 241).
(3)
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص: 15).
من شاء بالتوفيق إلى مقامات السابقين، وأخر من شاء عن مراتبهم وثبطهم عنها، وأخر الشيء عن حين توقعه؛ لعلمه بما في عواقبه من الحكمة، لا مقدم لما أخر ولا مؤخر لما قدم»
(1)
.
قال الحليمي رحمه الله: «المقدِّمُ هو المعطي لعوالي الرُّتَب، والمؤخِّرُ هو الدافع عن عوالي الرُّتب»
(2)
.
قال النووي رحمه الله: «يقدِّم من يشاء من خلقه إلى رحمته بتوفيقه، ويؤخر من يشاء عن ذلك لخذلانه»
(3)
.
قال السعدي رحمه الله: «المقدِّمُ والمؤخِّرُ من أسمائه الحسنى المزدوجة المتقابلة التي لا يُطْلَقُ واحد بمفرده على الله إلا مقرونًا بالآخَر؛ فإن الكمال من اجتماعهما؛ فهو تَعَالَى المقدِّم لمن شاء، والمؤخِّر لمن شاء بحكمته»
(4)
.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
وَهُوَ الْمُقَدِّمُ وَالْمُؤَخِّرُ ذَانِكَ الصْـ
…
ـصِفَتَانِ لِلْأَفْعَالِ تَابِعَتَانِ
وَهُمَا صِفَاتُ الذَّاتِ أَيْضًا إِذْ هُمَا
…
بِالذَّاتِ لَا بِالْغَيْرِ قَائِمَتَانِ
(5)
(1)
شأن الدعاء (1/ 87).
(2)
المنهاج (1/ 207).
(3)
شرح صحيح مسلم (14/ 70).
(4)
الحق الواضح المبين (ص 100).
(5)
النونية (2/ 241).
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (المقدِّم - المؤخِّر):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسمي الله (المقدم المؤخر) من الصفات، ودلالتهما على التوحيد:
الله سُبْحَانَهُ هو المقدم المؤخر بعلم وحكمة، فهو العليم الخبير المحيط القدير سُبْحَانَهُ، يدبر الكون كيفما شاء، ويمكن تقسيم تقديمه وتأخيره سُبْحَانَهُ على نوعين، وهما:
تقديم وتأخير كوني.
تقديم وتأخير شرعي.
(1)
.
ويقول ابن القيم رحمه الله: «والله قدَّم بعضًا من مخلوقاته على بعض في الخلق والإيجاد، ففي الحديث:(أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ تبارك وتعالى الْقَلَمُ)،
(2)
(1)
الحق الواضح المبين (ص: 100).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(23145)، وأبو داود، رقم الحديث:(4700)، والترمذي، رقم الحديث:(3319)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(133).
وخلق السموات والأرض في ستة أيام، وقدَّمَ خلق الملائكة على خلق الإنس والجن، وتقدَّم خلق الجن على خلق الإنس {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27]، وأول البشر خلقًا آدمُ عليه السلام، ثم تتابَع بنيه في الخلق والوجود، فمنهم المتقدِّم، ومنهم المتأخِّر، وهذا التقديم كوني قدري، ولا يلزم منه أن يكون المتقدِّم أفضل مِن المتأخِّر، فآدم خُلِق في آخر الأيام الستة، وله فضل هو وبنوه على كثير ممن تقدَّمهم في الخلق {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]»، أما التقديم والتأخير الشرعي الديني، فكتقديم الأذان على الصلاة، وخطبة الجمعة على صلاة الجمعة، وصلاة العيد على خطبة العيد.
وحري بمن عرف اسمي الله المقدم والمؤخر، وآمن بهما أن يوحده سُبْحَانَهُ بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ويستغني به عن خلقه، ويسأله وحده بهذين الاسمين خيري الدنيا والآخرة.
الأثر الثاني: المقدَّم مَن قدَّمَهُ اللهُ ورفعه:
إن ميزان التقديم والتأخير، والحب والبغض، والولاء والبراء هو ميزان الله عز وجل في ذلك كله، لا كما يزن به أكثر الناس اليوم، حين يقدمون أهل الجاه والمال والرئاسات وغيرها من أعراض الدنيا على غيرهم من أهل الدين والتقوى، وهذا يخالف ميزان الله عز وجل في التقديم والتأخير، قال الله عز وجل:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]، ولقد كان الرسول
صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام يسيرون بهذا الميزان في تقديم الرجال والمواقف وغيرها.
«جاء في سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام، وأبا سفيان بن حرب رضي الله عنهما وجماعة من كبراء قريش من الطُّلَقاء استأذنوا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأذن قبلهم لصهيب وبلال؛ لأنهما كانا من السابقين إلى الإسلام ومن أهل بدر، فوجد أبو سفيان في نفسه، وقال بانفعال: لم أر كاليوم قط؛ يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه! فيقول له صاحبه- وقد استقرت في حسِّه حقيقة الإسلام-: أيها القوم، إني- والله- أرى في وجوهكم، إن كنتم غضابًا فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم إلى الإسلام ودُعيتم فأسرعوا وأبطأتم، فكيف إذا دعوا يوم القيامة وتُرِكتم؟
ويفرض عمر رضي الله عنه لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد الله بن عمر، حتى إذا سأله عبد الله عن سر ذلك، قال له: لِأَنَّ زَيْدًا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبِيكَ، وَكَانَ أُسَامَةُ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ مِنْكَ، فَآثَرْتُ حِبَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِبِّي»
(1)
.
هذا هو المؤمن الحق الذي يعز من أعز الله بطاعته من إخوانه المؤمنين، مقياسه: التقوى والإيمان، وعن سهل بن سعد قال: «مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ: هَذَا وَاللهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ:
(1)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3813)، حكم الألباني: ضعيف، مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(6173).
فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا»
(1)
.
الأثر الثالث: الإيمان بحكمة المقدم المؤخر سُبْحَانَهُ:
فلله الحكمة البالغة في تقديم ما قدم وتأخير ما أخَّر، وأي أمر قدَّم أو أخَّر فإنما هو بعلم الله تَعَالَى وإرادته وحكمته البالغة، وهذا يشمل كل شيء قدم أو فضل على غيره، أو أخر عنه، ومن ذلك: تقديم الآجال وتأخيرها، وتقديم أو تفضيل بعض الأزمنة والأمكنة على بعضها، وتقديم بعض خلقه وتفضيلهم على بعض، وتقديم إيجاد شيء على شيء آخر، وتقديم عقوبة أقوام وتأخير آخرين، وكذلك فيما يحصل للمؤمن من تقديم أمر لا يحب تقديمه أو تأخير أمر يكره تأخيره، فإن مقتضى هذين الاسمين الكريمين ومقتضى حكمته سُبْحَانَهُ يجعل المؤمن يرضى ويسلم ويعتقد بأن الخيرة فيما اختاره الله له من تقديم أو تأخير، وقد يكون في ذلك الرحمة واللطف وهو لا يشعر.
الأثر الرابع: محبة الله المقدِّم المؤخِّر:
الإيمان بأنه سُبْحَانَهُ المقدم والمؤخر يثمر في قلب المؤمن محبة لله وحده، والتعلق به؛ لأنه مهما حاول البشر من تقديم أمر لم يرد الله عز وجل تقديمه، أو تأخير أمر لم يرد الله تَعَالَى تأخيره فلن يستطيعوا، وهذا يجعل القلب يتعلق بمحبة الله؛ لأنه وحده القادر على كل شيء، والنفس بطبيعتها
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6447).
تميل إلى محبة صاحب القدرة والعلم، والله تَعَالَى هو المقدم المؤخر بعلمه وقدرته، لا رادَّ لتقديمه أو تأخيره، ولا مُعَقِّبَ لحكمه.
الأثر الخامس: التقدم الحقيقي هو التقدم في الطاعات:
إن التقدم الحقيقي النافع هو التقدم في طاعة الله عز وجل وجنته ومرضاته، والتأخر عن ذلك هو التأخر الحقيقي المذموم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ فِي النَّارِ»
(1)
(2)
.
وفي كتاب الله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]
أما التقدم في الدنيا والتأخر عنها فليس بمقياس للتقدم والتأخر؛ ولذا ينبغي للمسلم أن يتوسل إلى ربه سُبْحَانَهُ بهذين الاسمين الكريمين؛ لنيل التقدم الحقيقي عنده سُبْحَانَهُ، وترك كل ما يؤخر عن جنته ومرضاته.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق، وإما إلى أسفل، وإما إلى أمام، وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة، ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع
(1)
أخرجه أبو داود، رقم الحديث:(679)، واللفظ له، وابن حبان، رقم الحديث:(2156)، حكم الألباني: صحيح لغيره دون قوله: «فِي النَّارِ» . السلسلة الضعيفة، رقم الحديث:(6442).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(654)، ومسلم، رقم الحديث:(437).
ومبطئ، ومتقدم ومتأخر، وليس في الطريق واقف البتة، وإنما يتخالفون في جهة المسير، وفي السرعة والبطء:{إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 53 - 73] ولم يذكر واقفًا؛ إذ لا منزل بين الجنة والنار، ولا طريق لسالك إلى غير الدارين البتة، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة.
فإن قلت: كلُّ مُجَدٍّ في طلب شيء لا بد أن يعرض له وقفة وفتور، ثم ينهض إلى طلبه، قلت: لا بد من ذلك، ولكن صاحب الوقفة له حالان: إما أن يقف ليجمَّ نفسه، ويعدها للسير، فهذا وقفته سير، ولا تضره الوقفة؛ فـ «إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ»
(1)
، وإما أن يقف لداع دعاه من ورائه، وجاذب جذبه من خلفه، فإن أجابه أخره ولا بد! فإن تداركه الله برحمته، وأطلعه على سبق الراكب له وعلى تأخره، نهض نهضة الغضبان الآسف على الانقطاع، ووثب واشتد سعيًا ليلحق الركب، وإن استمر مع داعي التأخر، وأصغى إليه لم يرض برده إلى حالته الأولى من الغفلة، وإجابة داعي الهوى حتى يرده إلى أسوأ منها وأنزل دركًا»
(2)
.
ويكفي السابقين أن جُعلوا من المقربين، كما قال تَعَالَى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11]، فما من عبد سابق إلى الطاعات إلا فاز بالتقريب من رب البريات.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(6880)، وابن حبان، رقم الحديث:(11)، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2850).
(2)
مدارج السالكين (1/ 267 - 268).
وفي كتاب الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]، والسابقون في الدنيا إلى الإيمان والأعمال والخيرات هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات، وهم المقربون عند الله في جنات النعيم في أعلى عليين.
وهم الذين يعطون من أنفسهم مما أمروا به من كل ما يقدرون عليه من صلاة وزكاة، وصيام وحج، وطاعات وأعمال صالحة.
ومع هذا قلوبهم وجلة وخائفة عند عرض أعمالها على ربها، والوقوف بين يديه؛ خشية أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله؛ لكمال علمهم بربهم، وما يستحقه من أنواع العبادات، السابقون هم أعلى الخلق درجات، وأعلاهم مقامات.
والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأرباح، وشد أحمال التجارات؛ لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسرانًا أن يدخر شيئًا مما بيده ولا يتجر به، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأرباح تجارتهم، ويرى خسرانًا بينًا أن يمر عليه وقت في غير متجر.
والسابقون بالخيرات نوعان: أبرار ومقربون، «فالسابقون المقربون جملة أمرهم: أنهم قوم امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت قلوبهم محبة الله وخشيته، ومراقبته وإجلاله، فسرت المحبة في قلوبهم وأبدانهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، وقد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، قد استغنوا بحبه عن حب ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه، وبخوفه ورجائه عن خوف ورجاء من سواه، وصارت رغبتهم إليه، وتوكلهم عليه، ورهبتهم منه، وإنابتهم إليه، وسكونهم إليه، وانكسارهم بين
يديه، فلم يتعلقوا بشيء من ذلك بغيره»
(1)
.
ولا يزال العبد الموفق يتقرب من ربه حتى يحتفي الله به، يقول تَعَالَى على لسان إبراهيم عليه السلام:{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] أي: رحيمًا رءوفًا بحالي، معتنيًا بي، كثير الحفاوة بي والإكرام لي؛ لعلم إبراهيم مقام ربه في قلبه، وحبه له، فإذا أراد العبد أن يعرف أين هو من الله فلينظر أين الله منه؟ فإذا أراد الله أن يقدم عبدًا رفعه درجات بطاعته {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253].
فإذا تيقن المؤمن ذلك وعلم أن الله هو المقدم والمؤخر لم يطلب لنفسه جاهًا أو مالًا أو منصبًا ليتقدم به، وإنما يتقدم بقربه من ربه، وبحرص أن يقدم من قدمه الله.
ومن أراد أن يقدمه الله ويرفعه، فعليه أن يأخذ بأسباب التقديم، وهي:
الحرص على الأعمال الصالحة، يقول تَعَالَى:{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، فلا يزال العبد يرتفع عمله حتى يرفع الله ذكره، فيعرف عند الملائكة، ويطرح قبوله وذكره في الأرض، وفي الحديث الصحيح حين أثنى الناس على جنازة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نَعَمْ يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِلهِ مَلَائِكَةً تَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ بِمَا فِي الْمَرْءِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ»
(2)
وإن من عباد
(1)
موسوعة فقه القلوب، لمحمد إبراهيم التويجري (14/ 66).
(2)
أخرجه الحاكم، رقم الحديث:(1401)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(8876)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(1694).
الله من هو في الأرض وذكره في السماء، قد عمرت دوره في الفردوس الأعلى، ألم يصح:«أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا بِلَالًا، فَقَالَ: يَا بِلَالُ، بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ مَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ قَطُّ إِلَّا سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، دَخَلْتُ الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي! فَقَالَ بِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَذَّنْتُ قَطُّ إِلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهَا، وَرَأَيْتُ أَنَّ لِلهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْن، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بِهِمَا»
(1)
(2)
، ورأى صلى الله عليه وسلم قصرًا في الجنة، فسأل عنه، فأخبرته الملائكة أنه قصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(3)
، فقدم نفسك في الخير؛ لترفعها بالدرجات العلى، وأعد لك مستقبلًا عامرًا في الجنة.
العناية بكتاب الله تلاوةً وحفظًا وتدبرًا وتطبيقًا، فعن عامر بن واثلة: «أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان- وكان عمر يستعمله على مكة- فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولًى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولًى؟! قال: إنه قارئ لكتاب
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22996)، والترمذي، رقم الحديث:(3689)، حكم الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، رقم الحديث:(1326).
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم الحديث:(4605)، والبيهقي في الشعب، رقم الحديث:(7467)، والحاكم، رقم الحديث:(4958)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(913).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3679)، ومسلم، رقم الحديث:(2394).
الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»
(1)
.
طلب العلم والإخلاص فيه، يقول تَعَالَى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
التخلق بالأخلاق الفاضلة الحسنة، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ»
(2)
، ومن ذلك التواضع، وخفض الجناح للمؤمنين، في صحيح مسلم:«مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ»
(3)
(4)
، وفي الطبراني: «مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا فِي رَأْسِهِ حِكْمَةٌ
(5)
بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِذَا تَوَاضَعَ قِيلَ لِلْمَلَكِ: ارْفَعْ حِكْمَتَهُ، وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلْمَلَكِ: ضَعْ حِكْمَتَهُ»
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(817).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(2018)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق، رقم الحديث:(59)، حكم الألباني: صحيح، تحقيق رياض الصالحين، رقم الحديث:(636).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2588).
(4)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2865).
(5)
الحَكَمَة: ما أحاط بحَنَكَيْ الفرس من لجامه، وفيها العِذَاران، وهما من الفرس، كالعارضَيْنِ من وجه الإنسان.
(6)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، رقم الحديث:(12939)، حكم الألباني: حسن، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(538).
الأثر السادس: التقديم والتأخر يوم القيامة في دخول الجنة:
أعظم تقديم وتأخير للمقدم المؤخر سُبْحَانَهُ هو ما كان في يوم القيامة، وهذا من عظيم عدله، فإن من كان سابقًا للخيرات مسارعًا للطاعات في الدنيا يسبق الناس في دخول الجنة، ويقدمه الله على رؤوس الأشهاد، ومن تأخر عن ربه أُخِّر يوم القيامة، وفي صحيح مسلم حديث طويل في تفاوت الناس في عبورهم الصراط إلى الجنة بقدر أعمالهم، الشاهد منه:« ..... فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ، يَقُولُ: رَبِّ، سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا - قَالَ: وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ» ، والذي نفس أبي هريرة بيده، إن قعر جهنم لسبعون خريفًا
(1)
.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حال وصفة أول زمرة تدخل الجنة، وحال آخر من يدخلها أيضًا، فيقول صلى الله عليه وسلم في وصف حال السابقين: «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَتْفُلُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ وَمَجَامِرُهُمُ الْأَلُوَّةُ الْأَنْجُوجُ
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(195).
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(3327)، ومسلم، رقم الحديث:(2834).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(7437)، ومسلم، رقم الحديث:(182).
الأثر السابع: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]:
الإيمان بالمقدم المؤخر سُبْحَانَهُ يجعلنا نؤمن بحكمته في تأخيره لعذاب من تجبر وتكبر، فيفسح لهم الزمان ويمد لهم في الأعمار حتى تنقطع حجتهم، فإن تابوا ورجعوا فهو الغفور الرحيم، وإن أصروا واستكبروا لم يُعجِزُوه، تأمل:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 42 - 43]، فهو سُبْحَانَهُ يؤخِّر العقوبة لحكمة بالغة، ويُقَدِّمُ المكافأة لحكمة بالغة.
ومن الحكم في تأخير العقوبة:
رحمة من الله تَعَالَى بالظالم؛ حتى يتدارك خطأه فيتوب إليه ويندم على ما فعله، قال تَعَالَى:{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39]، وقد أرسل الله نبيه موسى عليه السلام إلى فرعون وقد ظلم وزاد في ظلمه حتى طغى، فقال تَعَالَى:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44] فالآية الكريمة توضح إمكانية رجوع هذه الطاغية، بإرسال الرسل إليه لينصحوه.
استدراج من الله تَعَالَى، فإذا أراد الله بالظالم شرًّا استدرجه، ومدَّ له، ثم أخذه أخذ عزيز مقتدر، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]»
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4686).
تسلُّط الظالمين بعضهم على بعض، ومن الأدعية المشهورة «اللهم أهلك الظالمين بالظالمين» ، قال عز من قائل:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 128]، فما من ظالم إلا ويُبتلى بأظلم منه؛ لنجد في النهاية أنهم يفنون بعضهم البعض في الدنيا، وينالون أشد العذاب في الآخرة.
فتح باب من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المؤمنين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ»
(1)
.
معرفة المؤمنين لشره، وإدراكهم خطورته؛ ومِن ثَمَّ يلتجئون إلى ربهم فيدعونه، ليكفيهم هذا الشرَّ، فلو عوقب الظالم فور ظلمه لما شعر الناس بالشر ولما خافوا من الظلم والظالمين.
الأثر الثامن: دعاء الله المقدِّم المؤخِّرِ:
ومن علم معنى اسم الله المقدم المؤخر تضرع لله به، و ولقد كان مِن هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بهذين الاسمين المشَرَّفين؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يدعو بهذا الدعاء:«انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ»
(2)
، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفه لصلاة
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6952).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6398)، ومسلم، رقم الحديث:(2719).
النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: (اللهمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»
(1)
(2)
.
فاللهم إنا نسألك أن ترفع لنا الدرجات، وأن تقربنا منك، وأن تغفر لنا الخطأ والزلل.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
المَنَّانُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «المَنُّ: القَطْعُ، ويقال: النقص، ومنه قوله تَعَالَى:{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8]
…
ومن عليه منا: أنعم، والمنان، من أسماء الله تَعَالَى. ومَنَّ عليه مِنَّةً، أي: امْتَنَّ عليه»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «الميم والنون أصلان، أحدهما: يدل على قطع وانقطاع، والآخر: على اصطناع خير.
الأول (المنُّ): القطعُ، ومنه يقال: مننتُ الحبلَ: قطعتُهُ.
والأصل الآخر (المنُّ)، تقول: مَنَّ يَمُنُّ مَنًّا، إذا صنع صنعًا جميلًا، ومن الباب: المنَّةُ، وهي القوة التي بها قوام الإنسان»
(2)
.
ورود اسم الله (المنان) في القرآن الكريم:
لم يرد اسم المنان في كتاب الله عز وجل.
(1)
الصحاح (6/ 2207).
(2)
مقاييس اللغة (5/ 267).
ورود اسم الله (المنان) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (المنان) في السنة النبوية، في عدة مواضع وأحاديث؛ ومن وروده ما يلي:
حديث أنس رضي الله عنه: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا ورجل يصلي، ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى»
(1)
.
ثبوت اسم الله (المنان) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسم الله المنان في حق الله تعالى:
- ابن القيم رحمه الله: يقول في ذلك: «فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنة، وشهد معنى اسمه المنان
…
»
(2)
- ابن عثيمين رحمه الله: فقد عده من الأسماء المثبتة بالسنة النبوية
(3)
.
معنى اسم الله (المنان) في حقه سُبْحَانَهُ:
يدور اسم الله المنان على معنيين:
1 -
كثير النعم والعطايا.
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12611)، وأبو داود، رقم الحديث:(1495)، حكم الألباني: مشكاة المصابيح، رقم الحديث:(2290).
(2)
طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (ص: 26).
(3)
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، لابن عثيمين (ص: 15).
2 -
المانُّ على عباده بما أولاهم من النعم.
وحول هذه المعاني تدور أقوال العلماء:
فمن الأقوال في المعنى الأول:
قال الخطابي رحمه الله: «وأما المنان: فهو كثير العطاء، والمن: العطاء لمن لا تستثيبه»
(1)
.
وقال الحليمي رحمه الله: «ومنها المنان: وهو عظيم المواهب، فإنه أعطى الحياة والعقل والنطق وصور فأحسن الصور، وأنعم فأجزل، وأسنى النعم وأكثر العطايا والمنح، قال- وقوله الحق-: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}»
(2)
.
قال شيح الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والمنَّان: الذي يجود بالنوال قبل السؤال»
(3)
.
وقد أنكر بعض العلماء المعنى الثاني، وقال: المنة تكدر النعمة، كما نقل ابن القيم رحمه الله عنهم، وقد رد عليهم هذا الإنكار وأبطله، فقال في تفسير قوله تعالى:{غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6]: «وقوله {غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6]، أي: غير مقطوع، ولا منقوص، ولا مكدَّر عليهم، وهذا هو الصواب.
وقالت طائفة: غير ممنون به عليهم، بل هو جزاء أعمالهم، ويُذكَرُ هذا عن عكرمة ومقاتل، وهو قول كثير من القدرية، قال هؤلاء: إن المنة تُكَدِّرُ
(1)
شأن الدعاء (1/ 100).
(2)
المنهاج في شعب الإيمان (1/ 203).
(3)
النبوات (1/ 365).
النعمةَ، فتمام النعمة أن يكون غيرَ ممنونٍ بها على المنعَم عليه.
وهذا القول خطأ قطعًا، أُتي أربابُهُ من تشبيه نعمة الله على عبده بإنعام المخلوق على المخلوق، وهذا من أبطل الباطل؛ فإن المنة التي تُكَدِّرُ النعمةَ هي منة المخلوق على المخلوق، وأما منة الخالق على المخلوق ففيها تمام النعمة، ولذتها، وطيبها؛ فإنها منة حقيقية، قال تَعَالَى:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، وقال تَعَالَى:{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات: 114 - 115]؛ فتكون منةً عليهما بنعمة الدنيا، دون نعمة الآخرة، وقال أهل الجنة:{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار:(أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي، وَمُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللهُ بِي، وَيَقُولُونَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ فَقَالَ: أَلَا تُجِيبُونِي؟ فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ)
(1)
؛ فهذا جواب العارفين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهل المنة إلا لله المان بفضله، الذي جميع الخلق في منته؟ وإنما قبحت منة المخلوق؛ لأنها منة بما ليس منه، وهي منة يتأذى بها الممنون عليه، وأما منة المنان بفضله التي ما طاب العيش إلا بمنته، وكل نعمة منه في الدنيا والآخرة فهي منة يمن بها على من أنعم عليه، فتلك لا يجوز نفيها.
وكيف يجوز أن يقال: إنه لا منة لله على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في دخول الجنة؟ وهل هذا إلا من أبطل الباطل؟! فإن قيل: هذا القدر لا يخفى على من قال هذا القول من العلماء، وليس مرادهم ما ذكر، وإنما مرادهم:
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4330)، ومسلم، رقم الحديث:(1061)، واللفظ له.
أنه لا يمن عليهم به، بل يقال: هذا جزاء أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، وهذا أجركم، فأنتم تستوفون أجور أعمالكم لا نمن عليكم بما أعطيناكم، قيل: وهذا- أيضًا- هو الباطل بعينه؛ فإن ذلك الأجر ليست الأعمال ثمنًا له، ولا معاوضةً عنه، وقد قال أعلم الخلق بالله صلى الله عليه وسلم:(لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ)
(1)
؛ فأخبر أن دخول الجنة برحمة الله وفضله، وذلك محض مِنَّتِهِ عليه، وعلى سائر عباده، وكما أنه سُبْحَانَهُ المانُّ بإرسال رسله، وبالتوفيق لطاعته، وبالإعانة عليها، فهو المانُّ بإعطاء الجزاء، وذلك كله محضُ مِنَّته وفضله وجوده، ولا حق لأحد عليه»
(2)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (المنان):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (المنان) من الصفات:
الله سُبْحَانَهُ هو المنان كثير العطاء، عظيم المواهب، واسع الإحسان، يُدِرُّ العطاء على عباده، ويوالي النعماء عليهم، فلا يبلغون شكرها فضلًا عن إحصائها {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].
وهو المنان الذي شهدت الخليقة كلها برها وفاجرها بإحسانه وعظيم نواله، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وسعة رحمته وبِرِّه ولطفِه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفِها بعد وقوعها، ولطفِه تَعَالَى في ذلك
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(5673).
(2)
التبيان في أقسام القرآن، لابن القيم (ص: 50).
إلى ما لا تبلغه الآمال، كل ذلك تفضلًا منه وتكرمًا {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 8] لا طلبًا لأجر أو رزقًا، قال تَعَالَى:{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57]
(1)
.
وهو المنَّان المحسن إلى العباد والمنعم عليهم من غير أن يطلب الجزاء على إحسانه إليهم، بل من عظيم إحسانه أوجب لعباده حقًّا عليه، منةً منه وتكرمًا إن هم وحدوه في العبادة ولم يشركوا به شيئًا، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال:«كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ- فَقَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ»
(2)
.
وهو المنَّان الذي يمن على عباده بما أعطى وأولى،، له المنة ولا منَّة لأحد عليه، المنان على الإطلاق، قال القرطبي رحمه الله:«فيجب على كل مسلم أن يعلمَ أن لا منَّانَ على الإطلاق إلَّا الله وحده، الذي يبدأ بالنَّوال قبل السؤال»
(3)
.
(1)
طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم، (ص: 132)، وفقه الأسماء الحسنى، للبدر، (ص: 343).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(152).
(3)
تفسير القرطبي (16/ 94).
والمنان قد منَّ على عباده بنعمه العظيمة، وعطاياه الكريمة، ومن ذلك:
- منته على عباده المؤمنين بالهداية لهذا الدين، والإخراج من ظلمات الشرك والكفر برب العالمين، قال تَعَالَى:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، وقال سُبْحَانَهُ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]، وقال:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].
وهذه النعمة والمنَّة أعظم منَّة يمن الله بها على عباده، قال ابن القيم رحمه الله موضحًا لها: «وهدايته خاصته وعباده إلى سبل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع وحمايتهم عن مراتع الآثام، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وسماهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه وأعطاهم قبل أن يسألوه
…
وذكرهم بآلائه وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحسانًا
لا حاجة منه إليهم، ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصيانة لهم لا بخلًا منه عليهم، وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه، ونصحهم بأحسن النصائح، ووصاهم بأكمل الوصايا، وأمرهم بأشرف الخصال ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال
…
وصرف لهم الآيات، وضرب لهم الأمثال، ووسع لهم طرق العلم به ومعرفته، وفتح لهم أبواب الهداية، وعرفهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه»
(1)
.
- منته على هذه الأمة ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، صفوة رسله وخيرة أنبيائه صلى الله عليه وسلم، قال تَعَالَى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقال:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].
وقد ذكَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار بهذه المنَّة العظيمة، فقال:«يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟ كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ»
(2)
.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح-: «وقد رتَّب صلى الله عليه وسلم ما مَنَّ الله عليهم على يده من النعم ترتيبًا بالغًا، فبدأ بنعمة الإيمان- التي لا يوازيها شيء من أمر الدنيا- وثَنَّى بنعمة الأُلفة، وهي أعظم من نعمة المال؛ لأن
(1)
طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (ص: 132).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(4330)، ومسلم، رقم الحديث:(1061).
الأموال تبذلُ في تحصيلها وقد لا تحصل، وقد كانت الأنصار قبل الهجرة في غاية التنافر والتقاطع؛ لما وقع بينهم من حرب بُعاث وغيرها، فزال ذلك كلُّه بالإسلام، كما قال الله تَعَالَى:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]»
(1)
.
- منته على أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين بالتمكين، قال تَعَالَى:{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصافات: 114 - 118]، وقال تَعَالَى:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 - 6].
ومن ذلك: منته على يوسف بعدم تضييع صبره وتقواه، بل أورثه حُسن العاقبة والتمكين في الأرض، قال تَعَالَى عن يوسف عليه وسلم متذكرًا هذه المنة:{قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
- منته على عباده المؤمنين بدخول الجنة، والنجاة من النار، قال تَعَالَى حاكيًا عن أهل الجنة استشعارهم لهذه المنة العظيمة والعطية الجزيلة:{قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 26 - 28]،
(1)
فتح الباري، لابن حجر (8/ 50).
(1)
.
الأثر الثاني: دلالة اسم الله (المنَّان) على التوحيد:
إذا عرف العبد ربه باسمه المنان، وعلم أنه وحده ولي المنِّ والعطاء صاحب الهبة والنعماء، صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها منه وحده، لا يشاركه فيها أحد، كما قال تَعَالَى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]
(2)
علم أنه لا يستحق أحد أن يعبد إلا هو تبارك وتعالى.
وقد نبه الله عباده على هذا المعنى، فقال:{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 51 - 54]، قال السعدي رحمه الله: «يأمر تَعَالَى بعبادته وحده لا شريك له، ويستدل على ذلك بانفراده بالنعم والوحدانية، فقال:{لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ}
…
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} من أهل الأرض أو أهل السماوات، فإنهم لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا، والله المنفرد بالعطاء والإحسان {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ} ظاهرة وباطنة {فَمِنَ اللَّهِ} لا أحد يشركه فيها، {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} من فقر ومرض وشدة {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} أي: تضجون بالدعاء والتضرع لعلمكم أنه لا يدفع
(1)
ينظر: فقه الأسماء الحسنى، للبدر (ص: 343 - 345).
(2)
ينظر: المرجع السابق (ص: 346).
الضر والشدة إلا هو، فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون، وصرف ما تكرهون، هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده»
(1)
.
وذم سُبْحَانَهُ المشركين على عبادتهم لغيره مع أنه المنعم، فقال:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83] قال ابن كثير رحمه الله: «يعرفون أن الله تَعَالَى هو المسدي إليهم ذلك، وهو المتفضل به عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك، ويعبدون معه غيره، ويسندون النصر والرزق إلى غيره»
(2)
.
الأثر الثالث: التوكل على الله المنان:
إذا عرف العبد اسم الله (المنان) وأن ما يتقلب فيه من النعيم من أثر منته تبارك وتعالى عليه لا بحوله وقوته ولا بحول وقوة مخلوق مثله، وإنما المنة لله وحده؛ أورثه ذلك التطامن والاعتراف بالضعف والنقص والعجز، وأنه لو وكل إلى نفسه أو غيره طرفة عين لخاب وخسر وهلك.
(3)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 442).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 592).
(3)
طريق الهجرتين، لابن القيم، (ص: 57).
وهذا يثمر في قلب العبد التوكل على الله، والتعلق به، وقطع التعلق بالأسباب والركون إليها؛ فالأسباب إنما أثرت ونفعت بمنته وإذنه، ولولا ذلك لم تجد على فاعلها شيئًا.
فالمانُّ بكل خير هو الله وحده مسبب الأسباب، والقاهر لكل شيء، والفعال لما يريد فوجب التوكل عليه وحده وتفويض الأمور إليه.
الأثر الرابع: محبة الله المنان:
إذا تدبر المرء في اسم الله (المنان) وتأمل في عظيم مواهبه، وكثير عطاياه ومنحه، وما أسبغ به على العباد من النعم مع كثرة معاصيهم وذنوبهم؛ أوجب له ذلك محبته والشوق إليه؛ فإن القلوب فُطِرَت على محبة من يحسن إليها، ولا أعظم إحسانًا وإنعامًا من المنَّان تبارك وتعالى.
الأثر الخامس: شكر الله المنان:
إذا تأمل العبد في اسم الله المنان، وتفكر فيما منَّ عليه به من الهداية للإسلام، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتكريمه بالعقل، والسمع والبصر، والصحة والمعافاة، والأمن والاستقرار، إلى غير ذلك من ألوان النعم والمنن التي تفضل بها المنان قبل السؤال والطلب؛ أوجب له ذلك حمده تبارك وتعالى على نعمه، وشكره علي آلائه ومننه بالقلب واللسان والجوارح، وإعمالها في طاعته والتقرب إليه، وحفظها من أن تستعمل في معصيته، أو أن تنسب لأحد غيره، قال تَعَالَى:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83]، أي: بإضافتهم النعمة إلى غير المنعِم
(1)
.
(1)
ينظر: فقه الاسماء الحسنى، للبدر (ص: 346).
الأثر السابع: المنة لله سُبْحَانَهُ:
المنَّة بالعطية إنما تكون لله وحده، وليست لأحد من الخلق؛ لذا نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يتصف المؤمن بها وأن يؤذي الخلق بهذا الخُلق الذميم، قال الله تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264]، وقال تَعَالَى:{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«لا تعط العطية؛ تلتمس أكثر منها»
(1)
.
(2)
.
قال صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ»
(3)
، وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم:«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ»
(4)
.
(1)
تفسير ابن كثير (8/ 264).
(2)
تفسير السعدي (ص: 895).
(3)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(106).
(4)
أخرجه النسائي، رقم الحديث:(5688)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن النسائي، رقم الحديث:(5672).
وعلَّة هذا النهي بيَّنها ابن القيم رحمه الله، فقال: «وحظر الله على عباده المَنَّ بالصنيعة، واختصَّ به صفةً لنفسه؛ لأنَّ مَنَّ العبادِ تكديرٌ وتعييرٌ، ومَنُّ الله إفضالٌ وتذكيرٌ، وأيضًا: فإنه هو المنعم في نفس الأمر، والعباد وسائط، فهو المنعم على عبده في الحقيقة.
وأيضًا فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يَمُنُّ عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله.
وأيضًا فالمِنَّة أن يشهد المعطي أنه رب الفضل والإنعام، وأنه ولي النعمة ومسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا لله.
وأيضًا فالمان بعطائه يشهد نفسَه مترفعًا على الآخذ، مُستعليًا عليه، غنيًّا عنه عزيزًا، ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته، ولا ينبغي ذلك للعبد.
وأيضًا فإن المعطي قد تولى الله ثوابه، ورد عليه أضعاف ما أعطى، فبقي عوض ما أعطى عند الله، فأي حق بقي له قبل الآخذ؟ فإذا امتن عليه فقد ظلمه ظلمًا بينًا، وادعى أن حقه في قلبه، ومن هنا- والله أعلم- بطلت صدقته بالمن؛ فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله، وعوض تلك الصدقة عنده، فلم يرض به، ولاحظ العوض من الآخذ، والمعاملة عنده، فمنَّ عليه بما أعطاه؛ أبطل معاوضته مع الله ومعاملته له»
(1)
.
واتصاف المخلوق بالمنة على نوعين أوضحهما ابن القيم رحمه الله أيضًا- في كلامه عن المنفقين وأنواعهم، حيث قال: «فالمن نوعان؛ أحدهما: من بقلبه، من غير أن يصرح به في لسانه، وهذا إن لم يبطل الصدقة، فهو من
(1)
طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (ص: 366).
نقصان شهود منة الله عليه في إعطائه المال وحرمان غيره، وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه، فلله المنة عليه من كل وجه، فكيف يشهد قلبه منة غيره.
والنوع الثاني: أن يمن عليه بلسانه، فيعتدي على من أحسن إليه بإحسانه، ويريه أنه اصطنعه، وأنه أوجب عليه حقًّا وطوقه منةً في عنقه، فيقول: أما أعطيتك كذا وكذا؟ ويعدد أياديه عنده، قال سفيان:(يقول: أعطيتك فما شكرت)، وقال عبد الرحمن بن زياد:(كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلًا شيئًا، ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكفَّ سلامك عنه).
وكانوا يقولون: (إذا اصطنعتم صنيعةً فانسوها، وإذا أسديت إليكم صنيعة فلا تنسوها)»
(1)
.
وللمنة آثار سيئة، لا سيما إذا كانت في الطاعة، فقد بين الله أثرها على الطاعات عمومًا وعلى الصدقات خصوصًا، فبين أنها:
1 -
مبطلة للعمل، قال تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264]، قال ابن كثير رحمه الله: «فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى، ثم قال تَعَالَى:{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله، وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة، ليشكر بين الناس، أو يقال: إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع
(1)
طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (ص: 366).
قطع نظره عن معاملة الله تَعَالَى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه»
(1)
.
والمَنُّ ولو كان بعد العمل بمدة ضار به، قال ابن القيم رحمه الله:«نَبَّهَ بقوله: {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة: 262] على أن المن والأذى، ولو تراخى عن الصدقة، وطال زمنه، ضرَّ بصاحبه، ولم يحصل له مقصودُ الإنفاق، ولو أتى بالواو، وقال: ولا يتبعون ما أنفقوا مَنًّا ولا أذًى، لأوهَمَتْ تقييدَ ذلك بالحال، وإذا كان المَنُّ والأذى المتراخي مبطلًا لأثر الإنفاق، مانعًا من الثواب؛ فالمقارن أولى وأحرى»
(2)
.
2 -
جعل رد السائل بالمعروف والعفو عنه خير من التصدق عليه مع المن والأذية له، قال سُبْحَانَهُ:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 262 - 263] وذلك؛ لأن رد السائل بالقول المعروف الكريم يدخل السرور على نفسه، والعفو عما قد يصدر من السائل مما لا ينبغي وعدم مؤاخذته بذلك، كله من الإحسان الذي لا مفسدة فيه، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمنٍّ أو غيره
(3)
.
وكل ما سبق دال على أن اتصاف المخلوق بالمنَّة كبيرة من كبائر الذنوب، فعلى المسلم أن يحذر من هذا الوصف الذميم، سلمنا الله منه ورزقنا كريم الخلق.
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 694).
(2)
طريق الهجرتين، ابن القيم (ص: 366).
(3)
ينظر: تفسير السعدي (ص: 113).
الأثر الثامن: سؤال المنان من واسع فضله والتوسل إليه باسم المنان:
إذا علم العبد اسم الله المنان وما يحويه من عظيم المنن والنعم مع ما رغب به عباده من سؤاله والتوسل إليه بأسمائه وصفاته {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]؛ حرص على أن يكون لاسم الله (المنان) نصيب من دعائه.
وقد ورد دعاء الله باسمه (المنان) في السنة النبوية، ومن ذلك:
- حديث أنس رضي الله عنه، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا ورجل يصلي، ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ دَعَا الله بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى»
(1)
.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم: أن تمن علينا بالخير، والإحسان، واليقين، والإيمان، وأن تجعلنا من أهل القرآن،
وأن ترزقنا دوام ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.
(1)
سبق تخريجه.
الوَتْرُ جل جلاله
-
المعنى اللغوي:
قال الجوهري رحمه الله: «الوِتر- بالكسر-: الفرد»
(1)
.
قال ابن فارس رحمه الله: «
…
الوِتر: الفرد»
(2)
.
ورود اسم الله (الوتر) في القرآن الكريم:
لم يرد اسمه سُبْحَانَهُ (الوتر) في كتاب الله.
ورود اسم الله (الوتر) في السنة النبوية:
ورد اسم الله (الوتر) في السنة النبوية، ومن ورودها ما يلي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لِلهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا، لَا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ»
(3)
.
عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ،
(1)
الصحاح (2/ 842).
(2)
مقاييس اللغة (6/ 84).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(6410).
أَوْتِرُوا، فَإِنَّ اللهَ عز وجل وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ»
(1)
.
ثبوت اسم الله (الوتر) في حق الله تعالى:
من العلماء الذين أثبتوا اسم الله (الوتر) في حق الله تَعَالَى:
ابن القيم رحمه الله: في قوله: «فإن الله وتر يحب الوتر»
(2)
.
ابن عثيمين رحمه الله: فقد عده من الأسماء المثبتة بالسنة النبوية
(3)
.
معنى اسم الله (الوتر):
قال ابن قتيبة رحمه الله: «الله عز وجل وتر، وهو واحد»
(4)
.
(5)
.
قال الحليمي رحمه الله: «ومنها: (الوتر)؛ لأنه إذا لم يكن قديم سواه، لا إله ولا غير إله، لم ينبغ لشيء من الموجودات أن يضم إليه فيعد معه، فيكون
(1)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(892)، وأبو داود، رقم الحديث:(1416)، حكم الألباني: رقم الحديث: (1416).
(2)
التبيان في أقسام القرآن (ص: 30).
(3)
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص: 15).
(4)
غريب الحديث (1/ 172).
(5)
شأن الدعاء (ص: 29).
والمعدود معه شفعًا، لكنه واحد فرد وتر»
(1)
.
قال القرطبي رحمه الله: «الواحد الوتر: الذي لا شبيه له، ولا نظير ولا صاحبة، ولا ولد ولا شريك»
(2)
.
الآثار المسلكية للإيمان باسم الله (الوتر):
الأثر الأول: إثبات ما يتضمنه اسم الله (الوتر) من صفاته سُبْحَانَهُ، وتحقيق التوحيد له:
الله تَعَالَى وتر انفرد عن خلقه فجعلهم شفعًا، وقد خلق الله المخلوقات بحيث لا تعتدل ولا تستقر إلا بالزوجية ولا تهنأ على الفردية والأحدية، يقول تَعَالَى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]، فالرجل لا يهنأ إلا بزوجته، ولا يشعر بالسعادة إلا مع أسرته، والتوافق بين محبتهم ومحبته.
أما ربنا عز وجل فذاته صمدية وصفاته فردية، فهو المنفرد بالأحدية والوترية، لا ولد له ولا والد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3 - 1] ولم يتخذ صاحبة: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]{يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111]
وقد ثبت من حديث أبي هريرة: «إنَّ اللهَ عز وجل وَتْرٌ يُحِبُّ الوَتْرَ»
(3)
.
(1)
المنهاج (1/ 190).
(2)
تفسير القرطبي (20/ 244).
(3)
سبق تخريجه.
وكما أنه وتر في ذاته سُبْحَانَهُ، فهو الوتر الذي انفرد في صفاته، فهو العزيز بلا ذل، والقدير بلا عجز، والقوي بلا ضعف، والعليم بلا جهل، وهو الحي الذي لا يموت، والقيوم الذي لا ينام، والواحد الأحد الذي لا يشبهه أحد من الخلق، فهو جل جلاله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقد قال سُبْحَانَهُ عن نفسه:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ومن آمن بهذا أفرد الله بالعبادة، ووحَّده {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل: 91]
ونَزَّهَهُ عن المشابهة والمماثلة، فهو الوتر الذي لا مثيل ولا شريك له، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]
الأثر الثاني: استشعار أن كثير من العبادات والطاعات شُرعت وترًا:
يقول القرطبي رحمه الله معلقًا على حديث: «وَهُوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ»
(1)
: «الظاهر أن الوتر هنا للجنس؛ إذ لا معهود جرى ذكره حتى يحمل عليه، فيكون معناه أنه: يحب كل وتر شرعه، ومعنى محبته له: أنه أمر به، وأثاب عليه
…
قال أبو العباس القرطبي: والوتر يراد به التوحيد، فيكون المعنى: إن الله- في ذاته وكماله وأفعاله- واحد، ويحب التوحيد، أي: يوحد ويعتقد انفراده دون
(1)
سبق تخريجه.
خلقه، فيلتئم أول الحديث وآخره، وظاهره، وباطنه»
(1)
، ومن تأمل في كثير من العبادات والأعمال الصالحة وجدها شُرعت وترًا، ومن ذلك:
أولًا: أركان الإسلام وما يتعلق بها:
جعل الطهارة ثلاثًا:
عن سلمة بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا تَوَضَّأْتَ فَانْتَثِرْ، وَإِذَا اسْتَجْمَرْتَ فَأَوْتِرْ»
(2)
، أي: اجعل الحجارة التي تستنجي بها فردًا، استنج بثلاثة أحجار، أو خمسة، أو سبعة، ولا تستنج بالشفع.
جعل الصلاة خمسًا:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ تبارك وتعالى عَلَى الْعِبَادِ مَنْ أَتَى بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ تبارك وتعالى عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»
(3)
.
جعل نصاب الزكاة وترًا:
فكلها تشترك بالوتر، ففي الزروع خمسة أوسق، وفي الورق خمس أواق، وفي الإبل خمس من الإبل، يقول صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ
(1)
المفهم (7/ 18).
(2)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(19119)، والترمذي، رقم الحديث:(27)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي: رقم الحديث: (27).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(22693)، وابن ماجه، رقم الحديث:(1401)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(1401).
أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ»
(1)
.
جعل الطواف والسعي سبعًا:
(2)
.
(3)
.
رمي الجمار سبعًا:
عن ابن عمر رضي الله عنهما «أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ، فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1459)، و مسلم، رقم الحديث:(979).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(862)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف الترمذي، رقم الحديث:(862).
(3)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1645).
ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ»
(1)
.
ثانيًا: ما يتعلق بعامة السنن:
جعل آخر صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل وترًا:
عن نافع، أن ابن عمر قال:«مَنْ صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَجْعَلْ آخِرَ صَلَاتِهِ وِتْرًا قَبْلَ الصُّبْحِ، كَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُمْ»
(2)
.
كان صلى الله عليه وسلم يأكل التمرات وترًا:
فعن أنس بن مالك قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ يَأْكُلُهُنَّ إِفْرَادًا»
(3)
.
أمر صلى الله عليه وسلم بالاكتحال وترًا:
وإذا اكتحل فليكتحل وترًا؛ فلقد روي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْتَحِلُ وِتْرًا»
(4)
.
سن التكفين وترًا، وتغسيل الميت وترًا:
عن أم عطية رضي الله عنها قالت: «لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اغْسِلْنَهَا وِتْرًا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، وَاجْعَلْنَ فِي
(1)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(1633).
(2)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(751).
(3)
أخرجه أحمد، رقم الحديث:(12462)، حكم الألباني: صحيح، التعليقات الحسان، رقم الحديث:(2803).
(4)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث:(6010)، حكم الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، رقم الحديث:(2746).
الْخَامِسَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا غَسَّلْتُنَّهَا، فَأَعْلِمْنَنِي، قَالَتْ: فَأَعْلَمْنَاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ، وَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ»
(1)
.
أعاد صلى الله عليه وسلم الرقية وترًا:
قال صلى الله عليه وسلم لأنس رضي الله عنه: «إِذَا اشْتَكَيْتَ فَضَعْ يَدَكَ حَيْثُ تَشْتَكِي، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللهِ، أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ مِنْ وَجَعِي هَذَا، ثُمَّ ارْفَعْ يَدَكَ، ثُمَّ أَعِدْ ذَلِكَ وِتْرًا»
(2)
.
* وهنا مسألة يكثر السؤال عنها: هل يشرع الوقوف على وتر فيما لم ينص الشرع فيه كالأكل أو التطيب وغيره؟
هذه المسألة محل خلاف بين العلماء رحمهم الله، فمنهم من قال بالقطع على وتر تبركًا، كما قال ابن حجر رحمه الله:«وأما جعلهن وترًا فقال المهلب: فللإشارة إلى وحدانية الله تَعَالَى، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يفعله في جميع أموره تبركًا بذلك»
(3)
.
وذهب إلى هذا من المعاصرين الشيخ ابن باز رحمه الله.
ومن العلماء من رأى أنه يقتصر على ما ورد في النص من القطع على وتر، وما عدا ذلك فلا يستحب له، منهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، حيث قال في مجموع فتاوى ورسائل الشيخ
(4)
:
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(939).
(2)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(3588)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(3588).
(3)
فتح الباري (2/ 447).
(4)
مجموع الفتاوى (16/ 8831).
«وهل كلما أكل الإنسان تمرًا في غير هذه المناسبة يقطعها على وتر؟ نقول: لا، وهل الإنسان يقطع كل شيء على وتر؟ فإذا أكل نقول له: اقطع ثلاث لقمات، فهذا غير مشروع، وعندما يحب أن يزيد من الطيب، فيقول: أوتر، ولكن هذا لا أصل له، فأنا لا أعلم أن الإنسان مطلوب منه أن يوتر في مثل هذه الأمور، فأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ)
(1)
، فليس هذا على عمومه، لكنه عز وجل وتر يحكم شرعًا أو قدرًا بوتر، فمثلًا الصلاة في الليل نختمها بوتر التطوع، وفي النهار نختمها بوتر المغرب، وأيام الأسبوع وتر، السموات وتر، والأرض وتر، فيخلق الله عز وجل ما يشاء على وتر، ويحكم بما يشاء على وتر، وليس المراد بالحديث أن كل وتر فإنه محبوب إلى الله عز وجل، وإلا لقلنا: احسب خطواتك من بيتك إلى المسجد لتقطعها على وتر، احسب التمر الذي تأكله على وتر، احسب الشاي الذي تشربه لتقطعه على وتر، وكل شيء احسبه على وتر.
فهذا لا أعلم أنه مشروع، فأكل تمرات وترًا من السنن التي تفعل في عيد الفطر، خاصة أن لا تأتي المسجد حتى تأكل تمرات وترًا»
(2)
.
الأثر الثالث: محبة الله الوتر:
الله سُبْحَانَهُ هو الوتر الأحد، الذي تصمد إليه الخلائق في حاجاتها وضروراتها، وهو القادر على كل شيء، والمالك لكل شيء، والمتصرف في كل شيء.
(1)
أخرجه مسلم، رقم الحديث:(2677).
(2)
أخرجه البخاري، رقم الحديث:(953).
وهذا الشعور يولد المحبة لله تَعَالَى وحده، ويريح القلوب من شتاتها، واضطرابها، ويجعلها تسكن إلى ربها ومعبودها، وتقطع التعلق بمن لا يملكون شيئًا، ولا يقدرون على شيء، إلا بما أقدرهم الله عليه، ولا يملكون لأنفسهم ضرًّا، ولا نفعًا، فضلًا عن أن يملكوه لغيرهم!
الأثر الرابع: (فأوتروا):
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله عز وجل وِتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ»
(1)
، قال الطيبي رحمه الله في كتابه شرح المشكاة:«أي: صلوا الوتر»
(2)
، ثم علل بتعليل لطيف لما خصَّ الأمر بالوتر لأهل القرآن، حيث قال:«المراد بأهل القرآن: المؤمنون الذين صدقوا القرآن، وخاصة من يتولي القيام بحفظه، وتلاوته، ومراعاة حدوده وأحكامه. أقول- والله أعلم-: لعل المناسبة لتخصيص النداء بأهل القرآن في مقام الفردانية إنما كانت لأجل أن القرآن ما أنزل إلا لتقرير التوحيد، قال تَعَالَى على سبيل الحصر وتكريره: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت: 6]، أي: مقصور علي استئثار الله بالتوحيد، كأنه قيل: إن الله واحد يحب الوحدة، فوحدوه يا أهل التوحيد»
(3)
.
وصلاة الوتر سنة مؤكدة، وقتها: ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، يقول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ؛ الْوِتْرُ، جَعَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ»
(4)
.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
شرح مشكاة المصابيح (4/ 1224).
(3)
المرجع السابق.
(4)
أخرجه الترمذي، رقم الحديث:(452)، حكم الألباني: صحيح دون قوله: «خير النعم» ، صحيح وضعيف سنن الترمذي، رقم الحديث:(352).
وأقل الوتر ركعة واحدة، وأدنى الكمال ثلاثًا، وأكثره ثلاث عشرة ركعةً، ويجوز بما بين ذلك من الأوتار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُوتِرْ بِخَمْسٍ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُوتِرْ بِثَلَاثٍ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُوتِرْ بِوَاحِدَةٍ»
(1)
، وإن أوتر بأكثر من ذلك فلا حرج، ومن أراد الاستزادة فعليه بكتاب زاد المعاد لابن القيم رحمه الله.
فاللهم أنت الملك لا إله غيرك، ولا رب سواك، أنت الواحد لا شريك له، الأحد لا شبيه له، الوتر لا مثيل له، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تُعصى إلا بعلمك، تطاع فتَشْكُر، وتُعصى فتَغْفر، فلا إله إلا أنت؛ فاغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وأعنَّا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك، يا أرحم الراحمين
(2)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه، رقم الحديث:(1190)، حكم الألباني: صحيح، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، رقم الحديث:(1190).
(2)
للاستزادة من الآثار، يرجع لاسم الله (الواحد الأحد).
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ..
الحمد لله الذي يسر وأعان على إتمام هذه الموسوعة، موسوعة شرح أسماء الله الحسنى، والتي قضينا فيها سبع سنوات سِمان، مليئة بالعلم والفائدة، ابتدأتها بسلسلة دروس علمية في بيت من بيوت الله، في جامع عثمان بن عفان، في حي الواحة في العاصمة الرياض، ومن ثم تشكيل فريق علمي بإدارة الأستاذة الكريمة الفاضلة المسددة/ وفاء بنت محسن التركي؛ لتفريغ الدروس، وإعادة صياغتها، لإخراجها على شكل موسوعة علمية، تكون مرجعًا علميًا أصليًا، لمن رام الفائدة والعيش مع أسماء الله الحسنى.
وقد راجعتُ الموسوعة متنقلة بين مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيت الله الحرام، وكان ختام الانتهاء من مراجعتها في أعظم يوم عند الله تعالى؛ يوم النحر، العاشر من شهر ذي الحجة من عام 1440 للهجرة، وكنت من حجاج بيت الله تَعَالَى، فالفرحة مضاعفة بإتمام النسك، وإتمام الموسوعة، نسأل الله أن يتقبلها قبولًا حسنًا مباركًا.
فلربنا الحمدُ والامتنانُ، والفضلُ والطَّوْلُ والشكرانُ، ونحن راجون بفَضْلِ اللَّهِ تعالى دعوة صالحة ننتفع بها تقرّبنا إلى الله الكريم، وانتفاع مسلمٍ ببعض ما فيها نُعينه على مرضاة الله وطاعته، ونسألُه سبحانه سلوك سبيل الرشاد، والعصْمة من أهواء أهل الزَّيْغ والعِناد، ونتضرع إليه سبحانه أن يرزقنا
التوفيقَ للصواب، وما توفيقينا إلا بالله، عليه توكلنا وإليه متاب، حَسْبُنا اللَّهُ وَنِعْمَ الوكيل، ولا حول وَلا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيّ العَظيمِ.
والحمدُ لله ربّ العالمين أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، هذا مبلغ الجهد والعلم، فما كان في الموسوعة من خير فمن الله وحده، وما كان من خطأ وتقصير فمن أنفسنا ونستغفر الله منه، ورحم الله امرئًا أهدى إلينا عيوبنا.
وصلواتُ الله وسلامُه الأطيبان الأتمّان الأكملان على خير خلق الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى سائر النبيّينَ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
نوال بنت عبدالعزيز العيد
فهرس
المراجع والمصادر
1.
الإبانة الكبرى، أبوعبدالله عبيد الله العكبري، المعروف: بابن بطة العكبري، دار الراية، الرياض، الطبعة الثانية، 1415 هـ.
2.
إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل، صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، (دروس مفرغة)، 1417 هـ.
3.
الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، الطبعة الأولى، 1394 هـ.
4.
اجتماع الجيوش الإسلامية، شمس الدين عبد الله محمد بن أبي بكر، المعروف: بابن قيم الجوزية، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
5.
الآحاد والمثاني، أبو بكر بن أبي عاصم أحمد الشيبان، تحقيق: باسم فيصل أحمد الجوابرة، دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى، 1411 هـ.
6.
الأحاديث المختارة أو المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، ضياء الدين أبو عبد الله محمد الحنبلي المقدسي، دراسة وتحقيق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثالثة، 1420 هـ
7.
إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد الغزالي الطوسي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى.
8.
الأخلاق والسير في مداواة النفوس، أبو محمد علي بن أحمد الأندلسي
القرطبي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثانية، 1399 هـ.
9.
الآداب الشرعية والمنح المرعية، أبو عبد الله محمد بن مفلح، عالم الكتب، مصر، الطبعة الأولى.
10.
أدب الدنيا والدين، أبو الحسن علي بن محمد البصري البغدادي، المعروف: بالماوردي، دار مكتبة الحياة، لبنان، الطبعة الأولى، 1986 م.
11.
أدب المجالسة وحمد اللسان، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد النمري القرطبي، المعروف: بابن عبد البر، تحقيق: سمير حلبي، دار الصحابة للتراث، طنطا، الطبعة الأولى، 1409 هـ.
12.
الأدب المفرد بالتعليقات، محمد بن إسماعيل البخاري، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
13.
الأذكار، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1414 هـ.
14.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1405 هـ.
15.
أسباب نزول القرآن، أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، تحقيق: عصام بن عبد المحسن الحميدان، دار الإصلاح، الدمام، الطبعة الثانية، 1412 هـ.
16.
الاستقامة، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني الحنبلي، المعروف: بابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1403 هـ.
17.
الاستيعاب في معرفة الأصحاب، أبو عمر يوسف بن عبد الله النمري
القرطبي، المعروف: بابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1412 هـ.
18.
الأسماء والصفات، أحمد بن الحسين بن علي الخراساني المعروف بالبيهقي، تحقيق: عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة، الطبعة الأولى، 1413 هـ.
19.
الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، شمس الدين محمد الأنصاري القرطبي، تحقيق: عرفان بن سليم الحشا حسونه الدمشقي، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، 1426 هـ.
20.
اشتقاق أسماء الله، عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، تحقيق: عبد رب الحسين المبارك، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1406 هـ.
21.
الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المعروف: بابن حجر، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود-على محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ.
22.
الأصول الثلاثة، محمد بن عبد الوهاب، وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، الرياض، الطبعة العاشرة، 1420 هـ.
23.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1415 هـ.
24.
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد، صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1423 هـ.
25.
الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان، أبو بكر عبد الله بن محمد الأموي القرشي، المعروف: بابن أبي الدنيا تحقيق: نجم عبد الرحمن خلف، دار البشير، عمان، الطبعة الأولى، 1413 هـ.
26.
الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث، أحمد بن الحسين بن علي الخراساني، المعروف: بأبو بكر البيهقي، تحقيق: أحمد عصام الكاتب، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الأولى، 1401 هـ.
27.
أعلام الحديث شرح صحيح البخاري، أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي، تحقيق: محمد بن سعد آل سعود، جامعة أم القرى (مركز البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي)، الطبعة الأولى، 1409 هـ.
28.
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف: بابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1432 هـ.
29.
اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني الحنبلي، المعروف: بابن تيمية، تحقيق: ناصر عبد الكريم العقل، دار عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة السابعة، 1419 هـ.
30.
إكمال المعلم بفوائد مسلم، عياض بن موسى السبتي، تحقيق: الدكتور يحيى إسماعيل، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
31.
الأموال، أبو أحمد حميد بن مخلد الخرساني، المعروف: بابن زنجويه، تحقيق: الدكتور شاكر ذيب فياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، السعودية، الطبعة الأولى، 1406 هـ.
32.
الأموال، أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله الهروي البغدادي، تحقيق: خليل محمد هراس، دار الفكر، بيروت.
33.
أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل، زين الدين أبو عبد الله محمد الحنفي الرازي، تحقيق: عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودي، دار عالم الكتب، الرياض، الطبعة الأولى، 1413 هـ.
34.
أوجز المسالك إلى موطأ مالك، محمد بن زكريا الكاندهولي المدني، تحقيق: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني الحنبلي، المعروف بابن تيمية، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1424 هـ.
35.
الأوسط، المعجم الأوسط الطبراني، أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد الشامي، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، القاهرة.
36.
البحر الزخار، مسند البزار، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، المعروف: بالبزار، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1430 هـ.
37.
البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، لبنان، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
38.
بدائع الفوائد، شمس الدين عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف: بابن القيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت.
39.
بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، تحقيق: محمد علي النجار، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة.
40.
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار، أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: عبد الكريم بن رسمي ال الدريني، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1422 هـ.
41.
تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1424 هـ.
42.
تاريخ بغداد، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1422 هـ.
43.
تاريخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله، المعروف: بابن عساكر، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415 هـ.
44.
التبيان في آداب حملة القرآن، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، تحقيق: محمد الحجار، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثالثة، 1414 هـ.
45.
التبيان في أقسام القرآن، شمس الدين عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن المعروف: بابن القيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت.
46.
تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الرابعة.
47.
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي المباركفوري، أبو العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفورى، دار الكتب العلمية، بيروت.
48.
تحفة الودود بأحكام المولود، شمس الدين عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف: بابن القيم الجوزية، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة دار البيان، دمشق، الطبعة الأولى، 1391 هـ.
49.
تخريج أحاديث مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ.
50.
تخريج الكلم الطيب لابن تيمية، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، لطبعة الثالثة، 1397 هـ.
51.
تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي، تحقيق: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة.
52.
التدمرية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، تحقيق: محمد بن عودة السعوي، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة السادسة 1421 هـ.
53.
التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق ودراسة: الصادق بن محمد بن إبراهيم، مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ.
54.
الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك، أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي، المعروف بابن شاهين، تحقيق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ.
55.
التعريفات، الجرجاني، علي بن محمد بن علي الزين الشريف، ضبطه وصححه: جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1403 هـ.
56.
التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان وتمييز سقيمه من صحيحه وشاذه من محفوظه، محمد ناصر الدين الألباني، دار باوزير للنشر والتوزيع، جدة.
57.
تفسير ابن رجب، الجامع لتفسير الإمام ابن رجب الحنبلي، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن السلامي الدمشقي الحنبلي، جمع
وترتيب: أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد، دار العاصمة، الطبعة الأولى، 1422 هـ.
58.
تفسير ابن عثيمين لجزء عم، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، إعداد وتخريج: فهد بن ناصر السليمان، دار الثريا للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثانية، 1423 هـ.
59.
تفسير أسماء الله الحسنى، إبراهيم بن السري بن سهل، المعروف: بأبي إسحاق الزجاج، تحقيق: أحمد يوسف الدقاق، دار الثقافة العربية، الطبعة الأولى.
60.
تفسير الأسماء الحسنى، عبدالرحمن السعدي، تحقيق: عبيد بن علي العبيد، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1421 هـ.
61.
تفسير العثيمين، محمد بن صالح العثيمين، مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية، الطبعة، الأولى، 1436 هـ.
62.
تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1420 هـ.
63.
تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم، أبو محمد عبد الرحمن بن محمد، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة الثالثة، 1419 هـ.
64.
التفسير الكبير، أبو عبد الله محمد بن عمر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1420 هـ.
65.
التمهيد لشرح كتاب التوحيد، صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ، دار التوحيد، الطبعة الأولى، 1424 هـ.
66.
تهذيب الأخلاق، الأخلاق والسير في مداواة النفوس، ابن حزم، أبو محمد
علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثانية، 1399 هـ.
67.
تهذيب الكمال في أسماء الرجال، أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف، جمال الدين ابن الزكي أبي محمد القضاعي الكلبي المزي، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1400 هـ.
68.
تهذيب اللغة، أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري الهروي، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ.
69.
التوحيد وبيان العقيدة السلفية النقية، عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حميد، تحقيق: أشرف بن عبد المقصود، مكتبة طبرية، الطبعة الأولى، 1412 هـ.
70.
توضيح الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، اعتنى به ونسقه وعلق عليه: أبو محمد أشرف بن عبد المقصود، دار أضواء السلف، الرياض، الطبعة الأولى 1420 هـ.
71.
التوقيف على مهمات التعاريف، زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن زين العابدين الحدادي، عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1410 هـ.
72.
التوهم في وصف أحوال الآخرة، الحارث بن أسد المحاسبي، مكتبة التراث الإسلامي، حلب.
73.
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب تحقيق: زهير الشاويش،
المكتب الاسلامي، بيروت، دمشق، الطبعة الأولى، 1423 هـ.
74.
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ.
75.
التيسير بشرح الجامع الصغير، زين الدين محمد، المعروف: بعبد الرؤوف بن تاج العارفين الحدادي المناوي، مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، الطبعة الثالثة، 1408 هـ.
76.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ.
77.
جامع الرسائل تقي الدين أبو العباس أحمد الحراني الحنبلي، المعروف: بابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، دار العطاء، الرياض، الطبعة الأولى 1422 هـ.
78.
الجامع الصحيح، سنن الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى الضحاك، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي وإبراهيم عطوة عوض، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية، 1395 هـ
79.
جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن السلامي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السابعة، 1422 هـ.
80.
الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422 هـ.
81.
الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1384 هـ.
82.
جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمد خير الأنام، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف: بابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرناؤوط - عبد القادر الأرناؤوط، دار العروبة، الكويت، الطبعة الثانية، 1407 هـ.
83.
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، شمس الدين عبد الله محمد بن أبي بكر، المعروف بابن قيم الجوزية، دار المعرفة، المغرب، الطبعة الأولى، 1418 هـ
84.
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف بابن القيم الجوزية، تحقيق: زايد بن أحمد النشيري، مجمع الفقه الإسلامي، جدة، الطبعة الأولى، 1428 هـ.
85.
حاشية كتاب التوحيد، عبد الرحمن بن محمد النجدي، المعروف بابن قاسم، الطبعة الثالثة، 1408 هـ.
86.
الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة، أبو القاسم إسماعيل بن محمد القرشي، المعروف: بإسماعيل الاصبهاني، وأبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحنبلي المعروف بابن تيمية تحقيق: محمد المدخلي، دار الراية، الرياض، الطبعة الثانية، 1419 هـ.
87.
الحسبة في الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني الحنبلي، المعروف: بابن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت.
88.
الحسنة والسيئة، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني
الحنبلي، المعروف: بابن تيمية، الطبعة الأولى.
89.
الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشامية، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار ابن القيم، الطبعة الأولى.
90.
حلية الأنبياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1409 هـ.
91.
خلق أفعال العباد، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة السادسة، 1421 هـ.
92.
الدر المنثور في التفسير المأثور، جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن السيوطي، دار الفكر، الطبعة الأولى.
93.
الدعوات الكبير، أحمد بن الحسين الخراساني، المعروف بأبو بكر البيهقي، تحقيق: بدر بن عبد الله البدر، غراس للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى.
94.
دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أحمد بن الحسين الخراساني المعروف: بأبي بكر البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ.
95.
الديات، أبو بكر بن عاصم الشيباني، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، كراتشي.
96.
ذم الهوى، الامام الحافظ ابن الجوزي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى.
97.
الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار الهلال، بيروت، الطبعة الأولى.
98.
الرسالة التبوكية، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف بابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد عزير شمس، مجمع الفقه الإسلامي، جدة،
الطبعة الأولى.
99.
الرسالة القشيرية، عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري، تحقيق: عبد الحليم محمود، دار المعارف، القاهرة.
100.
الرقاء والبكاء، أبو بكر عبد الله بن محمد الأموي القرشي، المعروف بابن أبي الدنيا، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الثالثة، 1419 هـ.
101.
روض المحبين ونزهة المشتاقين، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف بابن القيم الجوزية، تحقيق: محمد عزير شمس، مجمع الفقه الإسلامي، جدة، الطبعة الأولى.
102.
الروض النضير الجامع بين تحفة الطلاب والتيسير، قاسم بن محمد النوري، دار البشائر، الطبعة الأولى، 1425 هـ.
103.
روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت.
104.
رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، محي الدين النووي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1412 هـ.
105.
زاد المعاد في هدي خير العباد، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن القيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1418 هـ.
106.
الزهد والرقائق، أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك المروزي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى.
107.
الزهد، أبو السري هناد بن السري، تحقيق: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت، الطبعة الأولى، 1406 هـ.
108.
الزهد، أبو سفيان وكيع بن الجراح، تحقيق: عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1404 هـ.
109.
الزهد، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1420 هـ.
110.
سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، 1415 هـ.
111.
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتب المعارف، الطبعة الأولى.
112.
سنن أبي داود، أبوداوود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، الطبعة الأولى.
113.
السنن الكبرى، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب الخراساني، المعروف بالنسائي، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ.
114.
السنن الكبرى، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى، المعروف: بأبو بكر البيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1424 هـ.
115.
سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب الخراساني، المعروف بالنسائي، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، الطبعة الثانية، 1406 هـ.
116.
سير أعلام النبلاء، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1427 هـ.
117.
السيرة النبوية، عبد الرحمن بن عبد الله المعروف بابن هشام، دار الصحابة للتراث، طنطا، الطبعة الأولى.
118.
شأن الدعاء، أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي، تحقيق: أحمد يوسف الدقاق، دار الثقافة العربية، الطبعة الثالثة، 1412 هـ.
119.
شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة، د. سعيد بن علي القحطاني، مطبعة السفير، مؤسسة الجريسي، الرياض، الطبعة الأولى.
120.
شرح الأربعين النووية، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، دار الثريا للنشر، الطبعة الأولى.
121.
شرح الأربعين النووية، يحيى بن شرف النووي، صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1431 هـ.
122.
شرح الأسماء، شيخ الإسلام فخر الدين الرازي، الطبعة الأولى.
123.
شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، محمد بن عبد الباقي الزرقاني المصري الأزهري، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1424 هـ.
124.
شرح السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1403 هـ.
125.
شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، 1411 هـ.
126.
شرح العقيدة الطحاوية، صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ، دار المودة، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1432 هـ.
127.
شرح العقيدة الواسطية، محمد بن صالح العثيمين، خرج أحاديثه واعتنى به: سعد بن فواز الصميل
128.
شرح المشكاة الطيبي على مشكاة المصابيح، المعروف بالكاشف عن حقائق السنن، شرف الدين الحسين الطيبي، تحقيق: عبد الحميد هنداوي،
مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، الطبعة الأولى، 1417 هـ
129.
شرح رياض الصالحين، محمد بن صالح العثيمين، مدار الوطن للنشر، الطبعة الأولى، 1426 هـ.
130.
شرح صحيح البخاري، ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثانية، 1423 هـ.
131.
شرح مشكل الآثار، أبو جعفر أحمد بن محمد، المعروف: بالطحاوي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1415 هـ.
132.
شرف أصحاب الحديث، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق: د. محمد سعيد خطي اوغلي، دار إحياء السنة النبوية، أنقرة، الطبعة الأولى.
133.
شروط الدعاء وموانع الإجابة في ضوء الكتاب والسنة، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، مطبعة السفير، الرياض، الطبعة الأولى.
134.
شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى، المعروف: بأبو بكر البيهقي، تحقيق: د. عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1423 هـ.
135.
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، أبو عبد الله محمد أيوب الزرعي، دار الفكر، بيروت، 1398 هـ.
136.
الصارم المسلول على شاتم الرسول، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني الحنبلي، المعروف: بابن تيمية، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، الحرس الوطني السعودي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى.
137.
صحيح ابن خزيمة، ابن خزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي،
المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1424 هـ.
138.
صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، دار الصديق للنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1418 هـ.
139.
صحيح الترغيب والترهيب، عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى، 1421 هـ.
140.
صحيح الجامع الصغير، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى.
141.
صحيح سنن ابن ماجه، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى، 1417 هـ.
142.
صحيح وضعيف سنن ابن ماجه، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف الطبعة الأولى، 1417 هـ.
143.
صحيح وضعيف سنن أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى 1419 هـ.
144.
صحيح وضعيف سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، برنامج منظومة التحقيقات الحديثية، من إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة.
145.
صحيح وضعيف سنن النسائي أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني المعروف بالنسائي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني مكتبة المعارف، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
146.
صفة الصلاة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى.
147.
الصلاة وحكم تركها، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف: بابن القيم الجوزية، تحقيق الشيخ كامل عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى.
148.
الصمت، أبو بكر عبد الله بن محمد الأموي القرشي، المعروف: بابن أبي الدنيا، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1410 هـ.
149.
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف: بابن قيم الجوزية، تحقيق: علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
150.
صيد الخاطر، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، بعناية: حسن المساحي سويدان، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى.
151.
الضعفاء الكبير، أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي المكي، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، دار المكتبة العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1404 هـ.
152.
ضعيف الجامع الصغير وزيادته، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني، إشراف: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي.
153.
طبقات الشافعية، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق: عبد الحفيظ منصور، دار المدار الإسلامي، 2004 م
154.
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، شمس الدين محمد بن أبي بكر، المعروف بابن القيم الجوزية، تحقيق: نايف بن أحمد مجمع الفقه الإسلامي، جدة، الطبعة الأولى، 1424 هـ.
155.
طريق الهجرتين وباب السعادتين، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن
أيوب، المعروف: بابن القيم الجوزية، دار السلفية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1394 هـ
156.
العبودية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني الحنبلي، المعروف: بابن تيمية، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة السابعة، 1426 هـ.
157.
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف: بابن القيم الجوزية، دار ابن كثير، دمشق، مكتبة دار التراث، المدينة المنورة، الطبعة الثالثة، 1409 هـ.
158.
العرف الشذي شرح سنن الترمذي، محمد أنور شاه بن معظم شاه الكشمير، تحقيق: محمود شاكر أبو فهد، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى، 1425 هـ.
159.
العظمة، أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأنصاري، المعروف: بأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق: رضا الله بن محمد إدريس المباركفوري، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
160.
عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، أحمد بن يوسف بن عبد الدائم السمين الحلبي، تحقيق: محمد باسل عيون السود، الطبعة الأولى، 1417 هـ.
161.
عمدة القاري شرح صحيح البخاري، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن بدر الدين العينى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى.
162.
عمل اليوم والليلة، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب الخراساني المعروف: بالنسائي، تحقيق: فاروق حمادة، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1406 هـ.
163.
عمل اليوم والليلة، أحمد بن محمد بن إسحاق، المعروف: بابن السني، تحقيق: كوثر البرني، دار القبلة الإسلامية، جدة، الطبعة الأولى.
164.
غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، شمس الدين أبو العون محمد بن أحمد السفاريني، مؤسسة قرطبة، مصر، الطبعة الثانية، 1414 هـ
165.
غرائب القرآن ورغائب الفرقان، نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري، تحقيق: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1416 هـ
166.
فتاوى اللجنة الدائمة، اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الإدارة العامة للطبع، الرياض.
167.
فتاوى نور على الدرب للعثيمين، محمد بن صالح العثيمين.
168.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تصحيح وتحقيق: عبد العزيز بن باز، إخراج وتصحيح: محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1379 هـ
169.
الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ومعه بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، أحمد بن عبد الرحمن بن محمد البنا الساعاتي، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية.
170.
فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى.
171.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني اليمني، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق، الطبعة
الأولى، 1414 هـ.
172.
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني الحنبلي، المعروف بابن تيمية، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة دار البيان، دمشق، 1405 هـ.
173.
فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، محمد بن نصر الدين محمد عويضة.
174.
فقه الأدعية والأذكار، عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، الكويت، الطبعة الثانية، 1423 هـ.
175.
فقه الأسماء الحسنى، عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، دار التوحيد، الرياض، الطبعة الأولى.
176.
الفوائد، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف: بابن القيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1393 هـ
177.
القدر، أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي، تحقيق: عبد الله بن حمد المنصور، أضواء السلف، الطبعة الأولى، 1418 هـ.
178.
القضاء والقدر، أبو بكر أحمد بن الحسين الخرساني المعروف بالبيهقي، تحقيق: محمد بن عبد الله آل عامر، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1421 هـ.
179.
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، محمد بن صالح العثيمين، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، الطبعة الثالثة، 1421 هـ.
180.
القول المفيد على كتاب التوحيد، محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي، الطبعة الثانية، 1424 هـ.
181.
الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (شرح القصيدة النونية)، شمس
الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف: بابن القيم الجوزية، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن العريفى، ناصر بن يحيى الحنيني، عبد الله بن عبد الرحمن الهذيل، فهد بن علي المساعد، مجمع الفقه الإسلامي، جدة، الطبعة الأولى، 1428 هـ
182.
الكامل في التاريخ، عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد الشيباني الجزري، المعروف: بابن الأثير، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ.
183.
كتاب التوحيد، محمد بن عبد الوهاب، تحقيق: عبد العزيز بن عبد الرحمن السعيد وغيره، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض.
184.
كتاب السنة، أبو بكر بن أبي عاصم، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1400 هـ.
185.
كتاب الصفدية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني الحنبلي، المعروف: بابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى، 1406 هـ.
186.
الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، تحقيق: عدنان درويش- محمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى.
187.
لباب التأويل في معاني التنزيل المعروف بتفسير الخازن، علاء الدين علي بن محمد المعروف بالخازن، تحقيق: محمد علي شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ.
188.
لسان العرب، محمد بن مكرم الأنصاري المعروف بان منظور، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1414 هـ.
189.
لقاء الباب المفتوح، محمد بن صالح العثيمين، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.
190.
مجاز القرآن، أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1381 هـ.
191.
مجلة البحوث الإسلامية -مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة للإدارات البحوث العلمية والإفتاء الدعوة والإرشاد-، مجموعة من المؤلفين، الرئاسة العامة للإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
192.
مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
193.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق: حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 هـ.
194.
مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني الحنبلي، المعروف بابن تيمية، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، 1416 هـ.
195.
مجموع الفوائد واقتناص الأوابد، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق: سعد بن فواز الصميل، دار الجوزي، 1424 هـ.
196.
مجموع فتاوى ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله بن باز، أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر.
197.
مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين، محمد بن صالح العثيمين، دار الوطن - دار الثريا، الطبعة الثانية، 1413 هـ
198.
محاسن التأويل، محمد جمال الدين بن القاسمي، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ.
199.
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف بابن قيم الجوزية، تحقيق: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1422 هـ.
200.
مختصر العلو للعلي العظيم، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق واختصار: محمد بن ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1412 هـ.
201.
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب، المعروف: بابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1416 هـ.
202.
مدخل إلى دراسة النظم الإسلامية، إسماعيل علي محمد، دار الكلمة، 1437 هـ.
203.
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ويليه الإكمال في أسماء الرجال، ولي الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، نور الدين ملا علي بن سلطان القاري، تحقيق: جمال العيتاني، دار الكتب العلمية، 1422 هـ.
204.
مساوئ الأخلاق ومذمومها، أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي، تحقيق: مصطفى بن أبو النصر الشلبي، مكتبة السوادي للتوزيع، جدة، الطبعة الأولى، 1413 هـ.
205.
المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف بابن البيع، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ.
206.
مسند أبي داوود الطيالسي، أبو داوود سليمان بن داوود بن الجارود
الطيالسي، تحقيق: محمد عبد المحسن التركي، دار هجر، مصر، الطبعة الأولى، 1419 هـ.
207.
مسند إسحاق بن راهويه، أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم المرزوي المعروف بابن راهويه، تحقيق: عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1412 هـ.
208.
مسند الشاميين، أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد بن أيوب الشامي، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ.
209.
المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعروق بصحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
210.
المسند، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، تحقيق: أحمد محمد شاكر- حمزة الزين، دار الحديث، القاهرة، الطبعة، الأولى، 1416 هـ.
211.
مشكاة المصابيح، ولي الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة.، 1985 م.
212.
المصنف في الأحاديث و الآثار، أبو بكر بن أبي شيبة عبد الله بن محمد العبسي، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، 1409 هـ.
213.
المصنف، أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني، تحقيق:
حبيب الرحمن الأعظمي، المجلس العلمي، الهند، يطلب من: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ.
214.
مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم، زينب كردي ..
215.
معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، حافظ بن أحمد بن علي الحكمي، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر، دار القيم، الدمام، الطبعة الأولى، 1410 هـ.
216.
المعتمد في أصول الدين، أبو يعلى محمد بن الحسين الحنبلي البغدادي، تحقيق: وديع زيدان حداد، دار المشرق، بيروت، الطبعة الأولى، 1986 م.
217.
المعجم الأوسط، أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد الشامي، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد- عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الناشر، القاهرة.
218.
المعجم الصغير، أبو القاسم الطبراني سليمان بن أحمد الشامي، تحقيق: محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، دار عمار، بيروت، عمان، الطبعة الأولى، 1405 هـ.
219.
معجم الفروق اللغوية، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري، تحقيق: بيت الله بيات، مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1412 هـ.
…
220.
معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399 هـ.
221.
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت.
222.
المفردات في غريب القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بـ
الراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1412 هـ.
…
223.
المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي، الناشر الجفان والجابي، قبرص، الطبعة الأولى، 1407 هـ.
224.
مكارم الأخلاق ومعاليها ومحمود طرائقها، أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي السامري، تحقيق: أيمن عبد الجابر البحيري، دار الآفاق العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1419 هـ، المكتب الإسلامي
225.
المنتخب من مسند عبد بن حميد، أبو محمد عبد الحميد بن حميد بن نصر الكسي ويقال له الكشى، تحقيق: مصطفى العدوي، دار بلنسية، الطبعة الثانية، 1423 هـ
226.
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1392 هـ.
227.
المنهاج في شعب الإيمان، أبو عبد الله الحليمي الحسين بن الحسن البخاري الجرجاني، تحقيق: حلمي محمد فودة، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1399 هـ.
228.
منهج الإمام ابن القيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى، مشرف بن علي بن عبد الله الغامدي، إشراف: أحمد بن عبد اللطيف آل العبد اللطيف، 1423 - 1424 هـ
229.
موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، المحقق محمد عبد الرزاق حمزة، دار الكتب العلمية.
230.
المواهب الربانية من الآيات القرآنية، عبد الرحمن بن ناصر السعدي،
اعتنى به: عمر بن عبد الله المقبل، الطبعة الأولى 1432 هـ.
231.
موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق، ياسر عبد الرحمن، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1428 هـ.
232.
موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين، محمد جمال الدين بن محمد القاسمي، تحقيق: مأمون بن محيي الدين الجنان، دار الكتب العلمية، 1415 هـ.
233.
النبوات، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني الحنبلي المعروف: بابن تيمية، تحقيق: عبد العزيز بن صالح الطويان، أضواء السلف، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ.
234.
نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم، عدد من المختصين بإشراف: صالح بن عبد الله بن حميد، دار الوسيلة للنشر والتوزيع، جدة، الطبعة الرابعة.
235.
النظم الإسلامية، عبد الرحمن الضحياني، دار المآثر، المدنية المنورة، الطبعة الأولى، 1423 هـ.
236.
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، إبراهيم بن عمر البقاعي، دار الكتب الإسلامي، القاهرة.
237.
النكت والعيون أبو الحسن علي بن محمد البغدادي المعروف بالماوردي، تحقيق: السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية، بيروت.
238.
النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الشيباني الجزري المعروف: بابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، محمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت، 1399 هـ.
239.
النهج الأسمي في شرح أسماء الله الحسنى، محمد الحمود النجدي، مكتبة الإمام الذهبي، الكويت.
240.
نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن العباس، عبد الرحمن أحمد بن رجب الحنبلي، تحقيق: محمد بن ناصر العجمي، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى، 1414 هـ.
241.
الوابل الصيب من الكلم الطيب، شمس الدين محمد بن أبي بكر، المعروف: بابن القيم الجوزية، تحقيق: سيد إبراهيم، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1999 م.
242.
الورع، أبو بكر عبد الله بن محمد الأموي القرشي، المعروف: بابن أبي الدنيا، تحقيق: أبي عبد الله محمد بن حمد الحمود، الدار السلفية، الكويت، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
243.
ولاية الله والطريق إليها، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق: إبراهيم هلال، دار الكتب الحديثة، القاهرة.
244.
اليوم الآخر، عمر بن سليمان بن عبد الله الأشقر، دار النفائس، 1415 هـ.