المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة الحمد لله الذي فضَّل هذه الأمةَ على سائر الأمم، وأنزل - موقف المسلم من الفتن في ضوء حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

[نوال العيد]

فهرس الكتاب

‌مقدمة

الحمد لله الذي فضَّل هذه الأمةَ على سائر الأمم، وأنزل إليها خير الكتب، وأرسل إليها خير الرسل، والصلاة والسلام على النبي الأمين، الذي ما ترك خيرة إلا ودل أمته عليه، وما ترك شرا إلا وحذر أمته منه؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن المتأمل الأحوال الزمان يقف عيانا على خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحدث وما سيحدث من تغيرات على كافة الأصعدة والمجالات الشرعية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والكونية وغيرها، ولأن أجل ما يحفظ وأثمن ما يعتني به دين العبد الذي به نجاته وفلاحه في الدنيا والآخرة، جاءت النصوص الشرعية لتبين خطر الفتن وموقف المسلم منها، لأنه إذا لم يرع حالها، ولم ينظر إلى نتائجها، ويبين له الموقف الشرعي في التعامل معها، أضحى دينه عرضة للأخطار، وصار ضحية للشبهات والشهوات، وتحولت الفتن من فتن خاصة صغيرة تستهدف الأفراد إلى عامة كبيرة تستهدف المجتمعات، وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم والحال كذلك أن يترك أتباعه دون

ص: 5

تهيئة نفوسهم لما سيستقبلون، وكيف يتعاملون، ليسيروا على نور وبصيرة تقيهم الضلال والزيغ والاضطراب والشك، فيصمدون والناس يتساقطون، ويفقهون والناس يجهلون، ويمسكون والخائضون يخوضون، فتأتي أعمالهم وأقوالهم مبنية على العلم الذي تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه لا عن عقل قاصر، أو هوى متبع، أو جهل يودي بصاحبه.

ولذا حرص سلف الأمة على جمع أحاديث الفتن واستشراحها والتفقه فيها، وأفردوا لها أبوابا خاصة في كتبهم، بل إن من أوائل الأبواب التي أفردت بالتصنيف عند المحدثين "باب الفتن" الذي صنف فيه نعيم بن حماد

الخزاعي (ت 228) كتابا قد طبع، (ثم سار على آثارهم الموفقون من أشياعهم واقفين مع الحجة والاستدلال يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحدانا، وإذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أمر انتدبوا إليه، ولا يسألونه عما قال برهانا، ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس أو يعارضوها برأي أو قياس)

(1)

.

(1)

إعلام الموقعين (6 - 7).

ص: 6

ونحن في هذا الزمان - زمان الفتن بألوانها - بحاجة لتأمل الآيات والأحاديث الواردة في الفتن، وأخذ العبر والعظات والأحكام، والخروج بفقه ما ينبغي عمله عند الفتن في ضوء كتاب الله وصحيح سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح، ومن الأحاديث التي حوت قواعد مهمة في موقف المسلم من الفتنة الحديث الذي يرويه الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي قال له الرسول فيه «الزم بيتك، وأملك عليك لسانك ودع عنك .... »

وفي ضوء ما تقدم أحببت أن أضرب بسهمي في هذا الموضوع بالإضافة إلى ما يأتي:

1/ حاجة الناس الماسة في مثل هذه الأزمنة إلى طرح موضوع الفتن وبيان سبل النجاة منها.

2/ اضطراب مواقف الناس عند الفتن لقلة علمهم وجهلهم.

3/ التجرؤ على الثوابت والمسلمات والخوض في دين الله بغير علم ومن أناس غير مؤهلين.

4/ خوض كثير من الناس في أمور عظام هي مزلة أفهام، ينبغي للمسلم الإمساك عنها.

ص: 7

5/ خدمة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية ودراية.

6/ اشتمال حديث عبد الله بن عمرو) على توجيهات وقواعد جامعة مهمة لا يستغني عنها مسلم عند وقوع الفتن.

7/ بيان موقف أهل السنة والجماعة من الفتن وأحاديثها وأحداثها.

8/ الحاجة الماسة لمثل هذه الموضوعات المعاصرة والحية في ساحة اليوم، لتدل المسلم على الهدى، وتزوده بالخير والتقى، وتنير له الطريق، وتنجيه من كل مزلق عميق.

‌موضوعات البحث:

قسمت البحث إلى مقدمة، وتمهيد، وثلاثة مباحث، وخاتمة.

المقدمة: وضمنتها: أهمية البحث، وخطة البحث.

التمهيد: وفيه تعريف الفتن.

المبحث الأول: أقسام الفتن.

المبحث الثاني: تخريج حديث عبد الله بن عمرو، ودراسة إسناده.

ص: 8

المبحث الثالث: وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: «الزم بيتك» .

المطلب الثاني: «املك عليك لسانك» .

المطلب الثالث: «ودع عنك أمر العامة، وعليك بأمر نفسك خاصة»

الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.

ص: 9

‌التمهيد

وفيه تعريف الفتن وبيان استعمالاتها:

‌تعريف الفتن:

في اللغة: الفتن جمع ثنة، قال ابن فارس:«الفاء والتاء والنون، أصل صحيح يدل على الابتلاء والاختبار»

(1)

، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنت الفضة والذهب، إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد

(2)

. قال الخليل: الف: الإحراق، يقال: ورق فتين أي فضة محرقة، ويقال للحرة فتين، كأن حجارتها محرقة

(3)

ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}

(4)

أي أحرقوهم بالنار

(5)

.

وافتتن الرجل، وفتن فهو مفتون، إذا أصابته فتنة فذهب ماله أو عقله

(6)

، والفتنة إعجابك بالشيء.

(1)

مقاييس اللغة، لابن فارس (4/ 472)، مادة (فَتنَ).

(2)

لسان العرب، لابن منظور (6/ 3344) مادة (فَتنَ).

(3)

الصحاح، للجوهري (2175) مادة (فَتنَ).

(4)

سورة البروج: 10.

(5)

لسان العرب، لابن منظور (6/ 3344) مادة (فَتنَ).

(6)

القاموس المحيط، للفيروز آبادي (1575) مادة (فَتنَ).

ص: 11

والفتنة الضلالة والإثم، والفاتن المضل عن الحق

(1)

.

والفنان الشيطان

(2)

، وجاء في الحديث «المسلم أخو المسلم، يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتان»

(3)

.

ويقال فَتَنَ الرجل، أي زال عما كان عليه

(4)

، ومنه قوله:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}

(5)

.

والفتنة ما يقع بين الناس من القتال

(6)

، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إني أرى الفتن خلال بيوتكم»

(7)

. والفتنة القتل، ومنه قوله تعالى:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}

(8)

.

اصطلاحا: معنى الفتنة في الأصل: الاختبار والامتحان، ثم

(1)

لسان العرب، لابن منظور (6/ 3345) مادة (فَتنَ).

(2)

الصحاح، للجوهري (2175) مادة (فَتنَ).

(3)

رواه أبو داود في سننه، كتاب الخراج والأمارة، باب في قطاع الأرضين (3070)، (3/ 451)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (309) ..

(4)

لسان العرب، لابن منظور (6/ 3345) مادة (فَتنَ).

(5)

سورة الإسراء: 73

(6)

لسان العرب، لابن منظور (6/ 3345) مادة (فَتنَ).

(7)

رواه مسلم في الصحيح، كتاب الفتن، باب نزول الفتن كمواقع المطر، (2885)، (18/ 224).

(8)

سورة النساء: 110

ص: 12

استعملت في كل أمر يكشفه الامتحان عن سوء وفيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه، كالكفر والإثم والتحريق والفضيحة والفجور والقتال عن جهل طلبأ للدنيا أو اتباعة للهوى، وغير ذلك

(1)

. قال الإمام أحمد: «الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس»

(2)

. وعرفها الزمخشري بقوله: «والفتنة: الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان ومجاهدة الأعداء وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات والملاذ بالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال، وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم»

(3)

.

وخلاصة هذه التعريفات: أن الفتنة هي: ما يميز حال الناس من الخير أو الشر سواء كان التمييز بالعطايا والنعم أو بالبلايا والنقم.

‌العلاقة بين المدلول اللغوي والاصطلاح الشرعي للفتنة:

إن العلاقة بين المدلول اللغوي والشرعي للفتنة تكمن في كون

(1)

فتح الباري، لابن حجر (13/ 34).

(2)

المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة للأحمدي (2/ 12).

(3)

الكشاف (3/ 182).

ص: 13

الفتنة تُظهر المؤمن الصادق من الدَّعِي، وتنبئ عن سوء طويَّة من لم يستقر الإيمان في قلبه، وتُخرج الدَّغْل من قلوب المؤمنين، فيخرجوا بعد البلاء بقلوب صافية، وأفئدة مؤمنة، كما يحصل عند إدخال الذهب أو الفضة في النار، فيذهب الخبث، ويبقى الجيد

(1)

، والله أعلم.

(1)

المرجع السابق (38).

ص: 14

‌المبحث الأول: أقسام الفتن

*‌

‌ الفتن من حيث نوعها:

تنقسم الفتنة من حيث نوعها إلى قسمين: فتنة الشبهات، وفتنة الشهوات.

‌أ. فتنة الشبهات:

وهي أعظمها وتتعلق بالعقول والقلوب كالتشكيك في الدين، والوقوع في الشرك أو البدع ونحوها.

سببها: ضعف البصيرة وقلة العلم لاسيما إذا اقترن ذلك بفساد القصد وحصول الهوى، فقل ما شئت في ضلال سيء القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهدي مع ضعف بصيرته وقلة علمه.

فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}

(1)

وقد أخبر الله سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله فقال: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}

(2)

.

خطرها: تكمن خطورتها في أن مآل صاحبها إلى الكفر والنفاق، فهي فتنة المنافقين وأهل البدع على حسب مراتب بدعهم حيث اشتبه

(1)

سورة النجم: 23.

(2)

سورة ص: 29.

ص: 15

عليهم الحق بالباطل والهدى بالضلال والعياذ بالله ..

النجاة منها: تكون بتجريد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحكيم سنته، وذلك بتعلمها، فالهدي كله دائر على أقواله وأفعاله وكل ما خرج عنها فهو ضلال، فإذا عقد القلب على ذلك وأعرض عما سواه، بأن يزنه بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن وافقه قبله، وإن خالفه رده ولو قاله من قاله؛ فهذا الذي ينجو من فتنة الشبهات، وإن فاته شيء من ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه، وعن المقدام بن معدي كرب يقول:«حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أشياء ثم قال: يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ على أريكته، يحدث بحديثين فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله»

(1)

. وعن أبي رافع وغيره رفعه قال: «لا ألفين أحدكم متكئًا على

(1)

أخرجه أحمد (4/ 1322) 17233، والدارمي (1/ 153) والمروزي في السنة (1/ 71)، والطبراني في الكبير (20/ 274)، والدارقطني (4/ 286)، والحاكم (1/ 191) والبيهقي في الكبرى (7/ 76)، وفي دلائل النبوة (1/ 24).

وأخرجه من قوله: (يوشك

): أبو داود (4/ 328)، والترمذي (5/ 38)، وابن ماجة (1/ 6)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 209)، وابن حبان (1/ 189)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (1/ 82)، وصححه الألأباني في مشكاة المصابيح (1/ 35).

ص: 16

أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو فيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه»

(1)

.

‌ب. فتنة الشهوات:

وهي الغالبة كالافتتان بالنساء، أو بالمال الحرام، أو بالمنصب ونحوها.

سببها: كثرة المعاصي، وفسق الأعمال، وسيطرة الدنيا على القلوب، أو الإسراف في الشهوات المباحة إلى اتباع الهوى، والغفلة عن الطاعة، ورفقة السوء، والاحتقار والاستهتار بما فعل من معاص، وعدم معرفة قدر الدنيا ..

خطرها: تُحدِث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه والهواء، والزرع والثمار والمساكن؛ قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}

(2)

وهي سببٌ لزوال النِّعم.

(1)

أخرجه أبو داود (4/ 329)، والترمذي (5/ 37)، وابن ماجه (1/ 6)، والشافعي في مسنده (1/ 151)، والحميدي في مسنده (1/ 252)، والروياني في مسنده (1/ 473)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 209)، والطبراني في الكبير (1/ 316)، وفي الأوسط (8/ 350)، والحاكم (1/ 190)، والبيهقي في معرفة السنن (1/ 8). وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 35)162.

وبنحوه عن العرباض بن سارية: أخرجه أبو داود (3/ 135)، والبيهقي في الكبرى (9/ 204).

وعن أبي هريرة: أخرجه البزار (2/ 442).

(2)

سورة الروم: 41.

ص: 17

النجاة منها: يكون باليقين بوعد الله ووعيده، بتذكر الآخرة وما فيها، وباستشعار عظمة الله تعالى ومعرفته حق المعرفة قال تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

(1)

.

وقد ذكر في القرآن هذين القسمين في آية واحدة في قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}

(2)

، أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق: هو النصيب المقدر ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} فهذا الحوض بالباطل وهو الشبهات.

فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق والخوض بالباطل، لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح.

(1)

سورة الزمر: 67.

(2)

سورة التوبة: 69.

ص: 18

فالأول: هو البدع وما والاها وهو فساد من جهة الشبهات، والثاني: فسق الأعمال وهو فساد من جهة الشهوات.

ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه. وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون.

وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع والهوى على العقل

(1)

.

ففتنة الشبهات تدفع بالعلم واليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر واليقين بوعد الله ووعيده، واستشعار عظمته سبحانه، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين فقال:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}

(2)

. فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

وجمع بينهما أيضا في قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

(3)

(1)

ينظر كل ما تقدم في: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/ 167).

(2)

سورة السجدة: 24.

(3)

سورة العصر: 3.

ص: 19

فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكف عن الشهوات.

‌الفتن من حيث الزمن:

تنقسم الفتن من حيث زمنها إلى: فتن الحياة، وفتن الممات.

والأصل في هذا التقسيم حديث عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيْحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمْ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ»

(1)

.

‌فالفتنة الأولى: فتنة (المحيا):

بفتح الميم ما يعرض للمرء مدة حياته من الافتتان بالدنيا وشهواتها والجهالات، أو هي الابتلاء مع زوال الصبر

(2)

، أو هي كل ما يعطاه الإنسان من خير أو شر؛ فإن كان خيرًا امتحن فيه، هل يؤدي شكر النعمة؟ وإن كان شرا؛ هل يصبر

(1)

صحيح البخاري كتاب صفة الصلاة/ باب ا لدعاء قبل السلام (1/ 286) برقم 798، ومسلم كتاب المساجد (2/ 93) برقم 1353.

(2)

فتح الباري (3/ 236).

ص: 20

عليه، وهي أكثر من أن تحصى.

‌والثانية: فتنة (الممات)

وفي تفسيرها قولان:

أ/ ما يفتن به المرء عند الموت، وأضيفت له لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك، وقد تسمى هذه الفتنة بفتنة الاحتضار لأن الشيطان قد يفتن الآدمي تارة بتشكيكه في خالقه وفي معاده، وتارة بالتسخط على الأقدار، وتارة بإعراضه عن التهيؤ للقدوم إلى ربه بتوبة من زلة واستدراك لهفوة إلى غير ذلك

(1)

.

ب/ أو المراد بفتنة الممات: فتنة القبر أي سؤال الملكين، وقد صح في حديث أسماء «إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة الدجال»

(2)

ولا يكون مع هذا الوجه متكررا مع قوله «عذاب القبر» لأن العذاب مرتب عن الفتنة والسبب غير المسبب.

قال النووي: وأما الجمع بين فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال وعذاب القبر فهو من باب ذكر الخاص بعد العام ونظائره كثيرة

(3)

.

(1)

ينظر: فتح الباري (11/ 177)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 921).

(2)

صحيح البخاري كتاب الوضوء/ باب من لم يتوضأ إلا من الغشي (1/ 79)182.

(3)

شرح النووي على مسلم (5/ 85).

ص: 21

‌الفتن من حيث حجمها:

تنقسم الفتن من حيث حجمها: إلى فتن صغار وفتن كبار عظيمة.

ودليل هذا التقسيم ما جاء عن حُذَيْفَةُ بنُ اليَمَانِ أنه قال: وَاللَّهِ إنِّي لأَعْلَمُ النَّاسِ بكُلِّ فِتْنَةٍ هي كَائِنَةٌ، فِيما بَيْنِي وبيْنَ السَّاعَةِ، وَما بي إلَّا أَنْ يَكونَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسَرَّ إلَيَّ في ذلكَ شيئًا، لَمْ يُحَدِّثْهُ غيرِي، وَلَكِنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ: وَهو يُحَدِّثُ مَجْلِسًا أَنَا فيه عَنِ الفِتَنِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَهو يَعُدُّ الفِتَنَ: منهنَّ ثَلَاثٌ لا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شيئًا، وَمِنْهُنَّ فِتَنٌ كَرِيَاحِ الصَّيْفِ منها صِغَارٌ وَمنها كِبَارٌ». قَالَ حُذّيْفَةُ فَذَهَبَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ كُلُّهُمْ غَيْرِي»

(1)

(2)

.

وقوله (ومنهن فتن كرياح الصيف) أي فيها بعض الشدة وإنما خص الصيف لأن رياح الشتاء أقوى. وقيل: أي فيها شيء من الشدة، ولكنها شدة تنقضي وليست كرياح الشتاء

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة (8/ 172) برقم 7444.

(2)

قول حذيفة رضي الله عنه: «فذهب أولئك الرهط كلهم غيري» ، يعني الذي سمعوا هذا، والرهط: العصابة دون العشرة، ويقال: بل إلى الأربعين، وكأنه يخشى أن تدركه شيء من هذه الفتن! كشف المشكل من حديث الصحيحين (1/ 261).

(3)

المخرج من الفتن لخالد السبت (1/ 3).

ص: 22

وجاء عن عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه، قالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الفِتْنَةِ؟ فَقالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا أَحْفَظُ كما قالَ، قالَ: هَاتِ، إنَّكَ لَجَرِيءٌ، قالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أَهْلِهِ ومَالِهِ وجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ، والصَّدَقَةُ، والأمْرُ بالمَعروفِ، والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، قالَ: ليسَتْ هذِه، ولَكِنِ الَّتي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ. قالَ: يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لا بَأْسَ عَلَيْكَ منها، إنَّ بيْنَكَ وبيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا

(1)

.

فدل الحديث على: أن الفتن منها ما هو خاص لكل فرد لا ينفك عنه، ومنها ما هو عام على الجميع وهي التي سأل عنها عمر رضي الله عنه.

قال ابن رجب: «والفتنة نوعان: أحدهما: خاصة تختص بالرجل في نفسه. والثاني: عامة تعم الناس.

فالفتنة الخاصة: ابتلاء الرجل في خاصة نفسه بأهله وماله وولده وجاره، وقد قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}

(2)

، فإن ذلك غالبا يلهي عن طلب

(1)

صحيح ال بخاري كتاب مواقيت الصلاة/ باب الصلاة كفارة (1/ 196) 502، ومسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة (8/ 173)7450.

(2)

سورة التغابن: 15.

ص: 23

الآخرة والاستعداد لها، ويشغل عن ذلك .... فظهر بهذا: أن الإنسان يبتلى بماله وولده وأهله وبحاره المجاور له، ويفتتن بذلك، فتارة يلهيه الاشتغال به عما ينفعه في آخرته، وتارة تحمله محبته على أن يفعل لأجله بعض ما لا يحبه الله، وتارة يقصر في حقه الواجب عليه، وتارة يظلمه ويأتي إليه ما يكرهه الله من قول أو فعل، فيسأل عنه ويطالب به، فإذا حصل للإنسان شيء من هذه الفتن الخاصة، ثم صلي أو صام أو تصدق أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر كان ذلك كفارةً له، وإذا كان الإنسان تسوؤه سيئته، ويعمل لأجلها عملا صالحا كان ذلك دليلا على إيمانه.

وأما الفتن العامة: فهي التي تموج موج البحر، وتضطرب، ويتبع بعضها بعضا كأمواج البحر، فكان أولهما فتنة قتل عثمان رضي الله عنه، وما نشأ منها من افتراق قلوب المسلمين، وتشعب أهوائهم وتكفير بعضهم بعضا، وسفك بعضهم دماء بعض، وكان الباب المغلق الذي بين الناس وبين الفتن عمر رضي الله عنه، وكان قتل عمر كسرة لذلك الباب، فلذلك لم يغلق ذلك الباب بعده أبدًا.

وكان حذيفة أكثر الناس سؤالا للنبي صلى الله عليه وسلم عن الفتن، وأكثر الناس علمأ بها، فكان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم علم بالفتن العامة والخاصة، وقد

ص: 24

حدث عمر بتفاصيل الفتن العامة، وبالباب الذي بين الناس وبينها، وأنه هو عمر، ولهذا قال: إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، والأغاليط: جمع أغلوطة، وهي التي يغالط بها

وهذا مما يستدل به على أن رواية مثل حذيفة يحصل بها لمن سمعها العلم اليقيني الذي لا شك فيه؛ فإن حذيفة ذكر أن عمر علم ذلك وتيقنه كما تيقن أن دون غد الليلة، لما حدثه به من الحديث الذي لا يحتمل غير الحق والصدق. وقد كانت الصحابة تعرف في زمان عمر أن بقاء عمر أمان للناس من الفتن

(1)

.

وفي تشبيهه صلى الله عليه وسلم الفتن بأنها تموج كموج البحر إشارة واضحة إلى قوتها وشدتها، ثم إلى تتابعها، وإلى أنه لا يمكن لأحد الوقوف أمامها؛ لأنه لا يمكن لأحد أنْ يقف أمام موج البحر، وأن الناس أمام هذه الفتن ستضطرب حركتهم، ويختل توازهم، وتضيق صدورهم، وينقطع نفسهم، وهذه حال من يصارع الموج.

وإذا علمنا أنّ أمواج البحر تتكاثر وتتعاظم، مع شدة الريح وانتشار السحاب؛ فإن لنا أن نتصور جو الفتن بأنه جو مظلم، فالذي

(1)

ينظر فتح الباري. لابن رجب (3/ 35).

ص: 25

يشاهد موج البحر العاتي فتبدو أمامه زرقة البحر مع ظلمة السحاب وكثرته، مع شدة هبوب الرياح وقوها؛ فكذلك الذي يواجه هذه الفتن، تحيط به الظلمات والأعاصير، فهو مهموم مغموم ظاهرًا وباطنًا، وللموج صوت وأي صوت؟ ولهذه الفتن صوت، لا يسمع الواقف فيها صوت ما عداها، وإنما تطبق عليه، فهي كالصاخة، فيظل الواقف فيها حيرانة خائفة قلقًا، يتطلع إلى الأمان ولا يجده، وهل ينجو من البحر وشدة موجه إلا من بعد عنه، والناس حين يواجهون أمواج البحر مجتمعين، في أية حال من حالاته، فإنه يسمع لهم صراخ وعويل وتهارش وتخاصم، لا يسمع الواحد منهم الآخر، وكل يريد أن ينجو بنفسه، وقد يغرق الواحد منهم غيره لينجو هو

(1)

.

وقد تبلغ شدة الفتن إلى أن تخرج المسلم عن دينه، ففي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«بادروا بالأعمال فتن كقطع الليل المظلم، يصبح المرء مؤمنة، ويمسي كافرة، ويمسي مؤمنة ويصبح كافرة، يبيع أحدكم دينه بعرض قليل من الدنيا»

(2)

.

وقد يبلغ ثقل هذه الفتن وشدتها على المسلم أن يتمنى الموت

(1)

موقع المسلم من الفتن، حسين بن محسن أبو ذراع الحازمي (102).

(2)

أخرجه مسلم كتاب الإيمان (1/ 76)328.

ص: 26

ويرجوه كي يتخلص من البلاء، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تقوم الساعة حتى يحمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني كنت مكانه»

(1)

.

(1)

صحيح البخاري كتاب الفتن/ باب لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور (6/ 2604) 6698، ومسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة صحيح مسلم (8/ 182)7485.

ص: 27

‌المبحث الثاني: حديث عبدالله بن عمرو تخريجاً ودراسةً

الأحاديث في باب الفتن، وسبل النجاة منها، وما يجب على المسلم فعله حين تحيط به كثيرة، و منها حديث عبد الله بن عمرو الذي ذكر صفة الفتنة، والضوابط الشرعية لمن ابتلي بها، وحديث عبد الله أخرجه الإمام أحمد في «مسنده»

(1)

قال:

حَدَّثَنَا أبو نُعَيمٍ، حدثنا يُونُسُ. يعني: ابْنَ أَبِي إِسحاقَ. عَنْ هِلالِ بنِ خَبَّابٍ أَبي العلاءِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ، حَدَّثَنِي عَبْدُاللهِ بنُ عَمْرٍو قَالَ: بَينَمَا نَحنُ حَولَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ ذَكَروا الفِتنةَ - أو ذُكِرت عندَهُ قالَ: (إذا رأيتَ النَّاسَ قد مرَجَت عُهودُهُم وخفَّت أماناتُهُم وَكانوا هَكَذا وشبَّكَ بينَ أصابعِهِ) قالَ: فقمتُ إليهِ فقلتُ لَهُ كيفَ أفعلُ عندَ ذلِكَ جعَلَني اللَّهُ فداكَ قالَ: (الزَم بيتَكَ واملِكْ عليكَ لسانَكَ وخذ ما تعرفُ ودع ما تُنكرُ وعليكَ بأمرِ خاصَّةِ نَفسِكَ ودَع عنكَ أمرَ العامَّةِ)

(1)

صحيح البخاري كتاب الفتن باب/ لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور (6/ 2604) 6698، ومسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة صحيح مسلم (8/ 182)7485.

ص: 28

‌تخريج الحديث:

أخرجه أبو داود 4/ 217 (4342)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» 15/ 9 (38270)، والطحاوي في «مشكل الآثار» 3/ 217 (1181)، والطبراني في «الدعاء» 1/ 546 (1963)، والخطابي في «العزلة» 1/ 10، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 1723 من طريق أبي نعيم به نحوه.

- وأخرجه النسائي في «الكبرى» 6/ 59 (9962)، وفي «عمل اليوم والليلة» 1/ 230 (205)، وأبو عمرو الداني في «السنن الواردة في الفتن» 2/ 363، وابن المبارك في «مسنده» 1/ 159 (257)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» 2/ 337 (438)، والحاكم في «مستدركه» 4/ 282 (7758) - 4/ 524 (8600) من طرق عن يونس بن أبي إسحاق به نحوه.

وتوبع عكرمة:

فأخرجه أبو داود 4/ 216 (4344)، وأحمد 11/ 634 (7063)، والطحاوي في «مشكل الآثار» 3/ 217 (1176)، والحاكم في «مستدركهـ» 2/ 171 (2671) - 4/ 1481 (8340) من طرق عن عمارة بن عمرو بن حزم.

ص: 29

- وأخرجه البزار في «مسنده» 6/ 447 (2484) من طريق سعيد بن زربي، و (2485) من طريق عقبة بن أوس

(1)

.

- وأخرجه أحمد 11/ 626 (7049) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

- وأخرجه أبو عمرو الداني 2/ 365، وأحمد 11/ 54 (6508)، من طريق الحسن مع خلاف في سماعه من عبد الله بن عمرو بن العاص.

كلهم: عكرمة، وسعيد بن زربي، وعقبة بن أوس، وعمرو بن شعيب عن أبيه، وعمارة بن عمرو، والحسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص به، غير أن رواية يونس بن أبي إسحاق عن هلال بن خباب عن عكرمة عن عبد الله بن عمرو قد تفردت بلفظ «الزم بيتك، وأمسك عليك لسانك» ولم يتابعه عليها أحد، حتى أن شاهد هذا الحديث

(1)

وقال البزار: هذا الحديث يروى عن عبد الله بن عمرو من وجوه، ولا نعلم له إسنادًا أحسن من إسناد عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو.

ص: 30

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه

(1)

وغيره

(2)

لم تأت فيه هذه

(1)

أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(13/ 279)(5290) من طريق روح بن القاسم عن العلاء عن أبيه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنت يا عبد الله إذا بقيت في حثالة الناس) قال: وذاك ما هم يا رسول الله؟ قال: (ذاك إذا مرجت أماناتهم وعهودهم وصاروا هكذا) وشبك بين أصابعه قال: فكيف بي يا رسول الله؟ قال: (تعمل ما تعرف ودع ما تنكر وتعمل بخاصة نفسك وتدع عوام الناس)

قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم، وكذا قال الألباني في الصحيحة (1/ 416)206.

وأخرجه الطبراني في الكبير (19/ 228) عن روح بن القاسم.

وأخرجه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (3/ 575)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (3/ 140)، والطبراني في الكبير (20/ 16)، وفي الأوسط (8/ 334) كلهم عن عمرو بن أبي عمرو.

كلاهما (عمرو وروح) عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة به.

(2)

للحديث شاهد من حديث سهل بن سعد قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في محلس فيه عمرو بن العاص وابناه

فذكر مثله أي مثل حديث أبي هريرة -.

وزاد وإياكم والتلون في الدين. انظر فتح الباري 13/ 39.

أخرجه ابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1/ 30) 29، وفي العقوبات (1/ 12) 42، وفي مكارم الأخلاق (1/ 91) 276، والطبراني في الكبير (6/ 196) 5984 و (6/ 164) 5868، وابن عدي في الكامل (4/ 70) 918، (2/ 30) 270، وابن شاهين في حديث عمر بن أحمد، (1/ 44) 41، (1/ 45) 42، وابن عساكر في معجمه (1/ 225) 451 كلهم من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه.

وأخرجه الروياني في مسنده (2/ 234) 1118، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 46) 9398 عن أبي عياش عن سهل بن سعد وليس فيها قوله:(وإياك التلون في الدين).

وله شاهد من حديث عمر بن الخطاب: أخرجه الطبراني في الأوسط (6/ 225) عن محمد بن كعب القرظي عن الحسن بن أبي الحسن عن شريح عن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ستغربلون حتى تصيرون في حثالة من الناس مرجت عهودهم وخربت أماناتهم فقال قائلنا: كيف بنا يا رسول الله؟ فقال: تعملون بما تعرفون وتتركون ما تنكرون وتقولون أجدُ أحد انصرنا على من ظلمنا واكفنا من بغانا" وقال: لا يروى هذا الحديث عن شريح القاضي إلا بهذا الإسناد تفرد به يعقوب بن حميد.

وأخرجه وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 138) عن القرظي به.

وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه أبو يعلى في مسنده (9/ 442) عن واقد عن أبيه عن ابن عمر عن: النبي صلى الله عليه وسلم قال قال: كيف أنت يا عبد الله ابن عمر إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا وصاروا هكذا؟ وشبك بين أصابعه قال فكيف يا رسول الله؟ قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر وتقبل على خاصتك وتدع عوامهم. و قال حسين سليم أسد: إسناده ضعيف.

وأخرجه ابن الشجري في الأمالي الشجرية (1/ 478) عن عمارة بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن عمر بنحوه .. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 220): رواه أبو يعلى عن شيخه سفيان بن وكيع وهو ضعيف.

ص: 31

الزيادة، وهلال بت خباب.

كما ذكره ابن حجر: صدوق تغير بأخرة

(1)

، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ ويخالف

(2)

.

(1)

تقريب التهذيب - (2/ 575).

(2)

الثقات (7/ 574).

ص: 32

‌دراسة الإسناد والحكم على الحديث:

قال الألباني في السلسلة الصحيحة

(1)

: «قال الحاكم: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي. قال المنذري والعراقي: «سنده حسن» نقله المناوي في «الفيض» ، و أقرهما و هو كما قالا، فإن هلالا هذا فيه كلام يسير لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن إلا إذا خولف، و قد توبع على أصل الحديث

(ثم ساق ثلاثة طرق ليس فيها زيادة الزم بيتك، وأمسك عليك لسانك)

وقال: مما يلاحظ أن هذه الطرق الثلاث، ليس فيها الزيادة التي في الطريق التي قبل هذه «الزم بيتك و املك عليك لسانك» فالقلب يميل إلى أنها زيادة شاذة، لأن الذي تفرد بها وهو هلال بن خباب وفيه كلام كما سبق، فلا يحتج به إذا خالف الثقات».

وأصل هذا الحديث علقه البخاري (480) بلفظ: «يا عبد الله بن عمرو، كيف بك إذا بقيت في لحثالة من الناس بهذا» ووصله إبراهيم الحربي في «غريب الحديث» ، وحنبل بن إسحاق في «الفتن» كما في الفتح 1/ 566، 13/ 39، وفي تغليق التعليق 2/ 245.

(1)

(1/ 415)250.

ص: 33

والحديث صححه الحاكم 4/ 315 فقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وحسنه المنذري في «الترغيب والترهيب» 3/ 443، والعراقي في «تخريج الإحياء» 2/ 232، وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (205) وقال:«وهو كما قالا أي أن الحديث حسن - فإن هلالا هذا فيه كلام يسير لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن إلا إذا خولف، وقد توبع على أصل الحديث» وصححه شعيب الأرنؤوط.

فالذي يظهر من خلال هذا أن أصل الحديث صحيح، وزيادة هلال شاذة في حديث عبد الله بن عمرو كما قال الألباني رحمه الله، وقد صحت من حديث غيره والله أعلم.

‌شواهد لهذه الزيادة:

صحت هذه الزيادة من أحاديث أخر، فللحديث شاهد من حديث عقبة، وثوبان، وأبي موسى الأشعري

رضي الله عنه. قال الألباني في الصحيحة (1/ 416) 206: «لكن قد ثبتت هذه الزيادة: «الزم بيتك

» في أحاديث أخرى».

أما حديث عقبة بن عامر فقد أخرجه الترمذي 4/ 605 عَنْ

ص: 34

أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مَا النَّجَاةُ قَالَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ

(1)

.

- وأما حديث ثوبان فقد أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط 3/ 21 والصغير 1/ 140، وفي مسند الشاميين (1/ 313) عن عيسى بن سليمان الشيزري

(1)

أخرجه ابن المبارك في الزهد 1/ 43، وابن وهب في الجامع 1/ 378، وأحمد في «مسنده» 4/ 148، 5/ 259، وفي «الزهد» 1/ 15، وابن أبي الدنيا في الرقة والبكاء 1/ 31، وفي الصمت 1/ 41، وفي العزلة والإنفراد 1/ 48، وابن أبي عاصم الزهد 1/ 16، والطبراني في الكبير (12/ 234) وفي مسند الشاميين 1/ 156، والروياني في مسنده 1/ 146، وابن عدي في الكامل 4/ 324، 5/ 165، 7/ 216، والماليني في الأربعون في شيوخ الصوفية 1/ 136، وأبو نعيم في «الحلية» 2/ 9، والبيهقي في «شعب الإيمان» 1/ 492، 4/ 239، 6/ 260، وفي الآداب 1/ 176، وفي الزهد الكبير 1/ 130، والخطيب في «تاريخ بغداد» 8/ 270، وابن البنا في الرسالة المغنية 1/ 35، وابن الشجري في «الأمالي الشجرية» 1/ 376، 1/ 412، والبغوي في شرح السنة 14/ 317، وابن عساكر في تاريخ دمشق 40/ 496، 48/ 275، وأبو طاهر السلفي في معجم السفر 1/ 119، وابن قدامه المقدسي في المتحابين في الله 1/ 96.

كلهم عن القاسم عن أبي أمامة.

وأخرجه أحمد (4/ 158)، وهناد في الزهد 1/ 265، 2/ 545، عن فروة بن مجاهد اللخمي.

كلاهما عن عقبة بن عامر به.

والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي (5/ 406)2406.

ص: 35

قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (طُوبَى لِمَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ).

وقال: لا يروى هذا الحديث عن ثوبان إلا بهذا الإسناد تفرد به عيسى بن سليمان وهو ثقة

(1)

.

وأما حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في سننه 4/ 164: عن عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ قال حَدَّثَنَا عَبْدُالْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قال حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُوسَى يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا القَاعِدُ فِيهَا خَيرٌ مِنَ الْقَائِمِ والْقَائِمُ فِيْهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي» قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ «كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ»

(2)

.

(1)

وأخرجه أبو داود في الزهد 1/ 397، وابن أبي عاصم في الزهد (1/ 29)، وابن أبي الدنيا في العزلة والإنفراد 1/ 49 من طرق كلهم عن إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن ثوبان به.

وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (3/ 451)7376.

(2)

وأخرجه أحمد 4/ 408 من طريقه عن عقان مطولًا.

وأخرجه الآجري في الشريعة 1/ 41، والدارقطني في المؤتلف والمختلف 4/ 59 مطولًا، والخطابي في العزلة 1/ 11، والحاكم في المستدرك 4/ 487 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن البنا في الرسالة المغنية 1/ 43، من طرق عن عبدالواحد عن بن زياد عن عاصم الأحول عن أبي كبشة عن أبي موسى به.

وقال شعيب الأرنؤوط في التعليق على مسند أحمد 4/ 408: حديث صحيح وهذا إسناد ضعيف لجهالة أبي كبشة. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 9/ 262.

ص: 36

‌المبحث الثالث: موقف المسلم من الفتنة في ضوء حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه

-

المتأمل لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يقف على وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لمرحلة زمنية يعيشها

بعض أفراد أمته، يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبرز أوصاف هذه المرحلة بعد أن ديرت عنده الفتن، فأخبر أنه (يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة و يبقي حثالة من الناس) كما جاء في المستدرك من طريق عمارة بن حزم

(1)

، وتأمل إلى (يغربل) و (حثالة) وكأن الناس ينقون بغربال ليذهب خيارهم، وتبقى الحثالة الرديئة السيئة في ذلك الزمن، والحثالة في اللغة

(2)

: الرديء من كل شيء، وفي ذاك الزمان -أعاذنا الله منه - تكثر حثالة

(1)

سبق تخريجه.

(2)

ينظر النهاية (1/ 890)، لسان العرب (11/ 142) مادة (ح ث ل).

ص: 37

الناس والمقصود أراذلهم وشرارهم ومن لا خير فيهم.

ثم عدد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهم أوصاف هؤلاء الحثالة:

(قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم) أي: اختلطت وفسدت العهود، فصار نقض العهد أبرز سمات أفراد تلك الفترة الزمنية فلا ترعى حرمة ميثاق، ولا يطمأن لعهد، وأصبحت الأمانة عند أولئك الأفراد محل الخيانة لا الصون والحفظ، مع أن الإسلام يرقب من معتنقه أن يكون ذا ضمير يقظ، تصان به حقوق الله وحقوق الناس، وتحرس به الأعمال من دواعي التفريط والإهمال، والأمانة في نظر الشارع واسعة الدلالة، وهي ترمز إلى معان شتي، مناطها جميعا شعور المرء بتبعته في كل أمر يوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنه مسئول عنه أمام ربه

(1)

ومن تأمل كثيرا من الآيات يقف على هذا المعنى، يقول تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}

(2)

، وقال {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}

(3)

، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}

(4)

، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

(5)

.

(1)

ينظر: خلق المسلم للغزالي (38).

(2)

سورة المائدة: 1.

(3)

سورة الإسراء: 34.

(4)

سورة المعارج: 32.

(5)

سورة الأنفال: 37.

ص: 38

ولا تزال هذه الفتن في الانتشار حتى تصير هذه الأخلاق الذميمة سمة مجتمعية وخصلة عامة، فيدب الاختلاف وتنتشر الفوضى، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدم صورة حية لتوضيح هذا المعنى الذي قد لا يتصوره بعض من يعيش في المجتمع النبوي، المجتمع الذي كان شعاره الأمانة والوفاء والاجتماع ونبذ الافتراق، فشبه حال اختلاف المجتمع بتداخل الأصابع فيما بينها، و قد جاء في حديث عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«واختلفوا فكانوا هكذا وشبك بين أصابعه» قال الحافظ عند شرحه حديث حذيفة

(1)

: (يجتمع معه في قلة الأمانة وعدم الوفاء بالعهد وشدة الاختلاف، وفي كل منهما زيادة ليست في الآخر).

وللعظيم آبادي

(2)

تفسير آخر لمعنى الحديث، حيث قال:(أي: يمزج بعضهم ببعض، ويلتبس أمر دينهم، فلا يعرف الأمين من الخائن، ولا البر من الفاجر).

وفي كلام صاحب العون إشارة إلى اختلاط أمر الناس لكثرة الفساد، ولا مانع من حمل الحديث على كلا المعنيين، فكلاهما صحيح.

(1)

حديث حذيفة الطويل، وفيه: « .. أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة وحدثنا عن رفعها قالل ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت

» صحيح البخاري كتاب الرقاق/ باب رفع الأمانة (5/ 2382)6132.

(2)

عون المعبود (11/ 334).

ص: 39

ولحرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على العلم، سأل عبد الله بن عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موقف المسلم الذي ينجو به من هذه الفتن، وهو ما عنونت به مطالب هذا المبحث. أعاذنا الله من الفتنة، فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى خطوات عملية لاجتنابها، وقد جاءت أدلة أخرى تذكر ضوابط شرعية لموقف المسلم من الفتنة، نورد بعضها إجمالا، قبل التفصيل للضوابط الواردة في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، ومن هذه الضوابط:

1.

الاعتصام بالكتاب والسنة، يقول تعالى:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

(1)

.

2.

التقوى وملازمة العبادة. قال صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إليّ»

(2)

.

3.

لزوم جماعة المسلمين. قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة

شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية»

(3)

.

(1)

سورة آل عمران: 101.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفتن، باب فضل العبادة في الهرج (4/ 2268)2948.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الفتن، باب قول ال نبي صلى الله عليه وسلم «سترون بعدي أمروًا تنكرونها» (9/ 47) 7054، ومسلم في صحيحه كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور اغلفتن (3/ 1477)1849.

ص: 40

4.

اعتزال مواطن الفتن يقول تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}

(1)

و عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ مِنْهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَلَا يَزَالُ بِهِ لِمَا مَعَهُ مِنْ الشَّبَهِ حَتَّى يَتَّبِعَهُ»

(2)

.

5.

التثبت والتأني وعدم العجلة. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}

(3)

.

6.

لزوم الدعاء والتعوذ بالله من الفتن. «صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم المنبر فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينت

لكم،

فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال: يا نبي الله من أبي؟ فقال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا نعوذ بالله من سوء الفتن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه صورت في الجنة والنار حتى رأيتهما

(1)

سورة الأنفال: 25.

(2)

أخرجه أبو داود في السنن (3/ 102) 4319، وأحمد في المسند (33/ 107) 19875، والحاكم في المستدرك (4/ 531) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه، وهو كما قال. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4319).

(3)

سورة الحجرات: 6.

ص: 41

دون الحائط»

(1)

.

7.

الالتفاف حول العلماء الربانيين. {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}

(2)

.

وعن أبي بكرة قال: لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل، لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارسًا ملكوا ابنة كسرى قال:(لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)

(3)

فتأمل كيف انتفع أبو بكرة رضي الله عنه. بكلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتزل الفتن.

وقد اقتصرت على هذه الخطوات العملية التي جاءت بها النصوص الشرعية، وإلا فهي كثيرة لكني أردت قرب منفعة البحث، ومن أراد الاستزادة فليرجع للكتب المؤلفة في هذا الباب

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الفتن، باب التعود من الفتن (9/ 53)7089.

(2)

النساء: 83.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الفتن/ باب: الفتن التي تموج كموج البحر (6/ 2600)

(4)

: كتاب الفتن لأبي عمرو الداني، وكتاب الفتن لنعيم بن حماد، وكتاب النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير، وكتاب الفتن للحازمي، ومن سير علماء السلف عند الفتن لعلي الصباح، وفقه التعامل مع الفتن لزين العابدين الغامدي، والمخرج من الفتن المقبل الوادعي، و معالم في التعامل مع الفن لمحمد الحمد، و معالم في أوقات الفتن والنوازل لعبد العزيز السدحان، وبصائر في الفتن لمحمد إسماعيل المقدم، و موقف المسلم من الفتن لعبدالله العبيلان.

ص: 42

‌المطلب الأول: «الزم بيتك»

مر في المبحث الثاني

(1)

«أن هذه الزيادة شاذة من حديث عبد الله بن عمرو، لكنها ثابتة من أحاديث أخرى، فأوردت لصحتها.

إن أول توجيه ذكره صلى الله عليه وسلم عند الفتن، واضطراب أحوال الناس،:(الزم بيتك).

قال الطيبي: «(الزم) بكسر فسكون ففتح، (بيتك) أي: محل سكنك بيتا أو خلوة أو غيرهما، والأمر في الظاهر وارد على البيت، وفي الحقيقة على المخاطبة أي: تعرض لما هو سبب لزوم البيت من الاشتغال بالله والمؤانسة بطاعته والخلو عن الأغيار»

(2)

.

والأمر بلزوم البيت يلقي إضاءة على موضوع العزلة الذي هو غاية في الأهمية، وهو خطير، إذا لم تعرف أحكامه وحكمه، وأوقاته وآثاره، وايجابيات وسلبياته، ويجب القصد والاعتدال في الخلطة والعزلة، وهذا ما مثل به الإمام الخطابي رحمه الله خلاصة رأيه

(1)

ص (10).

(2)

فيض القدير: 2/ 210، 2/ 249.

ص: 43

في العزلة، وهو من رواد هذا الموضوع إن لم يكن رائده.

وقد اختلفت مذاهب العلماء في: الخلطة والعزلة للمؤمن، وأيهما أفضل، على قولين:

القول الأول: ذهب سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وآخرون

(1)

إلى أن العزلة أفضل، أفضل، واستدل هؤلاء على تفضيل العزلة بما يلي:

1.

قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}

(2)

ثم قال تعالى في الآية بعدها: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا}

(3)

. إشارة إلى أن ذلك ببركة العزلة.

2.

واحتجوا أيضا بقول موسى عليه السلام: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ}

(4)

ففزع إلى العزلة عند اليأس منهم.

3.

وبقوله تعالى في أصحاب الكهف {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}

(5)

.

(1)

الإحياء: 2/ 242، مختصر منهاج القاصدين:109.

(2)

سورة مريم: 48

(3)

سورة مريم: 49

(4)

سورة الدخان: 21

(5)

سورة الكهف: 16

ص: 44

ويجاب: بأن الأدلة المتقدمة الذكر إنما وردت في شأن عزلة الكفار والمحاربين للمسلم في دينه، وليست في عزلة المؤمنين، فهي خارجة عن موضع النزاع فلا يستدل بها

(1)

.

4.

واستدلوا بحديث عقبة بن عامر، وعبد الله بن عمرو

(2)

.

5.

وبحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله: أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» قالوا: ثم من؟ قال: «مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره»

(3)

.

يقول الغزالي: (وفي الاحتجاج بهذه الأحاديث نظر، فأما قوله لعقبة بن عامر فلا يمكن تنزيله إلا على ما عرفه صلى الله عليه وسلم بنور النبوة من حاله، وأن لزوم البيت كان أليق به وأسلم له من المخالطة، فإنه لم يأمر جميع الصحابة بذلك، ورب شخص تكون سلامته في العزلة بذلك لا في المخالطة، كما قد تكون سلامته في القعود في البيت وأن لا يخرج إلى

(1)

ينظر: العزلة: 62 الإحياء: 2/ 246

(2)

سبق تخريجه ص: 9، 11

(3)

أخرجه البخاري في الجهاد باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه (6/ 8) رقم 2635 واللفظ له، ومسلم في الإمارة باب فضل الجهاد (6/ 9) رقم 4994.

ص: 45

الجهاد، وذلك لا يدل على أن ترك الجهاد أفضل. وفي مخالطة الناس بمجاهدة ومقاساة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:«الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»

(1)

(2)

.

6.

وبقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب العبد التقيَّ، الغنيَّ، الخفيَّ»

(3)

.

ومعنى الخفي على ما ذكره النووي رحمه الله: (الحامل المنقطع إلى العبادة والاشتغال بأمور نفسه، وذكر. رحمه الله. أن في هذا الحديث حجة لمن يقول الاعتزال أفضل من الاختلاط، وفي المسألة خلاف .... ومن قال بالتفضيل للاختلاط قد يتأول هذا على الاعتزال وقت الفتنة ونحوها)

(4)

.

القول الثاني: وإليه ذهب أكثر التابعين، سعيد بن المسيب والشعبي وابن عيينة وابن المبارك والشافعي وأحمد وجماعة، وهو قول الجمهور

(5)

بأن الخلطة أفضل من العزلة.

(1)

من حديث ابن عمر، سيأتي تخريجه ص 23.

(2)

الإحياء: 2/ 247

(3)

أخرجه مسلم في الزهد باب الزهد والرقائق: (4/ 2277) رقم 2965.

(4)

شرح النووي على مسلم: 18/ 100 - 101.

(5)

ينظر: الإحياء: 2/ 242، مختصر منهاج القاصدين:110.

ص: 46

واستدلوا بأدلة كثيرة أوردها وناقشها الخطابي والغزالي

(1)

، ومنها:

1.

ما أمر الله سبحانه وتعالى به من الاجتماع، وما نفي عنه من الافتراق وحذر منه، فقال تعالى ذكره:

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}

(2)

.

2.

وقوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}

(3)

، ووجه الاستدلال حصول المنة من الله لرسوله بالتأليف بين قلوب المؤمنين، ولا يكون التأليف إلا مع الخلطة والاجتماع.

3.

واحتجوا أيضا بقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}

(4)

.

وأجاب الغزالي

(5)

عن استدلالهم بقوله: (امتن على الناس بالسبب المؤلف وهذا ضعيف؛ لأن المراد به تفرق الآراء واختلاف المذاهب في معاني كتاب الله وأصول الشريعة. والمراد بالألفة: نزغ

(1)

العزلة: 53 - 60، الإحياء: 2/ 243 - 245.

(2)

سورة آل عمران: 103.

(3)

سورة الأنفال: 63.

(4)

سورة آل عمران: 105.

(5)

الإحياء: 2/ 244.

ص: 47

الغوائل من الصدور، وهي الأسباب المثيرة للفتن المحركة للخصومات، والعزلة لا تنافي ذلك).

4 -

واحتجوا بقوله -: «المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف»

(1)

.

وقد أجاب عن استدلالهم بهذا الحديث الغزالي فقال: (وهذا ضعيف لأنه إشارة إلى مذمة سوء الخلق تمتنع بسببه الموالفة، ولا يدخل تحته الحسن الخلق الذي إن خالط ألف وألف، ولكنه ترك المخالطة اشتغالا بنفسه وطلبة للسلامة من غيره).

5 -

وبقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مَيْتَةً جَاهِلِيَّةً»

(2)

.

(1)

أخرجه أحمد 5/ 335، والطبراني في الكبير رقم 5744 (6/ 131)، وأبو الشيخ 179، والقضاعي في مسند الشهاب: 1/ 108، والخطيب: 11/ 376 وأورده الهيثمي في المجمع في موضعين (8/ 87 و 10/ 273) وقال في الثاني منهما: (إسناده جيد)، وصححه السيوطي في الجامع الصغير:(6/ 253 مع الفيض) وصححه الألباني في الصحيحة رقم 426 و 427 وقد توسع رحمه الله في ذكر طرقه وشواهده وتخريجها، فلينظر هناك.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الفتن/ باب: سترون بعدي أمروًا تنكرونها (6/ 21) 4896، ومسلم في كتاب الإمارة/ باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين (3/ 1477)1849.

ص: 48

ووجه استدلالهم بهذه الأحاديث أم (قالوا: نطقت هذه الأخبار بأن المعتزل عن الناس، المنفرد عنهم،

مفارق للجماعة، شاذ عن الجملة، شاق لعصا الأمة، خالع للبقة، مخالف للسنة)

(1)

.

والجواب عن ذلك أن يقال: (وهذا ضعيف. أيضا. لأن المراد به الجماعة التي اتفقت آراؤهم على إمام بعقد البيعة، فالخروج عليهم بغي، وذلك مخالفة بالرأي وخروج عليهم، وذلك محظور لاضطرار الخلق إلى إمام مطاع يجمع رأيهم، ولا يكون ذلك إلا بالبيعة من الأكثر، فالمخالفة تشويش مثير للفتنة فليس في هذا تعرض للعزلة)

(2)

.

6.

واحتجوا بقول النبي - (الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ المُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)

(3)

.

(1)

العزلة: 56.

(2)

الإحياء: 2/ 44.

(3)

من حديث ابن عمر أخرجه الترمذي (4/ 662)، وابن ماجه (2/ 1338)، والطيالسي في مسندة (3/ 399)، وابن الجعد في مسنده (1/ 121)، وابن أبي شيبة في مسنده (2/ 425)، وفي مصنفه (5/ 293)، وأحمد (2/ 43)، وهناد في الزهد (2/ 588)، والبخاري في الأدب المفرد (1/ 140)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (14/ 83)، والخرائطي في اعتلال القلوب (1/ 75)، والطبراني في الكبير (11/ 155)، وابن شاهين الترغيب في فضائل الأعمال (1/ 315)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 431)، والبيهقي في الكبرى (10/ 89) وفي شعب الإيمان (7/ 127)، وفي الآداب (1/ 99)، وفي «الأربعون الصغرى» (1/ 167). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 614)939.

ص: 49

وأوضح الصنعاني في كتابه «سبل السلام» المخالطة التي أرادها الحديث: (فيه أفضلية من يخالط الناس مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم فإنه أفضل من الذي يعتزلهم ولا يصبر على المخالطة والأحوال تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان ولكل حال مقال)

(1)

.

وبالنظر لما تقدم من أدلة الفريقين نلحظ أنه لا يمكن تفضيل الخلطة على العزلة مطلقة ولا العكس، والمسألة تحتاج إلى تفصيل، وقد حقق الحافظ ابن حجر مسألة التفضيل بين الخلطة والعزلة فأفاد وأجاد، وأسوق كلامه رحمه الله، حيث قال: «وقد اختلف السلف في أصل العزلة فقال الجمهور الاختلاط أولى إما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعيادة وغير ذلك. وقال قوم:

العزلة أولى لتحقق السلامة بشرط معرفة ما يتعين

وَقَالَ النَّوَوِيّ الْمُخْتَار

(1)

سبل السلام، (2/ 546).

ص: 50

تَفْضِيل الْمُخَالَطَة لِمَنْ لَا يَغْلِب عَلَى ظَنّه أَنَّهُ يَقَع فِي مَعْصِيَة، فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْر فَالْعُزْلَة أَوْلَى. وَقَالَ غَيْره: يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاص، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَحَتَّم عَلَيْهِ أَحَد الْأَمْرَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَرَجَّح لَيْسَ الْكَلَام فِيهِ بَلْ إِذَا تَسَاوَيَا فَيَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال فَإِنْ تَعَارَضَا اِخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَات، فَمَنْ يَتَحَتَّم عَلَيْهِ الْمُخَالَطَة مَنْ كَانَتْ لَهُ قُدْرَة عَلَى إِزَالَة الْمُنْكَر فَيَجِب عَلَيْهِ إِمَّا عَيْنًا وَإِمَّا كِفَايَة بِحَسَبِ الْحَال وَالْإِمْكَان، وَمِمَّنْ يَتَرَجَّح مَنْ يَغْلِب عَلَى ظَنّه أَنَّهُ يَسْلَم فِي نَفْسه إِذَا قَامَ فِي الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر، وَمِمَّنْ يَسْتَوِي مَنْ يَأْمَن عَلَى نَفْسه وَلَكِنَّهُ يَتَحَقَّق أَنَّهُ لَا يُطَاع، وَهَذَا حَيْثُ لَا يَكُون هُنَاكَ فِتْنَة عَامَّة فَإِنْ وَقَعَتْ الْفِتْنَة تَرَجَّحَتْ الْعُزْلَة لِمَا يَنْشَأ فِيهَا غَالِبًا مِنْ الْوُقُوع فِي الْمَحْذُور، وَقَدْ تَقَع الْعُقُوبَة بِأَصْحَابِ الْفِتْنَة فَتَعُمّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلهَا كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}

(1)

وَيُؤَيِّد التَّفْصِيل الْمَذْكُور حَدِيث أَبِي سَعِيد أَيْضًا «خَيْر النَّاس رَجُل جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَاله، وَرَجُل فِي شِعْب مِنْ الشِّعَاب يَعْبُد رَبّه وَيَدَع النَّاس مِنْ شَرّه»

(2)

.

وقسم الخطابي. رحمه الله الفُرقة فُرقتان، والجماعة جماعتان، وأطال في ذلك إلى أن قال: (ولسنا نريد - رحمك الله -

(1)

سورة الأنفال: 25.

(2)

الفتح (13/ 42).

ص: 51

بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات، وترك حقوقهم في العبادات، وإفشاء السلام، ورد التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، ووضائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سبلها، ما لم يحل دوها حائل شغل، ولا يمنع عنها مانع غذر، إنما نريد للعزلة ترك فضول الصحبة، وتبذ الزيادة منها، وحط العلاوة التي لا حاجة بك إليها، فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم، على ما يدعو إليه شعف النفوس، وإلف العادات، وترك الاقتصاد فيها، والاقتصار الذي تدعوه الحاجة إليه، كان جديرة ألا يحمد غبه، وأن يستوخم عاقبته، وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه، ويأخذ منه فوق قدر حاجته، فإن ذلك لا يلبث أن يقع في أمراض مُدْنِفَةٍ، وأسقام مُتْلِفَةِ، وليس مَنْ علم كمن كهل، ولا من جرب وامتحن كمن باده وخاطر؛ .... )

(1)

وفي حديث عبد الله أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزمان الذي يتعذر فيه إصلاح العامة، لاختلاف الناس وتناحرهم وتطاحنهم، وخفة

(1)

العزلة (53 - 57) وذكر الحازمي في موقف المسلم من الفتنة في ضور الكتاب والسنة حالات تشرع فيها العزلة، فراجعه فقد أفاد كاتبه (99).

ص: 52

أحلامهم وأماناتهم، ومروج عهودهم ونذورهم، ووصف. صلى الله عليه وسلم أهل ذلك الزمان بأنهم «حُثالة» من الناس، فهو إشارة إلى استقرار الانحراف العام، والغربة الشاملة، وغلبة الشر والفساد، غلبة لا يطمع معها في إصلاح العامة، ولا شك أن مثل هذا الزمان يكون لزوم البيت والانشغال بإصلاح النفس خير من استنزاف الطاقات وتشتيت الجهد في أمر يصعب، بل قد يطول المؤمن من هذا الزمن شرا، ولا يأمن على نفسه من الفتنة.

ولذا حمل كثير من أهل العلم أحاديث العزلة على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هي فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص.

ومن النصوص التي تدل على حمل أحاديث العزلة على وقت الفتن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سَتَكُونُ فِتَنٌ، القاعِدُ فيها خَيْرٌ مِنَ القائِمِ، والقائِمُ خَيْرٌ مِنَ الماشِي، والماشِي فيها خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لها تَسْتَشْرِفْهُ، فمَن وجَدَ مَلْجَأً أوْ مَعاذًا، فَلْيَعُذْ بهِ»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري كتاب الفتن/ باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم (6/ 2594) 6607، ومسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة (8/ 168) برقم 7431.

ص: 53

وحديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وحديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستكون فتنٌ، ألا ثم تكون فتنةٌ، المضطجعُ فيها خيرٌ من الجالسِ، والجالسُ فيها خيرٌ من القائمِ، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعتْ، فمن كانت له إبلٌ فلْيلْحقْ بإبلِه، ومن كانت له غنمٌ فلْيلْحقْ بغنمِه، ومن كانت له أرضٌ فلْيلْحقْ بأرضِه، ومن لم يكن له شيءٌ من ذلك فليعمدْ إلى سيفِه، فيدقُّ على حدِّه بحجرٍ، ثم لْينجُ إن استطاع النَّجاءَ، اللهم هل بلَّغتُ، اللهم هل بلَّغتُ»

(1)

.

أما في الأحوال العادية التي ليس فيها فتنة عامة، فالأصل فيها أن المسلم الذي يستطيع الخلطة فيخالط الناس، ويصير على أذاهم، ويوصل إليهم النفع الديني والدنيوي هو خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم، بل يعتزل شرورهم، ويتفرد بنفسه.

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر (8/ 169)7432.

ص: 54

‌المطلب الثاني: «املك عليك لسانك»

المسلم الحق هو الذي يحذر كل الحذر من لسانه؛ لأنه سوف يحاسب على كل كلمة بل كل لفظ ينطق به، يقول تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}

(1)

، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال:«الفم والفرج»

(2)

.

وسأل معاذ النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم برأسه وعموده وذروة سنامه، ثم قال:"ألا أخبرك يملا ذلك كله؟ " قال: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسان نفسه ثم قال: "كف عليك هذا". فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا معاذ؛ وهل يَكُبُّ الناسَ على وجوههم -أو على مَناخِرِهِم- إلا حصائدُ ألسنتِهم»

(3)

.

وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: «إذا أصبح

(1)

سورة ق: 18.

(2)

أخرجه الترمذي (4/ 363)، وابن ماجة (2، 1418)، وأحمد (2/ 291)، وحسنه الألباني في الصحيحة 2/ 669.

(3)

أخرجه الترمذي (5/ 11) وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي الكبرى (6/ 428)، وابن ماجة (2/ 1314)، وأحمد (5/ 231) وصححه الألباني في صحيح الترمذي 6/ 116.

ص: 55

ابنُ آدمَ فإنَّ أعضاءَه تُكَفِّرُ اللسانَ؛ تقول: اتقِ اللهَ فينا؛ فإنكَ إنِ استقمتَ استقمنا، وإن أعوججتَ اعوججنا»

(1)

.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُهُ، ولا يستقيمُ قلبُهُ حتى يستقيمَ لسانُهُ، ولا يدخلُ الجنةَ حتى يأمنَ جارُهُ بَوائقَهُ»

(2)

.

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ»

(3)

.

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «هل تَدرون مَنْ المُفلِسُ؟ قالوا: المُفلِسُ فينا، يا رسولَ اللهِ، مَنْ لا دِرهَمَ له ولا مَتاعَ. قال: إنَّ المُفلِسَ مِنْ أُمَّتي مَنْ يَأتي يَومَ القِيامَةِ بِصِيامٍ وصَلاةٍ وزَكاةٍ، ويَأتي قد

(1)

أخرجه الترمذي (4/ 605). وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 5/ 407، 3/ 95.

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «الصمت» ، وأحمد (3/ 198) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 3/ 56.

(3)

البُخاري كتاب الرقاق/ باب حفظ اللسان (5/ 2377)6113.

ص: 56

شتَمَ عِرْضَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكَلَ مالَ هذا، فيُقعَدُ، فيَقُصُّ هذا مِنْ حَسَناتِه، وهذا مِنْ حَسَناتِه، فإنْ فنِيَت حَسَناتُه قبْلَ أنْ يَقضِيَ ما عليه مِنْ الخَطايا؛ أخَذَ مِنْ خَطاياهم فطُرِحَت عليه، ثم طُرِحَ في النَّارِ»

(1)

.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ صَمَت نَجا»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت»

(3)

.

قال الإمام النووي رحمه الله معلقة على هذا الحديث:

(1)

مسلم كتاب البر والصلة والآداب (8/ 18)6744.

(2)

أخرجه الترمذي فيف صفة القيامة باب 50 (4/ 660 رقم 2501)، وابن المبارك في الزهد 385 ومن طريقه رواه أبو الشيخ في الأمثال، وأحمد 2/ 159 و 177، والدارمي 2/ 299، 107، والطبراني في الكبير 17، والقضاعي في مسند الشهاب 1/ 219 رقم 243. وقد ضعف إسناد الترمذي الإمام النووي رحمه الله في ال أذكار 520، ونقل المناوي في فيض القدير: 6/ 171 عن الزين العراقي قوله: (سند الترمذي ضعيف وهو عند الطبراني بسند جيد) ثم نقل عن الحافظ ابن حجر قوله: (رواته ثقات) اهـ. وصححه الألباني في الصحيحة 536.

(3)

أخرجه البخاري في الرقاق باب حفظ اللسان (11/ 314 رقم 6475 مع الفتح) ومسلم في الإيمان باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير: 1/ 68 رقم 47.

ص: 57

(قلت: فهذا الحديث المتفق على صحته نص صريح في أنه لا ينبغي أن يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرة، وهو الذي ظهرت له مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم. وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم، وإن شك لم يتكلم حتى تظهر)

(1)

.

وذكر الإمام مالك في الموطأ: عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه - أنه دخل على أبي بكر الصديق وهو يحبذ لسانه -أي: يجره بشدة - فقال له عمر: مه! غفر الله لك، فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد

(2)

.

وقال النووي في الأذكار

(3)

: «بلغنا أن قس بن ساعدة، وأكثم بن صيفي اجتمعا فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من

(1)

الأذكار: 517.

(2)

(5/ 1438)، وأخرجه ابن أبي شيبة (5/ 320)، وابو يعلى في مسنده (1/ 17 رقم 5) ومن طريقه أخرجه ابن السنى في عمل اليوم والليلة 7 رقم 7، وذكره الهيثمي في المجمع 10/ 302 وقال: ( ...... ورجاله رجال الصحيح

) ونقل السيوطي في الجامع الكبير عن الحافظ ابن كثير أنه قال: (إسناده جيد) وقال الألباني في الصحيحة: 2/ 62 رقم 535: (صحيح الإسناد على شرط البخاري).

(3)

/ 423.

ص: 58

العيوب؟! فقال: هي أكثر من أن تحصى، والذي أحصيته: ثمانية آلاف عيب، فوجدت خصلة إن استعملتها سترت العيوب كلها، قال ما هي؟ قال: حفظ اللسان».

ما تقدم كله يؤكد أهمية حفظ الإنسان للسانه، والتحرز في حفظه في جميع الأزمنة والأوقات، ويتأكد حفظ اللسان في أوقات الفتن أكثر منه في غيره، كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو «أملك عليك لسانك»:(وأملك) بقطع الهمزة وكسر اللام (عليك لسانك) أي احفظه وصنه ولا تحره إلا فيما لك لا عليك، أو امسكه عما لا يعنيك، وخصه لأن الأعضاء تبع له، فإن استقام استقامت وإن أعوج اعوجت

(1)

.

قال في مرقاة المفاتيح: «أملك عليك لسانك بفتح الهمزة وكسر اللام أي احفظ لسانك عما ليس فيه خير، والأظهر أن معناه أمسك لسانك حافظا عليك أمورك مراعية لأحوالك، ففيه نوع من التضمين»

(2)

.

(1)

ينظر: مصابيح ال تنوير على صحيح الجامع الصغير (مختصر فيض القدير شرح الجامع الصغير للإمام عبدالرؤوف المناوي)، لـ: محمد بن ناصر الدين الألباني، إعداد وترتيب: أبو أحمد معتز أحمد عبدالفتاح (28).

(2)

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (14/ 111).

ص: 59

وقد وردت أحاديث أخرى تؤكد أهمية حفظ اللسان عند الفتنة، وأن وقع اللسان في تلك الفتن أشد من وقع السيف:

منها حديث عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تكون فتنة تَسْتَنْظِفُ العرب

(1)

، قتلاها في النار

(2)

، اللسان فيها أشد من وقع السيف»

(3)

.

(1)

أي: تستوعبهم هلاكًا. يقال: استَنْظَفتَ الشيء إذا أخذته كلَّه، ومنه قولهم: استنظفت الخراج، ولا يقال: نظَّفْتُه.

النهاية في غريب الحديث (5/ 79) مادة (ن ظ ف).

(2)

قال القاضي رحمه الله: المراد بقتلاها من قتل في تلك الفتنة، وإنما هم من أهل النار لأنهم ما قصدوا بتلك المقاتلة والخروج إليها إعلاء دين أو دفع ظالم أو إعانة محق. وإنما كان قصدهم التباغي والتشاجر طمعًا في المال والملك. نقله عنه المباركفوري في تحفة الأحوذي (6/ 335)

(3)

أخرجه أبو داود في الفتن باب في كف اللسان في الفتنة: 4/ 461 رقم 4265، وابن ماجة في الفتن باب كف اللسان في الفتنة: 2/ 1312 رقم 3967، والترمذي (5/ 178)، 2178 وأحمد (11/ 170 رقم 6980)، قال الترمذي: هذا حديث غريب، سمعت محمد بن إسماعيل يقول: لا يعرف لزياد بن سيمين كوش غير هذا الحديث، رواه حماد بن سلمة عن ليث فرفعه، ورواه حماد بن زيد عن ليث فأوقفه. وإسناده ضعيف، لضعف ليث بن أبي سليم، قال الحافظ في التقريب (5985):«صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك» وزياد بن سيمين كوش. بكسر المهملة والميم. قال الحافظ عنه: «مقبول» التقريب (2081) وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجة: 319، وفي السلسلة الضعيفة (7/ 217)3230.

ص: 60

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: «اللسان فيها أشد من وقع السيف» يقول القاضي عياض: «أي: وقعه وطعنه على تقدير مضاف، ويدل عليه رواية:(إشراف اللسان) أي: إطلاقه وإطالته أشد من وقع السيف، لأن السيف إذا ضرب به أثَّر في واحد، واللسان تضرب به في تلك الحالة ألف نسَمَة

(1)

.

وقال القرطبي رحمه الله: (قوله: «اللسان فيها أشد من وقع السيف»: أي: بالكذب عند أئمة الجور، ونقل الأخبار إليهم، فربما ينشأ عن ذلك من النهب والقتل والجلد والمفاسد العظيمة أكثر مما ينشأ من وقوع الفتنة نفسها)

(2)

.

ومن الأحاديث التي أشارت إلى خطر الكلمة في الفتنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتنة صَمَّاءُ بَكْمَاءُ عَمْيَاءُ من أشرف لها اسْتَشْرَفَتْ له، وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف»

(3)

.

(1)

ينظر: تحفة الأحوذي (6/ 335).

(2)

التذكرة: (2/ 249).

(3)

رواه أبو داود في الفتن باب في كف اللسان في الفتنة: 4/ 460 رقم 4264، وأورده الحافظ ابن كثير في النهاية في الفتن: 1/ 79 مستشهدًا به ولم يذكر فيه علة، وصححه السيوطي في الجامع الصغير:(4/ 101 مع الفيض) وانتقده المناوي في الفيض: 4/ 101، وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود: 6/ 148 (في إسناده عبد الرحمن بن البيلماني ولا يحتج بحديثه) وقال الحافظ عن عبد الرحمن بن البيلماني: ضعيف. تقريب التهذيب (رقم الترجمة: 3819)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود رقم (917) وضعيف الجامع رقم 3257.

ص: 61

لقد وصفت الفتنة بأوصاف أصحابها، أي: لا يُسمع فيها الحق ولا ينطق به، ولا يتضح الباطل عن الحق، فهم لا يميزون فيها بين الحق والباطل، ولا يسمعون النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل من تكلم فيها بحق أوذي ووقع في الفتن والمحن، ثم أخبر. صلى الله عليه وسلم أن:«من أشرف لها استشرفت له» أي: من اطلع ينظر إليها جرّته لنفسها، فالخلاص في التباعد منها، والهلاك في مقاربتها.

وأخبر صلى الله عليه وسلم أيضا أن: «إشراف اللسان فيها كوقوع السيف» أي: إطلاقه وإطالته بالكلام يعد كوقوع السيف في التأثير والمحاربة، وفي رواية:((أشد من السيف))

(1)

.

قال ابن العربي: (وجه كونه أشد: أن السيف إذا ضرب ضربة واحدة مضت واللسان يضرب به في تلك الحالة الواحدة ألف نسمة، ثم هذا يحتمل أنه إخبار عما وقع من الحروب بين الصدر الأول، ويحتمل أنه سيكون وكيفما كان فإنه من معجزاته لأنه

(1)

عون المعبود: 11/ 346، فيض القدير: 4/ 101.

ص: 62

إخبار عن غيب)

(1)

.

والمتأمل لما سبق من الأحاديث يقف على موقف المؤمن وقت الفتنة، إنه الشخص الحذر المتحفظ الذي لا يطلق الكلمات لإيمانه بأن الله سائله عنها، وأن الكلمة سلاح يستخدم لشق صف الجماعة المسلمة، وتمزيق وحدتها، ولا يرضى المؤمن لنفسه أن يكون وسيلة يستخدمه الأعداء لبث الإشاعة ونشرها لا سيما في عصرنا الحالي الذي تنتقل الكلمة فيه بسرعة هائلة عبر وسائل الاتصال السريع.

ولو أننا تأدبنا بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله عند ورود أي خبر لكانت العاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة، يقول تعالى:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}

(2)

.

يقول ابن كثير في تفسير الآية: « .... إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها

(1)

عزاه له صاحب عون المعبود: 11/ 346، وفيض القدير: 4/ 101، وتحفة الأحوذي: 6/ 403.

(2)

سورة النساء: 83.

ص: 63

صحة، وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه

(1)

.... عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بالمرء بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع»

وفي الصحيحين

(2)

، عن المغيرة بن شعبة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال» ، أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت، ولا تدبر، ولا تبين.

ولنذكر ههنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته

(3)

حين بلغه أن رسول الله لا طلق نساءه، فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على النبي لا فاستفهمه أطلقت نساءك؟! فقال:«لا» فقلت عمر: الله أكبر، وذكر الحديث بطوله.

وعند مسلم قال: فقلت: أطلقتهن؟ فقال: «لا» فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي، لم يطلق رسول الله لا نساءه، ونزلت هذه الآية {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى

(1)

(1/ 8) 7

(2)

البخاري كتاب الرقاق/ باب: ما يكره من قيل وقال (6/ 294) 6473، ومسلم كتاب الأقضية (5/ 130)4583.

(3)

البخاري كتاب العلم/ باب التناوب في العلم (1/ 93) 89، ومسلم كتاب الطلاق (4/ 188)3764.

ص: 64

الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}. فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر»

(1)

.

ويقول الشيخ السعدي تعليقا على الآية: «هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين، وسرورة لهم، وتحرزة من أعدائهم؛ فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته؛ لم يذيعوه، ولهذا قال:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.

وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير/ دار الفكر - (1/ 655).

ص: 65

بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ، وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان، أم لا فيحجم عنه»

(1)

.

إن على علماء الأمة وطلبة العلم فيها أن يؤصلوا للعامة على وجه العموم وللشباب على وجه الخصوص وجوب كف اللسان في الفتن، وضرورة التثبت والتبيين عند ورود الخبر، ورده إلى أولي الأمر وأهل الخبرة كما أرشدنا الحكيم الخبير، لا سيما في عصر العولمة وسرعة انتشار المعلومة.

‌المطلب الثالث: «خذ ما تعرف ودع ما تنكر، ودع عنك أمر العامة وعليك بخاصة نفسك»

المتأمل لهذا الجزء من الحديث يرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو عند فساد الزمن، وقلة الصالحين وذهابهم، وخفة الذمم وضياعها - كما تقدم في التمهيد- بأمرين:

‌الأول: (خذ ما تعرف، ودع ما تنكر) وفي هذه اللفظة من الحديث

(1)

تفسير السعدي (190).

ص: 66

نصيحة ترسم للفرد المنهج الأمثل في تلقي الفرد في مثل الزمان الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صفته، يقول المناوي في شرح الحديث:«(وخذ ما تعرف) من أمر الدين: أي الزم فعل ما تعرف كونه حقا من أحوالك التي تنتفع بها دنيا وأخرى، (ودع) اترك (ما تنكر) من أمر الناس المخالف للشرع وانظر إلى تدبير الله فيهم بقلبك، فإنه قسم بينهم أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم، ولو شاء لجمعهم على خلق واحد، فلا تغفل عن النظر إلى تدبيره تعالى فيهم، فإذا رأيت معصية فاحمد الله إذ صرفها عنك، وتلطف في الأمر والنهي في رفق وصبر وسكينة فإن قبل منك فاحمد الله وإلا فاستغفره لتفريطك»

(1)

.

‌الثاني: (ودع عنك أمر العامة، وعليك بخاصة نفسك):

يرسم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمن في هذا المقطع موقف المؤمن من مثل هذا المجتمع الذي استشرى فيه الفساد، وقلة الذمم، ولأهل العلم تأويلات للحديث:

أولها: يرى الإمام الخطابي أن المقصود بالخاصة في هذا الحديث ما يخص الإنسان في ذاته من إعانة أهله، وسياسة ذويه، والقيام

(1)

فيض القدير 1/ 353.

ص: 67

لهم، والسعي في مصالحهم، ويعتبر هذا التوجيه متعلقة بالمصالح الدنيوية، أما ترك العامة -عنده - فهو ترك التعرض لأمرهم، والتعاطي لسياستهم، والترأس عليهم، والتوسط في أمورهم

(1)

. وإذا فستر الحديث بهذا المعنى صار المرء مطالبة بالاقتصار من الدنيا ومن مخالطة أهلها، على ما لابد له منه في تدبير أمور معاشه، ومعاش من يعول.

ثانيها: أن يراد به (الخاصة) أصحاب الإنسان وخلصاؤه وأصدقاؤه، لأنه يختصهم بالود والمصافاة، قال الشاعر:

إن امرءًا خصَّني عمْدًا مودّته

على التنائي لعندي غير مَكفورِ

(2)

وقال الأزهري: الخاصة الذي اختصصته لنفسك

(3)

.

وعلى هذا المعنى يكون مقصود الحديث أمر الإنسان المتبع بالاعتناء بأمر الخاصة من أصحابه وخلصائه وأودَّائه في الله،

(1)

العزلة والخلطة: 74 - 75.

(2)

تاج العروس 4/ 387، ونسبه لأبي زبيد، وينظر: القاموس: 2/ 313.

(3)

تهذيب اللغة: 6/ 552.

ص: 68

والاهتمام بصلاح شئون دينهم ودنياهم، وملازمتهم، وترك أمر العامة.

‌ثالثها: (وعليك بخاصة أمر نفسك)

أي استعملها في المشروع وكفها عن المنهي والزم أمر نفسك والزم دينك واترك الناس ولا تتبعهم

(1)

. وقيل: اجتهد في خلاصك، ولا تهلك مع من هلك، كما جاء عن بعض أهل العلم أنه قال: لا يغتر الإنسان بطريق الشر ولو كثر السالكون لها، ولا يزهد عن طريق الخير وإن قل السالكون لها، فليس العجب ممن هلك كيف هلك وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، لأن الهالكين كثيرون

(2)

.

ولا مانع من حمل الحديث على ما ورد من تأويلات إذ لا تعارض بينها، فعلى المرء عند استحكام الفتن أن يلتفت إلى نجاة نفسه وصلاحها، وإقامة أمور أهله الدينية والدنيوية، وإصلاح حال أصحابه وأهل وده ممن يؤثر فيهم ويؤثرون فيه، والله أعلم.

(1)

المرجع السابق.

(2)

شرح سنن أبي داود لعبد المحسن العباد (2/ 100).

ص: 69

وهذا يكون في الحال التي ينطبق عليها الوصف الوارد في الأحاديث، وهي على ضربين:

الأول: أن تقع في زمن خاص، في مكان خاص من أرض الإسلام، وهذا جائز وقوعه في كل عصر.

والثاني: أن تقع شاملة في الأرض كلها، بصورة تامة، وهذا ما ترجح من أنه يكون قبيل الساعة، حيث لا ينفع أمر ولا نهي، فيؤمر المؤمنون المتحلون بصفات الطائفة المنصورة أن يُعنَوْا بصلاح حالهم الخاص ويدعوا أمر العامة حتى يأتي أمر الله. والله أعلم

(1)

.

وليس فيما تقدم دليل على سقوط شعيرة من شعائر الدين شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم أنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أولا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو

(1)

موقف المسلم من الفتن للحازمي (451).

ص: 70

تقصير في المعروف

(1)

.

إلا أن هناك‌

‌ بعض الحالات يسقط فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان دون الإنكار بالقلب، فإنه لا يسقط بحال:

‌1/ أن لا يقبل القول منه، ولا ينتفع به:

إذا غلب على ظن المؤمن عدم الفائدة من أمره ونهيه لم يجب عليه الأمر والنهي، بل استحب له ذلك؛ ليبقى صوت الشرع مسموعا معلنا يذكر الناس بأنه قائم لم يمت، يقول الإمام الغزالي في هذا المعنى:«أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره، ولكنه لا يخاف مكروها فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها، لكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين»

(2)

.

ومما يؤكد هذا المعنى حديث عبد الله بن عمرو موضوع البحث، و ما جاء عن أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني، فقلت: يا أبا

(1)

شرح النووي على مسلم - (2/ 23)، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لسليمان الحقيل (55) الأمر بالمعروف لخالد السبت (100).

(2)

إحياء علوم الدين (2/ 280) وينظر الأمر بالمعروف للحقيل (72) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للسبت (116).

ص: 71

ثعلبة كيف تقول في هذه الآية (عليكم أنفسكم)

(1)

قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا

(2)

، وهوى متبعة، ودنيا مؤثرة

(3)

وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك - يعني بنفسك - ودع عنك العوام، فإن فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله»

(4)

.

(1)

المائدة: 105.

(2)

أي: بخلا مطاعا بأن أطاعته نفسك وطاوعه غيرك. قاله القاري. عون المعبود (11/ 332).

(3)

وهي عبارة عن المال والجاه في الدار الدنية (مؤثرة): أي مختارة على أمور الدين. عون المعبود (11/ 332).

(4)

أخرجه أبو داود (4/ 215)، والترمذي (5/ 257)، وابن ماجه (2/ 1330)، وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (3/ 641، 642، 644)، والقاسم بن سلام في الناسخ والمنسوخ (1/ 455)، والبخاري في خلق أفعال العباد (1/ 64)، وابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1/ 3)، وفي العقوبات (1/ 11)، وابن أبي عاصم في الزهد (1/ 133)، والمروزي في السنة (1/ 14)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (3/ 136)، والطبري في تفسيره (11/ 146)، وابن أبي حاتم في تفسيره (5/ 127)، وابن حبان (2/ 108)، والطبراني في الكبير (16/ 92)، والحاكم (4/ 358)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 30)، والبيهقي في الكبري (10/ 91)، وفي شعب الإيمان (6/ 83)(7/ 127)، وفي الآداب (1/ 90)، وابن عبد البر في التمهيد (24/ 316)، والبغوي في تفسير (3/ 110) وابن عساكر في تاريخ دمشق (64/ 39)، (64/ 40)، وعبد الغني المقدسي في الأمر بالمعروف (1/ 13)(1/ 22).

وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

وفيه عندي نظر، فإن عمرو بن جارية وأبا أمية لم يوثقهما أحد من الأئمة المتقدمين، غير ابن حبان في الثقات (9758، 6233) وهو متساهل في التوثيق كما هو معروف عند أهل العلم، ولذلك لم يوثقهما الحافظ في «التقريب» ، وإنما قال في كل منهما:«مقبول» يعني عند المتابعة، وإلا فلين الحديث كما نص عليه في «المقدمة» من «التقريب» (رقم ترجمتهما: 4997، 7947)

قال الألباني في مشكاة المصابيح (3/ 115): ضعيف ولبعضه شواهد، وأطال النفس في تضعيفه في السلسلة الضعيفة (3/ 94)1025.

ص: 72

وقد روي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قالوا لم يأت تأويلها بعد إنما تأويلها في آخر الزمان

(1)

.

ولا يفهم الإنسان من الآية أنه إذا اهتدى لا يضره ضلال غيره إذا ضل، أو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بالواجب، ولكن حديث أبي بكر رضي الله عنه بين الحق حيث قام فحمد الله عز وجل وأثنى عليه فقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إلى آخر الآية -، وإنكم تضعوها على غير موضعها، وإني سمعت

(1)

ينظر: تفسير الطبري (11/ 138)، تفسير القرطبي (6/ 342)، فتح القدير (2/ 85)(جامع العلوم والحكم (1/ 323).

ص: 73

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه

(1)

، فقد بين أن ذلك يكون بعد أن يأمر الإنسان وينهى، وليس معني ذلك أنه يترك الأمر والنهي، ولكنه إذا أدى ما عليه فعند ذلك لا يضره ضلال من ضل إذا اهتدى. أما أن يترك الأمر والنهي ويكفيه أن يكون قد اهتدى، فهذا ليس بصحيح

(2)

، أو أن الآية محمولة على زمن لم يأت بعد كما تأولها كثير من الصحابة.

‌2 - إذا لحق الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر ضرر.

فإذا كان يلحق المسلم من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكروه معتبر يتضرر به في نفسه أو ماله أو جاهه

(3)

سقط الوجوب عنه، دل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبدا حجته، قال: يا رب رجوتك وفرقت من الناس»

(4)

.

(1)

أخرجه أحمد (1/ 5)، وابن حبان (1/ 539) قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

(2)

شرح سنن أبي داود، عبد المحسن العباد (2/ 101)

(3)

أطال الأستاذ خالد بن عثمان السبت في كتابه (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في حد المكروه المعتبر شرعا، وضوابطه، فراجعه فقد أفاد وأجاد (118. 124)

(4)

أخرجه ابن ماجه في السنن (2/ 1322) 4017، وعبد بن حميد في مسنده (1/ 301)، وأبو يعلى في مسنده (2/ 499). وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، والصحيحة (3/ 3)929.

ص: 74

‌3 - أن يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصول مفسدة أعظم من ذلك المنكر.

فإنه حينئذ يترك الأمر والنهي. وهذه قاعدة عامة في الشريعة يقول فيها شيخ الإسلام: «وجماع ذلك داخل في «القاعدة العامة» : فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بما وبدلالتها على الأحكام. وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا؛ أو يتركوها

ص: 75

جميعا: لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا من منكر؛ ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به؛ وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه؛ بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه؛ وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر؛ وتارة يصلح النهي؛ وتارة لا يصلح لا أمر ولا تنحي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة»

(1)

.

ويدل على هذه القاعدة أدلة من السنة، كترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي المنافق

(2)

، لتوقعه حصول ضرر أكبر على الإسلام

(1)

مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/ 129).

(2)

وذلك حينما قال هذا المنافق: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه و سلم (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) أخرجه البخاري كتاب التفسير باب سورة المنافقون (4/ 1861)4622. ومسلم كتاب البر والصلة والآداب. (8/ 19)6748.

ص: 76

من بقائه، وكما ترك تغيير البيت وجعله على قواعد إبراهيم عليه السلام

(1)

، وغيرها.

ويقول ابن القيم

(2)

: «إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وان كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر .... وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر، ولا ينزعن يدا من طاعته» ، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات، ولا يستطيع تغييرها بل لما فتح الله مكة

(1)

كما جاء في البخاري كتاب العلم/ باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه (1/ 59) 126 من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لي قال النبي صلى الله عليه و سلم (يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم - قال ابن الزبير - بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون). ففعله ابن الزبير. ونحوه عند مسلم كتاب الحج (4/ 98)3308.

(2)

إعلام الموقعين (3/ 3).

ص: 77

وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء، فإنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة».

[*](تعليق الشاملة): سقطت هذه الصفحة من المطبوع، وهي ثابتة في الأصل الإلكتروني المرسل إلينا من المؤلفة، جزاها الله خيرا

ص: 78

‌الخاتمة

الحمد الله حمدا كثيرة، طيبا مباركا فيه كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه له الحمد في الأولى والآخرة.

وبعد: فهذا ما امتن الله به علي بعد هذه الرحلة العلمية المباركة التي تعرفت من خلالها على موقف المسلم من الفتن في ضوء حديث عبد الله بن عمرو - ? - وخلصت بهذه النتائج والتوصيات.

‌أهم النتائج:

• تنقسم الفتن إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: تنقسم من حيث نوعها إلى: فتنة الشبهات، وفتنة الشهوات.

القسم الثاني: تنقسم من حيث زمنها إلى: فتن الحياة، وفتن الممات.

القسم الثالث: تنقسم من حيث حجمها: إلى فتن صغار، وفتن كبار عظيمة.

ص: 79

• صحة حديث عبد الله بن عمرو في الفتنة، وزيادة هلال شاذة في حديث عبد الله بن عمرو كما قال الألباني رحمه الله، والله أعلم.

• الخطوات العملية التي أوصى بها النبي لاجتناب الفتنة من خلال حديث عبد الله بن عمرو.

• لا يمكن تفضيل الخلطة على العزلة مطلقة ولا العكس، ولذا حمل كثير من أهل العلم أحاديث العزلة على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هي فيمن لا يسلم الناس منه، ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص؛ أما في الأحوال العادية التي ليس فيها فتنة عامة، فالأصل فيها أن المسلم الذي يستطيع الخلطة فيخالط الناس، ويصبر على أذاهم، ويوصل إليهم النفع الديني والدنيوي هو خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم، بل يعتزل شرورهم، ويتفرد بنفسه.

• المسلم الحق هو الذي يحذر كل الحذر من لسانه؛ لأنه سوف يحاسب على كل كلمة بل كل لفظ ينطق به.

• وقع اللسان في الفتن أشد من وقع السيف.

• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان يسقط في

ص: 80

حالات، دون الإنكار بالقلب، فإنه لا يسقط بحال.

• درجات إنكار المنكر أربع: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته، الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة.

‌أهم التوصيات:

• نشر موقف المسلم في زمن الفتن عالميا، وذلك من خلال مبادرات إسلامية لعقد مؤتمرات، تتبناها جهات مختصة.

• قيام كوادر المجتمع في نشر ثقافة ماذا يجب على المسلم فعله زمن الفتن كل بحسب تخصصه ومجاله.

• تكثيف موقف المسلم من الفتن في وسائل الإعلام والتعليم.

ص: 81

• تفعيل دور الأئمة والخطباء حول بيان منهج المسلم الصحيح زمن الفتن، وإعطائهم دورات شرعية حول هذا الموضوع.

• التأكيد على منهج المسلم في تلقي الأخبار وإذاعتها من خلال دورات علمية متخصصة، تتبنى الطرح العصري للمنهج السلفي.

هذا ما وسعه جهد المقل، وجاد به القلم، وسمح به الوقت فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ أو نقص فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله منه، فتلك سنة الله في بني الإنسان، ولا أدعي الكمال، فإنه من صفات الكبير المتعال، والنقص والتقصير واختلاف وجهات النظر من صفات الجنس البشري. وحسبي أني بذلت جهدي، ووضعت لبنة في طريق من يريد إتمام البناء. وما ذاك إلا بتوفيق الله، سائلة المولى القدير أن ينفعني به، و ينفع به جميع المسلمين، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

ص: 82