الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شرح النخبة نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر
تأليف
الإمام الحافظ ابن حجر أمير المؤمنين في الحديث أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني
(ولد سنة 773 هـ وتوفي سنة 852 هـ) رحمه الله تعالى
حققه على نسخة مقروءة على المؤلف وعلق عليه
نور الدين عتر
رئيس قسم علوم القرآن والسنة بجامعة دمشق، أستاذ التفسير والحديث في كليات الشريعة والآداب بجامعتي دمشق وحلب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
شرحُ النُّخْبَةِ نُزْهَةُ النَّظَرِ فِي تَوْضِيحِ نُخْبَةِ الفِكَرِ فِي مُصْطَلَحِ أهْل الأثَرِ
تقْرِيظُ شرح النخبَةِ وتحقيقه
(*)
أبدعتَ يا حَبرُ فِي كلّ الفنُون بما
…
صَنَعْتَ في العِلم مِنْ بَسْطٍ وَمختَصَرِ
عِلم الحَديثِ بهِ أصْبَحت منفَرِدًا
…
وللأنامِ فكم أبرزْتَ مِن غُرَرِ
لقَد جلوتَ عَروس الحُسنِ مُبتكرًا
…
فيما أتيتَ بهِ من نخبَةِ الفِكَرِ
إذا تَأَمّلهَا بالفِكْرِ ناظِرُها
…
تهمى فوائِدُها للفِكر كالمطَرِ
أتى بهَا البَدرُ نورُ الدّين قدوَتُنَا
…
هَذا المفسِّرُ للآثَارِ وَالسُّوَرِ
هذا المحقّقُ في شرح لنخبَتِنَا
…
كمَن يُدقّقُ لِلألماسِ وَالدُّرَرِ
فكان كالغيْثِ أهدَانا منابِعَهُ
…
فأصبَح الرَّوضُ أشجَارًا مِنَ الثَّمَرِ
لا زالَ يُثري علومَ الدِّينِ هِمَّتُهُ
…
بِكُلِّ صِدقٍ وَإِخلَاصٍ مَعَ العِبَرِ
فباركَ اللهُ جهدًا قامَ يَبذلهُ
…
وَزَادَهُ اللهُ مِنْ خيراتِهِ الكُثُرِ
(*) الأبيات الأربعة الأولى للشاعِر الشيخ سراج الدّين عمر بن محمّد بن علي الجعبري الخليلي شيخ مدينة الخليل أنشدها يخاطب الحافظ ابن حجر بها، أكملها الأديب الشاعر الأستاذ خالد الزيّات حفظه الله وأجزلَ مثوبته.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ لله ربِّ العالمين، اختَصَّ مَنْ شاءَ مِنْ عباده بما شاءَ مِنْ فَضْله العظيم. وأفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم، على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بَعْدُ:
فإنّ هذا الكتابَ شَرْحَ النُّخْبَةِ: "نُزْهَة النَّظَرِ في توضيحِ نُخْبَةِ الفِكَر" للإمام الحافظِ أبي الفَضْل ابنِ حجر، أميرِ المؤمنين في الحديثِ، كتابٌ جليلٌ، قدِ احتلَّ مكانةَ الأساسِ في فَنِّ أصولِ الحديث، لِمَا امتازَ به من إيجازِ ألفاظهِ، وغَزَارةِ فوائدهِ، ودِقَّةِ تحقيقاتِه، ولطريقةِ عَرْضِه التي بُنِيَتْ على التقسيم الدقيق، والتي تمتازُ بأنَّها تُقَدِّمُ صيغةً مُتميِّزةً وتَصَوُّرًا فريدًا لهذا العِلْمِ: عِلْمِ المُصْطلَح، ليس في غيرهِ مِنْ كُتُبِ هذا الفَنِّ، حتى صارَ الكتابُ بهذه المزايا كتابَ الخاصِّ والعامِّ مِنْ رَاغِبِي عِلْمِ الحديث، وحَثَّ العُلماءُ على دِرَاسَتِه، وحَضُّوا على استِحْفَاظِه.
لكنَّ هذا الكتابَ لم يُطْبَعْ حتى الآنَ مُحقَّقًا على مخطوطٍ مُعْتَمَدٍ يُوْثَقُ به، فَضْلًا عن كَثْرةِ الأخطاء التي قد تُخِلُّ بالمعنى، أو تُوَعِّر سبيلَه، إضافةً إلى إغفالِ المطبوعاتِ مِنْ ضَبْطِ ما يُشْكِلُ، وخُلُوِّ تعليقاتِ مَنْ عَلَّقَ عليه مِنْ إيضاحِ ما يَغْمُضُ، بل قد وَقَعَ في تعليقِ مَنْ عَلَّقَ عليه الخَلْطُ في مسائلِ عِلْمِ المصطلَحِ، والغَلَطُ في تراجمِ الأعلامِ، وفي تخريج الأحاديثِ .. ؟!.
وقَدْ منَّ اللهُ الكريمُ، ذو الفضلِ العظيمِ بنُسَخٍ خَطِّيَّةٍ قَيِّمة، تتقدَّمُها
نُسخَةٌ يَعِزُّ أنْ تضاهِيَها في المخطوطاتِ نُسْخَةٌ، قُرِئَتْ هذه النُّسْخَةُ على الإمامِ المُصَنِّفِ ابنِ حَجَرٍ نَفْسِه قراءةَ بحثٍ ودِرايةٍ، وأَثْبَتَ خَطَّه عليها في مواضعَ كثيرةٍ لِلْغَاية، وقد سُجِّلَتْ هذه النُّسْخَةُ في التاريخ ووُصِفَتْ بقراءةِ الفقيه المُحَدِّثِ ناسِخِها قراءةَ بحثٍ على الإمامِ مُؤَلِّفِها، فاعتمدْنَا هذه النُّسْخَةَ أصلًا في التحقيق، وَذَيَّلْنَا الكتابَ بما تَمَسُّ إليه الحاجةُ مِنْ شَرْحِ غامِضٍ أو تسهيلِ عَوِيْصٍ، ومِنْ تكميلِ فائدةٍ وزيادةِ عائدةٍ.
وتتميزُ هذه الطبعةُ الثالثةُ: بمزيدٍ من الدِّقَّة والفائدةِ، بإعادةِ مقابلةِ الكتابِ على أصله الوثيقِ، وزيادةِ التَّحري في التَّدقيقِ، وتحقيقِ تعليقاته، وتَلافِي أخطاء السَّهوِ والطِّباعةِ بغاية الاستقصاءِ مع إعادة النظر في المراجع والشروح، مستفيدين من قراءَته في مجالسَ كثيرةٍ لطلبة العلمِ، وما حَصَل من إفادة بعضِ فُضَلائهم، وَفَّقَهُمُ الله جميعًا ونفع بهم العلم والدين.
كما تتميز بترقيم فِقْراتها ومصطلحاتِ المُحَدِّثين، وبفهرسها الموسوعي الذي يساعد كثيرًا على حسن الإفادة منها.
وبهذا جاءَ الكتابُ على الغاية من الإتقانِ، وأفادَ طالبَ الحديثِ إفادةً لا يَجِدُها في غيرِ هذا الكتابِ، على اختصاره شرحًا وتعليقًا.
واللهَ تعالى نسألُ، وإليه تباركَتْ أسماؤه نتوسلُ، أَنْ يتقبَّلَه بمنِّه وكَرَمِهِ، ويُبَلِّغَ مُحَقِّقَه وقارئَه ومُسْتَحْفِظَه غايةَ أَمَلِهِ.
وصلّى اللهُ على سيّدِنا محمدٍ وآله وصَحْبهِ وسَلَّمَ، وعلى جميعِ الأنبياءِ والمُرسلينَ. والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
كتبه
نور الدين عتر
خادم علوم القرآن والسنة في كليات الشريعة والآداب بدمشق
تصدير نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر
بقلم المحقق
نُورُ الدِّينِ عِتْر
رَئِيسُ قِسْمِ عُلُومِ القُرآنِ وَالسُّنَّةِ بجَامِعَةِ دِمَشْق، أستَاذُ التّفسِيرِ وَالحَدِيث في كُليَّاتِ الشَّريعَةِ وَالآداب
الإمامُ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ العَسْقَلانيُّ أميرُ المؤمنينَ في الحديثِ
شيخُ الإسلامِ، قاضي القُضَاةِ، أميرُ المؤمنين في الحديثِ، خاتِمَةُ الحُفَّاظِ أحمدُ بنُ عليّ بن محمدِ بنِ حَجَرٍ العسقَلَانيُّ، المصريُّ الشافعيُّ، كُنْيَتُه أبو الفَضْلِ، ولَقَبُهُ شِهابُ الدِّين، الشهيرُ بابن حَجَرٍ: لَقَبٌ لبعضِ آبائِه، وقيلَ نِسْبَةٌ إلى آلِ الحَجَرِ، وهُمْ قَومٌ يسكنُونَ الجنُوبَ من بلاد الجريد، وأرضُهم قابِسُ، قال بذلك ابنُ العِمَادِ في شَذَراتِ الذَّهَبِ، وقد تابعَ ابنُ العِمادِ في هذه النِّسْبَةِ (إلى آل الحَجَر) أبا المحاسِن ابنَ تَغْرِي بَرْدِي، وعدَّها السَّخاويُّ مِنْ جُملةِ أوهامِه فتعقَّبَه في ترجمتهِ في "الضوءِ اللامع".
وكان ابنُ حَجَرٍ أحدَ أعلامِ الإسلامِ الذين تمكَّنُوا من مُختَلِفِ علوم عَصْرِهم الشرعيَّة واللُّغوية، ورسَخَتْ قَدَمُهُ فيها رُسُوخًا عميقًا وُفِّقَ له منذُ نشأتِه.
مولده وظروف نشأته:
وُلِدَ الحافظُ بِمصْرَ (القاهرة المُعِزِّيَّة) في الثاني والعشرين من شهرِ شَعْبانَ سَنَةَ 773 هـ. ولم يَلْبَثْ أنْ ذاقَ قَسْوةَ الدُّنيا، فتُوفِّي والِدهُ وهو طِفْلٌ في الرابعة من العُمر (سنة 777 هـ)، وتَدُلُّنا المعلوماتُ على أنَّه نشأ في بيئة تَعرِفُ العِلْمَ وتُقَدِّرُه، فقد ذكروا أنه أفادَ في كثيرٍ من العُلُومِ
من عِنايةِ والدِه به وبسلوكِهِ سبيلَ العِلْم، فقد ظلَّتْ توصيةُ هذا الوالِدِ تُظِلُّ هذا النَّجْلَ حتى أتَى بعبقريةٍ ضَنَّ الزمانُ بعدَها بِمَثيلٍ لها، حَفِظَ القرآنَ وهو ابنُ تِسْعٍ، وألفيةَ العراقِي في علومِ الحديثِ، ومُختصَرَ ابنِ الحاجبِ في أصولِ الفِقْهِ.
وهنا نُسَجِّلُ مزيّةَ المجتمعِ الإسلامي الذي تنهضُ فيه المواهبُ والعبقرياتُ، أيًّا كانَتْ ظروفُها في الحياة والعَيْش، فلا يَخْمُلُ ذكيٌّ ونَابِهٌ لفَقْرٍ نازِلٍ به، ولا يَضِيعُ يَتِيمٌ ذو موهبةٍ لِيُتْمِه، كيف والنبيُّ صلى الله عليه وسلم هو القُدوةُ المُثلى لكلّ مسلم قد وُلِد يتيمًا، ثم شَقَّ صلى الله عليه وسلم طريقَ الحياة بنفسه فرَعى الغنمَ ثم اتَّجَر بأموال الرِّجَال. لِتكونَ حياتُه صلى الله عليه وسلم أُسوةً بالصبر والمُصابَرة ..
ويأتي الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ واسِطَةَ العِقْدِ لِثلاثةٍ من الأعلام الأئمّة الأيتامِ، فكان قَبْلَه شيخُه ومُخَرِّجُه الإمامُ الحافِظُ عبدُ الرحيم بنُ الحُسين العِراقي وقد نشأ يتيمًا، وكان بعدَه الحافِظُ جلالُ الدِّين عبدُ الرحمنِ السُّيوطِيّ وقد نشأ كذلك يتيمًا
(1)
.
إِنّها خُصوصِيَّةُ العَطاءِ والتَّراحُمِ والإخَاء في المسلمين، لا تُظْلَمُ فيهم مَوْهِبَةٌ ولا مَقْدِرَةٌ لأيِّ إنسانٍ، ولا تَشُوبُ تكوينَه عُقْدَةُ نَقْصٍ أو شُعورٌ بحِرمان، لأنّ المجتمع يُحقِّق بالعمل الواقعي قولَه تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقولَه صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤمنينَ في تَوَادِّهم وتَرَاحُمِهم وتعاطُفِهم مَثَلُ الجَسَدِ، إذا اشتكى منه عُضْوٌ تداعى له سائرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى"
(2)
.
نَجَابتُه مُنْذُ صِغَرِهِ:
وقَدْ بَدَتْ على ابنِ حَجَرٍ النَّجَابَةُ منذُ نُعومةِ أظفارهِ حينَ أُدْخِلَ
(1)
وإنها لمنَاسبةٌ نذكّر فيها أولياءَ الأيتام والمُرَبّين في المدارس بمسؤوليتهم الضخمة عن البراعم الرَّطْبَةِ (الأطفال)، الذين أُوكِلَ إليهم أمرُ تربيتِهم وتعليمهم، لِيتَّقوا اللهَ فإنَّ مسؤوليتَهم جليلةٌ، تَمَسُّ مستقبلَ الأُمَّة.
(2)
مُتَّفقٌ عليه: البخاري في الأدب (رحمة الناس .. ): 8: 10 ومسلم بلفظه في البِرّ: 8: 20.
الكُتّابَ في سِنِّ الخامسة، فبدا منه ذكاءٌ وقوةُ حِفْظٍ يُزَيِّنُهما وَجْهٌ صبيح وهَامَةٌ وافية، تَرعْرَعَ في ظِلِّ العِلْمِ والقرآنِ وأخلاقِ القرآن فكان عاليَ الهِمَّةِ، مُتواضعًا حَسَنَ الخُلُقِ، حاضِرَ البديهة آخذًا بالاحتياط والوَرَع.
وفي نفحاتِ الحَرَمِ ظهرَتْ بوادِرُ أَلْمَعيَّتِه بعد حَجَّتِه الأُولى سَنَة 784 هـ في مجاورته سنة 785 ودراسته على شيوخِ مكَّةَ، ومُدارسَتِهم وقد أَتمَّ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فقد بَحَثَ في "عُمْدَةِ الأحكامِ" للمَقْدسيّ على الحافظ أبي حامد محمدِ بن ظهيرة (المتوفى سنة 787 هـ) بحثًا استنباطيًّا، وصلّى التراويحَ في المسجد الحَرام بالقرآن الكريم.
حياتُه العِلْمِيَّة:
وقد سَرَدَتِ المصادرُ أحداثَ حياةِ الحافِظِ ابنِ حَجَرٍ حَسبَما اتَّفَقَ اجتماعُ المعلوماتِ فيها، وقد رأَيْنا لِكَيْ نُلْقِيَ عليها الضوءَ المُوَضِّح في هذا البحثِ المختصر أنْ نبتكرَ لها تصنيفًا يضعُ الأمورَ أمامَ القُرَّاءِ جَلِيَّةً نَيِّرة.
وقد وَجَدْنَا في ضَوْءِ دراسةِ حياتهِ العِلْمِيّة فيما بَيْن أيدينا من المراجِع أنه يُمكِنُ أنْ نُقَسِّمَها إلى ثلاثِ مَراحِلَ نُبيِّنُها فيما يأتي:
المرحلةُ الأولى: بَدْءُ نَبَاهَتِه وتحصيله، وكان اشتغالُه فيها بالأدب والتاريخ، وقد بَدَا فيها صفاءُ طَبْعِه ورِقَّةُ حِسِّه مع ما كان عليه من التَّمَكُّنِ في اللُّغة العربية وبلاغتِها وأساليبِها، فقد نَظَمَ الشِّعْرَ الحَسَنَ وأجادَ فيه، حتَّى شَهِدَ له الباحثونَ بأنّه كانَ شاعِرًا طبعًا، وترجَمَه بَدْرُ الدِّين البَشْتَكِيّ في كتابه "طبقات الشُّعَراء". وله ديوانُ شِعْرٍ طُبِعَ في مُجَلَّدٍ واحدٍ في الهِنْد.
ومِنْ لطيفِ شِعْرِهِ قولُه:
ثلاثٌ مِنَ الدُّنْيَا إذا هي حُصِّلتْ
…
لشخصٍ فلَنْ يخشى من الضُّرّ والضَّيْرِ
غِنًى عن بَنيها والسلامةُ منهُمُ
…
وصِحَّةُ جِسْمٍ ثُمَّ خاتِمةُ الخَيْرِ
والجديرُ بالذِّكْرِ أَنَّ التَّمَكُّنَ في عُلوم اللغةِ العربيةِ ليسَ مصادفَةً هنا في حياة الحافِظ، بل هو رُكْنٌ من منهج الأسلافِ كُلِّهم في التكوين العِلْمِيّ أَنْ يُبْتَنى مُنْذُ خُطواتِه الأولى على أُسُسٍ متينةٍ من علوم العربية، خِلافًا لِمَا يُظْهِرُه بعضُ المُتَعالِمينَ في هذا الزمن من الاستخفافِ بها، وقد حذَّر العلماءُ طالِبَ الحديثِ من التهاوُنِ باللغةِ والنحو تحذيرًا شديدًا، ومِنْ ذلك قولُهم: إنَّ أَخْوَفَ ما أخافُ على طالبِ العِلْمِ إذا لم يَعْرِفِ النحوَ أنْ يدخُلَ في جُملةِ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيتَبوَّأْ مقعدَهُ من النارِ"
(1)
.
المرحلة الثانية: اشتغالُه بالحديث الشريف وفُنونِه:
وتبدأُ مِنْ سَنَةِ 796 هـ. وهي المرحلةُ التي سَمَا بها قَدْرُهُ وعَلَا نَجْمُه، وكأنَّ القَدَرَ هيَّأهُ لِتِلْكَ الفترةِ من تاريخ الحديثِ أَوْ هَيَّأَ تلك الظروفَ مِنْ أَجْلهِ، فقد وافَى بعبقريَّتهِ وذكائِه وسُرعةِ حِفْظِه مجموعةً مِنَ الشيوخ قَلَّ أنْ يَجْتمِعَ لأحدٍ مِثْلُهم، اكتملَ كلُّ واحدٍ منهم في فَنِّهِ حتى صارَ بَحْرًا في اختصاصِه، وإمامًا في عِلْمهِ الذي اشتَهَرَ به، فتَلَقَّى عنهم الحافِظُ واستوعَبَ ما لَدَيْهم، حتى اجتمع عِنْدَه ما تفرَّقَ في غَيْرِه، فصارَ فَرْدًا في أُمَّتِهِ، وأُمَّةً في أقرانه.
فكان مِنْ شيوخه:
أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ أحمدَ التنوخِيّ البَعْلَبَكِّيّ في القراءات وكان عاليَ السَّنَدِ فيها.
والحافِظُ الإمامُ زَيْنُ الدِّين عبدُ الرحيم العِراقِيّ، الإِمامُ في علوم الحديثِ ومُتَعَلَّقاتِه أميرُ المؤمنين في الحديث.
ونورُ الدِّين علي الهَيثمي وكان حافِظًا للمُتُون، وهو صاحب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.
(1)
علوم الحديث لابنِ الصلاح: 217، وإرشاد طلاب الحقائق للنووي:157. والحديث متواتِر مُتَّفَقٌ على تواتره.
والبُلْقِيني سراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان الحافظ الفقيه.
وابنُ المُلَقِّنِ سِرَاجُ الدِّين أبو حفصٍ عمرُ بن علي صاحبُ التصانيفِ.
والإمامُ محمدُ ابنُ جَمَاعَة الذي كان مُتَفنِّنًا في علومٍ كثيرةٍ مُستَنبِطًا خَفاياها، حتى كان يقولُ: أنَا أقرأُ في خَمْسَةَ عَشَرَ عِلْمًا لا يَعْرِفُ عُلَمَاءُ عصري أسماءَها.
ومِنَ النِّساءِ: السيدةُ مريمُ بِنْتُ الأذْرَعِيّ.
والسيدتانِ فاطمةُ وعائِشةُ بِنْتَا محمدِ بن عبدِ الهادي، وغيرُهن.
وغيرُ مَنْ ذكَرْنا مِنْ سائِرِ الشيوخ، وقد جَمَعَ هو أسماءَهم في مَرْجِعٍ كبيرٍ وَقَفْنَا على نُسْخَتهِ الخَطِّيَّة وهو "المَجْمَعُ المُؤَسِّسُ للمُعْجَم المُفَهْرِس" ترجمَ فيه لشيوخه وذكَرَ في ترجمةِ كُلِّ واحدٍ منهم ما تَلَقَّاهُ عنه من الكُتُب والرِّواية أو الدِّراية. وقدَّمَ فيه فهرسًا لمكتبةٍ كبيرةٍ متنوعةِ الفُنونِ حَوَاهَا صَدْرُه.
ويَضُمُّ هذا المعجمُ نُخْبَةً مِنْ عُلماءِ ذلك العَصْرِ في أقطارٍ عديدةٍ من العالَمِ الإسلامي لَقِيَهُمُ الحافِظُ في مِصْر، أو رَحَلَ إليهم في مُخْتَلِفِ البلاد، فقد رَحَلَ إلى مكَّةَ وحَجَّ مَرَّاتٍ عديدةً. ولَقِيَ فيها في الموسمِ جماعاتٍ منَ العُلماءِ قَدِمُوا للحَجِّ وأَخَذَ منهم وأفادَ، ورَحَلَ إلى الإسكندريةِ وقُوْصَ والصعيدِ والقُدْسِ ونَابُلُسَ والرَّمْلَةِ وغَزَّةَ ودِمَشْقَ، وغيرِها من البلاد. وقد طُبعَ هذا المعجمُ، فجاء مع فهارسه مرجعًا حافلًا.
ويَدُلُّنا البحثُ العِلْمِيُّ على أنَّ الفَضْلَ الأكبرَ في تخريجِ الحافِظِ ابنِ حَجَرٍ يَرْجِعُ إلى إمامِ عصرهِ في الحديث الإمامِ الحافِظِ عبدِ الرحيمِ العِراقيِّ المُتوفَّى سَنَة 806 هـ. ولا نُحِيلُ القارِئَ على شرحِ العِراقيّ للتِّرمِذىّ الذي اطَّلَعْنَا على نُسْخَتِه الخطيَّةِ في مكتباتِ المدينةِ وإستانبول لِيرَى
ما أفادَه منه الحافظُ في الفتح، بل حَسْبُنا مُقابلَةُ شرحِهِ "طَرْحِ التثريبِ" الذي شرح ما جَمَعَه من أحاديثَ رُويَتْ من أَصحِّ الأسانيدِ لِيجدَ كيف اعتمدَ عليه الحافِظُ في "فَتْح الباري".
وكان الحافِظُ مع سُرعةِ حِفْظِه سريعَ القراءةِ حتى إِنَّه قَرَأَ صحيحَ البُخاريّ في عَشَرَةِ مجالِسَ كلُّ واحدٍ منها مِنْ بَعْدِ صلاةِ الظُّهر إلى العَصْر، وقرأ صحيحَ مُسلمٍ في خمسةِ مَجالِسَ في نَحْوِ يومَيْنِ وشَطْرِ يومٍ، ومِنْ أَغْرَبِ ما وقَعَ له من الإسراعِ إسراعُهُ في وقتهِ الضيِّقِ في رحلتهِ الشامِيَّةِ فقرأَ فيها المعجمَ الصغيرَ للطبرانيّ في مجلسٍ واحدٍ فيما بينَ صلاةِ الظُّهر والعَصْر، وقرأ في مُدَّةِ إقامَتِه بدِمَشْقَ -وهي شَهْرَانِ وثُلثُ شهرٍ تقريبًا- قريبًا من مئةِ مُجلَّد مع ما يُعَلِّقُهُ.
المرحلةُ الثالثةُ: نبوغهُ في العِلْمِ وإمامَتهُ:
ويَرْجِعُ ذلكَ إلى عصْرٍ مُبَكِّرٍ نستطيعُ أنْ نُحَدِّدَهُ بحوالَيْ سَنَة 810 هـ فقَدْ تَصدَّرَ مجالِسَ العِلْمِ في فنون عدَّة، وأَفْتَى، وأَمْلَى الحديثَ ووُلِّىَ القضاء، وطارتْ شهرته بمعرفة فنون الحديث ولاسيما رجاله وما يتعلَّق بهم، وأسانيد الحديث، واشتَهرَ ذِكْرهُ وبَعُدَ صِيْتُه وارتحلَ الأئمةُ إليه، وتَبَجَّحَ الفُضَلاءُ بالوُفودِ عليه، وكثُرَتْ طَلَبَتُهُ حتى كان رؤوسُ العلماءِ في كلِّ مذهبٍ وكلِّ قُطْرٍ مِنْ تلامِذَتِه، وظَهَرَ سُلْطانُه عليهم بذكائه وشُفُوفِ نَظَرِه وسُرْعَةِ إِدْرَاكِهِ واستِحْضَارِهِ للأطْرَافِ المُتَفَرِّقةِ من المسألة، والأشتاتِ المُوَزَّعَةِ من أسانيد الحديث وشواهِدِه وأقوالِ العُلَماءِ فيه، ودَرَّسَ التفسيرَ والفِقْهَ والحديثَ في معاهِدَ عِلْمِيَّةٍ كثيرةٍ شهيرةٍ آنذاك، وتَوَلَّى الإفتاءَ بدار العَدْلِ، والخَطَابَةَ بالجامعِ الأزهرِ ثُمَّ جامعِ عَمْرو بنِ العاص، وأَمْلَى مِنْ حِفظِه ما يَنيفُ على ألفِ مجلسٍ من مَجالِسِ الحديثِ، وفوَّضَ إليه المَلِكُ المُؤيَّدُ القَضَاءَ بالدِّيارِ الشامِيَّة مِرارًا فأبى، ثُمَّ باشَرَ القضاءَ في مِصْرَ، وأصبح في مركز رئاسةِ القضاءِ، لكنَّه لم يَرْضَ عن هذا المَنْصبِ الدُّنيوي الذي كثيرًا ما يُضَحي أناسٌ لأحْقَرَ منه بنفيسِ
الدِّين والنَّفْسِ، فاعتزلَ القضاءَ، وكُلِّفَ بالعودةِ إليه مرارًا فكان يعودُ إليه ويَعتزِلُه، ثُمَّ اعتزلَه ولم يَقْبَلْ إليه رُجوعًا أبدًا، ونِعِمّا فَعَلَ، فقد تفرَّغَ بذلك لِنَشْر العِلْمِ وخدمةِ الحديثِ النبوي .. وهكذا ينبغي لِلعالِم أنْ يُزيحَ ما يعوقُ نشاطَه وحركتَه في خدمة العِلْمِ وإِنْ كان مَنْصِبًا ذا وَجَاهَةٍ أو مال، وتبلُغُ المُدَّةُ لِولاياتِ الحافظِ ابنِ حَجَرٍ القضاءَ واعتزالِها فيما بين تلك المرَّاتِ عشرين سَنَةً كما ذَكَرَ الحافظُ السَّخاوِيّ. . . وقد ترجمَ الحافِظُ لِنَفْسِهِ في القُضَاةِ في كتابهِ "رَفْعُ الإصْرِ عن قُضَاةِ مِصْر".
مؤلَّفاتُه العِلْمِيَّة:
ابتدأَ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ في التصنيفِ مُنْذُ وقْتِ الشبابِ، ونستطيعُ بالبحثِ والتأمُّلِ أنْ نُحدِّدَ ذلك بحوالي سَنَةِ 796 هـ.
وتدلُّ أوائلُ تصنيفاتهِ على بدايةٍ عملية بارعة في التصنيف، فقد كان من أولِ كتبه كتابُهُ القَيِّمُ "تغليقُ التعليقِ" جَمَعَ فيه الأحاديثَ المُعَلَّقةَ في صحيحِ البخاري، وخرّجها وبيّن الأسانيدَ الموصولةَ التي رُويَتْ بها في شتّى المصادرِ الحديثية، وهو عَمَلٌ عظيم يدل على براعةٍ نادرة واستحضارٍ وسَعَةِ اطلاعٍ بعِيدَيْ المَدَى.
وقد ضَرَبَ في التصنيف مُثُلًا بعيدةً بكَثْرةِ مصنَّفاتهِ وتعدُّدِ فُنونِها وتنوُّعِها، حتى بلغَتْ ما يزيدُ على الخمسين ومئة مُصَنَّفٍ ما بين مَراجعَ ضخمةٍ مِثْلِ فَتْحِ الباري، وتهذيبِ التهذيبِ، ورسالةٍ صغيرةٍ نافعة مِثْلِ مَتْنِ نُخْبَةِ الفِكَرِ، وَشَرْحِهِ "نُزْهَةِ النظَر" الذي طار صيتهُ في الآفاق، وعوَّلَ عليه مَنْ جاء بعدَه.
وامتازَتْ مصنَّفاتهُ بالإتقان والإفادة التي لا توجدُ في غيرِها، وكان كثيرَ المراجَعةِ لها والمراجَعَةِ لِنَفْسِهِ، خِلافًا لِمَا يفعَلهُ بعضُ العصريين من التعالُمِ بالتصميم على الإثم والإصرار على الرأي الشاذّ المُخالِف للسُّنَّة الصحيحة والإجماع، وكان سريعَ الكتابة جدًّا مع حُسْنِ الضَّبْطِ، ولكَوْنه
كثيرَ التراجُعِ كانَتْ تصيرُ مُبيضتهُ مُسَوَّدَةً، لذلك اختَلَفَتْ نُسَخُ مؤلَّفاتِه واحتاج المحَقِّقُ لها إلى كثير من الإمعان والتثبُّتِ حتى يقفَ على الصيغة النِّهائية لكتابه.
وقد كُتِبَ لمؤلَّفاته الحظُّ الوافرُ مِنَ القَبولِ في عصره وبَعْدَه، فانتشرَتْ كُتبهُ أيامَ حياتِهِ، وأَقرأَ الكثيرَ منها، وتهادَتها المُلوكُ والأكابِرُ، واعتنى بتحصيلِها كثيرٌ مِنْ شُيوخِه وأقرانهِ.
ومع ذلك فقد قال تلميذُه الحافِظُ السَّخَاوِىُّ: سَمعْتُ ابنَ حَجَرٍ يقولُ: "لسْتُ راضيًا عن شيء من تصانيفي لأني عَمِلْتُها في ابتداء الأمر، ثُمَّ لم يَتهيأْ لي مَنْ يُحرِّرُها معي. سِوى شرحِ البخاري، ومقدِّمتهِ، والمُشتَبِهِ، والتهذيب، ولسانِ الميزان، وأمّا سائرُ المجموعاتِ فهي كثيرةُ العدَدِ واهيةُ العُدَدِ. ضعيفةُ القُوى، ظامِئَةُ الرِّوَى".
وما ذلك إلَّا لِتَواضُعِه، وسَعَةِ بَحْرِهِ ومَعارِفِه المتجدِّدة كما قال أستاذُنا الشيخُ عبدُ الوهاب عبدُ اللطيف رحمه الله.
فيا لَلْعَجَبِ مِنْ بعضِ أُناسٍ يَتسوَّرُ أحدُهم مَنْصِبَ الاجتهادِ، فيَقْذِفُ للناس في يوم من الأيام كتابًا أو بحثًا فَجًّا مغلقًا، ثُمَّ لا يَقْبلُ فيه تصويبًا أو تصحيحًا؛ جمودًا على رأي سَبَقَ له، وتعصّبًا لِهوًى سِيقَ له. إنه الفرقُ بين العالِم الكبير الأصيل والدَّعِيِّ اللصيق، وإنه الفرقُ بين الأمانةِ على العِلْمِ والدِّين، والتسوُّرِ على مِنَصَّةِ التمَجْهُدِ والزَّعامة والجاه باسمِ العِلْمِ والدِّين.
وهذه المؤلَّفاتُ التي استحسنَها ورَضِيَها مِنْ كُتبهِ تبلُغُ وحدَها الأربعينَ من المجلَّدات تقريبًا، ناهِيكَ عن مصنَّفاته الأُخرى النَّفيسةِ، مِثْل: "تعجيل المنفعة، والإصابة في تمييز الصحابة -4 مجلدات-، والدُّرَر الكامِنة في أعيانِ المئة الثامنة -10 مجلدات-، والمطالِب العالية بزوائد المسانيد الثمانية -4 مجلدات-، والتلخيص الحبير بتخريج أحاديثِ
شرح الرافعي الكبير -4 مجلدات-، والدِّراية لتخريج أحاديث الهدايةِ في جزأين. . . وغيرِها وغيرِها.
وكتابهُ (فَتْحُ الباري بشرحِ "صحيح البخاري") جاء مَرْجِعًا حديثيًّا حافِلًا وشرحًا كاملًا لصحيح البخاري، لِمَا اشتمل عليه من الفوائد الحديثية والنُّكات الأدبية، والاستنباطات للأحكام الفِقهية وغيرِها من الفوائد من الحديث، وامتاز بجَمْع طُرُق الحديث وإيرادِ الشواهد والرواياتِ التي تتعلقُ بمضمون الحديث. ولِما أنَّ البخاريَّ يُكرِّرُ الحديثَ في مواضعَ عديدةٍ قد تكثرُ كثيرًا فقد سَلكَ الحافظُ في شرحه طريقةَ جَمْعِ الشرحِ في موضعٍ واحد منها، ويَشرحُ في بقية المواضع بقَدْرِ ما يوضِّحُ مَقْصِدَ البخاري من إيراد الحديث في ذلك الموضع ثم يُحيلُ القارئَ على الموضع المشروح فيه، ومن هنا كانت طبعاتُ الشرحِ بحاجةٍ إلى تحقيق نصِّ الكِتَابِ وبَحْثٍ في هذه الإحالاتِ، لِتَسْهُلَ الفائدة على القارئ ويُختصر عليه الوَقْتُ والعَنَاءُ.
واتَّبعَ في تأليف هذا الكتاب خُطَّةَ الشُّورى العِلْمية على الطريقة التي كان عليها الإمامُ أبو حنيفةَ رضي الله عنه مع أصحابه في استنباط الفِقْه؛ فكان الإمامُ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ يكتُبُ بخطِّه الكُرَّاسَةَ ثم يَكتبُها جماعةٌ من الأئمّة المُعتَبَرين، ويَجتمعُ بهم في يوم من الأسبوع للمُبَاحَثَةِ في هذا الشرح، وتصحيحِ النُّسَخِ المكتوبة واستمر ذلك زمنًا طَويلًا من سنة 817 هـ حتى أولِ يوم من رجب سنة 842 هـ فأقام لإتمامه وليمةً عظيمةً دعا إليها وجُوهَ المسلمين وقُرِئَ فيها المجلسُ الأخير من الكتاب بحضور الأئمة.
وكان عمل له (سنة 813 هـ) مقدِّمةً في جُزأين، هي "هَدْيُ الساري مُقَدِّمةُ فَتْحِ الباري" قسَّمها على عَشَرَةِ فُصول، خَصَّ كُلَّ فصلٍ منها بجانبٍ من الدراسات الحديثية العامة للبخاري مِثْل فصلِ المُبهَمات، وفصلِ الأحاديثِ المُعلَّقة، وفصلِ الرِّجال الذين تُكُلِّمَ فيهم مِنْ رُواةِ الصحيح، وفصل الأحاديثِ التي طُعِنَ علَيها وهي في صحيح البخاري.
وقد طارَتْ شُهْرَةُ الفَتْحِ فَوْرَ اكتمالِهِ، وطَلَبَهُ مُلوكُ الأطرافِ والعلماءُ في شتى الأقطار حتى قالوا فيه:"لا هِجرةَ بعدَ الفتحِ".
وقال الحافظُ السَّخَاوِيُّ: "ولو لم يكنْ له إلَّا شرحُ البخاري لَكَانَ كافيًا في عُلُوِّ مِقْدَاره، ولو وَقَفَ عليه ابنُ خلدون القائلُ بأنَّ شَرْحَ البخاري إلى الآن دَينٌ على هذه الأمة لَقَرَّتْ عينُهُ بالوفاء والاستيفاء".
ولم يزَلْ الحافظ ابن حجر على جلالَتهِ في العِلْم وعظمَتهِ في النفوس ومداومَتهِ على أنواع الخيرات إلى أنْ تُوفيَ بعدَ العِشَاء مِنْ ليلةِ السبت الثامنِ والعشرين من ذي الحِجَّة سنة (852 هـ) وصُلِّيَتْ عليه صلاةُ الجَنازةِ من الغَدِ في مشهدٍ عظيمٍ لم يَر مَنْ حَضَرَهُ مِثْلَه، وكان ممَّنْ حَمَلَ نَعْشَه السُّلطانُ فَمَنْ دُونَه من الرؤساء والعلماء حتى دُفِنَ بالقَرافة الصغرى في تُربة بني الخَرُّوبي، بين تُربة الشافعيّ ومسلم السلَمِيّ، بالقرب من الإمامِ اللَّيْثِ بن سعد رضي الله عنهم أجمعين.
قال الإمام السيوطي: "وقد غَلِقَ بَعْدَه الباب، وخُتِمَ به هذا الشأنُ".
وقال الحافظ السَّخاوي تلميذهُ: "وخَصائِلُه لم تجتمعْ لأحدٍ من أهل عصره، وقد شَهِدَ له القُدماءُ بالحِفْظِ والمعرفة التامَّةِ، والذِّهْنِ الوقَّادِ، والذكاء المُفْرِط، وسَعَةِ العِلْمِ في فُنُونٍ شتّى، وشَهِدَ له شيخهُ الحافظُ العِراقي بأنّه أعلمُ أصحابه بالحديث، وقال التقيُّ الفاسي والبرهانُ الحلبي: ما رأينا مثله. وسأله الأمير تغري برمش: أرأيت مِثْلَ نَفْسِك؟ فقال: قال اللهُ سبحانه وتعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .
وقد عُرِفَ الحافظُ ابن حجر بالفضائل النفسيَّةِ، وأثنى الناسُ عَليه لِمزيدِ أدبهِ مع الأئمة المتقدِّمين والمتأخِّرين، بل مع كلِّ مَنْ يجالِسُه مِنْ كبير وصغير، ولِمحبَّته لأهلِ العِلْمِ والفَضْل والتنويه بذكرهم وعدم إطراء نَفْسهِ أو المُباهاةِ بما ينقدِحُ في ذِهنه، مع كَثْرةِ تحقيقاته الفريدةِ التي لا يكادُ يخلو بَحْثٌ من أبحاثه عنها.
مصادر ترجمته:
وقد عُرِفَ بين العلماء بمناقبه وزَخَرَتْ كتبُ التراجمِ بفضائله ومحاسِنهِ، ومِنْ أهمِّها كتاب:"الجواهِرُ والدُّرَرُ في ترجمة شيخ الإسلام ابنِ حَجَر" للحافظ شمسِ الدين السخاوي وهو مرجعٌ حافِلٌ يقَعُ في مُجلَّدين، وترجَمَهُ السَّخاويُّ أيضًا في كتابه الكبير "الضوءُ اللامِعُ في تراجِم أهلِ القَرْنِ التاسع"، وذكَرَهُ التقيُّ الفاسيُّ في "ذَيْلهِ على التقييد" لابنِ نُقطةَ، والبَدْرُ البشتكي في "طبقاتِ الشعراء"، والتقيُّ المقريزي في "العقود الفريدة"، والتقيُّ ابنُ فهدٍ المكّي في "ذَيْل طبقاتِ الحُفَّاظ"، والسيوطي في "حُسْنِ المحاضرة"، وابنُ العمادِ الحنبليُّ في "شَذَرَاتِ الذَّهَب"، والشَّوْكاني في "البَدْر الطالعِ"، وغيرُ ذلك من المصادِر التي ترجمَتْ له، رضي الله عنه وأرضاهُ وأَعْلى مقامَهُ ومَثْواهُ.
* * *
شرْحُ النُّخْبَةِ ومَنْهَجُ الحافِظِ ابنِ حَجَرٍ فيه
كتابُ "نُزهةِ النظرِ في توضيح نُخْبَةِ الفِكَر" سار ذِكرُه في الخاصِّ والعامِّ، واستَشهدَتْ بتحقيقاته مؤلَّفاتُ العلماءِ الأئمّةِ الأعلامِ، واسمهُ كما هو مُثْبَتٌ على النُّسخَةِ الأصليَّةِ الأُمِّ التي اعتمدنا عليها هكذا "نُزهَةُ النَّظرِ في توضيح نُخبةِ الفِكَر في مصطلح أهل الأثَر".
سببُ تصنيفِ مَتْنِ النُّخْبَةِ:
أوضحَ لنا الحافظُ ابنُ حَجَر دوافعَ تأليفهِ لهذا الكتابِ، فقال -بعد أَنْ ذكَرَ كثرَةَ الكتبِ المؤلَّفة في اصطلاح أهل الحديث-: "فسألني بعضُ الإخوانِ أنْ أُلَخِّصَ له المُهِمَّ من ذلك، فلخّصْتُهُ في أوراقٍ لطيفةٍ،
سمَّيْتُها "نُخْبَة الفِكَر في مصطلح أهلِ الأثَر" على ترتيبٍ ابتكرتهُ وسبيلٍ انتهجْتُه".
إذنْ لهذا السببِ صَنَّفَ المَتْنَ، فلم يكُنِ القصدُ مُجرَّدَ الاختصار الشديد، الذي تُعَبِّر عنه كلمةُ "أوراقٍ لطيفةٍ"، بل كان القصدُ أيضًا ترتيبًا مُبتَكَرًا لِعِلْمِ المُصطَلح، ومنهجًا خاصًّا سَلَكَه فيه.
سببُ تأليفِ الشَّرحِ:
فلِماذا الشرحُ وماذا فيه؟
يتحدَّث الحافظُ عن ذلك فيقول:
"فَرَغِب إليّ ثانيًا أن أضَعَ عليها شرْحًا يَحُلّ رُموزَها، ويفتَحُ كُنوزَها، ويُوَضِّحُ ما خَفِيَ على المُبتدِئ من ذلك، فأَجَبْتهُ إلى سؤاله رَجاءَ الاندراجِ في تِلكَ المَسَالِكِ. . . وظَهَرَ لي أنَّ إيرادَه على صُورةِ البَسْط أَلْيَقُ، ودَمْجَها ضِمْنَ توضيحِها أَوْفَقُ. . .".
وقد وجدْنَا في آخِرِ نُسخةٍ صحيحةٍ عند آخِرِ شَرْح النُّخْبَةِ في الحاشية عن المؤلِّف الحافظِ ابن حَجَر ما يلي نصُّه
(1)
:
"عَلَّقَه مؤلِّفهُ أحمدُ بن علي بن حَجَرٍ، وفَرَغَ منه في مُسْتَهَلِّ ذي الحِجَّةِ سَنَةَ ثماني عَشْرَةَ وثمان مئة، حامِدًا اللهَ تعالى ومُصَلِّيًا على نبيِّه سيِّدنا محمد وعلى آله وصَحبه ومُسَلِّمًا" انتهى.
وهذا يدلُّ على ما سَبَقَ بيانهُ من نُبوغِ الحافظِ وابتكارِه، مُنذُ عصرٍ مُبَكِّر، في بدايات تصنيفِهِ في الحديث وعُلومِه.
(1)
بخَطِّ خيرِ الله محمدِ بن عثمان بن سفيان بن مُراد خَان. والنُّسخةُ المُشَارُ إليها منقولةٌ عن نُسخَةٍ مقروءةٍ على المُصَنِّف قراءةَ بَحْثٍ، وظهرَ لنا أنَّها نُسْخَتُنا التي اعتَمَدْنَاها.
منهجُ الحافِظِ في شَرْحِ النُّخْبَةِ
ونُلَخِّصُ منهجَ الحافظِ ابنِ حَجَرٍ في هذا الكتابِ بما يأتي:
1 -
تقديمُ علوم الحديثِ في صياغةٍ جديدةٍ مُبتَكَرة، لم يُسبَقْ إليها، وهذه الصياغةُ تأليفٌ جديد لعلوم الحديث، يقوم على الدراسة الاستقرائية لأحوال السَّنَدِ والمَتْن، ويُقَدِّمُ هذه الأنواعَ الحاصِلَةَ للسَّنَدِ والمَتْنِ على ترتيبٍ عِلْمِيٍّ في غايةِ الدِّقَّةِ يُعرَفُ عِنْدَ الأُصوليّين بالسَّبْرِ والتقسيم.
ومعنى السَّبْرِ والتقسيم: اختبارُ الموضوعِ المدروسِ وتقسيمُ أحوالهِ وأحكامِها، بحَسَبِ هذا الاختبارِ المُتَعَمِّقِ، الذي تُستقصى فيه كُلُّ الأحوال والاحتمالاتِ، وتُعطى حُكْمَهَا المُلائِمَ، وتُفَرَّعُ عليها الفُروعُ والمسائلُ العلميَّة.
وقد بدأ أَوّلًا بتقسيم الخَبَرِ إلى هذه الأقسامِ:
إما أن يكونَ له طُرُقٌ غَيْرُ محصورةٍ بعدَدٍ مُعيَّن.
أو تكونَ طُرُقُه محصورةً بعددٍ مُعيَّن فوق الاثنين.
أو يكونَ له طريقانِ فقط.
أو تنحصرُ روايته بطريقٍ واحدٍ.
ثُمَّ أخذَ يدرسُ هذه الأقسامَ ويبيّنُ أحكامَها، وفُروعَ ما يتفرعُ منها على الطريقة التي فَرَّعَ التقسيمَ الرئيسَ لأنواعِ الحديثِ هنا.
وأَدخلَ فِي ضِمْنِ التقسيمَ تَكْمِلاتٍ، لِيكونَ شامِلًا لجميعِ أنواعِ الحديث، مِثْلُ استطرادهِ إلى تعريفِ الصَّحابيِّ (ص 111)، واختتَمَهُ بدراساتٍ متنوِّعَةٍ تُكَمِّلُ هذا التقسيمَ. بأنْ يشمَلَ الكتابُ على إيجازِهِ كُلَّ أنواعِ "عُلومِ الحديثِ".
2 -
أَدْخَلَ تقسيماتٍ للحديثِ ومسائلَ ليسَتْ من أبحاثِ مُصطَلحِ
الحديث، بل هي مِنْ بُحوثِ أُصُولِ الفِقْه، كَبَحْثِ المُستفيضِ (ص 46)، وبَحْثِ تَلَقّي الأُمَّةِ للحديث بالقَبولِ (ص 52). . . لأنّها تُكَمِّلُ فوائدَ الكتابِ وتُغني قارِئَه.
3 -
الاختصارُ وتحاشي الفُضُولِ في الشَّرْحِ.
4 -
صياغَةُ الشَّرحِ على طريقةِ البَسْطِ، وذلك بأنْ يَدْخُلَ المَتْنُ في ضِمنِ الشرحِ، ويندمجَ فيه، بِحَيثُ لو حُذِفَتِ الأقواسُ التي تُميِّزُ المَتْنَ، تُصبِحُ العباراتُ شيئًا واحدًا لا يتميَّزُ فيه الشرحُ عن المَتْنِ.
مزايا شرحِ النُّخْبَةِ:
ويَمتازُ كتابُ "نُزهَةِ النَّظَرِ" بمزايا مهمة، منها:
1 -
الابتكارُ والتجديدُ في صِياغَةِ عُلومِ الحديثِ، وأنَّ هذا الابتكارَ ليس بِمُجَرَّدِ تقديمٍ وتأخيرٍ لِمَا رَتَّبَ السابقون، بَلْ إنّه يُقَدِّمُ لِدارِسِه تصوُّرًا جديدًا شامِلًا لِعلومِ الحديث، بطريقةِ السَّبْرِ والتقسيمِ التي اتَّبَعَها، ومِنْ ثَمَّ فإنه يُفيدُ قارِئَهُ نوعًا جديدًا من التصوّرِ لهذا العِلْمِ، كما يُكْسِبُه التعمُّقَ في فَهْمِ منهجِ النقد الحديثي.
2 -
الدِّقَّةُ والشُّمُولُ، لأنَّ طريقةَ التأليفِ هذه تقوم على الدِّقَّةِ في الدراسة، وتَمَيُّزِ الفُروع والأنواع، والشمولِ لهذه الفُروع التي يُنتِجُها التقسيمُ العقليّ.
3 -
رَبْطُ أنواعِ الحديثِ ببعضِها، وبيانُ العلاقةِ بينَ أنواعِ الحديثِ وصِلَتِها ببعضِها البعض، لأنَّ التقسيمَ هو إخراجٌ للأقسام من الأصل الشامل، وذلك يُفيدُ معرفةَ نوعِ الصِّلَةِ بين أنواع الحديث، وقد صَرَّحَ الإمامُ ابنُ حَجَرٍ في شرحِه ببيانِ كثيرٍ من هذه الفوائد، مِثْل بيانِ الصِّلَةِ بين المتواتِر والمشهورِ والمُستَفِيضِ (ص 43 و 46)، والصِّلَةِ بين المُعَلَّقِ والمُعْضَل (ص 80).
4 -
تمحيصُ المسائلِ المُخْتَلَفِ فيها، والقضايا الشَّائِكةِ، واستخراجُ
زُبْدَةِ التحقيقِ فيها، وذلك كثيرٌ في هذا الكتاب على إيجازه واختصاره.
5 -
تحاشي المآخِذ التي وردَتْ على المؤلِّفين السابقين، بأنهم لم يتَّبعوا نظامًا مُعَيَّنًا في تصنيفِ كُتُبِهم وترتيبِ أنواع الحديثِ فيها. فجاءَ هذا الكتابُ بطريقةِ السَّبْرِ والتقسيمِ لِيلتزِمَ نظامًا دقيقًا، يستوعبُ كُلَّ مجموعةٍ من علوم الحديث في ظِلِّ قِسْمٍ واحدٍ يَجْمعُها في موضعٍ واحد.
أهميةُ شرحِ النُّخْبَةِ:
بهذه المزايا التي تميَّزَ بها شرحُ النُّخْبَةِ للحافظ ابنِ حَجَرٍ كان له مكانةٌ كبيرةٌ عالية في عِلْمِ الحديث، جعلَتْه مَطْمَحَ أنظارِ طَلَبةِ الحديث، وعُلَمائِه والمُصَنِّفين فيه، ونُلَخِّصُ أبرزَ جوانبِ ذلك فيما يأتي:
1 -
الأَثَرُ الواضِحُ الذي خلَّفَه في مصطلحاتِ الحديث، فما اختارَه في هذه المصطلحاتِ جرى عليه العملُ، واستقرَّ عليه المُحَدِّثون بعدَه، مِثْلُ اختيارِه في الشاذِّ والمُنْكَر (ص 71 و 72)، ومِثْلُ تَمييزِهِ أنواعَ الحديثِ المقبولِ بهذه الإضافاتِ: الصحيحِ لِذَاتِه (ص 58)، الصحيح لِغَيْرهِ (ص 58 و 66)، الحَسَنِ لِذَاتِه (ص 58 و 65)، الحَسَنِ لِغَيْرِهِ (ص 58 و 67 و 105).
فكانَ له أَثَرٌ في تحديد الاصطلاحاتِ واستقرارِها، ولم يكن ذلك إلّا لأفذاذٍ من المتقدِّمين الكبار.
2 -
إنَّ شرحَ النُّخْبَةِ له أهميةٌ عِلْمِيةٌ بالِغَةٌ من حيثُ إنه خُلاصَةُ الفِكرِ النقدي لأَعظمِ مُحدِّث في زمنه، وقد لَقَّبوه "أمير المؤمنين في الحديث". وأنّه يضُمُّ زُبْدَةَ تحقيقاتِ هذا الإمامِ في مسائلِ عُلومِ الحديثِ، لذلك نجدُ مسائلَ كثيرةً من بُحوثه مُتَناقَلةً في المراجِعِ العلميّة. ومُعْتَمَدًا عليها.
3 -
شَحْذُه لِذِهْنِ دارِسِه، بسببِ إيجازهِ وغزارة مادته العلمية، ثُمّ اتّباعِه طريقةَ السَّبْرِ والتقسيم، التي تقومُ على بحثِ العقل في احتمالاتِ الأحوال المُمكنة للشيء المدروس، والقِسْمِ الذي تُفَرَّعُ فُروعُه.
نُسَخُ الكتابِ الخَطيّةُ:
كتابُ "نُزهة النظَرِ في توضيحِ نُخْبَةِ الفِكَرِ" معروفٌ عندَ خاصِّ أهلِ العِلْمِ، والعامِّ، قَلّ أنْ تخلو مكتبةٌ عن نُسخةٍ منه أو نُسَخٍ، وهذه النُّسَخُ كُلُّها مُتوافِقةٌ في مضمونها فيما لَحَظْنَا، عَدَا خِلافاتٍ يسيرةٍ من النُسَّاخِ، وربما كان بعضُها مِنْ تعديلِ المُصنِّف الإمامِ ابنِ حَجَر، والبقيةُ مِنْ سَهْوِ القَلَم، وقد وُفِّقَتْ لنا مجموعةُ نُسَخٍ صحيحةٍ مُوثَّقة توثيقًا عِلْميًّا، حَسَبَ أُصولِ المُحَدِّثين، صَوَّرناها من مكتباتٍ شتّى، وكان التوفيقُ البالِغُ أقصى غايةٍ في نُسخةٍ صحيحةٍ جدًّا هي الغايةُ في الصِّحَّةِ حتى قد سُجِّلَتْ وكان لها ذِكْرٌ وتسجيلٌ في التاريخ، جعلناها الأصلَ في هذا العَمَلِ.
التعريفُ بالنُّسخَةِ الأصْلِ:
نُسْخَتُنا التي أشرْنَا إليها هي المخطوطةُ المحفوظةُ في دار الكُتب الظاهرية بدمشقَ برقم/ 4895/ وعددُ أوراقِها/ 31/ ورقةً، أسطرُ صفحاتِها 20 سطرًا أو 18، بخَطٍّ نَسْخِيّ واضحٍ جيّد، ثَبَتَ عُنوانُ الكتابِ على ظهر الورقةِ الأُولى هكذا "كتابُ نُزهة النَّظَرِ في توضيح نُخبةِ الفِكَرِ في مُصطَلَحِ أهلِ الأثَرِ".
وهكذا ثَبَتَ العُنوانُ بهذا اللفظِ في كلِّ المخطوطاتِ الصحيحةِ التي وَقَفْنَا عليها مِنْ هذا الكتابِ، مِمّا يَدُلُّ على أنَّ ما زُعِمَ مُحقَّقًا من الطبَعاتِ الموجودةِ الآنَ ليس مُحقَّقًا.
وقد أُدْمِجَ المَتْنُ مع الشرحِ في هذه النُّسخَةِ لم يُمَيَّزْ عنه بشيءٍ إطلاقًا، وكُتِبَتْ على حَواشيها تعليقاتٌ لبَعضِ العلماءِ. وهذه النُّسخَةُ قد كُتِبَتْ في آخرِ عهدِ المؤلِّف، وقُرِئَتْ عليه قراءةَ بحثٍ وأَثْبَتَ خَطَّهُ عليها بذلك في مواضعَ كثيرةٍ تَبْلُغُ خمسًا وعِشرين، بَلْ أَثْبَتَ خَطَّه مَرَّتَيْنِ على الصَّفحةِ الواحدةِ في بعضِ الأحيانِ.
وجاءَ في آخِرِها بخَطِّ الناسخِ نَفْسِه ما يأتي:
"عَلَّقَ ذلك لنَفْسِه الفقيرُ المُذْنِبُ العاصي أحمدُ بنُ محمدِ بن الأَخْصَاصِي الشافعيّ، اللَّهُمَّ أحسِنْ إليه ولِوالدَيْه ولجميعِ المسلمينَ، ووافَقَ الفَراغُ مِنْ نَسْخِها في العَشْرِ الأوْسَطِ من شَهْرِ رمضانَ سَنَةَ إِحدى وخَمسينَ وثمان مئة". أي قبل وفاة المؤلف الحافظ ابنِ حَجَرٍ بسنة واحدة وثلاثة أشهر تقريبًا.
وبِإزاءِ ذلك في الحاشيةِ بخَطِّ المصنِّفِ: "بَلَغَ صاحِبُه قراءةً عَلَيَّ. كَتبَهُ ابنُ حَجَرٍ".
وعلى آخِرِ النُّسخَةِ تحتَ هذا في الطَّرَفِ الأيسَرِ من أسفلِ الصفحةِ بَلاغُ قراءةِ النسخةِ إلى آخِرِها على الشيخِ عبدِ القادرِ الصَّفوريِّ سَنَةَ 1077، وبِجانبهِ إلى اليمين وَقْفٌ على طَلَبةِ العِلْمِ مُؤَرَّخٌ بِسَنَةِ 1246.
وابنُ الأخصاصي المذكورُ هو الفقيهُ المُحَدِّثُ شِهابُ الدِّينِ أحمدُ بنُ محمدِ بن محمد الدِّمَشْقِيُّ الشافعيّ ويُعْرَفُ بِابْنِ الأَخصاصي وُلد سنة 818 بدمشقَ ونشأ فيها، وقرأ الفِقْهَ على العلماءِ وسَمِعَ الحديثَ على ابنِ ناصِرِ الدِّين. قال السَّخَاوِيُّ: "ارتحلَ فقرأ على شيخنا شَرْحَ النُّخْبَةِ له بَحثًا، وأَذِنَ له، وكَتبَ بخطِّه أشياءَ كالبخاري وشرحِهِ لِشَيخِنا.
وسمعتُ مِنْ نَظْمِه وفوائدِه وكان الغالِبُ عليه الخَيرَ والانجماعَ والتواضُعَ والتَّودُّدَ والرَّغبةَ في الصالحِين ماتَ سنة 889 بدمشقَ.
له في الوعظِ حادي الأسرار في عَشْرِ مجلَّداتٍ. وشرح أبي شُجَاع في الفقه"
(1)
.
(1)
الضوءُ اللامِعُ لأهل القَرْنِ التاسع، للسَّخاوِي مُختَصَرًا 2:194. نَشْر دار مكتبة الحياة - بيروت.
وهذا التعريفُ مُهِمٌّ يَدُلُّنا على أمورٍ في غايةِ الأهمية. منها:
1 -
أنَّ ابنَ الأخصاصي كان من أهلِ العِلْمِ وخصوصًا الفِقه والحديث، وهذا يجعلُ نَسْخَهُ في غايةِ الإتقانِ.
2 -
أنه كان من خَواصِّ الحافظِ ابنِ حَجَر، وأنه كان عُمْدَةً عِندَه في النَّسْخِ حتى نَسَخَ له شرحَ البخاري، أي فَتْحَ الباري.
3 -
الأهميةُ البالِغةُ لِنُسخَته مِنْ شَرْحِ النُّخبة، حتى ذَكرَها السَّخَاوي وأنه قرأها على مُؤلِّفها بحثًا، أي قراءةَ تدقيقٍ وشرحٍ لها، وذلك يُوجِبُ تدقيقَ المصنِّف لها كلمةً كلمةً.
وهكذا جاءَتْ هذه النسخةُ أُمًّا في الصِّحَّةِ والثُّبوتِ، تُغني عن غيرِها، وجَعلْناها الأصلَ في إثباتِ نصِّ الكتابِ. واكتفَيْنا بها عن غيرِها مِنَ النُّسَخِ الصحيحة المتعدِّدةِ التي وَقَفْنَا عَليها وصوَّرْنَا جُملَةً منها.
عمَلُنَا في تحقيقِ الكتابِ والتعليقِ عليه
كان يُلْحَظُ في هذا الكتابِ "نُزهة النظرِ" عُمْقٌ وحاجةٌ إلى مزيدٍ من التفكيرِ لفَهْمِ معانيه، وقد وجدْنَا بإقرائنا المتكرِّر لهذا الكتابِ أنَّ قسِمًا كبيرًا من صُعوبته يَرجِعُ إلى طريقةِ إخراجِه وتقطيعهِ بالأقواسِ التي تَفْصِلُ المَتْنَ عن الشرحِ وتجعلُ المَتْنَ في أعلى الصَّفحةِ، ثُمَّ تعليقاتٍ في الأسفلِ، إنْ وُجِدَتِ التعليقاتُ. زاد في أَثَر ذلك ضَعْفُ التصرُّفِ في علاماتِ الترقيم وسوءُ التقسيمِ لفقرات الكتاب، فَضْلًا عن الأخطاءِ والسَّقَطِ المُفْسِدِ للمعنى في الطبعاتِ المُتداوَلة.
وقد وضعْنَا نُصْبَ أَعيُننا تمهيدَ سبيلِ الإفادة من الكتاب، وتسهيلَ الوصولِ إلى مَكنوناته، فاتّبعْنَا في تحقيق الكتابِ وإخراجهِ الخُطَّةَ الملائمةَ لذلك، نُوضِّحُها فيما يأتي:
أولًا: تحقيقُ الكتابِ وإخراجُه:
1 -
اعتمدْنَا النُّسخَةَ المقروءةَ على المصنِّفِ الحافظِ ابنِ حَجَرٍ أصلًا في إثباتِ نصِّ الكتاب.
2 -
سَرَدْنَا شَرْحَ النُّخْبَةِ مع مَتْنِها سَرْدًا واحدًا مُمتَزجَيْن ببعضهما، دُونَ أيِّ فَصْلٍ لِلمَتْنِ عن الشَّرْحِ بأقواسٍ أو بشيءٍ آخَرَ، وذلك تسهيلًا لتسلسُلِ الذِّهْنِ وانسيابهِ في دراسةِ الكتابِ، واقْتِفَاءً لِطَريقِ النُّسْخَةِ الأصْلِ ولِنُسَخٍ أُخرى صحيحةٍ.
لكنْ ميَّزْنَا التعاريفَ بحرفٍ أسودَ، لأنها قاعدةُ البحثِ، ومَطْلَعُ دراسَتِه.
3 -
عُنينَا بعلاماتِ الترقيم، وتفصيلِ فِقْرات الكتاب وتمييزِها، لأهمّيةِ ذلك البالِغَةِ في تيسيرِ فَهْمِ المعنى.
4 -
أَوْرَدْنَا مَتْنَ النُّخبَةِ مُفْرَدًا، في نهايةِ الشرحِ، لِتسهيلِ حِفْظِه، فقد كان إيرادُه في أعلى الشرح غَيْرَ ذي جَدْوَى، لِبُعْدِ المسافاتِ بينَ عباراتِه، وبيَّنَّا رَقْمَ صَفَحاتِ الشرحِ التي تتناولُ المَتْنَ، فصار مفيدًا -مع إثبات نصه- لفهرسٍ موضوعي تفصيلي شامل ومختصر للكتاب والتعليقات عليه.
5 -
لم يضَعِ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ عناوينَ لِفِقْراتِ كتابهِ وموضوعاتِه، مِثْل: الحديثُ الصحيح، الحديثُ الحَسَن. . . فاضفْنَا إلى الكتابِ عناوينَ تُبَيِّنُ موضوعاتِه، وأثبتْنَاها في حواشي الصفحاتِ ورقمناها بأرقام متسلسلة، لِزيادةِ التيسيرِ في الدراسةِ والمراجَعَةِ، وصُنْعِ الفهارِسِ.
ثانيًا: التعليقُ على الكتاب:
1 -
عرَّفْنَا أنواعَ الحديثِ التي لم يُصَرِّحْ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ بتعريفِها،
وذلك أنه اعتمدَ في كثير من هذه التعاريف على استنتاجِ القارئ لها من تَتَبُّعِ التقسيم، فأثبتنا هذه التعاريفَ في التعليق على الكتاب لِمُساعدَةِ القارئِ، وتسهيلِ الفائدةِ عليه.
2 -
رَبطْنَا أجزاءَ الكتابِ ببعضِها لِتَيسيرِ فَهْمِه، وتحصيلِ الصُّورَة العامَّةِ التي يُحَصِّلُها الكتابُ نتيجةَ مُتابَعةِ السَّبْرِ والتقسيم.
فإنَّ المصنِّفَ رحمه الله يَشْرَعُ في قِسْمٍ من الأقسامِ العامَّةِ ويُفَرِّعُ فُروعَه، ثُمَّ يَرجِعُ إلى تفصيلِ قِسْمٍ آخَرَ سَبَقَ له أنْ أشَارَ إليه، فاحتاجَ إلى تفسيرِ ذلك.
3 -
تَكميلُ فوائدِ الكتابِ، بإيضاحِ ما يَغْمُضُ منه، أو زيادةِ فائدةٍ مهمة يَتِمُّ بها الموضوعُ، ومنها فوائد لا توجد في الشروح المصنفة على هذا الكتاب، وذلك مع مُراعاةِ الاختصارِ قَدْرَ الإمكانِ.
ونُحِيلُ القارئَ للاستِزادَةِ من الفائدة على مؤلَّفاتِنا الأُخرى وتحقيقاتِنا، وهي:
منهجُ النقدِ في عُلومِ الحديثِ.
الإمامُ التِّرمِذِيُّ والموازنةُ بين جامِعهِ وبين الصحيحَيْن.
شرحُ عِلَلِ التِّرمذيِّ للحافظِ ابنِ رجَبٍ وتعليقاتُنَا الواسِعةُ عليه.
هذه الكُتبُ كافيةٌ لِمَنْ تزوَّدَ بها وأحسَنَ دراستَها أنْ يدخُلَ إن شاءَ اللهُ تعالى في عِدَادِ الباحِثينَ في الحديث الشريف، تصحيحًا وتضعيفًا، وتجريحًا وتعديلًا.
4 -
خرَّجْنَا أحاديثَ الكتاب، مع مُراعاةِ الاختصارِ، بالقَدْرِ الذي يحتاجُ إليه مَقامُ استشهادِ الإمامِ المصنِّفِ بالحديثِ الذي أَوْرَدَهُ.
5 -
ترجمْنَا الأعلامَ الواردةَ في الكتاب باختصارٍ، ودُونَ تطويلٍ.
وفي الخِتَامِ أَوَدُّ تذكيرَ القارئِ الكريمِ بِهَدَفٍ أساسيٍّ يُفيدُه العملُ في تحقيقِ هذا الكتابِ "نُزهة النظرِ" والتعليقِ عليه، وهو تسهيلُ تَصوُّرِ عِلْمِ مُصطلَحِ الحديث تصوُّرًا شاملًا، وَفْقَ الصيغةِ التي قدَّمَها إمامٌ جليلٌ هو أميرُ المؤمنينَ في الحديثِ الحافظُ أبو الفَضْلِ أحمدُ بنُ عليِّ بنِ حَجَرٍ العَسْقَلانِيُّ، وهو تَصَوُّرٌ فريدٌ، انفردَ به في هذا الكتابِ عن كلِّ المؤلَّفاتِ في هذا العِلْمِ بتوفيق الله تعالى.
كما أَوَدُّ التذكيرَ بأنَّه من الضروريِّ لِدَارِسِ الحديثِ أنْ يُحيطَ بصورةِ عِلْمِ المُصطَلحِ الكُلِّيَّةِ في مُختلِفِ مناهِجِ التأليفِ لهذا العِلْمِ، ولا سيّما المُحاوَلات التي بُذِلَتْ لِتقديمِ نِظامٍ جامعٍ لعِلْمِ المُصطَلحِ خاصَّةً، كما هو مُشَاهَدٌ في "نُزهة النظرِ في توضيح نُخْبَةِ الفِكَر"، أو نظريةٍ شاملةٍ، كما في كتابنا "منهجِ النقدِ في علوم الحديث".
وما تَوفيقي إلّا باللهِ. عليه توكَّلْتُ وإليه أُنيْبُ.
* * *
صفحة العنوان من النسخة الخطية
صحيفة عليها خط الحافظ ابن حجر في الهامش الأيسر آخر الصفحة
صحيفة عليها خط الحافظ ابن حجر في موضعين "ثم بلغ كذلك" أي قراءة بحثٍ عليَّ
الصفحة الأخيرة، عليها خط ابن الأخصاصي بتعليقه الكتاب -أي نسخه- لنفسه وفي الحاشية اليمنى بخط الحافظ ابن حجر:"بلغ صاحبه قراءة عليَّ. كتبه ابن حجر"
شرحُ النُّخْبَةِ نُزْهَةُ النَّظَرِ فِي تَوْضِيحِ نُخْبَةِ الفِكَرِ فِي مُصْطَلَحِ أهْل الأثَرِ
تأليف
الإمَامِ الحَافِظِ ابْنِ حَجَر أمير المؤمنين في الحديث أحمد بن علي بن محمد بن حجر العَسْقَلَاني
(ولد سَنة 773 هـ وتوفي سَنَة 852 هـ) رَحِمَهُ اللهُ تعَالى
حَقَّقَهُ عَلَى نُسْخَةٍ مَقْرُوءَة عَلَى المُؤَلِّفِ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ
نُورُ الدِّينِ عِتْر
رَئِيسُ قِسْمِ عُلُومِ القُرآنِ وَالسُّنَّةِ بجَامِعَةِ دِمَشْق، أستَاذُ التّفسِيرِ وَالحَدِيث في كُليَّاتِ الشَّريعَةِ وَالآداب بِجَامِعَتَي دِمَشقَ وَحَلَبَ
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
قال الشيخ العلّامة الرُّحْلَةُ شيخُ الإسلام عَلَمُ الأعلامِ شِهابُ الدين أبو الفضل أحمدُ بنُ عليِّ بنِ محمدٍ العسقلانيُّ الشهيرُ بابنِ حَجَرٍ، الشافعيُّ، فَسَحَ الله في مُدَّتِه، وأعاد على المسلمين من بركته:
الحمدُ لله الذي لم يَزَلْ عالِمًا قديرًا، حيًّا قيومًا سميعًا بصيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأُكَبِّرُه تكبيرًا، وصلى الله على سيدنا محمد الذي أرسله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا وعلى آل محمد وصحبه وسَلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإنَّ التصانيفَ في اصطلاح
(1)
أهل الحديث، قد كثرت للأئمة في القديم والحديث.
(1)
الاصطلاح: قصدُ معنًى مخصوصٍ للفظٍ ما عند طائفة من الناس اتفقوا عليه. والمراد هنا مصطلح أهل الحديث، وهو فنُّ "علوم الحديث" أو علم الحديث الذي اشتهر باسم مصطلح الحديث، وعلم المصطلح.
وعلم الحديث يُطلَقُ بإطلاقين:
الأول: علمُ الحديث روايةً: أي علمُ رواية الحديث، وهو علم يشتمل على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وروايتها وضبطها.
الثاني: علمُ مصطلح الحديث أو علوم الحديث.
وهو علم بقوانين يُعرف بها أحوال السند والمتن من حيث القبولُ أو الرد.
والسَّنَد: حكاية رجال الحديث الذين رَوَوْهُ عن بعضهم.
والمتن: ما ينتهي إليه السَّنَدُ من الكلام. أي النصُّ المنقول بالسند.
فَمِنْ أول مَنْ صنَّفَ في ذلك:
القاضي أبو محمد الرامَهُرْمُزِي
(1)
في كتابه "المُحَدِّثُ الفاصِلُ"، لكنه لم يَسْتَوعِبْ، والحاكمُ أبو عبد الله النيسابوري
(2)
، لكنه لم يُهَذِّبْ ولم يُرَتِّبْ. وتلاه أبو نُعَيم الأصْبَهاني
(3)
فعَمِلَ على كتابه مُسْتَخْرِجًا، وأبقى أشياءَ لِلمُتَعَقِّبِ.
ثم جاء بعدَهم الخطيبُ أبو بكر البغدادي
(4)
فصَنَّفَ في قوانين الرواية
(1)
هو الحسن بن عبد الرحمن بن خَلَّاد، القاضي، المتوفى نحو (360). ورامَهُرْمُز من بلاد خوزستان. والقاضي الرامَهُرْمُزِي كان محدثَ العجم في زمانه، لغويًّا أديبًا. واسم كتابه:"المحدث الفاصل بين الراوي والواعي". وهو مطبوع، لكنه غير مُدَقَّق. وقد صرح الحافظ ابن حجر بأنه من أول التصنيف، فالعجب ممن يرى هذا الكلام الصريح ويقول: الرامهرمزي أول مَن صنف، فيَغْمِطُ بذلك جهودَ الأئمة السابقين مثل مسلم والترمذي.
انظر التوسع في تصديرنا لشرح علل الترمذي: 17 - 25.
وقول الحافظ ابن حجر: "لم يَسْتَوعِبْ". نقول: بل أَخلَّ بأصول مهمة كثيرة من علوم الحديث، حتى نرى أنّ عِللَ الترمذي الصغير أَجْمَعُ لها منه من هذه الناحية.
(2)
هو محمد بن عبد الله ابن البَيِّع، المشهور بالحاكم المولود (321) من حفاظ الحديث الأئمة الكبار، وسيد المحدثين وإمامهم في وقته. (ت 405). له "المستدرك على الصحيحين"(ط). والمدخل (ط).
وكتابه هو "معرفة علوم الحديث". قال فيه الحافظ: "لم يُهَذِّبْ ولم يُرَتِّبْ". أقول: لكنه مرجعٌ مهم في هذا الفن، لا يُسْتَغنى عنه.
(3)
أحمد بن عبد الله الأصْبَهاني الصوفي، أبو نعيم، ولد (336) فقيه حافظ كبير، مُحَدِّثُ عصره ومؤرِّخُه، له مذهب في الرواية بالإجازة. (ت 430) من كتبه: حلية الأولياء (ط). ودلائل النبوة (ط).
قوله: "فعَمِل على كتابه مُستخرِجًا" بكسر الراء، أي زاد عليه زيادات ليست فيه. شرح الشرح: 138 ولقط الدرر: 19.
(4)
أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، ولد (392) مُحَدِّثٌ حافظ إمام، وفقيه شافعي وأصولي، نزل دمشق مدة طويلة، حدث فيها بكتبه، ثم رَجَعَ إلى بغداد وتوفي بها (463). بلغت مصنفاتُه الثمانين.
وكتاباه: "الكِفَايةُ في عِلْمِ الروايةِ"، و"الجامعُ لأخلاقِ الراوي وآدابِ السامعِ" مصدران أساسيان، ولا سيما الأولُ منهما، وهما مطبوعان.
كتابًا سمّاهُ "الكِفَايةُ" وفي آدابها كتابًا سمّاهُ "الجامعُ لآدابِ الشيخِ والسامعِ"، وَقَلَّ فَنٌّ من فنون الحديث إلَّا وقد صنَّفَ فيه كتابًا مفردًا، فكان كما قال الحافظُ أبو بكر بن نُقْطَةَ
(1)
: "كُلُّ مَنْ أَنْصَفَ عَلِمَ أنَّ المُحَدِّثينَ بعدَ الخطيبِ عِيالٌ على كُتُبهِ".
ثم جاء بعض مَن تأخر عن الخطيب، فأخذ من هذا العلم بنصيب، فجَمَعَ القاضي عياض
(2)
كتابًا لطيفًا سمّاهُ "الإلماعُ"، وأبو حفص المَيّانِجي
(3)
جزءًا سمّاهُ "ما لا يَسَعُ المُحَدِّثَ جَهْلُه". وأمثالُ ذلك من التصانيف التي اشتَهَرَت وبُسِطَتْ لِيتوفَّر عِلْمُها، واخْتُصِرَت لِيتيسرَ فَهْمُها، إلى أن جاء الحافظ الفقيهُ تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الصَّلاح عبدِ الرحمن الشَّهْرَزُوريُّ
(4)
نزيل دمشق فجَمَعَ لمَّا وُلِّيَ تدريسَ الحديثِ
(1)
أبو بكر محمد بن عبد الغني بن أبي بكر بن شجاع المعروف بابن نُقْطَة. وُلِد (579) وعُنِي بالحديث ورجاله واشتَهَر بحفظه. مات كهلًا (629). من مؤلفاته: التقييدُ في رُواةِ الكُتُبِ والمسانيد. وتكملةُ الإكمال (خ) ذيل على إكمال ابن ماكولا.
(2)
عياض بن موسى بن عياض اليَحْصُبِي السَّبْتِيّ الشهير بالقاضي عياض. ولد (476)، وكان إمامًا في التفسير والحديث والفقه وعلوم عصره، أديبًا، له المصنفات القيمة. (ت 544).
من كتبه: "الشفا في التعريف بحقوق المصطفى"(ط). و"الإلماع في أصول الرواية وتقييد السماع"(ط). وهو مفيد جدًّا في بابه.
(3)
عمر بن عبد المجيد بن الحسن المَيَّانِشي والميانجي، نسبة إلى "مَيانِش" قرية بإفريقية. نزيلُ مكةَ شيخُ الحرمِ، وكان خطيبًا وعالمًا ورعًا. (ت 581).
وكتابه "ما لا يَسَعُ المحدِّثَ جهلُهُ" رسالة صغيرة في نحو سبع صفحات، فيها نُبَذٌ عن الصحيح والحسن وبعضِ أنواع الحديث، لكنها محشوّةٌ بما لا طائلَ منه مما يسعُ كلَّ محدثٍ جهلُه، ولعل المصنف رحمه الله انخدع بعنوان الكتاب. وانظر التوسع في كتاب "الحافظ الخطيب" للدكتور محمود الطحان: 446 و 472.
وكان الأَولى من هذا الجزء أن يُذْكَر واسطةً بعد عِياض قسم علوم الحديث في مطلع جامع الأصول لابن الأثير (ت 606) ففيه بحث جامع لا يُستغنى عنه في علوم الحديث.
(4)
عثمان بن عبد الرحمن (الملقب بالصلاح) بن عثمان الشَّهْرَزُوري تقي الدين، ولد (577) نشأ في بيت علم ورئاسة وحصَّل العلومَ بأنواعها، وعُني بالحديث وعلومه، ونَزَل بدمشق وتولّى التدريسَ بدار الحديث الأشرفية وغيرها، وطار صيتُه =
بالمدرسة الأشرفية كتابَه المشهور، فهذَّبَ فنونَه وأملاه شيئًا بعد شيء، فلهذا لم يحصُلْ ترتيبُه على الوضع المتناسب، واعتنى بتصانيفِ الخطيبِ المُفَرَّقة، فجمع شَتاتَ مقاصِدِها، وضمَّ إليها مِنْ غيرها نُخَبَ فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، فلهذا عَكَفَ الناسُ عليه، وساروا بسيره، فلا يُحْصى كم ناظمٍ له ومختصِر، ومستدرِكٍ عليه ومقتصِر، ومُعارِضٍ له ومُنتَصِر
(1)
.
فسألني بعضُ الإخوانِ أنْ أُلَخِّصَ له المُهِمَّ من ذلك، فلخَّصْتُه في أوراقٍ لطيفةٍ، سميتُها:"نُخْبَة الفِكَرِ في مُصطلحِ أهلِ الأثرِ"، على ترتيبٍ ابتكَرْتُه، وسبيلٍ انْتَهَجْتُه، مع ما ضَمَمْتُ إليه من شوارد الفرائد، وزوائد الفوائد. فرَغِبَ إليّ ثانيًا أنْ أضعَ عليها شرحًا يَحُلُّ رُموزَها، ويَفْتَحُ كُنُوزَها، ويُوضِّح ما خَفِيَ على المبتدئ من ذلك، فأجبتُه إلى سؤاله رجاءَ الاندراج في تلك المسالك، فبالغتُ في شرحها، في الإيضاح والتوجيه، ونبهت على خفايا زواياها، لأنَّ صاحبَ البيت أدرى بما فيه، وظهر لي أنَّ إيرادَه على صورةِ البسطِ أليقُ
(2)
، ودَمْجَها ضمن توضيحِها أوفقُ، فسلكتُ هذه الطريقةَ القليلةَ السالكِ. فأقول طالبًا من الله التوفيق فيما هنالك:
= في العلوم وفي الحديث خاصة، قال الذهبي فيه:"الإمامُ المفتي شيخُ الإسلام". وكانت فتاواه مسدَّدة. (ت 643). له كتب كثيرة أشهرُها "علومُ الحديثِ"، الذي شُهِر به وقيل له:"مقدمةُ ابنِ الصلاح". ويمتازُ إضافة إلى ما ذكر المصنف بأمرين مهمين:
1 -
ضبط التعاريف، ووضع تعاريف لم يسبق بها.
2 -
الاستنباط والتحقيق في مسائل العلم بدقة.
(1)
انظر جملة مما صُنِّف على "علوم الحديث" لابن الصلاح في تصديرنا لتحقيقه: 21 - 22. ونود الإشارةَ هنا إلى مختصره "إرشادُ طلابِ الحقائقِ" للنووي، فإنه أحسنُ مُختصَرٍ، مع وضوح العبارة، وقد حققناه بدقة ولله الحمد.
(2)
صورة البسط في الشرح: هي أن يَبْسُطَ المَتْنَ مع الشرحِ، أي يسبِكَه معه كأنهما نصٌّ واحدٌ، وهذه الطريقةُ أيسرُ على الدارس.
الخبر، عند علماء هذا الفن مُرادِفٌ للحديث. وقيل: الحديثُ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والخبرُ ما جاء عن غيره، ومِنْ ثَمَّةَ قيل لمن يَشتغلُ بالتواريخ وما شاكلها:"الإخباريّ"، ولمن يَشتغلُ بالسنة النبوية:"المُحَدِّثُ"
(1)
. وقيل: بينهما عمومٌ وخصوصٌ مُطْلَقٌ
(2)
، فكُلُّ حديثٍ خَبَرٌ مِنْ غير عكسٍ. وعَبّر هنا بالخبرِ ليكونَ أشملَ
(3)
. فهو باعتبار وصولِهِ إلينا
(4)
: إما أنْ يكونَ له طرُقٌ أي أسانيدُ كثيرة، لأن طُرُقًا جَمْعُ طَرِيقٍ، وفَعِيلٌ في الكثرة يُجْمَعُ على فُعُل بضمتين وفي القِلَّة على أَفْعُل، والمرادُ بالطرقِ الأسانيدُ. والإسنادُ: حكايةُ طريق المتن
(5)
.
وتلك
(6)
الكثرة أحدُ شروط التواتر إذا وردت بلا حصر عددٍ معينٍ،
(1)
ههنا تعريفاتٌ لمصطلحاتٍ مهمة نقدمها فيما يأتي:
الحديث: لغةً: ضد القديم، ويُستعمل أيضًا بمعنى الخبر.
وفي اصطلاح المُحَدِّثين: ما أُضِيفَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو وَصْفٍ خِلْقِيٍّ أو خُلُقِي. وكذا ما أُضيفَ إلى الصحابي أو التابعي. والمرادُ من قولهم: أُضيفَ: نُسِبَ.
والخبر: مرادف للحديث بهذا المعنى الواسع، كما سيأتي في كلام المُصَنِّف.
وعند جماعة من المحدِّثين: الحديث ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والخبر أعمُّ منه.
وكذا السنة والأثر بمعنى الحديث أيضًا.
لكنَّ الأصوليين يُعَرِّفون السنةَ بأنها: ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
وبعض الفقهاء وهم الخراسانيون يطلقون الأثر بمعنى الموقوف أي ما نُسِبَ إلى الصحابي.
(2)
وهو أن يكون أحدُ اللفظين دالًّا على كل معنى الآخر وزيادةٍ عليه، مِثْلُ كلمةِ: إنسان ومؤمن، فإنسانٌ تَشملُ المؤمنَ وغيرَه، فنقول: بينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلق. كذلك لفظُ "خَبَر" يشمل الحديث النبوي وغيره ..
(3)
أي لِيشملَ البحثُ أخبارَ التاريخ، ولا يُظَنَّ أنّ هذه القواعدَ خاصةٌ بالحديث، بل هو يشمل التاريخَ وكلَّ ما سبيلُه النقلُ، كالشعر، والنثر والخطب، والمؤلَّفات. فكلُّ النقولِ من سائر العلوم خاضعةٌ في قبول نقلها إلى أصحابها لأصول هذا الفن.
(4)
يَشْرَعُ الحافظُ هنا ببحث تقسيمِ الأخبار والأحاديث، فيُقَسِّمُها بحسب تعدد إسنادها أو عدم تعدده ثلاثةَ أقسام، كما سيتضح.
(5)
سبق تعريف السند والمتن ص 37.
(6)
هذا معطوف على قوله: "أسانيد كثيرة" وما بينهما كلام معترض. =
بل تكون العادةُ قد أحالتْ تواطؤَهُم على الكذب، وكذا وقوعَه منهم اتفاقًا من غير قصد، فلا معنى لتعيين العدد على الصحيح.
ومِنْهم مَنْ عَيَّنه في الأربعة، وقيل في الخمسة، وقيل في السبعة، وقيل في العشرة، وقيل في الاثني عشر، وقيل في الأربعين، وقيل في السبعين، وقيل غير ذلك.
وتَمسَّكَ كلُّ قائلٍ بدليل جاء فيه ذكرُ ذلك العدد فأفادَ العلمَ
(1)
، وليس بلازم أن يَطَّرِدَ في غيره، لاحتمالِ الاختصاصِ.
فإذا ورد الخبر كذلك
(2)
وانضاف إليه أن يستوي الأمرُ فيه في الكثرة المذكورة من ابتدائه إلى انتهائه -والمراد بالاستواء ألّا تنقصَ الكثرة
= والمعنى: إن الحديث إن كان له طرقٌ كثيرةٌ كثرة تبلغ مبلغًا يستحيل معها تواطؤهم على الكذب، بأي عدد، فقد تحصل بأربعة ثقاتٍ أثبات، أو تحصل بأكثر دونَهم في الثقة، وهذا يردُّ به الحافظ ابن حجر على بعض مَنْ عَيّن للتواتر عددًا، كالأربعة والعشرة. . . ومعنى التواطؤ على الكذب الاتفاقُ عليه، وقوله:"وكذا وقوعَه منهم اتفاقًا": أي على سبيل المصادفة.
(1)
مرادُ المصنِّف أن كل واحد ممن عيَّن للمتواتر عددًا استند إلى نصٍّ شرعي ورد فيه ذكرُ العدد الذي عيّنه ورودًا يجعل هذا العدد مفيدًا للعلم القطعي: مثل تعيين الأربعة استنادًا إلى أنه العددُ المطلوب في الشهود لإثبات حدِّ الزنى. والخمسة لأنه عدد الأيمان التي تُطلب من الزوج إذا اتهم زوجته بالزني، وتُطلب من الزوجة إذا كذبت تلك التهمة، والعشرة لقوله تعالى:{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فقد وصفها بالكمال، وذلك يجعلها تفيد العلم اليقيني.
وقد رد المصنفُ على هؤلاء بأن دليلَهم على التعيين غيرُ كافٍ، لأن الاعتماد على هذا العدد في الموضوع الذي ورد في الشرع لا يدل على أنه يفيد التواترَ والعلمَ القطعي دائمًا، لاحتمال أن يكون لكل عدد خُصُوصيةٌ في الموضوع الذي ورد فيه.
كذلك الشأن في إفادة العلم اليقيني قد يتحقق بثلاثة أو أربعة من الحفاظ، ويحتاج إلى عشرة من أهل الصدق غير الضابطين وإلى أكثر من عشرة ليسوا من أهل العدالة.
لذلك قالوا: إن تعيين العدد للمتواتر تحكم فاسد.
مثال المتواتر: حديث "مَنْ كَذَب عليّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النار" رواه بِضْعٌ وسبعون صحابيًّا.
(2)
"كذلك" أي على الصفة السابقة، وهي كثرة الطرق بالشروط المذكورة.
المذكورة في بعض المواضع لا ألّا تزيد إذ الزيادة مطلوبة هنا من باب الأَولى- وأن يكون مستندُ انتهائه الأمرَ المُشَاهَدَ أو المسموعَ، لا ما ثبت بقضية العقل الصِّرف كالواحد نصف الاثنين
(1)
.
فإذا جَمَعَ هذه الشروطَ الأربعةَ وهي:
- عددٌ كثير أحالت العادةُ تواطؤهم أو توافقهم على الكذب.
- رَوَوا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء.
- وكان مستند انْتِهائِهم الحِسّ.
- وانضاف إلى ذلك أن يصحبَ خبرَهم إفادةُ العلم لسامعه.
فهذا هو المتواتِر.
وما تخلَّفَتْ إفادةُ العلمِ عنه كان مشهورًا فقط، فكلُّ متواتِر مشهورٌ مِنْ غير عكس.
وقد يقال: إنَّ الشروطَ الأربعةَ إذا حصلَتْ استلزمَتْ حصولَ العلم، وهو كذلك في الغالب، لكنْ قد يَتَخَلَّفُ عن البعض لِمانعٍ
(2)
.
وقد وَضَحَ بهذا تعريفُ المتواتِر
(3)
.
(1)
أي إن كثرة المخبرين بقضية عقلية أو اعتقادية لا تُفيدُ علمَ اليقين، مثل أن يخبرنا أهل الهند عن ألوهية (بوذا) مثلًا، فلا شك في أن هذا الخبرَ باطلٌ وإنْ كَثُر أصحابُه، لأن هذه القضايا إنما تثبُتُ بالدليل العقلي القطعي، والعقل يحكم حكمًا يقينيًّا قطعيًّا باستحالة ألوهية بوذا أو غيره مما سِوى الله، لأنهم بشرٌ فيهم سماتُ المخلوق، يأكلون ويشربون، والله مُنزَّه عن ذلك.
(2)
قوله "قد يَتخلَّف عن البعض لمانع". أي ربما لا يحصل العلمُ اليقيني بهذه الشروط لمانع.
وهذا احتراز عما قيل: إذا لم يكن عالمًا ببعض شروط المتواتِر لا يحصل له العلم.
وقيل غير ذلك (انظر شرح الشرح: 175).
لكنْ كلُّ ما قيل لا قيمةَ له مع الشروط المذكورة، فلا موجبَ لهذا الاحتراز.
(3)
تعريفُ المتواتِر: هو الحديث الذي رواه جمعٌ يستحيلُ تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم إلى منتهاه، وكان مستندَهم الحسُّ.
وخلافُه
(1)
قد يَرِدُ بلا حصرٍ أيضًا لكنْ مع فَقْدِ بعض الشروط، أو مع حصرٍ بما فوق الاثنين، أي بثلاثةٍ فصاعدًا ما لم تجتمع شروطُ التواتر، أو بهما أي باثنين فقط، أو بواحد، والمرادُ بقولنا:"أنْ يَرِدَ باثنين": ألَّا يردَ بأقلَّ منهما، فإنْ ورد بأكثرَ في بعض المواضع من السند الواحد لا يضرّ
(2)
، إذ الأقلُّ في هذا يقضي على الأكثر.
فالأول: المتواتِر
(3)
، وهو المفيدُ للعلم اليقيني -فأُخرِجَ النظري على ما يأتي تقريرهُ- بشروطه التي تقدمَتْ.
واليقين: هو الاعتقادُ الجازمُ المطابق.
وهذا هو المُعْتَمدُ أنَّ خبرَ التواتر يفيد العِلْمَ الضروري وهو: الذي يضطر الإنسانُ إليه بحيثُ لا يمكنه دفْعُه.
وقيل: لا يفيدُ العِلْمَ إلا نظريًّا
(4)
. وليس بشيء، لأن العِلْمَ بالتواتر
(1)
أي وغيرُ المتواتِر قد يتعدد رواتُه من غير حصرٍ بعدد معين، أي من غير اشتراطِ عددٍ، لكنْ مع فَقْدِ بعض الشروط، مثل أن يتعددَ الرواة تعددًا لا يفيد العلم اليقيني، فلا يُسمى متواترًا بل يكونُ مشهورًا.
(2)
"لا يضر": أي لا يَخْرجُ الحديثُ عن حكم المروي باثنين فقط وهو العزيز، لأن وجود اثنين فقط في بعض حلقات الإسناد "يقضي على الأكثر" أي يلغي حكمَ الأكثر في الحلقات الأخرى من السند.
(3)
هذا هو الأول وهو المتواتِر.
والثاني: عند أكثر الأصوليين الذي لا يفيد اليقين وهو خبر الآحاد.
وقسَّم الحنفيةُ الخبرَ من حيث تعدد سنده وعدم تعدده ثلاثةَ أقسام: متواتِر، ومشهور، وآحاد.
فالمتواتر كما عرَفته، والآحادُ الذي لم يبلغ درجةَ التواتر لا في أوله ولا آخره، والمشهورُ هو الذي كان آحاديًّا ثم تواتر.
أما عند المُحَدِّثين: فينقسم الحديثُ بحسب تعدد رواته تقسيمًا تفصيليًّا إلى أربعة أقسام وهي: المتواتر الذي عرَفته، والمشهور الذي كثر رواته ولم يتواتر، والعزيز: ما رواه اثنان، والغريب أو الفرد.
(4)
العِلْم النظري: هو عِلْم يقيني، لكنْ لا يُتوصل إليه إلا بالبحث والاستدلال، وهو هنا النظرُ في أحوال الرواة، والدلائلُ والقرائن التي تفيد الباحثَ العِلْمَ اليقيني.=
حاصلٌ لمن ليس له أهليةُ النظر كالعاميّ، إذ النظرُ: ترتيبُ أمورٍ معلومةٍ أو مظنونة يُتوصَّلُ بها إلى علوم أو ظنون، وليس في العاميّ أهليةُ ذلك، فلو كان نظريًّا لَما حَصَل لهم.
ولاحَ بهذا التقرير الفرقُ بين العِلْمِ الضروري والعِلْمِ النظري، إذ الضروريُّ يفيدُ العلمَ بلا استدلالٍ، والنظريُّ يفيده لكن مع الاستدلال على الإفادة، وأنَّ الضروريَّ يحصلُ لكل سامع، والنظريَّ لا يحصل إلا لمَنْ فيه أهليةُ النظر.
وإنما أُبْهِمَتْ شروطُ المتواتِر في الأصل
(1)
لأنه على هذه الكيفية ليس من مباحث علم الإسناد، إذْ عِلْمُ الإسنادِ يُبحَثُ فيه عن صحة الحديث أو ضعفِه لِيُعْمَلَ به أو يُتْركَ من حيثُ صفاتُ الرجال وصيغ الأداء
(2)
، والمتواترُ لا يُبْحَثُ عن رجاله بل يجب العملُ به من غير بحث.
فائدة:
ذكر ابن الصلاح أنّ مثالَ المتواتر على التفسير المتقدِّم يَعِزُّ وجودُه، إلا أنْ يُدَّعَى ذلك في حديث "مَنْ كَذَبَ عليَّ". وما ادّعاهُ من العِزَّةِ ممنوع، وكذا ما ادّعاه غيرُه من العَدَم، لأن ذلك نشأ عن قِلّة اطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضيةِ لإبعادِ العادةِ أن يَتوَاطؤوا على كذب أو يحصلَ منهم اتفاقًا.
ومِنْ أحسنِ ما يُقَرَّرُ به كونُ المتواتر موجودًا وجودَ كَثْرة في الأحاديث أنَّ الكُتُبَ المشهورةَ المُتَداوَلةَ بأيدي أهل العِلْم شرقًا وغربًا، المقطوعَ
= لذلك "لا يحصل إلا لمن فيه أهلية النظر" أي البحث في الأدلةِ واستخراجِ النتائجِ منها.
والعِلْمُ الضروري: هو الذي يحصلُ دونَ حاجةٍ لذلك كما سيأتي. لذلك قالوا في المتواتر: ليس من مباحثِ عِلْمِ الإسناد، بل هو من مباحثِ أصولِ الفقه.
(1)
أي متن نخبة الفكر.
(2)
مثل قول الراوي: حدَّثنَا فلانٌ أو أخبرنا.
عندهم بصحة نسبتها إلى مُصنِّفيها، إذا اجتمعتْ على إخراج حديثٍ وتعددتْ طُرقُه تعدّدًا تُحيل العادةُ تواطُؤَهم على الكذب إلى آخر الشروط
(1)
أفاد العلمَ اليقينيَّ بصحته إلى قائله، ومثلُ ذلك في الكتب المشهورة كثيرٌ
(2)
.
والثاني -وهو أولُ أقسامِ الآحاد
(3)
-: ما لَهُ طرقٌ محصورةٌ بأكثرَ من اثنين وهو المشهور عند المُحَدِّثين.
سُمِّيَ بذلك لوضوحه وهو المستفيض على رأي جماعة من أئمة الفقهاء، سُمِّي بذلك لانتشاره، مِنْ فاض الماءُ يفيض فيضًا، ومنهم من غاير بين المستفيض والمشهور بأنّ المستفيضَ يكون في ابتدائه وانتهائه سَوَاء، والمشهورُ أعمُّ من ذلك
(4)
، ومنهم من غاير
(1)
أي شروط المتواتر.
(2)
ومن أمثلة الحديث المتواتر:
حديث إثبات الحوض للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. رواه أكثرُ من خمسين صحابيًّا.
وحديث المسح على الخفّين في الوضوء. رواه سبعون صحابيًّا.
وحديث: نزل القرآن على سبعة أحرف، رواه سبع وعشرون. وغيرها كثير.
وينقسم المتواتر إلى قسمين: متواتر لفظي، ومتواتر معنوي.
أما المتواتر اللفظي: فهو ما تواترت روايتُه على لفظ واحد، يرويه كلُّ الرواة، مثل حديث "مَنْ كَذَب عَليَّ مُتعمِّدًا فَلْيَتَبوَّأْ مقعدَهُ من النار".
وأما المتواتر المعنوي: فهو أن ينقلَ جماعةٌ يستحيل تواطؤهم على الكذب وقائعَ مختلفةً تشترك كلُّها في أمر معيَّن، فيكون هذا الأمر متواترًا. مثل: رفع اليدين في الدعاء. فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم فيه نحو مئة حديث، لكنّ هذه الأحاديثَ في وقائعَ مختلفة.
(3)
الآحاد كلُّ خبر لم يبلغْ مبلغَ التواتر، وهو ثلاثة أقسام:
1 -
المشهور.
2 -
العزيز.
3 -
الغريب أو الفرد.
هذا عند المُحَدِّثين، أما عند غيرهم فقد سبق لنا بيانه ص 44 تعليقًا.
(4)
قوله: "أعمُّ من ذلك": أي إن المشهور يشمل المستفيض وهو ما يكون تعدُّد سندِه في ابتدائه وانتهائه سواء، ويشمل ما ليس كذلك كالذي يكون آحاديًّا في أوله ثم ينقله عددُ التواتر. =
على كيفية أخرى، وليس من مباحثِ هذا الفن.
ثُمَّ المشهورُ يُطلَقُ على ما حُرِّر هنا، وعلى ما اشتَهَرَ على الألسنة، فيشمل ما له إسنادٌ واحدٌ فصاعدًا بل ما لا يوجدُ له إسنادٌ أصلًا
(1)
.
والثالث: العَزِيز: وهو ألّا يروِيَه أقلُّ من اثنين عن اثنين.
= وهناك مَنْ فَرَّقَ بين المشهور والمستفيض بكيفية أقرب، فجعَل المشهورَ بمعنى المتواتر.
وهذه التفاصيل في التفرقة بينهما ليست من مباحث علم المصطلح، إنما فرّعها الأصوليون كما أشار الحافظ.
أما المُحدِّثون فقسَّموا الحديثَ بحسب تعدد رواتِه إلى الأقسام التي عرَفتها.
وحكمُ الحديث المشهور يختلف بحسب استيفائه شروطَ القبول أو اختلالِها فيه، فينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف.
مثالُ المشهور الصحيح: حديثُ "لا يَمَسُّ القرآنَ إلا طاهرٌ" رُوِيَ من حديث عمرو بن حزم، وابن عمر، وحكيم بن حِزَام، وعثمان بن أبي العاص، وثوبان. انظر تخريجها في نصب الراية: 1: 196 - 199. وانظر كتابنا: إعلام الأنام ص 219 - 220.
ومثالُ المشهور وهو حسن: حديثُ: "لا ضَررَ ولا ضِرارَ" روي من أوجُه كثيرة يرتقي بها إلى الحسن أو الصِّحة، وحسَّنه النووي فى الأَربعين.
ومثالُ المشهور وهو ضعيفٌ: حديثُ: "اطلُبوا العِلْمَ ولو بالصين". روي من عدة أوجه ولم يَخْلُ من قَدْح شديد. كما حققناه أول التعليق على كتاب الرحلة في طلب الحديث.
(1)
هذا بيان لتقسيم الحديث المشهور بحسَب البيئات التي يَشتهر فيها، وباعتبار ذلك ينقسم أقسامًا كثيرة:
1 -
المشهور باصطلاح المُحدِّثين الذي حُرِّرَ هنا.
2 -
ما اشتَهر على الألسنة: فيشمل ما له إسنادٌ واحد فصاعدًا، بل يشمل ما لا يوجد له إسنادٌ أصلًا كما قال المصنف. ومن هذا القسم: المشهور على ألسنة العوام، والمشهور عند النحويين والمشهور عند الفقهاء، والمشهور عند الأدباء.
ولما كانت الأحاديث المتداولَة على الألسنة ذاتَ أثر خطير في توجيه المجتمع فقد عُني العلماء بجمعها في مؤلَّفات، وأوسعُ هذه المؤلَّفات كتاب "كَشْفُ الخفاءِ ومُزيلُ الإلباس عمَّا اشتَهَرَ من الأحاديث على ألسنة الناس" لإسماعيل بن محمد العجلوني.
وسُمي بذلك إمّا لقِلَّة وجودِه، وإمّا لكونه عَزَّ، أي قَوِيَ بمجيئه من طريق أُخرى
(1)
.
وليس شرطًا للصحيح، خلافًا لِمَنْ زَعَمَه وهو أبو علي الجُبَّائي
(2)
من المعتزلة وإليه يُومئُ كلامُ الحاكم أبي عبد الله في علوم الحديث حيث قال: "الصحيحُ أنْ يرويَه الصحابيُّ الزائلُ عنه اسمُ الجَهالةِ بأنْ يكونَ له راويان
(3)
، ثُمَّ يتداولَه أهل الحديث إلى وقتنا كالشهادة على الشهادة".
وصرَّح القاضي أبو بكر بن العربي
(4)
في شرح البخاري بأنّ ذلك شرطُ البخاري، وأجاب عما أُوْرِدَ عليه من ذلك بجواب فيه نظر، لأنه قال: فإن قيل حديثُ "الأعمال بالنيات" فَرْدٌ لم يَرْوِه عن عمرَ إلا علقمةُ؟ قال: قلنا قد خَطَب به عمرُ على المنبر بحضرة الصحابة فلولا أنهم يعرفونه لأنكروه. -كذا قال-.
(1)
وحكم الحديث العزيز مثل حكم الحديث المشهور، يختلف بحسب استيفاء شروط القبول واختلالها فيه، فمِنْه الصحيح والحسن والضعيف.
(2)
محمد بن عبد الوهاب أبو علي المعروف بالجُبَّائي. ولد (235) وهو أحد أئمة المعتزلة، وإليه تُنسب فرقة الجُبَّائية منهم. (ت 303). له كتب كثيرة منها التفسير الكبير، وكتب في الرد على ابن الراوندي أجاد فيها.
(3)
مراد الحاكم بهذا أن يكون للصحابي راويان لكي تزول عنه الجهَالة، وليس مرادهُ أن يكون للحديث راويان، فهو خلاف الواقع في المصادر وفي مستدرك الحاكم نفسه، فكان على الحافظ ألا يورد كلامَه هنا.
انظر كلام الحاكم في معرفة علوم الحديث: 62 وتحليله في كتابنا الإمام الترمذي: 63 - 64 وتدريب الراوي: 1: 125 - 127 وشروط الأئمة الستة: 15 وشروط الأئمة الخمسة: 33 - 35.
(4)
محمد بن عبد الله بن محمد الإشبيلي، أبو بكر بن العربي، القاضي، ولد (468) ورحل إلى المشرق، وكان بحرًا في العلم، ثاقب الذهن كريم الشمائل، وُلي قضاء إشبيلية، وأجاد السياسة، واشتد على الظلمة وكادوا يبطشون به، ثم عُزِلَ فَلَزِم التصنيف والتدريس، وكان ممن بلغ درجة الاجتهاد. (ت 543). من كتبه: العواصِم من القواصِم (ط)، وعارضة الأحوذي شرح الترمذي (ط)، وأحكام القرآن (ط).
وتُعُقِّبَ بأنه لا يَلزمُ من كونهم سكتوا عنه أن يكونوا سمعوه من غيره، وبأنّ هذا لو سُلِّمَ في عمرَ مُنِعَ في تفرد علقمةَ ثمَّ تَفَرُّدِ محمدِ بن إبراهيمَ به عن علقمةَ ثم تفرد يحيى بن سعيد به عن محمدٍ، على ما هو الصحيح المعروف عند المُحدِّثين، وقد وردتْ لهم متابعاتٌ
(1)
لا يُعتَبرُ بها، وكذا لا يَسْلَمُ جوابُه في غير حديث عمر
(2)
.
قال ابن رُشَيْد
(3)
: ولقد كان يكفي القاضيَ في بُطلان ما ادّعى أنه شَرْطُ البخاري أولُ حديثٍ مذكورٍ فيه.
وادّعى ابن حِبّان
(4)
نقيضَ دعواه، فقال: إنّ روايةَ اثنين عن اثنين إلى أن ينتهي لا توجد أصلًا.
قلت: إنْ أراد أنّ روايةَ اثنين فقط عن اثنين فقط لا توجد أصلًا فيمكن
(1)
المتابعة: هي أن يرويَ حديثَ الراوي رجلٌ غيره من طريق الراوي الأول. وستأتي ص 73 - 74.
(2)
حديث "إنما الأعمال بالنيات. . ." أخرجه البخاري في مطلع صحيحه ومسلم في الإمارة: 6: 48، وإسنادهُ صحيح لِذَاته.
علقمة بن وقّاص الليثي ثقة ثَبْت، روى له الستةُ، ومحمد بن إبراهيم هو التيمي ثقةٌ أيضًا، وروى له الستةُ ويحيى بن سعيد الأنصاري ثقة.
(3)
محمد بن عمر بن محمد أبو عبد الله ابن رُشَيْد، ولد (657) بسَبْتَة وطلب العلم واستقر بِغَرْناطة فنشر العِلْمَ بها. كان فريدَ دهره عدالةً وجلالةً وحفظًا وأدبًا وسَمْتًا وهَدْيًا، رحل في البلاد، وفاق أقرانَه في علوم عصره، وعلومِ الحديث وصناعته. (ت 721). له مؤلفاتٌ كثيرة.
وقوله: "أولُ حديث مذكورٍ فيه": هو "إنّما الأعمالُ بالنيات" كما عرَفْتَ.
(4)
محمد بن حِبّان بن أحمد البستي، أبو حاتِم، الإمام العلامة الحافظ المجود شيخ خراسان ولد (270)، وكان من فقهاء الدين وحُفّاظ الحديث والآثار، عالمًا بالطب، وبالنجوم، وبعلوم زمانه كلِّها، وكان مصدرَ الفقه في سَمَرْقَنْدَ. زاد عددُ شيوخه على الألفين، أنكر قولَ المُشَبِّهة بإثبات الحدِّ لله تعالى، فأخرجوه من بلده. فقال العلماء: كان هؤلاء أولى بالإخراج. (ت 354): له كتب كثيرة أشهرها: كتابه المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع، وهو مرتب على طريقة فريدة (ط). والثقات (ط) والضعفاء (ط).
أن يُسَلَّمَ، وأمّا صورةُ العزيزِ التي حررناها فموجودةٌ بألّا يرويَه أقلُّ من اثنين عن أقلَّ من اثنين.
مثاله: ما رواه الشيخانِ من حديث أنس، والبخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده" الحديث. ورواه عن أنس قتادةُ وعبدُ العزيز بن صُهَيب، ورواه عن قتادةَ شُعْبَةُ وسعيدٌ، ورواه عن عبدِ العزيز إسماعيلُ ابن عُليَّةَ وعبدُ الوارثِ ورواه عن كُلّ جماعة
(1)
.
والرابع: الغريبُ: وهو ما يتفَرَّدُ بروايته شخصٌ واحدٌ في أيِّ موضِعٍ وَقَعَ التفرُّدُ به من السَّنَد، على ما سنَقْسِمُ إليه الغريبَ المُطْلَق والغريبَ النِّسْبِيّ.
وكلُّها أيْ الأقسامِ الأربعةِ المذكورةِ سِوى الأول -وهو المتواتِرُ- آحادٌ، ويُقال لكلٍّ منها خبرُ واحدٍ.
وخبرُ الواحدِ في اللُّغة: ما يرويه شخصٌ واحدٌ.
(1)
البخاري في الأيمان: 1: 8 ومسلم: 1: 49 واللفظُ رَوَيَاهُ عن أنس.
أنس: هو ابن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم (ت 93).
أبو هريرة: مشهور بكنيته، اسمه عبد الرحمن بن صخر الدَّوْسي، كان أكثر الصحابة رواية. (ت 59).
قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ثقة، أحفظ أهل البصرة (ت 118)، حديثه في الكتب الستة.
عبد العزيز بن صُهَيب ثِقَةٌ (ت 130) له في الستة.
شُعْبَةُ بن الحجاج: أبو بِسْطام، الإمام أمير المؤمنين في الحديث (ت 160). له في الستة.
سعيد بن أبي عَرُوبة: ثقةٌ حافظٌ، مُدَلِّس واختلَطَ، هو أَثْبَتُ الناسِ في قتادةَ (ت 156). روى له الجماعة.
إسماعيل ابن عُليّةَ: ثقةٌ حافظ. (ت 193). روى له الجماعة.
عبد الوارث بن سعيد: ثقة ثَبْت (ت 180). رَوَوا له أيضًا.
وفي الاصطلاح: ما لم يَجْمَعْ شروطَ التواتُر.
وفيها -أيْ الآحادِ- المقبولُ وهو ما يجب العملُ به عندَ الجمهور، وفيها المردودُ، وهو الذي لم يَرْجَحْ صِدْقُ المُخْبِر به، لتوقُّفِ الاستدلال بها على البحث عن أحوال رُواتِها، دونَ الأَوّلِ وهو المتواتِر فكلُّه مقبولٌ، لإفادته القَطْعَ بصِدْقِ مُخْبِرِه، بخلاف غيرهِ من أخبار الآحاد.
لكنْ إنما وَجَبَ العملُ بالمقبول منها لأنها إمَّا أنْ يوجدَ فيها أصلُ صفةِ القبول، وهو ثبوتُ صدقِ الناقِلِ
(1)
، أو أصلُ صفةِ الرَّدِّ، وهو ثبوتُ كَذِبِ الناقِلِ، أَوْ لا
(2)
.
فالأول: يَغْلِبُ
(3)
على الظَّنِّ صِدْقُ الخَبَرِ لِثُبُوتِ صِدْقِ ناقِلِه فيؤخَذُ به.
والثاني: يَغْلِبُ على الظَّنِّ كَذِبُ الخَبَرِ لِثُبُوتِ كَذِبِ ناقِلهِ فَيُطْرَحُ.
والثالث: إنْ وُجِدَتْ قرينةٌ
(4)
تُلْحِقُه بأحدِ القِسمين الْتَحَقَ، وإِلّا فَيُتَوَقَّفُ فيه، فإذا تُوُقِّف عن العمل به صار كالمردود، لا لِثُبُوتِ صفةِ الرَّدِّ، بَلْ لكونِه لم توجدْ فيه صفةٌ تُوجِبُ القبولَ، واللهُ أعلمُ.
(1)
قوله: "ثبوتُ صِدْقِ الناقِل": أي لِاتِّصافِه بالعدالةِ والضَّبْطِ.
(2)
قوله: "أوْ لا": أيْ أوْ لا يتصف بأصل صفة القبول ولا بأصل صفة الرَّدِّ، فيكون مُحتمِلًا للقبول والرد، مثل سيء الحفظ، والمجهول.
(3)
قوله: "يغلبُ على الظنِّ": المراد أنه يثبتُ في العِلْمِ ثبوتًا مُحتمِلًا لأن يكونَ فيه خطأُ الراوي، لكنّ هذا الاحتمالَ ضعيف فلا يؤخَذُ به. وهذا النوع من العلم يظنه العامَّةُ يقينًا، وقد تعجَّبَ بعضُ المُتَمَجْهِدين من تعبير العلماء بهذا، واعتَرضَ عليهم، فدَلَّ على أنه لا يُمَيِّزُ الِعلْمَ اليقيني القَطْعيَّ مِنْ عِلْمِ غَلَبَةِ الظَّنِّ، لِبُعْدِهِ عن أُصولِ العلمِ وموازينِ المعرفة ومراتِبهما، وأَعْجَبُ من ذلك استدلالُ بعضِ العصريين بالآيات التي تذمُّ اتباعَ الظن.
وهذا خلطٌ بين المعنى الذي قصدَه القرآنُ وهو اتباعُ الوَهْمِ والحَدْسِ بلا حُجَّةٍ ولا بُرهانٍ، وبين المعنى الذي قصدَهُ العلماءُ وهو معنًى اصطلاحيٌّ لنوعٍ من العِلْم الناشئ عن الدليل، لكن فيه احتمالٌ ضعيف. فلا قِيْمةَ لهذا الاحتمال. تَأمّلْ ذلك فإنه مهم.
(4)
قرينة: أي صفة أو حالة.
وقد يَقَعُ فيها أيْ في أخبارِ الآحادِ المنقسمةِ إلى: مشهورٍ، وعزيزٍ، وغريبٍ ما يفيد العِلْمَ النظريَّ بالقرائنِ على المُختار، خِلافًا لِمَنْ أبى ذلك. والخلافُ في التحقيقِ لفظيٌّ، لأنَّ مَنْ جَوَّزَ إطلاقَ العِلْمِ قَيّدَهُ بكونِهِ نظريًّا، وهو الحاصلُ عنِ الاستدلالِ، ومَنْ أبى الإطلاقَ خصَّ لفظَ العِلْمِ بالمتواتِر، وما عَدَاهُ عندَه ظَنِّيٌّ، لكنه لا ينفي أنَّ ما احْتَفَّ بالقرائنِ أَرْجَحُ ممَّا خَلا عنها.
والخبر المُحْتَفُّ بالقرائنِ
(1)
أنواعٌ:
منها: ما أخرجه الشيخانِ في صحيحيهما ممّا لم يبلغِ التواتُرَ، فإنّه احْتَفَّتْ به قرائنُ، منها:
- جلالتُهما في هذا الشأن.
- وتقدُّمُهما في تمييز الصحيح على غيرهما.
- وتَلَقِّي العلماءِ لكتابيهما بالقبول، وهذا التَّلَقِّي وحدَهُ أقوى في إفادة العِلْمِ من مُجرَّدِ كَثْرَةِ الطُّرُقِ القاصِرَةِ عن التواتُرِ. إلَّا أنّ هذا يَختصُّ بما لم ينتقدْهُ أحد من الحُفَّاظ ممّا في الكِتَابَين
(2)
، وبما لم يقَعِ التخالُف
(1)
المُحْتَفّ بالقرائن: أي الذي وُجدت له صفاتٌ أو أحوال تُقَوِّيه، وتنفي احتمالَ الخطأ والكذب عنه.
(2)
وعِدَّةُ ذلك مئتانِ وعشرةُ أحاديثَ، اشتركا في اثنينِ وثلاثينَ، واختَصَّ البخاري بثمانيةٍ وسبعين ومسلمٌ بمئة.
قال الحافظ ابن حجر في هَدْي الساري مقدمة فتح الباري: 345: "الجوابُ عنه على سبيل الإجمال أن نقولَ: لا ريبَ في تقديم البخاري ثُمّ مسلم على أهل عصرهما ومَنْ بعدَه مِنْ أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح، والمعلّل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المَدِيني كان أَعْلَمَ أقرانِهِ بعِلَلِ الحديث، وعنه أَخَذَ البخاري ذلك، حتى كان يقولُ: ما استصغرتُ نفسي عند أحدٍ إلا عند علي بن المَدِيني ومع ذلك فكان علي بن المَدِيني إذا بلغه ذاك عن البخاري يقول: دَعُوا قولَه فإنه ما رأى مِثْلَ نفسه، وكان محمد بن يحيى الذُّهلي أَعْلَمَ أهل عصره بعلل حديث الزُّهري، وقد استفاد ذلك منه الشيخانِ جميعًا. =
بين مدلولَيْه مما وقعَ في الكِتَابَيْن حيثُ لا ترجيحَ
(1)
، لِاستحالةِ أنْ يُفِيدَ المتناقضانِ العِلْمَ بصِدْقِهِما من غيرِ ترجيحٍ لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماعُ حاصِلٌ على تسليم صِحَّتِهِ.
فإنْ قيل: "إنّما اتفقوا على وجوبِ العملِ به لا على صِحَّتِه"، مَنَعْنَاهُ، وسنَدُ المنعِ
(2)
أنهم مُتَّفِقُونَ على وجوب العملِ بكل ما صحَّ ولو لم يُخْرِجْه الشيخانِ، فلم يَبْقَ لِلصحيحينِ في هذا مزيةٌ، والإجماعُ حاصِلٌ على أنَّ لهما مزيةً فيما يَرجعُ إلى نَفْسِ الصِّحَّةِ وممَّنْ صرَّحَ بإفادةِ ما خَرّجه الشيخانِ العِلْمَ النظري: الأستاذُ أبو إسحاقَ الإسفرائيني
(3)
، ومن أئمة الحديث أبو عبد الله الحُمَيْدي
(4)
وأبو الفضل بن طاهر
(5)
وغيرُهُما. ويَحْتَمِل أنْ يُقالَ: المزيَّةُ المذكورةُ كونُ أحاديثهما أصحُّ الصحيح.
= وروى الفِرَبْرِي عن البخاري قال: ما أدخلتُ في الصحيح حديثًا إلّا بَعْدَ أنِ استخرتُ اللهَ تعالى وتيقَّنْتُ صِحتَه، وقال مكي بن عَبْدَانَ: سمعتُ مسلم بن الحجاج يقول: عرضتُ كتابي هذا على أبي زُرعةَ الرازي فكل ما أشار أنَّ له عِلةً تركْتُه.
فإذا عُرِفَ ذلك وتَقَرَّرَ أنهما لا يُخرِجان من الحديث إلا ما لا عِلَّةَ له، أو له عِلَّةٌ غيرُ مؤثرةٍ عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما، يكون قولُه معارضًا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما، فيندفعُ الاعتراضُ من حيثُ الجملة".
(1)
التَّخَالُفُ: أنْ يَحتمِلَ الحديثُ معنيين فأكثر، ولا يترجَّحَ شيء من ذلك. وفي بعض النسخ "التجاذب"، والمعنى واحدٌ.
(2)
"منعناهُ": أي رفضْنَا قبوله، و"سند المنع": أي دليل هذا الرفض. . .
(3)
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، أبو إسحاق الإسفرائيني، فقيه شافعي، أصولي تبحَّرَ في علم الكلام وفي العلوم، بلغ رتبة الاجتهاد، (ت 418). له كتب منها: الرسالة في أصول الفقه.
(4)
محمد بن فَتُّوح الأزدي، ولد قبل (420) وأكثر الترحال، كان قليلَ المثال في نزاهته وعِفَّته وورعه، ظاهريًّا، إمامًا في الحديث وعلله (ت 488).
له: الجمع بين الصحيحين (ط)، وتاريخ الأندلس، وجمل تاريخ الإسلام.
(5)
محمد بن طاهر بن علي بن أحمد المقدسي الشيباني، أبو الفضل، عُرِفَ في وقته بابن القيسراني، ولد (448). مُحَدِّث حافظ رحَّالة صُوفيّ مُتكلِّم، انتُقِدَتْ عليه مسائلُ تساهل فيها. (ت 507).
له: شروط الأئمة الستة (ط)، وكتب أخرى.
ومنها
(1)
: المشهورُ إذا كانت له طرقٌ متباينةٌ سالمةٌ من ضَعْفِ الرُّواةِ والعِلَلِ، وممَّنْ صرَّحَ بإفادته العلمَ النظريَّ الأستاذُ أبو منصور البغدادي
(2)
والأستاذُ أبو بكر بن فُوْرَك
(3)
وغيرُهُما.
ومنها: المُسَلْسَلُ
(4)
بالأئمةِ الحُفَّاظِ المتقنين، حيث لا يكونُ غريبًا، كالحديث الذي يرويه أحمدُ بنُ حنبل
(5)
مثلًا ويشاركه فيه غيرهُ عن الشافعي
(6)
ويشاركه فيه غيرُه عن مالك بن أنس، فإنه يُفيد العِلْمَ عند
(1)
قوله: "ومنها" أي ومن أنواع الخبر الذي احتَفَّ بقرائنَ جعلَتْه يفيدُ العِلْمَ اليقينى النظريَّ الحديثُ المشهورُ. والمرادُ المشهورُ في اصطلاح المُحَدِّثين، وهو ما رَواه ثلاثةٌ فأكثر ولم يَبْلُغْ درجةَ التواتُرِ.
وهذا استثناءٌ مما سبقَ في حُكْمِ المشهور.
(2)
عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي الإسفرائيني البغدادي الشافعي، تلميذ أبي إسحاق الإسفرائيني، له اضطلاعٌ في علوم كثيرة، منها الفقه والأصول والحديث، درسَ سبعةَ عَشَرَ نوعًا من العلوم. (ت 429) ودُفِنَ إلى جنب شيخه. له مؤلفاتٌ كثيرة، منها الفَرْقُ بين الفِرَق (ط). والتحصيل في أصول الفقه.
(3)
محمد بن الحسن بن فُوْرَك الأصبهاني، أبو بكر المشهور بابن فُوْرَك، الأستاذ المتكلم الأصولي الأديب النحوي الواعظ، أحيا الله به أنواعًا من العلوم في نيسابور، وكان شديدَ الردِّ على الكَرَّاميّة المُجَسِّمَة والمُشَبِّهة، (ت 406) مسمومًا، تقارب مؤلفاتُه المئة.
(4)
المُسلسَل: الذي تتابع رواتُه على صِفة واحدة أو حالٍ واحدةٍ أو فعل، وسيأتي ص 122. والمراد هنا نوع منه، وهو الذي تتابع رواته بكونهم جميعهم من الأئمة الحفاظ، أو رجالِ أصحِّ الأسانيد، ولا يَتفرَّدُ هذا الإسنادُ بالحديث.
(5)
الإمام المُبجَّلُ العَلَمُ أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الله ولد (164)، وتبحَّر في العِلْمِ، وصار صاحبَ المذهب الفقهي، انتَصَرَ للسُّنَّةِ ومذهبِ السَّلَفِ، وامتُحِنَ مِحنةً شديدةً، (ت 241) روى له الشيخانِ وغيرُهما. من كتبه: المسند (ط)، وفضائل الصحابة (ط).
(6)
الإمام العَلَم محمد بن إدريس بن العباس الشافعي المُطَّلِبي، ولد (150)، وطار صيتُه في الآفاق لإمامته للمذهب المنسوب إليه. نهضَ بمنهج المُحَدِّثين وانتصر له، وأرسى قواعدَ مهمةً في قواعده وحجيته. (ت 204)، عُدَّ مُجَدِّدَ رأسِ المئتين. له "الرسالة" و"الأم" مطبوعان.
سامِعِه بالاستدلال من جهة جلالةِ رُواتِه وأنَّ فيهم من الصفات اللائِقَةِ الموجِبَةِ للقَبولِ ما يقوم مَقَامَ العددِ الكثيرِ من غيرهم، ولا يَتَشَكَّكُ مَنْ له أَدْنى ممارسةٍ بالعِلْمِ وأخبارِ الناس أنّ مالكًا مثلًا لو شافَهَهُ بخبرٍ أنه صادِقٌ فيه، فإذا انضافَ إليه مَنْ هو في تلك الدرجةِ ازدادَ قوةً، وبَعُدَ ما يُخْشَى عليه من السَّهْو.
وهذه الأنواعُ
(1)
التي ذكرناها لا يَحصُلُ العِلْمُ بصدق الخبر منها إلا للعالِمِ بالحديثِ المتبحِّرِ فيه العارفِ بأحوال الرواة، المُطَّلِعِ على العِلَلِ. وكونُ غيره لا يحصلُ له العِلْمُ بصدق ذلك -لقصوره عن الأوصاف المذكورة التي ذكرناها- لا يَنْفي حصولَ العِلْمِ للمتبحِّر المذكور.
ومُحَصَّلُ الأنواعِ الثلاثة التي ذكرناها أنّ:
الأوّلَ: يَختصُّ بالصحيحين.
والثانيَ: بما له طُرُقٌ متعدِّدَةٌ.
والثالثَ: بما رواهُ الأئمَّةُ.
ويمكن اجتماع الثلاثةِ في حديثٍ واحد، ولا يَبْعُدُ حينئذٍ القَطْعُ بصدقِه، واللهُ أعلمُ
(2)
.
ثُمَّ الغَرَابةُ
(3)
إمّا أنْ تكونَ في أصلِ السَّنَدِ: أي في الموضع الذي يدورُ
(1)
الأنواع: أي أنواعُ الحديثِ الذي احتَفَّ بالقرائنِ، وسيُعِيدُ المصنِّفُ ذِكْرَها بإيجاز اعتمادًا على ما سبق من الشرح فافهم ذلك.
(2)
جُمِعَتْ كُتُبٌ في الصحيح المتفق عليه بين البخاري ومسلم، ولم يُجمعْ شيءٌ من القسمين الآخرين مع سهولة ذلك، فلعل مَنْ يُطالِعُ كلامَنا هذا يتجه لهذا العمل المهم الحيوي. وبالله العون والتوفيق.
(3)
قوله: "ثم الغرابة": عائد للقسم الرابع الغريب السابق ص 50. وأراد بالغرابة: التفرد. والحديث الغريب هو الذي تفرد به راويه بأيِّ وجه من وجوه التفرد.
وقارن تسوية المصنف الفرد بالغريب مع أفراد القبائل والبلدان في ابن الصلاح:=
الإسنادُ عليه ويرجِعُ ولو تعدَّدَتِ الطُّرُقُ إليه، وهو طَرَفُهُ الذي فيه الصحابي، أو لا يَكونُ كذلك بأنْ يكونَ التفردُ في أثنائه، كأنْ يرويَه عن الصحابيّ أكثرُ من واحدٍ ثُمَّ ينْفَرِد بروايته عن واحد منهم شخصٌ واحد.
فالأول: الفَرْدُ المُطْلَقُ
(1)
:
كحديث النهي عن بَيْعِ الوَلاءِ وعن هِبَتهِ
(2)
، تفرَّدَ به عبدُ الله بن دينار عن ابن عمر، وقد يَنْفَرِدُ به راوٍ عن ذلك المنْفَرد، كحديث شُعَبِ الإيمان
(3)
، تفرَّدَ به أبو صالح عن أبي هريرةَ، وتفرَّدَ به عبدُ اللهِ بنُ دينار عن أبي صالح، وقد يستمر التفرُّدُ في جميع رُواتِه أو أكثرِهم. وفي مُسنَدِ
= 89 وغيره.
وقوله: "في أصل السند" أي التابعي، فإذا تفرَّدَ التابعي بالحديث فغرابتُه في أصل السند. كما يَتبينُ من كلام المصنِّف الآتي.
(1)
ويُطْلِقُ عليه المُحَدِّثونَ: الغريبَ سندًا ومتنًا، وهو الحديثُ الذي تفرَّدَ به راويه، لا يرويه أحدٌ غيرُه.
(2)
هو حديث "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بَيْع الوَلاءِ وعن هِبَتِه". البخاري في العتق: 3: 147 ومسلم: 4: 216 والترمذي: 3: 537 - 538 وفيه التنبيه على خطأ غير طريق ابن دينار، وأبو داود في الفرائض: 3: 137 والنَّسائي في البيوع: 7: 269. قال مسلم: "الناسُ كلُّهم عيالٌ على عبد الله بن دينار في هذا الحديث". وانظر إرشاد الساري شرح البخاري للقسطلاني: 4: 378.
والوَلاء: صلة بين السيد وعبده الذي أعتقه، وهو كلُحمة النَّسَبِ، أي القرابة في المودّة والنُّصْرَة.
عبد الله بن عمر بن الخطاب: الصحابي الجليل الإمام الوَرع (ت 73).
وابن دينار: هو مولى ابن عمر، ثقة (ت 127). روى له الجماعة.
(3)
هو حديث: "الإيمان بِضْعٌ وستون شُعْبَةً. . ." البخاري: 1: 7 ومسلم: 1: 46.
وأبو صالح هو السَّمَّان الزَّيَّاتُ: اسمه ذَكوان، ثقة ثبت (ت 101) روى له الستة.
البزار
(1)
والمعجم الأوسط للطبراني
(2)
أمثلةٌ كثيرةٌ لذلك.
والثاني: الفَرْدُ النِّسبِيُّ
(3)
:
سُمِّيَ بذلك لكونِ التفرُّدِ فيه حَصَلَ بالنسبة إلى شخصٍ مُعيَّنٍ، وإنْ كان الحديثُ في نَفْسه مشهورًا، ويَقِلُّ إطلاقُ الفردِيَّةِ عليه، لأنَّ الغريبَ والفَرْدَ مترادِفانِ لغةً واصطلاحًا، إلّا أنَّ أهلَ الاصطلاح غايروا بينهما من حيثُ كَثْرَةُ الاستعمالِ وقِلَّتُه، فالفردُ أكثرُ ما يُطلِقونه على الفرد المُطْلَقِ، والغريبُ أكثرُ ما يُطلِقونه على الفرد النِّسْبِيّ، وهذا من حيثُ إطلاقُ الاسمِ عليهما، وأمّا مِن حيثُ استعمالُهم الفعلَ المشتقَّ فلا يُفَرِّقُونَ، فيقولون في المُطْلَقِ والنِّسبِيّ: تفرَّدَ به فلانٌ، أو أغربَ به فلانٌ.
وقريبٌ مِنْ هذا اختلافُهم في المُنقطِعِ والمُرسَل هل هما متغايران أو لا؟ فأكثرُ المُحَدِّثين على التغايُرِ
(4)
لكنّه عندَ إطلاقِ الاسمِ، وأمّا عندَ استعمالِ الفعلِ المشتقِّ فيستعملون الإرْسالَ فقط، فيقولون:"أرسلَه فلانٌ"، سَواءٌ كان ذلك مُرسَلًا أَمْ مُنْقَطِعًا، ومن ثَمَّ أطلق غيرُ واحدٍ ممَّنْ لم يلاحظْ مواقعَ استعمالِهم على كثيرٍ من المُحَدِّثين أنَّهم لا يُغايرون بين
(1)
أحمد بن عَمرو بن عبد الخالق البصري، أبو بكر البزار، حافظ ثقة، رَحَلَ وحدَّثَ من حِفْظِه، فوقع له وَهَمٌ. (ت 292). له مسندان: كبير، وصغير.
(2)
سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني نسبةً إلى طبرية. ولد (260)، ورحل إلى البلاد، كان حافظَ عصرِه (ت 360). له المعاجمُ الثلاثةُ: الكبيرُ، والأوسطُ، والصغيرُ، مطبوعةٌ. والمعاجم: كتبُ حديث مرتبةٌ على أسماء الرواة حسبَ حروف المعجم، لكن الكبير مرتب على أسماء الصحابة.
(3)
ويُسمَّى: الغريبَ سندًا لا مَتْنًا. وهو الحديث الذي اشتهر بوروده من عدةِ طُرُق عن راوٍ أو رواة، ثم تفرد به راوٍ فرواه من وجه آخر غيرِ الراوي أو الرواة الذين اشتهر عنهم الحديث.
ويقول فيه الترمذي: "غريبٌ من هذا الوجه".
(4)
فيُطْلِقون المُرسَلَ على الحديث الذي رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يَذْكُرِ الواسِطَةَ، والمنْقَطِعَ على ما سَقَط منه راوٍ أو أكثرُ قَبْل الصحابي. أمّا إذا قالوا: أرسله فلان فيصلُحُ للأمرين كما أوضحه المصنِّف.
المُرسَلِ والمُنقَطِعِ، وليس كذلك لِمَا حرّرناهُ، وقَلَّ مَنْ نَبّهَ على النُّكتَةِ في ذلك، واللهُ أعلم.
وخبرُ الآحادِ بنقلِ عدلٍ تامِّ الضبطِ، متصلَ السند، غيرَ مُعَلَّل ولا شاذٍّ هو الصحيحُ لِذَاتِه.
وهذا أولُ تقسيمِ المقبول إلى أربعةِ أنواعٍ، لأنه إمّا أنْ يشتملَ من صفاتِ القبولِ على أعلاها أَوْ لا
(1)
.
الأول: الصحيحُ لِذَاته.
والثاني: إنْ وُجِدَ ما يَجْبُرُ ذلك القُصور ككثرة الطُّرُقِ
(2)
، فهو الصحيح أيضًا لكنْ لا لِذَاتهِ، وحيثُ لا جُبْرَانَ فهو الحسنُ لِذَاتهِ، وإنْ قامتْ قرينةٌ تُرَجِّحُ جانبَ قَبولِ ما يُتَوقَّفُ فيه فهو الحسنُ أيضًا لا لِذَاته. وقُدِّمَ الكلامُ على الصحيح لِذَاته لعلُوِّ رُتْبَتِهِ.
والمرادُ بالعَدْلِ: مَنْ له مَلَكَةٌ تَحْمِلُه على مُلازَمة التقوى والمروءة. والمراد بالتقوى: اجتنابُ الأعمالِ السيئة من شِرْكٍ أو فِسْقٍ أو بِدْعَةٍ.
والضَّبْطُ
(3)
:
- ضبطُ صَدرٍ: وهو أن يُثبتَ ما سَمِعَه بحيثُ يتمكَّنُ من استحضارِهِ متى شاء.
(1)
قوله: "أوْ لا": أي أوْ لا يشتمل الخبرُ على أعلى شُروطِ القَبولِ، ويتَحقَّقُ ذلك في الأحوال الآتية:
أن توجدَ شروطُ القبول في الحد الأدنى في الخبر، وهو الحسن.
أن يَتقوى هذا بطريق آخر مثله أو أقوى منه، فيصير صحيحًا لغيره.
أن يكون فاقدًا بعضَ شروطِ القبول، بحيث يكون ضعيفًا ضعفًا غيرَ شديد، ثم يتقوى من طريق آخر مثله أو أقوى منه فيصبح حسنًا لغيره.
(2)
وكذا إذا تقوّى بتلقي العلماءِ له بالقَبولِ، كما ذكر الشافعي في المُرسَل. وسيأتى ص 83.
(3)
الضبط: مَلَكَةٌ تؤهِّل الراوي لأنْ يرويَ الحديثَ كما سَمِعَه.
وضبطُ كتابٍ: وهو صِيانَتُه لَدَيْه منذُ سَمِعَ فيه وصحَّحَه إلى أنْ يُؤَدّيَ منه. وقُيِّد بالتامِّ
(1)
إشارةً إلى الرُّتبةِ العُليا في ذلك.
والمتصلُ: ما سَلِم إسنادُه مِنْ سُقوطٍ فيه بحيثُ يكونُ كلٌّ مِنْ رِجاله سمعَ ذلك المَرْوِيَّ من شيخه. والسَّنَدُ تقدَّمَ تعريفُه
(2)
.
والمُعَلَّلُ لغةً: ما فيه عِلَّةٌ، واصطلاحًا: ما فيه عِلَّةٌ خفيَّةٌ قادِحَةٌ.
والشاذُّ لغةً: المُنفردُ، واصطلاحًا: ما يُخالِفُ فيه الراوي مَنْ هو أَرْجَحُ منه. وله تفسيرٌ آخرُ سيأتي
(3)
.
تنبيه:
قولُه: "وخبرُ الآحادِ" كالجِنْس، وباقي قُيودِه كالفَصْلِ.
وقولُه: "بنقل عَدْلٍ" احترازٌ عمّا ينقلُه غيرُ عَدْلٍ.
وقولُه: "هو": يُسمَّى فَصْلًا يَتَوسَّطُ بين المبتدأ والخبر، يُؤْذِن بأنَّ ما بعده خبرٌ عمّا قَبْلَه وليسَ بنعتٍ له.
وقوله: "لِذَاتِه" يُخرِجُ ما يسمى صحيحًا بأمرٍ خارجٍ عنه كما تقدَّمَ.
وتتفاوتُ رُتَبُه أيْ الصحيحِ بسبب تفاوُتِ هذه الأوصافِ المقتضيةِ للتصحيحِ في القوةِ، فإنَّها لمّا كانتْ مفيدةً لِغَلَبَةِ الظَّنِّ الذي عليه مَدَارُ الصِّحَّةِ اقتضَتْ أنْ يكونَ لها درجاتٌ، بعضُها فوقَ بعضٍ بحَسَبِ الأمور
(1)
أي شرطَ في الضبط أن يكونَ تامًّا، للدلالة على أن المرادَ المرتبةُ العليا من الضبط. وهذه المرتبةُ هي شرطٌ من شروط الحديث الصحيح. أمّا الحسنُ فراويه خفَّ ضبطهُ، أي مُسْتَوفٍ شروطَ الضبطِ لكنْ في الحدِّ الأدنى من الضبط المقبول.
(2)
في مَطْلعِ الكِتَاب ص 41 وانظر ص 37 تعليقًا.
(3)
عَرَّفَ الشَّاذَّ بأنه ما يُخالِفُ فيه الراوي مَنْ هو أَرْجَحُ منه. والمشهورُ في الشاذِّ أنه ما يُخالِفُ فيه الراوي الثقةُ مَنْ هو أرجحُ منه. وانظر ما ذكر أنه سيأتي في ص 71 وانظر 104.
المُقَوِّية، وإذا كان كذلك فما تكونُ رُوَاتُه في الدرجة العليا من العدالة والضبط وسائر الصفاتِ التي تُوجِبُ الترجيحَ كان أصحَّ ممَّا دونَه.
فمِنَ الرُّتبةِ العُليا في ذلك ما أَطْلَقَ عليه بعضُ الأئمَّةِ أنَّه أصحُّ الأسانيدِ
(1)
:
كالزُّهْرِي عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه.
وكمحمد بن سيرين عن عَبِيدَةَ بن عمرو عن علي.
وكإبراهيمَ النَّخَعِيّ عن علقمةَ عن ابن مسعود
(2)
.
ودونَها في الرُّتبةِ:
كرواية بُرَيْدِ بنِ عبدِ الله بن أبي بُرْدَةَ عن جَدِّه عن أبيه أبي موسى.
وكحَمّاد بن سَلَمَةَ عن ثابتٍ عن أنس
(3)
.
(1)
أي أصحُّ الأسانيدِ كُلِّها.
(2)
ومثل: مالك عن نافع عن ابن عمر، المعروفة بسلسلة الذهب، انظر ص 65.
ونُوضِّح أسماءَ هؤلاء الحفاظ الأَجِلّاء رجال هذه الأسانيد الأئمة فيما يأتي:
الزُّهرِيُّ محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أَعْلَمُ الحُفَّاظِ، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الإمامِ مِنَ الفُقَهاءِ السبعة، عن أبيه الصحابي الجليل.
محمد بن سيرين الإمام، عن عَبِيدَةَ بن عَمْرو السّلْماني التابعي وأَوْثَقُ الرواة عن علي بن أبي طالب الخليفة الراشدي إمام الهدى.
إبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه الحافظ، عن علقمة بن قيس النخعي الثقة الثَّبْت الفقيه العابد، عن عبد الله بن مسعود الصحابي السابق إلى الإسلام.
مالك بن أنس إمامُ الأَثَرِ، عن نافع الثّبْت الثقة الفقيه، عن ابن عمر، ونافع هو مولى ابن عمر، وملازم له فهو على هذا أقوى فيه.
(3)
بُريد ثقة يُخطئ قليلًا، وجدّه ثقة، ووالد جدّه الصحابي أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس.
وحمَّادُ بن سَلَمة ثقة عابد أَثْبَتُ الناس في ثابت، وثابتٌ هو ابن أَسْلَمَ البُناني، عن أنس بن مالك الصحابي.
ودونَها في الرُّتبةِ:
كسُهَيل بن أبي صالحٍ عن أبيه عن أبي هريرة.
وكالعلاء بن عبدِ الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة
(1)
.
فإنَّ الجميعَ شَمِلَهُم اسمُ "العدالةِ والضبطِ" إلا أنَّ المرتبةَ الأولى فيهم مِنَ الصفاتِ المُرَجِّحَةِ ما يقتضي تقديمَ روايتِهم على التي تليها، وفي التي تَليها من قوةِ الضبطِ ما يقتضي تقديمَها على الثالثة، وهي -أيْ الثالثةُ- مُقَدَّمَةٌ على رواية مَنْ يُعَدُّ ما يَنْفَرِدُ به حَسَنًا:
كمحمدِ بنِ إسحاقَ عن عاصمِ بنِ عُمَرَ عن جابر.
وعَمْرو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّه
(2)
. وقِسْ على هذه المراتبِ ما يُشْبِهُها.
والمرتبةُ الأولى هي التي أَطلقَ عليها بعضُ الأئمةِ أنها أصحُّ الأسانيدِ.
والمُعْتَمَدُ عَدَمُ الإطلاقِ لترجمةٍ معينةٍ منها
(3)
.
(1)
سهيل بن أبي صالح، وثقه الذهبي وقال ابن حجر:"صدوق. . ."، وأبوه ذكوان ثقة. وكان سهيل يُمَيِّزُ ما سمِعَه من أبيه، وما سَمِعَه من جماعة عن أبيه. تهذيب: 4: 264.
والعلاء بن عبد الرحمن، قال الترمذي: ثقة عند أهل الحديث، وقال أبو حاتم: أُنْكِرَ عليه أشياء. وأبوه عبدُ الرحمن بن يعقوب ثقةٌ.
(2)
محمد بن إسحاق بن يسار إمام المغازي، وَثَّقَهُ بعضُ الأئمَّة، وتَكَلَّمَ فيه بعضُهم، وحسَّنَ بعضُهم حديثَه. وشيخُه عاصمُ بن عمرَ بن قتادةَ: ثقة عالِم بالمغازي، عن جابر بن عبد الله الصحابي الشهير.
وعَمرو بن شعيب وَثَّقَهُ كثيرٌ من المُحَدِّثينَ، وتَكَلَّمَ بعضُهم فيه، وقال الذهبي: حديثهُ فوقَ الحَسنِ، وأبوه شُعَيْبُ بن محمد بن عبد الله بن عمرو، وثَّقَه ابن حبَّان، وقال ابن حجر:"صَدُوقٌ سَمِع من جده عبد الله. . . . .". وعبد الله بن عمرو بن العاص صحابيٌّ مُكثِرٌ من الرواية كان يكتب كلَّ ما يسمَعُ من النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذان الإسنادان صحيحان عند طائفة من المُحَدِّثِينَ، وهما في أعلى رُتْبَةِ الحديث الحسن.
(3)
المُعتَمَدُ ألّا يُحْكَمَ لترجمةٍ معينةٍ أيْ سِلْسِلَةِ سَنَدٍ معينةٍ أنها أصحُّ الأسانيدِ كلِّها، =
نَعَمْ يُسْتَفَادُ مِن مجمُوع ما أَطْلَقَ عليه الأئمةُ ذلك أَرْجَحِيَّتُه على ما لم يُطْلِقُوه.
ويَلْتحِقُ بهذا التفاضل ما اتَّفقَ الشيخانِ على تخريجه
(1)
بالنسبة إلى ما انفردَ به أحدُهما، وما انفردَ به البخاريُّ بالنسبة إلى ما انفرد به مسلمٌ، لاتِّفَاقِ العلماءِ بعدَهما على تلقِّي كتابَيْهِما بالقَبولِ، واختلافِ بعضِهم في أَيِّهما أرجَحُ. فما اتفقا عليه أرجحُ مِنْ هذه الحيثية مما لم يتفقا عليه.
وقد صرَّحَ الجمهورُ بتقديم صحيحِ البخاري في الصِّحَّةِ ولم يوجدْ عن أحدٍ التصريحُ بنقيضِه.
وأمّا ما نُقِلَ عن أبي علي النيسابوري
(2)
أنه قال: "ما تحتَ أديمِ السماءِ أَصَحُّ من كتاب مُسْلِمٍ" فلمْ يُصَرِّح بكونه أصحَّ من صحيح البخاري لأنه إنما نفى وجودَ كتابٍ أصحَّ من كتاب مسلم، إِذِ المنفيُّ إنما هو ما تقتضيه صيغةُ أَفْعَلَ مِنْ زيادةِ صِحَّةٍ في كتابٍ شاركَ كتابَ مُسْلِمٍ في الصِّحَّةِ يمتازُ بتلك الزيادة عليه ولم يَنْفِ المساواةَ.
وكذلك ما نُقِلَ عن بعض المغاربةِ أنّه فَضَّلَ صحيحَ مُسْلِمٍ على صحيح البخاري فذلك فيما يرجعُ إلى حُسْنِ السياق وجَوْدَةِ الوضع والترتيب، ولم يُفْصِحْ أحدٌ منهم بأنَّ ذَلك راجعٌ إلى الأصَحِّيَّة، ولو أَفصحوا به لردَّه عليهم شاهِدُ الوجودِ.
= لأنه يعِزُّ وجودُ أعلى درجاتِ القَبولِ في كلِّ واحدٍ من رجال السَّنَدِ الواحد، لذلك أَخَذَ المتأخِّرونَ بالاحتياطِ وحَكَموا بأصحِيَّة الأسانيد بالنسبة لبلدٍ مُعَيَّنٍ، أو صحابيٍّ معين، أو راوٍ معين.
(1)
هذا تفضيلٌ بحسبِ المرجع الذي خَرّج الحديثَ، أمّا التفضيلُ السابق فهو بحسَبِ قوةِ الإسناد، والتفضيلُ بحسَبِ قوة الإسناد أعلى ولا شكَّ.
(2)
الحسين بن علي بن يزيد النيسابوري، أبو علي، وُلد (277) ورَحَل وعظُمَتْ شُهْرَتُه، كان أَوْحَدَ زمانِه في الحِفْظ والإتقانِ والورعِ والمذاكرة والتصنيف (ت 349).
فالصفاتُ التي تدورُ عليها الصِّحَّةُ في كتاب البخاري أَتَمُّ منها في كتابِ مُسْلِمٍ وأَشَدُّ، وشرطُه فيها أقوى وأسَدُّ.
أمّا رُجْحانُه من حيثُ الاتصالُ: فَلِاشتراطِه أنْ يكونَ الراوي قد ثَبَتَ له لِقاءُ مَنْ روى عنه ولو مَرَّة، واكتفى مُسْلِمٌ بمُطْلَقِ المُعاصَرَة، وألزمَ البخاريَّ
(1)
بأنه يحتاجُ ألّا يَقْبَلَ العنعنةَ أصلًا، وما ألزمَهُ به ليس بلازمٍ لأنّ الراويَ إذا ثَبَتَ له اللقاء مرةً لا يجري في رواياتِه احتمالُ ألّا يكونَ سَمِعَ، لأنه يَلْزَمُ من جريانِه أنْ يكونَ مُدَلِّسًا
(2)
، والمسألةُ مفروضةٌ في غير المُدَلِّس.
وأمّا رُجْحانُه مِنْ حيثُ العدالةُ والضبطُ: فلأنّ الرجالَ الذين تُكُلِّمَ فيهم مِن رجالِ مُسلمٍ أكثرُ عددًا من الرجال الذين تُكُلِّمَ فيهم مِنْ رجالِ البخاري
(3)
، مع أنّ البخاريَّ لم يُكْثِرْ مِن إخراجِ حديثِهم، بل غَالِبُهم من شيوخه الذين أَخذ عنهم ومارس حديثَهم، بخلافِ مُسلمٍ في الأمرين.
وأمّا رُجحانُه من حيثُ عدمُ الشذوذِ والإعلالِ: فلأنَّ ما انْتُقِدَ على البخاري من الأحاديث أقلُّ عددًا مما انْتُقِدَ على مسلمٍ
(4)
.
(1)
"وألزمَ البخاريَّ": مرادهُ ألزم مسلمٌ البخاريَّ بأنه يجب على رأيه هذا ألّا يَقْبَلَ المعنعنَ أصلًا، أي الحديثَ الذي فيه فلانٌ عن فلان، لكنّ الواقعَ أنّ البخاريَّ يقبلُ المعنعنَ وكذا غيرَه من الأئمة أيضًا. فدَلَّ ذلك على بُطْلانِ هذا المذهب.
والذي تبين لكاتب السطور بالبحث أنّ مسلمًا لا يقصدُ البخاريَّ في كلامه المشارِ إليه، بل يقصدُ غيرَه، وقد وافقني على ذلك بعضُ المحققينَ في هذا العصر بالمذاكرة معه.
(2)
المُدَلِّس: هو الراوي الذي يستعمل عبارةً تُوهِمُ سماعَ ما لم يَسمَعْ. وسيأتي مفصلًا ص 85.
(3)
رجالُ البخاري أربع مئة وبضع وثمانون رجلًا تُكُلِّم في ثمانين منهم بالضعف، أمّا رجالُ مسلمٍ فَسِتُّ مئة وعشرون، تُكُلِّمَ في مئة وستين. فكان البخاري أَرْجَحَ من هذه الناحية، وإن كان الكلامُ أي النقدُ الذي صدر على رواتهما غيرَ مؤثرٍ. وانظر لقط الدرر:45.
(4)
انتقد على الصحيحين مئتان وعشرة أحاديث، انفرد البخاريُّ بثمانية وسبعين حديثًا، وانفرد مسلم بمئة، واشتركا في الباقي.
هذا مع اتفاق العلماءِ على أنَّ البخاريَّ كانَ أجلَّ مِنْ مُسْلمٍ في العلوم، وأعرفَ بصناعةِ الحديثِ منه، وأنَّ مُسلمًا تلميذُه وخِرّيجُه ولم يزلْ يستفيدُ منه ويتَّبِعُ آثارَه، حتى لقد قال الدارقطنيُّ
(1)
: "لولا البخاريُّ لَمَا راحَ مُسلمٌ ولا جاءَ".
ومِنْ ثَمَّ أي مِنْ هذه الحيثية -وهي أرجحيَّةُ شرطِ البخاري على غيره- قُدِّمَ صحيحُ البخاري على غيره من الكتب المصنَّفة في الحديث.
ثُمَّ صحيحُ مُسلمٍ، لِمُشاركتِه للبخاري في اتفاق العلماءِ على تلقّي كتابهِ بالقَبول أيضًا سِوى ما عُلِّلَ.
ثُمَّ يُقَدَّمُ في الأرجحيَّة من حيثُ الأصَحِّيَّةُ ما وافقَه شَرْطُهُما، لأنَّ المرادَ به رواتُهما مع باقي شروط الصحيحِ، ورواتُهما قد حَصَلَ الاتفاقُ على القول بتعديلهم بطريق اللُّزومِ، فهُمْ مُقَدَّمُونَ على غيرِهم في رواياتهم، وهذا أصلٌ لا يُخْرَجُ عنه إلّا بدليل
(2)
.
فإنْ كانَ الخبرُ على شرطِهما معًا كان دونَ ما أخرجَه مُسلِمٌ أو مِثْلَه.
وإنْ كان على شرطِ أحدِهما فَيُقَدَّمُ شرطُ البخاري وحدَه على شرط مُسلِمٍ وحْدَهُ تبعًا لأصل كلٍّ منهما، فخَرَجَ لنا من هذا سِتَّةُ أقسامٍ تتفاوتُ درجاتُها في الصِّحَّةِ.
وثَمّ قِسمٌ سابعٌ وهو ما ليس على شرطهما اجتماعًا وانفرادًا، وهذا
(1)
علي بن عمر بن أحمد الدارقطني البغدادي، أبو الحسن، وُلد (306)، وأكبّ على طلب العلم، ورحل في الآفاق ودخل مصر فاتسعت روايتُه، حتى كان أَعْلَمَ أهل زمانه بالحديث ورجالِه وعِلَلِه، وكان فقيهًا ومُقْرِئًا، (ت 385). له كتب كثيرة يطول ذكرها منها: السنن (ط)، المؤتلف والمختلف (ط). العلل (ط).
(2)
هذا حُكْمٌ إجماليٌّ راعى فيه الحافظُ ابن حجر الإيجاز، وهناك تفصيلٌ في الاحتجاج بروايات رجال الصحيحين التي ليست في الصحيحين، وهو أن تلاحظَ كيفيةَ روايةِ كلٍّ من الشيخين لهذا الراوي واحتجاجِه به. التدريب: 1: 128.
التفاوتُ إنما هو بالنظر إلى الحيثية المذكورة
(1)
.
أمّا لو رَجَحَ قِسْمٌ على ما هو فوقَه بأمور أخرى تقتضي الترجيحَ فإنه يُقَدَّمُ على ما فوقَه، إذْ قد يَعْرِضُ لِلمَفُوْقِ ما يجعلُه فائقًا، كما لو كان الحديثُ عند مُسلِمٍ مثلًا وهو مشهورٌ قاصِرٌ عن درجة التواتُرِ لكنْ حفَّتْهُ قَرينةٌ صار بها يُفيدُ العِلْمَ، فإنه يُقَدَّم على الحديث الذي يخرجُه البخاري إذا كان فَرْدًا مطلقًا، وكما لو كان الحديث الذي لم يخرِّجاه من ترجمةٍ وُصِفَتْ بكونها أصحَّ الأسانيدِ كمالِكٍ عن نافعٍ عن ابن عمر، فإنه يُقَدَّمُ على ما انفردَ به أحدُهما مثلًا، لا سيِّما إذا كان في إسناده مَنْ فيه مَقَالٌ.
فإنْ خَفَّ الضبطُ أي قَلَّ -يُقال: خَفَّ القومُ خُفوفًا: قَلُّوا- والمرادُ مع بقية الشروط المتقدِّمة في حدِّ الصحيح فهو الحَسَنُ لِذَاتِه
(2)
، لا لِشيءٍ خارجٍ وهو الذي يكون حُسْنُه بسبب الاعتِضَادِ، نحو حديثِ المستورِ إذا
(1)
أي إنه صحيحٌ ليس على شرطهما ولا شرط أحدهما، فهو في الرُّتبة الأخيرة، لذلك عدَّهُ القِسْمَ السابع.
ثم أشار المصنِّف إلى أن هذا الترتيب في الأفضلية إجماليٌّ فقال: "إنما هو بالنظر إلى الحيثية المذكورة" وهي تخريج الحديث في الصحيحين أو أحدهما، أو أن يكونَ على شرطهما أو شرط أحدهما. . .
وهذا التفضيلُ إجماليٌّ، أي إنَّ جملةَ أحاديثِ البخاري أصحُّ من جملة أحاديث مُسلمٍ وهكذا. . . ولا يلزَمُ من ذلك أنَّ كلَّ حديثٍ في البخاري أصحُّ من كلِّ حديث في مسلم، وقد عَرَضَ المصنِّفُ لذلك فيما يأتي فتنبَّه.
(2)
الحَسَنُ لِذَاتِه: هو الحديثُ الذي اتصل سندُه بنقل عَدْلٍ خَفَّ ضبطُه ولم يكنْ شاذًّا ولا مُعَلَّلًا.
فهو كالصحيح، لكنْ بفارق واحد وهو أنه خفَّ ضبطهُ، أي استوفى شرطَ الضبطِ المقبول في الحدِّ الأدنى.
وقولهُ بعد ذلك: "لا لشيء خارج" تفسيرٌ للحَسَنِ لِذَاتِه، وقولُه:"وهو الذي يكون حُسْنُه بسبب الاعتضاد" تفسير لقوله: "لشيء خارج". فالحسن لشيء خارج هو الذي يكون حُسْنُه بسبب الاعتضاد أي التقوية، وهو الحَسَنُ لغيره.
وضَربَ له مثالًا حديثَ المستور إذا تعدَّدَتْ طُرُقُه، والمستورُ هو الذي روى عنه ثِقَتانِ ولم يُعَدَّلْ ولم يُجْرَحْ.
تعددَتْ طُرُقُه، وخَرَجَ باشتراط باقي الأوصافِ الضعيفُ.
وهذا القِسْمُ من الحسنِ مشاركٌ للصحيح في الاحتجاج به وإنْ كان دونَه، ومشابِهٌ له في انقسامه إلى مراتبَ بعضُها فوقَ بعض.
وبكثرة طُرُقِه يُصَحَّح، وإنما نحكم له بالصحة عند تعدُّدِ الطُّرُقِ، لأنَّ للصورة المجموعة قوةً تَجْبرُ القدرَ الذي قَصُرَ به ضبطُ راوي الحَسَنِ عن راوي الصحيح، ومِنْ ثَمَّ تُطْلَقُ الصِّحَّةُ على الإسناد الذي يكون حسنًا لذاته لو تفرَّدَ إذا تعدَّدَ
(1)
.
وهذا حيثُ ينفردُ الوصفُ
(2)
.
فإن جُمِعا أيْ الصحيحُ والحَسَنُ في وصفٍ واحدٍ كقَوْل الترمذي وغيرِه "حديثٌ حَسَنٌ صحيح" فَلِلترَدُّدِ الحاصِلِ من المجتهد في الناقِل، هل اجتمعَتْ فيه شروطُ الصحة أو قَصرَ عنها، وهذا حيثُ يحصلُ منه التفرُّدُ بتلك الرواية. وَعُرِفَ بهذا جوابُ مَنِ استشكلَ الجَمْعَ بين الوصفَيْن فقال: الحَسَنُ قاصِرٌ عن الصحيح، ففي الجمع بين الوصفين إثباتٌ لذلك القصور ونَفْيُه؟؟
ومُحَصَّلُ الجواب: أنَّ تردُّدَ أئمةِ الحديث في حال ناقِلِه اقتضى للمُجتهدِ ألّا يصفه بأحد الوصفين، فيُقال فيه: حَسَنٌ باعتبار وصفه عند قوم صحيحٌ باعتبار وصفه عند قوم، وغايةُ ما فيه أنه حُذِفَ منه حرفُ التردُّدِ لأنَّ حقَّه أنْ يقولَ:"حَسَنٌ أو صحيحٌ"، وهذا كما حُذِفَ حرفُ
(1)
أي إنّ الصحةَ تُطْلَقُ على الحديث المتعدِّد السَّنَدِ الذي يُوصَفُ بالحُسْنِ بمفرده من غير تعدُّدٍ.
(2)
قوله: "وهذا حيث ينفرد الوصف" أي وهذا المعنى الذي شرحه للصحيح والحَسَن حيث ينفرد الوصف، أي حيث يوصف الحديث بلفظ صحيح فقط أو حَسَن فقط، من غير صفة أخرى، فإن وُصِفَ بكلمة "حَسَن" مع صفة أخرى:"حسن صحيح" أو "حسن غريب" أو "حسن صحيح غريب" فله تفسير آخر يأتي عند المصنِّف وقد بدأ بالحَسَن الصحيح.
العطف من الذي بعدَه
(1)
، وعلى هذا فما قيل فيه: حَسَنٌ صحيح دونَ ما قيل فيه: صحيحٌ، لأنَّ الجزمَ أقوى من التردُّدِ، وهذا حيثُ التفرُّدُ
(2)
، وإلا إذا لم يحصلِ التفردُ فإطلاقُ الوصفين معًا على الحديث يكونُ باعتبار إسنادَين أحدُهما صحيحٌ والآخرُ حَسَن، وعلى هذا فما قيل فيه: حَسَنٌ صحيح فَوْقَ ما قيل فيه صحيحٌ فقط إذا كان فردًا، لأنّ كثرةَ الطُّرقِ تُقَوِّي.
فإنْ قيلَ: قد صَرَّحَ الترمذيُّ بأنَّ شَرْطَ الحَسَنِ أنْ يُرْوَى من غير وَجْهٍ. فكيفَ يقولُ في بعض الأحاديثِ: "حَسَنٌ غريبٌ لا نَعْرِفُه إلّا من هذا الوجه"؟ ..
فالجوابُ: أنّ الترمذيَّ لمْ يُعَرِّفِ الحَسَنَ مطلقًا، وإنما عَرَّف نوعًا
خاصًّا منه وقع في كتابه، وهو ما يقول فيه:"حَسَنٌ" من غير صفةٍ
أخرى، وذلك أنه يقولُ في بعض الأحاديث: حَسَنٌ، وفي بعضها:
صحيحٌ، وفي بعضها: غريبٌ، وفي بعضها: حَسَنٌ صحيح، وفي
بعضها حَسَنٌ غريب، وفي بعضها صحيحٌ غريب، وفي بعضها حَسَنٌ
صحيحٌ غريب، وتعريفهُ إنما وقع على الأول فقط، وعبارتُه تُرشِدُ إلى
ذلك حيثُ قال في آخر كتابه
(3)
: "وما قُلْنا في كتابنا: حديثٌ حَسَنٌ فإنما
أردنا به حُسْنَ إسنادِه عندَنا: كلُّ حديثٍ يُرْوَى لا يكونُ راويه مُتَّهمًا بِكَذِبٍ
(1)
أي مثلُ حذف حرف واو العطف من الحديث الذي رُوِي بإسنادين وقال الترمذي فيه "حسن صحيح" فإن الأصل فيه "حسن وصحيح" فحَذَف الواو، وسيتحدث عنه الحافظُ بعد هذا في قوله "وإلا. . .".
(2)
أي هذا التفسير بأنّ الكلام على تقدير "حَسَنٍ أو صحيح" حيثُ يتفرَّدُ السندُ بالحديث، ولا يكون له سندٌ آخر.
وإلّا: أي إذا لم يحصلِ التفردُ، بل تعدَّدَ سندُ الحديث، فيكونُ الكلامُ على تقدير "حسن وصحيح".
(3)
في كتاب العلل: 1: 340 من شرح ابن رجب وانظره لِزامًا. وتعريفه هذا ينطبق على الحسن لغيره. انظر ما يأتي ص 105.
ويُرْوَى من غير وجهٍ نحو ذلك ولا يكون شاذًّا فهو عندنا حديثٌ حَسَنٌ".
فَعُرِفَ بهذا أنه إنما عَرَّفَ الذي يقول فيه: حَسَنٌ فقط، أمّا ما يقولُ فيه حَسَنٌ صحيح، أو حَسَنٌ غريب، أو حَسَنٌ صحيحٌ غريب، فلَمْ يُعَرِّجْ على تعريفه كما لم يُعَرِّجْ على تعريف ما يقولُ فيه:"صحيحٌ" فقط أو "غريبٌ" فقط، وكأنه تَرَكَ ذلك استغناءً لِشُهْرَتِه عندَ أهلِ الفنِّ. واقتَصَرَ على تعريف ما يقولُ فيه في كتابه: حَسَنٌ فقط إمّا لِغُموضِه، وإمّا لأنه اصطلاحٌ جديد، ولذلك قيَّدَهُ بقوله:"عندَنا" ولم يَنْسِبْه إلى أهل الحديث كما فَعَلَ الخَطَّابيُّ
(1)
. وبهذا التقريرِ يندفعُ كثيرٌ من الإيرادات التي طالَ البحثُ فيها ولم يُسْفِرْ وَجْهُ توجيهِها، فَلِله الحمدُ على ما ألْهَمَ وعَلَّم.
وزيادةُ راويهما -أي الصحيحِ والحسنِ- مقبولةٌ، ما لم تقعْ منافيةً لرواية مَنْ هو أوثَقُ ممن لم يَذْكُرْ تلكَ الزيادةَ
(2)
، لأنَّ الزيادةَ إمّا أنْ تكونَ لا تَنَافِيَ بينها وبين رِواية مَنْ لم يَذْكُرْها فهذه تُقْبَلُ مُطْلَقًا، لأنها في حُكْمِ الحديثِ المُستقِلّ الذي يَنفرِدُ به الثقةُ ولا يرويه عن شيخه غيرُه، وإمّا أنْ تكونَ منافيةً بحيثُ يَلْزَمُ مِنْ قَبولِها رَدُّ الرِّوايةِ الأُخرى
(3)
، فهذه التي يقعُ
(1)
حَمْدٌ (على وزن المصدر) ابن محمد بن إبراهيم بن الخَطَّاب البُسْتي، الخَطَّابِيّ أبو سليمان، وُلد (319) في بُسْت من بلاد كابل في أفغانستان. فقيه جليل ومُحدِّث حافظ، شافعي المذهب (ت 388). له كتب كثيرة نافعة منها: معالِم السنن (ط)، وغريب الحديث (ط) وإصلاح غلط المحدثين (ط).
والذي فعله الخطابي أنه ذَكَر تعريفَ الحديث الحسن ونَسبَ التعريفَ إلى أهل الحديث. انظر معالم السنن شرح مختصر سنن أبي داود: 1: 11.
فدل صنيعُه على أنه يُعَرِّفُ الحسنَ عند المُحَدِّثينَ عامَّةً، أمّا الترمذيُّ فقد صرَّحَ بقوله "وما قُلناه في كتابنا" ثم قال "فهو عندنا حديثٌ حسن" فدلَّ على أنَّه يُعَرِّف الحسنَ في كتابه وحَسَبَ اصطلاحِهِ هو. واللهُ أعلمُ.
(2)
هذا شُرُوعٌ في زيادةِ الثقة: وهي: ما يتفرَّدُ به الثقةُ في رواية الحديث من لفظة أو جملة في المتن أو السند.
والكلامُ الآتي عند المصنف في زيادة المتن.
(3)
ذَكَرَ قِسمين لزيادة الثقة يتضمنان قسمًا ثالثًا، وهذه الأقسام هي:=
الترجيحُ بينها وبين مُعَارِضِها فَيُقْبَلُ الراجِحُ وَيُرَدُّ المرجوحُ.
واشتَهَرَ عن جمعٍ مِنَ العلماءِ القولُ بقبولِ الزيادة مُطْلَقًا من غير تفصيلٍ، ولا يتأتَّى ذلك على طريق المُحَدِّثين الذين يشترِطُونَ في الصحيح ألّا يكونَ شاذًّا ثم يُفَسِّرونَ الشذوذَ بمخالفة الثقةِ مَنْ هو أوثَقُ منه.
والعَجَبُ ممن أغفلَ ذلك منهم مع اعترافه باشتراطِ انتفاءِ الشذوذِ في حدِّ الحديثِ الصحيحِ وكذا الحَسَنِ
(1)
.
والمنقولُ عن أئمَّةِ الحديث المتقدِّمينَ كعبدِ الرحمن بن مهدي
(2)
،
= 1 - أنْ تكونَ الزيادةُ غيرَ منافيةٍ للحديث أصلًا، فهذه تُقبَلُ، لأنها في حكم حديثٍ مستقل تفرد به الثقةُ، فإنه يُقبلُ منه.
2 -
أنْ تخالفَ الزيادةُ ما رواه الثقاتُ، فهذه تُرفَضُ، لأنها من نوع الشاذ، وسَبَقَ اشتراطُ عدمِ الشذوذِ في الصحيح والحسن.
3 -
ما يقع بين هاتين المرتبتين كزيادة لفظة تُقَيِّدُ إطلاقَ الحديث، أو تُخَصِّصُ عمومَه. وفيها خلافٌ، أشار الحافظُ إلى أنها تُقبَلُ، فإنه قال في الزيادة المرفوضة "منافيةً بحيثُ يَلْزَمُ من قبولها رَدُّ الروايةِ الأخرى". وهذا القسم الثالث لا يَلْزَمُ من قبوله رَدُّ الرواية الأخرى، فيُقْبَلُ، وهو مذهبُ الشافعي ومالك وأحمد.
ولم يَقْبلْ أبو حنيفةَ هذا القسمَ، لأنَّ الزيادةَ لمّا غَيَّرتِ الحُكْمَ الأصليَّ أصبحَتْ من نوع الزيادةِ المعُارِضَة.
مثال ذلك حديث نُعَيْمٍ المُجْمِرِ: "صليتُ وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن،. . . الحديث" رواه النسائي (2: 334) وصححه ابن خُزَيمة (1: 251). تفرد نُعَيْمٌ المُجْمِرُ بزيادة الجهر بالبسملة، وهو ثقة، وغيرُه لم يذكر الجهرَ بها.
وجه تردد هذا المثال بين القِسْمين أنه يُشْبِه الأول لموافقته على قراءة البسملة، ويُشْبِه الثاني لزيادة الجهر بها، وهو نوع مخَالفة تؤثر في الحكم، فقال الشافعية: يُسَنُّ الجهرُ بها، وخالفَ الجمهورُ وفسّروا الحديثَ بأنه سمعها لقُربِه. انظر إعلام الأنام:506.
(1)
واعْجَبْ أكثَرَ من ذلك من بعض الكاتبين العصريين في هذا العلم كيف يطلق قبول زيادة الثقة من غير شروط، وقد سبق له قبل قليل اشتراطُ عدم الشذوذ في الصحيح والحسن. لكنَّ متابعتَه العمياء لابن حزم جعلته لا يدري ما يَصْدُر عنه.
(2)
عبد الرحمن بن مهدي بن حسان البصري. وُلد (135)، وكان من الربَّانيين في=
ويحيى القَطَّان
(1)
، وأحمدَ بن حنبل، ويحيى بن مَعين
(2)
، وعليّ بن المديني
(3)
، والبخاري
(4)
، وأبي زُرْعَة
(5)
، وأبي حاتِم
(6)
، والنَّسَائي
(7)
، والدارَقُطني، وغيرِهم: اعتبارُ الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ولا يُعْرَفُ عن أحدٍ منهم إطلاقُ قبولِ الزيادة.
وأَعْجَبُ من ذلك إطلاقُ كثيرٍ من الشافعية القولَ بقبولِ زيادةِ الثقة، مع أنّ نصَّ الشافعي يَدُلُّ على غير ذلك، فإنه قال -في أثناء كلامه على ما يُعْتَبَرُ به حالُ الراوي في الضَّبط ما نصُّه-: "ويكونُ إذا شرِكَ أحدًا
= العِلْم، أحدَ المشهورين بالحفظ ومعرفة الأثر وطرق الروايات، (ت 198) حديثُه في الكتب الستة.
(1)
يحيى بن سعيد بن فرُّوخ، أبو سعيد القَطَّان البَصْريّ، وُلد (120)، وإليه المنتهى في التثبُّت بالبصرة، ثقة مُتقِن حافظ إمام قُدوة وَرعٌ خاشِعٌ متواضِع. (ت 198) حديثُه في الكتب الستة.
(2)
يحيى بن مَعين بن عون أبو زكريا البغدادي، الإمام الفرد سيد الحفاظ، إمام أهل الجَرْح والتعديل. (ت 233) حديثه في الستة. من كتبه: التاريخ والعلل (ط)، ومعرفة الرجال (ط).
(3)
علي بن عبد الله بن جعفر ابن المديني البَصْري، أبو الحسن الإمام، أعلم أهل عصره بالحديث وعِلله، (ت 234). روى له الستة إلا مسلمًا وإلا ابنَ ماجه فإنه روى له التفسير. كتبه كثيرة جدًّا في فنون الحديث سبق إلى كثير منها، بنى عليها اللاحقون.
(4)
البخاري هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المُغِيرة الجُعْفِي، أبو عبد الله، جَبَلُ الحِفظ، وإمام الدنيا في فقهِ الحديث، (ت 256) في شوال وله اثنتان وستون سنة، روى له الترمذي والنَّسائي.
(5)
عبيد الله بن عبد الكريم الرازي أبو زُرعة. وُلد (190) وقيل (200)، كان أحدَ الأئمة في الحديث ورجاله وعِلَله، زاهدًا عابدًا. (ت 264).
(6)
محمد بن إدريس الحنظلي، أبو حاتِم الرازي، وُلد (195)، مُحدِّث حافظ إمام في الحديث ورجاله وعِلَله من أقران البخاري ومسلم، روى عنه جماعةٌ من الأئمة أشهرُهم ابنهُ عبد الرحمن (ت 277).
(7)
أحمد بن شعيب بن علي بن سِنان، أبو عبد الرحمن النَّسائي ولد (215) ورحل إلى الآفاق، من أئمة الحديث الكبار (ت 303).
له: السُّنن الكبرى (ط) و"المُجتَبى" مُختصَر منه (ط) والضعفاء والمتروكين (ط) وعمل اليوم والليلة (ط)، وهو جزء من السنن الكبرى.
من الحُفَّاظ لم يخالِفْهُ، فإنْ خالفَه فَوُجِدَ حديثُه أَنْقَصَ كان في ذلك دليلٌ على صِحة مَخْرَجِ حديثه. ومتى خَالَفَ ما وَصَفْتُ أَضَرّ ذلك بحديثه" انتهى كلامه، ومُقتضاهُ أنه إذا خالفَ فَوُجِدَ حديثُه أَزْيَدَ أَضرَّ ذلك بحديثه، فدل على أن زيادَة العَدْلِ عندَه لا يَلزمُ قَبولُها مُطْلَقًا وإنما تُقْبلُ من الحُفَّاظ، فإنه اعتبر أنْ يكونَ حديثُ هذا المُخَالِفِ أَنْقَصَ مِن حديث مَنْ خَالفَه مِنَ الحُفّاظ وجَعَلَ نُقْصَانَ هذا الراوي من الحديث دليلًا على صحته، لأنه يدلُّ على تحرّيه، وجعل ما عدا ذلك مُضِرًّا بحديثه فدخلَتْ فيه الزيادةُ، فلو كانَتْ عندَهْ مقبولةً مُطْلَقًا لم تكُنْ مُضِرَّةً بصاحبها.
فَإِن خُولِفَ بأرجحَ منه لمزيد ضَبْطٍ أو كثرةِ عددٍ أو غيرِ ذلك من وجوه الترجيحات فالراجحُ يُقَالُ له: "المحفوظُ".
ومُقَابِلُه وهو المرجوحُ يُقَالُ له: "الشاذُّ".
مثالُ ذلك: ما رواه الترمذيُّ
(1)
والنَّسائيُّ وابنُ ماجَهْ
(2)
من طريق ابنِ عُيَيْنَة عن عَمْرو بنِ دينارٍ عن عَوْسَجَةَ عن ابن عباسٍ "أَنّ رجلًا تُوُفِّيَ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يَدَعْ وارِثًا إلَّا مَولًى هو أَعْتَقَه. . ." الحديثَ
(3)
، وتابَعَ
(1)
الترمذي: محمد بن عيسى بن سَوْرَةَ الترمذي أبو عيسى، ولد (209) ورَحَلَ ولَزِمَ البخاريَّ زمانًا وتخرَّجَ به، إمام حافظ ورع، كُفَّ بصرُه في آخر عمره لكثرة بكائه خشية من الله (ت 279)، له: الجامع المعروف بسنن الترمذي، والشمائل، والعلل، وكلُّها مطبوعة.
(2)
وابن ماجه هو محمد بن يزيد القزويني ولد (209)(ت 273) وماجه لَقَبُ أبيه. كان إمامًا حافظًا سَمِعَ منه الكبارُ وصنَّفَ التصانيفَ: أشهرُها: "السُّنَنُ" وهو أحدُ الأصول الستة (ط).
(3)
تمامُ الحديث "فأعطاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ميراثَه".
أخرجه أبو داود (ميراث ذَوِي الأرحام) 3: 124، والترمذي 4: 423 وابن ماجه (915) وقد بيَّن الترمذي أنَّ عملَ الفقهاءِ على خلافِ ظاهرِ الحديث، وكذا ابنُ رجب في شرح العلل: 1: 15، وبيَّن ابنُ قتيبة أعذارًا في ذلك في تأويل مُخْتَلِفِ الحديث.
ابنَ عُيَيْنَةَ على وصلِه ابنُ جُرَيْج وغيرُهُ، وخالفَهم حمّادُ بنُ زيد
(1)
، فرواه عن عمرو بن دينار عن عوسجةَ ولم يَذْكُرِ ابنَ عباس. قال أبو حاتِم:"المحفوظُ حديثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ". انتهى.
فحمّادُ بنُ زيدٍ من أهل العدالة والضبط ومع ذلك رجَّحَ أبو حاتِم روايةَ مَنْ هم أكثرُ عددًا منه.
وعُرِفَ من هذا التقرير أنَّ الشاذَّ: ما رواه المقبول مخالِفًا لِمَنْ هو أولى منه، وهذا هو المُعْتَمَدُ في تعريف الشاذِّ بحسَبِ الاصطلاح.
وإنْ وقعتِ المُخَالَفَةُ مع الضَّعْفِ فالرَّاجِحُ يُقَالُ له المعروفُ، ومُقَابِلُه يقالُ له المُنْكَرُ
(2)
.
مِثالُه: ما رواه ابنُ أبي حاتِم
(3)
من طريق حُبَيِّبِ بن حَبيب -وهو أخو
(1)
نترجم بإيجاز لأعلام رواة الحديث:
- ابن عُيَيْنَةَ: هو سفيان بن عُيَيْنَة بن ميمون الهلالي الكوفي ثم المكي أبو محمد ثقة حافظ، فقيه إمام حُجَّة، كان أعلمَ الناسِ بحديث أهل الحجاز (ت 198). حديثه في الستة.
- عمرو بن دينار المكي، محدث مكة، ثقة ثَبْتٌ (ت 126) حديثه في الستة.
- عَوْسَجَةُ المكي، مولى ابن عباس، ليس بالمشهور، ووثقه أبو زرعة، كما في تهذيب السنن للمنذري: 4: 175. روى له الأربعة.
- عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم حَبْرُ الأُمّة وتُرجُمَانُ القرآن (ت 68).
- ابنُ جُرَيْجٍ هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثقة حافظ فقيه إمام. أَوَّلُ مَنْ صنَّفَ التصانيف بمكة، يُرْسِلُ ويُدَلِّسُ (ت 150)، حديثه في الستة.
- حمّاد بن زيد بن درهم البَصْري قال ابن مَعين: ليس أحدٌ أثبتَ من حمّاد بن زيد (ت 179) روى له الستة.
(2)
المعروف: ما رواه القوي مخالفًا الضعيف. والمُنكر: ما رواه الضعيف مخالفًا القوي. وأطلق كثير من المتقدمين المنكر على الفرد، ولو كان راويه ثقة. منهج النقد برقم 79 ص 430. وانظر ما يأتي ص 92.
(3)
عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس التميمي الحنظلي الرازي أبو محمد، ولد (240) وارتحل به أبوه أبو حاتم فأدرك الأسانيدَ العالية، أَخذ عِلْمَ أبيه وعِلْمَ=
حمزَةَ بنِ حَبيبٍ الزَّيَّاتِ المقُرئ- عن أبي إسحاقَ عن العَيْزَار بن حُرَيْثٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أقامَ الصلاةَ وآتَى الزكاةَ وحجَّ وصامَ وقَرَى الضيفَ دَخَلَ الجنَّةَ".
قال أبو حاتِم: هو مُنْكَرٌ لأنَّ غيرَه من الثِّقاتِ رواه عن أبي إسحاقَ موقوفًا وهو المعروف.
وعُرِفَ بهذا أنَّ بَيْنَ الشاذِّ والمُنْكَرِ عُمومًا وخُصوصًا مِنْ وَجْهٍ
(1)
، لأنَّ بينهما اجتماعًا في اشتراط المُخالَفَةِ وافتراقًا في أنَّ الشاذَّ رِوايةُ ثِقةٍ أو صَدُوقٍ، والمُنْكَرَ رِوايةُ ضعيفٍ، وقد غَفَلَ مَنْ سَوَّى بينهما
(2)
، واللهُ تعالى أعلَمُ.
وما تقدَّمَ ذِكْرُه
(3)
من الفَرْدِ النِّسْبِي إنْ وُجِدَ بَعْدَ ظَنِّ كَوْنِه فردًا قد وافقَه غيرهُ فهو المتابِعُ بكَسْرِ المُوَحَّدَة.
و
المتابَعَةُ
(4)
على مراتِبَ:
= أبي زُرعة، وكان إمامًا بحرًا في العلوم، زاهِدًا، وكان يُعَدُّ من الأبدالِ (ت 327)، أشهرُ كتبه الجَرْح والتعديل (ط) يَشْهَدُ بعلو مرتبتِه، والعِلَلُ (ط) يَشْهَدُ بعُمْقِ نظرِهِ، وله غيرهما.
والحديث المذكور رواه في كتاب العلل: 2: 182، لكنْ فيه:"قال أبو زُرعة: هذا حديث مُنْكَر، إنما هو عن ابن عباس موقوف". انتهى.
فحُبَيِّب بن حَبيب رواه مرفوعًا، وغيرُه من الثقات رواه موقوفًا أي من كلام ابن عباس، فحُكِمَ على حديث حُبَيِّبٍ هذا بأنه مُنْكَر، لأن حُبَيِّبًا خالف الثقاتِ، وهو ضعيف جدًّا، وَهَّاهُ أبو زرعة، وتركه ابنُ المبارك. لسان الميزان: 2: 174. وشكلُه على غير المثبت سهْو فتَنبَّه.
(1)
العموم والخصوص مِنْ وَجْه، ويُسمَّى أيضًا العمومَ والخصوصَ الوجهي، هو أن يشتركَ لفظان أو أكثر في صفة، ثم يفترقَ كلُّ واحدٍ بخصلةٍ يَختصُّ بها دونَ غيرِه.
(2)
لعله يريد الإمام ابن الصلاح. انظر علوم الحديث: 80 - 81 وتعليقنا عليه.
(3)
ص 57.
(4)
المُتَابَعَة: هي موافقةُ الراوي لغيره فيما رواه من طريق الصحابي نفسِه. وتُفيد المتابعةُ التقويةَ بقِسْمَيْها الآتيين.
- إنْ حَصَلَتْ للراوي نَفْسِه فهي التامَّةُ.
- وإنْ حَصَلَتْ لِشَيْخِهِ فَمَنْ فَوْقَه فهي القَاصِرَةُ.
ويُستَفَادُ منها التقويةُ.
مثالُ المتابَعَةِ: ما رواه الشافعيُّ في "الأمّ"
(1)
عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمرَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشهرُ تِسْعٌ وعِشرون، فلا تصوموا حتى تَرَوا الهلالَ، ولا تُفْطِروا حتى تَرَوْهُ، فإنْ غُمَّ عليكم فأَكْمِلوا العِدَّةَ ثلاثين".
فهذا الحديثُ بهذا اللفظ ظَّنَّ قومٌ أنّ الشافعي تفردَ به عن مالك، فعدُّوه في غرائبه، لأنَّ أصحابَ مالِكٍ رَوَوه عنه بهذا الإسناد بلفظ:"فإنْ غُمَّ عَلَيْكُم فاقْدُروا له". لكنْ وَجدنا للشافعي مُتَابِعًا وهو عبدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ
(2)
، كذلك أخرجَه البخاريُّ
(3)
عنه عن مالك، وهذه متابَعَةٌ تامّة.
ووجدْنَا له أيضًا متابَعَةً قاصِرَةً في صحيح ابن خُزَيْمَة من رِوايةِ عاصِم بن محمد عن أبيه محمد بن زيدٍ عن جدِّه عبد الله بن عمر بلفظ: "فكَمِّلُوا ثلاثينَ"، وفي صحيح مُسلِمٍ
(4)
من رواية عُبَيْد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "فاقْدُروا ثلاثينَ".
ولا اقتصارَ في هذه المُتَابَعَةِ -سواءٌ كانَتْ تامّةً أمْ قاصِرَةً- على اللفظ، بل لو جاءَتْ بالمعنى كَفَى، لكنّها مُختصَّةٌ بكونها من رواية ذلك الصحابي.
(1)
الأمّ في أول الصيام: 2: 94.
(2)
عبد الله بن مَسْلَمَةَ بن قَعْنَب القَعْنَبِي أبو عبد الرحمن البَصْري، حافظ عابِد زاهِد، أَثْبَتُ الناس في الموطّأ. (ت 221) روى له الستة إلا ابنَ ماجه.
(3)
في الصوم: 3: 27.
(4)
في الصوم: 3: 122.
وإنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُرْوَى مِن حديثِ صحابيٍّ آخَرَ يُشْبِهُه في اللفظ والمعنى أو في المعنى فقط فهو
الشاهِد
(1)
.
ومثالُه في الحديث الذي قدَّمْنَاهُ: ما رواه النَّسائيُّ
(2)
من رِوايةِ محمد بن حُنَيْن عن ابنِ عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذَكَرَ مِثْلَ حديثِ عبدِ الله بن دينارٍ عن ابنِ عُمَرَ سَواءً، فهذا باللفظ.
وأمَّا بالمعنى فهو ما رواه البخاريُّ
(3)
من رِواية محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ: "فإنْ غُمِّيَ عَليْكُم فأَكْمِلُوا عِدَّة شَعْبانَ ثلاثين".
وخَصَّ قومٌ المتابعةَ بما حَصَلَ باللفظِ سواءٌ كان من رواية ذلك الصحابيِّ أَمْ لا، والشاهدَ بما حَصَلَ بالمعنى كذلك.
وقد تُطْلَقُ المتابعةُ على الشاهِدِ، وبالعكس، والأمرُ فيه سَهْل
(4)
.
واعلَمْ أنّ تَتَبُّعَ الطُّرُقِ من الجوامع والمسانيد والأجزاء
(5)
لذلك الحديثِ الذي يُظَنُّ أنه فَرْدٌ ليُعْلَمَ هل له متابِعٌ أم لا هو الاعتبارُ.
وقولُ ابنِ الصلاح "معرفةُ الاعتبارِ والمُتابَعات والشواهد" قد يُوهِمُ أنَّ الاعتبارَ قَسِيمٌ لهما
(6)
، وليس كذلك بل هو هيئةُ التوصُّلِ إليهما.
(1)
الشاهد: هو الحديث الذي يوافق حديثًا آخر في اللفظ أو المعنى من رواية صحابي آخر.
(2)
في الصوم: 2: 109. ومحمد بن حُنَين تابعي لم يرو عنه غير عمرو بن دينار. روى له النسائي.
(3)
الموضع السابق.
(4)
لأن المقصود التقوية، وهي حاصلة بكل منهما.
(5)
الجامع: هو كتاب الحديث المرتب على الأبواب، والذي يضم أحاديث في كل الأبواب. مثل الجامع الصحيح للبخاري.
المسند: كتاب مرتب على أسماء رواة الحديث من الصحابة.
الجزء: تأليف حديثي في مسألة جزئية، وقد يكون في حديث.
(6)
"قَسِيم لهما": أي قسم مقابل للمتابعات والشواهد، متمم لهما، وليس الاعتبار كذلك، "بل هو هيئة التوصل إليهما": أي كيفية التوصل إليهما، وهو البحث والتفتيش والمذاكرة ..
وجميع ما تقدَّمَ من أقسام المقبول تَحصُلُ فائدةُ تقسيمهِ باعتبارِ مَراتِبهِ عند المعارَضَةِ، واللهُ أعلَمُ.
ثُمَّ المقبولُ ينقسِمُ أيضًا إلى معمولٍ به وغيرِ معمولٍ به، لأنه إنْ سَلِم من المُعارَضَةِ أيْ لم يَأْتِ خبرٌ يُضَادُّهُ فهو المُحْكَم
(1)
، وأمثلتهُ كثيرة.
وإنْ عُورِضَ فلا يخلو إمّا أنْ يكونَ مُعارِضُه مقبولًا مِثْلَه أو يكونَ مردودًا.
فالثاني لا أَثَرَ له لأنَّ القويَّ لا يُؤثِّرُ فيه مُخالَفَةُ الضعيف.
وإنْ كانَتْ المعارَضَةُ بِمثلِه فلا يخلو إمّا أنْ يُمْكِنَ الجَمْعُ بين مدلولَيْهِما بغَيْرِ تَعَسُّفٍ أو لا، فإنْ أَمْكَنَ الجَمْعُ فهو النوعُ المُسَمَّى مُختَلِفَ الحديث
(2)
.
ومَثّلَ له ابنُ الصلاح
(3)
بحديث: "لا عَدْوَى ولا طِيَرَة"، مع حديث:"فِرَّ مِنَ المَجْذُوم فِرارَكَ مِنَ الأسد" وكلاهُما في الصحيح وظاهرُهما التعارض.
ووَجْهُ الجَمْعِ بينهما: أنّ هذه الأمراضَ لا تُعْدِي بطبعها لكنّ الله سبحانه وتعالى جعلَ مُخالَطَةَ المريضِ بها لِلصحيحِ سببًا لإعدائه مَرَضه،
(1)
المُحْكَم: الحديث الذي لا يعارضه خبرٌ ولا دليل آخر.
وقد أفرده الحاكِمُ نوعًا في معرفة علوم الحديث: 129 - 130.
(2)
ويُسمَّى أيضًا مُشْكِل الحديث. وهو: ما تعارض ظاهِرُه مع القواعدِ فأَوْهَمَ معنًى باطلًا، أو تعارض مع نصٍّ شرعي آخر. وانظر ص 99.
(3)
علوم الحديث: 285. وحديث "لا عدوى" متفق عليه: البخاري في الطب: 7: 138 و 139 ومسلم في السلام: 7: 30 - 34 وحديث: "فِرّ من المجذوم" في البخاري: 7: 126 ضمن حديث "لا عدوى" بلفظ "كما تَفِرُّ".
ثم قد يَتخلَّفُ ذلك عن سببه كما في غيره من الأسباب. كذا جَمَعَ بينهما ابن الصلاحِ تَبَعًا لغيره.
والأَوْلى في الجمع أنْ يُقالَ: إنَّ نَفْيَه صلى الله عليه وسلم للعدوى باقٍ على عُمومه، وقد صحَّ قولهُ صلى الله عليه وسلم:"لا يُعْدِي شيءٌ شَيْئًا"
(1)
، وقولُه صلى الله عليه وسلم لمن عارضه بأنَّ البعيرَ الأجربَ يكونُ في الإبل الصحيحة فيخالِطُها فتَجْرَبُ، حيث رَدَّ عليه بقوله:"فَمَنْ أَعْدَى الأَوّلَ؟! ". يعني أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى ابتدأَ ذلك في الثاني كما ابتدأَهُ في الأول.
وأمّا الأمرُ بالفِرَارِ من المَجْذوم فمِنْ باب سَدِّ الذرائع، لئلّا يتفقَ للشخص الذي خالطه شيءٌ من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداءً لا بالعدوى المَنْفِيَّة، فيَظُنَّ أنَّ ذلك بسبب مُخالطَتِه فيعتقدَ صِحةَ العَدْوى فيقعَ في الحَرَج، فأمر بتجنُّبِه حَسْمًا للمادة. واللهُ أعلم
(2)
.
وقد صنَّفَ في هذا النوعِ الشافعيُّ كتابَ "اختلاف الحديث"، لكنه لم يَقْصِدِ استيعابَه، وصنَّفَ فيه بعدَهُ ابنُ قُتَيْبَةَ
(3)
والطَّحَاوِيُّ
(4)
وَغَيْرُهما.
وإنْ لم يُمكنِ الجمعُ فلا يخلو إمّا أن يُعْرَفَ التاريخُ أَوْ لا، فإنْ عُرِفَ وثَبَتَ المُتأخِّرُ به أو بأصْرَحَ منه فهو الناسِخُ والآخرُ المنسوخُ.
(1)
حديث: "لا يُعْدِي شيء" الترمذي: 4: 450 - 451 وسكت عليه، وفيه مبهم، انظر ص 100.
(2)
جوابُ ابن الصلاح أقوى، وهو أنسب لتفسير الأمر باجتناب المخالَطة بين المريض والصحيح. وقيل:"لا عدوى" خبر أريد به النهي، أي لا يُعْدِ أحدٌ غيره.
(3)
عبد الله بن مسلم بن قتيبة، أبو محمد، من أئمة اللغة والأدب، ومن أهل السنة، ولد (213)، (ت 276). كان لسانَ أهل السنة وخطيبهم في الرد على أهل البدع كثيرَ التصانيف. منها: الشعر والشعراء، مشكل القرآن، غريب القرآن، تأويل مُختَلِف الحديث وله فيه ردودٌ غيرُ مقبولةٍ أحيانًا. وكلُّها مطبوعة.
(4)
أحمد بن محمد بن سَلَامَة، الأَزْدِي الطَّحَاوِيّ، أبو جعفر، وُلد (239) وقيل (229) إمام في الفقه الحنفي، من المُحَدِّثين الحُفّاظ الأثبات الجهابذة، بَرَعَ وفَاقَ أهلَ زمانه (ت 321) له مصنفاتٌ قيمة منها: أحكام القرآن، ومعاني الآثار (ط)، ومشكل الآثار (ط).
والنسخُ: رَفْعُ تَعَلُّقِ حُكْمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّرٍ عنه.
والناسخُ ما دلَّ على الرفع المذكور.
وتسميتهُ ناسخًا مجازٌ لأنَّ الناسخَ في الحقيقة هو اللهُ تعالى.
ويُعْرَفُ النسخُ بأمور:
أَصْرَحُها ما ورد في النص كحديث بُرَيْدَةَ في صحيح مُسْلِمٍ
(1)
: "كنتُ نَهَيْتُكم عن زيارةِ القبورِ فَزُورُوها فإنها تُذَكِّرُ الآخرةَ".
ومنها ما يَجْزِمُ الصحابيُّ بأنه مُتَأخِّرٌ، كقول جابرٍ:"كان آخرُ الأمرينِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَ الوضوءِ ممّا مَسَّتِ النار" أخرجه أصحابُ السُّنَن
(2)
.
ومنها ما يُعْرَفُ بالتاريخ وهو كثير
(3)
.
وليس منها ما يرويه الصحابيُّ المتأخِّرُ الإسلامِ مُعَارِضًا لِمُتَقَدِّمٍ عنه، لاحتمال أنْ يكونَ سَمِعَهُ من صحابىٍّ آخَرَ أقْدَمَ من المتقدِّم المذكور أو مِثْلِهِ فأرْسَلَهُ، لكنْ إنْ وقَعَ التصرِيحُ بسماعه له من النبي صلى الله عليه وسلم فيتجه أن يكونَ ناسِخًا بشرطِ أنْ يكونَ لم يَتحمَّلْ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا قبلَ إسلامه.
(1)
3: 65 وأبو داود: 3: 218 والترمذي: 3: 370 والنسائي: 8: 310 - 311 وابن ماجه: 1: 501. واللفظ المذكور قريب لابن ماجه، ليس في مسلم "فإنها. . . .".
(2)
أبو داود: 1: 49 والنسائي: 1: 90. وصححه ابن خزيمة وابن حِبّان وغيرهما.
وله شواهد كثيرة.
(3)
ذكروا مثالًا له حديثَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَفْطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُومُ". أخرجه أبو داود: 2: 208 وابن ماجه: 1: 537 عن شداد بن أوس، وأبو داود عن ثوبان، والترمذي: 3: 144 عن رافع بن خديج وصححه. مع حديث ابن عباس "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم احتجَمَ وهو مُحرِمٌ صائِمٌ" البخاري في الطب: 7: 125. والترمذي 3: 146 - 147 وصحَّحه.
بيَّنَ الشافعي أنَّ الثاني ناسِخٌ للأول، لأنه روي في حديث شدَّاد أنه كان عامَ الفتح، وفي حديث ابن عباس "مُحرِمٌ صائِمٌ" وهذا كان في حَجَّة الوداع، وهي بعد الفتح، فيكون الثاني ناسخًا للأول.
وأمَّا الإجماعُ فليس بناسخٍ بل يدلُّ على ذلك
(1)
.
وإن لم يُعْرَفِ التاريخُ
(2)
فلا يخلو إمّا أنْ يُمكنَ ترجيحُ أحدِهما على الآخرِ بوجهٍ من وُجوهِ الترجيح المُتعلِّقَة بالمَتْن أو بالإِسنادِ أوْ لا. فإنْ أمكنَ الترجيحُ تعيَّنَ المصيرُ إليه، وإلَّا فَلا.
فصار ما ظاهِرُه التعارُضُ واقعًا على هذا الترتيب:
- الجَمْعُ إنْ أمكَنَ.
- فاعتبارُ الناسِخِ والمنسوخِ.
- فالترجيحُ إنْ تَعَيَّنَ.
- ثُمَّ التوقُّفُ عن العمل بأَحدِ الحديثَين. والتعبيرُ بالتوقُّف أولى من التعبير بالتساقُط، لأنَّ خَفَاءَ ترجيحِ أحدِهما على الآخَرِ إنَّما هو بالنسبة للمعتَبِرِ
(3)
في الحالة الراهِنَة مع احتمالِ أنْ يظهرَ لغيره ما خَفِيَ عليه. واللهُ أعْلَمُ
(4)
.
(1)
وقد أورد الحافظُ ابنُ رَجَبٍ جملةَ أحاديثَ اتفق العلماءُ على عدم العمل بها، مثل التيمم إلى المناكب والآباط، و"من غسّل ميتًا فلْيَغْتَسِلْ". وهي مجموعةٌ مهمة، انظرها في شرح علل الترمذي: 1: 9 وما بعد، وانظر تعليقَنا عليها لِزامًا.
(2)
هذا معطوف على قوله السابق ص 77: "فإن عرف. ." أي التاريخ.
(3)
المعتبر: أي الباحث.
(4)
هذا وينبغي على طالِب العِلْمِ أن يعتنيَ بدراسة ما يَرِدُ من سؤال أو إشكال على الأحاديث أو الآيات القرآنية، دِفاعًا عن الدين، ولِتعميقِ الفَهْمِ في كتاب الله وحديث رسول الله، ولِشَحْذِ الذِّهْنِ في ذلك.
وقد عُني العلماءُ ببيانِ وجوهِ الترجيحِ بين الأحاديث وأَوْرَدَ الحازِميّ منها خمسين وجهًا (في الاعتبار: 11 - 27) وأَوْصَلَها العِراقيُّ في نُكَتِه على ابن الصلاح إلى أكثرَ من مئة، ثم ضبطها السيوطي بتقسيمٍ جيّدٍ حصرها في سبعة أقسام رئيسية وهي:
1 -
الترجيح بحال الراوي: من كثرة الرواة، أو فقه الراوي أو نحو ذلك.
2 -
الترجيح بالتحمُّل: كترجيح التحمُّلِ تحديثًا على العَرْضِ، والعَرْضِ على الكتابة أو المنُاوَلَةِ أو الوِجَادة.
3 -
الترجيح بكيفية الرواية: كترجيح المَحْكي بلفظه على المحكي بمعناه.=
ثُمَّ المردودُ
(1)
:
ومُوجِبُ الرَّدِّ إمّا أَنْ يكونَ لِسَقَطٍ من إسنادٍ أو طَعْنٍ في راوٍ على اختلاف وجوه الطعن، أعمُّ من أنْ يكونَ لأمرٍ يَرْجِعُ إلى دِيانة الراوي أو إلى ضَبْطه.
فالسَّقَطُ إمَّا أَنْ يكونَ مِن مبادئ السَّنَدِ مِن تَصَرُّفِ مصنِّف، أو من آخره، أي الإسنادِ بعدَ التابعي، أو غير ذلك.
فالأول: المُعَلَّقُ، سواءٌ كان الساقِط واحدًا أَمْ أكثرَ
(2)
.
وبينه وبين المُعضَل الآتي ذِكْرهُ عمُومٌ وخصوصٌ مِنْ وجهٍ، فمِنْ حيثُ تعريفُ المُعْضَلِ بأنه: سَقَطَ منه اثنانِ فصاعدًا يَجْتمعُ مع بعض صُوَرِ المُعَلَّقِ، ومِنْ حيثُ تَقْيِيْدُ المُعَلَّقِ بأنه مِن تَصَرُّفِ مُصَنِّفٍ من مبادِئ السَّنَدِ يَفْتَرِق منه؛ إذْ هو أعمُّ مِنْ ذلك
(3)
.
= 4 - الترجيح بوقت الورود: كترجيح المَدَنِيّ على المكيّ.
5 -
الترجيح بلفظ الخبر: كترجيح الخاصِّ على العامِّ، والحقيقةِ على المجاز.
6 -
الترجيح بالحكم: كترجيح الدَّالِّ على التحريم على الدَّالِّ على الإباحة.
7 -
الترجيح بأمر خاص: كترجيح ما وافقه ظاهرُ القرآن أو حديثٌ آخر. انظر تدريب الراوي ص 388 - 391.
(1)
قوله: "ثم المردود": عطف على قوله: "ثم المقبول. . . إن سلم. ."(ص 76).
فانتقل إلى الحديث المردود بعد أن فَرَغَ من أنواع الحديث المقبول.
وقد لَخَّصَ المصنِّفُ أسبابَ الرد في قسمين رئيسيين هما:
1 -
السقط من الإسناد.
2 -
والطعن في الراوي.
ثم شرع في بيان أنواع كل قسم وفروعه، وبدأ بأقسام السقط من الإسناد في قوله:
"فالسقط إما أن يكون" إلى آخره فتابِعْهُ.
وننبه الآن إلى أن سبب رد الحديث بسبب سَقَطٍ من إسناده يَرْجعُ إلى أصلٍ واحد هو الجهلُ بحال الساقِطِ والاحتياطُ خشيةَ أن يكونَ ضعيفًا.
(2)
الحديثُ المُعَلَّقُ: هو ما حُذِفَ من أول إسناده واحدٌ أو أكثرُ على سبيل التوالي ولو إلى آخر السند.
(3)
بيان العموم والخصوص من وجه بين المُعَلَّق والمُعْضَل: أنه إذا حُذِفَ اثنان من أول=
ومن صُوَرِ المُعَلَّقِ: أَنْ يُحْذَفَ جميعُ السَّنَد ويقال مثلًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أَنْ يُحْذَفَ إلَّا الصحابيَّ أو إلّا التابعيَّ والصحابيَّ معًا.
ومنها: أن يحْذِفَ مَنْ حَدَّثه ويُضِيفَه إلى مَن هو فَوْقه.
فإن كان مَنْ فوقَه شيخًا لذلك المُصَنِّف فقد اخْتُلِف فيه هل يُسَمّى تعليقًا أَوْ لا، والصحيحُ في هذا التفصيل: فإنْ عُرِفَ بالنص أو الاستقراء أنَّ فاعلَ ذلك مُدَلِّسٌ قُضيَ به، وإلَّا فتعليقٌ
(1)
.
وإنما ذُكِرَ التعليقُ في قِسْمِ المردود للجَهْلِ بحالِ المحذوف، وقد يُحْكَمُ بصحَّتهِ إنْ عُرِفَ بأنْ يجيءَ مُسَمًّى من وَجْه آخر. فإن قال: جميعُ مَنْ أَحْذِفُه ثقاتٌ، جاءَتْ مسألةُ التعديل على الإبهام، والجمهورُ لا يقبل حتى يُسَمَّى
(2)
.
= السند فهو مُعَلَّق لأنه سقط من أول إسناده واحد وأكثر وهو مُعْضَل لأنه سَقَط منه اثنان في موضع واحد.
ثم ينفرد المُعَلَّق بما إذا حُذِفَ واحدٌ فقط من أول السند أو حُذِفَ السَّنَدُ كُلُّه، وينفرِدُ المُعْضَلُ بما إذا حُذِفَ اثنانِ في موضعٍ واحدٍ من وَسَطِ السَّنَد.
(1)
أي إن عُرِفَ بالنص أي بنص بعض الأئمة أنه مُدَلِّس أو باستقراء قُضِيَ أي حُكِمَ بأن الحديث مُدَلّس.
والاستقراء: هو دراسة مرويات الراوي وسيرته.
(2)
التعديل على الإبهام: أن يقولَ الراوي الثقة: حدَّثَني الثقة، أو يقول: كلُّ من أروي عنهم ثقاتٌ. فالجمهور لا يقبل هذا التعديل حتى يُسَمَّى الراوي وتُعْلَمَ عدالته وضَبْطُه، إلا إذا كان قائل ذلك إمامًا فإنه يُقبل تعديلُه على الإبهام في حقّ مَنْ يُقَلِّده. فانتبه لهذه المسألة.
وهذا النص هنا بضعف الحديث المُعَلَّق، عليه أهلُ الحديث كُلُّهم.
وقد أخطأ بعض العصريين فعدَّه من الحديث المشترك بين الصحيح والحسن والضعيف، اغترارًا بما يأتي من حكم المُعَلَّقات في الصحيحينِ، فهذا خطأ لأنَّ حُكْمَ المُعَلَّق في الصحيحين استثناءٌ من القاعدة بسبب اشتراطِهما الصِّحة في كتابيهما، ولدراسةِ العلماء لمعلقاتهما دراسةً أوصلَتْ إلى النتيجة التي أشار إليها الحافظ ابن حجر ونفصّلها لك في التعليق الآتي.
لكن قال ابنُ الصلاح هنا: إنْ وَقَعَ الحَذْفُ في كتابٍ الْتُزِمَتْ صِحَّتُهُ كالبخاري، فما أَتى فيه بالجزم دلَّ على أنّه ثَبَتَ إسنادُه عندَه، وإنما حُذِفَ لغرض من الأغراض، وما أتى فيه بغَيْر الجَزْمِ ففيه مَقَالٌ، وقد أوضَحْتُ أمثلةَ ذلك في النُّكَتِ على ابن الصلاح
(1)
.
والثاني: وهو ما سَقَطَ من آخره مَنْ بَعد التابعيّ هو المُرْسَل.
وصورتهُ أنْ يقولَ التابعيُّ -سواءٌ كان كبيرًا أم صغيرًا-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، أو فُعِلَ بحَضْرته كذا، ونحوَ ذلك
(2)
.
وإنما ذُكِرَ في قِسْم المردودِ للجَهْل بحالِ المحذوف، لأنه يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ صحابيًّا ويَحْتَمِلُ أن يكون تابعيًّا، وعلى الثاني يحتملُ أن يكون ضعيفًا، ويحتمل أن يكون ثقةً، وعلى الثاني يحتملُ أن يكونَ حَمَلَ عن صحابي ويحتملُ أن يكونَ حَمَلَ عن تابعي آخر، وعلى الثاني فيعودُ الاحتمالُ السابق ويتعدَّدُ، أمَّا بالتجويز العقلي فإلى ما لا نهاية له، وأَمَّا بالاستقراء فإلى ستة أو سبعة، وهو أكثرُ ما وُجِدَ من رواية بعض التابعين عن بعض.
(1)
انظرها 1: 326 وما بعد، وفيها فوائد مهمة وتنبيهات قَيّمة. ويتلخص حكم المُعلَّقات في صحيح البخاري: بأنه إن عَبَّر في التعليق بصيغة الجَزْم مثل: "قال فلان" فهو حُكْمٌ بصحة القِسْمِ المحذوف من السَّنَد ويحتاجُ إلى دراسة المذكور إن ذَكَرَ قِسْمًا من السند، وإنْ عَبَّر بصيغة التمريض احتاجَ إلى دراسة السَّنَد كلِّه، فقد يكون صحيحًا وقد يكون غيرَ صحيح.
وأمّا المُعَلَّقات في صحيح مسلم فهي قليلة: اثنا عشر حديثًا وكلُّها موصولةٌ من جهات صحيحة.
انظر شرح الشرح: 391 - 399 ولقط الدرر 63. وعلوم الحديث 67 - 70 وقارن بشرح الألفية: 1: 30 وغيره.
(2)
التابعي الكبير: هو الذي روى عن كبار الصحابة، وهذا حديثه يوجد أكثرَ شيء عند التابعين.
والتابعي الصغير: هو الذي روى عن صغار الصحابة الذين تأخرتْ وفاتُهم.
فإنْ عُرِفَ من عادة التابعىّ أنه لا يُرسِلُ إلا عن ثقةٍ فذهب جمهورُ المُحَدِّثين إلى التوقُّف لبقاء الاحتمال وهو أحَدُ قَوْلَيْ أحمد، وثانيهما وهو قولُ المالكيِّين والكوفيين يُقْبَلُ مُطلَقًا
(1)
، وقال الشافعي: يُقْبَلُ إنِ اعْتَضَد بمجيئه من وجهٍ آخر يُباينُ الطريقَ الأولى، مُسْنَدًا أو مُرْسَلًا، لِيَرْجَحَ احتمالُ كونِ المحذوف ثقةً في نفس الأمر. ونقل أبو بكر الرازي
(2)
من الحنفيةِ وأبو الوليد
(3)
الباجي من المالكية: أنَّ الراويَ إذا كان يُرْسِلُ عن الثقات وغيرِهم لا يُقْبَلُ مُرْسَلُه اتفاقًا.
والقسم الثالث من أقسام السَّقَطِ
(4)
من الإسناد:
إنْ كان باثنين فصاعدًا مع التوالي فهو
المُعْضَل
(5)
.
(1)
أي سَواءٌ عرفناه لا يرسِلُ إلا عن ثقة أم لم نعرف ذلك، واستدلوا بأن المسألة في مُرسَل الثقة، ولولا أن الحديث ثابت ما رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
أبو بكر الرازي هو أحمد بن على، الشهير بالجَصَّاص، وُلد (305) وكان إمام الحنفية في وقته، وانتهت الرحلةُ إليه في بغداد، كان في الغاية من الزهد والورع، طُلِبَ للقضاء مرتين، فامتنع وأصر على الامتناع، له أثر كبير في الاستدلال لمذهب الحنفية. (ت 370). له مؤلفات كثيرة من أهمها: أحكام القرآن (ط).
(3)
سليمان بن خلف الباجي الأندلسي المالكي المذهب، ولد (403) ورحل إلى المشرق، وتقشف في سبيل العلم، كان شيخ الأندلس، جرت له مناظرات كثيرة مع ابن حزم حين كان ابن حزم في عنفوان شهرته وقوته، ذهب إليه أبو الوليد وناظَرَه وأبطل كلامَه، ورَجَعَ الناسُ عن مذهب الظاهر بمناظراته (ت 474)، من كتبه: شرح الموطأ (ط) وغيره كثير.
(4)
وهو الذي يكون السَّقَطُ فيه في أثناء السند. بخلاف القِسْمين السابقين. فإن الأول منهما وهو المُعَلَّق: وقع السقط في أوله من جهتنا، والثاني وهو المُرسَل: وقع السقط في آخره.
(5)
المُعْضَل: ما سقط مِن إسناده اثنان في موضع واحد.
مثاله: ما رواه مالك عن معاذ بن جبل قال: "آخِرُ ما أوصاني به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت رِجلي في الغَرْزِ أن قال: حَسِّنْ خُلُقَكَ للناس يا معاذ بن جبل". وبين مالك ومعاذ واسطتان أو أكثر. وانظر الموطأ بشرحه تنوير الحوالك: 2: 209. والتقصي=
وإلَّا فإنْ كان الساقِطُ باثنين غيرِ متواليَيْن في موضعَيْن مثلًا فهو
المُنْقَطِعُ
وكذلك إنْ سَقَطَ واحدٌ فقط، أو أكثر من اثنين لكنْ يُشْتَرَطُ عدمُ التوالي
(1)
.
ثم إنَّ السَّقَطَ من الإسناد قد يكونُ واضحًا يحصُلُ الاشتراكُ في معرفته، ككونِ الراوي مثلًا لم يُعاصِرْ مَنْ رَوى عنه، أو يكونُ خفيًّا فلا يدرِكُهُ إلا الأئمة الحُذَّاقُ المطلعون على طرقِ الحديث وعِلل الأسانيد.
فالأول: وهو الواضح يُدْرَكُ بعدم التلاقي بين الراوي وشيخِه، بكونه لم يُدرِكْ عصرَه، أو أدركَهُ لكنْ لم يجتمعا وليستْ له منه إجازةٌ ولا وِجَادة.
ومِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إلى التاريخ لتضمُّنِه تحريرَ مواليدِ الرواةِ ووفَيَاتِهم وأوقاتِ طلبِهم وارتحالِهم
(2)
.
وقدِ افْتَضَحَ أقوامٌ ادَّعَوُا الروايةَ عن شيوخٍ ظهرَ بالتاريخ كَذِبُ دعواهم.
= لابن عبد البر: 249. فقد ذَكَرَ أنَّ معناه صحيح مسند. أي أن أصل التوصية بحسن الخلق صحيح.
(1)
وعلى هذا فالمُنقطِع: هو الحديث الذي سَقط من رواته راوٍ واحد قبل الصحابي في موضع واحد أو مواضعَ متعددة بحيث لا يزيد الساقط في كل منها على واحد، ولا يكون الساقط أول السند.
والمنقطع على ذلك مُباينٌ لبقية أقسام السقط لا يلتقي مع شيء منها، وهو اختيار المصنف ابن حجر رحمه الله.
لكن الجمهورَ على أن المنقطعَ هو ما سقط منه راوٍ أو أكثر من أي موضع من السند.
فيكون المنقطعُ قسمًا عامًّا يشمل كل أقسام السقط من السند وهذا كما قال النووي: "الصحيحُ الذى ذَهَبَ إليه طوائفُ من الفقهاء وغيرِهم والخطيب وابن عبد البر وغيرهما من المُحَدِّثين". الإرشاد: 84 وانظر تدريب الراوي 126 - 127.
(2)
يأتيكَ تعريفُ عِلْمِ التاريخ عند المُحَدِّثين ص 135 فانظره.
والقسمُ الثاني: وهو الخَفِيُّ: المُدَلَّس
(1)
-بفتح اللام- سُمِّي بذلك لِكَوْنِ الراوي لم يُسَمِّ مَنْ حَدَّثه وأَوْهَمَ سماعَه للحديث ممَّنْ لم يُحَدِّثه به.
واشتقاقُه من الدَّلَس بالتحريك، وهو اختلاطُ الظلامِ، سُمِّي بذلك لاشتراكهما في الخفاء. ويَرِدُ المُدَلَّس بصيغةٍ من صِيَغ الأداء تَحْتَمِلُ وقوعَ اللُّقِيِّ بين المُدلِّس ومَنْ أَسنَدَ عنه، كَعَنْ، وكذا قال. ومتى وقع بصيغة صريحة لا تَجوُّزَ فيها كان كَذِبًا.
وحكم مَنْ ثَبَتَ عنه التدليسُ إذا كان عَدْلًا ألَّا يُقْبَلَ منه إلا ما صَرَّحَ فيه بالتحديث على الأصح.
وكذا المُرسَلُ الخفي إذا صَدَرَ من معاصِرٍ لَمْ يَلْقَ مَنْ حَدَّث عنه بل بينه وبينه واسطةٌ
(2)
.
(1)
المُدَلَّس: هو الحديث الذي أَوْهَمَ فيه الراوي غيرَ الحقيقة. ويَنقسمُ إلى قسمين رئيسيين:
القِسْم الأول: تدليسُ الإسناد: وهو أنْ يَرويَ عمَّن لَقِيَه أو عاصَرَه ما لم يسمعْه منه، (مُوهِمًا أنه سَمِعَه منه)، ولا يقول في ذلك:"حدَّثَنا ولا أخبرَنا" وما أشبههما، بل يقول:"قال فلانٌ" أو "عن فلانٍ" ونحو ذلك. ثُمَّ قد يكون بينهما واحدٌ وقد يكون أكثر.
مِثَالُه: الحديث الذي رواه أبو عَوانَةَ الوضّاح عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "فلانٌ في النار ينادي: يا حنَّانُ يا منَّان".
قال أبو عَوانةَ: قلت للأعمش: سمعتَ هذا من إبراهيم؟ قال: لا، حدَّثَني به حكيم بن جُبير عنه؛ فقد دَلَّسَ الأعمشُ الحديثَ عن إبراهيم فلما استُفْسِر بيَّن الواسطةَ بينه وبينه.
القسم الثاني: تدليسُ الشيوخ: وهو أن يرويَ عن شيخ حديثًا سمعه منه فيُسَمَّي الشيخَ أو يَكْنيه أو ينسُبه، أو يصفه بما لا يُعْرَفُ به كَيْلا يُعْرف. والتدليس بكل أحواله مكروه مذموم، ذمَّهُ العلماءُ والمُحدِّثون. لكنهم لم يَجْرَحوا المُدَلِّس لأنه إيهام وليس كَذِبًا.
(2)
المُرسَل الخفي: هو ما رواه الراوي عمّن عاصرَه ولم يسمعْ منه ولم يَلْقَه. وهذا اختيارُ الحافظ ابن حجر.
مثل رواية يونس بن عبيد عن نافع مولى ابن عمر، فإنها مُرسَلة عاصر يونس نافعًا لكن لم يَلْقَه.
والفرق بين المُدَلَّس والمُرْسَلِ الخفي دقيقٌ، حَصَل تحريرُه بما ذُكِرَ هنا: وهو أنَّ التدليسَ يَختصُّ بمن رَوى عمَّنْ عُرِفَ لِقاؤه إياه، فأمَّا إنْ عاصرَه ولم يُعْرَفْ أنه لقيه فهو المُرْسَلُ الخفيُّ. ومَنْ أَدخل في تعريف التدليس المعاصرةَ ولو بغير لُقِيٍّ لَزِمَه دخولُ المُرسَلِ الخفىّ في تعريفه، والصوابُ التفرقةُ بينهما.
ويدلُّ على أنَّ اعتبارَ اللُّقِىِّ في التدليس دونَ المعاصرةِ وحدَها لا بدَّ منه: إطباقُ أهلِ العِلْم بالحديث على أنَّ روايةَ المُخَضْرَمين
(1)
كأبي عثمان النَّهْدِي
(2)
، وقيس بن أبي حازِم
(3)
، عن النبي صلى الله عليه وسلم من قَبيل الإرسالِ لا مِنْ قَبيل التدليس، ولو كان مُجرَّدُ المعاصَرَة يُكْتَفى به في التدليس لكان هؤلاءِ مُدَلِّسينَ، لأنهم عاصروا النبىَّ صلى الله عليه وسلم قَطْعًا، ولكن لم يُعْرَفْ هل لَقُوهُ أمْ لا
(4)
.
وممَّنْ قال باشتراطِ اللقاء في التدليس الإمامُ الشافعي وأبو بكر البزار، وكلامُ الخطيب في الكفاية يقتضيه وهو المُعْتَمَد.
(1)
المُخَضرمون: الذين أدركوا الجاهلية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولا صُحبةَ لهم.
وسيأتي بحثُهم ص 113.
(2)
هو عبد الرحمن بن مُلِّ بن عمرو، مُخضرَمٌ شَهِد اليرموك والقادسية وغيرهما (ت 95 أو 100) عن مئة وثلاثين، روى له الستة.
(3)
قيس بن أبي حازم البَجَلي، أبو عبد الله الكوفي، مُخضرم روى عن العشرة المُبشَّرة بالجنة إلا عبد الرحمن بن عوف، ثِقةٌ له أفراد. (ت 98) وقد جاوز المئة. وتغيَّر حِفظُه آخرَ عُمُرهِ، حديثهُ في الستة.
(4)
للقائلين إنّ الحديثَ المُدَلَّس يشمل رواية المعاصر عمَّن عاصره أن يجيبوا عن هذا الاستدلال بأنَّ الإرسالَ في رواية هؤلاء كان بيّنًا وأمرُهم كان واضحًا بعدَم سماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو الذي أختاره وهو فيما يبدو مذهبُ الجمهور كما يدل على ذلك كلامُ الإمام مسلم في مقدمة صحيحه في الحُكم باتصال الحديث بين الراويين المتعاصِرَيْن إذا كان لقاؤهما مُمكِنًا ولم يَثْبُتْ عدمُ السماعِ بينهما. والفرقُ بين المُدلَّس والمُرسَل الخفي على ذلك هو إيهامُ السماعِ في المُدلَّس دون المُرسَل الخفي.
ويُعْرَفُ عدمُ المُلاقاة بإخباره عن نفسه بذلك، أو بِجَزْمِ إمامٍ مُطَّلِع.
ولا يكفي أن يقعَ في بعض الطُّرق زيادةُ راوٍ بينهما لاحتمال أن يكونَ من المَزِيد
(1)
. ولا يُحكَمُ في هذه الصورة بحُكْمٍ كُلِّيٍّ لِتعارُضِ احتمالِ الاتصالِ والانقطاع. وقد صنَّفَ فيه الخطيبُ كتابَ "التفصيل لِمُبْهَمِ المراسيل"، وكتابَ "المَزِيد في مُتَّصِل الأسانيد".
وانتهَتْ هنا أقسامُ حُكْمِ الساقِطِ من الإسناد.
ثُمَّ الطَّعْنُ
(2)
يكون بِعَشَرَةِ أشياءَ بعضُها أشدُّ في القَدْحِ من بعض: خمسةٌ منها تتعلقُ بالعدالة، وخمسةٌ تتعلَّقُ بالضَّبْط
(3)
. ولم يَحْصُلِ
(1)
أي المزيد في مُتَّصِل الأسانيد. وهو أنْ يزيدَ راوٍ في الإسناد المتصل رجلًا لم يذكرْهُ غيرهُ مِثْل: الزُّهريّ عن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سَبْرَة عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المُتعة يومَ الفتح".
زاد الراوي عن الزهري عمرَ بن عبد العزيز في السند. وهو خطأ، والسَّنَدُ متصل بدونه. انظر تحريره في منهج النقد: 364 - 365. وانظر ما يأتي ص 95.
(2)
قوله: "ثم الطعن" رجوع إلى قوله "وموجِب الردِّ إما أن يكون لسقط من إسناد أو طعن في راو. . . فالسقط إما. . .". ص 80. فعطف قوله "ثم الطعن" على قوله "فالسقط".
(3)
هذا إحصاء مهم ودقيق لأسباب الطعن في الرواة، بنى عليه بعضُ الباحثين أسبابَ ضَعْف الحديث كما بنى على حَصْر أقسامِ السقط.
وحاصلُ الإحصاءِ أن أسباب الطعن عَشَرة: خمسةٌ منها تتعلق بالعدالة، وخمسة تتعلق بالضبط.
أمّا أقسام الطعن في العدالة فهي: الكَذِب، والاتهام بالكذب، والفِسق، والبِدعة، والجَهالة.
وأمّا أقسام الطعن في الضبط فهي: فُحْشُ الغَلَط، والغَفْلة، والوَهَم، والمُخالفَة للثقات، وسوءُ الحِفْظ. ولم يُرتِّبْها حَسَبَ هذا التقسيم، بل جَعَلها تتداخل لِغَرَض علمي مهم هو التدرجُ بالنزول من الأشدِّ إلى ما دونه، وهذا مرادُه من قوله:"الأشدّ فالأشد على سبيل التدلّي" فتنبّه. ولذلك ذَكَرَ فُحْشَ الغَلَطِ بَعْدَ الاتهام بالكَذِب لأنّ فُحْشَ الغَلَط طَعْنٌ شديد في الراوي كالاتهام بالكَذِب.
انظر شرح علل الترمذي: 1: 387 والإمام الترمذي: 153.
الاعتناءُ بتمييز أحدِ القِسْمين من الآخر لمصلحةٍ اقتضَتْ ذلك، وهي ترتيبُها على الأشدِّ فالأشدِّ في مُوجِبِ الرَّدِّ على سبيل التَّدَلِّي، لأنَّ الطعنَ إمّا أنْ يكونَ:
- لِكَذِبِ الراوي في الحديث النبوي: بأنْ يرويَ عنه صلى الله عليه وسلم ما لم يَقُلْه مُتعمِّدًا لذلك.
- أو تُهْمَتِه بذلك: بألَّا يُرْوَى ذلك الحديثُ إلّا مِنْ جهتهِ ويكونَ مُخالِفًا للقواعدِ المعلومة، وكذا مَن عُرِفَ بالكذب في كلامه وإنْ لم يظهرْ منه وقوعُ ذلك في الحديث النبوي، وهذا دونَ الأول.
- أو فُحْشِ غَلَطِه: أيْ كَثْرَتهِ.
- أو غَفْلته عن الإتقان.
- أو فِسْقِهِ: أي بالفِعْل والقول
(1)
ممّا لم يَبْلُغِ الكُفْرَ، وبينَه وبينَ الأول عمومٌ، وإنما أُفْرِدَ الأولُ
(2)
لِكَوْنِ القَدْحِ به أَشَدَّ في هذا الفَنِّ، وأمّا الفِسْقُ بالمُعْتَقَدِ فسيأتي بيانهُ.
- أو وَهَمِهِ: بأنْ يرويَ على سبيل التوهُّم.
- أو مُخَالفَتِه: أي للثقات.
- أو جَهَالَتهِ: بألَّا يُعْرَفَ فيه تعديلٌ ولا تجريح معيَّن.
- أو بدعته: وهي اعتقادُ ما أُحدث على خِلافِ المعروف عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا بمعاندةٍ بل بِنَوعِ شُبْهَةٍ
(3)
.
(1)
كذا في أصلنا، وفي غيره "أو القول"، وهو أنسب بالمعنى المراد.
(2)
أي أَفرد الكَذِب عن الفِسْق وجَعَلَه أولَ أسباب الطعن. لكونه أشدَّ قَدْحًا.
وقولُه "أمَّا الفِسْقُ بالمُعتقَد. . ." جوابٌ لسؤال محذوفٍ تقديره: فإن قيل لماذا لم تُدْخِلْ فيه فِسقَ المعْتَقد وهو الخطأ الاعتقادي الذي لا يكفر صاحبه؟ فأجاب فقال: سيأتي بيانُه أي قبل الأخير وهو الطعن بالبدعة. ص 102.
(3)
أي دليلٍ قد يحسِبُه المُبتدِعُ قويًّا أو صحيحًا وهو ليس كذلك، كقول المُعتزِلة:"يجب على الله فِعْلُ الأصلح" خَلَطوا بين كونه رؤوفًا رحيمًا بخَلْقه وبين الوُجوب.
- أو سوءِ حِفْظِه: وهي عبارةٌ عمَّنْ يكونُ غَلَطهُ أَقَلَّ مِنْ إصابَتِه.
فالقِسْمُ الأول: وهو الطَّعْنُ بِكَذِبِ الراوي في الحديث النبوي هو الموضوع
(1)
.
والحُكْمُ عليه بالوَضْع إنما هو بطريق الظَّنِّ الغالِبِ لا بالقَطْعِ، إذْ قَدْ يَصْدُقُ الكَذُوبُ، لكنْ لِأهلِ العِلْم بالحديثِ مَلَكَةٌ قويةٌ يُميّزونَ بها ذلك، وإنما يقومُ بذلك منهم مَنْ يكونُ اطِّلاعُه تامًّا، وذِهْنُه ثاقِبًا، وفَهْمُه قويًّا، ومَعْرِفَتهُ بالقرائن الدَّالَّةِ على ذلك مُتَمَكِّنَةً.
وقد يُعْرَفُ الوَضْعُ بإقرارِ واضِعِه قال ابن دقيق العيد
(2)
: "لكنْ لا يُقْطَعُ بذلك، لِاحتمالِ أنْ يكونَ كَذَبَ في ذلك الإقرارِ" انتهى. وفَهِمَ منه بعضُهم
(3)
أنه لا يُعمَلُ بذلك الإقرارِ أصلًا، وليسَ ذلك مُرادَه، وإنما نفى القَطْعَ بذلك، ولا يَلْزَمُ مِنْ نَفْي القَطْع نَفْيُ الحُكْمِ، لأنَّ الحُكْمَ يَقَعُ بالظَّنِّ الغالبِ وهو هنا كذلك، ولولا ذلك لَمَا سَاغَ قَتْلُ المُقِرِّ بالقَتْلِ ولا رَجْمُ المُعترِف بالزِّنا، لِاحتمالِ أنْ يكونا كاذِبَيْن فيما اعترفا به.
ومن القرائنِ التي يُدْرَكُ بها الوضعُ ما يُؤْخَذُ من حال الراوي، كما وَقع
(1)
الحديث الموضوع: هو الحديث الكَذِب المُختَلَق على النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
محمد بن علي بن وهب القُشَيري، أبو الفتح، تقي الدين بن دقيق العيد، وُلد (625)، أبوه شيخ الإسلام أبو الحسن علي بن وهب، وأسرتهُ أسرة عِلْم وتَقَدُّم في صعيد مصر، نشأ على حالةٍ واحدةٍ من الصَّمْت والاشتغال بالعِلْم، والتحرُّز في أقواله وأفعاله.
تفقّه في المذهَبين المالكي والشافعي، ودرس باقي المذاهب، وتبحَّر في الحديث والتفسير وعلوم الإسلام، واشتَهَرَ بالعِلْم والفِقْه فوُلِّي مَنْصِبَ القضاء، فقام بحقِّه خيرَ قيام، واعتزَلَه مِرارًا وهو يُعَادُ إليه. (ت 702). من كتبه: مختصر علوم الحديث: الاقتراح (ط)، الإلمام في أحاديث الأحكام، الإمام في شرح الإلمام لم يَكْمُلْ، قالوا: لو كَمَلَ لم يكُنْ في الإسلام مِثْلُه. وإحكام الأحكام بشرح عُمدَة الأحكام شاهدٌ بعلمه وفضله (ط).
(3)
كأنه يريد الذهبي وكلامه في الموقظة: 37. فتأمل.
للمأمون بن أحمد
(1)
أنه ذُكِرَ بحضرته الخلافُ في كَوْنِ الحَسَنِ
(2)
سَمِعَ من أبي هريرة أَوْ لا، فسَاقَ في الحالِ إسنادًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"سَمِعَ الحَسَنُ من أبي هُريرةَ". وكما وَقَعَ لغياث بن إبراهيم
(3)
حيثُ دَخَلَ على المهدي
(4)
فوجدَه يلعبُ بالحَمَام فَسَاقَ في الحال إسنادًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا سَبَقَ إلَّا في نَصْلٍ أو خُفٍّ أو حافِرٍ
(5)
أو جَنَاحٍ" فزاد في الحديث "أو جَنَاحٍ" فعَرَفَ المَهْديُّ أنه كَذَبَ لأجلهِ فأَمَرَ بذَبْحِ الحمَامِ.
ومنها ما يُؤخَذُ من حال المَرويِّ كأَنْ يكونَ مُناقِضًا لنص القرآن أو السُّنَّة المُتواتِرة، أو الإجماعِ القَطْعِيّ، أو صريح العَقْلِ، حيثُ لا يَقْبلُ شيءٌ من ذلك التأويل
(6)
.
ثُمَّ المَرْوِيُّ تَارَةً يَخترعُه الواضِعُ، وتارَةً يَأخُذُ كلامَ غيرِه كبعضِ
(1)
مأمون بن أحمد الهَرَوي السُّلَمِي، دجَّال، وضع أحاديث كثيرة ظاهرة السقوط. وعزا المصنف في النكت (842) هذه القصة لأحمد بن عبد الله الجويباري الدجال.
(2)
الحسن بن يسار البصري، ولد (21) وَرَضِعَ من أمِّ سَلَمَة أم المؤمنين، كان من سادات التابعين وكبرائهم، جَمَعَ كلَّ فنٍّ من عِلْم وزُهْد وَوَرَع وعِبادة مع غاية الفصاحة. (ت 110)، حديثه في الستة.
(3)
غياث بن إبراهيم النَّخَعِي أبو عبد الرحمن، تَرَكوه، قال أبو داود: كذَّاب.
(4)
هو محمد بن عبد الله بن محمد الهاشمي الخليفة العباسي، المُلقَّبُ بالمَهْدِيِّ: ابنُ الخليفة أبي جعفر المنصور. ولد (127)، ووُلِّي الخِلافةَ (158)، فأقام العَدْلَ ونَصَر السُّنة ووسَّعَ على الرَّعِيَّة، وتَتَبَّعَ الزَّنادِقة، (ت 169).
(5)
اللفظ الصحيح لحديث: "لا سَبَق. . ." أخرجه أبو داود في الجهاد: 3: 29 والترمذي: 4: 205 والنَّسائي: 6: 226 - 227 وابن ماجه: 2: 960 وصححه ابن حِبَّان: موارد الظمآن: 395.
وقوله: "سَبَق" بفتح الباء: الجائزةُ التي تُعطى لِمَنْ يَسبقُ.
(6)
هذا شرطٌ للحُكْم على الحديث أنه موضوع، وهو أن تكونَ مُخالفَتهُ للأدِلَّة القَطْعِيّة مُخالفَةً صريحةً جازِمة، لا يحتمِلُ أَنْ يُرادَ بالنص تأويلٌ لمعنًى آخر، كأنْ يكونَ فيه كِنايةٌ، أو نوعُ تشبيهٍ بلاغيٍّ، أو عامّ أُرِيدَ به الخاص، وما أشبه ذلك. ومن تلك المخالفات الأحاديثُ التي وضعتْها الزَّنادِقةُ لتشويه العقيدة، مثلُ حديث:"رأيتُ ربي يومَ عَرَفةَ بِعَرَفات على جَمَل أحمر عليه إزاران. . ." رواه أبو علي الأهوازي أحدُ الكذَّابين في كتابه في الصفات، قبَّحَ اللهُ واضِعَه.
السَّلَفِ الصالح، أو قدماءِ الحكماء، أو الإسرائيليات، أو يَأخُذُ حديثًا ضعيفَ الإسنادِ فيركِّبُ له إسنادًا صحيحًا لِيَرُوجَ.
والحامِلُ لِلواضِع على الوَضْعِ: إمّا عَدَمُ الدِّيْنِ كالزنادِقَة، أوْ غَلَبةُ الجهل كبعض المتعبِّدين، أو فَرْطُ العصبيَّةِ كبعض المُقَلِّدين، أو اتباعُ هوى بعض الرؤساء، أو الإغرابُ لِقَصْد الاشتهار.
وكلُّ ذلك حرامٌ بإجماعِ مَنْ يُعْتَدُّ به، إلا أنَّ بعضَ الكَرَّامية
(1)
، وبعضَ المُتصوِّفةِ نُقِلَ عنهم إباحةُ الوَضْعِ في الترغيب والترهيب، وهو خطأ من فاعِله نشأ عن جهلٍ، لأن الترغيبَ والترهيبَ من جُملةِ الأحكامِ الشرعية، واتفقوا على أنَّ تَعَمُّدَ الكَذِبِ على النبيّ صلى الله عليه وسلم من الكبائر، وبالَغ أبو محمد الجُويني
(2)
فكفّر من تَعَمَّدَ الكَذِبَ على النبي صلى الله عليه وسلم.
واتفقوا على تحريم روايةِ الموضوع إلّا مقرونًا ببيانه لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَدَّثَ عني بحديثٍ يُرَى أنه كَذِبٌ فهو أحدُ الكاذبِيْن"
(3)
أخرجه مسلم.
والقِسْمُ الثاني من أقسام المردود: وهو ما يكون بسبب تُهمَةِ الراوي بالكَذِبِ هو المتروكُ
(4)
.
والثالثُ: المُنْكَرُ على رأي من لا يشترِطُ في المُنْكَرِ قَيْدَ المُخَالَفَةِ وكذا
(1)
بتشديد الراء نسبةً إلى محمد بن كَرَّام السِّجِسْتاني المُجَسِّم الذي يُشَبِّه اللهَ تعالى بخَلْقِه (ت 255)، وكان يَضَعُ الحديثَ لِنُصْرةِ مذهبه، قاتَلَه اللهُ.
(2)
عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف أبو محمد الجُويني، والد إمام الحرمين، كان إمامًا في التفسير والفقه والأصول والعربية والزهد والورع، (ت 438). له كتاب كبير في التفسير، والتبصرة والتذكرة في الفقه.
(3)
رُوي بفتح الباء على التثنية وبكسرها على الجمع. والحديث أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه ص 7، والترمذي في العِلْم وصحّحه: 5: 36، وأخرجه ابن ماجه 1: 14 - 15 عن علي بن أبي طالب وعن المُغيرة بن شُعْبة وعن سَمُرَة بن جُنْدُب. وانظر فيض القدير: 6: 116.
(4)
المتروك: هو الحديث الذي يرويه من يُتَّهَمُ بالكذب ولا يُعرَفُ ذلك الحديثُ إلا من جِهَتِه، ويكونُ مخالِفًا للقواعد المعلومة.
الرابعُ والخامسُ. فَمَنْ فَحشَ غَلَطُه أو كَثُرتْ غَفْلَتُه أو ظَهَرَ فِسْقُه فحديثهُ مُنْكَر
(1)
.
ثُمَّ الوَهَمُ: وهو القِسْمُ السادس، وإنما أفْصَحَ به لطُولِ الفَصْلِ -إنِ اطُّلِعَ عليه أيْ الوَهَمِ بالقرائنِ الدالَّةِ على وَهَمِ راوِيه- مِنْ وَصْلِ مُرْسَلٍ أو مُنْقَطِعٍ أو إِدْخالِ حديثٍ في حديث، أو نحو ذلك من الأشياءِ القادِحة وتَحصُلُ معرفةُ ذلك بكَثرَةِ التتبُّع وجَمْعِ الطُّرُق- فهذا هو المُعَلَّل
(2)
(3)
.
وهو من أَغْمَضِ أنواع علوم الحديث وأَدَقِّها، ولا يقومُ به إلا مَنْ رَزَقَه اللهُ تعالى فَهْمًا ثاقبًا وحِفْظًا واسِعًا ومعرفةً تامَّة بمراتبِ الرواة، ومَلَكَةً قويةً بالأسانيد والمُتُون، ولهذا لم يَتَكَلَّمْ فيه إلَّا القَليلُ مِنْ أهلِ هذا الشأن: كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة
(4)
، وأبي حاتم، وأبي زُرْعة، والدَّارقُطْني، وقد تَقْصُرُ عبارةُ المُعَلِّل عن إقامةِ الحُجَّةِ على دَعْواهُ كالصَّيْرَفِيِّ في نقد الدينار والدِّرْهَم
(5)
.
(1)
هذا مَسْلَكٌ جديد في استعمال مصطلح "مُنْكَر" غيرِ السابق ص 72. فَلِلْمُنْكر استعمالان:
الأول: السابق، وهو ما رواه الضعيف مُخالِفًا لِمَنْ هو أقوى منه.
الثاني: المُنْكَر: ما تفرَّد به راويه خالَفَ أو لم يُخالِفْ، ولو كان ثقةً. وعليه كثير من المُتقدِّمين. فتنبَّه لذلك.
(2)
المُعَلَّل: هو الحديث الذي اطُّلِع فيه على عِلَّةٍ خفيَّة قادِحَة وظاهِرُهُ السَّلامةُ منها.
(3)
ويقابل ذلك إنِ اطُّلِعَ على الوهم مِنْ دَلالةٍ ظاهرة كجَرْح راويه أو انقطاع سَنَدِه فهو الضعيف غيرُ المُعَلَّل. وقارِنْ رأينا هذا بالشروح.
(4)
يعقوب بن شَيْبة بن الصَّلْت، أبو يوسف البَصْري، نزيلُ بغداد، المولود (180)، من كبار علماء الحديث، تفقَّه على مذهب مالك. (ت 262) له: المسند وهو كبير جدًّا لم يَكْمُلْ، عُثِرَ منه على قِطعة وطُبِعتْ.
(5)
وقال ابنُ مَهْدِي: "في معرفة عِلَلِ الحديث إلهامٌ، لو قُلْتَ للعالِم بعِلَلِ الحديث: مِنْ أين قُلْتَ هذا؟ لم يَكُن له حُجَّةٌ، وكم مِنْ شخصٍ لا يَهتدي لذلك".
ففَهِمَ بعضُ مَنْ كَتَبَ في هذا العِلْمِ وليس مُتَمكِّنًا فيه أنَّ عِلْمَ عِلَلِ الحديث فيه أمرٌ غَيبيّ لا يَعتمِدُ على أسبابٍ عِلميَّة، فأخطأَ في ذلك أعْظَمَ الخطأ، إنما مُرَادُهم أنه مِثلُ أي اختصاصيٍّ يَحكُمُ بِمُمارسته وخِبْرته، وكثيرًا ما يَغيبُ عنه التعبيرُ عن المعنى الدقيق الذي في نفسه.
ثُمَّ المُخَالَفَةُ
(1)
وهى القِسْمُ السابع:
إِنْ كانَتْ واقعةً بسببِ تغيير السياقِ أيْ سياقِ الإسنادِ فالواقعُ فيه ذلك التغييرُ هو مُدْرَجُ
(2)
الإسناد وهو أقسام:
الأول: أنْ يَرويَ جماعةٌ الحديث بأسانيدَ مُختلِفَةٍ، فَيَرْويَهُ عنهم راوٍ فيَجْمَعَ الكُلَّ على إسنادٍ واحدٍ من تلك الأسانيدِ ولا يُبَيِّنَ الاختلافَ.
الثاني: أنْ يكونَ المَتْنُ عند راوٍ إلَّا طَرَفًا منه فإنه عنده بإسناد آخر، فيرويه راوٍ عنه تامًّا بالإسناد الأول.
ومنه: أن يسمع الحديث من شيخه إلا طرفًا منه فيسمَعهُ عن شيخه بواسِطة، فيرويَهُ راوٍ عنه تمامًا بِحذْفِ الواسِطة.
الثالث: أن يكونَ عند الراوي مَتْنَانِ مُخْتَلِفَان بإسنادَيْن مُختَلِفَيْن، فيرويَهُما راوٍ عنه مُقْتَصِرًا على أَحَدِ الإسنادين، أو يرويَ أحدَ الحديثين بإسناده الخاصِّ به لكنْ يزيدَ فيه مِنَ المَتْنِ الآخرِ ما ليس في الأول.
الرابع: أنْ يَسُوقَ الإسناد فيَعْرِضَ له عارِضٌ، فيقولَ كلامًا من قِبَل نَفْسِه، فيَظُنَّ بعضُ مَنْ سَمِعَه أنَّ ذلك الكلامَ هو مَتْنُ ذلك الإسنادِ فيرويَهُ عنه كذلك
(3)
.
(1)
مُخالفَةُ الراوي لِمَنْ هو أقوى منه في حديث تَدُلُّ على وهمه فيه، فإذا كَثُرَتْ مخالفاتُه ضُعِّفَ حديثهُ كلُّه.
(2)
المُدْرَجُ: ما ذُكِرَ في ضِمْنِ الحديث مُتَّصِلًا به وليس منه. وهو قِسْمان: مُدْرَجُ الإسناد وهو الذي بدأ به المصنِّف هنا، ومِثالُه: حديث علي: "فإذا كانَتْ لك مئتا درهم وحَالَ عليها الحَوْلُ ففيها خمسةُ دراهم. . .". رواه جرير بن حازم من طريق عاصم بن ضَمْرَة والحارثِ الأعور عن عَلِيٍّ مرفوعًا. مع أن عاصمًا رواه موقوفًا، فأدرج جرير أحدَ الإسنادَين في الآخر وجعله مرفوعًا عنهما.
انظر سنن أبي داود: 2: 100 - 101 ونصب الراية: 2: 328 - 329.
(3)
كما وَقع لِثَابت بن موسى الزاهد في حديث "من كَثُرَت صلاتهُ بالليل حَسُنَ وجْهُه في=
هذه أقسامُ مُدْرَجِ الإسنادِ.
وأما مُدْرَجُ المَتْنِ: فهو أنْ يقعَ في المَتْنِ كلامٌ ليس منه. فتارَةً يكونُ في أولِه، وتارَةً في أثنائه، وتارةً في آخره وهو الأكثرُ، لأنه يقعُ بعطفِ جُملةٍ على جُملةٍ، أو بدَمْجِ موقوفٍ من كلام الصحابةِ أو مَنْ بَعْدَهم بمرفوعٍ من كلامِ النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ غيرِ فَصْلٍ، فهذا هو مُدْرَجُ المَتْنِ.
ويُدْرَكُ الإدراجُ بورود رِوايةٍ مُفَصِّلةٍ للقَدْرِ المُدْرَج فيه. أو بالتنصيصِ على ذلك من الراوي، أو مِنْ بعضِ الأئمةِ المُطَّلِعين، أو باستحالةِ كَوْنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولُ ذلك
(1)
.
وقد صنَّفَ الخطيبُ في المُدْرَج كتابًا، ولخَّصتُه وزِدْتُ عليه قَدْرَ ما ذَكَر مرتين أو أكثر، ولله الحمدُ
(2)
.
أو إنْ كانتِ المُخالَفةُ بتقديمٍ أو تأخير أي في الأسماءِ كمُرَّةَ بن كَعْبٍ وكَعْب بن مُرَّة، لأنَّ اسمَ أحدِهما اسمُ أبي الآخر فهذا هو المقلوبُ
(3)
،
= النهار" رواه حديثًا، وإنما قاله الشيخ في أثناء الرواية من عند نفسه لمناسبة عارِضة.
وهذا جعله ابنُ الصلاح مِنْ شِبْهِ الوَضْع (علوم الحديث ص 100). وجعَلَه المصنِّفُ ابنُ حجرٍ من المُدْرَج، وصَنيعُ ابن حجرٍ أَلْيَقُ.
(1)
مِثْلُ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لِلعَبْدِ المملوك الصالح أَجْرانِ. والذي نفسي بيده لولا الجِهادُ في سبيل الله والحَجُّ وبِرُّ أُمي لأحْبَبْتُ أنْ أموتَ وأنا مملوك".
ومستحيلٌ أن يقولَ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشطر الثاني: "والذي. . ." فهو مُدْرَج بَدَاهةً. والحديث في البخاري: 3: 149 ومسلم: 5: 94.
(2)
اسم كتاب الخطيب: "الفَصْل لِلوَصْل المُدْرَج في النَّقل"، وكتابُ المصنِّف هو:"تقريبُ المَنْهَج بترتيب المُدْرَج".
والحديث المُدْرَج من الحديث الضعيف من حيث الإدراج فقط، ولا يقدح بأصل الحديث إن كان صحيحًا. ولا يجوز تَعَمُّدُ الإدراج، إلا ما كان لِتفسير غريب.
(3)
المَقلُوب: هو الحديث الذي أَبْدَلَ فيه راويه شيئًا بآخر في السند أو المتن، سهوًا أو عمدًا.
ولِلخطيب فيه كتابُ "رافِع الارتياب". وقد يَقعُ القلبُ في المَتْن أيضًا كحديث أبي هريرةَ عند مُسلمٍ في السبعة الذين يُظِلُّهم اللهُ في عَرْشهِ فَفِيه: "ورجلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقةٍ أخفاها حتى لا تَعْلَمَ يمينهُ ما تُنْفِقُ شِمالُه"، فهذا مما انْقَلبَ على أحدِ الرواةِ، وإنما هو:"حتى لا تَعلمَ شِمالُه ما تُنْفِقُ يمينهُ" كما في الصحيحَيْن
(1)
.
أو إنْ كانتِ المُخالَفَةُ بزيادةِ راوٍ في أثناءِ الإسناد ومَنْ لم يزِدْها أتقنُ ممَّنْ زادَها فهذا هو المزيدُ في مُتَّصِل الأسانيد
(2)
.
وشَرْطُه أن يقعَ التصريحُ بالسماعِ في موضعِ الزيادةِ، وإلَّا فمتَى كان مُعَنْعَنًا مثلًا ترجَّحَتِ الزيادةُ.
أو كانتِ المُخالَفةُ بإبدالهِ أي الراوي ولا مُرَجِّحَ لإحدى الروايتين على الأخرى فهذا هو المُضْطرِبُ
(3)
.
(1)
البخاري: 1: 129 ومسلم 3: 94 .. أخرج مسلم الرواية المقلوبة، ثم أخرج طريق الروايةِ السالمةِ ولم يذكر المتن. انظر التوسع في فتح الباري: 2: 100 - 101.
وكأنه لما ذكرنا لم يَعْزُ بعض العلماء الرواية السالمةَ من القلب إلى مسلم.
(2)
سبق تعريفهُ وإيضاحُه بالمثال (ص 87) تعليقًا، فانظره.
(3)
المُضْطَرِب: هو الحديث الذي يُروى من قِبَل راوٍ واحد أو أكثر على أوْجُهٍ مختلفةٍ متساويةٍ، لا مُرَجِّحَ بينها، ولا يُمكِنُ الجمع.
والحديث المضطرب ضعيف، لأنَّ الاضطرابَ يُشعِرُ بعدم ضبط الحديث.
مثال المضطرب: حديث إسماعيل بن أُمَيَّة عن أبي عمرو بن محمد بن حُرَيْث عن جدِّه حُريث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سُترة المصلي: "إذا لم يَجِدْ عصًا ينصبُها بين يديه فَلْيَخُطَّ خطًّا".
رُوِي عن إسماعيل هكذا، ورُوِي عنه عن أبي عَمرو بن حُرَيث عن أبيه، ورُوي غير ذلك كثير مما يوجب اضطرابه. انظر الاستزادةَ في علوم الحديث: 94 وتدريب الراوي: 170 - 172. ونكت ابن حجر: 772، وما ذُكِرَ من دفع الاضطراب عنه غير كافٍ. والله أعلم.
ومثاله أيضًا حديث كفَّارة من أتى امرأته وهي حائض فهو مضطرب السند والمتن لكثرة الاختلاف فيه سندًا ومتنًا انظره في كتابنا إعلام الأنام 1: 324.
والاضطراب في المَتْن قليل جدًّا، لِسَعَةِ أَوْجُه الجمع والترجيح بين المُتُون.
وهو يقعُ في الإسناد غالبًا. وقد يَقعُ في المَتْن.
لكنْ قَلّ أنْ يَحْكُمَ المُحَدِّثُ على الحديث باضطرابٍ بالنسبة إلى اختلافٍ في المَتْنِ دونَ الإسناد.
وقد يقعُ الإبدال عَمْدًا لِمَنْ يُرادُ اختبارُ حِفْظِهِ امتحانًا مِن فاعله، كما وقع للبخاري
(1)
والعُقَيْلي
(2)
وغيرهما.
وشرطُه ألَّا يستمرّ عليه بل ينتهي بانتهاء الحاجة، فلو وقعَ الإبدالُ عَمْدًا لا لمصلحةٍ بل للإغراب مثلًا فهو من أقسام الموضوع، ولو وقع غَلَطًا فهو من المقلوب أو المُعَلَّل.
أو إن كانتِ المُخالَفةُ بتغيير حرفٍ أو حروف مع بقاء صورة الخطِّ في السِّياق فإن كان ذلك بالنسبة إلى النَّقْطِ فالمُصحَّف.
وإن كان بالنسبة إلى الشكل فالمُحَرَّف
(3)
.
ومعرفَةُ هذا النوعِ مُهِمَّة، وقد صنَّف فيه العسكري
(4)
والدارقطني
(1)
امتحان البخاري أنه لمَّا وَرَد مدينة بغداد قلبوا له مئة حديث وعرضوها عليه، فأعاد كل حديث إلى الصواب فأذعنوا له.
انظر التفصيل في تاريخ بغداد: 2: 20 وطبقات الشافعية: 2: 218 وغيرهما.
(2)
هو محمد بن عمرو بن موسى، الحافظ المتقن الكبير، مُحَدِّث الحرَمَين، (ت 322). من كتبه: الضعفاء (ط).
وقصة امتحانه -كما ذَكَر مَسْلَمة بن قاسم- أنه كان يقول لِمَنْ يَتلقَّى عنه: اقرأْ من كتابِك، ولا يُخْرِجُ أصلَه، فتكلَّمْنا في ذلك، وقُلنا: إمّا أنْ يكون من أحفظِ الناس أو من أكذب الناس، فاتفقنا على أن نكتب له أحاديث من روايته ونزيد فيها وننقص، فأتيناه لنمتحنه، فقرأتُها عليه فلما أَتيتُ بالزيادة والنقص فَطِن لذلك، فأَخذ مني الكتاب وأخذ القلم فَأَصْلَحها من حفظه، فانصرفْنا من عنده وقد طابتْ نفوسُنا، وعلمْنَا أنه من أحفظ الناس.
(3)
المُصَحِّف: هو ما غُيِّر فيه النَّقْط.
والمُحَرّف: ما غُيِّر فيه الشَّكْل مع بقاء الحروف.
ويُطلَق المُصحَّف والتصحيف على ما يشمَلُ الأمرَين فتنبّه.
(4)
هو الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري ولد (293) راوِيَة علَّامة مُحدِّث، من=
وغيرهما، وأَكْثَرُ ما يقعُ في المُتُون، وقد يَقعُ في الأسماء التي في الأسانيد.
ولا يجوزُ تَعَمُّدُ تغيير صورة المَتْن مُطلَقًا، ولا الاختصارُ منه بالنَّقْص، ولا إبدالُ اللفظ المُرادِف باللفظ المرادف له إلَّا لِعالِمٍ بمدلولاتِ الألفاظ وبما يُحيلُ المعاني، على الصحيح في المسألتين.
أمَّا اختصارُ الحديثِ: فالأكثرون على جَوَازِهِ بِشَرْط أنْ يكونَ الذي يَختصِرُهُ عالمًا، لأنَّ العالِمَ لا يَنْقُصُ من الحديث إلَّا ما لا تَعَلُّقَ له بما يُبقيه منه، بحيثُ لا تختلفُ الدَّلالةُ ولا يَخْتَلُّ البيانُ، حتى يكونَ المذكورُ والمحذوفُ بمنزلة خبَرَيْن، أو يدلَّ ما ذَكَرَهُ على ما حذَفه، بخلاف الجاهِلِ فإنه قد يَنْقُصُ ما له تَعَلُّقٌ كَتَرْكِ الاستثناء.
وأمَّا الرِّوايةُ بالمعنى: فالخلافُ فيها شهيرٌ والأكثرُ على الجَوَاز أيضًا، ومِنْ أَقْوى حُجَجِهم الإجماعُ على جَوَازِ شَرْحِ الشريعة لِلْعَجَمِ بلسانهم للعارِف به، فإذا جازَ الإبدالُ بِلُغَةٍ أُخرى فَجَوَازهُ باللُّغةِ العربية أَوْلى.
وقيل: إنَّما تجوزُ في المُفردات دونَ المُرَكَّباتِ، وقيل: إنَّما تَجُوزُ لِمَنْ يَسْتَحْضِرُ اللفظَ لِيَتَمَكَّنَ من التصرُّفِ فيه. وقيل: إنما تجوزُ لِمَنْ كان يحفَظُ الحديثَ فنَسِيَ لفظهُ وبَقِيَ معناهُ مُرتَسمًا في ذِهْنِه فَلَهُ أن يَرْوِيَه بالمعنى لمَصْلَحَةِ تَحْصيلِ الحُكْمِ منه، بِخلافِ مَنْ كانَ مُستَحْضِرًا لِلَفْظِهِ. وجميعُ ما تقدَّمَ يتعلَّقُ بالجوازِ وعَدَمهِ، ولا شكَّ أنّ الأَولى إيرادُ الحديثِ بألفاظه دون التصرُّف فيه.
قال القاضي عِياض: "ينبغي سَدُّ بابِ الرِّواية بالمعنى لئَلّا يتسلَّطَ مَن
= أئمّة الأدب واللُّغة، (ت 382). وله تصانيفُ كثيرة حسَنَة في اللُّغة والأدب والأمثال. وكتابهُ المذكور مطبوع، لكنه كثيرُ التصحيف والتحريف.
لا يُحْسِنُ مِمَّنْ يَظُنُّ أنّه يُحْسِنُ كما وَقَعَ لِكَثيرٍ مِنَ الرُّواةِ قديمًا وحديثًا". واللهُ المُوفِّق
(1)
.
فإنْ خَفِيَ المعنى بأنْ كانَ اللفظُ مُستعمَلًا بِقِلَّةٍ احْتِيجَ إلى الكُتُبِ المُصَنَّفَة في شَرْحِ الغريب
(2)
.
كَكِتابِ أبي عُبيد القاسمِ بنِ سلَّام
(3)
وهو غيرُ مُرَتَّبٍ، وقَدْ رتَّبهُ الشيخُ مُوَفَّقُ الدِّين بنُ قُدَامَة
(4)
على الحروف، وأَجْمَعُ منه كتابُ أبي عُبَيدٍ الهَرَوي
(5)
، وقد اعتنى به الحافظُ أبو موسى المَدِيني
(6)
، فنَقَّبَ عليه
(1)
قد استقر القولُ على مَنْع الرِّواية بالمعنى، لأنَّ الأحاديثَ قد دُوِّنَت في الدواوين، فزالتِ الحاجةُ للرُّخْصَةِ بالرِّواية على المعنى.
انظر التنبيه على ذلك في علوم الحديث: 191 وشرح الألفية: 2: 20 واختصار علوم الحديث: 143 وغيرها.
(2)
أي غريب الحديث: وهو ما وَقَع في مُتُون الأحاديث من الألفاظ الغامِضَة.
وينبغي الحَذَرُ من الخَلْطِ بينه وبين الحديث الغريب، فإنَّ الحديثَ الغريب هو الذي تفرد به راويه، وقد سبق ص 56.
(3)
القاسم بن سلَّام البغدادي، أبو عُبيد ولد (157)، وكان عالمًا بالحديث عارفًا بالفقه والمذاهب، رأسًا في اللغة، إمامًا في القراءات. (ت 224) بمكة.
له: الأموال (ط)، فضائل القرآن (ط). كتابه "غريب الحديث" مهم جدًّا. قال فيه:"هو كان خُلَاصةَ عُمُري".
(4)
عبد الله بن أحمد بن محمد بن قُدَامة المَقْدِسي ثم الدمشقي، موفق الدين، ولد (541)، وبرَع في علوم زمانه، وصار المَرْجِعَ في الفقه الحَنْبلى، (ت 620). له مؤلفات كثيرة ومتعددة في الفقه أشهرها: المُغني (ط)، والمُقْنِع (ط) و"روضة الناظرِ" في أصول الفقه (ط).
(5)
أحمد بن محمد بن عبد الرحمن، أبو عُبَيد الهَرَويّ، نسبتُه إلى هَرَاة من مُدُن خُراسانَ. إمامٌ لغوي بارعٌ وأديب (ت 401).
من كتبه "كتاب الغريبَيْن" أي غريبُ القرآن وغريبُ الحديث، وهو أَولُ مَنْ جَمَعَ بينهما. وقد انتشر في الآفاق. (ط).
(6)
محمد بن أبي بكر عمر الأصفهاني، أبو موسى المَدِيني، ولد (501)، وكان شيخ زمانه إسنادًا وحِفظًا وإتقانًا، شديد التواضُع (ت 581). له تصانيفُ أَرْبَى فيها على المُتقدِّمين، منها: لطائفُ المعارف، غني بالفوائد الحديثية.
واستدرَكَ، وللزمخشريّ
(1)
كتابٌ اسمهُ "الفائِق" حَسَنُ الترتيب، ثُمَّ جَمَعَ الجميعَ ابنُ الأثير
(2)
في "النِّهاية"، وكتابهُ أَسْهَلُ الكُتُبِ تناوُلًا مع إعْوَازٍ قليلٍ فيه.
وإنْ كانَ اللفظُ مُستعمَلًا بكَثْرة لكنْ في مَدْلُولهِ دِقَّةٌ احْتيجَ إلى الكُتُب المُصنَّفَة في شرح معاني الأخبار وبيانِ المُشْكِل منها
(3)
.
وقد أكثرَ الأئمَّة من التصانيف في ذلك كالطَّحَاوي والخَطَّابِي وابن عَبْد البَرِّ
(4)
وغيرهم.
ثُمَّ الجَهالَةُ بالراوي: وهي السببُ الثامِنُ في الطَّعْنِ. وسببُها أَمْرانِ:
أحدُهما: أنَّ الرَّاوِيَ قد تَكْثُرُ نُعُوتُه من اسمٍ أو كُنيةٍ أو لَقَبٍ أو صِفَةٍ أو حِرْفَةٍ أو نَسَبٍ، فَيَشْتَهِرُ بشيءٍ منها
(5)
، فَيُذْكَرُ بغير ما اشْتَهَرَ بهِ لِغَرَضٍ من الأغراض فَيُظَنُّ أنه آخَرُ، فيَحْصُلُ الجَهْلُ بِحالِهِ.
وصَنَّفوا فيه أيْ في هذا النَّوعِ الموضح لأوْهَامِ الجَمْعِ والتفريق، أَجَادَ
(1)
محمود بن عمر بن محمد الخُوَارزْمي الزَّمَخْشَري، جار الله، ولد (467)، وجاور بمكة فلُقِّبَ "جار الله"، علَّامة، مُعتَزِلي جَلْدٌ، ومفسِّر ولُغوي أديب (ت 538). من كُتُبه الكشاف (ط) والفائق في غريب الحديث (ط) وأساس البلاغة (ط).
(2)
المبارك بن محمد الجزَري، مَجْد الدين أبو السعادات، الشهير بابن الأثير، ولد (544). مُحَدِّث كبير ولُغوي بارع وأصُولي، أُصيبَ بمرضٍ أقعدَهُ، وتَدَاوى بدواءٍ نَفَعَه، لكنه أَوْقَفَ التداوي حتى لا يدخلَ على رجال الدولة. (ت 606).
له: جامع الأصول (ط) والنهاية في غريب الحديث (ط).
(3)
سَبَقَ بعنوان: "مُخْتَلِفُ الحديث" ص 76 فراجِعْهُ.
(4)
يوسف بن عبد الله أبو عمر ابن عبد البرّ النَّمَرِي القُرطُبي، الإمام حافِظُ المَغْرِب وفقيهُه، ولُغَوِيُّه، ولد (368)، (ت 463). له تصانيفُ كثيرة مُتْقَنَة، أشهرُها: التمهيد شرح الموطأ (ط) وجامِع بيان العِلْم وفضله (ط) والاستذكار لمذاهب علماء الأمصار (ط).
(5)
هذا عِلْمُ مَنْ ذُكِرَ بأسماءٍ مختلِفةٍ أو نُعوتٍ متعدِّدةٍ. ومن أسباب تعدُّدِ الاسم للراوي أو الكُنية أو اللَّقَب: التدليسُ (تدليسُ الشيوخ)، أو التستّرُ: يَتستَّرُ به بعضُ الكذَّابين.
فيه الخطيبُ وسبَقَه إليه عبدُ الغَني هو ابنُ سعيدٍ المصري وهو الأزْدِيّ أيضًا
(1)
، ثم الصُّورِيّ
(2)
.
ومِنْ أمثلتهِ: محمدُ بن السائبِ بن بِشْرٍ الكَلْبِىّ
(3)
. نسَبَهُ بعضُهم إلى جَدِّه، فقال: محمدُ بنُ بِشْرٍ، وسمَّاهُ بعضُهم حمَّادَ بنَ السائب، وكنَّاهُ بعضُهم أبا النَّضْر، وبعضُهم أبا سعيد، وبعضهم أبا هِشَام، فصار يُظَنُّ أنه جماعةٌ وهو واحِدٌ، ومَنْ لا يَعْرِفُ حقيقةَ الأمر فيه لا يَعْرِفُ شيئًا من ذلك.
والأمرُ الثاني: أنَّ الراويَ قد يكونُ مُقِلًّا من الحديث فلا يَكْثُرُ الأَخْذُ عنه. وقد صنَّفوا فيه الوُحْدَانَ وهو من لم يَرْوِ عنه إلَّا واحدٌ ولو سُمِّيَ. فَمِمَّنْ جَمَعَه مُسلِمٌ
(4)
والحسنُ بنُ سفيانَ
(5)
وغيرُهما.
أَوْ لا يُسَمَّى الراوي اختِصارًا من الراوي عنه
(6)
، كقوله: أَخبرَني
(1)
عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد الأزْدِيّ المِصْري، وُلد (332) مُحدِّثُ مصر وحافِظُها، نقادة دقيق. (ت 409) من كتبه: المُؤتَلِف والمُخْتَلِف.
(2)
أي ثم بعد الأزدي: الصوري، وهو تلميذ الأزدى: محمد بن عليِّ بنِ عبدِ اللهِ الصُّورِيُّ الحافظ (ت 441).
(3)
محمدُ بن السائب بنِ بِشْر الكَلْبي، أبو النَّضْر الكُوفيّ، عالِمٌ بالتفسير والأخبار، مُتَّهَمٌ بالكَذِب، وكان غالِيًا في الرفض، سَبَئيًّا، (ت 146) روى له الترمذيُّ وبيَّن مُخالَفتَه.
(4)
مُسلمُ بن الحجاج بن مسلم النَّيْسَابُورِيّ، حافِظٌ إمامٌ جَليلٌ فقيه، مِنْ خاصَّةِ تلاميذ البُخاري، (ت 261).
له مؤلفاتٌ منها: صحيحهُ المشهور (ط)، والوحدان (ط).
(5)
الحسنُ بن سُفيانَ بن عامر أبو العباس الشَّيبانيّ، النّسويّ. الحافظ الكبير اليَقِظُ مُحَدِّثُ خُراسانَ في عصره، (ت 303) له: المسند الكبير، والأربعين.
(6)
وهذا هو المُبْهَمُ: وهو مَنْ أُغْفِلَ ذِكْرُ اسمِه في الحديث من الرجال والنساء.
وقوله "صنّفوا فيه المُبْهَمات" أي الكُتُب التي تَحمِلُ في اسمِها هذا الاسمَ: "المُبْهَم" وأَحْسَنُها: المستفادُ من مبهماتِ المَتْنِ والإسناد، للحافظ أحمد العراقي.
مثال المبهم: حديث "لا يُعدي شيء شيئًا" السابق ص 77، رواه الترمذى عن أبي زُرعة بن جرير حدثنا صاحب لنا عن ابن مسعود فذكر الحديث. فقوله:=
فُلانٌ، أو شَيْخٌ، أو رَجُلٌ، أو بعضُهم، أو ابنُ فلانٍ.
ويُستدَلُّ على معرفةِ اسمِ المُبْهَم بورودِه من طريقٍ أُخرى مُسَمًّى. وصَنَّفوا فيه المُبْهَمات.
ولا يُقْبَلُ حَديثُ المُبْهَم ما لم يُسَمَّ، لأنَّ شرطَ قَبولِ الخَبَرِ عَدَالةُ رُواتهِ، ومَنْ أُبْهِمَ اسْمُهُ لا يُعرَفُ عَيْنهُ فكيف عَدالَتُه؟
وكذا لا يُقْبلُ خَبَرُه وَلَو أُبْهِمَ بلَفْظِ التعديل. كأَنْ يقولَ الراوي عنه: أَخْبَرَني الثِّقَةُ، لأنه قد يكونُ ثِقةً عِنْدَه مجروحًا عند غيره. وهذا على الأصَحِّ في المسألة، ولهذه النُّكْتَةِ لم يُقْبَلِ المرسَلُ ولو أرسَلَه العَدْلُ جازِمًا به لهذا الاحتمال بعَيْنهِ. وقيل: يُقْبَلُ تمسُّكًا بالظاهر إذِ الجَرْحُ على خِلافِ الأَصْل، وقيل: إِنْ كانَ القائِلُ عالِمًا أَجزأَهُ ذلك في حقِّ مَنْ يوافِقُه في مَذْهَبِه، وهذا ليس من مباحثِ عُلُومِ الحديث
(1)
والله تعالى المُوَفِّق.
فإنْ سُمِّيَ الراوي وانفردَ راوٍ واحدٌ بالرِّواية عنه فهو مجهولُ العَيْنِ
(2)
= "صاحب لنا" مُبْهَم، وهذا مبهم في السند. والإبهام في السند يُخِلُّ بقبول الحديث.
وقد يقع الإبهام في المتن: كحديث "أن رجلًا قال يا رسولَ اللهِ، الحجُّ كلَّ عام؟ ". هذا الرجلُ هو الأقْرَعُ بنُ حابِس. أخرجه مسلم: 4: 102، والترمذي: 3: 178 مبهمًا. وفَسَّره أبو داود: 2: 139، والنسائي: 5: 111، وابن ماجه: 2: 963.
(1)
قال ابنُ الصلاح (110): "فإنْ كانَ القائلُ لذلك عالِمًا أجْزَأَ في حقِّ مَن يوافِقُه في مذهبه على ما اختاره بعضُ المُحَقِّقين" انتهى.
وهذا هو المُعتَمَدُ في حقِّ مَن يُقلِّد أحدَ الأئمة المتْبوعين، أنه يَعتمِدُ على تصحيحهم وتضعيفهم، لأنهم مُجتهدون في هذا العِلْم أيضًا، فاعلَمْ ذلك، واعْرِفْ أدِلَّةَ مذهبِكَ على الاختصار، لِتكونَ مُتَّبعًا للنبي صلى الله عليه وسلم مباشرة.
(2)
مجهول العَيْن: هو: مَن عُرِف اسمهُ لكنْ لم يَعْرفْه علماءُ الحديثِ إلا برواية واحدٍ عنه.
وحُكْمُ حديثهِ: مردودٌ، كالمُبْهَم، "فلا يُقْبلُ حديثهُ" كما ثَبَتَ في بعضِ النُّسَخ.
لكن يُقْبَل حديثه بأحدِ أمرين ذَكَرَهُما المصنِّفُ.
وتَرتفعُ جَهالةُ العَيْن برواية اثنَيْن عنه، لكنْ لا يُقبَلُ حديثُه، بل يُصبِحُ من مرتبةِ=
كالمُبْهَم إِلَّا أنْ يُوثِّقَه غَيْرُ مَنْ يَنْفرِدُ به عنه على الأصحّ، وكذا مَنْ ينفردُ عنه إذا كان متأهِّلًا لذلك.
أو إِنْ روى عنه اثنانِ فصاعدًا ولم يُوَثَّقْ فهو مجهولُ الحال، وهو المَستُور
(1)
.
وقَدْ قَبِلَ روايتَه جماعةٌ بغَيْرِ قَيْدٍ، ورَدَّها الجمهورُ. والتحقيقُ أَنَّ رِوايةَ المستور ونحوه مِمَّا فيه الاحتمالُ؛ لا يُطلَقُ القولُ بِرَدِّها ولا بِقَبولها، بَلْ يُقالُ: هي موقوفةٌ إلى اسْتِبانَةِ حَالهِ، كما جَزمَ به إمامُ الحَرَمَيْنِ، ونحوُهُ قولُ ابنِ الصَّلاحِ فيمَنْ جُرِحَ بَجَرْحٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ
(2)
.
ثُمَّ البِدْعَةُ: وهي السببُ التاسِعُ من أسباب الطَّعْنِ في الراوي: وهي إمَّا أنْ تكونَ بِمُكَفِّرٍ كأنْ يعتقدَ ما يستَلْزِمُ الكُفْرَ
(3)
، أو بِمُفَسِّقٍ.
= مجهولِ الحالِ، أو المَستُور.
(1)
وهو مَن روى عنه اثنان فصاعِدًا ولم يُوَثَّقْ ولم يُجْرَح. واختار المصنِّفُ في حُكْمِ رواية المستور أنَّ فيها الاحتمالَ: "هي موقوفةٌ إلى استِبانَةِ حالِه". قال: "وقد قَبِلَ روايتَه جماعةٌ بغَيْر قَيْدٍ". ونقلَه ابنُ الصلاح: 112 عن بعض الشافعية. قال: "ويُشبِهُ أنْ يكونَ العملُ على هذا الرأي في كثير من كُتُب الحديث المشهورة في غيرِ واحدٍ من الرُّواة الذين تقادَمَ العَهْدُ بهم وتعذَّرتْ الخِبرةُ الباطنة بهم".
وممَّنْ قَبِلَ روايةَ المستور الإمامُ أبو حنيفة، وهو تابعي متأخِّر، عاش في عصر أَتباع التابعين، فقَبِلَ روايةَ من لم يَظْهرْ فيه جَرْحٌ، لأنَّ غالِبَ الحالِ في عصرهِ العدالةُ، للحديث المتواتِر:"خيرُ الناسِ قَرْني ثُمَّ الذين يَلُونَهم ثم الذين يلونهم". فمَنْ كان مِنْ هذه الطبقاتِ يُقبَلُ، وغيرهم لا يُقبَلُ إلَّا بِتَوثيق.
وتوسع في هذا ابنُ حِبَّان فَقَبِلَ روايةَ المجهول إذا وقَعَ في الإسناد بين ثِقَتينِ، ولم يكنِ الحديث مُنْكَرًا.
(2)
الجَرْحُ غَيْرُ المُفَسَّرِ وهو الجَرْحُ المبهَم أيضًا، هو الجَرْح الذي لم يُذْكَرْ سبَبهُ.
ومذهبُ ابن الصلاح أنه لا يَثْبُتُ به الجَرْح، لكنّه يُوقِعُ رِيبةً يُوجِبُ مِثلُها التوقفَ، وجرى على ذلك طائفةٌ من المُحَقِّقِين، ورأى بعضُهم أنه يُعْمَلُ بالجَرْح غيرِ المُفَسَّر.
والفريقان مُتَّفِقَان على عدمِ الاحتجاج بخبره، لكنه عندَ ابنِ الصلاحِ لأنه لم يَثْبُتْ تعديلُه، وعند مُخالِفيه لكَوْنِه ثابِتَ الجَرْحِ. فتنبَّه ولا تَغْلَطْ كما غَلِطَ من ظَنَّ أنه على قولِ ابنِ الصلاح تتعطَّلُ فائدةُ الجَرْح المُجْمَل؟!!.
(3)
مِثْلُ اعتقادِ حُلولِ الله تعالى في شيءٍ مِنْ خَلْقه أو اعتقادِ الجِسْمِيّة، فقد أجمعوا=
فالأولُ: لا يَقْبَلُ صاحبَها الجمهورُ، وقيل: يُقْبَل مُطْلَقًا، وقيل: إِنْ كانَ لا يعتقِدُ حِلَّ الكَذِبِ لِنُصْرَةِ مَقَالَتِهِ قُبِل.
والتحقيقُ أنَّه لا يُرَدُّ كلُّ مُكَفَّر ببدعةٍ لأنَّ كُلَّ طائفةٍ تدَّعي أنَّ مُخالِفِيها مُبْتَدِعةٌ، وقد تُبالِغُ فَتُكَفِّرُ مُخَالِفَها، فلو أُخِذَ ذلكَ على الإطلاقِ لاستَلْزَمَ تكفيرَ جميعِ الطوائفِ، فالمُعْتَمَدُ أنَّ الذي تُرَدُّ روايتهُ مَنْ أَنْكَر أمرًا متواتِرًا من الشَّرْع معلومًا من الدِّين بالضرورة، وكذا مَنِ اعتقدَ عكسَه، فأمّا مَنْ لم يَكُنْ بهذه الصفة وانضمَّ إلى ذلك ضَبْطُه لِمَا يَرْويه مع وَرَعهِ وتَقْوَاهُ فلا مانِعَ مِنْ قَبولِهِ
(1)
.
والثاني: وهو مَنْ لا تقتضي بِدْعَتُهُ التكفيرَ أصلًا، وقد اختُلِف أيضًا في قَبولِهِ ورَدِّه: فقيل: يُرَدُّ مُطْلَقًا. وهو بعيدٌ، وأكثرُ ما عُلِّلَ به أنَّ في الرِّواية عنه تَرويجًا لأمْرِه وتنويهًا بذِكْرِه، وعلى هذا فينبغي ألَّا يُرْوَى عن مُبْتَدِعٍ شيءٌ يُشارِكُه فيه غيرُ مُبْتَدِع، وقيل: يُقْبَلُ مُطْلَقًا
(2)
إلا إنِ اعتَقَدَ حِلَّ الكذب كما تقدَّم، وقيل: يقبل من لم يكن داعية إلى بدعته، لأن تزيينَ بدعته قد يَحمِلُه على تحريف الرِّواياتِ وتَسْويتِها على ما يقتضيه مذهبُه، وهذا في الأصحِّ.
وأغربَ ابنُ حِبَّان فادَّعى الاتفاقَ على قَبولِ غيرِ الدَّاعِيَةِ مِنْ غَيْرِ
= على تكفير المُجَسِّمَة. أو اعتقادِ أنَّ القرآنَ زِيْدَ فيه أو نُقِصَ منه عياذًا بالله تعالى.
(1)
أي بشرط ألَّا يكونَ داعِيةً لِبدْعَتهِ، وألَّا يكونَ المَرْوِيُّ مُوَافِقًا لِبدْعَتِه. كما سيأتي في القِسْم الثاني وفيه خِلافٌ.
(2)
أي سواءٌ كان داعيةً إلى بِدْعَتهِ أو غيرَ داعيةٍ، بشَرْطِ ألَّا يَسْتَحِلَّ الكَذِبَ لتأييد مذهبه. وعلى هذا كثيرٌ مِنْ أهلِ الحديث والفِقْه، لكنَّ مذهبَ الجمهور أَحْوَطُ.
وإنْ كان لأئمَّةِ الحديثِ نَظْرَةٌ خاصَّةٌ في بعضِ المُبتَدِعة، فقَبلُوا رِوايتَهم ولو كانوا دُعاةً، وذلك لِلخبْرَةِ الخاصّة بهذا الشخص، مِثْلُ الخوراجِ، فقد كانوا في غايةِ الصِّدقِ، وقُدَماءُ المُحَدِّثين عاصروا الرُّواةَ وخَبَرُوا أحوالَهم، وبذلك يُخَرَّجُ رِوايةُ الشيخين لبعض الدُّعاةِ.
تفصيلٍ
(1)
. نَعَمْ الأَكْثَرُ على قَبولِ غيرِ الدَّاعِيَةِ إلَّا أَنْ يرويَ ما يُقَوِّي بِدْعتَه فَيُرَدَّ على المذهب المختارِ، وبه صرَّح الحافظُ أبو إسحاق إبراهيمُ بنُ يعقوبَ الجُوزَجاني
(2)
شيخُ أبي داودَ والنَّسائي في كتابه "مَعْرِفةُ الرِّجال"، فقال في وَصْف الرُّواةِ:"ومنهم زائِغٌ عن الحقِّ -أي عن السُّنَّةِ- صادِقُ اللَّهْجَةِ فليسَ فيه حِيْلَةٌ إلَّا أنْ يُؤخَذَ مِنْ حديثهِ ما لا يكونُ مُنْكَرًا إذا لم يُقَوِّ به بِدْعَتَه" انتهى.
وما قالَهُ مُتَّجِهٌ لأنَّ العِلَّةَ التي لها رُدَّ حديثُ الدَّاعيةِ وارِدَةٌ فيما إذا كان ظاهرُ المَرْويِّ يوافِقُ مذهبَ المُبتَدِعِ ولو لمْ يكُنْ داعِيَةً، والله أعلم.
ثُمَّ سُوءُ الحِفْظِ: وهو السببُ العاشرُ من أسباب الطَّعْنِ، والمرادُ به مَنْ لم يَرْجَحْ جانبُ إصابتهِ على جانبِ خَطَئِه، وهو على قِسْمين:
إِنْ كانَ لازِمًا للراوي في جميع حالاتِه فهو الشاذُّ على رأي بعضِ أهلِ الحديث
(3)
.
أو إِنْ كان سُوءُ الحِفْظِ طارِئًا على الراوي، إمَّا لكِبَرِه، أو لِذَهابِ بَصَرِه، أو لاحتراقِ كُتبهِ، أو عَدَمِها، بأنْ كان يعتمدُها فرَجَعَ إلى حِفْظِه فَسَاءَ فهذا هو المُخْتَلِطُ
(4)
.
والحُكْمُ فيه أنَّ ما حَدَّثَ به قَبْلَ الاختلاطِ إذا تَمَيَّزَ قُبِلَ، وإذا لم
(1)
أي دونَ تفريقٍ بين أن يكونَ ظاهرُ المرْويِّ مُوافِقًا بِدْعَتَه أوْ لا.
(2)
إبراهيمُ بن يعقوبَ بن إسحاقَ الجُوزَجاني، من الحُفَّاظِ المُصنِّفين، وهو مُنحرفٌ عن علي رضي الله عنه، (ت 259)، كُتُبه تدلُّ على وَفْرَةِ علمهِ، له:"الجرح والتعديل" و"الضعفاء" ط، ولكنه يَتحاملُ على الكوفيين.
(3)
كأنهم أرادوا بالشاذِّ المُنفردَ بصفة. شرح الشرح: 535 ونقول: هذا اصطلاح غريب في الشاذ. وانظر ما سبق ص 59 و 71.
(4)
الاختلاطُ: فَسادُ العقل، وعدمُ انتظام الأقوال والأفعال، والمراد من قوله:"المُخْتَلِطُ" مَنْ طَرأ عليه هذا الفسادُ بَعْدَ أن كان صحيحًا ضابطًا.
يَتميزْ تُوُقِّفَ فيه، وكذا من اشْتَبَهَ الأمرُ فيه، وإنما يُعرَفُ ذلك باعتبارِ الآخِذينَ عنه
(1)
.
ومتى تُوبعَ السَّيِّئُ الحِفْظِ بمُعْتَبَرٍ
(2)
، كأَنْ يكونَ فوقَه أو مِثلَه لا دُونَه، وكذا المُخْتَلِطُ الذي لم يتميَّزْ والمستورُ والإسناد المُرسَلُ وكذا المُدَلَّس إذا لم يُعْرَفْ المحذوفُ منه: صار حديثُهم حَسَنًا لا لِذَاتِهِ، بَلْ وَصْفُه بذلك باعتبار المجموع من المَتابعِ والمتابَعِ، لأنَّ كُلَّ واحدٍ منهم احتمالُ أن تكونَ روايتهُ صوابًا أو غيرَ صَوابٍ على حدٍّ سَوَاء، فإذا جاءتْ مِن المُعْتَبَرِين روايةٌ موافِقَةٌ لأحدهم رُجِّحَ أحدُ الجانبين من الاحتمالين
(1)
فمَنْ عُرِفَ عنه أنه أَخذ عن المختلِطِ قَبْل اختلاطه قُبِلَ حديثُه عنه، وإن عُرِفَ أنه أَخذ عنه بعد اختلاطه لم يُقْبَلْ، وكذا إنْ وَقَعَ الشكُّ هل أَخذ عنه قَبْلَ اختلاطِه أو بعدَه لم يُقْبَل.
مِثالُ المختلِطِ عبدُ الرزاق بنُ همّام الصَّنْعانِي الإمامُ صاحبُ المصنَّف. قال أحمد: "مَنْ سَمِعَ منه بَعْدَما عَمِيَ فليس بشيء، وما كان في كُتُبه فهو صحيح. وما ليس في كتبه فإنه كان يُلَقَّن فَيَتَلَقَّن".
والضابطُ لِمَنْ سَمِع منه قَبْلَ الاختلاطِ أنْ يكونَ سَمَاعُه قَبْل المئتين. فَمِمَّنْ سَمِعَ منه قَبْلَ الاختلاطِ الأئمةُ: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهُوْيَه، وعلي بن المديني، ووَكِيع، ويحيى بن مَعِين.
وممَّنْ سَمِعَ منه بعدَ ذلك: إبراهيمُ بن منصور الرَّمَادِيّ، وإسحاق بن إبراهيمَ الدَّبَرى.
هذا وقد تنكَّبَ عن جادَّةِ الصواب بعضُ مَنْ نَصَبَ نفسَهُ للحديث إذ ضَعَّفَ حديثَ عبد الرزاق الذى في مصنَّفهِ (4: 261 و 262) في صلاة التراويح بأنَّ عبدَ الرزاق قد اختَلَطَ، لِيَسْلَمَ له دَعْواه عدمَ مشروعيةِ أدائها عِشرين ركعةً، فقد عَرفْتَ أنَّ كُتُبَه صحيحةٌ، وأنَّ التخليط أضرَّ بما سُمِع منه ممّا كان يُحَدِّثُ به من حِفْظِه. لكن الرَّجُلَ ضحَّى بهذا الجامعِ العظيم من جوامع الحديثِ النبويِّ في سبيل فكرتِه التي يُصِرُّ عليها.
(2)
أى بورود الحديث من طريقِ راوٍ مُعتَبرٍ، أى مرتبتُه "يعتبر به" في الجَرْح والتعديل. وهذا يشمَلُ مَنْ قِيل فيه:"صدوقٌ" إذا لم يَثْبُتْ ضَبْطُه فما دُونَه من مراتبِ التعديل والمرتبتين الأولى والثانية من مراتبِ الجَرْح، مثل: فيه لِينٌ، ضَعيف. فإذا ورد حديثه من طريق آخر مثله أو أقوى منه صار حسنًا، وهو الحسن لغيره. وانظر فيما سبق تعريفه للترمذى ص 67.
المذكورَيْن، ودَلَّ ذلك على أنَّ الحديثَ محفوظٌ، فارتقى من درجة التوقُّفِ إلى درجة القَبول. ومع ارتقائه إلى درجة القَبولِ فهو مُنْحَطٌّ عن رُتْبَةِ الحَسَنِ لِذَاتِه، ورُبَّما توقَّفَ بعضُهم عن إطلاقِ اسمِ الحَسَنِ عليه.
وقدِ انْقَضى ما يتعلَّقُ بالمَتْنِ مِنْ حيثُ القَبولُ والرَّدُّ.
ثُمَّ الإسنادُ وهو الطريقُ المُوصِلَةُ إلى المَتْنِ.
والمَتْنُ: هو غايةُ ما ينتهي إليه الإسنادُ مِنَ الكَلام.
وهو إمَّا أن ينتهيَ إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم ويقتضى لفظُه -إمّا تصريحًا أو حُكمًا- أنَّ المنقولَ بذلك الإسناد من قوله صلى الله عليه وسلم أو من فعله أو من تقريره.
مثالُ المرفوعِ من القَوْل تصريحًا: أن يقولَ الصحابيُّ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، أو: حدَّثَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أو يقولَ هو أو غيرُه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا، ونحوَ ذلك.
ومثالُ المرفوعِ من الفعل تصريحًا: أنْ يقولَ الصحابيُّ: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كذا، أو يقولَ هو أو غيرهُ: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يفعلُ كذا.
ومثالُ المرفوعِ من التقرير تصريحًا: أنْ يقولَ الصحابيُّ فَعَلْتُ بحَضْرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كذا، أو يقولَ هو أو غيرُه: فَعَلَ فلانٌ بحَضْرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم كذا، ولا يَذْكُرَ إنكارَهُ لذلك.
ومثالُ المرفوع مِنَ القَوْل حُكمًا لا تصريحًا: ما يقولُ الصحابيُّ -الذي لم يَأخذْ عن الإسرائيلياتِ
(1)
- ما لا مجالَ للاجتهاد فيه
(2)
، ولا لَهُ تَعَلُّقٌ
(1)
الإسرائيليات: هي اللَّوْن اليهوديّ والنصرانيّ من الثقافة والأخبار.
(2)
قوله "ما لا مجالَ للاجتهادِ فيه" مفعولٌ لقوله: "ما يقول الصحابي" وما بينهما مُعترض. والذي لا مجالَ لاجتهادٍ فيه فسَّرَهُ المصنِّفُ بقوله: "كالإخبار عن الأمور الماضية. . ." فكلُّ ما ذكره لا مجالَ للاجتهادِ فيه.
ببيانِ لُغَةٍ أو شرحٍ غريبٍ، كالإخبار عن الأمور الماضية من بَدْءِ الخَلْقِ وأخبارِ الأنبياء، أو الآتيةِ كالملاحِمِ والفِتَنِ
(1)
وأحوالِ يومِ القِيامة، وكذا الإخبارِ عمَّا يَحْصُلُ بفعله ثوابٌ مخصوصٌ أو عِقَابٌ مخصوص.
وإنما كان له حُكْمُ المرفوع، لأنَّ إِخبارَه بذلك يقتضي مُخْبِرًا له، وما لا مَجَالَ للاجتهاد فيه يقتضي مُوَقِّفًا
(2)
للقائِل به، ولا مُوَقِّفَ للصحابة إلَّا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أو بعضُ مَنْ يُخبِرُ عن الكُتُب القديمة، فلِهذا وَقَعَ الاحترازُ عنِ القِسْم الثاني
(3)
.
فإذا كان كذلك فَلَهُ حُكْمُ ما لو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مرفوعٌ سَوَاءٌ كان مِمَّا سَمِعَه منه أو عنه بواسطة.
ومثالُ المرفوعِ من الفِعْل حُكْمًا: أنْ يفعلَ
(4)
ما لا مجالَ للاجتهاد فيه، فَيُنَزَّلُ على أنَّ ذلك عندَه عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الشافعيُّ في صلاة عليٍّ في الكُسُوف في كُلِّ رَكْعَةٍ أكثرُ من رُكُوعَيْن
(5)
.
ومثالُ المرفوعِ من التقرير حُكمًا: أنْ يُخبِرَ الصحابيُّ أنهم كانوا يفعلون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كذا
(6)
، فإنه يكونُ له حُكْمُ الرَّفْع مِنْ جِهَةِ أنَّ الظاهِرَ اطِّلاعُه صلى الله عليه وسلم على ذلك لِتَوفُّرِ دَوَاعِيهم على سؤاله عن أمُورِ دينهم،
(1)
الملاحم: الحُروب الهائلة في آخر الزمان. والفِتَن: الشدائدُ التي تنزلُ بالناس وتختبر دينَهم في آخر الزمان أيضًا.
(2)
أي لأنّ إخبارَ الراوي عن الأمور المذكورة يقتضي مُخبِرًا أي عن الله ومُوَقِّفًا أي مُعَلِّمًا وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فيكون لهذا الموقوفِ حُكمُ المرفوع.
(3)
أي شَرَطْنَا ألَّا يكونَ أَخَذَ عَنِ الإسرائيليات، فلَمْ يبقَ إلا الأخذُ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
قوله "أن يفعل" أي الصحابي، وفي النسخ الأخرى:"أن يفعل الصحابي". وهو واضح من سِياق الكلام.
(5)
أشار إليه مسلم: 3: 34 وأخرجه أحمد: 1: 143، فذكر صلاةَ عليٍّ رضي الله عنه تفصيلًا أربع ركوعات في كل ركعة. . . "ثم حدَّثهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك فَعَل". ورجاله ثقات، مجمع الزوائد: 2: 207.
(6)
وكذا قولُ الصحابي "كانوا يقولون كذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم".
ولأنَّ ذلك الزمانَ زمانُ نزولِ الوَحْي فلا يقعُ من الصحابةِ فِعْلُ شيءٍ ويَستَمِرُّون عليه إلَّا وهو غيرُ ممنوعِ الفِعْلِ.
وقَدْ استدَلَّ جابرٌ وأبو سعيدٍ رضي الله عنهما على جواز العَزْلِ بأنَّهم كانوا يَفْعَلونَه والقرآنُ يَنْزِلُ
(1)
، ولو كان مما يُنْهَى عنه لنَهَى عنه القرآنُ.
ويَلْتَحِقُ بقوله "حُكمًا" ما وَرَدَ بصيغة الكِناية في مَوْضِعِ الصِّيَغِ الصَّريحةِ بالنسبةِ إليه صلى الله عليه وسلم كقول التابعيِّ عن الصحابيِّ: "يَرْفَعُ الحديثَ، أو يَرْوِيه، أو يَنْمِيه، أو روايةً، أو يبلُغُ به، أو رَوَاه"
(2)
.
وقد يَقْتَصِرُونَ على القول مع حَذْفِ القائل
(3)
، ويريدون به النبيَّ صلى الله عليه وسلم كقول ابنِ سيرينَ عن أبي هريرةَ قال: قال: تُقاتِلون قومًا. . . الحديث
(4)
، وفي كلام الخطيبِ أنه اصطلاحٌ خاصٌّ بأهل البَصْرة.
ومن الصيغِ المحتملة قولُ الصحابي: "من السُّنَّة كذا"، فالأكثرُ أنَّ ذلك مرفوعٌ، ونَقَلَ ابنُ عبد البَرِّ فيه الاتفاقَ، قال: وإذا قالها غيرُ الصحابي فكذلك ما لم يُضِفْهَا إلى صاحِبِها كَسُنَّةِ العُمَرَيْن، وفي نَقْلِ الاتفاقِ نَظَرٌ، فعَنِ الشافعي في أصلِ المسألة قَولانِ، وذهبَ إلى أنه غيرُ مرفوعٍ أبو بكرٍ الصَّيْرَفيّ
(5)
من الشافعية، وأبو بكرٍ الرازي من الحَنَفِيَّة،
(1)
ولفظُه: "كنا نَعْزِلُ والقرآنُ يَنْزِلُ". البخاري: 7: 33 ومسلم: 4: 169 كلاهما عن جابر وأبي سعيد.
(2)
المراد بهذه الألفاظ كلِّها نِسْبَةُ الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم والوصول به إليه، "يَنْمِيه" أي يَنقُلُه عنه، و"يَبْلُغُ به" أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا.
ومن أمثلتها حديثُ أبي هريرة روايةً: "تقاتلون قومًا صغارَ الأعين. . .". هكذا عند أبي داود: 4: 112. وعند مسلم: 8: 184: "يبلغ به. . .". ورواه البخاريُّ بالرَّفع الصريح: 4: 43 والترمذي: 4: 497.
(3)
وهو أن يقول الراوي عند ذكر الصحابي: قال: قال. ولا يذكر القائل أي النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
سَبَقَ تخريجهُ، وهذه روايةٌ أخرى له.
(5)
محمد بن عبد الله الصَّيْرفي أبو بكر، الفقيه الشافعي، أحدُ المتكلمين المشهورين بالنظر في زمانه. (ت 330) له شرح رسالة الشافعي، وغيره في الأصول والفروع.
وابنُ حَزْمٍ
(1)
من أهل الظاهر، واحتجّوا بأنَّ السُّنَّةَ تترددُ بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره.
وأُجِيبوا: بأنَّ احتمالَ إرادةِ غيرِ النبي صلى الله عليه وسلم بعيدٌ، وقد روى البخاريُّ في صحيحهِ في حديث ابنِ شِهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه في قصته مع الحَجَّاجِ حين قال له:"إنْ كُنْتَ تُريدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بالصلاة" قال ابنُ شِهاب: فقلتُ لِسَالِمٍ: أَفَعَلَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "وهل يَعْنُونَ بذلك إلا سُنَّتَه؟! "
(2)
، فنَقَلَ سالمٌ -وهو أحدُ الفقهاء السبعة
(3)
من أهل المدينة وأحدُ الحفَّاظِ من التابعين- عن الصحابة أنهم إذا أَطلقوا السنةَ لا يريدون بذلك إلا سنةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا قولُ بعضِهم: إنْ كان مرفوعًا فَلِمَ لا يقولون فيه: قال رسولُ الله؟ فجوابُه: أنهم تركوا الجَزْمَ بذلك تورّعًا واحتياطًا، ومن هذا قولُ أبي قِلابَةَ
(4)
عن أنس: "مِنَ السُّنةِ إذا تزوَّجَ البِكْرَ على الثيِّبِ أقامَ عندها سَبْعًا" أخرجاه في الصحيح
(5)
.
(1)
علي بن أحمد بن سعيد الشهير بابن حَزْم، المحدِّث الحافظ، ولد بقُرطُبَة (384)، ونشأ في بيت رئاسة ونعمة، كان أديبًا في صباه، ثم تلقى الموطّأ ومذهب مالك، ثم تحوَّل شافعيًّا، ثم تحوّل ظاهريًّا، وتعصَّب للظاهر وتطرَّف فيه حتى وصلَ إلى نتائجَ مُستغرَبةٍ في الفِقه، مما نَفَّرَ الناسَ عنه، كما أنه لشدة اعتدادِه بحافظتهِ كان يقع في الوَهَم الشنيع، (ت 456). خَلّدَ المذهبَ الظاهريَّ بتآليفه فيه، منها: المُحلَّى (ط) والإحكام في أصول الأحكام (ط). وله: الفِصَل في المِلل والأهواء والنحل (ط). وغيرها.
(2)
الحديث في الرَّواح إلى عَرَفَة للوقوف في الحج، ومعنى "هجِّر" سِرْ في نصف النهار واشتداد الحرارة. أخرجه البخاري (الجمع بين الصلاتين بعرفة): 2: 162.
(3)
وهم: خارِجة بن زيد، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعُروة بن الزبير، وعُبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة، وسعيد بن المُسيِّب، وأبو سَلَمة بن عبد الرحمن، وسُليمان بن يسار.
(4)
أبو قِلابة -بكسر القاف وتخفيف اللام-: عبد الله بن زيد الجَرْمي، البَصْري، ثقة فاضل، كثير الإرسال. هَرَب من تَوَلَّي منصب القضاء. (ت 104). حديثه في الستة.
(5)
البخارى في النِّكاح (إذا تزوج الثيِّبَ على البِكر): 7: 34 ومسلم: 4: 173.
قال أبو قِلابَةَ: "لو شِئْتُ لَقُلْتُ إنَّ أنسًا رفعَه إلى النبي صلى الله عليه وسلم". أي لو قلت لم أَكذِبْ لأنَّ قولَه: "من السُّنةِ" هذا معناه، لكنَّ إيرادَهُ بالصيغة التي ذَكرَها الصحابة أَوْلى.
ومن ذلك قولُ الصحابي: "أُمِرنا بكذا" أو "نُهينا عن كذا"، فالخلافُ فيه كالخِلافِ في الذي قَبْلَه
(1)
لأنَّ مُطْلَقَ ذلك يَنْصرِفُ بظاهره إلى مَنْ له الأمرُ والنهيُ وهو الرسولُ صلى الله عليه وسلم.
وخالفَ في ذلك طائفةٌ تمسَّكوا باحتمالِ أنْ يكونَ المرادُ غَيْرَه كأَمْرِ القرآنِ أو الإجماعِ أو بعضِ الخُلَفَاءِ أو الاستنباطِ؟ وأُجيبوا: بأنَّ الأصلَ هو الأولُ وما عَدَاهُ مُحتَمل، لكنّه بالنسبة إليه مَرْجُوحٌ. وأيضًا فمَنْ كان في طاعةِ رئيسٍ إذا قال: أُمِرْتُ، لا يُفهمُ عنه أنَّ آمِرَه إلا رئيسُه.
وأمَّا قَوْلُ مَنْ قال: يَحْتَمِلُ أنْ يَظُنَّ ما ليس بأمرٍ أمرًا فلا اختصاصَ له بهذه المسألة، بل هو مذكورٌ فيما لو صَرَّحَ فقال: أَمَرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بكذا، وهو احتمالٌ ضعيفٌ، لأنَّ الصحابيَّ عَدْلٌ عارِفٌ باللسانِ فلا يُطْلِقُ ذلك إلا بَعْدَ التحقيق.
ومن ذلك قولُه: "كُنَّا نفعلُ كذا"، فله حُكْمُ الرفع أيضًا كما تقدم
(2)
.
ومن ذلك أنْ يَحكُمَ الصحابيُّ على فِعْلٍ من الأفعال بأنه طاعةٌ لله أو لِرسوله أو معصيةٌ، كقولِ عمَّار: "مَنْ صامَ اليومَ الذي يُشَكُّ فيه فقد عَصى
(1)
أي قوله: "من السنة كذا".
(2)
أي في ص 107 في قوله: "كانوا يفعلون كذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم. . .". ومثلها "كانوا يقولون. . ." و"كنا نفعل" أو "كنا نقول".
والحاصل أن لهذه الصيغة عبارتين:
1 -
أن تُضافَ إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم أن حُكمَها الرفع.
2 -
ألّا تضافَ إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي المقصود هنا. وهذه حُكمُها الرفع عند كثيرٍ من المُحدِّثين. وعند ابنِ الصلاح هي موقوفة. والأكثرُ على الأول.
أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"
(1)
. فهذا حُكْمُهُ الرَّفْعُ أيضًا لأن الظاهرَ أنَّ ذلك ممَّا تَلَقَّاهُ عنه صلى الله عليه وسلم.
أو تنتهي غايةُ الإسناد إلى الصحابي
(2)
كذلك، أي مِثْلُ ما تقدَّمَ في كَوْنِ اللفظِ يقتضي التصريحَ بأنَّ المنقولَ هو مِنْ قَوْلِ الصحابي أو مِنْ فِعْلِه أو من تقريرِه، ولا يَجيءُ فيه جميعُ ما تقدَّمَ بلْ مُعْظَمُه، والتشبيهُ لا تُشْتَرَطُ فيه المساواةُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.
ولما كان هذا المُختَصرُ شاملًا لجميع أنواع علوم الحديث اسْتطردْتُ منه إلى تعريفِ الصحابيّ ما هو فقُلْتُ:
وهو مَنْ لَقِيَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُؤمِنًا به وماتَ على الإسلامِ ولو تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ في الأصَحِّ.
والمرادُ باللِّقاء ما هو أعمُّ من المُجَالَسَة والمُمَاشَاة ووصولِ أحدِهما إلى الآخر وإن لم يُكالِمْهُ، ويَدْخُل فيه رُؤيةُ أحدِهما الآخر سَوَاءٌ كان ذلك بنَفْسِه أَمْ بغيرِه.
والتعبيرُ باللُّقِىِّ أَوْلى مِن قَوْل بعضِهم: "الصحابيُّ مَنْ رأى النبىَّ صلى الله عليه وسلم"، لأنه يُخرِجُ ابنَ أمِّ مكتومٍ
(3)
ونَحْوَه من العُمْيانِ، وهم صحابةٌ بِلا تردُّدٍ، و"اللُّقِيُّ" في هذا التعريف كالجنس. وقَوْلي:"مؤمنًا به" كالفَصْل يُخْرِجُ مَنْ حَصَلَ له اللِّقاءُ المذكورُ لكنْ في حالِ كَوْنهِ كافرًا.
وقولي: "بِهِ". فَصْلٌ ثانٍ يُخْرِجُ مَنْ لَقِيَهُ مؤمنًا، لكنْ بغيرهِ من
(1)
رواه البخاريُّ مُعَلَّقًا في الصوم: 3: 26 - 27 ووصله الترمذي: 3: 7 وصحَّحه. وأبو داود: 1: 300 بنحوه والنَّسائي: 4: 126 وابن ماجه: 1: 527 رقم 1645.
(2)
ويُسمَّى الموقوفَ، وهو ما نُسِب إلى الصحابي.
(3)
عبد الله بن قيس بن زائدة وقيل: عَمرو بن قيس بن زائدة. أسلم قديمًا، وكان يؤم الناس بالصلاة عند سفر النبي صلى الله عليه وسلم. شهد القادسية وقُتِل بها شهيدًا، وقيل رجع إلى المدينة فمات بها.
الأنبياء. لكنْ هل يُخرِجُ مَنْ لَقِيَه مؤمنًا بأنه سَيُبْعَثُ ولم يُدركِ البِعثةَ؟ فيه نَظَرٌ
(1)
.
وقولي: "وماتَ على الإسلام"، فَصْلٌ ثالثٌ يُخْرِجُ مَنِ ارتدَّ بعد أنْ لَقِيَه مؤمنًا وماتَ على الرِّدَّة كعُبَيد الله بن جَحْشٍ وابنِ خَطَل.
وقولي: "ولو تَخَلَّلتْ رِدَّةٌ"، أي بَيْنَ لُقِيِّه له مؤمِنًا به وبينَ مَوتِه على الإسلام، فإنَّ اسمَ الصُّحْبَةِ باقٍ له سَوَاءٌ رَجَعَ إلى الإسلام في حياته صلى الله عليه وسلم أَمْ بعدَه، سَوَاءٌ لَقِيَهُ ثانيًا أَمْ لا.
وقَوْلي: "في الأصحِّ" إشارةٌ إلى الخِلافِ في المسألة، ويَدُلُّ على رُجْحَانِ الأوَّلِ قِصَّةُ الأشْعثِ بن قيس فإنه كان ممّنِ ارتدَّ، وأُتيَ به إلى أبي بكرٍ الصديق أسيرًا فعادَ إلى الإسلام فقَبِلَ منه وزَوَّجَه أُختَه، ولم يَتَخَلَّفْ أحدٌ عن ذِكرِهِ في الصحابة ولا عَنْ تخريج أحاديثهِ في المسانيد وغيرِها
(2)
.
تنبيهان:
لا خَفَاءَ برُجْحَانِ رُتْبَةِ مَنْ لازَمَهُ صلى الله عليه وسلم وقَاتَلَ معه أو قُتِلَ تحتَ رايتهِ على مَنْ لم يُلازِمْه أو لم يَحْضُرْ معه مَشْهدًا وعلى مَنْ كلَّمَه يسيرًا أو ماشَاهُ قليلًا أو رآه على بُعْدٍ أو في حالِ الطُّفولية
(3)
، وإن كان شَرَفُ الصُّحْبَةِ حاصِلًا للجميع. ومَنْ ليس له منهم سماعٌ منه فحديثُهُ مُرْسَل مِنْ حيثُ الرِّواية،
(1)
هذا ليس صحابيًّا، لأنه لا ينطبق عليه تعريفُ الصحابي.
(2)
هذا عند الشافعية، وعند الحنَفِيَّة والمالِكِيَّة تَسْقُطُ صُحْبَتُه إلّا إذا عاد إلى الإسلام ورأى النبى صلى الله عليه وسلم ثانية بَعْدَ إسلامه.
والمسألةُ فرْعٌ على الخِلاف في الرِّدَّةِ هل تُحْبِطُ العملَ بمجرَّدِ حُصُولها أو تُحْبِطُهُ إذا استمرَّ صاحبُها عليها إلى الموت. الحنفية والمالكية على أنها تُحبط العمل بمجرد حصولها، عياذًا بالله تعالى.
وقد يقال في الأشْعَث: إنّ تخريجَ حديثهِ لكَوْنِه مُتَّصِلَ السنَدِ، ولو لم يُعْتَبرْ صحابيًّا اصطلاحًا.
(3)
بشرط أنْ يكونَ مُميِّزًا.
وهُمْ مع ذلك معدودونَ في الصَّحابةِ لِمَا نالوه من شَرَفِ الرُّؤية.
ثانيهما: يُعْرَفُ كَوْنُه صحابيًّا بالتواتر أو الاستفاضة أو الشُّهرة، أو بإخبار بعضِ الصحابة، أو بعضِ الثقاتِ التابعين، أو بإخباره عن نَفْسِه بأنه صحابيٌّ إذا كانتْ دَعْواهُ ذلك تدخُلُ تحتَ الإمكان
(1)
. وقدِ اسْتَشْكَلَ هذا الأخيرَ جَماعةٌ مِنْ حيثُ إنَّ دَعْواهُ ذلك نظيرُ دَعْوى مَنْ قال: أَنا عَدْلٌ، ويحتاجُ إلى تأمُّل.
أو تنتهي غايةُ الإسناد إلى التابعى
(2)
.
وهو مَنْ لَقِيَ الصحابىّ كذلك. وهذا مُتَعلِّقٌ باللُّقِىِّ وما ذُكِرَ معَه، إلّا قَيْدَ الإيمانِ به فذلكَ خاصٌّ بالنبي صلى الله عليه وسلم
(3)
، وهذا هو المُختارُ خِلافًا لِمَنِ اشترطَ في التابعي طُولَ المُلازَمة، أو صِحَّةَ السَّماعِ، أو التمييزَ.
وَبَقِيَ بين الصحابة والتابعينَ طبقةٌ أُخرى اخْتُلِفَ في إلحاقِهم بأيِّ القِسْمَيْن وهم: المُخَضْرَمون الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ولم يَرَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
فَعَدَّهم ابنُ عبدِ البَرِّ في الصَّحابةِ، وادَّعى عِياضٌ وغيرُه أنَّ ابنَ عبد البَرِّ يقول: إنهم صحابةٌ، وفيه نَظَرٌ، لأنه أفصحَ في خُطْبَةِ كِتَابهِ بأنه إنما أَوْرَدَهُم لِيكونَ كتابُه جامعًا مُستوعِبًا لأهل القَرْنِ الأول، والصحيحُ أنهم مَعْدُودونَ في كِبارِ التابعينَ سَوَاءٌ عُرِفَ أنَّ الواحدَ منهم كانَ مُسلِمًا في زمنِ النبىِّ صلى الله عليه وسلم كالنَّجَاشِيِّ أَمْ لا، لكنْ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإسراءِ كُشِفَ له عن جميع مَنْ في الأرض فرآهم فينبغي أنْ يُعَدَّ مَنْ كانَ مؤمنًا به
(1)
أي المُدَّةِ المُمكِنَةِ لِوجُودِ الصحابةِ، وهي مئةُ عامٍ مِنْ بَعْدِ السَّنَةِ العاشِرة للهِجرة، كما ثَبتَ ذلك في الأحاديث.
(2)
ويُسَمَّى الحديثَ المقطوع، وهو ما نُسِبَ إلى التابعي.
(3)
أي يُشترَطُ في التابعىّ الشروطُ التي سبقَتْ في الصحابي، لكنْ لا يُشترَطُ كونُه مسلمًا عِند لِقائه للصحابي. بل يكفي إسلامُه بعد ذلك، أمّا الصحابي فيُشترَطُ أنْ يكونَ مسلمًا عِند لِقائه للنبي صلى الله عليه وسلم.
في حياته إذ ذاك وإنْ لَمْ يُلاقِهِ، في الصَّحابةِ، لِحُصول الرؤيةِ في حياته صلى الله عليه وسلم
(1)
.
فالقِسْمُ الأولُ مما تقدَّمَ ذِكْرُه من الأقسامِ الثلاثة، وهو ما تنتهي إليه غايةُ الإسنادِ هو المرفوعُ، سَوَاءٌ كان ذلك الانتهاءُ بإسنادٍ مُتَّصِلٍ أَمْ لا، والثاني الموقوفُ وهو ما انتهى إلى الصحابيِّ والثالثُ المَقْطوعُ وهو ما انتهى إلى التابعيّ
(2)
.
ومَنْ دُونَ التابعيّ مِنْ أتباع التابعين فَمَنْ بَعْدَهم فيه أيْ في التسمية مِثْلُه أي مِثْلُ ما ينتهي إلى التابعيّ في تسمية جميعِ ذلك مقطوعًا، وإن شئتَ قُلْتَ: موقوفٌ على فُلان.
فحَصَلَتِ التفرِقةُ في الاصطلاح بين المقطوع والمُنقَطع، فالمنقطِعُ مِنْ مباحثِ الإسناد كما تقدَّم، والمقطوعُ مِنْ مباحثِ المَتْنِ كما ترى، وقد أَطلقَ بعضُهم هذا في مَوضِعِ هذا وبالعَكْس تجوُّزًا عن الاصطلاح.
ويُقالُ للأخيرَيْن أي الموقوفِ والمقطوعِ: الأَثَرُ.
والمُسْنَدُ -في قول أهل الحديث: هذا حديثٌ مُسنَدٌ- هو مرفوعُ
(1)
كذا في الأصل، وفي نُسَخٍ أخرى "من جانبه صلى الله عليه وسلم" وهي أَلْيَقُ.
قال نور الدين: لكنْ يَبقى الإشكالُ على عَدِّ المُخضرَمين صَحابةً قائمًا، لأنهم لم يَلْقَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم حالَ إسلامهم ولا رَأَوْهُ.
(2)
أقسامُ الحديثِ مِنْ حيثُ قائلُه ثلاثةٌ فيما ذَكَر المصنِّف هي:
المرفوعُ: ما أُضيفَ أيْ نُسِبَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الموقوفُ: ما أُضيفَ إلى الصحابي.
المقطوعُ: ما أُضيفَ إلى التابعي، أو مَنْ بَعْدَه.
بقي رابع هو: الحديثُ القُدسِيّ: وهو ما أُضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسنَدَهُ إلى ربه عز وجل.
وأشار المصنِّفُ بقوله "سَوَاءٌ كان بإسنادٍ مُتَّصِلٍ أَمْ لا" إلى أنه لا يُشْتَرطُ في هذه الأقسام اتصالُ السنَد وكذا غيرُه من الشروط، بل يُشترَطُ نسبتُه إلى القائل فقط. ثُمَّ يُحكَمُ عليه قَبولًا أو رَدًّا بحَسَبِ حالِه سَنَدًا ومَتْنًا.
صحابيٍّ بِسَنَدٍ ظاهِرُهُ الاتصالُ
(1)
. فقَوْلي: "مرفوع" كالجِنْس، وقَوْلي:"صحابىّ" كالفَصْل يَخْرُجُ به ما رَفَعَه التابعيُّ فإنه مُرْسَلٌ، أو مَنْ دُونَه فإنه مُعْضَل، أو مُعَلَّق، وقَوْلي:"ظاهِرُهُ الاتصالُ"، يَخْرُجُ به ما ظاهِرُهُ الانقطاعُ، ويَدْخُلُ ما فيه الاحتمالُ وما يوجدُ فيه حقيقةُ الاتصالِ من باب الأَوْلى. ويُفْهَمُ مِن التقييد بالظهور أنَّ الانقطاعَ الخَفِيَّ كَعَنْعَنَةِ المُدَلِّس، والمُعاصِر الذي لم يَثْبُتْ لُقِيُّه، لا يُخْرِجُ الحديثَ عن كونِه مُسنَدًا لإطباق الأئمة الذين خَرَّجُوا المسانيد
(2)
على ذلك.
وهذا التعريفُ موافِقٌ لقَولِ الحاكم: المُسْنَدُ ما رواه المُحَدِّثُ عن شيخٍ يَظْهَرُ سَمَاعُهُ منه وكذا شيخُه عن شيخِه مُتَصِلًا إلى صحابيٍّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا الخطيبُ فقال: "المُسْنَدُ المُتَّصِلُ". فعلى هذا الموقوفُ إذا جاءَ بسَنَدٍ متصلٍ يُسَمَّى عِنْدَه مُسْنَدًا، لكنْ قال:"إنَّ ذلك قد يأتي لكنْ بِقِلَّةٍ".
وأَبْعَدَ ابنُ عبدِ البَرِّ حيثُ قالَ: "المُسْنَدُ المرفوعُ"، ولم يَتعرَّضْ للإسنادِ، فإنّه يَصْدُقُ على المُرْسَلِ والمُعْضَلِ والمُنْقَطِعِ إذا كان المَتْنُ مرفوعًا، ولا قائِلَ به
(3)
.
فإنْ قَلَّ عددهُ أي عددُ رجالِ السنَدِ فإمّا أنْ ينتهيَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك العَدَدِ القليلِ بالنسبة إلى سنَدٍ آخرَ يَرِدُ به ذلك الحديثُ بعَيْنِهِ بعددٍ كثير، أو ينتهيَ إلى إمامٍ من أئمةِ الحديث ذي صِفَةٍ عَلِيَّةٍ كالحفْظِ والفِقْه والضَّبْطِ
(1)
التحقيقُ في المُسنَد أنه: ما اتصلَ سَنَدهُ مرفوعًا. انظر تحقيقَنا في منهج النقد: 349 - 350.
(2)
في أصلنا "الأسانيد". ولعله سهو قلم من الناسخ.
(3)
هذا اصطلاحٌ خاصٌّ لبَعْضِ المُحَدِّثين، وَجَدْنَاه مُستعمَلًا على قِلَّةٍ عِنْدَ بعضِ المتقدِّمين كالنَّسائي، وعند المُحَدِّثين المغَارِبَةِ كابْنِ عبدِ البَرِّ، والحافظِ عبدِ الحقِّ. فَتَنَبَّهْ لهذا وأمثالِه مما يكونُ مصطلَحًا لبعض الأئمة، أو مُستعمَلًا على قِلّة.
والتصنيف وغيرِ ذلك من الصفاتِ المُقتَضِيَةِ للترجيح، كَشُعْبَةَ ومالِكٍ والثَّوري
(1)
والشافعىّ والبُخاري ومسلم ونَحْوِهم.
فالأول: وهو ما ينتهى إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم العُلُوُّ المُطْلَقُ
(2)
فإنِ اتفقَ أنْ يكونَ سَنَدهُ صحيحًا كان الغايةَ القُصوى، وإلَّا فصورةُ العُلُوِّ فيه موجودةٌ ما لم يَكُنْ موضوعًا فهو كالعَدَمِ.
والثاني: العُلُوُّ النِّسبِيُّ وهو ما يَقِلُّ العددُ فيه إلى ذلك الإمام ولو كان العددُ من ذلك الإمامِ إلى مُنتَهاهُ كثيرًا.
وقد عَظُمَتْ رَغْبَةُ المتأخرين فيه حتى غَلَبَ ذلك على كثيرٍ منهم بحيثُ أهملوا الاشتغالَ بما هو أهمُّ منه.
وإنما كان العُلُوُّ مرغوبًا فيه لكَوْنِه أَقْرَبَ إلى الصِّحَّةِ وقِلَّةِ الخطأ، لأنه ما مِنْ راوٍ مِنْ رِجالِ الإسنادِ إلَّا والخطأُ جائِزٌ عليه، فكُلَّما كَثُرَتِ الوسائطُ وطالَ السَّنَدُ كَثُرَتْ مَظَانُّ التجويز، وكُلَّما قَلَّتْ قَلَّتْ.
فإنْ كانَ في النُّزُولِ مَزِيَّةٌ ليسَتْ في العُلُوِّ كأنْ تكونَ رِجالهُ أَوْثَقَ منه أو أَحْفَظَ أو أَفْقَهَ، أو الاتصالُ فيه أَظْهَرَ، فلا تَرَدُّدَ أنَّ النُّزولَ حِيْنَئِذٍ أَوْلى.
وأمَّا مَنْ رَجَّحَ النزولَ مُطْلَقًا واحتَجَّ بأَنَّ كَثْرَةَ البحثِ تقتضي المَشقَّةَ
(1)
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، الكوفي، ولد (97)، وهو إمام في الفِقه والحديث والزُّهد والوَرَع، (ت 161). روى له الستة.
(2)
العُلوُّ: صفةٌ لنوعٍ من الأسانيدِ المُتَّصلة.
والإسناد العالي: هو الذي قَلَّ عددُ الوسائِطِ فيه مع الاتصالِ.
والعُلُوُّ قِسْمان:
العُلُوُّ المُطلَقُ: وهو قِلَّةُ الوسائطِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والعُلو النِّسبِيُّ: وسيأتي تعريفُه وبحثُه في كلام المصنف.
فَيَعْظُمُ الأجرُ، فذلك ترجيحٌ بأمرٍ أجنبي عمّا يَتعلَّقُ بالتصحيح والتضعيف
(1)
.
وفيه أي العُلُوِّ النِّسبِيِّ المُوافَقَةُ: وهي الوصولُ إلى شيخِ أحدِ المُصَنِّفينَ مِنْ غَيْرِ طريقهِ أي الطريقِ التي تَصِلُ إلى ذلك المُصَنِّفِ المُعَيَّنِ.
مِثَالُهُ: روى البخاريُّ عن قُتَيْبَةَ
(2)
عن مالِكٍ حديثًا، فَلَوْ رَوَيْنَاهُ مِنْ طريقِهِ كان بَيْنَنَا وبَيْنَ قُتَيْبَةَ ثمانيةٌ، ولَوْ رَوَيْنَا ذلك الحديثَ بِعَيْنِهِ مِنْ طريقِ أبي العبَّاسِ السَّرَّاجِ
(3)
عن قُتَيْبَةَ مَثَلًا لَكان بيننا وبين قُتَيْبَةَ فيه سَبْعَةٌ، فقَدْ حَصَلَ لنا المُوافقَةُ مع البخاري في شيخه بعَيْنِه مع عُلُوِّ الإسناد إليه.
وفيه أيْ العُلُوِّ النِّسبِيِّ البَدَلُ: وهو الوُصُولُ إلى شَيْخِ شَيْخِهِ كذلك، كأنْ يقَعَ لنا ذلكَ الإسنادُ بعَيْنهِ من طريقٍ أُخرى إلى القَعْنَبِيّ عن مالِكٍ، فيكونَ القَعْنَبِيُّ بدلًا فيه مِنْ قُتَيبةَ، وأَكْثَرُ ما يعتَبرونَ الموافقةَ والبَدَل إذا قارَنَا العُلُوَّ، وإلَّا فَاسْمُ المُوافقةِ والبَدَلِ واقِعٌ بِدُونهِ.
وفيه أي العُلُوِّ النِّسْبِيِّ المُسَاوَاةُ: وهي استواءُ عددِ الإسنادِ مِنَ الرَّاوي إلى آخرِهِ أي الإسنادِ مع إسنادِ أَحَدِ المُصَنِّفيْن. كأَنْ يَرْوِيَ النَّسَائِيُّ مَثَلًا حديثًا يقعُ بينَه وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيه أَحَدَ عَشَرَ نَفْسًا، فيقَعَ لنا ذلكَ الحديثُ بعَيْنِه بإسنادٍ آخَرَ إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم يَقعُ بيننا وبينَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدَ عَشَرَ نَفْسًا، فنُسَاوِيَ النَّسائِيَّ مِنْ حَيْثُ العَدَدُ مع قَطْعِ النَّظَرِ عن مُلاحَظَةِ ذلك الإسنادِ الخاصِّ.
وفيه أيّ العُلُوِّ النِّسْبِيِّ أيضًا المُصَافَحَةُ: وهي الاستواءُ مع تلميذِ ذلك
(1)
أي فلا قيمةَ له. ونقول: إنَّ العُرْفَ العِلْميَّ دَرَجَ على أنه كُلَّما أَمْكَنَ الرُّجوعُ إلى مَرْجِعٍ أَقْدَمَ كان أَوْلَى وأَقْوى. فالمُحَدِّثُونَ هُمُ الأصلُ في هذا العُرْفِ.
(2)
قُتَيبةُ بنُ سعيد ثِقَةٌ ثَبْتٌ (ت 240). روى له الستة.
(3)
محمد بن إسحاقَ بن إبراهيم السَّرَّاجُ، شيخُ خُرَاسانَ، ثِقَةٌ حافِظٌ وُلد (216)، (ت 313). روى عنه البخاري ومسلم في غير الصحيحين، وغيرُهما، وهو في عداد طلبة البخارى، انظر ص 120.
المُصَنِّفِ على الوَجْهِ المَشْرُوح أوَّلًا، وسُمِّيَتْ مُصَافَحَةً لأنَّ العادَةَ جَرَتْ في الغالِبِ بالمُصَافَحَةِ بَيْنَ مَنْ تَلاقَيَا، ونحنُ فى هذه الصُّورَةِ كأَنَّا لَقِيْنَا النَّسَائِيَّ، فكأَنَّا صَافَحْنَاهُ.
ويُقَابِلُ العُلُوَّ بأقسامِه المذكورةِ النُّزُولُ
(1)
فيكونُ كلُّ قِسْمٍ مِنْ أقسامِ العُلُوَّ يُقَابِلُهُ قِسْمٌ مِنْ أقسامِ النزولِ، خِلافًا لِمَنْ زَعَمَ أنَّ العُلُوَّ قد يقَعُ غَيْرَ تابِعٍ لِنُزُولٍ.
فإنْ تَشَارَكَ الراوي ومَنْ رَوى عنه في أمرٍ مِنَ الأمورِ المُتَعَلِّقَة بالرِّواية مِثْل السِّنِّ واللُّقِىِّ والأَخْذِ عن المشايخِ فهُوَ النَّوْعُ الذي يُقَالُ له: رِوَايةُ الأَقْرَانِ لأنَّه حِينَئِذٍ يكونُ رَاويًا عن قَرِينهِ.
وإن رَوَى كلٌّ منهما أيْ القَرِينَيْنِ عنِ الآخرِ فهو المُدَبَّجُ
(2)
. وهو أخَصُّ مِنَ الأوَّلِ، فَكُلُّ مُدَبَّجٍ أَقْرَانٌ، وليسَ كُلُّ أَقْرَانٍ مُدَبَّجًا.
وقد صنَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ في ذلك، وصنَّفَ أبو الشيخ الأَصْبَهَانِيُّ
(3)
في الذي قَبْلَهُ.
وإذا رَوى الشيخُ عن تلميذِهِ صَدَقَ أنَّ كُلًّا منهما يَروي عن الآخَرِ فَهَلْ يُسَمَّى مُدَبَّجًا؟ فيه بَحْثٌ، والظاهِرُ: لا، لأنَّه مِنْ رِوَايةِ الأكابِرِ عنِ
(1)
النزول: كثرة عدد الرواة، والنازل: هو الحديث الذي كثر عدد الرواة في سنده، ضد العالي.
(2)
الأقران: همُ الرواةُ المتقارِبُون في السِّنِّ والإسناد، واكتفَى بعضُهم بالتقارُبِ في الإسناد، وهو الاشتراكُ في الأَخْذِ عن المشايخ.
ورِوايةُ القرينِ عن القرينِ قِسْمَانِ:
الأول: المُدَبَّجُ، وهو أَنْ يَرويَ كلٌّ منهما عنِ الآخَرِ.
الثاني: غَيْرُ المُدَبَّجِ، وهو أنْ يَرويَ أحدُ القَرينَيْنِ عنِ الآخَرِ، ولا يَرْويَ الآخَرُ عنه. وفائدةُ هذا النوع الصِّيانَةُ عن الخطَأ.
(3)
عبدُ الله بن محمد بن جعفر بن حَيَّان الأنصاريُّ الأصْبهَانيّ، المُفَسِّر، والمُحَدِّث الحافظ. وكان مع سَعَةِ عِلْمِه صالحًا خَيِّرًا قانِتًا لله ويُكْثِرُ في كُتُبهِ من الغَرائب. (ت 369). له: العظمَةُ، وطبقات المُحَدِّثينَ بأَصْبَهانَ، وغيرُهما.
الأصاغِرِ، والتدبيجُ مأخوذٌ مِنْ دِيْبَاجَتَيْ الوَجْهِ، فيقتضي أنْ يكونَ ذلكَ مُستويًا من الجانبَيْن فلا يَجِيءُ فيه هذا.
وإنْ روى الراوي عمَّن هو دُونَه في السِّنِّ أو فى اللُّقِيِّ أو فى المِقْدَارِ فهذا النَّوعُ هو رِوَايةُ الأكابرِ عن الأصاغِرِ
(1)
.
ومِنْه أي مِنْ جُمْلَةِ هذا النَّوعِ -وهو أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِهِ- رِوايةُ الآباءِ عن الأبناءِ، والصَّحابةِ عنِ التابعينَ، والشيخِ عن تلميذِه، ونحوِ ذلك.
وفي عَكْسِهِ كَثْرَةٌ لأنَّه هو الجادَّةُ المَسْلُوكَةُ الغَالِبَةُ.
ومِنْه مَنْ رَوى عن أبيه عن جَدِّهِ. وفائِدَةُ مَعْرِفَةِ ذلكَ التمييزُ بينَ مَراتِبِهم وتنزيلُ الناسِ منازِلَهم.
وقد صنَّفَ الخطيبُ في رِوايةِ الآباءِ عن الأبناءِ تصنيفًا، وأَفْرَدَ جُزْءًا لطيفًا في رِوايةِ الصَّحَابةِ عن التابعينَ. وجَمَعَ الحافِظُ صلاحُ الدِّينِ العَلائِيُّ
(2)
مِنَ المُتأخِّرينَ مُجلَّدًا كبيرًا في معرفَةِ مَنْ رَوى عن أبيه عن جَدِّه عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم وقَسَّمه أقسامًا، فمِنْهُ ما يعودُ الضميرُ في قولهِ عَنْ جَدِّه على الراوي، ومنه ما يعودُ الضميرُ فيه على أبيه، وبَيَّن ذلكَ وحقَّقَه، وخرّجَ في كُلِّ ترجمةٍ
(3)
حديثًا من مَرْوِيِّهِ، وقد لخّصْتُ كتابَه المذكورَ وزِدْتُ عليه. تراجِمَ كثيرةً جدًّا، وأكثرُ ما وقعَ فيه ما تسلسلَتْ فيه الروايةُ عن الآباءِ بأربعةَ عَشَرَ أَبًا.
(1)
رِوَايةُ الأكابِر عنِ الأصاغِر: أنْ يرويَ الكبيرُ القَدْرِ أو السِّنِّ أو الكبيرُ فيهما عَمَّن دُونَه. وهو كثيرٌ في المُحَدِّثين. وفائدتُه ألَّا يُتَوهَّمَ انقلابُ السنَدِ. مِثْلُ روايةِ البخاريِّ عن تلميذِه التِّرمذي.
(2)
خليل بن كِيكَلْدِي بن عبد الله العلائي صلاح الدين أبو سعيد، وُلد في دمشق (694)، وكان حافِظًا ثَبْتًا ثقةً، عارفًا بأسماء الرجال والعِلَلِ والمُتون، فقيهًا متكلِّمًا أديبًا. (ت 761). من كتبه: جامع التحصيل لأحكام المراسيل (ط)، والوَشْيُ المُعْلَم في ذكر مَن روى عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(3)
أي سِلسلة سندٍ.
وإنِ اشتركَ اثنانِ عن شيخٍ وتقدَّم مَوْتُ أحدِهما على الآخَرِ فهو
السابِقُ واللَّاحِقُ
(1)
.
وأكثرُ ما وَقَفْنَا عليه مِنْ ذلكَ ما بَيْنَ الراوِيَيْنِ فيه في الوَفَاةِ مئةٌ وخمسون سَنَةً، وذلكَ أنَّ الحافِظَ السِّلَفِي
(2)
سَمِعَ منه أبو عليِّ البَرَدَانيّ
(3)
أحدُ مشايخِهِ حديثًا ورَواهُ عنه وماتَ على رأس الخمس مئة، ثُمَّ كانَ آخِرَ أصحابِ السِّلَفِيِّ بالسَّمَاعِ سِبْطُهُ أبو القاسِمِ عبدُ الرحمن بنُ مكّيّ، وكانَتْ وفاتُه سَنَةَ خَمسينَ وست مئة.
ومِنْ قديمِ ذلك أنَّ البُخاريَّ حَدَّثَ عن تلميذِه أبي العباسِ السَّرَّاج أشياءَ في التاريخ وغيرِه، وماتَ سَنَةَ سِتٍّ وخمسينَ ومئتين، وآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عن السَّرَّاجِ بالسَّماعِ أبو الحُسين الخفّاف
(4)
وماتَ سَنَةَ ثلاثٍ وتِسعينَ وثلاث مئة، وغالبُ ما يقعُ من ذلك أنَّ المسموعَ منه قد يتأخَّرُ بعدَ أحدِ الراويَيْن عنه زمانًا حتى يَسْمَعَ منه بعضُ الأحداثِ ويعيشَ بعدَ السَّماعِ دَهْرًا طويلًا فيَحْصُلَ مِنْ مجموعِ ذلك نحوُ هذه المُدَّةِ. واللهُ الموفق.
وإنْ روى الراوي عن اثنَيْنِ مُتَّفِقَي الاسمِ أو مع اسم الأب أو مع اسمِ الجَدِّ أو مع النِّسبة
(5)
ولم يَتميَّزا بما يخُصُّ كُلًّا منهما، فإنْ كانا ثِقَتَيْنِ لم
(1)
السابِقُ واللَّاحِقُ: هو أنْ يَشْتَرِكَ في الرِّواية عن الراوي راويانِ بين وفاتَيْهما زمنٌ بعيدٌ.
(2)
أحمد بن محمد بن أحمد سِلَفَه، الأصفهاني، أبو طاهر السِّلَفِي، ولد نحو (472)، إمام حافظ فقيه مُعَمَّر، شاع حديثُه وكلامُه مع القَبول. (ت 576). وقد جاوز المئة. له مؤلفات كثيرة.
(3)
أحمد بن محمد بن أحمد أبو علي البَرَداني، ولد (426) بِبَرَدَان قُربَ بغداد، وكان أحدَ المُبَرِّزينَ في الحديث، فقيهًا حنبليًّا (ت 498).
(4)
أحمد بن محمد النَّيْسَابُوري، الخفّاف، نِسبةً إلى الخُفِّ، لأنه كان يصنَعُ الخِفافَ أو يبيعُها، اشتَهر بالزُّهدِ والوَرَعِ، (ت 393).
(5)
سماه المصنف فيما يأتي 121 "المهمل" ويدخل في هذا "المُتَّفِق والمُفْتَرِق". وسيأتي تفصيلُه ص 129، فقارِنْهما، وقد بَيّن المصنِّفُ هنا طُرقَ حَلِّ مُشكِلِه، فإنْ لم يتميزْ أحدُ المتفقين عن غيره، وكان أحدُهما غيرَ ثقةٍ وَجَبَ التوقُّفُ عن العمل بالحديث.
يَضُرّ، ومِنْ ذلك ما وقَعَ في البخاري في روايته عن أحمدَ غيرَ منسوبٍ عن ابنِ وهب، فإنّه إمّا أحمدُ بن صالح أو أحمد بن عيسى، أو عن محمدٍ غيرَ منسوبٍ عن أهل العراق، فإنه إمَّا محمدُ بن سَلَام، أو محمد بن يحيى الذُّهْلَى، وقد استوعبتُ ذلك في مقدمة شرحِ البخاري.
ومَنْ أراد لذلك ضابِطًا كُلِّيًّا يمتازُ أحدُهما عن الآخَرِ فَبِاختِصَاصِه أي الشيخِ المَرْوِي عنه بأحدِهما يتبينُ المُهْمَلُ، ومتى لم يتبيَّنْ ذلك أو كان مُختصًّا بهما معًا فإشكاله شديدٌ فَيُرْجَعُ فيه إلى القرائِن والنَّظَرِ الغالِبِ.
وإن روى عن شيخ حديثًا، فجحد الشيخ مَرْوِيَّه:
فإنْ كانَ جَزْمًا كأَنْ يقولَ: كَذَبَ عَلَىَّ، أوْ ما رَويتُ هذا، أو نحوَ ذلك، فإنْ وقَعَ منه ذلك، رُدَّ ذلك الخبرُ لِكَذِبِ واحِدٍ منهما لا بعَيْنِه، ولا يكونُ ذلك قادحًا في واحدٍ منهما للتعارُضِ.
أو كان جَحْدُهُ احتمالًا كأنْ يقولَ: ما أَذْكُرُ هذا أو لا أَعْرِفهُ، قُبِلَ ذلك الحديثُ في الأصحِّ، لأنَّ ذلكَ يُحْمَلُ على نِسيان الشيخ، وقيل: لا يُقْبَلُ
(1)
لأنَّ الفَرْعَ تَبَعٌ للأَصْلِ في إثباتِ الحديث، بحَيْثُ إذا ثَبَّتَ الأصلُ الحديثَ ثَبتَتْ روايةُ الفَرْعِ، وكذلك ينبغي أن يكونَ فرعًا عليه وتَبَعًا له في التحقيق. وهذا مُتَعَقَّبٌ
(2)
فإنَّ عدالةَ الفَرْعِ تقتضي صِدْقَه، وعَدَمُ عِلْمِ الأصلِ لا يُنَافيه، فالمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النَّافي. وأمَّا قياسُ ذلك بالشهادة
(3)
فَفَاسِدٌ لأنَّ شهادةَ الفَرْعِ لا تُسْمَعُ مع القُدْرةِ على شهادة الأصل بِخِلافِ الرِّواية فافْتَرقا.
وفِيه أي في هذا النوعِ صَنَّفَ الدَّارقُطْنِيُّ كتابَ "مَنْ حَدَّثَ ونَسِيَ"،
(1)
الشافعيةُ وأهلُ الحديثِ على الأول، والحَنَفِيَّةُ على الثاني أَيْ عَدَمِ قَبول الحديثِ، لأنَّ إنكارَ الأصلِ له أَوْقَعَ عِنْدَنا رِيْبَةً في حِفْظِ تلميذه عنه.
(2)
مُتَعَقَّبٌ: مُنْتَقد.
(3)
أي بالشهادةِ على الشهادة، إذا أَنكرَ الشاهِدُ الأصليُّ لم تُقْبَلْ شهادةُ الثاني الذي يَنْقُلُ شهادَته عن الأصلي.
وفيه ما يدُلُّ على تقويةِ المَذْهَبِ الصحيح لكَوْنِ كثيرٍ منهم حدَّثوا بأحاديثَ فلمَّا عُرِضَتْ عليهم لم يتذكروها، لكنَّهم لاعتمادِهم على الرُّواةِ عنهم صاروا يَرْوُونَها عن الذين رَوَوْهَا عنهم عن أنفُسِهم، كحديثِ سُهَيْل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هُرَيرةَ مرفوعًا في قِصَّة الشاهدِ واليمين
(1)
، قال عبدُ العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدِي
(2)
: حدَّثَني به ربيعةُ بنُ أبي عبد الرحمن
(3)
عن سُهَيْل، فَلَقِيْتُ سُهَيلًا فسألتُه عنه فلَمْ يعرِفْهُ، فقلتُ: إنَّ ربيعةَ حدَّثَني عنك بكَذا، فكان سُهَيلٌ بَعْدَ ذلك يقول:"حدَّثَني ربيعةُ عني أني حدَّثْتُه عن أبي به". ونظائِرهُ كثيرةٌ
(4)
.
وإنِ اتفقَ الرُّواةُ في إسنادٍ من الأسانيدِ في صيغ الأداءِ كسَمِعْتُ فلانًا قال سمعتُ فلانًا، أو حدَّثَنا فلانٌ قال حدثنا فلانٌ، وغيرِ ذلك من الصِّيَغِ، أو غيرِها من الحالاتِ القَوْلية، كَسَمِعْتُ فلانًا يقول: أَشهدُ باللهِ لَقَد حدَّثنى فلانٌ .. إلى آخِرِه، أو الفِعْلِية كقوله: دَخَلْنَا على فلانٍ فأَطْعَمَنا تمرًا .. إلى آخِرِه، أو القَوْلية والفِعْلِية معًا كقوله: حدَّثَني فلانٌ وهو آخِذٌ بِلِحْيَتِه قال: آمنْتُ بالقَدَر. . . إلى آخِرِه
(5)
فهو
المُسَلْسَل
(6)
.
(1)
حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي في الأحكام، باب اليمين مع الشاهد 3: 627، وأبو داود في الأقضية 3: 309، وابن ماجه في الأحكام 2:793.
ومراجعة عبد العزيز لسهيل رواها أبو داود.
وأخرج الحديث مسلم في الأقضية: 5: 128 وأبو داود: 3: 308 عن ابن عباس من غير طريق سهيل.
(2)
أبو محمد المَدَني، مُحَدِّثٌ مُكثِر، صَدُوق، إذا حدَّث مِنْ كُتُبه فَثِقَةٌ، كان يُحَدِّثُ من كتبِ غيرِه فيُخطِئُ. (ت 186 أو 187). روى له الجماعةُ.
(3)
هو المعروفُ بربيعةِ الرأي، واسمُ أبيه فَرّوخٌ، لُقّبَ ربيعةُ بذلك لإمعانه في الرأي. ثِقَةٌ فَقِيهٌ. (ت 136) روى له الجماعةُ.
(4)
لكنَّ هذا لا يُلغي احتمال خطأ الراوي ما دامَ الشيخُ لم يتذكر الحديثَ.
(5)
تمامُ الحديثِ: "آمنتُ بالقَدَر خيره وشرّه حُلْوه ومُرّه" أخرجَه الحاكِمُ تامَّ التسلسُلِ في معرفة علوم الحديث: 31 - 32 والأيوبي في المناهِل السَّلْسَلَة: 35 - 38.
(6)
المُسَلْسَل: هو ما تتابَعَ رجالُ إسنادِه على صفةٍ واحدةٍ أو حالٍ واحدةٍ للرُّواة أو الرِّواية. =
وهو من صفات الإسناد، وقد يقعُ التسلسُلُ في مُعظمِ الإسناد، كحديثِ المُسَلْسَل بالأَوَّلِيَّة، فإنَّ السِّلْسِلَةَ تنتهي فيه إلى سُفْيانَ بنِ عُيَيْنَةَ فَقَطْ، ومَنْ رَواهُ مُسَلْسَلًا إلى مُنْتَهاهُ فَقَدْ وَهِمَ
(1)
.
وصِيَغُ الأداءِ المُشَارِ إليه على ثَماني مَراتِبَ
(2)
:
الأولى: سمعْتُ وحَدَّثَني.
ثم أَخبرَني وقرأتُ عليه، وهي المرتبة الثانيةُ.
ثم قُرِئ عليه وأنا أَسْمَعُ، وهي الثالثة.
= والتسلسلُ يُقوِّي اتصالَ السندِ، ويُشعِرُ بحلاوة الإسناد. وحُكْمُه حكمُ المتصل؛ يُقبَلُ إذا استوفى سائرَ الشروط.
(1)
يشيرُ إلى حديثِ "الرَّاحِمُون يرحمهُم الرحمنُ". تسلسلَ بقولِ كلِّ واحدٍ "حدَّثَني فلانٌ وهو أولُ حديثٍ سَمِعْتُه منه". لكنَّ التسلسلَ صحَّ فيه إلى سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ، واتصل السندُ بعدَه دون تسلسلٍ.
(2)
ذكرَ المصنِّفُ كيفيةَ العبارةِ في الأداءِ بطُرقِ تحمُّلِ الحديثِ، وطُرُقُ التحمُّلِ ثمانيةٌ، نُعَرِّفُها فيما يأتي:
1 -
السماعُ: أي أنْ يَسْمعَ الراوي الحديثَ من الشيخ المُحَدِّث.
2 -
العَرْضُ: أنْ يقرأَ هو على الشيخِ أو يقرأَ غيرُه على الشيخ وهو يسمَعُ.
3 -
الإجازةُ: أنْ يأذنَ له الشيخُ بروايةِ كتابهِ أو كُتبه، فيقولَ: أَجَزْتُ لك كذا.
4 -
المناولَةُ: أنْ يُناوِلَ الشيخُ تلميذَه كتابًا، ويقول: هذا حديثي أو رِوايتي عن فلان. وقد تقترنُ بالإجازَةِ.
5 -
المكاتبةُ: أي الروايةُ بالمراسَلَةِ الكِتَابية.
6 -
الإعلامُ: وهو إعلامُ الشيخِ للطالبِ أنَّ هذا الحديثَ أو هذا الكتابَ رِوايتُه عن فلانٍ، من غيرِ أن يَأذنَ له بروايته.
7 -
الوَصيَّةُ: أنْ يُوْصِيَ بكتُبه لشخصٍ بَعْدَ وفاتِه.
8 -
الوِجادَةُ: أنْ يجدَ المرءُ حديثًا أو كتابًا بخطِّ شخصٍ بإسنادِه.
وهذا بحثٌ مهم فَافْهَمْهُ. وطرق الأداء ثمانية مثل طرق التحمل، ويجوز لمن تحمل بأي طريقة من طرق التحمل أن يؤدي بها أو بغيرها من الطرق، لكن يجب بيان طريقة تحملهِ في الأداء.
ثم أَنبأني، وهي الرابعة.
ثم ناوَلَني، وهي الخامسة.
ثم شافَهني أي بالإجازَةِ، وهي السادسة.
ثم كَتَبَ إليَّ أي بالإجازةِ، وهي السابعة.
ثم عَنْ ونَحْوُها من الصِّيَغِ المُحتَمِلةِ للسَّماعِ والإجازة ولِعَدَمِ السَّماعِ أيضًا، وهذا مِثْلُ: قالَ وذكرَ ورَوَى.
فاللفظانِ الأوّلانِ مِنْ صِيَغِ الأداءِ وهما: سَمِعْتُ وحدَّثني صالحانِ لِمَنْ سَمِعَ وحدَه مِنْ لفظِ الشيخ، وتخصيصُ التَّحديثِ بما سُمِعَ مِنْ لفظِ الشيخِ هو الشائِعُ بين أهلِ الحديثِ اصطلاحًا، ولا فرقَ بين التحديثِ والإخبارِ مِنْ حيثُ اللغةُ، وفي ادّعاءِ الفَرْقِ بينهما تكلُّفٌ شديد، لكنْ لمَّا تَقَرَّرَ الاصطلاحُ صار ذلك حقيقةً عُرْفِيةً فَتُقَدَّمُ على الحقيقةِ اللُّغوِية، مع أنَّ هذا الاصطلاحَ إنما شاعَ عند المَشَارِقَةِ ومَنْ تَبِعَهم، وأمَّا غَالِبُ المَغَارِبةِ فلَمْ يَستعمِلوا هذا الاصطلاحَ، بَلِ الإخبارُ والتحديثُ عِنْدَهم بمعنًى واحدٍ.
فإنْ جَمَعَ الراوي، أي أتى بصيغةِ الجَمْعِ في الصِّيغَةِ الأولى، كأَنْ يقولَ: حدَّثَنا فلانٌ أو سَمِعْنَا فلانًا يقولُ، فهو دليلٌ على أنّه سَمِعَ منه مع غيرِه، وقد تكونُ النونُ لِلْعَظَمَةِ لكنْ بِقِلَّةٍ.
وأَوَّلُها أي المراتبِ أَصْرَحُها أي أَصْرَحُ صِيَغِ الأدَاءِ في سَمَاعِ قائِلِها لأنها لا تَحتَمِلُ الواسطةَ، لكنْ حدَّثني قَدْ تُطلَقُ في الإجازَةِ تَدليسًا. وأرفَعُها مِقْدَارًا ما يقَعُ في الإملاءِ لِمَا فيه من التثبُّتِ والتحفُّظِ.
والثالثُ وهو أَخْبَرني، والرابعُ وهو قرأْتُ لِمَنْ قرأَ بنَفْسِه على الشيخِ، فإنْ جَمَعَ كأَنْ يقولَ: أَخْبَرَنَا أو قَرَأْنَا عليه فهو كالخامسِ، وهو قُرِئَ عليه وأنا أسمَعُ. وَعُرِفَ مِنْ هذا أنَّ التعبيرَ بقرأتُ لِمَنْ قرأَ خيرٌ من التعبير بالإخبار، لأنه أَفْصَحُ بصورةِ الحالِ.
تنبيهٌ:
القِراءةُ على الشيخِ أحدُ وجوهِ التحمُّل عندَ الجمهورِ، وأَبْعَدَ مَنْ أبى ذلك مِنْ أهلِ العراقِ، وقدِ اشتدَّ إنكارُ الإمامِ مالكٍ وغيرهِ من المَدَنِيّينَ عليهم في ذلك، حتى بالَغَ بعضُهم فرجَّحَها على السَّماعِ مِنْ لفظِ الشيخ، وذَهَبَ جَمْعٌ جَمٌّ مِنْهُمُ البخاريُّ -وحَكَاهُ في أوائلِ صحيحهِ عن جماعةٍ مِنَ الأئمَّةِ- إلى أنَّ السَّماعَ مِنْ لَفْظِ الشيخِ والقراءةَ عليه يعني في الصِّحَّة والقُوَّةِ سَوَاءٌ، واللهُ أَعْلَمُ.
والإنباءُ مِنْ حَيْثُ اللُّغةُ واصطلاحُ المُتقدِّمين بمعنى الإخبارِ، إلَّا في عُرْفِ المُتأخِّرين فهو للإِجَازة كَعَنْ، لأنَّها في عُرْفِ المتأخِّرين لِلإجازَة.
وعَنْعَنَةُ
(1)
المُعاصِرِ مَحمُولَةٌ على السَّماعِ، بِخِلافِ غَيْرِ المُعاصِرِ فإنَّها تكونُ مُرْسَلَةً أو مُنْقَطِعَةً، فَشَرْطُ حَمْلِها على السَّماعِ ثبوتُ المُعاصَرَةِ
(2)
(1)
العَنْعَنَةُ: هي الروايةُ بـ "عَنْ"، بأنْ يقولَ الراوي:"عن فُلانٍ".
والحديثُ المُعَنعنُ: هو الحديث الذي في سَنَدِه "عن فلان".
ومِثْلُهُ في الحُكْمِ: المُؤَنَّنُ. وهو الذي في سَنَدِه: "أنّ فلانًا .. ".
(2)
أي مع إمكانِ لِقاءِ الراوي لِمَنْ روى عنه بصيغة "عَنْ"، مِثْل أنْ نعلمَ من تاريخِهما أنَّ كُلًّا منهما أقامَ في بَلْدَةِ كذا. وإلّا فلا تكفي المعاصَرَةُ أي مُجَرَّدُ وُجودِهما في عصرٍ واحد كَيْفما كان. والحاصِلُ في تحقيقِ المسألةِ أنَّ قولَ الراوي "عن فلان" يُحمَلُ على السَّماعِ، أي يُعتبَرُ سماعًا بشرطين:
الأول: ألّا يكونَ الراوي الذي قال عَنْ فُلانٍ مُدَلِّسا.
الثاني: لِقاؤُه لِمَنْ روى عنه.
لكن كيفَ يَثْبُتُ اللِّقَاءُ؟ اتفقوا على إِثباتِ اللِّقاءِ بينَهما بتصريحِ الراوي أنه سَمِعَ عمَّن رَوى عنه، أو بتنصيصِ عالمٍ من المُحَدِّثين بذلك. واختلفوا في إثباتِ اللِّقاء واتصالِ السَّنَدِ بالمُعاصَرَةِ مع إمكانِ اللِّقاء بشرطِ سلامةِ الراوي من التَّدليس، فلَمْ يَقْبَلْها عليُّ بن المَدِيني وطائفةٌ من المُحَدِّثين. وقَبلهَا الإمامُ مُسلِمٌ، واحتجَّ لمذهبهِ بقوةٍ في مُقدِّمة صحيحِه وأَنكرَ على مَنْ خَالفَهُ في ذلك. وقد رَجَّحَ المُصنِّفُ وأَكثرُ أهلِ المُصطَلحِ الرأيَ الأوّلَ، واستدلَّ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ هنا بقوله:"لِيَحْصُلَ الأمنُ من باقي مُعَنْعَنِه عن كَوْنِه مِنَ المُرسَلِ الخَفيّ". لكنَّ هذا يدُلُّ على قوةِ الطريقةِ الأولى في إثباتِ اللِّقاءِ، لِمَا فيها مِنْ زِيادة الإثباتِ، ولا يُبْطِلُ الطريقةَ الثانيةَ،=
إِلَّا من المُدَلِّس فإنها ليسَتْ محمولةً على السَّماعِ.
وقيل: يُشتَرَطُ في حَمْلِ عَنْعَنَةِ المُعاصِرِ على السَّماعِ ثُبوتُ لِقَائِهما أي الشيخِ والراوي عنه ولو مرَّةً واحدةً؛ لِيحصلَ الأمنُ من باقي مُعَنْعَنِهِ عن كَوْنِه من المُرْسَلِ الخَفِىِّ، وهو المُختارُ تَبَعًا لِعليّ بن المَدِيني والبُخاريِّ وغيرِهما مِنَ النُّقَّادِ
(1)
.
وأَطلَقُوا المُشافَهةَ في الإجازَةِ المُتَلَفَّظِ بها تجوُّزًا، وكذا المُكَاتَبةَ في الإجازَةِ المكتوبِ بها، وهو موجودٌ في عبارةِ كثيرٍ من المُتأخِّرين، بخلافِ المُتقدِّمين فإنَّهم إنَّما يُطْلِقُونها فيما كتَبَ به الشيخُ من الحديثِ إلى الطالبِ سَوَاءٌ أذِنَ له في رِوَايتهِ أَمْ لا، لا فيما إذا كَتَبَ إليه بالإجازَةِ فَقَطْ.
واشترطوا في صِحَّةِ الرِّوايةِ بالمُنَاوَلَةِ اقتِرانَها بالإذْنِ بالرِّواية. وهي -إذا حَصَلَ هذا الشرطُ- أَرْفَعُ أنواعِ الإجازة، لِمَا فيها مِنَ التعيينِ والتشخيص.
وصُورَتُها أنْ يَدْفَعَ الشيخُ أصلَه أو ما قامَ مقامَه للطالبِ، أو يُحْضِرَ
= والدليلُ على ذلك أنَّ المسألةَ في الراوي غير المُدلِّس، ومِثلُه لا يَروي عمَّنْ عاصَره ولم يَلْقَه بصيغةِ عَنْ وإِلّا كان مُدَلِّسًا والمسألةُ في غير المُدَلِّس. ويدلُّ على صِحَّةِ مذهب مُسلِمٍ أمورٌ أُخرى منها:
1 -
انَعقادُ الإجماعِ على صِحَّةِ أحاديثِ مُسْلِمٍ.
2 -
جريانُ العملِ على الاحتجاج بأحاديثِ مُسلِمٍ دونَ بحثٍ في مُعَنْعَنٍ منها أو غيرِ مُعَنْعَن. وقد أَوْهَمَ بعضُ العصريِّين الأفاضلُ في هذه المسألةِ أنَّ مُسلِمًا لا يشترطُ اللِّقاءَ لاتِّصالِ السَّنَدِ بل يكتفي بالمُعاصَرة، وهذا خطأٌ بَلْ هو يَشتَرِطُ اللِّقاءَ وسَمَاعَ الراوي ممَّنْ حَدَّث عنه بِعَنْ، والدليلُ القاطِعُ على ذلك أنه لا خِلافَ بينَ الجمهورِ ومنهم مُسلِمٌ أنَّ الحديثَ المُرسَلَ لا يُحتَجُّ به. وقد صرَّحَ مُسلِمٌ بذلك في مُقَدِّمةِ صحيحِه بعبارةٍ صريحةٍ جازمةٍ، إنما الخلافُ بينَ المُحَدِّثينَ في العَنْعَنَةِ في كيفيةِ ثُبوتِ اللِّقاءِ بينَ الراوي بِعَنْ وبينَ الشيخِ المَرْوِيِّ عنه.
(1)
في نسبةِ هذا الرأي لِلبُخاري نظرٌ شديدٌ، وذلك لأنَّ مسلمًا معروفٌ بغايةِ الإعظامِ والاحترامِ لِشيْخِهِ البُخاريِّ، بما لا يتناسَبُ مع شِدَّةِ اللَّهجةِ والإنكارِ في رَدِّ مسلمٍ على هذا الرأي.
الطالبُ الأصلَ لِلْشيخِ، ويقولَ له في الصورتَين: هذا رِوايتي عن فُلانٍ فارْوِهِ عني، وشَرْطُهُ أيضًا أنْ يُمَكِّنَهُ منه إمَّا بالتمليكِ وإمَّا بالعاريّة لِيَنْقُلَ منه ويُقَابِلَ عليه، وإلَّا إنْ ناوَلَهُ واسْتَرَدَّ في الحالِ فلا يتبيَّنُ لها زِيادةُ مَزِيَّةٍ على الإجازةِ المُعيَّنةِ، وهي أنْ يُجيزَهُ الشيخُ بروايةِ كِتَابٍ مُعَيَّنٍ ويُعَيِّنَ له كيفيةَ روايتهِ له. وإذا خَلَتْ المُناولَةُ عنِ الإذْنِ لم يُعْتَبَرْ بها عندَ الجمهورِ، وجَنَحَ مَنْ اعتبرَها إلى أنَّ مُناوَلَتَه إيَّاهُ تقومُ مَقامَ إرسالِه إليه بالكِتابِ مِنْ بَلَدٍ إلى بَلد.
وقد ذَهَبَ إلى صِحَّةِ الرِّوايةِ بالكِتابةِ المُجَرَّدةِ جماعةٌ من الأئمَّةِ، ولو لم يُقْرَنْ ذلك بالإذْنِ بالرِّوايةِ، كأنَّهم اكْتَفَوْا في ذلك بالقَرينةِ، ولم يَظْهَرْ لي فَرْقٌ قويٌّ بينَ مُنَاوَلَةِ الشيخِ مِنْ يَدِهِ للطالِبِ وبَيْنَ إرسالهِ إليه بالكِتَابِ مِنْ موضعٍ إلى آخَرَ إذا خَلا كلٌّ منهما عن الإذْنِ.
وكذا اشترطوا الإذْنَ في الوِجَادَةِ:
وهي أنْ يَجِدَ بِخَطٍّ يُعْرَفُ كاتبُه فيقولُ: "وَجَدْتُ بخَطِّ فُلانٍ"
(1)
. ولا يَسُوغُ فيه إِطَلاقُ أخبرني بمُجَرَّد ذلك، إلَّا إِنْ كانَ له منه إِذْنٌ بالرِّواية عنه، وأَطْلَقَ قومٌ ذلك فَغُلِّطُوا.
وكذا الوصيَّةِ بالكِتَابِ:
وهو أنْ يُوصيَ عندَ موتهِ أو سَفَرِه لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بأصْلِه أو بأُصولِه، فقد قال قومٌ مِنَ الأئمَّة المتقدِّمين: يجوز له أنْ يرويَ تلك الأصولَ عنه بمجرد هذه الوصيةِ، وأبى ذلك الجمهورُ إِلَّا إِنْ كان له منه إِجازةٌ.
وكذا اشترطوا الإذْنَ بالرِّوايةِ في الإعلامِ: وهو أنْ يُعْلِمَ الشيخُ أحدَ الطَّلَبةِ بأنَّني أَروي الكتابَ الفُلانِيَّ عن فلانٍ.
(1)
ونَحْوُ ذلك قولُ العلماءِ: قال فُلانٌ في كتاب كذا، أو قال فلانٌ .. لِمَا أَخَذَهُ من كِتَاب، ولو لَمْ يَذْكر اسمَ الكتابِ. ونَحْوه العَزْو إلى المراجِعِ في الحاشية.
فإنْ كان له منه إِجازةٌ اعتُبِر، وإلَّا فلا عِبْرَةَ بذلك
(1)
، كالإِجازةِ العامَّةِ في المُجَاز له، لا في المُجَازِ به، كأنْ يقولَ: أَجَزْتُ لِجميعِ المسلمينَ، أو لِمَنْ أدرَك حياتي، أو لأهْلِ الإقليم الفُلانيّ، أو لأهلِ البَلَدِ الفُلانيّة، وهو أقربُ إلى الصِّحَّةِ لِقُرْبِ الانحصارِ.
وكذا الإجازة لِلْمَجهولِ، كأنْ يكونَ مُبهَمًا أو مُهْمَلًا.
وكذا الإجَازَة لِلْمَعْدُومِ كأنْ يقولَ: أجَزْتُ لِمَنْ سَيُولدُ لِفُلانٍ، وقد قيل: إنْ عَطَفَه على موجودٍ صَحَّ، كأنْ يقولَ: أجزْتُ لكَ ولمَنْ سَيُولَدُ لكَ، والأقربُ عدمُ الصِّحَّةِ أيضًا.
وكذلك الإجازةُ لموجودٍ أو معدومٍ عُلِّقَتْ بشرطِ مشيئةِ الغَيْر، كأنْ يقولَ: أجَزْتُ لكَ إنْ شاءَ فُلانٌ، أو أجزْتُ لِمَنْ شاءَ فلانٌ، لا أَنْ يقولَ: أجزْتُ لكَ إنْ شِئْتَ. وهذا في الأصحِّ في جميع ذلك.
وقد جوَّزَ الروايةَ بجميع ذلك -سِوَى المجهولِ ما لم يُبَيَّنِ المرادُ منه- الخطيبُ وحَكَاهُ عن جماعةٍ منْ مشايخِه، واستَعملَ الإجازةَ للمعدومِ من القُدماءِ أبو بكر بنُ أبي داود
(2)
وأبو عبدِ الله بنُ مَنْدَهْ
(3)
، واستَعملَ المُعَلَّقةَ منهم أيضًا أبو بكر بنُ أبي خَيْثَمَةَ
(4)
، وروى بالإجازة
(1)
وذهبَ كثيرٌ من المُحَدِّثين والفقهاءِ والأصوليين إلى جَوازِ الرِّواية لِمَا تَحَمَّلَهُ بالإعلامِ من غَيْرِ إجازةٍ. وهو قويٌّ، كما بيّنّا في منهج النقد:219.
(2)
هو أبو بكر عبد الله بن الإمام أبي داود السجستاني، ثقة، تكلم فيه أبوه أبو داود، (ت 316).
(3)
محمد بن إسحاقَ بن محمد المشهور بابنِ منده، وكذا اشتَهَرَ جدُّه محمدُ بنُ يحيى بذلك. وُلِدَ (310)، ورَحَلَ في الآفاق، وسَمِعَ وكَتَبَ عن ألفٍ وسبع مئة شيخٍ. ووُصِفَ بمُحَدِّثِ العَصْرِ، (ت 395). له مؤلَّفاتٌ كثيرة.
(4)
أحمدُ بن أبي خَيْثَمَةَ: زُهَيْرِ بنِ حَرْبٍ، أبو بكر، الحافظُ الحُجَّةُ الإمام، ولد (185)، وأخذَ عن الأئمَّةِ أحمدَ بن حنبلٍ وابنِ مَعِين وغيرِهما، وكان عَلَمًا في التاريخ ومعرفةِ أيامِ الناسِ. (ت 279). له كتابُ التاريخِ، في تاريخِ رُواةِ الحديث، قالوا: لا يُعْرَفُ كِتابٌ أغزرُ فوائِدَ من كتابِه هذا في التاريخ.
العامَّةِ جَمْعٌ كثيرٌ جَمَعَهُمْ بعضُ الحُفّاظِ في كتابٍ ورتَّبَهم على حروفِ المعجمِ لكَثْرَتِهم، وكُلُّ ذلك كما قالَ ابنُ الصلاحِ تَوسُّعٌ غيرُ مَرْضِيٍّ، لأنّ الإجازةَ الخاصةَ المعيَّنة مُخْتَلَفٌ في صِحَّتها اختلافًا قويًّا عند القُدَماء، وإنْ كانَ العملُ استقرَّ على اعتبارِها عندَ المتأخِّرين فهي دُونَ السماعِ بالاتفاقِ، فكيف إذا حَصَلَ فيها الاسترسالُ المذكورُ؟ فإنها تزدادُ ضعْفًا، لكنَّها في الجُملةِ خيرٌ من إيرادِ الحديثِ مُعْضَلًا. والله تعالى أَعْلَمُ.
وإلى هنا انتهى الكلامُ في أقسام صِيَغِ الأدَاءِ.
ثم الرُّواةُ إنِ اتفقَتْ أسماؤُهُم وأسماءُ آبائِهم فَصَاعِدًا واختلَفَتْ أشخاصُهُم سَوَاءٌ اتَّفَقَ في ذلك اثنانِ منهم أو أكثرُ، وكذلك إذا اتفَق اثنانِ فصاعدًا في الكُنْيَةِ والنِّسْبَةِ فهو النَّوعُ الذي يُقَالُ له المُتَّفِقُ والمُفْتَرِق
(1)
.
وفائدةُ معرفتِه خَشْيَةُ أنْ يُظَنَّ الشخصانِ شخصًا واحدًا، وقد صنَّفَ فيه الخطيبُ كتابًا حافِلًا، وقد لَخَّصْتُه وزِدْتُ عليه شيئًا كثيرًا.
وهذا عَكْسُ ما تقدَّم
(2)
من النوع المُسَمَّى بالمُهْمَلِ لأنه يُخْشَى منه أن يُظَنَّ الواحدُ اثنَيْن، وهذا يُخْشَى منه أنْ يُظَنَّ الاثنانِ واحِدًا.
وإنِ اتفقَتِ الأسماءُ خَطًّا واختلفَتْ نُطْقًا سَوَاءٌ كان مرجعُ
(1)
المُتَّفِقُ والمُفْتَرق: هو أنْ يتَّفِقَ اسمُ الراوي مع اسمِ غيره لفظًا وخطًّا. وهو أقسامٌ منها:
1 -
مَنِ اتفقَتْ أسماؤهم وأسماءُ آبائهم، مِثلُ: محمدِ بنِ عُبَيدٍ، في رجالِ الستةِ عَشَرة اسمُهمِ "محمدُ بن عبيد".
2 -
مَنِ اتفقَتْ كُنيتهُم ونسبتهُم معًا، مثالُه: أبو عِمْرانَ الجَوْني، اثنانِ: عبدُ الملك بن حبيب، وموسى بن سَهْل.
وسَبَقَ أنْ ذَكرَ المصنِّفُ هذا النوعَ ص 120، وبيَّن طُرُقَ حَلِّ إشكالِه، وتأتي فُروعٌ له مهمة، فانظُرْها.
(2)
ص 121 و 120 تعليقًا حاشية (5) منها.
الاختلاف النَّقْطَ أم الشكلَ فهو المُؤتَلِفُ والمُخْتَلِف
(1)
.
ومَعْرِفتهُ مِنْ مُهِمَّاتِ هذا الفنِّ حتى قال عليُّ بنُ المَدِيني: أشدُّ التصحيفِ ما يقعُ في الأسماءِ، ووجَّهَهُ بعضُهم بأنه شيءٌ لا يدخُلُه القياسُ، ولا قَبْلَه شيءٌ يدُلُّ عليه ولا بَعْدَه، وقد صنَّفَ فيه أبو أحمدَ العسكريُّ لكنَّه أضافَه إلى كتابِ التصحيفِ له، ثُمَّ أفردَهُ بالتأليف عبدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ فَجَمَعَ فيه كِتَابَيْنِ: كتابٌ في مُشْتَبِهِ الأسماءِ، وكتابٌ في مُشْتَبِهِ النِّسْبَةِ، وجمَعَ شيخهُ الدارقطنيُّ في ذلك كتابًا حافلًا ثم جَمَعَ الخطيبُ ذَيلًا.
ثم جَمَعَ الجميعَ أبو نصر بنُ
(2)
ماكولا في كتابه "الإكمال"، واستدركَ عليهم في كتاب آخر جَمَعَ فيه أوهامَهم وبَيَّنها، وكتابُه مِنْ أجْمَعِ ما جُمِعَ في ذلك، وهو عُمْدَةُ كُلِّ مُحَدِّثٍ بعدَه، وقد استدركَ عليه أبو بكر بنُ نُقْطَةَ ما فاتَه أو تجدَّدَ بعدَه في مُجلَّدٍ ضَخْمٍ، ثم ذَيَّلَ عليه منصورُ بن سَليم -بفتح السين
(3)
- في مُجلَّدٍ لطيف، وكذلك أبو حامد بنُ الصابوني
(4)
.
وجمَعَ الذهبي
(5)
في ذلك كتابًا مُختصَرًا جِدًّا اعتمدَ فيه على الضَّبْطِ
(1)
المُؤتلِفُ والمُخْتلِفُ: هو ما تتّفِقُ في الخطِّ صُورَتُه، وتختَلفُ في النُّطْقِ صِيغَتُه. مِثالُه: حِزام وحَرَام. يَزيد وتزيد وبَرِيد وبُرَيْد.
(2)
عليُّ بن هبةِ الله المعروف بابنِ ماكولا، سَمِعَ الحديثَ الكثيرَ، وكان نَحويًّا وشاعرًا مجيدًا وأميرًا، قُتِل سنة (475) وقيل بعدها. من كتبه: الإكمالُ في رَفْعِ الارتياب عن المُتشَابِه من الأسماء والكُنَى والأنسابِ. مرجعٌ مهم في بابه، خُلِّدَ به مؤلِّفُه وشُهِر (ط).
(3)
منصور بن سَليم الهَمْدَاني الإسكندراني، حافِظٌ مؤرِّخٌ (ت 677) من كتبه: الذَّيْلُ على تذييل ابنِ نُقْطَةَ على الإكمال.
(4)
محمد بن علي بن محمود جمالُ الدين أبو حامد ابن الصابوني، وُلِدَ (604)، وكتبَ الحديثَ ببلاد الشامِ ومِصْرَ والحجاز. وهو مُحَدِّثٌ مشهورٌ حافِظٌ، (ت 680). له مُجلَّدٌ في المُؤتَلِفِ والمُخْتَلِف ذَيَّلَ به على ابنِ نُقْطَةَ.
(5)
محمد بن أحمدَ بن عثمان أبو عبد الله شمسُ الدين الذهبي، الدمشقي، ولد (673) ورحل إلى مختلَفِ البلدان، وأَخَذَ عَنْ أَزْيَد مِنْ ألفٍ ومئتي نَفْسٍ بالسَّماعِ =
بالقَلَمِ فكَثُرَ فيه الغَلَطُ والتصحيفُ المُبايِنُ لموضوعِ الكتابِ.
وقد يسَّرَ اللهُ تعالى بتوضيحه في كتابٍ سمَّيتهُ "تبصيرَ المُنْتَبِه بتحرير المُشْتَبِهِ" وهو مجلَّدٌ واحدٌ فضَبَطته بالحروفِ على الطريقة المَرضِيَّة وزِدْتُ عليه شَيئًا كثيرًا مما أهمَلَهُ، أو لم يَقِفْ عليه، وللهِ الحمدُ على ذلك.
وإنِ اتَّفقتِ الأسماءُ خَطًّا ونُطقًا واختَلَفَ الآباءُ نُطقًا مع ائتلافِهما
(1)
خَطًّا، كمحمدِ بنِ عَقيل -بفتح العين- ومحمدِ بن عُقَيْل -بضَمِّها-: الأولُ نَيسابورِيّ والثاني فِرْيابيٌّ، وهما مشهورانِ وطبقتُهُما متقارِبةٌ، أو بالعكس: كأنْ تختلفَ الأسماءُ نُطقًا وتأتلفَ خَطًّا وتتفقَ الآباءُ خَطًّا ونُطقًا كشُرَيْحِ بن النعمانِ وسُرَيْج بن النعمان، الأولُ بالشينِ المُعْجَمة والحاءِ المُهْمَلة وهو تابعيٌّ يَروي عن عليٍّ رضي الله عنه، والثاني بالسين المُهْمَلَةِ والجيمِ وهو من شُيوخِ البخاريّ فهو النوعُ الذي يُقالُ له
المُتَشَابه
(2)
. وكذا إنْ وَقَعَ ذلك الاتفاقُ في الاسمِ واسمِ الأب والاختلافُ في النِّسبَةِ، وقد صنَّفَ فيه الخطيبُ كتابًا جليلًا سمَّاه "تلخيصُ المُتَشَابِه" ثُمَّ ذَيَّلَ عليه أيضًا بما فاته أَوَّلًا وهو كثيرُ الفائدةِ.
ويَتركَّبُ منه وممَّا قَبْلَه أنواعٌ:
منها: أَنْ يَحصُلَ الاتفاقُ أو الاشتباهُ في الاسمِ واسمِ الأبِ مثلًا إِلّا في
= والإجازة، بَزَغَ نَجْمُهُ فى علوم الحديث ورجالِه والتاريخ، فهو مُحَدِّثُ الشام ومفيدُه وكان أحدَ الأذكياءِ المعدودينَ والحُفَّاظ المُبرِّزِين. (ت 748). مؤلَّفاتُه كثيرةٌ جدًّا. وكُلُّها قَيِّمة، منها: سِيَرُ أعلامِ النُّبلاء (ط)، وميزانُ الاعتدال (ط). والمُغني في الضُّعفَاء (ط). وكتابُه المُشارُ إليه هو "المُشْتَبِه في أسماءِ الرجالِ" مطبوعٌ أيضًا. كما أنَّ كتابَ الحافِظِ ابنِ حَجَرٍ "تبصِيرُ المُنْتبهِ" مطبوعٌ أيضًا.
(1)
في الأصل: "اختلَافَهما" وهو سبقُ قَلَمٍ، صَوَّبَه الصّفوري في الحاشية كما أَثبتْنَاهُ. وثَبَتَ "ائتلافهما" كذلك في سائر النُّسَخ.
(2)
المُتشَابِه: هو أنْ يتفقَ اسمُ شخصَيْنِ أو كُنيتُهُما، ويوجدَ في نَسَبِهما الاختلافُ والائتلَافُ الذي عَرَفْنَاهُ.
فهو مُرَكَّبٌ من النَّوعَيْنِ: المُتَّفِقِ والمُفْتَرقِ والمُؤتَلِفِ والمُخْتَلِفِ.
وفائدةُ معرفتِه هو وما قَبْلَه الأمنُ من الغَلَط.
حرفٍ أو حرفَيْن فأكثرَ مِنْ أحدِهما أو مِنْهُما.
وهو
(1)
على قِسْمَين:
إمّا بأنْ يكونَ الاختلافُ بالتغيير مع أنَّ عددَ الحروفِ ثابِتةٌ في الجِهتَين.
أو يكونَ الاختلافُ بالتغيير مع نُقْصَانِ بعضِ الأسماءِ عن بعضٍ.
فَمِنْ أمثلةِ الأوّلِ: محمدُ بنُ سِنَانٍ -بكسرِ المُهمَلَةِ ونونَيْنِ بينَهما ألِفٌ- وهُمْ جماعةٌ منهم العَوَقِيّ -بفتح العين والواو ثم القاف- شيخُ البخاري، ومحمدُ بن سَيَّارٍ -بفتح المُهْمَلَة وتشديدِ الياء التحتانيةِ وبَعْدَ الألفِ راءٌ- وهُمْ أيضًا جماعةٌ منهم اليَمَانيُّ شيخُ عُمَرَ بنِ يُونُسَ.
ومنها: محمدُ بنُ حُنَينٍ -بضمِّ المُهْمَلَةِ ونونَيْن الأولى مفتوحةٌ بينهما ياءٌ تحتانيةٌ- تابعيٌّ يَروي عن ابنِ عبّاسٍ وغيرهِ، ومحمدُ بنُ جُبَيْرٍ -بالجيم بَعْدَها مُوَحَّدَةٌ وآخِرَه راءٌ- وهو محمدُ بنُ جُبَيْرِ بنُ مُطْعِم تابعيٌّ مشهورٌ أيضًا.
ومن ذلك: مُعَرِّفُ بنُ واصل كوفيٌّ مشهورٌ، ومُطَرِّفُ بنُ واصلٍ -بالطاءِ بَدَلَ العَيْن- شيخٌ آخَرُ يروي عنه أبو حُذَيْفَةَ النَّهْدِي.
ومنه أيضًا: أحمدُ بنُ الحُسين صاحبُ إبراهيمَ بنِ سَعْدٍ وآخرون، وأَحْيَدُ بنُ الحُسيْن مِثْلُه لكنْ بدلَ الميمِ ياءٌ تحتانيةٌ، وهو شيخٌ بُخاريٌّ يروي عنه عبدُ الله بنُ محمدٍ البِيكَنْدِي.
ومن ذلك أيضًا: حَفْصُ بنُ مَيْسَرةَ شيخٌ مشهورٌ من طبقةِ مالِكٍ، وجعفرُ بنُ مَيْسَرَةَ شيخٌ لِعُبَيْدِ الله بنِ موسى الكُوفيّ، الأولُ بالحاءِ المُهْمَلَةِ والفاءِ بعدَها صادٌ مُهْمَلَةٌ، والثاني بالجيمِ والعَيْنِ المُهْمَلَةِ بعدَها فاءٌ ثم راءٌ.
(1)
أي النوعُ الذي يحصُلُ فيه الاتفاقُ أو الاشتباهُ في الاسمِ واسمِ الأب فهذا على قِسْمَين، ذَكَرهُما المُصنِّفُ.
ومِنْ أمثلةِ الثاني
(1)
: عبدُ اللهِ بنُ زَيْدٍ وهُمْ جماعةٌ، منهم في الصَّحابةِ صاحِبُ الأذانِ واسمُ جَدِّه عبدُ رَبِّه، وراوي حديثِ الوُضوءِ واسمُ جَدِّهِ عاصِمٌ، وهُما أنصاريَّانِ، وعبدُ الله بنُ يزيدَ بزيادةِ ياءٍ في أوّلِ اسمِ الأبِ والزاي مكسورةٌ، وهُمْ
(2)
أيضًا جماعةٌ منهم في الصَّحابَةِ الخَطْمِيُّ يُكْنَى أبا موسى وحديثُه في الصحيحَيْن، والقارِئُ له ذِكْرٌ في حديثِ عائِشةَ
(3)
، وقد زَعَمَ بعضُهم أنّه الخَطْمِيّ وفيه نَظَرٌ.
ومنها: عبدُ اللهِ بنُ يحيى وهُمْ جماعةٌ، وعبدُ اللهِ بنُ نُجَيّ -بضَمِّ النُّونِ وفتحِ الجيمِ وتشديدِ الياءِ- تابعيٌّ معروفٌ يَرْوِي عن عليِّ.
أو يحصلَ الاتفاقُ
(4)
في الخَطِّ والنُّطْقِ لكنْ يحصُلَ الاختلافُ أو الاشتباهُ بالتقديم والتأخير إمّا في الاسمَيْن جُملةً
(5)
، أو نحوِ ذلك كأنْ يَقَعَ التقديمُ والتأخيرُ في الاسمِ الواحدِ في بعضِ حُرُوفِه بالنسبة إلى ما يَشْتَبِهُ به.
مثالُ الأولِ: الأسودُ بنُ يزيدَ، ويزيدُ بنُ الأسودِ، وهو ظاهرٌ، ومنه عبدُ اللهِ بنُ يزيدَ، ويزيدُ بنُ عبدِ الله.
ومثالُ الثاني: أيوبُ بنُ سَيّارٍ، وأيوبُ بنُ يَسارٍ، الأولُ مَدَنِيٌّ مشهورٌ ليس بالقويِّ، والآخَرُ مجهولٌ.
(1)
أي القِسْمِ الثاني الذي سَبَقَ في الصفحة السابقة، وهو أنْ يكونَ بين الاسمَيْنِ المُتَّفِقَيْنِ أو الأسماء اختلافٌ بالتغيير مع نُقْصَانِ بعضِ الأسماءِ عن بعض بحرفٍ أو حرفَيْن فَأكثرَ.
(2)
في أصلنا "وهما" وهو سهو قلم.
(3)
في البخاري في الشهادات: 3: 172: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يقرأ في المسجد فقال: رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية". الرجل هو عبد الله بن يزيد القارئ كما في الهَدي: 2: 33. وسَها مَن ضبطه بالياء المشدّدة، كما وقع في شرح الشرح ص 713.
(4)
هذا معطوفٌ على قوله ص 131: "يَتَرَكَّبُ منه وممّا قَبْلَه أنواعٌ: منها أنْ يحصلَ الاتفاقُ أو الاشتباهُ في الاسم واسمِ الأبِ مثلًا" فذَكَرَ هنا نوعًا آخرَ فقال: "أو يحصلَ الاتفاقُ في الخَطِّ والنُّطقِ".
(5)
ويسمى هذا
المتشابه المقلوب،
مثل الأسود بن يزيد ويزيد بن الأسود.
خاتمة
ومن المُهِمِّ عندَ المُحَدِّثينَ معرفةُ
طبقاتِ الرُّواةِ.
وفائدتهُ:
الأمنُ من تداخُلِ المُشتَبِهيْن، وإمكانُ الاطّلاع على تبيينِ المُدَلِّسين، والوقوفُ على حقيقةِ المُرادِ من العَنْعَنَةِ.
والطبقةُ في اصطلاحِهم: عبارةٌ عن جماعةٍ اشتركوا في السِّنِّ ولقاءِ المشايخِ.
وقد يكونُ الشخصُ الواحِدُ من طبقتَيْن باعتبارين، كأنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، فإنه مِنْ حَيْثُ ثُبوتُ صُحْبَتِه للنبىِّ صلى الله عليه وسلم يُعَدُّ في طبقةِ العَشَرة مثلًا، ومِنْ حيثُ صِغَرُ السِّنِّ يُعَدُّ في طبقةٍ بعدَهم، فمَنْ نَظَرَ إلى الصحابة باعتبارِ الصُّحْبَةِ جَعَلَ الجميعَ طبقةً واحدةً كما صنعَ ابنُ حِبَّانَ وغيرُه، ومَنْ نَظَر إليهم باعتبارِ قَدْرٍ زائدٍ كالسَّبْقِ إلى الإسلام أو شهودِ المشَاهد الفاضلةِ جَعَلَهم طبقاتٍ، وإلى ذلك جَنَحَ صاحبُ الطبقاتِ أبو عبدِ الله محمدُ بن سَعْدٍ البغداديُّ
(1)
، وكتابُه أجمعُ ما جُمِعَ في ذلك.
وكذلك مَنْ جاءَ بعدَ الصحابةِ وهمُ التابعونَ: مَنْ نَظَر إليهم باعتبارِ الأخْذِ عن بعضِ الصَّحابةِ فقد جَعَلَ الجميعَ طبقةً واحدةً كما صنعَ ابنُ
(1)
محمدُ بنُ سَعْدِ بنِ مَنيع الهاشميّ مَوْلَى بني هاشم، كاتبُ الواقدي، مُحَدِّثٌ عالِمٌ بالأخبار، كثيرُ الحديثِ كثيرُ العِلْم، صَدُوقٌ فاضِلٌ، (ت 230)، روى له أبو داود، أشهرُ كُتبهِ الطبقاتُ الكبرى (ط).
حِبَّانَ أيضًا، ومَنْ نَظَرَ إليهم باعتبارِ اللِّقَاءِ قَسَّمَهم كما فَعَلَ محمدُ بنُ سَعْدٍ، ولكلٍّ منهما وَجْهٌ.
ومِنَ المُهِمِّ أيضًا معرِفَةُ مواليدِهم ووَفَياتِهم
(1)
، لأنَّ بمعرفَتِها يحصُلُ الأمْنُ مِنْ دَعوى المُدَّعي لِلِقاءِ بعضِهم وهو في نَفْسِ الأمرِ ليس كذلك.
ومن المُهِمِّ أيضًا معرفةُ بُلْدَانِهم وأوطانِهم
(2)
، وفائدتُه الأمنُ مِنْ تداخُلِ الاسمَيْنِ إذا اتَّفقَا لكنِ افْتَرقَا بالنَّسَبِ.
ومن المُهِمِّ أيضًا معرفةُ أحوالِهم تعديلًا وتجريحًا وجَهَالةً
(3)
، لأنَّ
(1)
هذا هو عِلْمُ التاريخِ: وهو التعريفُ بالوقت الذي تُضْبَطُ به الأحوالُ في المواليدِ والوَفيَاتِ، وما يَلْتَحِقُ به من الوقائعِ والحوادثِ التي ينشأ عنها مَعَانٍ حَسَنةٌ من تعديلٍ وتجريحٍ ونحو ذلك. فَتْحُ المُغِيث للسَّخاوي:459. وانظر ما سبق ص 84 لِزامًا، ومن أهم مصادِره: التاريخُ الكبير للبخاري، ومشاهيرُ علماء الأمصار لابن حبَّان.
(2)
أفردوا هذا بنوعٍ خاصٍّ، هو معرفةُ أوطانِ الرُّواةِ، وممّا لاحظوه في ذلك تَنقُّلُ الراوي من بلدٍ إلى آخرَ، وأَثَرُ ذلك على نِسْبَتِه، وعلى حِفْظِه، كأنْ لم تكُنْ كُتُبُه معَه، فحدّثَ مِن حفظه فوهم.
(3)
هذا من عِلْمِ الجَرْحِ والتعديلِ، أفردوه بنوعٍ خاصٍّ هو "معرفةُ الثقاتِ والضُّعفاء"، وتنقسم المصادِرُ في ذلك ثلاثة أقسام:
الأول: ما جُمعَ فيه بين الثقات والضعفاء، ومن أهم ذلك الجرحُ والتعديلُ لابنِ أبي حاتمٍ الرازي: عبد الرحمن بن محمد بن إدريس (ت 327). ومنه التاريخ الكبير للبخاري، والتاريخ لابن أبي خيثمة، وسيذكرهما المصنف:143.
القسم الثاني: ما أُفْرِد للثقات.
القسم الثالث: ما أُفرد للضعفاء.
وسيأتى ذكرهما: 143.
ثم إن مِنَ المصنفين مَنْ جمع بغير تقيد بكتاب معين أو كتب معينة، كالمراجع المذكورة.
ومنهم من تقيد بجمع رجال كتاب معين أو كتب. وتأتي أمثلتها: ص 143 وانظر منهج النقد: 129 - 132 رقم/ 4/.
الراويَ إمّا أنْ تُعْرَفَ عَدالَتُه أو يُعْرَفَ فِسْقُه أوْ لا يُعْرَفَ فيه شيءٌ من ذلك.
ومن أهمِّ ذلك بَعْدَ الاطّلاع مَعْرفةُ مَرَاتِبِ الجَرْحِ والتعديلِ؛ لأنّهم قد يَجْرَحونَ الشخصَ بما لا يَسْتَلْزِمُ رَدَّ حديثهِ كُلِّه، وقد بيَّنا أسبابَ ذلك فيما مضى وحصَرناها في عَشَرة، وتقدَّمَ شرحُها مُفَصَّلًا
(1)
.
والغرضُ هنا ذِكْرُ الألفاظِ الدَّالَّةِ في اصطلاحِهم على تلكَ المراتبِ.
ولِلْجَرْحِ مراتِبُ:
أَسْوَؤُها الوَصْفُ بما دَلَّ على المُبالَغَةِ فيه، وأَصْرَحُ ذلك التعبيرُ بأفْعَلَ كأَكْذَبِ الناسِ، وكذا قولهم: إليه المُنتهى في الوَضْعِ، أو هو رُكْنُ الكَذِبِ ونحوَ ذلك.
ثم دجَّالٌ أو وَضَّاعٌ أو كذَّاب، لأنَّها وإنْ كانَ فيها نوعُ مُبَالَغَةٍ لكنَّها دُونَ التي قَبْلَها.
وأَسْهَلُها أي الألفاظِ الدَّالَّةِ على الجَرْحِ قَولُهم: فُلانٌ لَيِّنٌ أو سَيِّئُ الحِفْظِ أو فيه أدنى مَقَالٍ. وبينَ أَسْوَإ الجَرْحِ وأَسْهلِه مراتِبُ لا تَخْفَى.
[فـ]ـقولهم
(2)
: متروكٌ، أو ساقِطٌ، أو فاحِشُ الغَلَطِ، أو مُنْكَرُ الحديث
(3)
، أَشدُّ مِنْ قولِهم: ضعيفٌ أو ليس بالقويِّ أو فيه مَقَالٌ.
ومن المُهِمِّ أيضًا معرفةُ مراتبِ التعديلِ:
وأَرْفَعُها الوصفُ أيضًا بما دَلَّ على المُبالَغَةِ فيه، وأَصْرَحُ ذلك التعبيرُ بأَفْعَلَ كأَوْثَقِ الناسِ، أو أَثْبَتِ الناسِ، أو إليه المُنْتَهى في الثَّبْتِ.
ثُمَّ ما تأكَّدَ بصفةٍ من الصفاتِ الدَّالَّةِ على التعديل، أو صفتين: كَثِقَةٍ
(1)
في دراسةٍ مُطَوَّلَةٍ ص 87 وما بَعْدُ.
(2)
كذا في أصلنا. وفي نُسَخ أخرى "فقولُهم"، فجعلنا الفاء بين مُعَقَّفَتين.
(3)
في الأصل "ومنكر".
ثِقَةٍ أو ثَبْتٍ ثَبْت، أو ثِقَةٍ حافِظٍ، أو عدلٍ ضابطٍ، أو نحوِ ذلك.
وأدْنَاها ما أَشْعَرَ بالقُربِ مِنْ أَسْهَلِ التجريحِ: كَشَيخٍ، وَيُرْوَى حديثُه، ويُعْتَبَر به، ونحوِ ذلك. وبينَ ذلك مراتبُ لا تَخفَى
(1)
.
(1)
لم يَسْتَوفِ المُصنِّفُ رحمه الله مراتِبَ الجَرْحِ والتعديلِ، مُراعاةً للاختصارِ، ونُورِدُها تامةً فيما يأتي:
مراتبُ التعديلِ:
المرتبةُ الأُولى: وهي أَعلاها شَرَفًا، مرتبةُ الصحابةِ رضي الله عنهم.
المرتبةُ الثانيةُ: وهي ما جاءَ التعديلُ فيها بما يدُلُّ على المُبالَغةِ مِثْل: أَوْثَق الناسِ، إليه المُنتَهى في التثبُّتِ، لا أعْرِفُ له نظيرًا.
المرتبةُ الثالثةُ: إذا كُرِّرَ لفظُ التوثيقِ إمَّا مع تبايُنِ اللَّفْظيْن: ثَبْتٌ حُجَّةٌ، أو مع إعادَةِ اللَّفْظِ: ثِقَةٌ ثِقَة.
المرتبةُ الرابعةُ: ما انفرَدَ بصيغةٍ دالَّةٍ على التوثيقِ أي اتصاف الراوي بالعدالة والضبط: ثِقَةٌ، حُجَّةٌ، إمامٌ، والحُجَّةُ أَقْوى مِنَ الثِّقَة.
المرتبةُ الخامسةُ: ليسَ به بأسٌ، صَدُوقٌ، مأمونٌ، مَحلُّهُ الصِّدْقُ.
المرتبةُ السادسةُ: ما أَشْعَرَ بالقُربِ من التجريح، وهي أدنى المراتبِ: ليسَ ببَعيدٍ من الصواب، شَيْخٌ، يُرْوَى حديثُه، روى عنه الناس.
وحُكْمُ هذه المراتبِ: الاحتجاجُ بالأربعةِ الأُولى منها. وأمَّا التي بعدَها فإنه لا يُحْتَجُّ بأحد من أهلِها لِكَوْنِ ألفاظِها لا تُشْعِرُ بشريطةِ الضبطِ، بَلْ يُكْتَبُ حديثُهم ويُخْتَبر، وأمّا السادسةُ فالحُكْمُ في أهلِها دونَ أهلِ التي قبْلها، وفي بعضِهم مَنْ يُكتَبُ حديثُه للاعتبارِ دونَ اختبارِ ضَبْطِهم لِوُضوحِ أَمرِهم.
مراتبُ الجَرْحِ:
المرتبةُ الأُولَى، وهي أَسْهَلُ مراتِبِ الجَرْحِ، قولُهم: فيه مَقَالٌ، فيه ضَعْفٌ، ليس بذاكَ القويِّ، ليس بذَاكَ.
المرتبةُ الثانيةُ، أَسْوأُ مِنْ سابِقَتِها: لا يُحْتجُّ به، ضعيف، ضعَّفوه، مضطربُ الحديث.
وحكم هاتين المرتبتين -كما بيَّن السخاويُّ- يُعْتَبَرُ بحديثهِ، أي يُخَرَّجُ حديثه للاعتبار -وهو البحث عن روايات تُقوِّيه ليصير بها حجةً- لإشعار هذه الصيغ بصلاحية المُتَّصف بها لذلك، وعدم منافاتها له.
المرتبة الثالثة، أسوأ من سابقتيها: رُدَّ حديثُه، ضعيفٌ جِدًّا، وَاهٍ بمَرَّة.
المرتبة الرابعةُ: يَسرِقُ الحديثَ، مُتَّهَمٌ بالكَذِبِ أو الوَضْع، ساقِطٌ.
المرتبةُ الخامسةُ: الدَّجَّالُ، الكَذَّابُ، الوَضَّاعُ، يَضَعُ، يَكذِبُ.=
وهذه أحكامٌ تتعلَّقُ بذلكَ ذُكِرَتْ ههنا لِتَكْمِلَةِ الفائدةِ، فأقولُ:
تُقْبَلُ التزكيةُ مِنْ عارِفٍ بأسبابِها لا مِن غيرِ عارِفٍ، لئَلّا يُزَكّىَ بمجردِ ما ظَهرَ له ابتداءً مِنْ غَيْرِ مُمارَسَةٍ واختبارٍ، ولو كانَتِ التزكيةُ صادِرَةً مِنْ مُزَكٍّ واحدٍ على الأَصحِّ، خِلافًا لِمَنْ شَرَطَ أنَّها لا تُقْبَلُ إلّا مِن اثنَيْنِ إلحاقًا لها بالشهادةِ في الأصحِّ أيضًا. والفَرْقُ بينهما أنَّ التزكيةَ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الحُكْمِ فلا يُشْتَرَطُ فيها العَددُ، والشهادةُ تَقَعُ مِنَ الشاهِدِ عند الحاكِمِ فافْتَرقَا.
ولو قيلَ: يُفَصَّلُ بينَ ما إذا كانَتِ التزكيةُ في الراوي مُسْتَنِدَةً من المُزَكِّي إلى اجتهادِه، أو إلى النَّقْلِ عن غَيْرِهِ لَكَانَ مُتجهًا، فإنه إنْ كان الأوَّلَ فلا يُشتَرطُ العَددُ أصلًا، لأنه حِيْنئِذٍ يكونُ بِمَنْزِلَةِ الحاكِمِ، وإنْ كانَ الثانيَ فَيَجري فيه الخِلافُ، وتبيَّنَ أنه أيضًا لا يُشتَرطُ العددُ لأنَّ أصلَ النَّقْلِ لا يُشْتَرطُ فيه العددُ فكذا ما تفرَّعَ عنه. واللهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
وينبغي ألَّا يُقْبَلَ الجَرْحُ والتعديلُ إلا مِنْ عَدْلٍ مُتَيَقِّظِ، فلا يُقْبَلُ جَرْحُ مَنْ أَفْرَطَ فيه فَجَرَحَ بما لا يقتضي رَدَّ حديثِ المُحَدِّثِ، كما لا تُقْبَلُ تزكيةُ مَنْ أَخَذَ بِمُجرَّدِ الظاهرِ فأَطْلَقَ التزكيةَ. وقال الذهبيُّ -وهو مِنْ أهلِ الاستقراءِ التامِّ في نَقْدِ الرِّجالِ-:"لَمْ يَجتمع اثنانِ مِنْ عُلَماءِ هذا الشأنِ قَطُّ على توثيقِ ضعيفٍ ولا على تضعيفِ ثِقَةٍ" انَتهى
(1)
.
وَلهذا كان مذهبُ النَّسائيِّ ألَّا يُتْرَكَ حديثُ الرجُلِ حتى يجتمعَ الجميعُ على تَرْكِه.
= المرتبةُ السادسةُ: ما يدُلُّ على المُبالَغَةِ، كأَكْذَبِ الناسِ، أو إليه المُنتَهى في الكَذِبِ، أو هو رُكْنُ الكَذِبِ أو مَنْبَعُهُ.
وحُكْمُ هذه المراتبِ الأربع الأخيرةِ قال فيه السَّخَاوِيُّ: "إنه لا يُحتَجُّ بواحدٍ من أهلِها ولا يُسْتَشهَدُ به ولا يُعْتَبَرُ به".
(1)
المُوْقِظة: 84، ليس فيها "قط"، والمراد نفي اجتماعهم، كما يشير لذلك قول الحافظ بناء عليه:"ولهذا كان مذهب النسائي. . ." وانظر قول الذهبي بعدها: "وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف". وهذا ينطبق على الأغلبية العظمى لاختلافهم.
وَلْيَحْذَرِ المتكلمُ في هذا الفنِّ من التَّسَاهُلِ في الجَرْحِ والتعديلِ فإنَّه إنْ عدّلَ بغَيْرِ تَثَبُّتٍ كانَ كالمُثْبِتِ حُكمًا ليس بثابتٍ، فَيُخْشَى عليه أنْ يدخُلَ في زُمْرَةِ مَن رَوى حديثًا وهو يَظُنُّ أنه كذِبٌ، وإن جَرحَ بغيرِ تحرُّزٍ أَقْدَمَ على الطَّعْنِ في مُسلمٍ بريءٍ من ذلك ووَسَمه بِمِيْسَمِ سُوءٍ يَبقى عليه عارُهُ أبدًا، والآفَةُ تَدْخُلُ في هذا تارَةً من الهَوى والغَرَضِ الفاسِدِ -وكلامُ المُتقَدِّمين سالِمٌ من هذا غالِبًا- وتارَةً مِنَ المُخَالَفَةِ في العقائِدِ وهو موجودٌ كثيرًا قديمًا وحديثًا. ولا ينبغي إطلاقُ الجَرْحِ بذلك، فقد قَدَّمْنَا تحقيقَ الحالِ في العملِ بروايةِ المُبتَدِعَة
(1)
.
والجَرْحُ مُقَدَّمٌ على التعديل، وأَطْلَقَ ذلك جماعةٌ، ولكنْ محلُّهُ إنْ صَدَرَ مُبَيَّنًا
(2)
مِنْ عارِفٍ بأسبابهِ، لأنه إنْ كانَ غيرَ مُفَسَّرٍ لم يَقْدَحْ فيمَنْ ثَبَتَتْ عدالَتُه، وإنْ صَدَرَ مِنْ غَيْرِ عارِفٍ بالأسبابِ لم يُعْتَبر به أيضًا.
فإنْ خَلا المجروحُ عن تعديلٍ قُبِلَ الجَرْحُ فيه مُجمَلًا
(3)
غيرَ مُبَيَّنِ السببِ إذا صَدَرَ مِنْ عارِفٍ على المُختارِ، لأنه إذا لم يَكُنْ فيه تعديلٌ فهو في حَيِّزِ المجهولِ، وإعمالُ قَوْلِ المُجرِّحِ أَوْلى من إِهمالِه. ومالَ ابنُ الصلاحِ في مِثْلِ هذا إلى التوقُّفِ فيه
(4)
.
(1)
ص 102 - 104.
(2)
أي مُبَيَّنَ السَّبَبِ، ويُسَمَّى عِنْدَ المُحَدِّثينَ: الجَرْحَ المُفَسَّرَ.
(3)
الجَرحُ المُجْمَلُ هو غيرُ مُبَيَّن السَّبَبِ، كما شَرَحَه المُصنِّفُ، ويُسَمَّى أيضًا: الجَرْحَ المُبْهَمَ.
(4)
نتيجةُ المذهبَيْن متقارِبةٌ جدًّا، وهي عَدَمُ العملِ بالحديث، لكنْ على مذهبِ ابنِ الصلاحِ لم يُعمَلْ بحديثِ مَنْ جُرِحَ جَرْحًا مُجمَلًا، لأنه وقعَتْ فيه رِيبَةٌ تُوجِبُ التوقُّفَ في العملِ بحديثِه. كالمجهولِ مثلًا، أمّا على مذهبِ المُصنِّفِ الحافظِ ابنِ حَجَرٍ فيُعْتَبَرُ هذا الراوي مَجرُوحًا مرفوضَ الرِّوايةِ. ومذهبُ ابنِ الصلاحِ في رأيي أَقْوى. وانظر ما سَبَقَ من تعليقٍ ص 102.
فصل
ومِنَ المُهِمِّ في هذا الفَنِّ معرفةُ كُنى المُسَمَّيْنَ مِمَّنْ اشْتَهَرَ باسمهِ وله كُنْيَةٌ لا يُؤمَنُ أن يأتيَ في بعضِ الرواياتِ مَكْنِيًّا، لئَلّا يُظَنَّ أنه آخَرُ، ومعرفةُ أسماءِ المُكَنَّيْنَ
(1)
، وهو عَكْسُ الذي قَبْلَه، ومعرفةُ مَنِ اسمُه كُنْيَتُهُ، وهُمْ قليلٌ، ومعرفةُ مَنِ اختُلِفَ في كُنْيَتِه، وهُمْ كثيرٌ، ومعرفةُ مَنْ كثُرَتْ كُنَاهُ، كابْنِ جُرَيْج له كُنْيتانِ: أبو الوليدِ، وأبو خالدٍ. أو كثُرَتْ نُعُوتُه وألقابُه.
ومعرفةُ مَنْ وافقَتْ كُنيَتُه اسمَ أبيهِ، كأبي إسحاقَ إبراهيمَ بنِ إسحاقَ المَدَنىّ أحدِ أتْباعِ التابعينَ، وفائدةُ معرفتِه نَفْيُ الغَلَطِ عمَّنْ نَسَبَهُ إلى أبيه فقال: أخبرَنا ابنُ إسحاقَ فَنُسِبَ إلى التصحيفِ وأنَّ الصوابَ أنا أبو إسحاقَ، أو بالعكسِ، كإسحاقَ بنِ أبي إسحاقَ السَّبِيعي، أو وافقتْ كُنيَتُه كُنيةَ زوجتِه، كأبي أيوبَ الأنصاريّ وأمِّ أيوبَ، صَحابيَّانِ مشهورانِ، أو وافقَ اسمُ شيخهِ اسمَ أبيه، كالرَّبيعِ بنِ أنسٍ عن أنسٍ، هكذا يأتي في الرِّواياتِ فَيُظَنُّ أنه يَروي عن أبيه -كما وَقَعَ في الصحيحِ عن عامرِ بنِ سَعْدٍ عن سَعْدٍ وهو أَبوهُ- وليس أنسٌ شيخُ الربيعِ والدَه، بَلْ أبوه بَكْرِيٌّ، وشيخُه أنصارِيٌّ، وهو أنَسُ بنُ مالكٍ الصحَابيُّ المشهورُ، وليس الربيعُ المذكورُ مِنْ أَولادِهِ.
ومعرفة مَنْ نُسِبَ إلى غيرِ أبيهِ
(2)
، كالمِقْدَادِ بنِ الأسودِ نُسِبَ إلى الأسودِ الزُّهْرِيِّ لِكَوْنِه تَبنَّاهُ، وإنما هو المِقْدادُ بنُ عمرٍو، أو إلى أُمِّه كابْنِ عُلَيّة، هو إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ بنِ مِقْسَمٍ، أحَدُ الثِّقَاتِ،
(1)
يُسَمَّى هذا عِلْمَ الأسماءِ والكُنى، وهو معرفةُ كُنَى ذَوِي الأسماءِ، وأسماءِ ذوي الكُنَى، وله أقسامٌ، أشارَ المُصَنِّفُ إلى أهمِّها فيما يأتي.
(2)
يُسَمَّى هذا البحثُ:
"المنسوبون إلى غيرِ آبائهم".
وعُلَيَّةُ اسمُ أُمِّه اشتَهَرَ بها، وكان لا يُحِبُّ أنْ يُقالَ له ابنُ عُلَيَّةَ، ولِهذا كان يقولُ الشافِعيُّ: أَخْبَرَنَا إسماعيلُ الذي يُقَالُ له ابنُ عُلَيَّةَ.
أو نُسِبَ إلى غَيرِ ما يَسْبِقُ إلى الفَهْم
(1)
، كالحَذَّاءِ، ظاهِرُهُ أنه منسوبٌ إلى صناعَتِها أو بَيْعِها، وليسَ كذلك، وإنّما كان يُجالِسُهم فَنُسِبَ إليهم، وكَسُلَيمانَ التَّيْمِىّ لم يكُنْ من بَني التَّيْمِ ولكنْ نزَلَ فيهم.
وكذا مَنْ نُسِبَ إلى جَدِّهِ فلا يُؤْمَنُ الْتِباسُه، كَمَنْ وافَقَ اسْمُهُ اسمَهُ واسمُ أبيه اسمَ الجَدِّ المذكورِ
(2)
.
ومعرفةُ مَنِ اتفقَ اسمُه واسمُ أبيه وجدِّه كالحَسَنِ بنِ الحَسَنِ بنِ الحَسَنِ بن عَلىِّ بنِ أبي طالِبٍ رضي الله عنهم، وقد يقعُ أكثرُ مِنْ ذلك وهو مِنْ فُرُوعِ المُسَلْسَلِ.
وقد يَتفقُ الاسمُ واسمُ الأبِ مع الاسمِ واسمِ الأبِ فصاعدًا، كأبي اليُمْنِ الكِنْدِيّ هو زيدُ بنُ الحَسَنِ بنِ زَيْدِ بنِ الحَسَنِ بنِ زَيْد بنِ الحَسَنِ.
أو يَتَّفِقُ اسمُ الراوي واسمُ شيخِهِ وشيخِ شيخِه فصاعدًا: كَعِمْرانَ عن عِمْرانَ عن عِمْرانَ، الأول: يُعْرَفُ بالقصيرِ، والثاني: أبو رَجَاءٍ العُطَارِدِيُّ، والثالثُ: ابنُ حُصَينٍ الصحابيُّ. وكَسُلَيمانَ عن سُلَيمانَ عن سُلَيمانَ، الأولُ: ابنُ أحمدَ بنِ أيوبَ الطَّبَرانِيُّ، والثاني: ابنُ أحمدَ الواسِطِيّ، والثالثُ: ابنُ عبدِ الرحمنِ الدِّمشقيُّ المعروفُ بابْنِ بِنْتِ شُرَحْبِيل.
وقد يَقَعُ ذلك
(3)
للراوي ولِشَيْخِه معًا، كأبي العلاءِ الهَمَذَانيِّ
(1)
ويُسَمَّى هذا البحثُ:
"النِّسَبُ التي على خِلاف ظاهرِها".
(2)
كذا في أصلنا، وهو أولى من النسخ الأخرى بإسقاط "اسمه" الثانية، مثاله: محمد بن بشْر، ثقة، ومحمد بن السائب بن بِشْر، متروك، ويُنْسَب إلى جده، فيحصل اللَّبْس.
(3)
أي الاتفاق بين الاسم واسم الأب مع الاسم واسم الأب.
العَطَّارِ، مشهورٌ بالرِّوايةِ عن أبي عليٍّ الأصبهانيّ الحدَّادِ، وكُلٌّ منهما اسمُه الحَسَنُ بنُ أحمدَ بنِ الحَسَن بنِ أحمدَ بنِ الحسنِ بنِ أحمدَ، فاتَّفقَا في ذلك، وافْتَرقا في الكُنْيةِ والنِّسْبَةِ إلى البَلدِ والصِّنَاعَةِ، وصنَّفَ فيه أبو موسى المَدِيني جُزْءًا حافِلًا.
ومعرفةُ مَنِ اتَّفَقَ اسمُ شيخِه والراوي عنه، وهو نوعٌ لطيفٌ لم يَتعرَّضْ له ابنُ الصلاحِ، وفائدتُه رَفْعُ اللَّبْسِ عمَّنْ يَظُنُّ أنَّ فيه تكرارًا أو انقلابًا، فمِن أمثلتِه، البخاريُّ: رَوى عن مسلمٍ ورَوى عنه مسلمٌ، فشَيخُه مسلِمُ بنُ إبراهيمَ الفَرادِيسي
(1)
البَصْريّ، والراوي عنه مسلمُ بنُ الحَجَّاجِ القُشَيريُّ صاحبُ الصحيحِ، وكذا وَقَعَ ذلك لِعَبْدِ بنِ حُمَيْد أيضًا: رَوى عن مسلمِ بنِ إبراهيمَ، ورَوى عنه مسلمُ بنُ الحجَّاجِ في صحيحهِ حديثًا بهذه الترجمةِ بعَيْنِها. ومنها يحيى بنُ أبي كَثِير: رَوى عن هِشَامٍ وروى عنه هِشامٌ: فشيخُهُ هِشامُ بنُ عُروَةَ وهو من أقْرانِه والراوي عنه هشامُ بنُ أبي عبدِ الله الدَّسْتَوَائيّ، ومنها ابنُ جُرَيْجٍ: رَوى عن هشامٍ ورَوى عنه هِشامٌ، فالأَعلى ابنُ عُرْوَةَ، والأَدنى ابنُ يوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.
ومنها الحَكَمُ بنُ عُتَيْبةَ: يَروي عن ابنِ أبي لَيْلى، وعنه ابن أبي ليلى، فالأَعلى عبدُ الرَّحمنِ، والأَدْنى محمدُ بنُ عبدِ الرحمنِ المذكورِ، وأمثلتُه كثيرةٌ.
ومِنَ المُهِمِّ في هذا الفَنِّ معرِفَةُ الأسماءِ المُجَرَّدَةِ
(2)
.
وقد جَمَعَها جماعةٌ مِنَ الأئمةِ:
فَمِنْهُم مَنْ جَمَعَها بغَيْرِ قَيْدٍ، كَابْنِ سَعْدٍ في "الطبقاتِ"، وابنِ
(1)
كذا في الأصول، ولعله تحريف، وهو قديم، والذي في المصادر "الفراهيدي" ثقة، روى له الستة (ت 222).
(2)
سَبَقَ هذا، وهو معرفةُ الثِّقَاتِ والضُّعفاءِ ص 135.
أبي خَيْثَمَةَ والبخاريِّ في "تاريخِهما"، وابنِ أبي حاتِمٍ في "الجَرْحِ والتعديلِ".
ومنهم مَنْ أَفْردَ الثقاتِ، كالعِجْلِيّ
(1)
وابنِ حِبَّانَ وابنِ شاهينَ
(2)
.
ومنهم مَنْ أَفْردَ المجروحينَ كابنِ عَدِيٍّ
(3)
وابنِ حِبّانَ أيضًا.
ومنهم مَنْ تَقَيَّدَ بكتابٍ مخصوصٍ، "كَرِجالِ البخاريِّ" لأبي نَصْرٍ الكَلَاباذي
(4)
، و"رجالِ مُسلِمٍ" لأبي بكرِ بنِ مَنْجُويَه
(5)
، ورجالِهما معًا لأبي الفَضْلِ ابنِ طاهرٍ، و"رجالِ أبي داودَ" لأبي عليٍّ الجَيَّانِيّ
(6)
، وكذا رجالِ التِّرمِذيِّ ورجالِ النَّسائيِّ لِجماعةٍ من المَغارِبَةِ، ورجالِ السِّتَّةِ -الصحيحَيْنِ وأبي داودَ والترمذيّ والنَّسائيّ
(1)
هو: أحمدُ بنُ عبدِ الله العِجْليّ، الإمامُ الحافظُ، سَكَنَ طرابُلُسَ الغَرْبِ أيامَ مِحْنَةِ القَوْلِ بِخَلْقِ القُرآنِ. (ت 261).
مِنْ كُتُبهِ: الثِّقاتُ في مُجلَّد، لكنَّه غيرُ مُرتَّبٍ، فرتَّبَه السُّبْكِيّ وسمَّاهُ: ترتيب الثِّقَاتِ (ط).
(2)
عُمَرُ بنُ أحمدَ بنِ عُثْمانَ، وُلِد (297). شيخُ العِرَاقِ في الإكثارِ مِنَ الرِّوايةِ، وهي أكثرُ شُغْلِهِ، وما كان بالبارعِ في غوامِضِ صناعةِ المُحَدِّثين. (ت 385). وكتابُه الثِّقَاتُ مطبوعٌ دونَ تدقيقٍ.
(3)
عبدُ الله بنُ عديٍّ الجُرجانيُّ، الإمامُ الحافظُ، وُلِدَ (277)، (ت 365)، وكان حافظًا متقنًا، لم يَكُنْ في زمانه مِثْلُه، أشهرُ كُتبِهِ: الكاملُ في الضُّعَفاءِ (ط)، توسَّعَ فأَوْرَدَ فيه كُلَّ مَنْ تُكُلِّمَ فيه ولو بغَيْرِ حقٍّ ولو مِنْ رجالِ الصحيحَيْن، لكنَّه مُنْصِفٌ، وكان يَجْدُرُ به ألّا يُورِدَ هؤلاءِ.
(4)
أحمدُ بنُ محمدِ بنِ حُسَين البخاريُّ الكَلَاباذيُّ، أبو نَصْر، وُلِد (313)، كانَ أَحْفَظَ أهل بلادِه في زمانِه. (ت 398). له:"رِجَالُ البخاريّ"(ط) وغيرُه. وفي الأصل "ابن نصر" سهو قلم.
(5)
أحمدُ بنُ عليِّ بن محمدٍ أبو بَكْرٍ، المشهورُ بابْنِ منجويه، (ت 428)، وله (81) سنة. إمامٌ كبيرٌ في عِلْمِ الحديث، له مؤلَّفاتٌ عديدةٌ.
(6)
الحُسينُ بنُ محمدِ بن أحمدَ الغَسّانيّ الأندلسىّ أبو عليٍّ الجَيَّانيّ، نِسبَتُه إلى بلدةِ "جَيَّانَ". وُلد (427)، مُحدِّثٌ حافظ، إمامٌ عالِمٌ بالرجالِ، لُغويٌّ أديبٌ، (ت 498). له: تقييدُ المُهْمَلِ وتمييزُ المُشْكِل، فيه دراسةُ رجالِ الصحيحَيْن، ودفاعٌ عما استُشْكِلَ عليهِما (خ).
وابنِ ماجَه- لِعَبْدِ الغَنىّ المَقْدِسِىّ
(1)
في كتابه "الكَمَالُ"، ثُمَّ هَذَّبَهُ المِزِّيُّ
(2)
في "تهذيب الكمالِ"، وقد لخَّصْتُه وزِدتُ عليه أشياءَ كثيرةً وسمَّيْتُه "تهذيب التهذيبِ" وجاءَ مع ما اشتملَ عليه من الزياداتِ قَدْرَ ثُلُثِ الأصْلِ.
ومِنَ المُهِمِّ أيضًا معرفَةُ
الأسماءِ المُفْرَدَةِ
(3)
:
وقد صنَّفَ فيها الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ هارونَ البِرْديجي
(4)
، فَذَكَرَ أشياءَ تعقَّبوا عليه بعضَها.
من ذلك قولُه: صُغْدِيُّ بنُ سِنَانٍ أحدُ الضُّعَفَاءِ وهو بضَمِّ المُهْمَلَةِ -وقد تُبْدَلُ سِينًا مُهْمَلَةً- وسُكونِ الغَيْنِ المُعْجَمَةِ بَعْدَها دالٌ مُهْمَلَةٌ ثُمَّ ياءٌ كَيَاءِ النَّسَبِ، وهو اسمُ عَلَمٍ بلَفْظِ النَّسَبِ. وليسَ هو فردًا، ففِي الجَرْحِ والتعديلِ لابْنِ أبي حاتِمٍ: صُغْدِيٌّ الكَوفيُّ وَثَّقَهُ ابنُ مَعينٍ وفَرَّقَ بينَه وبينَ الذي قَبْلَه فَضَعَّفَهُ، وفي تاريخ العُقَيْلىّ: صُغْدِيُّ بنُ عبدِ اللهِ يَروي عن قتَادةَ: قال العُقَيليُّ: "حديثهُ غَيْرُ مَحفوظٍ". انتهى. وأَظُنُّه هو الذي ذَكَرَهُ ابنُ أبي حاتِمٍ، وأمَّا كَوْنُ العُقَيليِّ ذَكَرَهُ في الضُّعَفَاءِ فإنَّما هو لِلحديثِ
(1)
عبدُ الغَنيّ بنُ عبدِ الواحدِ بنِ عليِّ بن سُرورٍ المقدسِيُّ ثم الدِّمشقيُّ، الحَنبليُّ، وُلد (541). إمامٌ حافِظٌ، مُتَعَبِّدٌ، زاهِدٌ (ت 600)، له كُتُبٌ كثيرةٌ أشهرُها: عمدة الأحكام، والكمالُ في أسماءِ الرِّجالِ، وهو أولُ كتابٍ خاصٍّ برِجَالِ السِّتَّةِ.
(2)
يوسُفُ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ يُوسفَ المِزِّي، أبو الحجَّاجِ. الحَلَبِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، وُلد (645)، وانتقلَ إلى المِزَّةِ، وطَلَبَ العِلْمَ واجتهدَ فصارَ الحافظَ الكبيرَ شيخَ المُحَدِّثين عُمْدَةَ الحُفَّاظِ (ت 742). له: تهذيبُ الكمالِ في أسماءِ الرجالِ، مرجِعٌ ضَخْمٌ (ط). وتُحْفَةُ الأشرافِ بمعرفةِ الأطرافِ كبيرٌ جدًّا (ط).
(3)
معرفةُ الأسماءِ المُفرَدَة هي: الأسماءُ والكُنَى والألقابُ التي لا يُسَمَّى بها إلا واحدٌ فقط.
(4)
أحمدُ بن هارونَ بنِ رَوْحٍ البِرْدِيجي بفَتْحِ الباءِ وكَسْرِها البَرْذَعِيّ، نِسبَةً إلى بِرديج وبرذَعَة، في أَذْرَبِيجانَ بفتح الألف أوله فسكون، وقيل بالمد أوله. وهو مِنَ الحُفَّاظِ الأئمَّةِ، سَكَنَ بغدادَ. (ت 301)، مِنْ كُتُبه: الأسماءُ المُفردَةُ. في الأصل "أبو بكر بن أحمد" سهو قلم.
الذي ذَكَرهُ وليسَتِ الآفَةُ منه، بَلْ هي مِنَ الراوي عنه: عَنْبَسَةَ بنِ عبدِ الرحمنِ. واللهُ أعلَمُ
(1)
.
ومِنْ ذلك سَنْدَرٌ -بالمُهْمَلَةِ والنونِ بوَزْنِ جَعْفَر- وهو مَوْلَى زِنْباعٍ الجُذَامِيّ، له صُحْبَةٌ ورِوايةٌ، والمشهورُ أنه يُكْنَى أبا عبدِ الله، وهو اسمٌ فَرْدٌ لم يَتَسَمَّ به غيرُهُ فيما نَعْلَمُ. لكنْ ذَكَرَ أبو موسى في الذَّيْلِ على معرفةِ الصَّحَابةِ لابنِ منده: سَنْدَرٌ أبو الأسودِ، ورَوى له حديثًا، وتُعُقِّبَ عليه ذلك، فإنه هو الذي ذَكَرَهُ ابنُ منده، وقد ذكرَ الحديثَ المذكورَ محمدُ بنُ الربيعِ الجِيْزِي في تاريخ الصحابة الذين نزَلوا مِصْرَ في ترجمة سَنْدَرٍ مَوْلى زِنْباعٍ، وقد حَرَّرْتُ ذلك في كِتابي في الصحابة
(2)
.
وكذا معرفةُ الكُنَى المُجَرَّدَةِ والألقابِ
(3)
، وهي تارَةً تكونُ بلَفْظِ الاسمِ، وتارَةً تكون بلَفظِ الكُنْيَةِ، وتَقَعُ نِسْبَةً إلى عاهةٍ أو حِرْفَةٍ.
وكذا الأنسابِ، وهي تارَةً تَقَعُ إلى القبائلِ، وهو في المُتَقدِّمين أكثريّ بالنِّسبةِ إلى المتأخرين، وتارَةً إلى الأوطانِ، وهذا في المُتأخِّرينَ أكثريٌّ بالنِّسبةِ إلى المتُقدِّمينَ، والنِّسْبَةُ إلى الوطَنِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تكونَ بِلادًا أو ضِياعًا أو سِكَكًا أو مُجاوَرَةً، وتقعُ إلى الصنائعِ كالخيَّاطِ، والحِرَفِ كالبَزَّازِ. ويقعُ فيها الاتفاقُ والاشتباهُ كالأسماءِ، وقد تقعُ الأنسابُ ألقابًا كخالدِ بنِ مَخْلَدٍ القَطَوَانىِّ كان كوفيًّا ويُلَقَّبُ القَطَوانىَّ، وكان يَغْضَبُ منها.
ومِنَ المُهِمِّ أيضًا معرفَةُ أسبابِ ذلك أي الألقابِ.
ومعرفةُ المَوالي من أعلى أو أسفل، بالرِّقِّ وبالحِلْفِ أو بالإسلام،
(1)
انظرْ ترجمةَ صُغْدِي في الجَرْحِ والتعديلِ: 2/ 1: 453 - 454 والضعفاءِ الكبيرِ للعُقَيْليّ: 2: 216 واللسانِ: 3: 190 - 191 وتَصَحَّفَ فيه إلى "صَفَدِي"!!!
(2)
الإصابةُ: 2: 84 - 85.
(3)
اللَّقَبُ ما يُشْعِرُ بمَدْحٍ أو ذَمٍّ، كالأَعْمَشِ، والأَعْرَجِ، فيُعَرِّفُ هذا العِلْمُ أسماءَ ذَوِي الألقابِ، وألقابَ ذوِي الأسماءِ.
لأنَّ كلَّ ذلك يُطْلقَ عليه مَوْلَى، ولا يُعْرَفُ تمييزُ ذلك إلا بالتنصيصِ عليه.
ومعرفَةُ الإخوةِ والأخَوَاتِ: وقد صنَّفَ فيه القدماءُ كَعَلِيِّ بن المَدِينىّ.
ومِنَ المُهِمِّ أيضًا معرفةُ آدابِ الشيخِ والطالب:
ويَشتركانِ في تَصحيحِ النِّيَّةِ، والتّطَهُّرِ من أعراضِ الدُّنيا، وتحسينِ الخُلُقِ.
ويَنفَرِدُ الشيخُ بأنْ يُسْمِعَ إذا احْتِيجَ إليه، ولا يحدِّثَ ببلدٍ فيه أَوْلَى منه، بَلْ يُرْشِدَ إليه، ولا يَتْرُكَ إسماعَ أَحَدٍ لِنِيَّةٍ فاسِدَةٍ، وأنْ يتَطَهَّرَ ويجلِسَ بِوَقَارٍ، ولا يُحَدِّثَ قائِمًا ولا عَجِلًا ولا في الطريقِ إلّا إنِ اضْطُرَّ إلى ذلك، وأنْ يُمْسِكَ عنِ التحديثِ إذا خَشِيَ التغيُّرَ أو النِّسيانَ لِمرَضٍ أو هَرَمٍ، وإذا اتخذَ مَجلِسَ الإملاءِ أنْ يكونَ له مُسْتَمْلٍ يَقِظٌ.
ويَنفَرِدُ الطَّالِبُ بأنْ يُوَقِّرَ الشيخَ ولا يُضْجِرَه، ويُرْشِدَ غيرَه لِمَا سَمِعَهُ، ولا يَدَعَ الاستفادةَ لِحَياءٍ أو تَكَبُّرٍ، ويَكْتُبَ ما سَمِعَهُ تامًّا، ويَعتَنيَ بالتقييدِ، والضَّبْطِ، ويُذَاكِرَ بِمَحْفُوظِهِ لِيَرْسَخَ في ذِهْنِه.
ومِنَ المُهِمِّ معرفَةُ سِنِّ التَّحَمُّلِ والأداءِ: والأصحُّ اعتبارُ سِنِّ التحَمُّلِ بالتَّمييزِ، هذا في السَّماعِ، وقد جَرتْ عادةُ المُحَدِّثينَ بإحضارِهم الأطفالَ مجالسَ الحديثِ، ويَكْتُبونَ لهم أنهم حَضَرُوا، ولا بُدَّ في مِثْلِ ذلك مِنْ إجازَةِ المُسْمِع. والأصحُّ في سِنِّ الطَّلَبِ بنَفْسِه أنْ يتأهَّلَ لِذلكَ. ويَصِحُّ تَحمُّلُ الكافرِ أيضًا إذا أدَّاهُ بَعْدَ إسلامِه، وكذا الفاسِقِ من بابِ الأَوْلى إذا أَدَّاهُ بَعْدَ تَوبتِهِ وثُبُوتِ عَدَالَتِه.
وأمَّا الأداءُ فقد تقدَّمَ أنه لا اختِصاصَ له بزمنٍ مُعَيَّنٍ بل يُقَيَّدُ بالاحتياجِ والتأهُّل لِذلك، وهو مُختَلِفٌ باختلافِ الأشخاصِ. وقال ابنُ خَلَّادٍ
(1)
:
(1)
الرامَهُرْمزي السابق ذكره ص 38.
إذا بَلَغَ الخمسينَ، ولا يُنْكَرُ عِنْدَ الأرْبَعينَ، وتُعُقِّبَ بِمَنْ حَدَّثَ قَبْلَها كَمَالِكٍ.
ومِنَ المُهِمِّ معرفةُ صِفَةِ كتابةِ الحديثِ:
وهو أنْ يَكْتُبَه مُبَيَّنًا مُفَسَّرًا، ويَشْكُلَ المُشْكِلَ منه ويَنْقُطَهُ، ويَكْتُبَ السَّاقِطَ في الحاشيةِ اليُمنى ما دامَ في السَّطْرِ بقيَّةٌ، وإلَّا فَفِي اليُسرى.
وصِفَةِ عَرْضِه، وهو مقابلَتُهُ مع الشَّيخِ المُسْمِعِ أو مع ثِقَةٍ غَيْرِهِ أو مع نَفْسِه شيئًا فشيئًا.
وصِفَةِ سَماعِهِ، بأنْ لا يَتشاغلَ بما يُخِلُّ به مِنْ نَسْخٍ أو حديثٍ أو نُعاسٍ، وصِفَةِ إسماعِه كذلك، وأنْ يكونَ ذلك مِنْ أَصْلِه الذي سَمِعَ فيه أو مِنْ فَرْعٍ قُوبِلَ على أَصْلِه، فإنْ تَعَذَّرَ فَلْيَجْبُرْهُ بالإجازَةِ لِمَا خَالَفَ إِنْ خَالَفَ.
وصِفَةِ الرِّحْلَةِ فيه، حَيْثُ يَبتدِئُ بحديثِ أهلِ بَلَدِهِ فَيَسْتَوعِبُهُ ثُمَّ يَرْحَلُ فيُحَصِّلُ في الرِّحْلَةِ ما ليس عِنْدَه، ويكونُ اعتِناؤهُ بتَكْثيرِ المسموعِ أَوْلَى من اعتِنائِه بتكْثِيرِ الشُّيوخِ.
وصِفَةِ تصنِيفهِ:
وذلك إمّا على المسَانيدِ بأنْ يَجْمَعَ مُسْنَدَ كُلِّ
(1)
صحابِيٍّ على حِدَةٍ، فإنْ شاءَ رتَّبهُ على سَوَابِقِهم، وإنْ شاءَ رتَّبَه على حُرُوفِ المُعْجَمِ، وهو أَسْهَلُ تَنَاوُلًا.
أو تصنيفُه على الأبوابِ الفِقْهيَّة أو غيرها بأنْ يَجْمَعَ في كُلِّ بابٍ ما وَرَدَ فيه مِمَّا يَدُلُّ على حُكْمِهِ إثباتًا أو نَفْيًا، والأَوْلَى أَنْ يَقْتَصِرَ على ما صَحَّ أو حَسُنَ، فإنْ جمعَ الجميعَ فَلْيُبَيِّنْ عِلَّةَ الضعيفِ.
أو تصنيفُه على العِلَل فيذْكُرُ المَتْنَ وطُرُقَهُ وبيانَ اختلافِ نَقَلَتِه،
(1)
لفظة "كُلّ" ليسَتْ في النُّسْخَةِ الأَصْلِ، أَثبتْنَاها مِنَ النُّسَخِ الأُخرى لاقتِضَاءِ المعنى.
والأحسنُ أنْ يُرَتِّبَها على الأبواب لِيَسْهُلَ تَنَاوُلُها.
أو يَجمَعُه على الأطْرافِ فَيذْكُرُ طَرَفَ الحديثِ الدَّالَّ على بقيَّتهِ ويَجْمَعُ أسانيدَهُ إمَّا مُسْتَوعِبًا وإمَّا مُتَقَيِّدًا بِكُتُبٍ مَخصوصةٍ.
ومِنَ المُهِمِّ معرفةُ سَبَبِ الحديثِ
(1)
:
وقد صنَّفَ فيه بعضُ شُيوخِ القاضي أبي يَعْلَى بنِ الفَرَّاءِ الحَنْبَلِيّ
(2)
وهو أبو حَفْصٍ العُكْبَرِي
(3)
. وقد ذَكَرَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ بنُ دَقِيق العِيْدِ أنَّ بعضَ أهلِ عصرِه شَرَعَ في جَمْعِ ذلك، وكأنَّه ما رأى تصنيفَ العُكْبَريِّ المذكورَ.
(1)
هو سببُ وُرودِ الحديثِ، وهو ما وَرَدَ الحديثُ مُتحَدِّثًا عنه أيامَ وُقوعِه.
(2)
محمدُ بنُ الحُسَينِ بنِ محمدِ بن خَلَفٍ أبو يَعْلَى المعروفُ بابنِ الفَرَّاءِ، وُلد (380) وبَرَعَ في حِفْظِ الحديثِ والفِقْهِ الحَنْبليّ، وإليه انتهَتْ رئاسَةُ الحنابِلَةِ (ت 458)، مِنْ كُتُبِه: الأحكامُ السُّلْطَانيَّةُ (ط) وأحكامُ القُرآنِ.
(3)
هكذا أورده الحافظ واقتبسه منه السخاوي في فتح المغيث: 4: 36 والسيوطي في آخر التدريب: 2: 394 وابن حمزة الدمشقي في مطلع البيان والتعريف: 1: 31. لم يسموه، فأدخلوا الاحتمال الكثير في تعيينه، وبالاستقصاء الذي قام به بعض الأحبة الأفاضل، وجدنا أن أَوْلَى مَنْ يُطْلَقُ عليه هو أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان البزاز المعروف بابن أبي عمرو، من أهل عكبرا ولد (320) وتوفي (417) هـ. فإنه ينطبق عليه قول الحافظ: "هو في المئة الخامسة". الفتح في الاستئذان (باب لا تترك النار في البيت. . .): 11: 66 ط. الخيرية. وذكر كلامًا نحو كلامه هنا بزيادة هذه الفائدة المهمة.
والعكبري هذا وثقه الخطيب في تاريخ بغداد: 11: 273 رقم 6041 وذكره الذهبي في التذكرة: 3: 1073.
وذكر أحمد محمد شاكر -القاضي الشرعي- في شرحِهِ ألفيةَ السيوطيِّ في علم الحديث: 214 - 215 أنه "أبو حفصٍ عمرُ بنُ محمد بن رجاء العكبريُّ، وهو من تلامذة عبد الله بن أحمد بن حنبل، وله ترجمة في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى: 319 - 320 وتاريخ بغداد: 11: 239 وتوفي سنة 339" كذا قال.
وهو غير سديد؛ فإنه لا يُمْكنُ لعمَرَ هذا أن يكونَ مِن شُيوخِ أبي يعلَى ابنِ الفرّاء؛ لأنه توفي قبلَ ولادةِ أبي يعلى والله أعلم.
وصَنَّفُوا في غَالِبِ هذه الأنواعِ على ما أَشَرْنَا إليه غَالِبًا. وهي -أَيْ هذه الأنواعُ المذكورةُ في هذه الخاتمةِ- نَقْلٌ مَحْضٌ، ظاهِرَةُ التعريفِ، مُسْتَغْنِيَةٌ عنِ التمثيلِ، وحَصْرُهَا مُتَعَسِّرٌ، فَلْتُراجَعْ لها مَبْسُوطاتُها، لِيَحْصُلَ الوُقوفُ على حَقائِقِها.
واللهُ المُوَفِّقُ والهادِي، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عليه تَوكَّلْتُ وإليه أُنِيْبُ.
* * *
هذا آخِرُ ما تيسَّرَ وتحرَّرَ، وللهِ الحمدُ على ما أَلْهَمَ وعَلَّمَ، وصلَّى اللهُ على سيِّدِنا محمدٍ وآلِهِ وصَحْبهِ وسَلَّمَ. وسَلامٌ على المُرسَلِينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ
حَقَّقَهُ عَلَى نُسْخَةٍ مَقْرُوءَة عَلَى المُؤَلِّفِ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ
نُورُ الدِّينِ عِتْر
رَئِيسُ قِسْمِ عُلُومِ القُرآنِ وَالسُّنَّةِ بجَامِعَةِ دِمَشْق أستَاذُ التّفسِيرِ وَالحَدِيث في كُليَّاتِ الشَّريعَةِ وَالآداب بِجَامِعَتَي دِمَشقَ وَحَلَبَ
1 -
متن نخبة الفكر بفهرس صفحات شرحه آخر كل عبارة
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَالِمًا قَدِيرًا، وَصَلَّى الله عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّد الَّذِي أَرْسَلَهُ إلَى النَّاسِ بَشِيرًا وَنَذيرًا، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ التَّصَانِيفَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَديْثِ، قَدْ كَثُرَتْ (37) وبُسِطَتْ وَاخْتُصِرَتْ (39)، فَسَأَلَنِي بَعْضُ الإِخْوَانِ أَنْ أُلَخِّصَ لَهُ الْمُهِمَّ مِنْ ذَلِكَ، فَأَجَبْتُهُ إِلَى سُؤَالِهِ رَجَاءَ الانْدِرَاجِ فِي تِلْكَ الْمَسَالِكِ.
فَأَقولُ (40): الْخَبَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ طُرُقٌ، بِلَا عَدَدٍ مُعَيَّنٍ (41)، أَوْ مَعَ حَصْرٍ بِمَا فَوقَ الاثْنَيْنِ، أَوْ بِهِمَا، أَوْ بِوَاحِدٍ.
فَالأَوَّلُ: الْمُتَوَاتِرُ، المُفِيْدُ لِلْعِلْمِ اليَقِينيِّ بِشُرُوطِهِ (44). وَالثَّانِي: الْمَشْهُورُ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيْضُ عَلَى رَأْيٍ (46). وَالثَّالِثُ: الْعَزِيزُ (47)، وَلَيْسَ شَرْطًا لِلصَّحِيح خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ (48). وَالرَّابعُ: الْغَرِيبُ. وَكُلُّهَا -سِوَى الأَوَّلُ- آحَادٌ (50).
وفيهَا الْمَقْبُولُ وَالْمَرْدُودُ لتَوَقُّفِ الاسْتِدْلالِ بِهَا عَلَى الْبَحْث عَنْ أَحْوَالِ رُوَاتِهَا دُونَ الأَوَّلِ (51)، وَقَدْ يَقَعُ فيهَا مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ بِالقَرَائِنِ عَلَى المُخْتَارِ (52).
ثمَّ الْغَرَابَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَصْلِ السَّنَدِ (55)، أَوْ لآ. فَالأَوَّلُ: الْفَرْدُ الْمُطْلَقُ (56)، وَالثَّاني: الْفَرْدُ النِّسْبيُّ، وَيَقِلُّ إِطْلآقُ الْفَرْدِيَّة عَلَيْهِ (57).
وخَبَرُ الآحادِ بِنَقْلِ عَدلٍ تَامِّ الضَّبْطِ، مُتَّصِلَ السَّنَدِ، غَيْرَ مُعَلَّلٍ وَلآ شَاذٍّ: هُوَ الصَّحِيحُ لِذَاتِهِ (58). وَتَتَفَاوتُ رُتَبُهُ بِتَفَاوُتِ هذِهِ الأَوْصَافِ (59). وَمِنْ ثَمَّ قُدِّمَ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ مُسْلم، ثُمَّ شَرْطُهُمَا (64).
فإِنْ خَفَّ الضَّبْطُ، فَالْحَسَنُ لِذَاتِهِ (65)، وَبِكَثْرَةِ طُرُقِهِ يُصَحَّحُ. فَإِنْ جُمِعَا فللتَّرَدُّدِ فِي النّاقِل حَيْثُ التَّفَرُّدُ (66)، وإلا فبِاعْتِبارِ إسْنَادَيْنِ (67).
وزيَادَةُ رَاويهمَا مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ تَقَعْ مُنَافِيَةً لِمَنْ هُوَ أَوْثَقُ (68).
فإِنْ خُولِف بِأَرْجَحَ فَالرَّاجِحُ الْمَحْفُوظُ، وَمُقَابِلُهُ الشَّاذُّ (71)، وَمَعَ الضَّعْف فَالرَّاجِحُ الْمَعْرُوفُ، وَمُقَابلُهُ الْمُنْكَرُ (72).
والْفَرْدُ النِّسْبي إِنْ وَافَقَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ المُتَابِعُ (73)، وَإِنْ وُجِدَ مَتْنٌ يُشْبِهُهُ فهُوَ الشَّاهِدُ. وَتَتَبُّعُ الطُّرُقِ لِذلِكَ هُوَ: الاعْتِبَارُ (75).
ثمَّ الْمَقْبُولُ: إِنْ سَلِمَ مِنَ الْمُعَارَضَةِ، فَهُوَ الْمُحْكَمُ، وَإِنْ عُورضَ بِمثْلِهِ فإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فمُخْتَلِفُ الحَدِيث (76)، أَوْ لآ، وَثَبَتَ الْمُتَأَخِّرُ فهُوَ النَّاسِخُ وَالآخَرُ الْمَنْسُوخُ (77)، وَإِلَّا فَالترْجيحُ، ثمَّ التَّوَقُّفُ (79).
ثمَّ الْمَرْدُودُ: إِمَّا أَنْ يكونَ لِسَقَطٍ أَوْ طَعْنٍ:
فالسَّقَطُ إِمَّا أَنْ يَكونَ مِنْ مَبَادي السَّنَدِ مِنْ مُصَنِّفٍ، أَوْ مِنْ آخِرِهِ بَعْدَ التَّابِعيّ، أَوْ غَيْر ذلِكَ، فَالأَوَّلُ الْمُعَلَّقُ (80). وَالثَّاني الْمُرْسَلُ (82). وَالثَّالِثُ إِنْ كانَ بِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَعَ التَّوَالي فهُو الْمُعْضَلُ (83)، وَإِلا فَالْمُنْقَطِعُ.
ثمَّ قَدْ يَكُونُ وَاضِحًا أَوْ خَفِيًّا. فَالأَوَّلُ يُدْرَكُ بعَدَمِ التَّلَاقِي، وَمِنْ ثَمَّ احْتِيجَ إِلَى التَّارِيخِ (84)، والثَّانِي المُدَلَّسُ، وَيَرِدُ بِصِيغَةٍ تَحْتَمِلُ اللُّقِيَّ كَعَنْ، وَقَالَ، وَكَذَا الْمُرْسَلُ الْخَفيُّ مِنْ مُعَاصِرٍ لَمْ يَلْقَ (85).
ثمَّ الطَّعْنُ (87): إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكَذِبِ الرَّاوي، أَوْ تُهْمَتِهِ بِذلِكَ، أَو فُحشِ غَلَطِهِ، أَوْ غَفْلَتِهِ، أَوْ فِسْقِهِ، أَوْ وَهَمِهِ، أَوْ مُخَالَفَتِهِ، أَوْ جَهَالَتِهِ،
أَوْ بِدْعَتِهِ (88)، أَوْ سُوءِ حِفْظِهِ. فَالأَوَّلُ الْمَوْضُوعُ (89). والثَّانِي الْمَتْرُوكُ. وَالثَّالِثُ الْمُنْكَرُ عَلَى رَأْيٍ، وَكَذَا (91) الرَّابعُ وَالْخَامِسُ.
ثمَّ الْوَهَمُ إِن اطُّلِعَ عَلَيْهِ بِالقَرَائِنِ وَجَمْعِ الطُّرُقِ: فَالْمعَلَّلُ (92).
ثمَّ الْمُخَالَفَةُ إِنْ كانَتْ بِتَغْيير السِّيَاقِ: فَمُدْرَجُ الإِسْنَادِ (93)، أَوْ بِدَمْجِ مَوْقوفٍ بِمَرفوع: فَمُدْرَجُ الْمَتْن. أَوْ بِتَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ: فَالْمَقْلُوبُ (94). أَوْ بِزِيَادَةِ رَاوٍ: فَالْمَزِيدُ في مُتَّصِل الأَسَانِيدِ، أَوْ بِإِبْدَالِهِ وَلَا مُرَجِّحَ: فالْمضْطَرِبُ (95). وَقَدْ يَقَعُ الإِبْدَالُ عَمْدًا امْتِحَانًا، أَوْ بِتَغْيير حُرُوفٍ مَعَ بَقَاءِ السِّيَاقِ: فالمُصَحَّفُ وَالْمُحَرَّفُ (96).
وَلَا يَجُوزُ تَعَمُّدُ تَغْييرِ الْمَتْنِ بِالنَّقْصِ وَالْمُرَادِفِ إِلَّا لعَالِم بِما يُحِيلُ الْمَعَانِي (97). فإِن خَفِيَ الْمَعْنَى احْتِيجَ إِلَى شَرْحِ الْغَريبِ (98)، وَبَيَانِ الْمُشْكِلِ.
ثمَّ الْجَهَالَةُ، وَسَبَبُهَا أَنَّ الرَّاويَ قَدْ تَكْثُرُ نُعوتُهُ فَيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتَهَرَ بِهِ لغَرَضٍ، وَصَنَّفُوا فِيهِ المُوضِحَ (99)، وَقَدْ يَكُونُ مُقِلًّا فَلَا يكْثرُ الأخْذُ عَنْهُ، وَصَنَّفُوا فِيهِ الْوُحْدَانَ، أَوْ لَا يُسَمَّى اخْتِصَارًا (100)، وفيهِ الْمُبْهَمَاتُ، وَلَا يُقْبَل الْمُبْهَمُ وَلَوْ أُبْهِمَ بِلَفْظِ التَّعْدِيلِ عَلَى الأصَحِّ.
فإِنْ سُمِّيَ وَانفَرَدَ واحدٌ عَنْهُ: فَمجْهولُ الْعَيْنِ (101)، أَو اثنَانِ فَصاعِدًا وَلَمْ يُوَثَّقْ: فمجهولُ الْحالِ، وَهُوَ الْمَسْتُورُ.
ثمَّ الْبِدْعَةُ إِمَّا بِمُكَفِّرٍ، أَوْ بِمُفَسِّقٍ (102)، فَالأَوَّلُ لا يَقْبَلُ صَاحِبَهَا الْجمْهُورُ. والثَّانِي يُقْبَلُ مَنْ لَم يكُنْ دَاعِيَةً في الأصَحِّ (103)، إِلَّا أنْ يَرْوِيَ مَا يُقَوِّي بِدْعَتَهُ فَيُرَدَّ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْجُوزجَانِيُّ شَيْخُ النَّسَائِي.
ثمَّ سُوءُ الْحِفْظِ إِنْ كانَ لازمًا فهُوَ الشَّاذُّ عَلَى رَأْيٍ، أَوْ طَارئًا فَالمُخْتَلطُ (104)، وَمَتَى تُوبِعَ السَّيئُ الْحِفْظِ بِمُعْتَبَرٍ، وَكَذَا الْمَسْتُورُ، وَالْمُرْسَلُ، وَالمُدَلِّسُ: صَارَ حَدِيثُهُمْ حَسَنًا لَا لِذَاتِهِ بَلْ بالْمَجْمُوعِ (105).
ثمَّ الإِسْنَادُ إِمَّا أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم تَصْرِيحًا، أَو حُكْمًا: مِنْ قَوْليِ،
أَوْ فِعْلِهِ، أَوْ تَقْريرِهِ (106). أَوْ إِلَى الصَّحَابِيِّ كَذلِك، وَهُوَ: مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُؤمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الإِسْلَامِ وَلَوْ تَخَلَّلَتْ رِدَّةٌ فِي الأصَحِّ (111). أَوْ إلى التَّابِعِيّ، وَهُوَ: مَنْ لَقِيَ الصَّحَابِيَّ كَذلِكَ (113). فالأَوَّلُ: الْمَرْفوعُ، والثَّاني الْمَوْقوفُ، وَالثَّالِثُ الْمَقْطوعُ، وَمَنْ دُونَ التَّابِعِيِّ فيهِ مِثْلُهُ. وَيُقَالُ للأَخِيريْنِ: الأثَرُ.
والْمُسْنَدُ مَرْفُوعُ (114) صَحَابِيٍّ بِسَنَدٍ ظَاهِرُهُ الاتِّصَالُ. فإنْ قَلَّ عَدَدُهُ: فإِمَّا أَنْ يَنْتَهيَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ إلى إِمَامٍ ذِي
صِفَةٍ عَلِيَّةٍ (115) كشُعْبَةَ، فالأَوَّلُ العُلُوُّ الْمُطْلَقُ، وَالثَّانِي النِّسْبِيُّ (116). وَفِيهِ الْمُوَافَقَةُ وَهِيَ الوُصُولُ إلى شَيْخِ أَحَدِ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ غَيْر
طَرِيقِهِ، وَفِيهِ الْبَدَلُ، وَهُوَ الْوُصُولُ إلى شَيْخِ شيْخِهِ كَذلِكَ، وَفِيهِ الْمُسَاوَاةُ، وهيَ اسْتِوَاءُ عَدَدِ الإِسنادِ من الراوي إلى آخِرِهِ مع إسنادِ أَحَدِ المُصَنِّفين. وفيه المصافَحَةُ، وهي الاسْتِواءُ مَعَ تِلْمِيذِ ذلِكَ (117) الْمُصَنِّفِ. وَيُقَابِلُ الْعُلُوَّ بِأَقْسَامِهِ النُّزُولُ.
فإِنْ تَشَارَكَ الرَّاوي وَمَنْ رَوَى عَنْهُ فِي السِّنِّ وَاللُّقِيّ فَهُوَ الأقْرَانُ، وإِن رَوَى كُلٌّ مِنْهُما عن الآخَرِ فالمُدَبَّجُ (118)، وَإِنْ رَوَى عَمَّنْ دُونَهُ فالأَكابِرُ عنِ الأصَاغِرِ، وَمِنْه الآباءُ عَن الأبْنَاءِ، وفِي عَكْسِهِ كثْرَةٌ، وَمِنْهُ مَنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (119). وَإنِ اشْتَرَكَ اثنَانِ عَنْ شَيْخٍ وَتَقَدَّمَ مَوْتُ أَحَدِهِما فهُوَ: السَّابِقُ واللَّاحِقُ.
وإِنْ رَوَى عَنِ اثنَيْنِ مُتَّفِقَي الاسْمِ وَلَمْ يَتَمَيَّزا (120) فباخْتِصَاصِه بِأَحَدِهِما يَتَبيَّنُ الْمُهْمَلُ.
وإِنْ جَحَدَ مَرْوِيَّهُ جَزْمًا: رُدَّ، أَوِ احْتِمَالًا: قُبِلَ فِي الأصَحِّ، وَفيهِ:"مَنْ حَدَّثَ وَنَسِيَ"(121). وَإِنْ اتفَقَ الرُّواةُ في صِيغِ الأَدَاءِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الحَالَاتِ، فَهُو: الْمُسَلْسَلُ (122).
وصِيغُ الأدَاءِ: سَمِعْتُ وَحَدَّثَنِي، ثمَّ أَخْبَرَنِي وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ، ثمَّ قُرِئَ عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ (123)، ثمَّ أَنْبَأَنِي، ثمَّ نَاوَلَنِي، ثمَّ شَافَهَني، ثمَّ كَتَبَ إليَّ
ثمَّ "عَنْ" وَنَحْوُهَا. فَالأوَّلَانِ لِمَنْ سَمِعَ وَحْدَهُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، فإِنْ جَمَعَ فمعَ غَيْرِهِ، وأَوَّلُهَا أصْرَحُهَا وَأَرْفَعُهَا فِي الإِمْلَاء، والثَّالِثُ والرَّابعُ لِمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ، فإِنْ جَمَعَ فكَالْخَامِسِ (124). والإنْبَاءُ بِمَعْنَى الإِخْبَارِ إِلا في عُرْفِ الْمُتَأَخِّرينَ فهوَ للإجَازَةِ كَعنْ، وَعَنْعَنَةُ الْمُعَاصِر مَحْمُولةٌ عَلَى السَّماع (125) إِلَّا مِنَ المُدَلِّسِ، وقيلَ: يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ لقَائِهمَا وَلَوْ مَرَّةً، وهُوَ المُخْتَارُ. وأَطْلَقُوا الْمُشَافَهَةَ في الإجَازَةِ الْمُتَلَفَّظِ بِها، وَالْمُكَاتَبَةَ في الإجَازَةِ الْمَكْتُوبِ بِها. واشْتَرَطُوا في صِحَّةِ المُنَاوَلَةِ اقتِرَانَها بالإذْن بِالرِّوَايَةِ، وَهِيَ أَرْفعُ أَنْوَاع الإجَازَةِ (126). وَكَذَا اشْتَرَطُوا الإِذْنَ في الْوِجَادَةِ، والْوَصِيَّةِ بِالْكِتَابِ، وَفي الإعْلَامِ (127)، وَإِلا فَلَا عِبْرَةَ بذلِكَ كالإجَازَةِ الْعَامَّةِ، وَلِلْمَجْهُولِ، وَلِلْمَعْدُومِ، عَلَى الأصَحِّ فِي جَمِيعِ ذلِكَ (128).
ثمَّ الرُّواةُ إن اتفَقَتْ أَسْمَاؤُهُمْ وأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ فَصَاعِدًا واخْتَلَفَتْ أَشْخَاصُهُمْ: فهُوَ الْمُتَّفِقُ والْمُفْتَرقُ، وإِنْ اتفَقَتِ الأسْمَاءُ خَطًّا وَاخْتَلَفَتْ نُطْقًا (129) فهُوَ الْمُؤْتلِف وَالْمُخْتَلِفُ (130)، وإِنِ اتفَقَتِ الأسْمَاءُ واخْتَلَفَتِ الآبَاءُ، أَوْ بِالعَكْسِ فهُوَ الْمُتَشَابِهُ، وكَذَا إِنْ وَقَعَ الاتفَاقُ في الاسْمِ واسْم الأبِ والاخْتِلَافُ في النِّسْبَةِ، وَيَتَرَكَّبُ مِنْهُ وَمِمَّا قبْلهُ أَنْوَاعٌ: مِنْها أَنْ يَحْصُلَ الاتِّفاقُ أوْ الاشْتِبَاهُ إلا في (131) حَرفٍ أَوْ حَرْفَينِ (132)، أَوْ بالتَّقْديمِ والتَّأْخِيرِ، أَوْ نَحْوِ ذلِكَ (133).
خاتمة
ومِنَ الْمُهِمِّ: مَعْرِفَةُ طَبَقَاتِ الرُّواةِ (134). وَمَوَالِيدِهمْ، وَوَفَيَاتِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ، وأَحْوَالِهِمْ: تَعْدِيلًا وَتَجرِيحًا وَجَهَالَةً (135). وَمَرَاتِبِ الْجَرْحِ، وَأَسْوَأُهَا الْوَصْفُ بِأَفعَلَ: كَأَكْذَبِ النَّاسِ، ثمَّ دجَّال، أَوْ وضَّاعٌ، أَوْ كَذَّابٌ. وَأَسْهَلُهَا: لَيِّنٌ، أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ، أَوْ فِيهِ مَقَالٌ. وَمَرَاتِبِ التَّعْدِيلِ، وَأَرْفعُهَا الْوَصْفُ بِأَفْعَلَ: كأَوْثَق النَّاسِ، ثُمَّ مَا تأَكَّدَ بِصِفةٍ أَوْ
صِفَتَيْن كثِقَةٍ ثِقَةٍ (136)، أَوْ ثِقَةٍ حَافِظٍ، وَأَدْنَاهَا مَا أَشْعَرَ بِالقُرْبِ مِنْ أَسْهَلِ التَّجْرِيحِ: كَشَيْخ (137). وتُقْبَلُ التَّزْكِيَةُ مِنْ عَارفٍ بِأَسْبَابِهَا، وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى الأصَح (138)، وَالْجرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ إِنْ صَدَرَ مُبَيَّنًا مِنْ عَارِفٍ بِأَسْبَابِهِ، فإِنْ خَلَا عَن التَّعْدِيلِ: قُبِلَ مُجْمَلًا عَلَى الْمُخْتَارِ (139).
فصْلٌ
وَمِنَ الْمُهِمّ مَعْرِفَةُ كُنَى المُسَمَّيْنَ، وأَسْمَاءِ الْمُكَنَّيْنَ، ومَنْ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ، ومن اخْتُلِفَ في كُنْيَتِهِ، وَمَنْ كَثُرَتْ كُنَاهُ أَوْ نُعُوتُهُ، وَمَنْ وَافَقَت كُنْيَتُهُ اسْمَ أَبِيهِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ كُنْيَتُهُ كُنْيَةَ زَوْجَتِهِ، ومن نُسِبَ إلى غَيْر أَبِيهِ (140)؛ أَوْ إِلى غَيْرِ ما يَسْبِقُ إلى الْفَهْم، وَمَنِ اتَّفَقَ اسْمُهُ واسمُ أَبيهِ وجَدِّه، أَوِ اسْمُ شَيْخِهِ وَشَيْخِ شَيْخِهِ فَصَاعِدًا (141)، ومَن اتَّفَقَ اسمُ شيْخِهِ والرَّاوي عنهُ، وَمَعْرِفَةُ الأسْمَاءِ الْمُجَرَّدةِ (142)، وَالْمُفْرَدَةِ (144)، والْكُنَى، وَالألْقَابِ، وَالأنْسَابِ، وَتَقَعُ إلى القَبَائِلِ وَالأوْطَانِ: بِلَادًا، أَوْ ضِيَاعًا، أَوْ سِكَكًا، أَوْ مُجَاورَةً، وإلَى الصَّنَائِعِ والْحِرَفِ، وَيَقَعُ فيهَا الاتفَاقُ وَالاشْتِبَاهُ كالأسْمَاءِ. وَقَدْ تَقَعُ أَلْقَابًا، ومَعْرِفَةُ أَسْبَابِ ذلِكَ، وَمَعْرِفَةُ الْمَوَالِي مِنْ أَعْلَى وَمِنْ أَسْفَلَ، بِالرِّقِّ، أَوْ بِالْحِلْفِ (145)، ومَعْرفَةُ الإخْوَةِ وَالأخَوَاتِ، ومَعْرِفَةُ آدَابِ الشَّيْخِ والطَّالِبِ؛ وَسِنِّ التَّحَمُّلِ وَالأدَاء (146)، وصِفَةِ كِتَابَةِ الحَدِيثِ وَعَرْضِهِ، وَسَمَاعِهِ، وإسْمَاعِهِ، وَالرِّحْلَةِ فِيهِ، وتَصْنِيفِهِ عَلَى الْمَسَانِيدِ، أَوِ الأبْوَابِ، أَوِ الْعِلَلِ (147)، أَوِ الأطْرَافِ. ومَعْرِفَةُ سَبَبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ بَعْضُ شُيوخِ الْقَاضي أَبي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ (148)، وَصَنَّفُوا في غَالِبِ هذِهِ الأنْوَاعِ، وَهِيَ نَقْلٌ مَحْضٌ، ظَاهِرَةُ التَّعْرِيف، مُسْتَغْنِيَةٌ عَنِ التَّمْثِيلِ، فلْتُرَاجَعْ مَبْسُوطَاتُهَا.
وَاللهُ الْمُوَفِّقُ وَالْهَادِي، لا إِله إلَّا هُوَ (149).
2 -
ثبت أهم المراجع
- اختصار علوم الحديث لابن كثير شرح أحمد شاكر. ط. صَبيح.
- الأربعون النووية للإمام النووي: أبي زكريا يحيى بن شرف بن مُرِّي.
- إرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني. الأميرية، الخامسة.
- إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق، للنووي، دار اليمامة، دمشق، الطبعة الثالثة.
- الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر. ط. المكتبة التجارية، مصر.
- الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي، ط. حمص.
- إعلام الأنام بشرح بلوغ المرام، نور الدين عتر. ط. الصباح. التاسعة.
- الأم للإمام الشافعي. ط. الاستقامة. مصر.
- الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين للدكتور نور الدين عتر، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي. ط. السعادة. مصر.
- تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، مصر.
- تدريب الراوي شرح تقريب النواوي للسيوطي، مكتبة القاهرة بتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف.
- تذكرة الحفاظ للذهبي، دائرة المعارف العثمانية بالهند.
- تقريب التهذيب لابن حجر تحقيق محمد عوامة. ط. دار القلم. دمشق.
- التقصي لابن عبد البر. ط. مصر.
- التقييد والإيضاح لما أُطلق وأُغلق من كتاب ابن الصلاح. للعراقي، تحقيق شيخنا الشيخ محمد راغب الطباخ. المطبعة العلمية. حلب.
- تنوير الحوالك شرح موطأ مالك للسيوطي، مصطفى البابي الحلبي.
- تهذيب التهذيب لابن حجر. ط. الهند - تصوير بيروت.
- الجامع المسند الصحيح البخاري، الأميرية، الثالثة 1313 هـ.
- الجامع للترمذي: تحقيق أحمد محمد شاكر للجزءين 1 و 2.
- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، دائرة المعارف العثمانية، بالهند.
- الحافظ الخطيب للدكتور محمود طحان. ط. الرياض.
- الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي، تحقيق نور الدين عتر، بيروت.
- سنن ابن ماجه، دار إحياء الكتب العربية. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
- سنن أبي داود، مطبعة مصطفى محمد. تحقيق شيخنا محمد محي الدين عبد الحميد، الأولى.
- سنن الترمذي = الجامع.
- سنن النسائي = المجتبى.
- شرح الألفية للعراقي، جمعية النشر والتأليف، مصر.
- شرح ألفية السيوطي لأحمد شاكر، عيسى البابي الحلبي، مصر.
- شرح شرح نخبة الفكر لعلي القاري. تحقيق نزار تميم وعدنان تميم.
- شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي، تحقيق نور الدين عتر، مطبعة الملاح. دمشق.
- شروط الأئمة الخمسة للحازمي، ط. القدسى، القاهرة.
- شروط الأئمة الستة لابن طاهر المقدسي. ط. القدسي. القاهرة.
- الضعفاء الكبير للعقيلي محمد بن عمرو، بيروت.
- طبقات الشافعية للسبكي. ط. عيسى البابي الحلبي.
- العلل لابن أبي حاتم الرازي، السلفية، القاهرة.
- علوم الحديث لابن الصلاح الشهرزوري، تحقيق نور الدين عتر. دار الفكر.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ط. مصر الخيرية سنة 1325 هـ.
- فتح المغيث شرح ألفية الحديث للسخاوي شمس الدين محمد، الهند. جزء واحد، وطبع دار الطبري 4 أجزاء.
- فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي. المكتبة التجارية، مصر.
- لقط الدرر بشرح متن نخبة الفكر لعبد الله خاطر العدوي، مصر.
- المجتبى (سنن النسائي)، بحاشِيتي السيوطي والسندي، تصوير، بيروت.
- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، ط القدسي، القاهرة.
- المسند للإمام أحمد بن حنبل، تصوير المكتب الإسلامي.
- المسند الصحيح لمسلم ط. إسطنبول، المطبعة العامرة سنة 1327 هـ.
- المصنف لعبد الرزاق تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. المكتب الإسلامي.
- معالم السنن شرح مختصر سنن أبي داود للخطابي، ط. أنصار السنة المحمدية.
- معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري. ط. دار الكتب، مصر.
- المغني في الضعفاء للذهبي، تحقيق د. نور الدين عتر.
- المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة للأيوبي، مصر.
- منهج النقد في علوم الحديث للدكتور نور الدين عتر، الثالثة، دار الفكر.
- موارد الظمآن بزوائد ابن حِبّان، للهيثمي، ط. السلفية، مصر.
- الموطأ للإمام مالك مع شرحه تنوير الحوالك، ط مصطفى البابي الحلبي.
- ميزان الاعتدال للذهبي، عيسى البابي الحلبي، مصر.
- نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي، دار المأمون بشبرا، مصر.
- النكت على ابن الصلاح لابن حجر. ط. السعودية.
- النكت على ابن الصلاح للعراقي = التقييد والإيضاح.
- هدي الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر ط. المنيرية. مصر.
كتب للمحقق
في التأليف العلمي المتخصص:
• الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين (الطبعة الرابعة).
• منهج النقد في علوم الحديث (الطبعة الخامسة - منقحة).
• معجم المصطلحات الحديثية. (باللغتين العربية والفرنسية، حائز على الجائزة الأولى لمسابقة الدراسات الحديثية، من جامعة الدول العربية).
• تصدير معجم المصنفات في الدراسات الحديثية. (حائز على الجائزة الثانية).
• هدْيُ النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخاصة (طبعة رابعة موسعة جدًّا).
• دراسات تطبيقية في الحديث النبوي (العبادات) الطبعة السابعة.
• دراسات تطبيقية في الحديث النبوي (المعاملات) الطبعة السابعة.
• دراسات منهجية في الحديث النبوي (الأسرة والمجتمع)(الطبعة الثالثة).
• النكاح في سنن النسائي والأدب في سنن الترمذي (الطبعة الرابعة).
• الحج والعمرة في الفقه الإسلامي (موضح بالمصورات الجغرافية الملونة)(الطبعة الخامسة).
• في تفسير القرآن الكريم وأسلوبه المعجز علميًّا وأدبيًّا (الطبعة الحادية عشرة). وهي الثانية معدلة وموسعة.
• علوم القرآن الكريم (الطبعة السابعة).
• الإحرام (بحث خاص لموسوعة الفقه الإسلامي في الكويت).
• الإحصار (بحث خاص لموسوعة الفقه الإسلامي في الكويت).
• خروج النظم المصرفية عن أحكام الشريعة الإسلامية وطرق علاجها. (خاص).
• المسانيد ومكانتها في علم الحديث.
• أصول الجرح والتعديل (الطبعة الثانية: معدلة ومنقحة).
• خبر الواحد الصحيح وأثره في العقيدة والعمل.
• القرآن الكريم والدراسات الأدبية (الطبعة الخامسة).
• أحكام القرآن في سورة البقرة. (الطبعة الخامسة).
• أحكام القرآن في سورة النساء (محاضرات الدراسات العليا في التفسير التحليلي).
• آيات الأحكام: تفسير واستنباط (الطبعة الأولى).
• إعلام الأنام شرح بلوغ المرام في أحاديث الأحكام للحافظ ابن حجر.
• في ظلال الحديث النبوي: دراسة فكرية اجتماعية وأدبية جمالية معاصرة.
• التفسير وعلوم القرآن (الطبعة الثانية).
في تحقيق المخطوطات:
• علوم الحديث للإمام ابن الصلاح الشهرزوري. (طبعة سادسة).
• المغني في الضعفاء للإمام شمس الدين الذهبي. (طبعة مدققة بتحقيق جديد وتعليقات معدلة وموسعة).
• الرحلة في طلب الحديث، للإمام الحافظ أبي بكر الخطيب. (الطبعة الرابعة).
• شرح علل الترمذي للحافظ ابن رجب الحنبلي. (بتحقيق جديد).
• إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق صلى الله عليه وسلم للإمام النووي.
• نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر (الطبعة الثالثة).
• هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك، للإمام المحدث الحافظ المجتهد عز الدين ابن جماعة الكناني.
أبحاث ثقافية إسلامية:
• المعاملات المصرفية والربوية وعلاجها في الإسلام (الطبعة الثامنة).
• أبغض الحلال (الطبعة السادسة).
• أسس الدعوة وأخلاق الدعاة (طبع الآلة الكاتبة)(تحت الطبع).
• الأحاديث المختارة من جوامع الإسلام (أملية جامعية).
• تفسير سورة الفاتحة في ضوء السنة النبوية وعلوم البلاغة واللغة العربية.
• ماذا عن المرأة (الطبعة الخامسة).
• السنة المطهرة والتحديات (الطبعة الرابعة).
• فِكر المسلم (في الثقافة الإسلامية).
• كيف تتوجه إلى القرآن.
• تعلم كيف تحج وتعتمر (الطبعة الثالثة).
• النفحات العطرية من سيرة خير البرية صلى الله عليه وسلم (الطبعة الرابعة).