المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة يوسف مقصودها وصف الكتاب بالإبانة لكل ما يوجب الهدى لما - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور - جـ ١٠

[برهان الدين البقاعي]

فهرس الكتاب

سورة يوسف

مقصودها وصف الكتاب بالإبانة لكل ما يوجب الهدى لما ثبتفيما مضى ويأتي في هذه السورة من تمام علم منزله غيبا وشهادة وشمول قدرته قولا وفعلا، وهذه القصة - كما ترى - أنسب الأشياء لهذا المقصود، فلذلك سميت سورة يوسف - والله أعلم.

ص: 1

{بسم الله} الذي وسع كل شيء قدرة وعلماً {الرحمن} الذي لم يدع لبساً لعموم رحمته في طريق الهدى {الرحيم *} الذي خص حزبه بالإبعاد عن موطىء الردى.

لما خلل سبحانه تلك مما خللها به من القصص والآيات القاطعة بأن القرآن من عنده وبإذنه نزل، وأنه لا يؤمن إلاّ من شاء إيمانه، وأنه مهما شاءه كان، وبيّن عظيم قدرته على مثل ما عذب به الأمم

ص: 1

وعلى التأليف بين من أراد وإيقاع الخلاف بين من شاء، وأشار إلى أنه حكم بالنصرة لعابديه فلا بد أن يكون ما أراد لأنه إليه يرجع الأمر كله، تلاها بهذه السورة لبيان هذه الأغراض بهذه القصة العظيمة الطويلة التي لقي فيها يوسف علية الصلاة والسلام ما لقي من أقرب الناس إليه ومن غيرهم ومن الغربة وشتات الشمل، ثم كانت له العاقبة فيه على أتم الوجوه لما تدرع به من الصبر على شديد البلاء والتفويض لأمر الله جلَّ وعلا تسلية لهذا النبي الأمين وتأسية بمن مضى من إخوانه المرسلين فيما يلقى في حياته من أقاربه الكافرين وبعد وفاته ممن دخل منهم في الدين في آل بيته كما وقع ليوسف عليه السلام من تعذيب عقبه وعقب إخوته ممن بالغ في الإحسان إليهم، وقد وقع ليوسف عليه السلام بالفعل ما همّ الكفار من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم بفعله به كما حكاه سبحانه في قوله {ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} [الأنفال: 30] فنجا منهم أن يكون شيء منه بأيديهم إلاّ ما كان من الحصر في شعب أبي طالب ومن الهجرة بأمر الحكيم العليم، ثم نصر الله يوسف عليه السلام على إخوته الذين فعلوا به ذلك وملكه قيادهم، فكان في سوق قصته عقب الإخبار بأن المراد بهذه القصص تثبيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 2

وتسلية فؤاده إشارة إلى البشارة بما وقع له صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من ملك قيادهم ورد عنادهم ومنّه عليهم وإحسانه إليهم، وفي إشارتها بشارة بأن المحسود يعان ويعلى إن عمل ما هو الأحرى به والأولى، ومن فوائد ذكرها التنبيه على أن الحسد داء عظيم شديد التمكن في النفوس حتى أنه بعزم تمكنه وكثرة مكانه وتعدد كائنه ربما غلب أهل الصلاح ألاّ من بادر منهم بالتوبة داعي الفلاح، وتركت إعادتها دون غيرها من القصص صوناً للأكابر عن ذكر ما ربما أوجب اعتقاد نقص، أو توجيه طعن أو غمص، أو هون داء الحسد، عند ذي تهور ولدد، وخللها سبحانه ببليغ الحكم وختمها بما أنتجت من ثبوت أمر القرآن ونفي التهمة عن هذا النبي العظيم.

هذا مناسبة ما بين السورتين، وأما مناسبة الأول للآخر فإنه تعالى لما أخبر في آخر تلك بتمام علمه وشمول قدرته، دل على ذلك أهل السبق من الفصاحة والفوت في البلاغة في أول هذه بما فعل في

ص: 3

كلامه من أنه تعالى يقدر على أن يأتي بما تذهب الأفهام والعقول - على كرِّ الأزمان وتعاقب الدهور وتوالي الأيام وتمادي الليالي - في معناه كل مذهب وتطير كل مطار مع توفر الدواعي واستجماع القوى، ولا تقف من ذلك على أمر محقق ولا مراد معلوم وعلى أن يأتي بما يفهم بأوائل النظر أدنى معناه فهما يوثق بأنه مراد، ثم لا يزال يبرز منه من دقائق المعاني كلما كرر التأمل وتغلغل الفهم إلى حد يعلم أنه معجوز عن كل ما فيه من جليل معانيه ولطيف مبانيه فقال تعالى:{الر} قال الروماني: لم تعد الفواصل لأنها لا تشاكل رؤوس الآيات لأنها على حرفين، فأجريت مجرى الأسماء الناقصة، وإنما يؤم بالفواصل التمام، وأما «طه» فيعد لأنه يشبه رؤوس آيها - انتهى.

وهذا قول من ذهب سهواً إلى أن السجع مقصود في القرآن، وهو قول مردود غير معتد به كما مضى القول فيه في آخر سورة براءة، فإنه لا فرق بين نسبته إلى أنه شعر وبين نسبته إلى أنه سجع، لأن السجع صنع الكهان فيؤدي ذلك إلى ادعاء أنه كهانة وذلك كفر لا شك فيه، وقد أطنبت فيه في كتابي مصاعد النظر، وبينت مذاهب

ص: 4

العادين للآيات وأن مرجعها التوقيف مثل نقل القراءات سواء - والله الهادي.

ولما ابتدئت السورة الماضية بأن هذا الكتاب محكم، وختمت بالحكمة المقصودة من قص أنباء الرسل، وكان السياق للرد عليهم في تكذيبهم به في قوله {أم يقولون افتراه} [سجدة: 3] ودل على أنه أنزل بعلمه، ابتدئت هذه لإتمام تلك الدالة بالإشارة إلى ما له من علو المحل وبعد الرتبة، فعقب سبحانه هذه المشكلة التي ألقاها بالأحرف المقطعة وبان أنها مع إِشكالها عند التأمل واضحة بقوله مشيراً إلى ما تقدم من القرآن وإلى هذه السورة:{تلك} أي الآيات العظيمة العالية {آيات الكتاب} أي الجامع لجميع المرادات.

ولما تقدم أول سورتي يونس وهود وصفة بالحكمة والإحكام والتفصيل، وصف هنا بأخص من ذلك فقال تعالى:{المبين*} أي البين في نفسه أنه جامع معجز لا يشتبه على العرب بوجه، والموضح لجميع ما حوى، وهو جميع المرادات لمن أمعن التدبر وأنعم التفكير، ولأنه من عند الله {ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه} [يوسف: 111] و {موعظه وذكرى للمؤمنين} [هود: 120] ؛ والبيان: إظهار المعنى للنفس بما يفصله

ص: 5

عن غيره وهو غرض كل حكيم في كلامه، ويزيد عليه البرهان بأنه إظهار صحة المعنى بما يشهد به، وأبان - لازم متعد؛ ثم علل المبين بقوله معبراً بالإنزال لأنه في سياق تكذيبهم به بخلاف ما عبر فيه بالجعل كما يأتي في الزخرف:{إنا أنزلناه} بنون العظمة أي الكتاب المفسر بهذه السورة أو بالقرآن كله {قرآنا} سمي بعضه بذلك لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض {عربياً} وعلل إنزاله كذلك بقوله: {لعلكم تعقلون *} أي لتكونوا على رجاء من أن تكونوا من ذوي العقل أو من أن تعقلوا ما يراد منكم؛ قال: أبو حيان و «لعل» ترجّ فيه معنى التعليل.

وهذه الآية تدل على أن اللسان العربي أفصح الألسنة وأوسعها وأقوامها وأعدلها، لأن من المقرر أن القول - وإن خص بخطابه قوم - يكون عاماً لمن سواهم.

ولما بين أنه يقص عليه من أنباء الرسل ما يثبت به فؤاده، قال مثبتاً ومعللاً بأنه الكتاب بعلة أخرى مشاهدة هي أخص من الأول:{نحن نقص عليك} وعظم هذه القصة بمظهر العظمة وأكد ذلك بقوله تعالى: {أحسن القصص} أي الاقتصاص

ص: 6

أو المقصوص بأن نتبع بعض الحديث كما نعلمه بعضاً فنبينه أحسن البيان - لأنه من قص الأثر - تثبيتاً لفؤادك وتصديقاً لنبوتك وتأييداً على أحسن ترتيب وأحكم نظام وأكمل أسلوب وأوفى تحرير وأبدع طريقة مع ما نفصلها به من جواهر الحكم وبدائع المعاني من الأصول والفروع، وهي قصة يوسف عليه السلام قصة طويلة هي في التوراة في نيف وعشرين ورقة لا يضبطها إلاّ حذاق أحبارهم، من تأمل اقتصاصها فيها أو في غيرها من تواريخهم ذاق معنى قوله تعالى {أحسن القصص} [يونس: 3] حتى لقد أسلم قوم من اليهود لما رأوا من حسن اقتصاصها، روى البيهقي في أواخر الدلائل بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن حبراً من اليهود دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وكان قارئاً للتوراة فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف عليه السلام كما أنزلت على موسى عليه السلام في التوراة فقال له الحبر: يا محمد! من علمكها؟ قال: الله علمنيها، فرجع إلى اليهود فقال لهم: أتعلمون والله أن محمداً ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة! فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه، فجعلوا يستمعون إلى قراءته لسورة يوسف، فتعجبوا منه وقالوا: يا محمد! من علمكها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علمنيها الله، فأسلم

ص: 7

القوم عند ذلك» .

وقد ضمنها سبحانه من النكت والعبر والحكم أمراً عظيماً، وذكر فيها حسن مجاورة يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته وصبره على أذاهم وحلمه عنهم وإغضاءه عند لقائهم عن تبكيتهم وكرمه في العفو، والأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والإنس والجن والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والرجال والنساء ومكرهن والتوحيد والنبوة والإعجاز والتعبير والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش وجميع الفوائد التي تصلح للدين والدنيا، وذكر الحبيب والمحبوب، ولم يدخل فيها شيئاً من غيرها دون سائر القصص، وكان عقابها إلى خير وسلامة واجتماع شمل وعفو من الله وتجاوز عن الكل {بما أوحينا} أي بسبب إيحائنا {إليك} .

ولما كان إنزال القرآن مجمع الخيرات، عين المراد بالإشارة واسم العلم فقال:{هذا القرآن} الذي قالوا فيه: إنه مفترى، فنحن نتابع فيه القصص بعد قصة بعد قصة والحكم حكمة في أثر حكمة حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممتر في أنه من عندنا وبإذننا ويكون أمره في البعد من اللبس أظهر من الشمس.

ولما كانوا مع معرفتهم به صلى الله عليه وسلم عارفين بأنه كان

ص: 8

مباعداً للعلم والعلماء، وكان فعلهم في التكذيب فعل من ينكر ذلك، قال:{وإن} أي وإن الشأن والحديث {كنت} ولما كان كونه لم يستغرق الزمان الماضي، أثبت الجار فقال:{من قبله} أي هذا الكتاب أو إيحائنا إليك به {لمن الغافلين} أي عن هذه القصة وغيرها، مؤكداً له بأنواع التأكيد، وهو ناظر إلى قوله آخرها {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} بعد التفاته عن كثب إلى آخر التي قبلها {وما ربك بغافل عما تعملون} والحسن: معنى يتقبله العقل ويطرق إلى طلب المتصف به أنواع الحيل، ومادة، غفل، بكل ترتيب تدور على الستر والحجب، من الغلاف الذي يوضع فيه الشيء فلا ينظر منه شيئاً ولا ينظره شيء ما دام فيه، ومنه الغفلة - للجلدة التي التي على الكمرة، والغفل - بالضم: ما لا علاقة له من الأرض، ودابة غفل، لا سمة لها، لأن عدم العلامة مؤدٍ إلى الجهل بها فكأنها في غلاف لا ينظر منه، ومنه رجل غفل: لا حسب عنده، لأن ذلك أقرب إلى جهله، والتغفل: الختل، أي أخذ الشيء من غير أن يشعر، فقد ظهر أن مقصود السورة وصف الكتاب بعد الحكمة والتفصيل بالإبانة عن جميع المقاصد المنزل لها؛ وقال الإمام ابو جعفر بن الزبير: هذه السورة من جملة ما قص

ص: 9

عليه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل وأخبار من تقدمه مما فيه التثبيت الممنوح في قوله سبحانه وتعالى {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود: 120] ومما وقعت الإحالة عليه في سورة الأنعام - كما تقدم - وإنما أفردت على حدتها ولم تنسق على قصص الرسل مع أنهم في سورة واحدة لمفارقة مضمونها تلك القصص، ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم الصلاة والسلام وكيفية تلقي قومهم لهم وإهلاك مكذبيهم، أما هذه القصة فحاصلها فرج بعد شدة وتعريف بحسن عاقبة الصبر، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه الصلاة والسلام بفقد ابنيه وبصره وشتات بنيه، وامتحن يوسف عليه الصلاة والسلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن، ثم امتحن جميعهم بشمول الضر وقلة ذات اليد

{مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا} [يوسف: 88] ثم تداركهم الله بالفهم وجمع شملهم ورد بصر أبيهم وائتلاف قلوبهم ورفع ما نزع به الشيطان وخلاص يوسف عليه الصلاة والسلام من كيد كاده واكتنافه بالعصمة وبراءته عند الملك والنسوه، وكل ذلك مما أعقبه جميل صبره وجلالة اليقين في حسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم على توالي الامتحان وطول المدة، ثم انجرَّ في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة

ص: 10

امرأة العزيز ورجوعها إلى الحق وشهادتها ليوسف عليه الصلاة والسلام بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين، ثم استخلاص العزيز إياه - إلى ما انجرّ في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف: 111] فقد انفردت هذه القصة بنفسها ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم الصلاة والسلام وما جرى في أممهم، فلهذا فصلت عنهم، وقد أشار في سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضى وسلم ليتنبه المؤمنون على ما في طيّ ذلك، وقد صرح لهم مما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} [النور: 55]- إلى قوله {آمنا} [النور: 55] وكانت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر وهجرتهم وتشققهم مع قومهم وقلة ذات أيديهم إلى أن جمع الله شملهم {اذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} [آل عمران: 103] وأورثهم الله الأرض وأيدهم ونصرهم، ذلك بجليل إيمانهم وعظيم صبرهم، فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص - والله أعلم، وأما تأخر ذكرها عنها فمناسب لحالها ولأنها إخبار بعاقبة من آمن واتعظ ووقف عند ما حد له، فلم يضره

ص: 11

ما كان، ولم تذكر إثر قصص الأعراف لما بقي من استيفاء تلك القصص الحاصل ذلك في سورة هود؛ ثم إن ذكر أحوال المؤمنين مع من كان معهم من المنافقين وصبرهم عليهم مما يجب أن يتقدم ويعقب بهذه القصة من حيث عاقبة الصبر والحض عليه - كما مر، فأخرت إلى عقب سورة هود عليه الصلاة والسلام لمجموع هذا - والله تعالى أعلم؛ ثم ناسبت سورة يوسف عليه الصلاة والسلام أيضاً أن تذكر إثر قوله تعالى {إنّ الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114] ، وقوله {واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} [هود: 115] وقول {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} -[هود: 118] الآية، وقوله {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون} [هود: 121] فتدبر ذلك، إما نسبتها للأولى فإن ندم إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام واعترافهم بخطاء فعلهم وفضل يوسف عليه الصلاة والسلام عليهم

{لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين} [يوسف: 91] وعفوه عنهم {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم} [يوسف: 92] وندم امرأة العزيز وقولها {الآن حصحص الحق} [يوسف: 51]- الآية، كل هذا من باب إذهاب الحسنة السيئة، وكأن ذلك مثال

ص: 12

لما عرف المؤمنون من إذهاب الحسنة السيئة؛ وأما نسبة السورة لقوله تعالى {واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فإن هذا أمر منه سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على قومه، فأتبع بحال يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام وما كان من أمرهما وصبرهما مع طول المدة وتوالى امتحان يوسف عليه الصلاة والسلام بالجب ومفارقة الأب والسجن حتى خلصه الله أجمل خلاص بعد طول تلك المشقات، ألا ترى قول نبينا وقد ذكر يوسف عليه الصلاة والسلام فشهد له بجلالة الحال وعظيم الصبر فقال «» ولو لبثتُ في السجن ما لبث اخي يوسف لأجبت الداعي «فتأمل عذره له عليهما الصلاة والسلام وشهادته بعظيم قدر يوسف عليهما الصلاة والسلام {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود: 120] .

لما قيل له {واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} [هود: 115] أتبع بحال يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام من المحسنين {ووهبنا له إسحاق ويعقوب} [الأنعام: 84]- إلى قوله {وكذلك نجزي المحسنين} [الأنعام: 84] وقد شملت الآية ذكر يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام، ونبينا عليه أفضل الصلاة والسلام قد أمر بالاقتداء في الصبر بهم، وقيل له {فاصبر

ص: 13

كما صبر أولو العزم من الرسل} [الأحقاف: 35] ويوسف عليه الصلاة والسلام من أولي العزم؛ ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام - في صبرهما ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا مع ما أعد الله لهما من عظيم الثواب - أنسب شيء لحال نبينا عليه الصلاة والسلام في مكابدة قريش ومفارقة وطنه، ثم تعقب ذلك بظفره بعدوه وإعزاز دينه وإظهار كلمته ورجوعه إلى بلده على حالة قرت بها عيون المؤمنين وما فتح الله عليه وعلى أصحابه - فتأمل ذلك، ويوضح ما ذكرنا ختم السورة بقوله تعالى {حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاء نصرنا} [يوسف: 110] الآيه فحاصل هذا كله الأمر بالصبر وحسن عواقب أولياء الله فيه؛ وأما النسبة لقوله {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} [هود: 118] فلا أنسب لهذا ولا أعجب من حال إخوة فضلاء لأب واحد من أنبياء الله تعالى وصالحي عباده جرى بينهم من التشتت ما جعله الله عبرة لأولي الألباب؛ وأما النسبة لآية التهديد فبينة، وكأن الكلام في قوة {اعملوا على مكانتكم - وانتظروا} [هود: 121]

ص: 14

فلن نصبر عليكم مدة صبر يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام، فقد وضح بفضل الله وجهُ ورود هذه السورة عقب سورة هود - والله أعلم. انتهى.

ص: 15

ولما تم ما أراد تعالى من تعليل الوصف بالمبين أبدل من قوله «أحسن القصص» قوله: {إذ} أي نقص عليك خبر إذ، أي خبر يوسف إذ {قال يوسف} أي ابن يعقوب إسرائيل الله عليهما الصلاة والسلام {لأبيه} وبين أدبه بقوله - مشيراً بأداة البعد إلى أن أباه عالي المنزلة جداً، وإلى أن الكلام الآتي مما له وقع عظيم، فينبغي أن يهتم بسماعه والجواب عليه، وغير ذلك من أمره:{يأبت} تاءه للتأنيث لأنه يوقف عليها عند بعض القراء بالهاء، وكسرتها عند من كسر دالة على ياء الإضافة التي عوض عنها تاء التأنيث، واجتماع الكسرة معها كاجتماعها مع الياء، وفتحها عند من فتح عوض عن الألف القائمة مقام ياء الإضافة.

ولما كان صغيراً، وكان المنام عظيماً خطيراً، اقتضى المقام التأكيد فقال:{إني رأيت} أي في منامي، فهو من الرؤيا التي هي رؤية في المنام،

ص: 15

فرق بين حال النوم واليقظة في ذلك بألف التأنيث {أحد عشر كوكباً} أي نجماً كبيراً ظاهراً جداً مضيئاً براقاً، وفي عدم تكرار هذه القصة في القرآن رد على من قال: كررت قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تمكيناً لفصاحتها بترادف السياق، وفي تكرير قصصهم رد على من قال: إن هذه لم تكرر لئلا تفتر فصاحتها، فكأن عدم تكريرها لأن مقاصد السور لم تقتض ذلك - والله أعلم.

ولما كان للنيرين اسمان يخصانهما هما في غاية الشهرة، قال معظماً لهما:{والشمس والقمر} ولما تشوفت النفس إلى الحال التي رآهم عليها، فكان كأنه قيل: على أيّ حال؟ وكانت الرؤيا باطن البصر الذي هو باطن النظر، فكان التعبير بها للإشارة إلى غرابة هذا الأمر، زاد في الإشارة إلى ذلك بإعادة الفعل، وألحقه ضمير العقلاء لتكون دلالته على كل من عجيب أمر الرؤيا ومن فعل المرتى الذي لا يعقل فعل العقلاء من وجهين فقيل:{رأيتهم لي}

ص: 16

أي خاصة {ساجدين *} أجراهم مجرى العقلاء لفعل العقلاء. فكأنه قيل: ماذا قال له أبوه؟ فقيل: {قال} عالماً بأن إخوته سيحسدونه على ما تدل عليه هذه الرؤيا إن سمعوها {يابني} فبين شفقته عليه، وأكد النهي بإظهار الإدغام فقال:{لا تقصص رؤياك} أي هذه {على إخوتك} ثم سبب عن النهي قوله: {فيكيدوا} أي فيوقعوا {لك كيداً} أي يخصك، فاللام للاختصاص. وفي الآية دليل على أنه لا نهي عن الغيبة للنصيحة، بل هي مما يندب إليه؛ قال الرماني: والرؤيا: تصور المعنى في المنام على توهم الإبصار، وذلك أن العقل مغمور بالنوم، فإذا تصور الإنسان المعنى توهم أنه يراه؛ وقال الإمام الرازي في اللوامع: هي ركود الحواس الظاهرة عن الإدراك والإحساس، وحركة المشاعر الباطنة إلى المدارك، فإن للنفس الإنسانية حواسَّ ظاهرة ومشاعر باطنة، فإذا سكنت الحواس الظاهرة استعملت الحواس الباطنة في إدراك الأمور الغائبة، فربما تدركها على الصورة التي هي عليها، فلا يحتاج إلى تعبير، وربما تراها في صورة محاكية مناسبة لها فيحتاج إلى التعبير، مثال الأول رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل المسجد الحرام،

ص: 17

والثاني كرؤيا يوسف عليه الصلاة والسلام هذه.

وقال الرماني: والرؤيا الصادقة لها تأويل، والرؤيا الكاذبة لا تأويل لها - انتهى. وهذا لمن ينام قلبه وهم من عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

ولما كانت العادة جارية بأن شفقة الإخوة تمنع من مثل ذلك، علله تقريباً له بقوله:{إن الشيطان} أي المحترق المبعد {للإنسان} أي عامة ولا سيما الأكابر منهم {عدو مبين *} أي واضح العداوة وموضحها لكل واع فيوقع العداوة بما يخيله من فوت الحظوظ بتركها، وفي الآية دليل على أن أمر الرؤيا مشكل، فلا ينبغي أن تقص إلا على شفيق ناصح.

ص: 18

ولما علم يعقوب عليه الصلاة والسلام من هذه الرؤيا ما سيصير إليه ولده من النبوة والملك قال: {وكذلك} أي قد اجتباك ربك للإطلاع على هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز، ومثل ما اجتباك لها {يجتبيك} أي يختارك ويجمع لك معالي الأمور {ربك} المربي لك بالإحسان للملك والنبوة {ويعلمك من} أي بعض {تأويل الاحاديث} من الرؤيا وغيرها من كتب الله وسنن الأنبياء وغوامض ما تدل عليه المخلوقات الروحانية والجسمانية،

ص: 18

لأن الملك والنبوة لا يقومان إلا بالعلم والتأويل المنتهي الذي يصير إليه المعنى، وذلك فقه الحديث الذي هو حكمة لأنه إظهار ما يؤول إليه أمره مما عليه معتمد فائدته، وأكثر استعماله في الرؤيا {ويتم نعمته} بالنبوة {عليك} بالعدل ولزوم المنهج السوي {وعلى آل يعقوب} أي جميع إخوتك ومن أراد الله من ذريتهم، فيجعل نعمتهم في الدنيا موصولة بنعمة الآخرة، لأنه عبر عنهم في هذه الرؤيا بالنجوم المهتدي بها، ولا يستعمل الآل إلا فيمن له خطر وشرف، وإضافته مقصورة على إعلام الناطقين، قال الراغب: وأما آل الصليب إن صح نقله فشاذ، ويستعمل فيمن لا خطر له الأهل {كما أتمها على أبويك} .

ولما كان وجودهما لم يستغرق الماضي، أدخل الجار فقال:{من قبل} أي من قبل هذا الزمان؛ ثم بين الأبوين بجده وجد أبيه فقال: {إبراهيم} أي بالخلة وغيرها من الكرامة {و} ولده {إسحاق} بالنبوة وجعل الأنبياء والملوك من ولده، وإتمام النعمة: الحكم بدوامها على خلوصها من شائب فيها بنقصها.

ولما كان ذلك لا يقدر عليه إلا بالعلم المحيط بجميع الأسباب ليقام منها ما يصلح، والحكمة التي بها يحكم ذلك السبب عن أن

ص: 19

يقاومه سبب غيره، وكان السياق بالعلم أولى لما ذكر من علم التأويل مع ما تقدم من قوله آخر تلك {ولله غيب السماوات والأرض} [هود: 123] الآية وما شاكل ذلك أول هذه، قال:{إن ربك عليم} أي بليغ العلم {حكيم *} أي بليغ الحكمة، وهي وضع الأشياء في أتقن مواضعها.

ولما كان ذلك، توقع السامع له ما يكون بينه وبين إخوته هل يكتمهم الرؤيا أو يعلمهم بها؟ وعلى كلا التقديرين ما يكون؟ فقال جواباً لمن كأنه قال: ما كان من أمرهم؟ - مفتتحاً له بحرف التوقع والتحقيق بعد لام القسم تأكيداً للأمر وإعلاماً بأنه على أتقن وجه -: {لقد كان} أي كوناً هو في أحكم مواضعه {في يوسف وإخوته} أي بسبب هذه الرؤيا وما كان من تأويلها وأسباب ذلك {آيات} أي علامات عظيمة دالات على وحدانية الله تعالى ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما تضمنته القصة {للسائلين *} أي الذين يسألون عنها من قريش واليهود وغيرهم، وآيات عظمة الله وقدرته في تصديق رؤيا يوسف عليه الصلاة والسلام ونجاته ممن كاده وعصمته

ص: 20

وإعلاء أمره، والمراد بإخوته هنا العشرة الذين هم من أبيه وهم: روبيل وشمعان - بمعجمة أوله، ولاوي، ويهوذا، وزيلون - بزاي وموحدة، وإيساخار، بهمزة مكسورة وتحتانية وسين مهملة وخاء معجمة، ودان - بمهملة، وجاد بجيم.

بينها وبين الكاف، وآشير - بهمزة ممدودة وشين معجمة ثم تحتانية ومهملة. ونفتالي - بنون مفتوحة وفاء ساكنة ومثناة فوقانية ولام بعدها ياء. وشقيقه بنيامين - بضم الموحدة، هكذا ذكرهم في التوراة، وحررت التلفظ بهم من العلماء بها، وقد تقدم ذلك في البقرة بزيادة. والآية: الدلالة على ما كان من الأمور العظيمة، ومثلها العلامة والعبرة، والحجة أخص منها، لأنها معتمد البينة التي توجب الثقة بصحة المعنى الذي فيه أعجوبة.

ولما تقرر ذلك، ابتدأ بذكر الآيات الواقعة في ظرف هذا الكون فقال:{إذ قالوا} أي كان ذلك حين قال الإخوة بعد أن قص الرؤيا عليهم وسوّل لهم الشيطان - كما ظن يعقوب عليه الصلاة والسلام مقسمين دلالة على غاية الاهتمام بهذا الكلام، وأنه مما حركهم غاية التحريك،

ص: 21

أو هي لام الابتداء المؤكدة المحققة لمضمون الجملة {ليوسف وأخوه} أي شقيقه بنيامين {أحب} وحددا لأن أفعل ما يستوي فيه الواحد وما فوقه مذكراً كان أو مؤنثاً إذا لم يعرف أو يضف {إلى أبينا منا} أي يحبهما أكثر مما يحبنا؛ والحب: ميل يدعو إلى إرادة الخير والنفع للمحبوب بخلاف الشهوة، فإنها ميل النفس ومنازعتها إلى ما فيه لذتها {و} الحال أنا {نحن عصبة} أي أشداء في أنفسنا ويشد بعضنا بعضاً، وأما هما فصغيران لا كفاية عندهما؛ والعصبة من العشرة إلى الأربعين، فكأنه قيل: فكان ماذا؟ - على تقدير أن يكونا أحب إليه، فقالوا مؤكدين لأن حال أبيهما في الاستقامة والهداية داع إلى تكذيبهم:{إن أبانا لفي ضلال} أي ذهاب عن طريق الصواب في ذلك {مبين *} حيث فضلهما علينا، والقرب المقتضي للحب في كلنا واحد، لأنا في البنوة سواء، ولنا مزية تقتضي تفضيلنا، وهي أنا عصبة، لنا من النفع له والذب عنه والكفاية ما ليس لهما؛ قال الإمام أبو حيان: وأحب أفعل التفضيل، وهو مبني من المفعول

ص: 22

شذوذاً، ولذلك عدي ب «إلى» لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلاً من حيث المعنى عدي إليه ب «إلى» وإذا كان مفعولاً عدي إلية ب «في» ، تقول زيد أحب إلى عمرو من خالد، فالضمير في «أحب» مفعول من حيث المعنى، وعمرو هو المحب، وإذا قلت: زيد أحب في عمرو من خالد، كان الضمير فاعلاً وعمرو هو المحبوب، ومن خالد - في المثال الأول محبوب، وفي المثال الثاني فاعل، قال: والضلال هنا هو الهدى - قاله ابن عباس رضي الله عنهما انتهى.

ص: 23

ولما كان ذلك، وكان عندهم أن الشاغل الأعظم لأبيهم عنهم إنما هو حب يوسف عليه الصلاة والسلام، وحب أخيه إنما هو تابع، كان كأنهم تراجعوا فيما بينهم فقالوا: قد تقرر هذا، فما أنتم صانعون؟ فقالوا أو ما شاء الله منهم:{اقتلوا يوسف} أصل القتل: إماتة الحركة بالسكون {أو اطرحوه أرضاً} أوصلوا الفعل بدون حرف ونكروها دلالة على أنها منكورة مجهولة بحيث يهلك فيها، وعنى قائلهم بذلك: إن تورعتم عن مباشرة قتله بأيديكم.

ولما كان التقدير: إن تفعلوا ذلك، أجابه بقوله:{يخل لكم} أي خاصاً بكم {وجه أبيكم} أي قصده لكم وتوجهه إليكم وقصدكم

ص: 23

ونيتكم. ولما كان أهل الدين لا يهملون إصلاح دينهم لأنه محط أمرهم، قالوا:{وتكونوا} أي كوناً هو في غاية التمكن، ولما كانوا عالمين بأن الموت لا بد منه. فهو مانع من استغراقهم للزمان الآتي، أدخلوا الجار فقالوا:{من بعده} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {قوماً} أي ذوي نشاط وقوة على محاولة الأمور {صالحين} أي عريقين في وصف الصلاح مستقيمين على طريقة تدعو إلى الحكمة بوقوع الألفة بينكم واستجلاب محبة الوالد بالمبالغة في بره وبالتوبة من ذنب واحد يكون سبباً لزوال الموجب لداء الحسد الملزوم لذنوب متصلة من البغضاء والمقاطعة والشحناء، فعزموا على التوبة قبل وقوع الذنب فكأنه قيل: إن هذا لمن أعجب العجب من مطلق الأقارب فضلاً عن الإخوة، فماذا قالوا عند سماعه؟ فقيل:{قال} ولما كان السياق لأن الأمر كله لله، فهو ينجي من يشاء بما يشاء، لم يتعلق القصد ببيان الذي كانت على يده النجاة، فقال مبهماً إشعاراً بأنه يجب قول النصح من أيّ قائل كان، وأن الإنسان لا يحقر نفسه في بذل النصح على أيّ حال كان:{قائل} ثم عينه بعض التعيين فقال: {منهم} أي إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام {لا تقتلوا يوسف} لا بأيديكم ولا بالإلقاء في المهالك، فإن القتل أكبر الكبائر بعد الشرك، وكأنه لم يكن في ناحيتهم تلك غير جب واحد فعرفه فقال:{وألقوه} وكأنه كان فيه ماء

ص: 24

ومكان يمكن الاستقرار فيه ولا ماء به، فأراده بقوله:{في غيابت الجب} أي غوره الغائب عن الأعين، فإن ذلك كافٍ في المقصود، وإنكم إن تفعلوا {يلتقطْهُ بعض السيارة} جمع سيار، وهو المبالغ في السير، هذا {إن كنتم} ولا بد {فاعلين *} ما أردتم من تغييبه عن أبيه ليخلو لكم وجهه؛ والجب: البئر التي لم تطو، لأنه قطع عنها ترابها حتى بلغ الماء، وعن أبي عمرو: إن هذا كان قبل أن يكونوا أنبياء، فكأنه قيل: إن هذا لحسن من حيث إنه صرفهم عن قتله، فهل استمروا عليه أو قام منهم قائم في استنزالهم عنه بعاطفة الرحم وود القرابة؟ فقيل: بل استمروا لأنهم {قالوا} إعمالاً للحيلة في الوصول إليه، مستفهمين على وجه التعجب لأنه كان أحس منهم الشر، فكان يحذرهم عليه {يا أبانا ما لك} أيّ أي شيء لك في حال كونك {لا تأمنا على يوسف و} الحال {إنا له لناصحون *} والنصح دليل الأمانة وسببها، ولهذا قرنا في قوله

{ناصح أمين} [الأعراف: 68] والأمن: سكون النفس إلى انتفاء الشر، وسببه طول الإمهال في الأمر الذي يجوز قطعة بالمكروة فيقع الاغترار بذلك الإمهال من الجهال، وضده الخوف، وهو

ص: 25

انزعاج النفس لما يتوقع من الضر؛ والنصح: إخلاص العمل من فساد يتعمد، وضده الغش، وأجمع القراء على حذف حركة الرفع في تأمن وإدغام نونه بعد إسكانه تبعاً للرسم، بعضهم إدغاماً محضاً وبعضهم مع الإشمام، وبعضهم مع الروم، دلالة على نفي سكون قلبه عليه عليهما الصلاة والسلام بأمنه عليه منهم على أبلغ وجه مع أنهم أهل لأن يسكن إليهم بذلك غاية السكون، ولو ظهرت ضمة الرفع عند أحد من القراء فات هذا الإيماء إلى هذه النكتة البديعة.

ص: 26

ولما كان هذا موضع أن يقال: لأيّ غرض يكون ذلك؟ قالوا في جوابه: {أرسله معنا غداً} إلى مرعانا، إن ترسله معنا {يرتع} أي نأكل ونشرب في الريف ونتسع في الخصب {ويلعب} أي نعمل ما تشتهي الأنفس من المباحات تاركين الجد، وهو كل ما فيه كلفة ومشقة، فإن ذلك له سار {وإنا له لحافظون *} أي بليغون في الحفظ؛ قال أبو حيان: وانتصب {غداً} على الظرف، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد، وأصل غد غدو، فحذفت لامه - أنتهى. فكأنه قيل: ماذا

ص: 26

قال لهم؟ فقيل: {قال} ما زاد صدورهم توغراً لأن ما قالوه له هو بحيث يسر به لسرور يوسف عليه الصلاة والسلام به {إني ليحزنني} أي حزناً ظاهراً محققاً - بما أشار إليه إظهار النون وإثباته لام الابتداء {أن تذهبوا به} أي يتجدد الذهاب به مطلقاً - لأني لا أطيق فراقه - ولا لحظة، وفتح لهم باباً يحتجون به عند فعل المراد بقوله جامعاً بين مشقتي الباطن، والبلاء - كما قالوا - مؤكل بالمنطق:{وأخاف} أي إذا ذهبتم به واشتغلتم بما ذكرتم {أن يأكله الذئب} أي هذا النوع كأنه كان كثيراً بأرضهم {وأنتم عنه} أي خاصة {غافلين *} أي عريقون في الغفلة لإقبالكم على ما يهمكم من مصالح الرعي؛ والحزن: ألم القلب مما كان من فراق المحبوب، ويعظم إذا مان فراقه إلى ما يبغض؛ والأكل: تقطيع الطعام بالمضغ الذي بعده البلع؛ فكأنه قيل: إن تلقيهم لمثل هذا لعجب، فماذا قالوا؟ فقيل:{قالوا} مجيبين عن الثاني بما يلين الأب لإرساله، مؤكدين ليطيب خاطره، دالين على القسم بلامه:{لئن أكله الذئب ونحن} أي والحال أنا {عصبة} أي أشداء تعصب بعضنا لبعض؛ وأجابوا القسم بما أغنى عن جواب الشرط: {إنا إذاً} أي إذا كان هذا {لخاسرون *} أي كاملون

ص: 27

في الخسارة لأنا إذا ضيعنا أخانا فنحن لما سواه من أموالنا أشد تضييعاً؛ وأعرضوا عن جواب الأول لأنه لا يكون إلا بما يوغر صدره ويعرف منه أنهم من تقديمه في الحب على غاية من الحسد لا توصف، وأقله أن يقولوا: ما وجه الشح بفراقه يوماً والسماح بفراقنا كل يوم، وذلك مما يحول بينهم وبين المراد، فكأنه قيل: إن هذا الكيد عظيم وخطب جسيم، فما فعل أبوهم؟ فقيل: أجابهم إلى سؤلهم فأرسله معهم {فلما ذهبوا} ملصقين ذهابهم {به وأجمعوا} أي كلهم، وأجمع كل واحد منهم بأن عزم عزماً صادقاً؛ والإجماع على الفعل: العزم عليه باجتماع الدواعي كلها {أن يجعلوه} والجعل: إيجاد ما به يصير الشيء على خلاف ما كان عليه، ونظيره التصيير والعمل {في غيابت الجب} فعلوا ذلك من غير مانع، ولكن لما كان هذا الجواب في غاية الوضوح لدلالة الحال عليه ترك لأنهم إذا أجمعوا عليه علم أنهم لا مانع لهم منه؛ ثم عطف على هذا الجواب المحذوف لكونه في قوة الملفوظ قوله:{وأوحينا} أي بما لنا من العظمة {إليه} أي إلى يوسف عليه الصلاة والسلام.

ولما كان في حال النجاة منها بعيدة جداً، أكد له قوله:

ص: 28

{لتنبئنهم} أي لتخبرنهم إخباراً عظيماً على وجه يقل وجود مثله في الجلالة {بأمرهم هذا} أي الذي فعلوه بك {وهم لا يشعرون} - لعلو شأنك وكبر سلطانك وبعد حالك عن أوهامهم، ولطول العهد المبدل للهيئات المغير للصور والأشكال - أنك يوسف - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن وابن جريج على ما نقله الرماني؛ والشعور: إدراك الشيء مثل الشعرة في الدقة، ومنه المشاعر في البدن، وكان يوسف عليه الصلاة والسلام حين ألقوه في الجب ابن اثنتي عشرة سنة - قاله الحسن، قالوا: وتصديق هذا أنهم لما دخلوا عليه ممتارين دعا بالصواع فرضعه على يديه ثم نقره فطن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، وكان أبوكم يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم: أكله الذئب.

ص: 29

ولما كان من المعلوم أنه ليس بعد هذا الفعل إلا الاعتذار، عطف

ص: 29

على الجواب المقدر قوله: {وجاؤوا أباهم} دون يوسف عليه الصلاة والسلام {عشاء} في ظلمة الليل لئلا يتفرس أبيهم في وجوههم إذا رآها في ضياء النهار ضد ما جاؤوا به من الاعتذار، وقد قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار. والآية دالة على أن البكاء لا يدل على الصدق لاحتمال التصنع {يبكون *} والبكاء: جريان الدمع في العين عند حال الحزن، فكأنه قيل: إنهم إذا بكوا حق لهم البكاء خوفاً من الله وشفقة على الأخ، ولكن ماذا يقولون إذا سألهم أبوهم عن سببه؟ فقيل:{قالوا ياأبانا} .

ولما كانوا عالمين بأنه عليه الصلاة والسلام لا يصدقهم لما له من نور القلب وصدق الفراسة ولما لهم من الريبة، أكدوا فقالوا:{إنا ذهبنا نستبق} أي نوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منا في ذلك {وتركنا يوسف} أخانا {عند متاعنا} أي ما كان معنا مما نحتاج إليه في ذلك الوقت من ثياب وزاد ونحوه {فأكله} أي فتسبب عن انفراده أن أكله {الذئب وما} أي والحال أنك ما {أنت بمؤمن لنا} أي من التكذيب، أي بمصدق {ولو كنا} أي كوناً هو جبلة لنا {صادقين *} أي من أهل الصدق والأمانة بعلمك،

ص: 30

لأنك لم تجرب علينا قط كذباً، ولا حفظت عنا شيئاً منه جداً ولا لعباً.

ولما علموا أنه لا يصدقهم من وجوه منها ما هو عليه من صحة الفراسة لنور القلب وقوة الحدس، ومنها أن الكذب في نفسه لا يخلو عن دليل على بطلانه، ومنها أن المرتاب يكاد يعرب عن نفسه، أعملوا الحيلة في التأكيد بما يقرب قولهم. فقال تعالى حاكياً عنهم:{وجاؤوا على قميصه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {بدم كذب} أي مكذوب، أطلق عليه المصدر مبالغة لأنه غير مطابق للواقع، لأنهم ادعوا أنه دم يوسف عليه الصلاة والسلام والواقع أنه دم سخلة ذبحوها ولطخوه بدمها - نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مجاهد. قال: والدم: جسم أحمر سيال، من شأنه أن يكون في عروق الحيوان، وله خواص تدرك بالعيان من ترجرج وتلزج وسهوكة، وروي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أخذ القميص منهم وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق قميصه، وكان

ص: 31

القميص ثلاث آيات: دلالته على كذبهم، ودلالته على صدق يوسف عليه الصلاة والسلام في قده من دبر، وعود البصر إلى أبيه به، فكأنه قيل: هل صدقهم؟ فقيل: لا! لأن العادة جرت في مثله أنه لا يأكله كله، فلا بد من أن يبقى منه شيء يعرف معه أنه هو، ولو كان كذلك لأتوا به تبرئة لساحتهم وليدفنوه في جبانتهم مع بقية أسلافهم، وقد كان قادراً على مطالبتهم بذلك، ولكنه علم أنهم ما قالوا ذلك إلا بعد عزم صادق على أمور لا تطاق، فخاف من أن يفتح البحث من الشرور أكثر مما جاؤوا به من المحذور، بدليل قوله بعد ذلك

{فتحسسوا من يوسف وأخيه} [يوسف: 87] ونحو ذلك، فكأنه قيل: فماذا قال؟ فقيل: {قال بل} أي لم يأكله الذئب، بل {سولت} أي زينت وسهلت، من السول وهو الاسترخاء {لكم أنفسكم أمراً} أي عظيماً أبعدتم به يوسف {فصبر} أي فتسبب عن ذلك الفادح العظيم أنه يكون صبر {جميل} منى، وهو الذي لا شكوى معه للخلق {والله} أي المحيط علماً وقدرة {المستعان} أي المطلوب منه العون {على} احتمال {ما تصفون *} من هلاك يوسف عليه الصلاة والسلام، ولا يقال: إنهم بهذا أجمعوا أوصاف المنافق «إذا وعد

ص: 32

أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان» لأن هذا وقع منهم مرة، والمنافق يكون ذلك فعله دائماً أو في أغلب أحواله، ومادتا سول بتقاليبها الخمسة: ولس وسلاً ووسل ولوس وسول، وسيل بتقاليبها الخمسة: لسي ويسل وسيل وسلي وليس، تدوران على ما يطمع فيه من المراد، ويلزمه رغد العيش والزينة وبرد القلب والشدة والرخاوة والعلاج والمخادعة والملازمة، فمن الرجاء للمراد: السول - بالواو، وقد يهمز، وهو المطلوب؛ والوسيلة: الدرجة والمنزلة عند الملك، قال القزاز: وقيل: توسلت وتوصلت - بمعنى، والوسيلة: الحاجة، ووسل فلان - إذا طلب الوسيلة؛ واللؤس: الظفر؛ ومن العمل والعلاج: توسل بكذا - أي تقرب، واللوس: الأكل، ولاس الشيء في فيه بلسانه - إذا أداره، وولست الناقة في مشيتها تلس ولساناً: تضرب من العنق؛ ومن رغد العيش: فلان في سلوة من العيش، أي رغد يسليه الهم، ومنه السلوى، وهي طائر معروف، وهي أيضاً العسل، وأسلي القوم: إذا أمنوا السبع:

ص: 33

ومن الزينة: سولت له نفسه كذا، أي زينته فطلبه؛ ومن برد القلب: سلوت عن الشيء: إذا تركه قلبك وكان قد صبا به، وسقيتني منك سلوة، أي طيبت نفسي عنك، والليس - محركاً: الغفلة، والأليس: الديوث لا يغار، والحسن الخلق، وتلايس عنه: أغمض؛ ومن الرخاوة: السلي الذي يكون فيه الولد، وهو يائي تقول منه: سليت الشاة كرضى سلي: انقطع سلاها، ومنه السول، وهو استرخاء في مفاصل الشاة، والسحاب الأسول: الذي فيه استرخاء لكثرة مائه، والأسول: المسترخي، ومنه: ليس أخت كان - لأن الشيء إذا زاد في الرخاوة ربما عد عدماً، ومنه: سال - بمعنى: جرى، والسائلة من الغرر: المعتدلة في قصبة الأنف، وأسال غرار النصل: أطاله، والسيلان - بالكسر: سنخ قائم السيف، والسيالة: نبات له شوك أبيض طويل، إذا نزع خرج منه اللبن، أو ما طال من السمر؛ ومن المخادعة: الولس، وهي الخيانة، والموالسة: المداهنة، والتوسل: السرقة؛ ومن اللزوم: الليس - محركاً والمتلايس: البطيء، وهو أيضاً من الرخاوة، والأليس: من لا يبرح منزله؛ ومن الشدة:

ص: 34

الليس - محركاً وهو الشجاعة، وهو أليس، والأليس: البعير يحمل ما حمل، والأسد، ووقعوا في سلي جمل: أمر صعب، لأن الجمل لا سلي له، وانقطع السلي في البطن مثل كبلغ السكين العظم، ويمكن أن يكون من الشدة أيضاً: اليسل - بفتح وسكون - وهم يد أي جماعة من قريش الظواهر، والبسل - بالباء الموحدة: اليد الأخرى، ولسا: أكل أكلاً شديداً.

ص: 35

ولما تم أمرهم هذا وشبوا على أبيهم عليه السلام نار الحزن، التفتت النفس إلى الخبر عن يوسف عليه الصلاة والسلام فيما أشار إليه قوله:{لتنبئنهم} [يوسف: 15] الآية، فقال تعالى مخبراً عن ذلك في أسبابه:{وجاءت سيارة} أي قوم بليغو السير إلى الأرض التي ألقوا يوسف عليه الصلاة والسلام في جبها {فأرسلوا واردهم} أي رسولهم الذي يرسلونه لأجل الإشراف على الماء إلى الجب ليستقي لهم {فأدلى} فيه {دلوه} أي أرسلها في البئر ليملأها - وأما «دلى» فأخرجها ملأى - فاستمسك بها يوسف عليه الصلاة والسلام فأخرجه، فكأنه

ص: 35

قيل: ماذا قال حين أدلى للماء فتعلق يوسف بالحبل فأطلعه فإذا هو بإنسان أجمل ما يكون؟ فقيل: {قال} أي الوارد يعلم أصحابه بالبشرى {يابشرى} أي هذا أوانك فاحضري، فكأنه قيل: لم تدعوا البشرى؟ فقال: {هذا غلام} فأتى به إلى جماعته فسروا به كما سر {وأسروه} أي الوارد وأصحابه {بضاعة} أي حال كونه متاعاً بزعمهم يتجرون فيه {والله} أي المحيط علماً وقدرة {عليم} أي بالغ العلم {بما يعملون *} وإن أسروه؛ قال أبو حيان ونعم ما قال: وتعلقه بالحبل يدل على صغره إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالباً، ولفظة «غلام» ترجع ذلك إذ تطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة، وقد تطلق على الرجل الكامل - انتهى.

ولما كان سرورهم به - مع ما هو عليه من الجمال والهيبة والجلال - مقتضياً لأن ينافسوا في أمره ويغالوا بثمنه، أخبر تعالى أنهم لم يفعلوا ذلك ليعلم أن جميع أموره على نسق واحد في خرقها

ص: 36

للعوائد فقال: {وشروه} أي تمادي السيارة ولجوا في إسرارهم أياه بضاعة حتى باعوه من العزيز، ولمعنى التمادي عبر ب «شرى» دون «باع» ، ويمكن أن يكون «شرى» بمعنى اشترى، أي واشتراه السيارة من إخوته {بثمن} وهو البدل من الذهب أو الفضة، وقد يقال على غيره تشبيهاً به {بخس} أي قليل، ومادة «شرى» - يائية بتقاليبها الثلاثة: شرى، وشير، وريش، وواويه بتراكيبها الستة: شور، وشرو، ووشر، وورش، ورشو، وروش، ومهموزة بتراكيبها الثلاثة: أرش، وأشر، ورشأ - تدور على اللجاجة، وهي التمادي في الانتشار، ويلزمه تبيين ذلك الأمر، ويلزمها القوة تارة والضعف أخرى، فمن مطلقة: شريت الشيء، بمعنى ملكته بالبيع، وشريته، بمعنى: أزلت ملكي عنه به، وكذا اشتريت فيهما، والاسم الشراء بالمد ويقصر، فحصل التمادي والانتشار تارة بالإزالة وتارة بالتحصيل، وكل من ترك شيئاً وتمسك بغيره فقد اشتراه، وشاراه مشاراه: بايعه، وشروى الشيء: مثله واوه مبدلة من ياء كأنه مأخوذ من بدل المبيع لأنه يتحرى فيه المماثلة، وهو أوسع مما لم يوجد له مثل، وشرى

ص: 37

البرق: استطار، وزيد: غضب ولج حتى استطار غضباً، والفرس في سيره: بالغ، واستشرى الرجل: لج، والبرق: لمع، والمشاراة: الملاّحة والمجادلة والمبايعة، والشرية - كغنية: الطريقة والطبيعة، وكأن هذا أصل المعنى الذي عنه تفرعت أغصانه، لأن الطبع مظنة الدجاج، وشرى الثوب واللحم والإقط: شررها، أي وضعها على خصفة أو غيرها منشورة لتجف، وشرى فلاناً: سخر به أو أرغمه، كأنه تمادى معه حتى قهره، وشرى بنفسه عن القوم: تقدم بين أيديدهم فقاتل عنهم، أو إلى السلطان فتكلم عنهم، والشرى - كعلي: الجبل - لانتشاره علواً، والطريق - للانتشار فيه، وطريق بسلمى كثيرة الأسد، وجبل بتهامه كثير السباع - لانتشارها فيه أو لأن الساتر فيه أقوى الناس وألجهم، وجبل بنجد لطيىء، والناحية، ويمد، وأشراه: ملاه، وأماله - لما يلزم من انتشار ما فيه، وأشرى الجمل: تفلقت عقيقته، أي صوفه، وبينهم: أغرى، وشرى البعير في سيره؛ أسرع،

ص: 38

وشرى الفرس في لجامه - إذا جذبه، والشرية كغنية: من النساء اللاتي يلدن الإناث، كأنها تمادت في الميل مع طبعها: الأنوثة، فلجت فيه، أو هو راجع إلى الضعف اللازم للحاجة، والمشتري: نجم لتلألؤه، وطائر - للمعه بجناحه وانتشاره، واشرورى: اضطرب، وشرى زمام الناقة: كثر اضطرابه، هو من الانتشار ومن الضعف، واستشرت الأمور: تفاقمت وعظمت، وشرى جلده: أصابه بثور صغار حمر حكاكة مكربة تحدث دفعة غالباً وتشتد ليلاً، كأنها سميت لانتشارها في جميع البدن وقوتها، وتشرى القوم: افترقوا، وتشرى السحاب: تفرق، والشرى: شجر الحنظل أو الحنظل نفسه، والنخل ينبت من النواة، كأنه لنباته بغير سبب آدمي لجوج، والشريان من شجر القسي، كأنه لقوته ونشره السهام إذا رميت عنه، وواحد الشرايين للعروف النابضة، لقوتها وانتشارها؛ وشيار - بالكسر: يوم السبت، لأنه أول يوم ابتدئت فيه

ص: 39

الخلائق، فكأنها انتشرت عنه؛ والريش بالكسر - من الطائر معروف كالراش - لأنه منتشر في جميع بدنه، وله قوة نشره متى شاء، وهو سبب صلاحه وقوته على الانتشار في الهواء، ومنه الريش والرياش: اللباس الفاخر، والخصب والمعاش، وذات الريش: نبات كالقيصوم، وراش الصديق: أطعمة وسقاه وكساه وأصلح حاله، وكلاً ريش - كهين وهيّن: كثير الورق، والريش - محركاً: كثرة الشعر في الأذنين والوجه، والمريش - كمعظم: البعير الأزب، ورشت السهم: فوقته، أي ألزقت عليه الريش عند فوقه، فكان له بذلك قوة الانتشار، ورمح راش: خوار شبه بالريش صعفاً، والمريش: الرجل الضعيف الصلب، وهو أيضاً: البرد الموشى، لتلونه كالريش، وهو أيضاً: القليل اللحم، وناقة مريشة: قليلة اللحم، لأن ذلك أقوى لها على

ص: 40

السير، والمريش أيضاً: الهودج المصلح بالقد، لأن ذلك سبب قوته، وهو له كالريش والعصب، والشوار والشورة والشارة: الحسن والجمال والهيئة واللباس والسمن والزينة، واستشار فلان: لبس لباساً حسناً، كأنه من الريش، ولأنها ملزومة اللجاج والانتشار غالباً، واستشارات الإبل وأخذت مشوارها: سمنت، والمشوار - بالكسر: المكان تعرض فيه الدواب، وشارها: راضها، أي انتشر بها لتقوى على ما يراد منها، وشار العسل واستشاره: استخرجه من الوقبة - للمبالغة في ذلك، والشرو - مقدّم الراء بالفتح ويكسر: العسل، والمشوار: ما شاره به، وما أبقت الدابة من علفها - معرب، كأنه شبه بما يبقى من مشار العسل مما لا يعتد به، أو أصله: نشوار - بالنون، فأبدلت منها الميم لتقاربهما، فإن كان كذلك فهو نشر، والشوار - مثلثة: متاع البيت، لانتشاره فيه، وذكر الرجل وخصياه واسته، لما ينتشر من كل منها، وشور بفلان: فعل به فعلاً يستحي منه، كأنه لج في ذلك حتى قطع انتشاره في الاعتذار، وتشور الرجل: خجل،

ص: 41

كأنه مطاوع شوّرته، وشور إليه: أومأ كأشار - لنشر ما أشار به، وأشار النار: رفعها، والشوران: العصفر - للمعه، وجبل قرب عقيق المدينة، فيه مياه سماء كثيرة، لقوته على إمساكها وقوة من يقيم فيه بها على الانتشار فيه، وخيل شياء: سمان حسان، والشورة - بالضم الناقة السمينة، لقوتها على الانتشار، وبالفتح: الخجلة، لانتشارها وعلوها، وأشرت عليه بكذا: أمرته للانتشار في الكلام قبل الإشارة للوقوع على الرأي، والاسم: المشورة، أو هو من الإشارة التي هي تحريك اليد أو الحاجب ونحوهما نحو المشار إليه، والرشوة - مثلثة: الجعل، ورشاه: أعطاه إياها، فنشره للفعل، ولا يفعل ذلك إلا من لج في الأمر، ويمكن رده إلى الضعف، والرائش: السفير بين الراشي والمرتشي، واسترشى: طلب الرشوة، والفصيل: طلب الرضاع، وأرشية اليقطين والحنظل: خيوطهما،

ص: 42

لانتشارها، وشبهها بالرشاء - بالكسر والمد، وهو الحبل، والرشى كغنى، الفصيل والبعير يقف فيصيح الراعي: ارشه ارشه، أو أرشه أرشه، فيحك خورانه، أي مبعره بيده فيعدو، وقال ابن فارس: والخوران: مجرى الروث في الدابة، وأرشى: فعل ذلك، والقوم في دمه: شركوا، لأن ذلك انتشار، وبسلاحهم فيه: أشرعوه، والرشاة: نبت يشرب للمشي؛ ومن مهموزه: رشأ: جامع، ولا ألج من المتهيىء للجماع، وفيه الانتشار أيضاً، ورشأت الظبية: ولدت، والرشأ - بالتحريك اسم للظبي إذا قوي ومشى مع أمه، فيكون حينئذ أهلاً للانتشار واللجاج في الجري، والرشأ أيضاً: شجرة تسمو فوق القامة، وعشبة كالقرنوة، بالقاف، كأنها شديدة الحرافة فشبهت باللجوج، لأن القرنوة يدبغ بها - انتهى المهموز.

ووشر الخشبة بالميشار - غير مهموز، لغة في: أشرها - إذا نشرها، أي فرقها باثنين أو أكثر، والوشر أيضاً: تحديد المرأة أسنانها وترقيقها،

ص: 43

وهو من القوة واللمعان والتفريق، والمؤتشرة التي تسأل أن يفعل بها ذلك، وموشر العضدين - ويهمز: الجعل، لأن أعضاده كالمنشرة حزوزاً؛ ومن مهموزه: أشر - بالكسر، أي مرح، أي ازدرى الخلق وعاملهم معاملة المستهين بهم، فظلمهم ولج في عتوه، وناقة مئشير: نشيطة، وأشر الاسنان: تحزيزها - تشبيهاً لها بأسنان المئشار الذي يقطع به الخشب ونحوه قطعاً سريعاً، فهو كفعل اللجوج - انتهى المهموز؛ وورش الطعام: تناوله وأكل شديداً حريصاً، وطمع وأسف لمداق الأمور، لأن ذلك لا يكون إلا عن تمادٍ ولجاج، وورش فلان بفلان: أغراه، وورش عليهم: دخل وهم يأكلون ولم يدع، وورش اسم شيء يصنع من اللبن، لأنه انتشر عن أصل خلقته، والورش - بالتحريك: وجع في الجوف، وككتف: النشيط الخفيف من الإبل وغيرها، وهي بهاء، والتوريش: التحريش، والورشان: طائر.

ومن

ص: 44

مهموزه الأرش، وهي الدية، لأنها يلج في طلبها والرضى بها وأكثر ما يتعاطى من أمرها، وهو أيضاً الرشوة، وما نقص العيب من الشيء - قال في القاموس، لأنه سبب للارش والخصومة، وبينهما أرش، أي اختلاف وخصومة، والأرش: الإغراء والإعطاء، لأن المعطي يغلب نفسه، فكأنه خاصمها فلج حتى غلبها، والأرش: الخلق، لأنه منشأ اللجاج، يقال: ما أدري أي الأرش هو؟ أي الخلق، والمأروش: المخلوق، وآرش - كصاحب: جبل - انقضى المهموز. والروش: الأكل الكثير، والأكل القليل - ضد، وفهو من التمادي والضعف الذي ربما نشأ من التمادي مع شبهه بالريش، وجمل راش: كثير شعر الأذن؛ ومن التبيين: شار الدابة - إذا ركبها عند العرض على مشتريها، وشورها: نظر كيف مشوارها، أي سيرها، أو بلاها ينظر ما عندها

ص: 45

أو قلبها وكذا الأمة، واستشار الفحل الناقة: كرفها فنظر إليها ألاقح هي أم لا؟ واستشار أمر فلان: تبين، والمستشير: من يعرف الحائل من غيرها، وهو يرجع إلى التمادي، لأنه لولاه ما عرف الأمر؛ ومن الضعف: راشاه: حاباه وصانعه، وترشاه: لاينه، وإنك لمسترش لفلان: مطيع له تابع لمسرته، وهو من الرشوة، وجمل راش: ضعيف الصلب، وكذا رمح راش، وهي بهاء، وراشه المرض: ضعفه، كأنه من الريش، وكل ذلك يرجع بعد التأمل إلى التمادي - والله أعلم.

ومادة «بخس» بكل ترتيب من بخس وخبس وسبخ وسخب تدور على القلة، ويلزمها الأخذ بالكف: بخسته حقه: نقصته فجعلته أقل مما كان، والبخس: فقء العين، فهو نقص خاص، والبخس: أرض تنبت بلا سقي، كأنه لقلة ما نبت بها بالنسبة إلى أرض السقي، والبخس: المكس، وسبخت عن فلان: خففت عنه، والسبخة: أرض ملحة، لقلة نبتها ونفعها، وسبخت القطن - إذا قطعته،

ص: 46

فصارت جملته قليلة؛ والتسبيخ: ما يسقط من ريش الطائر - لنقصه منه، والتسبيخ: النوم الشديد - لنقصه صاحبه وتخفيفه ما عنده من الثقل؛ ومن ذلك الخبس، وهو الأخذ بالكف - وهو لازم للقلة، ومنه قيل للأسد: الخابس، لأخذه ما يريده بكفه؛ والسخاب: قلادة من قرنفل ليس فيها جوهر ولا لؤلؤ.

ولما كان البخس القليل الناقص، أبدل منه - تأكيداً للمعنى تسفيهاً لرأيهم وتعجيباً من حالهم - قوله:{دراهم} أي لا دنانير {معدودة} أي أهل لأن تعد، لأنه لا كثره لها يعسر معها ذلك، روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عشرين درهماً {وكانوا} أي كوناً هو كالجبلة {فيه} أي خاصة دون بقية متاعهم، انتهازاً للفرصة فيه قبل أن يعرف عليهم فينزع من أيديهم {من الزاهدين *} أي كمال الزهد حتى رغبوا عنه فباعوه بما طف، والزهد: انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه عند الزاهد، وهذا يعين أن الضمير للسيارة لأن حال إخوته في أمره فوق الزهد بمراحل، فلو كان لهم لقيل: وكانوا له من المبعدين أو المبغضين، ونحو ذلك.

ص: 47

ولما كانت العادة جارية بأن القن يمتهن، أخبر تعالى أنه أكرمه عن هذه العادة فقال منبهاً على أن شراءه كان بمصر:{وقال الذي اشتراه} أي أخذه برغبة عظيمة، ولو توقفوا عليه غالى في ثمنه {من مصر} أي البلدة المعروفة، والتعبير بهذا دون ما هو أخصر منه للتنبيه على أن بيعه ظلم، وأنه لم يدخل في ملك أحد أصلاً {لامرأته} آمراً لها بإكرامه على أبلغ وجه {أكرمي مثواه} أي موضع مقامه، وذلك أعظم من الأمر بإكرامه نفسه، فالمعنى: أكرميه إكراماً عظيماً بحيث يكون ممن يكرم كل ما لابسه لأجله، ليرغب في المقام عندنا. ولما كانت كأنها قالت: ما سبب إيصائك لي بهذا دون غيره؟ استأنف قوله: {عسى أن} أي إن حاله خليق وجدير بأن {ينفعنا} أي وهو على اسم المشتري {أو نتخذه} أي برغبة عظيمة إن رأيناه أهلاً {ولداً} فأنا طامع في ذلك.

ولما أخبر تعالى بمبدأ أمره، وكان من المعلوم أن هذا إنما هو لما مكن له في القلوب مما أوجب توقيره وإجلاله وتعظيمه، أخبر تعالى بمنتهى أمره، مشبهاً له بهذا المضمون المعلم به فقال:{وكذلك} أي مثل ما مكنا ليوسف بتزهيد السيارة: أهل البدو تارة، وإكرام مشتريه ومنافسته فيه أخرى {مكنا ليوسف في الأرض}

ص: 48

أي أرض مصر التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل {و} بالنبوة {لنعلمه} بما لنا من العظمة {من تأويل الأحاديث} أي بترجيعها من ظواهرها إلى بواطنها، فأشار تعالى إلى المشبه به مع عدم التصريح به لما دل عليه من السياق، وأثبت التمكين في الأرض ليدل على لازمه من الملك والتمكين من العدل، وذكر التعليم ليدل على ملزومه وهو النبوة، فدل أولاً بالملزوم على اللازم، وثانياً باللازم على الملزوم، وهو كقوله تعالى:{فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة} [آل عمران: 13] فهو احتباك أو قريب منه.

ولما كان من أعجب العجب أن من وقع له التمكين من أن يفعل به مثل هذه الأفعال يتمكن من أرض هو فيها مع كونه غريباً مستبعداً فرداً لا عشيرة له فيها ولا أعوان، قال تعالى نافياً لهذا العجب:{والله} أي الملك الأعظم {غالب على أمره} أي الأمر الذي يريده، غلبة ظاهر أمرها لكل من له بصيرة: أمر يعقوب يوسف عليهما

ص: 49

الصلاة والسلام أن لا يقص رؤياه حذراً عليه من إخوته، فغلب أمره سبحانه حتى وقع ما حذره، فأراد إخوته قتله فغلب أمره عليهم، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه فغلب أمره سبحانه وظهر اسمه واشتهر، ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب أمره تعالى حتى صار ملكاً وسجدوا بين يديه، ثم أرادوا أن يغروا أباهم ويطيّبوا قلبه حتى يخلو لهم وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم، واحتالت عليه امراة العزيز لتخدعه عن نفسه فغلب أمره سبحانه فعصمه حتى لم يهم بسوء، بل هرب منه غاية الهرب، ثم بذلت جهدها في إذلاله وإلقاء التهمة عليه فأبى الله إلا إعزازه وبراءته، ثم أراد يوسف عليه الصلاة والسلام ذكر الساقي له فغلب أمره سبحانه فأنساه ذكره حتى مضى الأجل الذي ضربه سبحانه، وكم من أمر كان في هذه القصة وفي غيرها يرشد إلى أن لا أمر لغيره سبحانه! {ولكن أكثر الناس} أي الذين هم أهل الاضطراب {لا يعلمون} لعدم التأمل أنه تعالى عالٍ على كل أمر، وأن الحكم له وحده، لاشتغالهم بالنظر في الظواهر للأسباب التي يقيمها، فهو سبحانه محتجب عنهم بحجاب الأسباب.

ذكر ما مضى من قصة يوسف عليه الصلاة والسلام من التوراة:

ص: 50

قال في أواخر السفر الثاني منها: كان يوسف بن يعقوب ابن سبع عشرة سنه، وكان يرعى الغنم مع إخوته، وكان إسرائيل يحب يوسف أكثر من حبه إخوته، لأنه ولد على كبر سنه، فاتخذ له قميصاً ذا كمين، فرأى إخوته أن والدهم أشد حباً له منهم، فأبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بالسلام، فرأى رؤيا قصها على إخوته فقال لهم: اسمعوا هذه الرؤيا التي رأيت، رأيت كأنا نحزم حزماً من الزرع في الزراعة، فإذا حزمتي قد انتصبت وقامت، وإذا حزمكم قد أحاطت بها تسجد لها، قال له إخوته: أترى تملكنا وتتسلط علينا؟ وازدادوا له بغضاً لرؤياه وكلامه، فرأى رؤيا أخرى فقال: إني رأيت رؤيا أخرى، رأيت كأن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون لي، فقصها على أبيه وإخوته، فزجره أبوه وقال له: ما هذه الرؤيا؟ هل آتيك أنا وأمك وإخوتك فنسجد لك على الأرض؟

ص: 51

فحسده إخوته، وكان أبوه يحفظ هذه الأقاويل.

وانطلق إخوة يوسف يرعون غنمهم في نابلس فقال إسرائيل ليوسف: هو ذا إخوتك يرعون في نابلس، هلم أرسلك إليهم! فقال: هأنذا! فقال أبوه: انطلق فانظر كيف إخوتك وكيف الغنم؟ وائتني بالخبر، فأرسله يعقوب عليه الصلاة والسلام من قاع حبرون، فأتى إلى نابلس، فوجده رجل وهو يطوف في الحقل فسأله الرجل وقال: ما الذي تطلب في الحقل؟ فقال أطلب إخوتي، دلني عليهم أين يرعون؟ قال له الرجل: قد ارتحلوا من هاهنا، وسمعتهم يقولون: ننطلق إلى دوثان، فتبع يوسف إخوته فوجدهم بدوثان، فرأوه من بعيد، ومن قبل أن يقترب إليهم هموا بقتله، فقال بعضهم لبعض: هو ذا حالم الأحلام قد جاء، تعالوا نقتله ونطرحه في بعض الجباب، ونقول: قد افترسه سبع خبيث، فننظر ما يكون من أحلامه! فسمع روبيل فأنقذه من أيديهم وقال لهم: لا تقتلوا نفساً، ولا تسفكوا دماً، بل ألقوه في هذا الجب الذي في البرية، ولا تمدوا أيديكم إليه، وأراد أن ينجيه من أيديهم ويرده إلى أبيه.

فلما أتى يوسف إخوته خلعوا عنه القميص ذا الكمين الذي

ص: 52

لابِسَه، وأخذوه فطرحوه في الجب فارغاً لا ماء فيه، فجلسوا يأكلون خبزاً فمدوا أبصارهم فرأوا فإذا رفقة من العرب مقبلة من جلعاد - وفي نسخة: من الجرش - وكانت إبلهم موقرة سمناً ولبناً وبطماً، وكانوا معتمدين إلى مصر فقال يهوذا لإخوته: ما متعتنا بقتل أخينا وسفك دمه؟ تعالوا نبيعه من العرب، ولا نبسط أيدينا إليه لأنه أخونا: لحمنا ودمنا، فأطاعه إخوته، فمر بهم قوم تجار مدينيون، فأصعدوا يوسف من الجب وباعوه من الأعراب بعشرين درهماً، فأتوا به إلى مصر.

فرجع روبيل إلى الجب فإذا ليس فيه يوسف، فشق ثيابه ورجع إلى إخوته وقال لهم: أين الغلام؟ إلى أين أذهب أنا الآن؟ فأخذوا قميص يوسف عليه الصلاة والسلام فذبحوا عتوداً من المعز ولوّثوا القميص بدمه وأرسلوا به مع من أتى به أباهم وقالوا: وجدنا هذا، أثبته هل هو قميص ابنك أم لا؟ فعرفه وقال: القميص قميص ابني، سبع خبيث افترس ابني يوسف افتراساً، فحزن على ابنه أياماً كثيرة، فقام جميع بنيه وبناته ليعزوه فأبى أن يقبل العزاء وقال: أنزل إلى القبر وأنا حزين

ص: 53

على يوسف، فبكى عليه أبوه. وباع المدينيون يوسف من قوطيفر الأمير صاحب شرطة فرعون - انتهى، وفيه ما يخالف ظاهرة القرآن ويمكن تأويله - والله أعلم.

ص: 54

ولما أخبر تعالى يوسف عما يريد بيوسف عليه الصلاة والسلام بما ختمه بالإخبارعن قدرته، أتبعه الإعلام بإيجاد ذلك الفعل دلالة على تمام القدرة وشمول العلم فقال:{ولما بلغ أشده} أي مجتمع قواه {آتيناه} أي بعظمتنا {حكماً} أي نبوة أو ملكة يكف بها النفس عن هواها، من حكمة الفرس، فلا يقول ولا يفعل إلا أمراً فصلاً تدعو إليه الحكمة؛ قال الرماني: والأصل في الحكم تبيين ما يشهد به الدليل، لأن الدليل حكمة من أجل أنه يقود إلى المعرفة {وعلماً} أي تبييناً للشيء على ما هو عليه جزاء له لأنه محسن {وكذلك} أي ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به {نجزي المحسنين *} أي العريقين في الإحسان كلهم الذين رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أسرى به فأعلاه ما لم يعل غيره؛ وعن الحسن: من أحسن عبادة الله في

ص: 54

شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله، والأشد: كمال القوة، وهو جمع شدة عند سيبوبه مثل نعمة وأنعم، وقال غيره: جمع شد؛ قال ابن فارس في المجمل: وبعضهم يقول: لا واحد لها، ويقال: واحدها شد - انتهى. قيل: وهذا هو القياس نحو ضب وأضب، وصك وأصك، وحظ وأحظ، وضر وأضر، وشر وأشر قال الرماني: قال الشاعر:

هل غير أن كثر الأشرّ وأهلكت

حرب الملوك أكاثر الأموال

انتهى.

واختلفوا في حد الأشد فقيل: هو من الحلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه من عشرين سنة، وروى غير ذلك، والمادة تدور على الصعوبة، وهي ضد الرخاوة، ويلزمها القوة، فالشد على العدو منها، وشد الحبل وغيره: أحكم فتله، والشديد والمتشدد: البخيل - لصعوبة البذل عليه، والشدة: صعوبة الزمان، وشد النهار: ارتفاعه، وهو قوته، وشددت فلاناً: قويت يده ودبرت أمره، وأشد القوم - إذا كانت دوابهم شداداً فهم مشدون ضد مضعفين.

ص: 55

ولما أخبر تعالى أن سبب النعمة عليه إحسانه، أتبعه دليله فقال:{وراودته} أي راجعته الخطاب ودارت عليه بالحيل، فهو كناية عن المخادعة التي هي لازم معنى راد يرود - إذا جاء وذهب {التي} هي متمكنة منه غاية المكنة بكونه {هو في بيتها} وهو في عنفوان الشباب {عن نفسه} أي مراودة لم تكن لها سبب إلا نفسه، لأن المراودة لا يمكن أن تتجاورز نفسه إلاّ بعد مخالطتها - كما تقول: كان هذا عن أمره، وذلك بأن دارت عليه بكل حيلة ونصبت له أشراك الخداع وأقامت حيناً تفتل له في الذروة والغارب، وذلك لأن مادة «راد» واوية ويائية بجميع تقاليبها السبعة: رود، ودور، وورد، «ودير» وردي، وريد، ودري - تدور على الدوران، وهو الرجوع إلى موضع الابتداء، ويلزم منه القصد والإتيان والإقبال والإدبار والرفق والمهلة وإعمال الحيلة وحسن النظر، وربما يكون عن غير قصد فتأتي منه الحيرة فيلزم الفساد والهلاك، يقال: دار فلان يدور - إذا مشى على هيئة الخلقة، والدهر دواري - لدورانه باهله بالرفع والحط، والدوار: شبه دوران في الرأس، ودارة القمر معروفة، والدائرة: الحلقة والدار

ص: 56

تجمع العرصة والبناء - لدوران بنائها وللدوران فيها وللذهاب منها والرجوع إليها، والداري: الملاح الذي يلي الشراع، وهو القلع - لأنه يديره على عمود المركب، أو لأنه يلزم دار السفينة؛ والرائد: الذي يرتاد الكلأ، أي يذهب ويجيء في طلبه - لمّا لم يكن له مقصد من الأرض معين كأنه يدور فيها، والذي لا يكذب أهله، وكل طالب حاجة - قاله ابن دريد.

وراودت الرجل: أردته على فعل؛ ورائد الرحى: يدها، أي العود الذي تدار به ويقبض عليه الطاحن، والرياد: اختلاف الإبل في المرعى مقبلة ومدبرة، ورادت المرأة - إذا اختلفت إلى بيوت جاراتها، وراد وساده - إذا لم يستقر، والرود: الطلب والذهاب والمجيء، وامش على رود - بالضم، أي مهل، وتصغيره رويد، والمرود: الذي يكتحل به، لأنه يدار في العين، وحديدة تدور في اللجام، ومحور البكرة من حديد، والدير: معروف، ويقال لرجل إذا كان رأس أصحابه: هو رأس الدير - كأنه من إرادة أصحابه به، وترديت الرداء وارتديت - كأنه من الإدارة، والرداء: السيف - لأنه

ص: 57

يتقلد به في موضع الردى، والرديان - محركاً: مشى الحمار بين آريه ومتمعكه، وراديت فلاناً، مثل: راودته، وردت الجارية - إذا رفعت إحدى رجليها وقفزت بواحدة، لأت مشيها حينئذٍ يشبه الدوران، والريد - بالكسر: الترب، لأنه يراودك، أي يمشي معك من أول زمانك؛ ومن الإتيان: الورود، وهو إتيان المورد من ماء وطريق، والوارد: الصائر إلى الماء للاستقاء منه، وهو الذي ينزل إلى الماء ليتناول منه، والورد معروف، ونور كل شجرة ورد، لأنه يقصد للشم وغيره، ويخرج هو منها فهو وارد أي آتٍ، وهو أيضاً مع ذلك مستدير، والورد - بالكسر: يوم الحمى إذا أخذت صاحبَها لوقت لأنها تأتيه، وهو من الدوران أيضاً لأنها تدور في ذلك الوقت بعينه، وهذا كله يصلح للإقبال، ومنه: أرنبة واردة، أي مقبلة على السبلة، والريد: أنف الجبل - قاله ابن فارس، وقال ابن دريد: والريد: الحيد الناتىء من الجبل، والجمع ريود؛ وفي القاموس: الحيد من الجبل شاخص

ص: 58

كأنه جناح، ويسمى الشجاع الوارد، لإقباله على كل ما يريده واستعلائه عليه، والوريدان: عرقان مكتنفا صفحتي العنق مما يلي مقدمة غليظان، والورد: النصيب من القرآن، لأنه يقصد بالقراءة ويقبل عليه ويدار عليه، ودريت الشيء: علمته، فأنت مقبل عليه وارد إليه، والدرئة - مهموزة: حلقة يتعلم عليها الطعن والرمي، والدرية - مهموزة وغير مهموزة: دابة يستتر بها رامي الصيد فيختله، فهي من الإقبال والخداع، وإن بنى فلان أدورا مكاناً، أي اعتمدوا بالغزو والغارة، والدريّ: شبيه بمدرى الثور وهو قرنه، لأنه يقصد به الشيء ويقبل به على مراده فيصلحه به، وما أدري أين ردي؟ أي أين ذهب؟ والإرواد: المهلة في الشيء؛ وامش رويداً: على مهل، والرادة والريدة: السهلة من الرياح، فكأنها تأتي على مهل؛ ومن الحيرة والفساد والهلاك: ردي الرجل - إذا هللك، وأرداه الله،

ص: 59

وتردى في هوة: تهور فيها، ورديته بالحجارة: رميته، والرداة: الصخرة، يكسر بها الشيء، والمرادي: المرامي؛ ومن حسن النظر: أرديت على الخمسين: زدت، لأنه يلزم حسن النظر الزيادة، وأراد الشيء على غيره، أي ربا عليه، وسيأتي بيان المهموز من هذه المادة في

{سنراود} [يوسف: 61] من هذه السورة إن شاء الله تعالى {وغلقت} أي تغليقاً كثيراً {الأبواب} زيادة في المكنة، قالوا: وكانت سبعة؛ والإغلاق: إطباق الباب بما يعسر معه فتحه {وقالت هيت} أي تهيأت وتصنعت {لك} خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري؛ والمادة - على تقدير إصالة التاء وزيادتها بجميع تقاليبها: يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة - تدور على إرادة امتثال الأمر: هيت لك - مثلثة الآخر وقد يكسر أوله، أي هلم، وهيت تهييتاً: صاح ودعاه، وهات - بكسر التاء أعطني - قال في القاموس، والمهاياة مفاعلة منه، والهيت: الغامض من الأرض، كأنه يدعو ذا الهمة إلى الوقوف على حقيقته، والتيه - بالكسر: الكبرياء والصلف، فالتائه داع بالقوة إلى امتثال أمره، والمفازة، فإنها تقهر سالكها، والضلال من المفازة - تسمية للشي باسم موضعه، ومنه: تها - بمعنى غفل، ومنه: مضى تهواء

ص: 60

من الليل - بالكسر، أي طائفة، لأنها محل الغفلة، أو لأنها تدعو ساهرها إلى النوم ونائمها إلى الانتباه، هذا على تقدير إصالة التاء، وأما على تقدير أنها زائدة فهاءَ بنفسه إلى المعالي: رفعها، فهو يراه أهلاً لأن يمتثل أمرها، والهوء: الهمة والأمر الماضي، والهوء أيضاً: الظن، ويضم، وهؤت به: فرحت، ولا يكون ذلك إلاّ لفعل ما يشتهي، فكأنه امتثل أمرك، وهوىء إليه - كفرح: همّ، وهاء كجاء: لبى، أي امتثل الأمر، وهاء - بالكسر: هات، وهاء - كجاء، أي هاك، بمعنى خذ، والهيئة: حال الشيء وكيفيته الداعية إلى تركه أو لزومه، وتهايؤوا: توافقوا، وهاء إليه: اشتاق، فكأنه دعاه إلى رؤيته، وتهيأ للشيء: أخذ له هيئته، فكأنه صار قابلاً للأمر، أو لأن يمتثل أمره، وهيأه: أصلحه، والهيء - بالفتح والكسر: الدعاء إلى الطعام والشراب ودعاء الإبل للشرب، وإيه - بكسر الهمزة: كلمة استزاده واستنطاق، وبإسكان الهاء: زجر بمعنى حسبك، وهأهأ: قهقه في ضحكه، ولا يكون ذلك إلا بمن امتثل مراده.

ولما قالت ما قالت وفعلت ما فعلت، مع ما هي عليه

ص: 61

من القدرة في نفسها ولها عليه من التسلط وهو عليه من الحسن والشباب، كان كأنه قيل: إن هذا لموطن لا يكاد ينجو منه أحد، فماذا كان منه؟ فقيل:{قال} أي يوسف مستعملاً للحكم بالعلم {معاذ} أي أعوذ من هذا الأمر معاذ {الله} أي ألزم حصن الذي له صفات الكمال وهو محيط بكل شيء علماً وقدرة، وملجأة الذي ينبغي الاعتصام به واللجاء إليه؛ ثم علل ذلك بقوله:{إنه} أي الله {ربي} أي موجدي ومدبري والمحسن إليّ في كل أمر، فأنا أرجو إحسانه في هذا {أحسن مثواي} بأن جعل لي في قلب سيدك مكانة عظيمة حتى خولني في جميع ما يملك وائتمنني على كل ما لديه، فإن خالفت أمر ربي فخنت مَن جعلني موضعاً للأمانة كنت ظالماً واضعاً للشيء في غير موضعه، وهذا التقدير - مع كونه أليق بالصالحين المراقبين - أحسن، لأنه يستلزم نصح العزيز، ولو أعدنا الضمير على العزيز لم يستلزم التقوى.

ولما كان من المعلوم أن لسان حالها يقول: وإذا كان ظلماً كان ماذا؟ قال ما تقديره: إني إذن لا أفلح، وعلله بقوله:{أنه لا يفلح} أي لا يظفر بمراده أصلاً {الظالمون *} أي العريقون

ص: 62

في الظلم - وهو وضع الشيء في غير موضعه - الذين صرت في عدادهم على تقدير الفعل، فيا له من دليل على إحسانه وحكمه وعلمه، فإنه لما رأى المقام الدحض بادر إلى الاعتصام بمن بيده ملكوت كل شيء، ثم استحضر إحسانه إليه الموجب للشكر عليه المباعد عن الهفوات ثم مقام الظلم وما يوجب لصاحبه من الحزن بعدم الفلاح.

ولما كان هذا الفعل لا يتم حسنه إلاّ إذا كان عند غلبة الهوى وترامي الشهوة كما هو شأن الرجولية، قال تعالى رداً على من يتوهم ضد ذلك:{ولقد همت به} أي أوقعت الهم، وهو القصد الثابت والعزم الصادق المتعلق بمواقعته، ولا مانع لها من دين ولا عقل ولا عجز فاشتد طلبها {وهمَّ بها} كما هو شأن الفحول عند توفر الأسباب {لولا أن رءآ} أي بعين قلبه {برهان ربه} الذي آتاه إياه من الحكم والعلم، أي لهمّ بها، لكنه لما كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين، لم يغطه وفور شهوة ولا غلبة هوى، فلم يهم أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله من القوة مع كونه في سن الشباب، فلولا المراقبة لهمّ بها التوفر الدواعي غير أن نور الشهود محاها أصلاً، وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه مع أنه هو الذي تدل

ص: 63

عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء، وأن السجن أحب إليه من ذلك، مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} [يوسف: 25]- الآية، من مطلق الإرادة، ومع ما تحتم تقدير ما ذكر بعد «لولا» في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب، فإنه يجب أن يكون المقدر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله، وهذا مثل قوله تعالى

{إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} [القصص: 10] أي لأبدت به، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أن الأقوال التي رويت عنهم إذا جمعت تناقضت فتكاذبت، ولا يساعد على شيء منها كلام العرب لأنهم قدروا جواب «لولا» المحذوف بما لا دليل عليه من سابق الكلام ولا لاحقه - نبه على ذلك الإمام أبو حيان، وسبقه إلى ذلك الإمام الرازي وقال: إن هذا قول المحققين من المفسرين، وأشبع في إقامة الدلائل على هذا بما يطرب الأسماع، وقدم ما يدل على جواب الشرط ليكون أول ما يقرع السمع ما يدل على أنه كان في غاية القدرة على الفعل، وأنه ما منعه منه إلاّ العلم بالله، فكأنه قيل: إن هذا التثبيت عظيم، فقيل إشارة إلى

ص: 64

أنه لازم له كما هو شأن العصمة: {كذلك} أي مثل ذلك التثبيت نثبته في كل أمر {لنصرف عنه السوء} أي الهمّ بالزنا وغيره {والفحشاء} أي الزنا وغيره، فكأنه قيل: لِمَ فعل به هذا؟ فقيل {إنه من عبادنا} أي الذين عظمناهم بما لنا من العظمة {المخلصين *} أي هو في عداد الذين هم خير صرف، لا يخالطهم غش، ومن ذريتهم أيضاً، وهذا مع قول إبليس {لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين} [ص: 83] شهادة من إبليس أن يوسف عليه الصلاة والسلام بريء من الهمّ في هذه الواقعة؛ قال الإمام: فمن نسبه إلى الهمّ إن كان من أتباع دين الله فليقبل شهادة الله، وإن كان من أتباع إبليس وجنوده فليقبل شهادة إبليس بطهارته، قال: ولعلهم يقولون: كنا تلامذة إبليس ثم زدنا عليه - كما قيل:

وكنت فتى من جند إبليس فارتقى

من الأمر حتى صار إبليس من جندي

فلو مات قبلي كنت أحسن بعده

طراييق فسق ليس يحسنها بعدي

ص: 65

ثم ذكر سبحانه وتعالى مبالغته في الامتناع بالجد في الهرب دليلاً على إخلاصه وأنه لم يهمّ أصلاً فقال: {واستبقا الباب} أي أوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منهما، هذا للهرب منها، وهذه لمنعه، فأوصل الفعل إلى المفعول بدون «إلى» ، دليلاً على أن كلا منهما بذل أقصى جهده في السبق، فلحقته عند الباب الأقصى مع أنه كان قد سبقها بقوة الرجولية وقوة الداعية إلى الفرار إلى الله، ولكن عاقة إتقانها للمكر بكون الأبواب كانت مغلقة، فكان يشتغل بفتحها فتعلقت بأدنى ما وصلت إليه من قميصه، وهو ما كان من ورائه خوف فواته، فاشتد تعلقها به مع إعراضه هو عنها وهربه منها، ففتحه وأراد الخروج فمنعته {و} لم تزل تنازعه حتى {قدت قميصه} وكان القد {من دبر} أي الناحية الخلف منه، وانقطعت منه قطعة فبقيت في يدها {وألفيا} أي وجدا مع ما بهما من الغبار والهيئة التي لا تليق بهما {سيدها} أي زوجها، ولم يقل: سيدهما، لأن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يدخل في رق - كما مضى - لأن المسلم لا يملك وهو السيد {لدا} أي عند ذلك {الباب} أي الخارج، على كيفية غريبة جداً، هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام لأن السيد لا يقدر على

ص: 66

فتحه فضلاً عن الوصول إلى غيره لتغليق الجميع.

ولما علم السامع أنهما ألفياه وهما على هذه الحالة كان كأنه قيل: فما اتفق؟ فقيل: {قالت} مبادرة من غير حياء ولا تلعثم {ما} نافية، ويجوز أن تكون استفهامية {جزاء من أراد} أي منه ومن غيره كائناً من كان، لما لك من العظمة {بأهلك سوءاً} أي ولو أنه غير الزنا {إلا أن يسجن} أي يودع في السجن إلى وقت ما، ليحكم فيه بما يليق {أو عذاب أليم} أي دائم ثابت غير السجن؛ والجزاء: مقابلة العمل بما هو حقه، هذا كان حالها عند المفاجأة، وأما هو عليه الصلاة والسلام فجرى على سجايا الكرام بأن سكت ستراً عليها وتنزهاً عن ذكر الفحشاء، فكأنه قيل: فماذا قال حين قذفته بهذا؟ فقيل {قال} دافعاً عن نفسه لا هاتكاً لها {هي} بضمير الغيبة لاستيحائه عن مواجهتها بإشارة أو ضمير خطاب {راودتني عن نفسي} وما قال ذلك إلا حين اضطرته إليه بنسبته إلى الخيانة، وصدقه لعمري فيما قال لا يحتاج إلى بيان أكثر من الحال الذي كانا فيه، وهو

ص: 67

أنهما عند الباب، ولو كان الطلب منه لما كانا إلا في محلها الذي تجلس فيه، وهو صدر البيت وأشرف موضع فيه {وشهد} ولما كان كل صالح للشهادة كافياً، فلم تدع ضرورة إلى تعيينه، قال:{شاهد} أي عظيم {من أهلها} لأن الأهل أعظم في الشهادة، رضيع ببراءته - نقله الرماني عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما وسعيد ابن جبير، كما شهد للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع صبي من أهل اليمامة يوم ولد بأنه رسول الله، فكان يدعي: مبارك اليمامة.

فقال ذلك الشاهد {إن كان} أي حال المراوغة {قميصه} أي فيما يتبين لكم {قدَّ} أي شق شقاً مستأصلاً {من قبل} أي من جهة ما أقبل من جسده {فصدقت} ولا بد من تقدير فعل التبين، لأن الشروط لا تكون معانيها إلا مستقبلة ولو كانت ألفاظها ماضية.

ولما كان صدقها ليس قاطعاً في منع صدقه، قال:{وهو من الكاذبين *} لأنه لولا إقباله - وهي تدفعه عنها أو تهرب منه

ص: 68

وهو يتبعها ويعثر في قميصه - ما كان القد من القبل {وإن كان} أي فيما يظهر لكم {قميصه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {قدَّ من دبر} أي من جهة ما أدبر منه، وبنى «قُدَّ» للمجهول للنزاع في القادّ {فكذبت} ولما كان كذلك كذبُها في إرادته السوء لا يعين صدقه في إرادتها له، قال:{وهو من الصادقين *} لأنه لولا إدباره عنها وإقبالها عليه لما وقع ذلك، فعرف سيدها صحة ذلك بلا شبهة، لأن معنى «إن» هنا الشرط في جهة التقرير للمعنى الذي يوجب غيره لا على الشك، وقدم أمارة صدقها لأنه مما يحبه سيدها، فهو في الظاهر اهتمام بها، وفي الحقيقة تقرير لكذبها مرتين: الأولى باللزوم، والثانية بالمطابقة.

ولما كان المعنى: فنظر، بنى عليه قوله:{فلما رءا} أي سيدها {قميصه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {قدَّ من دبر قال} لها وقد قطع بصدقه وكذبها، مؤكداً لأجل إنكارها {إنه} أي هذا القذف له {من كيدكن} معشر النساء؛ والكيد: طلب الإنسان بما يكرهه {إن كيدكن عظيم *} والعظيم: ما ينقص مقدار غيره عنه حساً أو معنى، فاستعظمه لأنه أدق من مكر الرجل وألطف وأخفى، لأن الشيطان

ص: 69

عليهن لنقصهن أقدر، وكيدهن الذي هو من كيد الشيطان أضعفُ ضعيف بالنسبة إلى ما يدبره الله عز وجل في إبطاله؛ ثم قال العزيز آمراً له عليه السلام مسقطاً لحرف النداء دلالة على أن قربه من قلبه على حاله:{يوسف أعرض} أي انصرف بكليتك مجاوزاً {عن هذا} أي اجعله بمنزلة ما تصرف وجهك عنه إلى جهة العرض بأن لا تذكره لأحد ولا تهتم به، فإني لم أتأثر منك بوجه، لأن عذرك قد بان، وأقبل إليها فقال:{واستغفري} أي اطلبي الغفران {لذنبك} في أن لا يحصل لك عقوبة مني ولا من الله؛ واستأنف بيان ما أشار إليه بقوله: {إنك كنت} أي كوناً جبلياً {من الخاطئين} أي العريقين في الخطأ بغاية القوة، يقال: خطىء يخطأ - إذا أذنب متعمداً.

ص: 70

ولما كان في هذا من شرف العفة ما يدل على كمال العصمة، وأكده تعالى بما يدل على تسامي حسنه وتعالي جماله ولطفه، لأن العادة جرت بأن ذلك كان بعضه لأحد كان مظنة لميله، لتوفير الدواعي على الميل إليه، فقال تعالى:{وقال نسوة} أي جماعة من النساء لما شاع الحديت؛ ولما كانت البلدة كلما عظمت كان أهلها أعقل وأقرب إلى الحكمة، قال:{في المدينة} أي التي فيها امرأة العزيز ساكنة {امرأت العزيز} فأضفنها إلى زوجها إرادة الإشاعة للخبر، لأن النفس

ص: 70

إلى سماع أخبار أولى الأخطار أميل؛ والعزيز: المنيع بقدرته من أن يضام، فالعزة أخص من مطلق القدرة، وعبرن بالمضارع في {تراود فتاها} أي عبدها نازلة من افتراش العزيز إلى افتراشه {عن نفسه} إفهاماً لأن الإصرار على المراودة صار لها كالسجية؛ والفتى: الشاب، وقيده الرماني بالقوي، قال: وقال الزجاج: وكانوا يسمون المملوك فتى شيخاً كان أو شاباً، ففيه اشتراك على هذا {قد شغفها} ذلك الفتى {حباً} أي من جهة الحب، قال الرماني: شغاف القلب غلافه، وهو جلدة عليه، يقال: دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب، عن السدى وأبي عبيدة وعن الحسن أنه باطن القلب، وعن أبي علي: وسط القلب -انتهى. والذي قال في المجمل وغيره أنه غلاف القلب، وأحسن من توجيه أبي عبيدة له أن حبه صار شغافاً لها، أي حجاباً، أي ظرفاً محيطاً بها، وأما «شعفها» - بالمهملة فمعناه: غشى شعفة قلبها، وهي رأسه عند معلق النياط، وقال الرماني: أي ذهب بها كل مذهب، من شعف الجبال، وهي رؤوسها.

ولما قيل ذلك، كان كأنه قد قيل: فكان ماذا؟ فقيل -

ص: 71

وأكد لأن من رآه عذرها وقطع بأنهن لو كن في محلها عملن عملها ولم يضللن فعلها: {إنا لنراها} أي نعلم أمرها علماً هو كالرؤية {في ضلال} أي محيط بها {مبين} لرضاها لنفسها بعد عز السيادة بالسفول عن رتبة العبد، ودل بالفاء على أن كلامهن نقل إليها بسرعة فقال:{فلما سمعت} أي امرأة العزيز {بمكرهن} وكأنهن أردن بهذا الكلام أن يتأثر عنه ما فعلت امرأة العزيز ليرينه، فلذلك سماه مكراً {أرسلت إليهن} لتريهن ما يعذرنها بسببه فتسكن قالتُهن {وأعتدت} أي هيأت وأحضرت {لهن متكاً} أي ما يتكئن عليه من الفرش اللينة والوسائد الفاخرة، فأتينها فأجلستهن على ما أعدته لهن {وأتت كل واحدة} على العموم {منهن سكيناً} ليقطعن بها ما يحتاج إلى القطع مما يحضر من الأطعمة في هذا المجلس؛ قال أبو حيان: فقيل: كان لحماً، وكانوا لا ينهشون اللحم، إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين. وقال الرماني: ليقطعن فاكهة قدمت إليهن - انتهى. هذا الظاهر من علة إتيانهن وباطنه إقامة الحجة عليهن بما لا يجدن له مدفعاً مما يتأثر عن ذلك {وقالت} ليوسف فتاها عليه الصلاة والسلام

ص: 72

{اخرج عليهن} فامتثل له ما أمرته به كما هو دأبه معها في كل ما لا معصية فيه، وبادر الخروج عليهن {فلما رأينه} أي النسوة {أكبرنه} أي أعظمن يوسف عليه الصلاة والسلام جداً إعظاماً كربّهن {وقطعن} أي جرحن جراحات كثيرة {أيديهن} وعاد لومهن عذراً، والتضعيف يدل على التكثير، فكأن السكين كانت تقع على يد إحداهن فتجرحها فترفعها عن يدها بطبعها، ثم يغلبها الدهش فتقع على موضع آخر وهكذا {وقلن حاش} أي تنزيهاً عظيماً جداً {لله} أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال التي خلق بها مثل هذا.

ولما كان المراد بهذا التنزيه تعظيمه، بينه بقولهن:{ما هذا بشراً} لأنه فاق البشر في الحسن جداً، وأعرض عن الشهوة من غير علة، نراها مانعة له لأنه في غاية القوة والفحولية، فكأنه قيل: فما هو؟ فقلن: {إن} أي ما {هذا} أي في هذا الحسن والجمال، وأعدن الإشارة دفعاً لإمكان الغلط {إلا ملك كريم *} وذلك لما ركز في الطباع من نسبة كل معنى فائق إلى الملائكة من الحسن والعفة وغيرهما

ص: 73

وإن كانوا غير مرئيين، كما ركز فيها نسبة ضد ذلك إلى الجن والشياطين، فكأنه قيل: فما قالت لهن امرأة العزيز؟ فقيل: {قالت فذالكن} أي الفتى العالي الرتبة جداً {الذي لمتنني فيه} .

ولما علمت أنهن عذرنها، قالت مؤكدة استلذاذاً بالتهتك في حبه:{ولقد} أي أقول هذا والحال أني والله لقد تحقق أني {راودته عن نفسه} أي لأصل إليه بما أريد {فاستعصم} أي فأوجد العصمة والامتناع عليّ فاشتد اعتصامه، وما أنا براجعة عنه؛ ثم توعدته وهو يسمع لِيَلين، فقالت لهن مؤكدة لأن حال حبها يوجب الإنكار لأن تفعل ما يؤذي المحبوب:{ولئن لم يفعل} أي هذا الفتى الذي قام عذرى عندكن فيه {ما أمره} أي أمري {ليسجنن} أي ليمنعن من التصرف بالحبس بأيسر سعي مني. ولما كان عزمها على السجن أقوى من العزم على إيقاع الصغار به، أكدته بالنون الثقيلة وقالت:{وليكونا} بالنون الخفيفة {من الصاغرين *} أي الأذلاء، أو أن الزيادة في تأكيد السجن لأنه يلزم منه إبعاده، وإبعاد الحبيب

ص: 74

أولى بالإنكار من إهانته، فقال له النسوة: أطعها لئلا تسجنك وتهينك، فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل: {قال} يهتف بمن فنى بشهوده عن كل مشهود، دافعاً عن نفسه ما ورد عليه من وسوسة الشيطان في أمر جمالها وأمر رئاستها ومالها، ومن مكر النسوة اللاتي نوّعن له القول في الترغيب والترهيب عالماً بأن القوة البشرية تضعف عن حمل مثل هذا إلا بتأييد عظيم، مسقطاً للأداة على عادة أهل القرب:{رب السجن} وهو محيط مانع من الاضطراب فيما خرج عنه {أحب إليّ} أي أقل بغضاً {مما يدعونني} أي هؤلاء النسوة كلهن {إليه} لما علم من سوء عاقبة المعصية بعد سرعة انقضاء اللذة، وهذه العبارة تدل على غاية البغض لموافقتها، فإن السجن لا يتصور حبه عادة، وإنما المعنى أنه لو كان يتصور الميل إليه كان ميلي إليه أكثر، لكنه لا يتصور الميل إليه لأنه شر محض، ومع ذلك فأنا أوثره على ما دعونني إليه، لأنه أخف الضررين، والحاصل أنه أطلق المحبة على ما يضادها في هذا السياق من البغض بدلالة الالتزام، فكأنه قيل: السجن أقل بغضاً إلى ما تدعونني إليه، وذلك هو ضد «أحب» الذي معناه أكثر

ص: 75

حباً، ولكن حولت العبارة ليكون كدعوى الشيء مقروناً بالدليل، وذلك أنه لما فوضل في المحبة بين شيئين أحدهما مقطوع ببغضه، فُهم قطعاً أن المراد إنما هو أن بغض هذا البغيض دون بغض المفضول، فعلم قطعاً أن ذلك يظن حبه أبغض من هذا المقطوع ببغضه، وكذا كل ما فوضل بينهما في وصف يمنع من حمله على الحقيقة كون المفضل متحققاً بضده - والله الموفق؛ والدعاء: طلب الفعل من المدعو، وصيغته كصيغة الأمر إلا أن الدعاء لمن فوقك، والأمر لمن دونك {وإلا تصرف} أي أنت يا رب الآن وفيما يستقبل من الزمان، مجاوزاً {عني كيدهن} أي ما قد التبس من مكرهن وتدبيرهن الذي يردن به الخبث احتيالاً على الوصول إلى قصدهن خديعة وغروراً {أصب} أي أمل ميلاً عظيماً {إليهن} لما جبل الآدمي عليه من الميل النفساني إلى مثل ذلك، ومتى انخرق سياج صيانته بواحدة تبعها أمثالها، واتسع الخرق على الراقع، ولذلك قال:{وأكن} أي كونا هو كالجبلة {من الجاهلين} أي الغريقين في الجهل بارتكاب مثل أفعالهم {فاستجاب له ربه} أي أوجد المحسن إليه إيجاداً عظيماً

ص: 76

إجابة دعائه الذي تضمنه هذا الثناء، لأن الكريم يغنيه التلويح عن التصريح - كما قيل:

إذا أثنى عليك المرء يوماً

كفاه من تعرّضه الثناءُ

وفعل ذلك سبحانه وتعالى إكراماً له وتحقيقاً لما سبق من وعده في قوله: {كذلك لنصرف عنه السوء} [يوسف: 24] الآية {فصرف عنه كيدهن} ثم علل ذلك بقوله: {إنه هو السميع} أي للأقوال {العليم *} بالضمائر والنيات، فيجيب ما صح فيه القصد وطاب منه العزم.

ص: 77

ولما كانت هذه الأمور موجبة لرفعته، فكان حينئذٍ أبعد شيء عن السجن لو كان الناس متمكنين من جري أمورهم على حسب السديد من عقولهم، أخبر تعالى أنهم خالفوا داعي السداد واستبدلوا الغيّ بالرشاد، لحكمه بأن السجن سبب عظيم لصرف كيدهن عنه وإثبات العز والمكنة له، ففعلوا - مع علمهم بأن ذلك ظلم وسفه - إجابة لغالب أمر الله وإظهاراً لعليّ قدره بمخالفة العوائد مرة بعد مرة، وهدم سداد الأسباب كرة أثر كرة؛ فقال:{ثم} لهذا المعنى، وهو أنهم كان ينبغي أن يكونوا من سجنه في

ص: 77

غاية البعد {بدا} أي ظهر بعد الخفاء كما هي عادتهم {لهم} والبداء في الرأي: التلون فيه لظهور ما لم يكن ظهر منه.

ولما كان ذلك الظهور في حين من الدهر تلونوا بعده إلى رأي آخر، أدخل الجار دلالة على ذلك فقال:{من بعد ما رأوا} أي رؤيتهم {الأيات} القاطعة ببراءته القاضية بنزاهته من قد القميص وشهادة الشاهد وغير ذلك.

ولما كان فاعل «بداء» رأى، فسره بقوله مؤكداً، لأنه لا يصدق أن الإنسان يفعل ما ظهر له المانع منه:{ليسجننه} فيمكث في السجن {حتى حين} أي إلى أن تنسى تلك الإشاعة، ويظهر الناس أنها لو كانت تحبه ما سعت في سجنه، وقيل: إن ذلك الحين سبع سنين، قيل: كان سبب ذلك أنها قالت للعزيز: إن هذا قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر كما يحب، وأنا محبوسة، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر كما يعتذر، وإما أن تسويه بي في السجن؛ قال أبو حيان: قال ابن عباس رضي الله عنهما:

ص: 78

فأمر به فحمل على حمار وضرب أمامه بالطبل، ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني أراد سيدته، فهذا جزاءه أن يسجن! قال أبو صالح: ما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث إلاّ بكى - انتهى. وهذا دليل على قوله {إن كيدكن عظيم} [يوسف: 28] .

قال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب اللوامع: وعلى الجملة فكل أحوال يوسف عليه الصلاة والسلام لطف في عنف، ونعمة في طي بلية ونقمة، ويسر في عسر، ورجاء في يأس، وخلاص بعد لات مناص، وسائق القدر ربما يسوق القدر إلى المقدور بعنف، وربما يسوقه بلطف، والقهر والعنف أحمد عاقبة وأقل تبعة - انتهى.

ولما ذكر السجن، وكان سبباً ظاهراً في الإهانة، شرع سبحانه يقص من أمره فيه ما حاصله أنه جعله سبب الكرامة، كل ذلك بياناً للغلبة على الأمر والاتصاف بصقات القهر، مع ما في ذلك من بيان تحقق ما تقدم به الوعد الوفي ليوسف عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من الحكم، فقال تعالى:{ودخل} أي فسجنوه كما بدا لهم

ص: 79

ودخل {معه السجن فتيان} : خباز الملك وساقيه، ورفع إليه أن الخباز أراد أن يسمه، وظن أن الساقي مالأه على ذلك، و «مع» تدل على الصحبة واستحداثها، فهي تدل على دخول الثلاثة السجن في آن واحد - قاله أبو حيان، فلما دخلوا السجن كان يوسف عليه الصلاة والسلام يحسن إلى أهله فيسلي حزينهم، ويعود مريضهم، ويسأل لفقيرهم، ويهديهم إلى الخير، ويذكرهم بالله، فمالت إليه القلوب وكلفت به النفوس لحسن حديثه ولطيف تأتيه وما جباه الله به من الفضل والنبل وحسن الخَلق والخُلق، وكان في السجن ناس قد انقطع رجاءهم واشتد بلاءهم، فلم يزل يرفق بهم حتى قالوا: بارك الله فيك! ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وأحسن حديثك! لقد بورك لنا في جوارك، ما نحب أنا كنا في غير هذا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والثواب والطهارة، من أنت يا فتى؟ فأخبرهم بنسبه الشريف، فقال عامل السجن: لو استطعت لخليت سبيلك! ولكن سأحسن جوارك وإيثارك، وأحبه الفتيان ولزماه فقال: أنشد كما الله أن تحباني، فوالله ما أحبني أحد قط إلاّ دخل على من جهته بلاء! لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من جهتها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من جهته بلاء،

ص: 80

ثم أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل عليّ من جهتها بلاء، فلا تحباني، فأبيا إلاّ حبه، فكأنه قيل: أيّ شيء اتفقى لهما بعد الدخول معه؟ فقيل: {قال أحدهمآ} ليوسف عليه الصلاة والسلام، ولعل التأكيد إما لأنه كانت عادتهما المزح، وإما لأنهما ما رأيا شيئاً - كما قال الشعبي - وإنما صنفا هذا ليختبراه به {إني أراني} حكى الحال الماضية في المنام {أعصر} والعصر: الاعتماد على ما فيه مائية ليحتلب منه {خمراً} أي عنباً يؤل إلى الخمر {وقال الآخر} مؤكداً لمثل ما مضى {إني أراني أحمل} والحمل: رفع الشيء بعماد نقله {فوق رأسي خبزاً} أي طعاماً مهيأ للأكل بالخبز، وهو عمل الدقيق المعجون بالبسط واللزق في حامٍ بالنار حتى يصلح للأكل {تأكل الطير منه} وسيأتي شرح الرؤيا من التوراة، فكأنه قيل: فماذا تريدان من الإخبار بهذا؟ فقالا: {نبئنا} أي أخبرنا إخباراً عظيماً {بتأويله} أي ما يرجع أمره ويصير إليه، فكأنه قيل: وما يدريكما أني أعرف تأويله؟ فقالا: {إنا نراك} على حالٍ علمنا بها علماً هو كالرؤية أنك {من المحسنين *} أي العريقين في وصف الإحسان لكل أمر تعانيه، فلذلك لاح لنا أنك تحسن التأويل قياساً، فلما رآهما بصيرين بالأمور {قال} إشارة إلى أنه يعرف

ص: 81

ذلك وأدق منه، ليقبلا نصحه فيما هو أهم المهم لكل أحد، - وهو ما خلق العباد له من الاجتماع على الله - لتفريغهما للفهم لكلامه والقبول لكل ما يلقيه لاحتياجهما إلى إفتائهما، مؤكداً ما وصفاه به من الإحسان بما اتبعه من وصف نفسه بالعلم، انتهازاً لفرصة النصيحة عند هذا الإذعان بأعظم ما يكون النصح به من الأمر بالإخلاص في عبادة الخالق والإعراض عن الشرك، فعلى كل ذي علم إذا احتاج إلى سؤاله أحد أن يقدم على جوابه نصحه بما هو الأهم له، ويصف له نفسه بما يرغبه في قبول علمه إن كان الحال محتاجاً إلى ذلك، ولا يكون ذلك من باب التزكية بل من الإرشاد إلى الإئتمام به بما يقرب إلى الله فيكون له مثل أجره:{لا يأتيكما} أي في اليقظة {طعام} وبين أنه خاص بهما دون أهل السجن بقوله: {ترزقانه} بناه للمفعول تعميماً {إلاّ نبأتكما} أي أخبرتكما إخباراً جليلاً عظيماً {بتأويله} أي به وبما يؤل ويرجع إليه أمره.

ولما كان البيان في جميع الوقت الذي بينه وبين الطعام الذي قبله، نزع الخافض فقال:{قبل أن يأتيكما} أي أخبرتكما بأنه يأتيكما طعام كذا، فيكون سبباً لكذا، فإن المسبب الناشىء عن

ص: 82

السبب هو المال.

ولما وصف نفسه من العلم بما يدعو كل ذي همة إلى السعي في الأسباب التي حصل له ذلك بها ليصير مثله أو يقرب منه، وكان محل أن يقال: من علمك ذلك؟ قال مرشداً إلى الله داعياً إليه أحسن دعاء بما تميل إليه النفوس من الطمع في الفضل: {ذلكما} أي الأمر العظيم؛ ونبه على غزارة علمه بالتبعيض في قوله: {مما علمني ربي} أي الموجد لي والمربي لي والمحسن إليّ، ولم أقله عن تكهن ولا تنجم، فكأنه قيل: ما لغيرك لا يعلّمه مثل ما علمك؟ فقال معللاً له مطمعاً كل من فعل فعله في فضل الله، مؤكداً إعلاماً بأن ذلك أمر عظيم يحق لمثله أن يفعل:{إني تركت ملة قوم} أي وإن كانوا أقوياء على محاولة ما يريدون، فلذلك قدروا على أذاي وسجني بعد رؤية الآيات الشاهدة لي، ونبه على أن ذلك لا يقدم عليه إلاّ من لا يحسب العاقبة بوجه، فقال:{لا يؤمنون} أي يجددون الإيمان لما لهم من العراقة في الكفر {بالله} أي الملك الأعظم الذي لا يخفى أمره على ذي لب من أهل مصر وغيرهم؛ ثم لوح إلى التحذير من يوم الجزاء الذي

ص: 83

لا يغنى فيه أحد عن أحد، منبهاً على أن الكفر به هو القاطع عن العلم وعن كل خير، فقال مؤكداً تأكيداً عظيماً، إشارة إلى أن أمرهم ينبغي أن ينكره كل من يسمعه، ولا يصدقه، لما على الآخرة من الدلائل الواضحة جداً الموجبة لئلا يكذب به أحد:{وهم بالآخرة} أي الدار التي لا بد من الجمع إليها، لأنها محط الحكمة {هم} أي بضمائرهم كما هم بظواهرهم، وفي تكرير الضمير تنبيه على أن هؤلاء اختصوا بهذا الجهل، وأن غيرهم وقفوا على الهدى {كافرون} أي عريقون في التغطية لها، فلذلك أظلمت قلوبهم فكانوا صوراً لا معاني لها؛ والملة: مذهب جماعة يحمي بعضها لبعض في الديانة، وأصله من المليلة، وهي حمى تلحق الإنسان - قاله الرماني.

وفي القاموس إن المليلة: الحر الكامن في العظم. وعبر ب {تركت} موضع «تجنبت» مثلاً مع كونه لم يلابس تلك الملة قط، تأنيساً لهما واستدراجاً إلى تركهما؛ ثم اتبع ذلك بما يدل على شرف أصله وقدم فضله بأنه من بيت النبوة ومعدن الفتوة، ليكون ذلك أدعى إلى قبول كلامه وإصابة

ص: 84

سهامه وإفضاء مرامه، فقال:{واتبعت} أي بغاية جهدي ورغبتي {ملة آباءي إبراهيم} خليل الله، وهو جد أبيه {وإسحاق} ابنه نبي الله وهو جده {ويعقوب} أبيه إسرائيل: الله. وهو أبوه حقيقة، وتلك هي الحنيفية السمحة التي هي الميل مع الدليل من غير جمود مع هوى بوجه من الوجوه؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله: ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» فكأنه قيل: ما تلك الملة؟ فقال: {ما كان لنا} أي ما صح وما استقام بوجه من الوجوه، لما عندنا من نور العلم الذي لم يدع عندنا لبساً بوجه أصلاً {أن نشرك} أي نجدد في وقت ما شيئاً من إشراك {بالله} أي الذي له الأمر كله، وأعرق في النفي فقال:

ص: 85

{من شيء} أي بما شرعه لنا من الدين القويم كانت ملتنا التوحيد، ومن التأكيد العموم في سياق النفي، ليعم ذلك كل شيء من عاقل ملك أو إنسي أو جنى أو غيره؛ ثم علل ذلك بما يعرف به أنه كما وجب عليهم ذلك وجب على كل أحد فقال:{ذلك} أي كان هذا الانتفاء أو ذلك التشريع - للملة الحنيفية وتسهيلها وجعل الفطر الأولى منقادة لها مقبلة عليها - العلي الشأن العظيم المقدار {من} أجل {فضل الله} أي المحيط بالجلال والإكرام {علينا} خاصة {وعلى الناس} الذين هم إخواننا في النسب عامة، فنحن وبعض الناس شكرنا الله، فقبلنا ما تفضل به علينا، فلم نشرك به شيئاً؛ والفضل: النفع الزائد على مقدار الواجب، فكل عطاء الله فضل، فإنه لا واجب عليه، فكان لذلك واجباً على كل أحد إخلاص التوحيد له شكراً على فضله لما تظافر عليه دليلاً العقل والنقل من أن شكر المنعم واجب {ولكن أكثر الناس} أي لما لهم من الاضطراب مع الهوى عموا عن هذا الواجب، فهم {لا يشكرون *} فضله بإخلاص العمل له ويشركون به إكراهاً لفطرهم الأولى، فالآية من الاحتباك: ذكر نفي الشرك أولاً يدل على وجوده ثانياً، وذكر نفي الشكر ثانياً يدل على

ص: 86

حذف إثباته أولاً.

ص: 87

ولما أقام لهم الدليل على ما هو عليه من الدين الحنيفي تبعاً لخلاصة الخلق، بما تقرر في الأذهان من أن الله تعالى هو المنعم وحده سبحانه فيجب شكره، بعد أن قرر لهم أمر نبوته وأقام دليلها بما يخبرهم به من المغيبات، ودعاهم إلى ما يجب عليهم من التوحيد وهو الإسلام، وكان أكثر الخلق إلاّ الفذ النادر يقرون بالإله الحق، ولكنهم يشركون به بعض خلقه، أتبعه برهان التمانع على فساد كل ملة غير الإسلام الذي يطابق عليه الأنبياء والرسل كلهم، تأييداً لأدلة النقل بقاطع العقل، فقال منادياً لهما باسم الصحبة بالأداة التي تقال عند ما له وقع عظيم في النفوس في المكان الذي تخلص فيه والمودة، وتمحض فيه النصيحة، وتصفي فيه القلوب، ويتعمد الإخلاص رجاء الخلاص -:{ياصاحبي السجن} والصحبة: ملازمة اختصاص كأصحاب الشافعي مثلاً، لملازمة الاختصاص بمذهبه، وهي خلاف ملازمة الاتصال.

ولما فرغ أفهامهما بالنداء لما يلقيه، قرع أسماعهما بالإنكار مع التقرير فقال:{أرباب} أي آلهة {متفرقون} متباينون بالذوات والحقائق تشاهدونهم محتاجين إلى المكان مع كونهم جماداً، ولو كانوا أحياء لأمكن تمانعهم، فأدى إلى إمكان عجز كل منهم القاطع بعدم صلاحيته للإلهية

ص: 87

{خير} أي أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة {أم الله} أي الملك الأعلى {الواحد} بالذات، فهو لا يحتاج إلى شيء أصلاً {القهار *} لكل شيء، لا يزال قهره يتكرر أبداً، فهذا برهان لا خطأ به كما ظن، وأبرزه صلى الله عليه وسلم على وجه الاستفهام استجلاباً للسامع برد العلم إليه، وسماها أرباباً لمثل ذلك بناء على زعمهم، وكذا المشاركة في أفعل التفضيل، لأن ذلك أقرب إلى الإنصاف، لكونه ألين في القول، فيكون أدعى إلى القبول.

ولما كان الجواب لكل من يعقل: الله خير، أشار إلى ذلك بجزم القول بعد ذلك الاستفهام في سلب صلاحيتهم قبل هذا الإمكان بعدم حياتهم، وعلى تقدير حياتهم بعجزهم، فقال:{ما تعبدون} والعبادة: خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع، وبين حقارة معبوداتهم وسفولها بقوله:{من دونه} أي الله الذي قام برهان التمانع - الذي هو البرهان الأعظم - على إلهية وعلى اختصاصه بذلك {إلا أسماء} وبين ما يريد وأوضحه بقوله: {سميتموها} أي ذوات أوجدتم لها أسماء {أنتم وآباؤكم} لا معاني لها، لأنه لا أرواح لها فضلاً عن أن تتحقق بمعنى ما سميتموها به من الإلهية، وإن كان لها أرواح فهي منتف عنها خاصة الإلهية، وهي الكمال المطلق الذي يستلزم

ص: 88

إحاطة العلم والقدرة.

ولما كان مقصود السورة وصف الكتاب بالإبانة للهدى، وكان نفي الإنزال كافياً في الإبانة، لأن عبادة الأصنام باطلة، ولم يكن في السياق كالأعراف مجادلة توجب مماحكة ومماطلة ومعالجة ومطاولة، قال نافياً للإنزال بأي وصف كان:{ما أنزل الله} أي المحيط علماً وقدرة.

فلا أمر لأحد معه {بها} وأعرق في النفي فقال: {من سلطان} أي برهان تتسلط به على تعظيمها، فانتفى تعظيمها لذاتها أو لغيرها، وصار حاصل الدليل: لو كانوا أحياء يحكمون لم يصلحوا للإلهية، لإمكان تمانعهم المؤدي إلى إمكان عجز كل منهم الملزوم لأنهم لأ صلاحية فيهم للإلهية، لكنهم ليسوا أحياء، فهم أجدر بعدم الصلاحية، فعلم قطعاً أنه لا حكم لمقهور، وأن كل من يمكن أن يكون له ثان مقهور؛ فأنتج هذا قطعاً أن الحكم إنما هو لله الواحد القهار، وهو لم يحكم بتعظيمها؛ وذلك معنى قوله:{إن} أي ما {الحكم إلاّ لله} أي المختص بصفات الكمال؛ والحكم: فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة.

ولما انتقى الحكم عن غيره، وكان ذلك كافياً في وجوب توحيده، رغبة فيما عنده، ورهبة مما بيده، أتبعه تأكيداً لذلك وإلزاماً به

ص: 89

أنه حكم به، فقال:{أمر ألا تعبدوا} أي أيها الخلق في وقت من الأوقات على حال من الأحوال {إلا إياه} أي وهو النافذ الأمر المطاع الحكم.

ولما قام هذا الدليل على هذا الوجه البين، كان جديراً بالإشارة إلى فضله، فأشار إليه بأداة البعد، تنبيهاً على علو مقامه وعظيم شأنه فقال:{ذلك} أي الشأن الأعظم، وهو توحيده وإفراده عن خلقه {الدين القيم} أي الذي لا عوج فيه فيأتيه الخلل من جهة عوجه، الظاهر أمره لمن كان له قلب {ولكن أكثر الناس} أي لما لهم الاضطراب مع الحظوظ {لا يعلمون *} أي ليس لهم علم، لأنهم لا ينتفعون بعقولهم، فكأنهم في عداد البهائم العجم، فلأجل ذلك هم لا يفردون الله بالعبادة.

ص: 90

ولما تم نصحه وعلا قدحه بإلقائه إليهما ما كان أهمّ لهما لو علما لمآله إلى الحياة الأبدية والرفعة السرمدية. أقبل على حاجتهما تمكيناً لما ذكره وتأكيداً للذي قرره، فناداهما بالأداة الدالة على أن ما بعدها كلام له موقع عظيم لتجتمع أنفسهما لسماع ما يلقى إليهما من التعبير، فقال:{ياصاحبي السجن} أي الذي تزول فيه الحظوظ ويحصل الانكسار للنفس والرقة في القلب فتتخلص فيه المودة.

ص: 90

ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز، أبهم ليجوّز كل واحد أنه الفائز، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذراً له في الخروج عن الأليق فقال:{أما أحدكما} وهو الساقي فيلخص ويقرب {فيسقي ربه} أي سيده الذي في خدمته {خمراً} كما كان {وأما الآخر} وهو الخباز.

ولما كان الذي له قوة أن يصلب إنما هو الملك، بنى للمفعول قوله:{فيصلب} ويعطب {فتأكل} أي فيتسبب عن صلبه أنه تأكل {الطير من رأسه} والآية من الاحتباك: ذكر ملزوم السلامة والقرب أولاً دليلاً على العطب ثانياً، وملزوم العطب ثانياً دليلاً على السلامة أولاً، وسيأتي شرح تعبيره من التوراة، فكأنه قيل: انظر جيداً ما الذي تقول! وروى أنهما قالا: ما رأينا شيئاً، إنما كنا نلعب، فقال مشيراً بصيغة البناء للمفعول إلى عظمة الله وسهولة الأمور عليه:{قضي الأمر} وبينه بقوله: {الذي فيه} أي لا في غيره {تستفتيان *} أي تطلبان الإفتاء فيه عملاً بالفتوة، فسألتما عن تأويله، وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما، لم أقله عن جهل ولا غلط. وما أحسن

ص: 91

إيلاء هذا العلم الثابت لختم الآية السالفة بنفي العلم عن الأكثر، والأحد: المختص من المضاف إليه بمبهم له مثل صفة المضاف، ولا كذلك «البعض» فلا يصدق: رأيت أحد الرجلين - ألا برجل منهما، بخلاف «بعض» والفتيا: الجواب بحكم المعنى، وهو غير الجواب بعلته - ذكره الرماني. ولعل رؤيتهما تشيران إلى ما تشير إليه رؤيا الملك، فالعصير يشير إلى السنابل الخضر والبقر السمان، لأنه لا يكون إلا عن فضل، والخبز - الذي طارت به الأطيار، وسارت بروح صاحبه الأقدار -يشير إلى اليابسة والعجاف - والله أعلم.

ولما كان كل علم بالنسبة إلى علم الله عدماً، عبر عن علمه بالظن، ويمكن أن يكون الظن على بابه لكونه قال ما مضى اجتهاداً بقرائن فيؤخذ منه أنه يسوغ الجزم بما أدى إلى ظن، فقال:{وقال} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {للذي ظن} مع الجزم بأنه أراد به العلم لقوله: {قضى الأمر} ، ويجوز أن يكون ضمير «ظن» للساقي، فهو حينئذ على بابه {أنه ناج منهما} وهو الساقي {اذكرني عند ربك}

ص: 92

أي سيدك ملك مصر، بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رُميت به، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله:

{أرباب متفرقون} [يوسف: 39] . فنجا الساقي وصلب صاحبه وفق ما قال لهما يوسف عليه الصلاة والسلام {فأنساه} أي الساقي {الشيطان} أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنه {ذكر} يوسف عليه الصلاة والسلام عند {ربه} أي بسبب اعتماده عليه في ذلك {فلبث} أي يوسف عليه الصلاة والسلام بسبب هذا النسيان {في السجن} من حين دخل إلى أن خرج {بضع سنين *} ليعلم أن جميع الأسباب إنما أثرها بالله تعالى، وحقيقة البضع من الثلاث إلى التسع، والمروي هنا أنه كان سبعاً.

ذكر ما مضى من هذه القصة من التوراة

قال بعد ما مضى: فأهبط المدينيون يوسف إلى مصر، فاشتراه قوطيفر الأمير صاحب شرطة فرعون - رجل مصري - من يد الأعراب الذين أهبطوه إلى هناك، فكان الرب سبحانه وتعالى بعونه مع يوسف، وكان رجلاً منجحاً، وأقام في منزل المصري سيده، فرأى

ص: 93

سيده أن الرب بعونه معه، وأن الرب ينجح جميع أفعاله، فظفر يوسف منه برحمة ورأفة فخدمه، وسلطه على بيته، وخوله جميع ما له، ومن اليوم الذي سلطه على بيته وخوله جميع ما له بارك الرب في بيت المصري من أجل يوسف وفي سببه، فحلَّت بركة الرب في جميع ما له في البيت والحقل، فخول كل شيء له، ولم يكن يعلم بشيء مما له في يده لثقته به ما خلا الخبز الذي كان يأكله، وكان يوسف حسن المنظر صبيح الوجه.

فلما كان بعد هذه الأمور لمحت امرأة سيده بنظرها إلى يوسف فقالت له: ضاجعني: فأبى ذلك وقال لامرأة سيده: إن سيدي لثقته بي ليس يعلم ما في بيته، وقد سلطني على جميع ما له، وليس في هذا البيت أعظم مني، ولم يمنعني شيئاً ما خلاك أنت لأنك امرأته، فكيف أرتكب هذا الشر العظيم، فأخطئي بين يدي الله، وإذا كانت تراوده كل يوم لم يطعها ليضاجعها ويصير معها، فبينا هو ذات يوم دخل يوسف إلى البيت ليعمل عملاً، ولم يكن أحد من أهل البيت هناك،

ص: 94

فتعلقت بقميصه وقالت له: ضاجعني، فترك قميصه في يدها وهرب، فخرج إلى السوق، فلما رأت أنه قد ترك قميصه في يدها وخرج هارباً إلى السوق، دعت بأهل بيتها وقالت لهم: انظروا، إنه أتانا رجل عبراني ليفضحنا، لأنه دخل عليّ يريد مضاجعتي، وهتفت بصوت عال، فلما رآني قد رفعت صوتي وهتفت، ترك قميصه في يدي وهرب إلى السوق.

فصيرت قميصه عندها حتى دخل سيدها البيت، فقالت: له مثل هذه الأقاويل: دخل عليّ هذا العبد العبراني الذي جلبته علينا يريد يفضحني، فلما رفعت صوتي فصحت ترك قميصه في يدي وهرب فخرج إلى السوق؛ فلما سمع سيده كلام امرأته استشاط غيظاً، فأمر به سيده فقذف في الحبس الذي كان أسرى الملك فيه محبوسين فمكث هناك في السجن، وكان الرب يبصره، ورزقه المحبة والرحمة، وألقى له في قلب السجان رحمة، فولى يوسف جميع المسجونين الذين في الحبس، وكل فعل كانوا يفعلونه هناك كان عن أمره، ولم يكن رئيس السجن

ص: 95

يضرب على يديه في شيء، لأن الرب كان بعونه معه، وكل شيء كان يفعله ينجحه الرب.

فلما كان بعد هذه الأمور، أذنب صاحب شراب ملك مصر والخباز - وفي نسخة موضع الخباز: ورئيس الطباخين - بين يدي سيدهما ملك مصر، فغضب فرعون على خادميه: على رئيس أصحاب الشراب ورئيس الخبازين - وفي نسخة: الطباخين - فأمر بحبسهما في سجن صاحب الشرط في الحبس الذي كان فيه يوسف، فسلط صاحب السجن يوسف عليهما فخدمهما، فلبثا في السجن أياماً، فرأيا رؤيا جميعاً، كل واحد منهما رئيا بكل في ليلة واحدة، وكل واحد منهما أحب تعبير حلمه،: الساقي وخباز - وفي نسخة: وطباخ - ملك مصر، فدخل عليهما يوسف بالغداة، فرآهما عابسين مكتئبين فسألهما وقال: ما بالكما يومكما هذا عابسي مكتئبين؟ فقالا له: إنا رأينا رؤيا وليس لها معبر، فقال لهما يوسف: إن علم التعبير عند الله، قصا عليّ.

فقص رئيس أصحاب الشراب على يوسف وقال له: إني رأيت في الرؤيا كأن حبلة بين يدي، في الحبلة ثلاثة قضبان، فبينا هي

ص: 96

كذلك إذ فرعت ونبت ورقها، وأينعت عناقيدها، فصارت عنباً، وكأن كأس فرعون في يدي، فتناولت من العنب، فعصرته في كأس فرعون، وناولت الكأس فرعون، فقال له يوسف عليه السلام: هذا تفسير رؤياك: الثلاثة قضبان هي ثلاثة أيام، ومن بعد ثلاثة أيام يذكرك فرعون فيردك على عملك، وتناول فرعون الكأس في يده على العادة الأولى التي لم تزل تسقيه، فاذكرني حينئذ إذا أنعم عليك، وأنعم عليّ بالنعمة والقسط، فاذكرني بين يدي فرعون، وأخرجني من هذا الحبس، لأني إنما سرقت من أرض العبرانين سرقة، وحصلت في الحبس هاهنا أيضاً بلا جرم جاء مني. فرأى رئيس الخبازين - وفي نسخة: الطباخين - أنه قد فسر تفسيراً حسناً فقال يوسف: رأيت أنا أيضاً في منامي كأن ثلاثة أطباق فيها خبز درمك على رأسي، وفي الطبق الأعلى من كل مآكل فرعون مما يصنعه الخباز - وفي نسخة: عمل طباخ حاذق - وكان السباع والطير تأكلها من الطبق من فوق رأسي؛ فأجاب يوسف وقال له: هذا تفسير رؤياك: ثلاثة أطباق هي ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام يأمر فرعون بضرب عنقك وصلبك على خشبة، ويأكل الطير لحمك.

فلما كان اليوم الثالث - وهو يوم ولاد فرعون - اتخذ فرعون

ص: 97

وليمة، فجمع عبيده وافتقد رئيس أصحاب الشراب ورئيس الخبازين - وفي نسخة: الطباخين - فأمر برد رئيس أصحاب الشراب على موضعه، وسقى فرعون الكأس كعادته، وأمر بصلب رئيس الخبازين كالذي فسر لهما يوسف عليهما الصلاة والسلام، فلم يذكر رئيس أصحاب الشراب يوسف عليه الصلاة والسلام ونسيه.

ص: 98

ولما بطل هذا السبب الذي أمر به يوسف عليه الصلاة والسلام، وهو تذكير الشرابي به، أثار الله سبحانه سبباً ينفذ به ما أراد من رئاسته وقضى به من سجود من دلت عليه الكواكب فقال دالاً على ذلك:{وقال الملك} وهو شخص قادر واسع المقدور إليه السياسه والتدبير، لملاه وهم السحرة والكهنة والحزرة والقافة والحكماء، وأكد ليعلم أنه محق في كلامه غير ممتحن:{إني أرى} عبر بالمضارع حكاية للحال لشدة ما هاله من ذلك {سبع بقرات سمان} والسمن: زيادة البدن من اللحم والشحم {يأكلهن سبع} أي بقرات {عجاف} والعجف: يبس الهزال {و} إني أرى {سبع} .

ولما كان تأويل المنام الجدب والقحط والشدة، أضاف العدد إلى جمع القلة بخلاف ما كان في سياق المضاعفة في قوله {أنبتت سبع

ص: 98

سنابل} [البقرة: 261] فقال: {سنبلات خضر و} إني أرى سبع سنبلات {أخر يابسات} التوت على الخضر فغلبت عليها، وكأنه حذف هذا لدلالة العجاف عليه؛ والسنبلة: نبات كالقصبة حملة حبوب منتظمة، وكأنه قيل: فكان ماذا؟ فقيل: قال الملك: {ياأيها الملأ} أي الأشراف النبلاء الذين تملأ العيون مناظرهم والقلوب مخابرهم ومآثرهم {أفتوني} أي أجيبوني وبينوا لي كرماً منكم بقوة وفهم ثاقب.

ولما كان مراده أن لا يخرجوا بالجواب عن القصد ولا يبعدوا به، عبر بما يفهم الظرف فقال:{في رؤياي} ومنعهم من الكلام بغير علم بقوله: {إن كنتم للرؤيا} أي جنسها {تعبرون *} وعبارة الرؤيا: تأويلها بالعبور من علنها إلى سرها كما تعبر، من عبر النهر - أي شطه - إلى عبره الآخر، ومثله أولت الرؤيا - إذا ذكرت مالها ومرجعها المقصود بضرب المثال.

والمادة - بتراكيبها الستة: عرب، وعبر، ورعب، وربع، وبعر، وبرع - تدور على الجواز من محل إلى محل ومن حال إلى حال، وأكثر ذلك إلى أجود، فالعرب سموا لأن مبنى أمرهم على الارتحال لاستجادة المنازل، وأعرب - إذا أفصح، أي تكلم بكلام العرب فأبان عن مراده، أي أجازه من العجمة والإبهام إلى البيان، وأعرب الفرس - إذا

ص: 99

خلصت عربيته، فكأنه جاز مرتبة الهجن إلى العرب، وكذا الإبل العراب، والعروبة: يوم الجمعة - لعلو قدرها عن بقية الأيام، والعروب: المرأة الضاحكة العاشقة لزوجها المتحببه إليه المظهرة له ذلك، وهي أيضاً العاصية لزوجها - لأن كل ذلك أفعال العرب، فهم أعشق الناس وأقدرهم على الاستمالة بالكلام العذب، وهم أعصى الناس وأجفاهم إذا أرادوا، والعرب - ويحرك: النشاط - لأنه انتقال عن الكسل، وقد عرب - كفرح - إذا نشط وإذا ورم، لأن الوارم يتجاوز هيئة غيره، وعربت البئر: كثر ماءها فارتفع، وعرب - كضرب: أكل، والعربة، محركة: النهر الشديد الجري، والنفس - لكثرة انتقالها بالفكر، والعربون: ما عقد به المبايعة من الثمن، فنقل السلعة من حال إلى حال، واستعربت البقر: اشتهت الفحل، إما من العروب العاشقة لزوجها، وإما لنقل الشهوة لها من حال إلى أخرى، وتعرب: أقام بالبادية، مع الأعراب الذين لا يوطنون مكاناً، وإنما

ص: 100

هم مع الربيع، وعروباء: اسم السماء السابعة - لارتفاعها عن جميع السماوات، فكأنها جازت الكل، ولأن حركتها حركة للكل، والعرب - بالكسر: يبيس البهمي، لأنه صار أهلاً للنقل ولو بتطيير الهواء، والعربي: شعير أبيض سنبله حرفان - كأنه نسب إلى العرب لجودته، والإعراب: إجراء الفرس ومعرفتك بالفرس العربي من الهجين - لانتقال حال الجهل بذلك إلى حال العلم، وأن لا يلحن في الكلام - كأنه انتقل بذلك من العجمة إلى العربية، وعرب الرجل - بالكسر - إذا أتخم، وكذا الفرس من العلف، ومعدته: فسدت، وجرحه: بقي به أثر بعد البرء، كل ذلك ناقل من حال إلى غيرها، والتعريب: تهذيب المنطق من اللحن - كأنه رفع نفسه إلى العرب، وقطع سعف النخل - لأنه نقلها عن حالها إلى أصلح منه، وأن تكون الدابة على أشاعرها ثم تبزع بمبزع، والتعريب أيضاً والإعراب: ما قبح من الكلام، وتقبيح قول

ص: 101

القائل كأنه حكم بزوال عربيته، وهما أيضاً الرد عن القبيح، وذلك إدخاله في خصال العرب التي هي معالي الأخلاق، وهما أيضاً النكاح، أو التعريض به لأن نقله من حال إلى حال وفعل إلى فعل قولاً وعملاً، والتعريب: الإكثار من شرب الماء الصافي، واتخاذ فرس عربي، وسما بها عريب، أي أحد يعرب؛ وعبر الرؤيا - إذا فسرها وأخبر بما يؤول إليه أمرها، كأنه جاز ظاهرها إلى بطن منها، وعبرت الكتاب أعبره عبراً: تدبرته ولم ترفع به صوتك، وعبرت النهر: قطعته من عبره - أي شطه - إلى عبره، والعبر أيضاً: الجانب، لأنه يعبر منه وإليه، والمعبر: سفينة يعبر عليها النهر وشط هيىء للعبور، وعبر القوم: ماتوا، والعبرة - بالكسر: العجب، وبالفتح: الدمعة قبل أن تفيض - كأن لها قوة الجري، أو هي تردد البكاء في الصدر أو الحزن بلا بكاء، لأن ذلك مبدأ جري الدمع؛ وفي مختصر العين: وعبرة الدمع: جريه، والعبرة: الدمع نفسه.

والعبر - بالضم ويحرك: سخة العين، والكثير من كل شيء، وبالجماعة - لأن ذلك جوازعن حد القلة، ولأنهم

ص: 102

يجيزون ما شاؤوا، ومجلس عبر - بالكسر والفتح: كثير الأهل - من ذلك، وأيضاً هو أهل لأن يعبر بجماعته من حال إلى حال، وبامرأة مستعبرة - وتفتح الباء: غير محظية، أي هي أهل لجري العبرة، وناقة عبر أسفار - مثلثة قوية، وعبرت عن الرجل فتكلمت عنه - كأنك عبرت من خاطره إلى خاطر المخاطب، وعبرت الدنانير تعبيراً: وزنتها ولم تبالغ في وزنها - كأنك عبرت من الجهل بمقدارها إلى الظن، أو عابر سبيل، أحي مار؛ والشعري: العبور: نجم خلف الجوزاء، والعبور: الجذعة من الغنم - لأنها جازت سنة وتأهلت العبور مع الغنم وكانت في عدادها، والعبور: لأقلف - لأن كمرته عابرة في قلفته، وغلام معبر: لم يختن، ورجل عبر: كاد أن يحتلم ولم يختن بعد، أي كاد أن يصير إلى خذ البالغين على هذه الحال، وهي أن كمرته عابرة في قلفته، وعبر به الأمر تعبيراً: اشتد عليه - كأنه جاز من حالة الرخاء إلى الشدة وعبرت به أهلكته، والمعبرة - بالتخفيف: ناقة لم تنتج ثلاث سنين، فيكون أصلب لها - لأنها صارت أهلاً لأن يعبر عليها في الأسفار، والعبير ضرب من الطيب - لعبور ريحه،

ص: 103

والزعفران - لعبور لونه وريحه، والعبرى: السدر النهري - لنباته في عبر النهر، والمعبر من الجمال: الكثير الوبر، ومن الشاء: التي لم تجز - كأنه لجواز الصوف عن حد جلدهما، وسهم معبر وعبير: كثير الريش - كأنه عبر عن حد العادة، والعبر - بالضم: الثكلى، لأنها أهل لإرسال العبرة، والسحاب التي تسير شديداً، والعقاب - لقوتها على قطع المسافات، ونبات عبر: الكذب والباطل - لسرعة زواله؛ ورعبت فلاناً: أفزعته، فهو مرعوب - لأنك أجزته من الأمن إلى الخوف، وسيل راعب: أي يملأ الوادي، وراعب: أرض، منها الحمام الراعبية، والحمام أيضاً لها قوة العبور بالرسائل من مكان إلى مكان، ورعبت الحمامة في صوتها ترعيباً: رفعته، ورعبت السنام: قطعته، والرعبوبة: قطعة منه - لأنها جازت مكانها، وجارية رعبوبة ورعبوب: حسنة القوام تامة - كأنها جازت أقرانها حسناً، والرعب: القصار، واحدهم رعيب وأرعب، تشبيه بالقطعة من السنام؛ والبعر: رجيع الخف والظلف إلا البقر الأهلية، لأنها تخثى، والوحشية تبعر بعراً -

ص: 104

لأنه يجوز من مكانه من غير أن يلوثه، فلا يبقى منه به شيء، والمعبر، مكانه، والبعير: الجمل البازل أو الجذع، وقد يكون الحمار وكل ما يحمل؛ وفي مختصر العين: وإذا رأت العرب ناقة أو جملاً من بعيد قالوا: هذا بعير، فإذا عرفوا قالوا للذكر: جمل، وللأنثى: ناقة، والبعرة - بالتحريك: الكمرة، تشبيهاً بها، والربع: المنزل والدار بعينها، والمحلة - لأنها يخرج منها ويدخل إليها، ولذلك سميت متبوأ، لأنها يتبوأ إليها، أي يرجع، وربع يربع: أقام، وأربع على نفسك: انتظر، كأنه من الربع، أي المنزل، لأنه يقام فيه: وربع - إذا أخصب - للانتقال من حال إلى حال أخرى، وهم على ربعاتهم، أي استقامتهم وأمرهم الأول - كأنه من المنزل، والروبع - كجوهر: الضعيف الدنيء - كأن ذلك يلزم من الإقامة في المنزل، وبهاء: قصير العرقوب، والرجل القصير - كأنه تشبيه بالربعة في مطلق القصر عن الطويل، وربع الحجر: رفعه، والحمل: رفعه على الدابة، والمربوع: المنعوش

ص: 105

المنفس عنه - لتحول الحال في كل ذلك، والمربعة: خشبة يرفع بها العدل، والمرابعة: أن تأخذ يد صاحبك وترفعا الحمل على الدابة - كأنه مع النقل مأخوذ من الأربعة، وهي أيضاً المعادلة بالربيع، ومنه تربعت الناقة سناماً طويلاً، أي حملته، وربيع الشهور: شهران بعد صفر، وربيع الفصول اثنان الذي فيه النور والكمأة، والذي تدرك فيه الثمار - للانتقال في كل منهما، والربع - كصرد: الفصيل ينتج في الربيع، وناقة مربع: ذات ربع، وأربع القوم: صاروا أربعة، ودخلوا في الربيع، وأقاموا في المربع، وربعت الأرض: أصابها مطر الربيع، والمرابيع: الأمطار أول الربيع، وأربع الرجل - إذا ولد له في شبابه، تشبيهاً للشباب بالربيع، وناقة مرباع - إذا كانت عادتها أن تنتج في ربعية القيظ، والربعية: أول الشتاء، والربيع: الجدول - لجريه وإنبات ما حوله، وجمعه أربعاء، والحجر يشيلونه لتجربة القوى،

ص: 106

والرابع تلو الثالث - لأنه جاز الجمع، ووتر وحبل مربوع: مفتول على أربع قوى، وربعتُ القوم أربعهم: صرت رابعهم، والأربعاء: يوم، والمرباع: ربع الغنيمة الذي كان يأخذه الرئيس، والرباعية - كثمانية: السن بين الثنية والناب، وعدتها أربع، وكل ما بلغ الأربعة رباع كثمان، ويقول للغنم في الرابعة وللبقر والحافر في الخامسة وللخف في السابعة: أربعت، كأنه لا يجوز في كل نوع من حد الصغر إلى الكبر إلا بذلك، وأربع الفرس: ألقى رباعيته، وحمى ربع: تأتي في اليوم الرابع، وقد ربع الرجل وأربع، وهو معنى ما قال في القاموس: وربعته الحمى: أخذته الحمى يوماً بعد يومين، لأن يومها الثاني هو رابع يومها الأول، والربعة - بالفتح: جونة العطار - لتضوع ريحها، والرجل بين الطويل والقصير - ويحرك - كالمربوع، لجوازه حد كل منهما، هذا إلى الطول، وهذا إلى القصر، وارتبع: صار ربعة، والربعة - محركة: أشد عدو الإبل، والمسافة بين أثافي

ص: 107

القدر - لعبور كل منهما عن محل صاحبتها، وأربع ماء الركية: كثر، فجاز عن محله الأول، وعلى فلان: سأله ثم ذهب ثم عادوه، وعلى المرأة: كر إلى جماعها، والقوم إبلهم مكان كذا: رعوها وأرسلوها على الماء ترد متى شاءت، ويجوز أن يكون هذا أيضاً من الربيع، وأربعت الناقة - إذا استغلقت رحمها فلم تقبل الماء، كأنها أزالت العبور، أي الانتقال من حال إلى أخرى، والربيعة: البيضة من السلاح - لنقلها صاحبها إلى الحصانة، والروضة - لجواز النبت فيها عن حد الأرض، والمربع: شراع السفينة - لأنه آلة السير، والمربع: الرجل الكثير النكاح - لعبوره عن حالة الأولى، ولجلوسه بين الشعب الأربع، وتربع في جلوسه ضد جثا، إما لأنه صار على شكل المربع، وإما أخذا من الربع إلى المنزل، لأنها جلسة المقيم في منزله، وتربعت النخيل: خرقت وصرمت - لتحول حالها، واستربع الرمل: تراكم، إما لجوازه عن حاله الأولى، وإما من الإقامة في الربع، واستربع الغبار، ارتفع، والبعير للمسير: قوى عليه وصبر،

ص: 108

والرجل بالأمر: استقل وصبر، وفلان يقيم رباعة قومه، أي شأنهم وحالهم أي يجيزهم من حال إلى أخرى، ومضى من بني فلان ربوع بعد ربوع، أي أحياء بعد أحياء، إما لأن ذلك جواز من دار إلى دار وحال إلى حال، وإما على حذف مضاف، أي أهل ربوع منازل، واليربوع: دابة كالفأرة، إما لشدة جريها، وإما لجعلها نافقاءين تهرب من أيهما شاءت، فهي عبارة منتقلة بالقوة وإن كانت ساكنة، واليربوع: لحمة المتن - كأنه مشبه بالدابة؛ وبرع الرجل - مثلثة: فاق أصحابه في علم أو غيره، أو تم في كل فضيلة وجمال، وهذا أبرع منه: أضخم - لأنه جاز مقداره، والبارع: الأصيل الجيد الرأي، وتبرع بالعطاء: تفضل بما لا يجب عليه من عند نفسه كأنه جاز رتبة الواجب - والله أعلم.

وفي الآية ما يوجبه حال العلماء من حاجة الملوك إليهم، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قالوا} هذه الرؤيا {أضغاث} أي أخلاط، جمع ضغث - بكسر الضاد وإسكان

ص: 109

الغين المعجمة، وهو قبضه حشيش مختلطة الرطب باليابس {أحلام} مختلفة مشتبهة، جمع حلم - بضم الحاء وإسكان اللام وضمه، وهو الرؤيا - فقيدوها بالأضغاث، وهو ما يكون من الرؤيا باطلاً - لكونه من حديث النفس أو وسوسة الشيطان، لكونها تشبه أخلاط النبات التي لا تناسب بينها، لأن الرؤيا تارة تكون من الملك وهي الصحيحة، وتارة تكون من تحريف الشيطان وتخليطاته، وتارة من حديث النفس؛ ثم قالوا:{وما نحن} أي بأجمعنا {بتأويل} أي ترجيع {الأحلام} أي مطلق الأضغاث وغيرها، وأعرقوا في النفي بقولهم:{بعالمين *} فدلسوا من غير وجه، جمعوا - وهي حلم واحد - ليجعلوها أضغاثاً لا مدلول لها، ونفوا عن أنفسهم «العلم المطلق» المستلزم لنفي «العلم بالمقيد» بعد أن أتوا بالكلام على هذه الصورة، ليوهموا أنهم ما جهلوها إلا لكونها أضغاثاً - والله أعلم؛ والقول: كلام متضمن بالحكاية في البيان عنه، فإذا ذكر أنه قال، اقتضى الحكاية لما قال، وإذا ذكر أنه تكلم، لم يقتض حكاية لما تكلم به، ومادة «حلم» بجميع تقاليبها تدور على صرف شيء عن وجهه وعادته وما تقتضيه الجبلة - كما يأتي في الرعد في قوله:{شديد المحال} [الرعد: 13] .

ص: 110

ولما كان هذا حالاً مذكراً للساقي بيوسف عليع الصلاة والسلام -

ص: 110

أخبر سبحانه بأنه ذكره بعد نسيانه، فقال عادلاً عن الفاء إيذاناً بأنه من الملا:{وقال الذي نجا} أي خلص من الهلاك {منهما} أي من صاحبي السجن، وهو الساقي {و} الحال أنه {ادكر} - بالمهملة، أي طلب الذكر - بالمعجمة، وزنه افتعل {بعد أمة} من الأزمان، أي أزمان مجتمعة طويلة {أنا أنبئكم} أي أخبركم إخباراً عظيماً {بتأويله} أي بتفسير ما يؤول إليه معنى هذا الحلم وحده كما هو الحق، وسبب عن كلامه قوله:{فأرسلون *} أي إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فإنه أعلم الناس، فأرسلوه إليه؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولم يكن السجن في المدينة، فأتاه فقال الساقي المرسل بعد وصوله إليه منادياً له بالنداء القرب تحبباً إليه:{يوسف} وزاد في التحبب بقوله: {أيها الصديق} أي البليغ في الصدق والتصديق لما يحق تصديقه بما جربناه منه ورأيناه لائحاً عليه {أفتنا} أي اذكر لنا الحكم {في سبع} وميز العدد بجمع السلامة الذي هو للقلة - كما مضى لما مضى - فقال: {بقرات سمان}

ص: 111

أي رآهن الملك {يأكلهن سبع} أي من البقر {عجاف} أي مهازيل جداً {و} في {سبع سنبلات} جمع سنبلة، وهي مجمع الحب من الزرع {خضر و} في سبع {أخر} أي من السنابل {يابسات} وساق جواب السؤال سياق الترجي إما جرياً على العوائد العقلاء في عدم البتّ في الأمور المستقبلة، وإما لأنه ندم بعد إرساله خوفاً من أن يكون التأويل شيئاً لا يواجه به الملك، فعزم على الهرب - على هذا التقدير، وإما استعجالاً ليوسف عليه الصلاة والسلام بالإفتاء ليسرع في الرجوع، فإن الناس في غاية التلفت إليه، فقال:{لعلي أرجع إلى الناس} قبل مانع يمنعني.

ولما كان تصديقهم ليوسف عليه الصلاة والسلام وعلمهم بعد ذلك بفضله وعملهم بما أمرهم به مظنوناً، قال:{لعلهم يعلمون *} أي ليكونوا على رجاء من أن يعلموا فضلك أو ما يدل ذلك عليه من خير أو شر فيعلموا لكل حال ما يمكنهم عمله، فكأنه قيل: فما قال له؟ فقيل: {قال} : تأويله أنكم {تزرعون} أي توجدون الزراعة. فهو إخبار بمغيب، فهو أقعد في معنى الكلام، ويمكن أن يكون خبراً بمعنى الأمر

ص: 112

{سبع سنين دأباً} أي دائبين مجتهدين - والدأب: استمرار الشيء على عادته - كما أشارت إليه رؤياك بعصر الخمر الذي لا يكون إلا بعد الكفاية، ودلت عليه رؤيا الملك للبقرات السمان والسنابل الخضر، والتعبير بذلك يدل على أن هذه السبع تكون - كما تعرفون - من أغلب أحوال الزمان في توسطه بخصب أرض وجدب أخرى، وعجز الماء عن بقعة وإغراقه لأخرى - كما أشار إليه الدأب: ثم أرشدهم إلى ما يتقوون به على ما يأتي من الشر، فقال:{فما حصدتم} أي من شيء بسبب ذلك الزرع - والحصد: قطع الزرع بعد استوائه - في تلك السبع الخصبة {فذروه} أي اتركوه على كل حال {في سنبله} لئلا يفسد بالسوس أو غيره {إلا قليلاً مما تأكلون} قال أبو حيان: أشار برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل - انتهى.

ص: 113

ولما أتم المشورة، رجع إلى بقية عبارة الرؤيا، فقال:{ثم يأتي} ولما كانت مدة الإتيان غير مستغرقة لزمان البعد، أتى بالجار فقال:{من بعد ذلك} أي الأمرالعظيم، وهي السبع التي تعملون

ص: 113

فيها هذا العمل {سبع} أي سنون {شداد} بالقحط العظيم، وهن ما أشارت إليه رؤيا صاحبك الذي طار برزقه الطيور، وسار بروحه غالب المقدور، ودلت عليه رؤيا الملك من البقرات العجاف والسنابل اليابسات {يأكلن} أسند الأكل إليهن مجازاً عن أكل أهلهن تحقيقاً للأكل {ما قدمتم} أي بالادخار من الحبوب {لهن} والتقديم: التقريب إلى جهة القدام، وبشرهم بأن الشدة تنقضي ولم يفرغ ما أعدوه، فقال:{إلا قليلاً مما تحصنون *} والإحصان: الإحراز، وهو إلقاء الشيء فيما هو كالحصن المنيع - هذا تعبير الرؤيا، ثم زادهم على ذلك قوله:{ثم يأتي} وعبر بالجار لمثل ما مضى فقال: {من بعد ذلك} أي الجدب العظيم {عام} وهو اثنا عشر شهراً، ونظيره الحول والسنة، وهو مأخوذ من العلوم - لما لأهله فيه من السبح الطويل - قاله الرماني. والتعبير به دون مرادفاته إشارة إلى أنه يكون فيه - من السعة بعموم الريّ وظهور الخصب وغزير البركة - أمر عظيم، ولذا اتبعه بقوله:{فيه} .

ولما كان المتشوف إليه الإغاثة، على أنه من المعلوم أنه لا يقدر عليها إلا الله، قال بانياً للمفعول:{يغاث الناس} من الغيث وهو المطر، أو من الغوث وهو الفرج، ففي الأول يجوز بناءه من ثلاثي ومن رباعي،

ص: 114

يقال غاث الله الأرض وأغاثها: أمطرها، وفي الثاني هو رباعي خاصة، يقال: استغاث به فأغاثه، من الغوث وهو واوي، ومعناه النفع الذي يأتي على شدة حاجته بنفي المضرة، والغيث يائي وهو المطر الذي يأتي في وقت الحاجة {وفيه} أي ذلك العام الحسن.

ولما كان العصر للأدهان وغيرها لا يكون إلا عن فضله، قال:{يعصرون *} أي يخرجون عصارات الأشياء وخلاصاتها، وكأنه أخذ من انتهاء القحط ابتداء الخصب الذي دل عليه العصر في رؤيا السائل، والخضرة والسمن في رؤيا الملك فإنه ضد القحط، وكل ضدين انتهاء أحدهما ابتداء الآخر لا محالة، فجاء الرسول فأخبر الملك بذلك، فأعجبه ووقع في نفسه صدقه {وقال الملك} أي الذي العزيز في خدمته {ائتوني به} لأسمع ذلك منه وأكرمه، فأتاه الرسول ليأتي به إلى الملك {فلما جاءه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام عن قرب من الزمان {الرسول} بذلك وهو الساقي {قال} له يوسف:{ارجع إلى ربك} أي سيدك الملك {فاسأله} بأن تقول له مستفهماً {ما بال النسوة} ولوح بمكرهن به ولم يصرح، ولا ذكر امرأة العزيز كرماً وحياء فقال:{التي قطعن أيديهن} أي ما خبرهن في مكرهن الذي

ص: 115

خالطني، فاشتد به بلائي فإنهن يعلمن أن امرأة العزيز ما دعتهن إلا بعد شهادتهن بأنها راودتني، ثم اعترفت لهن بأنها راودتني، وأني عصيتها أشد عصيان، فإذا سألهن بان الحق، فإن ربك جاهل بأمرهن.

ولما كان هذا موطناً يسأل فيه عن علم ربه سبحانه لذلك، قال مستأنفاً مؤكداً لأنهم عملوا في ذلك الأمر بالجهل عمل المكذب بالحساب الذي هو نتيجة العلم:{إن ربي} أي المدبر لي والمحسن إلي بكل ما أتقلب فيه من شدة ورخاء {بكيدهن} لي حين دعونني إلى طاعة امرأة العزيز {عليم *} وأنا لا أخرج من السجن حتى يعلم ربك ما خفي عنه أمرهن الذي علمه ربي، لتظهر براءتي على رؤوس الأشهاد مما وصموني به من السجن الذي من شأنه أن لا يكون إلا عن جرم، وإن لم تظهر براءتي لم ينقطع عني كلام الحاسدين، ويوشك أن يسعوا في حط منزلتي عند الملك، ولئلا يقولوا: ما لبث هذا السجن إلا لذنب عظيم فيكون في ذلك نوع من العار لا يخفى، وفي هذا دليل على أن السعي في براءة العرض حسن، بل واجب، وأخرج الكلام على سؤال الملك عن أمرهن - لا على سؤاله في أن يفحص عن أمرهن - لأن سؤال الإنسان عن علم ما لم يعلم يهيجه

ص: 116

ويلهبه إلى البحث عنه، بخلاف سؤاله في أن يفتش لغيره، ليعلم ذلك الغير، فأراد بذلك حثه لأن يجدّ في السؤال حتى يعلم الحق، ليقبل بعد ذلك جميع ما حدثه به؛ والكيد: الاحتيال في إيصال الضرر.

وإنما فسرت «بال» بذلك لأن مادته - يائية بتراكيبها الخمسة: بلى، وبيل، ولبى، وليب، ويلب، وواوية بتراكيبها الستة: بول، وبلو، وولب، ووبل، ولوب، ولبو، ومهموزة - بتراكيبها الأربعة: لبأ، وبأل، وأبل وألب - تدور على الخلطة المحيلة المميلة، وكأن حقيقتها البلاء بمعنى الاختبار والامتحان والتجربة، ويكون في الخير والشر، أي خالطه بشيء يعرف منه خفي أمره؛ قال القزاز: والفتنة تكون في الشر خاصة، والبلاء: النعمة، من قولك: أبليته خيراً - إذا اصطنعته عنده، وقد تقدم في سورة الأنفال شيء من معاني المادة، وناقة بلو سفر وبلى سفر - إذا أنضاها السفر، وإذا كانت قوية عليه، والبلوى: البلية، وأبليت فلاناً عذراً، أي جئت فيما بيني وبينه ما لا لوم فيه، أي خالطته بشيء أزال اللوم، والبلية: دابة كانت تشد في الجاهلية عند قبر صاحبها ولا تعلف ولا تسقي حتى تموت، ويقال: الناس بذي بلى وبذي بليان، أي متفرقين، كأن حقيقته أنه حل

ص: 117

بهم صاحب خلطة شديدة فرقت بينهم، وبلى الشيء - بالكسر بلى مقصوراً وبلاء ممدوداً - إذا فنى وعطب، وبلي فلان بكذا - مبنياً للمفعول، وابتلى به - إذا أصابه ذلك؛ والبول: ولد الرجل، والعدد الكثير، والانفجار، وضد الغائط، ولا ريب أن كلاً من ذلك إذا خالطه الحيوان أحال حاله؛ والبال: الاكتراث والفكر والهم، ومن ذلك عندي: ما باليت به: لم أكترث به، وكذا ما أباليه بالة، وهي مصدر منه، ولم أبال به، ولم أبل، ولكنهم قلبوه من: باولت به، لئلا يلتبس بالبول - والله أعلم، وحقيقتهما: ما استعملتُ بالي الذي هو فكري فيه وإن أعمل هو فكره في أمري، أي إنه أقل من أن يفكر في أمره، ومن المعلوم أن الفكر محل الخلطة المميلة، والبال: المر الذي يعتمل به في أرض الزرع - لمشقة العمل به، والبال: سمكة غليظة تسمى جمل البحر - لأن من خالطته أحالت أمره، والبال: رخاء العيش، والحال، والبالة: القارورة - كأنها من البول،

ص: 118

والجراب، ووعاء الطيب، والولب: الوصل، ولبت الشيء: وصلته، وولب هو: وصل ودخل وأسرع، والوالب: الذاهب في وجهه - كأنه خالطه من الهم ما حمله على ذلك، وولب الزرع - إذا صارت له والبة، وهي أفراخ تولدت من أصوله، والوالبة: نسل القوم، ونسل المال، والوالبة: سريع النبات؛ ولاب يلوب - إذا عطش، واللابة: الحرة، وهي مكان ذو حجارة سود كبيرة متصلة صلبة حسنة، فمن خالطها أتعبته وأعطشته، وبها سميت الإبل السود المجتمعة، والصمان، واللابة: شقشقة البعير، وهي شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج - كأنها هي التي أهاجته، والملاب: ضرب من الطيب، والزعفران، والملوب - كمعظم - من الحديد: الملوى، واللوب - بالضم: البضعة التي تدور في القد - لأنها تغير ما في القدر بدورانها، واللواب أيضاً: اللعاب، والأب: عطشت إبله، واللبوة: أنثى الأسد؛ والوابل: المطر الكثير الشديد الوقع الضخم القطر، والوابلة: نسل الإبل

ص: 119

والغنم، ورأس العضد الذي في الحق، وما التف من لحم الفخذ، والموابلة: المواظبة، والميبل: ضفيرة من قد مركبة في عود تضرب به الإبل، ووبل الصيد: طرد حثيث شديد، بالنعجة وبلة شديدة - إذا أرادت الفحل، والوبال: الشدة وسوء العاقبة، وهو من الشدة والثقل، وأصابه وبل الجوع، أي جوع شديد، والوبيل: المرعى الوخيم، واستوبلت الأرض - إذا لم توافقك في مطعمك وإن كنت محباً لها، وهي من الوبيل - للطعام الذي لا يشتهي، والوبيل من العقوبة: الشديدة، وهو أيضاً العصا، وخشبة القصار التي يدق بها الثياب بعد الغسل، وخشبة صغيرة يضرب بها الناقوس، والحزمة من الحطب؛ وبلى: حرف يجاب بها الاستفهام الداخل على كلام منفي فتحيله إلى الإثبات بخلاف «نعم» فإنه يجاب بها الكلام الموجب، وتأتي «بلى» في النفي من غير استفهام، يقال: ما أعطيتني درهماً، فتقول: بلى؛ ولبى من الطعام - كرضى: أكثر منه، واللباية - بالضم: شجر الأمطىّ؛ واللياب - بتقديم التحتانية وزن سحاب: أقل من ملء الفم؛ واليلب -

ص: 120

محركة: الترسة، ويقال: الدرق، والدروع من الجلود، أو جلود يخرز بعضها إلى البعض، تلبس على الرؤوس خاصة، والعظيم من كل شيء، والجلد؛ والأبيل - كأمير: العصا، والحزين - بالسريانية، ورئيس النصارى، أو الراهب، أو صاحب الناقوس، صنيع مختصر العين يقتضي أن همزته زائدة، وصنيع القاموس أنها أصلية، وعلى كلا التقديرين هو من مدار المادة، فإن من خالطته العصا غيرته، وكذا الرئيس؛ ومن مهموزة اللبأ - كضلع: أول اللبن، وهو أحق الأشياء بالإحالة، وألبأ الفصيل: شدة إلى رأس الخلف - أي حلمة ضرع الناقة - ليرضع اللبأ، ولبأت وهي ملبىء: وقع اللبأ في ضرعها، ولا يكون ذلك إلا بما يخالطها، فيحيل ذلك منها، واللبء - بالفتح: أول السقي، وهو أشد مما في الأثناء في الخلطة والإحالة، وبهاء: الأسدة، وخلطتها محيلة للذكور من نوعها، ولغيرها بالنفرة منها، وكذا اللبوة -

ص: 121

بالواو، وعشار ملابي - كملاقح: دنا نتاجها، وهو واضح في الإحالة: ولبأت الشاة ولدها وألبأته: أرضعته اللبأ، ولبأت الشاة والتبأتها: حلبت لبأها؛ والبئيل - كأمير: الصغير الضعيف، بؤل - ككرم، ويقال ضئيل بئيل؛ والإبل - بكسرتين وتسكن الباء - معروف، واحد يقع على الجمع، ليس بجمع ولا اسم جمع، جمعه آبال، الإحالة في خلطتها بالركوب والحمل وغيرهم واضحة، والإبل: السحاب الذي يحمل ماء المطر، وهو ظاهر في ذلك، وتأبّل عن امرأته: امتنع عن غشيانها - من الإزالة، ونسك: أي امتنع عن خلطة الدنيا المحيلة، وبالعصا: ضرب، ومن خالطته العصا أحالته، وأبل العشب أبولاً: طال، فاستمكن منه الإبل، وهو ظاهر في الإحالة، والإبالة - كالإجانة: القطعة من الطير والخيل والإبل أو المتتابعة منها، من نظر شيئاً من ذلك أحاله عن حاله، وكأمير: العصا، ورئيس النصارى، أو الراهب، أو صاحب الناقوس، وكل ذلك واضح في الإحالة، والأبل - بالضم الباء:

ص: 122

الحزمة من الحشيش، وخلطتها محيلة لما يأكلها، والإبالة - ككتابة: السياسة، وهي في غاية الإحالة لمن خولط بها، والأبلة - كفرحة: الحاجة والطلبة، وهي معروفة في ذلك، والمباركة في الإبل، وإنه لا يأتبل: لا يثبت على رعية الإبل ولا يحسن مهنتها، أو لا يثبت عليها راكباً، أي إنه سريع التأثر والإحالة من خلطتها، وتأبيل الإبل: تسمينها، أي مخالطتها بما أحالها، والإبلة - بالكسر: العداوة، وإحالتها معروفة، بالضم - العاهة، وهي كذلك، وبالفتح أو بالتحريك: الثقل والوخامة والإثم كذلك، وتأبيل الميت: تأبينه، أي الثناء عليه بعد موته، وهو يهيج الحزن عليه، وجاء في إبالته - بالكسر، وأبلته - بضمتين مشددة: أصحابه، ولا شك أن من جاء كذلك أحال من أتاه، وضغث على إبالة كإجانة ويخفف: بلية على أخرى، أو خصب على خصب - كأنه ضد، وهو واضح الإحالة، وأبلت الإبل تأبُل وتأبل أبولا وأبلا: جزأت - أي اكتفت - بالرطب عن الماء، والرُطُب بضمتين: الإخضر من البقل والشجر أو جماعة العشب الأخضر، والأبول:

ص: 123

الإقامة في المرعى، ولا شك في أن من خالطه ذلك أحاله؛ وألب إليه القوم: أتوه من كل جانب، وذلك محيل، وألب الإبل: ساقها، والإبل: انساقت وانضم بعضها إلى بعض، والحمار طريدته: طردها شديداً، وجمع، واجتمع، وأسرع، وعاد، والإحالة في كل ذلك ظاهرة، والسماء: دام مطرها، أي فأحال الأرض وأهلها، والتألب كثعلب: المجتمع منا ومن حمر الوحش والوعل، وهي بهاء، وما كان كذلك أحال ما خالطه، والإلب - بالكسر: الفتر، وشجرة كالأترج سم، وذلك ظاهر في الإحالة، وبالفتح: نشاط الساقي، وميل النفس إلى الهوى، والعطش، والتدبير على العدو من حيث لا يعلم، ومسك السخلة، والسم، والطرد الشديد، وشدة الحمى والحر، وابتداء برء الدمل، وكل ذلك ظاهر الإحالة، وريح ألوب: باردة تسفي التراب، ورجل ألوب: سريع إخراج الدلو، أو نشيط، فمن

ص: 124

خالطه أحاله، وهم عليه ألب وإلب واحد: مجتمعون عليه بالظلم والعداوة، وذلك محيل لا شك فيه، والإلبة بالضم: المجاعة، وبالتحريك: اليلبة، والتأليب: التحريض والإفساد، وكل ذلك ظاهر في الإحالة، وكذا المئلب - للسريع، والألب: الصفو، وهو محيل، والألب - بالتحريك: اليلب، وقد مضى أنها الترسة - والله أعلم.

ولما قال يوسف عليه الصلاة والسلام ذلك وأبى أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر، رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل: فما فعل الملك؟ فقيل: {قال} للنسوة بعد أن جمعهن: {ما خطبكن} أي شأنكن العظيم؛ وقوله: {إذ راودتن} أي خادعتن بمكر ودوران ومراوغة {يوسف عن نفسه} دليل على أن براءته كانت متحققة عند كل من علم القصة، فكأن الملك وبعض الناس - وإن علموا مراودتهن وعفته - ما كانوا يعرفون المراودة هل هي لهن كلهن أو لبعضهن، فكأنه

ص: 125

قيل: ما قلن؟ فقيل: مكرن في جوابهن إذ سألهن عما عملن من السوء معه فأعرضن عنه وأجبن بنفي السوء عنه عليه الصلاة والسلام، وذلك أنهن {قلن حاش لله} أي عياذاً بالملك الأعظم وتنزيهاً له من هذا الأمر، فأوهمن بذلك براءتهن منه؛ ثم فسرن هذا العياذ بأن قلن تعجباً من عفته التي لم يرين مثلها، ولا وقع في أوهامهن أن تكون لآدمي وإن بلغ ما بلغ:{ما علمنا عليه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام، وأعرقن في النفي فقلن:{من سوء} فخصصنه بالبراءة، وهذا كما تقدم عند قول الملأ {أضغاث أحلام} هذا وهو جواب للملك الذي تبهر رؤيته وتخشى سطوته، فكان من طبع البلد عدم الإفصاح في المقال - حتى لا ينفك عن طروق احتمال فيكون للتفصي فيه مجال - وعبادة الملوك إلا من شاء الله منهم.

ولما تم ذلك، كان كأنه قيل: فما قالت التي هي أصل هذا

ص: 126

الأمر؟ فقيل: {قالت امرأت العزيز} مصرحة بحقيقة الحال: {الآن حصحص الحق} أي حصل على أمكن وجوهه، وانقطع عن الباطل بظهوره، من: حص شعره. إذا استأصل قطعه بحيث ظهر ما تحته، ومنه الحصة: القطعة من الشيء، ونظيره: كب وكبكب، وكف وكفكف، فهذه زيادة تضعيف، دل عليه الاشتقاق وهو قول الزجاج - قاله الرماني. ووافقه الرازي في اللوامع وقال: وقال الأزهري: هو من حصحص البعير: أثرت ثفناته في الأرض إذا برك حتى تستبين آثارها فيه {أنا راودته} أي خادعته وراودته {عن نفسه} وأكدت ما أفصحت به مدحاً ونفياً لكل سوء بقولها مؤكداً لأجل ما تقدم من إنكارها: {وإنه لمن الصادقين *} أي العريقين في هذا الوصف في نسبة المراودة إليّ وتبرئة نفسه، فقد شهد النسوة كلهن ببراءته، وإنه لم يقع منه ما ينسب به شيء من السوء إليه، فمن نسب إليه بعد ذلك هماً أو غيره فهو تابع لمجرد الهوى في نبي من المخلصين.

ص: 127

ولما انجلى الأمر، أمر الملك بإحضاره، ليستعين به فيما إليه من الملك، لكن لما كانت براءة الصديق أهم من ذلك - وهي المقصود من رد

ص: 127

الرسول - قدم بقية الكلام فيها عليه، وليكون كلامه في براءته متصلاً بكلام النسوة في ذلك، والذي دل على أن ذلك كلامه ما فيه من الحكم التي لا يعرفها في ذلك الزمان غيره، فقال - بناء على ما تقديره: فلما رجع الرسول إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فأخبره بشهادتهن ببراءته قال -: {ذلك} أي الخلق العظيم في تثبتي في السجن إلى أن تبين الحق {ليعلم} العزيز علماً مؤكداً {أني لم أخنه} أي في أهله ولا في غيرها {بالغيب} أي والحال أن كلاً منا غائب عن صاحبه {و} ليعلم بإقرارها وهي في الأمن والسعة، وتثبتي وأنا في محل الضيق والخوف ما من شأنه الخفاء عن كل من لم يؤيده الله بروح منه من {إن الله} أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال {لا يهدي} أي يسدد وينجح بوجه من لوجوه {كيد الخائنين} أي العريقين في الخيانة، بل لا بد أن يقيم سبباً لظهور الخيانة وإن اجتهد الخائن في التعمية؛ والخيانة: مخالفة الحق بنقض العهد العام. وضدها الأمانة، والغدر: نقضه خاصاً، والمعنى أني لما كنت بريئاً سدد الله أمري، وجعل عاقبتي إلى خير كبير وبراءة تامة، ولما كان غيري خائناً، أنطقه الله بالإقرار بها.

ص: 128

ولما كان ذلك ربما جر إلى الإعجاب، قال:{وما أبرىء} أي تبرئة عظيمة {نفسي} عن مطلق الزلل وإن غلبه التوفيق والعصمة، أي لم أقصد بالبراءة عما تقدم مجرد التزكية للنفس، وعلل عدم التبرئة بقوله - مؤكداً لما لأكثر الناس من الإنكار، أو لأن اتباعهم لأهويتهم فعل من ينكر فعل الأمارة -:{إن النفس} أي هذا النوع {لأمارة} أي شديدة الأمر {بالسوء} أي هذا الجنس دائماً لطبعها على ذلك في كل وقت {إلا ما} أي وقت أن {رحم ربي} بكفها عن الأمر به أو بستره بكفها عن فعله بعد إطلاقها على الأمر به، أو إلا ما رحمه ربي من النفوس فلا يأمر بسوء؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً دفعاً لظن من يظن أنه لا توبة له:{إن ربي} أي المحسن إليّ {غفور} أي بليغ الستر للذنوب {رحيم *} أي بليغ الإكرام لمن يريد.

ولما أتم ما قدمه مما هو الأهم - من نزاهة الصديق، وعلم الملك ببراءته وما يتبعها - على ما كان قلبه من أمر الملك بإحضاره إليه، أتبعه إياه عاطفاً له على ما كان في نسقه من قوله {قال ما خطبكن} فقال:{وقال الملك} صرح به ولم يستغن بضميره كراهية الإلباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام، ولو كان الكل من كلامها لاستتغنى بالضمير ولم يحتج إلى

ص: 129

إبرازه {ائتوني به أستخلصه} أي أطلب وأوجد خلوصه {لنفسي} أي فلا يكون لي فيه شريك، قطعاً لطمع العزيز عنه، ودفعاً لتوهم أنه يرده إليه، ولعل هذا هو مراد يوسف عليه الصلاة والسلام بالتلبث في السجن إلى إنكشاف الحال، خوفاً من أن يرجع إلى العزيز فتعود المرأة إلى حالها الأولى فيزداد البلاء.

ولما كان التقدير: فرجع رسول الملك إليه فأخبره أن الملك سأل النسوة فقلن ما مضى، وأمر بإحضاره ليستخلصه لنفسه، فقال يوسف عليه الصلاة والسلام ما تقدم من تلك الحكم البالغة، وأجاب أمر الملك فأتى إليه بعد أن دعا لأهل السجن فقال: اللهم! عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار، وكتب على باب السجن: هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وبيوت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء. ثم اغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً وقصد إليه، عطف عليه بالفاء - دليلاً على إسراعه في ذلك - قوله:{فلما كلمه} وشاهد الملك فيه ما شاهد من جلال النبوة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة {قال} مؤكداً

ص: 130

تمكيناً لقوله دفعاً لمن يظن أنه بعد السجن وما قاربه لا يرفعه هذه الرفعة: {إنك اليوم} وعبر بما هو لشدة الغرابة تمكيناً للكلام أيضاً فقال: {لدينا مكين} أي شديد المكنة، من المكانة، وهي حالة يتمكن بها صاحبها من مراده {أمين *} من الأمانة، وهي حال يؤمن معها نقض العهد، وذلك أنه قيل: إن الملك كان يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها، فعرفها كلها، ثم دعا للملك بالعبراني، فلم يعرفه الملك فقال له: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي، فعظم عنده جداً، فكأنه قيل: فما قال الصديق؟ فقيل: {قال} ما يجب عليه من السعي في صلاح الدين والدنيا {اجعلني} قيماً {على خزائن الأرض} أي أرض مصر التي هي لكثرة خيرها كأنها الأرض؛ ثم علله بما هو مقصود الملوك الذي لا يكادون يقفون عليه فقال: {إني حفيظ} أي قادر عل ضبط ما إليّ أمين فيه {عليم *} أي بالغ العلم بوجوه صلاحه واستنمائه فأخبر بما جمع الله له من أداتي الحفظ والفهم، مع

ص: 131

ما يلزم الحفظ من القوة والأمانة، لنجاة العباد مما يستقبلهم من السوء، فيكون ذلك سبباً لردهم عن الدين الباطل إلى الدين الحق.

ولما سأل ما تقدم، قال معلماً بأنه أجيب بتسخير الله له:{وكذلك} أي ومثل ما مكنا ليوسف في قلب الملك من المودة والاعتقاد الصالح وفي قلوب جميع الناس، ومثل ما سأل من التمكين {مكنا} أي بما لنا من العظمة {ليوسف في الأرض} أي مطلقاً لا سيما أرض مصر بتولية ملكها إياه عليها {يتبوأ} أي يتخذ منزلاً يرجع إليه، من باء - إذا رجع {منها حيث يشاء} بإنجاح جميع مقاصده، لدخولها كلها تحت سلطانه.

لتبقى أنفس أهل المملكة وما ولاها على يده، فيجوز الأجر وجميل الذكر مع ما يزيد يه من علو الشأن وفخامة القدر، فكأنه قيل: لم كان هذا؟ فقال: لأمرين: أحدهما أن لنا الأمر كله {نصيب} على وجه الاختصاص {برحمتنا} بما لنا من العظمة {من نشاء} من مستحق فيما ترون وغيره، لا نسأل عما نفعل، وقد شئنا إصابة يوسف بهذا، والثاني أنه محسن يعبد الله فانياً عن جميع الأغيار {و} نحن {لا نضيع}

ص: 132

بوجه {أجر المحسنين *} أي العريقين في تلك الصفة وإن كان لنا أن نفعل غير ذلك؛ روى أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم في أول فتوح مصر من طريق الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فأتاه الرسول فقال: ألق عنك ثياب السجن، والبس ثياباً جدداً، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رأى غلاماً حدثاً فقال: أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة! وأقعده قدامه ثم قال: قال عثمان - يعني ابن صالح - وغيره في حديثهما: فلما استنطقه وسايله عظُم في عينه، وجل أمره في قلبه، فدفع إليه خاتمة وولاه ما خلف بابه - ورجع إلى ابن عباس قال: وضرب بالطبل بمصر أن يوسف خليفة الملك؛ وعن عكرمة أن فرعون قال ليوسف: قد سلطتك على مصر غير أني أريد أن أجعل كرسيّ أطول من كرسيك بأربع أصابع! قال يوسف: نعم.

ص: 133

ولما كان هذا مما يستعظمه الناس في الدنيا، وكان عزها لا يعد في الحقيقة إلا إن كان موصولاً بنعيم الآخرة، نبه على ما له في الآخرة مما لا يعد هذا في جنبه شيئاً، فقال مؤكداً لتكذيب الكفرة بذلك:{ولأجر الآخرة خير} ولما كان سياق الأحكام على وجه عام لتعليقها بأوصاف يكون السياق مرغوباً فيها أو مرهباً منها أحسن وأبلغ،

ص: 133

قال: {للذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف {وكانوا} أي بجبلاتهم {يتقون *} أي يوجدون الخوف من الله واتخاذ الوقايات منه إيجاداً مستمراً، وهو من أجلهم حظاً وأعلاهم كعباً - كما تقدم بيانه مما يدل على كمال إيمانه وتقواه.

ولما كان من المعلوم أن من هذه صفاته يقوم بما وليه أتم قيام وينظر فيه أحسن نظر، كان كأنه قيل: فجعله الملك على خزائن الأرض فدبرها بما أمره الله به وعلمه حتى صلح الأمر وجاء الخير وذهب الشر، وإنما طوى هذا للدلالة عليه بلوازمه من قصة إخوته التي هي المقصودة بالذات - كما سيأتي، وقد فهم من هذه القصة أن الغالب على طبع مصر الرداءة: بغض الغريب، واستذلال الضعيف، والخضوع للقوي، فإنهم أساؤوا إليه بالسجن بعد تحقق البراءة، ثم عفا عنهم وأحسن إليهم بما استبقى به مهجهم، ثم أعتقهم بعد أن استرقهم، ورد إليهم أموالهم بعد أن استأصلها بما عنده من الغلال، فجزوره على ذلك بأن استعبدوا أولاده وأولاد إخوته بعده وساموهم سوء العذاب، وأدل دليل على أن هذا طبع البلد أن بني إسرائيل لما خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام وخلصهم من جميع ذلك الذل وشرفهم بما شرفهم الله به من الآيات العظام والكتاب المبين، كانوا كل قليل

ص: 134

ينكثون مجترئين على ما لا يطاق الاجتراء عليه، وإذا أمرهم عن الله بأمر جنبوا عنه - كما مضى ذلك عن التوراة في الأعراف والبقرة وغيرهما، فعاقبهم الله بالتيه، وكان يسميهم الجيل المعوج - لما علم من سوء طباعهم، حتى مات كل من نشأ بأرض مصر، ثم صار أولادهم يمتثلون الأوامر حتى ملكوا ما وعد الله به آباءهم من البلاد، وقد ذكر ذلك في زبور داود عليه الصلاة والسلام في غير موضع، منها في المزمور الرابع والتسعين: هلموا نسجد ونركع ونخضع أمام الرب خالقنا، لأنه إلهنا ونحن شعب رعيته، وضأن ماشيته، اليوم إذا سمعتم صوته فلا تقسو قلوبكم وتسخطوه كمثل السخط يوم التجربة في البرية حيث جربني آباؤكم، فأحصوا أعمالي ونظروها، أربعين سنة مقتُّ ذلك الجيل وقلت: هو شعب في كل حين يطغون بقلوبهم، فلم يعتدوا لسلبي كما أقسمت برجزي أنهم لا يدخلون راحتي. آباؤنا بمصر لم يفهموا عجائبك، ولم يذكروا كثرة رحمتك حين أغضوك وهم صاعدون من البحر الأحمر، فنجيتهم باسمك لتظهر عجائبك، زجر البحر الأحمر فجف، أجازهم في اللجج كأنهم في البر، خلصهم من أيدي الأعداء، وأنقذهم من أيدي

ص: 135

المبغضين، وأطلق الماء على مبغضيهم فلم يبق منهم واحد، فآمنوا بكلامه، ومجدوا بسبحته.

ثم أسرعوا فنسوا أعماله، ولم ينتظروا إرادته، اشتهوا شهوة في البرية، جربوا الله حيث لا ماء، فأعطاهم سؤلهم، وأرسل شبعاً لنفوسهم، أغضبوا موسى في المعسكر وهارون قديس الرب، انفتحت الأرض، وابتلعت داثان، وانطبقت على جماعة بيرون، واشتعلت النار في محافلهم، وأحرق اللهيب الخطأة، صنعوا عجلاً في حوريب، وسجدوا للمنحوت، وبدلوا مجدهم بشبه عجل يأكل عشباً، ونسوا الله الذي نجاهم، وصنع العظائم بمصر والعجائب في أرض حام، والمهولات في البحر الأحمر، قال: إنه يهلكهم لولا موسى صفيه قام بين يديه ليصرف سخطه، لئلا يستأصلهم، ورذلوا الأرض الشهيه، ولم يؤمنوا بكلمته، وتقمقموا في مضاربهم، ولم يسمعوا قول الرب، فرفع يده عليهم ليهلكهم في البرية، ويفرق ذريتهم في الأمم، ويبددهم في

ص: 136

البلدان، لأنهم قربوا لباعل فاغور، وأكلوا ضحايا ميتة، وأسخطوه بأعمالهم، وكثر الموت فيهم بغتة، فقام فنحاس واستغفر لهم، فارتفع الموت عنهم، فحسب ذلك برّاً لجيل بعد جيل إلى الأبد، ثم أسخطوه على ماء الخصام، وتألم موسى لأجلهم، وأغضبوا روحه، وخالفوا كلام شفتيه، ولم يستأصلوا الأمم الذين أمرهم الرب، واختلطوا بالشعوب وتعلموا أعمالهم، فكانت عِشرة لهم، ذبحوا بنيهم وبناتهم للشياطين، وضحوا لأصنام كنعان، ودنسوا الأرض بالدماء، وتنجسوا بأعمالهم، وزنوا بأفعالهم، فاشتد غضب الرب على شعبه، ورذل ميراثه، فأسلمهم في أيدي الشعوب، وسلط عليهم شناتهم، واستعبدهم أعداؤهم وخضعوا تحت أيديهم، مراراً كثيرة بجاهم، وهم يسخطونه بأفكارهم، وذلوا بسيئاتهم - انتهى؛ على أنك إذا تأملت وجدت أن الله تعالى يعلي كعب الغريب الذي يستذلونه ويحل سعده ويؤثل مجده - كما فعل بيوسف عليه الصلاة والسلام بعد السجن وببني إسرائيل بعد الاستعباد،

ص: 137

وهو نعم المولى ونعم النصير! فليحذر الساكن بها من أن يغلب عليه طبعها فيتصف بكل ذلك من قلة الغيرة وبغض الغريب، والجرأة في الباطل استصناعاً ومداهنة، والجبن في الحق، وكمال الذل للجبارين، والمجمجة في الكلام، بأن لا يزال يتعهد نفسه بأوامر الله ويحملها على طاعته، واتباع رسوله ومحبته، والنظر في سيرته وسير أتباعه، والتعشق لذلك كله، حتى يصير له طبعاً يسلخه من طبع البلد، كما فعل عُبادها، وأهل الورع منها وزهادها - أعاذنا الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله أن يختم لنا بالصالحات، وأن يجعلنا من الذين لا خوف عليهم أبداً.

ذكر ما مضى بعدما تقدم من هذه القصة من التوراة: قال: فلما كان بعد سنتين رأى فرعون رؤيا كأنه واقف على شاطىء البحر، وكأن سبع بقرات صعدن من بحر النيل حسنات المنظر سمينات اللحوم، يرعين في المرج، وكأن سبع بقرات صعدن خلفهن من النيل قبيحات المنظر وحشيات مهزولات اللحوم، فوقفن إلى جانب البقرات السمان على شاطىء النهر، فابتلع البقرات القبيحات الحسنات المنظر السمينات،

ص: 138

فهب فرعون من سنته، ورقد أيضاً فرأى ثاني مرة كأن سبع سنبلات طلعن في قصبة واحدة ممتلئة سماناً، وكأن سبع سنبلات مهزولات ضربهن ريح السموم - وفي نسخة: القبول - نبتن بعدهن، فبلغ السنبل المهزول السبع سنبلات الممتلئات، فاستيقظ فرعون فآذته رؤياه، فلما كان بالغداة كربت نفس فرعون، فأرسل فدعا جميع السحرة وكل حكماء مصر، فقص عليهم رؤياه، فلم يوجد إنسان يفسرها لفرعون.

فتكلم رئيس أصحاب الشراب بين يدي فرعون وقال: إني ذكرت يومي هذا ذنبي عند غضب فرعون على عبده، فقذفني في محبس صاحب الشرطة، فحبست أنا ورئيس الخبازين - وفي نسخة: الطباخين - فرأينا جميعاً رؤيا في ليلة واحدة، رأى كل امرىء منا كتفسير رؤياه، وكان معنا هناك في الحبس فتى عبراني عند صاحب الشرطة فقصصنا عليه ففسر أحلامنا، وعبر لكل منا على قدر رؤياه، وكل الذي فسر لنا كذلك أصابنا، أما أنا فردني الملك إلى موضعي، وأما ذلك فأمر بصلبه.

ص: 139

فأرسل فرعون فدعا يوسف عليه الصلاة والسلام، فأحضروه من السجن، فحلق شعره وغير ثيابه، ودخل فوقف بين يدي فرعون، فقال فرعون ليوسف عليه الصلاة والسلام: إني رأيت رؤيا وليس لي من يفسرها، وقد بلغني عنك أنك تسمع الرؤيا فتفسرها بأحسن تأويل! فأجاب يوسف عليه الصلاة والسلام فقال لفرعون: ألعلك تخال أني أجيب فرعون بسلام عن غير أمر الله تعالى.

فقال فرعون ليوسف: إني رأيت في الرؤيا كأني واقف على شاطىء النهر، وكأن سبع بقرات طلعن من النهر حسنات المنظر سمينات اللحم، يرعين في المرج، وكأن سبع بقرات طلعن من النهر بعدهن سمجات قبيحات المنظر مهزولات اللحم جداً، لم أر على هزالها في جميع أرض مصر، فابتلعت البقرات المهزولات الضعيفات القبيحات أولئك السبع بقرات السمان، فدخلن أجوافهن، فلم يتبين دخولهن، وكأن منظرهن قبيحاً كالذي كان من قبل، فانتبهت فاضطجعت فرأيت أيضاً

ص: 140

في الرؤيا كأن سبع سنبلات حسنات في قصبة واحدة ممتلئة سماناً حساناً، وكأن سبع سنبلات مهزولات ضربهن ريح السموم نبتن خلفهن، فابتلع السنبل المهزول الضعيف السبع سنبلات الممتلئات الحسان، فقصصت ذلك على السحرة، فلم أجد من يبين.

فقال يوسف عليه الصلاة والسلام لفرعون: الرؤيا يا فرعون واحدة، أطلع الله فرعون على ما هو مزيع أن يفعله، السبع بقرات الحسان والسبع سنبلات الحسان هي سبع سنين: خير، الرؤيا واحدة، والسبع بقرات الضعيفات المهزولات اللاتي صعدان بعدهن والسبع سنبلات المهزولات اللاتي ضربها ريح السموم تكون سبع سنين: جوع، وهذا القول الذي قلت لفرعون.

إن الله أظهر ما هو مزمع عتيد أن يفعله، وها هذه سبع سنين يأتي الشبع والخصب العظيم جميع أرض مصر، ويأتي بعدها سبع سنين أخر يكون فيها الجوع، وينسى جميع الشبع، والخصب الذي كان في جميع أرض مصر، فيبيد أهل الأرض من الجوع من أجل الغم الذي يأتي من بعد لكثرته وشدته، وإنما أعيدت الرؤيا لفرعون ثاني مرة، لأن الأمر معد بين يدي الرب، والله معجل فعله.

ص: 141

والآن فلينظر فرعون رجلاً حكيماً فهماً. فيوليه أرض مصر، فيقاسم أهل مصر على الخمس في السبع السنين، فيجمعوا جميع أفقال هذه السنين الخصبة الآتية، ويخزنوا الأفقال تحت يدي فرعون، ويحفظ القمح في القرى، وليكن الفقل معداً محفوظاً لأهل مصر لسبع سني الجوع المزمع أن يكون في جميع أرض مصر، ولا يبيد أهل الأرض بالجوع.

فحسن هذا القول عند فرعون وعند عبيده، فقال فرعون لقواده: هل يوجد مثل هذا الرجل الذي روح الله حالّ فيه؟ ثم قال فرعون ليوسف عليه الصلاة والسلام: إذا أطلعك الله على هذا كله، ليس أحد فهما مثلك، أنت المسلط على بيتي، وعن أمرك وقولي فيك يقبل جميع الشعب، وإنما أنا أعظم منك بالمنبر فقط، وقال فرعون ليوسف: انظر فقد وليتك جميع أرض مصر، وخلع فرعون خاتمه

ص: 142

من خنصره، فوضعه في خنصر يوسف عليه الصلاة والسلام، وألبسه ثياب كتان، وطوقه بطوق من ذهب، وحمله على بعض مراكبه، ونادى بين يديه: هذا أب ومسلط، وسلطانه على جميع أرض مصر، ثم قال فرعون ليوسف عليه الصلاة والسلام: إني قد أمرت أن لا يكون أحد يشير بيديه أو يخطو بقدميه دون أمرك في جميع أرض مصر.

ودعا فرعون اسم يوسف: موضح الخفايا، وزوجه بأسنة - وفي نسخة: بأسنات - بنت قوطفيرع إمام إسكندرية - وفي نسخة: حبر وان - فخرج يوسف عليه السلام والياً على جميع أرض مصر، وكان قد أتى على يوسف ثلاثون سنة إذ وقف بين يدي فرعون، فطاف في جميع أرض مصر.

وأغلّت الأرض في جميع السبع سني الخصب، ملأ الخزائن وجمع الأقفال في القرى، جمع قمح حقول كل قرية وما أحاط بها فخزنة فيها، وخزن يوسف عليه الصلاة والسلام من الأقفال

ص: 143

مثل كثيب - وفي نسخة: رمل البحر - كثيراً جداً حتى أعيى إحصاء ذلك فصار غير محصى.

فولد ليوسف عليه الصلاة والسلام ابنان قبل دخول سنة الجوع، ولدت له أسنة - وفي نسخة: أسنات - نبت قوطيفرع حبر وان - وفي نسخة: إمام إسكندرية - فدعا يوسف عليه الصلاة والسلام اسم ابنه بكر منشا، لأنه قال: إن الله أنساني جميع تعبي - وفي نسخة: شقائي - وما كان منه في بيت أبي، وسمى الآخر أفراثيم، وقال: لأن الله كثرني في أرض تعبدي، فنفدت سنو الشبع الذي كان في أرض مصر، وبدأت سنو الجوع ليأتي كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام، فكان الجوع في جميع أرض مصر، ولم يوجد الخبز في جميع أرض مصر، فجاع جميع أهل مصر، فضج الشعب على فرعون من أجل الخبز، فقال فرعون لجميع المصريين: انطلقوا إلى يوسف

ص: 144

عليه السلام فافعلوا جميع ما يأمركم به.

ص: 145

ولما كان المعنى - كما تقدم: فجعل إليه خزائن الأرض، فجاءت السنون المخصبة، فدبرها بما علمه الله، ثم جاءت السنون المجدبة فأجدبت جميع أرض مصر وما والاها من بلاد الشام وغيرها، فأخرج ما كان ادخره من غلال سبع سنين بالتدريج أولاً فأولاً - كما حد له {العليم الحكيم} فتسامع به الناس فجاؤوا للامتيار منه من كل أوب {وجاء إخوة يوسف} العشرة لذلك، وحلف أبوهم بنيامين أخا يوسف عليه السلام لأمه عنده، ودل على تسهيله إذنهم بالفاء فقال:{فدخلوا عليه} أي لأنه كان يباشر الأمور بنفسه كما هو فعل الكفاة الحزمة، لا يثق فيه بغيره {فعرفهم} لأنه كان مرتقباً لحضورهم لعلمه بجدب بلادهم وعقد همته بهم. مع كونه يعرف هيئاتهم في لباسهم وغيره، ولم يتغير عليه كبير من حالهم. لمفارقته إياهم رجالاً {وهم له منكرون *} ثابت إنكارهم عريق فيهم وصفهم به، لعدم خطوره ببالهم لطول العهد، مع ما تغير عليهم من هيئته بالسن وانضاف إليه من الحشم والخدم واللباس وهيئة البلد وهيبة الملك

ص: 145

وعز السلطان، وغير ذلك مما ينكر معه المعروف، ويستوحش لأجله من المألوف، وفق ما قال تعالى {لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} [يوسف: 15] والدخول: الانتقال إلى محيط، والمعرفة: تبين الشيء بالقلب بما لو شوهد لفرق بينه وبين غيره مما ليس على خاص صفته.

ولما كان المعنى في قوة أن يقال: فطلبوا منه الميرة فباعهم بعد أن استخبرهم عن أمرهم، وقال لهم: لعلكم جواسيس؟ وسألهم عن جميع حالهم. فأخبروه بأبيهم وأخيهم منه، ليعلم صلاحهم ولا يظن أنهم جواسيس، عطف عليه قوله:{ولما جهزهم} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {بجهازهم} الذي جاؤوا له وقد أحسن إليهم؛ والجهاز: فاخر المتاع الذي يحمل من بلد إلى بلد {قال} أي لهم {ائتوني} أيها العصابة {بأخ لكم} كائن {من أبيكم} يأتي برسالة من أبيكم الرجل الصالح حتى أصدقكم، أو أنهم طلبوا منه لأخيهم حملاً، فأظهر أنه لم يصدقهم، وطلب إحضاره ليعطيه، فإنه كان يوزع الطعام على قدر الكفاية؛ ثم رغبهم بإطماعهم في مثل ما فعل بهم من الإحسان، وكان قد أحسن نزلهم، فقال مقرراً لهم بما رأوا منه:

ص: 146

{ألا ترون} أي تعلمون علماً هو كالرؤية {أني أوفي الكيل} أي أتمه دائماً على ما يوجبه الحق {وأنا خير المنزلين *} أضع الشيء في أولى منازله.

ولما رغبهم، رهبهم فقال:{فإن لم تأتوني به} أي بأخيكم أول قدمة تقدمونها {فلا كيل لكم} وعرفهم أنه لا يمنعهم من غيره فقال: {عندي ولا تقربون *} ومع ذلك فلم يخطر ببالهم أنه يوسف، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قالوا سنراود} أي بوعد لا خلف فيه حين نصل {عن أباه} أي نكلمه فيه وننازعه الكلام ونحتال عليه فيه، ونتلطف في ذلك، ولا ندع جهداً؛ ثم أكدوا ذلك - بعد الجملة الفعلية المصدرة بالسين - بالجملة الاسمية المؤكدة بحرفي التأكيد، فقالوا:{وإنا لفاعلون *} أي ما أمرتنا به والتزامناه، وقد مضى عند {وراودته} أن المادة - يائية وواوية بهمز وبغير همز - تدور على الدوران، ومن لوازمه القصد والإقبال والإدبار والرفق والمهلة، وقد مضى بيان غير المهموز، وأما المهموز فمنه درأه، أي دفعه - لأن المدفوع يرد إلى الموضع الذي أتى منه، والمدارأة: المدافعة والمنازعة مطلقاً، أي سواء كانت برفق أو بعنف، ثم كثرت فقصرت

ص: 147

على الملاينة، ويلزم من الدفع حلول المدفوع في موضع لا يريده بغتة، ومنه: درأ علينا، أي خرج مفاجأة، قال القزاز: وأصله من قولهم: جاء السيل درأ، أي يدرأ بعضه بعضاً، وهو الذي يأتي من مكان لا يعلم به، واندرأ فلان علينا بالشر - إذا أتى به من حيث لم ندر، والدرء: النشوز، وهو من الدفع، وكوكب دريء: متوقد متلألىء - كان نوره يدفع بعضه بعضاً، ومنه درأت النار: أضاءت، واندرأ الحريق: انتشر، ودرأ الشيء: بسطه - لأن المبسوط لا يخلو عن دفع، وتدارؤوا: تدافعوا في الخصومة.

ودرأ البعير: أغد، ومع الغدة ورم في ظهره، وناقة دارىء: مغدة، وذلك لأن الغدة ملزومة للدفع، لا تنفك عنه بالقتب والركب وغيرهما، وكل ناتىء في الجسد هذا شأنه، ومنه الدرء: لقطعة من الجبل مشرقة، وناقة مدرىء: أنزلت اللبن وأرخت ضرعها عند النتاج - كأنها دفعتهما، وادرأت

ص: 148

الصيد - على «افتعلت» : اتخذت له دريئة، وقد تقدمت «الدرية» في الواوي، ومنه: ادرأت فلاناً - ذا اعتمدته، والدرء: الميل والعوج - لأنه أهل لأن يدفع ليقوم، وطريق ذو دروء، أي كور وأخاقيق أي شقوق - فكأنها تدفع صاحبها عن القصد، وتدرؤوا عليهم: تطاولوا - لأن ذلك لا يخلو عن مدافعة كالنشوز، ويلزم الدفع القوة، ومنه رجل ذو تدرا، أي منعه وقوة، ورادته بكذا - بتقديم الراء: جعلته قوة له وعماداً يدافع عنه، والردء: العون والمادة والعدل الثقيل - لأنه يدافع ليعتدل، وردأ الحائط: دعمه، وردأه بحجر: رماه به، لأنه إذا أصابه دفعه، والإبل: أحسن القيام عليها، لأن ذلك لا يكون إلا بمدافعة، وأردأ الستر: أرخاه، بدفعه له من المكان الذي كان به، وأردأ الولد: سكنه وأنسه، فدفع الهم عنه، وأردأ الشيء: أقره - كأنه لسلب الدفع،

ص: 149

وكذا أردأه أي أفسده، إما بأنه لم يدافعه بإحسان القيام عليه فأفسده، أو أنه زاد في الدفع حتى فسد، ومن ذلك أردأ - إذا فعل رديئاً، أي فعلا فاسداً ليس بجيد، وكأن من ذلك الأدرة - بالضم ساكنة وتحرك - وهي عظم الخصيتين في الناس والخيل؛ ومن التدافع: ترأدت الحية: اهتزت في انسيابها ورفعت رأسها، والريح: اضطربت - فكأن بعضها يدفع بعضاً، ومنه رأد الضحى: ارتفاعه، وترأد الضحى: ارتفع، وكذلك الجارية الرأدة والرؤد - بالضم، أي الناعمة، وقال القزاز: السريعة الشباب مع حسن غذاء، وقال ابن دريد: جارية رأدة - غير مهموز: كثيرة المجيء والذهاب، فإذا قلت: جارية رؤدة فهي الناعمة.

فإذا فسرت بالذهاب والمجيء فهو من الدوران الذي هو المدار، وإذا فسرت بالناعمة فهو من الاضطراب اللازم له، وغصن رؤد - بالضم: رطب - من ذلك، قال القزاز: وأحسب الجارية الناعمة إنما سميت رؤداً من هذا، وترأد: اهتز نعمة، وزيد: قام فأخذته رعدة، والغصن: تفيأ، والعنق: التوى - كله

ص: 150

من الدوران وما يلزمه من الاضطراب، ورئد الإنسان: صديقه، لأنه يراوده ويداوره، والرأدة: أصل اللحى، وهو أصول منبت الأسنان، وهو العظم الذي يدور فيه طرفا اللحيين مما يلي الصدغين؛ ومن الرفق والمهلة: الرؤدة - بالضم، وهي التؤدة.

ولما أعلمنا سبحانه أنه رغبهم في شأن أخيه، ورهبهم بالقول، أعلمنا بأنه رغبهم فيه بالفعل، فقال عاطفاً على قوله الماضي لهم:{وقال} أي يوسف عليه الصلاة والسلام شفقة على إخوته وإرادة لنصحهم فيما سألهم فيه: {لفتيانه} أي غلمانه، وأصل الفتى: الشاب القوي، وسيأتي شرحه عند قوله تعالى:{تفتؤا تذكر يوسف} {اجعلوا بضاعتهم} أي ما بضعوه أي قطعوه من مالهم للتجارة وأخذناه منهم ثمناً لطعامهم الذي دفعناه لهم {في رحالهم} أي عدولهم؛ والرحل: ما أعد للرحيل من وعاء أو مركب {لعلهم يعرفونها} أي بضاعتهم؛ وعبر بأداة التحقق تفاؤلاً لهم بالسلامة، أو ظناً، أو علماً بالوحي، فقال:{إذا انقلبوا} راجعين {إلى أهلهم} أي يعرفون أنها هي بعينها، رددتها

ص: 151

عليهم إحساناً إليهم، ويجزمون بذلك، ولا يظنون أن الله أخلف عليهم مثلها نظراً إلى حالهم وكرامة لأبيهم، ويعرفون هذه النعمة لي {ولعلهم يرجعون *} أي ليكون حالهم وحال من يرجع إلينا إذا عرفوها، لردها تورعاً، أو للميرة بها إن لم يكن عندهم غيرها، أو طمعاً في مثل هذا، وإنما لم يبادر إلى تعريفهم بنفسه والتعجيل بإدخال السرور على أبيه، لأن ذلك غير ممكن عادة - لما يأتي من الحكم البالغة والتدبير المتين، ودل على إسراعهم في الرجوع بالفاء فقال:{فلما رجعوا} أي إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام {إلى أبيهم} حملهم ما رأوا - من إحسان الصديق وحاجتهم إليه وتبرئتهم لأنفسهم عن أن يكونوا جواسيس - على أن {قالوا ياأبانا} .

ولما كان المضار لهم مطلق المنع، بنوا للمفعول قولهم:{منع منا الكيل} لأخينا بنيامين على بعيره لغيبته، ولنا كلنا بعد هذه المرة إن لم نذهب به معنا ليظهر صدقنا؛ والمنع: إيجاد ما يتعذر به على القادر الفعل.

وضده: التسليط، وأما العجز فضده القدرة {فأرسل} أي بسبب إزالة هذا المنع {معنا أخانا} إنك إن ترسله معنا {نكتل} أي لنفسه كما يكتال كل واحد منا لنفسه - هذا على قراءة حمزة والكسائي

ص: 152

بالتحانية، ولنؤوله على قراءة الجماعة بالنون - من الميرة ما وظفه العزيز، وهو لكل واحد حمل، وأكدوا لما تقدم من فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام مما يوجب الارتياب بهم، فقالوا:{وإنا له} أي خاصة {لحافظون *} أي عن أن يناله مكروه حتى نرده إليك، عريقون في هذا الوصف، فكأنه قيل: ما فعل في هذا بعد ما فعلوا إذ أرسل معهم يوسف عليه الصلاة والسلام؟ قيل: عزم على إرساله معهم، ولكنه أظهر اللجاء إلى الله تعالى في أمره غير قانع بوعدهم المؤكد في حفظه، لما سبق منهم من مثله في يوسف عليه الصلاة والسلام بأن {قال هل آمنكم} أي أقبل منكم الآن وفي مستقبل الزمان تأمينكم لي فيه مما يسوءني تأميناً مستعلياً {عليه} أي بنيامين {إلا كما آمنتكم} أي في الماضي {على أخيه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام.

ولما كان لم يطلع يوسف عليه الصلاة والسلام على خيانة قبل ما فعلوا به، وكان ائتمانه لهم عليه إنما هو زمان يسير، أثبت الجار فقال:{من قبل} فإنكم أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردوه إليّ - والأمن: اطمئنان القلب إلى سلامة النفس - فأنا في هذا لا آمن عليه إلا الله {فالله} أي المحيط علماً وقدرة {خير حافظاً} منكم ومن كل أحد {وهو} أي باطناً وظاهراً {أرحم الراحمين *}

ص: 153

فهو أرحم بي من أن يفجعني به بعد مصيبتي بأخيه؛ فأرادوا تفريغ ما قدموا به من الميرة {ولما فتحوا} أي أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام {متاعهم} أي أوعيتهم التي حملوها من مصر {وجدوا بضاعتهم} أي ما كان معهم من كنعان بشراء القوت.

ولما كان المفرح مطلق الرد. بنى للمفعول قوله: {ردت إليهم} والوجدان: ظهور الشيء للنفس بحاسة أو ما يغني عنها، فكأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا} أي لأبيهم {ياأبانا ما} أي أي شيء {نبغي} أي نريد، فكأنه قال لهم: ما الخبر؟ فقالوا بياناً لذلك وتأكيداً للسؤال في استصحاب أخيهم: {هذه بضاعتنا} ثم بينوا مضمون الإشارة بقولهم: {ردت إلينا} هل فوق هذا من إكرام.

ولما كان التقدير: فنرجع بها إليه بأخينا، فيظهر له نصحنا وصدقنا، بنى عليه قوله:{ونمير أهلنا} أي نجلب إليهم الميرة برجوعنا إليه؛ والميرة: الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد {ونحفظ أخانا} فلا يصيبه شيء مما يخشى عليه، تأكيداً للوعد بحفظه وبياناً لعدم ضرر في سفره، ويدل على ما في التوراة - من أنه كان سجن أحدهم ليأتوا بأخيهم الأصغر - قوله:{ونزداد كيل بعير} أي فيكون جملة ما نأتي به

ص: 154

بعد الرجوع إليه اثني عشر حملاً، لكل منا حمل، وللمسجون حملان - لكرّته الأولى والثانية، وذلك أنه كان لا يعطي إلا حملاً لكل رأس، فكأنه ما أعطاهم لما جهزهم غير تسعة أحمال، فكأنه قيل: وهل يجيبكم إلى ذلك في هذه الأزمة؟ فقالوا: نعم، لأن {ذلك كيل يسير *} بالنسبة إلى ما رأينا من كرم شمائله وضخامه ملكه وفخامة همته، فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل: {قال} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام {لن أرسله} أي بنيامين كائناً {معكم} أي في وقت من الأوقات {حتى تؤتون} من الإيتاء وهو الإعطاء، أي إيصال الشيء إلى الأخذ {موثقاً} وهو العقد المؤكد.

ولما كان مراده موثقاً ربانياً، وكان الموثق الرباني - وهو ما كان بأسمائه تعالى لكونه أذن سبحانه فيه وأمر بالوثوق به - كأنه منه، قال:{من الله} أي الملك الأعظم بأيمان عظيمة: والله {لتأتنَّني} كلكم {به} من الإيتان، وهو المجيء في كل حال {إلا} في حال {أي يحاط} أي تحصل الإحاطة بمصيبة من المصائب، لا طاقة لكم بها {بكم} فتهلكوا من عند آخركم، كل ذلك زيادة في التوثيق، لما حصل له من المصيبة بيوسف عليه الصلاة والسلام وإن كان الاعتماد في حفظه إنما هو على الله، وهذا من باب «اعقلها وتوكل» فأجابوه إلى

ص: 155

جميع ما سأل {فلما آتوه} أي أعطاه بنوه {موثقهم قال الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {على ما نقول وكيل *} هو القادر على الوفاء به المرجو للتصرف فيه بالغبطة، لا أنتم.

ص: 156

ولما سمح لهم بخروجه معهم، أتبع تعالى ذلك الخبر عن أمره لهم بالاحتياط من المصائب لأنهم أحد عشر رجلاً إخوة أهل جمال وبسطة، وكانوا قد شهروا عند المصريين بعض الشهرة، بسبب ما دار بينهم وبين يوسف عليه الصلاة والسلام من الكلام في المرة الأولى، فكانوا مظنة لأن ترمقهم الأبصار ويشار إليهم بالأصابع، فيصابوا بالعين، ولم يوصهم في المرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين، مع شغل الناس بما هم فيه من القحط، فقال حكاية عنه:{وقال} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه عندما أرادوا السفر: {يابني} محذراً لهم من شر الحسد والعين - {لا تدخلوا} إذا قدمتم إلى مصر {من باب واحد} من أبوابها؛ والواحد على الإطلاق: الذي لا ينقسم، وأما المقيد بإجرائه على موصوف كباب واحد، فهو ما لا ينقسم في معنى ذلك الموصوف {وادخلوا من أبواب} واحترز من أن

ص: 156

تكون متلاصقة أو متقاربة جداً، فقال:{متفرقة} أي تفرقاً كبيراً، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين - كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة والضحاك والسدي، فإن العين حق، وهي من قدر الله، وقد ورد شرعنا بذلك، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «العين حق» وفي رواية عند أحمد وابن ماجه:«يحضرها الشيطان وحسد بن آدم» ولمسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق، ولو شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» ولأبي نعيم في الحلية عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال: «إن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر» ولأبي داود عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإنما لتدرك الفارس فتدعثره»

ص: 157

ولأحمد والترمذي عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» قال الإمام الرازي: ومنشأ إصابة العين توهم النفس الخبيثة هلاك من تصيبه. وقد تقدم معنى ذلك في رواية أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مع انضمام حضور الشيطان، وهذا الاحتياط من باب الأخذ بالأسباب المأمور بها، لأنها من القدر، لا من من باب التحرز من القدر، كما روى مسلم وأحمد وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن» لو «تفتح عمل الشيطان»

معناه - والله أعلم: افعل فعل الأقوياء، ولا تفعل فعل العجزة، وذلك بأن تنعم النظر، تمعن في التأمل وتتأنى، حتى تعلم المصادر والموارد، فلا تدع شيئاً يحتمل أن ينفعك في الأمر الذي أنت مقبل

ص: 158

عليه ولا يضرك إلا فعلته، ولا تدع أمراً يمكن أن يضرك إلا تركته واحترزت منه جهدك، فإنك إذا فعلت ذلك وأتى أمر من عند الله بخلاف مرادك كنت جديراً بأن لا تقول في نفسك: لو أني فعلت كذا، فإنك لم تترك شيئاً، وأما إذا فعلت فعل العجزة، وتركت الجزم فما أوشك أن تؤتى من قبل ترك الأسباب، فما أقربك إلى أن تقول ما يفتح عمل الشيطان من «لو» .

ولما خاف أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أن الحذر يغني من القدر، نفى ذلك مبيناً أنه لم يقصد غير تعاطي الأسباب على ما أمر الله وأن الأمر بعد ذلك إليه: إن شاء سبب عن الأسباب مسبباتها، وإن شاء أبطل تلك الأسباب وأقام أسباباً تضادها ويتأثر عنها المحذور، فقال:{وما أغني} أي أجزي وأسد وأنوب {عنكم من الله} أي بعض أمر الملك الأعظم، وعمم النفي فقال:{من شيء} أي إن أراد بكم، سواء كنتم مفترقين أو مجتمعين، وهذا حكم التقدير، ثم علل ذلك بقوله:{إن} أي ما {الحكم} وهو

ص: 159

فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة {إلا الله} أي الذي له الأمر كله، لا يقدر أحد سواه على التفصي عن شيء من مراده والفرار من شيء من قدره، ولهذا المعنى - وهو أنه لا ينفع أصلاً سبب إلا بالله - أنزل الله التسمية مقرونة بهاء السبب أول كتابه، وأمر بها أول كل شيء؛ وروى أبو نعيم في الحلية في ترجمة إمامنا الشافعي بسنده إليه ثم إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس يوماً فقال في خطبته: وأعجب ما في الإنسان قلبه، ولو مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع. وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر. وكل إفراط له مفسد. قال: فقام إليه رجل ممن كان شهد معه الجمل، فقال:

ص: 160

يا أمير المؤمنين؟ أخبرنا عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر، فقال بيت مظلم فلا تدخله، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر، فقال: سر الله فلا تتكلفه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر، فقال: أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين، لا جبر ولا تفويض، فقال: يا أمير المؤمنين! إن فلاناً يقول بالاستطاعة وهو حاضرك، فقال: عليّ به! فأقاموه، فلما رآه سل من سيفه قدر أربع أصابع فقال: الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله؟ وإياك أن تقول أحدهما فترتد فأضرب عنقك! فقال: فما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: قل: أملكها بالله الذي إن شاء ملكنيها.

وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الحج عند {إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 18] ما يتصل بهذا.

ولما قصر الأمر كله عليه سبحانه، وجب رد كل أمر إليه، وقصر النظر عليه، فقال منبهاً على ذلك:{عليه} أي على الله وحده الذي ليس الحكم

ص: 161

إلا له {توكلت} أي جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعله {وعليه} أي وحده {فليتوكل المتوكلون *} أي الثابتون في باب التوكل، فإن ذلك من أعظم الواجبات، من فعله فاز، ومن أغفله خاب، ثم إنه سبحانه صدق يعقوب فيما قال، مؤكداً لما أشار إلى اعتقاده، فقال:{ولما} وعطفه بالواو يدل على أنهم ما أسرعوا الكرة في هذه المرة خوفاً من أن يقول لهم: لم يفرغ ما عندكم حتى تضطروا إلى الاستبدال به، والزمان زمان رفق، لا زمان تبسط {دخلوا} أي أخوة يوسف عليه الصلاة والسلام عند وصولهم إلى مصر {من حيث أمرهم} أي به {أبوهم} من أبواب متفرقة، قالوا: وكان لمصر أربعة أبواب {ما كان} ذلك الدخول {يغني} أي يدفع ويجزي {عنهم من الله} أي الملك الأعلى الذي لاراد لأمره، وأعرق في النفي فقال:{من شيء} كما تقدم من قول يعقوب عليه الصلاة والسلام {إلا حاجة} أي شيئاً غير أتم حاجة {في نفس يعقوب} وهو الدخول على ما أمر به شفقة عليهم {قضاها} يعقوب، وأبرزها من نفسه إلى أولاده، فعملوا فيها بمراده فأغنى عنهم ذلك الإخلاص من عقوق أبيهم فقط، فإنهم ابتلوا في هذه السفرة بأمر عظيم لم يجدوا منه خلاصاً، وهو نسبهم إلى السرقة، وأسر أخيهم منهم، قال أبو حيان: وفيه حجة لمن زعم أن «لما» حرف وجوب لوجوب، لا ظرف زمان بمعنى «حين» ، إذا

ص: 162

لو كان ظرف زمان ما جاز أن يكون معمولاً لما «بعد» ما النافية - انتهى.

ولما كان ذلك ربما أوهم أنه لا فائدة في الاحيتاط، أشار تعالى إلى رده بمدح يعقوب عليه الصلاة والسلام، حثاً على الاقتداء به في التسبب مع اعتقاده أن الأمر بيد الله فقال:{وإنه} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام مع أمره لبنيه بذلك {لذو علم} أي معرفة بالحكمين: حكم التكليف، وحكم التقدير، واطلاع على الكونين عظيم {لما} أي للذي {علمناه} إياه من أصول الدين وفروعه، ويجوز أن يكون المعنى: لذو علم لأجل تعليمنا أياه.

فاقتدوا به في الاحتياط في تعاطي الأسباب، مع اعتقاد أنه لا أثر لها إلا أن أمضاها الواحد القهار، فبهذا التقدير يتبين أن الاستثناء متصل، وفائدة إبرازه - في صورة الأستثناء عند من جعله منقطعاً - الإشارة إلى تعظيم يعقوب عليه الصلاة والسلام، وأنه جدير بأن يكون ما يأمر به مغنياً، لأنه من أمر الله، فلو كان كل شيء يغني من قدر الله لأغنى ما أشار به، وإنما فسرت «يغنى» ب «يدفع» لأن مادة «غنى» - بأي ترتيب كان - تدور على الإقامة، فيكون أغنى للسلب، وهو معنى للدفع، بيانه أن غنى بمعنى أقام، وعاش، ولقي، ومغنى الدار: موضع الحلول، ويلزم من الإقامة الكفاية والتمول،

ص: 163

لأن الفقير منزعج مضطرب، والغني - كإلى: التزوج، وإذا فتح مد، والاسم الغنية - بالضم، وذلك لأن التزوج لازم الإقامة، والغانية: المرأة تُطلَب ولا تَطلُب، أو الغنية بحسنها عن الزينة، أو الشابة المتزوجة، أو الشابة العفيفة ذات زوج كانت أم لا، ومثلها يلزم المنزل ويقصر في الخيام، وأغنى عنه غناء فلان: ناب عنه منابه وأجزأ مجزأه، وحقيقته جعل إقامة كذا متجاوزة عنه، فالمفعول محذوف، فإذا قال مثلاً: فلان أغنى عني في الحرب، كان المعنى: أغنى عني ضرب الأبطال أو شدة الحرب، أي أزال إقامة ذلك عني فجعله متجاوزاً، ولا شك أن معنى ذلك: دفعه عني، وكذا كل ما كان من ذلك، وما فيه غناء ذاك، أي إقامته والاضطلاع به، ويلزم أيضاً - من الإقامة التي هي المدار والكفاية التي هي سببها - الغناءُ - بالكسر والمد، وهو التطريب بالصوت، والغناء أيضاً: الرمل - لإقامته، وغنى بالمرأة: تغزل، أي نظم فيها الغزل، وغنى بزيد: مدحه أو هجاه - من لوازم الإقامة والكفاية، ومنه غنى الحمام: صوت؛ ونغى - كرمى: تكلم

ص: 164

بكلام يفهم - لأن ذلك يسكن الخاطر عن القلق، ومنه المناغاة - وهي تكليم الصبي بما يهوى، ونغيت إليه نغية، أي ألقيت إليه كلمة، والنغية - كالنغمة: أول الخبر قبل أن تستثبته، من تسمية الجزء باسم الكل، وناغاه: داناه، ومنه الموج يناغي السماء - إذا ارتفع، وناغاه: باراه أي عارضه، والمرأة: غازلها، أي حادثها - كل ذلك من لوازم الإقامة؛ والغين: حرف هجاء مجهور مستعل - كأنها لقوتها مقيمة في مخرجها غير متزعزعة عنه كالراء والحروف الهوائية وغيرها، والغين: العطش - لأنه الأصل لاقتضاء الحرارة له والريّ حادث، والغين: الغيم - لإقامته في الهواء، والغينة: أرض - لأنها موضع الإقامة، والأشجار الملتفة بلا ماء، هي أيضاً موضع لذلك، لأنها ظليلة ولا ماء بأرضها يمنع من الانتفاع بشيء من ظلها، والغيناء: الخضراء من الشجر، وبئر، وبالقصر: قنة ثبير من الأثبرة السبعة - لأن ذلك كله موضع

ص: 165

للإقامة، ولعل قنة هذا الجبل كثيرة الشجر فترجع إلى الشجرة، والأغين: الطويل - إما تشبيه بقنة الجبل، أو بالشجرة، والغانة: حلقة رأس الوتر في القوس، وغين على قلبه: غطى عليه أي أقام عليه ساتراً له فصار كالسماء بالنسبة إلى الغيم، ومنه غين عليه - إذا تغشته الشهوة وألبس أو غشي عليه، أو أحاط به الرين وهو الطبع والدنس، والغينة - بالكسر: الصديد وما سل من الميت - كأنه من سلب الإقامة، وكذا الغين بالكسر - لموضع كثير الحمى، وغانت نفسي تغين: غثت، والإبل: غامت، أي حصل لها داء كالقلاب غير أنه لا يقتل - انتهى.

ولما كان قد يظن أن كل أحد يكون كذلك، أي يعلم ما علمه، نفى ذلك سبحانه بقوله:{ولكن أكثر الناس} أي لأجل ما لهم من الاضطراب {لا يعلمون *} أي ليسوا بذوي علم لما علمناهم لإعراضهم عنه واستفرغ قواهم في الاهتمام بما وقع

ص: 166

التكفل لهم به من أحوال الدنيا، ومغالبة فطرهم القويمة السليمة بردها إلى ما تدعو إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون فيها طب مخلوق.

ص: 167

ولما أخبر تعالى عن دخولهم إلى البلد، أخبر عن دخولهم لحاجتهم إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقاتل:{ولما دخلوا} أي بنوه عليه الصلاة والسلام {على يوسف} في هذه القدمة الثانية {آوى إليه أخاه} شقيقه بنيامين بعد أن قالوا له: هذا أخونا الذي أمرتنا به قد أحضرناه، فقال: أصبتم، وستجدون ذلك عندي؛ والإيواء: ضم النفس بالتصيير إلى موضع الراحة، وسبب إيوائه إليه أنه أمر كل اثنين منهم أن يأكلوا على حدة، فبقي بنيامين بلا ثان، فقال: هذا يأكل معي، ثم قال ليا: وكل اثنين منكم في بيت من خمسة أبيات أفردها لهم، وهذا الوحيد يكون معي في بيتي، وهذا التفريق موافق لما أمرهم به أبوهم في تفريق الدخول، فكأنه قيل: ماذا قال له، هل أعلمه بنفسه أو كتم ذلك عنه كما فعل بسائر إخوته؟ فقيل: بل {قال} معلماً له، لأنه لا سبب يقتضي الكتم عنه - كما سيأتي بيانه، مؤكداً لما للأخ من إنكاره لطول غيبته وتغير أحواله وقطع

ص: 167

الرجاء منه: {إني أنا أخوك} يوسف: ثم سبب عن ذلك قوله: {فلا تبتئس} أي تجتلب البؤس. وهو الكراهة والحزن {بما كانوا} أي سائر الإخوة، كوناً هم راسخون فيه {يعملون *} مما يسوءنا وإن زعموا أنهم بنوا ذلك العمل على علم، وقد جمعنا له خير ما يكون عليه الاجتماع، ولا تعلمهم بشيء من ذلك، ثم إنه ملأ لهم أوعيتهم كما أرادوا. وكأنه في المرة الأولى أيضاً في تجهيزهم ليتعرف أخبارهم في طول المدة من حيث لا يشعرون، ولذلك لم يعطف بالفاء، وأسرع في تجهيزهم في هذه المرة قصداً إلى انفراده بأخيه من غير رقيب بالحيلة التي دبرها. فلذلك أتت الفاء في قوله:{فلما جهزهم} أي أعجل جهاز وأحسنه {بجهازهم} ويؤيده {فلما جاء أمرنا} [هود: 66 و82] في قصتي صالح ولوط عليهما الصلاة والسلام - كما مضى في سورة هود عليه الصلاة والسلام {جعل} أي بنفسه أو بمن أمره {السقاية} التي له. وهي إناء يسقي به {في رحل أخيه} شقيقه، ليحتال بذلك على إبقائه عنده مع علمه بأن البصير لا يقضي بسرقته بذلك، مع احتمال أن يكون الصواع دس في رحله بغير علمه كما فعل ببضاعتهم في المرة الأولى، وأما غير البصير فضرر ثبوت ذلك في ذهنه مفتقر لأنه يسير بالنسبة إلى ما يترتب

ص: 168

عليه من النفع من ألف إخوته بيوسف عليه الصلاة والسلام وزوال وحشتهم منه بإقامته عنده - كما سيأتي مع مزيد بيان - هذا مع تحقق البراءة عن قرب، فهو من باب ارتكاب أخف الضررين، ثم أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أرسل إليهم فحبسوا {ثم} أي بعد انطلاقهم وإمعانهم في السير {أذن} أي أعلم فيهم بالنداء {مؤذن} قائلاً برفيع صوته وإن كانوا في غاية القرب منه - بما يدل عليه إسقاط الأداة:{أيتها العير} أي أهلها، وأكد لما لهم من الإنكار {إنكم لسارقون *} أي ثابت لكم ذلك لا محالة حقيقة بما فعلتم في حق يوسف عليه الصلاة والسلام، أو مجازاً بأنكم فاعلون فعل السارق - كما سيأتي بيانه آنفاً، مع أن هذا النداء ليس من قول يوسف عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن لا يكون بأمره حتى يحتاج إلى تصحيحه، بل يكون قائله فهم ذلك من قوله عليه السلام: صواعي مع الركب، أو كأنهم أخذوا صواعي فاذهب فآتني به أو بهم - ونحو ذلك مما هو حق في نفسه؛ والعير: القافلة التي فيها الأحمال، والأصل فيها الحمير، ثم كثر حتى أطلق على كل قافلة تشبيهاً بها، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه التلطف في بلوغ المراد من إيقاع الأسباب التي تؤدي إليه وتبعث عليه بظاهر جميل وباطن حق مما يخفى على كثير من الناس موقعه، ويشكل عليه وجهه، لأنه أنفذ له وأنجح للمطلوب منه،

ص: 169

فكأنه قيل: إن هذه لتهمة عظيمة، فما قالوا في جوابها؟ فقيل:{قالوا} في جواب الذين لحقوهم {و} الحال أن آل إسرائيل {أقبلوا} ودل - على أن الذين لحقوهم كانوا جماعة المؤذن أحدهم، كما كما هو شأن ذوي الرئاسة إذا أرسلوا في مهم - بالجمع في قوله:{عليهم} أي على جماعة الملك: المنادي وغيره {ماذا تفقدون *} مما يمكننا أخذه {قالوا نفقد} وكأن السقاية كان لها اسمان، فعبروا هنا بقولهم:{صواع الملك} والصواع: الجام يشرب فيه {ولمن جاء به} أي أظهره ورده من غير تفتيش ولا عناء {حمل بعير} وهو بالكسر: قدر من المتاع مهيأ لأن يحمل على الظهر، وأما الحمل في البطن فبالفتح {وأنا به زعيم *} أي ضامن وكفيل أوديه إليه، وإفراد الضمير تارة وجمعه أخرى دليل على أن القاتل واحد، وأنه نسب إلى الكل لرضاهم به، وفي الآية البيان عما يوجبه حال بهت الإنسان للتثبت في الأمر وترك الإسراع إلى ما لا يجوز من القول، فكأنه قيل: فما قال إخوة يوسف؟ قيل: {قالوا} قول البريء {تالله} أي الملك اوعظم فأقسموا قسماً مقروناً بالتاء، لأنها يكون فيها التعجب غالباً، قال الرماني: لأنها لما كانت نادرة في أدوات القسم جعلت للنادر من المعاني، والنادر من المعاني يتعجب منه، وقال: إنها بدل من الواو،

ص: 170

والواو بدل من الباء، فهي بدل من بدل، فلذلك ضعفت عن التصريف في سائر الأسماء، ثم أكدوا براءتهم بقولهم:{لقد علمتم} أي بما جربتم من أمانتنا قبل هذا في كرتي مجيئنا {ما جئنا} وأكدوا النفي باللام فقالوا: {لنفسد} أي نوقع الفساد {في الأرض و} لقد علمتم {ما كنا} أي بوجه من الوجوه {سارقين *} أي موصوفين بهذا الوصف قط، بما رأيتم من أحوالنا: من ردنا بضاعتنا التي وجدناها في رحالنا وغير ذلك مما عاينتم من شرف فعالنا مع علمنا بأنها خَلق لنا لا تصنّع يظهر لبعض الأذكياء بأدنى تأمل، فكأنه قيل: فما قال الذين من جهة العزيز؟ قيل: {قالوا} قول واثق بأنه في رحالهم: {فما جزاؤه} أي الصواع {إن كنتم كاذبين *} في تبرئكم من السرقة؛ والجزاء: مقابلة العمل بما يستحق عليه من خير أو شر {قالوا} وثوقاً منهم بالبراءة وإخباراً بالحكم عندهم {جزاؤه} أي الصواع {من} .

ولما كان العبرة بنفس الوجدان، بنوا للمفعول قولهم:{وجد في رحله} ولتحققهم البراءة علقوا الحكم على مجرد الوجدان لا السرقة؛ ثم أكدوا ذلك بقولهم: {فهو جزاءه} أي ليس غير،

ص: 171

فكأنه قيل: هل هذا أمر أحدثتموه الآن أو هو مشروع لكم؟ فقالوا: {كذلك} أي بل هو سنة لنا، مثل ذلك الجزاء الشديد {نجزي الظالمين *} أي بالظلم دائماً، نرقّه في سرقته؛ فحينئذ فتش أوعيتهم {فبدأ} أي فتسبب عن ذلك أنه بدأ المؤذن أو غيره ممن أمر بذلك {بأوعيتهم} .

ولما لم يكن - بين فتح أوعيتهم وفتح وعاء أخيه - فاصل يعد فاصلاً، فكانت بداءته بأوعيتهم مستغرقة لما بينهما من الزمان، لم يأت بجار، فقال {قبل وعاء أخيه} أي أخي يوسف عليه الصلاة والسلام شقيقه، إبعاداً عن التهمة {ثم} أي بعد تفتيش أوعيتهم والتأني في ذلك {استخرجها} أي أوجد إخراج السقاية التي تقدم أنه جعلها في وعاء أخيه {من وعاء أخيه} .

ولما كان هذا كيداً عظيماً في أخذ أخيه بحكمهم، مع ما توثق منهم أبوهم، عظمه تعالى بالإشارة إليه بأداة البعد والإسناد إليه قال:{كذلك} أي مثل هذا الكيد العظيم {كدنا ليوسف} خاصة بأن علمناه إياه جزاء لهم على كيدهم بيوسف عليه الصلاة والسلام، ولذلك صنعنا جميع الصنائع التي أعلت يوسف عليه الصلاة والسلام وألجأت

ص: 172

إخوته الذين كادوه بما ظنوا أنه أبطل أمره إلى المجيء إليه إلى أن كان آخرها حكمهم على أنفسهم بما حكموا، ثم علل ذلك بقوله:{ما كان} أو هو استئناف تفسير للكيد، وأكد النفي باللام فقال:{ليأخذ أخاه} .

ولما كان الأخذ على جهات مختلفة، قيده بقوله:{في دين الملك} يعني ملك مصر، على حالة من الحالات، لأن جزاء السارق عندهم غير هذا {إلا أن يشاء الله} أي الذي له الأمر كله، ذلك بسبب يقيمه كهذا السبب الذي هو حكم السارق وأهله على أنفسهم، فلا يكون حينئذ من الملك إلا تخليتهم وما حكموا به على نفوسهم.

ومادة «سرق» بتراكيبها الأربعة: سرق، وسقر، وقسر، وقرس - تدور على الغلبة المحرقة والموجعة، وتارة تكون بحر، وتارة ببرد، وتارة بغير ذلك، وتلازمها القوة والضعف والكثرة والقلة والمخادعة، فيأتي الخفاء والليل، فمن مطلق الغلبة: القسر، وهو الغلبة والقهر، وقال ابن دريد: القسر: الأخذ بالغلبة والاضطهاد، والقسورة: الأسد، والعزيز كالقسور، والرماة من الصيادين، واحده قسور،

ص: 173

ونبات سهلي - كأنه يكثر فيه الصيد، فتنتابه القساورة، وقسور النبت: كثر، وركز الناس، أي صوتهم الخفي وحسهم - لأن الصيادين يتخافتون؛ والسقر لغة في الصقر - لطير يصيد؛ وقسر: جبل السراة - كأنه موضع الصيد والقسر والغلبة، والقيسري: الكثير - لأنه ملزوم للغلبة، وضرب من الجعلان - كأنه سمي لمطلق الكثرة ولأذاه بما يعانيه من النجاسات، والقيسري - أيضاً من الإبل: العظيم أو الصلب أو الضخم الشديد: وجمل قراسية - بالضم وتخفيف الياء: ضخم، والقرس - بالكسر: صغار البعوض؛ والقسورة أيضاً من الغلمان: الشاب القوي، والرامي - لأنه أهل لأن يغلب، ولقسور أيضاً: الصياد مطلقاً؛ ويلزمه المخادعة والاستخفاء، ومنه القسورة: نصف الليل أو أوله أو معظمه - لأنه محل الاستخفاء والمقاهرة؛ ومنه السرق، وهو الأخذ في خفية، وعبارة القزاز: في ختل وغفلة، وسرق - كفرح: خفي، والسوارق: الزوائد في فراش القفل - لغرابتها وخفاء

ص: 174

أمرها، أو لسلبها السرقة بمنعها السارق من فتح القفل، والمسترق: المستمع مختفياً، وانسرق عنهم: خنس ليذهب، ويلزم المخادعة والاختفاء نوع ضعف، ومنه: سرقت مفاصله - كفرح: ضعفت، والمسترق: الناقص الضعيف الخلق؛ وانسرق: فتر وضعف - إما منه وإما من السلب، لأن من فتر أو ضعف يكف عن السرقة والأذى؛ وقسور الرجل: أسن، وكان منه القارس والقريس أي القديم، ومسترق العنق: قصيرها - كأنه سرق منها شيء، وهو يسارق النظر إليه، أي يطلب غفلته لينظر إليه، وتسرق: سرق شيئاً فشيئاً، وسُرَّق - كسكر - كان اسمه الحباب فابتاع من بدوي راحلتين، ثم أجلسه على باب دار ليخرج إليه بثمنهما فخرج من الباب الآخر فهرب بهما، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سرقاً، وكان لا يحب أن يسمى بغيره، والسرق - محركاً: أجود الحرير أو الحرير الأبيض، أو الحرير عامة، فارسي معرب أصله سره، قال القزاز: ومعناه: جيد، لأنه

ص: 175

أهل لأن يقصد بالسرقة لخفة محمله وكثرة تمنه، والسرقين معرب سركين يمكن أن يكون من الضعف، ولعل المعرب يكون خارجاً عن أصل المادة، لأنه لا أصل له في العربية؛ ومن الأذى بالحر السفر: حر الشمس وأذاه، يقال: سقرته الشمس - بالسين والصاد - إذا آلمت دماغه، ومنه اشتقاق سقر، وهو اسم إحدى طبقات النار، والسقر: القيادة على الحرم، والسقر: ما يسيل من الرطب - من التسمية باسم السبب، لأن الحر سببه، والقوسرة: القوصرة - ويخففان - لأنه يوضع فيه التمر الذي قد يكون منه السقر، والساقر: الكافر واللعان لغير المستحقين - لكثرة الأذى، أو لاستحقاق الكون في سقر، والساقور: الحر والحديدة يكوى بها الحمار؛ ومن الأذى بالبرد: القرس - وهو البرد الشديد والبارد، والقرس - ويحرك: أبرد الصقيع وأكثفه، والقرس - بالتحريك: الجامد، وأقرس العود جمد ماءه، ومنه القريس - لسمك طبخ وترك حتى جمد، وقرس الماء: جمد، والبرد: اشتد كقرس كفرح، وآل قرايس ويقال: نبات قراس -

ص: 176

كسحاب: أجبل باردة أو هضاب بناحية السراة، وقرسنا الماء: بردناه.

إذا تقرر ذلك فتصحيح قول المؤذن «إنكم لسارقون» إن نظر إلى الغلبة في خفاء فلا شك أنهم متصفون بذلك لأخذهم يوسف من أبيه عليهما السلام على هذه الحالة، وإن نظر إلى مطلق الأخذ في خفاء فيكون إطلاق ذلك عليهم مجازاً، لأن معهم - في حال ندائه لهم وهم سائرون - شيئاً ليس هو لهم هم ذاهبون به في خفاء، أي أنتم في هذه الحالة فاعلون فعل السارق، ويقوي إرادة الأول قوله تعالى {لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} وقوله تعالى:{من وجدنا متاعنا عنده} كما سيأتي.

ولما كان يوسف عليه الصلاة والسلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته، بعد ما كان فيه عندهم من الصغار، كان ذلك محل عجب، فقال تعالى - التفاتاً إلى مقام التكلم تقوية للكلام بمقام الغيبة والتكلم، وزاده إشعاراً بعظمة، هذا الفعل بصوغه في مظهر العظمة منبهاً لمن قد يغفل:{نرفع} أي لنا من العظمة، وكان الأصل: درجاته، ولكنه عمم لأنه أدل على العظمة، فكان أليق بمظهرها،

ص: 177

فقال منبهاً على أنه كان حصل ليوسف عليه الصلاة والسلام من الهضم ما ظن كما ظن أنه لا يرتفع بعده: {درجات من نشاء} أي بالعلم.

ولما كان سبب الرفعة هو الأعلمية بالأسباب، وذلك أن الخلق لو اجتهدوا في خفض أحد فنصبوا له كل سبب علموه وقدروا عليه، وأراد الله ضد ذلك، لقيّض بعلمه سبباً واحداً إن شاء فأبطل جميع تلك الأسباب وقضى برفعته، نبه تعالى على ذلك بقوله:{وفوق كل ذي علم} أي من الخلق {عليم} عظيم العلم، لا تكتنه عظمة علمه العقول، ولا تتخيلها الفهوم، فهو يسبب من الأسباب ما تطيح له أسباب العلماء وتحير له ألباب العقلاء البصراء، وهو الله تعالى - كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وسعيد بن جبير، فالتنوين للتعظيم.

ص: 178

ولما تم ذلك، كان كأنه قيل: إن انتزاع أخيهم منهم - بعد تلك المواثيق التي أكدوها لأبيهم - لداهية تطيش لها الحلوم، فماذا كان فعلهم عندها؟ فقيل:{قالوا} تسلية لأنفسهم ودفعاً للعار عن خاصتهم {إن يسرق} فلم يجزموا بسرقته، لعلمهم بأمانته، وظنهم هذا الصواع دس في رحله وهو لا يشعر، كما دست بضاعتهم في رحالهم

ص: 178

وإنما أوهى ظنهم هذا سكوت أخيهم عن الاعتذار به، على أنه قد ورد أنهم لاموه فقال لهم: وضعه في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالهم {فقد سرق أخ} أي شقيق {له} ولما كان ما ظنوه كذلك في زمن يسير، أدخلوا الجار فقالوا:{من قبل} يعنون يوسف عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه قيل: إن عمته كانت لا تصبر عنه، وكان أبوه لا يسمح بمكثه عندها، لأنه لا يصبرعنه، فحزمته من تحت ثيابه بمنطقة أبيها إسحاق عليه السلام وكانت عندها، ثم قالت: فقدت منطقة أبي، فاكشفوا أهل البيت، فوجدوها مع يوسف عليه الصلاة والسلام، فسمح يعقوب عليه الصلاة والسلام حينئذ لها ببقائه عندها {فأسرها} أي إجابتهم عن هذه القولة القبيحة {يوسف في نفسه} على تمكنه مما يريد بهم من الانتقام.

ولما كان ربما ظن ظان أنه بكتهم بها بعد ذلك، نفى هذا الظن بقوله تعالى:{ولم يبدها} أي أصلاً {لهم} فكأنه قيل: فما قولته التي أسرها في نفسه؟ فقيل: {قال أنتم شر مكاناً} أي من يوسف وأخيه، لأن ما نسب إليهما من الشر إنما هو ظاهراً لأمر خير اقتضاه، وأما أنتم ففعلتكم بيوسف شر مقصود منكم ظاهراً وباطناً، ونسبة الشر إلى

ص: 179

مكانهم أعظم من نسبته إليهم، وإنما قدم الإخبار بالإسرار مع اقترانه بالإضمار قبل الذكر، لئلا يظن بادىء بدء أنهم سمعوا ما وصفهم به من الشر {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {أعلم بما تصفون *} منكم، وأنه ليس كما قلتم؛ والوصف: كلمة مشتقة من أصل من الأصول لتجري على مذكور فتفرق بينه وبين غيره بطريق النقيض كالفرق بين العالم والجاهل ونحوهما، فكأنه قيل: إن ذلك القول على فحشه ليس مغنياً عنهم ولا عن أبيهم شيئاً، فهل اقتصروا عليه؟ فقيل: لا، بل {قالوا} التماساً لما يغنيهم:{ياأيها العزيز} فخاطبوه بما يليق بالأكابر ليرق لهم {إن له} أي هذا الذي وجد الصواع في رحله {أباً شيخاً كبيراً} أي في سنه وقدره وهو مغرم به، لا يقدر على فراقه ولا يصبر عنه {فخذ أحدنا مكانه} وأحسن إلى أبيه بإرساله إليه {إنا نراك} أي نعلمك علماً هو كالرؤية أو بحسب ما رأيناه {من المحسنين *} أي العريقين في صفة الإحسان، فأجر في أمرنا على عادة إحسانك، فكأنه قيل: فما أجابهم؟ قيل: {قال معاذ الله} أي نعوذ بالذي لا مثل معاذاً عظيماً {أن نأخذ} أي لأجل هذا الأمر {إلا من} أي الشخص الذي {وجدنا متاعنا عنده} ولم يقل: سرق متاعنا، لأنه - كما أنه لم يفعل في الصواع فعل السارق - لم يقع منه قبل ذلك ما يصحح إطلاق الوصف عليه؛ علل ذلك بقوله:{إنا إذاً} أي إذا أخذنا أحداً مكانه {لظالمون *} أي عريقون في الظلم في دينكم،

ص: 180

فلم تطلبون ما هو ظلم عندكم.

ذكر ما بعد ما سلف من هذه القصة من التوراة

قال: وكان القهم - وفي نسخة: الجوع - والإرجاف على جميع وجه الأرض، ففتح يوسف الأهراء، وأقبل يبيع المصريين، واشتد الجوع بأرض مصر، وأقبل جميع أهل الأرض يأتون للامتيار من يوسف.

فبلغ يعقوب عليه الصلاة والسلام أن بمصر طعام ميرة، فقال يعقوب عليه السلام لبنيه: لا خوف عليكم، لأنه قد بلغني أن بمصر ميرة فاهبطوا إلى هناك، فامتاروا لنا فنحيى ولا نموت. فهبط بنو يعقوب عليه الصلاة والسلام العشرة ليمتاروا ميرة من مصر، فأما بنيامين أخو يوسف فلم يرسله يعقوب مع إخوته، لأنه قال: لعله أن يعرض له عارض، فأتى بنو إسرائيل ليمتاروا مع الذين كانوا ينطلقون، لأن الجوع اشتد في أرض كنعان، وكان يوسف هو المسلط على الأرض، وكان يميز جميع شعب الأرض، فأتى إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام

ص: 181

فخروا له سجداً على الأرض، فرأى يوسف إخوته فأثبتهم وتناكر عليهم وكلمهم بفظاظة وقساوة، وقال لهم: من أين أنتم؟ فقالوا: أتينا من أرض كنعان لنمتار ميرة، فذكر يوسف عليه الصلاة والسلام الرؤيا التي قصها عليهم وقال لهم: إنكم جواسيس، وإنما أتيتم لتفحصوا وتطلعوا الأرض. فقالوا: كلا يا سيدنا! إن عبيدك إنما أتوا ليمتاروا، نحن أجمعون بنو رجل واحد، ونحن أبرياء، وليس عبيدك بطلائع، فقال لهم يوسف: ليس الأمر كما تقولون، بل إنما أتيتم لتجسسوا أرضنا. فقالوا له: نحن اثنا عشر رجلاً إخوة عبيدك بنو رجل واحد بأرض كنعان، والآخر هو عند أبينا يومنا هذا، والآخر فقدناه، فقال لهم يوسف: إني إنما قلت لكم: إنكم جواسيس، من أجل هذا بهذه تمتحنون، وحق فرعون! لا أخرجنكم من هاهنا حتى يأتي أخوكم الأصغر إلى

ص: 182

هاهنا. فنفحص عن أقاويلكم إن كنتم نطقتم بالحق والقسط، وإلا وحق فرعون! إنكم طلائع، فقذفهم في الحبس ثلاثة أيام، ودعا بهم يوسف عليه الصلاة والسلام في اليوم الثالث، وقال لهم: افعلوا ما آمركم به فتحيوا، فإني أراقب الله فيكم، إن كنتم أبرياء فليحبس أحدكم في محبسكم وانطلقوا أنتم بالميرة للجوع الذي في بيوتكم، فأتوني بأخيكم الأصغر فأصدق قولكم ولا تموتوا، ففعلوا كما أمرهم، فقال كل امرىء منهم لصاحبه: حقاً إنا قد استوجبنا السجن على أخينا إذ رأينا كرب نفسه إذا كان يتضرع إلينا فلم نرحمه ولم نتراءف عليه، فمن أجل ذلك نزلت بنا هذه البلية والشر، فأجاب روبيل وقال لهم: ألم أقل لكم: لا تأثموا بالغلام، فلم تقبلوا، وهو ذا الآن نحن مطالبون بدمه.

ولم يعلموا أن يوسف يفهم كلامهم، لأنه أوقف ترجماناً بينه وبينهم، فتنحى عنهم فبكى، ثم رجع إليهم يكلمهم، ثم أخذ منهم شمعون فأوثقه تجاههم.

وأمر يوسف بملء أوعيتهم ميرة، وأمر برد ورق كل امرىء منهم في وعائه، وأن يزودوا زاداً للطريق، ففعل ذلك بهم كما أمر يوسف عليه السلام، فحملوا ميرتهم على حميرهم وانطلقوا، ففتح بعضهم وعاءه

ص: 183

ليلقي قضيماً لحماره في مبيتهم. فرأى ورقه موضوعاً على طرف حمولته. فقال لإخوته: ورقي رد إليّ وهو ذا على طرف حمولتي، فارتجفت قلوبهم وفزعت نفوسهم، وتعجب كل امرىء منهم، فقالوا: يا ليت شعري ما هذا الذي صنعه الله بنا! فأتوا يعقوب أباهم إلى أرض كنعان، فأخبروه بجميع ما عرض لهم وقالوا: إن الرجل سيد الأرض كلمنا بفظاظة وقساوة. وحسبنا بمنزلة الجواسيس أتينا لنطالع الأرض، فقلنا: إنا أبرياء عدول، فلسنا بطلائع، فنحن اثنا عشر أخاً بنو أب واحد، فقد واحد منا والآخر عند أبينا يومنا هذا بأرض كنعان، فقال لنا الرجل سيد الأرض ورئيسها: بهذا أعلم بأنكم أبرار عدول، خلفوا عندي أحد إخوتكم، واحملوا ميرة للجوع الذي في بيوتكم. وانصرفوا فأتوني بأخيكم الأصغر معكم، فأعلم حينئذ أنكم لستم بطلائع، بل أنتم أبرياء عدول، وآمر بدفع أخيكم إليكم، وتتجرون في الأرض، فبينما هم يفرغون أوعيتهم فإذا هم بصرة كل امرىء منهم على طرف وعائه فرأوا ورقهم مصروراً ففزعوا هم وأبوهم. فقال لهم أبوهم: إنكم قد أثكلتموني ولدي وأفقدتموني إياهما، لأن يوسف فقدته. وشمعان محبوس،

ص: 184

وتنطلقون ببنيامين أيضاً وقد كملت علي المصائب كلها، فقال روبيل لأبيه: ثكلتُ ابني جميعاً إن لم آتك به! ادفعه إليّ وأنا أرده إليك، فقال: لا يهبط ابني معكم، لأن أخاه يوسف توفي وهو وحده الباقي لأمه، فتعرض له آفة في الطريق الذي تسلكونه فتنزلون شيبتي إلى الجدث بالشقاء والشحب.

فاشتد الجوع على الأرض، فلما أكلوا الذي أتوا به من مصر وأفنوه قال لهم يعقوب أبوهم عليه السلام: اهبطوا فامتاروا لنا شيئاً من قمح، فقال له يهوذا: إن الرجل أنذرنا وتقدم إلينا وقال: لا تعاينوا وجهي إلا وأخوكم معكم، فإن أنت أرسلت أخانا معنا فإنا نهبط فنمتار، وإن لم تبعثه لم ننطلق، فقال لهم أبوهم: ولم أسأتم إلي فأخبرتم الرجل أن لكم أخاً؟ فقالوا: الرجل سأل عنا وعن رهطنا وقال: إن أباكم في الحياة بعد؟ وهل لكم أخ؟ فأخبرناه من أجل هذا الكلام، أكنا نعلم أنه يقول: اهبطوا معكم بأخيكم؟ وقال يهوذا لإسرائيل أبيه: سرح الغلام فننطلق فنحيى ولا نموت نحن وأنت أيضاً وحشمنا، أنا أكفل به.

فإن لم آتك به فأقيمه بين يديك فأنا مخطىء

ص: 185

بين يدي أبي جميع الأيام.

فقال أبوهم إسرائيل: إذا كان الأمر هكذا فافعلوا ما آمركم به: احملوا في أوعيتكم من ثمار هذه الأرض شيئاً من صنوبر وعسل وعلك البطم وخروب وحب السرو وبطم ولوز، وخذوا من الورق ضعف الذي في أوعيتكم، لعل ذلك أن يكون وهماً منهم، وانطلقوا بأخيكم إلى الرجل، وارجعوا إليّ كلكم، وإله المواعيد يظفركم من الرجل برحمة ورأفة، فيرسل بأخيكم الآخر معكم وبنيامين أيضاً، فأخذ القوم هذه الهدية وضعفاً من الفضة، وانطلقوا معهم ببنيامين وأتوا يوسف فوقفوا بين يديه. فرأى يوسف بنيامين معهم فقال لحاجبه: أدخل القوم إلى المنزل، واذبح ذبيحاً، وهيىء الغداء، لأن القوم يتغدون معي ظهراً، ففعل العبد كما أمره يوسف عليه السلام، وأدخل القوم إلى منزل يوسف عليه السلام وقالوا: إنهم إنما يدخلوننا لسبب الورق الذي وجدنا في أعدالنا من قبل، فيريدون أن يتطاولوا علينا ويمكروا بنا، فيجعلونا عبيداً ودوابنا ملكاً، فدنوا من الرجل حاجب - وفي نسخة: خازن - يوسف عليه السلام. فكلموه على باب المنزل، وقالوا له: إنا نطلب إليك يا سيدنا أنا هبطنا أولاً إلى هاهنا فامترنا قمحاً، فلما

ص: 186

طلعنا وصرنا في البيت إذا نحن بورق كل واحد منا في عدله، فقد رددنا أوراقنا بوزنها معنا وأتينا معها بأوراق أخر لنمتار بها، ولا نعلم من الذي صيّر أوراقنا في أوعيتنا؟ فقال لهم: السلام لكم، لا تخافوا ولا تستوفضوا، إلهكم إله المواعيد إله أبيكم ذخر لكم هذه الذخيرة في أوعيتكم، لأن ورقكم قد صار في قبضتي، وأخرج إليهم شمعون، فأدخل العبد القوم إلى منزل يوسف عليه السلام، وأتاهم بماء فغسلوا أيديهم وأقدامهم، وألقى قضمياً لدوابهم، فأعد القوم هديتهم قبل دخول يوسف عليه السلام وقت القائلة لأنه بلغهم أن غداءهم يكون هناك، فدخل يوسف إلى منزله، فأدخلوا هديتهم فوضعوها بين يديه في منزله، وخروا له سجداً على الأرض، فسألهم عن سلامتهم وقال: أسالم هو؟ أبوكم الذي أخبرتموني عنه أنه الحياة هو بعد؟ فقالوا: إن أبانا عبدك سالم، ثم جثوا فسجدوا فرفع بصره فأبصر بنيامين أخاه ابن أمه فقال لهم: هذا أخوكم الذي أخبرتموني عنه؟ فقالوا: نعم؟ فقال له: الله يترأف عليكم يا بني، فاستعجل يوسف عليه

ص: 187

السلام لأنه رق له وتحنن عليه فأراد البكاء، فدخل إلى مكانه فبكى هناك، ثم غسل وجهه وخرج فصبر نفسه، فأمر أن يأتوهم بالغداء، فوضعوا بين يديه وحده، وقربوا إليهم وحدهم، لأنه لا يستطيع أهل مصر أن يأكلوا مع العبرانيين، لأن هذه نجاسة عند المصريين، فأمر فاتكأ الأكبر على قدر سنه والأصغر على قدر سنه، فتعجب القوم ومكثوا محيرين مشدوهين، فأعطى كل واحد منهم من بين يديه جزءاً، وأعطى بنيامين أكثر منهم: خمسة أنصبة، فشربوا.

فأمر خازنه وقال له: أوقر أوعية القوم من البر ما أمكنهم حمله، وصير ورق كل امرىء منهم على طرف وعائه، وخذ طاسي طاس الفضة وصيره في وعاء الأصغر مع ورق ميرته، ففعل العبد كما أمر يوسف عليه السلام، فلما كان من الغد سرح القوم لينطلقوا هم وحميرهم، فخرجوا من القرية، وقبل أن يخرجوا منها قال يوسف لخازنه: قم فامض في طلب القوم وألحقهم وقل لهم: لم كافيتم الشر بدل الخير، فأخذتم الطاس الذي يشرب فيه سيدي ويعتاف فيه اعتيافاً، فأسأتم فيما جاء منكم، فلحقهم وقال لهم هذه الأقاويل، فقالوا له:

ص: 188

لا تقولن يا سيدنا هذه الأقاويل، معاذ الله أن يفعل عبيدك هذه الفعال! نحن رددنا أوراقنا التي وجدنا في أوعيتنا من أرض كنعان، فكيف نسرق من بيت سيدك ذهباً أو فضة، من وجد عنده من عبيدك فليمت ونكن نحن عبيداً لسيدنا! قال لهم: هو على ما تقولون، من وجد عنده فهو يكون لي عبداً، وأنتم تكونون فلحين طاهين، فاستعجل كل منهم وعاءه، ففتشوا ابتداء بالأكبر وانتهاء إلى الأصغر، فوجدوا الطاس في وعاء بنيامين، فمزقوا ثيابهم وخرقوها. وحمل كل امرىء منهم وعاءه على حماره، ورجعوا إلى القرية، فدخل يهوذا وإخوته على يوسف وكان في منزله بعد، فخرجوا بين يديه على الأرض، فقال لهم يوسف: ما هذا الفعل الذي جاء منكم؟ أما تعلمون أن رجلاً مثلي يعتاف - وفي نسخة: يمتحن - بكأس اعتيافاً؟ لم تتعدون عليه وتأخذونه؟ فقال يهوذا: بماذا نكلم سيدنا! وبماذا ننطق! وبماذا نفلح - وفي نسخة: نحتج - من عند الله نزلت هذه الخطيئة بعبيدك، هوذا نحن عبيد لسيدنا نحن ومن أصيب الكأس عنده، فقال: معاذ الله

ص: 189

أن أفعل هذا! بل الرجل الذي وجد الكأس عنده يكون لي عبداً، وأنتم فاصعدوا بسلام إلى أبيكم.

فدنا منه يهوذا فقال: أنا أطلب إليك يا سيدي أن تأذن لعبدك بالكلام بين يديك، يا سيد! ولا تشعل غضبك على عبيدك، لأنك مثل فرعون، سأل سيدي عبيده فقال لهم: هل لكم أب أو أخ؟ فقلنا لسيدنا: إن لنا أباً شيخاً وابناً له صغيراً ولد على كبر سنه، وإن أخاه مات، وهو الباقي وحده لأمه، وأبوه يحبه، وأمرت عبيدك وقلت: اهبطوا به إليّ حتى أعرفه وأعاينه، فقلنا لسيدنا: لا يقدر الغلام على مفارقة أبيه، لأنه إن فارقه أبوه توفي، فقلت لعبيدك: إنه لم يهبط أخوكم الأصغر معكم فلا تعودوا أن تعاينوا وجهي، فلما صعدنا إلى عبدك أبينا أخبرناه بقول سيدنا فقال لنا عبدك أبونا: ارجعوا فامتاروا شيئاً من بر، فقلنا لأبينا: لا نقدر على الهبوط إلى أن نهبط بأخينا الأصغر معنا، لأنا لا نقدر على معاينة وجه الرجل إن لم يكن أخونا معنا، فقال لنا عبدك أبونا: أنتم تعلمون أن امرأتي ولدت لي ابنين، فخرج واحد من عندي فقلتم: إنه قتل قتلاً، فلم أعاينه إلى يوم الناس هذا، فتحملون أيضاً هذا من عندي فيعرض له صيد

ص: 190

فتهبطون بشيخوختي بحزن وشر القبر، والآن إذا نحن انطلقنا إلى عبدك أبينا وليس الغلام معنا ونفسه حبيبة إليه، فإذا علم أن الغلام ليس هو معنا يموت فيهبط عبدك شيبة أبينا بالشقاء والتشحيب، لأن عبدك ضمن الغلام لأبينا، وقلت: إني إذا لم آتك به أخطىء باقي جميع الأيام، والآن فليبق عبدك بدل الغلام عبداً لسيدي، وليصعد الغلام مع إخوته، لأني أفكر كيف أصعد إلى أبي وليس الغلام معي كيلا أعاين الشر الذي ينزل بأبي.

ص: 191

ولما أياسهم بما قال عن إطلاق بنيامين، حكى الله تعالى ما أثمر لهم ذلك من الرأي فقال:{فلما} دالاً بالفاء على قرب زمن تلك المراجعات {استيئسوا منه} أي تحول رجاءهم لتخلية سبيله لما رأوا من إحسانه ولطفه ورحمته يأساً شديداً بما رأوا من ثباته على أخذه بعينه وعدم استبداله {خلصوا} أي انفردوا من غيرهم حال كونهم {نجياً} أي ذوي نجوى يناجي بعضهم بعضاً، من المناجاة وهي رفع المعنى من كل واحد إلى صاحبه في خفاء، من النجو وهو الارتفاع عن الأرض - قاله الرماني، أو تمحضوا تناجياً لإفاضتهم فيه

ص: 191

بجد كأنهم صورة التناجي، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قال كبيرهم} في السن وهو روبيل: {ألم تعلموا} مقرراً لهم بما يعرفونه مع قرب الزمان ليشتد توجههم في بذل الجهد في الخلاص من غضب أبيهم {أن أباكم} أي الشيخ الكبير الذي فجعتموه في أحب ولده إليه.

ولما كان المقام بالتقرير ومعرفة صورة الحال لتوقع ما يأتي من الكلام، قال:{قد أخذ عليكم} أي قبل أن يعطيكم هذا الولد الآخر {موثقاً} ولما كان الله تعالى هو الذي شرعه - كما مضى - كان كأنه منه، فقال:{من الله} أي أيمان الملك الأعظم: لتأتنه به إلا أن يحاط بكم {ومن قبل} أي قبل هذا {ما فرطتم} أي قصرتم بترك التقدم بما يحق لكم في ظن أبيكم أو فيما ادعيتم لأبيكم تفريطاً عظيماً، فإن زيادة «ما» تدل على إرادته لذلك {في} ضياع {يوسف} فلا يصدقكم أبوكم أصلاً، بل يضم هذه إلى تلك فيعلم بها خيانتكم قطعاً، وأصل معنى التفريط،: التقدم، من قوله صلى الله عليه وسلم:«أنا فرطكم على الحوض» .

ولما كان الموضع موضع التأسف والتفجع والتلهف، أكده ب «ما» النافية لنقيض المثبت كما سلف غير مرة، أي أن فعلكم في يوسف ما كان إلا تفريطاً لا شك فيه {فلن أبرح} أي أفارق هذه

ص: 192

{الأرض} بسبب هذا، وإيصاله الفعل بدون حرف دليل على أنه صار شديد الالتصاق بها {حتى يأذن لي أبي} في الذهاب منها {أو يحكم الله} أي الذي له الكمال كله ووثقنا به {لي} بخلاص أخي أو بالذهاب منها بوجه من الوجوه التي يعلمها ويقدر على التسبب لها {وهو} أي ظاهراً وباطناً {خير الحاكمين *} إذا أراد أمراً بلغه بإحاطة علمه وشمول قدرته، وجعله على أحسن الوجود وأتقنها، فكأنه قيل: هذا ما رأى أن يفعل في نفسه، فماذا رأى لإخوته؟ فقيل: أمرهم بالرجوع ليعلموا أباهم لإمكان أن يريد القدوم إلى مصر ليرى ابنه أو يكون عنده رأي فيه فرج، فقال:{ارجعوا إلى أبيكم} أي دوني {فقولوا} أي له متلطفين في خطابكم {ياأبانا} وأكدوا مقالتكم فإنه ينكرها لكم فقولوا: {إن ابنك} أي شقيق يوسف عليه الصلاة والسلام الذي هو أكملنا في البنوة عندك {سرق} .

ولما كانوا في غاية الثقة من أن أحداً منهم لا يلم بمثل ذلك، أشاروا إليه بقولهم:{وما شهدنا} أي في ذلك {إلا بما علمنا} ظاهراً من رؤيتنا الصواع يخرج من وعائه؛ والشهادة: الخبر عن إحساس قول أو فعل، وتجوز الشهادة بما أدى إليه الدليل القطعي {وما كنا للغيب} أي الأمر الذي غاب عنا {حافظين *} فلعل حيلة دبرت في ذلك غاب

ص: 193

عنا علمها كما صنع في رد بضاعتنا {واسأل القرية} أي أهلها وجدرانها إن كانت تنطق {التي كنا فيها} وهي مصر، عما أخبرناك به يخبروك بصدقنا، فإن الأمر قد اشتهر عندهم {و} اسأل {العير} أي أصحابها وهم قوم من كنعان جيران يعقوب عليه الصلاة والسلام {التي أقبلنا فيها} والسؤال: طلب الإخبار بأداته من الهمزة وهل ونحوهما، والقرية: الأرض الجامعة لحدود فاصلة، وأصلها من قريت الماء، أي جمعته، وسيأتي شرح لفظها آخر السورة، والعير: قافلة الحمير، من العير - بالفتح، وهو الحمار، هذا الأصل - كما تقدم ثم كثر حتى استعمل في غير الحمير.

ولما كان ذلك جديراً بالإنكار لما يتحقق من كرم أخيهم، أكدوه بقولهم:{وإنا} أي والله {لصادقون *} فكأنه قيل: فرجعوا إلى أبيهم وقالوا ما قال لهم كبيرهم، فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل: {قال بل} أي ليس الأمر كذلك، لم تصح نسبة ابني إلى السرقة ظاهراً ولا باطناً، أي لم يأخذ شيئاً من صاحبه في خفاء بل {سولت} أي زينت تزييناً فيه غي {لكم أنفسكم أمراً} أي حدثتكم بأمر ترتب عليه ذلك، والأمر: الشيء الذي من شأنه أن تأمر

ص: 194

النفس به، وكلا الأمرين صحيح، أما النفي فواضح، لأن بنيامين لم يسرق الصواع ولا همّ بذلك، ولذلك لم ينسبه يوسف عليه الصلاة والسلام ولا مناديه إلى ذلك بمفرده، وأما الإثبات فأوضح، لأنه لولا فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام لما سولت لهم فيه أنفسهم لم يقع هذا الأمر لبنيامين عليه السلام {فصبر جميل} مني، لأن ظني في الله جميل، وفي قوله:{عسى الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {أن يأتيني بهم} أي بيوسف وشقيقه بنيامين وروبيل {جميعاً} ما يدل الفطن على أنه تفرس أن هذه الأفعال نشأت عن يوسف عليه الصلاة والسلام، وأن الأمر إلى سلامة واجتماع؛ ثم علل ذلك بقوله:{إنه هو} أي وحده {العليم} أي البليغ العلم بما خفي علينا من ذلك، فيعلم أسبابه الموصلة إلى المقاصد {الحكيم *} أي البليغ في إحكام الأمور في ترتيب الأسباب بحيث لا يقدر أحد على نقض ما أبرمه منها، وترتيب الوصفين على غاية الإحكام - كما ترى - لأن الحال داع إلى العلم بما غاب من الأسباب أكثر من دعائه إلى معرفة حكمتها؛ قال هذه المقالة {وتولى} أي انصرف بوجهه {عنهم} لما تفاقم عليه من الحزن، وبلغ به من الجهد، وهاج به

ص: 195

باجتماع حزن إلى حزن من الحرق كراهية لما جاؤوا به وإقبالاً على من إليه الأمر {وقال} مشتكياً إلى الله لا غيره، فهو تعريض بأشد التصريح والدعاء:{ياأسفي} أي يا أشد حزني، والألف بدل عن ياء الإضافة لتدل على بلوغ الأسف إلى ما لا حد له، وجناس «الأسف» مع «يوسف» مما لم يتعمد، فيكون مطبوعاً، فيصل إلى نهاية الإبداع، وأمثاله في القرآن كثير {على يوسف} هذا أوانك الذي ملأني بك فنادمني كما أنادمك، وخصه لأنه قاعدة إخوانه، انبنى عليها وتفرع منها ما بعدها {وابيضت عينه} أي انقلب سوادهما إلى حال البياض كثرة الاستعبار، فعمى البصر {من الحزن} الذي هو سبب البكاء الدائم الذي هو سبب البياض، فذكر السبب الأول، يقال: بلغ حزنه عليه السلام حزن سبعين ثكلى وما ساء ظنه قط.

ثم علل ذلك بقوله: {فهو} أي بسبب الحزن {كظيم *} أي شديد الكظم لامتلائه من الكرب، مانع نفسه من عمل ما يقتضيه ذلك من الرعونات بما آتاه الله من العلم والحكمة، وذلك أشد ما يكون على النفس وأقوى ما يكون للحزن، فهو فعيل بمعنى مفعول، وهو

ص: 196

أبلغ منه، من كظم السقاء - إذا شده على ملئه.

ومادة «كظم» تدور على المنع من الإظهار، يلزمه الكرب - لأنه من شأن الممنوع مما قد امتلأ منه، ويلزمه الامتلاء، لأن ما دونه ليس فيه قوة الظهور، كظم غيظه -إذا سكت بعد امتلائه منه، وكظمت السقاء - إذا ملأته وسددته، وكظم البعير جرته - إذا ردها وكف، والكظم: مخرج النفس، لأنه به يمنع من الجري في هواه؛ والكظامة: حبل يشد به خرطوم البعير، لمنعه مما يريد، وأيضاً يوصل بوتر القوس العربية ثم يدار بطرف السية العليا، منعاً له من الانحلال وأيضاً قناة في باطن الأرض يجري فيهما الماء، لأنه يمنع الماء من أن يأخذ في هواه فيرتفع في موضع النبع فيظهر على وجه الأرض، وخرق يجري فيه الماء من بئر إلى بئر، لأنه لا يصنع إلا عند ضعف إحدى البئرين، فلولاه لفاضت القوية، فهو تصريف لمائها في غير وجهه، وكظامة الميزان: المسمار الذي يدور فيه اللسان، لأنه يربطه فيمنعه

ص: 197

من الانفكاك، ويقال: ما زلت كاظماً يومي كله، أي ممسكاً عن الأكل وقد امتلأت جوعاً، وقد يطلق على مطلق النبع، ومنه كاظمة - لقرية على شاطىء البحر، لأن البحر قد كظمها عن الانفساح وكذا هي منعته عن الانسياح.

ص: 198

فلما رأوا أنه قد فاتهم ما ظنوا أنه يكون بعد ذهاب يوسف من صلاح الحال مع أبيهم بقصر الإقبال عليهم، ووقع لأبيهم هذا الفادح العظيم، تشوف السامع إلى قولهم له، فاستأنف الإخبار عنه بقوله:{قالوا} أي حنقاً من ذلك {تالله} أي الملك الأعظم، يميناً فيها تعجب {تفتئوا} أي ما تزال {تذكر يوسف} حريصاً على ذكره قوياً عليه حرص الفتى الشاب الجلد الصبور على مراده {حتى} أي إلى أن {تكون حرضاً} أي حاضر الهلاك مشرفاً عليه متهيئاً له بدنف الجسم وخبل العقل - كما مضى بيانه في الأنفال عند {حرض المؤمنين على القتال} {أو تكون} أي كوناً لازماً هو كالجبلة {من الهالكين *} .

ص: 198

ولما تشوفت النفس إلى ما كان عنه بعد ما رأى من غلطة بنيه، شفى عيّها بقوله:{قال إنما} أي نعم لا أزال كذلك لأنه من صفات الكمال للإنسان، لدلالته على الرقة والوفاء، وإنما يكون مذموماً إذا كان على وجه الشكاية إلى الخلق وأنا لا أشكو إلى مخلوق، إنما {أشكوا بثي} والبث أشد الحزن، سمي بذلك لأنه من صعوبته لا يطاق حمله فيباح به وينشر {وحزني} مطلقاً وإن كان سببه خفيفاً يقدر الخلق على إزالته {إلى الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة تعرضاً لنفحات كرمه، لا إلى أحد غيره، وهذا - الذي سمعتوه مني فقلقتم له - قليل من كثير.

ولما كان يجوز أن يكونوا صادقين في أنهم لم يجدوا إلا قميص يوسف ملطخاً دماً، وأن يكون قطعهم بأكل الذئب له مستنداً إلى ذلك، وكان يعقوب عليه السلام يغلب على ظنه أن يوسف عليه السلام حي ويظن في الله أن يجمع شمله به، قال:{وأعلم من الله} أي الملك الأعلى من اللطف بنا أهل هذا البيت ومن التفريج عن المكروبين والتفريح للمغمومين {ما لا تعلمون *}

ص: 199

ومادة «فتا» يائية وواوية مهموزة وغير ومهموزة بكل ترتيب وهي فتأ، وفأت وتفأ وأفت، وفتى وفوت وتوف وتفو تدور على الشباب، وتلزمه القوة وشدة العزيمة وسلامة الانقياد: ما فتأ يفعل كذا - مثلثة العين: ما زال كما أفتا، أي إنه ما زال فاعلاً في ذلك فعل الشاب الجلد الماضي العزم، وما فتىء أن فعل، ما برح أي أنه بادر إلى ذلك بسهولة انقياد وشدة عزيمة، وحقيقته: ما فتىء عن فعل كذا، أي ما تجاوزه إلى غيره وما نسيه بل قصر فتاءه وهمته وجلده عليه، وعن ابن مالك في جمع اللغات المشكلة وعزاه للفراء - وصححه في القاموس: فتأ - كمنع: كسر وأطفأ، وهو واضح في القوة، وفتىء عنه - كسمع: نسيه وانقذع عنه، أي انكف أو خاص بالجحد، أي بأن يكون قبله حرف نفي، ومعناه أن قوته تجاوزته فلم تخالطه؛ ومن يائيه: الفتاء - كسماء: الشباب، وكأنه

ص: 200

أصل المادة، والفتي - بالقصر؛ السخي والكريم، أي الجواد الشريف النفس، والفتى: السيد الشجاع - لأن ذلك يلزم الشباب، والفتى: المملوك وإن كان بخيلاً أو شيخاً - لأنه غالباً لا يشتري إلا الشباب، والفتى: التلميذ، والتابع كذلك، والفتى - كغنى: الشاب أيضاً، والفتوة: الكرم، وقد تفتى وتفاتى، وفتوتهم: غلبتهم فيها، وأفتاه في الأمر: أبانه له، والفتيا - بالضم والفتوى - ويفتح: ما أفتى به الفقيه، وهو يرجع إلى الجود وحسن الخلق، والفتيان: الليل والنهار، ولذلك يسميان الجديدين، وفتيت البنت تفتية: منعت اللعب مع الصبيان، فهو من سلب الشباب، أي فعله ومن مقلوبه مهموزاً: افتأت عليّ الباطل: اختلقه، وبرأيه: استبد، وكلاهما يدل على جرأة وطيش، وهو بالشاب الذي لم يحنكه الدهر أجدر، وافتئت - على البناء للمفعول: مات فجأة - كأن ذلك أشد الموت؛ ومن واوية: فات الشيء فوتاً وفواتاً: ذهب فسبق فلم يدرك، وفاته وافتاته: ذهب عنه فسبقه،

ص: 201

وذلك يدل على قوة السابق، وبينهما فوت، أي بون - كأن كلاً منهما سابق للآخر، وتفاوت الشيئان وتفوتا: تباعد ما بينهما، ويلزم ذلك الاختلاف والاضطراب، ويلزمه العيب {فما ترى في خلق الرحمن من تفوت} : من عيب، يقول الناظر: لو كان كذا كان أحسن، وموت الفوات: الفجأة، وهو فوت رمحه ويده، أي حيث يراه ولا يصل إليه، والفوت: الفرجة بين إصبعين، وافتأت عليه برأيه: سبقه به، وفاته به وعليه: غلبه، ولا يفتات عليه أي لا يعمل دون أمره، أي لا أحد أشد منه فيسبقه، وافتات الكلام: ابتدعه - كما تقدم في المهموز، وافتات عليه: حكم - لقوته، والفويت - كزبير: المنفرد برأيه - للمذكر والمؤنث، وذلك لعدة نفسه شديداً، وتفوت عليه في ماله: فاته به؛ ومن مقلوبه مهموزاً: تفىء كفرح: احتد وغضب - وذلك لشدته، وتفيئة الشيء: حينه وزمانه، وذلك أحسن أحواله، ودخل على تفيئته أي أثره أي لم يسبقه بكثير، وذلك أشد له؛

ص: 202

ومن واوية: التفة كقفة: عناق الأرض وهي تصيد، وفيها خلاف يبين إن شاء الله تعالى في قوله:{جزاء موفوراً} من سورة سبحان؛ ومن مقلوبه واوياً: تاف بصره يتوف: تاه - كأنه لسلب الشدة أو المعنى أنه وقع في توقة، أي شدة، وما فيه توفة - بالضم - ولا تافة: عيب أو مزيد أو حاجة وأبطأ وكل ذلك يدل على شدته، وطلب علي توفة بالفتح،: عثرة وذنباً - من ذلك لأن العثرة والذنب لا يصيبان شيئاً إلا عن شدتهما وضعفه؛ ومن مقلوبه مهموزاً: الأفت - بالفتح: النافة التي عندها من الصبر والبقاء ما ليس عند غيرها، والسريع الذي يغلب الإبل على السير، والكريم من الإبل - ويكسر - والداهية والعجب، وكل ذلك واضح في القوة، والإفت - بالكسر: الأول - لأنه أصل كل معدود، وأفته عن كذا: صرفه.

ولما أخبرهم عليه السلام أن علمه فوق علمهم، أتبعه استئنافاً ما يدل عليه فقال:{يابني اذهبوا} ثم سبب عن هذا الذهاب

ص: 203

وعقب به قوله: {فتحسسوا} أي بجميع جهدكم {من يوسف وأخيه} أي اطلبوا من أخبارهما بحواسكم لعلكم تظفرون بهما، وهذا يؤكد ما تقدم من احتمال ظنه أن فاعل ذلك يوسف - عليهم الصلاة والسلام.

ولما لم يكن عندهم من العلم ما عنده، قال:{ولا تيأسوا} أي تقنطوا {من روح الله} أي الذي له الكمال كله؛ والروح - قال الرماني - يقع بريح تلذ، وكأن هذا أصله فالمراد: من رحمته وفرجه وتيسيره ولطفه في جمع الشتات وتيسير المراد؛ ثم علل هذا النهي بقوله: {إنه لا يبأس} أي لا يقنط {من روح الله} أي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام {إلا القوم} أي الذين لهم قوة المحاولة {الكافرون *} أي العريقون في الكفر، فأجابوه إلى ما أراد، قتوجهوا إلى مصر لذلك ولقصد الميرة لما كان اشتد بهم من القحط، وقصدوا العزيز؛ وقوله:{فلما دخلوا عليه} بالفاء يدل على أنهم أسرعوا الكرة في هذه المرة {قالوا} منادين بالأداة التي تنبه على أن ما بعدها له وقع عظيم {يا أيها العزيز} .

ولما تلطفوا بتعظيمه، ترققوا بقولهم:{مسنا} أي أيتها العصابة التي تراها {وأهلنا} أي الذين تركناهم في بلادنا {الضر} أي لابسنا

ص: 204

ملابسة نحسها {وجئنا ببضاعة مزجاة} أي تافهة غير مرغوب فيها بوجه، ثم سببوا عن هذا الاعتراف - لأنه أقرب إلى رحمة أهل الكرم - قولهم:{فأوف لنا} أي شفقة علينا بسبب ضعفنا {الكيل وتصدق} أي تفضيل {علينا} زيادة على الوفاء كما عودتنا بفضل ترجو ثوابه.

ولما رأوا أفعاله تدل على تمسكه بدين الله، عللوا ذلك بقولهم:{إن الله} أي الذي له الكمال كله {يجزي المتصدقين *} أي مطلقاً وإن أظهرت - بما أفاد الإظهار - وإن كانت على غني قوي، فكيف إذا كانت على أهل الحاجة والضعف.

ص: 205

فلما رأى أن الأمر بلغ الغاية ولم يبق شيء يتخوفه، عرفهم بنفسه فاستأنف تعالى الإخبار عن ذلك بقوله حكاية:{قال هل علمتم} مقرراً لهم بعد أن اجترؤوا عليه واستأنسوا به، والظاهر أن هذا كان بغير ترجمان {ما} أي قبح الذي {فعلتم بيوسف} أي أخيكم الذي حلتم بينه وبين أبيه {وأخيه} في جعلكم إياه فريداً منه ذليلاً بينكم، ثم في قولكم له لما وجدوا الصواع في رحله: لا يزال يأتينا البلاء

ص: 205

من قبلكم يا بني راحيل! وأعلمهم بأن ظنه فيهم الآن جميل تسكيناً لهم فقال: {إذ} أي حين {أنتم جاهلون *} أي فاعلون فعلهم - تلويحاً لهم إلى معرفته وتذكيراً بالذنب ليتوبوا، وتلطفاً معهم في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث فيه المصدور، ويشتفي فيه المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، بتخصيص جهلهم - بمقتضى «إذا» - بذلك الزمان إفهاماً لهم أنهم الآن على خلاف ذلك، فكأنه قيل: إنه قد قرب لهم الكشف عن أمره، لأنه لا يستفهم ملك مثله - لم ينشأ بينهم ولا تتبع أحوالهم وليس منهم - هذا الاستفهام ولا سيما وقد روى أنه لما قال هذا تبسم، وكان في تبسمه أمر من الحسن لا يجهله معه من رآه ولو مرة واحدة، فهل عرفوه؟ فقيل: ظنوه ظناً غالباً، ولذلك {قالوا} مستفهمين {أإنك} وأكدوا بقولهم:{لأنت يوسف} .

ولما كان المتوقع من مثله فيما هو فيه من العظمة أن يجازيهم على سوء صنيعهم إليه، استأنف بيان كرمه فقال:{قال أنا يوسف} وزادهم قوله: {وهذا أخي} أي بنيامين شقيقي لذكره لهم في قوله {وأخيه} وليزيدهم ذلك معرفة له، وثبتها في أمره بتصديقه له مع

ص: 206

مكثه عنده مدة ذهابهم وإيابهم، وليبني عليه قوله:{قد منَّ الله} أي الذي له الجلال والإكرام {علينا} بأن جمع بيننا على خير حال تكون؛ ثم تعليله بقوله: {إنه من يتق} وهو مجزوم لأنه فعل الشرط، وأثبت قنبل - بخلافه عنه - ياءه في الحالين معاملاً له معاملة الصحيح إشارة إلى وصف التقوى بالصحة الكاملة والمكنة الزائدة والملازمة لها في كل حال {ويصبر} أي يوفه الله أجره لإحسانه {فإن الله} أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال {لا يضيع} أي أدنى إضاعة - أجره، هكذا كان الأصل، ولكنه عبر بما يعرف أن التقوى والصبر من الإحسان، فقال:{أجر المحسنين *} والتقوى: دفع البلاء بسلوك طريق الهدى؛ والصبر: حبس النفس بتجرع مرارة المنع عما يشتهي، ولعله إنما ستر أمره عنهم إلى هذا الحد لأنه لو أرسل إلى أبيه يخبره قبل الملك لم يأمن كيد إخوته، ولو تعرف إليهم بعده أو أول

ص: 207

ما رآهم لم يأمن من أن تقطع أفئدتهم عند مفاجأتهم بانكشاف الأمر وهو فيما هو فيه من العز، فإنهم فعلوا به فعل القاتل من غير ذنب قدمه إليهم، فهم لا يشكون في أنه إذا قدر عليهم يهلكهم لما تقدم لهم إليه من سوء الصنيعة، وعلى تقدير سلامتهم لا يأمنونه وإن بالغ في إكرامهم، فإن الأمور العظام - إن لم تكن بالتدريج - عظم خطرها، وتعدى ضررها، فإن أرسلهم ليأتوا بأبيهم خيف أن يختلوا أباهما من ملك مصر ويحسنوا له الإبعاد عن بلاده، فيذهبوا إلى حيث لا يعلمه، وإن أرسل معهم ثقات من عنده لم يؤمن أن يكون بينهم شر، وإن سجنهم وأرسل إلى أبيه من يأتي به لم يحسن موقع ذلك من أبيه، ويحصل له وحشة بحبس أولاده، وتعظم القاله بين الناس من أهل مصر وغيرهم في ذلك، ففعل معهم ما تقدم ليظهر لهم إحسانه وعدله ودينه وخيره، وكفه عنهم وعفوه عن فعلهم بالتدريج، ويقفوا على ذلك منه قولاً وفعلاً من أخيه الذي ربى معهم وهم به آنسون وله ألفون، فتسكن روعتهم، وتهون زلتهم، ومما يدل على ذلك أنه لما انتفى عن أخيه بنيامين ما اتصفوا به مما ذكر، تعرف إليه حين قدم عليه ونهاه أن يخبرهم بحقيقة الأمر، وشرع يمد في ذلك لتستحكم الأسباب التي

ص: 208

أرادها، فلما ظن أن الأمر قد بلغ مداه، لوح لهم فعرفوه وقد أنسهم حسن عقله وبديع جماله وشكله ورائع قوله وفعله، فكان موضع الوجل والخجل، وموضع اليأس الرجاء، فحصل المراد على وفق السداد - والله الموفق؛ وذلك تنبيه لمن قيل لهم أول السورة

{لعلكم تعقلون} [يوسف: 2] على الاقتداء بأفعال الهداة المهديين في التأني والاتئاد وتفويض الأمور إلى الحكيم، وأن لا يستعجلوه في أمر، وأن يعلموا أن سنته الإلهية جرت بأن الأمور الصعاب لا تنفذ إلا بالمطاولة لترتب الأسباب شيئاً فشيئاً على وجه الإحكام، وفي ذلك فوائد من أجلها امتحان أولى الطاعة والعصيان - كما ستأتي الإشارة إليه آخر السورة بقوله؛ {حتى إذا استيئس الرسل} [يوسف: 110] الآية والله أعلم.

ولما كان ما ذكر، كان كأنه قيل: لقد أتاهم ما لم يكونوا يحتسبون فما قالوا؟ فقيل: {قالوا} متعجبين غاية التعجب. ولذلك أقسموا بما يدل على ذلك: {تالله} أي الملك الأعظم {لقد آثرك الله} أي الذي له الأمر كله {علينا} أي جعل لك أثراً يغطي آثارنا بعلوه فالمعنى: فضلك علينا أي بالعلم والعقل والحكم والحسن والملك والتقوى

ص: 209

وغير ذلك {وإن} خففوها من الثقيلة تأكيداً بالإيجاز للدلالة على الاهتمام بالإبلاغ في الاعتذار في أسرع وقت {كنا} أي كوناً هو جبلة لنا {لخاطئين *} أي عريقين في الخطأ، وهو تعمد الإثم، فكأنه قيل: ما قال لهم على قدرته وتمكنه مع ما سلف من إساءتهم؟ فقيل: {قال} قول الكرام اقتداء بإخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام {لا تثريب} أي لا لوم ولا تعنيف ولا هلاك {عليكم اليوم} وإن كان هذا الوقت مظنة اللوم والتأنيب، فإذا انتفى ذلك فيه فما الظن بما بعده!

ومادة «ثرب» تدور على البرث - بتقديم الموحدة، وهو أسهل الأرض وأحسنها؛ ولثبرة - بتقديم المثلثة: أرض ذات حجارة بيض، فإنه يلزمه الإخلاد، والدعة، ومنه: ثابر على الأمر: دوام، والمثبر - كمنزل: لمسقط الولد أي موضع ولادته، والمقطع والمفصل، فيأتي الكسل واللين فيأتي الفساد، ومنه الثبور للهلاك، والبثر بتقديم الموحدة: خراج معروف: والماء البثر: الذي بقى منه على الأرض شيء قليل؛ والربث - بتقديم الموحدة أيضاً: حبس الإنسان،

ص: 210

وهو يرجع إلى الإقامة والدوام أيضاً؛ والتثريب: التقرير بالذنب، فهو إزالة ما على الإنسان من ساتر العفو، من الثرب وهو شحم يغشى الكرش والأمعاء ويسترهما، وهو من لوازم الأرض السهلة لما يلزم من خصبها، فالتثريب إزالته، وذلك للقحط الناشىء عنه الهلاك، فأغلب مدار المادة الهلاك.

ولما أعفاهم من الترثيب، كانوا في مظنة السؤال عن كمال العفو المزيل للعقاب من الله، فأتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم بقوله:{يغفر الله} أي الذي له صفات الكمال {لكم} أي ما فرط منكم وما لعله يكون بعد هذا؛ ولعله عبر في هذا الدعاء بالمضارع إرشاداً لهم إلى إخلاص التوبه، ورغبهم في ذلك ورجاهم بالصفة التي هي سبب الغفران، فقال:{وهو} أي وحده {أرحم الراحمين *} أي لجميع العباد ولا سيما التائب، فهو جدير بإدرار النعم بعد الإعاذة من النقم، وروى أنهم أرسلوا إليه أنك لتدعونا إلى طعامك وكرامتك بكرة وعشياً ونحن نستحي لما فرط منا، فقال: إن أهل مصر ينظرونني - وإن ملكت فيهم - بعين العبودية فيقولون: سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت الآن

ص: 211

بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي، وأني من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

ص: 212

ولما أقر أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى، بقي ما يخص أباهم من ذلك، فكأنه وقع السؤال عنه فأجيب بقوله:{اذهبوا بقميصي} ولما كان قوله هذا ربما أوقع في أفهامهم قميصه الذي سلبوه إياه، احترز عن ذلك بقوله:{هذا فألقوه} أي عقب وصولكم {على وجه أبي يأت} أي يرجع إلى ما كان {بصيراً} أو يأت إلى حالة كونه بصيراً، فإنه إذا رد إليه بصره وعلم مكاني لم يصبر عن القصد إليّ لما عنده من وفور المحبة وعظيم الشوق، وكونه قميصاً من ملابس يوسف المعتادة أدخل في الغرابة وأدل على الكرامة؛ والقميص ألصق الثياب بالجسم، فإظهار الكرامة به أدل على كمال دين صاحبه وعراقته في أمور الإيمان، وهو يؤول في المنام بالدين، وذلك أدخل في كمال السرور ليعقوب عليه الصلاة والسلام {وأتوني} أي بأبي وأنتم {بأهلكم} أي مصاحبين لهم {أجمعين *} لا يتخلف منهم أحد، فرجعوا بالقميص لهذا القصد، قيل: كان يهوذا هو الذي حمل قميصه لما لطخوه بالدم، فقال: لا يحمل هذا غيري

ص: 212

لأفرحه كما أحزنته، فحمله وهو حافٍ حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما ثمانون فرسخاً {ولما فصلت العير} من العريش آخر بلاد مصر إلى بلاد الشام {قال أبوهم} لولد ولده ومن حوله من أهله، مؤكداً لعلمه أنهم ينكرون قوله:{إني لأجد} أي لأقول: إني لأجد {ريح يوسف} وصدهم عن مواجهته بالإنكار بقوله: {لولا أن تفندون *} أي لقلت غير مستح ولا متوقف، لأن التفنيد لا يمنع الوجدان، وهو كما تقول لصاحبك: لولا أن تنسبني إلى الخفة لقلت كذا، أي إني قائل به مع علمي بأنك لا توافقني عليه، «وفصل» هنا لازم يقال: فصل من البلد يفصل فصولاً، والفصل: القطع بين الشيئين بحاجز، والوجدان: ظهور من جهة إدراك يستحيل معه انتفاء الشيء، والريح: عرض يدرك بحاسة الأنف أي الشم، والتفنيد: تضعيف الرأي بالنسبة إلى الفند، وهو الخوف وإنكار العقل من هرم، يقال: شيخ مفند، ولا يقال: عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فيفندها كبرها؛ ثم استأنف حكاية جوابهم فقال:{قالوا} أي السامعون له ما ظنه بهم، مقسمين بما دل على تعجبهم، وهو {تالله} أي الملك الأعظم، وأكدوا لمعرفتهم أنه ينكر كلامهم وكذا كل من يعرف كماله {إنك لفي ضلالك} أي بحيث صار ظرفاً لك

ص: 213

{القديم *} أي خطئك في ظن حياة يوسف؛ قال الرماني: والضلال: الذهاب عن جهة الصواب. فصحح الله قوله وحقق وجدانه، وعجلوا إليه بشيراً فأسرع بعد الفصول، ولذلك عبر بالفاء في {فلما} وزيدت {أن} لتأكيد مجيئه على تلك الحال وزيادتها قياس مطرد {جاء البشير} وهو يهوذا بذلك، معه القميص {ألقاه} أي القميص حين وصل إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام من غير فاصل ما بين أول المجيء وبينه كما أفادته زيادة «أن» لتأكيد ما تفيده «لما» من وقوع الفصل الثاني وهو هنا الإلقاء عقب الأول وترتبه عليه وهو هنا المجيء {على وجهه} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام {فارتد} من حينه {بصيراً} والارتداد: انقلاب الشيء إلى حال كان عليها، فالتفت الخاطر إلى حاله مع فنده، فأخبر تعالى عن ذلك بقوله مستأنفاً:{قال} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام {ألم أقل لكم} : إني أجد ريحه؛ ثم علل هذا التقرير بقوله مؤكداً لأن قولهم قول من ينكر: {إني أعلم من الله} أي المختص بصفات الكمال {ما لا تعلمون *} لما خصني به تعالى من أنواع المواهب، وهو عام لأخبار يوسف عليه الصلاة والسلام وغيرها، وهو من التحديث بنعمة الله.

ص: 214

ولما كان ذلك تشوفت النفس إلى علم ما يقع بينه وبين أولاده في ذلك، فدفع عنها هذا العناء بقوله:{قالوا ياأبانا} منادين بالأداة التي تدل على الاهتمام العظيم بما بعدها لما له من عظيم الوقع: {استغفر} أي اطلب من الله أن يغفر {لنا ذنوبنا} ورد كل ضمير من هذه الضمائر إلى صاحبه في غاية الوضوح، فلذلك لم يصرح بصاحبه.

ولما سألوه الاستغفار لذنوبهم، عللوه بالاعتراف بالذنب، لأن الاعتراف شرط التوبة - كما قال صلى الله عليه وسلم:«إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» فقالوا مؤكدين تحقيقاً للإخلاص في التوبة: {إنا كنا خاطئين *} أي متعمدين للإثم بما ارتكبنا في أمر يوسف علية الصلاة والسلام؛ ثم حكى جوابه بقوله مستأنفاً: {قال} أي أبوهم عليه السلام مؤكداً لكلامه: {سوف أستغفر} أي أطلب أن يغفر {لكم ربي} أي الذي لم يزل يحسن إليّ ويربيني أحسن تربية، فهو الجدير بأن يغفر لبني حتى لا يفرق بيني وبينهم في دار البقاء؛ والربوبية: ملك هو أتم الملك على الإطلاق، وهو ملك الله تعالى لإنشاء الأنفس باختراعها وتصريفها أتم التصريف من الإيجاد والإعدام والتقليب من حال إلى حال في جميع الأمور من غير تعب؛ ثم علل ذلك بقوله:{إنه هو} أي وحده {الغفور الرحيم *} كل

ص: 215

ذلك تسكيناً لقلوبهم وتصحيحاً لرجائهم ليقوى أملهم، فيكون تعالى عند ظنهم بتحقيق الإجابة وتنجيزاً لطلبه؛ ولعله عبر ب «سوف» لتقديم هاتين الجملتين على المسألة لما ذكرته من الأغراض، وقيل: لأنه أخر الدعاء إلى صلاة الليل، وقيل: إلى ليلة الجمعة؛ وقيل: يؤخذ منها أن طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منه إلى الشيوخ.

ص: 216

ولما وقع ما ذكر، وكان قد أرسل معهم من الدواب والمال والآلات ما يتجهزون به، أقبلوا على التجهيز كما أمرهم يوسف عليه الصلاة والسلام، ثم قدموا مصر وهم اثنان وسبعون نفساً من الذكور والإناث، وكأنهم أسرعوا في ذلك فلذلك قال:{فلما} بالفاء {دخلوا على يوسف} في المكان الذي تلقاهم إليه في وجوه أهل مصر وضرب به مضاربه {آوى إليه أبويه} إكراماً لهما بما يتميزان به، قيل: هو المعانقة، والظاهر أنها أمه حقيقة، وبه قال الحسن وابن إسحاق - كما نقله الرماني وأبو حيان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها خالته، وغلب الأب في هذه التثنية لذكورته كما غلب ما هو مفرد في أصله على المضاف في العمرين {وقال} مكرماً للكل {ادخلوا مصر}

ص: 216

أي البلد المعروف، وأتى بالشرط للأمن لا للدخول، فقال:{إن شاء الله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله {آمنين *} من جميع ما ينوب حتى مما فرطتموه في حقي وحق أخي.

ولما ذكر الأمن الذي هو ملاك العافية التي بها لذة العيش، أتبعه الرفعة التي بها كمال النعيم، فقال:{ورفع أبويه} أي بعدما استقرت بهم الدار بدخول مصر مستويين {على العرش} أي السرير الرفيع؛ قال الرماني: أصله الرفع. {وخروا} أي انحطوا {له سجداً} الأبوان والإخوة تحقيقاً لرؤياه ممن هو غالب على كل أمر، والسجود - وأصله: الخضوع والتذلل - كان مباحاً في تلك الأزمنة {وقال} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {ياأبت} ملذذاً له بالخطاب بالأبوة {هذا} أي الذي وقع من السجود {تأويل رؤياي} التي رأيتها، ودل على قصر الزمن الذي رآها فيه بالجار فقال:{من قبل} ثم استأنف قوله: {قد جعلها ربي} أي الذي رباني بما أوصلني إليها {حقاً} أي بمطابقة الواقع لتأويلها، وتأويل ما أخبرتني به أنت تحقق أيضاً من اجتبائي وتعليمي وإتمام النعمة عليّ؛ والتأويل: تفسير

ص: 217

بما يؤول إليه معنى الكلام؛ وعن سلمان رضي الله عنه أن ما بين تأويلها ورؤياها أربعون سنة. {وقد أحسن} أي أوقع إحسانه {بي} تصديقاً لما بشرتني به من إتمام النعمة، وتعدية {أحسن} بالباء أدل على القرب من المحسن من التعدية ب «إلى» وعبر بقوله:{إذا أخرجني من السجن} معرضاً عن لفظ «الجب» حذراً من إيحاش إخوته مع أن اللفظ يحتمله احتمالاً خفياً {وجاء بكم} وقيل: إنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش، يتنقلون في المياه والمناجع، فلذلك قال:{من البدو} من أطراف بادية فلسطين، وذلك من أكبر النعم كما ورد في الحديث «من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة» والبدو: بسيط من الأرض يرى فيه الشخص من بعيد، وأصله من الظهور، وأنس إخوته أيضاً بقوله مثبتاً الجار لأن مجيئهم في بعض أزمان البعد:{من بعد أن نزغ} عبر بالماضي ليفهم أنه انقضى {الشيطان} أي أفسد البعيد المحترق بوسوسته التي هي كالنخس {بيني وبين إخوتي} حيث قسم النزع بينه وبينهم ولم يفضل أحداً من

ص: 218

الفريقين فيه، ولم يثبت الجار إشارة إلى عموم الإفساد للبينين، كل ذلك إشارة إلى تحقق ما بشر به يعقوب عليه الصلاة والسلام من إتمام النعمة وكمال العلم والحكمة؛ ثم علل الإحسان إليهم أجمعين بقوله:{إن ربي} أي المحسن إليّ على وجوه فيها خفاء {لطيف} - أي يعلم دقائق المصالح وغوامضها، ثم يسلك - في إيصالها إلى المستصلح - سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك فهو اللطيف - قاله الرازي في اللوامع.

وهو سبحانه فاعل اللطف في تدبيره ورحمته {لما يشاء} لا يعسرعليه أمر؛ ثم علل هذه العلة بقوله: {إنه هو} أي وحده {العليم} أي البليغ العلم للدقائق والجلائل {الحكيم *} أي البليغ الإتقان لما يصنعه طبق ما ختم به يعقوب عليه الصلاة والسلام بشراه في أول السورة، أي هو منفرد بالاتصاف بذلك لا يدانيه أحد في علم ليتعرض إلى أبطال ما يقيمه من الأسباب، ولا في حكمة ليتوقع الخلل في شيء منها.

ص: 219

ولما ذكر هاتين الصفتين، تذكر ما وقع له بهما من الأسباب، فغلب عليه مقام الشهود وازدادت نفسه عن الدنيا عزوفاً، فقال مخاطباً:

ص: 219

{رب قد آتيتني} وافتتح ب «قد» لأن الحال حال توقع السامع لشرح مآل الرؤيا {من الملك} أي بعضه بعد بعدي منه جداً، وهو معنى روحه تمام القدرة {وعلمتني} وقصر دعواه تواضعاً بالإتيان بالجار فقال:{من تأويل الأحاديث} طبق ما بشرني به أبي وأخبرت به أنت من التمكين والتعليم قبل قولك، والله غالب على أمره؛ ثم ناداه بوصف جامع للعلم والحكمة فقال:{فاطر السماوات والأرض} ثم أعلمه بما هو أعلم به منه من أنه لا يعول على غيره في شيء من الأشياء فقال: {أنت وليِّي} أي الأقرب إليّ باطناً وظاهراً {في الدنيا والآخرة} أي لا ولي لي غيرك، والولي يفعل لمولاه الأصلح والأحسن، فأحسن بي في الآخرة أعظم ما أحسنت بي في الدنيا.

ولما كان توليه لله لا يتم إلا بتولي الله له، أتبعه بما يفيده فقال:{توفني} أي اقبض روحي وافياً تاماً في جميع أمري حساً ومعنى حال كوني {مسلماً} ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقاً في الإخلاص، حققه بقوله:{وألحقني بالصالحين *} فتوفاه الله كما سأل؛ قالوا: وتخاصم أهل مصر فيه، كلهم يرجو أن يدفن في محلته يرجو بركته، ثم اصطلحوا على أن عملوا له صندوقاً من رخام ودفنوه في وسط النيل،

ص: 220

ليفترق الماء على جميع الأرض فتنالها بركته وتخصب كلها على حد سواء، ويكونوا كلهم في الماء سواء.

ذكر ما بقي من القصة عن التوراة:

قال بعدما مضى: فلم يقدر يوسف على الصبر - يعني على ترفق إخوته - فأمر بإخراج جميع من كان عنده، فلم يبق عنده أحد حيث ظهر يوسف لإخوته، فرفع صوته فبكى حتى سمع المصريون فأخبروا في آل فرعون، فقال يوسف لإخوته: أنا أخوكم يوسف، هل أبي باق؟ فلم يقدر إخوته على إجابته لأنهم رهبوه، فقال يوسف لإخوته: ادنوا مني فدنوا فقال لهم: أنا يوسف الذي بعتموني لمن ورد إلى مصر، والآن فلا تحزنوا، ولا يشقن عليكم ذلك، ولا يشتدن عليكم بيعكم إياي إلى ما هنا، لأن الله أرسلني أمامكم لأعد لكم القوت، لأن للجوع مذ أتى سنتين، وستأتي خمس سنين أخر لا يكون فيها زرع ولا حصاد، فأرسلني الرب أمامكم لأصير لكم بقاء في الأرض وأخلصكم

ص: 221

وأستنقذكم، لتحيوا وتستبشروا على الأرض، والآن فلستم أنتم الذين بعثتموني إلى هاهنا بل الله أرسلني وجعلني أباً لفرعون وسيداً لجميع أهل بيته، ومسلطاً على جميع أرض مصر، فاصعدوا الآن عجلين عليّ بأبي وقولوا له: هكذا يقول ابنك يوسف: إن الله جعلني سيداً لجميع أهل مصر، فاهبط إليّ ولا تتأخر، وانزل إلى أرض السدير - وفي نسخة: خشان - فكن قريباً مني أنت وبنوك وأهل بيتك وعمتك وبقرك وجميع مالك، فأموّنكم هناك، لأنه قد بقي خمس سنين جوعاً، لئلا تهلك أنت وأهل بيتك وكل مالك، وهذه أعينكم تبصر وعينا أخي بنيامين، إني أكلمكم مشافهة، وأخبروا أبي بجميع كرامتي ووقاري في أرض مصر، وبجميع ما رأيتم، وأسرعوا واهبطوا بأبي إلى ما هاهنا، فاعتنق أخاه بنيامين أيضاً وبكى، وقبل جميع إخوته وبكى، ومن بعد ذلك كلمه إخوته، فبلغ ذلك فرعون وقيل له: إن إخوة يوسف قد أتوه، فسر ذلك فرعون، عبده - وفي نسخة: وجميع قواده - فقال فرعون ليوسف: قل لإخوتك فليفعلوا هكذا، أوقروا دوابكم ميرة، وانطلقوا بها إلى أرض كنعان، وأقبلوا بأبيكم وأهل بيوتاتكم وائتوني فأنحلكم

ص: 222

خيرات أرض مصر وخصبها، وكلوا خصب الأرض، وهذا أنت المسلط، فأمر إخوتك أن يفعلوا هذا الفعل، احملوا من أرض مصر عجلاً لنسائكم وحشمكم، وأظعنوا بأبيكم فأقبلوا، ولا تشفقن على أمتعتكم، لأن جميع خيرات مصر وأرضها وخصبها هو لكم، ففعل بنو إسرائيل كما أمر فرعون، ودفع إليهم يوسف عجلاً عن أمر فرعون، وزودهم جميع أزودة الطريق، وخلع على كل أمرىء منهم خلعة، فأما بنيامين فأجازه بثلاثمائة درهم - وفي نسخة: مثقال فضة - وخلع عليه خمس خلع، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك أيضاً وعشرة حمير موقرة من البر والطعام وأزودة لأبيه للطريق وأرسلهم، فانطلقوا، وتقدم إليهم وقال لهم: لا تقع المشاجرة فيما بينكم في الطريق، فظعنوا من مصر فأتوا أرض كنعان إلى يعقوب أبيهم، فأخبروه وقالوا له: إن يوسف بعد في الحياة، وهو المسلط على جميع أرض مصر، ورأى يعقوب العجل الذي بعث يوسف لحمله فاطمأنت نفسه وقال: إن هذا لعظيم عندي، إذ كان ابني يوسف بعد الحياة، أنطلق الآن

ص: 223

فأنظر إليه قبل الموت.

فظعن إسرائيل وجميع ما له، فأتى بئر السبع، وقرب قرباناً لإله إسحاق أبيه، فكلم الله إسرائيل في الرؤيا وقال له: يا يعقوب! فقال: هاأنذا! فقال: إني أنا إيل إله أبيك، لا تخف من الحدور إلى مصر، لأني أجعلك هناك إلى شعب عظيم - وفي نسخة: لأني أصير منك أمة عظيمة - أنا أهبط معك، وأنا أصعدك، ويوسف يضع يده على عينيك، فنهض يعقوب من بئر السبع وظعن بنو إسرائيل بيعقوب أبيهم وبحشمهم ونسائهم على العجل الذي بعث فرعون لحمله، وساقوا دوابهم ومواشيهم التي استفادوها بأرض كنعان، فأتوا بها مصر يعقوب وجميع نسله وبنوه معه وبنو بنيه وبناته وبنات بناته، وأدخل إلى مصر كل نسله،

ثم سماهم واحداً واحداً، ثم قال: فجميع بني يعقوب الذين ادخلوا مصر سبعون إنساناً، ثم بعث يعقوب يهوذا بين يديه إلى يوسف عليه الصلاة والسلام ليدله على السدير - وفي نسخة: خشان - فألجم يوسف مراكبه، وصعد للقاء أسرائيل أبيه إلى خشان - وفي نسخة: السدير - فتلقاه واعتنقه وبكى إذ اعتنقه، فقال إسرائيل ليوسف:

ص: 224

أتوفى الآن بعد نظري إليك يا بني، فأنت في الحياة بعد، فقال يوسف لإخوته وآل أبيه: أصعد فأخبر فرعون وأقول: إن إخوتي وآل أبي الذين كانوا بأرض كنعان قد أتوني والقوم رعاء غنم، لأنهم أصحاب مواش وقد أتوا بغنمهم وبقرهم وبكل شيء لهم، فإذا دعاكم فقولوا له: إنا عبيدك أصحاب ماشية منذ صبانا، وحتى الآن نحن وآباؤنا من قبل أيضاً، لكي تنزلوا أرض خشان - وفي نسخة: السدير - لأن رعاة الغنم هم مرذولون عند المصريين.

فأتى يوسف فأخبر فرعون وقال له: إن أبي وإخوتي أتوني وغنمهم وبقرهم وجميع ما لهم في أرض كنعان، وهو ذا هم حلول بأرض السدير، وحمل من إخوته خمسة رهط، فأدخلهم على فرعون فوقفوا بين يديه، فقال فرعون لإخوة يوسف: ما صنعتكم؟ فقالوا: إن عبيدك رعاء غنم نحن منذ صبانا، وآباؤنا أيضاً من قبل. وقالوا لفرعون: إنا أتينا لنسكن هذه الأرض لأنه فقد الحشيش والعشب والكلأ من مرابع غنم عبيدك، وذلك لأن الجوع اشتد في أرض كنعان، فأمر عبيدك أن ينزلوا بأرض السدير، فقال فرعون ليوسف: إن أباك وإخوتك قد أتوا، وهذه أرض مصر

ص: 225

بين يديك، فأسكن أباك وإخوتك في أحسن الأرض وأخصبها لينزلوا أرض السدير، وإن كنت تعلم أن فيهم قوماً ذوي قوة وبطش ونفاذ فولهم جميع مالي، فأدخل يوسف عليه السلام أباه يعقوب عليهم الصلاة والسلام على فرعون فأقامه بين يديه، فقال فرعون ليعقوب عليه الصلاة والسلام: كم عدد سني حياتك؟ فقال يعقوب عليه السلام لفرعون: مبلغ حياتي مائة وثلاثون سنة، وإن أيام حياتي لناقصة، ولم أبلغ سني حياة آبائي في أيام حياتهم، فبارك يعقوب فرعون ودعا له، وخرج من بين يديه، فأسكن يوسف عليه السلام أباه يعقوب عليه السلام وإخوته وأعطاهم وراثة في أرض مصر في أخصب الأرض وأحسنها في أرض رعمسيس - وفي نسخة: أرض عين شمس - كما أمر فرعون، فقات يوسف أباه وإخوته وجميع أهل بيته بالميرة على قدر الحشم، ولم تكن ميرة في جميع الأرض كلها لأن الجوع اشتد جداً، فخرجت جميع أرض مصر وأرض كنعان، فصار إلى يوسف عليه الصلاة والسلام كل ورق ألفي في

ص: 226

أرض مصر وأرض كنعان، وذلك ثمن البر الذي كانوا يبتاعونه، فأورد يوسف الورق بيت مال فرعون، ونفد الورق من أرض مصر وأرض كنعان، فأتى جميع المصريين إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقالوا له: أعطنا من القمح حاجتنا فنحيى ولا نموت، لأن ورقنا قد نفذ، فقال لهم يوسف: ادفعوا إليَّ مواشيكم إن كانت الأوراق قد نفدت، فأقوتكم بمواشيكم، فأتوه بمواشيهم فأعطاهم يوسف من الميرة بخيلهم وبمواشي الغنم وماشية البقر والحمير، وقاتهم سنتهم تيك بجميع مواشيهم، فأتوه في السنة الأخرى وقالوا له: لسنا نكتم سيدنا أمرنا، لأنن أوراقنا وماشيتنا ودوابنا قد نفدت وصارت عند سيدنا، ولم يبق بين يدي سيدنا غير أنفسنا وأرضنا، فلم نهلك بين يديك؟ فابتعنا وأراضينا بإطعامك إيانا الخبز، فنصير نحن عبيداً لفرعون وأرضنا ملكاً له، وأعطنا البذر فنحيا ولا نموت، ولا تخلو الأرض وتخرب لفقد سكانها، فابتاع يوسف لفرعون جميع أرض مصر، فصارت الأرض لفرعون، فنقل الشعب من قرية إلى قرية وحولهم من أقاصي الأرض نحو مصر إلى أقطارها ما خلا أرض الأجناد - وفي نسخة: أئمتهم - فإنه لم يبتعها، لأنه كان يجري على الأجناد - وفي رواية:

ص: 227

أئمتهم - وظيفة ونزلا من عند فرعون، وكانوا يأكلون برهم الموظف لهم من قبل فرعون، ولذلك لم يبيعوا أرضهم، فقال يوسف للشعب: إني قد اشتريتكم اليوم وأرضكم لفرعون، وهاأنذا معطيكم البذر لتزرعوا في الأرض، فإذا دخلت الغلة فأعطوا فرعون الخمس منها، وتكون لكم لزراعة الحقل أربعة أخماس، ولمأكل أهل بيوتاتكم وإطعام حشمكم، فقالوا له: لقد أحييتنا، فلنظفر من سيدنا برحمة ورأفة، ونكون عبيداً لفرعون، فسن يوسف هذه السنة على أرض مصر إلى يوم الناس هذا، فصار الخمس لفرعون ما خلا أرض أئمتهم - وفي رواية: الأجناد - فإنها لم تكن لفرعون.

فسكن إسرائيل أرض مصر وأرض السدير، فعظموا واعتزوا فيها واستيسروا وتماجدوا، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة، وكانت جميع أيام حياة يعقوب مائة وسبعاً وأربعين سنة، ودنت أيام وفاة إسرائيل عليه السلام، فدعا يوسف

ص: 228

ابنه عليه السلام وقال له: إن ظفرت منك برحمة ورأفة، فضع يدك تحت ظهري حتى أستحلفك بالله وأقسم عليك به، وأنعم عليّ بالنعمة والقسط، لا تدفني بمصر، بل أضطجع مع آبائي، احملني من مصر فادفني في مقبرتهم، فقال يوسف: أنا فاعل ذلك كقولك وأمرك، فقال له: أقسم لي، فأقسم له فتوكأ إسرائيل على عصاه وسجد شكراً.

فلما كان بعد هذه الأقاويل بلغ يوسف عليه السلام أن أباه قد مرض، فانطلق بابنيه معه: منشا وإفرايم، فبلغ يعقوب وقيل له: إن ابنك يوسف قد أتاك، فتقوى إسرائيل وجلس على أريكته، فقال إسرائيل ليوسف: إن إله المواعيد اعتلن لي بلوز في أرض كنعان، فباركني وقال لي: هاأنذا مباركك ومكثرك، وأجعلك أباً لجميع الشعوب، وأعطي نسلك من بعدك هذه الأرض ميراثاً إلى الأبد، وأنا

ص: 229

إذ كنت مقبلاً من فدانة أرام توفيت عني راحيل أمك في أرض كنعان في الطريق، وكان بيني وبين الدخول إلى إفراث قدر مسيرة ميل - وفي نسخة: - فرسخ - فدفنتها هناك في طريق إفراث - وهي بيت لحم - ونظر إسرائيل إلى ابني يوسف فقال له: من هذان؟ فقال: ابناي اللذان رزقني الله هاهنا، فقال أدنهما مني، فقبلهما واعتنقهما وقال: ما كنت أرجو النظر إلى وجهك فقد أراني الله نسلك أيضاً، وقال إسرائيل ليوسف عليهما الصلاة والسلام: هاأنذا متوف، ويكون الله بنصره وعونه معكم، ويردكم إلى أرض آبائكم، وهأنذا قد فضلتك على إخوتك بسهم من الأرض التي غلبت عليها الأمورانيون بسيفي وقوسي، ثم إن يعقوب دعا بنيه وقال؛ اجتمعوا إليّ فأبين لكم ما هو كائن من أمركم في آخر الأيام، فذكر ذلك ثم قال: وهذا ما أخبرهم به يعقوب أبوهم، نبأهم بذلك وبارك عليهم كل امرىء منهم

ص: 230

على قدره، ثم أوصاهم وقال لهم: إنني أنتقل إلى شعبي فادفنوني إلى جانب آبائي في المغارة التي في حقل عفرون الحيثاني، في المغارة التي في الروضة المضاعفة إلى جانب ممري بأرض كنعان التي ابتاعها إبراهيم: روضة من عفرون الحيثاني وراثة المقبرة، هنالك دفن إبراهيم وسارة حليلته، وفيها دفن إسحاق ورفقا حليلته، وهنالك دفنت ليا في الروضة المبتاعة والمغارة التي فيها من بني حاث.

فلما فرغ يعقوب من وصيته لبنيه بسط رجليه على أريكته فمات ونقل إلى شعبه.

فوقع يوسف عليه فقبله وبكى عليه، فأمر عبيده الأطباء بتحنيطه، فحنط الأطباء إسرائيل وتمت له أربعون ليلة، لأنه هكذا تكمل أيام المحنطين، وناح المصريون عليه سبعين يوماً، فقال يوسف لآل فرعون: إن ظفرت منكم برحمة ورأفة فأخبروا فرعون أن أبي أحلفني وأقسم عليّ وقال لي: هاأنا متوف، فاقبرني في القبر الذي ابتعته في أرض كنعان، فيأذن لي فأصعد فأدفن أبي ثم أرجع، فقال له

ص: 231

فرعون: اصعد فادفن أباك كما أقسم عليك، فصعد يوسف ليدفن أباه، وصعد معه جميع عبيد فرعون وأشياخ بيته وجميع أشياخ مصر وجميع أهل بيت يوسف، وصعد معه إخوته وآل أبيه، وأما حشمهم وبقرهم وغنمهم فخلفوها بأرض خشان - وفي نسخة: السدير - وأصعد المراكب والفرسان أيضاً، فصار في عسكرعظيم منيع، فأتوا إلى بيادر أطرا - وفي نسخة: أندر العوسج - التي في مجاز الأردن، فرنوا هناك وناحوا نوحاً عظيماً مراً، فنظر سكان أرض كنعان إلى التأبل والنواح في أجران العوسج، فقالوا: إن هذا التأبل عظيم للمصريين، ولذلك دعي ذلك الموضع «تأبل مصر» ، الذي في مجاز الأردن، ففعل بنو إسرائيل كما أمرهم، وحملوه وانطلقوا به إلى أرض كنعان فدفنوه ثم في المغارة المضاعفة التي في الروضة التي ابتاعها إبراهيم وراثة المقبرة من عفرون الحيثاني وهي إمام ممري.

ص: 232

ثم رجع يوسف إلى مصر هو وإخوته وجميع من صعد معه في دفن أبيه، ومن بعد ما دفن أباه نظر إخوة يوسف إلى أبيهم قد توفى، ففرقوا وقالوا: لعل يوسف أن يؤذينا وينكأنا ولعله أن يكافئنا على جميع الشر الذي ارتكبنا منه، فدنوا من يوسف وقالوا له: إن أباك أوصى قبل وفاته وقال: هكذا قولوا ليوسف: نطلب إليك أن تعفو عن جهل إخوتك وعن خطاياهم بارتكابهم الشر منك، فالآن نطلب إليك أن تعفو عن ذنب عبيد إله أبيك، فبكى يوسف لما قالوا ذلك، فدنا إخوته فخروا بين يديه سجداً وقالوا له: هوذا نحن لك عبيد، فقال لهم: لا تخافوني لأني أخاف الله، أما أنتم فهممتم بي شراً فصيره الله لي خيراً كما فعل بي يومنا هذا، فأحيي على يدي خلقاً عظيماً، والآن فلا خوف عليكم، أنا أقوتكم وحشمكم، فعزاهم وملأ قلوبهم خيراً.

ثم أقام يوسف بمصر هو وآل بيته، فعاش يوسف مائة وعشر سنين ورأى يوسف ولد ولده، فقال يوسف لإخوته: هاأنذا متوف، والله سيذكركم ويخرجكم من هذه الأرض إلى الأرض التي أقسم بها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأقسم يوسف على بني أسرائيل

ص: 233

وقال: إن الله سيذكركم، فأصعدوا عظامي معكم، فتوفي يوسف وهو ابن مائة وعشر سنين، فحنطوه ووضعوه في صندوق بأرض مصر - وسيأتي ما بعد ذلك من استعبادهم وما يتبعه في سورة القصص إن شاء الله تعالى.

وهذا الذي ذكر من القصة في التوراة مصدق لما في القرآن وشاهد بإعجازه، غير أنه لم يذكر شرح قوله تعالى:{فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً} [يوسف: 80] في أنه بعد أخذ الصواع من رحل أخيه تركهم من غير تعريف لهم بنفسه فمضوا إلى أبيهم فأخبروه بذلك، ثم عادوا مرة أخرى للميرة والطلب ليوسف وأخيه فعرفهم يوسف عليه السلام بنفسه وجلا لهم الأمر في هذه القدمة الثالثة، فكأنهم أسقطوا ما في التوراة من ذلك تدليساً وتلبيساً، وهو لا يضر غيرهم، فإن ما صار في كتابهم لا يتمشى على قوانين العقل لمن تدبر، فلم يفدهم ذلك غير التحقق لخيانتهم وجهلهم - والله الهادي إلى الصواب.

ص: 234

ولما تم الذي كان من أمرهم على هذا الوجه الأحكم والصراط الأقوم من ابتدائه إلى انتهائه، قال مشيراً إلى أنه دليل كاف في تصحيح دعوى النبوة مخاطباً لمن لا يفهم هذا الحق فهمه غيره، مسلياً له مثبتاً لفؤاده وشارحاً لصدره، منبهاً على أنه مما ينبغي السؤال عنه:{ذلك} أي النبأ العالي الرتبة الذي قصصناه قصاً يعجز البلغاء من حملته ورواته فكيف بغيرهم {من أنباء الغيب} أي أخباره التي لها شأن عظيم {نوحيه إليك} وعبر بصيغة المضارع تصويراً لحال الإيحاء الشريف وإشارة إلى أنه لا يزال معه يكشف له ما يريد {و} الحال أنك {ما كنت لديهم} أي عند إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام في هذا النبأ الغريب جداً {إذ} أي حين {أجمعوا أمرهم} على رأي واحد في إلقاء يوسف عليه الصلاة والسلام في الجب بعد أن كان مقسماً {وهم يمكرون *} أي يدبرون الأذى في خفية، من المكر وهو القتل - لتعرف ذلك بالمشاهدة، وانتفاء تعلمك لذلك من بشر مثل انتفاء كونك لديهم في ذلك الحين، ومن المحقق لدى كل ذي لب أنه لا علم إلا بتعليم، فثبت أنه لا معلم لك إلا الله كما علم إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيا له من دليل جل عن مثيل، وهذا

ص: 235

من المذهب الكلامي، وهو إيراد حجة تكون بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمطلوب، وهو تهكم عظيم ممن كذب النبي صلى الله عليه وسلم.

ولما سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نقله أبو حيان عن ابن الأنباري - عن قصة يوسف عليه الصلاة والسلام فنزلت مشروحة هذا الشرح الشافي، مبينة هذا البيان الوافي، فأمل صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك سبب إسلامهم فخالفوا تأميله، عزاه الله بقوله:{وما} أي نوحيه إليك على هذا الوجه المقتضي لإيمانهم والحال أنه ما {أكثر الناس} أي كلهم مع ذلك لأجل ما لهم من الاضطراب {ولو حرصت} أي على إيمانهم {بمؤمنين *} أي بمخلصين في إيمانهم واصفين الله بما يليق به من التنزه عن شوائب النقص، فلا تظن أنهم يؤمنون لإنزال ما يقترحون من الآيات، أو لترك ما يغيظهم من الإنذار؛ والكثير - قال الرماني: العدة الزائدة على مقدار غيرها، والأكثر: القسم الزائد على القسم الآخر من الجملة، ونقيضه الأقل؛ والناس: جماعة الإنسان، وهو من ناس ينوس - إذا تحرك يمنياً وشمالاً من نفسه لا بجر غيره.

ص: 236

ولما ذكر تعالى ما هم عليه من الكفر، ذكر ما يعجب معه منه فقال:{وما} أي هم على ذلك والحال أن موجب إيمانهم موجود، وذلك أنك - مع دعائهم إلى الطريق الأقوم وإيتانك عليه بأوضح الدلائل ما {تسئلهم عليه} أي هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك، وأعرق في النفي فقال:{من أجر} حتى يكون سؤالك سبباً لأن يتهموك أو يقولوا: لولا أنزل عليه كنز ليستغني به عن سؤالنا.

ولما نفى عنهم سؤالهم الأجر، نفى عن هذا الذكر كل غرض دنيوي فقال:{إن هو} أي هذا الكتاب {إلا ذكر} أي تذكير وشرف {للعالمين *} قال الرماني: والذكر: حضور المعنى للنفس، والعالم: جماعة الحيوان الكثيرة التي من شأنها أن تعلم، لأنه أخذ من العلم، وفيه معنى التكثير، وقد يقال: عالم الفلك وما حواه على طريق التبع للحيوان الذي ننتفع به وهو مجعول لأجله.

ولما كان القرآن العظيم أعظم الآيات بما أنبأ فيه عن الإخبار الماضية والكوائن الآتية على ما هي عليه مضمنة من الحكم والأحكام، في أساليب البلاغة التي لا ترام، وغير ذلك ما لا يحصر بنظام، كما أشار إليه أول السورة، كان ربما قيل: إن هذا ربما لا يعلمه إلا الراسخون

ص: 237

في العلوم الإلهية، عطف عليه الإشارة إلى أن له تعالى غيره من الآيات إلتي لا تحتاج لوضوحها إلى أكثر من العقل ما لا يحيط به الحصر، ومع ذلك فلم ينتفعوا به، فقال:{وكأين من آية} أي علامة كبيرة دالة على وحدانيته {في السماوات} أي كالنيرين وسائر الكواكب والسحاب وغير ذلك {والأرض} من الجبال والشجر والدواب وغير ذلك مما لا يحصيه العد - كما سيأتي بيانه في سورة الرعد مفصلاً {يمرون عليها} مشاهدة بالحس ظاهرة غير خفية {وهم عنها} أي خاصة لا عن ملاذهم وشهواتهم بها {معرضون *} أي عن دلالتها على السعادة من الوحدانية وما يتبعها.

ولما كان ربما قيل: كيف يوصفون بالإعراض وهم يعتقدون أن الله فاعل تلك الآيات، بين أن إشراكهم مسقط لذلك، فقال:{ما يؤمن أكثرهم} أي الناس {بالله} أي الذي لا شيء إلا وهو داع إلى الإيمان به، لأنه المختص بصفات الكمال {إلا وهم مشركون *} به مَن لا يقدر على شيء فضلاً عن أن يأتي بآية، كانوا يقرون بأن الله خالقهم ورازقهم ويعبدون غيره، وكذا المنافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفران، وكذا أهل الكتابين يؤمنون بكتابهم ويقلدون علماءهم

ص: 238

في الكفر بغيره، فعلم أن إذعانهم بهذا الإيمان غير تابع لدليل، وهو محض تقليد لمن زين له سوء علمه فرآه حسناً، لما سبق فيه من علم الله أنه لا صلاحية له فأفسده بما شابهه به من الشرك، والآية صالحة لإرادة الشرك الخفي الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل» وهو شرك الأسباب التي قدر الله وصول ما يصل إلى العبد بواسطتها، فقل من يتخطى من الأسباب إلى مسببها! قال الرازي في اللوامع: وقال الإمام محمد بن علي الترمذي: إنما هو شك وشرك فالشك ضيق الصدر عند النوائب، ومنه ثوب مشكوك، والشرك بنور التوحيد، فعند هذا يتولاه الله تعالى، وقال الواسطي: إلا وهم مشركون: في ملاحظة الخواطر والحركات.

ص: 239

ولما أخبر الله تعالى عن ارتباكهم في أشراك إشراكهم، وأنهم يتعامون عن الأدلة في الدنيا، وكان الأكثر المبهم القطع بعدم إيمانهم من توجيه الأمر والنهي والحث والزجر إلى الجميع وهم

ص: 239

في غمارهم، وكان بعض الناس كالحمار لا ينقاد إلا بالعذاب، قال سبحانه وتعالى:{أفأمنوا} إنكاراً فيه معنى التوبيخ والتهديد {أن تأتيهم غاشية} أي شيء يغطيهم ويبرك عليهم ويحيط بهم {من عذاب الله} أي الذي له الأمر كله في الدنيا كما أتى من ذكرنا قصصهم من الأمم.

ولما كان العاقل ينبغي له الحذر من كل ممكن وإن كان لا يقربه، قال تعالى:{أو تأتيهم الساعة} وأشار إلى أشد ما يكون من ذلك على القلوب بقوله: {بغتة} أي وهم عنها في غاية الغفلة بعدم توقعها أصلاً؛ قال الرماني: قال يزيد بن مقسم الثقفي:

ولكنهم بانوا ولم أدر بغتة

وأفظع شيء حين يفجؤك البغت

ولما كان هذا المعنى مهولاً، أكده الله بقوله:{وهم لا يشعرون *} أي نوعاً من الشعور ولو أنه كالشعرة، إعلاماً بشدة جهلهم في أن حالهم حال من هو في غاية الأمن مما أقل أحواله أنه ممكن، لأن الشعور إدراك الشيء بما يلطف كدقة الشعر، وإنما قلت: إنه تأكيد، لأنه

ص: 240

معنى البغتة؛ قال الإمام أبو بكر الزبيدي في مختصر العين: البغتة: المفاجأة، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه: فاجأت الرجل مفاجأة - إذا جئته على غفلة مغافصة، ثم قال: وفاجأته مفاجأة - إذا لقيته ولم يشعر بك، وفي ترتيب المحكم: فجئه الأمر وفجأه وفاجأه مفاجأة: هجم عليه من غير أن يشعر به، ويلزم ذلك الإسراع وهو مدار هذه المادة، لأنه يلزم أيضاً التغب - بتقديم المثناة محركاً وهو الهلاك، لأنه أقرب شيء إلى الإنسان إذ هو الأصل في حال الحدث، والسلامة فيه هي العجب، والتغب أيضاً: الوسخ والدرن، وتغب - بكسر الغين: صار فيه عيب، ويقال للقحط: تغبة - بالتحريك، والتغب - ساكناً: القبيح والريبة، وكل ذلك أسرع إلى الإنسان من أضداده إلا من عصم الله، وما ذاك إلا لأن هذه الدار مبينة عليه.

ولما وصف الله سبحانه له صلى الله عليه وسلم أكثر الناس بما وصف من سوء الطريقة للتقليد الذي منشؤه الإعراض عن الأدلة الموجبة

ص: 241

للعلم، أمر أن يذكر طريق الخلّص فقال:{قل} أي يا أعلى الخلق وأصفاهم وأعظمهم نصحاً وإخلاصاً: {هذه} أي الدعوة إلى الله على ما دعا إليه كتاب الله وسننه صلى الله عليه وسلم {سبيلي} القريبة المأخذ، الجلية الأمر، الجليلة الشأن، الواسعة الواضحة جداً، فكأنه قيل: ما هي؟ فقال: {أدعوا} كل من يصح دعاؤه {إلى الله} الحائز لجميع الكمال حال كوني {على بصيرة} أي حجة واضحة من أمري بنظري الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة وترك التقليد الدال على الغباوة والجمود، لأن البصيرة المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل ديناً ودنيا بحيث يكون كأنه يبصر المعنى بالعين.

ولما كان الموضع في غاية الشرف، أكد الضمير المستتر تعييناً وتنبيهاً على التأهل لظهور الإمامة، فقال:{أنا ومن} أي ويدعو كذلك من {اتبعني} لا كمن هو على عمى جائر عن القصد، حائر في ضلال التقليد، فهو لا يزال في غفلة هدفاً للحتوف؛ والاتباع: طلب الثاني اللحاق بالأول للموافقة في مكانه أو في أمره الذي دعا إليه، ومما دخل تحت {قل} عطفاً على {أدعوا} قوله: منبهاً على أن شرط كل دعوة إليه سبحانه اقترانها بتنزيهه عن كل شائبة نقص - {وسبحان الله}

ص: 242

أي وأسبح الذي اختص بصفات الكمال سبحاناً، أي أقدره حق قدره فأثبت له من صفات الكمال ما يليق بجلاله، وأنزهه عما هو متعال عنه تنزيهاً يعلم هم أنه يليق بجلالة ويرضى به، وفي تخصيص الله بذلك عقب ما أثبت له ولأتباعه تلويح بنسبة النقص إليهم تواضعاً، اعتذاراً عما يلحقهم من الوهن وطلباً للعفو عنه {وما أنا} وعدل عن «مشركاً» إلى أبلغ منه فقال:{من المشركين *} أي في عداد من يشرك به شيئاً بوجه من الوجوه، لأني علمت بما آتاني من البصيرة أنه منعوت بنعوت الكمال، منزه عن سمات النقص، متعال عنها، وأن ذلك أول واجب لأنه الواحد الذي جل عن المجانسة، القهار الذي كل شيء تحت مشيئته، وفسرت {سبحان} بما تقدم لأن مادة «سبح» بكل ترتيب تدور على القدر والشدة والاتساع؛ وتارة يقتصر فيه على الكفاية ومنه الحسب: مقدار الشيء. وتارة يقتصر فيه على الكفاية فيلزمه الحصر ومنه: أحسبني الشيء: كفاني، واحتساب الأجر: الاكتفاء به، والحساب: معرفة المقدار، والحسب بمعنى الظن راجع إلى ذلك أيضاً، والأحسب: الذي ابيضت جلدته من داء وفسدت

ص: 243

شعرته، بمعنى أن ذلك الداء كفاه في الفساد عن كل داء كأنه ما بقي يسع معه داء، والتحسيب: التكفين بما يسع الميت، وهو كفاية له لا يحتاج بعده إلى شيء، ومنه الحبس وهو المنع من مجاوزة الكفاية؛ وتتجاوز الكفاية فيسبح ويتسع مداه فلا ينحصر ومنه: الحسب - بالتحريك، وهو الشرف؛ ومنه السحب وبه سمي السحاب لانسياحه في الهواء؛ ومنه السبح في الماء، ومد الفرس يديه في الجري، والسبحة: صلاة التطوع - لأنه لا حد لها يحصرها، ولأنها تجاوزت الفرض، والسبح: الفراغ - للتمكن معه من الانبساط، والتسبيح: التنزيه - لأنه الإبعاد عن النقص، قال الرماني: وأصله البراءة من الشيء، وقال ابن مكتوم في الجمع بين العباب والمحكم: سبحان الله معناه تنزيهاً لله من الصحابة والولد، وتبرئة من السوء - هذا معناه في اللغة وبذلك جاء الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال سيبويه: زعم أبو الخطاب أن «سبحان الله» كقولك براءة الله من السوء، كأنه يقول: أبرىء براءة الله من السوء، وزعم أن مثل ذلك

ص: 244

قول الأعشى:

أقول لما جاءني فخره

سبحان من علقمه الفاخر

أي براءة منه، وبهذا استدل على أن سبحان معرفة إذ لو كان نكرة لانصرف، قال: وقد جاء في الشعر منوناً نكرة، قال أمية:

سبحانه ثم سبحاناً يعود له

وقبلنا سبح الجودي والجمد

وقال ابن جني: سبحان اسم علم لمعنى البراءة والتنزيه بمنزلة عثمان وحمران، اجتمع في سبحان التعريف والألف والنون، وكلاهما علة تمنع من الصرف - انتهى. وقال الزجاج: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قوله «سبحان الله» تبرئة لله من السوء، وأهل اللغة كذلك يقولون من غير معرفة بما فيه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولكن تفسيره يجمعون عليه، وقد سبح الرجل: قال سبحان الله، وفي التنزيل {كل قد علم صلاته وتسبيحه} [النور: 41] وسبح لغة في سبّح، وحكى ثعلب: سبح تسبيحاً وسبحاناً، قال

ص: 245

ابن سيده: وعندي أنا سبحاناً ليس مصدراً لسبّح، إنما هو مصدر سبح، وقال النصر: سبحان الله معناه السرعة إليه والخفة في طاعته، وسبوحة - بفتح السين: البلد الحرام، وسباح علم الأرض الملساء عند معدن بني سليم، وسبحات وجه الله: أنواره، والسبحة: الدعاء، وأيضاً صلاة التطوع - انتهى. وكله راجع إلى الإبعاد عن السوء، والسبحان: النفس، وكل أحد يبرىء نفسه ويرفعها عن السوء.

ولما أوضح أبطال ما تعنتوا به من قولهم «لو أنزل عليه كنز» أتبعه ما يوضح تعنتهم في قولهم {أو جاء معه ملك} بذكر المرسلين، وأهل السبيل المستقيم، الداعين إلى الله على بصيرة، فقال:{وما أرسلنا} أي بما من العظمة. ولما كان الإرسال لشرفه لا يتأتى على ما جرت به الحكمة في كل زمن كما أنه لا يصلح للرسالة كل أحد، وكان السياق لإنكار التأييد بملك في قوله {أو جاء معه ملك} كالذي في النحل، لا لإنكار رسالة البشر، أدخل الجار تنبيهاً على ذلك فقال:{من قبلك} أي إلى المكلفين {إلا رجالاً}

ص: 246

أي مثل ما أنك رجل، لا ملائكة ولا إناثاً - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، والرجل مأخوذ من المشي على الرجل {نوحي إليهم} أي بواسطة الملائكة مثل ما يوحى إليك {من أهل القرى} مثل ما أنك من أهل القرى، أي الأماكن المبنية بالمدر والحجر ونحوه، لأنها متهيئة للإقامة والاجتماع وانتياب أهل الفضائل، وذلك أجدر بغزارة العقل وأصالة الرأي وحدة الذهن وتوليد المعارف من البوادي، ومكة أم القرى في ذلك لأنها مجمع لجميع الخلائق لما أمروا به من حج البيت، وكان العرب كلهم يأتونها؛ قال الرماني: وقال الحسن: لم يبعث الله نبياً من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء - انتهى.

وذلك لأن المدن مواضع الحكمة، والبوادي مواطن لظهور الكلمة، ولما كانت مكة أو القرى مدينة، وهي مع ذلك في بلاد البادية، جمعت الأمرين وفازت بالأثرين، لأجل أن المرسل إليها جامع لكل ما تفرق في غيره من المرسلين، وخاتم لجميع النبيين صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.

ومادة «قرى» - يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة بتراكيبها الخمسة عشر - تدور على الجمع، ويلزمه الإمساك، وربما كان عنه

ص: 247

الانتشار، فالقرية - بالفتح ويكسر: المصر الجامع، وأقرى: لزم القرية، والقاري: ساكنها، والقارية: الحاضرة الجامعة، وطير أخضر، إما للزومها، وإما لجمع لونه للبصر، والقريتين - مثنى وأكثر ما يتلفظ به بالياء: مكة والطائف، وقرية النمل: مجتمع ترابها، وقريت الماء في الحوض: جمعته، والمقراة: شبه حوض، وكل ما اجتمع فيه ماء، والقريّ: ماء مستجمع، والمدة تقرى في الجرح - أي تجتمع، والقواري: الشهود - لجمعهم الأمور، والقواري: الناس الصالحون - كأنه مخفف من المهموز، وقريت الضيف قرى بالكسر والقصر، وبالفتح والمد: أضفته كاقتريته، والمقراة: الجفنة يقرى فيها الضيف، والمقاري: القدور، وقرى البعير وكل ما اجتر: جمع جرته في شدقه، وقرت الناقة: ورم شدقاها من وجع الأسنان كأنها لا تقدر مع ذلك على جمع الجرة، فيكون من السلب، وقرى البلاد: تتبعها يخرج من أرض إلى أرض كاقتراها واستقرها - لجمعه بينها، وقريّ الماء كغني: مسيله من

ص: 248

التلاع، أو موقعه من الربو إلى الروضة - لأنه مكان اجتماعه، وقرى الخيل: واد - كأنها اجتمعت فيه، والقرية - كغنية: العصا لأن الراعي يجمع بها ما يرعاه. وبها يجمع كل ما يراد جمعه، وأعواد فيها فرض يجعل فيها رأس عمود البيت، لأنه بها يقام فيجمع من يراد، وعود الشراع الذي في عرضه من أعلاه، لأنه يجمع الشراع ملفوفاً ومنشوراً، وقريت الصحيفة لغة في قرأتها - إذا تلوتها فجمعت علمها وكلامها، والقارية: أسفل الرمح، لأنه يجمع زجه، أو أعلاه، لأنه يجمع عاليته، وحد الرمح، لأنه يجمع مراد صاحبه، وكذا حد السيف، والقارية - بالتشديد: طائر أخضر إذا رأوه استبشروا بالمطر - كأنه رسول الغيث أو مقدمة السحاب، جمعه قواري، كأنه سمي بذلك لأنه سبب جمع الهم للمطر؛ والقير والقار: شيء أسود تطلى به السفن، والإبل، والحباب، والزقاق، أو هما الزفت، وعلى كل تقدير هو ساد للشقوق والمسام فكان الجامع بين أجزاء السفينة وغيرها، وهذا أقير من هذا أشد مرارة - تشبيه بالقير الطعم، والمر أيضاً

ص: 249

يجمع الفم نحوه بالقبض، والقيّور - كتنور: الخامل النسب، شبه به أيضاً لأن القير لما قل احتياج أكثر الناس إليه في كثير من الأوقات صار قليل الذكر - وهذا معنى الخمول، والقيار كشداد: صاحب القير، وبئر لبني عجل قرب واسط، وكأنها سميت لجمعها إياهم، وقيار اسم فرس، كأنه لجودته يجمع لصاحبه ما يريد، والقارة: الدّبة كذلك، والقارة: حي من العرب سموا لأن ابن الشداخ أراد أن يفرقهم في كنانة فقال شاعرهم:

دعونا قارة لا تجفلونا

فنجفل مثل إجفال الظليم

ذكره مختصر العين هنا وغيره في الواو، واقتار الحديث اقتياراً: بحث عنه - لأن ذلك سبب لجمعه، والقيِّر - كهيّن: الأسوار من الرماة الحاذق، لأنه يجمع بذلك ما يريد؛ ورقيت الرجل بالفتح رقية: عوذته، ونفثت في عوذته - لأن الراقي يجمع ريقه وينفث، ورقيت في الشيء رقياً - إذا صعدت عليه - كأنك جمعت بين درجه، والمرقاة بالفتح ويكسر: الدرجة، لأن العلو من آثار الجمع، ورقى عليه كلاماً ترقية: رفع، لأنه جمعه عليه، ومرقيا الأنف: حرفاه لأنهما الجامعان له؛

ص: 250

والرائق من الماء: الخالص، لأنه إذا خلص اشتد تلاصق أجزائه لزوال ما كان يتخللها من الغبر، وراق الماء يريق - إذا انصب، إما لأنه اجتمع إلى المحل الذي انصب إليه، أو يكون من السلب كأراقه بمعنى صبه، وراق السراب يريق وتريق يتريق - إذا تضحضح فوق الأرض أي تردد، إما من السلب، وإما تشبيه بالمجتمع، والريق: تردد الماء على وجه الأرض من الضحضاح أي ليسير ونحوه، لأنه لا يتردد إلا وهو مجتمع، والريق: أول كل شيء وأفضله من الرائق بمعنى الخالص، ولأن الأول يجتمع إليه غيره، والأفضل يجمع ما يراد، والريق أيضاً: الباطل، كالريوق كتنور - تشبيهاً بالسراب، وريق الفم معروف، لاجتماعه، والريق: القوة، لجمعها المراد، والريق الرائق: الخالص وكل ما أكل أو شرب على الريق، ومن ليس في يده شيء، كأنه خلص عن العلائق فاجتمع همه، ومن هو على الريق كريقي ككيس، وهو يريق بنفسه: يجود بها عند الموت، من راق الماء: انصب، والمريق - كمعظم: من لا يزال يعجبه شيء، ولعله من راقه يروقه - إذا أعجبه،

ص: 251

فجمع همه إليه؛ واليارق: ضرب من الأسورة، لأنه يجمع المعصم، واليرقان - ويسكن: الاستقامة والطريقة وآفة للزرع. ومرض معروف، وسيذكر في «أرق» في أول سورة الحجر إن شاء الله تعالى.

ولما كان الاعتبار بأحوال من سلف للنجاة مما حل بهم أهم المهم، اعترض بالحث عليه بين الغاية ومتعلقها، فقال:{أفلم يسيروا} أي يوقع السير هؤلاء المكذبون {في الأرض} أي في هذا الجنس الصادق بالقليل والكثير. ولما كان المراد سير الاعتبار سبب عنه قوله {فينظروا} أي عقب سيرهم وبسببه، ونبه على أن ذلك أمر عظيم ينبغي الاهتمام بالسؤال عنه بذكر أداة الاستفهام فقال {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {الذين} ولما كان الذين يعتبر بحالهم - لما حل بهم من الأمور العظام - في بعض الأزمنة الماضية، وكان المخاطبون بهذا القرآن لا يمكنهم الإحاطة بأهل الأرض وإن كان في حال كل منهم عظه، أتى بالجار فقال:{من قبلهم} في الرضى بأهوائهم في تقليد آبائهم، وهذا كما تقدم في سورة يونس من أن الآيات لا تغني عمن ختم على قلبه، والتذكير بأحوال الماضين من هلاك العاصين ونجاة الطائعين، والاعتراض بين ذلك بقوله {قل

ص: 252

انتظروا إني معكم من المنتظرين} وهو يدل على أنه تعالى يغضب ممن أعرض عن تدبر آياته؛ والسير: المرور الممتد في جهة، ومنه أخذ السير، وأخذ السيور من الجلد؛ والنظر: طلب إدراك المعنى بالعين أو القلب، وأصله مقابلة الشيء بالبصر لإدراكه.

ولما كان من الممكن أن يدعي مطموس البصيرة أنه كان لهم نوع خير، قال على طريقة إرخاء العنان:{ولدار} أي الساعة أو الحالة {الآخرة} أي التي وقع التنبيه عليها بأمور تفوت الحصر منها دار الدنيا فإنه لا تكون دنيا إلا بقصيا {خير للذين اتقوا} أي حملهم الخوف على جعل الائتمار والانزجار وقاية من حياة أهون مآلها الموت، وإن فرض فيها من المحال أنها امتدت ألف عام، وكان عيشها كله رغداً من غير آلام.

ولما كان تسليم هذا لا يحتاج فيه إلى أكثر من العقل، قال مسبباً عنه منكراً عليهم مبكتاً لهم:{أفلا تعقلون *} أي فيتبعوا الداعي إلى هذا السبيل الأقوم.

ص: 253

ولما كان المعنى معلوماً من هذا السياق تقديره: فدعا الرجال المرسلون إلى الله واجتهدوا في إنذار قومهم لخلاصهم من الشقاء،

ص: 253

وتوعدهم عن الله بأنواع العقوبات إن لم يتبعوهم، وطال عليهم الأمر وتراخى النصر وهم يكذبونهم في تلك الإيعادات ويبكتونهم ويستهزئون بهم، واستمر ذلك من حالهم وحالهم، قال مشيراً إلى ذلك:{حتى إذا استيئس الرسل} أي يئسوا من النصر يأساً عظيماً كأنهم أوجدوه أو طلبوه واستجلبوه من أنفسهم {وظنوا أنهم قد كذبوا} أي فعلوا فعل اليأس العظيم اليأس الذي ظن أنه قد أخلف وعده من الإقبال على التحذير والتبشير والجواب - لمن استهزأ بهم وقال: ما يحبس ما وعدتمونا به - بإن ذلك أمره إلى الله، إن شاء أنجزه، وإن شاء أخره، ليس علينا من أمره شيء؛ ويجوز أن يراد أنهم لمن استبطؤوا النصر وضجروا مما يقاسون من أذى الأعداء، واستبطاء الأولياء {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه} كما يقول الآئس {متى نصر الله} مع علمهم بأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء، عبر عن حالهم ذلك بما هنا - نقل الزمخشري في الكشاف والرازي في اللوامع معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، هذا على قراءة التخفيف، وأما على قراءة التشديد فالتقدير: وظنوا أنهم قد كذبهم أتباعهم حتى لقد أنكرت عائشة رضي الله عنها قراءة التخفيف، روى البخاري في التفسير

ص: 254

وغيره عن عروة بن الزبير أنه سألها عن القراءة: أهي بالتشديد أم بالتخفيف؟ فقالت: إنها بالتشديد، قال قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن، قالت: أجل، لعمري لقد استيقنوا بذلك! فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا أي بالتخفيف - قالت: معاذ الله! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أنهم أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك. {جاءهم نصرنا} لهم بخذلان أعدائهم {فنجي من نشاء} منهم ومن أعدائهم {ولا يرد بأسنا} أي عذابنا لما له من العظمة {عن القوم} أي وإن كانوا في غاية القوة {المجرمين *} الذين حتمنا دوامهم على القطيعة كما قلنا {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم} وحققنا بمن ذكرنا مصارعهم من الأمم، وكل ذلك إعلام بأن سنته جرت بأنه يطيل الامتحان، ويمد زمان الابتلاء والاعتبار، حثاً للأتباع على الصبر وزجراً للمكذبين عن التمادي في الاستهزاء.

ص: 255

ومادة «كذب» تدور على ما لا حقيقة له، وأكثر تصاريفها واضح في ذلك، ويستعمل في غير الإنسان، قالوا: كذب البرق والحلم والرجاء والطمع والظن، وكذبت العين: خانها حسها، وكذب الرأي: تبين الأمر بخلاف ما هو به، وكذبته نفسه: منته غير الحق، والكذوب: النفس، لذلك، وأكذبت الناقة وكذبت - إذا ضربها الفحل فتشول أي ترفع ذنبها ثم ترجع حائلاً، لأنها أخلفت ظن حملها، وكذا إذا ظن بها لبن وليس بها، ويقال لمن يصاح به وهو ساكن يرى أنه نائم: قد أكذب، أي عد ذلك الصياح عدماً، والمكذوبة من النساء: الضعيفة، لأنه لما اجتمع فيها ضعف النساء وضعفها عدت عدماً، والمكذوبة على القلب: المرأة الصالحة - كأنها لعزة الصلاح في النساء جعلت عدماً، وكذب الوحشي - إذا جرى ثم وقف ينظر ما وراءه، كأنه لم يصدق بالذي أنفره، ومنه كذب عن كذا - إذا أحجم عنه بعد أن أراده، أو لأنه كذب

ص: 256

ما ظنه عند الحملة من قتل الأقران، وكذبك الحج أي أمكنك وكذبك الصيد مثله، وهو يؤول إلى الحث لأن المعنى أن الحج لعظم مشقته وطول شقته تنفر النفس عنه، فيكاد أن لا يوجد، وكذا الصيد لشدة فراره وسرعة نفاره وعزة استقراره يكاد أن لا يتمكن منه فيكون صيده كالكذب لا حقيقة له، فقد تبين حينئذ وجه كون «كذب» بمعنى الإغراء ولاح أن قوله «ثلاثة أسفار كذبن عليكم: الحج والعمرة والجهاد» معناه أنها لشدة الصعوبة لا تكاد تمكن من أرادها منها، مع أنه - لقوة داعيته لكثرة ما يرى فيها من الترغيب بالأجر - يكون كالظافر بها، ويؤيده ما قال ابن الأثير في النهاية عن الأخفش: الحج مرفوع ومعناه نصب، لأنه يريد أن يأمره بالحج كما يقال: أمكنك الصيد، يريد: ارمه، وقال أبو علي

ص: 257

الفارسي في الحجة في قول عنترة:

كذب العتيق وماء شن بارد

إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي

وإن شئت قلت: إن الكلمة لما كثر استعمالها في الإغراء بالشيء والبعث على طلبه وإيجاده صار كأنه قال بقوله لها: عليك العتيق، أي الزميه، ولا يريد نفيه ولكن إضرابها عما عداه، فيكون العتيق في المعنى مفعولاً به إن كان لفظه مرفوعاً، مثل «سلام عليكم» ونحوه مما يراد به الدعاء واللفظ على الرفع، وحكى محمد بن السري رحمه الله عن بعض أهل اللغة في «كذب العتيق» أن مضر تنصب به وأن اليمن ترفع به، وقد تقدم وجه ذلك - انتهى. وأقرب من ذلك جداً وأسهل تناولاً وأخذاً أن الإنسان لا يزال منيع الجناب مصون الحجاب ما كان لازماً للصدق فإذا كذب فقد أمكن من نفسه وهان أمره، فمعنى «ثلاثة أسفار كذبن عليكم أمكنتكم من أنفسها، الحج كل سنة بزوال مانع الكفار عنه،

ص: 258

والعمرة كل السنة بزوال المفسدين بالقتل وغيره في أشهر الحل، والجهاد كل السنة أيضاً لإباحته في الأشهر الحرم وغيرها، وتخريج مثل: كذبتك الظهائر، وغيره على هذا بين الظهور ولا وقفة فيه ولكون الكاذب يبادر إلى المعاذير ويحاول التخلص كان التعبير بهذا من باب الإغراء، أي انتهز الفرصة وبادر تعسر هذا الإمكان.

ولما ذكر سبحانه هذه القصص كما كانت، وحث على الاعتبار بها بقوله:{أفلم يسيروا} وأشار إلى أنه بذلك أجرى سنته وإن طال المدى، أتبعه الجزم بأن في أحاديثهم أعظم عبرة، فقال حثاً على تأملها والاستبصار بها:{لقد كان} أي كوناً هو في غاية المكنة {في قصصهم} أي الخبر العظيم الذي تلي عليك تتبعاً لأخبار الرسل الذين طال بهم البلاء حتى استيأسوا من نوح إلى يوسف ومن بعده - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام {عبرة} أي عظة عظيمة وذكرى شريفة {لأولي الألباب} أي

ص: 259

لأهل العقول الخالصة من شوائب الكدر يعبرون بها إلى ما يسعدهم بعلم أن من قدر على ما قص من أمر يوسف عليه السلام وغيره قادر على أن يعز محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويعلي كلمته وينصره على من عاداه كائناً من كان كما فعل بيوسف وغيره - إلى غير مما ترشد إليه قصصهم من الحكم وتعود إليه من نفائس العبر؛ والقصص: الخبر بما يتلو بعضه بعضاً، من قص الأثر، والألباب: العقول، لأن العقل أنفس ما في الإنسان وأشرف.

ولما كان من أجل العبرة في ذلك القطع بحقية القرآن لما بينه من حقائق أحوالهم وخفايا أمورهم ودقائق أخبارهم على هذه الأساليب الباهرة والتفاصيل الظاهرة والمناهيج المعجزة القاهرة، نبه على ذلك بتقدير سؤال فقال:{ما كان} أي هذا القرآن العربي المشتمل على قصصهم وغيره {حديثاً يفترى} كما قال المعاندون - على ما أشير إليه بقوله: {أم يقولون افتراه} ، والافتراء: القطع بالمعنى على خلاف ما هو به في الإخبار عنه، من: فريت الأديم {ولكن} كان {تصديق الذي} كان من الكتب وغيرها {بين يديه} أي قبله الذي هو كاف في الشهادة بصدقه وحقيته في نفسه {و} زاد على

ص: 260

ذلك بكونه {تفصيل كل شيء} أي يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا والآخرة؛ والتفصيل: تفريق الجملة بإعطاء كل قسم حقه {وهدى ورحمة} وبياناً وإكراماً. ولما كان الذي لا ينتفع بالشيء لا يتعلق بشيء منه، قال:{لقوم يؤمنون} أي يقع الإيمان منهم وإن كان بمعنى: يمكن إيمانهم، فهو عام، وما جمع هذه الخلال فهو أبين البيان، فقد انطبق هذا الآخر على أول السورة في أنه الكتاب المبين، وانطبق ما تبع هذه القصص - من الشهادة بحقية القرآن، وأن الرسل ليسوا ملائكة ولا معهم ملائكة للتصديق يظهرون للناس، وأنهم لم يسألوا على الإبلاغ أجراً - على سبب ما تبعته هذه القصص، وهو مضمون قوله تعالى:{فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} [هود: 12] الآية من قولهم {لولا ألقي عليه كنز أو جاء معه ملك} [هود: 12] وقولهم: إنه افتراه، على ترتيب ذلك، مع اعتناق هذا الآخر لأول التي تليه، فسبحان من أنزله معجزاً باهراً، وقاضياً بالحق لا يزال ظاهراً، وكيف لا وهو العليم الحكيم - والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 261

سورة الرعد

مقصودها وصف الكتاب بأنه الحق في نفسه، وتارة يتأثر عنه مع أن له صوتا وصيتا وإرعابا وإرهابا يهدي بالفعل، وتارة لا يتأثر بل يكون سببا للضلال والعمى، وأنسب ما فيها لهذا المقصد الرعد فإنه مع كونه حقا في نفسه يسمعه الأعمى والبصير والبارز والمستتر، وتارة يتأثر عنه البرق والمطر وتارة لا، وإذا نزل المطر فتارة ينفع إذا أصاب الأراضي الطيبة وسلمت من عاهة، وتارة يخيب إذا نزل على السباخ الخوارة وتارة يضر لإغراق أو الصواعق أو البرد وغيرها - والله أعلم.

ص: 262

{بسم الله} الحق الذي كل ما عداه باطل {الرحمن} الذي عم بالرغبة والرهبة بعموم رحمته {الرحيم} الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الوهية {المر} .

لما ختم التي قبلها بالدليل على حقية القرآن وأنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون، بعد أن أشار إلى كثرة ما يحسونه من آياته في السماوات

ص: 262

والأرض مع الإعراض، ابتدأ هذه بذلك على طريق اللف والنشر المشوش لأنه أفصح للبداءة في نشره بالأقرب فالأقرب فقال:{تلك} أي الأنباء المتلوة والأقاصيص المجلوة المفصلة بدر المعاني وبديع الحكم وثابت القواعد والمباني العالية المراتب {آيات} والآية: الدلالة العجيبة في التأدية إلى المعرفة {الكتاب} المنزل إليك {و} جميع {الذي} .

ولما كان تحقق أن هذا الكتاب من عند الملك أمراً لا يطرقه مريه لما له من الإعجاز، وكذا ما تبعه من بيانه بالسنة لما له من الحق الذي لا يخف على كل عاقل، وكان ما تحقق أنه كذلك يعلم أن الآتي به لا يكون إلا عظيماً، بني للمفعول قوله:{أنزل إليك} كائن {من ربك} فثبت حينئذ قطعاً أنه هو {الحق} أي الموضوع كل شيء منه في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة، الواضح الذي لا يتخلف شيء منه عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره، فهو أبعد شيء عن قولهم: إن وعده بالبعث سحر، فوجب لثبوت حقيته على كل من اتصف بالعقل أن يؤمن به {ولكن أكثر الناس}

ص: 263

أي الآنسين بأنفسهم المضطربين في آرائهم، {لا يؤمنون *} أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً بأنه الحق في نفسه وأنه من عند الله، بل يقولون: إنه من عند محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنه تخييل ليست معاينة - كما قلنا {وما أكثر الناس ولو حرصت بؤمنين} [يوسف: 103] فليس هدى لهم كاملاً ولا رحمة تامة، هذا التقدير محتمل، ولكن الذي يدل عليه ظاهر قوله تعالى:{أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق} [الرعد: 19] أن {الذي} مبتدأ، و {من ربك} صلة {أنزل} والخبر {الحق} والمقصود من هذه السورة هذه الآية، وهي وصف المنزل بأنه الحق وإقامة الدليل عليه، وذلك لأنه لما تم وصف الكتاب بأنه حكيم محكم مفصل مبين، عطف الكلام إلى تفصيل أول سورة البقرة، والإيماء إلى أنه حان اجتناء الثمرة في هذه السورة والتي بعدها، ويلتحم بذلك وصف المصدقين بذلك - كما ستقف عليه.

وقال الإمام أبو جعفر بن زبير رحمه الله في برهانه: هذه السورة تفصيل لمجمل قوله سبحانه في خاتمة سورة يوسف عليه السلام {وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفامنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله

ص: 264

أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون * قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}

[يوسف: 105-106-107-108] فبيان آي السماوات في قوله {الله الذي رفع السماوات بغير عند ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} وبيان آي الأرض في قوله: {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} فهذه آي السماوات والأرض، وقد زيدت بياناً في مواضع، ثم في قوله تعالى:{يغشى الّيل النهار} ما يكون من الآيات عنهن، لأن الظلمة عن جرم الأرض، والضياء عن نور الشمس وهي سماوية، ثم زاد تعالى آيات الأرض بياناً وتفصيلاً في قوله تعالى:{وفي الأرض قطع متجاورات} [الرعد: 4] إلى قوله: {لقوم يعقلون} [الرعد: 4] . ولما كان إخراج الثمر بالماء النازل من السماء من أعظم آية، ودليلاً واضحاً على صحة المعاد، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى {كذلك نخرج الموتى} [الأعراف: 57] وكان قد ورد هنا أعظم جهة في الاعتبار من إخراجها مختلفات في الطعوم والألوان والروائح

ص: 265

مع اتحاد المادة «يسقى» بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل لذلك ما أعقب قوله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات} الآية بقوله {وإن تعجب فعجب قولهم إذا كنا ترابا أئنّا لفي خلق جديد} ثم بين سبحانه الصنف القائل بهذا وأنهم الكافرون أهل الخلود في النار، ثم أعقب ذلك ببيان عظيم حلمه وعفوه فقال {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} [الرعد: 6] الآية، ثم أتبع ذلك بما يشعر بالجري على السوابق في قوله {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} [الرعد: 7] ثم بين عظيم ملكه واطلاعه على دقائق ما أوجده من جليل صنعه واقتداره فقال {الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الأرحام} الآيات إلى قوله: {وما لكم من دونه من وال} ثم خوف عباده وأنذرهم ورغبهم {هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً} [الرعد: 12] ، الآيات وكل ذلك راجع إلى ما أودع سبحانه في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات، وفي ذلك أكثر آي السورة ونبه تعالى على الآية الكبرى والمعجزة العظمى فقال:{ولو أن قراناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} [الرعد: 31] والمراد: لكان هذا القرآن {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82] والتنبيه بعظيم هذه

ص: 266

الآيات مناسب لمقتضى السورة من التنبيه بما أودع تعالى من الآيات في السماوات والأرض، وكأنه جل وتعالى لما بين لهم عظيم ما أودع من السماوات والأرض وما بينهما من الآيات وبسط ذلك وأوضحه، أردف ذلك بآية أخرى جامعة للآيات ومتسعة للاعتبارات فقال تعالى

{ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} [الرعد: 31] فهو من نحو {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم} [الجاثية: 3] أي لو فكرتم في آيات السماوات والأرض لأقلتكم وكفتكم في بيان الطريق إليه ولو فكرتم في أنفسكم وما أودع تعالى فيكم من العجائب لاكتفيتم «من عرف نفسه عرف ربه» فمن قبيل هذا الضرب من الاعتبار هو الواقع في سورة الرعد من بسط آيات السماوات والأرض، ثم ذكر القرآن وما يحتمل، فهذه إشارة إلى ما تضمنت هذه السورة الجليلة من بسط الآيات المودعة في الأرضين والسماوات. وأما قوله تعالى {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] فقد أشار إليه قوله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون إنما يتذكر أولوا الألباب} وقوله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله لا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28] فالذين تطمئن

ص: 267

قلوبهم بذكر الله هم أولو الألباب المتذكرون التامو الإيمان وهم القليل المشار إليهم في قوله تعالى {وقليل ما هم} [ص: 24] والمقول فيهم {أولئك هم المؤمنون حقاً} [الأنفال: 4] ودون هؤلاء طوائف من المؤمنين ليسوا في درجاتهم ولا بلغوا يقينهم، وإليهم الإشارة بقوله:{وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] قال عليه الصلاة والسلام «الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل» فهذا بيان ما أجمل في قوله {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} وأما قوله تعالى: {أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله} [يوسف: 107] فما عجل لهم من ذلك في قوله: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله} القاطع دابرهم، والمستأصل لأمرهم، وأما قوله تعالى:{قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة} [يوسف: 108] الآية، فقد أوضحت آي سورة الرعد سبيله عليه السلام بينه بما تحملته من عظيم التنبيه وبسط الدلائل بما في السماوات والأرض وما بينهما وما في العالم بجملته وما تحمله الكتاب المبين - كما تقدم، ثم قد تعرضت السورة لبيان جليّ سالكي تلك السبيل الواضحة المنجية فقال تعالى:{الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} [الرعد: 20] إلى آخر ما حلاهم به أخذاً وتركاً، ثم عاد الكلام بعد إلى ما فيه من التنبيه

ص: 268

والبسط وتقريع الكفار وتوبيخهم وتسليته عليه السلام في أمرهم {إنما أنت منذر ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} [الرعد: 38]، {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرعد: 40] {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً} [الرعد: 43] ، والسورة بجملتها غير حائدة عن تلك الأغراض المجملة في الآيات الأربع المذكورات من آخر سورة يوسف، ومعظم السورة وغالب آيها في التنبيه وبسط الدلالات والتذكير بعظيم ما أودعت من الآيات؛ ولما كان هذا شأنها أعقبت بمفتتح سورة إبراهيم عليه السلام انتهى.

فلما أثبت سبحانه لهذا الكتاب أنه المختص بكونه حقاً فثبت أنه أعظم الأدلة والآيات، شرع يذكر ما أشار إليه بقوله:{وكأين من آية} من الآيات المحسوسة الظاهرة الدالة على كون آيات الكتاب حقاً بما لها في أنفسها من الثبات، والدلالة بما لفاعلها من القدرة والاختيار - على أنه قادر على كل شيء، وأن ما أخبر به من البعث حق لما له من الحكمة، والدالة - بما للتعبير عنها من الإعجاز - على كونها من عند الله، وبدأ بما بدأ به في تلك من آيات السماوات لشرفها ولأنها أدل، فقال:{الله} أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال

ص: 269

وحده {الذي رفع السماوات} بعد إيجادها من عدم - كما أنتم بذلك مقرون؛ والرفع: وضع الشيء في جهة العلو سواء كان بالنقل أو بالاختراع، كائنة {بغير عمد} جمع عماد كأهب وإهاب أو عمود، والعمود: جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل، وأصله منع الميل {ترونها} أي مرئية حاملة لهذه الأجرام العظام التي مثلها لا تحمل في مجاري عاداتكم إلا بعد تناسبها في العظم، هذا على أن {ترونها} صفة، ويجوز - ولعله أحسن - أن يكون على تقدير سؤال من كأنه قال: ما دليل أنها بغير عمد؟ فقيل: المشاهدة التي لا أجلى منها.

ولما كان رفع السماوات بعد خلق الأرض وقبل تسويتها، ذكر أنه شرع في تدبير ما للكونين من المنافع وما فيهما من الأعراض والجواهر، وأشار إلى عظمة ذلك التدبير بأداة التراخي فقال:{ثم استوى على العرش} قال الرازي في لوامع البرهان: وخص العرش لأنه أعلى خلقه وصفوته ومنظره الأعلى وموضع تسبيحه ومظهر ملكه ومبدأ وحيه ومحل قربه، ولم ينسب شيئاً من خلقه كنسبته، فقال

ص: 270

تعالى: {ذو العرش} كما قال {ذو الجلال} و «ذو» كلمة لحق واتصال وظهور ومبدأ، وقال الرماني: والاستواء: الاستيلاء بالاقتدار ونفوذ السلطان، وأصله: استوى التدبير، كما أن أصل القيام الانتصاب، ثم يقال: قائم بالتدبير - انتهى. وعبر ب «ثم» لبعد هذه الرتبة عن الأطماع وعلوها عما يستطاع، فليس هناك ترتيب ولا مهلة حتى يفهم أن ما قبل كان على غير ذلك، والمراد أنه أخذ في التدبير لما خلق كما هو شأن الملوك إذا استووا على عروشهم، أي لم يكن لهم مدافع، وإن لم يكن هناك جلوس أصلاً، وذلك لأن روح الملك التدبير وهو أعدل أحواله والله أعلم {وسخر} أي ذلل تذليلاً عظيماً {الشمس} أي التي هي آية النهار {والقمر} أي الذي هو آية الليل لما فيهما من الحكم والمنافع والمصالح التي بها صلاح البلاد والعباد، ودخلت اللام فيهما وكل واحد منهما لا ثاني له لما في الاسم من معنى الصفة، إذا لو وجد مثل لهما لم يتوقف في إطلاق الاسم عليه،

ص: 271

ولا كذلك زيد وعمرو. والتسخير: التهيئة لذلك المعنى المسخر له ليكون بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج إليه كتسخير النار للإنضاج والماء للجريان {كل} أي من الكوكبين {يجري} .

ولما كان السياق للتدبير، علم أن المراد بجريهما لذلك، وهو تنقلهما في المنازل والدرجات التي يتحول بها الفصول، ويتغير النبات وتضبط الأوقات، وكلما كان التدبير أسرع، علم أن صاحبه أعلم ولا سيما إن كان أحكم، فكان الموضع للام لا لإلى، فعلل بقوله:{لأجل} أي لأجل اختصاصه بأجل {مسمى} هذي أجلها سنة، وذاك أجله شهر؛ والأجل: الوقت المضروب لحدوث أمر وانقطاعه.

ولما كان كل من ذلك مشتملاً من الآيات على ما يجل عن الحصر مع كونه في غاية الإحكام، استأنف خبراً هو كالتنبيه على ما فيما مضى من الحكمة، فقال مبيناً للاستواء على العرش بعد أن أشار إلى عظمة هذا الخبر بما في صلة الموصول من الأوصاف العظيمة:{يدبر الأمر} أي في المعاش والمعاد وما ينظمهما بأن يفعل فيه فعل من ينظر في

ص: 272

أدباره وعواقبه ليأتي محكماً يجل عن أن يرام بنقض، بل هو بالحقيقة الذي يعلم أدبار الأمور وعواقبها، لا يشغله شأن عن شأن، مع أن هذا العالم - من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى - محتو عل أجناس وأنواع وفصول وأصناف وأشخاص لا يحيط بها سواه، وذلك دال قطعاً على أنه سبحانه في ذاته وصفاته متعال عن مشابهة المحدثات واحد أحد صمد ليس له كفواً أحد.

ولما كان هذا بياناً عظيماً لا لبس فيه، قال {يفصل الآيات} أي التي برز إلى الوجود تدبيرها، الدالة على وحدانيته وكمال حكمته، المشتملة عليها مبدعاته، فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها، تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم، لتعلموا أنها فعل الواحد المختار، لا فعل الطبائع ولا غيرها من الأسباب التي أبدعها، وإلا فكانت على نسق واحد، وجمعها لما تقدم من الإشارة إلى كثرتها بقوله:{وكأين من آية في السماوات والأرض} فكأن هذه الألف واللام لذلك المنكر هناك.

ص: 273

ولما كان التدبير وهذا التفصيل دالاًّ على تمام القدرة وغاية الحكمة، وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة، علل بقوله:{لعلكم بلقاء ربكم} أي لتكون حالكم حال من يرجى له بما ينظر من الدلالات الإيقان بلقاء الموجد له المحسن إليه بجميع ما يحتاجه التربية {توقنون *} أي تعلمون ذلك من غير شك استدلالاً بالقدرة على ابتداء الخلق على القدرة على ما جرت العادة بأنه أهون من الابتداء وهو الإعادة، وأنه لا تتم الحكمة إلا بذلك.

ص: 274

ولما انقضى ما أراد من آيات السماوات، ثنى بما فيما ثنى به في آية يوسف من الدلالات فقال:{وهو} أي وحده {الذي مد الأرض} ولو شاء لجعلها كالجدار أو الأزج لا يستطاع القرار عليها، وهذا لا ينافي أن تكون كرية، لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح، كما أن الجبال أوتاد والحيوان يستقر عليها {وجعل فيها} جبالاً مع شهوقها {رواسي} أي ثوابت، واحدها راسية أي ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن

ص: 274

أماكنها لا تتحرك، فلا يتحرك ما هي راسية فيه. ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي، صارت الصفة تغني عن الموصوف فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل - قاله أبو حيان، ولما كانت طبيعة الأرض واحدة كان حصول الجبل في جانب منها دون آخر ووجود المعادن المتخالفة فيها تارة جوهرية، وتارة خامية، وتارة نفطية، وتارة كبريتية - إلى غير ذلك، دليلاً على اختصاصه تعالى بتمام القدرة والاختيار لأن الجبل واحد في الطبع كما أن تأثير الشمس واحد، فقال تعالى:{وأنهاراً} أي وجعل فيها خارجة منها، وأكثر ما تكون الأنهار من الجبال، لأنها أجسام صلبة عالية، وفي خلال الأرض أبخرة فتصاعد تلك الأبخرة المتكونة في قعر الأرض، ولا تزال تخرق حتى تصل إليها فتحتبس بها فلا تزال تتكامل حتى يعظم تكاثفها، فإذا بردت صارت ماء فيحصل بسببها مياه كثيرة كما تنعقد الأبخرة البخارية المتكاثفة في أعالي الحمامات إذا بردت وتتقاطر، فإذا تكامل انعقاد تلك المياه وعظمت شقت أسافل

ص: 275

الجبال أو غيرها من الأماكن التي تستضعفها لقوتها وقوة الأبخرة المصاحبة لها، فإن كان لتلك المياه مدد من جهة الفواعل والقوابل بحيث كلما نبع منها شيء حدث عقيبه شيء، وهكذا على الاتصال فهي النهر، والنهر: المجرى الواسع من مجاري الماء، وأصله الاتساع، ومنه النهار - لاتساع ضيائه.

ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عن المياه فقال: {ومن كل الثمرات} ويجوز أن يكون متعلقاً بما قبله، ثم يكون كأنه قيل: من ينتفع بهذه الأشياء؟ فقيل: {جعل فيها} أي الأرض {زوجين اثنين} ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوان ينتفع بها، ويجوز أن يكون متعلقاً بما بعده فيكون التقدير: وجعل فيها من كل الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى تنتفع الأنثى بلقاحها من الذكر أو قربه منها فيجود ثمرها؛ والثمرة طعمة الشجرة، والزوج: شكل له قرين من نظير أو نقيض، فكأنه قيل: ما الذي ينضجها؟ فقال: {يغشي اليل النهار} أي والنهار الليل، فينضج هذا بحره ويمسك هذا ببرده، فيعتدل فعلهما على ما قدره تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان للحر والبرد للإخراج والإنضاج إلى غير ذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهر لكل ذي عقل أنها بتدبيره بفعله

ص: 276

واختياره وقهره واقتداره.

ولما ساق سبحانه هذه الآيات مفصلة إلى أربع وكان فيها دقة، جمعها وناطها بالفكر فقال:{إن في ذلك} أي الذي وقع التحديث عنه من الآيات متعاطفاً {لآيات} أي دلالات واضحات عجيبات باهرات على أن ذلك كله مستند إلى قدرته واختياره، ونبه على أن المقام يحتاج إلى تعب بتجريد النفس من الهوى وتحكيم العقل صرفاً بقوله:{لقوم} أي ذوي قوة زائدة على القيام فيما يحاولونه {يتفكرون *} أي يجتهدون في الفكر، قال الرماني: وهو تصرف القلب في طلب المعنى، ومبدأ ذلك معنى يُخطره الله تعالى على بال الإنسان فيطلب متعلقاته التي فيها بيان عنه من كل وجه يمكن فيه، والختم بالتفكر إشارة إلى الاهتمام بإعطاء المقام حقه في الرد على الفلاسفة، فإنهم يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية، وهو كلام ساقط لمن تفكر فيما قرره سبحانه في الآية السالفة من إسقاط وروده من أنه سبحانه هو الذي أوجد الأشياء كلها من عدم ثم أخذ في تدبيرها، فاختصاص كل شيء من الأجرام العلوية بطبع وصفة وخاصية إنما هو بتخصيص المدبر

ص: 277

الحكيم الفاعل بالاختيار، فصار وجود الحوادث السفلية لو سلم أنه متأثر عن الحوادث العلوية إنما يكون مستنداً إليها باعتبار السببية، والسبب والمسبب مستند إلى الصانع القديم المدبر الحكيم.

ولما كان الدليل - مع وضوحه - فيه بعض غموض، شرع تعالى في شيء من تفصيل ما في الأرض من الآيات التي هي أبين من ذلك دليلاً ظاهراً جداً على إبطال قول الفلاسفة، فقال:{وفي الأرض} أي التي أنتم سكانها، تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك {قطع متجاورات} فهي متحدة البقعة مختلفة الطبع، طيبة إلى سبخة، وكريمة إلى زهيدة، وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر وعكسها، ومع انتظام الكل في الأرضية {وجنات} جمع جنة، وهي البستان الذي تجنه الأشجار {من أعناب} وكأنه قدمها لأن أصنافها - الشاهدة بأن صانعها إنما هو الفعال لما يريد - لا تكاد تحصر حتى أنه في الأصل الواحد يحصل تنوع الثمرة ولذلك جمعها.

ولما كان تفاوت ما أصله الحب أعجب، قال:{وزرع} أي

ص: 278

منفرداً - في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالرفع، وفي خلل الجنات - في قراءة الباقين بالجر.

ولما كان ما جمعه أصل واحد ظاهر أغرب أخر قوله: {ونخيل صنوان} فروع متفرقة على أصل واحد {وغير صنوان} باعتبار افتراق منابتها وأصولها؛ قال أبو حيان: والصنو: الفرع يجمعه وآخر أصل واحد، وأصله المثل، ومنه قيل للعم: صنو وقال الرماني: والصنوان: المتلاصق، يقال: هو ابن أخيه صنو أبيه أي لصيق أبيه في ولادته، وهو جمع صنو، وقيل: الصنوان: النخلات التي أصلها واحد - عن البراء بن عازب وابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم؛ وقال الحسن رضي الله عنه: الصنوان: النخلتان أصلهما واحد - انتهى.

وهو تركيب لا فرق بين مثناه وجمعه إلا بكسر النون من غير تنوين وإعرابها مع التنوين، وسيأتي في يس إن شاء الله تعالى سر تسمية الكرم بالعنب.

ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم، وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الموجد المسبب، لا إلى شيء من الأسباب، قال:{ويسقى} أي أرضها الواحدة كلها

ص: 279

{بماء واحد} فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا يتأخر عنه ولا يتقدم بعد أن يتصعد الماء فيها علوّاً ضد ما في طبعه من التسفل، ثم يتفرق في كل من الورق والأغصان والثمار بقسطه مما فيه صلاحه {ونفضل} أي بما لنا من العظمة المقتضية للطاعة {بعضها} أي بعض تلك الجنات وبعض أشجارها {على بعض} ولما كان التفضيل على أنحاء مختلفة، بين المراد بقوله:{في الأكل} أي الثمر المأكول، ويخالف في المطعوم مع اتحاد الأرض وبعض الأصول، وخص الأكل لأنه أغلب وجوه الانتفاع، وهو منبه على اختلاف غيره من الليف والسعف واللون للمأكول والطعم والطبع والشكل والرائحة والمنفعة وغيرها مع أن نسبة الطبائع والاتصالات الفلكية إلى جميع الثمار على حد سواء لا سيما إذا رأيت العنقود الواحد جميع حباته حلوة نضيجة كبيرة إلا واحدة فإنها حامضة صغيرة يابسة.

ولما كان المراد في هذا السياق - كما تقدم - تفصيل ما نبه على كثرته بقوله: {وكأين من آية في السماوات والأرض} الآية، قال:{إن في ذلك} أي الأمر العظيم الذي تقدم {لآيات} بصيغة الجمع فإنها بالنظر إلى تفصيلها بالعطف جمع وإن كانت بالنظر إلى الماء مفردة، وهذا بخلاف

ص: 280

ما يأتي في النحل لأن المحدث عنه هناك الماء، وهنا ما ينشأ عنه، فلما اختلف المحدث عنه كان الحديث بحسبه، فالمعنى: دلالات واضحات على أن ذلك كله فعل واحد مختار عليم قادر على ما يريد من ابتداء الخلق ثم تنويعه بعد إبداعه، فهو قادر على إعادته بطريق الأولى.

ولما كانت هذه المفصلة أظهر من تلك المجملة، فكانت من الوضوح بحال لا يحتاج ناظره في الاعتبار به إلى غير العقل، قال:{لقوم} أي ذوي قوة على ما يحاولونه {يعقلون} فإنه لا يمكن التعبير في وجه هذه الدلالة إلا بأن يقال هذه الحوادث السفلية حدثت بغير محدث، فيقال للقائل: وأنت لا عقل لك، لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث ضرورة، فعدم العلم بالضروري يستلزم عدم العقل.

ص: 281

ولما ثبت قطعاً بما أقام من الدليل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه أن هذا إنما هو فعل واحد قهار مختار يوجد المعدوم ويفاوت بين ما تقتضي الطبائع اتحاده، كان إنكار شيء من قدرته عجباً، فقال عطفاً على قوله:{ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} [هود: 17] مشيراً إلى أنهم يقولون: إن الوعد بالبعث سحر لا حقيقة له {* إن تعجب} أي يوماً من الأيام أو ساعة من الدهر فاعجب من

ص: 281

إنكارهم البعث {فعجب} عظيم لا تتناهى درجاته في العظم {قولهم} بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والدلالات الناطقة بعظيم القدرة على كل شيء منكرين: {إذا كنا تراباً} واختلط التراب الذي تحولنا إليه بالتراب الأصلي فصار لا يتميز، ثم كرروا التعجب والإنكار بالاستفهام ثانياً فقالوا:{إنا لفي خلق جديد} هذا قولهم بعد أن فصلنا من الآيات ما يوجب أنهم بلقاء ربهم يوقنون، وهذا الاستفهام الثاني مفسر لما نصب الأول بما فيه من معنى {أنبعث} ، والعجب: تغير النفس بما خفي سببه عن العادة، والجديد: المهيا بالقطع إلى التكوين قبل التصريف في الأعمال، وأصل الصفة القطع؛ قال الرماني: وقد قيل: لا خير فيمن لا يتعجب من العجب، وأرذل منه من يتعجب من غير عجب - انتهى، يعني: فالكفار تعجبوا من غير عجب: ومن تعجبهم فقد تعجب من العجب.

ولما كان هذا إنكار المحسوس من القدرة، استحقوا ما يستحق من يطعن في ملك الملك، فقال:{أولئك} أي الذين جمعوا أنواعاً من البعد مع كل خير {الذين كفروا بربهم} أي غطوا كل ما يجب

ص: 282

إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم ثم رباهم بأنواع اللطف، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا مبدأهم {وأولئك} أي البعداء البغضاء {الأغلال} أي الحدائد التي تجمع أيدي الأسرى إلى أعناقهم، ويقال لها: جوامع، وتارة تكون في الأعناق فقط يعذب بها الناس؛ ولما كان طرفا العنق غليظين، فلا تكون إحاطة الجامعة منها إذا كانت ضيقة إلا بالوسط، جعل الأعناق ظروفاً باعتبار أنها على بعض منها، وذلك كناية عن ضيقها، فقال:{في أعناقهم} أي بكفرهم وإن لم تكن الأغلال مشاهدة الآن، فهي لقدرة المهدد بها على الفعل كأنها موجودة، وهم منقادون لما قدر عليهم من أسبابها كما يقاد المغلول بها إلى ما يريد قائده، والغل: طوق تقيد به اليد في العنق، وأصله: انغل في الشيء - إذا انتشب فيه، وغل المال - إذا خان بانتشابه في المال الحرام {وأولئك} أي الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم {أصحاب النار} . ولما كانت الصحبة تقتضي الملازمة، صرح بها فقال:{هم} أي خاصة {فيها} أي متمحضة لا يخلطها نعيم {خالدون *} أي ثابت خلودهم دائماً.

ولما تضمنت هذه الآية إثبات القدرة التامة مع ما سبق

ص: 283

من أدلتها المحسوسة المشاهدة، كان أيضاً من العجب العجيب والنبأ الغريب استهزاءهم بها، فقال معجباً منهم:{ويستعجلونك} أي استهزاء وتكذيباً؛ والاستعجال: طلب التعجيل، وهو تقديم الشيء قبل وقته الذي يقدر له {بالسيئة} من العذاب المتوعد به من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جرأة منهم تشير إلى أنهم لا يبالون بشيء منه ولا يوهن قولهم شيء {قبل الحسنة} من الخير الذي تبشرهم به {و} الحال أنه {قد خلت} ولما كان المحدث عنه إنما كان في بعض الزمان، أدخل الجار فقال:{من قبلهم المثلات} جمع مثله بفتح الميم وضم المثلثة كصدقة وصدقات، سميت بذلك لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، وهي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله من الأمم الذين اتصلت بهم أخبارهم، وخاطبتهم بعظيم ما اتفق لهم آثارهم وديارهم، وما يؤخرهم الله إلا لاستيفاء آجالهم التي ضربها لهم مع قدرته التامة عليهم.

ولما كانوا ربما قالوا: ما نرى إلا تهديداً لا يتحقق شيء منه: قال مؤكداً لإنكارهم واعتقادهم أن المسار والمضار إنما هي عادة الدهر، عطفاً على ما تقديره: فإن ربك حليم لا يخاف الفوت فلا يستعجل في الأخذ: {وإن ربك} أي المحسن إليك بجعلك نبي الرحمة {لذو مغفرة}

ص: 284

أي عظيمة ثابتة {للناس} حال كونهم ظالمين متمكنين في الظلم مستقلين {على ظلمهم} وهو إيقاعهم الأشياء في غير مواضعها، فلا يؤاخذهم بجميع ماكسبوا {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [النحل: 61] فلذلك يقيم الناس دهراً طويلاً يكفرون ولا يعاقبون حلماً منه سبحانه، والآية مقيدة بآية النساء {ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] وإن لم يكن توبة، فإن التائب ليس على ظلمه.

ولما كان يمهل سبحانه ولا يهمل وذكر إمهاله، ذكر أخذه مؤكداً لمثل ما مضى فقال:{وإن ربك} أي الموجد لك المدبر لأمرك بغاية الإحسان {لشديد العقاب *} للكفار ولمن شاء من غيرهم، فلذلك يأخذ أخذ عزيز مقتدر إذا جاء الأجل الذي قدره.

ص: 285

ولما بين سبحانه أنهم غطوا آيات ربهم المتفضل عليهم بتلك الآيات وغيرها، عجب منهم عجباً آخر في طلبهم إنزال الآيات مع كونها متساوية الأقدام في الدلالة على الصانع وما له من صفات الكمال، فلما كفروا بما أتاهم كانوا جديرين بالكفر بما يأتيهم فقال:{ويقول} أي على سبيل الاستمرار {الذين كفروا} استهزاء بالقدرة {لولا} أي هلا ولم لا {أنزل} أي بإنزال أيّ كائن كان {عليه آية}

ص: 285

جاحدين عناداً لما أتاه من الآيات {من ربه} أي المحسن إليه تصديقاً له.

ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم راغباً في إجابة مقترحاتهم لشدة التفاته إلى أيمانهم، كان كأنه سأل في ذلك لتحصل لهم النجاة، فأجيب بقوله تعالى - مقدماً ما السياق أولى به لأنه لبيان أن الأكثر لا يؤمن -:{إنما أنت منذر} أي نبي منذر هاد لهم تهديهم ببيان ما أنزله عليك مما يوقع في الهلاك أو يوصل إلى النجاة، سائر فيهم على حسب ما أحدّه لك، وأصل الإنذار الإعلام بموضع المخافة ليتقى، لا أنك مثبت للإيمان في الصدور {ولكل قوم} ممن أرسلنا إليهم نبي {هاد *} أي داع يهديهم إلى مراشدهم ومنذر ينذرهم من مغاويهم، أي يبين لهم ما أرسلنا به من النذارة والبشارة، وأعطى كل منذر وهاد آيات تليق به وبقومه على مثلها يؤمن البشر، فيهدي الله من يعلم فيه قابلية الهدى بما نصب من الآيات المشاهدات، فلا يحتاج إلى شيء من المقترحات، ويضل من يعلم فيه دواعي الضلال ولو جاءته كل آية، لأنه الذي جبلهم على طبائع الخير والشر

ص: 286

{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [تبارك: 14] فهو كقوله تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24] وكقوله في هذه السورة {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} والآية من الاحتباك: ذكر المنذر أولاً يدل على حذفه ثانياً، وذكر الهاد ثانياً دال على حذف مثله أولاً.

ولما كان ما مضى مترتباً على العلم والقدرة ولا سيما ختم هذه الآية بهاد، وكان إنكارهم البعث إنكاراً للنشأة الأولى، وكان سبحانه وتعالى يعلم أن إجابتهم إلى ما اقترحوا غير نافع لهم، لأنهم متعنتون لا مسترشدون، شرع سبحانه - بعد الإعراض عن إجابة مقترحاتهم - يقرر من أفعاله المحسوسة لهم المقتضية لاتصافه من العلم والقدرة بما هو كالإعادة سواء إشارة منه تعالى إلى أن إنكار البعث إن كان لاستحالة الإعادة فهي مثل البداءة، وإن كان لاستحالة تمييز التراب الذي كان منه الحيوان - بعد اختلاطه بغيره وتفرق أجزائه - فتمييز الماء الذي يكون منه الولد من الماء الذي لا يصلح لذلك أعجب، لأن الماء أشد اختلاطاً وأخفى امتزاجاً، ومع ذلك فهو يعلمه فقال:{الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة {يعلم} أي علماً قديماً في الأزل بما سيوجد وعلماً يتجدد تعلقه بحسب حدوث الحادثات

ص: 287

على الاستمرار {ما تحمل} أي الذي تحمله في رحمها {كل أنثى} أي الماء الذي يصلح لأن يكون حملاً {وما تغيض} أي تنقص {الأرحام} من الماء فتنشفه فيضمحل لعدم صلاحيته لأن يكون منه ولد، وأصل الغيض - كما قال الرماني: ذهاب المائع في العمق الغامض، وفعله متعد لازم {وما تزداد} أي الأرحام من الماء على الماء الذي قدر تعالى كونه حملاً فيكون توأماً فأكثر في جماع آخر بعد حمل الأول كما صرح بإمكان ذلك ابن سينا وغيره من الأطباء، وولدت في زماننا أتان حماراً وبغلاً، وذلك لأن الزيادة ضم شيء إلى المقدار وكثرته شيئاً بعد شيء فيقدر ذلك، ولا يمكن أحداً زيادته ولا نقصانه، وذلك كله يستلزم الحكمة فلذا ختمه بقوله:{وكل شيء} أي من هذا وغيره من الآيات المقترحات وغيرها {عنده} أي في قدرته وعلمه {بمقدار *} في كيفيته وكميته لا يتجاوزه ولا تقصر عنه، لأنه عالم بكيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات وهو قادر على ما يريد منها، فالآية بيان لقوله تعالى:{الذين كفروا بربهم} من حيث بين فيها تربيته لهم على الوجه الذي هم له مشاهدون وبه معترفون.

ولما كان هذا عيباً وكان علمه مستلزماً لعلم الشهادة، وكان

ص: 288

للتصريح مزية لا تخفى، صرح به على وجه كلي يعم تلك الجزيئات وغيرها فقال:{عالم الغيب} وهو ما غاب عن كل مخلوق {والشهادة} قال الرماني: الغيب: كون الشيء بحيث يخفى عن الحس، والشهادة: كونه بحيث يظهر له.

ولما كان العلم والحكمة لا يتمان إلا بكمال القدرة والعظمة قال: {الكبير} أي الذي يتضاءل عنده كل ما فيه صفات تقتضي الكبر، قال الإمام أبو الحسن الحرالي: والكبر: ظهور التفاوت في ظاهر وباهر القدر الذي لا يحتاج إلى فكر، ولذلك كان فطرة للخلق أن الله أكبر، ولما كان لا ظاهر قدر للخلق لما عليهم من بادي الضروريات والحاجات المعلنة بصغير بالقدر، ومن حاول منهم أن يكبر بسطوة أو تسلط وفساد زاد صغار قدره بما اكتسب في أعين أرباب البصائر في الدنيا، ويبدو ذلك منه لعيون جميع الخلق في الأخرى «يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذي يطؤهم الناس بأقدامهم» فلذلك اختصاص معنى أنه لا كبير إلا الله - انتهى. {المتعال *} أي الذي لا يدنو - من أوج علوه في ذات أو صفة أو فعل - عالٍ، وأخرجه مخرج التفاعل ليكون أدل على المعنى وأبلغ فيه؛ وقال

ص: 289

أبو الحسن الحرالي رحمه الله: والتعالي: فوت التناول والمنال بحكم أو حجة، وأشعر التفاعل بما يجري من توهم المحتجين في أمره بأوهام حجج داحضة {حجتهم داحضة عند ربهم} [الشورى: 16] فهو تعالى يأذن في الاحتجاج والجدال ثم يتعالى بما له من الحجة البالغة {قل فلله الحجة البالغة} [الأنعام: 149] فهو المتعالي علماً وحكماً وحجة، وحقيقة المتعالي الذي لا يتعالى إلا هو - انتهى. والحاصل أنه لما وصف نفسه مما تقدم، أشار إلى أن ذلك على ما تحتمله العقول وأن الحق في وصفه الكبر المطلق والتعالي المطلق، لأن العقول لا تحتمل أكثر من ذلك.

ص: 290

ولما كانت العادة قاضية بتفاوت العلم بالنسبة إلى السر والجهر، والقدرة بالنسبة إلى المتحفظ بالحرس وغيره، أتبع ذلك سبحانه بما نفي هذا الاحتمال عنه على وجه الشرح والبيان لاستواء الغيب والشهادة بالنسبة إلى علمه فقال:{سواء منكم} أي في علمه {من أسر القول} أي أخفى معناه في نفسه {ومن جهر به} وفي علمه

ص: 290

{و} قدرته {من هو مستخف} أي موجد الخفاء وطالب له أشد طلب {باليل} في أخفى الأوقات فسارب أو كامن فيه، يظن أن ذلك الاستخفاء يغنيه من القدرة {و} من هو {سارب} أي ذاهب على وجهه الأرض ومتوجه جارٍ في توجهه إلى قصده بسرعة {بالنهار *} متجاهر بسروبه فيه، فالآية من الاحتباك: ذكر {مستخف} أولاً دال على ضده ثانياً، وذكر {سارب} ثانياً دال على ضده أو مثله أولاً {له} أي لذلك المستخفي أو السارب - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما {معقبات} أي أعوان وأنصار يتناوبون في أمره بأن يخلف كل واحد منهم صاحبه ويكون بدلاً منه.

ولما كان حفظ جهتي القدام والخلف يستلزم حفظ اليمين والشمال وكان ملأ كل من الجهتين من الحفظة على المخلوق متعذراً، قال آتياً بالجار:{من بين يديه} أي من قدامه {ومن خلفه} واستأنف بيان فائدة المعقبات فقال: {يحفظونه} أي في زعمه من كل شيء يخشاه {من أمر الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة.

ص: 291

ولما دل هذا على غاية القدرة، وجرت عادة المتمكنين من ملوك الأرض بالتعدي على جيرانهم واستلاب ممالكهم والعسف في شأنهم، زيادة في المكنة وتوسعاً في الملك، ولا سيما إذا كان ذلك الجار ظاناً مع ضعفه وعجزه أن يحفظه مانه من أخذه، أخبر تعالى من كأنه سأل عن ذلك أنه غير هذا لغناه عنه، فقال:{إن الله} أي الذي له الإحاطة والكمال كله {لا يغير ما بقوم} أي خيراً كان أوشراً {حتى يغيروا ما} أي الذي {بأنفسهم} مما كانوا يزينونها به من التحلي بالأعمال الصالحة والتخلي من أخلاق المفسدين، فإذا غيروا ذلك غير ما بهم إذا أراد وإن كانوا في غاية القوة.

ولما كان ملوك الدنيا لا يتمكنون غالباً من جميع مراداتهم لكثرة المعارضين من الأمثال الصالحين للملك، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره: فإذا غيروا ما بأنفسهم أنزل بهم السوء: {وإذا أراد الله} أي الذي له صفات الكمال {بقوم} أي وإن كانوا في غاية القوة {سوءاً فلا مرد له} من أحد سواه، وقد تقدم لهذه الآية في الأنفال مزيد بيان.

ص: 292

ولما كان كل أحد دونه في الرتبة لا إمكان له أن يقوم مقامه بوجه، قال:{وما لهم} وبين سفول الرتب كلها عن رتبته فقال: {من دون} وأعرق في النفي فقال: {من} ولما كان السياق ظاهراً في أنه لا منفذ لهم مما أراده، أتى بصيغة فاعل منقوص إشارة إلى نفي أدنى وجوه الولاية فكيف بما فوقها فقال:{وال *} أي من ملجأ يعيذهم، بأن الفعل معهم من الإنجاء والنصرة ما يفعل القريب مع وليه الأقرب إليه، ثم أخبر تعالى بأمر هو أدلة ما قبله جامع للعلم والقدرة وهو ألطف من ذلك كله، معلم بجليل القدرة في أنه إذا أراد سوءاً فلا مرد له، ودقيق الحكمة لأنه مظهر واحد ترجى منه النعمة وتخشى منه النقمة فقال:{هو} أي وحده {الذي يريكم} أي على سبيل التجديد دائماً {البرق} وهو لمع كعمود النار {خوفاً} أي لأجل إرادة الخوف من قدرته على جعله صواعق مهلكة، والخوف: انزعاج النفس بتوهم وقوع الضر.

ولما لم يكن لهم السبب في إنزال المطر، لم يعبر بالرجاء وقال:

ص: 293

{وطمعاً} أي ولأجل إرادة طمعكم في رحمته بأن يكون غيثاً نافعاً، ولا بد من هذا التقدير ليكونا فعل فاعل الفعل المعلل، ويجوز أن يكون المعنى: يريكم ذلك إخافة وإطماعاً فتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً، فتكون الآية من الاحتباك: فعل الإراءة دال على الإخافة والإطماع، والخوف والطمع دالان على «تخافون وتطمعون» ويجوز أن يكونا حالين من ضمير المخاطبين أي ذوي خوف وطمع {وينشىء} والإنشاء: فعل الشيء من غير سبب مولد {السحاب} وهو غيم ينسحب في السماء، وهو اسم جنس جمعي، واحده سحابه {الثقال *} بأنهار الماء محمولة في الهواء على متن الريح؛ والثقل: الاعتماد على جهة الثقل بكثافة الأجزاء {ويسبح الرعد} أي ينزه عن صفات النقص تنزيهاً ملتبساً {بحمده} أي بوصفه بصفات الكمال، ويروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الرعد ملك وإن لم يصح أنه ملك فتسبيحه دلالته على أن موجده سبحانه منزه عن النقص محيط بأوصاف الكمال {والملائكة} أي تسبح {من خيفته} قال الرماني:

ص: 294

والخيفة مضمنة بالحال، كقولك: هذه ركبة، أي حال من الركوب حسنة، وكذلك هذه خيفة شديدة، والخوف مصدر غير مضمن بالحال. {ويرسل الصواعق} المحرقة من تلك السحائب المشحونة بالمياه المغرقة؛ والصاعقة - قال الرازي: نار لطيفة تسقط من السماء بحال هائلة. {فيصيب بها} أي الصواعق {من يشاء} كما أصاب بها أربد بن ربيعة {وهم} أي والحال أنهم مع ذلك الذي تقدم من إحاطة علمه وكمال قدرته {يجادلون} والجدال: فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج {في الله} أي الملك الأعظم بما يؤدي إلى الشك في قدرته وعلمه. ولما كان لا يغني من قصده بالعذاب شيء قال: {وهو شديد المحال *} لأن المحال - ككتاب: الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعاداة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك، يأتي أعداءه بما يريد من إنزال العذاب بهم من حيث لا يحتسبون، وكلها صالح هنا حقيقة أو مجازاً، وقال الرماني: والمحال: الأخذ بالعقاب من قولهم: ما حلت فلاناً - إذا فتلته إلى هلكه - انتهى.

ص: 295

ومادة «محل» بجميع تقاليبها تدور على صرف الشيء عن وجهه وعادته وما تقتضيه جبلته، وذلك يستلزم القدرة والقوة والشدة، فالحامل يمسك المحمول بقوته عن أن يهوي إلى جهة السفل، والحملة: الكرة في الحرب، ويلزم الحمل المشقة، ومنه تحمل الشيء وحمل عنه أي حلم فهو حمول: ذو حلم، والحميل - كأمير: الدعي والغريب - كأنهما محمولان لحاجتهما إلى ذلك، والكفيل، لأنه حامل لكل مكفول واحتمل لونه - للمفعول: غضب وامتقع - كأن الغضب صرفه عما كان من عادته، والمحمل - كمحسن: المرأة ينزل لبنها من غير حبل، لأن ذلك شيء على غير وجهه، والحمل - محركة: الخروف - لسهولة حمله، والحليم: من يحبس غيظه بقوة حلمه - أي عقله - عن أن يستخفه الغضب، والحلم - بالكسر: الأناة والعقل، والحلم - بالضم وبضمتين: الرؤيا، لأنها صرف النفس عما هي عليه، وهو من شأنها من الغفلة، ومنه الحلم - بالضم - والاحتلام للجماع في النوم، والاسم الحلم - كعنق، وذلك يكون غالباً عند فراغ البال عن الهموم، وإليه يرجع حلم المال -

ص: 296

بالضم: سمن، والصبي وغيره: أقبل شحمه، أو هو من الحلمة - محركة: اللحمة الناتئة وسط الثدي كالثؤلول - لصرفها لون الثدي وهيئته عما كان عليه، وشجر السعدان - لأنه مرعى جيد يسمن، والصغيرة من القردان أو الضخمة - لشبهها بحلمة الثدي ودود يقع في الجلد قبل الدبغ فيأكله، لأن ذلك يغيره عن هيئته، والحالوم: ضرب من الأقط، لأنه لحراقته يغير اللسان، ودم حلام: هدر، لأنه خرج عما عليه عادة الدماء؛ والملح يصرف المملوح عن الفساد، وأما الماء الملح فمشبه به الطعم، وكذا الملح - محركاً - للون كالبياض يخالطه سواد، والملحاء: شجرة سقط ورقها، شبهت بأرض الملح في عدم الإنبات. ولما عرف الملح بالصلاح شبه به العلم فسمي ملحاً، وكذا الرضاع والحسن والشحم والسمن والحرمة والذمام وخفقان الطائر بجناحيه يصلح بذلك طيرانه ويتملح به استرواحاً إليه، وملح الشاة: سمطها، والملاح - ككتاب: الريح تجري بها السفينة، وهي أيضاً تصرفها عما يقتضيه حالها من عدم السير، ومعالجة حياء الناقة منه، وملحه على ركبته - أي لا وفاء له،

ص: 297

لأن الملح لا يثبت هناك، أو هو سمين أو حديد في غضبه، بمعنى أنه لا صلاح له، وملحه: اغتابه، شبه بمن يتطعم الملح ليعدل مزاجه، وكذا الملاح - ككتاب، وهو هبوب الجنوب عقب الشمال، وكذا الملاحي - كفرابي وقد يشدد، وهو عنب أبيض طويل، ونوع من التين، ومن الأراك ما فيه بياض وحمرة، والملح - بضم الميم وفتح اللام من الأحاديث، وامتلح: خلط كذباً بحق، والملح - محركة: ورم في عرقوب الفرس، صرفه عن هيئته المعتادة، والملاح ككتاب: سنان الرمح، لتهيئته له بعد الوقوف للنفوذ، والسترة، لصرفها البصر عن النفوذ إلى ما وراءها، وبرد الأرض حين ينزل الغيث، لأنه يصرف حالها التي كانت عليها إلى أخرى، والملحة - بالضم: المهابة، لصرفها المجترىء عن قصده ولأن سببها صرف النفس عن هواها، والملحاء: الكثيبة العظيمة، ومنه البركة، لمنعها الماشي عن حاله في المشي، ومنه الملحة - بالفتح - للجة البحر، وملحان: الكانون الثاني لصرفه بقوة برده الزمان عما كان عليه والناس عما كانوا عليه، والملحاء: لحم في الصلب من الكاهل إلى العجز، لمنعه من رؤية عظام الصلب ورؤوس الأضلاع؛ والمحل صرف ما في الزمان عن عادته

ص: 298

بعدم المطر والإنبات ورفاهة العيش، وكذا المحل للكيد والمكر والغبار والشدة والمحال، لما تقدم من تفسيره، ومنه ماحله: قاواه، والمتماحل: الطويل المضطرب الخلق، لخروجه عن العادة، وتمحل له: احتال، والممحل - كمعظم - من اللبن: الآخذ طعم حموضة، والمحالة: البكرة العظيمة - لصرفها بفتلها الشيء عن وجهه، والفقرة من فقر البعير - لمشابهتها والخشبة التي يستقر عليها الطيانون - لحملها إياهم ومنعها لهم من السقوط، والمحل - ككتف: من طرد حتى أعيا، لأنه صرف عما كان من عادته، ورأيته متماحلاً: متغير اللون؛ واللمح: صرف البصر عما كان عليه، ولمح البرق: لمع بعد كمونه؛ واللحم من لحمة الثوب - بالضم، كأنه سد ما حصل بالهزال من فرج، ومنه: لحم كل شيء: لبه؛ ولحم الأمر - كمنع: أحكمه، والصائغ الفضة: لأمها، وكذا كل صدع، ولحم - كعلم: نشب في المكان، كأنه وقع فيما يشبه اللحم فالتصق به فأدخله وشغله، وهذا لحيم هذا، أي وفقه وشكله - وهو يرجع إلى لحمة الثوب، واستلحم الطريق: تبعه

ص: 299

أو تبع أوسعه - كأنه جعل نفسه مثل لحمة السدى، واستلحم الطريق: اتسع، كأنه طلب ما يلحمه أي يسده، وحبل ملاحم - بفتح الحاء: شديد الفتل، لأنه سدت فرجه كما تسد اللحمة فرج الثوب، ونبي الملحمة - من القتال، لأنه ضرب اللحم بالسيف، ومن التأليف كما يكون عن لحمة الثوب، لأن غاية قتاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم خير وألفة، والتحم الجرح للبرء: التأم - من ذلك ومن اللحم أيضاً لأنه به التأم - والله أعلم.

ولما بين تعالى تصديقاً لقوله {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} [يوسف: 105] ما له من الآيات التابعة لصفات الكمال التي منها التنزه عما لا يليق بالجلال وأنه شديد المحال، شرع يبين ضلالهم في اشتراكهم المشار إليه في قوله:{وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} بما هو علة لختم ما قبلها من أنه لا كفؤ له،

ص: 300

فقال: {له} أي الله سبحانه {دعوة الحق} إن دعاه أحد سمعه فأجابه - إن شاء - بما يشاء، وإن دعا هو أحداً دعوة أمر، بين الصواب بما يكشف الارتياب، أو دعوة حكم لبى صاغراً وأجاب {والذين يدعون} أي يدعو الكافرون، وبين سفول رتبتهم بقوله:{من دونه} أي الله {لا يستجيبون} أي لا يوجدون الإجابة {لهم} أي الكافرين {بشيء} والاستجابة: متابعة الداعي فيما دعا إليه بموافقة إرادته {إلا كباسط} أي إلا إجابة كإجابة الماء لباسط {كفيه} تثنيه كف، وهو موضع القبض باليد، وأصله من كفه - إذا جمع أطرافه {إلى الماء ليبلغ} أي الماء {فاه} دون أن يصل كفاه إلى الماء- بما يدل عليه التعدية ب «إلى» ، فما الماء بمجيب دعاءه في بلوغ فيه {وما هو} أي الماء {ببالغه} أي فيه، فللكافرين بذلك دعوة الباطل كما أن الماء جماد لا يحس بدعوة هذا فلا يجيبه، فأصنامهم كذلك.

ولما كان دعاؤهم منحصراً في الباطل، قال في موضع «وما دعاؤهم» مظهراً تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف:{وما دعاء الكافرين}

ص: 301

أي الساترين لما دلت عليه أنوار عقولهم بمعبوداتهم أو غيرها {إلا في ضلال *} لأنه لا يجد لهم نفعاً، أما معبوداتهم فلا تضر ولا تنفع، وأما الله فلا يجيبهم لتضييعهم الأساس.

ص: 302

ولما كانت دعوة الأمر واضحة السبل جلية المناهج في جميع كتبه، وكلها إلى الناظرين وبين دعوة الحكم بقوله:{ولله} أي الملك الأعلى {يسجد} أي يخضع وينقاد ويتذلل كما بين عند قوله {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} [هود: 119]{من في السماوات والأرض} لجميع أحكامه النافذة وأقضيته الجارية {طوعاً} والطوع: الانقياد للأمر الذي يدعى إليه من قبل النفس {وكرهاً} قال الرازي رحمه الله: والكافر في حكم الساجد وإن أباه لما به من الحاجة الداعية إلى الخضوع، واعلم أن سجود كل صنف هو تذلله وتسخره وانقياده لما أريد له، فكل موجود جماد وحيوان عاقل وغير عاقل وروحاني وغير روحاني مسخر لأمر من له الخلق والأمر؛ وقال الشيخ محيي الدين النووي رضي الله عنه في شرح المهذب: أصله - أي السجود - الخضوع والتذلل، وكل من تذلل وخضع فقد سجد، وسجود كل موات في القرآن طاعته لما سخر له - هذا أصله في اللغة، ثم قيل لمن وضع جبهته في الأرض: سجد، لأنه غاية الخضوع.

ص: 302

ولما كانت الظلال مسخرة لما أراد سبحانه، لا قدرة لأحد على تغيير ذلك بوجه، قال:{وضلالهم} أي أيضاً تسجد له بامتدادها على الأرض، تقصر تارة بارتفاع الشمس وتطول أخرى بانحطاطها، لا يقدرون على منع ظلالهم من ذلك حيث يكون لهم ظلال، وذلك {بالغدو} جمع غداة، وهي البكرة: أول النهار {والآصال *} جمع أصيل، دائماً في جميع البلاد، وفي وسط النهار في بعض البلاد؛ والظل: ستر الشخص ما بإزائه، والفيء: الذي يرجع بعد ذهاب ضوئه، والأصيل: العشيّ ما بين العصر إلى المغرب - كأنه أصل الليل الذي ينشأ منه.

ومادة «صلا» - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بتراكيبها الأحد عشر، وهي: صلو، صول، لصو، لوص، وصل، صلي، صيل، لصي، ليص، أصل، صأل - تدور على الوصالة، فالصلاة وصلة بين العبد وربه سواء كانت دعاء أو استغفاراً أو رحمة أو حسن الثناء من الله

ص: 303

على رسوله، أو ذات الأركان، وصلوات اليهود لمتعبداتهم من ذلك في الأصل، والصلا: وسط الظهر منا، أو من كل ذي أربع، أو ما انحدر من الوركين، أو الفرجة بين الجاعرة والذنب - يجوز أن يكون من ذلك، لأنه يقرب من غيره من الأعضاء إذا انثنى الحيوان، ويجوز أن يكون شبه بالعود المعوج الذي يقوم بإصلائه النار، وأصلت الناقة وصليت - إذا استرخى صلواها لقرب نتاجها، والمصلّي من خيل الحلبة: الذي يجيء على إثر السابق، فإنه يواصله، وصلى الحمار أتنه: طردها وقحمها الطريق - فكأنه بذلك قومها بعد أن كانت معوجة، أو أراد مواصلتها؛ صال الرجل صولة - إذا سطا واستطال، لأن ذلك مواصلة على وجه القهر والغلبة، وكذا صال الفحل على الإبل - إذا قاتلها، والعير - إذا حمل على العانة فشلها، وصال على كذا: وثب، وصاوله: واثبه، والتصويل: إخراجك الشيء بالماء، لأن ذلك سبب الخلوص، وإذا خلص الشيء تواصلت أجزاؤه، لأن ذلك

ص: 304

المخرج كان حائلاً بينها، والتصويل - أيضاً: كنس نواحي البيدر، لأنه سبب لتواصل ما كان متفرقاً، ومن ذلك المصول - كمنبر: شيء ينقع فيه الحنظل لتذهب مرارته، وبهاء: المكنسة، والصيلة - بالكسر: عقدة العذبة - لتواصل محل العقد بعضه ببعض وبه يتماسك اتصال بعض العمامة ببعض، والجراد يصول في مشواه، من التصويل، أي يساط، بمعنى يخلط بالتقليب فيتواصل منه ما كان متفرقاً، وصال يصيل - لغة في يصول، وصيل له - كذا بالكسر: قيض وأتيح، لأنه صار مقارناً له، ولصوت الرجل عبته وقذفته - لأنك وصلت به العيب، وفلان لا يلصو إلى ريبة، أي لا ينضمُّ إليها ولا ينضاف؛ واللوص: اللمح من خلل باب ونحوه كالملاوصة - كأنه وصلة بالنظر من موضع غير معهود، أو لأنه سبب الوصلة إلى ما يراد، ولاوص: نظر كأنه يختل ليروم أمراً، والشجرة: أراد أن يقطعها بالفأس،

ص: 305

فلاوص في نظره يمنة ويسرة كيف يأتيها وكيف يضربها - لأن حاصل ذلك المواصلة على وجه الشدة كما تقدم في صال عليه، وتلوص: تلوى وتقلب، ومنه أليص - أي أرعش، وألاصه على الشيء: أداره عليه وأراده منه - كأنه طلب منه مواصلته، واللواص - كسحاب: الفالوذ كالملوص كمعظم، والعسل الصافي - لأنه أهل للمواصلة، ولوص: أكل، واللوص: وجع الأذن والنحر، واللوصة؛ وجع الظهر - كأنه لشدته لا مواصل للبدن سواه، ولاص: حاد - أي سلب الوصلة؛ والوصلة - التي هي مدار المادة وكأنها الحقيقة التي تشعبت منها فروعها - هي الضم وهي التئام الشيء بالشيء، وكل ما اتصل بشيء فالذي بينهما وصلة، وضدها الفرقة، والوصل: ضد القطع، والأوصال المفاصل ومجتمع العظام، لأنها موضع اتصال العظم بالآخر، والوصلان - بالكسر والضم: طبقاً الظهر، ويقال: هما العجز والفخذ، والوصيلة: الشاة تلد ذكراً ثم تلد أنثى، فتصل أخاها، وفيها خلاف كثير كله يدور على الوصلة، ووصل الشيء بالشيء:

ص: 306

لأمه، ووصل الشيء وإلى الشي: بلغه وانتهى إليه، وأوصله واتصل: لم ينقطع، ووصله وواصله - كلاهما يكون في عفاف الحب ودعارته، والوصائل جمع وصيلة - لثياب حمر مخططة يمنية يتخذها الناس دروعاً يشق من جانبيها، كأنه لأنها توصل بغيرها أو يقطع بعضها ثم يوصل بها لتصير دروعاً، والوصيلة: العمارة والخصب والرفقة والسيف - لأن ذلك أهل لأن يوصل، والوصيلة: كبة الغزل لشدة التباس بعضها ببعض، والأرض الواسعة - لأن اتصالها لم يحل بينه جبال، وليلة الوصل: آخر ليالي الشهر، لأنها تصل بين الشهرين، وحرف الوصل: الذي بعد الروي - لأنه وصل حركة حرف الروي، ووصيلك: من يدخل ويخرج معك، وتَصِلُ: بئر ببلاد هذيل، واتصل الرجل - إذا انتسب، لأنه وصل نفسه بمن انتسب إليهم، والموصول: دابة كالدبر تلسع الناس، كأنه من السلب؛ وصليت اللحم: شويته - لأنك وصلته بالنار، وصليته: ألقيته في النار للإحراق، والصلاء - ككساء:

ص: 307

الشواء أو النار كالصلى فيهما، وكأن منه: صلّىعصاه على النار، أي أحماها ليقومها - لأن كلاًّ منهما وصله بالنار للإصلاح، وأصليته النار: أدخلته إياها وأثويته فيها، وصلى يده بالنار: سخنها - لأنه وصلها بها، وصلي النار - كرضي: قاسى حرها، وصليت فلاناً: درايته وخاتلته وخدعته - كل ذلك لإرادة مواصلته لأمر، والصلاية - ويهمز: الجبهة، لكثرة مباشرتها الأرض في الصلاة، ومدق الطيب - لمواصلة الدق، وصليت للصيد تصلية - إذا نصبت له شركاً ليقع فيه فتصل إليه، ومنه الحديث «إن للشيطان مصالي وفخوخاً» جمع مصلاة وفخ، والصليان - بكسر ثم تشديد - قال في مختصر العين: نبت معروف، وقال القزاز: وهو شجر له جعثن ضخم، ربما جرد وسطه ونبت ما حوله، وهو من أفضل المراعي وهو خبز الإبل، وقيل: إن الخيل تأكله ولونه أصهب - انتهى.

فسمي بذلك لكثرة مواصلة الإبل له؛ ولصيت الرجل

ص: 308

كرميت ورضيت - إذا عبته وقذفته بالفجور، وقال القزاز: وقيل: هو أن يضيفه إلى ربية، ولصي إليه: انضم إليه لريبة؛ ولاص يليص: حاد، ولصته أليصه وألصته - إذا أزعجته أو حركته لتنتزعه - كأنه من السلب، وألصته عن كذا - إذا راودته عنه، يمكن أن يكون سلباً وأن يكون إيجاباً؛ والأصل: أسفل كل شيء - لأن جميع الأشياء واصله إليه، وأصل - ككرم: صار ذا أصل أو ثبت أو رسخ كتأصل، والرأي: جاد - كل ذلك تشبيه بالأصل، والأصيل: من له أصل، والعاقب الثابت الرأي، وقد أصل - ككرم، والأصيل: العشيّ - لأنه وصلة ما بين النهار والليل، أو الليل، أو لأنه لما آذن بتصرم النهار كان كأنه اجتثه من أصله، ومنه الأصيل - للهلاك والموت كالأصيلة فيهما، ولقيتهم مؤصلاً أي بالأصيل، وأخذه بأصلته - محركاً، وأصيلته أي كله بأصله، وأصيلتك: جميع مالك أو نخلتك، والأصل - ككتف:

ص: 309

المستأصل، وأصله علماً: قتله - كأنه أدام مواصلته حتى أتقنه، والأصلة - محركة: حية قصيرة تساورالإنسان - قاله في مختصر العين، وفي القاموس: حية صغيرة أو عظيمة تهلك بنفخها، فإن نظرت إلى المساورة فهو من المواصلة - كما تقدم في صال عليه، وإن نظرت إلى الهلاك فهو من الاستئصال، وأصل الماء - كفرح: أسن من حمأة، واللحم: تغير، يجوز أن يكون من الوصلة أي لشدة مواصلة الحمأة للماء والهواء للحم، وأن يكون من الأصيل أي الهلاك بجملته وأصله، وأن يكون من سلب المواصلة؛ وصؤل البعير - ككرم صآلة: واثب الناس أو صار يقتل الناس ويعدو عليهم، وصئيل الفرس: صهيله - لمواصلة نغماته، وهذا وقد مضى عند قوله تعالى في سورة هود عليه السلام {صلواتك تأمرك} إشارة إلى هذا - والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 310

فلما تبين قطعاً أنه سبحانه المدبر للسماوات والأرض القاهر لمن

ص: 310

فيهما، وتبين قطعاً أنه المختص بربوبيتهما فأمره تعالى أن يوجه السؤال نحوهم عن ذلك - ردّاً على عبدة الأصنام وغيرهم من الملحدين - بقوله:{قل} أي بعد أن أقمت هذه الأدلة القاطعة، مقرراً لهم {من رب} أي موجد ومدبر {السماوات والأرض} أي وكل ما فيهما.

ولما مضى في غير آية أنهم معترفون بربوبيته مقرون بخلقه ورزقه ثم لم يزعهم ذلك عن الإشراك، جعلوا هنا كأنهم منكرون لذلك عناداً، فلم ينتظر جوابهم بل أمره أن يجيبهم بما يجيبون به، إشارة إلى أنهم لا يتحاشون من التناقض في اتباع الهوى ولا تصونهم عقولهم الجليلة وآراؤهم الأصلية - بزعمهم - عن التساقط في مهاوي الردى، فقال:{قل الله} أي الذي له الأمر كله، فثبت حينئذ أن لا ولي إلا هو، فتسبب عن ذلك توجه الإنكار عليهم في اعتماد غيره، فأمره بالإنكار في قوله:{قل أفاتخذتم} أي فتسببتم عن انفراده بربوبيتكم أن أوجدتم الأخذ بغاية الرغبة، فتسببتم الإشراك عما يجب أن يكون سبب التوحيد، وبين سفول رتبتهم

ص: 311

بقوله: {من دونه أولياء} لا يساوونكم في التسبب في الضر والنفع، بل {لا يملكون لأنفسهم} فكيف بغيرهم {نفعاً} ونكره ليعم، وقدمه لأن السياق لطلبهم منهم، والإنسان إنما يطلب ما ينفعه.

ولما كان من المعلوم أنه لا قدرة لأحد على أن يؤثر في آخره أثراً لا يقدر على مثله في نفسه قال: {ولا ضرّاً} فثبت أن من سواهم بالله أضل الضالين، لأنه يلزمه أن يسوي بين المتضادات، فكان معنى قوله:{قل هل يستوي} والاستواء: استمرار الشيء في جهة واحده {الأعمى} في عينه أو في قلبه {والبصير *} كذلك {أم هل تستوي} بوجه من الوجوه {الظلمات والنور *} : هل أدتهم عقولهم إلى أن سووا بين هذه المتضادات الشديدة الظهور لغباوة أو عناد حتى سووا من يخلق بمن لا يخلق، فجعلوا له شريكاً كذلك لغباوة أو عناد {أم جعلوا لله} أي الذي له مجامع العظمة

ص: 312

{شركاء} ثم بين ما يمكن أن يكون به الشركة، فقال واصفاً لهم:{خلقوا كخلقه} وسبب عن ذلك قوله: {فتشابه} والتشابه: التشاكل بما يلتبس حتى لا يفصل فيه بين أحد الشيئين والآخر {الخلق عليهم} فكان ذلك الخلق الذي خلقه الشركاء سبب عروض شبهة لهم، وساق ذلك في أسلوب الغيبة إعلاماً بأنهم أهل للإعراض عنهم، لكونهم في عداد البهائم لقولهم ما لا يعقل بوجه من الوجوه، وهذا قريب مما يأتي قريباً في قوله:{أم بظاهر من القول} [الرعد: 33] . أي بشبهة يكون فيها نوع ظهور لبعض الأذهان.

ولما كان من المعلوم قطعاً أن جوابهم أن الخلق كله لله.

ولم يمنعهم ذلك من تأله سواه، أمره أن يجيبهم معرضاً عن جوابهم فقال {قل الله} أي الملك الأعلى {خالق كل شيء} إشارة إلى أنهم في أحوالهم كالمنكر لذلك عناداً أو خرقاً لسياج الحياء وهتكاً لجلباب الصيانة، وإذ قد ثبت أنه المنفرد بالخلق وجب أن يفرد بالتأله فقال:{وهو الواحد} الذي لا يجانسه شيء، وكل ما

ص: 313

سواه لا يخلو عن مجانس يماثله، وأين رتبة من يماثل من رتبة من لا مثل له {القهار *} الذي كل شيء تحت قهره بأنفسهم وظلالهم، وهو القادر بما لا يمكن أن يغلبه غالب وهو لكل شيء غالب، وهذا إشارة - كما مضى في مثله غير مرة في سورة يوسف وغيرها - إلى برهان التمانع، فإن أربابهم متعددون، فلو كانت لهم حياة وكانوا متصرفين في الملك لأمكن بينهم تمانع وكان كل منهم معرضاً لأن يكون مقهوراً، فكيف وهم جماد! فثبت قطعاً أنه لا شيء منهم يصلح للإلهية على تقدير من التقادير؛ قال الرماني: والواحد على وجهين: شيء لا ينقسم أصلاً، وشيء لا ينقسم في معنى كالدنيا.

ص: 314

ولما كان حمل الماء في العلو لا يمكن إلا عن قهر، وإنزاله في وقت دون غيره كذلك، أتبع هذا الختم قوله دليلاً مشاهداً عليه:{أنزل} ولما كان الإنزال قد يتجوز به عن إيجاد ما يعظم إيجاده، حقق أمره بقوله:{من السماء} ولما كان المنزل منها أنواعاً شتى قال: {ماء فسالت} أي فتسبب عن إنزاله لكثرته

ص: 314

أن سالت {أودية} أي مياهها منها الكبير والصغير؛ والوادي: سفح الجبل العظيم الذي يقابله جبل أو تل فيجتمع فيه المطر، فيجري في فضائه، ومنه أخذت الدية - لجمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتل {بقدرها} والقدر: اتزان الشيء بغيره من غير زيادة ولا نقصان، فالمعنى أن المياه ملأت الأودية مع ما ذلك من الدلالة على التفرد بالربوبية مما هو مثال للحق والباطل، وهو قوله:{فاحتمل} والاحتمال: رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له {السيل} وهو ماء المطر الجاري من الوادي بعظم {زبداً رابياً} أي عالياً بانتفاخه: والزبد: الرغوة التي تعلو الماء، ومدار المادة على الخفة، ويلزمها العلو، ومنه زبد البحر والبعير - للرغوة الخارجة من شدقه، والغضبان، وزبدت المرأة القطن - إذا نفشته، والزباد - كرمان: ضرب من النبت تنفرش أفنانه، وشاة مزبدة أي سمينة، ومنه الزباد - للطيب المعروف وهو وسخ يشبه الرغوة يجتمع تحت ذنب نوع من السنانير،

ص: 315

ومنه الزبد - بضم وسكون - لخالص اللبن فإنه أخفه، يقال منه: زبدت فلاناً أزبده - إذا أطعمته الزبد، ثم اتسع فيه حتى قيل لمطلق العطية، ومنه:«نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن زبد المشركين» ؛ ومنه الزدب - بكسر ثم سكون، وهو النصيب، ويمكن أن يكون من زبد اللبن الزبادُ للنبت، فإنه مرعى ناجع، كأنه شبه به أو لأنه سببه، وكذا شاة مزبدة أي سمينة ويلزم الخفة الإسراع، يقال: تزبد اليمين - إذا أسرع إليها، أو إنها شبهت بالزبد في سهولة التقامه.

ولما الزبد أحسن مثل لمعبوداتهم، وكان لا يختص بالماء الذي هو مائع بطبعه بجمع الأوضار والأقذار بجريه، ذكر معه ما يشبهه في النفع من الجوامد الصلبة التي تزبد عند الإذابة مع كونها في حال الجمود في غاية الصفاء والخلوص عن الشوائب على ما يظهر، فقال:{ومما يوقدون} أي إيقاداً مستعلياً {عليه} أي للإذابة {في النار} من المعادن {ابتغاء حلية} تتحلون بها من الأساور والحلق ونحوها {أو} ابتغاء {متاع} تتمتعون به من الدراهم والدنانير والسيوف

ص: 316

والأواني ونحوها، وأصل المتاع: التمتع الحاضر، فهذا تقسيم حاصر لأنواع الفلز المنوه إليها مع إظهار التهاون به وإن تنافس الناس فيه كما هو شأن الملوك يظهرون المجد والفخار بالاستهانة بما يتنافس الناس فيه {زبد مثله} أي مثل زبد الماء يكشط عن وجهه أو يعلق بأطراف الإناء فيذهب ويبقى ذلك الجوهر خالصاً كالحق إذا زالت عنه الشكوك وانزاحت الشبه.

ولما كان هذا في غاية الحسن والانطباق على المقصود، كان سامعه جديراً بأن يهتز فيقول: هذا مما لا يقدر على سوقه هكذا إلا الله تعالى، فيا له من مثل! فأجيب قوله:{كذلك} أي مثل هذا الضرب، العلي الرتب، الغريب العجب، المتين السبب {يضرب الله} أي الذي له الأمر كله {الحق والباطل} أي مثلهما؛ وضرب المثل: تسييره في البلاد يتمثل به الناس.

ولما نبه بهذا الفصل على علو رتبه هذا المثل، شرع في شرحه، فقال مبتدئاً بما هو الأهم في هذا المقام، وهو إبطال الباطل الذي أضلهم،

ص: 317

وهو في تقسيمه على طريق النشر المشوش، فقال:{فأما الزبد} أي الذي هو مثل للباطل المطلق {فيذهب} متعلقاً بالاشجار وجوانب الأودية لأنه يطفو بخفته ويعلق بالأشياء الكثيفة بكثافته {جفاء} قال أبو حيان: أي مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له؛ وقال ابن الأنباري: متفرقاً، من جفأت الريح الغيم - إذا قطعته، وجفأت الرجل: صرعته - انتهى. فهذا مثل الباطل من الشكوك والشبه وما أثاره أهل العناد، لا بقاء له وإن جال جولة - يمتحن الله بها عباده ليظهر الثابت من المزلزل - ثم ينمحق سريعاً؛ وقال الرماني: والجفاء: بنوّ مكان الشيء به حتى يهلك {وأما ما ينفع الناس} من الماء والفلز الذي هو مثل الحق {فيمكث في الأرض} ينتفع الناس بالماء الذي به حياة كل شيء، والفلز الذي به التمام، فالماء والمعدن مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب وبقاء الشرع كما أن الماء يحيى الأراضي الميتة، والمعادن تحيي موات العيش وتنظم المعاملات المقتضية لاختلاط

ص: 318

بعض الناس ببعض وائتلافهم بالحاجة، والأودية والأواني مثل القلوب يثبت منه فيها ما تحتمله على قدر سعة القلب وضيقه بحسب الطهارة وقوة الفاهمة.

ولما انقضى هذا المثل على هذا البيان الذي يعجز دونه الثقلان، لأنه أحسن شيء معنى بأوجر عبارة وأوضح دلالة، كان كأنه قيل: هل يبين كل شيء هذا البيان؟ فقيل: نعم، {كذلك} أي مثل ذلك الضرب {يضرب الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة {الأمثال} فيجعلها في غاية الوضوح وإن كانت في غاية الغموض.

ومادة «جفا» - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بكل ترتيب، وهي جفأ جأف فجأ، جفي جيف فيج، جفو جوف فوج، فجو وجف - تدور على الطرح: جفأ الوادي والقدر: رميا بالجفاء أي الزبد وجفأ القدر والوادي: مسح غثاءه أي فطرحه - وجفأه: صرعه، والبرمة في القصعة: كفاها - أي طرح ما فيها - والباب: أغلقه وفتحه - ضد، لأنه في كليهما كالمرمي به، والبقل: قلعه من أصله،

ص: 319

والجفاء - كعزاب: الباطل، لأنه أهل للقذف به والطرح، والسفينة الخالية، لأنا بمعرض قذف الماء لها.

وأجفا ماشيته: أتعبها بالسير ولم يعلفها أي سيرها سيراً كأنها يقذف بها، وجفأ به: طرحه، وجفات البلادُ: ذهب خيرها، فكانت طرحته أو صارت هي أهلاً لأن تطرح وتبعد، والعام جفأةُ إبلنا، وهو أن ينتج أكثرُها، لأنها طرحت أجنّتها.

ومن يائيه: جفيته أجفيه: صرعته، والجفاية - بالضم: السفينة الفارغة، والمجفي: المجفو.

ومن واويه: جفا الشيء يجفو - إذا لم يلزم مكانه، كأنه فصل من مكانه فطرح به، والجفاء والجفوة: ترك الصلة، واجتفيته: أزلته عن مكانه، وجفا عليه كذا: ثقل، فصار أهلاً لطرحه والانفصال منه، ورجل جافي الخلقة والخلق: كز غليظ، لأن الشيء إذا غلظ لم يلتصق التصاق اللطيف، وأجفى الماشية: أتبعها ولم يدعها تأكل،

ص: 320

وفيه جفوة أي هو جاف، فإن كان مجفواً قيل: به جفوة.

ومن مقلوبه مهموزاً: جافة: صرعه وذعره أي قذف في قلبه رعباً: والشجرة: قلعها من أصلها، والجآف - كشداد: الصيّاح، كأنه يقذف بصوته، ورجل مجأف: لا ثبات له - كأنه يقذف به من مكانه، والمجؤوف: الجائع والمذعور، كأنه من الجوف، وإنما همزت واوه الأولى لانضمامها مع أنه يمكن تنزيله على أنه قذف فيه ذلك.

ومن يائيه: الجيفة: جثة الميت وقد أراح، والجيّاف - كشداد: النباش، وجافت تجيف: أنتنت فصارت متهيئة للطرح والتغييب، وجيّفه: ضربه، لما رآه أهلاً للبعد، وجيّف فلان في كذا وجُيّف أي فَزَّع وأفزع أي طرح في قلبه رعب، فصار لا تسعه أرض، بل يقذف بنفسه من مكان إلى آخر.

ومن واويه: الجوف: المطمئن من الأرض، لأنه يسع

ص: 321

ما يطرح فيه ويمسكه، ومهما طرح من الجبال من شيء استقر به، والجوف منك: بطنك، لافتقاره إلى طرح الغذاء فيه، وأهل الأغوار يسمون فساطيط عمالهم الأجواف - لطرح أنفسهم وأمتعتهم فيها - وجوف الليل: وسطه - تشبيه بالجوف، والأجوفان: البطن والفرج، والجوف - محركة السعة، والجوفاء من الدلاء: الواسعة، ومن القنا والشجر: الفارغة، والجائفة: جراحة تبلغ الجوف، وتلعه جائفة: قعيرة - لأنها لقعرها بالجوف أشبه منها بالجبل، وجوائف النفس: ما تقعر من الجوف في مقارّ الروح، والمجوف - كمعظم: من لا قلب له - كأن قلبه طرح من جوفه فصار خالياً. والجُوفان - بالضم: أير الحمار - لسعة جوفه، وأجفت الباب: رددته - كأنه من السلب، لأنك سددت جوف البيت، أو أنه شبه الإغلاق بطرح الباب.

ومن مقلوبه مهموزاً: فجئه الأمر - كسمعه ومنعه: هجم عليه من غير أن يشعر، كأنه قذف به إليه، وفجئت الناقة - كفرح: عظم

ص: 322

بطنها، كأنه قذف فيه بشيء، وفجأ - كمنع: جامع، لأنه طرحها وطرح نفسه عليها، والمفاجىء: الأسد، لأنه يخرج بغتة فيثب من غير توقف.

ومن مقلوبه واوياً: الفجوة: المتسع من الأرض والفرجة - لتهيئها لما يطرح فيها، والفجوة - أيضاً: ساحة الدار وما بين حوافي الحوافر، أي ميامنها ومياسرها، وفجا قوسه: رفع وترها عن كبدها فهي فجواء، وفجا بابه: فتحه، فصار كالجوف، والفجا: تباعد ما بين الركبتين أو الفخذين أو الساقين أو عرقوبي البعير؛ فجي - كرضي فهو أفجى، وعظم بطن الناقة، والفعل كالفعل، والتفجية: الكشف، لأنك طرحت الغطاء، والتفجية - أيضاً: التنحية، وهي واضحة في الطرح، وأفجى: وسّع النفقة على عياله - كأنه يقذف بها قذفاً.

ومن مقلوبه يائياً: أفاج الرجل - إذا أسرع، ومنه الفيج - لرسول السلطان على رجليه - كأنه لسرعته يطرح به في الأرض - هذا

ص: 323

هو الصحيح الذي صححه صاحب العباب، لأنه معرب بيك، وقيل: إنه واوي، أصله: فيوج، ثم قيل: فيج - ككيس، ثم خفف، وجمعه الفيوج، وقيل: الفيوج: الذين يدخلون السجن ويخرجون ويحرسون، وأفاج في الأرض: ذهب، والقوم: ذهبوا وانتشروا - كأنه قذف بهم، والفيج: الوهد المطمئن من الأرض، لأنه موضع لطرح ما في الأعالي.

ومن مقلوبه واوياً: الفوج: الجماعة، كأنهم اقتطعوا من الجمهور فقذف بهم، وفاج المسك: فاح وسطع، أي انتشرت رائحته، والنهار: برد، إما بمعنى طرح برده على ما فيه، وإما لإحواجه الحيوان إلى أن يطرح عليه ما يدفئه، وأفاج: أسرع وعدا وأرسل الإبل على الحوض قطعة قطعة، والفاتج: البساط الواسع من الأرض، لتهيئه لما يطرح فيه، من تسمية المحل باسم الحال، وأفاج في عدوه: أبطأ. فهو للسلب، وفاجت الناقة برجيلها: نفحت بهما من خلفها، والفائجة: متسع ما بين كل مرتفعين، كأنه محل طرح ما ينزل منهما.

ومن مقلوبه: وجف يجف وجيفاً: اضطرب، والوجف ضرب من سير الإبل والخيل، وجف يجف وأوجفته واستوجف الحب فؤاده: ذهب به، كأنه طرحه منه.

ص: 324

ولما تم ما للحق والباطل في أنفسهم من الثبات والاضطراب، ذكر ما لأهلهما من الثواب والعقاب جواباً لمن كأنه قال: ما لمن تدبر هذه الأمثال، وأبعد عما أشارت إليه من الضلال، أو حاد عما دعت إليه ومال؟ فأجيب بقوله:{للذين استجابوا} أي طلبوا من أنفسهم الإجابة وأوجدوها {لربهم} أي المحسن إليهم شكراً له، الحالة {الحسنى} أي العظيمة في الحسن، وهي القرار في الجنة فهو جزاءهم؛ قال أبو حيان: وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمه تعالى ودخول الجنة في الآخرة - انتهى. وقد تقدم في سورة يونس عليه الصلاة والسلام أنهم يزادون ما لا يعلم قدره إلا الذي فعلوا ذلك خوف عقابه ورجاء ثوابه.

ولما ذكر ما للطائعين، أتبعه جزاء العاصين، فقال مبتدئاً:{والذين لم يستجيبوا} أي يرغبوا في إيجاد الإجابة {له} وأخبر عن هذا الابتداء قوله معلماً بأن استعجالهم بالعذاب باستعجالهم بالسيئة قبل الحسنة جراءة منهم ناشئة عن جهل صرف تزول عند رؤيتهم عذابه سبحانه، فيبلغون حينئذ بالافتداء غاية الذل فلا يقبل منهم -:{لو أن لهم}

ص: 325

أي في ملكهم وتحت قدرتهم {ما في الأرض} وأكد بقوله: {جميعاً ومثله} وأوضح بقوله: {معه لافتدوا به} أي جعلوا فكاك أنفسهم بغاية جهدهم، وأكده لادعاء الكفرة أنهم لا يذلون لشيء ولا يوهن قواهم شيء، والافتداء: جعل أحد الشيئين بدلاً من الآخر على جهة الاتقاء به، فكأنه قيل: ما الذي دهاهم حتى كان هذا حالهم؟ فقيل - دلالة على أنه لا يقبل منهم الفداء ولو عظم -: {أولئك} أي البعداء البغضاء {لهم سوء الحساب *} والحساب: إحصاء ما على العبد وله، وسوء المؤاخذة، وعدم العفو عن شيء {ومأواهم} أي مستقرهم {جهنم} أي الطبقة التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة. ولما كان المأوى إنما يأوى إليه صاحبه للراحة فيه بالاتكاء على فرش ونحوه، قال معبراً بمجمع المذام:{وبئس المهاد *} .

ولما افترق حال ما أجاب ومن أعرض في الجزاء، وكان ما مضى مستوفياً طرق البيان بإيضاح الأمر بالجزيئات والأمثلة مع الترغيب والترهيب. فكان جديراً بترتيب الأثر عليه، تسبب عنه الإنكار على

ص: 326

من سوى بين العالم العامل وغيره التفاتاً إلى قوله {هل يستوي الأعمى والبصير} وسوى بين الحق والباطل التفاتاً إلى قوله {كذلك يضرب الله الحق والباطل} فحسن قوله: {أفمن} بفاء السبب {يعلم} علماً نافعاً هو عامل به {إنما} أي الذي {أنزل} أي وجد إنزاله وفرغ منه {إليك من ربك} أي المحسن إليك بأحسن التدبير {الحق} أي الكامل في الحقية، فهو نير العين للبصر والقلب للاستبصار والاعتبار، يهتدي بما يعلم إلى طريق الرشد فيسلكها، وإلى طريق الغي فيتركها، ويفهم الأشارات، وينتفع بالأمثال السائرات، كما يبصر بالبصر طريق النجاة من طريق الهلاك {كمن هو أعمى} لا بصر له ولا بصيرة، لأنه لا يعمل وإن كان عالماً، فهو لا ينتفع بالأمثال، فكأنه قيل: لا يستويان مثلاً أصلاً، ثم علل هذا الإنكار بقوله:{إنما} أي لأنه إنما يعلم ذلك بالتذكر، وإنما {يتذكر} أي يطلب الذكر طلباً عظيماً فيعمل {أولوا} أي أصحاب {الألباب *} أي العقول الصافية الخالصة القابلة للتذكر بالتفكر في أن ما أنزل من عند الله ثابت الأركان راسي القواعد، لا قدر لأحد على إزالة معنى من معانيه ولا هدم شيء من مبانيه

ص: 327

وأن ما عداه هلهل النسج رث القوى، مخلخل الأركان، دارس الرسم، منطمس الأعلام، مجهول المسالك، مظلم الأرجاء، جم المهالك، وأما القلب الذي لا يرجع عن غيه لمثل هذا البيان فكأنه غير قابل للذكرى، فاستحق أن يعد عدماً، وأن يخص التذكر بالقلب، ومن المعلوم أنه لا يستوي من له لب ومن لا لب له؛ واللب والقلب: أجل ما في الشيء وأخلصه وأجوده.

ص: 328

ولما منح سبحانه من فيهم أهلية التذكر بالعقول الدالة على توحيده والانقياد لأوامره، كان كأنه عهد في ذلك، فقال يصف المتذكرين بما يدل قطعاً على أنه لا لب لسواهم:{الذين يوفون} أي يوجدون الوفاء لكل شيء {بعهد الله} أي بسبب العقد المؤكد من الملك الأعلى بأوامره ونواهيه، فيفعلون كلاًّ منهما كما رسمه لهم ولا يوقعون شيئاً منهما مكان الآخر؛ والعهد: العقد المتقدم على الأمر بما يفعل أو يجتنب، والإيفاء: جعل الشيء على مقدار غيره من غير زيادة ولا نقصان.

ص: 328

ولما كان الدليل العقلي محتماً للثبات عليه كما أن الميثاق اللفظي موجب للوفاء به، قال تعالى:{ولا ينقضون الميثاق *} أي الإيثاق ولا الوثاق ولا مكانه ولا زمانه؛ والنقض: حل العقد بفعل ما ينافيه ولا يمكن أن يصح معه، والميثاق: العقد المحكم وهو الأوامر والنواهي المؤكدة بحكم العقل.

ولما كان أمر الله جارياً على منهاج العقل وإن كان قاصراً عنه لا يمكن نيله له من غير مرشد، قال:{والذين يصلون} أي من كل شيء على سبيل الاستمرار {ما أمر الله} أي الذي له الأمر كله؛ وقال: {به أن يوصل} دون «يوصله» ليكون مأموراً بوصله مرتين، ويفيد تجديد الوصل كلما قطعه قاطع على الاستمرار لما تظافر على ذلك من دليلي العقل والنقل؛ والوصل: ضم الثاني إلى الأول من غير فرج.

ولما كان الدليل يرشد إلى أن الله تعالى مرجو مرهوب قال: {ويخشون ربهم} أي المحسن إليهم، من أن ينتقم منهم إن خالفوا بقطع الإحسان. ولما كان العقل دالاً بعد تنبيه الرسل على القدرة على المعاد بالقدرة على المبدأ، وكان الخوف منه أعظم الخوف، قال تعالى:{ويخافون} أي يوجدون الخوف إيجاداً مستمراً

ص: 329

{سوء الحساب *} وهو المناقشة فيه من غير عفو، ومن أول السورة إلى هنا تفصيل لقوله تعالى أول البقرة {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 1] مع نظره إلى قوله آخر يوسف {ما كان حديثاً يفترى} [يوسف: 111] .

ولما كان الوفاء بالعهد في غاية الشدة على النفس، قال مشيراً إلى ذلك مع شموله لغيره:{والذين صبروا} أي على طاعات الله وعن معاصيه وفي كل ما ينبغي الصبر فيه، والصبر: الحبس، وهو تجرع مرارة المنع للنفس عما تحب مما لا يجوز فعله {ابتغاء} أي طلب {وجه ربهم} أي المحسن إليهم، وكأنه ذكر الوجه إثارة للحياء وحثاً عليه لا ليقال: ما أجلده! ولا لأنه يعاب بالجزع، ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا خوف الشماتة.

ولما كانت أفراد الشيء قد تتفاوت في الشرف، خص بالذكر أشياء مما دخل في العهد والميثاق تشريفاً لها فقال:{وأقاموا الصلاة} لأنها في الوصلة بالله كالميثاق في الوصلة بالموثق له، وقال -:{وأنفقوا} وخفف عنهم بالبعض فقال: {مما رزقناهم} - لأن الإنفاق من أعظم سبب يوصل إلى المقاصد، فهذا إنفاق من المال، وتلك إنفاق من القوى، وقال:{سراً وعلانية} إشارة إلى الحث على استواء الحالتين تنبيهاً على الإخلاص، ويجوز أن يكون المراد بالسر ما ينبغي فيه الإسرار

ص: 330

كالنوافل، وبالعلانية ما يندب إلى إظهاره كالواجب إلا أن يمنع مانع، وهذا تفصيل قوله تعالى

{ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3]{واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] وقال: {ويدرؤون} أي يدفعون بقوة وفطنة {بالحسنة} أي من القول أو الفعل {السيئة} إشارة إلى ترك المجازاة أو يتبعونها إياها فتمحوها، خوفاً ورجاء وحثاً على جميع الأفعال الصالحة، فهي نتيجة أعمال البر ودرجة المقربين.

ولما ختم تلك بما يدل على ما بعد الموت ترهيباً، ختم هذه بمثل ذلك ترغيباً فقال:{أولئك} أي العالو الرتبة {لهم عقبى الدار *} وبينها بقوله: {جنات عدن} أي إقامة طويلة - ومنه المعدن وهي أعلى الجنان؛ ثم استأنف بيان تمكنهم فيها فقال: {يدخلونها} .

ولما كانت الدار لا تطيب بدون الحبيب، قال عاطفاً على الضمير المرفوع إشارة إلى أن النسب الخالي غير نافع:{ومن صلح} والصلاح: استقامة الحال على ما يدعو إليه العقل والشرع {من آبائهم} أي الذين كانوا سبباً في إيجادهم {وأزواجهم وذرياتهم} أي الذين تسببوا عنهم؛ ثم زاد في الترغيب بقوله سبحانه وتعالى: {والملائكة يدخلون عليهم} لأن الإكثار من ترداد رسل الملك أعظم في الفخر وأكثر في السرور والعز.

ص: 331

ولما كان إتيانهم من الأماكن المعتادة مع القدرة على غيرها أدل على الأدب والإكرام، قال:{من كل باب *} يقولون لهم: {سلام عليكم} والسلام: التحية بالكرامة على انتفاء كل شائب من مضرة، وبين أن سبب هذا السلام الصبر فقال:{بما صبرتم} أي بصبركم، والذي صبرتم له، والذي صبرتم عليه، إشارة إلى أن الصبر عماد الدين كله. ولما تم ذلك. تسبب عنه قوله:{فنعم عقبى الدار *} وهي المسكن في قرار، المهيأ بالأبنية التي يحتاج إليها والمرافق التي ينتفع بها؛ والعقبى: الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر.

ص: 332

ولما ذكر ما للناجين، ذكر مآل الهالكين فقال:{والذين ينقضون عهد الله} أي الملك الأعلى فيعملون بخلاف موجبه؛ والنقض: التفريق الذي ينفي تأليف البناء. ولما كان النقض ضاراً ولو كان في أيسر جزء، أدخل الجار فقال:{من بعد ميثاقه} أي الذي أوثقه عليهم بما أعطاهم من العقول وأودعها من القوة على ترتيب المقدمات المنتجة للمقاصد الصالحة الدالة على صحة جميع ما أخبرت به رسله عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام؛ والميثاق: إحكام العقد بأبلغ ما يكون في مثله {ويقطعون ما} أي الشيء الذي {أمر الله} أي غير ناظرين إلى ما له من العظمة والجلال، وعدل عن أن

ص: 332

يوصله لما تقدم قريباً فقال: {به أن يوصل} أي لما له من المحاسن الجلية والخفية التي هي عين الصلاح {ويفسدون} أي يوقعون الإفساد {في الأرض} أي في أيِّ جزء كان منهم بوصل ما أمر الله به أن يقطع اتباعاً لأهوائهم، معرضين عن أدلة عقولهم، مستهينين بانتقام الكبير المتعال. ولما كانوا كذلك، استحقوا ضد ما تقدم للمتقين، وذلك هو الطرد والعقاب والغضب والنكال وشؤم اللقاء، فقال سبحانه وتعالى:{أولئك} أي البعداء البغضاء {لهم اللعنة} أي الطرد والبعد {ولهم سوء الدار *} أي أن يكون دارهم الآخرة سيئة بلحاق ما يسوء فيها دون ما يسر.

ولما تقدم الحث العظيم على الإنفاق، وأشير إلى أنه من أوثق الأسباب في الوصلة لجميع أوامر الله، وختم بأن للكافر البعد والطرد عن كل خير والسوء، كان موضع أن يقول الكفار: ما لنا يوسع علينا مع بعدنا ويضيق على المؤمن مع وصله واتصاله، وما له لا يبسط له رزقه ليتمكن من إنفاذ ما أمر به إن كان ذلك حقاً؟ فقيل:{الله} أي الذي له الكمال كله {يبسط الرزق} ودل على تمام

ص: 333

قدرته سبحانه وتعالى بقوله - جلت قدرته -: {لمن يشاء} فيطيع في رزقه أو يعصي {ويقدر} على من يشاء فيجعل رزقه بقدر ضرورته فيصبر أو يجزع لِحكَم دقت عن الأفكار، ثم يجعل ما للكافر سبباً في خذلانه، وفقر المؤمن موجباً لعلو شأنه، فليس الغنى مما يمدح به، ولا الفقر مما يذم به، وإنما يمدح ويذم بالآثار.

ولما كانت السعة مظنة الفرح إلا عند من أخلصه الله وهم أقل من القليل، قال عائباً لمن اطمأن إليها:{وفرحوا} أي فبسط لهؤلاء الرزق فبطروا وكفروا وفرحوا {بالحياة الدنيا} أي بكمالها؛ والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى. ولما كانت الدنيا متلاشية في جنب الدار التي ختم بها للمتقين، قال زيادة في الترغيب والترهيب:{وما الحياة الدنيا في الآخرة} أي في جنبها {إلا متاع *} أي حقير متلاش؛ قال الرماني: والمتاع: ما يقع به الانتفاع في العاجل، وأصله: التمتع وهو التلذذ بالأمر الحاضر.

ولما كان العقل أعظم الأدلة، وتقدم أنه مقصور على المتذكرين، إشارة إلى أن من عداهم بقر سارحة، وعرف أن ما دعا إليه الشرع

ص: 334

هو الصلاح، وضده هو الفساد، وكان العقل إنما هو لمعرفة الصلاح فيتبع، والفساد فيجتنب، وكان الطالب لإنزال آية إلى غير ذلك لا سيما بعد آيات متكاثرة ودلالات ظاهرة موضعاً لأن يعجب منه، قال على سبيل التعجب عطفاً على قوله {وفرحوا} مظهراً لما من شأنه الإضمار تنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم التعنت:{ويقول الذين كفروا} أي ستروا ما دعتهم إليه عقولهم من الخير وما لله من الآيات عناداً {لولا} أي هلا ولم لا.

ولما كان ما تحقق أنه من عند الملك لا يحتاج إلى السؤال عن الآتي به، بني للمفعول قوله:{أنزل عليه} أي هذا الرسول صلى الله عليه وسلم {آية} أي علامة بينة {من ربه} أي المحسن إليه بالإجابة لما يسأله لنهتدي بها فنؤمن به، وأمره بالجواب عن ذلك بقوله:{قل} أي لهؤلاء المعاندين: ما أشد عنادكم حيث قلتم هذا القول الذي تضمن إنكاركم لأن يكون نزل إلي آية مع أنه لم يؤت أحد من الآيات مثل ما أوتيت، فعلم قطعاً أنه ليس إنزال الآيات سبباً للايمان بل أمره إلى الله {إن الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {يضل من يشاء} إضلاله ممن لم ينب، بل أعرض عن دلالة العقل ونقض ما أحكمه

ص: 335

من ميثاق المقدمات المنتجة للقطع بحقية ما دعت إليه الرسل لما جبل عليه قلبه من الغلظة، فصار بحيث لا يؤمن ولو نزلت عليه كل آية، لأنها كلها متساوية الأقدام في الدعوة إلى ما دعا إليه العقل لمن له عقل، وقد نزل قبل هذا آيات متكاثرة دالات أعظم دلالة على المراد {ويهدي} عند دعاء الداعين {إليه} أي طاعته. بمجرد دليل العقل من غير طلب آية {من أناب} أي من كان قلبه ميالاً مع الأدلة رجاعاً إليها لأنه شاء إنابته كأبي بكر الصديق وغيره ممن تبعه من العشرة المشهود لهم بالجنة وغيرهم، ثم أبدل منهم {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف {وتطمئن قلوبهم} أي تسكن وتستأنس إلى الدليل بعد الاضطراب بالشكوك لإيجادهم الطمأنينة بعد صفة الإيمان إيجاداً مستمراً دالاً على ثبات إيمانهم لترك العناد، وهذا المضارع في هذا التركيب مما لا يراد به حال ولا استقبال، إنما يراد به الاستمرار على المعنى مع قطع النظر عن الأزمنة {بذكر الله} الذي هو أعظم الآيات في أن المذكور مستجمع لصفات الكمال، فالآية من الاحتباك: ذكر المشيئة أولاً دال على حذفها ثانياً، وذكر الإنابة ثانياً دال على حذف ضدها أولاً.

ولما كان ذلك موضع أن يقول المعاند: ومن يطمئن بذلك؟ فقال: {ألا بذكر الله} أي الذي له الجلال والإكرام،

ص: 336

لا بذكر غيره {تطمئن القلوب *} فتسكن عن طلب غيره آية غيره، والذكر: حضور المعنى للنفس، وذلك إشارة إلى أن من لم يطمئن به فليس له قلب فضلاً عن أن يكون في قلبه عقل، بل هو من الجمادات، أو إلى أن كل قلب يطمئن به، فمن أخبر عن قلبه بخلاف ذلك فهو كاذب معاند، ومن أذعن وعمل بموجب الطمأنينة فهو مؤمن، ثم أخبر عما لهذا القسم بقوله:{الذين آمنوا} أي أوجدوا وصف الإيمان {وعملوا} أي تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} لطمأنينة قلوبهم إلى الذكر {طوبى لهم} أي خير وطيب وسرور وقرة عين {وحسن مآب *} فكان ذلك مفهماً لحال القسم الآخر، فكأنه قيل: ومن لم يطمئن أو اطمأن قلبه ولم يذعن بؤسي لهم وسوء مآب.

ص: 337

ولما كان في ذلك فطم عن إنزال المقترحات، وكان إعراض المقترحين قد طال، وطال البلاء بهم والصبر على أذاهم، كان موضع أن يقال من كافر أو مسلم عيل صبره: أولست مرسلاً يستجاب لك كما كان يستجاب للرسل؟ فقيل: {كذلك} أي مثل إرسال الرسل الذي قدمنا الإشارة إليه في آخر سورة يوسف عليه الصلاة والسلام في قولنا {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم} [الأنبياء: 7]

ص: 337

الآية، وفي هذه السورة في قولنا {ولكل قوم هاد} ومثل هذا الإرسال البديع الأمر البعيد الشأن، والذي دربناك عليه غير مرة من أن المرجع إلى الله والكل بيده، فلا قدرة لغيره على هدى ولا ضلال، لا بإنزال الآية ولا غيره {أرسلناك} أي بما لنا من العظمة {في أمة} وهي جماعة كثيرة من الحيوان ترجع إلى معنى خاص لها دون غيرها {قد خلت} .

ولما كانت الرسل لمن تعم بالفعل الزمان كله، قال:{من قبلها أمم} طال أذاهم لأنبيائهم ومن آمن بهم واستهزاءهم في عدم الإجابة إلى المقترحات وقول كل أمة لنبيها عناداً بعد ما جاءهم من الآيات {لولا أنزل عليه آية} حتى كأنهم تواصوا بهذا القول حتى فعل الرسل وأتباعهم في إقبالهم على الدعاء وإعراضهم عمن يستهزىء بهم - فعل الآئس من الإنزال {لتتلوا} أي أرسلناك فيهم لتتلو {عليهم} أي تقرأ؛ والتلاوة: جعل الثاني يلي الأول بلا فصل {الذي أوحينا إليك} من

ص: 338

ذكر الله الذي هو أعظم الآيات {وهم} أي والحال أنهم {يكفرون} لا تمل تلاوته عليهم في تلك الحال فإن لنا في هذا حكماً وإن خفيت، وما أرسلناك ومن قبلك من الرسل إلا لتلاوة ما يوحى، لا لطلب الإجابة إلى ما يقترح الأمم من الآيات ظناً أنها تكون سبباً لإيمان أحد، نحن أعلم بهم، وهذا كله تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله:{بالرحمن} إشارة إلى كثرة حلمه وطول أناته، وتصوير لتقبيح حالهم في مقابلتهم الإحسان بالإساءة والنعمة بالكفر بأوضح صورة وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم من الكفران. ولما تضمن كفرهم بالرحمن كفرهم بالقرآن ومن أنزل عليه، وكان الكفر بالمنعم في غاية القباحة، كان كأنه قيل: فماذا أفعل حينئذ أنا ومن اتبعني؟ لا نتمنى إجابتهم إلى مقترحاتهم إلا رجاء إيمانهم، وكان جوابهم عن الكفر بالموحى أهم، بدأ به فقال:{قل} عند ذلك إيماناً به {هو} أي الرحمن الذي كفرتم به {ربي} المربي لي بالإيجاد وإدرار النعم، والمحسن إليّ لا غيره، لا أكفر إحسانه كما كفرتموه أنتم، بل أقول: إنه {لا إله إلا هو} أنا به واثق في التربية والنصرة وغيرها.

ص: 339

ولما كان تفرده بالإلهية علة لقصر الهمم عليه، قال:{عليه} أي وحده لا شريك له {توكلت} والتوكل: التوثيق في تدبير النفس برده إلى الله على الرضى بما يفعل {وإليه} أي لا إلى غيره {متاب *} أي مرجعي، معنى بالتوبة وحساً بالمعاد، وهذا تعريض بهم في أن سبب كفرتم إنكار يوم الدين.

ولما فرغ من الجواب عن الكفر بالموحى، عطف على «هو ربي» الجواب عن الكفر بالوحي فقال:{ولو} إشارة إلى أنه يعتقد في القرآن ما هو أهله بعد ما أخبر عن اعتقاده في الرحمن، أي وقل: لو {أن قرآناً} كانت به الآيات المحسوسات بأن {سيرت} أي بأدنى إشارة من مشير ما {به الجبال} أي فأذهبت على ثقلها وصلابتها عن وجه الأرض {أو قطعت} أي كذلك {به الأرض} أي على كثافتها فشققت فتفجرت منها الأنهار {أو كلم به الموتى} فسمعت وأجابت لكان هذا القرآن، لأنه آية لا مثل لها، فكيف يطلبون آية غيره! أو يقال: إن التقدير: لو كان شيء من ذلك بقرآن غيره لكان به - إقراراً لأعينكم - إجابة إلى ما تريدون، لكنه لم تجر عادة لقرآن قبله بأن يكون به ذلك، فلم يكن بهذا القرآن،

ص: 340

لأن الله لم يرد ذلك لحكمه علمها، وليس لأحد غير الله أمر في خرق شيء من العادات، لا لولي ولا لنبي ولا غيرهما حتى يفعل لأجلكم بشفاعة أو بغيرها شيئاً لم يرده الله في الأزل {بل} ويجوز أن يكون التقدير: لو وجد شيء من هذا بقرآن يوماً ما لكان بهذا القرآن، فكان حينئذ يصير كل من حفظ منه شيئاً فعل ما شاء من ذلك، فسير له ما شاء من الجبال إلى ما أراد من الأراضي لما رام من الأغراض، وقطع به ما طلب من الأرض أنهاراً وجناناً وغيرها، وكلم به من اشتهى من الموتى، ثم إذا فتح هذا الباب فلا فرق بين القدرة على هذا والقدرة على غيره، فيصير من حفظ منه شيئاً قادراً على شيء، فبطلت حينئذ حكمة اختصاص الله سبحانه بذلك من أراد من خلص عباده، وأدى ذلك إلى أن يدعي من أراد من الفجرة أن أمر ذلك بيده، يفعل فيه ما يشاء متى شاء، فيصير ادعاءه مقروناً بالفعل شبهة في الشرك، وليعلم قطعاً أنه ليس في يد أحد أمر، بل {الله} أي الذي له صفات الكمال وحده {الأمر} وهو ما يصح أن يؤمر فيه وينهى {جميعاً} في ذلك وغيره، لا لي ولا لأحد من الأنبياء الذين قلتم

ص: 341

إني لست أدنى منزلة منهم، وأما الخوارق التي كانت لهم فلولا أن شاءها لما كانت، فالأمر إليه وحده، مهما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وكأن هذا جواب لما حكي في السيرة النبوية أن الكفار تفتنوا به؛ قال ابن إسحاق: ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء، فاجتمع أشرافهم فأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم فكلموه في الكف عنهم وعرضوا عليه أن يملكوه عليهم وغير ذلك فأبى وقال:

«» إن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً «، فقالوا: فإنك قد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلداً ولا أقل ماء ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليخرق فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق - زاد البغوي: فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه، أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام لميرتنا، ونرجع في

ص: 342

يومنا فقد سخرت الريح لسليمان كما زعمت - رجع إلى ابن إسحاق: وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل! فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك إلينا رسولاً كما تقدم - زاد البغوي: فإن عيسى كان يحيي الموتى، ولست بأهون على ربك منه» فكان سؤالهم هذا متضمناً لادعائهم أن دعواه إنزال القرآن لا تصح إلا أن فعل هذه الاشياء.

ولما كان هذا كله إقناطاً من حصول الإيمان لأحد بما يقترح، تسبب عنه الإنكار على من لم يفد فيه ذلك فقال تعالى:{أفلم} بفاء السبب {ييئس الذين آمنوا} من إيمان مقترحي الآيات بما يقترحون لعلمهم {أن} أي بأنه {لو يشاء الله} أي الذي له صفات الكمال - هداية كل أحد مشيئة مقترنة بوجوده {لهدى الناس} وبين أن اللام للاستغراق بقوله: {جميعاً} أي بأيسر مشيئة، والعلم بالشيء يوجب اليأس من خلافه،

ص: 343

لكنه لم يهدهم جميعاً فلم يشأ ذلك، ولا يكون إلا ما شاءه، فلا يزال فريق منهم كافراً، فقد وضح أن {ييئس} على بابها، وكذا في البيت الذي استشهدوا به على أنها بمعنى «علم» يمكن أن يكون معناه: ألم تيأسوا عن أذاي أو عن قتلي علماً منكم بأني ابن فارس زهدم، فلا يضيع لي ثأر، وكذا قراءة علي ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين - أفلم - يتبين الذين آمنوا - أي أن أهل الضلال لا يؤمنون لآية من الآيات علماً منهم بأن الأمر لله جميعاً، وأن إيمانهم ليس موقوفاً على غير مشيئته.

ولما علم من ذلك أن بعضهم لا يؤمن، ضاقت صدور المؤمنين

ص: 344

لذلك لما يعاينونه من أذى الكفار فأتبعه ما يسليهم عاطفاً على ما قدرته من نتيجة عدم المشيئة، فقال:{ولا يزال الذين كفروا} أي ستروا ضياء عقولهم {تصيبهم بما صنعوا} أي مما مرنوا عليه من الشر حتى صار لهم طبعاً {قارعة} أي داهية تزعجهم بالنقمة من بأسه على يد من يشاء، وهو من الضرب بالمقرعة {أو تحل} أي تنزل نزولاً ثانياً تلك القارعة {قريباً من دارهم} أي فتوهن أمرهم {حتى يأتي وعد الله} أي الملك الأعظم بفتح مكة أو بالنصر على جميع الكفرة في زمن عيسى عليه السلام فينقطع ذلك، لأنه لا يُبقي على الأرض كافراً، وفي غير ذلك من الأزمان كزمن فتح مكة المشرفة، فيكون المعنى خاصاً بالبعض {إن الله} أي الذي له مجامع الكمال {لا يخلف الميعاد} أي الوعد ولا زمانه ولا مكانه؛ والوعد: عقد الخبر بتضمن النفع، والوعيد: عقده بالزجر والضر، والإخلاف: نقض ما تضمن الخبر من خير أو شر.

ص: 345

ولما تم الجواب عن كفرهم بالموحي وما أوحاه إليه وما اشتد

ص: 345

تعلقه به، عطف على ذلك تأسية بالموحى إليه صلى الله عليه وسلم، لأن الحاث على تميز الإجابة إلى الآيات المقترحات استهزاء الكفار، فقال:{ولقد استهزىء} أي من أدنى الخلق وغيرهم {برسل} .

ولما كان الإرسال لم يعم جميع الأزمان فضلاً عن الاستهزاء، أدخل الجار فقال:{من قبلك} لعدم إتيانهم بالمقترحات؛ والاستهزاء: طلب الهزوء، وهو الإظهار خلاف الإضمار للاستصغار {فأمليت} أي فتسبب عن استهزائهم ذلك أني أمليت {للذين كفروا} أي أمهلتهم في خفض وسعة كالبهيمة يملى لها، أي يمد في المرعى، ولم أجعل ذلك سبباً لإجابتهم إلى ما اقترحوا ولا معاجلتهم بالعذاب فعل الضيق الفطن {ثم} بعد طول الإملاء {أخذتهم} أي أخذ قهر وانتقام {فكيف} أي فكان أخذي لهم سبباً لأن يسأل من كان يستبطىء رسلنا أو يظن بنا تهاوناً بهم، فيقال له: كيف {كان عقاب *} فهو استفهام معناه التعجب مما حل بالمكذبين والتقرير، وفي ضمنه وعيد شديد.

ص: 346

فلما تقرر - بما مضى من قدرته تعالى على الثواب والعقاب وخفضه الأرضين ورفعه السماوات ونصبه الدلالات بباهر الآيات البينات - أن ليس لأحد غيره أمر ما، وتحرر أن كل أحد في قبضته، تسبب عن ذلك أن يقال:{أفمن هو قائم} ولما كان القيام دالاً على الاستعلاء أوضحه بقوله: {على كل نفس} أي صالحة وغيرها {بما كسبت} - يفعل بها ما يشاء من الإملاء والأخذ وغيرهما - كمن ليس كذلك، مثل شركائهم التي ليس لها قيام على شيء أصلاً.

ولما كان الجواب قطعاً: ليس كمثله شيء، كان كأنه قيل استعظاماً لهذا السؤال: من الذي توهم أن له مثلاً؟ فقيل: الذين كفروا به {وجعلوا لله} أي الملك الأعظم {شركاء} ويجوز أن يقدر ل «من» خبر معناه: لم يوحدوه، ويعطف عليه {وجعلوا} ، فكأنه قيل: فماذا يفعل بهم؟ فقيل: {قل سموهم} بأسمائهم الحقيقية، فإنهم إذا سموهم وعرفت حقائقهم أنها حجارة أو غير ذلك مما هو مركز العجز ومحل الفقر، عرف ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ثم قل لهم: أرجعتم عن ذلك إلى الإقرار بأنهم من جملة عبيده {أم تنبئونه} أي تخبرونه إخباراً عظيماً {بما لا يعلم} وعلمه محيط بكل شيء {في الأرض} من كونها آلهة ببرهان قاطع.

ص: 347

{أم بظاهر من القول} أي بحجة إقناعية تقال بالفم، وكل ما لا يعلمه فليس بشيء، وهذا قريب مما مضى في قوله {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه} [الرعد: 16] في أنه لو كان كذلك كان شبهه فيها ظهور ما، وهذه الأساليب منادية على الخلق بالعجز، وصادحة بأنه ليس من كلام الخلق.

ولما كان التقدير: ليس لهم على شيء من ذلك برهان قاطع ولا قول ظاهر، بنى عليه قوله:{بل زين} أي وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان {للذين كفروا} أي لهم، وعبر بذلك تنبيهاً على الوصف الذي دلاهم إلى اعتقاد الباطل، وهو ستر ما أدى إليه برهان العقل المؤيد بدليل النقل {مكرهم} أي أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره، وذلك أنهم أظهروا أن شركاءهم آلهة حقاً، وهم يعلمون بطلان ذلك، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى ولتشفع لهم، أو أنهم غيروا في وجه الحق بما ختلوا

ص: 348

به الضعفاء وتمادى بهم الحال حتى اعتقدوه حقاً.

ومادة مكر بأي ترتيب كان: مكر، ركم، رمك، كرم، كمر؛ تدور على التغطية والستر، فالمكر: الخديعة، قالوا: وهو الاحتيال بما لا يظهر، فإذا ظهر فذلك الكيد، ويلزم منه الاجتهاد في ضم أشتات الأمر لستر ما يراد، فمن الضم المكر الذي هو حسن خدالة الساق أي امتلائها، ويلزم منه خصب البدن ونعمته، وكان منه المكر - لضرب من النبات، والواحدة مكرة، سميت مكرة لارتوائها، أبو حنيفة: المكر من عشب القيظ، وهي عشبة غبراء ليس فيها ورق، وهو ينبت في السهل والرمل - كأنه شبه بالساق لخلوه من الورق أو لأنه لغبرته وتجرده كالمستور، والمكر: طين أحمر يشبه بالمغرة - كأنه سمي بذلك لما فيه من الكدرة، والمكرة من البسر: التي ليست برطبة ولكن فيها لين - كأنها سميت به لكون لونها حينئذ يأخذ في الكدرة؛ والركم: إلقاء الشيء بعضه على بعض فهو مركوم وركام، وتراكم الشيء - إذا تكاثف بعضه على بعض، وذلك مظنة الخفاء،

ص: 349

والركمة: الطين المجموع وكذا التراب المجموع، وقال: وجُز عن مرتَكم الطريق - يريد المحجة، لأن ترابها تلبد فاشتد تلبده، والرمك والرمكة - بالضم - من ألوان الإبل وهو أكدر من الورقة وهو لون خالطت غبرته سواداً، فهو أرمك - لأنه مظنة لخفاء ما فيه، ومنه اشتقاق الرامك، وهو أخلاط تخلط بالمسك فتجعل سكّاً، ورمك الرجل بالمقام - إذا أقام به، لأنه يستره بنفسه وأمتعته ويستتر هو فيه، وأرمكت غيري - إذا ألزمته مكاناً يقيم فيه، والرمكة: الأنثى من البراذين - فارسي معرب، لأنها تستر أصالة العربي إذا ولدته، ورمكان: موضع معروف - معرفة، ويقال: رمك الرجل - إذا هزل وذهب ما في يده فستر عنه أو صار هو مستوراً بعد أن كان بحسن حاله مشهوراً، ورمكت البازي والصقر ترميكاً - إذا أشرت إليه بالطير لأنك سلبت عنه الستر؛ واليرموك: مكان به لهب عظيم، يستر ما يكون فيه؛ والكريم: ضد اللئيم، وهو البخيل المهين النفس،

ص: 350

والخسيس الآباء، فإذا كان شحيحاً ولم تجتمع له هذه الخصال قيل له: بخيل، ولم يُقل: لئيم، فالكريم إذن من ستر مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها، وتكرّم - إذا تنزه عن الدناءة ورفع نفسه عنها، وأصل الكرم في اللغة: الفصل والرفعة، فإذا قالوا: فلان كريم، فإنما يريدون رفيعاً فاضلاً، فيلزم الكرم ستر العيوب، والله الكريم أي الفاضل الرفيع - كذا قال بعض أهل اللغة، وقيل: الصفوح عن الذنوب، وقيل: الذي لا يمن إذا أعطى، وإذا قالوا: فلان أكرم قومه، فإنما يريدون: أرفعهم منزلة وأفضلهم قدراً، وكل هذا يلزم منه السخاء وستر الذنوب، ومن هذا قيل: فرس كريم، وشجرة كريمة - إذا كانت أرفع من نظائرها وأفضل،

{إني ألقي إليَّ كتاب كريم} [النحل: 29] أي رفيع شريف - كأنه أطلق هنا على ما فيه مجرد فضل تشبيهاً بالكريم في جزء المعنى، وكارمت الرجل: فعل كل منا في حق صاحبه مقتضى الكرم، والكرم: شجر العنب ولا يسمى به غيره، والكروم: قلائد تتخذها النساء كالمخانق، لدلالتها على قدر صاحبتها، والكرامة: طبق يوضع على رأس الحب - لأنه غطاءه، ولا يغطى إلا ما له فضل، ومنه يقولون: لك الحب والكرامة، والكرم: القصير من

ص: 351

الرجال - كأنه شبه بطبق الحب؛ والكمرة - محركة: طرف قضيب الإنسان خاصة، سميت بذلك لسترها القلفة، ورجل مكمور - إذا قطع الخاتن كمرته، وتكامر الرجلان - إذا تكابرا بأيريهما، وقال في القاموس: وتكامرا: نظرا أيهما أعظم كمرة، والكمري: الرطب ما لم يرطب على شجره، بل سقط بسراً فأرطب في الأرض - كأنه سمي بذلك لأنه يكون أكدر مما يرطب على الشجر، وهو أيضاً يشبه الكمرة في تكوينها، والكمري عن ابن دريد: الرجل القصير، كأنه شبه بالرطبة، وقال غيره: وهو اسم مكان.

ولما ذكر تزيين مكرهم، أتبعه الدلالة عليه فقال:{وصدوا} أي فلزموا ما زين لهم، أو فمكروا به حتى ضلوا في أنفسهم وصدوا غيرهم {عن السبيل} الذي لا يقال لغيره سبيل وهو المستقيم، فإن غيره جور وتيه وحيرة فهو عدم، بل العدم أحسن منه، فلم يسلكوا السبيل ولا تركوا غيرهم يسلكه، فضلوا وأضلوا، ليس ذلك بعجب فإن الله أضلهم {ومن يضلل الله} أي الذي له الأمر كله بإرادة ضلاله {فما له من هاد *} فكأنه قيل: فماذا لهم على ما فعلوا من ذلك؟ فقيل:

ص: 352

{لهم} أي الذين كفروا {عذاب} وهو الألم المستمر، ومنه العذب لأنه يستمر في الحلق {في الحياة الدنيا} شاق، بممانعة حزب الله لهم في صدهم عن السبيل إلى ما يتصل بذلك من قتل وأسر، ولهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك عذاب {ولعذاب الآخرة أشق} أي أشد في المشقة، وهي غلظ الأمر على النفس بما يكاد يصدع القلب {وما لهم من الله} أي الملك الأعظم {من واق *} أي مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءاً في الدنيا ولا في الآخرة، والواقي فاعل الوقاية، وهي الحجر بما يدفع الأذية.

ص: 353

ولما توعدهم على تفريطهم في جانب الله، تشوفت النفس إلى ما لأضدادهم، فكان كأنه قيل: فما لمن عاداهم في الله؟ فقيل: الجنة، فكأنه قيل: وما هي؟ فقيل: إنها في الجلال، وعلو الجمال، وكرم الخلال، مما تعالى عن المنال، إلا بضرب الأمثال، فقيل: ما مثلها؟ فقيل: {مثل الجنة التي} ولما كان المقصود حصول الوعد الصادق ولا سيما وقد علم أن الوعد هو الله، بنى للمفعول قوله:{وعد المتقون} والخبر محذوف تقديره: ما أقص عليكم، وهو أنها بساتين: قصور وأشجار،

ص: 353

فقال الزجاج: الخبر جنة مخبر عنها بما ذكر ليكون تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد {تجري} . ولما كانت - لو عمها الماء الجاري - بحراً لا بساتين، أدخل الجار للدلالة على أنه خاص ببعض أرضيها فقال:{من تحتها} أي قصورها وأشجارها {الأنهار} وقيل: هذا المذكور هو الخبر كما تقول: صفة زيد أسمر.

ولما كان هذا ريّاً حقيقياً في أرض هي في غاية الخلوص والطيب، كان سبباً لدوام ثمرها واستمساك ورقها، فلذلك أتبعه قوله:{أكلها} أي ثمرها الذي يؤكل {دائم} لا ينقطع أبداً {وظلها} ليس كما في الدنيا، لا ينسخ بشمس ولا غيرها، قال أبو حيان: تقول: مثلت الشيء - إذا وصفته وقربته للفهم، وليس هذا ضرب مثل، فهو كقوله {ولله المثل الأعلى} [النحل: 60] ، أي الصفة العليا - كذا قال، ويمكن أن يكون ذلك حقيقة، ويكون هناك محذوف، وهو جنة من جنان الدنيا تجري من تحتها الأنهار - إلى آخره، وهو من قول الزجاج.

ثم ابتدأ إخباراً آخر تعظيماً لشأنها وتفخيماً لأمرها في قوله تعالى:

ص: 354

{تلك} أي الجنة العالية الأوصاف {عقبى} أي آخر أمر {الذين اتقوا} ثم كرر الوعيد للكافرين فقال: {وعقبى} أي منتهى أمر {الكافرين} بالرحمن، المتضمن للكفر بالوحي والموحى إليه {النار *} .

ولما وصف العالمين بأن المنزل إليه هو الحق برجاحة العقول وأصالة الأداء المؤدية إلى الصلاح الموجب لكل سعادة، والكافرين به بضعف العقول الدافع إلى الفساد الموصل إلى سوء الدار، ومر فيما يلائمه إلى أن ختمه بمثل ما ختم به ذلك، عطف على ذلك قوله - ويمكن أن يكون اتصاله بما قبله أنه معطوف على محذوف هو علة لختم الآية السالفة، تقديره: لأنهم ساءهم ما أنزل إليه حسداً وجهلاً -: {والذين آتيناهم} أي بما لنا من العظمة التي استنقذتهم من الضلال {الكتاب} ولم يكفروا بالرحمن ولا بما أنزل ولا بمن أرسل {يفرحون بما} ولما كان المنزل دالاًّ بإعجازه على المنزل، بنى للمفعول قوله:{أنزل إليك} أي من هذا الكتاب الأعظم لموافقته تلك الكتب لأن كلام الله كله من مشكاة واحدة، وتخصيصهم لأنهم هم المنتفعون بالكتاب دون غيرهم، فكأنه ما أنزل إلا إليهم، وهذا العطف

ص: 355

يرجح أن يكون الموصول هناك مرفوعاً بالابتداء {ومن الأحزاب} من أهل الأوثان والكتاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم {من ينكر بعضه} كالتوحيد ونعت الإسلام ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يتبع ذلك مما حرفوه وبدلوه، ويريد أن يكون الأمر تابعاً فيه لغرضه، فالمشركون يريدون أن يمدح آلهتهم في بعض الآيات أو أن يسقط وصفها بالعيب، واليهود يريدون أن ينزل ما يوافق فروع التوراة كما أنزل ما وافق الأصول، وينكرون النسخ، وأهل الإنجيل يريدون أن ينزل في المسيح ما يهوون ونحو ذلك؛ قال المفسرون: كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعل مما هو ثابت في كتبهم غير محرف، فلكفرهم بذلك البعض أمره أن يعلمهم باعتقاده كفروا أو شكروا فقال:{قل إنما أمرت} أي وقع الأمر الجازم الذي لا شك فيه ولا تغير ممن له الأمر كله {أن أعبد الله} أي الذي لا شيء مثله وحده، ولذلك قال:{ولا أشرك به} لا أفعل إلا ما يأمرني به من غير نظر إلى سواه، ديني مقصور على ما أنكرتموه {إليه} وحده {أدعوا وإليه} خاصة {مآب *} أي إيابي

ص: 356

ومكانه وزمانه، معنى بالتوبة عند الفتور عن القيام بحقه، وحسّاً بالبعث للجزاء؛ والكتاب: الصحيفة التي فيها الخط - وهو الكتابة، وهي تأليف الحروف التي تقرأ في الصحيفة، والفرح: لذة القلب التي تجلي الهم بنيل المشتهى، والحزب: الجماعة التي تقوم بالنائبة.

ولما بينت هذه الآيات من مراتب الإعجاز ما بينت، أتبع تعالى ذكر ما أنزل قوله:{وكذلك} أي ومثل هذا الإنزال، البديع المثال، البعيد المنال؛ ولا يبعد أن يكون عطفاً على {كذلك أرسلناك} أو مثل إنزال كتب أهل الكتاب {أنزلناه} بما لنا من العظمة حال كونه {حكماً عربيّاً} أي ممتلئاً حكمة تقضي بالحق، فائقاً لجميع الكتب بهذا الوصف؛ والحكم: القطع بالمعنى على ما تدعو إليه الحكمة، وهو أيضاً فصل الأمر على الحق؛ فالمعنى أنه لا يقدر أحد على نقض شيء منه، فإن ذلك في الحقيقة هو الحكم، وما ليس كذلك فليس بحكم، والعربي: الجاري على مذاهب العرب في كلامها، فلا تلتفت إلى ما تدعوهم إليه أهويتهم فيقترحونه من تأييدك بملك أو إتحافك بكنز أو تركك لبعض ما يوحى إليك من سبب آلهتهم وتسفيه أحلامهم

ص: 357

وتضليل آبائهم أو غير ذلك من طلباتهم التي لو أتيتهم بها لم يكونوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله - هذا في عباد الأوثان، وكذا في أهل الكتاب فيما يدعون إليه من العود إلى قبلتهم ونحوه {ولئن اتبعت أهواءهم} في شيء من ذلك من النسخ أو غيره في القلبة أو غيرها ولا سيما مما يطلبونه من الآيات المقترحة كما قال تعالى:

{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم} [البقرة: 145] . ولما كان المراد التعميم في الزمان، نزع الجار، وأتى ب «ما» لأنها أعم من «الذي» وأشد إبهاماً، فهي الخفيّ معنى، فناسب سياق الوحي الذي هو غيب، ومعناه غامض - إلا لبعض الأفراد - في الأغبياء بخلاف آية البقرة الأولى فإنها في الملة الإبراهيمية المدركة بنور العقل الناشىء عن نظر المحسوسات فقال:{بعدما جاءك} ولما كان قد أنعم عليه صلى الله عليه وسلم بأشياء غير العلم، بين المراد بقوله:{من العلم} أي بالوحي بأن ذلك الاتباع لا يردهم سواء كان ذلك الاتباع في أصول الشريعة أو فروعها خفية كانت أو جلية.

ص: 358

ولما كان المشروط استغراق جميع زمان البعد باتباع الأهواء، قال:{ما لك} حينئذ {من الله} أي الملك الأعلى وأعرق في النفي فقال: {من ولي} أي ناصر يتولى من نصرك وجميع أمرك ما يتولاه القريب مع قريبه. ولما كان مدلول «ما» أعم من مدلول «الذي» لشمولها الظاهر والخفي، وكان من خالف الخفي أعذر ممن خالف الظاهر، نفى الأخص من النصير فقال:{ولا واق *} أي يقيك بنفسه فيجعلها دون نفسك، وقد يوجد من الأنصار من لا يسمع بذلك، وهذا بعث للأمة وتهييج على الثبات في الدين والتصلب فيه، والهوى - مقصوراً: ميل الطباع إلى الشيء بالشهوة، والعلم: تبين الشيء على ما هو به.

ص: 359

ولما حسمت الأطماع عن إجابتهم رجاء الاتباع أو خشية الامتناع، وكان بعضهم قد قال: لو كان نبياً شغلته نبوته عن كثرة التزوج، كان موضع توقع الخبر عما كان للرسل في نحو ذلك، فقال تعالى:{ولقد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة {رسلاً} ولما كانت أزمان الرسل غير عامة لزمان القبل، أدخل الجار فقال:{من قبلك} أي ولم نجعلهم ملائكة بل جعلناهم بشراً، {و} أثقلنا ظهورهم بما يدعو إلى

ص: 359

المداراة والمسالمة بإرضاء الأمم في بعض أهوائهم، أو فصل الأمر عند تحقق المصارمة بإنجاز الوعيد بأن {جعلنا} أي بعظمتنا {لهم أزواجاً} أي نساء ينكحونهن؛ والزوج: القرين من الذكر والأثى، وهو هنا الأنثى {وذرية} وهي الجماعة المتفرقة بالولادة عن أب واحد في الجملة، وفعل بهم أممهم ما يفعل بك من الاستهزاء، فما اتبع أحد منهم شيئاً من أهواء أمته {و} لم نجعل إليهم الإتيان بما يقترح المتعنتون من الآيات تالفاً لهم، بل {ما كان لرسول} أي رسول كان {أن يأتي بآية} مقترحة أو آية ناسخة لحكم من أحكام شريعته أو شريعة من قبله أو غير ذلك {إلا بإذن الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة، فإن الأمور عنده ليست على غير نظام ولا مفرطاً فيها ولا ضائعاً شيء منها بل {لكل أجل} أي غاية أمر قدره وحده لأن يكون عنده أمر من الأمور {كتاب *} قد أثبت فيه أن أمر كذا يكون في وقت كذا من الثواب والعقاب والأحكام والإيتان بالآيات وغيرها، إثباتاً ونسخاً على ما تقتضيه الحكمة، والحكمة اقتضت أن النبوة يكفي في إثباتها معجزة واحدة، وما زاد على ذلك فهو إلى المشيئة؛ ثم علل ذلك بقوله:{يمحوا الله} أي الملك الأعظم {ما يشاء} أي محوه

ص: 360

من الشرائع والأحكام وغيرها بالنسخ فيرفعه {ويثبت} ما يشاء إثباته من ذلك بأن يقره ويمضي حكمه كما قال تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننساها} [البقرة: 106] إلى قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 106] كل ذلك بحسب المصالح التابعة لكل زمن، فإنه العالم بكل شيء، وهو الفعال لما يريد لا اعتراض عليه، وقال الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة: يمحو فرض ما يشاء ويثبت فرض ما يشاء. وإثبات واو «يمحوا» في جميع المصاحف مشير - بما ذكر أهل الله من أن الواو معناه العلو والرفعة - إلى أن بعض الممحوات تبقى آثارها عالية، فإنه قد يمحو عمر شخص بعد أن كانت له آثار جميلة، فيبقيها سبحانه وينشرها ويعليها، وقد يمحو شريعة ينسخها ويبقى منها آثاراً صالحة تدل على ما أثبت من الشريعة الناسخة لها، وأما حذفها باتفاق المصاحف أيضاً في {يمح الله الباطل} في الشورى مع أنه مرفوع أيضاً، فللبشارة بإزهاق الباطل إزهاقاً هو النهاية - كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وذلك لمشابهة الفعل بالأمر المقتضي لتحتم الإيقاع بغاية الاتقان والدفاع، وقال:{وعنده} مع ذلك {أم} أي أصل {الكتاب *} لمن وهمه مقيد بأن الحفظ بالكتابة، وهو اللوح المحفوظ الذي هو أصل كل كتاب، وقد تقدم

ص: 361

غير مرة أنه الكتاب المبين الذي هو بحيث يبين كل ما طلب علمه منه كلما طلب؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: هما كتابان: كتاب سوى أم الكتاب، يمحو منه ما يشاء ويثبت، وأم الكتاب الذي لا يغير منه شيء - انتهى.

والمراد - والله أعلم - أنه يكون في أم الكتاب أنا نفعل كذا - وإن كان في الفرع على غير ذلك، فإنه بالنسبة إلى شريعة دون أخرى، فإذا نقضت الشريعة الأولى فإنا نمحوه في أجل كذا، أو يكون المعنى: يمحو ما يشاء من ذلك الكتاب بأن يعدم مضمونه بعد الإيجاد، ويثبت ما يشاء بأن يوجده من العدم وعنده أم الكتاب؛ قال الرازي في اللوامع: وقد أكثروا القول فيها، وعلى الجملة فكل ما يتعلق به المشيئة من الكائنات فهو بين محو وإثبات، محو بالنسبة إلى الصورة التي ارتفعت، إثبات بالنسبة إلى الصورة الثانية، والقضاء الأزلي، والمشيئة الربانية مصدر هذا المحو والإثبات، فلذلك هو القضاء وهذا هو القدر، فالقضاء مصدر القدر، والقدر مظهر القضاء، والله تعالى وصفاته منزه عن التغير.

ولما تم ما أراد مما يتعلق بتألفهم، وختم بأنه سبحانه يفعل

ص: 362

ما يشاء من تقديم وتأخير ومحو وإثبات، وكان من مقترحاتهم وطلباتهم استهزاء استعجال السيئة مما توعدوا به، وكانت النفس ربما تمنت وقوع ذلك للبعض وإثباته ليؤمن غيره تقريباً لفصل النزاع، قال سبحانه وتعالى:{وإن ما نرينك} أكده لتأكيد الإعلام بأنه لا حرج عليه في ضلالة من ضل بعد إبلاغه، نفياً لما يحمله عليه صلى الله عليه وسلم شدة رحمته لهم وشفقته عليهم من ظن أنه عليه أن يردهم إلى الحق حتماً {بعض الذي نعدهم} وأنت حي مما تريد أو يريد أصحابك، فصل الأمر به فثبت وقوعه إقراراً لأعينكم قبل وفاتك؛ والوعد: الخبر عن خير مضمون، والوعيد: الخبر عن شر مضمون، والمعنى هاهنا عليه، وسماه وعداً لتنزيلهم إياه في طلب نزوله منزلة الوعد {أو نتوفينك} قبل أن نريك ذلك، وهو ممحو الأثر لم يتحقق، فالذي عليك والذي إلينا مستو بالنسبة إلى كلتا الحالتين {فإنما عليك البلاغ} وهو إمرار الشيء إلى منتهاه، وهو هنا الرسالة؛ وليس عليك أن تحاربهم ولا أن تأتيهم بالمقترحات {وعلينا الحساب *} وهو جزاء كل عامل بما عمل في الدنيا والآخرة، ولنا القوة التامة عليه؛ والآية

ص: 363

من الاحتباك - كما مضى بيان ذلك في مثلها من سورة يونس عليه السلام.

ص: 364

ولما أرشد السياق إلى أن التقدير في تحقيق أنه سبحانه قادر على الجزاء لمن أراد: ألم يروا أنا أهلكنا من قبلهم وكانوا أقوى منهم شوكة وأكثر عدة؟ عطف عليه قوله: {أولم يروا أنا} أي بما لنا من العظمة {نأتي الأرض} التي هؤلاء الكفرة بها، فكأنه قيل: أي إتيان؟ فقيل: إتيان البأس إذا أردنا، والرحمة إذا أردنا {ننقصها} والنقص: أخذ شيء من الجملة تكون به أقل {من أطرافها} بما يفتح الله على المسلمين مما يزيد به في أرض أهل الإسلام بقتل بعض الكفار واستسلام البعض حتى يبيد أهلها على حسب ما نعلمه حكمة من تدبير الأمور وتقليبها حالاً إلى حال حتى تنتهي إلى مستقرها بعد الحساب في دار ثواب أو عقاب، وذلك أن المسلمين كانوا يغزون ما يلي المدينة الشريفة من أطراف بلاد الكفار كما أرشد تعالى إليه بقوله:{قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} فيفتحونها أولاً فأولاً حتى دان العرب كلهم طوعاً أو كرهاً بعد قتل السادة وذل القادة - ولله غالب على أمره؛ والطرف:

ص: 364

المنتهى، وهو موضع من الشيء ليس وراءه منه شيء، وأطراف الأرض: جوانبها، وكان يقال: الأطراف: منازل الأشراف، يطلبون القرب على الأضياف؛ ثم أثبت لنفسه تعالى أمراً كلياً يندرج ذلك فيه، فقال لافتاً الكلام من أسلوب التكلم بالعظمة إلى غيبة هي أعظم العظمة بالاسم الأعظم:{والله} أي الملك الأعلى {يحكم} ما يريد لأنه {لا معقب} أي أراد، لأن التعقيب: رد الشيء بعد فصله {لحكمه} وقد حكم للإسلام بالغلب والإقبال، وعلى الكفر بالانتكاس والإدبار، وكل من حكم على غير هذه الصفة فليس بحاكم، وذلك كاف في الخوف من سطوات قدرته {وهو} مع تمام القدرة {سريع الحساب *} جزاءه محيط بكل عمل لا يتصور أن يفوته شيء فلا بد من لقاء جزائه، وكل ما هو آت سريع، وهو مع ذلك يعد لكل عمل جزاءه على ما تقتضيه الحكمة من عدل أو فضل حين صدوره، لا يحتاج إلى زمان ينظر فيه ما جزاءه؟ ولا: هل عمل أو لا؟ لأنه لا تخفى عليه خافية؛ والسرعة: عمل في قلة المدة على ما تحده الحكمة، والإبطاء: عمله في طول مدة خارجة عن الحكمة، والسرعة محمودة، والعجلة مذمومة، وهو تعالى قادر على الكفرة وإن كانوا

ص: 365

كالقاطعين بأنهم يغلبون، لما لهم من القوة والكثرة، مع جودة الآراء وحدة الأفكار والقدرة بالأموال وإن اشتد مكرهم، فهو لا يغني عنهم شيئاً، فقد مكروا بك غير مرة ثم لم أزدك إلا علواً {وقد مكر الذين} ولما كان المراد بالمكرة إنما هو بعض الناس في بعض الزمان قال:{من قبلهم} أي بالرسل وأتباعهم، فكان مكرهم وبالاً عليهم، فطوى في هذه الجملة مكرهم الذي اجتمعوا عليه غير مرة وأتقنوه بزعمهم، فكان سبب الرفعة للإسلام وأهله وذل الشرك وأهله، ودل على ذلك المطوي بواو العطف في قوله {وقد} وطوى في الكلام السابق إهلاك الأمم الماضية في الاستدلال على قدرته على الجزاء الذي هو روح الحساب ودل عليه بواو العطف في {أولم يروا} فتأمل هذا الإبراز في قوالب الإعجاز.

ولما كان ذلك كذلك، تسبب عنه أن يقال:{فلله} أي الملك الأعظم المحيط علمه وقدرته خاصة {المكر جميعاً} والمكر: الفتل عن البغية بطريق الحيلة، ويلزمه الستر - كما مضى بيانه، ولا شيء أستر عن العباد من أفعاله تعالى: فلا طريق لهم إلى علمها

ص: 366

إلا من جهته سبحانه، وسمي فعله مكراً مجازاً لأنه ناشىء عن مكرهم جزاء لهم؛ ثم علل ذلك بقوله:{يعلم} ويجوز أن يكون تفسيراً لما قبله، لأن علم المكر من الماكر مكن حيث لا يشعر أدق المكر {ما تكسب كل نفس} أي من مكر وغيره، فيجازيهم إذا أراد بأن ينتج عن كل سبب أقاموه مسبباً يكون ضد ما أرادوا، ولا تمكنهم إرادة شيء إلا بإرادته، فستنظرون ماذا يحل بهم من بأسه بواسطتكم أو بغيرها حتى تظفروا بهم فتبيدوهم أجمعين {وسيعلم الكافر} أي كل كافر بوعد لا خلف فيه، إن كان من الجهل بحيث لا يعلم الأشياء إلا بالتصريح أو الحس {لمن عقبى الدار *} حين نأتيهم ضد مرادهم؛ والكسب: الفعل لاجتلاب النفع أو دفع الضر.

ولما تقدم قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية} عطف عليه - بعد شرح ما استتبعه - قوله: {ويقول الذين كفروا} أي أوجدوا الكفر ولو على أدنى الرتب، قولاً على سبيل التكرار:{لست مرسلاً} لكونك لا تأتي بمقترحاتهم مع أنه لم يقل يوماً: إنه قادر عليها، فكأنه قيل: فما أقول لهم؟ فقال: {قل كفى}

ص: 367

والكفاية: وجود الشيء على مقدار الحاجة؛ ومعنى الباء في {بالله} أي الذي له الإحاطة الكاملة - التأكيد، لأن الفعل جاز أن يضاف إلى غير فاعله إذا أمر به أزيل هذا الاحتمال من وجهين: جهة الفاعل وجهة صرف الإضافة {شهيداً} أي بليغ العلم في شهادته بلاطلاع على ما ظهر وما بطن {بيني وبينكم} يشهد بتأييد رسالتي وتصحيح مقالتي بما أظهر لي من الآية وأوضح من الدلالة بهذا الكتاب، ويشهد بتكذيبكم بادعائكم القدرة على المعارضة وترككم لها عجزاً، وهذا على مراتب الشهادة، لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن بأن الأمر كما شهد به، والمعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بأن ما جاءت لأجله كما هو {ومن عنده علم الكتاب} مما أنزله فيه من الأصول والفروع والخبر عما كان يكون على نحو من الأساليب ونمط من المناهيج أخرس الفصحاء، وأبكم البلغاء، وأبهت الحكماء، وهو الله تعالى، تأييداً وتحقيقاً لدعواي، ويؤيد أن المراد به «الله» قراءة {من} على أنها جارة، وفي سوقه هكذا على طريق الإبهام من ترويع النفس بهزّها إلى تطلب المتصف بهذا الوصف ما ليس في التعيين، فهو إذن كدعوى الشيء مقروناً بدليله، فقد انطبق هذا الآخر على أول السورة في أن المنزل حق من عنده وأنهم لا يؤمنون - والله الموفق.

ص: 368

سورة إبراهيم

بسم الله (الذي تفرد بالكمال، وعز عن أن يكون له كفو أو مثال) الرحمن (لجميع خلقه بكتاب هو الغاية في البيان) الرحيم (الذي اختار من عباده من ألزمهم روح وداده) الر (مقصود السورة التوحيد، وبيان أن هذا الكتاب غاية البلاغ إلى الله، لأنه كافل ببيان الصراط الدال عليه المؤدى إليه.

ناقل - بما فيه من الأسرار - للخلق من طور إلى طور - بما يشير إليه حرف الراء، وأدل ما فيها على هذا المرام قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أما التوحيد فواضح، وأما أمر الكتاب فلأنه من جملة دعائه لذريته الذين أسكنهم عند البيت المحرم من ذرية إسماعيل عليه السلام) ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك وبعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم () [البقرة: 129] .

ولما ختم الرعد بأنه لا شهادة تكافىء شهادة من عنده علم الكتاب إشارة إلى أن الكتاب هو الشاهد بإعجازه ببلاغته وما حوى من

ص: 369

فنون العلوم، وأتى به في ذاك السياق معرفاً لما تقدم من ذكره في البقرة وغيرها ثم تكرر وصفه في سورة يونس وهود ويوسف والرعد بأنه حكيم محكم مفصل مبين، وأنه الحق الثابت الذي تزول الجبال الرواسي وهو ثابت لا يتعتع شيء منه.

ولا يزلزل معنى من معانيه، ذكره في أول هذه السورة منكراً تنكير التعظيم فقال:

ص: 370

{كتاب} أي عظيم في درجات من العظمة. لا تحتمل عقولكم الإخبار عنها بغير هذا الوصف، ودل تعليل وصفه بالمبين بأنه عربي على أن التقدير:{أنزلناه} أي بما لنا من العظمة {إليك} بلسان قومك لتبين لهم.

ولما استجمع التعريف بالأوصاف الموجبة للفلاح المذكورة أول السورة المستدل عليها بكل برهان منير وسلطان مبين، فصار بحيث لا يتوقف عن اجتناء ثمرته من وقف على حقائق تلك النعوت، شوق إلى تلك الثمرة بعد تفصيل ما في أول البقرة في التي قبلها كما مضى بما يحث عليه ويقبل بقلب كل عاقل إليه فقال:{لتخرج الناس} أي عامة قومك وغيرهم بدعائك إياهم به وإن كانوا ذوي اضطراب {من الظلمات} التي هي أنواع كثيرة

ص: 370

من الضلالات التي أدت إليها الجهالات {إلى النور} الذي هو واحد، وهو سبيل الله المدعو بالهداية إليه في الفاتحة، أو لتبين للعرب قومك لأنه بلسانهم بياناً شافياً، فتجعلهم - بما تقيم عليهم من الحجج الساطعة، وتوضح لهم من البراهين القاطعة، وتنصب لهم من الأعلام الظاهرة، وتحكم لهم من الأدلة الباهرة - في مثل ضوء النهار بما فتح من مقفل أبصارهم، وكشف عن أغطية قوبهم، فيكونوا متمكنين من أن يخرجوا من ظلمات الكفر التي هي طرق الشيطان إلى نور الإيمان الذي هو سبيله {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] وشبه الإيمان وما أرشد إليه بالنور، لأنه عصمة العقل من الخطأ في الطريق إلى الله كما أن النور عصمة البصر من الضلال عن الطريق الحسي، وإذا خرجوا إلى النور كانوا جديرين بأن يخرجوا جميع الناس {بإذن ربهم} أي المحسن إليهم؛ والإذن: الإطلاق في الفعل بقول يسمع بالأذن، هذا أصله - قاله الرماني.

ولما كان النور مجملاً، بينه على سبيل الاستئناف أو البدل بتكرير العامل فقال:{إلى صراط العزيز} الذي تعالى عن صفات النقص

ص: 371

فعز عن أن يدخل أحد صراطه الذي هو ربه، أو يتعرض أحد إلى سالكه بغير إذنه {الحميد} المحيط بجميع الكمال، فهو المستحق لجميع المحامد لذاته وبما يفيض على عباده من النعم التي يربيهم ويتحمد إليهم بها على كل حال، فكيف إذا سلكوا سبيله الواضح الواسع السهل! .

ولما أضاف طريق النجاة إلى وصفين يجوز إطلاق كل منهما على الخلق، بينهما باسمه الشريف العَلم على الاستئناف في قراءة نافع وابن عامر بالرفع. وعلى أنه عطف بيان في قراءة الباقين بالجر لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لاختصاصه بالمعبود بحق ووصفه بما اقتضى توحيده، فقال:{الله} أي المحيط علماً وقدرة {الذي له ما في السماوات} أي الأجسام العالية من الأراضي وغيرها. ولما كان في سياق الدلالة على الخالق وإثبات توحيده، أكد بإعادة الموصول مع صلته فقال:{وما في الأرض} أي فويل لمن أشرك به شيئاً منهما أو فيهما، فإنه لا أبين من أن ما كان مملوكاً لا يصلح لأن يكون شريكاً. ويجوز أن يكون التقدير: فوأل ونجاة وسلامة لمن اهتدى به فخرج من ظلمات الكفر {وويل} مصدر بمعنى الهلاك، ينصب نصب المصادر ثم يرفع

ص: 372

رفعها لإفادة أن معنى الهلاك - وهو ضد الوأل الذي هو النجاة - ثابت {للكافرين} الذين ستروا أدلة عقولهم {من عذاب شديد} تتضاعف آلامه وقوته؛ والشدة: تجمع يصعب معه التفكيك.

ص: 373

ولما أشار إلى ما للكافرين، وصفهم بما عاقهم عن قبول الخير وتركهم في أودية الشر فقال:{الذين يستحبون} أي يطلبون أن يحبوا أو يوجدون المحبة بغاية الرغبة متابعة للهوى {الحياة الدنيا} وهي النشأة الأولى التي هي دار الارتحال، مؤثرين لها {على الآخرة} أي النشأة الأخرى التي هي دار المقام، وذلك بأن يتابعوا أنفسهم على حبها حتى يكونوا كأنهم طالبون لذلك، وهذا دليل على أن المحبة قد تكون بالإرادة؛ والمحبة: ميل الطباع إلى الشيء بالشهوة، فهم يمتنعون خوفاً على دنياهم التي منها رئاستهم عن سلوك الصراط {و} يضمون إلى ذلك أنهم {يصدون} أي يعرضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم {عن سبيل الله} أي طريق الملك الأعظم؛ والسبيل: المذهب المهيأ للسلوك {و} يزيدون

ص: 373

على ذلك أنهم {يبغونها} أي يطلبون لها، حذف الجار وأوصل الفعل تأكيداً له {عوجاً} والعوج: ميل عن الاستقامة، وهو بكسر العين في الدين والأمر والأرض، وبالفتح في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح ونحوهما {أولئك} أي البعداء البغضاء {في ضلال بعيد *} أي عن الحق، إسناد مجازي، لأن البعيد أهل الضلال بميلهم عن الباقي إلى الفاني وبطلبهم العوج فيما قومه الله المحيط بكل شيء قدرة وعلماً.

ولما قدم ما أفهم أنه أرسله صلى الله عليه وسلم بلسان قومه إلى الناس كافة لأن اللسان العربي أسهل الألسنة وأجمعها وأفصحها وأبينها، فكان في غاية العدالة، وختم بأن السبيل إليه في غاية الاستقامة والاعتدال، دلّ على شرف هذا اللسان لصلاحيته لجميع الأمم وخفته عليهم بخصوص لسان كل من الرسل بقومه، فلذلك أتبعه قوله:{وما أرسلنا} أي بما لنا في العظمة، وأعرق في النفي فقال:{من رسول} أي في زمن من الأزمان {إلا بلسان} أي لغة {قومه} أي الذين فيهم قوة المحاولة لما يريدون {ليبين} أي بياناً شافياً {لهم} كما تقدم أنا أرسلناك بكتاب عربي بلسان قومك لتبين لهم

ص: 374

ولجميع الخلق، فإن لسانك أسهل الألسنة وأعذبها، فهو معطوف على {أنزلناه} بالتقدير الذي تقدم، فإذا تقرر ذلك علم أنه لا مانع حينئذ لأمة من الأمم عن الاستقامة على هذا الصراط إلا إذن الله ومشيئته {فيضل} أي فتسبب عن ذلك أنه يضل {الله} أي الذي له الأمر كله {من يشاء} إضلاله، وقدم سبحانه هذا اهتماماً بالدلالة على أنه سبحانه خالق الشر كما أنه خالق الخير مع أن السياق لذم الكافرين الذين هم رؤوس أهل الضلال {ويهدي من يشاء} هدايته فإنه سبحانه هو المضل الهادي، وأما الرسل فمبينون ملزمون للحجة تمييزاً للضال من المهتدي {وهو} أي وحده {العزيز} الذي لا يرام ما عنده إلا به، ولا يمتنع عليه شيء أراده {الحكيم *} الذي لا ينقض ما دبره، فلذلك دبر بحكمته إرساله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الخلق كافة باللسان العربي، لأن المقصود جمع الخلق على الحق، فجمعهم على لسان واحد أنسب ما يكون لذلك، ولو أنزل بألسنة كلها لكان منافياً لهذا المقصود، وإن كان مع الإعجاز بكل لسان كان قريباً من الإلجاء فيفوت الإيمان بالغيب، ويؤدي أيضاً إلى ادعاء أهل كل لسان

ص: 375

أن التعبير عنه بلسانهم أعظم، فيؤدي ذلك إلى المفاخرة والعصبية المؤدي إلى أشد الفرقة، وأنسب الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم، أقرب إليه، فيكون فهمهم لأسرار شريعته ووقوفهم على حقائقها أسهل، ويكونون عن الغلط والخطأ أبعد، فإذا فهموا عنه دعوا من يليهم بالتراجمة وهلم جرا، فانتشر الأمر وعم وسهل، وكان مع ذلك أبعد من التحريف وأسلم من التنازع.

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما كانت سورة الرعد على ما تمهد بأن كانت تلك الآيات والبراهين التي سلفت فيها لا يبقى معها شك لمن اعتبر بها لتعظيم شأنها وإيضاح أمرها، قال تعالى:{كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} [إبراهيم: 1] أي إذا هم تذكروا به واستبصروا ببراهينه وتدبروا آياته {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض} [الرعد: 31] . ولما كان هذا الهدى والضلال كل ذلك موقوف على مشيئته سبحانه وسابق إرادته وقد قال لنبيه عليه السلام {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} قال تعالى هنا {بإذن ربهم} ، إنما عليك البلاغ. ولما قال تعالى:{وكأين من آية من السماوات والأرض} [يوسف: 105] تم

ص: 376

بسطها في سورة الرعد، أعلم هنا أن ذلك كله له وملكه فقال:{الذي له ما في السماوات وما في الأرض} [إبراهيم: 2] فالسماوات والأرض بجملتهما وما فيهما من عظيم ما أوضح لكم الاعتبار به، كل ذلك له ملكاً وخلقاً واختراعاً، {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} [آل عمران: 83] {وويل للكافرين من عذاب شديد} [إبراهيم: 2] لعنادهم مع وضوح الأمر وبيانه {ويصدون عن سبيل الله} [التوبه: 34] مع وضوح السبيل وانتهاج ذلك الدليل، ثم قال تعالى:{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4] وكأن هذا من تمام قوله سبحانه {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} [الرعد: 38] وذلك أن الكفار لما حملهم الحسد والعناد وبعد الفهم بما جبل على قلوبهم وطبع عليها على أن أنكروا كون الرسل من البشر حتى قالوا: {أبشر يهدوننا} [التغابن: 6]، {ما أنتم إلا بشر مثلنا} [يس: 15] وحتى قالت قريش: {لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 8]، {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} {وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] فما كثر هذا منهم وتبع خلفهم في هذا سلفهم، رد تعالى أزعامهم وأبطل توهمهم في آيات وردت على التدريج

ص: 377

في هذا الغرض شيئاً فشيئاً، فأول الوارد من ذلك في معرض الرد عليهم وعلى ترتيب سور الكتاب قوله تعالى:

{أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم} [يونس: 2] ، الآية ثم أتبع ذلك بانفراده تعالى بالخلق والاختراع والتدبير والربوبية، وفي طي ذلك أنه يفعل ما يشاء لأن الكل خلقه وملكه، وأنه العليم بوجه الحكمة في إرسال الرسل وكونهم من البشر، فأرغم الله تعالى بمضمون هذة الآي كل جاحد معاند؛ ثم ذكر تعالى في سورة هود قول قوم نوح {ما نراك إلا بشراً مثلنا} [هود: 27] ، الآية وجوابه عليه السلام {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} [هود: 63] أي أني وإن كنت في البشرية مثلكم فقد خصني الله بفضله وآتاني رحمة من عنده وبرهاناً على ما جئتكم به عنه، وفي هذه القصة أعظم عظة، ثم جرى هذا لصالح وشعيب عليهما السلام، وديدن الأمم أبداً مع أنبيائهم ارتكاب هذه المقالات، وفيها من الحيد والعجز عن مقاومتهم ما لا يخفى وما هو شاهد على تعنتهم، ثم زاد سبحانه تعالى

ص: 378

نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعريفاً بأحوال من تقدمه من الأنبياء عليهم السلام ليسمع ذلك من جرى له مثل ما جرى لهم فقال مثل مقالتهم، فقال تعالى:{ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} [الرعد: 38] وأعلم سبحانه أن هذا لا يحط شيئاً من مناصبهم، بل هو واقع في قيام الحجة على العباد. ثم تلا ذلك بقوله:{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4] أي ليكون أبلغ في الحجة وأقطع للعذر، فربما كانوا يقولون عند اختلاف الألسنة: لا نفهم عنهم، إذ قالوا ذلك مع اتفاق اللغات، فقد قال قوم شعيب عليه السلام {وما نفقة كثيراً مما تقول} [هود: 91] هذا وهو عليه السلام يخاطبهم بلسانهم فكيف لو كان على خلاف ذلك بل لو خالفت الرسل عليهم السلام الأمم في التبتل وعدم اتخاذ الزوجات والأولاد واستعمال الأغذية وغيرها من مألوفات البشر لكان منفراً، فقد بان وجه الحكمة في كونهم من البشر ولو كانوا من الملائكة لوقع النفار والشرود لافتراق الجنسية، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون} [الأنعام: 9] أي ليكون أقرب إليهم لئلا يقع تنافر فكونهم من البشر أقرب وأقوم للحجة. ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة، كان عليه الصلاة والسلام

ص: 379

يخاطب كل طائفة من طوائف العرب بلسانها ويكلمها بما تفهم، وتأمل كم بين كتابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنس رضي الله عنه في الصدقة وكتابه إلى وائل بن حجر مع اتحاد الغرض، وللكتابين نظائر يوقف عليها في مظانها، وكل ذلك لتقوم الحجة على الجميع، واستمر باقي سورة إبراهيم عليه السلام على التعريف بحال مكذبي الرسل ووعيد من خالفهم وبيان بعض أهوال الآخرة وعذابها - انتهى.

ص: 380

ولما ذكر سبحانه الرسل بما ذكره، توقع السامع تفصيل شيء من أخبارهم، فابتدأ بذكر من كتابه أجل كتاب بعد القرآن هدى للناس دليلاً على أنه يفعل ما يشاء من الإضلال والهداية، وتسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتثبيتاً وتصبيراً على أذى قومه، وإرشاداً إلى ما فيه الصلاح في مكالمتهم، فقال مصدراً بحرف التوقع:{ولقد أرسلنا} أي بعظمتنا {موسى بآياتنا} أي البينات؛ ثم فسر الإرسال بقوله: {إن أخرج قومك} أي الذين فيهم قوة على مغالبة الأمور

ص: 380

{من الظلمات} أي أنواع الجهل {إلى النور *} بتلك الآيات {وذكرهم} أي تذكيراً عظيماً {بأيام الله} أي الذي له الجلال والإكرام من وقائعه في الأمم السالفة وغير ذلك من المنح لأوليائه والمحن لأعدائه كما أرسلناك لذلك {إن في ذلك} أي التذكير العظيم {لآيات} على وحدانية الله وعظمته {لكل صبار} أي بليغ الصبر بلاء الله، قال في العوارف: وقال أبو الحسن بن سالم: هم ثلاثة: متصبر، وصابر، وصبار، فالمتصبر من صبر في الله، فمرة يصبر ومرة يجزع، والصابر من يصبر في الله ولله ولا يجزع ولكن يتوقع منه الشكوى، وقد يمكن منه الجزع، فأما الصبار فذلك الذي صبّره الله في الله ولله وبالله، فهذا لو وقع عليه جميع البلايا لا يجزع ولا يتغير من جهة الوجوب والحقيقة، لا من جهة الرسم

ص: 381

والخليقة، وإشارته في هذا ظهور حكم العلم فيه مع ظهور صفة الطبيعة. {شكور *} أي عظيم الشكر لنعمائه، فإن أيامه عند أوليائه لا تخلو من نعمة أو نقمة، وفي صيغة المبالغة أشارة إلى أن عادته تعالى جرت بأنه إنما ينصر أولياءه بعد طول الامتحان بعظيم البلاء ليتبين الصادق من الكاذب {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله} [البقرة: 214] {حتى إذا استيئس الرسل} [يوسف: 110]، {الم أحسب الناس أن يتركوا} [العنكبوت: 2] وذلك أنه لا شيء أشق على النفوس من مفارقة المألوف لا سيما إن كان ديناً ولا سيما إن كان قد درج عليه الأسلاف، فلا يقوم بالدعاء إلى الدين إلا من بلغ الذروة في الصبر.

ولما ذكر ما أمر به موسى عليه السلام، وكان قد تقدم أمره في الشريف إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالاقتداء بالأنبياء الذين هو من رؤوسهم وأولي عزمهم، كان كأنه قيل: فبين أنت للناس ما نزل إليهم وذكرهم بأيام الله اقتداء بأخيك موسى عليه السلام {و} اذكر لهم خبره فإن أيامه من أعظم أيام الله: أشدها محنة وأجلها منحة {إذ قال موسى} امتثالاً لما أمرناه به {لقومه} مذكراً لهم بأيام الله معهم ثم أيامه مع غيرهم.

ص: 382

ولما كان المراد بالتذكير بالأيام زيادة الترغيب والترهيب، أشار إلى أن مقام الترهيب هنا أهم للحث على تركهم الضلال بترك عادته في الترفق بمثل ما في البقرة والمائدة من الاستعطاف بعاطفة الرحم بقوله:{ياقوم} فأسقطها هنا إشارة إلى أن المقام يقتضي الإبلاغ في الإيجاز في التذكير للخوف من معاجلتهم بالعذاب فقال: {اذكروا نعمة الله} أي ذي الجلال والإكرام، وعبر بالنعمة عن الإنعام حثاً على الاستدلال بالأثر على المؤثر {عليكم} ثم أبدل من «نعمة» قوله:{إذ} وهو ظرف النعمة.

ولما كانوا قد طال صبرهم جداً بما طال من بلائهم من فرعون على وجه لا يمكن في العادة خلاصهم منه، وإن أمكن على بعد لم يكن إلا في أزمنة طوال جداً بتعب شديد، أشار إلى أسراعه بخلاصهم بالنسبة إليه لو جرى على مقتضى العادة جزاء لهم على طول صبرهم، فعبر بالإفعال دون التفعيل الذي اقتضاه سياق البقرة فقال:{أنجاكم من} بلاء {آل فرعون} أي فرعون نفسه وأتباعه استعمالا للمشترك في معنييه، فإن الآل على الشخص نفسه وعلى أهل الرجل وأتباعه

ص: 383

وأوليائه؛ قال في القاموس: ولا يستعمل إلا لما فيه شرف غالباً، فكأنهم قالوا: من أيّ بلائهم؟ فقال: {يسومونكم} أي يكلفونكم ويولونكم على سبيل الاستهانة والقهر {سوء العذاب} بالاستعباد.

ولما كان السياق للصبر البليغ، اقتضى ذلك العطف في قوله:{ويذبحون} أي تذبيحاً كثيراً مميتاً - بما أفاده تعبير الأعراف بالقتل، ومعرفاً بإعادة التعبير بالذبح أن الموت بالسكين {أبناءكم ويستحيون} أي يطلبوا أن يحيوا {نساءكم} لإفادة أن ذلك بلاء آخر {و} الحال أن {في ذلكم} أي الأمر الشديد المشقة من العذاب المتقدم أو الإنجاء أو هما {بلاء من ربكم} أي المربي لكم المدبر لأموركم {عظيم *} .

ص: 384

ولما ذكرهم بنعمة الأمن رغبهم فيما يزيدها، ورهبهم مما يزيلها فقال:{وإذ} أي واذكروا إذ {تأذن ربكم} أي أعلم المحسن إليكم إعلاماً بليغاً ينتفي عنه الشكوك قائلاً: {لئن شكرتم} وأكده لما للأنفس من التكذيب بمثل ذلك لأعتقادها أن الزيادة بالسعي في الرزق والنقص بالتهاون فيه {لأزيدنكم} من نعمي، فإن الشكر قيد الموجود وصيد المفقود «إن عطائي لعتيد فأرجوه»

ص: 384

{ولئن كفرتم} النعمة فلم تقيدوها بالشكر لأنقصنكم ولأعذبنكم {إن عذابي} بإزالتها وغيرها {لشديد *} فخافوه، فالآية - كما ترى - من الاحتباك.

ولما كان من حث على شيء وأثاب عليه أو نهى عنه وعاقب على فعله يكون لغرض له، بين أن الله سبحانه متعال عن أن يلحقه ضر أو نفع، وأن ضر ذلك ونفعه خاص بالعبد فقال تعالى حاكياً عنه:{وقال موسى} مرهباً لهم معلماً أن وبال الكفران خاص بصاحبه {إن تكفروا} والكفر: تضييع حق النعمة بجحدها أو ما يقوم في العظم مقامه {أنتم ومن في الأرض} وأكد بقوله: {جميعاً} فضرره لاحق بكم خاصة غير عائد على الله شيء منه {فإن الله} أي الملك الأعظم {لغني} أي في ذاته وصفاته عن كل أحد، والغنى هنا المختص بما ينفي لحاق الضرر أو النقص، والمختص بأنه قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء، وذلك بنفسه لا بشيء سواه، ومن لم يكن كذلك لم يكن غنياً {حميد *} أي بليغ الاستحقاق للحمد بما له من عظيم النعم وبما له من صفات الكمال، وكل مخلوق يحمده بذاته وأفعاله وجميع أقواله كائنة ما كانت، لأن إيجاده لها ناطق

ص: 385

بحمده سبحانه.

ذكر التأذن بذلك المذكر به من التوراة:

قال في السفر الخامس: واختاركم الله ربكم أن تكونوا له شعباً حبيباً من جميع الشعوب التي على وجه الأرض، وليس لأنكم أكثر من جميع الشعوب أحبكم الرب واختاركم، ولكن ليثبت الأيمان التي أقسم لآبائكم، لذلك أخرجكم الرب بيد منيعة، وأنقذكم من العبودية، وخلصكم من يدي فرعون ملك مصر، لتعلموا أن الله ربكم هو إله الحق، إله مهيمن يحفظ النعمة والعهد لأوليائه الذين يحفظون وصيته لألف حقب، ويكافىء شنأته في حياتهم ويجزيهم بالهلاك والتلف، احفظوا السنن والأحكام والوصايا التي آمركم بها اليوم فافعلوها يحفظ الله الرب العهد والنعمة التي أقسم لآبائكم، ويحبكم ويبارك عليكم ويكثركم، ويبارك في أولادكم وفي ثمرة أرضكم وفي بركم وخبزكم وزيتكم، وفي أقطاع بقركم وجفرات غنمكم، وتكونوا

ص: 386

مباركين من جميع الشعوب، ولا يكون فيكم عاقر ولا عقيم ولا في بهائمكم، ويصرف الله عنكم كل وجع، وجميع الضربات التي أنزل الله بأهل مصر - كما تعلمون - لا ينزلها بكم بل ينزلها بجميع شنأتكم، وتأكلون جميع خيرات الشعوب التي يعطيكم الله ربكم، ولا تشفق أعينكم عليهم، ولا تعبدوا آلهتهم لأنهم فخاخ لكم، وإن قلتم في قلوبكم: إن هذه الشعوب أكثر منا فكيف نقدر أن نهلكها! فلا تفرقوا منها ولكن اذكروا جميع ما صنع الله ربكم بفرعون ملك مصر وكل أصحابه، والبلايا العظيمة التي رأيتم بأعينكم، والآيات والأعاجيب واليد المنيعة والذراع العظيمة، وكيف أخرجكم الله ربكم! كذلك يفعل الله ربكم بجميع الشعوب التي تخافونها.

ويسلط الله ربكم عليهم عاهات حتى يهلكهم، والذين يبقون ويختفون منكم لا تخافوهم لأن الله ربكم بينكم. الإله العظيم المرهوب، فيهلك الله ربكم هذه الشعوب من بين أيديكم رويداً رويداً، لأنكم لا تقوون أن تهلكوهم سريعاً لئلا يكثر السباع، ولكن

ص: 387

يدفعهم الله ربكم إليكم وتضربونهم ضربة شديدة حتى تهلكوهم، ويدفع ملوكهم في أيديكم وتهلكون أسماءهم من تحت السماء، لا يقدر أحد أن يقوم بين أيديكم حتى تهلكوهم وتحرقوا آلهتهم المنحوتة بالنار، ولا تشتهوا الفضة والذهب الذي عليها وتأخذوه منها لئلا تتنجسوا بها، لأنها مرذولة عند الله ربكم، فلا تدخلوا نجاسة إلى بيوتكم لئلا تكونوا منفيين مثلها، ولكن أرذلوها ونجسوها وصيروها نفاية بخسة لأنها حرام. ثم قال: انظروا! إني أتلو عليكم دعاء ولعناً، أما الدعاء فتصيرون إليه إن أنتم حفظتم وصايا الله ربكم، وأما اللعن فيدرككم إن أنتم لم تسمعوا وصايا الله ربكم، وزغتم عن الطريق الذي أمركم به اليوم - وقد مضى كثير من أمثال هذا عن التوراة، ولا ريب في أن هذا الترغيب والترهيب والتذكير للتحذير كما أنه كان لبني إسرائيل، فهو لكل من سمعه من المكلفين.

ص: 388

ولما حذرهم انتقام الله إن كفروا، ذكرهم أيامه في الأمم الماضية، وعين منهم الثلاثة الأولى لأنهم كانوا أشدهم أبداناً، وأكثرهم أعواناً، وأقواهم آثاراً، وأطولهم أعماراً، لأن البطش إذا برز إلى الوجود كان أهول، لأن النفس للمحسوس أقبل، فقال دالاً على ما أرشدهم إليه من غناه سبحانه وحمده مخوفاً لهم من سطوات الله سبحانه:{ألم يأتكم} أي يا بني إسرائيل {نبأ الذين} ولما كان المراد قوماً مخصوصين لم يستغرقوا الزمان قال: {من قبلكم} ثم أبدل منهم فقال: {قوم} أي نبأ قوم {نوح} وكانوا ملء الأرض {و} نبأ {عاد} وكانوا أشد الناس أبداناً وأثبتهم جناناً {و} نبأ {ثمود} وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور {و} نبأ {الذين} ولما كان المراد البعض، أدخل الجار فقال:{من بعدهم} أي في الزمن حال كونهم في الكثرة بحيث {لا يعلمهم} أي حق العلم على التفصيل {إلا الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة، كفروا فأهلكهم الله ولم يزل غنياً حميداً عند أخذهم وبعده كما كان قبله، وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون.

ثم فصل سبحانه خبرهم، فقال - جواباً لمن كأنه قال: ما كان

ص: 389

نبأهم؟ {جاءتهم رسلهم بالبينات} وترك عطفه لشدة التباسه بالمستفهم عنه {فردوا} أي الأمم عقب مجيء الرسل من غير تأمل جامعين في تكذيبهم بين الفعل والقول {أيديهم في أفواههم} وهو أشارة إلى السكوت عن ذلك والتسكيت، كأنه لا يليق أن يتفوه ولو على سبيل الرد؛ قال الرازي في اللوامع: حكى أبو عبيد: كلمته في حاجتي فرد يده في فيه - إذا سكت ولم يجب. {و} بعد أن فعلوا ذلك لهذه الأغراض الفاسدة {قالوا} أي الأمم {إنا كفرنا} أي غطينا مرائي عقولنا مستهينين {بما} ولما كان رد الرسالة جامعاً للكفر، وكانوا غير مسلّمين أن المرسل لهم هو الله، بنوا للمفعول قولهم:{أرسلتم به} أي لأنكم لم تأتونا بما يوجب الظن فضلاً عن القطع، فلذا لا يحتاج رده إلى تأمل.

ولما كان ما أتى به الرسل يوجب القطع بما يعلمه كل أحد، فكانوا بما قالوه في مظنة الإنكار، أكدوا:{وإنا لفي شك} أي محيط بنا، وهو وقوف بين الضدين من غير ترجيح أحدهما، يتعاقب

ص: 390

على حال الذكر ويضاد العلم والجهل.

ولما كان الدعاء مسنداً إلى جماعة الرسل، أثبت نون الرفع مع ضمير المتكلمين بخلاف ما مضى في هود، فقالوا {مما} أي شيء {تدعوننا} أيها الرسل {إليه} أي من الدين {مريب} أي موجب للتهمة وموقع في الشك والاضطراب والفزع، من أراب الرجل: صار ذا ريبة أي قلق وتزلزل.

ص: 391

ولما كان سامع هذا الكلام يشتد تشوفه إلى جوابه، وكان أصل الدعوة في كل ملة التوحيد، وكان الشاك فيه شاكاً في الله، وكان أمر الله من الظهور بحيث لا يشك فيه عاقل حكّم عقله مجرداً عن الهوى، ساغ الإنكار وإيراد الكلام على تقدير سؤال معرى من التقييد مبهم في قوله:{* قالت رسلهم} ولما كان ما شكوا فيه من الظهور بحيث لا يتطرق إليه ريب، أنكروا أن يكون فيه شك، لأن ذلك يتضمن إنكار شكهم وشك غيرهم فقالوا:{أفي الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {شك} .

ولما كان الجواب عاماً لا يخص ناساً دون ناس، لم يأت بصلة

ص: 391

فقال بخلاف قوله: {إن نحن إلا بشر} ثم نبهوهم بالمصنوع على مقصود الدعوة من وجود الصانع وتفرده وظهوره في قولهم: {فاطر السماوات} ولما كان المقام لادعاء أنه في غاية الظهور، لم يحتج إلى تأكيد بإعادة العامل، فقال:{والأرض} أي على هذا المثال البديع والنمط الغريب المنتظم الأحوال، الجميل العوائد، والمتسق الفصول؛ فلما أوضحوا لهم الأدلة على وحدانيته بينوا لهم بأن ثمرة الدعوة خاصة بهم، إنه لا يأباها من له أدنى بصيرة، فقالوا:{يدعوكم} أي على ألسنتنا {ليغفر لكم} .

ولما كان الكافر إنما يدعى أولاً إلى الإيمان، وكان الإيمان إنما يجب ما كان قبله من الذنوب التي معهم بينهم وبينه دون المظالم، قال:{من ذنوبكم} ولو عم بالغفران لأفهم ذلك أنهم لا يدعون بعد الإيمان إلى عمل أصلاً {و} لا يفعل بكم فعل من تعهدون من الملوك في المعاجلة بالإهلاك لمن خالفهم، بل {يؤخركم} وإن أخطأتم أو تعمدتم وتبتم {إلى أجل مسمى} عنده سبق علمه به، وهو آجالكم على حسب التفريق، ولا يستأصلكم بالعذاب في

ص: 392

آن واحد كما فعل بمن ذكر من الأمم.

فلما بين لهم الأصيل بدليله فروع عليه ما لا ريب فيه في قصر نفعه عليهم، علموا أنه لا يتهيأ لهم عن ذلك جواب فأعرضوا عنه إلى أن {قالوا} عناداً {إن} أي ما {أنتم} أي أيها الرسل {إلا بشر} وأكدوا ما أرادوا من نفي الاختصاص فقالوا:{مثلنا} يريدون: فما وجه تخصيصكم بالرسالة دوننا؟ ثم كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ فقالوا: {تريدون أن تصدونا} أي تلفتونا وتصرفونا {عما كان} أي كوناً هو كالجبلة، وأكدوا هذا المعنى للتذكير بالحال الماضية بالمضارع فقالوا:{يعبد آباؤنا} أي أنكم - لكونكم من البشر الذين يقع بينهم التحاسد - حسدتمونا على اتباع الآباء وقصدتم تركنا له لنكون لكم تبعاً {فأتونا} أي فتسبب - عن كوننا لم نر لكم فضلاً وإبدائنا من إرادتكم ما يصلح أن يكون مانعاً - أن نقول لكم: ائتونا لنتيعكم {بسلطان مبين *} أي حجة واضحة تلجئنا إلى تصديقكم مما نقترحه عليكم، وهذا تعنت محض فإنهم جديرون

ص: 393

بأن يعرضوا عن كل سلطان يأتونهم به كائناً ما كان كما ألغوا ما أتوا هم به من البينات فلم يعتدوا به، فكأنه قيل: فما كان جواب الرسل؟ فقيل: {قالت} .

ولما أرادوا تخصيصهم برد ما قالوا، قيد بقوله:{لهم رسلهم} مسلمين أول كلامهم غير فاعلين فعلهم في الحيدة عن الجواب {إن} أي ما {نحن إلا بشر مثلكم} ما لنا عليكم فضل بما يقتضيه ذواتنا غير أن التماثل في البشرية لا يمنع اختصاص بعض البشر عن بعض بفضائل؛ والمثل: ما يسد مسد غيره حتى لو شاهده مشاهد ثم شاهد الآخر لم يقع فصل {ولكن الله} أي الذي له الأمر كله فضلنا عليكم لأنه {يمن على من يشاء} أي أن يمن عليه {من عباده} رحمة منه له، بأن يفضله على أمثاله بما يقسمه له من المزايا كما أنتم به عارفون، فلم يصرحوا بما تميزوا به من وصف النبوة، ولم يخصوا أنفسهم بمنّ الله بل أدرجوها في عموم من شاء الله، كل ذلك تواضعاً منهم واعترافاً بالعبودية؛ والمن: نفع يقطع به عن بؤس، وأصله القطع، ومنه {غير منون} ، والمنة قاطعة عن الدنيا.

ص: 394

ولما بينوا وجه المفارقة، عطفوا عليه بيان العذر فيما طلبوه منهم فقالوا:{وما} أي فما كان لنا أن نتفضل عليكم بشيء من الأشياء لم يؤذن لنا فيه، وما {كان} أي صح واستقام {لنا أن نأتيكم بسلطان} مما تقترحونه تعنتاً، وهو البرهان الذي يتسلط به على إبطال مذهب المخالف للحق غير المعجزة التي يثبت بها النبوة {إلا بإذن الله} أي بإطلاق الملك الأعظم وتسويفه، فنحن نتوكل على الله في أمركم إن أذن لنا في الإتيان بسلطان أو لم يأذن وافقتم أو خالفتم {وعلى الله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه وحده {فليتوكل} أي بأمر حتم {المؤمنون *} فكيف بالأنبياء؛ ثم بينوا سبب وجوب التوكل بقولهم:{وما} أي وأي شيء {لنا} في {ألاّ نتوكل على الله} أي ذي الجلال والإكرام {و} الحال أنه {قد هدانا سبلنا} فبين لنا كل ما نأتي وما نذر، فلا محيص لنا عن شيء من ذلك، فلنفعلن جميع أوامره، ولننتهين عن جميع مناهيه {ولنصبرن} أكدوا لإنكار أن يصبر الرسول - مع وحدته - على أذاهم مع كثرتهم وقوتهم {على ما} وعبر بالماضي إشارة إلى أنهم عفوا عن أذاهم

ص: 395

في الماضي فلا يجازونهم به، فهو استجلاب إلى توبة أولئك المؤذين، وعدلوا عن المضارع لأنهم ينتظرون أمر الله في الاستقبال فقد يأمرهم بالصبر، فقال:{آذيتمونا} أي في ذلك الذي أمرنا به كائناً فيه ما كان لأنا توكلنا على الله ونحن لا نتهمه في قضائه {وعلى الله} أي الذي له جميع صفات الكمال وحده {فليتوكل المتوكلون *} الذين علموا من أنفسهم العجز سواء كانوا مؤمنين أو لا، فوكلوا أمراً من أمورهم إلى غيرهم ليكفيهم إياه، فإنه محيط العلم كامل القدرة، وكل من عداه عاجز، والصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات المطلق من الكرب، والحق لا بد وأن يصير غالباً قاهراً، والباطل لا بد وأن يصير مغلوباً مقهوراً وإن طال الابتلاء.

ص: 396

ولما انقضت هذه المحاورة وقد علم منها كل منصف ما عليه الرسل من الحلم والعلم والحكمة، وما عليه مخالفهم من الضلال والجهل والعناد، وكان في الكلام ما ربما أشعر بانقضائه، ابتدأ تعالى عنهم

ص: 396

محاورة أخرى، عاطفاً لها على ما مضى، فقال:{وقال الذين كفروا لرسلهم} مستهينين بمن قصروا التجاءهم عليه، مؤكدين لاستشعارهم بإنكار من رأى مدافعة الله عن أوليائه لقولهم: والذي يحلف به! ليكونن أحد الأمرين: {لنخرجنكم من أرضنا} أي التي لنا الآن الغلبة عليها {أو لتعودن في ملتنا} بأن تكفوا عن معارضتنا كما كنتم دعوى الرسالة، فإطلاق ملتهم على السكوت عنهم من إطلاق اسم الكل على الجزء على زعمهم مثل {جعلوا أصابعهم في آذانهم} [نوح: 7] وهو مجاز مرسل، فصبروا على ذلك كما أخبروا به توكلاً على ربهم واستمروا على نصيحتهم لهم بدعائهم إلى الله {فأوحى إليهم} أي كلمهم في خفاء بسبب توعد أممهم لهم، مختصاً لهم بذلك {ربهم} المحسن إليهم الذي توكلوا عليه، تسكيناً لقلوبهم وتسلية لنفوسهم، وأكد لما - لمن ينظر كثرة الكفار وقوتهم - من التوقف في مضمون الخبر ولا سيما إن كان كافراً، قائلاً:{لنهلكن} بما لنا من العظمة المقتضية لنفوذ الأمر؛ والإهلاك: إذهاب الشيء إلى حيث لا يقع عليه الإحساس {الظالمين *} أي العريقين في الظلم، وربما تبنا على بعض

ص: 397

من أخبرنا عنه بأنه كفر، وهو من لم يكن عريقاً في كفره الذي هو أظلم الظلم {ولنسكننكم} أي دونهم {الأرض} أي مطلقها وخصوص أرضهم، وأشار إلى عدم الخلود بالجار فقال:{من بعدهم} بأن نورثكموها سواء قدرناهم على إخراجكم أم لا، فكأنه قيل: هل ذلك خاص بهم؟ فقيل: لا، بل {ذلك} أي الأمر العالي المرام {لمن خاف مقامي} أي المكان الذي يقوم فيه من أحاسبه: ماذا تكون عاقبته فيه، وهو أبلغ من: خافني، {وخاف وعيد *} لا بد أن أهلك ظالمه وأسكنه أرضه بعده، فاستبشروا بذلك الوعد من الله تعالى {واستفتحوا} على أعدائهم فأفلحوا وأنجحوا {وخاب كل جبار عنيد} فأهلكناهم كلهم، وكان لنا الغنى والحمد بعد إهلاكهم كما كان قبله؛ والعناد: الامتناع من الحق مع العلم به كبراً وبغياً، من عند عن الحق عنوداً، والجبرية: طلب علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في الصفة، فهو ذم للعبد من حيث إنه طالب ما ليس له؛ ثم أتبعه ما هو كدليل على خيبته من أن سيره إلى ما أمامه من العذاب، فهو واقع فيه لا محالة وهو لا يشعر،

ص: 398

وعبر عن غفلته عنه بقوله: {من ورائه جهنم} أي لا بد أنه يتبوأها.

ولما كان المرجع وجود السقي للصديد مطلقاً، بني للمفعول قوله:{ويسقى} أي فيها {من ماء صديد} وهو غسالة أهل النار كقيحهم ودمائهم {يتجرعه} أي يتكلف بلعه شيئاً فشيئاً لمرارته وحرارته، فيغص به ويلقى منه من الشدة ما لا يعلم قدره إلا الله {ولا يكاد يسيغه} ولا يقرب من إساغته، فإن الإساغة جر الشيء في الحلق على تقبل النفس {ويأتيه الموت} أي أسبابه التي لو جاءه سبب منها في الدنيا لمات {من كل مكان} والمكان: جوهر مهيأ للاستقرار، فهو كناية عن أنه يحصل له من الشدائد ما يميت من قضى بموته {وما هو بميت} أي بثابت له الموت أصلاً.

لأنا قضينا بدوام حياته زيادة في عذابه، والموت: عرض يضاد الإدراك في البنية الحيوانية {ومن ورائه} أي هذا الشخص، بعد ذلك في يوم الجزاء الذي لا بد منه، وما خلقنا السماوات والأرض إلا من أجله {عذاب غليظ *} يأخذه في ذلك اليوم - مع ما قدمته له في الدنيا - وهو غافل عنه

ص: 399

أخذ ما يكون من وراء، فيكون أشد كما هو الحال الآتي بغتة، أو يكون المعنى أن من بعد هذا العذاب في جهنم عذاباً آخر، لا تحتمل عقولكم وصفه بأكثر من الغلظ. فلما فرغ من محاوراتهم، وما تبعها مما بين فيه أنه لا يغنيهم من بطشه شيء، ضرب لهم في ذلك مثلاً فقال:{مثل} وهو مستعار هنا للصفة التي فيها غرابة {الذين كفروا} مستهينين {بربهم} مثل من قصد أمراً ثم لم ينظر لنفسه في السلوك إليه بل اغتر بمن جار به عن الطريق، فأبعد كل البعد حتى وصل إلى شعاب لا يمكن فيها المقام، ولا يتأتى منها الرجوع فهلك ضياعاً.

ولما كان الفرق بين الإنسان والعدم إنما هو بالعمل، ذكر ما علم منه أن المثل لأعمالهم على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما مثلهم؟ فقال: {أعمالهم} أي المكارم التي كانوا يعملونها في الدنيا من الصلة والعتق وفداء الأسرى والجود ونحو ذلك، في يوم الجزاء، ويجوز أن يكون مبتدأ ثانياً - كما قال الحوفي وابن عطية. وهو وخبره خبر المبتدأ الأول، ولا يحتاج إلى رابط لأنه نفس المثل الذي معناه الصفة {كرماد} وهو ما سحقه الاحتراق سحق الغبار

ص: 400

{اشتدت به الريح} أي أسرعت بالحركة على عظم القوة؛ والريح: جسم رقيق مثبت في الجو من شأنه الهبوب، والرياح خمس: شمال وجنوب وصباً ودبور ونكباء {في يوم عاصف} أي شديد الريح، فأطارته في كل صوب، فصاروا بحيث {لا يقدرون} أي يوم الجزاء؛ ولما كان الأمر هنا متمحصاً للأعمال، قدم قوله:{مما كسبوا} في الدنيا من أعمالهم في ذلك اليوم {على شيء} بل ذهب هباء منثوراً لبنائه على غير أساس، فثبت بمقتضى ذلك أن الذين كفروا بربهم واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة في ضلال بعيد، بل {ذلك} أي الأمر الشديد الشناعة {هو} أي خاصة {الضلال البعيد *} الذي لا يقدر صاحبه على تداركه.

ص: 401

ولما ذكر الآخرة في أول السورة، ذكر ما هو ثابت لا نزاع فيه، ثم جرّ الكلام إليه هنا على هذا الوجه الغريب، وأتبعه مثل أعمال الكفار في الآخرة، أتبع ذلك الدليل عليه وعلى أنه لا يسوغ في الحكمة في أعمال الضلال إلا الإبطال فقال:{ألم تر أن الله} أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة {خلق السماوات} على عظمها وارتفاعها {والأرض} على تباعد

ص: 401

أقطارها واتساعها {بالحق} بالأمر الثابت من وضع كل شيء منها في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة لا بالخيال والتمويه كالسحر، ومن المعلوم أنهما ظرف، ولا يكون المظروف الذي هو المقصود بالذات إلا مثل ظرفه أو أعلى منه، فكيف يظن أنه يخلق شيئاً فيهما سدى بأن يكون باطلاً فلا يبطله، أو حقاً فلا يحقه، أم كيف يتوهم أنه - مع القدرة على إخراجهما من العدم وهما أكبر خلقاً وأعظم شأناً - لا يقدر على إعادة من فيهما وهم أضعف أمراً وأصغر قدراً، أو خلقهما بسبب الحق وهو إعادة الناس إعادة يثبتون بها ويبقون بقاء لا فناء بعده، فتسبب عن ذلك أنه عظيم القدرة، فهو بحيث {أن يشأ يذهبكم} أي بنوع من أنواع الإذهاب: الموت أو غيره {ويأت بخلق جديد} غيركم أو يأت بكم بعد أن فنيتم بحيث تعودون - كما أنتم - خلقاً جديداً؛ والجديد: المقطوع عنه العمل في الابتداء، وأصله القطع، فالجد أب الأب، انقطع عن الولادة بالأب، والجد ضد الهزل، يقطع به المسافة حساً أو معنى {وما ذلك} الإذهاب

ص: 402

والإتيان على عظمه {على الله} أي الملك الأعلى {بعزيز *} وهو الممتنع بوجه من وجوه الامتناع لأنه ليس مثل خلق السماوات والأرض فضلاً عن أن يكون أعظم منه، فلا وجه لقولكم {هل ندلكم على رجل ينبئكم} [سبأ: 7] ، الآية لأن من قدر على جميع الممكنات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فثبت بهذا إبعادهم في الضلال الموجب لهلاك أعمالهم - التي هي أسبابهم - الموجب لهلاكهم.

ولما ثبت بهذا البرهان قدرته على الإعادة بعد الموت، عطف على قوله:{لا يقدرون مما كسبوا على شيء} [إبراهيم: 18] قوله - بياناً لهو أن البعث عنده وسهولته عليه -: {وبرزوا} أي في ذلك اليوم، عبر بصيغة المضي الذي وجد وتحقق، لأن أخبار الملوك يجب تحققها لقدرتهم وغناهم عن الكذب، فكيف بملك الملوك! وفيه من هز النفس وروعتها ما ليس في العبارة بالمضارع لمن تأمل المعنى حق التأمل {لله} أي الملك الأعظم {جميعاً} فكانوا بحيث لا يخفى منهم خافية على ما هو متعارفهم، لأنه لا ساتر لهم، فإن البروز خروج لشيء عما كان ملتبساً به إلى حيث يقع عليه الحس في نفسه، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون من العذاب، فتقطعت بهم الأسباب {فقال الضعفاء} أي الأتباع

ص: 403

من أهل الضلال بسبب علمهم أنهم في القبضة لا ملجأ لهم، تبكيتاً لرؤسائهم وتوبيخاً، تصديقاً لقوله تعالى:

{الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} [الزخرف: 67]{للذين استكبروا} أي طلبوا الكبر وادعوه فاستتبعوهم به حتى تكبروا على الرسل وأتباعهم ولم يكن لهم ذلك. {إنا كنا} أي كوناً هو كالجبلة {لكم تبعاً} أي تابعين أو ذوي تبع فكنتم سبب ضلالنا، وقد جرت عادة الأكابر بالدفع عن أتباعهم المساعدين لهم على أباطيلهم {فهل أنتم مغنون} أي دافعون {عنا من عذاب الله} أي الذي له العظمة كلها فلا يطاق انتقامه، وأبلغوا بعد التبعيض ب «من» الأولى في التقليل، فقالوا:{من شيء} كأن العذاب كان محتاجاً إلى أخذهم فأغنوه بشيء غيرهم حتى يجاوزهم لو دفعوه عنهم، فكأنه قيل: إن ذلك لعادة الرؤساء، فماذا قالوا؟ فقيل:{قالوا} علماً منهم بأنه لا طاقة لهم على نوع من أنواع التصرف: لا نغني عنكم شيئاً، بل كل مجزي بما فعل، علينا إثم ضلالنا في أنفسنا وإضلالنا لكم، وعليكم ضلالكم وذبكم عنا وتقويتكم لجانبنا حتى استكبرنا

ص: 404

فاستغرقنا في الضلال، ولو أن الله هداكم حتى تبعتم الأدلة التي سمعتموها كما سمعناها وتركتمونا، لكسر ذلك من شدتنا وأوهى من شوكتنا، فكان ربما يكون سبباً لهدايتنا كما أنه {لو هدانا الله} أي المستجمع لصفات الكمال {لهديناكم} فكان يكون لنا جزاء اهتدائنا وهدايتنا لكم، ولكم جزاء اهتدائكم وتقويتكم لنا على ذلك، ولكنه لم يهدنا فضللنا وكنتم لنا تبعاً فأضللناكم.

ولما كان الموجب لقولهم هذا الجزع، قالوا:{سواء علينا} أي نحن وأنتم {أجزعنا} والجزع: انزعاج النفس بورود ما يغم {أم صبرنا} لا فائدة لنا في واحد منهما لأن الأمر أطم من ذلك فإنه {ما لنا من محيص} يصلح للمصدر والزمان والمكان، أي محيد وزوال عن المكروه على كلا التقديرين، فلم يبق في الجزاء إلا زيادة العذاب بسوء القالة وانتشار السبة، وهذا الاستفهام ليس على بابه، بل المراد به التنبيه على أنه حالهم مما ينبغي السؤال عنه وترديد الأمر فيه لينتهي عن مثله.

ص: 405

ولما كان الشيطان أعظم المستكبرين، خص بالإفراد بالجواب فقيل:{وقال} أول المتبوعين في الضلال {الشيطان} الذي هو رأس المضلين المستكبرين المقضي ببعده واحتراقه {لما قضي الأمر} بتعين قوم للجنة وقوم للنار، جواباً لقول الأتباع مذعناً حيث لا ينفع الإذعان، ومؤمناً حيث فات نفع الإيمان:{إن الله} أي الذي له صفات الكمال {وعدكم وعد الحق} بأن أرسل إليكم رسلاً وأنزل معهم براهين وكتباً أخبركم فيها بأنه ربكم الواحد القهار، ودعاكم إليه بعد أن أخابتكم الشياطين، وبشر من أجاب، وحذر من أبى، بما هو قادر أتم القدرة، فكل ما قاله طابقه الواقع - كما ترون - فصدقكم فيه ووفى لكم {ووعدتكم} أنا بما زينت لكم به المعاصي من الوساوس وعد الباطل {فأخلفتكم} فلم أقل شيئاً إلا كان زيغاً، فاتبعتموني مع كوني عدوكم، وتركتم ربكم وهو ربكم ووليكم؛ فالآية من الاحتباك: ذكر {وعد الحق} أولاً دليلاً على حذف ضده

ص: 406

ثانياً، و {أخلفتكم} ثانياً دليلاً على حذف «صدقكم» أولاً.

ولما بين غروره، بين سهولة اغترارهم زيادة في تنديمهم فقال:{وما كان} لي إليكم في ذلك من ذنب لأنه ما كان {لي عليكم} وأبلغ في النفي فقال: {من سلطان} أي تسلط كبير أو صغير بشيء من الأشياء {إلا أن} أي بأن {دعوتكم} بالوسوسة التي كانت سبباً لتقوية دواعيكم إلى الشر {فاستجبتم} أي أوجدتم الإجابة إيجاد من هو طالب لها، راغب فيها {لي} محكمين الشهوات، معرضين عن مناهيج العقول ودعاء النصحاء، ولو حكمتم عقولكم لتبعتم الهداة لما في سبيلهم من النور الداعي إليها وما في سبل غيرهم من الظلام السادّ لها، والمهالك الزاجرة عنها دنيا وأخرى، وساقه على صورة الاستثناء - وإن لم يكن دعاءه من السلطان في شيء - لأن السلطان أخص من البرهان إذ معناه برهان يتسلط به على إبطال مذهب الخصم إشارة إلى أنهم تبعوه ولا قدرة له على غير هذا الدعاء الذي لا سلطان فيه، وتركوا دعاء من أنزل إليهم من كل سلطان مبين، مع تهديدهم بما هو قادر على عليه وضربهم ببعضه، وفاعل مثل ذلك لا لوم له على غير نفسه {فلا} أي فاذ قد تقرر هذا تسبب عنه أني

ص: 407

أقول لكم: لا {تلوموني ولوموا أنفسكم} لأنكم مؤاخذون بكسبكم، لأنه كانت لكم قدرة واختيار فاخترتم الشر على الخير، وعلم منه قطعاً أن كلاًّ منا مشغول عن صاحبه بما جزي به، فعلم أني {ما أنا بمصرخكم} أي بمغيثكم فيما يخصكم من العذاب، فآتيكم بما يزيل صراخكم منه {وما أنتم بمصرخي} فيما يخصني منه لتقطع الأسباب، بما دهى من العذاب، ثم علل ذلك بقوله:{إني كفرت} مستهيناً {بما أشركتمون} أي باتخاذكم لي شريكاً مع الله.

ولما كان إشراكهم لم يستغرق الزمان، أتى بالجار فقال:{من قبل} لأن ذلك ظلم عظيم، ثم علل هذه العلة بقوله:{إن الظالمين} أي العريقين في هذا الوصف {لهم عذاب أليم *} مكتوب لكم منهم مقداره، لا يغني أحد منهم عن الآخر شيئاً، بل كل مقصور على ما قدر له، وحكاية هذه المحاورة لتنبيه السامعين على النظر في العواقب والاستعداد لذلك اليوم قبل أن لا يكون إلا الندم وقرع السن وعض اليد.

ولما ذكر الظالمين. أتبعه ذكر المؤمنين، فقال بانياً للمفعول لأن الدخول هو المقصود بالذات:{وأدخل} والإدخال: النقل إلى

ص: 408

محيط - هذا أصله {الذين آمنوا} أي أوجدوا الإيمان {وعملوا الصالحات} أي تصديقاً لدعواهم الإيمان {جنات تجري} وبين أن الماء غير عام لجميع أرضها بإدخال الجار فقال: {من تحتها الأنهار} فهي لا تزال ريّاً، لا يسقط ورقها ولا ثمرها فداخلها لا يبغي بها بدلاً {خالدين فيها} .

ولما كانت الإقامة لا تطيب إلا بإذن المالك قال: {بإذن ربهم} الذي أذن لهم - بتربيته وأحسانه - في الخروج من الظلمات إلى النور، وقرىء «وأدخل» على التكلم فيكون عدل عن أن يقول «بإذني» إلى {بإذن ربهم} للإعلام بالصفة المقتضية للرحمة كما قال تعالى {إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك} [الكوثر: 1] ولم يقل: لنا - سواء، ومن شكله {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله} [الفتح: 1] فلا تنبغي المسارعة إلى إنكار شي يمكن توجيهه، بل يتعين إمعان النظر، فإن الأمر كما قال الإمام أبو الفتح بن جني في كتابه المحتسب في توجيه {لما يهبط من خشية الله} [البقرة: 74]

ص: 409

أن كلام العرب لمن عرفه - ومن الذي يعرفه؟ - ألطف من السحر، وأنقى ساحى من مشوف الفكر، وأشد تساقطاً بعضاً على بعض، وأمسّ تسانداً نفلاً إلى فرض {تحيتهم} أي فيما بينهم وتحية الملائكة لهم؛ والتحية: التلقي بالكرامة في المخاطبة، فهي إظهار شرف المخاطب {فيها سلام *} أي عافية وسلامة وبقاء، وقول من كل منهم للآخر: أدام الله سلامتك، ونحو هذا من الإخبار بدوام العافية، كما أن حال أهل الباطل في النار عطب وآلام.

ص: 410

ولما تقرر بما مضى أن الحق ما قاله الله أو فعله أو أذن فيه، وأن الباطل ما كان على غير أمره مما ينسب إلى الشيطان أو غيره من قول أو فعل، وأنه لا يصلح في الحكمة أن ينفي الحق ولا أن يبقى الباطل {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} [يونس: 81] ، {ويحق الله الحق بكلماته} ، {ليحق الحق ويبطل الباطل} [الأنفال: 8] ، وقص سبحانه كلام أوليائه الذي هو من كلامه، فهو أثبت الأشياء وأطيبها وأعظمها ثمرة،

ص: 410

وكلام أعدائه الذي هو من كلام الشيطان، فهو أبطل الأشياء وأخبثها، قرب سبحانه ذلك بمثل يتعارفه المخاطبون فقال:{ألم تر} أي يا من لا يفهم عنا هذا المثل حق الفهم سواه! {كيف ضرب الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {مثلاً} أي سيره بحيث يعم نفعه؛ والمثل: قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأول؛ ثم بينه بقوله: {كلمة طيبة} أي جمعت أنواع الكرم فليس فيها شيء من الخبث، وتلك الكلمة {كشجرة طيبة} .

ولما كانت لا تسر إلا بالثبات، قال:{أصلها ثابت} أي راسخ في الأرض آمن من الاجتثاث بالرياح ونحوها {وفرعها} عالٍ صاعد مهتز {في} جهة {السماء *} لحسن منبتها وطيب عنصرها؛ فالآية من الاحتباك: ذكر «ثابت» أولاً دال على عال صاعد ثانياً، وذكر «السماء» ثانياً دال على الأرض أولاً.

ولما ذكر حالها، ذكر ثمرتها فقال:{تؤتي أكلها} أي ثمرتها بحسن أرضها ودوام ريّها {كل حين} على أحسن ما يكون من الإيتاء، لأن علوها منعها من عفونات الأرض وقاذورات الأبنية،

ص: 411

فكانت ثمرتها نقية من شوائب الأدناس.

ولما كان الشيء لا يكمل إلا بكمال مربيه قال: {بإذن ربها} فهي بحيث لا يستجيز عاقل أن يتسبب في إفسادها، ومن سعى في ذلك منعه أهل العقول ولو وصلوا إلى بذل النفوس؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:«كنا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها [. . . .] ، تؤتي أكلها كل حين، قال ابن عمر رضي الله عنهما: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هي النخلة، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه! والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: ما منعك أن تكلم؟ قال: لم أركم تكلمون فكرهت أن أتكلم، قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا» .

ثم نبه سبحانه على عظم هذا المثل ليقبل على تدبره ليعلم المراد

ص: 412

منه فيلزم، فقال:{ويضرب الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {الأمثال للناس} أي الذين يحتاجون إلى ذلك لاضطراب آرائهم، لأن في ضربها زيادة إفهام وتصوير للمعاني، لأن المعاني الصرفة إذا ذكر مناسبها من المحسوسات ارتسمت في الحس والخيال والوهم، وتصورت فتركت هذه القوى المنازعة فيها، فيحصل الفهم التام والوصول إلى المطلوب {لعلهم يتذكرون *} أي ليكون حالهم حال من يرجى له غاية التذكر - بما أشار إليه الإظهار، فهذا مثل كلام الأولياء، فكلمتهم الطيبة كلمة التوحيد التي لا أطيب منها، وهي أصل كل سعادة راسخة في قلوبهم، معرقة في كل عرق منهم أوجب إعراقها أن بسقت فروعها التي هي الأعمال الدينية من أعمال القلوب والجوارح، فصارت كلما هزت اجتنى الهازّ ثمراتها التي لا نهاية لها، عالماً بأنها من فتح مولاه لا صنع له فيها بوجه، بل له سبحانه المن عليه في جميع ذلك وكما أن الشجر لا تتم إلا بعرق راسخ وأصل قائم وفروع عالية، فكذلك الإيمان لا يتم إلا بمعرفة القلب وقول اللسان وعمل الأركان، ثم أتبعه مثل حال الأعداء فقال:{ومثل كلمة خبيثة} أي

ص: 413

عريقة في الخبث لا طيب فيها {كشجرة خبيثة} .

ولما كان من أنفع الأمور إعدامها والراحة من وجودها على أيّ حالة كانت، بنى للمفعول قوله:{اجتثت} أي استؤصلت بقلع جثتها من أصلها {من فوق الأرض} برأي كل من له رأي؛ ثم علل ذلك لقوله: {ما لها} وأعرق في النفي بقوله: {من قرار *} أي عند من له أدنى لب، لأنه لا نفع لها بل وجودها ضار ولو بشغل الأرض، فكذلك الكلمة الخبيثة الباطلة لا بقاء لها أصلاً وإن علت وقتاً، لأن حجتها داحضة فجنودها منهزمة.

ص: 414

فلما برز الكلام إلى هذين المثالين، حصل التعجب ممن يترك ممثول الأول ويفعل ممثول الثاني، فوقع التنبيه على أن ذلك بفعل القاهر، فقال تعالى - جواباً لمن كأنه قال: إن هذا الصريح الحق، ثم إنا نجد النفوس مائلة إلى الضلال، وطائشة في أرجاء المحال، فكيف لنا بالامتثال؟ {يثبت الله} أي الذي له الجلال والجمال {الذين آمنوا}

ص: 414

أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أقل درجاتها {بالقول الثابت} أي الذي هو متابعة الدليل {في الحياة الدنيا} بمثل ما تقدم من محاولات أنبيائه {وفي الآخرة} ويهديهم عند كل سؤال إلى أحسن الأقوال حيث تطيش العقول وتدهش الأفكار لشدة الأهوال {ويضل الله} أي الذي له الأمر كله {الظالمين} أي العريقين في الظلم، ويزلزلهم لتقلبهم في الظلمات التي من شأن صاحبها الضلال والخبط، فيفعلون ما لا يرضاه عاقل، فالآية من الاحتباك: ذكر الثبات أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والإضلال ثانياً دليلاً على الهدى أولاً {ويفعل الله} أي الذي له الأمر كله، فلا يسأل عما يفعل {ما يشاء} لأن الكل بحكمه وقضائه وهو القادر القاهر، فلا يتعجب من شيء، وفي هذا إرشاد إلى الإقبال عليه وإلقاء أزمّة الافتقار إليه؛ روى البخاري في التفسير وغيره ومسلم في أواخر صفة الجنة والنار عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:«المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله» ، فذلك قوله تعالى {يثبت الله} الآية.

ولما أخبر سبحانه أنه هو الفاعل وحده، أتبعه الدليل عليه إضلال الذين بدلوا الكلمة الطيبة من التوحيد بالإشراك وزلزلتهم واجتثاث كلمتهم فقال:{ألم تر} وأشار إلى بعدهم عن مقامه صلى الله عليه

ص: 415

وعلى آله وسلم بقوله: {إلى الذين بدلوا} والتبديل: جعل الشيء مكان غيره {نعمت الله} أي المستجمع لصفات الكمال التي أسبغها عليهم من كلمة التوحيد، وما أورثهم من دين أبيهم إسماعيل عليه السلام ومن جميع النعم الدنيوية من أمن البلد وتيسير الرزق وغير ذلك، بأن جعلوا مكان شكرها {كفراً} وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان، وأعلاهم همماً في الوفاء، وأبعدهم عن الخناء {وأحلوا قومهم} بذلك {دار البوار *} أي الهلاك، مع ادعائهم أنهم أذب الناس عن الجار فضلاً عن الأهل، روى البخاري في التفسير أنهم كفار أهل مكة. والبوار: الهلاك الزائد، والإحلال: جعل الشيء في محل، فإن كان جوهراً فهو إحلال مجاورة. وإن كان عرضاً فهو إحلال مداخلة.

ولما أفاد أنها مهلكة، بينها بما يفهم أنها تلقاهم بالعبوسة كما كانوا يلقون أولياء الله من الرسل وغيرهم بذلك فقال:{جهنم} حال كونهم {يصلونها} أي يباشرون حرها مع انغماسهم فيها بانعطافها عليهم؛ ولما كان التقدير: فبئس الإحلال أحلوه أنفسهم وقومهم، عطف عليه قوله:

ص: 416

{وبئس القرار *} ذلك المحل الذي أحلوهم به.

ص: 417

ولما كان هذا الفعل من لا عقل له، بينه بقوله:{وجعلوا لله} الذي يعلمون أنه لا شريك له في خلقهم ولا في رزقهم لان له الكمال كله {أنداداً} وقال: {ليضلوا} أي بأنفسهم على قراءة ابن كثير وأبي عمرو، ويعموا غيرهم على قراءة الباقين {عن سبيله} لأنهم إن كانوا عقلاء فإنهم يعلمون أن هذا لازم لفعلهم فهم قاصدون له، وإلا فلا عقول لهم، لأنه لا يقدم على ما لا يعلم عاقبته إلا أبله، وهم يقولون: إنهم أبصر الناس قوباً، وأصفاهم عقولاً. وأنفذهم أفكاراً، وأمتنهم آراء، فمن ألزم منهم بطريق النجاة ومن أحذر منهم لطرق الهلاك؟ مع ما أوقعوا أنفسهم فيه من هذا الداء العضال.

ولما تقرر أنهم على الضد من جميع ما يدعونه فكانوا بذلك أهلاً للإعراض عنهم، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمعرض أن يقول: فماذا أفعل بهم وقد أمرتني بإخراجهم إلى صراطك؟ أمره أن يدق أعناقهم بإخبارهم أن ما أضلهم من النعم إنما هو استدراج، فقال:{قل} أي تهديداً لهم فإنهم لا يشكون في قولك وإن عاندوا: {تمتعوا} وبالغوا في فعل البهائم مهما قدرتم، فإن ذلك ضائركم

ص: 417

غير نافعكم {فإن مصيركم} أي صيرورتكم {إلى النار *} بسبب تمتعكم على هذا الوجه.

ولما ذكر كفرهم وضلالهم عن السبيل وما أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن يقول لهم، وكان ذلك محركاً لنفس السامع إلى الوقوف على ما يقال لمن خلع الأنداد وكان أوثق عرى السبيل بعد الإيمان وأعمها الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر، والنفقة الشاملة لوجوه البر، أمره تعالى أن يندب أولياءه إلى الإقبال إلى ما أعرض عنه أعداؤه، والإعراض عما أقبلوا بالتمتع عليه من ذلك، فقال {قل لعبادي} فوصفهم بأشرف أوصافهم، وأضافهم إلى ضميره الشريف تحبيباً لهم فيه، ثم أتبع هذا الوصف ما يناسبه من إذعانهم لسيدهم فقال:{الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف.

ولما كان قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحسن قول، فهو جالٍ لصدأ القلوب، وموجب لتهذيب النفوس، قال جازماً:{يقيموا الصلاة} التي هي زكاة القوة وصلة العبد بربه {وينفقوا} وخفف عنهم بقوله: {مما رزقناهم} أي بعظمتنا، فهو لنا

ص: 418

دونهم، من أنواع النفقات المقيمة لشرائعه من الصدقات وغيرها، إتقاناً لما بينهم وبينه من الأسباب لينقذوا أنفسهم من النار، واقتصر على هاتين الخلتين لأنه لم يكن فرض في مكة غيرهما مع ما تقدم من فضلهما وعمومهما، ولعله سيق سياق الشرط تنبيهاً لهم على أن مجرد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقوى الأسباب فيجب عليهم ألا يتخلفوا عنه أصلاً؛ ثم أشار إلى المداومة على هاتين الخصلتين بقوله:{سراً وعلانية} ويجوز أن يراد بالسر النافلة، وبالعلانية الفرض؛ ثم رهب من تهاون في خدمته من اليوم الذي كان الإعراض عنه سبب الضلال، فقال مشيراً بالجار إلى قصر مدة أعمالهم:{من قبل أن يأتي يوم} أي عظيم جداً ليس هو كشيء من الأيام التي تعرفونها {إلا بيع فيه} لأسير بفداء {ولا خلال *} أي مخالات وموادات يكون عنها شفاعة أو نصر، جمع خلة كقلة وقلال، أو هو مصدر، وذلك إشارة إلى أنه لا يكون شيء منهما سبباً لخلاص هالك.

ص: 419

ولما نفى جميع الأسباب النافعة في الدنيا في ذلك اليوم، كان كأنه قيل: فمن الحكم فيه حتى أنه يسير سيرة لا نعرفها؟

ص: 419

فقيل: {الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء؛ ثم أتبعه بصفات تدل على ما دعا إليه الرسل من وحدانيته وما أخبروا به من قدرته على كل شيء فلا يقدر أحد على مغالبته، وعلى المعاد وعلى غناه فلا يبايع، فقال:{الذي خلق السماوات والأرض} وهما أكبر خلقاً منكم وأعظم شأناً، ثم عقبه بأدل الأمور على الإعادة مع ما فيه من عظيم المنة بأن به الحياة، فقال:{وأنزل من السماء ماء} ولما كان ذلك سبب النمو قال: {فأخرج به} أي بالماء الذي جعل منه كل شيء حي {من الثمرات} أي الشجرية وغيرهما {رزقاً لكم} بعد يبس الأرض وجفاف نباتها، وليس ذلك بدون إحياء الموتى؛ ثم أتبعه ما ادخره في الأرض من مياه البحار والأنهار، وذكر أعم ما يظهر من البحار فقال:{وسخر لكم الفلك} وعلل ذلك بقوله: {لتجري في البحر} ولما كان ذلك أمراً باهراً للعقل، بين عظمته بقوله:{بأمره} ولما كانت الأنهار من النعم الكبار بعد نعمة البحار، قال:{وسخر لكم الأنهار *} ثم أتبعه ما جعله سبباً لكمال التصرف وإنضاج

ص: 420

الثمار المسقيّة بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض فقال: {وسخر لكم الشمس والقمر} حال كونهما {دائبين} أي في سيرهما وإنارتهما وما ينشأ عنهما من الإصلاح بالطبخ والإنضاج في المعادن والنبات والحيوان؛ قال الرماني: والدؤوب: مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه؛ ثم ذكر تعالى ما ينشأ عن وجود الشمس وعدمها فقال: {وسخر لكم الّيل} أي الذي القمر آيته {والنهار *} أي الذي الشمس آيته، يوجد كل منهما بعد تصرمه، ولو كان أحدهما سرمداً لاختل الحال بعدم النبات والحيوان كما هو كذلك حيث لا تغرب الشمس في الجنوب وحيث لا تطلع في الشمال؛ ثم عم بعد أن خص فقال:{وآتاكم} .

ولما كان الكمال لا يكون إلا في الجنة قال: {من كل ما سألتموه} أي ما أنتم محتاجون إليه فأنتم سائلوه بالقوة؛ ثم حقق وجه العظم بفرض ما يوجب العجز فقال: {وإن تعدوا} أيها الناس كلكم {نعمت الله} أي تروموا عد إنعام الملك الأعلى الذي له الكمال المطلق أو تأخذوا في عدّه، وعبر عنه بالنعمة إرشاداً إلى الاستدلال بالأثر

ص: 421

على المؤثر {لا تحصوها} أي لا تحيطوا بها ولا تعرفوا عد الحصى المقابلة لها إن عددتموها بها كما كانت عادة العرب، أو لا تجدوا من الحصى ما يوفي بعددها، هذا في النعمة الواحدة فكيف بما زاد! فهذا شرح قوله أول السورة {الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} وقد ظهر به أنه لا يوجد شيء إلا هو ملك الله فضلاً عن أن يوجد شيء يداينه فضلاً عن شيء يماثله، فثبت أنه لا بيع ولا خلال يوم دينونة العباد، وتقريب العجز عن العد للإفهام أن السلامة من كل داء ذكره الأطباء في كتبهم - على كثرتها وطولها - نعمة على العبد، وذلك متعسر الحصر، وكل ما ذكروه صريحاً في جنب ما دخل تحت كلياتهم تلويحاً - قليل، فكيف بما لم يطلعهم الله عليه ولم يهدهم بوجه إليه، هذا في الجسم، وأما في العقل فالسلامة من كل عقد زائغ، ودين باطل وضلال مائل، وذلك لا يحصيه إلا خالق الفكر وفاطر الفطر سبحانه، ما أعزه وأعظم شأنه! .

ولما كان أكثر هذه السورة في بيان الكفرة وما لهم، وبيان أن أكثر الخلق هالك معرض عما يأتيه من نعمة الهداية على أيدي الرسل

ص: 422

الدعاة إلى من له جميع النعم للحياة الطيبة بسعادة الدارين، ختم الآية ببيان ما اقتضى ذلك من صفات الإنسان فقال:{إن الإنسان} أي هذا النوع لما له من الأنس بنفسه، والنسيان لما ينفعه ويضره، والاضطراب بسبب ما يغمه ويسره {لظلوم كفار} أي بليغ الظلم والكفر حيث يهمل الشكر، ويتعداه إلى الكفر، وختم مثل ذلك في سورة النحل ب {غفور رحيم} لأن تلك سورة النعم، بدئت بالنهي عن استعجال العذاب، لأن الرحمة أسبق، ومن الرحمة إمهال الناس وإمتاعهم بالمنافع، فالتقدير إذن هناك:{وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} ولكن ربه لا يعاجله بالعقوبة لأنه غفور رحيم، وأما هذه السورة فبدئت بأن الناس في الظلمات.

ص: 423

ولما انقضى المأمور به من القول لكافر النعمة وشاكرها وسبب ذلك والدليل عليه، وبان أنه خالق الموجودات كلها وربها، فلا يصح أصلاً أن يكون شيء منها شريكاً. أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يذكرهم بأيام الله عند أبيهم إبراهيم عليه السلام للدلالة على تبديلهم النعمة ظلماً منهم وكفراً، في أسلوب دال على البعث، مشير إلى وجوب براءتهم من الأصنام حيث كان محط حالهم فيها تقليد الآباء وهو

ص: 423

أعظم آبائهم، وإلى ما سنه لهم من إقامتهم الصلاة وشكرهم لنعمه بالانفاق وغيره، فقال ناعياً عليهم - مع المخالفة لصريح العقل وقاطع النقل عقوق أبيهم الأعظم، عطفاً على {قل لعبادي الذين آمنوا} أو على {وإذ قال موسى لقومه} :{وإذ} أي واذكر لهم مذكراً بأيام الله خبر إبراهيم إذ {قال إبراهيم رب} أي أيها المحسن إليّ بإجابة دعائي في جعل القفر الذي وضعت به ولدي بلداً عظيماً.

ولما كان السياق لإخراج الرسل من محالهم، وكان ذلك مفهماً لأن المحل الذي يقع الإخراج منه بلد يسكن فيه، واتبعه سبحانه بأن المتعرضين بدلوا نعمة الله - بما أسكن فيه من الأمن بعد جعله له بلداً - بما أحدثوا فيه من الإخافة لخير أهله، ومن الإنذار لمن أنعم عليهم بكل ما فيه من الخير، كان الأنسب تعريفه فقال:{اجعل هذا البلد} أي الذي يريدون إخراج الرسول منه {آمناً} أي ذا أمن بأمان أهله، وكأن هذا الدعاء صدر منه بعد أن سكن الناس مكة وصارت مدينة، والذي في البقرة كان حيث وضع ابنه مع أمه وهي خالية عن ساكن، فدعا أن يجعلها الله بلداً، وأن يجعلها بعد ذلك موصوفة

ص: 424

بالأمن، وهو سكون النفس إلى زوال الضر.

ولما دعا بالأمن من فساد الأموال والأبدان، أتبعه بالدعاء بالأمن من فساد الأديان، فقال:{واجنبني} أي اصرفني {وبني} أي لصلبي، وأسقط البنات إشارة إلى الاستقلال، وإنما هن تابعات دائماً {أن نعبد} أي عبادة مستمرة تكون موجبة للنار {الأصنام *} أي اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها، والصنم: المنحوت على خلقة البشر، وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهو وثن - قاله الطبري عن مجاهد؛ تم بين زيادة الاهتمام بأمر الأصنام بإعادة النداء، وأسقط الأداة - زيادة في التملق بكونه من أهل القرب والانقطاع إليه سبحانه معللاً لما قبله - في قوله:{رب} بإفراد المضاف إليه ليكون الكلام الواحد على نظام واحد {إنهن أضللن} إسناد مجازي علاقته السببية {كثيراً من الناس فمن} أي فتسبب عن بغضي لهن أن أقول: من {تبعني} من جميع الناس في تجنبها {فإنه مني} أي من حزبي لكونه على طريقتي وديني، فأتني ما وعدتني فيه من الفوز {ومن عصاني} فضل بها فقد استحق النار، فإن عذبته فهو عبادك، وإن غفرت له فأنت لذلك، لأن لك أن تفعل ما تشاء {فإنك غفور} أي بليغ الستر {رحيم *} أي بليغ الإكرام بعد ستر الذنوب؛

ص: 425

وأكد للإعلام بزيادة رغبته في العفو لأنه لا ينقص به شيء من عزته سبحانه ولا حكمته - كما أشار إليه دعاء عيسى عليه السلام في المائدة.

ولما دعا بدرء المفاسد الناشئة من من نوعي الإنسان والشيطان بأمن البلد وإيمانه ذكر السبب الحامل له على تخصيصه بذلك مستجلباً للمصالح، فقال:{ربنا} أي يا رب وربَّ من قضيت أنه يتبعني بتربيتك لنا أحسن تربية {إني أسكنت} وكأن الله سبحانه كان قد أخبره أنه يكثر نسله حتى يكونوا كالنجوم، وذلك بعد البشارة بإسحاق عليه السلام فقال:{من ذريتي} وساقه مؤكداً تنبيهاً على أنه - لكونه على وجه لا يسمح به أحد - لا يكاد يصدق، وللإعلام بأنه راغب فيه {بواد} هو مكة المشرفة لكونها في فضاء منخفض بين جبال تجري به السيول {غير ذي زرع} .

ولما نفى عنه الرفد الدنيوي، أثبت له الأخروي، إشارة إلى أن الدارين ضرتان لا تجتمعان، وكأن هذا الدعاء كان بعد بنائه البيت - كما تقدمت الإشارة إليه أيضاً بتعريف البلد، فقال:{عند بيتك المحرم} أي الذي حرمت التعرض إليه ومنعته بالهيبة فلم يملكه أحد سواك،

ص: 426

وجُعل له حريم يأمن فيه الوحش والطير؛ والكسنى: اتخاذ مأوى يسكن إليه متى شاء، والوادي: سفح الجبل العظيم، ومنه قيل للأنهار: أودية، لأن حافاتها كالجبال لها، والزرع: نبات ينفرش من غير ساق؛ ثم بين غرضه من إسكانهم هناك فقال: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {ليقيموا الصلاة} ما أسكنتهم في هذا الوادي الموصوف إلا لهذا الغرض المنافي لعبادة غيرك، ولأن أولى الناس بإقامتها حاضرو البيت المتوجه بها إليه.

ولما كان اشتغالهم بالعبادة وكونهم في ذلك الوادي أمرين بعيدين عن أسباب المعاش، تسبب عنه قوله:{فاجعل أفئدة} أي قلوباً محترقة بالأشواق {من الناس} أي من أفئدة الذين هم أهل للاضطراب، بكون احتراقها بالشوق مانعاً من اضطرابها {تهوي} أي تقصدهم فتسرع نحوهم برغبة وشوق إسراع من ينزل من حالق؛ وزاد المعنى وضوحاً وأكده بحرف الغاية الدال على بعد لأن الشيء كلما بعد مدى

ص: 427

مرماه اشتد وقعه فقال: {إليهم} ولما دعا لهم بالدين، دعا لهم بالرزق المتضمن للدعاء لجيرانهم فقال:{وارزقهم} أي على يد من يهوي إليهم {من الثمرات} أي التي أنبتها في بلادهم؛ وبين العلة الصالحة بقوله: {لعلهم يشكرون *} أي ليكون حالهم حال من يرجى شكرهم لما يرون من نعمك الخارقة للعوائد في ذلك الموضع البعيد عن الفضل لولا عنايتك فيشتغلوا بعبادتك لإغنائك لهم وإحسانك إليهم، وقد أجاب الله دعوته؛ فالآية لتذكير قريش بهذه النعم الجليلة عليهم ببركة أبيهم الأعظم الذي نهى عن عبادة الأوثان.

ص: 428

ولما فرغ من الدعاء بالأهم من الإبقاء على الفطرة الأولى المشوقة للعزائم إلى العكوف في دارة الأنس، ومن الكفاية لهم المعاش، المنتج للشكر بإنفاق الفضل، وتبين من ذلك أنهم خالفوا أعظم آبائهم في جميع ما قصده لهم من المصالح، أتبعه ما يحث على الإخلاص في ذلك وغيره له ولغيره ليكون أنجح للمراد بضمان الإسعاد ولا سيما مع تكرير النداء الدال على مزيد التضرع فقال:{ربنا} أي أيها المحسن إلينا المالك لجميع أمورنا {إنك تعلم ما} أي جميع ما

ص: 428

{نخفي وما نعلن} ثم أشار إلى عموم علمه فقال: {وما يخفى على الله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً. وبالغ في النفي فقال: {من شيء} من ذلك ولا غيره {في الأرض} ولما كان في سياق المبالغة، أعاد النافي تأكيداً فقال:{ولا في السماء *} أي فهو غير محتاج إلى التعريف بالدعاء، فالدعاء إنما هو لإظهار العبودية، واسم الجنس شامل لما فوق الواحد، ومن فوائد التعبير بالإفراد الدلالة على أن من كان محيطاً بكل ما في المتقابلين من غير أن يحجبه أحدهما عن الآخر، كان محيطاً بغيرهما كذلك من غير فرق.

ولما تم ما دعا به من النزاهة عن رجاسة الشرك وتبين بتقديمه أن أهم المهمات البراءة منه، أتبعه الحمد على ما رزق من النعم وما تبع ذلك من الإشارة إلى وجوب الشكر فقال:{الحمد لله} أي المستجمع لصفات الكمال {الذي وهب} والهبة: هبة تمليك من غير عقد، منّاً منه {لي} حال كوني مستعلياً {على الكبر} ومتمكناً منه على يأس من الولد {إسماعيل} الذي أسكنته هنا {وإسحاق} وهذا يدل على ما تقدم فهمي له من أن هذا الدعاء كان بعد بناء البيت

ص: 429

وطمأنينته بإسحاق عليه السلام، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سنه كان عند ولادة إسماعيل عليه السلام تسعاً وتسعين سنة، وعند ولادة إسحاق عليه السلام كان مائة سنة واثنتي عشرة سنة.

ولما كان إتيان الولد له في سن لا يولد فيه لمثله، وجميع ما دعا به من الخوارق فوجوده لا يكاد يصدق، أشار إلى ذلك بتأكيد قوله:{إن ربي} أي المحسن إليّ {لسميع الدعاء *} أي من شأنه إجابة الدعاء على الوجه الأبلغ تعريضاً بالأنداد وإشارة إلى ما تضمنه تأسفه على العقم، فقد تقدم في سورة البقرة عن التوراة أنه لما خلّص ابن أخيه لوطاً من الأسر قال له الله: يا إبراهيم! أنا أكانفك وأساعدك لأن ثوابك قد جزل، فقال إبرم: اللهم ربي! ما الذي تنحلني وأنا خارج من الدنيا بلا نسل ويرثني اليعازر غلامي الدمشقي؟ فقال له الرب: لا يرثك هذا، بل ابنك

ص: 430

الذي يخرج من صلبك فهو يرثك، وقال له: انظر إلى السماء وأحص النجوم إن كنت تقدر أن تحصيها، فكذلك تكون ذريتك، فآمن إبرم بالله.

ولما تم الحمد على النعمة بعد الدعاء بالتخلي من منافي السعادة وختمه بالحمد على إجابة الدعاء، انتهز الفرصة في إتباعه الدعاء بالتحلي بحلية العبادة التي أخبر أنها قصده بإسكانه من ذريته ثم إقامتها، إشارة إلى صعوبتها على النفس إلا بمعونة الله فقال:{رب} أي أيها الموجد لي المالك لأمري {اجعلني مقيم الصلاة} أي هذا النوع الدال على غاية الخضوع، دائم الإقامة لها، وكأن الله تعالى أعلمه بأنه يكون من ذريته من يكفر فقال أدباً:{ومن ذريتي} .

ولما كانت أعظم الأركان بعد الإيمان، أفراد الضمير للدعاء بها متملقاً لله تعالى بما عليه من النعم التي لم ينعمها على أحد كان في ذلك الزمان غيره، كما أشار إلى ذلك باسم الرب، ثم زاد في التضرع بقوله:{ربنا} أي أيها المحسن إلينا، وجمع الضمير المضاف إليه بالنظر إلى من تبعه من ذريته لأن ما بعده كلام آخر، أي رب وربَّ

ص: 431

مّن وفقته بتربيتك وإحسانك لإقامة الصلاة من ذريتي {وتقبل دعاء *} كله بذلك وغيره، بأن تجعله مقبولاً جعلَ من كأنه راغب فيه مفتن به.

ص: 432

ولما كان الإنسان ولو اجتهد كل الاجتهاد - محل العجز الموجب للتقصير المفتقر للستر، قال مشيراً إلى ذلك:{ربنا} أي أيها المالك لأمورنا المدبر لنا {اغفر لي} ثم أشرك معه أقرب الناس إليه وأحقهم بشكره فقال: {ولوالدي} وقد كان استغفاره لهما قبل أن يعلم أن أباه مات كافراً، وقد علم من السياق أنه إذا كان وحده أضاف إلى ضميره، وإذا تقدم ما يحسن جمعه معه جمع إن كان ما بعده مستقلاً، ثم كل من تبعه في الدين من ذريته وغيرهم فقال:{وللمؤمنين} أي العريقين في الوصف {يوم يقوم} أي يظهر ويتحقق على أعلى وجوهه {الحساب *} .

ولما ختم دعاءه بيوم الحساب الموجب ذكره لكل سعادة ونسيانه لكل شقاوة، ذكر بعض ما يتفق فيه رجوعاً إلى ما مضى من أحوال يوم القيامة على أحسن وجه، فقال - عاطفاً على قوله {قل لعبادي} وجل المقصد تهديد أهل الظلم بالإشراك وغيره، وخاطب الرأس الذي لا يمكن ذلك منه ليكون أوقع في قلب

ص: 432

غيره -: {ولا تحسبن الله} أي الملك الأعظم الذي هو أحكم الحاكمين.

ولما كان اعتقاد ترك الحساب يلزم منه نسبة الحاكم إلى العجز أو السفه أو الغفلة، وكان قد أثبت قدرته وحكمته في هذه السورة وغيرها نزهةً عن الغفلة لينتبه المنكرون للبعث من غفلتهم فقال:{غافلاً} والغفلة: ذهاب المعنى عن النفس {عما يعمل الظالمون *} الذين بدلوا نعمة الله كفراً، فكانوا عريقين في الظلم وإن كان مستند ظلمهم شبهاً علمية يقيمونها، فكأنه قيل: فما الذي يفعل بهم؟ فقال: {إنما يؤخرهم} أي يؤخر حسابهم على النقير والقطمير سواء عذبوا في الدنيا أو لا {ليوم تشخص} أي تفتح فتكون بحيث لا تطرف {فيه} منهم {الأبصار *} أي حال كونهم {مهطعين} أي مسرعين غاية الإسراع إلى حيث دعوا خوفاً وجزعاً، مع الإقبال بالبصر نحو الداعي لا يلفتونه إلى غيره {مقنعي رؤوسهم} أي رافعيها وناصبيها ناظرين في ذل وخشوع إلى جهة واحدة، وهي جهة الداعي، لا يلتفتون يميناً

ص: 433

ولا شمالاً، وهذا كناية عن أشد الذل والصغار، ثم أتبعه ما يؤكده فقال مصرحاً بمعنى الشخوص:{لا يرتد إليهم} ولما كانوا في هيئة الأعين في الطرف والسكون قريباً من السواء، وحد فقال:{طرفهم} بل أعينهم شاخصة دائمة الفتح لا تطرف كالمحتضر لما بأصحابها من الهول {وأفئدتهم} جمع فؤاد، وهو العضو الذي من شأنه أن يحمى بالغضب؛ قال في القاموس: والتفؤد: التحرق والتوقد، ومنه الفؤاد للقلب مذكر، جمعه أفئدة. {هواء *} أي عدم فارغة لا شيء فيها من الجرأة والأنفة التي يظهرونها الآن كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

ألا أبلغ أبا سفيان عني

فأنت مجوف نخب هواء

والهواء: الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، والنخب: الجبان، وكذا الهواء - قاله في القاموس. فأنذرهم أهوال ذلك اليوم فإنه لا يبقى معهم فيه شيء مما هم فيه من الإباء والاستكبار {وأنذر} أي يا محمد {الناس} جميعاً، ما يحل بهم {يوم يأتيهم العذاب} وينكشف

ص: 434

عنهم الغطاء بالموت أو البعث.

ولما كانوا عند إتيان العذاب قبل الموت لا ينكسرون بالكلية، بين أنهم إذ ذاك على غير هذا، فقال عاطفاً على «يأتيهم» :{فيقول الذين ظلموا} أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى الوجوه منهم ومن غيرهم بسبب إتيانه من غير تمهل، وقد زال عنهم ما يفتخرون به من الأنفة والحمية والشماخة والكبر لما رأوا من الأهوال التي لا قبل لهم بها ولا صبر عليها:{ربنا} أي أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق والتربية {أخرنا} أي أمهلنا {إلى أجل قريب} فإنك إن تؤخرنا إليه {نجب دعوتك} أي استدراكاً لما فرطنا فيه؛ والإجابة: القطع على موافقة الداعي بالإرادة {ونتبع} أي بغاية الرغبة {الرسل} فيقال لهم: إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، أولم تكونوا تقولون: إن عرى صبركم لا تنحل، وحد عزائمكم لا يفل؟ {أولم تكونوا} أي كوناً أنتم فيه في غاية المكنة {أقسمتم} أي جهلاً وسفهاً أو أشراً وبطراً.

ولما لم يكن وقت إقسامهم مستغرقاً للزمان قال: {من قبل}

ص: 435

وبين الجواب المقسم عليه بقوله - حاكياً معنى قولهم لا لفظه - ليكون صريحاً في المراد من غير احتمال لتعنت لو قيل: ما لنا؟ : {ما لكم} وأكد النفي فقال: {من زوال} عما أنتم عليه من الكفران وعدم الإذعان للإيمان، أو من هذه الدار إلى الدار الآخرة، أو من منازلكم التي أنتم بها، كناية عن ثبات الأمر وعدم المبالاة بالمخالف كائناً من كان {و} الحال أنكم {سكنتم} أي في الدنيا {في مساكن الذين ظلموا} أي بوضع الأشياء في غير مواضعها كما فعلتم أنتم {أنفسهم} فأحلوا قومهم مثلكم دار البور {وتبين} أي غاية البيان {لكم} بالخبر والمشاهدة.

ولما كان حال أحدهم في غاية العجب، بنه بالاستفهام على أنه أهل لأن يسأل عنه فقال:{كيف فعلنا} أي على عظمتنا {بهم} حين انتقمنا منهم فلم تعتبروا بأحوالهم {وضربنا} أي على ما لنا من العظمة {لكم الأمثال *} المبينة أن سنة الله جرت - ولن تجد لسنة الله تبديلاً - أن الظالمين كما جمعهم اسم الظلم يجمعهم ميسم الهلاك، فجمعنا لكم بين طريقي الاعتبار: السمع والبصر، ثم لم تنتفعوا بشيء منهما {و} الحال أنه بان لكم أنهم حين

ص: 436

فعلنا بهم ما فعلنا {قد مكروا مكرهم} أي الشديد العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم بحيث لم يبق لهم مكر غيره في تأييد الكفر وإبطال الحق؛ والمكر: الفتل إلى الضرر على وجه الحيلة {و} الحال أنه {عند الله} أي المحيط علماً وقدرة {مكرهم} هو وحده به عالم من جميع وجوهه وإن دق، وعلى إبطاله قادر وإن جل {وإن كان مكرهم} من القوة والضخامة {لتزول} أي لأجل أن تزول {منه الجبال *} والتقدير على قراءة فتح اللام الأولى ورفع الثانية: وإن كان بحيث إنه تزول منه الجبال، والمعنيان متقاربان، وقيل:«إن» نافية، واللام لتأكيد النفي؛ والجبال: الآيات والشرائع، بل هي أثبت.

ص: 437

ولما تقرر ذلك من علمه سبحانه وقدرته، تسبب عنه أن يقال وهو كما تقدم في أن المراد الأمة لبلوغ الأمر كل مبلغ، خوطب به الرأس ليكون أوقع في قلوبهم:{فلا تحسبن الله}

ص: 437

أي الذي له الكمال كله، فإن من ظن ذلك كان ناقص العقل {مخلف وعده رسله} في أنه يعز أوليائه ويذل أعداءه ويهلكهم بظلمهم، ويسكن أولياءه الأرض من بعدهم؛ ثم علل ذلك بقوله - مؤكداً لأن كثرة المخالفين وقوتهم على تمادي الأيام تعرّض السامع للإنكار:{إن الله} أي ذا الجلال والإكرام {عزيز} أي يقدر ولا يقدر عليه {ذو انتقام *} ممن يخالف أمره.

ولما تقررت عظمة ذلك اليوم الذي تشخص فيه الأبصار، وكان أعظم يوم يظهر فيه الانتقام، بينه بقوله:{يوم تبدل} أي تبديلاً غريباً عظيماً {الأرض} أي هذا الجنس {غير الأرض} أي التي تعرفونها {والسماوات} بعد انتشار كواكبها وانفطارها وغير ذلك من شؤونها؛ والتبديل: تغيير الشيء أو صفته إلى بدل {وبرزوا} أي الظالمون الذين كانوا يقولون: إنهم لا يعرضون على الله للحساب؛ والبروز: ظهور الشخص مما كان ملتبساً به {لله} أي الذي له صفات الكمال {الواحد} الذي لا شريك له {القهار *} الذي لا يدافعه شيء عن مراده، فصاروا بذلك البروز بحيث لا يشكون أنه لا يخفى منهم خافية، وأما المؤمنون فلم يزالوا يعلمون ذلك:

ص: 438

روى مسلم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض} الآية قلت: يا رسول الله فأين يكون للناس يومئذ؟ قال: على الصراط.

ولما ذكر بروزهم له ذكر حالهم في ذلك البروز فقال: {وترى المجرمين} أي وتراهم، ولكنه أظهر لتعدد صفاتهم التي أوجبت لهم الخزي؛ والإجرام: قطع ما يجوز من العمل بفعل ما لا يجوز {يومئذ} أي إذ كانت هذه الأمور العظام {مقرنين} أي مجموعاً كل منهم إلى نظيره، أو مجموعة أيديهم إلى أعناقهم جمعاً فيه شدة وضيق {في الأصفاد *} أي القيود، والمراد هنا الأغلال، أي السلاسل التي تجمع الأيدي فيها إلى الأعناق ويقرنون فيها مع أشكالهم؛ ثم بين لباسهم بقوله:{سرابيلهم} أي قمصهم السابغة {من قطران} وهو ما يهنأ به الإبل، ومن شأنه أنه سرع فيه

ص: 439

اشتعال النار، وهو أسود اللون منتن الريح.

ولما كان هذا اللباس مع نتنه وفظاعته شديد الانفعال بالنار، بين أنه يسلطها عليهم فقال:{وتغشى} ولما كان الوجه أشرف ما في الحيوان، فإهانته إهانة عظيمة لصاحبه، ذكره وقدمه تعجيلاً لإفهام الإهانة فقال:{وجوههم النار} أي تعلوها باشتعالها، فعلم أنه يلزم من غشيانها لها اضطرامها فيما ضمخ بالقطران من باب الأولى؛ ثم بين علة هذه الأفعال في ذلك اليوم، فقال معبراً بالجزاء والكسب الذي هو محط التكليف وظن النفع، لاقتضاء سياق القهر لهما: ب {ليجزي الله} أي الذي له الكمال كله {كل نفس} طائعة أو عاصية.

ولما عظم الأمر بإسناد الجزاء إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال، اقتضى ذلك أن يكون نفس الكسب هو الجزاء، لأن ذلك أبدع وأدق في الصنع وأبرع بأن يصور بما يحق من الصور المليحة عند إرادة الثواب، والقبيحة عند إرادة العقاب، فلذلك أسقط الباء - التي

ص: 440

ستذكر في «حم المؤمن» وقال: {ما كسبت} والجزاء: مقابلة العمل بما يقتضيه من خير أو شر؛ والكسب: فعل ما يستجلب به نفع أو يستدفع به ضر، ومن جزاء المؤمن عقوبة من عاداه في الله.

ولما كان حساب كل نفس جديراً بأن يستعظم، قال:{إن الله} أي الذي له الإحاطة المطلقة {سريع الحساب *} أي لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى ولا شأن عن شأن.

ولما اشتملت هذه السورة على ما قرع سمعك من هذه المواعظ والأمثال والحكم التي أبكمت البلغاء، وأخرست الفصحاء، وبهرت العقول، ترجمها سبحانه بما يصلح عنواناً لجميع القرآن فقال:{هذا} أي الكتاب الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور {بلاغ} أي كافٍ غاية الكفاية في الإيصال {للناس} ليصلوا به إلى الله بما يتحلون به من المزايا في سلوك صراطه القويم، فإن مادة «بلغ» بأي ترتيب كان - تدور على الوصول، وتارة تلزمها القوة وتارة الإعياء الناشىء عن الضعف:

ص: 441

بلغ المكان بلوغاً: وصل إليه؛ وبُلغ الرجل - كعني: جهد، والبليغ: الفصيح يبلغ بعبارته كنه ضميره، والبلاغ - كسحاب: الكفاية، لأنها توصل إلى القصد، وبالغ مبالغة - إذا اجتهد ولم يقصر، وتبلغت به العلة: اشتدت.

والغلباء: الحديقة المتكاثفة، ومن القبائل: العزيزة الممتنعة، والأغلب: الأسد.

ولغب: أعيا - لاجتهاده في البلوغ، واللغب: ما بين الثنايا من اللحم، واللغب - ككتف: الكلام الفاسد - يرجع إلى الإعياء، وكذا الضعيف الأحمق، والسهم الذي لم يحسن بريه كاللغاب - بالضم، والتغلب: طول الطرد.

والبغل من أشد الحيوان وأبلغها للقصد، وبغل تبغيلاً: بلّد وأعيا، والإبل: مشت بين الهملجة والعنق.

ولما كان متعلق البلاغ الذي قدرته بالوصول يتضمن البشارة، عطف عليه النذارة بانياً للمفعول، لأن النافع مطلق النذارة، وكل أحد متأهل

ص: 442

لأن يكون واعظاً به مقبولاً، لأن من سمعه فكأنما سمعه من الله لتميزه بإعجازه عن كل كلام، فقال:{ولينذروا} أي من أي منذر كان فيقوم عليهم الحجة {به} فيحذروا عقاب الله فيتخلوا عن الدنايا.

ولما أشار إلى جميع الفروع فعلاً وتركاً، مع إشارته إلى أصل التوحيد لأنه أول الوصول، صرح به على حدته لجلالته في قوله:{وليعلموا أنما هو} أي الإله {إله واحد} فيكون همهم واحداً.

ولما تمت الإشارة إلى الدين أصلاً وفرعاً، نبه على المواعظ والأمثال بتذكر ما له من الآيات والمصنوعات، والبطش بمن خالفه من الأمم، وأشار إلى أن أدلة الوحدانية والحشر لا تحتاج إلى كبير تذكر، لأنها في غاية الوضوح ولا سيما بعد تنبيه الرسل، فأدغم تاء التفعل، فقال:{وليذكر} أي منهم {أولوا الألباب *} أي الصافية، والعقول الوافية، فيفتحوا عيون بصائرهم فيعلموا أنه لا وصول لهم مع الغفلة فيلزموا المراقبة فلا يزالوا في رياض المقاربة. ويعلموا - بما ركز في طبائعهم وجرى من عوائدهم - أن أقل حكامهم لا يرضى بأن يدع رعيته يتهارجون

ص: 443

لا ينصف بينهم ولا يجزى أحداً منهم بما كسب، فيكون ذلك منه انسلاخاً من رتبة الحكم التي هي خاصته، فكيف يدعون ذلك في أحكم الحاكمين، فقد تكفلت هذه الآية على وجازتها بجميع علم الشريعة أصولاً وفروعاً، وعلم الحقيقة نهايات وشروعاً، على سبيل الإجمال وقد انطبق آخر السورة على أولها، لأن هذا عين الخروج من الظلمات إلى النور بهذا الكتاب الحامل على كل صواب - والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وحسن المآب.

ص: 444