المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مقصودها أن هذا الكتاب بين في نفسه بإعجازه أنه من - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور - جـ ١٤

[برهان الدين البقاعي]

فهرس الكتاب

مقصودها أن هذا الكتاب بين في نفسه بإعجازه أنه من عند الله، مبين لكل ملتبس، ومن ذلك بيان آخر التي قبلها بتفصيلهن وتنزيله على أحوال الأمم وتمثيله، وتسكين أسفه صلى الله عليه وسلم خوفاً من أن يعم أمته الهوان بعدم الإيمان، وأن يشتد قصدهم لأتباعه بالأذى والعدوان بما تفهمه) سوف (من طول الزمان، بالإشارة غلى إهلاك من علم منه دوام العصيان، ورحمة من أراده للهداية والإحسان، وتسميتها بالشعراء أدل دليل على ذلك بما يفارق به القرآن الشعر من علو مقامه، واستقامة مناهجه وعز مرامه، وصدق وعده ووعيده وعدل تبشيره وتهديده، وكذا تسميتها بالظلة إشارة إلى أنه أعدل

ص: 1

في بيانه، أو أدل في جميع شأنه، من المقادير التي دلت عليها قصة شعيب عليه السلام بالمكيال والميزان، وأحرق من الظلة لمن يبارزه بالعصيان.

) بسم الله (الذي دل على علو كلامه، على عظمة شأنه وعز مرامه) الرحمن (الذي لا يعجل على من عصاه) الرحيم (الذي يحيي قلوب أهل وده بالتوفيق لما يرضاه)

ص: 2

{طسم*} لعله إشارة إلى الطهارة الواقعة بذي طوى من طور سيناء وطيبة ومكة وطيب ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم مما يجمع ذلك كله - كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يرشد إلى ذلك، وإلى خلاص بني إسرائيل بما سمعه موسى عليه السلام من الكلام القديم، وبإتمام أمرهم بتهيئتهم للملك بإغراق فرعون وجنوده ونصرهم على من ناوأهم في ذلك الزمان بعد تطهيرهم بطول البلاء الذي أوصلهم إلى ذل العبودية، وذلك كله إشارة إلى تهديد قريش بأنهم إن لم يتركوا لددهم فعل بهم ما فعل بفرعون وجنوده من الإذلال بأي وجه أراد. وخلص عباده منهم، وأعزهم على كل من ناوأهم.

ولما فرق سبحانه في تلك بين الدين الحق والمذهب الباطل، وبين ذلك غاية البيان، وفصل الرحمن من عباد الشيطان، وأخبر أنه عم برسالته صلى الله عليه وسلم جميع الخلائق، وختم بشديد الإنذار

ص: 2

لأهل الإدبار، بعد أن قال {فقد كذبتم} وكان حين نزولها لم يسلم منهم إلا القليل، وكان ذلك ربما أوهم قرب إهلاكهم وإنزال البطش بهم، كما كان في آخر سوة مريم، وأشارت الأحرف المقطعة إلى مثل ذلك، فأوجب الأسف على فوات ما كان يرجى من رحمتهم بالإيمان، والحفظ عن نوازل الحدثان، وكان ذلك أيضاً ربما أوجب أن يظن ظان، أن عدم إسلامهم لنقص في البيان، أزال ذلك سبحانه أول هذه فقال {تلك} أي الآيات العالية المرام، الحائزة أعلى مراتب التمام، المؤلفة من هذه الحروف التي تتناطقون بها وكلمات لسانكم {ءايات الكتاب} أي الجامع لكل فرقان {المبين*} أي الواضح في نفسه أنه معجز، وأنه من عند الله، وأن فيه كل معنى جليل، الفارق لكل مجتمع ملتبس بغاية البيان، فصح أنه كما ذكر في التي قبلها، فإن الإبانة هي الفصل والفرق، فصار الإخبار بأنه فرقان مكتنفاً الإنذار أول السورة التي قبلها وآخرها - والله الموفق.

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما عرفت سورة الفرقان بشنيع مرتكب الكفرة المعاندين، وختمت بما ذكر من الوعيد، كان ذلك مظنة لإشفاقه عليه الصلاة والسلام وتأسفه على فوات إيمانهم، لما جبل عليه من الرحمة والإشفاق، فافتتحت السورة الأخرى بتسليته عليه الصلاة والسلام،

ص: 3

وأنه سبحانه لو شاء لأنزل عليهم آية تبهرهم وتذل جبابرتهم فقال سبحانه {لعلك باخع نفسك} - الآيتين، وقد تكرر هذا المعنى عند إرادة تسليته عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى:{ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} [الأنعام: 35]، {ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها} [السجدة: 13] ، {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً} [يونس: 99] ، {ولو شاء الله ما فعلوه} [الأنعام: 137] ثم أعقب سبحانه بالتنبيه والتذكير {أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم} ، {وإذ نادى ربك موسى} وقلّما تجد في الكتاب العزيز ورود تسليته عليه السلام إلا معقبة بقصص موسى عليه السلام وما كابد من بني إسرائيل وفرعون، وفي كل قصة منها إحراز ما لم تحرزه الأخرى من الفوائد والمعاني والأخبار حتى لا تجد قصة تتكر وإن ظن ذلك من لم يمعن النظر، فما من قصة من القصص المتكررة في الظاهر إلا ولو سقطت أو قدر إزالتها لنقص من الفائدة ما لا يحصل من غيرها، وسيوضح هذا في التفسير بحول الله؛ ثم أتبع جل وتعالى قصة موسى بقصص غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أممهم على الطريقة المذكورة، وتأنيساً له عليه الصلاة والسلام حتى لا يهلك نفسه أسفاً على فوت إيمان قومه؛ ثم أتبع سبحانه ذلك بذكر الكتاب

ص: 4

وعظيم النعمة به فقال {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون} فيا لها كرامة تقصر الألسن عن شكرها، وتعجز العقول عن تقديرها، ثم أخبر تعالى أنه {بلسان عربي مبين} ، ثم أخبر سبحانه بعلى أمر هذا الكتاب وشائع ذكره على ألسنة الرسل والأنبياء فقال:{وإنه لفي زبر الأولين} وأخبر أن علم بني إسرائيل من أعظم آية وأوضح برهان وبينة، وأن تأمل ذلك كاف، واعتباره شاف، فقال:{أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} كعبد الله بن سلام وأشباهه، ثم وبخ تعالى متوقفي العرب فقال:{ولو نزلناه على بعض الأعجمين} - الآية، ثم أتبع ذلك بما يتعظ به المؤمن الخائف من أن الكتاب - مع أنه هدى ونور - قد يكون محنة في حق طائفة كما قال تعالى:

{يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} [البقرة: 26]، {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} [التوبة: 125] فقال تعالى في هذا المعنى {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم} الآيات، ثم عاد الكلام إلى تنزيه الكتاب وإجلاله عن أن تتسور الشياطين على شيء منه أو تصل إليه فقال سبحانه {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون} أي ليسوا أهلاً له ولا يقدرون على استراق سمعه، بل هم معزولون عن السمع، مرجومون بالشهب، ثم وصى تعالى

ص: 5

نبيه صلى الله عليه وسلم والمراد المؤمنون - فقال: {فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين} ثم أمره بالإنذار ووصاه بالصبر فقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} ثم أعلم تعالى بموقع ما توهموه، وأهلية ما تخيلوه، فقال:{هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم} ثم وصفهم، وكل هذا تنزيه لنبيه صلى الله عليه وسلم عما تقولوه، ثم هددكم وتوعدهم فقال:{وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} - انتهى.

ولما كان قد قدم في تلك أنه عم برسالته جميع الخلائق، وختم بالإنذار على تكذيبهم في تخلفهم، مع إزاحة جميع العلل، نفي كل خلل، وكان ذلك مما يقتضي شدة أسفه صلى الله عليه وسلم على المتخلفين كما هو من مضمون {إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} على ما تقدم. وذلك لما عنده صلى الله عليه سلم من مزيد الشفقة، وعظيم الرحمة، قال تعالى يسليه، ويزيل من أسفه ويعزيه، على سبيل الاستئناف، مشيراً إلى أنه لا نقص في إنذاره ولا في كتابه الذي ينذر به يكون سبباً لوقوفهم عن الإيمان. وإنما السبب في ذلك محض إرادة الله تعالى:{لعلك باخع نفسك} أي مهلكها غمّاً. وقاتلها أسفاً، من بخع الشاة

ص: 6

إذا بالغ في ذبحها حتى قطع البخاع، بكسر الموحدة، وهو عرق باطن في الصلب وفي القفا، وذلك أقصى حد الذابح، وهو غير النخاع بتثليث النون فإنه الخيط الأبيض في جوف الفقار {أن} أي لأجل أن {لا يكونوا} أي كوناً كأنه جبلة لهم {مؤمنين*} أي راسخين في الإيمان، فكان كأنه قيل: هذا الكتاب في غاية البيان في نفسه والإبانة للغير، وقد تقدم في غير موضع أنه ليس عليك إلا البلاغ، أتخاف وتشفق على نفسك من الهلاك عمّاً تأسفاً على عدم إيمانهم والحال أنا لو شئنا لهديناهم طوعاً أو كرهاً، والظاهر أن جملة الإشفاق في موضع حال من اسم الإشارة كما أن الآية التي بعدها في موضع الحال منها، أي نحن نشير إلى الآيات المبينة لمرادنا فيهم والحال أنك - لمزيد حرصك على نفعهم - بحال يشفق فيها عليك من لا يعلم الغيب من أن تقتل نفسك غمّاً لإبائهم الإيمان والحال أنا لو شئنا أتيناهم بما يقهرهم ويذلهم للإيمان وغيره.

ولا كان المحب ميالاً إلى ما يريد حبيبه، أعلمهم أن كل ما هم فيه بإرادته فقال:{إن نشأ} وعبر بالمضارع فيه وفي قوله: {ننزل} إعلاماً بدوام القدرة. ولما كان ذلك الإنزال من باب القسر، والجبروت

ص: 7

إذا بالغ في ذبحها حتى قطع البخاع، بكسر الموحدة، وهو عرق باطن في الصلب وفي القفا، وذلك أقصى حد الذابح، وهو غير النخاع بتثليث النون فإنه الخيط الأبيض في جوف الفقار {أن} أي لأجل أن {لا يكونوا} أي كوناً كأنه جبلة لهم {مؤمنين*} أي راسخين في الإيمان، فكان كأنه قيل: هذا الكتاب في غاية البيان في نفسه والإبانة للغير، وقد تقدم في غير موضع أنه ليس عليك إلا البلاغ، أتخاف وتشفق على نفسك من الهلاك عمّاً تأسفاً على عدم إيمانهم والحال أنا لو شئنا لهديناهم طوعاً أو كرهاً، والظاهر أن جملة الإشفاق في موضع حال من اسم الإشارة كما أن الآية التي بعدها في موضع الحال منها، أي نحن نشير إلى الآيات المبينة لمرادنا فيهم والحال أنك - لمزيد حرصك على نفعهم - بحال يشفق فيها عليك من لا يعلم الغيب من أن تقتل نفسك غمّاً لإبائهم الإيمان والحال أنا لو شئنا أتيناهم بما يقهرهم ويذلهم للإيمان وغيره.

ولا كان المحب ميالاً إلى ما يريد حبيبه، أعلمهم أن كل ما هم فيه بإرادته فقال:{إن نشأ} وعبر بالمضارع فيه وفي قوله: {ننزل} إعلاماً بدوام القدرة. ولما كان ذلك الإنزال من باب القسر، والجبروت

ص: 8

والقهر، قال:{عليهم} وقال محققاً للمراد: {من السمآء} أي التي جعلنا فيها بروجاً للمنافع، أشار إلى تمام القدرة بتوحيدها فقال:{آية} أي قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه؛ وأشار إلى تحقق أثرها بالتعبير بالماضي في قوله عطفاً على {ننزل} لأنه في معنى {أنزلنا} : {فظلت} أي عقب الإنزال من غير مهلة {أعناقهم} التي هي موضع الصلابة، وعنها تنشأ حركات الكبر وألإعراض {لها} أي للآية دائماً، ولكنه عبر بما يفهم النهار لأنه موضع القوة على جميع ما يراد من التقلب والحيل والمدافعة {خاضعين*} جمعه كذلك لأن الفعل لأهلها ليدل على أن ذلهم لها يكون مع كونهم جميعاً، ولا يغني جمعهم وإن زاد شيئاً، والأصل: فظلوا، ولكنه ذكر الأعناق لأنها موضع الخضوع فإنه يظهر لينها بعد صلابتها، وانكسارها بعد شماختها، وللإشارة إلى أن الخضوع يكون بالطبع من غير تأمل لما أبهتهم وحيرهم من عظمة الآية، فكأن الفعل للأعناق لا لهم؛ والخضوع: التطامن والسكون واللين ذلاً وانكساراً {وما} أي هذه صفتنا والحال أنه ما {يأتيهم} أي الكفار {من ذكر} أي شيء من الوعظ والتذكير والتشريع يذكروننا به، فيكون سبب ذكرهم وشرفهم {من الرحمن} أي الذي أنكروه مع إحاطة نعمه بهم {محدث} أي بالنسبة إلى تنزيله وعلمهم به؛ وأشار إلى دوام كبرهم بقوله:{إلا كانوا} أي كوناً هو كالخلق لهم؛ وأشار بتقديم الجار والمؤذن بالتخصيص إلى ما لهم من سعة الأفكار وقوة الهمم لكل ما يتوجهون إليه، وإلى أن لإعراضهم عنه من القوة ما يعد الإعراض معه عن غيره عدماً فقال:{عنه} أي خاصة {معرضين*} أي إعراضاً هو صفة لهم لازمة.

ص: 9

ولما كان حال المعرض عن الشيء حال المكذب به قال: {فقد} أي فتسبب عن هذا الفعل منهم أنهم قد {كذبوا} أي حققوا التكذيب وقربوه كما تقدم آخر تلك، واستهزؤوا مع التكذيب بآياتنا.

ولما كان التكذيب بالوعيد سبباً في إيقاعه، وكان حالهم في تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم حال المستهزىء لأن من كذب بشيء خف عنده قدره، فصار عرضة للهزء، قال مهدداً:{فسيأتيهم} سببه بالفاء وحققه بالسين، وقلل التنفيس عما في آخر الفرقان ليعلموا أن ما كذبوا به واقع. وأنه ليس موضعاً للتكذيب بوجه {أَنْبَاءُ} أي عظيم أخبار وعواقب {ما} أي العذاب الذي {كانوا} أي كوناً كأنهم جبلوا عليه {به} أي خاصة لشدة إمعانهم في حقه وحده {يستهزءون*} أي يهزؤون،

ص: 9

ولكنه عبر بالسين إشارة إلى أن حالهم في شدة الرغبة في ذلك الهزء حال الطالب له، وقد ضموا إليه التكذيب، فالآية من الاحتباك: ذكر التكذيب أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، والاستهزاء ثانياً دليلاً على حذف مثله أولاً.

ولما كانت رؤيتهم للآيات السماوية والأرضية الموجبة للانقياد والخضوع موجبة لإنكار تخلفهم عما تدعو إليه فضلاً عن الاستهزاء، وكان قد تقدم آخر تلك الحثُّ على تدبر بروج السماء وما يتبعها من الدلالات فكان التقدير: ألم يروا إلى السماء كم أودعنا في بروجها وغيرها من آيات نافعة وضارة كالأمطار والصواعق، عطف عليه ما ينشأ عن ذلك في الأرض في قوله معجباً منهم:{أولم يروا} .

ولما كانوا في عمى عن تدبر ذلك، عبر للدلالة عليه بحرف الغاية فقال:{إلى الأرض} أي على سعتها واختلاف نواحيها وتربها؛ ونبه على كثرة ما صنع من جميع الأصناف فقال: {كم أنبتنا} أي بما لنا من العظمة {فيها} بعد أن كانت يابسة ميتة لا نبات بها {من كل زوج} أي صنف مشاكل بعضه لبعض، فلم يبق صنف يليق بهم في العاجلة إلا أكثرنا من الإنبات منه {كريم*} أي جم المنافع، محمود العواقب، لا خباثة فيه، من الأشجار والزروع وسائر النباتات على اختلاف ألوانها في زهورها وأنوارها، وطعومها وأقدراها،

ص: 10

ومنافعها وأرواحها - إلى غير ذلك من أمور لا يحيط بها حداً ولا يحصيها عداً، إلا الذي خلقها، مع كونها تسقى بماء واحد؛ والكريم وصف لكل ما يرضى في بابه ويحمد، وهو ضد اللئيم.

ولما كان ذلك باهراً للعقل منبهاً له في كل حال على عظيم اقتدار صانعه، وبديع اختياره، وصل به قوله:{إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الإنبات، وما تقدمه من العظات على كثرته {لآية} أي علامة عظيمة جداً لهم على تمام القدرة على البعث وغيره، كافية في الدعاء إلى الإيمان، والزجر عن الطغيان، ولعله وحّدها على كثرتها إشارة إلى أن الدوالّ عليه متساوية الأقدام في الدلالة، فالراسخون تغنيهم واحدة، وغيرهم لا يرجعون لشيء {و} الحال أنه {ما كان} في الشاكلة التي خلقتهم عليها {أكثرهم} أي البشر {مؤمنين*} أي عريقين في الإيمان، لأنه {ما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} {وإن} أي والحال أن {ربك} أي الذي أحسن إليك بالإرسال، وسخر لك قلوب الصفياء، وزوى عنك اللد الأشقياء {لهو} .

ص: 11

ولما كان المقام لإنزال الآية القاهرة، قدم قوله:{العزيز} أي القادر على كل من قسرهم على الإيمان والانتقام منهم {الرحيم*} في أنه لم يعاجلهم بالنقمة، بل أنزل عليهم الكتاب ترفقاً بهم، وبياناً لما يرضاه ليقيم به الحجة على من أريد للهوان، ويقبل بقلوب من يختصه منهم للإيمان، قال أبو حيان: والمعنى أنه عز في نقمته من الكفار، ورحم مؤمني كل أمة - انتهى. ومن هنا شرع سبحانه وتعالى في تمثيل آخر الفرقان في إظهار القدرة بالبطش عند النقمة حيث لم يشكر النعمة بأن أبى المدعو الإجابة لدعوه الرسل، وترك الداعي - عقب الانقياد من الشدائد - التضرع للمرسل، وقص أخبار الأمم على ما هي عليه بحيث لم يقدر أحد من أهل الكتاب الذين هم بين ظهرانيهم على إنكار شيء من ذلك، ومن ثم قرع أسماعهم، أول شيء بقصتهم من فرعون، وموسى عليه السلام، فصح قطعاً أن هذا الكتاب جلي الأمر، على القدر، ليس بكهانة، ولا شعر، كما سيؤكد ذلك عند إظهار النتيجة في آخرها، بل هو من عند رب العالمين، على لسان سيد المرسلين، وصح أن أكثر الخلق مع ذلك هالك وإن قام الدليل. ووضح السبيل. لأن سلك الذكر في قلوبهم شبيه في الضيق بنظم السهم فيما يرمى به، وصح أنه سبحانه يملي لهم وينعم عليهم بما فيه حياة أديانهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وما فيه حياة أبدانهم بالإيتاء من كل ما يحتاجونه إظهاراً لصفة الرحمة.

ص: 12

ثم ينتقم منهم بعد طول المهلة، وتماديهم في سكرات الغفلة، كشفاً لصفة العزة، كل ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً وإعلاماً بأنه لا قصور في بيانه، ولا تقصير لديه.

ولما اقتضى وصف العزة الإهلاك، ووصف الرحمة الإمهال، وكان الأول مقدماً، وكانت عادتهم تقديم ما هم به أهم، وهو لهم أعنى، خيفت غائلته، فأتبع ذلك أخبار هذه الأمم، دلالة على الوصفين معاً ترغيباً وترهيباً، ودلالة على أن الرحمة سبقت الغضب، وإن قدم الوصف اللائق به، فلا يعذب إلا بعد البيان مع طول الإمهال، وأخلى قصة أبيهم إبراهيم عليه السلام من ذكر الإهلاك إشارة إلى البشارة بالرفق ببنيه العرب في الإمهال كما رفق بهم في الإنزال والإرسال، ولما كان مع ذلك في هذه القصة تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يقاسيه من الأذى والتكذيب، وكانت التسلية بموسى وإبراهيم عليهما السلام أتم، لما لهما من القرب، والمشاركة في الهجرة، والقصد إلى الأرض المقدسة، وكان قد اختص موسى عليه السلام بالكتاب الذي ما بعد القرآن مثله والآيات التي ما أتى بمثلها أجد قبله، وإقرار عينه بهداية قومه، وحفظهم

ص: 13

بعده بالكتاب، وسياسة الأنبياء المجددين لشريعته، وعدم استئصالهم بالعذاب والانتقام بأيديهم من جميع أعدائهم، وفتح بلاد الكفرة على أيديهم بعده صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك مما شابهوا به هذه الأمة مع مجاورتهم للعرب حتى في دار الهجرة، وموطن النصرة، ليكون في إقرارهم على ما يسمعون من أخبارهم أعظم معجزة، وأتم دلالة، قدمهما مقدماً لموسى عليهما السلام، والتحية والإكرام - فإن كان القصد تسكين ما أورثه آخر تلك من خوف الملازمة بالعذاب نظراً إلى وصف العزة، فالتقدير: اذكر أثر رحمتنا بطول إمهالنا لقومك - وهم على أشد ما يكون من الكفر والضلال في أيام الجاهلية - برحمتنا الشاملة بإرسالك إليهم وأنت أشرف الرسل، وإنزال هذا الكتاب الذي هو أعظم الكتب {هو} اذكر {إذ} وعلى تقدير التسلية يكون العطف على تلك لأن المراد بها التنبيه، فالتقدير: خذ آيات الكتاب واذكر إذ {نادى ربك} أي المحسن إليك بكل ما يمكن الإحسان به في هذه الدار، وعلى تقدير الترهيب يكون التقدير: أو لم يروا إذ نادى ربك، وعدّوا رائين لذلك لأن اليهود في بلادهم وفي حد القرب منهم، فإما أن يكونوا عالمين بالقصة بما سمعوه منهم، أو متهيئين

ص: 14

لذلك لإمكانهم من سؤالهم؛ ثم ذكر المنادى فقال: {موسى} وأتبعه ما كان له النداء فقال مفسراً لأن النداء في معنى القول: {أن أئت القوم} أي الذين فيهم قوة وأيّ قوة {الظالمين*} أي بوضعهم قوتهم على النظر الصحيح المؤدي للإيمان في غير موضعها.

ص: 15

ولما كان كأنه قيل: أي قوم؟ قال مبدلاً إشارة أن العبارتين مؤداهما واحد لأنهم عريقون في الظلم، لظلمهم أنفسهم بالكفرة وغيره، وظلم بني إسرائيل وغيرهم من العباد:{قوم فرعون} .

ولما كان المقصود بالرسالة تخويفهم من الله تعالى، وإعلامهم بجلاله، استأنف قوله معلماً بذلك في سياق الإنكار عليهم، والإيذان بشديد الغضب منهم، والتسجيل عليهم بالظلم، والتعجيب من حالهم في عظيم عسفهم فيه، وأنه قد طال إمهاله لهم وهو لا يزدادون إلا عتواً ولزوماً للموبقات:{ألا يتقون*} أي يحصل منهم تقوى.

ولما كان من المعلوم أن من أتى الناس بما يخالف أهواءهم. لم يقبل، أخبر من تشوف إلى معرفة جوابه أنه أجاب بما يقتضي الدعاء بالمعونة، لما عرف من خطر هذا المقام، بقوله ملتفتاً إلى نحو {يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} [الفرقان: 30] {قال رب} أي أيها الرفيق بي

ص: 15

{إني أخاف أن يكذبون*} أي فلا يترتب على إتياني إليهم أثر، ويبغون لي الغوائل، فاجعل لي قبولاً ومهابة تحرسني بها ممن يريدني بسوء، ويجوز أن يريد ب (أخاف) أعلم أو (أظن) ، فيكون «أن» مخففة، فيكون الفعلان معطوفين على «يكذبون» في قراءة الجمهور بالرفع مع جواز العطف على (أخاف) فيكون التقدير:{و} أخاف أنه، أو قال: إني {يضيق صدري} عند تكذيبهم أو خوفي من تكذيبهم لي انفعالاً كما هو شأن أهل المروءات، وأرباب علو الهمم، لما غرز فيهم من الحدة والشدة في العزيمة إذا لم يجدوا مساغاً {ولا ينطلق} ونصب يعقوب الفعلين عطفاً على {يكذبون} على أن (أن) ناصبة {لساني} أي في التعبير عما ترسلني إليهم به، لما فيه من الحبسة في الأصل بسبب تعقده لتلك الجمرة التي لدغته في حال الطفولية، فإذا وقع التكذيب أو خوفه وضاق القلب، انقبض الروح إلى باطنه فازدادت الحبسة، فمست الحاجة إلى معين يقوي القلب فيعين على إطلاق اللسان عند الحبسة لئلا تختل الدعوة {فأرسل} أي فتسبب عن ذلك الذي اعتذرت به عن المبادرة إلى الذهاب عند الأمر أني أسألك في الإرسال {إلى هارون} أخي، ليكون رسولاً من عندك

ص: 16

فيكون لي عضداً على ما أمضى له من الرسالة فيعين على ما يحصل من ذلك، وليس اعتذاره بتعلل في الامتثال، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل، لا على التعلل.

ولما ذكر ما تؤثره الرسالة، وقدم الإشارة إلى استكشافه لأنه أهم، أتبعه ما يترتب على مطلق التظاهر لهم فضلاً عن مواجهتهم بما يكرهون فقال:{ولهم عليّ} أي بقتلي نفساً منهم؛ وقال: {ذنب} وإن كان المقتول غير معصوم تسمية له بما يزعمونه، ولذلك قيده ب «لهم» وأيضاً فلكونه ما كان أتاه فيه من الله تعالى أمر بخصوصه {فأخاف} بسبب ذلك {أن يقتلون} أي بذلك، مع ما أضمه إليه من التعرض لهم، فلا أتمكن من أداء الرسالة، فإذا كان هارون معي عاضدني في إبلاغها، وكل ذلك استكشاف واستدفاع للبلاء، واستعلام للعافية، لا توقف في القبول - كما مضى التصريح به في سورة طه.

ولما استشرفت النفس غلى معرفة جوابه عن هذه الأمور المهمة شفى عناءها بقوله، إعلاماً بأنه سبحانه استجاب له في كل ما سأل:{قال} قول كامل القدرة شامل العلم كما هو وصفه سبحانه:

ص: 17

{كلا} أي ارتدع عن هذا الكلام، فإنه لا يكون شيء مما خفت، لا قتل ولا غيره - وكأنه لما كان التكذيب مع ما قام على الصدق من البراهين، المقوية لصاحبها، الشارحة لصدره، المعلية لأمره، عد عدماً - وقد أجبناك إلى الإعانة بأخيك {فاذهبا} أي أنت وهو متعاضدين، إلى ما أمرتك به، مؤيدين {بآياتنا} الدالة على صدقكما على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا؛ ثم علل تأمينه له بقوله:{إنا} بما لنا من العظمة {معكم} أي كائنون عند وصولكما إليهم فيمن اتبعكما من قومكما؛ ثم أخبر خبراً آخر بقوله: {مستمعون*} أي سامعون بما لنا من العظمة في القدرة وغيرها من صفات الكمال، إلى ما تقولان لهم ويقولون لكما، فلا نغيب عنكم ولا تغيبون عنا، فنحن نفعل معكما من المعونة والنصر فعل القادر الحاضر لما يفعل بحبيبه المصغي له بجهده، ولذلك عبر بالاستماع؛ قال أبو حيان: وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى والخطاب لموسى وهارون فقط، لأن لفظة «مع» تباين من يكون كافراً، فإنه لا يقال: الله معه، وعلى أنه أريد بالجمع التثنية حمله سيبويه كأنهما لشرفهما عند الله تعالى عاملهما في الخطاب معاملة الجمع إذ كان ذلك جائزاً أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته - انتهى. وهو كلام نفيس مؤيد

ص: 18

بتقديم الظرف، ويكون حينئذ خطابهما مشاكلاً لتعظيم المتكلم سبحانه نفسه، لأن المقام للعظمة، وعظمة الرسول من عظمة المرسل، على أنه يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى البشارة بمن يتبعهما كما قدرته، ويجوز أن تكون المعية للكل كما في قوله تعالى:{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] .

ولما نفى سبحانه أن يكون شيء مما خافه موسى عليه السلام على هذا الوجه المؤكد، وكان ظهور ذلك في مقارعة الرأس أدل وأظهر، صرح به في قوله:{فأتيا} أي فتسبب عن ذلك الضمان بالحراسة والحفظ أني أقول لكما: ائتيا {فرعون} نفسه، وإن عظمت مملكته، وجلّت جنوده {فقولا} أي ساعة وصولكما له ولمن عنده:{إنا رسول} أفرده مريداً به الجنس الصالح للاثنين، إشارة بالتوحيد إلى أنهما في تعاضدهما واتفاقهما كالنفس الواحدة، ولا تخالف لأنه إما وقع مرتين كل واحدة بلون، أو مرة بما يفيد التثنية والاتفاق، فساغ التعبير بكل منهما، ولم يثنّ هنا لأن المقام لا اقتضاء له للتنبيه على طلب نبينا صلى الله عليه وسلم المؤازرة بخلاف ما مر في سورة طه {رب العالمين*} أي المحسن إلى جميع الخلق المدبر لهم؛ ثم ذكر له ما قصد من الرسالة إليه فقال معبراً بأداة التفسير لأن الرسول

ص: 19

فيه معنى الرسالة التي تتضمن القول: {أن أرسل} أي خلّ وأطلق؛ وأعاد الضمير على معنى رسول فقال: {معنا بني إسرائيل*} أي قومنا الذين استبعدتهم ظلماً، ولا سبيل لك عليهم، نذهب بهم إلى الأرض المقدسة التي وعدنا الله بها على ألسنة الأنبياء من آبائنا عليهم الصلاة والسلام.

ولما كان من المعلوم أنهما امتثلا ما أمرهما الله، فأتياه وقالا له ما أمرا به، تشوفت النفس إلى جوابه لهما، فقال تعالى التفاتاً إلى مثل قوله في التي قبلها {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7] {وإن يتخذونك إلا هزواً} [الأنبياء: 36] ونحو ذلك تسلية لهذا النبي الكريم وتحقيقاً لمعنى قوله تعالى {كلا} و {مستمعون} من أن فرعون وإن بالغ في الإبراق والإرعاد لا يروع موسى عليه السلام شيء منه: {قال} أي فرعون حين أبلغاه الرسالة مخاطباً لموسى عليه السلام علماً منه أنه الأصل فيها، وأخوه إنما هو وزير، منكراً عليه مواجهته بمثل هذا ومانّاً عليه ليكف من جرأته بتصويب مثل هذا الكلام إليه:{ألم نربك} أي بعظمتنا التي شاهدتها {فينا وليداً} أي صغيراً قريب عهد بالولادة {ولبثت فينا} أي لا في غيرنا، باعتبار انقطاعك إلينا، وتعززك في الظاهر بنا

ص: 20

{من عمرك سنين*} أي كثيرة، فلنا عليك بذلك من الحق ما ينبغي أن يمنعك من مواجهتنا بمثل هذا، وكأنه عبر بما يفهم النكد كناية عن مدة مقامه عنده بأنها كانت نكده لأنه وقع فيما كان يخافه، وفاته ما كان يحتاط به من ذبح الأطفال.

ص: 21

ولما ذكّره منة تحمله على الحياء منه، ذكّره ذنباً هو أهل لأن يخاف من عاقبته فقال مهولاً له بالكناية عنه:{وفعلت فعلتك} أي من قتل القطبي، ثم أكد نسبته إلى ذلك مشيراً إلى أنه عامله بالحلم تخجيلاً له فقال:{التي فعلت وأنت} أي والحال أنك {من الكافرين*} أي لنعمتي وحق تربيتي بقتل من ينسب إليّ، أو عده منهم لسكوته عنهم إذا ذاك، لأنه لم يكن قبل الرسالة مأموراً فيهم بشيء، فكان مجاملاً لهم، فكأنه قال: وأنت منا. فما لك الآن تنكر علينا وتنسبنا إلى الكفر؟ {قال} مجيباً له على طريق النشر المشوش، واثقاً بوعد الله بالسلامة مقراً بما دندن عليه من القتل لأنه لم يكن متحققاً لذلك، وما ترك قتله إلا التماساً للبينة:{فعلتها إذاً} أي إذ قتلته {وأنا من الضالين*}

ص: 21

أي لا أعرف ديناً، فأنا واقف عن كل وجهة حتى يوجهني ربي إلى ما يشاء - قال ابن جرير: والعرب تضع الضلال موضع الجهل والجهل موضع الضلال - انتهى. وقد تقدم في الفاتحة للحرالي في هذا الكلام نفيس - على أن هذه الفعلة كانت مني خطأ {ففررت} أي فتسبب عن فعلها وتعقبه أني فررت {منكم} أي منك لسطوتك ومن قومك لإغرائهم إياك عليّ {لما خفتكم} على نفسي أن تقتلوني بذلك القتيل الذي قتلته خطأ مع كونه كافراً مهدر الدم {فوهب لي ربي} الذي أحسن إليّ بتربيتي عندكم تحت كنف أمي آمنة مما أحدثتم من الظلم خوفاً مني {حكماً} أي علماً أعمل به عمل الحكام الحكماء {وجعلني من المرسلين*} أي فاجهد الآن جهدك فإني لا أخافك لقتل ولا غيره.

ولما اجتمع في كلام فرعون منّ وتعيير، بدأ بجوابه عن التعيير لأنه الأخير فكان أقرب، ولأنه أهم، ثم عطف عليه جوابه عما منّ به، فقال موبخاً له مبكتاً منكراً عليه غير أنه حذف حرف الإنكار إجمالاً في القول وإحساناً في الخطاب:{وتلك} أي التربية الشنعاء العظيمة في الشناعة التي ذكرتنيها {نعمة تمنها عليّ} .

ص: 22

ولما كان سببها ظلمه لقومه، جعله نفسها فقال مبدلاً منها تنبيهاً على إحباطها، وإعلاماً بأنها - بكونها نقمة - أولى منها في عدها نعمة:{أن عبدت} أي تعبيدك وتذليلك على ذلك الوجه البديع المبعد قومي {بني إسرائيل*} أي جعلتهم عبيداً ظلماً وعدواناً وهو أبناء الأنبياء، ولسلفهم يوسف عليه السلام عليكم من المنة - بإحياء نفوسكم أولاً، وعتق رقابكم ثانياً - ما لا تقدرون له على جزاء أصلاً، ثم ما كفاك ذلك حتى فعلت ما لم يفعله مستعبد، فأمرت بقتل أبنائهم، فكان ذلك سبب وقوعي إليك لأسلم من ظلمك - كما مر بيانه ويأتي إن شاء الله تعالى مستوفى في سورة القصص.

ولما كلم اللئيم الذميم الكليم العظيم بما رجا أن يكفه عن مواجهته بما يكره، ويرجعه إلى مداراته. فلم يفعل، وفهم ما في جوابه هذا الأخير من الذم له والتعجيز، وإثبات القدرة التامة والعلم الشامل لله، بما دبر في أمر موسى عليه السلام، وأنه لا ينهض لذلك بجواب ولا يحمد له فيه قول، عدل عنه إلى جوابه عن الرسالة بما يموه به أيضاً على قومه لئلا يرجعوا عنه، فأخبر تعالى عن محاورته في ذلك بقوله على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما قال له جواباً لهذا الكلام، الذي كأنه السهام؟ :{قال فرعون} حائداً عن جواب

ص: 23

موسى عليه السلام لما فيه من تأنيبه وتعجيزه. منكراً لخالقه على سبيل التجاهل، كما أنكر هؤلاء الرحمن متجاهلين وهو أعرف الناس بغالب أفعاله، كما كان فرعون يعرف، لقول موسى عليه السلام {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض} [الإسراء: 102] : {وما رب العالمين*} أي الذي زعمت أنكما رسوله. فسأل ب «ما» عن حقيقته وإنما أراد في الحقيقة إنكاره.

ولما كان تعريف حقيقته سبحانه بنفسها محالاً لعدم التركيب، فكان تعريفها لا يصح إلا بالخارج اللازم الجلي، تشوف السامع إلى ما يجيب به عنه، فاستأنف قوله إخباراً عنه:{قال} أي موسى معرضاً عن التعريف بغير الأفعال إعلاماً بأنه لا شبيه له، وأنه مباين وجوده لوجود كل شيء سواه، معرفاً له سبحانه بأظهر أفعاله مما لا يقدر أحد على ادعاء المشاركة فيه، مشيراً إلى خطابه في طلب الماهية بأنه لا مماثل له: أقول لك ولمن أردت بطلب الحقيقة التمويه عليهم: هو {رب} أي خالق ومبدع ومدبر {السماوات} كلها {والأرض} وإن تباعدت أجرامها بعضها عن بعض {وما بينهما} وذلك أظهر العالم الذي هو صنعته وأنتم غير مستغنين عنه طرفة عين، فهذه هي المنة، لا منتك عليّ بالتربية إلى

ص: 24

حين استغنيت عنك، وهذا هو الاستبعاد بالإحسان، مع العصيان بالكفران، لا استبعادك لقومي بإهلاكهم وهم في طاعتك، ولسلفهم عليكم من المنة ما لا تجهلونه {إن كنتم} أي كوناً راسخاً {موقنين*} أي متصفين بما عليه أهل العلم بأصول الدين من الثقة بما تعتقدون اتصافاً ثابتاً، والجواب: علمتم ذلك، وعلمتم أنه لا جواب أسد منه، لأن المذكور متغير، فله مغير لا يتغير، وهو هذا الذي أرسلناه، أي إن كان لكم يقين فأنتم تعرفونه، لشدة ظهوره، وعموم نوره {قال} أي فرعون {لمن حوله} من أشراف قومه مموهاً أيضاً:{ألا تستمعون*} أي تصغون إليه بجميع جهدكم، وهو كلام ظاهره أنه نبههم عن الإنكار، لأنه سأل عن الماهية، فأجيب بغيرها، ويحتمل غير ذلك لو ضويق فيه، فهو من خفيّ مكره.

ص: 25

ولما وبخ اللعين في جوابه، وكان ربما ادعى أن الخافقين وما بينهما من الفضاء غير مخلوق، فتشوف السامع إلى جواب يلزمه، استأنف الشفاء لعيّ هذا السؤال بقوله:{قال} أي موسى، مخصصاً بعد ما عمم بشيء لا تمكن المنازعة فيه لمشاهدة وجود أفراده بعد أن لم تكن:{ربكم} أي الموجد لكم والمربي والمحسن {ورب آبائكم الأولين*}

ص: 25

وفرعون - الذي تقرون بأنه ربكم - كان إذ ذاك عدماً محضاً، أو ماء صرفاً في ظهر أبيه، فبطل كون أحد منهم رباً لمن بعده كما بطل كون أحد ممن قبلهم من الهالكين ربّاً لهم، لأن الكل عدم.

فلما أوضح بذلك بطلان ما حملهم على اعتقاده من ربوبيته لم يتمالك أن {قال إن رسولكم} على طريق التهكم، إشارة إلى أن الرسول ينبغي أن يكون أعقل الناس، ثم زاد الأمر وضوحاً بقوله:{الذي أرسل إليكم} أي وأنتم أعقل الناس {لمجنون} حيث لا يفهم أني أساله عن حقيقة مرسله فكف يصلح للرسالة من الملوك.

فلما أساء الأدب، فاشتد تشوف السامع إلى معرفة جوابه عنه، استأنف تعالى الإخبار بذلك، فحكى أنه ذكر له ما لا يمكنه أن يدعي طاعته له، وهو أكثر تغيراً وأعجب تنقلاً بأن {قال رب المشرق والمغرب} أي الشروق والغروب ووقتهما وموضعهما {وما بينهما} أي من الناس الذين ليسوا في طاعتكم، والحيوان والجماد، بسبب ما ترون من قدرته على تقليب النيرات من بزوغ الشمس والقمر والنجوم وأفولها وما يظهر عنهما من الليل والنهار على تصاريف مختلفة، وحركات متقاربة

ص: 26

لولا هي لما علمتم شيئاً من أموركم، ولا تمكنتم من أحوالكم، وهذا الدليل أبين الكل لتكرر الحركة فيه وغير ذلك من معالمه، ولذلك بهت نمرود لما ألقاه عليه الخليل عليه الصلاة والسلام.

ولما دعاه صلى الله عليه وسلم باللين فأساء الأدب عليه في الجواب الماضي، ختم هذا البرهان بقوله:{إن كنتم تعقلون} أي فأنتم تعلمون ذلك، فخيرهم بين الإقرار بالجنون أو العقل، بما أشار إليه من الأدلة في مقابلة ما نسبوه إليه من الجنون بسكوتهم وقول عظيمهم بغير شبهة، رداً لهم عن الضلالة، وإنقاذاً من واضح الجهالة، فكان قوله أنكأ مع أنه ألطف، وأوضح مع أنه أستر وأشرف.

فلما علم أنه قد قطعه بما أوضح من الأمر، ووصل معه في الغلظة إلى ما إن سكت عنه أوهن من حاله، وفتر من عزائم رجاله، تكلم بما السكوت أولى منه، فأخبر تعالى بقوله:{قال} عادلاً عن الحجاج بعد الخوض فيه إلى المغالبة التي هي أبين علامات الانقطاع: {لئن اتخذت إلهاً غيري} أي تعمدت أخذه وأفردته بتوجيه جميع قصدك إليه {لأجعلنك من المسجونين} أي واحداً ممن هم في سجوني على ما تعلم من حالي في اقتداري، ومن

ص: 27

سجوني في فظاعتها، ومن حال من فيها من شدة الحصر، والغلظ في الحجر {قال} مدافعاً بالتي هي أحسن إرخاء للعنان، لإرادة البيان، حتى لا يبقى عذر لإنسان، رجاء النزوع عن الطغيان، والرجوع إلى الإيمان، لأن من العادة الجارية السكون إلى الإنصاف، والرجوع إلى الحق والاعتراف {أولو} أي أتسجنني ولو {جئتك بشيء مبين*} أي لرسالتي {قال} طمعاً في أن يجد موضعاً للتكذيب أو التلبيس:{فأت به} أي تسبب عن قولك هذا أني أقول لك: ائت بذلك الشيء {إن كنت} أي كوناً أنت راسخ فيه {من الصادقين*} أي فيما ادعيت من الرسالة والبينة، وهذا إشارة إلى أنه بكلامه المتقدم قد صار عنده في غير عدادهم، ولزم عليه أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق لأنها تصديق من الله للمدعي، وعادته سبحانه وتعالى جارية في أنه لا يصدق الكاذب {فألقى} أي فتسبب عن ذلك وتعقبه أن ألقى.

ولما كان الكلام مع موسى عليه السلام، فكان إضماره غير ملبس، لم يصرح باسمه اكتفاء بضميره فقال:{عصاه} أي التي تقدم في غير سورة أن الله تعالى أراه آياتها {فإذا هي ثعبان} أي حية في غاية الكبر {مبين*} أي ظاهر الثعبانية، لا شك عند رائية فيه، لا كما يكون عند الأمور السحرية من التخييلات والتشبيهات

ص: 28

{ونزع يده} أي التي كانت احترقت لما أخذ الجمرة وهو في حجر فرعون، وبذل فرعون جهده في علاجها بجميع من قدر عليه من الأطباء فعجز عن إبرائها، نزعها من جيبه بعد أن أراه إياها على ما يعهده منها ثم أدخلها في جيبه {فإذا هي} بعد النزع {بيضاء للناظرين*} أي بياضاً تتوفر الدواعي على نظره لخروجه عن العادة بأن له نوراً كنور الشمس يكاد يغشي الأبصار {قال} أي فرعون {للملأ حوله} لما وضح له الأمر، يموه على عقولهم خوفاً من إيمانهم:{إن هذا لساحر عليم*} أي شديد المعرفة بالسحر، وخص في هذه السورة إسناداً هذا الكلام إليه لأن السياق كله لتخصيصه الخطاب لما تقدم، ونظراً إلى {فظلت أعناقهم لها خاضعين} لأن خضوعه هو خضوع من دونه، فدلالته على ذلك أظهر، ولا ينفي ذلك أن يكون قومه قالوه إظهاراً للطواعية - كما مضى في الأعراف.

ص: 29

ولما أوقفهم بما خيلهم به، أحماهم لأنفسهم فقال ملقياً لجلباب الأنفة لما قهره من سلطان المعجزة:{يريد أن يخرجكم من أرضكم} أي هذه التي هي قوامكم {بسحره} أي بسبب ما أتى به منه، فإنه يوجب استتباع الناس فيتمكن مما يريد بهم؛ ثم قال لقومه - الذين كان يزعم أنهم عبيده وأنه إلههم - ما دل على أنه خارت قواه،

ص: 29

فحط عن منكبيه كبرياء الربوبية، وارتعدت فرائصه حتى جعل نفسه مأموراً بعد أن كان يدعي كونه آمراً بل إلهاً قادراً:{فماذا تأمرون*} أي في مدافعته عما يريد بنا {قالوا} أي الملأ الذين كانوا يأتمرون به قبل الهجرة ليقتلوه: {أرجه} أي أخره {وأخاه} ولم يأمروا بقتله ولا بشيء مما يقاربه - فسبحان من يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده فيهابه كل شيء ولا يهاب هو غير خالقه {وابعث في المدائن حاشرين*} أي رجالاً يحشرون السحرة، وأصل الحشر الجمع بكرة {يأتوك} وكأنهم فهموا شدة قلقه فسكنوه بالتعبير بأداة الإحاطة وصيغة المبالغة فقالوا:{بكل سحار} أي بليغ السحر {عليم*} أي متناه في العلم به بعد ما تناهى في التجربة؛ وعبر بالبناء للمفعول إشارة إلى عظمة ملكه فقال: {فجمع} أي بأيسر أمر لما له عندهم من العظمة {السحرة} كما تقدم غير مرة {لميقات يوم معلوم*} في زمانه ومكانه، وهو ضحى يوم الزينة كما سلف في طه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه وافق يوم السبت في أول يوم من سنتهم، وهو يوم النيروز. {وقيل} أي بقول من يقبل لكونه عن فرعون {للناس} أي كافة حثاً لهم على الإسراع إلى الاجتماع بأمر فرعون، وامتحاناً لهم هل رجعوا عن دينه، علماً منه بأن ما ظهر من المعجزة -

ص: 30

التي منها عجزه عن نوع أذى لمن واجهه بما لا مطمع في مواجهته بأدناه - لم يدع لبساً في أنه مربوب مقهور، وأن ذلك موجب لا تباع موسى عليه السلام:{هل أنتم مجتمعون*} أي اجتماعاً أنتم راسخون فيه لكونه بالقلوب كما هو بالأبدان، كلكم ليكون أهيب لكم، وزين لهم هذا القائل البقاء على ما كانوا عليه من الباطل بذكر جانب السحرة وإن كان شرط فيه الغلبة، ولم يسمح بذكر جانب موسى عليه السلام فقال:{لعلنا نتبع السحرة} لأن من امتثل أمر الملك كان حاله حال من يرجى منه اتباع حزبه {إن كانوا هم} أي خاصة {الغالبين*} أي غلبة لا يشك في أنها ناشئة عن مكنة نعرض عن أمر موسى الذي الذي تنازع الملك في أمره، وهذا مرادهم في الحقيقة، وعبر بهذا كناية عنه لأنه أدل على عظمة الملك، وعبر بأداة الشك إظهاراً للإنصاف، واستجلاباً للناس، مع تقديرهم لقطعهم بظفر السحرة.

لما رسخ في أذهانهم في الأزمنة المتطاولة من الضلال الذي لا غفلة لإبليس عن تزيينه مع أن تغيير المألوف أمر في غاية العسر. وقال: {فلما} بالفاء إيذاناً بسرعة حشرهم، إشارة إلى ضخامة ملكه. ووفور عظمته {جاء السحرة} أي الذين كانوا في جميع بلاد مصر {قالوا لفرعون} مشترطين الأجر في حال الحاجة إلى الفعل ليكون ذلك أجدر بحسن الوعد، ونجاح القصد {أئِنََّ لنا لأجراً}

ص: 31

وساقوه مساق الاستفهام أدباً معه، وقالوا:{إن كنا} أي كوناً نحن راسخون فيه {نحن} خاصة {الغالبين*} بأداة الشك مع جزمهم بالغلبة تخويفاً له بأنه إن لم يحسن في وعدهم لم ينصحوا له؛ ثم قيل في جواب من كأنه سأل عن جوابه: {قال} مجيباً إلى ما سألوه: {نعم} أي لكم ذلك، وزادهم ما لا أحسن منه عند أهل الدنيا مؤكداً له فقال:{وإنكم إذاً} أي إذا غلبتم {لمن المقربين*} أي عندي، وزاد {إذاً} هنا زيادة في التأكيد لما يتضمن ذلك من إبعاده عن الإيمان من وضوح البرهان، تخفيفاً على المخاطب بهذا كله صلى الله عليه وسلم، تسلية له في الحمل على نفسه أن لا يكون من يدعوهم مؤمنين، وما بعد ذلك من مسارعة السحرة للإيمان - بعد ما ذكر من إقسامهم بعزته بغاية التأكيد - تحقيق لآية {فظلت أعناقهم لها خاضعين} .

ولما تشوف السامع إلى جواب نبي الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام أجيب بقوله: {قال لهم موسى} عليه السلام، أي مريداً لإبطال سحرهم لأنه لا يتمكن منه إلا بإلقائهم، لا لمجرد إلقائهم، غير مبال بهم في كثرة ولا علم بعد ما خيروه - كما في غير هذه السورة:{ألقوا ما أنتم ملقون*} كائناً ما كان، ازدراء له بالنسبة إلى أمر الله {فألقوا} أي فتسبب عن قول موسى عليه السلام وتعقبه أن ألقوا {حبالهم وعصيهم} التي أعدوها للسحر {وقالوا} مقسمين:

ص: 32

{بعزة فرعون} مؤكدين بأنواع التأكيد {إنا لنحن} أي خاصة لا نستثني {الغالبون*} قول واثق من نفسه مزمع على أن لا يدع باباً من السحر يعرفه إلا أتى به، فكل من حلف بغير الله كأن يقول: وحياة فلان، وحق رأسه - ونحو ذلك، فهو تابع لهذه الجاهليه.

ص: 33

ولما قدم إضمار اسم موسى عليه السلام في الإلقاء الأول لأن الكلام كان معه، فلم يكن إلباس في أنه الفاعل. وكان الكلام هنا في السحرة، وختموا بذكر فرعون وعزته، صرح باسم موسى عليه الصلاة والسلام لنفي اللبس فقال:{فألقى} أي فتسبب عن صنع السحرة وتعقبه أن ألقى {موسى} وقابل جماعة ما ألقوه بمفرد ما ألقى، لأنه أدل على المعجزة، فقالك {عصاه} أي التي جعلناها آية له، وتسبب عن إلقائه قوله:{فإذا هي تلقف} أي تبتلع في الحال بسرعة ونهمة {ما يأفكون*} أي يصرفونه عن وجهه وحقيقته التي هي الجمادية بحيلهم وتخييلهم إلى ظن أنه حيات تسعى {فألقي} أي عقب فعلها من غير تلبث {السحرة ساجدين*} أي فسجدوا بسرعة عظيمة حتى كأن ملقياً ألقاهم بغير اختيارهم من قوة إسراعهم، علماً منهم بأن هذا من عند الله، فأمسوا أتقياء بررة، بعد ما جاؤوا في صبح ذلك اليوم سحرة.

ولما كان كأنه قيل: هذا فعلهم، فما كان قولهم؟ قيل:

ص: 33

{قالوا آمنا برب العالمين*} أي الذي دعا إليه موسى عليه السلام أو ما تكلم؛ ثم خصوه كشفاً لتلبيس فرعون بما لا يحتمل غيره فقالوا بياناً: {رب} ولم يدع داع هنا إلى العدول عن الأصل، فقال عبارة عن كلامهم:{موسى وهارون*} أي اللذين أحسنا إلينا بالتنبيه عليه، والهداية إليه، وصدقهما بما أجرى على أيديهما.

ولما خاف فرعون اتباع الناس لهم، لما يرون مما هالهم من أمرهم، وكان قد تقدم ما يعرف أن المنكر عليهم فرعون نفسه، قال تعالى مخبراً عنه:{قال} من غير ذكر الفاعل - أي فرعون - لعدم اللبس، ومقصود السورة غير مقتض للتصريح كما في الأعراف بل ملائم للإعراض عنه والإراحه منه، منكراً مبادراً موهماً لأنه إنما يعاقب على المبادرة بغير إذن، لا على نفس الفعل، وأنه ما غرضه إلا التثبت ليؤخر بهذا التخييل الناس عن المبادرة بالإيمان إلى وقت ما {آمنتم له} أي لموسى عليه السلام، أفرده بالضمير لأنه الأصل في هذه الرساله، وحقيقة الكلام: أوقعتم التصديق بما أخبر به عن الله لأجله إعظاماً له بذلك {قبل أن ءاذن لكم} أي في الإيمان؛ ثم علل فعلهم بما يقتضي أنه عن مكر وخداع، لا عن حسن اتباع، فقال:{إنه} أي

ص: 34

موسى عليه السلام {لكبيركم} .

ولما كان هذا مشعراً بنسبته له إلى السحر، وأنه أعلم منهم به، فلذلك غلبهم، أوضحه بقوله:{الذي علمكم السحر} فتواعدتم معه على هذا الفعل، لتنزعوا الملك من أربابه، هذا وكل من سمعه يعلم كذبة قطعاً، فإن موسى عليه السلام ما ربي إلا في بيته، واستمرّ حتى فر منهم إلى مدين، لا يعلم سحراً، ولا ألم بساحر، ولا سافر إلا إلى مدين، ثم لم يرجع إلا داعياً إلى الله، ولكن الكذب غالب على قطر مصر، وأهلها اسرع شيء سماعاً له وانقياداً به.

ولما أوقف السامعين بما خيلهم به من هذا الباطل المعلوم البطلان لكل ذي بصيرة، أكد المنع بالتهديد فقال:{فلسوف تعلمون*} أي ما أفعل بكم، أي فتسبب عما فعلتم أني أعاقبكم عقوبة محققة عظيمة، وأتى بأداة التنفيس خشية من أن لا يقدر عليهم فيعلم الجميع عجزه فيؤمنوا، مع ما فيها في الحقيقة على السحرة من التأكيد في الوعيد الذي لم يؤثر عندهم في جنب ما أشهدهم الله من الآية التي مكنتهم في مقام الخضوع؛ ثم فسر ما أبهم بقوله:{لأقطعن} بصيغة التفعيل لكثرة القطع والمقطوعين {أيديكم وأرجلكم} ثم بين كيفية تقطيعها فقال: {من خلاف} وزاد في التهويل فقال: {ولأُصلبنكم أجمعين*}

ص: 35

ثم استأنف تعالى حكاية جوابهم بقوله: {قالوا} .

ولما كان قد تقدم هنا أنهم أثبتوا له عزة توجب مزيد الخوف منه، حسن قولهم:{لا ضير} أي لا ضرر أصلاً علينا تحصل به المكنة منا فيما هددتنا به، بل لنا في الصبر عليه إن وقع أعظم الجزاء من الله، ورد النفي الشامل في هذه السورة إيذاناً بأنه لم يقدر فرعون على عذابهم، تحقيقاً لما في أول القصة من الإشارة إلى ذلك ب {كلا} و {مستمعون} فإن الإمكان من تابعي موسى عليه السلام يؤذيه ويضيق صدره، ولما يأتي من القصص من صريح العبارة في قوله {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} . ثم عللوا ذلك بقولهم:{إنا} أي بفعلك ذلك فينا إن قدرك الله عليه {إلى ربنا} أي المحسن إلينا وحده {منقلبون*} أي ولا بد لنا من الموت، فلنكن على ما حكم به ربنا من الحالات، وإنما حكمك على هذا الجسد ساعة من نهار، ثم لا حكم على الروح إلا الله الذي هو جدير بأن يثيبنا على ذلك نعيم الأبد. وذلك معنى قولهم معللين ما قبله:{إنا نطمع أن يغفر} اي يستر ستراً بليغاً {لنا ربنا} الذي أحسن إلينا بالهداية {خطايانا} أي التي قدمناها على كثرتها؛ ثم عللوا طمعهم مع كثرة الخطايا بقولهم: {أن كنا} أي كوناً هو لنا كالجبلة {أول المؤمنين*} أي من أهل هذا المشهد، وعبروا بالطمع إشارة إلى أن جميع أسباب السعادة منه تعالى،

ص: 36

فكأنه لا سبب منهم أصلاً.

ص: 37

ولما قص سبحانه من حال الدعاء ما كفى في التسلية من قصد هذين النبيين بالأذى والتهكم بمن دعوا إليه، وجعلهما الأعليين، ولم يضرهما ضعفهما وقلتهما، ولا نفع عدوهما قوته وكثرته، شرع يسلي بما أوقعه في حال السير، فقال طاوياً ما بقي منه لأن هذا ذكّر به، عاطفاً على هذه القصة:{وأوحينا} أي بما لنا من العظمة حين أردنا فصل الأمر وإنجاز الموعود {إلى موسى أن أسر} أي سر ليلاً، حال اشتغال فرعون وجنوده بموت أبكارهم وتجهيزهم لهم {بعبادي} أي بني إسرائيل الذين كرمتهم مصاحباً لهم إلى ناحية بحر القلزم، غير مبال بفرعون ولا منزعج منه، وتزودوا اللحم والخبز الفطير للإسراع، وألطخوا أعتابكم بالدم، لأني أوصيت الملائكة الذين يقتلون الأبكار أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم؛ ثم علل أمر له بالسير في الليل بقوله:{إنكم متبعون*} أي لا تظن أنهم لكثرة ما رأوا من الآيات يكفون عن اتباعكم، فأسرع بالخروج لتبعدوا عنهم إلى الموضع الذي قدرت في الأزل أن يظهر فيه مجدي، والمراد توافيهم عند البحر،

ص: 37

ولم يكتم اتباعكم عن موسى عليه السلام لعدم تأثره به لما تحقق عنده من الحفظ لما تقدم به الوعد الشريف بذلك التأكيد.

ولما كان التقدير: فأسرى بهم امتثالاً للأمر بعد نصف الليل، عطف عليه قوله:{فأرسل فرعون} أي لما أصبح وأعلم بهم {في المدائن حاشرين*} أي رجالاً يجمعون الجنود بقوة وسطوة وإن كرهوا، ويقولون تقوية لقلوبهم وتحريكاً لهممهم:{إن هؤلاء} إشارة بأداة القرب تحقيراً لهم إلى أنهم في القبضة وإن بعدوا، لما بهم من العجز، وبآل فرعون من القوة، فليسوا بحيث يخاف قوتهم ولا ممانعتهم {لشرذمة} أي طائفة وقطعة من الناس.

ولما كانت قلتهم إنما هي بالنسبة إلى كثرة آل فرعون وقوتهم وما لهم عليهم من هيبة الاستعباد، وكان التعبير بالشرذمة موهماً لأنهم في غاية القلة، أزال هذا الوهم بالتعبير بالجمع دون المفرد ليفيد أنه خبر بعد خبر، لا صفة، وأن التعبير بالشرذمة إنما هو للإشارة إلى تفرق القلوب، والجمع ولا سيما ما للسلامة مع كونه أيضاً للقلة أدل على أنهم أوزاع، وفيه أيضاً إشارة إلى أنهم مع ضعفهم بقلة العدد آيسون من إسعاف بمدد. وليس لهم أهبة لقتال لعدم العدة

ص: 38

لأنهم لم يكونوا قط في عداد من يقاتل كما تقول لمن تزدريه: هو أقل من أن يفعل كذا، فقال:{قليلون*} أي بالنسبة إلى ما لنا من الجنود التي لا تحصى وإن كانوا في أنفسهم كثيرين، فلا كثرة لهم تمنعكم أيها المحشورون من اتباعهم؛ قال البغوي عن ابن مسعود رضي الله عنهما: كانوا ستمائة ألف وتسعين ألفاً، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون - انتهى.

وكل هذا بيان لأن فرعون مع تناهي عظمته لم يقدر على أثرٍ ما في موسى عليه السلام ولا من اتبعه تحقيقاً لما تقدم من الوعد به أول القصة.

ولما ذكر ما يمنع الخوف من اتباعهم، ذكر ما يوجب الحث عليه ويحذر من التقاعس عنه فقال:{وإنهم لنا} ونحن على ما نحن عليه من الكثرة والعظمة {لغائظون*} أي بما فجعونا به من أنفسهم وما استعاروه من الزينة من أواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة، فلا رحمة في قلوبكم تحميهم.

ولما كان مدار مادة «شرذم» على التقطع. فكان في التعبير بها إشارة إلى أنهم مع القلة متفرقون ليسوا على قلب واحد، وذكر أن

ص: 39

في اتباعهم شفاء الغلل، أتبعه ما ينفي عن المتقاعد العلل، فقال:{وإنا لجميع} أي أنا وأنتم جماعة واحدة مجتمعون بإياله الملك على قلب واحد.

ولما أشار بهذا الخبر إلى ضد ما عليه بنو إسرائيل مع قلتهم مما هو سبب للجرأة عليهم، أخبر بخبر ثان يزيد الجرأة عليهم، وفي مضادة لما أشير إليه ب «قليلون» من الاستضعاف فقال:{حاذرون*} أي ونحن - مع إجماع قلوبنا - من شأننا وطبعنا الحذر، فنحن لا نزال على أهبة القتال، ومقارعة الأبطال، لا عائق لنا عنه بسفر ولا بغيره، أما من جهتي فبإفاضة الأموال عليكم، وإدرار الأرزاق فيكم، ووضع الأشياء في مواضعها في الأرض والرجال، وأما من جهتكم فباستعمال الأمانة من طاعة الملك في وضع كل ما يعطيكم في مواضعه من إعداد السلاح والمراكب والزاد، وجميع ما يحتاج إليه المحارب، مع ما لكم من العزة والقوة وشماخة الأنوف وعظم النفوس مع الجرأة والإقدام والثبات في وقف الحقائق، المحفوظ بالعقل المحوط بالجزم المانع من اجتراء الأخصام عليكم، ومكرهم لديكم، فإنه يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر بأن يجزئه أربعة أجزاء: أحدها لوزرائه وكتابه وجنده،

ص: 40

والثاني لحفر الأنهار وعمل الجسور، والثالث له ولولده، والرابع يفرق من مدن الكور، فإن لحقهم ظمأ أو استبحار أو فساد علة أو موت عوامل قوّاهم به؛ وري أنه قصده قوم فقالوا: نحتاج إلى أن نحفر خليجاً لنعمر ضياعنا، فإذن في ذلك واستعمل عليهم عاملاً فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال، فسأل عن مبلغ ما أنفقوه على خليجهم، فإذا هو مائة ألف دينار، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها، فقال: اطرحوها عليهم، فإن الملك إذا استغن بمال رعيته افتقر وافتقروا، وأن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا.

ولما كان التقدير: فأطاعوا أمره، ونفوا على كل صعب وذلول، عطف عليه قوله معلماً بما آل إليه أمرهم:{فأخرجناهم} أي بما لنا من القدرة، إخراجاً حثيثاً مما لا يسمح أحد بالخروج منه {من جنات} أي بساتين يحق لها أن تذكر {وعيون*} لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر {وكنوز} من الأموال تعرف بمقدار ما هم فيه من النعم الفاضلة عنهم، مع ما هم فيه من تمام الاستعداد لمثل هذا المراد {ومقام} من المنازل {كريم*} أي على صفة ترضي الرائي له لأنه على النهاية من الحسن لا يقال فيه: ليته كان كذا، أو كان كذا.

ص: 41

ولما كان الخروج عن مثل هذا مما يستنكر، أشار إلى عظمة القدرة

ص: 41

عليه بقوله: {كذلك} أي مثل ذلك الإخراج العجيب الذي أراده فرعون من قومه في السرعة والكمال الهيبة أخرجناهم نحن بأن يسرنا له ولهم ذلك، ووفرنا لهم الأسباب، لما اقتضته حكمتنا، أو مثل ذلك الخروج الذي قصصناه عليك أخرجناهم، أي كان الواقع من خروجهم مطابقاً لما عبرنا به عنه، أو الأمر الذي قصصناه كله كما قلنا وأولها أقعدها وأحسنها وأجودها {وأورثناها} أي تلك النعم السرية بمجرد خروجهم بالقوة وبإهلاكهم بالفعل {بني إسرائيل*} أي جعلناهم بحيث يرثونها لأنا لم نبق لهم مانعاً يمنعهم منها بعد أن كانوا مستبعدين تحت أيدي أربابها، وأما إرثهم لها بالفعل ففيه نظر لقوله في الدخان {قوماً آخرين} .

ولما وصف الإخراج، وصف أثره فقال مرتباً عليه بالفعل وعلى الإيراث بالقوة:{فأتبعوهم} أي جعلوا أنفسهم تابعة لهم {مشرقين*} أي داخلين في وقت شروق الشمس، أي طلوعها من صبيحة الليلة التي سار في نصفها بنو إسرائيل، ولولا تقدير العزيز العليم بخرق ذلك للعادة لم يكن على حكم العادة في أقل من عشرة أيام، فإنه أمر يعجز الملوك مثله، فيا له من حشر ما أسرعه! وجهاز ما أوسعه! واستمروا

ص: 42

إلى أن لحقوهم عند بحر القلزم كما تقدم في الأعراف شرح ذلك عن التوراة، وتقدم سر تسييرهم في تلك الطريق {فلما تراءى الجمعان} أي صارا بحيث يرى كل منهما الآخر {قال أصحاب موسى} ضعفاً وعجزاً استصحاباً لما كانوا فيه عندهم من الذل، ولأنهم أقل منهم بكثير بحيث يقال: إن طليعة آل فرعون كانت على عدد بني إسرائيل، وذلك محق لتقليل فرعون لهم، وكأنه عبر عنهم ب «أصحاب» دون «بني إسرائيل» لأنه كان قد آمن كثير من غيرهم:{إنا لمدركون*} أي لأنهم قد وصلوا ولا طريق لنا وقد صرنا بين سدين من حديد وماء، العدو وراءنا والماء أمامنا {قال} أي موسى عليه الصلاة والسلام وثوقاً بوعد الله، ناطقاً بمثل ما كلمه به ربه في أول القصة من قوله:{كلا} أي لا يدركونكم أصلاً؛ ثم علل ذلك تسكيناً لهم بقوله: {إن معي ربي} فكأنهم قالوا: وماذا عساه يفعل وقد وصلوا؟ قال: {سيهدين*} أي بوعد مؤكد عن قرب، إلى ما أفعل مما فيه خلاصكم، وتقدم في براءة سر تقديم المعية وخصوصها والتعبير باسم الرب {فأوحينا} أي فتسبب عن كلامه الدال على المراقبة أنا أوحينا؛ ونوه باسمه الكريم جزاء له على ثقته به سبحانه

ص: 43

فقال: {إلى موسى} وفسر الوحي الذي فيه معنى القول بقوله: {أن اضرب بعصاك البحر} أي الذي أمامكم، وهو بحر القلزم الذي يتوصل أهل مصر منه إلى الطور وإلى مكة المشرفة وما والاها {فانفلق} أي فضربه فانشق بسبب ضربه لما ضربه امتثالاً لأمر الله وصار اثني عشر فرقاً على عدد أسباطهم {فكان كل فرق} أي جزء وقسم عظيم منه {كالطود} أي الجبل في إشرافه وطوله وصلابته بعدم السيلان {العظيم*} المتطاول في السماء الثابت لا يتزلزل، لأن الماء كان منبسطاً في أرض البحر، فلما انفرق وانكشفت فيه الطرق انضم بعضه إلى بعض فاستطال وارتفع في السماء.

ولما كان التقدير: فأدخلنا كل شعب منهم في طريق من تلك الطرق، عطف عليه:{وأزلفنا} أي قربنا بعظمتنا من قوم موسى عليه السلام؛ قال البغوي. قال أبو عبيدة: جمعنا، ومنه ليلة المزدلفة، أي ليلة الجمع.

ولما كان هذا الجمع في غاية العظمة وعلو الرتبة، أشار إلى ذلك بأداة البعد فقال:{ثم} أي هنالك، فإنها ظرف مكان للبعيد {الآخرين*} أي فرعون وجنوده {وأنجينا موسى ومن معه} وهم الذين اتبعوه من قومه وغيرهم {أجمعين*} أي لم نقدر على أحد

ص: 44

منهم الهلاك.

ولما كان الإغراق بما به الإنجاء - مع كونه أمراً هائلاً - عجيباً وبعيداً عبر بأداة البعد فقال: {ثم أغرقنا} أي إغراقاً هو على حسب عظمتنا {الآخرين*} أي فرعون وقومه اجمعين، لم يفلت منهم أحد.

ولما قام عذر موسى عليه السلام فيما استدفعه أول القصة من كيد فرعون بما ثبت له من العظمة والمكنة في كثرة الجند وعظيم الطاعة منهم له في سرعة الاجتماع الدالة على مكنتهم في أنفسهم، وعظمته في قلوبهم، رغبة ورهبة، وظهر مجد الله في تحقيق ما وعد به سبحانه من الحراسة، وزاد ما أقر به العيون، وشرح به الصدرو، وكان ذلك أمراً يهز القوى سماعه، ويروع الأسماع تصوره وذكره، قال منبهاً على ذلك:{إن في ذلك} أي الأمر العظيم العالي الرتبة من قصة موسى وفرعون وما فيها من العظات {لآية} أي علامة عظيمة على ما قال الرسول موجبة للإيمان به من أن الصانع واحد فاعل بالاختبار، قادر على كل شيء، وأنه رسوله حقاً {وما كان أكثرهم} أي الذين شاهدوها والذي وعظوا بسماعها {مؤمنين} لله أي متصفين بالإيمان الثابت، أما القبط فما آمن منهم إلا السحرة ومؤمن آل فرعون وامرأة فرعون

ص: 45

والمرأة التي دلتهم على عظام يوسف عليه السلام على ما يقال، وأما بنو إسرائيل فكان كثير منهم مزلزلاً يتعنت كل قليل، ويقول ويفعل ما هو كفر، حتى تداركهم الله تعالى على يدي موسى عليه السلام ومن بعده، وأول ما كان من ذلك سؤالهم إثر مجاوزة البحر أن يجعل لهم إلهاً الأصنام التي مروا عليها، وأما غيرهم ممن تأخر عنهم فحالهم معروف، وأمرهم مشاهد مكشوف {وإن ربك} أي المحسن إليك بإعلاء أمرك، واستنقاذ الناس من ظلام الجهل على يدك {لهو العزيز} أي القادر على الانتقام من كل فاجر {الرحيم*} أي الفاعل فعل البليغ الرحمة، فهو يمهل ويدر النعم، ويحوط من النقم، ولا يمهل، بل يرسل رسلاً، وينزل معهم ما بين به ما يرضيه وما يسخطه، فلا يهلك إلا بعد الإعذار، فلا تستوحش ممن لم يؤمن، ولا يهمنك ذلك.

ص: 46

ولما أتم سبحانه ما أراد من قصة موسى عليه السلام، أتبعه دلالة على رحيميته قصة إبراهيم عليه السلام لما تقدم أنه شاركه فيه مما يسلي عما وقع ذكره عنهم من التعنتات في الفرقان، ولما اختص به من مقارعة أبيه وقومه في الأوثان، وهو أعظم آباء العرب، ليكون ذلك حاملاً لهم

ص: 46

على تقليده في التوحيد إن كانوا لا ينفكون عن التقليد، وزاجراً عن استعظام تسفيه آبائهم في عبادتها، وتعبيره سبحانه للسياق قبل وبعد، وتعبيره بقوله:{واتل} أي اقرأ قراءة متتابعة - مرجح للتقدير الأول في {وإذ} من جعله «اذكر» وتغييره في التعبير بها لسياق ما تقدم وما تأخر لتنبيه العرب على اتباعه لما لهم به من الخصوصية {عليهم} أي على هؤلاء المغترين بالأوثان، المنكرين لرسالة البشر {نبأ إبراهيم*} أي خبره العظيم في مثل ذلك {إذ} أي حين {قال لأبيه وقومه} منبهاً لهم على ضلالهم، لا مستعلماً لأنه كان عالماً بحقيقة حالهم:{ما} أي أي شيء، وصور لهم حالهم تنبيهاً لهم على قباحتها فعبر بالمضارع فقال:{تعبدون*} أي تواظبون على عبادته {قالوا} مبتهجين بسؤاله، مظهرين الافتخار في جوابهم بإطالة الكلام:{نعبد أصناماً فنظل} أي فيتسبب عن عبادتنا لها أنا نوفي حق العبادة بأن ندوم {لها عاكفين*} أي مطيفين بها على سبيل الموظبة متراكمين بعضنا خلف بعض حابسين أنفسنا تعظيماً

ص: 47

لها، فجروا على منوال هؤلاء في داء التقليد الناشىء عن الجهل بنفس العبادة وبظنهم مع ذلك أنهم على طائل كبير، وأمر عظيم، ظفروا به، مع غفلة الخلق عنه - كما دل عليه خطابهم في هذا الكلام الذي كان يغني عنه كلمة واحدة، وهذا هو الذي أوجب تفسير الظلول بمطلق الدوام وإن كان معناه الدوام بقيد النهار، وكأنهم قصدوا بما يدل على النهار - الذي هو موضع الاشتغال والسهرة - الدلالة على الليل من باب الأولى، مع شيوع استعماله أيضاً مطلقاً نحو {فظلت أعناقهم لها خاضعين} ، وزاد قوم إبراهيم عليه السلام أن استمروا على ضلالهم وأبوه معهم فكانوا حطب النار، ولم يتكمن من إنقاذهم من ذلك، ولم تكن لهم حيلة إلا دعاؤهم، فهو أجدر بشديد الحزن وببخع نفسه عليهم وهو موضع التسلية.

ولما فهم عنهم هذه الرغبة، أخذ يزهدهم فيها بطريق الاستفهام الذي لا أنصف منه عن أوصاف يلجئهم السؤال إلى الاعتراف بسلبها عنهم، مع كل عاقل إذا تعقل أن لا تصح رتبة الإلهية مع فقد واحدة منها، فكيف مع فقدها كلها؟ فقال تعالى مخبراً عنه:{قال} معبراً عنها إنصافاً بما يعبر به عن العقلاء لتنزيلهم إياها منزلتهم:

ص: 48

{هل يسمعونكم} أي دعاءكم مجرد سماع؛ ثم صور لهم حالهم ليمنعوا الفكر فيه، فقال معبراً بظرف ماض وفعل مضارع تنبيهاً على استحضار جميع الزمان ليكون ذلك أبلغ في التبكيت:{إذ تدعون*} أي استحضروا أحوالكم معهم من أول عبادتكم لهم وإلى الآن: هل سمعوكم وقتاً ما؟ ليكون ذلك مرجياً لكم لحصول نفع منهم في وقت ما.

ولما كان الإنسان قد يعكف على الشيء - وهو غير سامع - لكن لنفعه له في نفسه أو ضره لعدوه كالنار مثلاً، وكان محط حال العابد والداعي بالقصد الأول بالذات جلب النفع، قال:{أو ينفعونكم} أي على العبادة كما ينفع أقل شيء تقتنونه {أو يضرون*} على الترك: {قالوا} : لا والله! ليس عندهم شيء من ذلك {بل وجدنا آباءنا كذلك} أي مثل فعلنا هذا العالي الشأن، ثم صوروا حالة آبائهم في نفوسهم تعظيماً لأمرهم فقالوا:{يفعلون*} أي فنحن نفعل كما فعلوا لأنهم حقيقون منا بأن لا نخالفهم، مع سبقهم لنا إلى الوجود، فهم أرصن منا عقولاً، وأعظم تجربة، فلولا أنهم رأوا ذلك حسناً، ما واظبوا عليه،

ص: 49

هذا مع أنهم لو سلكوا طريقاً حسية حصل لهم منها ضرر حسي ما سلكوها قط، ولكن هذا الدين يهون على الناس فيه التقليد بالباطل قديماً وحديثاً.

ولما وصلوا إلى التقليد المخض الخالي عن أدنى نظر كما تفعل البهائم والطير في تبعها لأولها {قال} معرضاً عن جواب كلامهم بنقص، إشارة إلى أنه ساقط لا يرتضيه من شم رائحة الرجولية:{أفرأيتم} أي فتسبب عن قولكم هذا أني أقول لكم: أرأيتم، اي إن لم تكونوا رأيتموهم رؤية موجبة لتحقق أمرهم فانظروهم نظراً شافياً {ما كنتم} أي كوناً هو كالجبلة لكم {تعبدون*} مواظبين على عبادتهم {أنتم} .

ولما أجابوه بالتقليد، قال لهم ما معناه، رقوا تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته، فإن التقدم والأولوية لا تكون برهاناً على الصحة، والباطل لا ينقلب حقاً بالقدم، وذلك مراده من قوله:{وآباؤكم الأقدمون*} أي الذين هم أقدم ما يكونون: هل لهم وصف غير ما أقررتم به

ص: 50

من عدم السماع والنفع والضر؟ {فإنهم} أي فتسبب عن رؤيتكم ووصفكم لهم بما ذكرتم أني أخبركم إخباراً مؤكداً أنهم.

ولما كانت صيغة فعول للمبالغة، أغنت في العدو والصديق عن صيغة الجمع ولا سيما وهي شبيهة بالمصادر كالقبول والصهيل، فقال مخبراً عن ضمير الجمع:{عدو لي} أي أناصفهم بالسوء وأعاملهم في إبطالهم ومحقهم معاملة الأعداء وكل من عبدهم كما قال في الآية الأخرى {لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} [الأنبياء: 54]، {أف لكم ولما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 57] و {تالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 67] .

ولما كانوا هم مشركين، وكان في آبائهم الأقدمين من عبد الله وحده. قال:{إلا رب العالمين*} أي مدبر هذه الأكوان كلها - كما قال موسى عليه السلام لأن ذلك أشهر الأوصاف وأظهرها، فإنه ليس بعدوي، بل هو وليّي ومعبودي؛ ثم شرع يصفه بما هم به عالمون من أنه على الضد الأقصى من كل ما عليه أصنامهم فقال:{الذي} ولما لم يكن أحد يدعي الخلق لم يحتج إلى ما يدل على الاختصاص فقال: {خلقني} أي أوجدني على هيئة التقدير والتصوير

ص: 51

{فهو} أي فتسبب عن تفرده بخلقي أنه هو لا غيره {يهدين*} أي إلى الرشاد، ولأنه لا يعلم باطن المخلوق ويقدر على كمال التصرف فيه غير خالقه، ولا يكن خالقه إلا سمعياً بصيراً ضاراً نافعاً، له الكمال كله، ولا شك أن الخلق للجسد، والهداية للروح، وبالخلق والهداية يحصل جميع المنافع، والإنسان له قالب من عالم الخلق، وقالب من عالم الأمر، وتركيب القالب مقدم كما ظهر بهذه الآية، ولقوله

{فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29] وأمثال ذلك، وذكر الخلق بالماضي لأنه لا يتجدد في الدنيا، والهداية بالمضارع لتجددها وتكررها ديناً ودنيا {والذي هو} أي لا غيره {يطعمني ويسقين} ولو أراد لأعدم ما آكل وما أشرب أو أصابني بآفة لا أستطيع معها أكلاً ولا شرباً.

ص: 52

ولما كان المرض ضرراً، نزهه عن نسبته إليه أدباً وإن كانت نسبة الكل إليه سبحانه معلومة، بقوله:{وإذا مرضت} باستيلاء بعض الأخلاط على بعض لما بينها من التنافر الطبيعي {فهو} أي وحده {يشفين*} بسبب تعديل المزاج بتعديل الأخلاط وقسرها على الاجتماع والاعتدال، لا طبيب ولا غيره وإن تسببت أنا في أمراض نفسي ببرد أو حر أو طعام أتناوله أو غير ذلك لأنه قادر على ما يريد.

ص: 52

ولما كان الإنسان مطبوعاً على الاجتهاد في حفظ حياته وبقاء مهجته، نسب فعل الموت إليه إعظاماً للقدرة فقال:{والذي يميتني} أي حساً وإن اجتهدت في دفع الموت، ومعنى وإن اجتهدت في دفع الجهل.

ولما كان الإحياء حساً بالروح ومعنى بالهداية عظيماً، أتى بأداة التراخي لذلك ولطول المكث في البرزخ فقال:{ثم يحيين} للمجازاة في الآخرة كما شفاني من المرض وإن وصلت إلى حد لا أرجى فيه، ولم يأت هنا بما يدل على الحصر لأنه لا مدعي للإحياء والإماتة إلا ما ذكره سبحانه عن نمرود في سورة البقرة، وأن إبراهيم عليه السلام أبهته ببيان عجزه في إظهار صورة من مكان من الأمكنة بلا شرط من روح ولا غيرها، وإذا عجز عن ذلك كان عجزه عن إيجاد صورة أبين، فكيف إذا انضم إلى ذلك إفادتها روحاً أو سلبها منها، فعدّ ادعاؤه لذلك - مع القاطع المحسوس الذي أبهته - عدماً، والله أعلم.

ولما ذكر البعث، ذكر ما يترتب عليه فقال:{والذي أطمع} هضماً لنفسه واطراحاً لأعماله وإشارة إلى أنه بالنسبة إلى الحضرة الأعظمية غير قادرة لها حق قدرها، فإن الطمع كما قال الحرالي في البقرة

ص: 53

تعلق البال بالشيء من غير تقدم سبب - انتهى. فلذلك لم يعد له عملاً {أن يغفر} أي يمحو ويستر.

ولما كان الله سبحانه منزهاً عن الغرض، فكانت المغفرة لحظ العبد ليس غير، قال:{لي} وأسند الخطيئة إليه هضماً لنفسه وتواضعاً لربه فقال: {خطيئتي} أي تقصيري عن أن أقدره حق قدره، فإن الضعيف العاجز لا يبلغ كل ما ينبغي من خدمة العلي الكبير، وما فعله فهو بإقداره سبحانه فلا صنع له في الحقيقة أصلاً {يوم الدين*} أي الجزاء.

ولما أثنى على الله تعالى بما هو أهله، وختم بذكر هذا اليوم العظيم، دعا بما ينحي عن هوله، فدل صنيعه على أن تقديم الثناء على السؤال أمر مهم، وله في الإجابة أثر عظيم، فقال ملتفتاً إلى مقام المشاهدة إشارة إلى أن الأمر مهول، وأنه لا ينقذ من خطره إلا عظيم القدرة، لما طبعت عليه النفس من النقائص:{رب} أي أيها المحسن إليّ {هب لي حكماً} أي عملاً متقناً بالعلم، وأصله بناء الشيء على ما توجبه الحكمة، ولما كان الاعتماد إنما هو على محض الكرم، فإن من نوقش الحساب عذب، قال:{وألحقني بالصالحين*} أي الذين جعلتهم أئمة للمتقين في الدنيا والآخرة، وهم من كان قوله

ص: 54

وفعله صافياً عن شوب فساد.

ولما كان الصالح قد لا يظهر عمله، وكان إظهار الله له مجلبة للدعاء وزيادة في الأجر، قال:{واجعل لي لسان صدق} أي ذكراً جميلاً، وقبولاً عاماً، وثناء حسناً، بما أظهرت مني من خصال الخير {في الآخرين*} أي الناس الذين يوجدون بعدي إلى يوم الدين، لأكون للمتقين إماماً، فيكون لي مثل أجورهم، فإن «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» وقد كان ذلك إجابة من الله تعالى لدعائه، ومن أعظمه أن جعله الله شجرة مباركة فرع منها الأنبياء الذين أحيى بهم عليهم الصلاة والسلام ذكره الذي من أعظمه ما كان على لسان أعظمهم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم من قوله:«صل على محمد كما صليت على إبراهيم» إلى آخره.

ولما طلب سعادة الدنيا، وكانت لا نفع لها إلا باتصالها بسعادة الآخرة التي هي الجنة، وكانت الجنة لا تنال إلا بمنه، لا بشيء من ذلك، ولذلك شبه إدخالها بالإرث الذي يحصل بغير اكتساب من الوارث وهو أقوى أسباب الملك، قال:{واجعلني} أي مع ذلك كله

ص: 55

بفضلك ورحمتك {من ورثة جنة النعيم*} .

ولما دعا لنفسه، ثنى بأحق الخلق ببره فقال:{واغفر لأبي} ثم علل دعاءه بقوله: {إنه كان} في أيام حياته {من الضالين*} والظاهر أن هذا كان قبل معرفته بتأبيد شقائه، ولذلك قال:{ولا تخزني} أي تهني بموته على ما يوجب دخوله النار ولا بغير ذلك {يوم يبعثون*} أي هؤلاء المنكرون للبعث، وكأن هذا الدعاء كان بحضورهم في الإنكار عليهم في عبادة الأصنام، والظاهر أن تخصيص الدعاء بأبيه لأن أمه كانت آمنت كما ورد عن. . . فقد صح أنه يقول يوم القيامة: يا رب! إنك وعدتني ألا تخزيني، أي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيبدل الله صورة أبيه صورة ذيخ ثم يلقي به في النار - كما رواه البخاري في غير موضع عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأن الله تعالى يقول له:«إني حرمت الجنة على الكافرين» ولو كانت أمة كافرة لسأله فيها.

ص: 56

ولما نبه على أن المقصود هو الآخرة، صرح بالتزهيد في الدنيا بتحقير أجل ما فيها فقال:{يوم لا ينفع} أي أحداً {مال} أي

ص: 56

يفتدي به أو يبذله لشافع أو ناصر مقاهر {ولا بنون*} ينتصر بهم أو يعتضد فكيف بغيرهم {إلا من أتى الله} أي الملك الأعظم الذي له الغنى المطلق في هذا الموطن {بقلب سليم*} أي عن مرض غيّره عن الفطرة الأولى التي فطره الله عليها، وهي الإسلام الذي رأسه التوحيد، والاستقامة على فعل الخير، وحفظ طريق السنة كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ليس فيها من جدعاء فإن {المال والبنون} ينفعانه بما تصرف فيهما من خير، والاستثناء مفرغ، والظاهر أن قوله {وأزلفت} أي قربت بأيسر وجه حال من واو «يبعثون» {الجنة للمتقين*} وعرف أهل الموقف أنها لهم خاصة تعجيلاً لسرورهم وزيادة في شرفهم {وبرزت} أي كشفت كشفاً عظيماً سهلاً {الجحيم} أي النار الشديدة التأجج، وأصلها نار عظيمة في مهواة بعضها فوق بعض {للغاوين*} أي الضالين الهالكين بحيث عرف أهل الموقف أنها لهم {وقيل لهم} تبكيتاً وتنديماً وتوبيخاً، وأبهم القائل ليصلح لكل أحد، تحقيراً لهم، ولأن المنكىء نفس القول لا كونه من معين:{أين ما كنتم} بتسلك الأخلاق التي هي كالجبلات {تعبدون*} أي

ص: 57

في الدنيا على سبيل التجديد والاستمرار. وحقر معبوداتهم بقوله: {من دون} أي من أدنى رتبة من رتب {الله} أي الملك الذي لا كفوء له، وكنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم ويقونكم شر هذا اليوم {هل ينصرونكم} فيمنعون عنكم ما برز لكم {أو ينتصرون*} أي هم بالدفع عن أنفسهم.

ولما تسبب عن هذا التبريز والقول إظهار قدرته تعالى وعجزهم بقذفهم فيها قال: {فكبكبوا} أي الأصنام ونحوها، قلبوا وصرعوا ورموا، قلباً عظيماً مكرراً سريعاً من كل من أمره الله بقلبهم بعد هذا السؤال، إظهاراً لعجزهم بالفعل حتى عن الجواب قبل الجواب {فيها} أي في مهواة الجحيم قلباً عنيفاً مضاعفاً كثيراً بعضهم في أثر بعض {هم} أي الأصنام وما شابهها مما عبد من الشاطين ونحوهم {والغاوون*} أي الذي ضلوا بهم {وجنود إبليس} من شياطين الإنس والجن {أجمعون*} .

ولما علم بهذا أنهم لم يتمكنوا من قول في جواب استفامهم توبيخاً، وكان من المعلوم أن الإنسان مطبوع على أن يقول في كل شيء ينوبه ما يثيره له إدراكه مما يرى أنه يبرد من غلته، وينفع من علته، تشوف السامع إلى معرفة قولهم بعد الكبكبة، فأشير إلى ذلك

ص: 58

بقوله: {قالوا} أي العبدة {وهم فيها} أي الجحيم {يختصمون} أي مع المعبودات: {تالله} أي الذي له جميع الكمال {إن كنا لفي ضلال مبين*} أي ظاهر جداً لمن كان له قلب {إذ} أي حين {نسويكم} في الرتبة {برب العالمين*} أي الذين فطرهم ودبرهم حتى عبدناكم {وما أضلنا} أي ذلك الضلال المبين عن الطريق البين {إلا المجرمون*} أي العريقون في صفة الإجرام، المقتضي لقطع كل ما ينبغي أن يوصل {فما} أي فتسبب عن ذلك أنه ما {لنا} اليوم؛ وزادوا في تعميم النفي بزيادة الجارّ فقالوا:{من شافعين*} يكونون سبباً لإدخالنا الجنة، لأنا صرفنا ما كان يجب علينا لذي الأمر إلى من لا أمر له؛ ولعله لم يفرد الشافع لأنهم دخلوا في الشفاعة العظمى.

ص: 59

ولما كان الصديق قد لا يكون أهلاً لأن يشفع، قالوا تأسفاً على أقل ما يمكن:{ولا صديق} أي يصدق في ودنا ليفعل ما ينفعنا. ولما كان أصدق الصداقة ما كان من القريب قال: {حميم*} أي قريب، وأصله المصافي الذي يحرقه ما يحرقك، لأنا قاطعنا بذلك كل من له أمر في هذا اليوم؛ وأفرد تعميماً للنفي وإشارة إلى قلته في حد ذاته أو عدمه.

ص: 59

ولما وقعوا في هذا الهلاك، وانتفى عنهم الخلاص، تسبب عنه تمنيهم المحال فقالوا:{فلو أن لنا كرة} أي رجعة إلى الدنيا {فنكون من المؤمنين*} أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً لازماً، فأزلفت لهم الجنة.

ولما كان في هذه القصة أعظم زاجر عن الشرك، وآمر بالإيمان، نبه على ذلك بقوله:{إن في ذلك} أي هذا الأمر العظيم الذي قصصته ن قول إبراهيم عليه السلام في إقامة البرهان على إبطال الأوثان، ونصب الدليل على أنه لا حق إلا الملك الجليل الديان، وترغيبه وترهيبه وإرشاده إلى التزود في أيام المهلة {لآية} أي عظيمة على بطلان الباطل وحقوق الحق {وما} أي والحال أنه ما {كان أكثرهم} أي الذين شهدوا منه هذا الأمر العظيم والذين سمعوه عنه {مؤمنين*} أي بحيث صار الإيمان صفة لهم ثابتة، وفي ذلك أعظم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأعظم آبائه عليهم الصلاة والسلام {وإن ربك} أي المحسن إليك بإرسالك وهداية الأمة بك {لهو العزيز} أي القادر على إيقاع النقمة بكل من خالفه حين يخالفه {الرحيم*} أي الفاعل فعل الراحم في إمهاله العصاة مع إدرار النعم، ودفع النقم، وإرسال الرسل، ونصب الشرائع، لبيان ما يرضاه ليتبع، وما يسخطه ليتجنب،

ص: 60

فلا يهلك إلا بعد إقامة الحجة بإيضاح المحجة.

ولما أتم سبحانه قصة الأب الأعظم الأقرب، أتبعها - دلالة على وصفي العزة والرحمة - قصة الأب الثاني، مقدماً لها على غيرها، لما له من القدم في الزمان، إعلاماً بأن البلاء قديم، ولأنها أدل على صفتي الرحمة والنقمة التي هي أثر العزة بطول الإملاء لهم على طول مدتهم، ثم تعميم النقمة مع كونهم جميع أهل الأرض فقال:{كذبت} بإثبات التاء اختياراً للتأنيث - وأن كان تذكير القوم أشهر - للتنبيه على أن فعلهم أخس الأفعال، أو إلى أنهم مع عتوهم وكثرتهم كانوا عليه سبحانه أهون شيء وأضعفه بحيث جعلهم هباء منثوراً وكذا من بعدهم {قوم نوح} وهو أهل الأرض كلهم من الآدميين قبل اختلاف الأمم بتفرق اللغات {المرسلين*} أي بتكذيبهم نوحاً عليه السلام، لأنه أقام الدليل على نبوته بالمعجزة، ومن كذب بمعجزة واحدة فقد كذب بجميع المعجزات لتساوي أقدامها في الدلالة على صدق الرسول، وقد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن ذلك فقال: من كذب واحداً من الرسل فقد كذب الكل لأن الآخر جاء بما جاء به الأول - حكاه عنه البغوي.

ولقصد التسلية عبر بالتكذيب في كل قصة {إذ} أي حين {قال لهم} لم يتأنوا بطلب دليل، ولا ابتغاء وجه جميل؛ وأشار إلى نسبه فيهم بقوله:{أخوهم} زيادة في تسلية هذا النبي الكريم

ص: 61

{نوح} وأشار إلى حسن أدبه، واستجلابهم برفقه ولينه، بقوله:{ألا تتقون*} أي تكون لكم تقوى، وهي خوف يحملكم على أن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية بطاعته بالتوحيد وترك الالتفات إلى غيره؛ ثم علل أهليته للأمر عليهم بقوله:{إني لكم} أي مع كوني أخاكم يسوءني ما يسوءكم ويسرني ما يسركم {رسول} أي من عند خالقكم، فلا مندوحة لي عند إبلاغ ما أمرت به {أمين*} أي لا غش عندي كما تعلمون ذلك مني على طول خبرتكم بي، ولا خيانة في شيء من الأمانة، فلذلك لا بد لي من إبلاغ جميع الرسالة.

ص: 62

ولما عرض عليهم التقوى بالرفق، وعلل ذلك بما ثبت به أمرها، تسبب عنه الجزم بالأمر فقال:{فاتقوا الله} أي أوجدوا الخو والحذر والتحرز من الذي اختص بالجلال والجمال، مبادرين إلى ذلك بتوحيده لتحرزوا أصل السعادة فتكونوا من أهل الجنة {وأطيعون*} أي في كل ما آمركم لتحرزوا رتبة الكمال في ذلك، فلا يمسكم عذاب.

ولما أثبت أمانته، نفى تهمته فقال:{وما أسألكم عليه} أي على هذا الحال الذي أتيتكم به؛ وأشار إلى الإعراق في النفي بقوله: {من أجر} أي ليظن ظان أني جعلت الدعاء سبباً له؛ ثم

ص: 62

أكد هذا النفي بقوله: {إن} أي ما {أجري} أي في دعائي لكم {إلا على رب العالمين*} أي الذي دبر جميع الخلائق ورباهم.

ولما انتفت التهمة، تسبب عن انتفائها أيضاً ما قدمه، فأعاده إعلاماً بالاهتمام بذلك زيادة في الشفقة عليهم وتأكيداً له في قلوبهم تنبيهاً على أن الأمر في غاية العظمة لما يعلم من قلوبهم من شدة الجلافة فقال:{فاتقوا الله} أي الذي حاز جميع صفات العظمة {وأطيعون} .

ولما قام الدليل على نصحه وأمانته، أجابوا بما ينظر إلى محض الدنيا كما أجاب من قال من أشراف العرب {ما لهذا الرسول} الآيات، وقال: لو طردت هؤلاء الضعفاء لرجونا أن نتبعك حتى نزل في ذلك {ولا تطرد الذين يدعون ربهم} [الأنعام: 52] ونحوها من الآيات، بأن {قالوا} أي قومه، منكرين لاتباعه استناداً إلى داء الكبر الذي ينشأ منه بطر الحق وغمط الناس - أي احتقارهم:{أنؤمن لك} أي لأجل قولك هذا وما أثبته أوصافك {و} الحال أنه قد {اتبعك الأرذلون*} أي المؤخرون في الحال والمآل، والأحوال والأفعال، فيكون إيماننا بك سبباً لاستوائنا معهم، فلو طردتهم لم يكن لنا عذر في التخلف عنك، ولا مانع من اتباعك، فكان ما متعوا به من العرض الفاني مانعاً لهم عن السعادة الباقية، وأما الضعفاء فانكسار قلوبهم وخلوّها عن شاغل موجبٌ لإقبالها على الخير

ص: 63

وقبولها له، لأن الله تعالى عند المنكسرة قلوبهم، وهكذا قالت قريش في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما زالت أتباع الرسل كذلك حتى صارت من سماتهم وأماراتهم كما قال هرقل في سؤاله عن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان مثال المستكبرين مثال شخص كان آخر دونه بدرجة، فأصبح فوقه بدرجة، فأنف من أن يرتقي إلى درجته لئلا يساويه، ورضي لنفسه أن يكون دونه، فما اسخف عقله! وما أكثر جهله! فلا شيء أبين من هذا في أن التقدم في الأمور الدنيوية داء لا دواء له إلا إماتة النفس بالتبرؤ منه والبعد عنه.

ولما كانت الجواهر متساوية في أنها مخلوقات الله، وإنما تتشرف بآثارها، فالآدمي إنما يشرف أو يرذل بحاله من قاله وفعاله، أشار إلى أنه يعتبر ما هم عليه الآن من الأحوال الرفيعة، والأوصاف البديعة، فلذلك {قال} نافياً لعلمه بما قالوه في صورة استفهام إنكاري:{وما} أي وأيّ شيء {علمي بما كانوا يعملون*} أي قبل أن يتبعوني، أي وما لي وللبحث عن ذلك، إنما لي ظاهرهم الآن وهو

ص: 64

خير ظاهر، فهم الأشرفون وإن كانوا أفقر الناس وأخسّهم نسباً، فإن الغني غني الدين، والنسب نسب التقوى؛ ثم أكد أنه لا يبحث عن بواطنهم بقوله:{إن} أي ما {حسابهم} أي في الماضي والآتي {إلا على ربي} المحسن إليّ باتباعهم لي ليكون لي مثل أجرهم، المخفف عني أن يكلفني بحاسبهم وتعرف بواطنهم، لأنه المختص بضبط جميع الأعمال والحساب عليها {لو تشعرون*} أي لو كان لكم نوع شعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم مما هو دائر على أمور الدنيا فقط، ولا نظر له إلى يوم الحساب.

ولما أفهم قوله رد ما أفهمه قولهم من طردهم، صرح به في قوله:{وما} أي ولست {أنا بطارد المؤمنين*} أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً فلم يرتدوا عنه للطمع في إيمانكم ولا لغيره من اتباع شهواتكم؛ ثم علل ذلك بقوله: {إن} أي ما {أنا إلا نذير} أي محذر، لا وكيل مناقش على البواطن، ولا متعنت على الاتباع {مبين*} أوضح ما أرسلت به فلا أدع فيه لبساً.

ولما أياسهم مما أرادوا من طرد أتباعه لما أوهموا من اتباعه لو طردهم خداعاً، أقبلوا على التهديد، فاستأنف سبحانه الإخبار عن ذلك بقوله:{قالوا لئن لم تنته} ثم سموه باسمه جفاء وقلة أدب فقالوا:

ص: 65

{يا نوح لتكونن من المرجومين*} أي المقتولين، ولا ينفعك أتباعك هؤلاء الضعفاء.

ص: 66

ولما أيس منهم بما سمع من المبالغة بالتأكيد في قولهم، ورأى بما يصدقه من فعلهم، قال تعالى مخبراً عنه جواباً لسؤال من يريد تعرف حاله بعد ذلك:{قال} شاكياً إلى الله تعالى ما هو أعلم به منه توطئة للدعاء عليهم وإلهاباً إليه وتهييجاً، معرضاً عن تهديدهم له صبراً واحتساباً، لأنه من لازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واكتفاء عنه بسببه:{رب} أي أيها المحسن إليّ.

ولما كان الحال مقتضياً لأن يصدقوه لما له في نفسه من الأمانة، وبهم من القرابة، ولما أقام على ما دعاهم إليه من الأدلة مع ما له في نفسه من الوضوح، أكد الإخبار بتكذيبهم، إعلاماً بوجوده، وبإنه تحققه منهم من غير شك فقال:{إن قومي كذبون*} أي فلا نية لهم في اتباعي {فافتح} أي احكم {بيني وبينهم فتحاً} أي حكماً يكون لي فيه فرج، وبه من الضيق مخرج، فأهلك المبطلين وأنجز حتفهم {ونجني ومن معي} أي في الدين {من المؤمنين*} مما تعذب به الكافرين.

ص: 66

ولما كان في إهلاكهم وإنجائه من بديع الصنع ما يجل عن الوصف، أبرزه في مظهر العظمة فقال:{فأنجيناه ومن معه} أي ممن لا يخالفه في الدين على ضعفهم وقتلهم {في الفلك} ولما كانت سلامة المملوء جداً أغرب قال: {المشحون*} أي المملوء بمن حمل فيه من الناس والطير وسائر الحيوان وما حمل من زادهم وما يصلحهم.

ولما كان إغراقهم كلهم من الغرائب عظمه بأداة البعد - ومظهر العظمة فقال: {ثم أغرقنا بعد} أي بعد حمله الذي هو سبب إنجائه {الباقين*} أي من بقي على الأرض ولم يركب معه في السفينة على قوتهم وكثرتهم، وكان ذلك علينا يسيراً.

ولما كان ذلك أمراً باهراً، عظمه بقوله:{إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الدعاء والإمهال ثم الإنجاء والإهلاك {لآية} أي عظيمة لمن شاهد ذلك أو سمع به، على أنا ننتقم ممن عصانا، وننجي من أطاعنا، وأنه لا أمر لأحد معنا فيهديه إلى الإيمان، ويحمله على الاستسلام والإذعان {وما} أي والحال أنه ما {كان أكثرهم} أي أكثر العالمين بذلك {مؤمنين*} وقد ينبغي لهم إذ فاتهم الإيمان لمحض الدليل أن يبادروا إليه ويركبوا معه حين رأوا أوائل العذاب أو بعد أن ألجمهم الغرق {وإن ربك} المحسن إليك بإرسالك، وتكثير أتباعك،

ص: 67

وتعظيم أشياعك {لهو العزيز} أي القادر بعزته على كل من قسرهم على الطاعة، وإهلاكهم في أول أوقات المعصية {الرحيم*} أي الذي يخص من يشاء من عباده بخالص وداده، ويرسل إلى الضالين عن محجة العقل القويمة الرسل لبيان ما يجب وما يكره، فلا يهلك إلا بعد البيان الشافي، والإبلاغ الوافي.

ولما كان كأنه قيل: إن هذا لأمر هائل، في مثله موعظة، فما فعل من جاء بعدهم؟ هل اتعظ؟ أجيب بقوله دلالة على الوصفين معاً:{كذبت عاد} أي تلك القبيلة التي مكن الله لها في الأرض بعد قوم نوح {المرسلين*} بالإعراض عن معجزة هود عليه الصلاة والسلام؛ ثم سلى هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: {إذ} أي حين {قال لهم أخوهم هود} لم يتوقفوا في تكذيبه ولم يتأخروا عن وقت دعائه لتأمل ولا غيره، وقد عرفوا صدق إخائه، وعظيم نصحه ووفائه {ألا} بصيغة العرض تأدباً معهم وتلطفاً بهم ولينالهم {تتقون*} أي تكون منكم تقوى لربكم الذي خلقكم فتعبدوه وحده ولا تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع؛ ثم علل بقوله:{إني لكم رسول} أي فهو الذي حملني على أن أقول لكم ذلك {أمين} أي لا أكتم عنكم شيئاً مما أمرت به ولا أخالف شيئاً منه {فاتقوا} أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: اتقوا {الله} الذي هو أعظم من كل شيء {وأطيعون*} أي في

ص: 68

كل ما آمركم به من دوام تعظيمه {وما} أي أنا رسول داع والحال أني ما {أسئلكم عليه} أي الدعاء {من أجر} فتتهموني به {إن} أي ما {أجري إلا على رب العالمين*} .

ولما فرغ من الدعاء إلى الأصل، وهو الإيمان بالرسول والمرسل، أتبعه إنكار بعض ما هم عليه مما أوجبه الكفر، وأوجب الاشتغال به الثبات على الغي، واعظاً لهم بما كان لمن قبلهم من الهلاك، مقدمة على زيادة التأكيد في التقوى والطاعة لأن حالهم حال الناسي لذلك الطوفان، الذي أهلك الحيوان، وهدم البنيان فقال:{أتبنون بكل ريع} أي مكان مرتفع؛ قال أبو حيان: وقال أبو عبيدة: الريع الطريق. وقال مجاهد: الفج بين الجبلين، وقيل: السبيل سلك أم لم يسلك. وأصله في اللغة الزيادة {آية} أي علامة على شدتكم لأنه لو كان لهداية أو نحوها لكفى بعض الأرياع دون كلها.

ولما كان إقامة الدليل على قوتهم بمثل ذلك قليل الجدوى عند التأمل، قال:{تعبثون*} والعاقل ينبغي له أن يصون أوقاته النفيسة

ص: 69

عن العبث الذي لا يكون سبب نجاته، وكيف يليق ذلك بمن الموت من ورائه.

ولما كان من يموت لا ينبغي له إنكار الموت بفعل ولا قول قال: {وتتخذون مصانع} أي أشياء بأخذ الماء، أو قصوراً مشيدة وحصوناً تصنعونها، هي في إحكامها بحيث تأكل الدهر قوة وثباتاً، فلا يبنيها إلا من حاله حال الراجي للخلود، ولذلك قال:{لعلكم تخلدون*} وهو معنى ما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسيرها بكأنكم.

ص: 70

ولما بين أن عملهم عمل من لا يخاف الموت، أتبعه ما يدل على أنهم لا يظنون الجزاء فقال:{وإذا بطشتم} أي بأحد، أخذتموه أخذ سطوة في عقوبة {بطشتم جبارين*} أي غير مبالين بشيء من قتل أو غيره؛ قال البغوي: والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب.

ولما خوفهم لهذا الإنكار عقاب الجبار، تسبب عنه أن قال:{فاتقوا الله} أي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام {وأطيعون*} .

ولما كان ادكار الإحسان موجباً للإذعان، قال مرغباً في الزيادة ومرهباً من الحرمان:{واتقوا الذي أمدكم} أي جعل لكم مدداً،

ص: 70

وهو إتباع الشيء بما يقويه على الانتظام {بما تعلمون*} أي ليس فيه نوع خفاء حتى تعذروا في الغفلة عن تقييده بالشكر.

ولما أجمل، فصل ليكون أكمل، فقال:{أمدكم بأنعام} أي تعينكم على الأعمال وتأكلون منها وتبيعون. ولما قدم ما يقيم الأود، أتبعه قوله:{وبنين*} أي يعينونكم على ما تريدون عند العجز. ثم أتبعه ما يحصل كمال العيش فقال: {وجنات} أي بساتين ملتفة الأشجار بحيث تستر داخلها، وأشار إلى دوام الريّ بقوله:{وعيون*} .

ولما كانوا في إعراضهم كأنهم يقولون: ما الذي تبقيه منه؟ قال: {إني أخاف عليكم} أي لأنكم قومي يسوءني ما يسوءكم - إن تماديتم على المعصية {عذاب يوم عظيم*} وتعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب {قالوا} راضين بما عندهم من داء الإعجاب، الموقع في كل ما عاب، {سواء علينا أوعظت} أي خوفت وحذرت وكنت علامة زمانك في ذلك بأن تقول منه ما لم يقدر أحد على مثله، دل على ذلك قوله:{أم لم تكن من الواعظين*} أي متأهلاً لشيء من رتبة الراسخين في الوعظ، معدوداً في عدادهم، مذكوراً فيما بينهم، فهو أبلغ من «أم لم تعظ» أو «تكن واعظاً، والوعظ - كما قال البغوي: كلام

ص: 71

يلين القلب بذكر الوعد والوعيد. والمعنى أن الأمر مستوٍ في الحالتين في أنا لا نطيعك في شيء؛ ثم عللوا ذلك بقولهم: {إن} أي ما {هذا} أي الذي جئتنا به {إلا خلق} بفتح الخاء وإسكان اللام في قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي {الأولين*} أي كذبهم، أو ما هذا الذي نحن فيه إلا عادة الأولين في حياة ناس وموت آخرين، وعافية قوم وبلاء آخرين، وعليه تدل قراءة الباقين بضم الخاء واللام {وما نحن بمعذبين*} لأنا أهل قوة وشجاعة ونجدة وبراعة.

ولما تضمن هذا التكذيب، سبب عنه قوله:{فكذبوه} ثم سبب عنه قوله: {فأهلكناهم} أي بالريح بما لنا من العظمة التي لا تذكر عندها عظمتهم، والقوة التي بها كانت قوتهم {إن في ذلك} أي الإهلاك في كل قرن للعاصين والإنجاء للطائعين {لآية} أي عظيمة لمن بعدهم على أنه سبحانه فاعل ذلك وحده بسبب أنه يحق الحق ويبطل الباطل، وأنه مع أوليائه ومن كان معه لا يذل وعلى أعدائه ومن كان عليه لا يعز {وما كان أكثرهم} أي أكثر من كان بعدهم {مؤمنين*} فلا تحزن أنت على من أعرض عن الإيمان {وإن ربك} أي المحسن إليك بإرسالك وغيره من النعم {لهو العزيز} في انتقامه {الرحيم*} في إنعامه وإكرامه وإحسانه، مع عصيانه وكفرانه، وإرسال المنذرين

ص: 72

وتأييدهم بالآيات المعجزة لبيان الطريق الأقوم، والمنهج الأسلم، فلا يهلك إلا بعد الإعذار بأبلغ الإنذار؛ ثم دل على ذلك لمن قد ينسى إذ كان الإنسان مجبولاً على النسيان بقوله:{كذبت ثمود} وهو أهل الحجر {المرسلين*} وأشار إلى زيادة التسلية بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تأمل ولا توقف بقوله: {إذ} أي حين {قال لهم أخوهم} أي الذي يعرفون صدقه وأمانته، وشفقته وصيانته {صالح} وأشار إلى تلطفه بهم بقوله على سبيل العرض {ألا تتقون*} ثم علل ذلك بقوله:{إني لكم رسول} أي من الله، فلذلك عرضت عليكم هذا لأني مأمور بذلك، وإلا لم أعرضه عليكم {أمين*} لا شيء من الخيانة عندي، بل أنصح لكم في إبلاغ جميع ما أرسلت به إليكم من خالقكم، الذي لا أحد أرحم بكم منه.

ص: 73

ولما قدم ذكر الرسالة فصار له عذر في المواجهة بالأمر، سبب عنه قوله {فاتقوا الله} أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق. ولما ذكر الأمانة قال:{وأطيعون*} .

ولما أثبت ما يوجب الإقبال عليه، نفى ما يستلزم عادة الإدبار عنه فقال:{وما} أي إني لكم كذا والحال أني ما {أسئلكم عليه} وأعرق في النفي بقوله: {من أجر} ثم زاد في تأكيد هذا

ص: 73

النفي بقوله: {إن} أي ما {أجري} على أحد {إلا على رب العالمين*} أي المحسن إليهم أجمعين، منه أطلب أن يعطيني كما أعطاهم.

ولما ثبتت الأمانة، وانتفى موجب الخيانة، شرع ينكر عليهم أكل خيره وعبادة غيره، فقال مخوفاً لهم من سطواته، ومرغباً في المزيد من خيراته. منكراً عليهم إخلادهم إلى شهوة البطن، واستنادهم إلى الرفاهية والرضى بالفاني:{أتتركون} أي من ايدي النوائب التي لا يقدر عليها إلا الله {في ما هاهنا} أي في بلادكم هذه من النعم حال كونكم {آمنين*} أي أنتم تبارزون الملك القهار بالعظائم.

ولما كان للتفسير بعد الإجمال شأن. بين ما أجمل بقوله مذكراً لهم بنعمة الله ليشكروها: {في جنات} أي بساتين تستر الداخل فيها وتخفيه لكثرة أشجارها {وعيون*} تسقيها مع ما لها من البهجة وغير ذلك من المنافع {وزروع} وأشار إلى عظم النخيل ولا سيما ما كان عندهم بتخصيصها بالذكر بعد دخولها في الجنات بقوله: {ونخل طلعها} أي ما يطلع منها من الثمر؛ قال الزمخشري: كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، والقنو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه. {هضيم*} أي جواد كريم من قولهم: يد هضوم - إذا كانت تجود بما لديها، وتفسيره بذلك يجمع أقوال العلماء، وإليه يرجع ما قال أبو عبد الله

ص: 74

القزاز معناه أنه قد هضم - أي ضغط - بعضه بعضاً لتراكمه، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كثير متقارب النضد، لا فرج بينه، ولطيف لين هش طيب الرائحة، من الهضم بالتحريك، وهو خمس البطن ولطف الكشح؛ والهاضم وهو ما فيه رخاوة، والهضم: البخور، والمهضومة: طيب يخلط بالمسك واللبان؛ قال الرازي في اللوامع: أو يانع نضيج لين رخو ومتهشم متفتت إذا مس، أو يهضم الطعام، وكل هذا يرجع إلى لطافته.

ولما ذكر اللطيف من أحوالهم، أتبعه الكثيف من أفعالهم، فقال عطفاً على {أتتركون} أو مبيناً لحال الفاعل في {آمنين} :{وتنحتون} أي والحال أنكم تنحتون إظهاراً للقدرة {من الجبال بيوتاً فارهين*} أي مظهرين النشاط والقوة، تعظيماً بذلك وبطراً، لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك {فاتقوا} أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: اتقوا {الله} الذي له جميع العظمة بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية باتباع أوامره؛ واجتناب زواجره {وأطيعون*} أي في كل ما آمركم به وأنهاكم عنه.

فإني لا آمركم إلا بما يصلحكم فيكون سبباً لحفظ ما أنتم فيه وتزدادون {ولا تطيعوا} .

ص: 75

ولما كان لانقياد للآمر إنما هو بواسطة ما ظهر من أمره قال: {أمر المسرفين*} اي المتجاوزين للحدود الذي صار لهم ذلك خلقاً: ثم وصفهم بما بين إسرافهم، وهو ارتكاب الفساد الخالص المصمت الذي لا صلاح معه فقال:{الذين يفسدون في الأرض} أي يعملون ما يؤدي إلى الفساد لكونه غير محكم باستناده إلى الله.

ولما كان ربما ادعى في بعض الفساد أن فيه صلاحاً، نفى ذلك بقوله:{ولا يصلحون*} أي لأنهم أسسوا أمرهم على الشرط فصاروا بحيث لا يصلح لهم عمل وإن تراءى غير ذلك، أو أن المعنى أن المسرف من كان عريقاً في الإسراف بجمع هذين الأمرين.

ولما دعا إلى الله تعالى بما لا خلل فيه، فعلموا أنهم عاجزون عن الطعن في شيء منه، عدلوا إلى التخييل على عقول الضعفاء بأن {قالوا إنما أنت من المسحرين*} أي الذين بولغ في سحرهم مرة بعد مرة مع كونهم آدميين ذمي سحور، وهي الرئات، فأثر فيك السحر حتى غلب عليك؛ ونقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب، يقال: سحره أي علله بالطعام والشراب. ويؤيده تفسيره بقولهم إشارة إلى أنه لا يصلح للرسالة:

ص: 76

{ما أنت إلا بشر مثلنا} أي فما وجه خصوصيتك عنا بالرسالة، وهل يكون الرسول من البشر، وإتباعهم الوصف الوصف من غير عطف عليه يدل على أنهم غير جازمين بتكذيبه. فالوصفان عندهم بمنزلة شيء واحد كما إذا قيل: الزمان حلو حامض، أي مر، ويؤيد كونهم في رتبة الشك لم يتجاوزوها إلى الجزم أو الظن بالتكذيب قولهم:{فأت بآية} أي علامة تدلنا على صدقك {إن كنت} أي كوناً هو غاية الرسوخ {من الصادقين*} أي العريقين في الصدق بخلاف ما يأتي قريباً في قصة شعيب عليه السلام.

ص: 77

ولما أسرع الله تعالى في إجابته حين دعا أن يعطيهم ما اقترحوا، أشار إلى ذلك بقوله:{قال} أي جواباً لاقتراحهم: تعالوا نظروا ما آتيكم به آية على صدقي، فأتوا فأخرج الله له من الصخرة ناقة عشراء كما اقترحوا، فقال مشيراً إليها بأداة القرب إشارة إلى سهولة إخراجها وسرعته:{هذه ناقة} أي أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم؛ ثم أشار إلى أن في هذه الآية آية أخرى بكونها تشرب ماء البئر كله في يوم وردها وتكف عنه في اليوم الثاني لأجلهم، بقوله:{لها شرب} أي نصيب من الماء في يوم معلوم {ولكم شرب يوم} أي نصيب

ص: 77

من الماء في يوم {معلوم*} لازحام بينكم وبينها في شيء من ذلك.

ولما أرشد السياق إرشاداً بَيِّناً إلى أن المعنى: فخذوا شربكم واتركوا لها شربها، عطف عليه قوله:{ولا تمسوها بسوء} أي كائناً ما كان وإن قل، لأن ما كان من عند الله يجب إكرامه، ورعايته واحترامه؛ ثم خوفهم بما يتسبب عن عصيانهم فقال:{فيأخذكم} أي يهلككم {عذاب يوم عظيم*} بسبب ما حل فيه من العذاب، فهو أبلغ من وصف العذاب بالعظم، وأشار إلى سرعة عصيانهم بفاء التعقيب في قوله:{فعقروها} أي قتلوها بضرب ساقها بالسيف.

ولما تسبب عن عقرها حلول مخايل العذاب، أخبر عن ندمهم على قتلها من حيث إنه يفضي إلى الهلاك، لا من حيث إنه معصية لله ورسوله. فقال:{فأصبحوا نادمين*} أي على عقرها لتحقق العذاب؛ وأشار إلى أن ذلك الندم لا على وجه التوبة أو أنه عند رؤية البأس فلم ينفع، أو أن ذلك كناية عن أن حالهم صار حال النادم، لا أنه وجد منهم ندم على شيء ما، فإنه نقل عنهم أنه أتاهم العذاب

ص: 78

العذاب وهو يحاولون أن يقتلوا صالحاً عليه السلام، بقوله:{فأخذهم العذاب} أي المتوعد به.

ولما كان في الناقة وفي حلول المخايل كما تقدم أعظم دليل على صدق الرسول الداعي إلى الله قال: {إن في ذلك لآية} أي دلالة عظيمة على صحة ما أمروا به عن الله، {وما} أي والحال أنه مع ذلك ما {كان أكثرهم مؤمنين*} .

ولما كان ربما توهم أنه سبحانه غير متصف بالعزة لعدم قسرهم على الإيمان، أو بالرحمة لإهلاكهم، قال:{وإن ربك لهو العزيز} أي فلا يخرج شيء من قبضته وإرادته، وهو الذي أراد لهم الكفر {الرحيم*} في كونه لم يهلك أحداً حتى أرسل إليهم رسولاً فبين لهم ما يرضاه سبحانه وما يسخطه، وأبلغ في إنذارهم حتى أقام الحجة بذلك، ثم هو سبحانه يضل من يشاء لما تعلم من طبعه على ما يقتضي الشقاوة، ويوفق من علم منه الخير لما يرضيه، فيتسبب عن ذلك سعادته، وفي تكريره سبحانه هذه الآية آخر كل قصة على وجه التأكيد وإتباعها ما دلت عليه من كفر من أتى بعد أصحابها.

من غير اتعاظ بحالهم، ولا نكوب عن مثل ضلالهم، خوفاً من نظير نكالهم، أعظم تسلية لهذا النبي الكريم، وتخويف لكل عليم حليم، واستعطاف لكل ذي قلب سيلم، ولذلك

ص: 79

قال واصلاً بالقصة: {كذبت} أي دأب من تقدم كأنهم تواصوا به {قوم لوط المرسلين*} لأن من كذب رسولاً - كما مضى - فقد كذب الكل، لتساوي المعجزات في الدلالة على الصدق. وقد صرحت هذه الآية بكفرهم بالتكذيب. وبين إسراعهم في الضلال بقوله:{إذ} أي حين {قال لهم أخوهم} أي في السكنى في البلد لا في النسب لأنه ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وهما من بلاد الشرق من بلاد بابل - وكأنه عبر بالأخوة لاختياره لمجاورتهم، ومناسبتهم بمصاهرتهم، وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدة، وسنين عديدة، وإتيانه بالأولاد من نسائهم، مع موافقته لهم في أنه قروي، ثم بينه بقوله:{لوط ألا تتقون*} أي تخافون الله فتجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية.

ولما كان مضمون هذا الدعاء لهم والإنكار عليهم في عدم التقوى علل ذلك بقوله: {إني لكم} أي خاصة {رسول أمين*} أي لا شيء من غش ولا خيانة عندي، ولذلك سبب عنه قوله:{فاتقوا الله} أي لقدرته على إهلاك من يريد وتعاليه في عظمته {وأطيعون*} أي لأن طاعتي سبب نجاتكم، لأني لا آمركم إلا بما يرتضيه. ولا أنهاكم إلا عما يغضبه.

ص: 80

ولما أثبت الداعي إلى طاعته، نفى الناهي عنها فقال:{وما أسئلكم عليه} أي الدعاء إلى الله {من أجر} أي فتتهموني بسببه؛ ونفى سؤاله لغيرهم من الخلائق بتخصيصه بالخالق فقال: {إن} أي ما {أجري إلا على رب العالمين*} أي المحسن إليهم بإيجادهم ثم تربيتهم. فلما وجدوا المقتضى لاتباعه وانتفى المانع، أنكر عليهم ما يوجب عذابهم من إيثارهم شهوة الفرج المخرج لهم إلى ما صاروا به سبة في الخلق فقال موبخاً مقرعاً بياناً لتفاحش فعلهم وعظمه:{أتأتون} أي إتيان المعصية {الذكران} ولعلهم كانوا يفعلون بالذكور من غير الآدميين توغلاً في الشر وتجاهراً بالتهتك لقوله: {من العالمين*} أي كلهم، أو يكون المعنى: من بين الخلائق، أي أنكم اختصصتم بإتيان الذكران، لم يفعل هذا الفعل غيركم من الناكحين من الخلق {وتذرون} أي تتركون لهذا الغرض {ما خلق لكم} أي النكاح {ربكم} المحسن إليكم {من أزواجكم} أي وهن الإناث، على أن «من» للبيان، ويجوز أن تكون مبعضة، ويكون المخلوق كذلك هو القبل.

ولما كانوا كأنهم قالوا: نحن لم نترك أزواجنا، حملاً لقوله على

ص: 81

الترك أصلاً ورأساً وإن كانوا قد فهموا أن مراده تركهن حال الفعل في الذكور، قال مضرباً عن مقالهم هذا المعلوم تقديره لما أرادوه به، حيدة عن الحق، وتمادياً في الفجور:{بل أنتم قوم عادون*} أي تركتم الأزواج بتعدي الفعل بهن وتجاوزه إلى الفعل بالذكران، وليس ذلك ببدع من أمركم، فإن العدوان - الذي هو مجاوزة الحد في الشر - وصف لكم أنتم عريقون فيه، فلذلك لا تقفون عند حد حده الله تعالى.

فلما اتضح الحق، وعرف المراد، وكان غريباً عندهم، وتشوف السامع إلى جوابهم، استؤنف الإخبار عنه، فقيل إعلاماً بانقطاعهم وأنهم عارفون أنه لا وجه لهم في ذلك أصلاً لعدولهم إلى الفحش:{قالوا} مقسمين: {لئن لم تنته} وسموه باسمه جفاء وغلظة فقالوا: {يا لوط} عن مثل إنكارك هذا علينا.

ولما كان لما له من العظمة بالنبوة والأفعال الشريفة التي توجب إجلاله وإنكار كل من يسمعهم أن يخرج مثله، زادوا في التأكيد فقالوا:{لتكونن من المخرجين} أي ممن أخرجناه من بلدنا على وجه فظيع تصير مشهوراً به بينهم. إشارة إلى أنه غريب عندهم، وأن عادتهم المستمرة نفي من اعترض عليهم، وكان قصدهم بذلك أن يكونوا هم

ص: 82

المتولين لإخراجه إهانة له للاستراحة منه، فكان إخراجه، لكن إخراج إكرام للاستراحة منهم والنجاة من عذابهم بتولي الملائكة الكرام {قال} أي جواباً لهم:{إني} مؤكداً لمضمون ما يأتي به {لعملكم} ولم يقل: قال بل زاد في التأكيد بقوله: {من القالين*} أي المشهورين ببغض هذا العمل الفاحش، العريقين في هذا الوصف، المذكورين بين الناس بمنابذة من يفعله، لا يردني عن إنكاره تهديدكم لي بإخراج ولا غيره، والقلاء: بغض شديد كأنه يقلي الفؤاد.

ولما بادأهم بمثل هذا الذي من شأنه الإفضاء إلى الشر، أقبل على من يفعل ذلك لأجله، وهو القادر على كل شيء العالم بكل شيء، فقال:{رب نجني وأهلي مما} أي من الجزاء الذي يلحقهم لما {يعملون*} .

ولما قبل سبحانه وتعالى دعاءه، أشار إلى ذلك بقوله:{فنجيناه وأهله} مما عذبناهم به بإخراجنا له من بلدهم حين ستخفافهم له، ولم يؤخره عنهم إلى حين خروجه إلا لأجله، وعين سبحانه المراد مبيناً أن أهله كثير بقوله:{أجمعين*} أي أهل بيته والمتبعين له على دينه {إلا عجوزاً} وهي امرأته، كائنة {في} حكم {الغابرين*} أي الماكثين الذي تلحقهم الغبرة بما يكون من الداهية فإننا لن ننجها لقضائنا بذلك في الأزل، لكونها لم تتابعه في الدين، وكان هواها مع قومها.

ص: 83

ولما ذكر نجاته المفهمة لهلاكهم، صرح به على وجه هوله بأداة التراخي لما علم غير مرة أنه كان عقب خروجه، لم يتخلل بينهما مهلة فقال:{ثم دمرنا} أي أهلكنا هلاكاً بغتة صلباً أصمّ في غاية النكد، وما أحسن التعبير عنهم بلفظ {الآخرين*} لإفهام تأخرهم من كل وجه.

ولما كان معنى {دمرنا} : حكمنا بتدميرهم، عطف عليه قوله:{وأمطرنا} ودل على العذاب بتعديته ب «على» فقال: {عليهم مطراً} أي وأي مطر، ولذلك سبب عنه قوله:{فساء مطر المنذرين*} أي ما أسوأ مطر الذين خوفهم لوط عليه السلام بما أشار إليه إنكاره وتعبيره بالتقوى والعدوان.

ولما كان في جري المكذبين والمصدقين على نظام واحد من الهلاك والنجاة أعظم عبرة وأكبر موعظة، أشار إلى ذلك بقوله:{إن في ذلك لآية} أي دلالة عظيمة على صدق الرسل في جميع ترغيبهم وترهيبهم وتبشيرهم وتحذيرهم.

ولما كان من أتى بعد هذه الأمم كقريش ومن تقدمهم قد علموا أخبارهم، وضموا إلى بعض الأخبار نظر الديار، والتوسم في الآثار

ص: 84

قال معجباً من حالهم في ضلالهم: {وما} أي والحال أنه ما {كان أكثرهم مؤمنين*} .

ولما كان في ذلك إشارة إلى الإنذار بمثل ما حل بهم من الدمار، أتبعه التصريح بالتخويف والإطماع فقال:{وإن ربك لهو} أي وحده {العزيز} أي في بطشه بأعدائه {الرحيم*} في لطفه بأوليائه، ورفقه بأعدائه بإرسال الرسل، وبيان كل مشكل؛ ثم وصل بذلك دليله، فقال مذكراً الفعل لشدة كفرهم بدليل ما يأتي من إثبات الواو في {وما أنت إلا بشر مثلنا} :{كذب أصحاب لئيكة} أي الغيضة ذات الأرض الجيدة التي تبتلع الماء فتنبت الشجر الكثير الملتف {المرسلين*} لتكذيبهم شعيباً عليه السلام فيما أتى به من المعجزة السماوية في خرق العادة وعجز المتحدّين بها عن مقاومتها - لبقية المعجزات الآتي بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {إذ قال لهم} .

ولما كانوا أهل بدو وكان هو عليه السلام قروياً، قال:{شعيب} ولم يقل: أخوهم، إشارة إلى أنه لم يرسل نبياً إلا من أهل القرى، تشريفاً لهم لأن البركة والحكمة في الاجتماع، ولذلك نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 85

عن التعرب بعد الهجرة، وقال:«من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة» {ألا تتقون*} أي تكونون من أهل التقوى، وهو مخافة من الله سبحانه وتعالى.

ولما كان كأنه قيل: ما لك ولهذا؟ قال: {إني} وأشار إلى تبشيرهم إن أطاعوه بقوله: {لكم رسول} أي من الله، فهو أمرني أن أقول لكم ذلك {أمين*} أي لا غش عندي ولا خداع ولا خيانه، فلذلك أبلغ جميع ما أرسلت به، ولذلك سبب عنه قوله:{فاتقوا الله} أي المستحق لجميع العظمة، وهوالمحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها {وأطيعون*} أي لما ثبت من نصحي.

ولا قدم ما هو المقصود بالذات. عطف على خبر {إن} قوله: {وما أسئلكم عليه من أجر} نفياً لما ينفر عنه؛ ثم زاد في البراءة مما يوكس من الطمع في أحد من الخلق فقال: {إن} أي ما {أجري إلا على رب العالمين*} أي المحسن إلى الخلائق كلهم، فأنا لا أرجو أبداً أحداً يحتاج إلى الإحسان إليه، وإنما أعلق أملي بالمحسن الذي لا يحتاج إلى أحد، وكل أحد سائل من رفده، وآخذ من عنده ولقد اتضح أن الرسل متطابقون في الدعوة في الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص في العبادة، مع النصح والعفة، والأمانة والخشية والمحسبة.

ص: 86

ولما كان كأنه قيل: ما الذي تنعى فيه؟ قال: مبيناً أن داءهم

ص: 86

حب المال، المفضي لهم إلى سوء الحال، {أوفوا الكيل} أي أتموه إتماماً لا شبهة فيه إذا كلتم كما توفونه إذا اكتلتم لأنفسكم. ولما أمرهم بالإيفاء نهاهم عن النقص على وجه أعم فقال:{ولا تكونوا} أي كوناً هو كالجبلة، ولعله إشارة إلى ما يعرض من نحو ذلك من الخواطر أو الهيئات التي يغلب الإنسان فيها الطبع ثم يرجع عنها رجوعاً يمحوها، ولذلك قال:{من المخسرين*} أي الذين يخسرون - أي ينقصون - أنفسهم أديانها بإخسار الناس دنياهم بنقص الكيل أو غيره من أنواع النقص من كل ما يوجب الغبن، فتكونوا مشهورين بذلك بين من يفعله.

ولما أمر بوفاء الكيل، أتبعه بمثل ذلك في الوزن، ولم يجمعهما لما للتفريق من التعريف بمزيد الاهتمام فقال:{وزنوا} أي لأنفسكم وغيركم {بالقسطاس} أي الميزان الأقوم؛ وأكد معناه بقوله: {المستقيم*} .

ولما أمر بالوفاء في الوزن، أتبعه نهياً عن تركه عاماً كما فعل في الكيل ليكون آكد فقال:{ولا تبخسوا} أي تنقصوا {الناس أشياءهم}

ص: 87

أي في كيل أو وزن أو غيرهما نقصاً يكون كالسبخة لا فائدة فيه. ثم أتبع ذلك بما هو أعم منه فقال: {ولا تعثوا} أي تتصرفوا {في الأرض} عن غير تأمل حال كونكم {مفسدين*} أي في المال أو غيره، قاصدين بذلك الإفساد - كما تقدم بيانه في سورة هود عليه السلام.

ولما وعظهم فابلغ في وعظهم بما ختمه بالنهي عن الفساد، خوفهم من سطوات الله تعالى ما أحل بمن هو أعظم منهم فقال:{واتقوا الذي خلقكم} أي فإعدامكم أهون شيء عليه، وأشار إلى ضعفهم وقوة من كان قبلهم بقوله:{والجبلة} أي الجماعة والأمة {الأولين*} الذين كانوا على خلقة وطبيعة عظيمة كأنها الجبال قوة وصلابة لا سيما قوم هود عليه السلام الذين هم عرب مثلكم، وقد بلغت بهم الشدة في أبدانهم، والصلابة في جميع أركانهم، إلى أن قالوا {من أشد منا قوة} [فصلت: 15] وقد بلغكم ما أنزل بهم سبحانه من بأسه، لأن العرب أعلم الناس بأخبارهم.

ولما كان الحاصل ما مضى الإعلام بالرسالة، والتحذير من المخالفة،

ص: 88

لأنها تؤدي إلى الضلالة إلى أن ختم ذلك بالإشارة بالتعبير بالجبلة إلى أن عذابه تعالى عظيم، لا يستعصي عليه صغير ولا كبير، أجابوه بالقدح في الرسالة أولاً، وباستصغار الوعيد ثانياً، بأن {قالوا إنما أنت من المسحرين*} أي الذين كرر سحرهم مرة بعد أخرى حتى اختبلوا، فصار كلامهم على غير نظام، أو من المعللين بالطعام والشراب كما مضى في صالح عليه السلام، أي فأنت بعيد من الصلاحية للرسالة: ثم أشاروا إلى عدم صلاحية البشر مطلقاً لها ولو كانوا أعقل الناس وأبعدهم عن الآفة بقولهم، عاطفين بالواو إشارة إلى عراقته فيما وصفوه به من جهة السحر والسحر، وأنه لا فرق بينه وبينهم:{وما أنت إلا بشر مثلنا} أي فلا وجه لتخصيصك عنا بذلك، والدليل على أن عطف ذلك أبلغ من إتباعه من غير عطف جزمهم بظن كذبه في قولهم؛ {وإن} أي وإنّا {نظنك لمن الكاذبين*} أي العريقين في الكذب - هذا مذهب البصريين في أن {إن} مخففة من الثقيلة، والذي يقتضيه السياق ترجح مذهب الكوفيين هنا في أن {إن} نافية، فإنهم أرادوا بإثبات الواو في {وما} المبالغة في نفي إرساله بتعداد ما ينافيه، فيكون مرادهم أنه ليس لنا ظن يتوجه إلى غير الكذب، وهو أبلغ من إثبات الظن به، ويؤيده

ص: 89

تسبيبهم عنه سؤاله استهزاء به وتعجيزاً له إنزال العذاب بخلاف ما تقدم عن قوم صالح عليه السلام، فقالوا:{فأسقط علينا كسفاً} بإسكان السين على قراءة الجماعة وفتحها في رواية حفص، وكلاهما جمع كسفة، أي قطعاً {من السماء} أي السحاب، أو الحقيقة، وهذا الطلب لتصميمهم على التكذيب، ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم فضلاً عن طلبه ولا سيما كونه على وجه التهكم، ولذلك قالوا:{إن كنت} أي كوناً هو لك كالجبلة {من الصادقين*} أي العريقين في الصدق، المشهورين فيما بين أهله، لنصدقك فيما لزم من أمرك لنا باتخاذ الوقاية من العذاب من التهديد بالعذاب، وما أحسن نظره إلى تهديده لهم بما لله عليهم من القدرة في خلقهم وخلق من كانوا أشد منهم قوة وإهلاكهم بأنواع العذاب لما عصوه بتكذيب رسله.

ولما كان عذاب العاصي يتوقف على العلم المحيط بأعماله، والقدرة على نكاله، استأنف تعالى الحكاية عنه في تنبيهه لهم على ذلك بقوله:{قال} مشيراً إلى أنه لا شيء من ذلك إلا إلى من أرسله، وهو

ص: 90

متصف بكلا الوصفين، وأما هو فإنه وإن كان عالماً فهو قاصر العلم فهو غير قادر:{ربي أعلم} أي مني {بما تعملون*} لأنه محيط العلم فهو شامل القدرة، فهو يعلم استحقاقكم للعذاب، ومقدار ما تستحقون منه ووقت إنزاله، فإن شاء عذبكم، وأما أنا فليس عليّ إلا البلاغ وأنا مأمور به، فلم أخوفكم من نفسي ولا ادعيت قدرة على عذابكم، فطلبكم ذلك مني ظلم منكم مضموم إلى ظلمكم بالتكذيب.

ولما كان محط كلامهم كله على تكذيبهم له من غير قدح في قدرة الخالق، سبب العذاب عن تكذيبهم فقال:{فكذبوه} أي استمروا على تكذيبه {فأخذهم} أي أخذ ملاك {عذاب يوم الظلة} وهي سحابة على نحو ما طلبوا من قطع السماء، أتتهم بعد حر شديد نالهم حتى من الأسراب في داخل الأرض أشد مما نالهم من خارجها ليعلم أن لا فاعل إلا الله، وأنه يتصرف كيف شاء على مقتضى العادة وغير مقتضاها فوجدوا من تلك الظلة نسيماً بارداً، وروحاً طيباً، فاجتمعوا تحتها استرواحاً إليها واستظلالاً بها، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا بنحو مما اقترحوا وأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فنفذت فيهم سهام القدرة.

ولم يجدوا من دونها وقاية ولا سترة من غير أن تدعو حاجة إلى سقوط شيء من جرم السماء، ولا بما دونها من العماء.

ص: 91

ولما كان الحال موجباً للسؤال عن يوم الظلة، قال تعالى مهوّلاً لأمره ومعظماً لقدره:{إنه كان} فأكد ب «إن» وعظم ب «كان» {عذاب يوم عظيم*} وزاده عظماً بنسبته إلى اليوم فصار له من الهول، ببديع هذا القول، ما تجب له القلوب وتعظم الكروب.

ص: 92

ولما كان لتوالي الإخبار بإهلاك هذه القرون، وإبادة من ذكر من تلك الأمم، من الرعب ما لا يبلغ وصفه، ولا يمكن لغيره سبحانه شرحه، قال تعالى مشيراً إليه تحذيراً من مثله:{إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الإنجاء المطرد لكل رسول ومن أطاعه، والأخذ المطرد لمن عصاه في كل عصر بكل قطر، بحث لا يشذ من الفريقين إنسان قاص ولا دان {لآية} أي لدلالة واضحة عظيمة على صدق الرسل وأن يكونوا جديرين بتصديق العباد لهم في جميع ما قالوا من البشائر والنذائر بأن الله تعالى يهلك من عصاه، وينجي من والاه، لأنه الفاعل المختار، لا مانع له، ولا سيما أنت وأنت أعظمهم منزلة، وأكرمهم رتبة، ولا سيما وقد أتيت قومك بما لا يكون معه شك لو لم يكن لهم بك معرفة قبل ذلك، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة أصدقهم

ص: 92

لهجة، وأعظمهم أمانة، وأغزرهم عقلاً، وأوضحهم نبلاً، وأعلاهم همة، وأبعدهم عن كل دنس - وإن قل - ساحة؛ ثم عجب من توقفهم في الإيمان مع ما عرفوا من صدق نبيهم وطهارة أخلاقه، ووفور شفقته عليهم، ولم يخافوا من مثل ما تحقفوه من إهلاك هذه الأمم فقال:{وما كان أكثرهم} أي أكثر قومك كما كان من قبلهم مع رؤية هذه الآيات، وإحلال المثلات حتى لكأنهم تواصوا بذلك {مؤمنين*} أي عريقين في الإيمان، بل ما يؤمنون إلا وهو مشركون.

ولما كان هذا كله تأسية للداعي صلى الله عليه وسلم، وتهديداً لمن تمادى على تكذيبه، وترجية لمن رجع عن ذنوبه، أشار إلى ذلك بقوله:{وإن ربك} أي المحسن إليك بكل ما يعلي شأنك، ويوضح برهانك {لهو العزيز} فلا يعجزه أحد، ولا ينسب في إمهال عاص إلى إهمال ولا عجز {الرحيم*} فلا يأخذ إلا بعد تجاوز الحد، واليأس عن الرد، مع البيان الشافي، في الإبلاغ الوافي، والتلطف الكافي، وكرر الختام بهذا الكلام في هذه السورة ثماني مرات فلعل من أسراره الإشارة إلى سبق الرحمة للغضب، لأن من السورة - المفتتحة بالكتاب القيم والعبد الكامل بالإضافة إلى الملك الأعظم اللذين هما رحمة الخالق للخلائق، وذكر فيها مع تقديمها في الترهيب أهل الرحمة من أهل الكهف

ص: 93

الذين قالوا {هب لنا من لدنك رحمة} وموسى والخضر عليهما السلام اللذين آتى كلا منهما من لدنه رحمة، وذا القرنين الذي آتاه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً وقال {هذا رحمة من ربي} - إلى سورة الرحمة بإنزال الفرقان على عبده المضاف إليه للإنذار المؤذن بصفة العزة - ثماني سور، فكل منهما ثامنة الأخرى، وافتتحت السورة الوالية للفرقان تفصيلاً لما في أول الكهف بقوله:{لعلك باخع نفسك} وبذكر ما على الأرض من زينة {ألم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم} كل ذلك تذكيراً بما في تلك من الكتاب الجامع بالرحمة، وتحذيراً مما في القرآن من الإنذار الفارق بالعزة، فلما كان ذلك كررت صفتا العز التي أذنت بها الفرقان، والرحمة التي صرحت بها الكهف ثماني مرات بحسب ذلك العدد، تذكيراً بهذا المعنى البديع، وترغيباً وترهيباً وتذكيراً بأبواب الرحمة الثمانية مع ما لختم القصص بذلك من الروعة في النفس، والهيبة في القلب، والأنس البالغ للروح، وقدمت هنا صفة العزة الناظرة للإنذار بالفرقان على طريق النشر المشوش مع ما اقتضى ذلك من الحال هنا وجعلت القصص سبعاً تحذيراً من أبواب النقمة السبعة - إلى غير ذلك من الأسرار التي لا تسعها الأفكار.

ولما كانت آثار هذه القصص آيات مرئيات، والإخبار بها آيات

ص: 94

مسموعات، وكان في اطراد إهلاك العاصي وإنجاء الطائع في كل منهما، على تباعد الأعصار، وتناهي الأقطار، واختلاف الديار، أعظم دليل على صدق الرسل، وتقرير الرسالات لتوافقهم في الدعوة إلى الله، وتواردهم على التوحيد، والعدل مع العزوف عن الدنيا التي هي شر محض، والإقبال على الآخرة التي هي خير صرف، والتحلي بما أطبق العباد على أنه معالي الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والتخلي عن جميع الدنايا، والتنزه عن كل نقص، عطف على قوله أول السورة {وما يأتيهم من ذكر} - الآية الإخبار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، إشارة إلى ما في الإخبار عن آثار هذه القصص بالآيات المسموعات من عظيم الدلالات على رسالته صلى الله عليه وسلم بما فيها من الإعجاز من جهة التركيب والترتيب وغير ذلك من عجيب الأساليب الذي لم تؤته أمة من الأمم السالفات، ومن جهة أن الآتي بتلك القصص الغريبة، والأنباء البديعة العجيبة، أمي لم يخالط عالماً مع شدة ملاءمة القرآن لخصوص ما في قصة شعيب عليه السلام من العدل في الكيل والوزن الذي هو مدار القرآن، ومن أنه الظلة الجامعة للخير، والفسطاط الدافع لكل ضير، فقال رداً للمقطع على المطلع:{وإنه} أي الذكر

ص: 95

الذي أتاهم بهذه الأخبار وهم عنه معرضون وله تاركون {لتنزيل رب العالمين*} أي الذي رباهم بشمول علمه، وعظيم قدرته، بما يعجز عن أقل شيء منه غيره لكونه أتاهم بالحق منها على لسان من لم يخالط عالماً قط، ومع أنه سبحانه غذاهم بنعمته، ودبرهم بحكمته، فاقتضت حكمته أن يكون هذا الذكر جامعاً لكونه ختاماً، وأن يكون معجزاً لكونه تماماً، ونزله على حسب التدريج شيئاً فشيئاً. مكرراً فيه ذكر القصص سابقاً في كل سورة منها ما يناسب المقصود من تلك السورة، معبراً عما يسوقه منها بما يلائم الغرض من ذلك السياق مع مراعاة الواقع، ومطابقة الكائن.

ولما كان الحال مقتضياً لأن يقال: من أتى بهذا المقال، عن ذي الجلال؟ قال:{نزل به} أي نجوماً على سبيل التدريج من الأفق الأعلى الذي هو محل البركات، وعبر عن جبرائيل عليه السلام بقوله:{الروح} دلالة على أنه مادة خير، وأن الأرواح تجيء بما ينزله من الهدى، وقال:{الأمين*} إشارة إلى كونه معصوماً من كل دنس، فلا يمكن منه خيانة {على قلبك} أي يا محمداً الذي هو أشرف القلوب وأعلاها، وأضبطها وأوعاها، فلا زيغ فيه ولا عوج،

ص: 96

حتى صار خلقاً له، وفي إسقاط الواسطة إشارة إلى أنه - لشدة إلقائه السمع وإحضاره الحس - يصير في تمكنه منه بحيث يحفظه فلا ينسى، ويفهمه حق فهمه فلا يخفى، فدخوله إلى القلب في غاية السهولة حتى كأنه وصل إليه بغير واسطة السمع عكس ما يأتي عن المجرمين، وهكذا كل من وعى شيئاً غاية الوعي حفظه كل الحفظ، انظر إلى قوله تعالى {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً} [طه: 114] {لا تحرك به لسانك لتعجل به} [القيامة: 16] .

ولما كان السياق في هذه السورة للتحذير، قال معللاً للجملة التي قبله:{لتكون من المنذرين*} أي المخوفين المحذرين لمن أعرض عن الإيمان، وفعل ما نهى عنه من العصيان.

ولما كان القصد من السورة التسلية عن عدم إيمانهم بأنه لسفول شأنهم، لا لخلل في بيانه، ولا لنقص في شأنه، قال تعالى موضحاً لتمكنه من قبله:{بلسان عربي} . ولما كان في العربي ما هو حوشي لفظاً أو تركيباً، مشكل على كثير من العرب، قال:{مبين*} أي بين في نفسه كاشف لما يراد منه غير تارك لبساً عند من تدبره

ص: 97

حق تدبره على ما يتعارفه العرب في مخاطباتها، من سائر لغاتها، بحقائقها ومجازاتها على اتساع إراداتها، وتباعد مراميها في محاوراتها، وحسن مقاصدها في كناياتها واستعاراتها، ومن يحيط بذلك حق الإحاطة غير العليم الحكيم الخبير البصير، وإنما كانت عربيته وإبانته موضحة لسبقه قلبه، لأن من تكلم بلغته - فكيف بالبين منها - تسبق المعاني الألفاظ إلى قلبه، فلو كان أعجمياً لكان نازلاً على السمع، لأنه يسمع أجراس حروف لا يفهم معانيها؛ قال الكشاف: وقد يكون الرجل عارفاً بعدة لغات، فإذا كلم بلغته التي لقنها أولاً ونشأ عليها وتطبع بها لم يكن قلبه إلا إلى المعاني، ولا يكاد يفطن للألفاظ، وإن كلم بغيرها وإن كان ماهراً فيها كان نظره أولاً في ألفاظها ثم في معانيها - انتهى. ففيه تقريع عظيم لمن يعرف لسان العرب ولا يؤمن به.

ولما كان الاستكثار من الأدلة مما يسكن النفوس، وتطمئن به

ص: 98

القلوب، قال تعالى:{وإنه} أي هذا القرآن أصوله وكثير من قصصه وأمهات فروعه {لفي زبر} أي كتب {الأولين*} المضبوطة الظاهرة في كونها أتت من السماء إلى أهلها الذين سكنت النفوس إلى أنه أتتهم رسل، وشرعت لهم شرائع نزلت عليهم بها كتب من غير أن يخالط هذا الذي جاء به أحداً منهم أو من غيرهم في علم ما، وكان ذلك دليلاً قاطعاً على أنه ما أتاه به إلا الله تعالى.

ولما كان التقدير: ألم يكن لهم أمارة على صدق ذلك أن يطلبوا تلك الزبر فينظروا فيذوقوا ذلك منها ليضلوا إلى حق اليقين؟ عطف عليه قوله: {أولم يكن لهم} .

ولما كان هذا الأسلوب الاستدلال، اقتضى تقديم الخبر على الاسم في قراءة الجمهور بالتذكير والنصب، فقال بعد تقديم لما اقتضاه من الحال:{آية} أي علامة على النسبة إلينا؛ ثم اتبع ذلك الاسم محلولاً إلى أن والفعل لأنه أخص وأعرف وأوضح من ذكر المصدر، فقال:{أن يعلمه} أي هذا الذي أتى به نبينا من عندنا؛ وأنث ابن عامر الفعل ورفع {آية} اسماً وأخبر عنها بأن والفعل {علماء بني إسرائيل*} فيقروا به ولا ينكروه، ليؤمنوا به ولا يهجروه، فإن قريشاً كانوا كثيراً ما يرجعون إليهم ويعولون في

ص: 99

الأخبار الإلهية عليهم، فإن كثيراً منهم أسلم وذكر تصديق التوارة والإنجيل والزبور وغيرها من أسفار الأنبياء عليهم السلام للقرآن في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك ما يؤيد صدقه، ويحقق أمره، وقد عربت الكتب المذكورة بعد ذلك، وأخرج منها علماء الإسلام كثيراً مما أهملوه حجة عليهم، ولا فرق في ذلك بين من أسلم منهم وبين غيرهم، فإنها حين نزول القرآن كان التبديل قد وقع فيها بإخبار الله تعالى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أهل مكة بعثوا إلى اليهود يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا زمانه، وإنا لنجد في التوراة صفته، فكان ذلك ملزماً لهم بإخبار الله تعالى، وكذلك كل ما استخرج من الكتب يكون حجة على أهلها.

ولما كان التقدير: لم يروا شيئاً من ذلك آية ولا آمنوا، عطف عليه أو على قوله تعالى أول سورة {فقد كذبوا} الآية:{ولو نزلناه} أي على ما هو عليه من الحكمة والإعجاز بما لنا من العظمة {على بعض الأعجمين*} الذين لا يعرفون شيئاً من لسان العرب من

ص: 100

البهائم أو الآدميين، جمع أعجم، وهو من لا يفصح وفي لسانه عجمة، والأعجمي مثله بزيادة تأكيد ياء النسبة {فقرأه عليهم} أي ذلك الذي نزلناه عليه على ما هو عليه من الفصاحة والإعجاز مع علمهم القطعي أنه لا يعرف شيئاً من اللسان {ما كانوا به مؤمنين*} أي راسخين ولتمحلوا لكفرهم عذراً في تسميته سحراً أو غير ذلك من تعنتهم {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهو مشركون} من فرط عنادهم، وتهيئهم للشر واستعدادهم له، بل لا يسمعونه حق السماع، ولا يعونه حق الوعي، بل سماعاً وفهماً على غير وجهه.

ص: 101

ولما كان ذلك محل عجب، وكان ربما ظن له أن الأمر على غير حقيقته، قرر مضمونه وحققه بقوله:{كذلك} أي مثل هذا السلك العجيب - الذي هو سماع وفهم ظاهري - في صعوبة مدخله وضيق مدرجه.

ولما لم يكن السياق مقتضياً لما اقتضاه سياق الحجر من التأكيد، اكتفى بمجرد الحدوث فقال:{سلكناه} أي كلامنا والحق الذي أرسلنا به رسلنا بما لنا من العظمة، في قلوبهم - هكذا كان الأصل، ولكنه علق الحكم بالوصف، وعم كل زمن وكل من اتصف به فقال:{في قلوب المجرمين*} أي الذين طبعناهم على الإجرام، وهو القطيعة

ص: 101

لما ينبغي وصله، كما ينظم السهم إذا رمي به، أو الرمح إذا طعن به في القلب، لا يتسع له، ولا ينشرح به، بل تراه ضيقاً حرجاً.

ولما كان هذا المعنى خفياً، بينه بقوله:{لا يؤمنون به} أي من أجل ما جبلوا عليه من الإجرام، وجعل على قلوبهم من الطبع والختام {حتى يروا العذاب الأليم*} فحينئذ يؤمنون حيث لا ينفعهم الإيمان ويطلبون الأمان حيث لا أمان.

ولما كان إتيان الشر فجاءة أشد. وكان أخذه لهم عقب رؤيتهم له من غير مهلة يحصل فيها نوع استعداد أصلاً، دل على ذلك مصوراً لحاله بقوله دالاًّ بالفاء على الأشدية والتعقيب:{فيأتيهم بغتة} .

ولما كان البغت الإتيان على غفلة، حقق ذلك نافياً للتجوز بقوله:{وهم لا يشعرون*} ودل على تطاوله في محالهم، وجوسه لخلالهم، وتردده في حلالهم، بقوله دالاًّ على ما هو أشد عليهم من المفاجأة بالإهلاك:{فيقولوا} أي تأسفاً واستسلاماً وتلهفاً في تلك الحالة لعلمهم بأنه لا طاقة به بوجه: {هل نحن منظرون*} أي مفسوح لنا في آجالنا لنسمع ونطيع.

ولما حقق أن حالهم عند الأخذ الجؤار بالذل والصفار به، تسبب عنه ما يستحقون باستعجاله من الإنكار في قوله، منبهاً على أن قدره يفوق الوصف بنون العظمة:{أفبعذابنا} أي وقد تبين لهم

ص: 102

لما ينبغي وصله، كما ينظم السهم إذا رمي به، أو الرمح إذا طعن به في القلب، لا يتسع له، ولا ينشرح به، بل تراه ضيقاً حرجاً.

ولما كان هذا المعنى خفياً، بينه بقوله:{لا يؤمنون به} أي من أجل ما جبلوا عليه من الإجرام، وجعل على قلوبهم من الطبع والختام {حتى يروا العذاب الأليم*} فحينئذ يؤمنون حيث لا ينفعهم الإيمان ويطلبون الأمان حيث لا أمان.

ولما كان إتيان الشر فجاءة أشد. وكان أخذه لهم عقب رؤيتهم له من غير مهلة يحصل فيها نوع استعداد أصلاً، دل على ذلك مصوراً لحاله بقوله دالاًّ بالفاء على الأشدية والتعقيب:{فيأتيهم بغتة} .

ولما كان البغت الإتيان على غفلة، حقق ذلك نافياً للتجوز بقوله:{وهم لا يشعرون*} ودل على تطاوله في محالهم، وجوسه لخلالهم، وتردده في حلالهم، بقوله دالاًّ على ما هو أشد عليهم من المفاجأة بالإهلاك:{فيقولوا} أي تأسفاً واستسلاماً وتلهفاً في تلك الحالة لعلمهم بأنه لا طاقة به بوجه: {هل نحن منظرون*} أي مفسوح لنا في آجالنا لنسمع ونطيع.

ولما حقق أن حالهم عند الأخذ الجؤار بالذل والصفار به، تسبب عنه ما يستحقون باستعجاله من الإنكار في قوله، منبهاً على أن قدره يفوق الوصف بنون العظمة:{أفبعذابنا} أي وقد تبين لهم

ص: 103

كيف كان أخذه للأمم الماضية، والقرون الخالية، والأقوام العاتية! {يستعجلون*} أي بقولهم: أمطر علينا حجارة من السماء، أسقط السماء علينا كسفاً، ائت بالله والملائكة قبيلاً، كما قال هؤلاء الذين قصصنا أمرهم، وتلونا ذكرهم {فأسقط علينا كسفاً من السماء} ونحو ذلك.

ولما تصورت حالة مآبهم، في أخذهم بعذابهم، وكان استعجالهم به يتضمن الاستخفاف والتكذيب والوثوق بأنهم ممتعون، وتعلق آمالهم بأن تمتيعهم بطول زمانه، وكان من يؤذونه يتمنى لو عجل لهم، سبب عن ذلك سبحانه سؤال داعيهم مسلياً ومؤسياً ومعزياً فقال:{أفرأيت} أي هب أن الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم في النعيم فأخبرني {إن متعناهم} أي في الدنيا برغد العيش وصافي الحياة.

ولما كانت حياة الكافر في غاية الضيق والنكد وإن كان في أصفى رغد، عبر بما يدل على القحط بصيغة القلة وإن كان السياق يدل على أنها للكثرة فقال:{سنين ثم جاءهم} أي بعد تلك السنين المتطاولة، والدهور المتواصلة {ما كانوا يوعدون*} أي مما طال إنذارك إياهم به وتحذيرك لهم منه على غاية التقريب لهم والتمكين في إسماعهم، أخبرني {ما} أي أيّ شيء {أغنى عنهم} أي فيما أخذهم من العذاب {ما كانوا} أي كوناً هو في غاية المكنة وطول الزمان {يمتعون*}

ص: 104

تمتيعاً هو في غاية السهولة عندنا، وصوره بصورة الكائن تنديماً عليه، والمعنى أنه ما أغنى عنهم شيئاً لأن عاقبته الهلاك، وزادهم بعداً من الله وعذابه بزيادة الآثام الموجبة لشديد الانتقام.

ولما كان التقدير: لم يغن عنهم شيئاً لأنهم ما أخذوا إلا بعد إنذار المنذرين، لمشافهتك إياهم به، وسماعهم لمثل ذلك عمن مضى قبلهم من الرسل، عطف عليه قوله:{وما أهلكنا} أي بعظمتنا، واعلم بالاستغراق بقوله:{من قرية} أي من القرى السالفة، بعذاب الاستئصال {إلا لها منذرون*} رسولهم ومن تبعه من أمته ومن سمعوا من الرسل بأخبارهم مع أممهم من قبل، وأعراها من الواو لأن الحال لم يقتض التأكيد كما في الحجر، لأن المنذرين مشاهدون. وإذا تأملت آيات الموضعين ظهر لك ذلك؛ ثم علل الإنذار بقوله:{ذكرى} أي تنبيهاً عظيماً على ما فيه من النجاة، وتذكيراً بأشياء يعرفونها بما أدت إليه فطر عقولهم، وقادت إليه بصائر قلوبهم، وجعل المنذرين نفس الذكرى كما قال تعالى {قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً} [الطلاق: 10] وذلك إشارة إلى إمعانهم في التذكير حتى صاروا إياه.

ولما كان التقدير: فما أهلكنا قرية منها إلا بالحق، عطف عليه قوله:{وما كنا} أو الواو للحال من نون {أهلكنا} {ظالمين*} أي في إهلاك شيء منها لأنهم كفروا نعمتنا، وعبدوا غيرنا، بعد الإعذار إليهم، ومتابعة الحجج، ومواصلة الوعيد.

ولما أخبر سبحانه أن غاية إنزال هذا القرآن كونه صلى الله عليه وسلم من المنذرين، وأتبع ذلك ما لاءمه حتى ختم بإهلاك من كذب المنذرين، عطف على قوله:{نزل به الروح} قوله إعلاماً بأن العناية شديدة في هذا السياق بالقرآن لتقرير أنه من عند الله ونفى اللبس عنه بقوله: {وما تنزلت به} أي القرآن {الشياطين*} أي ليكون سحراً أو كهانة أو شعراً أو أضغاث أحلام كما يقولون.

ص: 105

ولما كان لا يلزم من عدم التلبس بالفعل عدم الصلاحية له قال: {وما ينبغي لهم} أي ما يصح وما يتصور منهم النزول بشيء منه لأنه خير كله وبركة، وهم مادة الشر والهلكة، فبينهما تمام التباين، وأنت سكينة ونور، وهم زلزلة وثبور، فلا إقبال لهم عليك، ولا سبيل بوجه إليك.

ولما كان عدم الانتفاء لا يلزم منهم عدم القدرة قال: {وما يستطيعون*} أي النزول به وإن اشتدت معالجتهم على تقدير أن يكون لهم قابلية لذلك؛ ثم علل هذا بقوله: {إنهم عن السمع} أي

ص: 105

الكامل الحق، من الملأ الأعلى {لمعزولون*} أي بما حفظت به السماء من الشهب وبما باينوا به الملائكة في الحقيقة لأنهم خير صرف، ونور خالص، وهؤلاء شر بحت وظلمة محضة، فلا يسمعون إلا خطفاً، فيصير - بما يسبق إلى أفهامهم، ويتصور من باب الخيال في أوهامهم - خلطاً لا حقيقة لأكثره، فلا وثوق بأغلبه، ولا يبعد أن يكون ذلك عاماً حتى يشمل السماع من المؤمنين لما شاركوا به الملائكة من النور والخير، انظر ما ورد في آية الكرسي من أنها لا تقرأ في بيت فيقربه شيطان، وفي رواية: إلا خرج منه الشيطان، وورد نحوه في الآيتين من آخر سورة البقرة، وكذا ما كان من أشكال ذلك، وأعظم منه قوله عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه:«إنه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك» وترك تعليل الانبغاء لظهوره.

ولما كان تقديره أنهم إلى الطواغيت الباطلة يدعون، والقرآن داع إلى الله الحق المبين، سبب عنه قوله:{فلا تدع} وخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام وهو أكرم الخلق لديه، وأعزهم عليه، ليكون لطفاً لغيره فيما يأتيه من الإنذار، فيكون الوعيد أزجر له، ويكون هو له أقبل {مع الله} أي الحائز لكل كمال الداعي إليه هذا القرآن الذي

ص: 106

نزل به عليك الروح الأمين، لما بينك وبينهما من تمام النسبة بالنورانية والخير {إلهاً} وتقدم في آخر الفرقان حكمة الإتيان بقوله:{آخر فتكون} أي فيتسبب عن ذلك أن تكون {من المعذبين*} من القادر على ما يريد بأيسر أمر وأسهله، وهذا الكلام لكل من سمع القرآن في الحث على تدبره معناه، ومقصده ومغزاه، ليعلم أنه في غاية المباينة للشياطين وضلالهم، والملاءمة للمقربين وأحوالهم، لعله خاطب به المعصوم، زيادة في الحث على اتباع الهدى، وتجنب الردى، وليعطف عليه قوله:{وأنذر} أي بهذا القرآن {عشيرتك} أي قبيلتك {الأقربين*} أي الأدنين في النسب، ولا تحاب أحداً، فإن المقصود الأعظم به النذارة لكف الخلائق عما يثمر الهلاك من اتباع الشياطين الذين اجتالوهم عن دينهم بعد أن كانوا حنفاء كلهم، وإنذار الأقربين يفهم الإنذار لغيرهم من باب الأولى، ويكسر من أنفة الأبعد للمواجهة بما يكره، لأنه سلك به مسلك الأقرب، ولقد قام صلى الله عليه وسلم بهذه الآية حق القيام؛ روى البخاري

«عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي لبطون - قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل

ص: 107

إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيََّ؟ قالوا: نعم! ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت {تبت يدا أبي لهب وتب} » وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال:«يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يابني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئاً! يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد! سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً» وروى القصة أبو يعلى عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن قريشاً جاءته فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وموسى في البحر وعيسى في إحياء الموت، وأن يسير الجبال، ويفجر الأنهار، ويجعل الصخر ذهباً، فأوحى الله إليه وهم عنده، فلما سُرِّيَ عنه أخبرهم أنه أعطي ما سألوه، ولكنه أن أراهم فكفروا عوجلوا. فاختار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 108

الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة.

ولما كانت النذارة إنما هي للمتولين، أمر بضدها لأضدادهم فقال:{واخفض جناحك} أي لن غاية اللين، وذلك لأن الطائر إذا أراد أن يرتفع رفع جناحيه، فإذا أراد أن ينحط كسرهما وخفضهما، فجعل ذلك مثلاً في التواضع {لمن اتبعك} ولعله احترز بالتعبير بصيغة الافتعال عن مثل أبي طالب ممن لم يؤمن أو آمن ظاهراً وكان منافقاً أو ضعيفاً بالإيمان فاسقاً؛ وحقق المراد بقوله:{من المؤمنين*} أي الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة سواء كانوا من الأقربين أو الأبعدين.

ولما أفهم ذلك أن هذا الحكم عام في جميع أحوالهم، فصل بقوله:{فإن عصوك} أي هم فغيرهم من باب الأولى {فقل} أي تاركاً لما كنت تعاملهم به حال الإيمان من اللين: {إني بريء} أي منفصل غاية الانفصال {مما تعملون*} أي من العصيان الذي أنذر منه القرآن، وخص المؤمنين إعلاء لمقامهم، بالزيادة في إكرامهم، ليؤذن ذلك المزلزل بالعلم بحاله فيحثه ذلك على اللحاق بهم.

ولما أعلمت هذه الآية بمنابذة من عصى كائناً من كان ولو كان ممن ظهر منه الرسوخ في الإيمان، لما يرى منه من عظيم الإذعان، أتبعه قوله:{وتوكل} أي في عصمتك ونجاتك والإقبال

ص: 109

بالمنذرين إلى الطاعة، وقراءة أهل المدينة والشام بالفاء السببية أدل على ذلك {على العزيز} أي القادر على الدفع عنكم والانتقام منهم {الرحيم*} أي المرجو لإكرام الجميع برفع المخالفة والشحناء، والإسعاد بالاستعمال فيما يرضيه؛ ثم أتبع الأمر بالتوكل الوصف بما يقتضي الكفاية في كل ما ينوب من دفع الضر وجلب النفع، وذلك هو العلم المحيط المقتضي لجميع أوصاف الكمال، فقال:{الذي يراك} أي بصراً وعلماً {حين تقوم*} من نومك من فرشك تاركاً لحبك، لأجل رضا ربك {و} يرى {تقلبك} في الصلاة ساجداً وقائماً {في الساجدين*} أي المصلين من أتباعك المؤمنين، لكم دوي بالقرآن كدوي النحل، وتضرع من خوف الله، ودعاء وزفرات تصاعد وبكاء، أي فهو جدير لإقبالكم عليه، وخضوعكم بين يديه، بأن يحبوكم بكل ما يسركم.

ص: 110

ولما كانت هذه الأحوال مشتملة على الأقوال، وكان قد قدم الرؤية المتضمنة للعلم، علل ذلك بالتصريح به مقروناً بالسمع فقال:{إنه هو} أي وحده {السميع} أي لجميع أقوالكم {العليم*} أي بجميع ما تسرونه وتعلنونه من أعمالكم، وقد تقدم غير مرة أن شمول العلم

ص: 110

يستلزم تمام القدرة، فصار كأنه قال: إنه السميع العليم البصير القدير، تثبيتاً للمتوكل عليه.

ولما بين سبحانه أن القرآن مناف لأقوال الشياطين، وبين أن حال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أتباعه منافية لأحوالهم وأحوال من يأتونه من الكهان بما ذكره سبحانه من فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أشياعه رضي الله عنهم من الإقبال على الله، والإعراض عما سواه، فعلم أن بينهم وبينهم بوناً بعيداً، وفرقاً كبيراً شديداً، وأن حال النبي صلى الله عليه وسلم موافق لحال الروح الأمين، النازل عليه بالذكر الحكيم، تشوفت النفس إلى معرفة أحوال إخوان الشياطين، مقال محركاً لمن يريد ذلك، متمماً لدفع اللبس عن كون القرآن من عند الله، وفرق بين الآيات المتكلفة بذلك تطرية لذكرها وتنبيهاً على تأكيد أمرها:{هل أنبئكم} أي أخبركم خبراً جليلاً نافعاً في الدين، عظيم الجدوى في الفرقان بين أولياء الرحمن وإخوان الشيطان {على من تنزل} وتردد {الشياطين*} حين تسترق السمع على ضرب من الخفاء بما آذن به حذف التاء، ودخل حرف الجر على الاسم المتضمن للاستفهام،

ص: 111

لأن معنى التضمن أنه كان أصله: أمن، فحذفت منه الهمزة حذفاً مستمراً كما فعل في «هل» لأن أصله «أهل» كما قال:

سائل فوارس يربوع بشدتنا

أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

فالاستفهام مقدر قبل الجار - أفاده الزمخشري.

ولما كان كأنه قيل: نعم أنبئنا! قال: {تنزل} على سبيل التدريج والتردد {على كل أفاك} أي صراف - على جهة الكثرة والمبالغة - للأمور عن وجوهها بالكذب والبهتان، والخداع والعدوان، من جملة الكهان وأخذان الجان {أثيم*} فعال الآثام بغاية جهده، وهؤلاء الأثمة {يلقون السمع} إلى الشياطين، ويصغون إليهم غاية الإصغاء، لما بينهما من التعاشق بجامع إلقاء الكذب من غير اكتراث ولا تحاش، أو يلقي الشياطين ما يسمعونه مما يسترقون استماعه من الملائكة إلى أوليائهم، فهم بما سمعوا منهم يحدثون، وبما زينت لهم نفوسهم يخلطون {وأكثرهم} أي الفريقين {كاذبون*} فيما ينقلونه عما يسمعونه من الإخبار بما حصل فيما وصل إليهم من التخليط، وما زادوه من الافتراء والتخبيط انهماكاً في شهوة علم المغيبات، الموقع

ص: 112

في الإفك والضلالات؛ قال الرازي في اللوامع ما معناه أنه حيثما كان استقامة في حال الخيال - أي القوة المتخيلة - كانت منزلة الملائكة، وحيثما كان اعوجاج في حال الخيال كان منزل الشياطين، فمن ناسب الروحانيين من الملائكة كان مهبطهم عليه، وظهورهم له، وتأثيرهم فيه، وتمثلهم به، حتى إذا ظهروا عليه تكلم بكلامهم وتكلموا بلسانه، ورأى بأبصارهم وأبصروا بعينيه، فهم ملائكة يمشون على الأرض مطمئنين

{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة} [فصلت: 30] ومن ناسب الشياطين من الأبالسة كان مهبطهم عليه، وظهورهم له، وتأثيرهم فيه، وتمثلهم به، حتى إذا ظهروا عليه تكلم بكلامهم وتكلموا بلسانه، ورأى بأبصارهم وابصروا بعينيه، هم شياطين الإنس يمشون في الأرض مفسدين - انتهى.

ولما بطل - بإبعاده عن دركات الشياطين، وإصعاده إلى درجات الروحانيين، من الملائكة المقربين، الآتين عن رب العالمين - كونه سحراً، وكونه أضغاثاً ومفترى، نفى سبحانه كونه شعراً بقوله:{والشعراء يتبعهم} أي بغاية الجهد، في قراءة غير نافع بالتشديد، لاستحسان مقالهم وفعالهم، فيتعلمون منهم وينقلون عنهم {الغاوون*} أي الضالون المائلون عن السنن الأقوم إلى الزنى والفحش وكل فساد يجر إلى الهلاك، وهم كما ترى بعيدون من أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 113

ورضي عنهم الساجدين الباكين الزاهدين.

ولما قرر حال أتباعهم، فعلم منه أنهم هم أغوى منهم، لتهتكهم في شهوة اللقلقة باللسان، حتى حسن لهم الزور والبهتان، دل على ذلك بقوله:{ألم تر أنهم} أي الشعراء. ومثل حالهم بقوله: {في كل واد} أي من أودية القول من المدح والهجو والنسيب والرثاء الحماسة والمجون وغير ذلك {يهيمون*} أي يسيرون سير الهائم حائرين وعن طريق الحق جائرين، كيفما جرهم القول انجروا من القدح في الأنساب، والتشبيب بالحرم، والهجو. ومدح من لا يستحق المدح ونحو ذلك، ولهذا قال:{وأنهم يقولون ما لا يفعلون*} أي لأنهم لم يقصدوه. وإنما ألجأهم إليه الفن الذي سلكوه فأكثر أقوالهم لا حقائق لها، انظر إلى مقامات الحريري وما اصطنع فيها من الحكايات، وابتدع بها من الأمور المعجبات. التي لا حقائق لها، وقد جعلها أهل الاتحاد أصلاً لبدعتهم الكافرة، وقاعدة لصفقتهم الخاسرة، فما أظهر حالهم، وأوضح ضلالهم! وهذا بخلاف القرآن فإنه معان جليلة محققة، في ألفاظ متينة جميلة منسقة، وأساليب معجزة مفحمة، ونظوم معجبة محكمة،

ص: 114

لا كلفة في شيء منها، فلا رغبة لذي طبع سليم عنها، فأنتج ذلك أنه لا يتبعهم على أمرهم إلا غاو مثلهم، ولا يزهد في هذا القرآن إلا من طبعه جاف، وقلبه مظلم مدلهم.

ولما كان من الشعر - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حكمة، وكان - كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها - بمنزلة الكلام منه حسن ومنه قبيح، وكان من الشعراء من يمدح الإسلام والمسلمين، ويهجو الشرك والمشركين، ويزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، ويحث على مكارم الأخلاق، وينفر عن مساوئها، وكان الفيصل بين قبيلي حسنة وقبيحة كثرة ذكر الله، قال تعالى:{إلا الذين آمنوا} أي بالله ورسوله {وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي التي شرعها الله ورسوله لهم {وذكروا الله} مستحضرين ما له من الكمال {كثيراً} لم يشغلهم الشعر عن الذكر، بل بنوا شعرهم على أمر الدين والانتصار للشرع، فصار لذلك كله ذكر الله، ويكفي مثالاً لذلك قصيدة عزيت لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وجوابها لابن الزبعرى، وكان إذ ذاك على شركه، وذلك في أول سرية كانت في الإسلام. وهي سرية عبيدة بن الحارث بم المطلب بن عبد مناف رضي الله تعالى عنه،

ص: 115

فإن قصيدة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ليس فيها بيت إلا وفيه ذكر الله إما صريحاً وإما بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شيء من دينه، وما ليس فيه شيء من ذلك فهو ىيل إليه لبنائه عليه، وأما نقيضها فلا شيء في ذلك فيها؛ قال ابن إسحاق: قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه في غزوة عبيدة بن الحارث.

أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث

أرقت وأمر في العشيرة حادث

ترى من لؤيّ فرقة لا يصدها

عن الكفر تذكير ولا بعث باعث

رسول أتاهم صادق فتكذبوا

عليه وقالوا لست فينا بماكث

إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا

وهروا هرير المحجرات اللواهث

فكم قد متتنا فيهم بقرابة

وترك التقى شيء لهم غير كارث

فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم

فما طيباب الحل مثل الخبائث

وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم

فليس عذاب الله عنهم بلابث

ونحن أناس من ذؤابة غالب

لنا العز منها في الفروع الأثائث

فأولى برب الراقصات عشية

حراجيج تخذي في السريح الرثائث

كأدم ظباء حول مكة عكف

يردن حياض البئر ذاب النبائث

لئن لم يفيقوا عاجلاً عن ضلالهم

ولست إذا آليت قولاً بحانث

ص: 116

لتبتدرنهم غارة ذات مصدق

تحرّم أطهار النساء الطوامث

تغادر قتلى تعصب الطير حولهم

ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث

فأبلغ بني سهم لديك رسالة

وكل كفور يبتغي الشر باحث

فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم

فإني من إعراضكم غير شاعث

فأجابه ابن الزبعرى فقال:

أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث

بكيت بعين دمعها غير لابث

ومن عجب الأيام والدهر كله

له عجب من سابقات وحادث

لجيش أتانا ذي عرام يقوده

عبيدة يدعى في الهياج ابن حارث

لنترك أصناماً بمكة عكفاً

مواريث موروث كريم لوارث

فلما لقيناهم بسمر ردينة

وجرد عتاق في العجاج لواهث

وبيض كأن الملح فوق متونها

بأيدي كماة كالليوث العوائث

نقيم بها إعصاراً ما كان مائلاً

ونشفي الذخول عاجلاً غير لابث

فكفوا على خوف شديد وهيبة

وأعجبهم أمر لهم أمر رائث

ص: 117

ولو أنهم لم يفعلوا ناح نسوة

أيامي لهم من بين نسء وطامث

وقد غودرت قتلى يخبر عنهم

حفيّ بهم أو غافل غير باحث

فأبلغ ابابكر لديك رسالة

فما أنت عن أعراض فهر بماكث

ولما تجب مني يمين غليظة

تجدد حرباً حلفه غير حانث

وروى البغوي بسنده من طريق عبد الرزاق من حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده! لكأنما ترمونهم به نضح النبل» وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما ينشد الشعر ويستنشده في المسجد، وروى الإمام أحمد حديث كعب هذا، وروى النسائي برجال احتج بهم مسلم عن أنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» قال البغوي: وروي أنه - أي ابن عباس رضي الله عنهما دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي

ص: 118

فاستنشهده القصيدة التي قالها:

أمن آل نعمى أنت غاد فمبكر

غداة غد أم رائح فمهجر

وهي قريب من تسعين بيتاً، فلما فرغها أعادها ابن عباس وكان حفظها بمرة واحدة، ويكفي الشاعر في التفصي عن ذم هذه الآية له أن لا يغلب عليه الشعر فيشغله عن الذكر حتى يكون من الغاوين، وليس من شرطه أن لا يكون في شعره هزل أصلاً، فقد كان حسان رضي الله تعالى عنه ينشد النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله في قصيدة طويلة مدحه صلى الله عليه وسلم فيها:

كأن سيبئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء

إذا ما الأشربات ذكرن يوماً

فهن لطيب الراح الفداء

نوليها الملامة إن ألمنا

إذا ما كان مغث أو لحاء

ونشربها فتتركنا ملوكاً

وأسداً ما ينهنهنا اللقاء

ص: 119

وقد كان تحريم الخمر سنة ثلاث من الهجرة أو سنة أربع، وهذه القصيدة قالها حسان رضي الله تعالى عنه في الفتح سنة ثمان أو في عمرة القضاء سنة سبع، فهي مما يقول الشاعر ما لا يفعل.

ولما عرف سبحانه بحال المستثنين في الذكر الذي هو أساس كل أمر، أتبعه ما حملهم على الشعر من الظلم الذي رجاهم النصر فقال:{وانتصروا} أي كلفوا أنفسهم أسباب النصر بشعرهم فيمن آذاهم {من بعد ما ظلموا} أي وقع ظلم الظالم لهم بهجو ونحوه.

ولما أباح سبحانه الانتصار من الظالم، وكان البادىء - إذا اقتصر المجيب على جوابه - أظلم، كان - إذا تجاوز - جديراً بأن يعتدي فيندم، حذر الله الاثنين مؤكداً للوعيد بالسين في قوله الذي كان السلف الصالح يتواعظون به لأنك لا تجد أهيب منه، ولا أهول ولا أوجع لقلوب المتأملين، ولا أصدع لأكباد المتدبرين:{وسيعلم} وبالتعميم في قوله: {الذين ظلموا} أي كلهم من كانوا، وبالتهويل بالإبهام في قوله:{أي منقلب} أي في الدنيا والاخرة {ينقلبون*} وقد انعطف آخرها - كما ترى بوصف الكتاب المبين

ص: 120

بما وصف به الجلالة والعظم بأنه من عند الله متنزلاً به خير مليكته، على أشرف خليقته، مزيلاً لكل لبس، منفياً عنه كل باطل، وبالختام بالوعيد على الظلم - على أولها في تعظيم الكتاب المبين، وتسلية النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم ووعيد الكافرين الذين هم أظلم الظالمين، واتصل بعدها في وصف القرآن المبين، وبشرى المؤمنين ووعيد الكافرين، فسبحان من أنزله على النبي الأمي الأمين، هدى للعالمين، وآية بينة بإعجازه للخلائق أجمعين، باقية إلى يوم الدين.

ص: 121

مقصودها وصف هذا الكتاب بالكفاية لهداية الخلق أجمعين، بالفصل بين الصراط المستقيم، وطريق الحائرين، والجمع لأصول الدين، لإحاطة علم منزله بالخفي والمبينن وبشارة المؤمنين، ونذارة الكافرين، بيوم احتماع الأولين والآخرين، وكل ذلك يرجع إلى العلم المستلزم للحكمة، فالمقصود الأعظممنها إظهار العلم والحكمة كما كان مقصود التي قبلها إظهار البطش والنقمة، وأدل ما فيها على هذا المقصود ما للنمل من حسن التدبير، وسداد المذاهب في العيش، ولا سيما ما ذكر عنها سبحانه من صحة القصد في السياسة، وحسن التعبير عن ذلك القصد، وبلاغة التأدية) بسم الله (الذي كمل علمه فبهرت حكمته) الرحمن (الذي عم بالهداية بأوضح البيان) الرحيم (الذي منّ بجنان النعيم.

على من ألزمه الصراط المستقيم)

ص: 122

{طس} يشير إلى طهارة الطور وذي طوى منه وطيب طيبه، وسعد بيت المقدس الذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام التي انتشر منها الناهي عن الظلم، وإلى أنه لما طهر سبحانه بني إسرائيل، وطيبهم بالابتلاء فصبروا، خلصهم من فرعون وجنوده بمسموع موسى عليه الصلاة والسلام للوحي المخالف لشعر الشعراء، وإفك الآثمين وزلته من الطور،

ص: 122

ولم يذكر تمام أمرهم بإغراق فرعون، لأن مقصودها إظهار العلم والحكمة دون البطش والنقمة، فلم يقتض الحال ذكر الميم.

ولما ختم التي قبلها بتحقيق أمر القرآن، وأنه من عند الله، ونفي الشبه عنه وتزييف ما كانوا يتكلفونه من تفريق القول فيه بالنسبة إلى السحر والأضغاث والافتراء والشعر، الناشىء كل ذلك عن أحوال الشياطين، وابتدأ هذه بالإشارة إلى أنه من الكلام القديم المسموع المطهر عن وصمة تلحقه من شيء من ذلك، تلاه بوصفه بأنه كما أنه منظوم مجموع لفظاً ومعنى لا فصم فيه ولا خلل، ولا وصم ولا زلل، فهو جامع لأصول الدين ناشر لفروعه، بما أشار إليه الكون من المسلمين فقال:{تلك} أي الآيات العالية المقام البعيدة المرام، البديعة النظام {آيات القرآن} أي الكامل في قرآنيته الجامع للأصول، الناشر للفروع، الذي لا خلل فيه ولا فصم، ولا صدع لولا وصم {و} آيات {كتاب} أي وأيّ كتاب هو مع كونه جامعاً لجميع ما يصلح المعاش والمعاد، قاطع في أحكامه، غالب في أحكامه، في كل من نقضه وإبرامه، وعطفه دون إتباعه للدلالة على أنه كامل في كل من قرآنيته وكتابيته {مبين*} أي بين في نفسه أنه من عند الله كاشف لكل مشكل، موضح لكل ملبس مما كان ومما هو كائن من الأحكام والدلائل في الأصول والفروع، والنكت والإشارات والمعارف، فيا له من جامع فارق واصل فاصل.

ص: 123

ولما كانت العناية في هذه السورة بالنشر - الذي هو من لوازم الجمع في مادة «قرا» كما مضى بيانه أول الحجر - أكثر، قدم القرآن، يدل على ذلك انتشاراً أمر موسى عليه الصلاة والسلام في أكثر قصته بتفريقه من أمه، وخروجه من وطنه إلى مدين، ورجوعه مما صار إليه إلى ما كان فيه، والتماسه لأهله الهدى والصلى واضطراب العصى وبث الخوف منها، وآية اليد وجميع الآيات التسع، واختيار التعبير بالقوم الذي أصل معناه القيام، وإبصار الآيات، وانتشار الهدهد، وإخراج الخبأ الذي منه تعليم منطق الطير، وتكليم الدابة للناس، وانتشار المرأة وقومها وعرشها بعد تردد الرسل بينها وبين سليمان عليه الصلاة والسلام، وكشف الساق، وافتراق ثمود إلى فريقين، مع الاختصام المشتت، وانتثام قوم لوط عليه السلام إلى ما لا يحل، وتفريق الرياح نشراً، وتقسيم الرزق بين السماء والأرض، ومرور الجبال، ونشر الريح لنفخ الصور الناشىء عنه فزع الخلائق المبعثر للقبور، إلى غير ذلك مما إذا تدبرت السورة انفتح لك بابه، وانكشف عنه حجابه، وهذا بخلاف ما في الحجر على ما مضى.

وقال الإمام ابو جعفر بن الزبير: لما أوضح في سورة الشعراء عظيم رحمته بالكتاب، وبيان ما تضمنه مما فضح به الأعداء، ورحم به الأولياء، وبراءته من أن تتسور الشياطين عليه، وباهر آياته الداعية من اهتدى بها إليه، فتميز بعظيم آياته كونه فرقاناً قاطعاً، ونوراً ساطعاً، أتبع سبحانه ذلك مدحة وثناء، وذكر من شملته رحمته به تخصيصاً واعتناء، فقال {تلك آيات القرآن} أي الحاصل عنها مجموع تلك الأنوار

ص: 124

آيات القرآن {وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين} ثم وصفهم ليحصل للتابع قسطه من بركة التبع، وليتقوى رجاؤه في النجاة مما أشار إليه {وسيعلم الذين ظلموا} من عظيم ذلك المطلع؛ ثم أتبع ذلك بالتنبيه على صفة الآهلين لما تقدم من التقول والافتراء تنزيهاً لعباده المتقين، وأوليائه المخلصين، عن دنس الشكوك والامتراء فقال:{إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون} أي يتحيرون فلا يفرقون بين النور والإظلام، لارتباك الخواطر والأفهام؛ ثم أتبع ذلك بتسليته عليه الصلاة والسلام بالقصص الواقعة بعد تنشيطاً له وتعريفاً بعلي منصبه، وإطلاعاً له على عظيم صنعه تعالى فيمن تقدم، ثم ختمت السورة بذكر أهل القيامة وبعض ما بين يديها، والإشارة إلى الجزاء ونجاة المؤمنين، وتهديد من تنكب عن سبيله عليه الصلاة والسلام انتهى.

ولما عظم سبحانه آيات الكتاب بما فيها من الجمع من النشر مع الإبانة، ذكر حاله فقال:{هدى} ولما كان الشيء قد يهدي إلى مقصود يكدر حال قاصده. قال نافياً لذلك، وعطف عليه بالواو دلالة على الكمال في كل من الوصفين:{وبشرى} أي عظيمة.

فلما تشوفت النفوس، وارتاحت القلوب، فطم من ليس بأهل عن عظيم هذه الثمرة فقال:{للمؤمنين} أي الذين صار ذلك لهم

ص: 125

وصفاً لازماً بما كان لهم فيل دعاء الداعي من طهارة الأخلاق، وطيب الأعراق، وفي التصريح بهذا الحال تلويح بأنه فتنه وإنذار للكافرين {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً فأما الذين في قلوبهم زيغ} - الآية، {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء} [فصلت: 44] ، {والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمي} - إلى غير ذلك من الآيات.

ولما كان وصف الإيمان خفياً، وصفهم بما يصدقه من الأمور الظاهرة فقال:{الذين يقيمون الصلاة} أي بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات والشروط والأركان والخشوع والخضوع والمراقبة والإحسان إصلاحاً لما بينهم وبين الخالق.

ولما كان المقصود الأعظم من الزكاة إنما هو التوسعة على الفقراء قال: {ويؤتون الزكاة} أي إحساناً فيما بينهم وبين الخلائق.

ولما كان الإيمان بالبعث هو الجامع لذلك ولغيره من سائر الطاعات، ذكره معظماً لتأكيده، فقال معلماً بجعله حالاً إلا أنه شرط لما قبله:{وهم} أي والحال أنهم.

ولما كان الإيمان بالبعث هو السبب الأعظم للسعادة وهو محط للحكمة، عبر فيه بما يقتضي الاختصاص، لا للاختصاص بل للدلالة على غاية الرسوخ في الإيمان به، فقال:{بالآخرة هم} أي المختصون بأنهم {يوقنون*} أي يوجدون الإيقان حق الإيجاد ويجددونه في كل حين

ص: 126

بما يوجد منهم من الإقدام على الطاعة، والإحجام عن المعصية.

ولما أفهم التخصيص أن ثم من يكذب بها وكان أمرها مركوزاً في الطباع، لما عليها من الأدلة الباهرة في العقل والسماع، تشوفت نفس السامع على سبيل التعجب إلى حالهم، فقال مجيباً له مؤكداً تعجيباً ممن ينكر ذلك:{إن الذين لا يؤمنون} أي يوجدون الإيمان ويجددونه {بالآخرة زينا} أي بعظمتنا التي لا يمكن دفاعها {لهم أعمالهم} أي القبيحة، حتى أعرضوا عن الخوف من عاقبتها مع ظهور قباحتها، والإسناد إليه سبحانه حقيقي عند أهل السنة لأنه الموجد الحقيقي، وإلى الشيطان مجاز سببي {فهم} أي فتسبب عن ذلك أنهم {يعمهون*} أي يخبطون خبط من لا بصيرة له اصلاً ويترددون في أودية الضلال، ويتمادون في ذلك، فهم كل لحظة في خبط جديد، بعمل غير سديد ولا سعيد، فإن العمه التحير والتردد كما هو حال الضال.

ص: 127

ولما خص المؤمنين بما علم منه أن لهم حسن الثواب، وأنهم في الآخرة هم الفائزون، ذكر ما يختص به هؤلاء من ضد ذلك فقال:{أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين لهم} أي خاصة {سوء العذاب} في الدارين: في الدنيا بالأسر والقتل والخوف {وهم في الآخرة هم}

ص: 127

المختصون بأنهم {الأخسرون*} أي أشد الناس خسارة لأنهم خسروا ما لا خسارة مثله، وهو أنفسهم التي لا يمكنهم إخلافها.

ولما وصف القرآن من الجمع والفرقان، بما اقتضى بيان أهل الفوز والخسران، وكان حاصل حال الكفرة أنهم يتلقون كفرهم الذي هو في غاية السفه إما عن الشياطين الذين هم في غاية الشر، وإما عن آبائهم الذين هم في غاية الجهل، وصف النبي صلى الله عليه وسلم بضد حالهم، فذكر جلالة المنزل عليه والمنزل ليكون أدعى إلى قبوله. فقال عاطفاً على {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة} :{وإنك} أي وأنت أشرف الخلق وأعلمهم وأحلمهم وأحكمهم {لتلقى القرآن} أي تجعل متلقياً له من الملك، وحذف هنا الواسطة وبناه للمفعول إعلاء له.

ولما كانت الأمور التي من عند الله تارة تكون على مقتضى الحكمة فتسند إلى أسبابها، وأخرى خارقة للعادة فتنسب إليه سبحانه، والخارقة تارة تكون في أول رتب الغرابة فيعبر عنها بعند، تارة تكون في أعلاها فيعبر عنها بلدان، نبه سبحانه على أن هذا القرآن في الذروة من الغرابة في أنواع الخوارق فقال:{من لدن} .

ولما مضى في آخر الشعراء ما تقدم من الحكم الجمة في تنزيله بهذا اللسان. وعلى قلب سيد ولد عدنان، بواسطة الروح الأمين، مبايناً لأحوال الشياطين، إلى غير ذلك مما مضى إلى أن ختمت بتهديد الظالمين،

ص: 128

وكان الظالم إلى الحكمة أحوج منه إلى مطلق العلم، وقدم في هذه أنه هدى، وكان الهادي لا يقتدي به ولا يوثق بهدايته إلا إن كان في علمه حكيماً، اقتضى السياق تقديم وصف الحكمة، واقتضى الحال التنكير لمزيد التعظيم فقال:{حكيم} أي بالغ الحكمة، فلا شيء من أفعاله إلا وهو في غاية الإتقان {عليم*} أي عظيم العلم واسعه تامة شاملة، فهو بعيد جداً عما ادعوه فيه من أنه كلام الخلق الذي لا علم لهم ولا حكمة إلا ما آتاهم الله، ومصداق ذل عجز جميع الخلق عن الإتيان بشيء من مثله، وإدراك شيء من مغازيه حق إدراكه.

ولما وصفه بتمام الحكمة وشمول العلم، دل على كل من الوصفين، وعلى إبانه القرآن وما له من العظمة التي أشار إليها أول السورة بما يأتي في السورة من القصص وغيرها، واقتصر في هذه السورة على هذه القصص لما بينها من عظيم التناسب المناسب لمقصود السورة، فابتدىء بقصة أطبق فيها الأباعد على الكفران فأهلكوا، والأقارب على الإيمان فأنجوا، وثنى بقصة أجمع فيها الأباعد على الإيمان، لم يتخلف منهم إنسان، وثلث بأخرى حصل بين الأقارب فيها الفرقان، باقتسام الكفر والإيمان، وختم بقصة تمالأ الأباعد فيها على العصيان، وأصروا على الكفران،

ص: 129

فابتلعتهم الأرض ثم غطوا بالماء كما بلغ الأولين الماء فكان فيه التواء.

ولما كان تعلق «إذ» باذكر من الوضوح في حد لا يخفى على أحد، قال دالاً على حكمته وعلمه:{إذ} طاوياً لمتعلقه لوضوح أمره فصار كأنه {قال} : اذكر حكمته وعلمه حين قال: {موسى لأهله} أي زوجة وهو راجع من مدين إلى مصر، قيل: ولم يكن معه غيرها: {إني آنست} أي أبصرت إبصاراً حصل لي الأنس، وأزال عني الوحشة والنوس {ناراً} فعلم بما في هذه القصة من الأفعال المحكمة المنبئة عن تمام العلم اتصافه بالوصفين علماً مشاهداً، وقدم ما الحكمة فيه أظهر لاقتضاء الحال التأمين من نقص ما يؤمر به من الأفعال.

ولما كان كأنه قيل: فماذا تصنع؟ قال آتياً بضمير المذكر المجموع للتعبير عن الزوجة المذكورة بلفظ «الأهل» الصالح للمذكر والجمع صيانة لها وستراً. جازماً بالوعد للتعبير بالخير الشامل للهدى وغيره، فكان تعلق الرجاء به أقوى من تعلقه بخصوص كونه هدى، ولأن مقصود السورة يرجع إلى العلم، فكان الأليق به الجزم، ولذا عبر بالشهاب الهادي لأولي الألباب:{سآتيكم} أي بوعد صادق وإن أبطأت

ص: 130

{منها بخبر} أي ولعل بعضه يكون مما نهتدي به في هذا الظلام إلى الطريق، وكان قد ضلها {أو آتيكم بشهاب} أي شعلة من نار ساطعة {قبس} أي عود جاف مأخوذ من معظم النار فهو بحيث قد استحكمت فيه النار فلا ينطفىء؛ وقال البغوي: وقال بعضهم: الشهاب شيء ذو نور مثل العمود، والعرب تسمي كل أبيض ذي نور شهاباً، والقبس: القطعة من النار. فقراءة الكوفيين بالتنوين على البدل أو الوصف، وقراءة غيرهم بالإضافة، لأن القبس أخص. وعلل إتيانه بذلك إفهاماً لأنها ليله باردة بقوله:{لعلكم تصطلون*} أي لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفىء بذلك أي يجد به الدفء لوصوله معي فيه النار، وآذن بقرب وصوله فقال:{فلما جاءها} أي تلك التي ظنها ناراً.

ولما كان البيان بعد الإبهام أعظم، لما فيه من التشويق والتهيئة للفهم، بني للمفعول قوله:{نودي} أي من قبل الله تعالى.

ولما أبهم المنادى فتشوقت النفوس إلى بيانه، وكان البيان بالإشارة أعظم. لما فيه من توجه النفس إلى الاستدلال، نبه سبحانه عليه بجعل الكلام على طريقة كلام القادرين، إعلاماً بأنه الملك الأعلى فقال بانياً للمعفول، آتياً بأداة التفسير، لأن النداء بمعنى القول:

ص: 131

{أن بورك} أي ثبت تثبيتاً يحصل منه من النماء والطهارة وجميع الخيرات ما لا يوصف {من في النار} أي بقعتها، أو طلبها وهو طلب بمعنى الدعاء، والعبارة تدل على أن الشجرة كانت كبيرة وأنها لما دنا منها بعدت منه النار إلى بعض جوانبها فتبعها، فلما توسط الردحة أحاط به النور، وسمي النور ناراً على ما كان في ظن موسى عليه الصلاة والسلام، وقال سعيد بن جبير: بل كانت ناراً كما رأى موسى عليه السلام، والنار من حجب الله كما في الحديث:

«حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» {ومن حولها} من جميع الملائكة عليهم السلام وتلك الأراضي المقدسة على ما أراد الله في ذلك الوقت وفي غيره وحق لتلك الأراضي أن تكون كذلك لأنها مبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومهبط الوحي عليهم وكفاتهم أحياء وأمواتاً.

ولما أتاه النداء - كما ورد - من جميع الجهات، فسمعه بجميع الحواس، أمر بالتنزيه، تحقيقاً لأمر من أمره سبحانه، وتثبيتاً له، فقال عاطفاً على ما أرشد السياق إلى تقديره من مثل: فأبشر بهذه البشرى العظيمة: {وسبحان الله} أي ونزه الملك الذي له الكمال المطلق تنزيهاً

ص: 132

يليق بجلاله، ويجوز أن يكون خبراً معطوفاً على {بورك} أي وتنزه الله سبحانه تنزهاً يليق بجلاله عن أن يكون في موضع النداء أو غيره من الأماكن.

ولما كان تعليق ذلك بالاسم العلم دالاً على أنه يستحق ذلك لمجرد ذاته المستجمع لجميع صفات الكمال، من الجلال والجمال، وصفه بما يعرف أنه يستحقه أيضاً لأفعاله بكل مخلوق التي منها ما يريد أن يربي به موسى عليه الصلاة والسلام كبيراً بعد ما رباه به صغيراً، فقال:{رب العالمين*} .

ولما تشوفت النفس إلى تحقق الأمر تصريحاً، قال معظماً له تمهيداً لما أراد سبحانه إظهاره على يده من المعجزات الباهرات:{يا موسى إنه} أي الشأن العظيم الجليل الذي لا يبلغ وصفه {أنا الله} أي البالغ من العظمة ما تقصر عنه الأوهام، وتتضاءل دونه نوافذ الأفهام، ثم أفهمه مما تتضمن ذلك وصفين يدلانه على أفعاله معه فقال:{العزيز} أي الذي يصل إلى جميع ما يريد ولا يوصل إلى شيء مما عنده من غير الطريق التي يريد {الحكيم*} أي الذي ينقض كل ما يفعله غيره إذا أراد،

ص: 133

ولا يقدر غيره أن ينقض شيئاً من فعله.

ولما كان التقدير: فافعل جميع ما آمرك به فإنه لا بد منه، ولا تخف من شيء فإنه لا يوصل إليك بسوء لأنه متقن بقانون الحكمة، محروس بسور العزة، دل عليه بالعطف في قوله:{وألق عصاك} أي لتعلم علماً شهودياً عزتي وحكمتي - أو هو معطوف على {أن بورك} - فألقاها كما أمر، فصارت في الحال - بما أذنت به الفاء - حية عظيمة جداً، هي - مع كونها في غاية العظم - في نهاية الخفة والسرعة في اصطرابها عند محاولتها ما يريد {فلما رآها تهتز} أي تضطرب في تحركها مع كونها في غاية الكبر {كأنها جآن} أي حية صغيرة في خفتها وسرعتها، ولا ينافي ذلك كبر جثتها {ولى} أي موسى عليه الصلاة والسلام.

ولما كانت عليه التولية مشتركة بين معان، بين المراد بقوله:{مدبراً} أي التفت هارباً منها مسرعاً جداً لقوله: {ولم يعقب} أي لم يرجع على عقبه، ولم يتردد في الجد في الهرب، ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليته، يقال: عقب عليه تعقيباً، أي كر، وعقب في الأمر تعقيباً: تردد في طلبه مجداً - هذا في ترتيب المحكم. وفي القاموس: التعقيب:

ص: 134

الالتفات. وقال القزاز في ديوانه: عقب - إذا انصرف راجعاً فهو معقب.

ولما تشوفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة، أجيبت بأنه قيل له:{يا موسى لا تخف} ثم علل هذا النهي بقوله، مبشراً بالأمن والرسالة:{إني لا يخاف لديّ} أي في الموضع الذي هو من غرائب نواقض العادات، وهي وقت الوحي ومكانه {المرسلون*} أي لأنهم معصومون من الظلم، ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم.

ص: 135

ولما دل أول الكلام وآخره على أن التقدير ما ذكرته، وعلم منه أن من ظلم خاف، وكان المرسلون بل الأنبياء معصومين عن صدور ظلم، ولكنهم لعلو مقامهم، وعظيم شأنهم، يعد عليهم خلاف الأولى، بل بعض المباحات المستوية، بل أخص من ذلك، كما قالوا «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ، استدرك سبحانه من ذلك بأداة الاستثناء ما يرغب المرهبين من عواقب الظلم آخر تلك في التوبة، وينبه موسى عليه السلام على غفران وكزة القبطي له، وأنه لا خوف عليه بسببه وإن كان قتله مباحاً لكونه خطأ مع أنه كافر، لكن علو المقام يوجب التوقف عن الإقدام إلا بإذن خاص، ولذلك سماه هو ظلماً فقال {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها

ص: 135

فقال: {إلا} أو المعنى: لكن {من ظلم} كائناً من كان، بفعل سوء {ثم بدل} بتوبته {حسناً بعد سوء} وهو الظلم الذي كان عمله، أي جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليه الصلاة والسلام فإني أغفره له بحيث يكون كأنه لم يعمله أصلاً، وأرحمه بما أسبغ عليه من ملابس الكرامة المقارنة للأمن والعز وإن أصابه قبل ذلك نوع خوف. ثم علل ذلك بأن المغفرة والرحمة صفتان له ثابتتان، فقال:{فإني} أي أرحمه بسبب أني {غفور} أي من شأني أني أمحو الذنوب محواً يزيل جميع آثارها {رحيم*} أعامل التائب منها معاملة الراحم البليغ الرحمة بما يقتضيه حاله من الكرامة، فايل أثر ما كان وقع فيه من موجب الخوف وهو الظلم.

ولما أراه سبحانه هذه الخارقة فيما كان في يده بقلب جوهرها إلى جوهر شيء آخر حيواني، أراه آية أخرى في يده نفسها بقلب عرضها الذي كانت عليه إلى عرض آخر نوراني، فقال:{وأدخل يدك في جيبك} أي فتحة ثوبك، وهو ما قطع منه ليخيط بعنقك {تخرج} أي إذا أخرجتها {بيضاء} أي بياضاً عظيماً نيراً

ص: 136

جداً، له شعاع كشعاع الشمس.

ولما كان ربما وقع في وهم أن هذه الآفة، قال:{من غير سوء} أي برص ولا غيره من الآفات، آية أخرى كائنة {في} جملة {تسع آيات} كما تقدم شرحها في سورة الإسراء وغيرها، منتهية على يدك برسالتي لك {إلى فرعون وقومه} أي الذين هم أشد أهل هذا الزمان قياماً في الجبروت والعدوان؛ ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله:{إنهم كانوا} أي كوناً كأنه جبلة لهم {قوماً فاسقين*} أي خارجين عن طاعتنا لتردهم إلينا.

ولما كان التقدير: فأتاهم كما أمرناهم فعاندوا أمرنا، قال منبهاً على ذلك، دالاً بالفاء على سرعة إتيانه إليهم امتثالاً لما أمر به:{فلما جاءتهم آياتنا} أي على يده {مبصرة} أي سبب الإبصار لكونها منيرة ظاهرة جداً، فهي هادية لهم إلى الطريق الأقوم هداية النور لمن يبصر، فهو لا يخطىء شيئاً ينبغي أن ينتفع به {قالوا هذا سحر} أي خيال لا حقيقة له {مبين*} أي واضح في أنه خيال {وجحدوا} أي أنكروا عالمين {بها} أي أنكروا كونها آيات موجبات لصدقه مع علمهم بإبطالهم لأن الجحود الإنكار مع العلم.

ولما كان الجحد معناه إنكار الشيء مع العلم به، حقق ذلك بقوله:{واستيقنتها} أي والحال أنهم قد طلبوا الوقوف على حقائق أمرها

ص: 137

حتى تيقنتها في كونها حقاًَ {أنفسهم} وتخلل علمها صميم عظامهم، فكانت ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم، ولذلك أسند الاستيقان إلى النفس. ثم علل جحدهم ووصفهم لها بخلاف وصفها فقال:{ظلماً وعلواً} أي إرادة وضع الشيء في غير حقه، والتكبر على الآتي به، تلبيساً على عباد الله.

ولما كان التقدير: فأغرقناهم أجمعين بأيسر سعي وأهون أمر فلم يبق منهم غير تطرف، ولم يرجع منهم مخبر، على كثرتهم وعظمتهم وقوتهم، عطف عليه تذكيراً به مسبباً عنه قوله:{فانظر} ونبه على أن خبرهم مما تتوفر الدواعي على السؤال عنه لعظمته، فقال معبراً بأداة الاستفهام:{كيف كان} وكان الأصل: عاقبتهم، أي آخر أمرهم، ولكنه أظهر فقال:{عاقبة المفسدين*} ليدل على الوصف الذي كان سبباً لأخذهم تهديداً لكل من ارتكب مثله.

ص: 138

ولما تم بهذه القصة الدليل على حكمته، توقع السامع الدلالة على علمه سبحانه، فقال مبتدئاً بحرف التوقع مشيراً إلى أنه لا نكير في فضل الآخر على الأول عاطفاً على ما تقديره: فلقد آتينا موسى وأخاه هارون عليهما السلام حكمة وهدى وعلماً ونصراً على من

ص: 138

خالفهما وعزاً: {ولقد آتينا} أي بما لنا من العظمة {داود وسليمان} أي ابن داود، وهما من أتباع موسى عليهم السلام وبعده بأزمان متطاولة {علماً} أي جزاء من العلم عظيماً من منطق الطير والدواب وغير ذلك لم نؤته لأحد قبلهما.

ولما كان التقدير: فعملا بمقتضاه، عطف عليه قوله:{وقالا} شكراً عليه، دلالة على شرف العلم وتنبيهاً لأهله على التواضع:{الحمد} أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال {لله} أي الذي لا مثل له وله الجلال والجمال {الذي فضلنا} أي بما آتانا من ذلك {على كثير من عباده المؤمنين*} أي الذين صار الإيمان لهم خلقاً.

ولما كان كل منهما عليهما السلام قد أوتي ما ذكر، أشار إلى فضل سليمان عليه السلام بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه فقال:{وورث سليمان داود} أي أباه عليهما السلام دون إخوته في النبوة والعلم والملك الذي كان قد خصه الله دون قومه بجمعه له إلى النبوة، فشكر الله على ما أنعم به عليه أولاً وثانياً {وقال} أي سليمان عليه السلام محدثاً بنعمة ربه ومنبهاً على ما شرفه الله به، ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير:{يا أيها الناس} .

ص: 139

ولما كان من المعلوم أنه لا معلم له إلا الله، فإن لا يقدر على ذلك غيره، قال بانياً للمفعول:{علمنا} أي أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله ممن لا يقدر على ما علمنا سواء ولو كان المقصود هو وحده لم يكن من التعاظم في شيء، بل هو كلام الواحد المطاع، تنبيهاً على تعظيم الله بما عظمه به مما يختص بالقدرة عليه أو بالأمر به كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا كان هناك حال يحوج إليه كما قال في الزكاة: إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل، وكما كان يكتب لبعض الجبابرة {منطق الطير} أي فهم ما يريد كل طائر إذا صوت، والمنطق ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، لا بدع في أن الذي آتى كل نفس هداها وعلمها تميز منافعها ومضارها يؤتيها قوة تدرك بها تخاطباً بينها يتفاهم كل نوع منها به فيما يريد، ويكون ذلك قاصراً عن إدراك الإنسان لخصوصه بالجزئيات الناشئة عن الحسيات {وأوتينا} ممن له العظمة بأيسر أمر من أمره {من كل شيء} أي يكمل به ذلك من اسباب الملك والنبوة وغيرهما، وعبر بأداة الاستغراق تعظيماً للنعمة كما يقال لمن يكثر تردد الناس إليه: فلان يقصده كل أحد.

ص: 140

ولما كان هذا أمراً باهراً، دل عليه بقوله مؤكداً بأنواع التأكيد وشاكراً حاثاً لنفسه على مزيد الشكر وهازاً لها إليه:{إن هذا} أي الذي أوتيناه {لهو الفضل المبين*} أي البين في نفسه لكل من ينظره، الموضح لعلو قدر صاحبه ووحدانية مفيضة مؤتية.

ولما كان هذا مجرد خبر، أتبعه ما يصدقه فقال:{وحشر} أي جمع جمعاً حتماً بقهر وسطوة وإكراه بأيسر سعي {لسليمان جنوده} .

ولما دل ذلك على عظمه، زاد في الدلالة عليه بقوله:{من الجن} بدأ بهم لعسر جمعهم {والإنس} ثنى بهم لشرفهم ومشاركتهم لهم في ذلك من حيث تباعد أغراضهم وتناءي قصودهم.

ولما ذكر ما يعقل وبدأ به لشرفه، أتبعه ما لا يعقل فقال:{والطير} ولما كان الحشر معناه الجمع بكره، فكان لا يخلو عن انتشار، وكان التقدير: وسار بهم في بعض الغزوات، سبب عنه قوله تعظيماً للجيش وصاحبه:{فهم يوزعون*} أي يكفون بجيش أولهم على آخرهم بأدنى أمر وأسهله ليتلاحقوا، فيكون ذلك أجدر بالهيبة، وأعون على النصرة، وأقرب إلى السلامة؛ عن قتادة أنه كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير، قال: والوازع: الحابس وهو النقيب. وأصل الوزع الكف والمنع.

ص: 141

ولما كان التقدير: فساروا، لأن الوزع لا يكون إلا عن سير، غياه بقوله:{حتى إذا أتوا} أي أشرفوا. ولما كان على بساطه فوق متن الريح بين السماء والأرض. عبر بأداة الاستعلاء فقال: {على واد النمل} وهو واد بالطائف - كما نقله البغوي عن كعب، وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف إلى الآن عندهم بهذا الاسم، ويسمى أيضاً نخب وزن كتف، وقد رأيته لما قصدت تلك الديار لرؤية مشاهدها، والتطواف في معابدها ومعاهدها. والتبرك بآثار الهادي، في الانتهاء والمبادىء، ووقفت بمسجد فيه قرب سدرة تسمى الصادرة مشهور عندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى به، وهذه السدرة مذكورة في غزوة الطائف من السيرة الهشامية واقتصر في تسمية الوادي على نخب، وأنشدت فيه يوم وقوفي ببابه، وتضرعي في أعتابه:

مررت بوادي النمل يا صاح بكرة

فصحت وأجريت الدموع على خدي

وتممت منه موقف الهاشمي الذي

ملأ الأرض توحيداً يزيد على العد

وكم موقف أفرشته حر جبهتي

وأبديت في أرجائه ذلة العبد

ص: 142

في قصيدة طويلة.

ولما كانوا في أمر يهول منظره، ويوهي القوى مخالطته ومخبره، فكان التقدير: فتبدت طلائعهم، وتراءت راياتهم ولوامعهم، وأحمالهم ووضائعهم، نظم به قوله:{قالت نملة} أي من النمل الذي بذلك الوادي: {يا أيها النمل} ولما حكى عنهم سبحانه ما هو من شأن العقلاء، عبر بضمائرهم فقال:{ادخلوا} أي قبل وصول ما أرى من الجيش ما {مساكنكم} ثم عللت أمرها معينة لصاحبه إذ كانت أماراته لا تخفى فقالت جواباً للأمر أو مبدلاً منه: {لا يحطمنكم} أي يكسرنكم ويهشمنكم أي لا تبرزوا فيحطمنكم.

فهو نهي لهم عن البروز في صور نهيه وهو أبلغ من التصريح بنهيهم لأن من نهى كبيراً عن شيء كان لغيره أشد نهياً {سليمان وجنوده} أي فإنهم لكثرتهم إذا صاروا في الوادي استعلوا عليه فطبقوه فلم يدعوا منه موضع شبر خالياً {وهم} أي سليمان عليه السلام وجنوده {لا يشعرون*} أي بحطمهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير، وتعاطي مصالحة، مع صغر أجسامكم، وخفائكم على السائر في حال اضطرابكم ومقامكم، وقولها هذا يدل على

ص: 143

علمها بأنهم لو شعروا بهم ما آذوهم لأنهم أتباع نبي فهم رحماء.

ولما كان هذا أمراً معجباً لما فيه من جزالة الألفاظ وجلالة المعاني، تسبب عنه قوله:{فتبسم} ولما دل ذلك على الضحك، وكان ذلك قد يكون للغضب، أكده وحقق معناه بقوله:{ضاحكاً من قولها} أي لما أوتيته من الفصاحة والبيان، وسروراً بما وصفته به من العدل في أنه وجنوده لا يؤذون أحداً وهم يعلمون {وقال} متذكراً ما أولاه ربه سبحانه بحسن تربيته من فهم كلامها إلى ما أنعم عليه من غير ذلك:{رب} أي أيها المحسن إليّ {أوزعني أن} أي اجعلني مطيقاً لأن {أشكر نعمتك} أي وازعاً له كافاً مرتبطاً حتى لا يغلبني. ولا يتفلت مني، ولا يشذ عني وقتاً ما.

ولما أفهم ذلك تعلق النعمة به. حققه بقوله: {التي أنعمت عليّ} وربما أفهم قوله: {وعلى والديّ} أن أمه كانت أيضاً تعرف منطق الطير. وتحقيق معنى هذه العبارة أن مادة «وزع» - بأيّ ترتيب كان - يدور على المعوز - لخرقة بالية يلف بها الصبي، ويلزمها التمييز، فإن الملفوف بها يتميز عن غيره، ومنه الأوزاع وهم الجماعات المتفرقة، ويلزمها أيضاً الإطاقة فإن أكثر الناس يجدها، ومنه العزون - لعصب من الناس، فإنهم يطيقون ما يريدون ويطيقهم من يريدهم، ومنه الوزع وهو كف ما يراد كفه، والولوع بما يزاد، ومنه الإيعاز - للتقدم بالأمر والنهي، والزوع للجذب، ويلزمها أيضاً الحاجة فإنه لا يرضى بها دون الجديد إلا محتاج، فمعنى الآية: اجعلني وازعاً - أي مطيقاً - أن أشكرها كما يطيق الوازع كف ما يريد كفه، ويمكن أن يكون مدار المادة الحاجة لأن الأوزاع -

ص: 144

وهم الجماعات - يحتاجون إلى الاجتماع جملة، والكاف محتاج إلى امتثال ما يكفه لأمره، والجاذب محتاج إلى الزوع أي الجذب، والمولع بالشيء فقير إليه، والموعز محتاج إلى قبول وصيته، فالمعنى: اجعلني وازعاً أي فقيراً إلى الشكر، أي ملازماً له مولعاً به، لأن كل فقير إلى شيء مجتهد في تحصيله، ويلزم على هذا التخريج احتقار العمل، فيكون سبباً للأمن من الإعجاب، وفي الآية تنبيه على بر الوالدين في سؤال القيام عنهم بما لم يبلغاه من الشكر - والله الموفق.

والشكر في اللغة فعل ينبىء عن تعظيم المنعم لكونه منعماً كالثناء على المنعم بما يدل على أن الشاكر قد عرف نعمته واعترف له بها وحسن موقعها عنده، وخضع قلبه له لذلك، وحاصله أنه اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم فإنه إذا عرفها تسبب في

ص: 145

التعرف إليه، فسلك طريق التعرف وجد في الطلب، ومن جدَّ وجد، ويروى عن داود عليه الصلاة والسلام أنه قال: يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة آخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! إذا علمت أن ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني.

والشكر ثلاثة أشياء: الأول معرفة النعمة بمعنى إحضارها في الخاطر بحيث يتميز عندك أنها نعمة، فرب جاهل يحسن إليه وينعم عليه وهو لا يدري، فلا جرم أنه لا يصح منه الشكر. والثاني: قبول النعمة بتلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة، فإن ذلك شاهد بقبولها حقيقة، والثالث: الثناء بها بأن تصف المنعم بالجود والكرم ونحوه مما يدل على حسن تلقيك لها واعترافك بنزول مقامك في الرتبة عن مقامه، فإن اليد العليا خير من اليد السفلى، وهو على ثلاث درجات: الأولى الشكر على المحاب أي الأشياء المحبوبة، وهذا شكر تشارك فيه المثبتون المسلمون واليهود والنصارى والمجوس، فإن الكل يعتقدون أن الإحسان الواصل من الرحمن واجب معرفته على الإنسان، ومن سعة بر البارىء سبحانه وتعالى أن عده شكراً مع كونه واجباً على الشاكر. ووعد عليه الزيادة، وأوجب فيه المثوبة إحساناً ولطفاً. الثانية: الشكر في المكاره، وهو إما من رجل لا يميز بين الحالات، بل يستوي عنده المكروه والمحبوب، فإذا نزل به المكروه شكر الله عليه بمعنى أنه أظهر الرضا بنزوله به، وهذا مقام الرضا، وإما من رجل

ص: 146

يميز بين الأحوال فهو لا يحب المكروه ولا يرضى بنزوله، فإن نزل به مكروه فشكره عليه إنما هو كظم الغيظ وستر الشكوى وإن كان باطنه شاكياً، والكظم إنما هو لرعاية الأدب بالسلوك في مسلك العلم، فإنه يأمر العبد بالشكر في السراء والضراء والثالثة: أن لا يشهد العبد إلا المنعم باشتغاله بالاستغراق في مشاهدته عن مشاهدة النعمة، وهذا الشهودعلى ثلاثة أقسام: أحدها أن يستغرق فيها عبودة، فيكون مشاهداً له مشاهدة العبد للسيد بأدب العبيد إذا حضروا بين يدي سيدهم، فإنهم ينسون ما هم فيه من الجاه والقرب الذي ما حصل لغيرهم، باستغراقهم في الأدب، وملاحظتهم لسيدهم خوفاً من أن يسير إليهم في أمر فيجدهم غافلين، وهذا أمر معروف عند من صحب الملوك.

فصاحب هذا الحال إذا أنعم عليه سيده في هذه الحالة، مع قيامه في حقيقة العبودة، استعظم الإحسان، لأن العبودة توجب عليه أن يستضغر نفسه. ثانيها أن يشهد سيده شهود محبة غالبة، فهو يسبب هذا الاستغراق فيه، يستحلي منه الشدة، وقد قال بعض عشاق حسن الصورة لا صورة الحسن فأحسن:

من لم يذق ظلم الحبيب كظلمه

حلواً فقد جهل المحبة وادعى

ثالثها: أن يشهد شهود تفريد يرفع الثنويه ويفني الرسم ويذهب الغيرية،

ص: 147

فإذا وردت عليه النعمة أو الشدة كان مستغرقاً في الفناء فلم يحس بشيء منهما.

ولما علم من هذا كله أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل من فناء أو غيره بحسب ما يقدر عليه، وكان ذلك عمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسناً وهو ليس كذلك، قال صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى هذا المعنى:{وأن أعمل صالحاً} أي في نفس الأمر. ولما كان العمل الصالح قد لا يرضي المنعم لنقص في العمل كما قيل في معنى ذلك:

إذا كان المحب قليل حظ

فما حسناته إلا ذنوب

قال: {ترضاه} .

ولما كان العمل الصالح المرضي قد لا يعلى إلى درجة المرضي عنهم، لكون العامل منظوراً إليه بعين السخط، لكونه ممن سبق عليه الكتاب بالشقاء، لأن الملك المنعم تام الملك عظيم الملك فهو بحيث لا يسأل عما يفعل، قال معرضاً عن عمله معترفاً بعجزه، معلماً بأن المنعم غني عن العمل وعن غيره، لا تضره معصية ولا ينفعه طاعة:{وأدخلني برحمتك} أي لا بعملي {في عبادك الصالحين*} أي لما أردتهم له من تمام النعمة بالقرب والنظر إليهم بعين العفو

ص: 148

والرحمة والرضا.

ص: 149

ولما كان التقدير: فوصل إلى المنزل الذي قصده فنزله وتفقد أحوال جنوده كما يقتضيه العناية بأمور الملك، أي تجنب فقدهم بأن تعرف من هو منهم موجود ومن هو منهم مفقود، الذي يلزمه أن لا يغيب أحد منهم:{وتفقد الطير} إذ كانت أحد أركان جنده ففقد الهدهد {فقال ما لي} أي أيّ شيء حصل لي حال كوني {لا أرى الهدهد} أي أهو حاضر، وستره عني ساتر، وقوله:{أم كان من الغائبين*} كما أنه يدل على ما قدرته يدل على أنه فقد جماعة من الجند، فتحقق غيبتهم وشك في غيبته، وذكره له دونهم يدل على عظيم منزلة الهدهد فيما له عنده من النفع، وأن غيبة غيره كانت بأمره عليه السلام. ثم قال على سبيل الاستئناف إقامة لسياسة الملك ما يدل أيضاً على عظمته، قالوا: إنه يرى الماء في الأرض كما يرى الإنسان الماء من داخل الزجاج فينقر الأرض فتأتي الشياطين فتستخرجه: {لأعذبنه} أي بسبب غيبته فيما لم آذن فيه {عذاباً شديداً} أي مع إبقاء روحه تأديباً له وردعاً لأمثاله {أو لأذبحنه} أي تأديباً لغيره {أو ليأتيني} أي ليكونن أحد هذه الثلاثة الأشياء، أو تكون {أو} الثانية بمعنى إلا أن

ص: 149

فيكون المعنى: ليكونن أحد الأمرين: التعذيب أو الذبح: إلا أن يأتيني {بسلطان مبين*} أي حجة واضحة في عذره، فكأنه قال: والله ليقيمن عذره أو لأفعلن معه أحد الأمرين {فمكث} أي فترتب على ذلك أنه مكث بعد الحلف بالتهديد زماناً قريباً {غير بعيد} من زمان التهديد، وأتى خوفاً من هيبة سليمان عليه السلام، وقياماً بما يجب عليه من الخدمة، قرأه عاصم وروح عن يعقوب بفتح الكاف على الأغلب في الأفعال الماضية، وضمه الجماعة إشارة إلى شدة الغيبة عن سليمان عليه السلام ليوافق إفهام حركة الكلمة ما أفهمه تركيب الكلام {فقال} عقب إتيانه مفخماً للشأن ومعظماً لرتبة العلم ودافعاً لما علم أنه أضمر من عقوبته:{أحطت} أي علماً {بما لم تحط به} أي أنت من اتساع علمك وامتداد ملكك، والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، وفي هذه المكافحة التنبيه على أن أضعف الخلق قد يؤتي ما لا يصل إليه أقواهم لتتحاقر إلى العلماء علومهم ويردوا العلم في كل شيء إلى الله، وفيه إبطال لقول الرافضة: إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه من هو أعلم منه.

ولما أبهمه تشويقاً، وأخذ بمجامع القلب إلى تعرفه، ثنى بمدح

ص: 150

الخبر مجلياً بعض إبهامه، هزاً للنفس إلى طلب إتمامه، فقال:{وجئتك} أي الآن {من سبإ} قيل: إنه اسم رجل صار علماً لقبيلة، وقيل: أرض في بلاد اليمن، وحكمة تسكين قنبل له بنية الوقف الإشارة إلى تحقير أمرهم بالنسبة إلى نبي الله سليمان عليه السلام بأنهم ليست لهم معه حركة أصلاً على ما هم فيه من الفخامة والعز والبأس الشديد {بنبإ} أي خبر عظيم {يقين*} وهو من أبدع الكلام موازنة في اللفظ ومجانسة في الخط مع ما له من الانطباع والرونق، فكأنه قيل: ما هو؟ فقال: {إني وجدت امرأة} وهي بلقيس بنت شراحيل {تملكهم} أي أهل سبأ.

ولما كانت قد أوتيت من كل ما يحتاج إليه الملوك أمراً كبيراً قال: {وأوتيت} بنى الفعل للمفعول إقراراً بأنها مع ملكها مربوبة {من كل شيء} تهويلاً لما رأى من أمرها.

ولما كان عرشها - أي السرير الذي تجلس عليه للحكم - زائداً في العظمة، خصه بقوله:{ولها عرش} أي سرير تجلس عليه للحكم {عظيم*} أي لم أر لأحد مثله.

ولما كان في الخدمة أقرب أهل ذلك الزمان إلى الله فحصل له من النورانية ما هاله لأجله إعراضهم عن الله، قال مستأنفاً تعجيباً:

ص: 151

{وجدتها وقومها} أي كلهم على ضلال كبير، وذلك أنهم {يسجدون للشمس} مبتدئين ذلك {من دون الله} أي من أدنى رتبة من رتب الملك الأعظم الذي لا مثل له، وهي الرتبة الأفعال لأنها مصنوع من مصنوعاته تعالى سواء كان ذلك مع الاستقلال أو الشرك {وزين لهم الشيطان أعمالهم} أي هذه القبيحة حتى صاروا يظنونها حسنة.

ولما تسبب عن ذلك أنه أعماهم عن طريق الحق قال: {فصدهم عن السبيل} أي الذي لا سبيل إلى الله غيره، وهو الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام.

ولما تسبب عن ذلك ضلالهم، قال:{فهم} أي بحيث {لا يهتدون*} أي لا يوجد لهم هدى، بل هم في ضلال صرف، وعمى محض.

ص: 152

ولما كان هذا الضلال عجباً في نفسه فضلاً عن أن يكون من قوم يجمعهم جامع ملك مبناه السياسة التي محطها العقل الذي هو نور الهداية، ودواء الغواية، علله بانتفاء أعظم مقرب إلى الله: السجود، تعظيماً له وتنويهاً به فقال:{ألا} أي لئن لا {يسجدوا} أي حصل لهم هذا العمى العظيم الذي استولى به عليهم الشيطان لانتفاء سجودهم، ويجوز

ص: 152

أن يتعلق بالتزيين، أي زين لهم لئلا يسجدوا {لله} أي يعبدوا الذي له الكمال كله بالسجود الذي هو محل الإنس، ومحط القرب، ودارة المناجاة، وآية المعافاة، فإنهم لو سجدوا له سبحانه لاهتدوا، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ففات الشيطان ما يقصده منهم من الضلال، وعلى قراءة الكسائي وأبي جعفر بالتخفيف وإشباع فتح الياء يكون استئنافاً، بدىء بأداة الاستفتاح تنبيهاً لهم على عظم المقام لئلا يفوت الوعظ أحداً منهم بمصادفته غافلاً، ثم نادى لمثل ذلك وحذف المنادى إيذاناً بالاكتفاء بالإشارة لضيق الحال، خوفاً من المبادرة بالنكال عن استيفاء العبارة التي كان حقها:: ألا يا هؤلاء اسجدوا لله، أي لتخلصوا من أسر الشيطان، فإن السجود مرضاة للرحمن، ومجلاة للعرفان، ومجناة لتمام الهدى والإيمان.

ولما كانت القصة في بيان علمه سبحانه السابق لعلم الخلائق المستلزم للحكمة، وصفه بما يقتضي ذلك فقال:{الذي يخرج الخبء} وهوالشيء المخبوء بالفعل المخفي في غيره، وهو ما وجد وغيب عن الخلق كالماء الذي في بطن الأرض، أو بالقوة وهو ما لم يوجد أصلاً، وخصه بقوله:{في السماوات والأرض} لأن ذلك منتهى مشاهدتنا،

ص: 153

فننظر ما يتكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وغيرهما، وما يشرق من الكواكب ويغرب - إلى غير ذلك من الرياح، والبرد والحر، الحركة والسكون، والنطق والسكوت، وما لا يحصيه إلا الله تعالى، والمعنى أنه يخرج ما هو في عالم الغيب فيجعله في عالم الشهادة.

ولما كان ذلك قد يخص بما لم يضمر في القلوب كالماء الذي كان يخرجه الهدهد وكان ذلك قد يعرف بأمارات، وكان ما تضمره القلوب أخفى، قال:{ويعلم ما تخفون} ولما كان هذا مستزماً لعلم الجهر، وكان التصريح ما ليس لغيره من المكنة والطمأنينة، مع أن الإعلان ربما كان فيه من اللغط واختلاط الأصوات ما يمنع المستمع من العلم، قال:{وما تعلنون*} أي يظهرون.

ولما كان هذا الوصف موجباً لأن يعبد سبحانه وحده، صرح بما يقتضيه في قوله؛ {الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له؛ ولما كان هذا إشارة إلى أنه لا سمي له، أتبعه التصريح بأنه لا كفوء له فقال:{لا إله إلا هو} ولما كان وصف عرشها بعظم ما، قال:{رب} أي مبدع ومدبر {العرش العظيم*} أي الكامل في

ص: 154

العظم الذي لا عظيم يدانيه، وهو محتو على جميع الأكوان، وقد ثبت أن صاحبه أعظم منه ومن كل عظيم بآية الكرسي وبغيرها، فقطع ذلك لسان التعنت عند ذكره مع مزيد اقتضاء السياق له لأنه للانفراد بالإلهية المقتضية للقهر والكبر بخلاف آية المؤمنون، وهذه آية سجدة على كل القراءتين، لأن مواضع السجود إما مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، كقراءة التشديد، أو أمر بالسجود كقراءة التخفيف، والكل ناظر إلى العظمة.

ولما صح قوله في كون هذا خبراً عظيماً، وخطباً جسيماً، حصل التشوق إلى جوابه فقيل:{قال} أي سليمان عليه السلام للهدهد: {سننظر} أي نختبر ما قلته {أصدقت} أي فيه فنعذرك. ولما كان الكذب بين يديه - لما أوتيه من العظمة بالنبوة والملك الذي لم يكن لأحد بعده - يدل على رسوخ القدم فيه، قال:{أم كنت} أي كوناً هو كالجبلة {من الكاذبين*} أي معروفاً بالانخراط في سلكهم، فإنه لا يجترىء على الكذب عندي إلا من كان عريقاً في الكذب دون «أم كذبت» لأن هذا يصدق بمرة واحدة. ثم شرع فيما يختبره به، فكتب له كتاباً على الفور في غاية الوجازة قصداً للإسراع في إزالة المنكر على تقدير صدق الهدهد بحسب الاستطاعة، ودل على إسراعه في كتابته بقوله جواباً له:{اذهب بكتابي هذا} قول من

ص: 155

كان مهيئاً عنده ودفعه إليه.

ولما كان عليه السلام قد زاد قلقه بسجودهم لغير الله، أمره بغاية الإسراع، وكأنه كان أسرع الطير طيراناً وأمده الله زيادة على ذلك بمعونة منه إكراماً لنبيه صلى الله عليه وسلم فصار كأنه البرق، فأشار إلى ذلك بالفاء في قوله:{فألقه} ولما لم يخصها في الكتاب دونهم بكلام لتصغر إليهم أنفسهم بخطابه مع ما يدلهم على عظمته، جمع فقال:{إليهم} أي الذين ذكرت أنهم يعبدون الشمس، وذلك للاهتمام بأمر الدين.

ولما كان لو تأخر عنهم بعد إلقائه إلى موضع يأمن فيه على نفسه على ما هو فيه من السرعة لداخلهم شك في أنه هو الملقى له، أمره بأن يمكث بعد إلقائه يرفرف على رؤوسهم حتى يتحققوا أمره، فأشار سبحانه إلى ذلك بأداة التراخي بقوله، {ثم} أي بعد وصولك وإلقائك {تول} أي تنح {عنهم} إلى مكان تسمع فيه كلامهم ولا يصلون معه إليك {فانظر} عقب توليك {ماذا يرجعون*} أي من القول من بعضهم إلى بعض بسبب الكتاب.

ولما كان العلم واقعاً بأنه يفعل ما أمر به لا محالة، وأنه لا يدفعه

ص: 156

إلا إلى الملكة التي بالغ في وصفها، تشوفت النفس إلى قولها عند ذلك، فكان كأنه قيل: فأخذ الكتاب وذهب به، فلما ألقاه إليها وقرأته، وكانت قارئة كاتبة من قوم تبع {قالت} لقومها بعد أن جمعتهم معمظمة لهم، أو لأشرافهم فقط:{يا أيها الملأ} أي الأشراف.

ولما كان من شأن الملوك أن لا يصل إليهم أحد بكتاب ولا غيره إلا على أيدي جماعتهم، عظمت هذا الكتاب بأنه وصل إليها على غير ذلك المنهاج فبنت للمفعول قولها:{إني ألقي إليَّ} أي بإلقاء ملق على وجه غريب {كتاب} أي صحيفة مكتوب فيها كلام وجيز جامع.

ولما كان الكريم كما تقدم في الرعد - من ستر مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها لأنه ضد اللئيم، وكان هذا الكتاب قد حوى من الشرف أمراً باهراً لم يعهد مثله من جهة المرسل والرسول والافتتاح بالاسم الأعظم إلى ما له من وجازة اللفظ وبلوغ المعنى، قالت:{كريم*} ثم بينت كرمه أو استأنفت جواباً لمن يقول: ممن هو وما هو؟ فقالت: {إنه} أي الكتاب {من سليمان} وفيه دلالة على أن الابتداء باسم صاحب الكتاب لا يقدح في الابتداء بالحمد {وإنه} أي المكتوب فيه {بسم الله الرحمن الرحيم*} فحمد المستحق للحمد وهو الملك الأعلى المحيط عظمه بدائرتي الجلال والإكرام، العام الرحمة

ص: 157

بك نعمة، فملك الملوك من فائض ما له من الإنعام الذي يخص بعد العموم من يشاء بما يشاء مما ترضاه ألوهيته من إنعامه العام، بعد التعريف باسمه إشارة إلى أنه المدعو إليه للعبادة بما وجب له لذاته وما استحقه بصفاته، وذلك كله بعد التعريف بصاحب الكتاب ليكون ذلك أجدر بقبوله، لأن أكثر الخلق إنما يعرف الحق بالرجال، ولما في كتابه من الدلالة على نبوته، فسر مراده بأمر قاهر فقال:{ألا تعلوا عليّ} أي لا تمتنعوا من الإجابة لي، والإذعان لأمري، كما يفعل الملوك، بل اتركوا علوهم، لكوني داعياً إلى الله الذي أعلمت في باء البسملة بأنه لا تكون حركة ولا سكون إلا به، فيجب الخضوع له لكونه رب كل شيء {وأتوني مسلمين*} أي منقادين خاضعين بما رأيتم من معجزتي في أمر الكتاب.

ولما تشوفت النفس غلى جوابهم، اعلم سبحانه بأنهم بهتوا فقال:{قالت يا أيها الملأ} ثم بينت ما داخلها من الرعب من صاحب هذا الكتاب بقولها: {أفتوني} أي تكرموا عليّ بالإبانة عما أفعله {في أمري} هذا الذي أجيب به عن هذا الكتاب، جعلت المشورة فتوى توسعاً، لأن الفتوى الجواب في الحادثة، والحكم بما هو صواب مستعار من

ص: 158

الفتاء في السن الذي صفرة العمر؛ ثم عللت أمرها لهم بذلك بأنها شأنها دائماً مشاورتهم في كل جليل وحقير، فكيف بهذا الأمر الخطير، وفي ذلك استعطافهم بتعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم، فقال:{ما كنت} أي كوناً ما {قاطعة أمراً} أي فاعلته وفاصلته غير مترددة فيه {حتى تشهدون*} وقد دل على غزارة عقلها وحسن أدبها، ولذلك جنت ثمرة أمثال ذلك طاعتهم لها في المنشط والمكره، فاستأنف تعالى الإخبار عن جوابهم بقوله:{قالوا} أي الملأ مائلين إلى الحرب: {نحن أولوا قوة} أي بالمال والرجال {وأولوا بأس} أي عزم في الحرب {شديد * والأمر} راجع وموكول {إليك} أي كل من المسالمة والمصادمة {فانظري} بسبب أنه لا نزاع معك {ماذا تأمرين*} أي به فإنه مسموع.

ص: 159

ولما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده، ولا أحد يكيده، مالت إلى المسالمة، فاستأنف سبحانه وتعالى الإخبار عنها بقوله:{قالت} جواباً لما أحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب أن الصواب من غير ارتياب أن نحتال في عدم قصد هذا الملك المطاع؛ ثم عللت هذا الذي أفهمه سياق كلامها بقولها

ص: 159

{إن الملوك} أي مطلقاً، فكيف بهذا النافذ الأمر، العظيم القدر {إذا دخلوا قرية} أي عنوة بالقهر والغلبة {أفسدوها} أي بالنهب والتخريب {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} أي بما يرونهم من البأس، ويحلون بهم من السطوة. ثم أكدت هذا المعنى بقولها:{وكذلك} أي ومثل هذا الفعل العظيم الشأن، الوعر المسلك البعيد الشأو {يفعلون*} دائماً، هو خلق لهم مستمر جميعهم على هذا، فكيف بمن تطيعه الطيور، ذوات الوكور، فيما يريده من الأمور.

ولما بينت ما في المصادمة من الخطر، أتبعته ما عزمت عليه من المسالمة، فقالت:{وإني مرسلة} وأشار سبحانه إلى عظيم ما ترسل به بالجمع في قولها: {إليهم} أي إليه وإلى جنوده {بهدية} أي تقع منهم موقعاً. قال البغوي: وهي العطية على طريق الملاطفة. {فناظرة} عقب ذلك وبسببه {بم} أي بأي شيء {يرجع المرسلون*} بتلك الهدية عنه من المقال أو الحال، فنعمل بعد ذلك على حسب ما نراه من أمره، فنكون قد سلمنا من خطر الإقدام على ما لم نعرف عاقبته، ولم يضرنا ما فعلنا شيئاً.

ولما كان التقدير: فأرسلت بالهدية، وهي فيما يقال خمسمائة

ص: 160

غلام مرد، زينتهم بزي الجواري، وأمرتهم بتأنيث الكلام، وخمسمائة جارية في زي الغلمان، وأمر لهم بتغليظ الكلام. وجزعه معوجة الثقب، ودرة غير مثقوبة - وغير ذلك، وسألته أن يميز بين الغلمان والجواري، وأن يثقب الدرة، وأن يدخل في الجزعة خيطاً، فأمرهم بغسل الوجوه والأيدي، فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها ثم تنقله إلى الأخرى ثم تضرب الوجه وتصب الماء على باطن ساعدها صباً، وكان الغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه ويصب الماء على ظهر الساعد ويحدره على يديه حدراً، وأمر الأرضة فثقبت الدرة، والدودة فأدخلت السلك في الثقب المعوج، رتب عليه قوله مشيراً بالفاء إلى سرعة الإرسال:{فلما جاء} أي الرسول الذي بعثته وأرسلته، والمراد به الجنس؛ قال أبو حيان: وهو يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث. {سليمان} فدفع إليه ذلك {قال} أي سليمان عليه السلام للرسول ولمن في خدمته استصغاراً لما معه: {أتمدونن} أي أنت ومن معك ومن أرسلك {بمال} وإنما قصدي لكم لأجل الدين، تحقيراً لأمر الدنيا وإعلاماً بأنه لا التفات

ص: 161

له نحوها بوجه، ولا يرضيه شيء دون طاعة الله.

ثم سبب عنه ما أوجب له استصغار ما معه فقال: {فما آتاني الله} أي الملك الأعظم الذي له جميع الكمال من المال والجلال بالنبوة والملك والقرب منه سبحانه، وهو الذي يغني مطيعه عن كل ما سواه، فمهما سأله أعطاه، وذلك أنه صف الشياطين والإنس والسباع والوحش والطير والهوام صفوفاً فراسخ عدة، وبسط المكان كله بلين الذهب إلى غير ذلك مما يليق به {خير مما آتاكم} أي من الملك الذي لا نبوة فيه، ولا تأييد من الله.

ولما كان التقدير: ولكنكم لا تعلمون أن هديتكم مما يزهد فيه لتقيدكم بظاهر من الحياة الدنيا، نسق عليه قوله:{بل أنتم} أي بجهلكم لذلك تستعظمون ما أنتم فيه، فأنتم {بهديتكم تفرحون*} بتجويزكم أن الدنيا تردني عنكم لأنها غاية قصدي، ويجوز أن يراد أنكم تفرحون بما يهدي إليكم فتتركون من كنتم تريدون غزوه لأجل ما آتاكم منه من الدنيا، فحالي خلاف حالكم، فإنه لا يرضيني إلا الدين. ثم أفرد الرسول إرادة لكبيرهم بقوله:{ارجع} وجمع في قوله: {إليهم} إكراماً لنفسه، وصيانه لاسمها عن التصريح بضميرها، وتعميماً لكل من يهتم بأمرها ويطيعها {فلنأتينهم بجنود لا قبل} أي طاقة {لهم بها} أي بمقابلتها لمقاومتها وقلبها عن قصدها، أي لا يقدرون أن يقابلوها

ص: 162

{ولنخرجنهم منها} أي من بلادهم {أذلة} .

ولما كان الذل قد يكون لمجرد الانقياد، لا على سبيل الهوان، حقق المراد بقوله:{وهم صاغرون*} أي لا يملكون شيئاً من المنعة إن لم يقروا بالإسلام.

ولما ذهب الرسل، وعلم صلى الله عليه السلام مما رأى من تصاغرهم لما رأوا من هيبته وجلاله الذي حباه به ربه وعظمته أنهم يأتون بها مذعنة {قال} لجماعته تحقيقاً لقوله:{وأوتينا من كل شيء} لإعلامه بأنها استوثقت من عرشها: {يا أيها الملأ} أي الأشراف {أيّكم يأتيني بعرشها} لترى بعض ما آتاني الله من الخوارق، فيكون أعون على متابعتها في الدين، ولآخذه قبل أن يحرم أخذه بإسلامها، وأختبر به عقلها {قبل أن يأتوني} أي هي وجماعتها {مسلمين*} أي منقادين لسلطاني، تاركين لعز سلطانهم، منخلعين من عظيم شأنهم، ليكون ذلك أمكن في إقامة الحجة عليها في نبوتي وأعون على رسوخ الإيمان في قلبها وإخلاصها فيه {قال عفريت} . ولما كان هذا اللفظ يطلق على الأسد، وعلى المارد القوي، وعلى الرجل النافذ في الأمر المبالغ فيه مع دهاء وقوة - وقال الرازي:

ص: 163

مع خبث ومكر - وعلى غيره، بينه بأن قال:{من الجن أنا} الداهية الغليظ الشديد {آتيك به} ولما علم أن غرضه الإسراع قال: {قبل أن تقوم من مقامك} أي مجلسك هذا، ثم أوثق الأمر وأكده بقوله:{وإني عليه} أي الإتيان به سالماً {لقوي} لا يخشى عجزي عنه {أمين*} لا يخاف انتقاضي شيئاً منه.

ولما كانت القصة لإظهار فضل العلم المستلزم للحكمة، دلالة على أنه تعالى حكيم عليم، ترغيباً في القرآن، وحثاً على ما أفاده من البيان، قال حاكياً لذلك استئنافاً جواباً لاستشرافه صلى الله عليه وسلم لأقرب من ذلك:{قال الذي عنده} .

ولما كان لكتب الله من العظمة ما لا يحيطه إلا الله، اشار إلى ذلك بتنكير ما لهذا الذي يفعل مثل هذا الخارق العظيم من ذلك فقال:{علم} تنبيهاً على أنه اقتدر على ذلك بقوة العلم ليفيد ذلك تعظيم العلم والحث على تعلمه، وبين أن هذا الفضل إنما هو للعلم الشرعي فقال:{من الكتاب} أي الذي لا كتاب في الحقيقة غيره، وهو المنسوب إلينا، وكأنه الذي كان شهيراً في ذلك الزمان، ولعله التوراة والزبور، إشارة إلى أن من خدم كتاباً حق الخدمة

ص: 164

كان الله - تعالى كما ورد في شرعنا - سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، أي إنه يفعل له ما يشاء، وقيل في تعيينه إنه آصف بن برخيا وكان صديقاً عالماً:{أنا آتيك به} وهذا أظهر في كونه اسم فاعل لأن الفعل قارن الكلام؛ وبين فضله على العفريت بقوله: {قبل أن يرتد} أي يرجع {إليك طرفك} أي بصرك إذا طرفت بأجفانك فأرسلته إلى منتهاه ثم رددته؛ قال القزاز: طرف العين: امتداد بصرها حيث أدرك، ولذلك يقولون: لا أفعل ذلك ما ارتد إليّ طرفي، أي ما دمت أبصر، ويقال: طرف الرجل يطرف - إذا حرك جفونه، وقيل: الطرف اسم لجامع البصر لا يثنى ولا يجمع. وبين تصديق فعله لقوله أنه استولىعليه قبل أن يتحكم منه العفريت فبادر الطرف إحضاره كما أشار إليه قوله تعالى: {فلما رآه} أي العرش.

ولما كانت الرؤية قد تكون عن بعد ومجازية، وكذلك العندية، بين أنها حقيقية بإظهار العامل في الظرف ومن حقه في غير هذا السياق الحذف فقال:{مستقراً عنده} أي ثابتاً ثباتاً لا مرية فيه، ما هو بسحر ولا منام لا مثال؛ قال الإمام جمال الدين بن هشام في الباب

ص: 165

الثالث من كتابه المغني: زعم ابن عطية أن {مستقراً} هو المتعلق الذي يقدر في أمثاله قد ظهر، والصواب ما قاله أبو البقاء وغيره من أن هذا الاستقرار معناه عدم التحرك لا مطلق الوجود والحصول، فهو كون خاص. {قال} أي سليمان عليه السلام شكراً لما آتاه الله من هذه الخوارق:{هذا} أي الإتيان المحقق {من فضل ربي} أي المحسن إليّ، لا بعمل أستحق به شيئاً، فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم وتطويقي للعمل، فكل عمل نعمة منه يستوجب عليّ به الشكر، ولذلك قال:{ليبلوني} أي يفعل معي فعل المبتلي الناظر {ءأشكر} فأعترف بكونه فضلاً {أم أكفر} بظن أني أوتيته باستحقاق. ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله: {ومن شكر} أي أوقع الشكر لربه {فإنما يشكر لنفسه} فإن نفعه لها، وأما الله تعالى فهو أعلى من أن يكون له في شيء نفع أو عليه فيه ضر {ومن كفر فإن ربي} أي المحسن إليّ بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر {غني} أي عن شكر، لا يضره تركه شيئاً {كريم*} يفعل معه بإدرار النعم عليه فعل من أظهر محاسنه وستر مساوئه، ثم هو جدير بأن يقطع إحسانه إن استمر على إجرامه كما

ص: 166

يفعل الغني بمن أصر على كفر إحسانه فإذا هو قد هلك.

ص: 167

ولما قدم - كما هو دأب الصالحين - الشكر، علم أنه يفعل في العرش ما لأجله أحضره، تشوفت النفس إليه فأجيبت بقوله:{قال} أي سليمان عليه السلام: {نكروا لها عرشها} أي بتغيير بعض معالمه وهيئته اختباراً بعقلها كما اختبرتنا هي بالوصفاء والوصائف والدرة وغير ذلك، وإليه الإشارة بقوله:{ننظر أتهتدي} أي إلى معرفته فيكون ذلك سبباً لهدايتها في الدين {أم تكون من الذين} شأنهم أنهم {لا يهتدون*} أي بل هم في غاية الغباوة، لا يتجدد لهم اهتداء، بل لو هدوا لوقفوا عند الشبه، وجادلوا بالباطل وما حلوا، وأشار إلى سرعة مجيئها إشارة إلى خضوعها بالتعبير بالفاء في قوله:{فلما جاءت} وكان مجيئها - على ما قيل - في اثنى عشر ألف قيل من وجوه اليمن، تحت يد كل قيل ألوف كثيرة، وكانت قد وضعت عرشها داخل بيت منيع، ووكلت به حراساً أشداء {قيل} أي لها وقد رأت عرشها بعد تنكيره بتقليب نصبه وتغييره، من قائل لا يقدر على السكوت عن جوابه لما نالها من الهيبة وخالطها من الرعب من عظيم ما رأت، فقرعها بكلمة تشمل على أربع كلمات: هاء التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة،

ص: 167

مصدرة بهمزة الاستفهام، أي تنبهي {أهكذا} أمثل ذا العرش {عرشك قالت} عادلة عن حق الجواب من «نعم» أو «لا» إشارة إلى أنها غلب على ظنها أنه هو بعينه كما قالوا في «كأن زيداً قائم» :{كأنه هو} وذلك يدل على ثبات كبير، وفكر ثاقب، ونظر ثابت، وطبع منقاد، لتجويز المعجزات والإذعان لها مع دهشة القدوم، واشتغال الفكر بما دهمها من هيبته وعظيم أمره، فعلم سليمان عليه السلام رجاحة عقلها وبطلان ما قال الشياطين من نقصه خوفاً من أن يتزوجها فتفشي عليه أسرار الجن لأن أمها كانت جنية - على ما قيل، وقالوا: إن رجلها كحافر الحمار، وإنها كثيرة الشعر جداً.

ولما كانت مع ذلك قد شبه عليها ولم تصل إلى حاق الانكشاف مع أنها غلبت على عرشها مع الاحتفاظ عليه، استحضر صلى الله عليه وسلم ما خصه الله به من العلم زيادة في حثه على الشكر، فقال عاطفاً على ما تقديره: فأوتيت من أمر عرشها علماً، ولكنه يخالجه شك، فدل على أنها في الجملة من أهل العلم المهيئي للهداية، أو يكون التقدير

ص: 168

بما دل عليه ما يلزم من قولها {كأنه} : فجهلت أمر عرشها على كثرة ملابستها له: {وأوتينا} معبراً بنون الواحد المطاع، لا سيما والمؤتى سبب لعظمة شرعية، وهو العلم الذي لا يقدر على إيتائه غير الله، ولذلك بني الفعل للمفعول لأن فاعله معلوم {العلم} أي بجميع ما آتانا الله علمه، ومنه أنه يخفى عليها {من قبلها} أي من قبل إتيانها، بأن عرشها يشتبه عليها، أو من قبل علمها بما ظنت من أمر عرشها، أو أنا وأسلافي من قبل وجودها، فنحن عريقون في العلم، فلذلك نحن على حقيقة من جميع أمورنا، وإنما قال:{ننظر أتهتدي} بالنسبة إلى جنوده.

ثم ذكر السبب في وجود العلم واتساعه وثباته فقال: {وكنا} أي مع العلم الذي هيأنا الله له بما جعل في غرائزنا من النورانية {مسلمين*} أي خاضعين لله تعالى عريقين في ذلك مقبلين على جميع أوامره بالفعل على حسب أمره كما أشار إليه قوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة: 282]، {يهديهم ربهم بإيمانهم} [يونس: 9] .

ولما كان المعنى: وأما هي فإنها وإن أوتيت علماً فلم يكن ثابتاً، ولا كان معه دين، ترجمه بقوله:{وصدها} أي هي عن كمال العلم

ص: 169

كما صدها عن الدين {ما} أي المعبود الذي {كانت} أي كوناً ثابتاً في الزمن الماضي {تعبد} أي عبادة مبتدئة {من دون الله} أي غير الملك الأعلى الذي له الكمال كله أو أدنى رتبة من رتبته، وهي عبادة الشمس ليظهر الفرق بين حزب الله الحكيم العليم وحزب إبليس السفيه الجهول. ثم علل ذلك إشارة إلى عظيم نعمة الله عليه بالنعمة على أسلافه بقوله:{إنها} وقرىء بالفتح على البدل من فاعل «صد» {كانت من قوم} أي ذوي بطش وقيام {كافرين*} أي فكان ذلك سبباً - وإن كانت في غاية من وفور العقل وصفاء الذهن وقبول العلم كما دل عليه ظنها في عرشها، ما يهتدي له إلا من عنده قابلية الهدي - في اقتفائها لآثارهم في الدين، فصديت مرآة فكرها ونبت صوارم عقلها.

ولما تم ذلك، كان كأنه قيل: هل كان بعد ذلك اختبار؟ فقيل: نعم! {قيل لها} أي من قائل من جنود سليمان عليه السلام، فلم تمكنها المخالفة لما هناك من الهيبة بالملك والنبوة والدين:{ادخلي الصرح} وهو قصر بناه قبل قدومها، وجلس في صدره، وجعل صحنه من الزجاج الأبيض الصافي، وأجرى تحته الماء، وجعل فيه دواب البحر، وأصله - كما قال في الجمع بين العباب والمحكم: بيت واحد يبني منفرداً

ص: 170

ضخماً طويلاً في السماء، قال: وقيل: كل بناء متسع مرتفع، وقيل: هو القصر، وقيل: كل بناء عال مرتفع، والصرح: الأرض المملسة، وصرحة الدار ساحتها. ودل على مبادرتها لامتثال الأمر وسرعة دخولها بالفاء فقال:{فلما رأته} وعبر بما هو من الحسبان دلالة على أن عقلها وأن كان في غاية الرجاحة ناقص لعبادتها لغير الله فقال: {حسبته} أي لشدة صفاء الزجاج واتصال الماء بسطحه الأسفل {لجة} أي غمرة عظيمة من ماء، فعزمت على خوضها إظهاراً لتمام الاستسلام {وكشفت عن ساقيها} أي لئلا تبتل ثيابها فتحتاج إلى تغييرها قبل الوصول إلى سليمان عليه السلام، فرآها أحسن الناس ساقاً وقدماً غير أنها شعراء.

ولما حصل مراده، استؤنف الإخبار عن أمره بعده فقيل:{قال} مبيناً لعظم عقله وعلمه، وحكمته وقدرته، مؤكداً لأنه لشدة اشتباهه بجودة المادة وتناهي حسن الصنعة وإحكامها لا يكاد يصدق أنه حائل دون الماء:{إنه} أي هذا الذي ظننته ماءاً {صرح} أي قصر {ممرد} أي مملس، وأصل المرودة: الملامة والاستواء

ص: 171

{من} أي كائن من {قوارير*} أي زجاج ليتصف بشفوفة الماء فيظن أنه لا حائل دونه، فلما رأت ما فضله الله به من العلم، المؤيد بالحكمة، المكمل بالوقار والسكينة، المتمم بالخوارق، بادرت إلى طاعته علماً بأنه رسول الله، فاستأنف تعالى الإخبار عن ذلك بقوله:{قالت} مقبلة على من آتاه، للاستمطار من فضله، والاستجداء من عظيم وبله:{رب} أي أيها المحسن إليّ {إني ظلمت نفسي} أي بما كنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك {وأسلمت} أي ليظهر عليّ ثمرات الإسلام.

ولما ذكرت هذا الأساس الذي لا يصح بناء طاعة إلا عليه، أتبعته الداعي الذي لا تتم ثمرات الأعمال المؤسسة عليه إلا بحبه، والإذعان له، والانقياد والاعتراف بالفضل، وبهدايته إلى ما يصلح منها وما لا يصلح على الوجوه التي لا تقوم إلا بها من الكميات والكيفيات. فقالت:{مع سليمان} .

ولما ذكر صفة الربوبية الموجبة للعبادة بالإحسان، ذكرت الاسم الأعظم الدال على ذات المستجمع للصفات الموجبة للإلهية للذات

ص: 172

فقالت: {لله} أي مقرة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية. ثم رجعت إشارة إلى العجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي بحر المعرفة فقالت: {رب العالمين*} فعمت بعد أن خصت إشارة إلى الترقي من حضيض دركات العمى إلى أوج درجات الهدى، فلله درها ما أعلمها! وأطيب أعراقها وأكرمها! ويقال: أن سليمان عليه السلام تزوجها واصطنع الحمام - وهو أول من اتخذه - وأذهب شعرها بالنورة.

ص: 173

ولما أتم سبحانه هذه القصة المؤسسة على العلم المشيد بالحكمة المنبئة عن أن المدعوين فيها أطبقوا على الاستسلام للدخول في الإسلام، مع أبالة الملك ورئاسة العز، والقهر على يد غريب عنهم بعيد منهم، أتبعها قصة انقسم أهلها مع الذل والفقر فريقين مع أن الداعي منهم لا يزول باتباعه شيء من العز عنهم، مع ما فيها من الحكمة، وإظهار دقيق العلم بإبطال المكر، بعد طول الأناة والحلم، فقال تعالى مفتتحاً بحرف التوقع والتحقيق لمن ظن أن هذا شأن كل رسول مع يدعوهم، عاطفاً على {ولقد آتينا داود} :{ولقد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة {إلى ثمود} ثم أشار إلى العجب من توقفهم بقوله: {أخاهم صالحاً} فجمع إلى حسن الفعل حسن الاسم وقرب النسب. ثم ذكر المقصود من الرسالة بما لا أعدل منه ولا أحسن، وهو الاعتراف بالحق لأهله،

ص: 173

فقال: {أن اعبدوا الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له وحده، ولا تشركوا به شيئاً ولا سيما شيئاً لا يضر بوجه ولا ينفع، بياناً لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام متفقون على ذلك عربهم وعجمهم. ثم زاد في التعجيب منهم بما أشارت إليه الفاء وأداة المفاجأة من المبادرة إلى الافتراق بما يدعو إلى الاجتماع فقال:{فإذا هم} أي ثمود {فريقان} ثم بين بقوله: {يختصمون*} أنها فرقة افتراق بكفر وإيمان، لا فرقة اجتماع في هدى وعرفان، فبعضهم صدق صالحاً واتبعه كما مضى في الأعراف. وتأتي هنا الإشارة إليه بقوله «وبمن معك» وبعضهم استمر على شركه وكذبه، وكل فريق يقول: أنا على الحق وخصمي على الباطل. ثم استأنف بما أشار إليه حرف التوقع من شدة التشوف قائلاً: {قال} أي صالح مستعطفاً في هدايته: {يا قوم} أي يا أولاد عمي ومن فيهم كفاية للقيام بالمصالح {لم تستعجلون} أي تطلبون العجلة بالإتيان {بالسيئة} أي الحالة التي مساءتها ثابتة وهي العقوبة التي أنذرت بها من كفر {قبل} الحالة {الحسنة} من الخيرات التي أبشركم بها في الدنيا والآخرة إن آمنتم، والاستعجال: طلب الإتيان بالأمر قبل الوقت

ص: 174

المضروب له. واستعجالهم لذلك للإصرار على سببه وقولهم استهزاء {ائتنا بما تعدنا} {لولا} أي هلا ولم لا {تستغفرون الله} أي تطلبون غفران الذي له صفات الكمال لذنوبكم السالفة بالرجوع إيه بالتوبة بإخلاص العبادة له {لعلكم ترحمون*} أي لتكونوا على رجاء من أن تعاملوا من كل من فيه خير معاملة المرحوم بإعطاء الخير والحماية من الشر، ثم استأنف حكاية جوابهم فقال:{قالوا} فظاظة وغلظة مشيرين بالإدغام إلى أن ما يقولونه إنما يفهمه الحذاق بمعرفة الزجر وإن كان الظاهر خلافه بما أتاهم به من الناقة التي كان في وجودها من البركة أمر عظيم؛ {اطيرنا} أي تشاءمنا {بك وبمن معك} أي وهو الذين آمنوا بك، فإنه وقع بيننا بسببكم الخلاف، وكثر القال والقيل والإرجاف، وحصلت لنا شدائد واعتساف، لأنا جعلناكم مثل الطائر الذي يمر من جهة الشمال - على ما يأتي في الصافات {قال طائركم} أي ما تيمنون به فيثمر ما يسركم، أو تتشاءمون به فينشأ عنه ما يسوءكم وهو عملكم من الخير أو الشر {عند الله} أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء علماً وقدرة، وليس شيء منه بيد غيره ولا ينسب إليه، فإن شاء جعلنا سببه وإن شاء جعل غيرنا.

ص: 175

ولما كان معنى نسبته إلى الله أن هذا الذي بكم الآن من الشر ليس منا، قال:{بل أنتم قوم تفتنون*} أي تختبرون من الملك الأعلى بما تنسبونه إلى الطير من الخير والشر، أي تعاملون به معاملة الاختبار هل تصلحون للخير بالرجوع عن الذنب فيخفف عنكم أو لا فتمحنوا.

ولما أخبر عن عامة هذا الفريق بالشر، أخبر عن شرهم بقوله:{وكان في المدينة} أي مدينتهم الحجر من عظماء القرية وأعيانها {تسعة رهط} أي رجال، مقابلة لآيات موسى التسع.

ولما كان الرهط بمعنى القوم والرجال، أضيفت التسعة إليه، فكأنه قيل: تسعة رجال، وإن كان لقوم ورجال مخصوصين، وهم ما بين الثلاثة أو السبعة إلى العشرة، وما دون التسعة فنفر، وقال في القاموس: إن النفر ما دون العشرة غير أنه يفهم التفرق، والرهط يفهم العظمة والشدة والاجتماع {يفسدون} وقال:{في الأرض} إشارة إلى عموم فسادهم ودوامه.

ولما كان الكفرة كلهم مفسدين بالكفر، وكان بعضهم ربما كان يصلح في بعض أفعاله، بين أن هؤلاء ليسوا كذلك، بل هم شر

ص: 176

محض فحقق خلوصهم للفساد بقوله مصرحاً بما أفهمته صيغة المضارع: {ولا يصلحون*} .

ولما اقتضى السياق السؤال عن بيان بعض حالهم، أجاب بقوله:{قالوا تقاسموا} أمر مما منه القسم، أي أوقعوا المقاسمة والمحالفة بينكم {بالله} أي الذي لا سمى له لما شاع من عظمته، وشمول إحاطته في علمه وقدرته، فليقل كل منكم عن نفسه ومن معه إشارة إلى أنكم كالجسد الواحد:{لنبيتنّه} أي صالحاً {وأهله} أي لنهلكن الجميع ليلاً، فإن البيات مباغتة العدو ليلاً.

ولما كانت العادة جارية بأن المبيتين لا بد أن يبقى بعضهم، قالوا:{ثم لنقولن لوليّه} أي المطالب بدمه إن بقي منهم أحد: {ما شهدنا} أي حضرنا حضوراً تاماً {مهلك} أي هلاك {أهله} أي أهل ذلك الولي فضلاً عن أن نكون باشرنا، أو أهل صالح عليه السلام فضلاً عن أن نكون شهدنا مهلك صالح أو باشرنا قتله ولا موضع إهلاكهم. ولما كانت الفجيعة من وليه بهلاكه عليه السلام أكثر من الفجيعة بهلاك أهله وأعظم، كان في السياق بالإسناد إلى الولي - على تقدير كون الضمير لصالح عليه السلام -

ص: 177

أتم إرشاد إلى أن التقدير: ولا مهلكه.

ولما كانوا قد صمموا على هذا الأمر، وظنوا أنفسهم على المبالغة في الحلف والاجتراء على الكذب فقالو:{وإنا} أي ونقول في جملة القسم تأكيداً للقسم، إيهاماً لتحقق الصدق: وإنا {لصادقون*} فيا للعجب من قوم إذا عقدوا اليمين فزعوا إلى الله العظيم، ثم نفروا عنه نفور الظليم، إلى أوثان أنفع منها الهشيم.

ص: 178

ولما كان هذا منهم عمل من لا يظن أن الله عالم به، قال تعالى محذراً أمثالهم عن أمثال ذلك:{ومكروا مكراً} أي ستروا ستراً عظيماً أرادوا به الشر بهذه المساومة على المقاسمة، فكان مكرهم الذي اجتهدوا في ستره لدينا مكشوفاً وفي حضرتنا معروفاً وموصوفاً، فشعرنا بل علمنا به فأبطلناه {ومكرنا مكراً} أي وجزينانهم على فعلهم بما لنا من العظمة شيئاً هو المكر في الحقيقة فإنه لا يعلمه أحد من الخليقة، ولذلك قال:{وهم} أي مع اعتنائهم بالفحص عن الأمور. والتحرز من عظائم المقدور {لا يشعرون*} أي لا يتجدد لهم شعور بما قدرناه عليهم بوجه ما، فكيف بغيرهم، وذلك أنا جعلنا تدميرهم في تدبيرهم، فلم يقدروا على إبطاله، فأدخلناهم في خبر كان، لم يفلت منهم إنسان، وأهلكنا جميع الكفرة من قومهم في أماكنهم

ص: 178

مساكنهم أو غير مساكنهم، وأما مكرهم فكانوا على اجتهادهم في إتقانه وإحكام شأنه، قد جوزوا فيه سلامة بعض من يقصدونه بالإهلاك، فشتان بين المكرين، وهيهات هيهات لما بين الأمرين، وقد ظهر أن الآية إما احتباك أو شبيهة به: عدم الشعور دال على حذف عدم الإبطال من الثاني، وعلى حذف الشعور والإبطال الذي هو نتيجته من الأول.

ولما علم من هذا الإبهام تهويل الأمر، سبب عنه سبحانه زيادة في تهويله قوله:{فانظر} وزاده عظمة بالإشارة بأداة الاستفهام إلى أنه أهل لأن يسأل عنه فقال: {كيف كان عاقبة مكرهم} فإن ذلك سنتنا في أمثالهم، ثم استأنف لزيادة التهويل قوله بياناً لما أبهم:{إنا} أي بما لنا من العظمة، ومن فتح فهو عنده بدل من {عاقبة} {دمرناهم} أي أهلكناهم، أي التسعة المتقاسمين، بعظمتنا التي لا مثل لها {وقومهم أجمعين*} لم يفلت منهم مخبر، ولا كان في ذلك تفاوت بين مقبل ومدبر، وأين يذهب أحد منهم أو من غيرهم من قبضتنا أو يفر من مملكتنا.

ولما كانت يتسبب عن دمارهم زيادة الهول والعرب بالإشارة إلى

ص: 179

ديارهم، لاستحضار أحوالهم، واستعظامهم بعظيم أعمالهم، قال:{فتلك} أي المبعدة بالغضب على أهلها {بيوتهم} أي ثمود كلهم {خاوية} أي خالية، متهدمة بالية، مع شدة أركانها، وإحكام بنيانها، فسبحان الفعال لما يريد، القادر على الضعيف كقدرته على الشديد. .

ولم ذكر الهلاك، أتبعه سببه في قوله:{بما ظلموا} أي أوقعوا من الأمور في غير مواقعها فعل الماشي في الظلام، كما عبدوا من الأوثان، ما يستحق الهوان، ولا يستحق شيئاً من التعظيم بوجه، معرضين عمن لا عظيم عندهم غيره عند الإقسام، والشدائد والاهتمام، وخراب البيوت - كما قال أبو حيان - وخلوّها من أهلها حتى لا يبقى منهم أحد مما يعاقب به الظلمة.

ثم زاد في التهويل بقوله: {إن في ذلك} أي الأمر الباهر للعقول الذي فعل بثمود {لآية} أي عظيمة، ولكنها {لقوم يعلمون*} أي لهم علم. وأما من لا ينتفع بها نادى على نفسه بأنه في عداد البهائم.

ولما كان ذلك ربما أوهم أن الهلاك عم الفريقين قال: {وأنجينا} بعظمتنا {الذين آمنوا} أو وهم الفريق الذين كانوا مع صالح عليه السلام كلهم {وكانوا يتقون*} أي متصفين بالتقوى اتصافاً كأنهم مجبولون عليه، فيجعلون بينهم وبين ما يسخط ربهم وقايه

ص: 180

من الأعمال الصالحة، والمتاجر الرابحة. وكذلك نفعل بكل من فعل فعلهم، قيل: كانوا أربعة آلاف، ذهب بهم صالح عليه السلام إلى حضرموت، فلما دخلوها مات صالح عليه السلام، فسميت بذلك.

ولما فرغ من قصة القريب الذي دعا قومه فإذا هم قسمان، بعد الغريب الذي لم يختلف عليه ممن دعاهم اثنان، اتبعها بغريب لم يتبعه ممن دعاهم إنسان، فقال دالاً على أنه له سبحانه الاختيار، فتارة يجري الأمور على القياس، وأخرى على خلاف الأساس، الذي تقتضيه عقول الناس، فقال:{ولوطاً} أي ولقد أرسلناه؛ وأشار إلى سرعة إبلاغه بقوله: {إذ} أي حين {قال لقومه} أي الذين كان سكن فيهم لما فارق عمه إبراهيم الخليل عليه السلام وصاهرهم، وكانوا يأتون الأحداث، منكراً موبخاً:{أتأتون} ولما كان للإبهام ثم التعيين من هز النفس وترويعها ما ليس للتعيين من أول الأمر قال: {الفاحشة} أي الفعلة المتناهية في القبح {وأنتم تبصرون*} أي لكم عقول تعرفون بها المحاسن والمقابح، وربما كان بعضهم يفعله بحضرة بعض كما قال {وتأتون في ناديكم المنكر} [العنكبوت: 29] فيكون حينئذ من البصر والبصيرة؛ ثم أتبع هذا الأنكار إنكاراً آخر لمضمون جملة مؤكدة أتم التأكيد، إشارة إلى أن فعلتهم هذه مما يعي الواصف،

ص: 181

ولا يبلغ كنه قبحها ولا يصدق ذو عقل أن أحداً يفعلها، فقال معيناً لما أبهم:{أئنكم لتأتون} وقال: {الرجال} تنبيهاً على بعدهم عما يأتونه إليهم، ثم علله بقوله:{شهوة} إنزالاً لهم إلى رتبة البهائم التي ليس فيها قصد ولد ولا عفاف؛ وقال: {من دون} أي إتياناً مبتدئاً من غير، أو أدنى رتبة من رتبة {النساء} إشارة إلى أنهم أساؤوا من الطرفين في الفعل والترك.

ولما كان قوله: {شهوة} ربما أوهم أنهم لا غنى بهم عن إتيانهم للشهوة الغالبة لكن النساء لا تكفيهم، لذلك نفى هذا بقوله:{بل} أي إنكم لا تأتونهم لشهوة محوجة بل {أنتم قوم} ولما كان مقصود السورة إظهار العلم والحكمة، وكانوا قد خالفوا ذلك إما بالفعل وإما لكونهم يفعلون من الإسراف وغيره عمل الجهلة، قال:{تجهلون*} أي تفعلون ذلك إظهاراً للتزين بالشهوات فعل المبالغين في الجهل الذين ليس لهم نوع علم في التجاهر بالقبائح خبثاً وتغليباً لأخلاق البهائم، مع ما رزقكم الله من العقول التي أهملتموها حتى غلبت عليها الشهوة، وأشار إلى تغاليهم في الجهل وافتخارهم به بما سببوا عن ذلك بقوله:{فما كان جواب قومه} أي لهذا الكلام الحسن لما لم يكن لهم حجة في دفعه بل ولا شبهة {إلا أن} صدقوه في نسبته لهم إلى

ص: 182

الجهل بأن {قالوا} عدولاً إلى المغالبة وتمادياً في الخبث {أخرجوا آل لوط} فأظهر ما أضمره في الأعراف لأن الإظهار أليق بسورة العلم والحكمة وإظهار الخبء، وقالوا؛ {من قريتكم} مناً عليه بإسكانه عندهم؛ وعللوا ذلك بقولهم:{إنهم} ولعلهم عبروا بقولهم: {أناس} مع صحة المعنى بدونه تهكماً عليه لما فهموا من أنه أنزلهم إلى رتبة البهائم {يتطهرون*} أي يعدون أفعالنا نجسة ويتنزهون عنها.

فلما وصلوا في الخبث إلى هذا الحد، سبب سبحانه عن قولهم وفعلهم قوله:{فأنجيناه وأهله} أي كلهم، أي من أن يصلوا إليه بأذى أو يلحقه شيء من عذابنا {إلا امرأته} فكأنه قيل: فما كان من أمرها؟ فقيل: {قدرناها} أي جعلناها بعظمتنا وقدرتنا في الحكم وإن كانت خرجت معه {من الغابرين*} أي الباقين في القرية في لحوق وجوههم والداهية الدهياء أنفسهم وديارهم حتى كانوا كأمس الدابر {وأمطرنا} وأشار إلى أنه إمطار عذاب بالحجارة مع تعديته بالهمزة وهو معدى بدونها فصارت كأنها لإزالة الإغاثة بالإتيان بضدها بقوله: {عليهم} وأشار إلى سوء الأثر لاستلزامه سوء الفعل الذي نشأ عنه وغرابته بقوله: {مطراً} أي وأيّ مطر؛ ولذلك سبب عنه قوله: {فساء مطر المنذرين*}

ص: 183

أي الذين وقع إنذارنا لهم الإنذار الذي هو الإنذار.

ص: 184

ولما تم بهذه القصص استنتاج ما أراد سبحانه من الدليل على حكمته وعلمه ومباينته للأصنام في قدرته وحلمه، أمر نبيه صلى الله عليه السلام بأن يحمده شكراً على ما علم ويقررهم بعجز أصنامهم رداً لهم عن الجهل بأوضح طريق وأقرب متناول فقال:{قل} ما أنتجه ما تقدم في هذه السورة، وهو {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي مختص بالمستجمع للأسماء الحسنى، والصفات العلى عند الإعدام كما كان عند الإيجاد {وسلام} أي سلامة وعافية وبقاء في هذا الحين وكل حين، كما كان قبل هذا في غابر السنين، وأشار بأنه لا وصول للعطب إليهم بأداة الاستعلاء في قوله:{على} وأشار إلى شرفهم بقوله: {عباده} بإضافتهم إليه؛ وأكد ذلك بقوله: {الذين اصطفى} أي في كل عصر وحين كما أن الحمد لمعبودهم أزلاً وأبداً لا بذين، وعطب وغضب على من عصى، وخالف الرسل وأبى كما ترى في أصحاب هذه الأنباء، والمعنى أن هذا الحكم المستمر بنجاة الرسل وأتباعهم، وهلاك الكافرين وأشياعهم، دليل قطعي على أن الإحاطة لله في كل أمر؛ قال أبو حيان: وكان هذا صدر خطبة لما

ص: 184

يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة، ومما يتنبه له أنه لم يرد في قصة لوط عليه السلام أكثر من نهيه لهم عن هذه الفاحشة، فلا يخلو حالهم من أمرين: إما أنهم كانوا لا يشركون بالله تعالى شيئاً، ولكنهم لما ابتكروا هذه المعضلة وجاهروا بها مصرين عليها، أخذوا بالعذاب لذلك ولكفرهم بتكذيبهم رسولهم، كما صرحت به آية الشعراء، وإما أنهم كانوا مشركين، ولكنه عليه السلام لما رآهم قد سفلوا إلى رتبة البهيمية، رتب داعاءهم منها إلى رتبة الإنسانية، ثم إلى رتبة الوحدانية، ويدل على هذا التقدير الثاني قوله مشيراً إلى أن الله تعالى أهلكهم وجميع من كفر من قبلهم، ولم تغن عنهم معبوداتهم شيئاً، بقوله:{الله} أي الذي له الجلال والإكرام {خير} أي لعباده الذين اصطفاهم فأنجاهم {أما يشركون*} يا معاشر العرب من الأصنام وغيرها لعباديها ومحبيها فإنهم لا يغنون عنكم شيئاً كما لم يغنوا عمن عبدهم من هؤلاء الذين أهلكناهم شيئاً، ولا تفزعون عند شدائدهم إلا إلى الله وحده، هذا على على قراءة الخطاب للجماعة، والتقدير على قراءة الغيب للبصريين وعاصم: أما يشرك الكفار عامة قديماً وحديثاً لمن أشركوا بهم، فلم يقدروا على نفعهم عند إحلال البأس بهم، وأفعل

ص: 185

التفضيل لإلزام الخصم والتنبيه على ظهور خطائه المفرط، وجهله المورط إلى حد لا يحتاج فيه إلى كشف لأعلى بابها.

ولما كان مع هذا البيان من الأمر الواضح أن التقدير زيادة في توبيخ المشركين وتقرير المنكرين: من فعل هذه الأفعال البالغة في الحكمة المتناهية في العلم أم من سميتموه إلهاً، ولا اثر له أصلاً، عاد له بقوله:{أمَّن} وكان الأصل: أم هو، ولكنه عبر باسم موصول أصل وضعه لذي العلم، ووصله بما لا يصح أن يكون لغيره ليكون كالدعوى المقرونة بالدليل فقال:{خلق السماوات والأرض} تنبيهاً بالقدرة على بدء الخلق على القدرة على إعادته، بل من باب الأولى، دلالة على الإيمان بالآخرة تخلقاً بأخلاق المؤمنين الذين مضى أول السورة أن هذا القرآن المبين بشرى لهم.

ولما كان الإنبات. من أدل الآيات، على إحياء الأموات، قال:{وأنزل} وزاد في تقريعهم وتبكيتهم وتوبيخهم بقوله: {لكم} أي لأجلكم خاصة وأنتم تكفرون به وتنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره: {من السماء ماء} هو للارض كالماء الدافق للأرحام كالماء الذي ينزل آخر الدهور على القبور.

ص: 186

في وجوده وقدرته واختياره لفعل المتباينات في الطعم واللون والريح والطبع والشكل بماء واحد في أرض واحدة واختصاصه بفعل ذلك من غير مشاركة شيء له شيء منه أصلاً، وهو آيته العظمى على أمر البعث، عدل إلى التكلم وعلى وجه العظمة فقال:{فأنبتنا} أي بما لنا من العظمة {به حدائق} أي بساتين محدقة - أي محيطة - بها أشجارها وجدرانها، والظاهر أن المراد كل ما كان هكذا، فإنه في قوة أن يدار عليه الجدار وإن لم يكن له جدار، وعن الفراء أن البستان إن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة.

ولما كان الأولى بجمع الكثرة لما لا يعقل الوصف بالمفرد قال مفيداً أنها كالشيء الواحد في ذلك الوصف: {ذات بهجة} أي بهاء وحسن ورونق، وبشر بها وسرور على تقارب أصولها مع اختلاف أنواعها، وتباين طعومها وأشكالها، ومقاديرها وألوانها.

ولما أثبت الإنبات له، نفاه عن غيره على وجه التأكيد تنبيهاً على تأكد اختصاصه بفعله، وعلى أنه إن أسند إلى غيره فهو مجاز عن التسبب وأن الحقيقة ليست إلا له فقال:{ما كان} أي ما صح وما تصور بوجه من الوجوه {لكم} وأنتم أحياء فضلاً عن شركائكم الذين هم أموات بل موات {أن تنبتوا شجرها} أي شجر

ص: 187

تلك الحدائق.

ولما ثبت أنه المتفرد بالألوهية، حسن موقع الإنكار والتقرير في قوله:{أإله} أي كائن {مع الله} أي الملك الأعلى الذي لا مثل له.

ولما كان الجواب عند كل عاقل: لا وعزته! قال معرضاً عنهم للإيذان بالغضب: {بل هم} أي في دعائهم معه سبحانه شريكاً {قوم يعدلون*} أي عن الحق الذي لا مرية فيه إلى غيره، مع العلم بالحق، فيعدلون بالله غيره.

ولما فرغ من آية اشترك فيها الخافقان، ذكر ما تتفرد به الأرض، لأنها اقرب إليهم وهم بحقيقتها وما لابسوه من أحوالها أعلم منهم بالأمور السماوية، تعديداً للبراهين الدالة على تفرده بالفعل الدال على تفرده بالإلهية، فقال مبدلاً من {أمَّن خلق} :{أمَّن} أي أم فعل ذلك الذي {جعل الأرض قراراً} أي مستقرة في نفسها ليقر عليها غيرها، وكان القياس يقتضي أن تكون هاوية أو مضطربة كما يضطرب ما هو معلق في الهواء.

ولما ذكر قرارها، أتبعه دليله في معرض الامتنان فقال:

ص: 188

{وجعل خلالها} أي في الأماكن المنفرجة بين جبالها {أنهاراً} أي جارية على حالة واحدة، فلو اضطربت الأرض أدنى اضطراب، لتغيرت مجاري المياه بلا ارتياب.

ولما ذكر الدليل، ذكر سبب القرار فقال:{وجعل لها رواسي} أي كمراسي السفن، كانت أسباباً في ثباتها على ميزان دبره سبحانه في مواضع من أرجائها بحيث اعتدلت جميع جوانبها فامتنعت من الاضطراب.

ولما أثبت القرار وسببه، وكان قد جعل سبحانه للأنهار طرقاً تتصرف فيها ولو حبسها عن الجري شيء لأوشك أن تستبحر، فيصير أكثر الأرض لا ينتفع به في سير ولا نبات، أو أن تخرق ذلك الحابس بما لها من قوة الجري وشدة النفوذ بلطافة السريان، لأن من عادة المياه التخلل بين أطباق التراب والتغلغل بما لها من اللطافة والرقة، والثقل في الأعماق ولو قليلاً قليلاً، وكان سبحانه قد سد ما بين البحرين: الرومي والفارسي، وكان ما بينهما من الأرض إنما هو يسير جداً في بعض المواضع، وكان بعض مياه الأرض عذباً، وبعضه ملحاً، مع

ص: 189

القرب جداً من ذلك العذب، سألهم - تنبيهاً لهم على عظيم القدرة - عن الممسك لعدوان أحدهما على آخر، ولعدوان كل من خليجي الملح على ما بينهما لئلا يخرقاه فيتصلا فقال:{وجعل بين البحرين حاجزاً} أي يمنع أحدهما أن يصل إلى الآخر.

ولما كان من المعلوم أنه الله وحده. ليس عند عاقل شك في ذلك، كرر الإنكار في قوله:{أإله مع الله} أي المحيط علماً وقدرة. ولما كان الجواب الحق قطعاً: لا، وكان قد أثبت لهم في الإضراب الأول علماً من حيث الحكم على المجموع، وكان كل منهم يدعي رجحان العقل، وصفاء الفكر، ورسوخ القدم في العلم بما يدعيه العرب، قال:{بل أكثرهم} أي الخلق الذين ينتفعون بهذه المنافع {لا يعلمون*} أي ليس لهم نوع من العلم، بل هم كالبهائم لإعراضهم عن هذا الدليل الواضح.

ولما دلهم بآيات الآفاق، وكانت كلها من أحوال السراء، وكانت بمعرض الغفلة عن الإله، ذكرهم بما في أنفسهم مما يوجبه تغير الأحوال الدالة بمجردها على الإله، ويقتضي لكل عاقل صدق التوجه إليه،

ص: 190

وإخلاص النية لديه، والإقبال عليه، على ذلك ركزت الطباع، وانعقد الإجماع، فلم يقع فيه نزاع، فقال:{أمن يجيب المضطر} أي جنس الملجأ إلى ما لا قبل له به، الصادق على القليل والكثير إذا أراد إجابته كما تشاهدون، وعبر فيه وفيما بعده بالمضارع لأنه مما يتجدد، بخلاف ما مضى من خلق السماوات وما بعده {إذا دعاه} أي حين ينسيكم الضر شركاءكم، ويلجئكم إلى من خلقكم ويذهل المعطل عن مذهبه ويغفله عن سوء أدبه عظيمُ إقباله على قضاء أربه.

ولما كانت الإجابة ذات شقين، جلب السرور، ودفع الشرور، وكان النظر إلى الثاني أشد، خصه بادئاً به فقال:{ويكشف السوء} ثم أتبعه الأول على وجه أعم، فقال مشيراً إلى عظيم المنة عليهم بجعلهم مسلطين عالين على جميع من في الأرض وما في الأرض مشرفين بخلافته سبحانه، ولذلك أقبل عليهم، {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي فيما يخلف بعضكم بعضاً، لا يزال يجدد ذلك بإهلاك قرن وإنشاء آخر إلى قيام الساعة. ولما كان هذا أبين، كرر الإنكار فيه مبكتاً لهم بالنسيان فقال:{أإله} أي كائن أو موجود {مع الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له.

ص: 191

ثم استأنف التبكيت تفظيعاً له ومواجهاً به في قراءة الجماعة لما يؤذن به كشف هذه الأزمات من القرب المقتضي للخطاب، ولذلك أكد بزيادة «ما» فقال:{قليلاً ما تذكرون*} أي بأن من أنجاكم من ذلك وحده حين أخلصتم له التوجه عند اشتداد الأمر هو المالك لجميع أموركم في الرخاء كما كان مالكاً له في الشدة، وأن الأصنام لا تملك شيئاً بشفاعة ولا غيرها كما لم تملك شيئاً في اعتقادكم عند الأزمات، واشتداد الكربات، في الأمور المهمات، فإن هذا قياس ظاهر، ودليل باهر، ولكن من طبع الإنسان نسيان ما كان فيه من الضير، عند مجيء الخير، ومن قرأ بالتحتانية وهم أبو عمرو وهشام وروح، فللإيذان بالغضب الأليق بالكفران، مع عظيم الإحسان.

ولما ذكر آيات الأرض، وختم بالمضطر، وكان المضطر قد لا يهتدي لوجه حيلة، أتبعها آيات السماء ذاكراً ما هو من أعظم صور الاضطرار فقال:{أمَّن يهديكم} أي إذا سافرتم بما رسم لكم من المعالم العلوية والسفلية {في ظلمات البر} أي بالنجوم والجبال والرياح، وهي وإن كانت أضعفها فقد يضطر إليه حيث لا يبدو

ص: 192

شيء من ذينك {والبحر} بالنجوم والرياح.

ولما كانت الرياح كما كانت من أدلة السير، كان بعضها من أدلة المطر، قال:{ومن يرسل الرياح} أي التي هي من دلائل السير {نشراً} أي تنشر السحاب وتجمعها {بين يدي رحمته} أي التي هي المطر تسمية للمسبب باسم السبب؛ والرياح التي يهتدي بها في المقاصد أربع: الصبا، والدبور، والشمال، والجنوب، وهي أضعف الدلائل؛ قال الإمام أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري في كتاب أسماء الأشياء وصفاتها: الرياح أربع: الشمال، وهي التي تجيء عن يمينك إذا استقبلت قبلة العراق - يعني: وذلك ما بين مطالع الشمس الصيفية وبنات نعش، وهي في الصيف حارة، واسمها البارح، والجنوب تقابلها، والصبا من مطلع الشمس وهي القبول، والدبور تقابلها، ويقال الجنوب: النعامى والأرنب - انتهى.

وهذه العبارة أبين العبارات في تعيين هذه الرياح، وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي أحمد بن القاص

ص: 193

الطبري الشافعي في كتابه أدلة القبلة: إن قبلة العراقيين إلى باب الكعبة كله إلى الركن الشامي الذي عند الحجر، وقال: وقد اختلف أهل العلم بهذا الشأن - أي في التعبير عن مواطن الرياح - اختلافاً متبايناً، وأقرب ذلك - على ما جربته وتعاهدته بمكة - أن الصبا تهب ما بين مطالع الشمس في الشتاء إلى مطلع سهيل، وسهيل يمان مسقطه في رأي العين على ظهر الكعبة إذا ارتفع، وقال صاحب القاموس: والصبا ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش، وقال: والقبول كصبور: ريح الصبا، لأنها تقابل الدبور، أو لأنها تقابل باب الكعبة، أو لأن النفس تقلبها. وقال الإمام أبو عبد الله القزاز: الصبا: الريح التي تهب من مطلع الشمس، والقبول: الريح التي تهب من مطلع الشمس، وذلك لأنها تستقبل الدبور، وقيل: لأنها تستقبل باب الكعبة وهي الصبا، فقد اتفقت أقولهم كما ترى على خلاف ابن القاص، وقال ابن القاص: وهي - أي الصبا - ريح معها روح وخفة، ونسيم تهب مما بين مشرق الشتاء ومطلع سهيل،

ص: 194

ولها برد يقرص أشد من هبوبها، وتلقح الأشجار، ولا تهب إلا بليل، سلطانها إذا أظلم الليل، إلى أن يسفر النهار وتطلع الشمس، وأشد ما يكون في وقت الأسحار وما بين الفجرين، والجنوب تهب ما بين مطلع سهيل إلى مغارب الشمس في الصيف. وقال في القاموس: والجنوب: ريح تخالف الشمال، مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، وعن ابن هشام اللخمي أن الجنوب هي الريح القبلية. وفي الجمع بين العباب والمحكم: والجنوب ريح تخالف الشمال تأتي عن يمين القبلة، وقيل: هي من الرياح ما استقبلك عن شمالك إذا وقفت في القبلة، قال ابن الأعرابي: ومهب الجنوب من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، وقال الأصمعي: إذا جاءت الجنوب جاء معها خير وتلقيح، وإذا جاءت الشمال نشفت، ويقال للمتصافيين: ريحهما جنوب، وإذا تفرقا قيل: شملت ريحهما، وعن ابن الأعرابي: الجنوب في كل موضع حارة

ص: 195

إلا بنجد فإنها باردة؛ وقال ابن القاص: وإذا هبت فقوتها في العلو والهواء أكثر لأنها موكلة بالسحاب، وتحرك الأغصان ورؤوس الأشجار، ومع ذلك فتراها تؤلف الغيم في السماء، فتراه متراكماً مشحوناً، قال: وسمعت من يقول: ما اشتد هبوبها إلا خيف المطر، ولا هبت جنوب قط ثم يتبعها دبور إلا وقع مطر، وهي تهيج البحر وتظهر بكل ندى كامل في الأرض، وهي من ريح الجنة. والدبور - قال في القاموس: ريح تقابل الصبا، وقال القزاز: هي التي تأتي من دبر الكعبة وهي التي تقابل مطلع الشمس، وقال ابن القاص: تهب ما بين مغارب الشمس في الصيف إلى مطلع بنات نعش، وقوتها في الأرض أشد من قوتها في الهواء، وهي إذا هبت تثير الغبار.

وتكسح الأرض. وترفع الذيول، وتضرب الأقدام، وأشد ما تثير الغبار إذا تنكبت، تراها كأنها تعلب بالتراب على وجه الأرض، وترى الأشجار في البوادي والرمال لها دوي من ناحية الدبور، وقد اجتمع في أصلها التراب وما يلي الجنوب عارياً مكشوفاً متحفزاً وقوتها في الأرض - والله أعلم، لأن عاداً أو عدت بالتدمير بالرياح، فحفرت الآبار واستكنت فيها، فبعث الله الدبور فدخلت الآبار وقذفتهم متدمرين حتى أهلكتهم. والشمال - قال في القاموس: الريح التي تهب من قبل الحجر، والصحيح أنه ما مهبه ما بين مطله الشمس وبنات نعش، أو من مطلع النعش إلى

ص: 196

مسقط النسر الطائر، ولا تكاد تهب ليلاً. وقال القزاز: هي الريح التي تأتي عن شمالك إذا استقبلت مطلع الشمس، والعرب تقول: إن الجنوب قالت للشمال: إن لي عليك فضلاً، أنا أسري وأنت لا تسرين، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسرين، وقال الصغاني في مجمع البحرين: والشمال: الريح التي تهب من ناحية القطب، وعن أبي حنيفة: هي التي تهب من جهة القطب الشمالي وهي الجربياء وهي الشامية لأنها تأتيهم من شق الشام، وفي الجمع بين العباب والمحكم، والبوارح: شدة الرياح من الشمال في الصيف دون الشتاء كأنه جمع بارحة، وقيل: البوارح: الرياح الشدائد التي تحمل التراب، واحدتها بارح، والجربياء: الريح التي بين الجنوب والصبا، وقيل: هي النكباء التي تجري بين الشمال والدبور، وهي ريح تقشع السحاب، وقيل هي الشمال، وجربياؤها بردها - قاله الأصمعي، وقال الليث: هي الشمال الباردة، وقال ابن القاص: والشمال تهب ما بين مطلع بنات نعش إلى مطلع الشمس في الشتاء، وهي تقطع الغيم وتمحوها، ولذلك سميت الشمال المحوة، قال: وهذا بأرض الحجاز، وأما أرض العراق والمشرق فربما ساق الجنوب غيماً واستداره ولم يحلبه حتى تهب الشمال فتحلبه، والجنوب والشمال متماثلتان، لأنهما موكلتان بالسحاب، فالجنوب تطردها

ص: 197

وهي مشحونة، والشمال تردها وتمحوها إذا أفرغت، قال أبو عبيدة: الشمال عند العرب للروح، والجنوب للأمطار والندى، والدبور للبلاء، وأهونه أن يكون غباراً عاصفاً يقذي العيون، والصبا لإلقاح الشجر، وكل ريح من هذه الرياح انحرفت فوقعت بين ريحين فهي نكباء، وسميت لعدولها عن مهب الأربع اللواتي وصفن قبل - انتهى. وقال المسعودي في مروج الذهب في ذكر البوادي من الناس وسبب اختيار البدو: إن شخصاً من خطباء العرب وفد على كسرى فسأله عن أشياء منها الرياح فقال: ما بين سهيل إلى طرف بياض الفجر جنوب، وما بإزائهما مما يستقبلهما من المغرب شمال، وما جاء من وراء الكعبة فهي دبور، وما جاء من قبل ذلك فهي صبا، ونقل ابن كثير في سورة النور عن ابن أبي حاتم وابن جرير عن عبيد بن عمير الليثي أنه قال: يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قماً، ثم يبعث الله الناشئة فتنشىء السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب.

ولما انكشف بما مضى من الآيات. ما كانوا في ظلامه من واهي الشبهات، واتضحت الأدلة، ولم تبق لأحد في شيء من ذلك علة. كرر سبحانه الإنكار في قوله:{أإله مع الله} أي الذي كمل علمه فشملت قدرته.

ص: 198

ولما ذكر حالة الاضطرار، وأتبعها من صورها ما منه ظلمة البحر، وكانوا في البحر يخلصون له سبحانه ويتركون شركاءهم، نبههم على أن ذلك موجب لاعتقاد كون الإخلاص له واجباً دائماً، فأتبعه قوله على سبيل الاستعظام، معرضاً عنهم بإجماع العشرة إعراض من بلغ به الغضب:{تعالى الله} أي الفاعل القادر المختار الذي لا كفوء له {عما يشركون} ، أي فإن شيئاً منها لا يقدر على شيء من ذلك، وأين رتبة العجز من رتبة القدرة.

ولما رتب سبحانه هذه الأدلة على هذا الوجه ترقياً من أعم إلى أخص، ومن أرض إلى سماء، ختمها بما يعمها وغيرها، إرشاداً إلى قياس ما غاب منها على ما شوهد، فلزم من ذلك قطعاً القدرة على الإعادة، فساقها لذلك سياق المشاهد المسلم، وعد من أنكره في عداد من لا يلتفت إليه فقال:{أمن يبدأ الخلق} أي كله: ما علمتم منه وما لم تعلموا، ثم بيده لأن كل شيء هالك إلا وجهه، له هذا الوصف باعترافكم يتجدد أبداً تعلقه. ولما كان من اللازم البين لهم الإقرار بالإعادة لاعترافهم بأن كل من أبدى شيئاً قادر على إعادته، لأن الإعادة أهون، قال:{ثم يعيده} أي بعد ما يبيده.

ولما كان الإمطار والإنبات من أدل ما يكون على الإعادة، قال

ص: 199

مشيراً إليهما على وجه عم جميع ما مضى: {ومن يرزقكم من السماء} أي بالمطر والحر والبرد وغيرهما مما له سبب في التكوين أو التلوين {والأرض} أي بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله، وعر عنهما بالرزق لأن به تمام النعمة {أإله مع الله} أي الذي له صفات الجلال والإكرام، كائن، أو يفعل شيئاً من ذلك.

ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة، ودلائل قاطعة، وأنواراً لامعة، وحججاً باهرة، وبينات ظاهرة، وسلاطين قاهرة، على التوحيد المستلزم للقدرة على البعث وغيره من كل ممكن، أمره صلى الله عليه وسلم إعراضاً عنهم، إيذاناً بالغضب في آخرها بأمرهم بالإتيان ببرهان واحد على صحة معتقدهم فقال:{قل} أي هؤلاء المدعين للعقول {هاتوا برهانكم} أي على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى، أو على إثبات شيء منه لغيره، لتثبت دعوى الشركة في الخلق فتسمع دعوى الشركة في الألوهية، وليكن إتيانكم بذلك ناجزاً من غير مهلة، لأن من يدعي العقل لا يقدر على شيء إلا ببرهان حاضر {إن كنتم صادقين*} أي في أنكم على حق في أن مع الله غيره. وأضاف البرهان إليهم إضافة ما كأنه عنيد، لا كلام في وجوده وتحققه، وإنما المراد الإتيان به كل ذلك تهكماً بهم وتنبيهاً على أنهم أبعدوا في الضلال، وأعرقوا في

ص: 200

المحال، حيث رضوا لأنفسهم بتدين لا يصير إليه عاقل إلا بعد تحقق القطع بصحته، ولا شبهة في أنه لا شبهة لهم على شيء منه.

ص: 201

ولما كانت مضمونات هذه البراهين متوقفة على علم الغيب، لأنه لا يخرج الخبء باختراع الخلق وكشف الضر وإحكام التدبير إلا به، لأنه لا قدرة أصلاً لمن لا علم له ولا تمام لقدرة من لا تمام لعلمه - كما مضى بيانه في طه، وطالبهم سبحانه آخر هذه البراهين بالبرهان على الشرك، وكانوا ربما قالوا: سنأتي به، أمر أن يعلموا أنه لا برهان لهم عليه، بل البرهان قائم على خلافه، فقال:{قل} أي لهم أو لكل من يدعي دعواهم: {لا يعلم} أحد، ولكنه عبر بأداة العقلاء فقال:{من} لئلا يخصها متعنت بما لا يعقل، عبر بالظرف تنبيهاً على أن المظروف محجوب، وكل ظرف حاجب لمظروفه عن علم ما وراءه، فقال:{في السماوات والأرض الغيب} أي الكامل في الغيبة، وهو الذي لم يخرج إلى عالم الشهادة أصلاً، ولا دلت عليه أمارة، ليقدر على شيء مما تقدم في هذه الآيات من الأمور فيعلمه.

ولما كان الله تعالى منزهاً عن أن يحويه مكان. جعل الاستثناء هنا منقطعاً، ومن حق المنقطع النصب كما قرأ به ابن أبي عبلة شاذاً، لكنه رفع بإجماع العشرة بدلاً على لغة بني تميم، فقيل:

ص: 201

{إلا الله} أي المختص بصفات الكمال كما قيل في الشعر:

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس

بمعنى: إن كانت اليعافير أنيساَ ففيها أنيس، بتاً للقول بخلوها من الأنيس، فيكون معنى الآية: إن كان الله جل وعلا ممن في السماوات والأرض ففيهم من يعلم الغيب، يعني إن علم أحدهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، ويصح كونه متصلاً، والظرفية في حقه سبحانه مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز، وعلى هذا فيرتفع على البدل أو الصفة، والرفع أفصح من النصب، لأنه من منفي، وقد عرف بهذا سر كونه لم يقل «لا يعلم أحد الغيب إلا هو» وهو التنبيه على المظروفية والحاجة، وأن الظرف حجاب، لا يرتاب فيه مرتاب، وجعل ابن مالك متعلق الظرف خاصاً تقديره: يذكر، وجعل غيره «من» مفعولاً والغيب بدل اشتمال، والاستثناء مفرغاً، فالتقدير: لا يعلم غيب المذكورين - أي ما غاب عنهم - كلهم غيره.

ولما كان الخبر - الذي لم يطلع عليه أحد من الناس - قد يخبر به الكهان، أو أحد من الجان، من أجواف الأوثان، وكانوا يسمون هذا غبياً وإن كان في الحقيقة ليس به لسماعهم له من السماء بعد ما أبرزه الله إلى عالم

ص: 202

الشهادة للملائكة ومن يريد من عباده، وكانوا ربما تعتنوا به عن العبارة، وكانت الساعة قد ثبت أمرها، وشاع في القرآن وعلى لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم ذكرها، بحيث صارت بمنزلة ما لا نزاع فيه، وكان علم وقتها من الغيب المحض، قال:{وما يشعرون} أي أحد ممن في السماوات والأرض وإن اجتمعوا وتعاونوا {أيان} أي أيّ وقت {يبعثون*} فمن أعلم بشيء من ذلك على الحقيقة بأن صدقه، ومن تخرص ظهر كذبه.

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث والكفر قد عم الأرض، وكانوا قد أكثروا في التكذيب بالساعة والقطع بالإنكار لها بعضهم صريحاً، وبعضهم لزوماً، لضلاله عن منهاج الرسل وكان الذي ينبغي للعالم الحكيم أن لا يقطع بالشيء إلا بعد إحاطة علمه به، قال متهكماً بهم كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك! استهزاء به مستدركاً لنفي شعورهم بها بياناً لكذبهم باضطراب قولهم: {بل ادّارك} أي بلغ وتناهي {علمهم في الآخرة} أي أمرها مطلقاً: علم وقتها ومقدار عظمتها في هو لها وغير ذلك من نعتها لقطعهم بإنكارها وتمالؤهم

ص: 203

عليه، وتنويع العبارات فيه، وتفريع القول في أمره - هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وكذا في قراءة الباقين: ادّارك بمعنى تدارك يعني تتابع واستحكم.

ولما كانوا مع تصريحهم بالقطع في إنكارها كاذبين في قطعهم، مرتبكين في جهلهم، وقد يعبرون - دليلاً على أنه لا علم من ذلك عندهم - بالشك، قال تعالى:{بل هم في شك} ولما كانت لشدة ظهورها لقوة أدلتها كأنها موجودة، عبر بمن، أي مبتدىء {منها} ولما كانوا يجزمون بنفيها تارة ويترددون أخرى، كانت حقيقة حال من ينكر الشيء تارة على سبيل القطع وأخرى وجه الشك الوصف بالجهل البالغ به قال:{بل هم} ولما كان الإنسان مطبوعاً على نقائص موجبة لطغيانه، ومبالغته في العلو في جميع شأنه، ولا يوهن تلك النقائص منه إلا الخوف من عرضه على ديانه، الموجب لجهله. وتماديه على قبيح فعله، فقال مقدماً للجار:{منها عمون*} أي ابتدأ عماهم البالغ الثابت من اضطرابهم في أمرها، فضلوا فأعماهم ضلالهم عن جميع ما ينفعهم، فصاروا لا ينتفعون بعقولهم، بل انعكس نفعها ضراً، وخيرها شراً، ونسب ما ذكر لجميع من في السماوات والأرض، لأن فعل البعض قد يسند إلى الكل لغرض، وهو هنا التنبيه على عظمة هذا الأمر، وتناهي وصفه، وأنه

ص: 204

يجب على الكل الاعتناء به، والوقوف على حقه، والتناهي عن باطله، أو لشك البعض وسكوت الباقي لقصد تهويله، أو أن إدراك العلم من حيث التهويل بقيام الأدلة التي هي أوضح من الشمس، فهم بها في قوة من أدرك علمه بالشيء، وهو معرض عنه، فقد فوّت على نفسه من الخير ما لا يدري كنهه، ثم نزل درجة أخرى بالشك ثم أهلكها بالكلية، وأنزلها العمى عن رتبة البهائم التي لا همّ لها إلا لذة البطن والفرج، وهذا كمن يسمع باختلاف المذاهب وتضليل بعضهم لبعض فيضلل بعضهم من غير نظر في قوله فيصير خابطاً خبط عشواء، ويكون أمره على خصمه هيناً أو الشك لأجل أن أعمالهم أعمال الشاك، أو أنهم لعدم علم الوقت بعينة كأنهم في شك بل عمى، ولأن العقول والعلوم لا تستقل بإدراك شيء من أمرها، وإنما يؤخذ ذلك عن الله بواسطة رسله من الملك والبشر.

ومن أخذ شيئاً من علمها عن غيرهم ضل.

ولما كان التقدير لحكاية كلامهم الذي يشعر ببلوغ العلم، فقالوا مقسمين جهد أيمانهم: لا تأتينا الساعة، عطف عليه ما يدل على الشك والعمى، وكان الأصل: وقالوا، ولكنه قال:{وقال الذين كفروا} أي ستروا دلائل التوحيد والآخرة التي هي أكثر من أن تحصى وأوضح من الضياء، تعليقاً للحكم بالوصف، مستفهمين استفهام المستبعد المنكر:{أإذا كنا تراباً وآباؤنا} وكرروا الاستفهام

ص: 205

إشارة إلى تناهي الاستبعاد والجحود، وعد ما استبعدوه محالاً، فقالوا:{أئنا} أي نحن وآباؤنا الذين طال العهد بهم، وتمكن البلى فيهم {لمخرجون*} أي من الحالة التي صرنا إليها من الموت والبلى إلى ما كنا عليه قبل ذلك من الحياة والقوة، ثم أقاموا الدليل في زعمهم على ذلك فقالوا تعليلاً لاستبعادهم:{لقد وعدنا} .

ولما كانت العناية في هذه السورة بالإيقان بالآخرة، قدم قوله:{هذا} أي الإخراج من القبور كما كنا أول مرة - على قوله: {نحن وآباؤنا} بخلاف ما سبق في سورة المؤمنون، وقالوا:{من قبل} زيادة في الاستبعاد، أي أنه قد مرت الدهور على هذا الوعد، ولم يقع منه شيء، فلذلك دليل على أنه لا حقيقة له فكأنه قيل: فما المراد به؟ فقالوا: {إن} أي ما {هذا إلا أساطير الأولين*} أي ما سطروه كذباً لأمر لا نعرف مرادهم منه. ولا حقيقة لمعناه، فقد حط كلامهم هذا كما ترى على أنهم تارة في غاية الإنكار دأب المحيط العلم، وتارة يستبعدون دأب الشاك، المركب الجهل، الجدير بالتهكم كما مضى أنه معنى الإضرابات - والله الموفق.

ص: 206

ولما لم يبق هذا الذي أقامه من دلائل القدرة على كل شيء عموماً، وعلى البعث خصوصاً، مقال، يرد عن الغي إلا التهديد بالنكال، وكان كلامهم هذه موجباً للنبي صلى الله عليه وسلم من الغم والكرب ما لا يعلمه إلا الله تعالى، قال سبحانه ملقناً له ومرشداً لهم في صورة التهديد:{قل سيروا في الأرض} أي أيها المعاندون أو العمي الجاهلون.

ولما كان المراد الاسترشاد للاعتقاد، والرجوع عن الغي والعناد، لكون السياق له، لا مجرد التهديد، قال {فانظروا} بالفاء المقتضية للإسراع، وعظم المأمور بنظره بجعله أهلاً للعناية به، والسؤال عنه، فقال:{كيف كان} أي كوناً هو في غاية المكنة {عاقبة المجرمين*} أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل من الصلاة التي هي الوصلة بين الله وبين عباده، والزكاة التي هي وصلة بين بعض العباد وبعض، لتكذيبهم الرسل الذين هم الهداة إلى ما لا تستقل به العقول، فكذبوا بالآخرة التي ينتج التصديق بها كل هدى، ويورث التكذيب بها كل عمى - كما تقدمت الإشارة إليه في افتتاح السورة، فإنكم إن نظرتم ديارهم، وتأملتم أخبارهم، حق التأمل، أسرع بكم ذلك إلى التصديق فنجوتم وإلا هلكتم، فلم تضروا إلا أنفسكم، وقد تقدم لهذا مزيد بيان

ص: 207

في النحل.

ولما دهم النبي صلى الله عليه وسلم من الأسف على جلافتهم في عماهم عن السبيل، الذي هدى إليه الدليل، ما لا يعلمه إلا الله قال:{ولا تحزن عليهم} أي في عدم إيمانهم.

ولما كانوا لا يقتصرون على التكذيب، بل يبغون للمؤمنين الغوائل، وينصبون الحبائل، قال:{ولا تكن} مثبتاً للنون لأنه في سياق الإخبار عن عنادهم واستهزائهم مع كفايته سبحانه وتعالى لمكرهم بما أعد لهم من سوء العذاب في الدارين، فلا مقتضى للتناهي في الإيجاز والإبلاغ في نفي الضيق، فيفهم إثبات النون الرسوخ، فلا يكون منهياً عما لا ينفك عنه العسر مما أشار إليه قوله تعالى {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون} وإنما ينهى عن التمادي معه في الذكر بخلاف ما مضى في النحل، فإن السياق هناك للعدل في العقوبة لما وقع من المصيبة في غزوة أحد المقتضى لتعظيم التسلية بالحمل على الصبر، ونفي جميع الضيق ليكون ذلك وازعاً عن مجاوزة الحد، بل حاملاً على العفو {في ضيق} أي في الصدر {مما يمكرون*} فإن الله جاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح.

ص: 208

في النحل.

ولما دهم النبي صلى الله عليه وسلم من الأسف على جلافتهم في عماهم عن السبيل، الذي هدى إليه الدليل، ما لا يعلمه إلا الله قال:{ولا تحزن عليهم} أي في عدم إيمانهم.

ولما كانوا لا يقتصرون على التكذيب، بل يبغون للمؤمنين الغوائل، وينصبون الحبائل، قال:{ولا تكن} مثبتاً للنون لأنه في سياق الإخبار عن عنادهم واستهزائهم مع كفايته سبحانه وتعالى لمكرهم بما أعد لهم من سوء العذاب في الدارين، فلا مقتضى للتناهي في الإيجاز والإبلاغ في نفي الضيق، فيفهم إثبات النون الرسوخ، فلا يكون منهياً عما لا ينفك عنه العسر مما أشار إليه قوله تعالى {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون} وإنما ينهى عن التمادي معه في الذكر بخلاف ما مضى في النحل، فإن السياق هناك للعدل في العقوبة لما وقع من المصيبة في غزوة أحد المقتضى لتعظيم التسلية بالحمل على الصبر، ونفي جميع الضيق ليكون ذلك وازعاً عن مجاوزة الحد، بل حاملاً على العفو {في ضيق} أي في الصدر {مما يمكرون*} فإن الله جاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح.

ص: 209

ولما أشار إلى أنهم لم يبقوا في المبالغة في التكذيب بالساعة وجهاً، أشار إلى أنهم بالوعيد بالساعة وغيرها من عذاب الله أشد مبالغة، فقال:{ويقولون} بالمضارع المؤذن بالتجدد كل حين للاستمرار: {متى هذا الوعد} وسموه وعداً إظهاراً للمحبة تهكماً به، وهو العذاب والبعث والمجازاة {إن كنتم} أي أنت ومن تابعك، كوناً هو في غاية الرسوخ، كما تزعمون {صادقين*} فأجابهم على هذا الجواب الغص بجواب الواسع القادر الذي لا يعتريه ضيق، ولا تنويه عجلة، مشيراً إلى الاستعداد للدفاع أو الاستسلام لذي الجلال والإكرام، كما فعلت بلقيس رضي الله عنها، فقال مخاطباً الرأس الذي لا يقدر على هذه التؤده حق القدرة غيره:{قل} يا محمد {عسى} أي يمكن {أن يكون} وجدير وخليق بأن يكون {ردف} أي تبع ردفاً حتى صار كالرديف ولحق.

ولما قصر الفعل وضمنه معنى ما يتعدى باللام لأجل الاختصاص قال: {لكم} أي لأجلكم خاصة {بعض الذي تستعجلون*} إتيانه من الوعيد، فتطلبون تعجيله قبل الوقت الذي ضربه الله له، فعلى تقدير وقوعه ماذا أعددتم لدفاعه؟ فإن العاقل من ينظر في عواقب أموره، ويبنيها على أسوأ التقادير، فيعد لما يتوهمه من البلاء ما يكون فيه

ص: 210

الخلاص كما فعلت بلقيس رضي الله عنها من الانقياد الموجب للأمان لما غلب على ظنها أن الإباء يوجب الهوان، لا كما فعل قوم صالح من الآبار، التي أعانت على الدمار، وغيرهم من الفراعنة.

ولما كان التقدير قطعاً: فأن ربك لا يعجل على أهل المعاصي بالانتقام مع القطع بتمام قدرته، عطف عليه قوله:{وإن ربك} أي المحسن إليك بالحلم عن أمتك وترك المعاجلة لهم بالعذاب على المعاصي {لذو فضل} أي تفضل وإنعام {على الناس} أي كافة {ولكن أكثرهم لا يشكرون*} أي لا يوقعون الشكر له بما أنعم عليهم، ويزيدون في الجهل بالاستعجال.

ولما كان الإمهال قد يكون من الجهل بذنوب الأعداء، قال نافياً لذلك:{وإن ربك} أي والحال أنه أشار بصفة الربوبية إلى إمهالهم إحساناً إليه وتشريفاً له {ليعلم} أي علماً لا يشبه علمكم بل هو في غاية الكشف لديه دقيقه وجليله {ما تكن} أي تضمر وتستر وتخفي {صدورهم} أي الناس كلهم فضلاً عن قومك {وما يعلنون*} أي يظهرون من عداوتك فلا تخشهم، وذكر هذا القسم لأن التصريح أقر للنفس والمقام للأطناب، على أنه ربما كان

ص: 211

في الإعلان لغط واختلاط أصوات يكون سبباً للخفاء.

ولما كان ثبات علة الناس في الغالب مقيداً بالكتاب، قال تقريباً لأفهامهم:{وما من غائبة} أي من هنة من الهنات في غاية الغيبوبة {في السماء والأرض} أي في أي موضع كان منهما، وأفردهما دلالة على إرادة الجنس الشامل لكل فرد {إلا في كتاب} كتبه قبل إيجادها لأنه لا يكون شيء إلا بعلمه وتقديره {مبين*} لا يخفى شيء فيه على من تعرف ذلك منه كيفما كان؛ ثم دل على ذلك بقوله:{إن هذا القرآن} أي الآتي به هذا النبي الأمي الذي لم يعرف قبله علماً ولا خالط عالماً {يقص} أي يتابع الإخبار ويتلو شيئاً فشيئاً على سبيل القطع الذي لا تردد فيه، من غير زيادة ولا نقص {على بني إسرائيل} أي الذي أخبارهم مضبوطة في كتبهم لا يعرف بعضها إلا قليل من حذاق أخبارهم {أكثر الذي هم} أي خاصة لكونه من خاص أخبارهم التي لا علم لغيرهم بها {فيه يختلفون*} أي من أمر الدين وإن بالغوا في كتمه، كقصة الزاني المحصن في إخفائهم أن حده الرجم، وقصة عزير والمسيح، وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من توارتهم، فصح بتحقيقه على لسان من لم يلم بعلم قط أنه من عند الله، وصح أن الله تعالى يعلم كل شيء إذ لا خصوصية لهذا دون غيره بالنسبة إلى علمه سبحانه.

ص: 212

ولما بان بهذا دليل علمه، أتبعه دليل فضله وحلمه، فقال:{وإنه} أي القرآن {لهدى} أي موصل إلى المقصود لمن وفق {ورحمة} أي نعمة وإكرام {للمؤمنين*} أي الذين طبعتهم على الإيمان، فهو صفة لهم راسخة كما أنه للكافرين وقر في أذانهم وعمى في قلوبهم.

ولما ذكر دليل فضله، أتبعه دليل عدله، فقال مستأنفاً لجواب من ظن أن فضله دائم العموم على الفريقين:{إن} وقال: {ربك} أي المحسن إليك بجمعه لكل بين العلم والبلاغة والدين والبراعة والدنيا والعفة والشجاعة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم {يقضي بينهم} أي بين جميع المخلفين {بحكمه} أي الذي هو أعدل حكم وأتقنه وأنفذه وأحسنه مع كفرهم به واستهزائهم برسله، لا بحكم غيره ولا بنائب يستنيبه {وهو} أي والحال أنه هو {العزيز} فلا يرد له أمر {العليم*} فلا يخفى عليه سر ولا جهر، فلما ثبت له العلم والحكمة، والعظمة والقدرة، تسبب عن ذلك قوله:{فتوكل على الله} أي الذي له جميع العظمة بما ثبت علمه وقدرته التي أثبت بها أنك أعظم عباده الذين اصطفى في استهزاء الأعداء وغيره من مصادمتهم ومسالمتهم لتدع الأمور كلها إليه، وتستريح من تحمل المشاق، وثوقاً بنصره، وما أحسن قول قيس بن الخطيم وهو جاهلي:

ص: 213

متى ما تقد بالباطل الحق يأبه

وأن تقد الأطوار بالحق تنقد

ثم علل ذلك حثاً على التحري في الأعمال، وفطماً لأهل الإبطال، عن تمني المحال، فقال:{إنك على الحق المبين*} أي البين في نفسه الموضح لغيره، فحقك لا يبطل ووضوحه لا يخفى، ونكوصهم ليس عن خلل في دعائك لهم، وإنما الخلل في مداركهم، فثق بالله في تدبير أمرك فيهم؛ ثم علل هذا الذي أرشد السياق إلى تقديره، أو استأنف لمن يسأل متعجباً عن وقوفهم عن الحق الواضح بقوله:{إنك لا تسمع الموتى} أي لا توجد سمعاً للذين هم كالموتى في عدم الانتفاع بمشاعرهم التي هي في غاية الصحة، وهم إذا سمعوا الآيات أعرضوا عنها.

ولما كان تشبيههم بالموتى مؤيساً، قال مرجياً:{ولا تسمع الصم الدعاء} أي لا تجدد ذلك لهم، فشبههم بما في أصل خلقهم مما جبلوا عليه من الشكاسة وسوء الطبع بالصم.

ولما كانوا قد ضموا إلى ذلك الإعراض والنفرة فصاروا كالأصم المدبر، وكان الأصم إذا أقبل ربما بمساعدة بصره وفهمه، قال:{إذا ولوا مدبرين*} فرجاه في إيجاد الإسماع إذا حصلت لهم حالة من الله تقبل بقلوبهم.

ولما شبههم بالصم في كونهم لا يسمعون إلا مع الإقبال، مثلهم

ص: 214

بالعمى في أنهم لا يهتدون في غير عوج أصلاً إلا براعٍ لا تشغله عنهم فترة ولا ملال، فقال:{وما أنت بهادي} أي بموجد الهداية على الدوام في قلوب {العمي} أي في أبصارهم وبصائرهم مزيلاً لهم وناقلاً ومبعداً {عن ضلالتهم} عن الطريق بحيث تحفظهم عن أن يزالوا عنها أصلاً، فإن هذا لا يقدر عليه إلا الحي القيوم، والسياق كما ترى يشعر بتنزيل كفرهم في ثلاث رتب: عليا ككفر أبي جهل، ووسطى كعتبة بن ربيعة، ودنيا كأبي طالب وبعض المنافقين، وسيأتي في سورة الروم لهذا مزيد بيان.

ولما كان ربما أوقف عن دعائهم، رجاه في انقيادهم وارعوائهم بقوله:{إن} أي ما {تسمع} أي سماع انتفاع على وجه الكمال، في كل حال {إلا من يؤمن} أي من علمناه أنه يصدق {بآياتنا} بأن جعلنا فيه قابلية السمع. ثم سبب عنه قوله دليلاً على إيمانه:{فهم مسلمون*} أي في غاية الطواعية لك في المنشط والمكره، لا خيرة لهم ولا إرادة في شيء من الأشياء.

ص: 215

ولما فرغ من عظيم زجرهم بتسليته صلى الله عليه وسلم في أمرهم وختم بالإسلام، عطف عليه ذكر ما يوعدون مما تقدم استعجالهم له استهزاء

ص: 215

به، وبدأ منه بالدابة التي تميز المسلم من غيره، فقال محققاً بأداة التحقيق:{وإذا وقع القول} أي حان حين وقوع الوعيد الذي هو معنى القول، وكأنه لعظمه لا قول غيره {عليهم} بعضه بالإتيان حقيقة وبعضه بالقرب جداً {أخرجنا} أي بما لنا من العظمة {لهم} من أشراط الساعة {دآبة} وأيّ دابة في هولها وعظمها خلقاً وخلقاً {من الأرض} أي أرض مكة التي هي أم الأرض، لأنه لم يبق بعد إرسال أكمل الخلق بأعلى الكتب إلا كشف الغطاء.

ولما كان التعبير بالدابة يفهم أنها كالحيوانات العجم لا كلام لها قال: {تكلمهم} أي بكلام يفهمونه، روى البغوي من طريق مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً» ومن طريق ابن خزيمة عن أبي شريحة الغفاري رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة، ثم تمكن زماناً طويلاً، ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية، ثم بينما

ص: 216

الناس يوماً في أعظم المساجد على الله عز وجل حرمة وأكرمها على الله عز وجل يعني المسجد الحرام، لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو - كذا قال عمرو - يعني ابن محمد العبقري أحد رواة الحديث - ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط ذلك، فارفض الناس عنها وثبت لها عصابة عرفوا أنهم لن يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب، فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب، ولا يعجزها هارب، حتى أن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان! الآن تصلي، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه، فيتجاور الناس في ديارهم، ويصطحبون في أسفارهم، ويشتركون في الأموال، يعرف الكافر من المؤمن، فيقال للمؤمن: يا مؤمن، ويقال للكافر: يا كافر» ؛ ومن طريق الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تخرج الدابة ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان عليهما السلام، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتى أن أهل الخوان

ص: 217

ليجتمعون فيقول هذا: يا مؤمن، وهذا: يا كافر» .

ثم علل سبحانه إخراجه لها بقوله: {أن الناس} أي بما هم ناس لم يصلوا إلى أول أسنان الإيمان، وهو سن {الذين آمنوا} بل هم نائسون مترددون مذبذبون تارة، وتارة {كانوا} أي كوناً هو لهم كالجبلة {بآياتنا} أي المرئيات التي كتبناها بعظمتنا في ذوات العالم، والمسموعات المتلوات، التي أتيناهم بها على ألسنة أكمل الخلق: الأنبياء والرسل، حتى ختمناهم بإمامهم الذي هو أكمل العالمين، قطعاً لحجاجهم، ورداً عن لجاجهم، ولذا عممنا برسالته وأوجبنا على جميع العقل أتباعه {لا يوقنون*} من اليقين، وهو إتقان العلم بنفي الشبه، بل هم فيها مزلزلون، فلم يبق بعده صلى الله عليه وسلم إلا كشف الغطاء عما ليس من جنس البشر بما لا تثبت له عقولهم.

ولما كان من فعل الدابة التمييز بين المؤمن والكافر بما لا يستطيعون دفعه، تلاه بتمييز كل فريق منهما عن صاحبه يجمعهم يوم القيامة في ناحية، وسوقهم من غير اختلاط بالفريق الآخر، فقال عاطفاً على العامل في «وإذا وقع القول» :{ويوم نحشر} أي نجمع - بما لنا من العظمة - على وجه الإكراه؛ قال أبو حيان: الحشر: الجمع

ص: 218

على عنف {من كل أمة فوجاً} أي جماعة كثيرة {ممن يكذب} أي يوقع التكذيب للهداة على الاستمرار، مستهيناً {بآياتنا} أي المرئية بعدم الاعتبار بها، والمسموعة بردها والطعن فيه على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا؛ وأشار إلى كثرتهم بقوله متسبباً عن العامل في الظرف من نحو: يكونون في ذل عظيم: {فهم يوزعون*} أي يكف بأدنى إشارة منه أولهم على - آخرهم، وأطرافهم على أوساطهم، ليتلاحقوا، ولا يشذ منهم أحد، ولا يزالون كذلك {حتى إذا جاءوا} أي المكان الذي أراده الله لتبكيتهم {قال} لهم ملك الملوك غير مظهر لهم الجزم بما يعلمه من أحوالهم، في عنادهم وضلالهم، بل سائلاً لهم إظهاراً للعدل بإلزامهم بما يقرون به من أنفسهم، وفيه إنكار وتوبيخ وتبكيت وتقريع:{أكذبتم} أي أيها الجاهلون {بآياتي} على ما لها من العظم في أنفسها، وبإتيانها إليكم على أيدي أشرف عبادي {و} الحال أنكم {لم تحيطوا بها علماً} أي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى الإحاطة بها في معانيها وما أظهرت لأجله حتى تعلموا ما تستحقه ويليق بها بدليل لا مرية فيه {أمّاذا كنتم} أي في تلك الأزمان بما هو لكم كالجبلات {تعملون*} فيها هل صدقتم بها أو كذبتم بعد الإحاطة بعلمها؟ أخبروني عن ذلك كله! ما دهاكم حيث لم تشتغلوا بهذا العمل المهم؟ فإن هذا - وعزتي - مقام العدل

ص: 219

والتحرير، ولا يترك فيه قطمير ولا نقير، ولا ظلم فيه على أحد في جليل ولا حقير، ولا قليل ولا كثير، والسؤال على هذا الوجه منبه على الاضطرار إلى التصديق أو الاعتراف بالإبطال، لأنهم إن قالوا: كذبنا، فإن قالوا مع عدم الإحاطة كان في غاية الوضوح في الإبطال، وإن قالوا مع الإحاطة كان أكذب الكذب.

ص: 220

ولما كان التقدير بما أرشد إليه السياق: فأجابوا بما تبين به أنهم ظالمون، عطف عليه قوله:{ووقع القول} أي مضمون الوعيد الذي هو القول حقاً، مستعلياً {عليهم بما ظلموا} أي بسبب ما وقع منهم من الظلم من صريح التكذيب وما نشأ عنه من الضلال، في الأقوال والأفعال {فهم لا ينطقون*} أي بسبب ما شغلهم من وقوع العذاب المتوعد به مما أحاط بقواهم، فهد أركانهم، وما انكشف لهم من أنه لا ينجيهم شيء.

ولما ذكر الحشر، استدل عليه بحشرهم كل ليلة إلى المبيت، والختم على مشاعرهم، وبعثهم من المنام، وإظهار الظلام الذي هو كالموت بعد النور، وبعث النور بعد إفنائه بالظلام، فقال:{ألم يروا} مما يدلهم على قدرتنا على بعثهم بعد الموت وعلى كل ما أخبرناهم به {أنا جعلنا} أي بعظمتنا التي لا يصل أحد إلى مماثلة شيء منها

ص: 221

الدالة على تفردنا وفعلنا بالاختيار {الليل} أي مظلماً {ليسكنوا فيه} عن الانتشار {والنهار مبصراً} أي بإبصار من يلابسه، لينتشروا فيه في معايشهم بعد أن كانوا ماتوا الموتة الصغرى، وكم من شخص منهم بات سوياً لا قلبة به فمات، ولو شئنا لجعلنا الكل كذلك لم يقم منهم أحد، وعدل عن {ليبصروا فيه} تنبيهاً على كمال كونه سبباً للإبصار، وعلى أنه ليس المقصود كالسكون، بل وسيلة المقصود الذي هو جلب المنافع، فالآية من الاحتباك: ذكر السكون أولاً دليل على الانتشار ثانياً، وذكر الإبصار ثانياً دليل على الإظلام أولاً، ثم عظم هذه الآية حثاً على تأمل ما فيها من القدرة الهادية إلى سواء السبيل فقال:{إن في ذلك} أي الحشر والنشر الأصغرين مع آيتي الليل والنهار {لآيات} أي متعددة، بينة على التوحيد والبعث الآخر والنبوة، لأن من قلب الملوين لمنافع الناس الدنيوية، أرسل الرسل لمنافعهم في الدراين.

ولما كان من مباني السورة تخصيص الهداية بالمؤمنين، خصهم بالآيات لاختصاصهم بالانتفاع بها وأن كان الكل مشتركين في كونها دلالة لهم، فقال:{لقوم يؤمنون*} أي قضيت بأن إيمانهم لا يزال يتجدد، فهم كل يوم في علو وارتفاع.

ص: 222

ولما ذكر هذا الحشر الخاص، والدليل على مطلق الحشر والنشر، ذكر الحشر العام، لئلا يظن أنه إنما يحشر الكافر، فقال مشيراً إلى عمومهم بالموت كما عمهم بالنوم، وعمومهم بالإحياء كما عمهم بالإيقاظ:{ويوم ينفخ} أي بأيسر أمر {في الصور} أي القرن الذي جعل صوته لإماتة الكل.

ولما كان ما ينشأ عنه من فزعهم مع كونه محققاً مقطوعاً به كأنه وجد ومضى، يكون في آن واحد، أشار إلى ذلك وسرعة كونه بالتعبير بالماضي فقال:{ففزع} أي صعق بسسب هذا النفخ {من في السماوات} .

ولما كان الأمر مهولاً، كان الإطناب أولى، فقال:{ومن في الأرض} أي كلهم {إلا من شاء الله} أي المحيط علماً وقدرة وعزة وعظمة، أن لا يفزع؛ ثم أشار إلى النفخ لإحياء الكل بقوله:{وكل} أي من فزع ومن لم يفزع {أتوه} أي

ص: 222

بعد ذلك للحساب بنفخة أخرى يقيمهم بها، دليلاً على تمام القدرة في كونه أقامهم بما به أنامهم {داخرين*} أي صاغرين منكسرين؛ واستغنى عن التصريح به بما يعلم بالبديهة من أنه لا يمكن إتيانهم في حال فزعهم الذي هو كناية عن بطلان إحساسهم، هذا معنى ما قاله كثير من المفسرين والذي يناسب سياق الآيات الماضية - من كون الكلام في يوم القيامة الذي هو ظرف لما بين البعث ودخول الفريقين إلى داريهما - أن يكون هذا النفخ بعد البعث وبمجرد صعق هو كالغشي كما أن حشر الأفواج كذلك، ويؤيده التعبير بالفزع، ويكون الإتيان بعده بنفخة أخرى تكون بها الإقامة، فهاتان النفختان حينئذ هما المراد من قوله صلى الله عليه وسلم:«يصعق الناس يوم القيامة» - الحديث، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى لفظاً ومعنى، ويحل ما فيه من إشكال في آخر سورة الزمر.

ولما ذكر دخورهم، تلاه بدخور ما هو أعظم منهم خلقاً، وأهول أمراً، فقال: عاطفاً على ناصب الظرف مما تقديره: كانت أمور محلولة، معبراً بالمضارع لأن ذلك وإن شارك الفزع في

ص: 223

التحقق قد فارقه في الحدوث والتجدد شيئاً فشيئاً: {وترى الجبال} أي عند القيام من القبور، والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم ليدل ذلك - لكونه صلى الله عليه وسلم أنفذ الناس بصراً وأنورهم بصيرة - على عظم الأمر، وإما لكل أحد لأن الكل صاروا بعد قيامهم أهلاً للخطاب بعد غيبتهم في التراب {تحسبها جامدة} أي قائمة ثابته في مكانها لا تتحرك، لأن كل كبير متباعد الأقطار لا يدرك مشيته إلا تخرصاً {وهي تمر} أي تسير حتى تكون كالعهن المنفوش فينسفها الله فتقع حيث شاء كأنها الهباء المنثور، فتستوي الأرض كلها بحيث لا يكون فيها عوج، وأشار إلى أن سيرها خفي وإن كان حثيثاً بقوله:{مر السحاب} أي مراً سريعاً لا يدرك على ما هو عليه لأنه إذا طبق الجو لا يدرك سيره مع أنه لا شك فيه وإن لم تنكشف الشمس بلا لبس، وكذا كل كبير الجرم أو كثير العد يقصر عن الإحاطة به لبعد ما بين أطرافه بكثرته البصر، يكون سائراً، والناظر الحاذق يظنه واقفاً.

ولما كان ذلك أمراً هائلاً، أشار إلى عظمته بقوله، مؤكداً

ص: 224

لمضمون الجملة المتقدمة: {صنع الله} أي صنع الذي له الأمر كله ذلك الذي أخبر أنه كائن في ذلك اليوم صنعاً، ونحو هذا المصدر إذا جاء عقب كلام جاء كالشاهد بصحته، والمنادي على سداده، والصارخ بعلو مقداره، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا هكذا، ثم زاد في التعظيم بقوله دالاً على تمام الإحكام في ذلك الصنع:{الذي أتقن كل شيء} .

ولما ثبت هذا على هذا الوجه المتقن، والنظام الأمكن، أنتج قطعاً قوله:{إنه} أي الذي أحكم هذه الأمور كلها {خبير بما يفعلون*} أي لأن الإتقان نتيجة القدرة، وهي نتيجة العلم، فمن لم يكن شامل العلم لم يكن تام القدرة، وعبر بالفعل الذي هو أعم من أن يكون بعلم أو لا، لأنه في سياق البيان لعماهم، ونفي العلم عنهم، وقرىء بالخطاب المؤذن بالقرب المرجي للرضا، المرهب من الإبعاد، المقرون بالسخط، وبالغيبة المؤذنة بالإعراض الموقع في الخيبة، وما أبدع ما لاءم ذلك ولاحمه ما بعده على تقدير الجواب لسؤال من كأنه قال: ماذا يكون حال أهل الحشر مع الدخور عند الناقد البصير؟ فقال: من إتقانه للأشياء أنه رتب الجزاء أحسن ترتيب {من جاء بالحسنة} أي الكاملة وهي الإيمان {فله} وهو من جملة إحكامه للأشياء {خير} أي أفضل {منها} مضاعفاً، أقل ما يكون عشرة أضعاف إلى ما لا يعلمه إلا الله، وأكرمت وجوههم عن النار، وهؤلاء أهل القرب

ص: 225

الذين سبقت لهم الحسنى {وهم من فزع يومئذ} أي إذا وقعت هذه الأحوال، العظيمة الأهوال {آمنون*} أي حتى لا يحزنهم الفزع الأكبر، فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه وترتيبه، وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفزع إفزاعاً واحداً، ولأمر ما أعجز القوي، وأخرس الشقاشق والادعاء {ومن جاء بالسيئة} أي التي لا سيئة مثلها، وهي الشرك لقوله:{فكبت} أي بأيسر أمر {وجوههم في النار} مع أنه ورد في الصحيح أن مواضع السجود - التي أشرفها الوجوه - لا سبيل للنار عليها، والوجه أشرف ما في الإنسان، فإذا هان كان ما سواه أولى بالهوان، والمكبوب عليه منكوس.

ولما كانوا قد نكسوا أعمالهم وعكسوها بعبادة غير الله، فوضعوا الشيء في غير موضعه، فعظموا ما حقه التحقير، واستهانوا أمر العلي الكبير. وكان الوجه محل ظهور الحياء والانكسار، لظهور الحجة، وكانوا قد حدقوا الأعين جلادة وجفاء عند العناد، وأظهروا في الوجوه التجهم والعبوس والارتداد، بدع قوله بناء على ما تقديره بما دل عليه الاحتباك: وهم من فزع يومئذ خائفون، وليس لهم إلا مثل سيئتهم:{هل} أي مقولاً لهم: هل {تجزون} أي بغمس الوجوه

ص: 226

في النار؛ وبني للمفعول لأن المرغب المرهب الجزاء، لا كونه من معين، وإشارة إلى أنه يكون بأيسر أمر، لأن من المعلوم أن المجازي هو الله لا غيره {إلا ما كنتم} أي بما هو لكم كالجبلة {تعملون*} أي تكررون عمله وأنتم تزعمون أنه مبني على قواعد العلم بحيث يشهد كل من رآه أنه مماثل لأعمالكم سواء بسواء، وهو شامل أيضاً لأهل القسم الأول، والآية من الاحتباك: ذكر الخيرية والأمن أولاً دليلاً على حذف المثل والخوف ثانياً، والكب في النار ثانياً دليلاً على الإكرام عنه أولاً.

ولما أتم الدين بذكر الأصول الثلاثة: المبدأ والمعاد والنبوة، ومقدمات القيامة وأحوالها، وبعض صفتها وما يكون من أهوالها، وذلك كمال ما يتعلق بأصول الدين على وجوه مرغبة أتم ترغيب، مرهبة أعظم ترهيب، أوجب هذا الترغيب والترهيب لكل سامع أن يقول: فما الذي نعمل ومن نعبد؟ فأجابه المخاطب بهذا الوحي. المأمور بإبلاغ هذه الجوامع، الداعي لمن سمعه، الهادي لم اتبعه، بأنه لا يرضى له ما رضي لنفسه، وهو ما أمره به ربه، فقال:{إنما أمرت} أي بأمر من لا يرد له أمر، ولا يعد أن يكون بدلاً من قوله {الحمد لله وسلام على عباده الذين اصصفى} فيكون محله نصباً بقل،

ص: 227

وعظم المأمور به بإحلاله محل العمدة فقال: {أن أعبد} أي بجميع ما أمركم به {رب} أي موجب ومدبر وملك؛ وعين المراد وشخصه وقربة تشريفاً وتكريماً بقوله: {هذه البلدة} أي مكة التي تخرج الدابة منها فيفزع كل من يراها، ثم تؤمن أهل السعادة، أخصه بذلك لا أعبد شيئاً مما عدلتموه به سبحانه وادعيتم أنهم شركاء، وهم من جملة ما خلق؛ ثم وصف المعبود الذي أمر بعبادة أحد غيره بما يقتضيه وصف الربوبية، وتعين البلدة التي أشار إليها بأداة القرب لحضورها في الأذهان لعظمتها وشدة الإلف بها وإرادتها بالأرض التي تخرج الدابة منها، فصارت لذلك بحيث إذا أطلقت البلدة انصرفت إليها وعرف أنها مكة، فقال:{الذي حرمها} تذكيراً لهم بنعمته سبحانه عليهم وتربيته لهم بأن أسكنهم خير بلاده، وجعلهم بذلك مهابة في قلوب عباده، بما ألقى في القلوب من أنها حرم، لا يسفك بها دم، ولا يظلم أحد، ولا يباح بها صيد، ولا يعضد شجرها، وخصها بذلك من بين سائر بلاده والناس يتخطفون من حولهم وهم آمنون لا ينالهم شيء من فزعهم وهولهم.

ص: 228

ولما كانت إضافتها إليه إنما هي لمحض التشريف، قال احتراساً عما لعله يتوهم:{وله كل شيء} أي من غيرها مما أشركتموه به وغيره خلقاً وملكاً وملكاً، وليس هو كالملوك الذين ليس لهم إلا ما حموه على غيرهم.

ولما كانوا ربما قالوا: ونحن نعبده بعبادة من نرجوه يقربنا إليه زلفى، عين الدين الذي تكون به العبادة فقال:{وأمرت} أي مع الأمر بالعبادة له وحده، وعظم المفعول المأمور به بجعله عمدة الكلام بوضعه موضع الفاعل فقال:{أن أكون} أي كوناً هو في غاية الرسوخ {من المسلمين*} أي المنقادين لجميع ما يأمر به كتابه أتم انقياد، ثابتاً على ذلك غاية الثبات.

ص: 229

ولما بين ما أمر به في نفسه، أتبعه ما تعم فائدته غيره فقال:{وأن أتلو القرآن} أي أواظب على تلاوته وتلوه - أي اتباعه - عبادة لربي، وإبلاغاً للناس ما أرسلت به إليهم مما لا يلم به ريب في أنه من عنده، ولأكون مستحضراً لأوامره فأعمل بها، ولنواهيه فأجتنبها، وليرجع الناس إيه ويعولوا في كل أمر عليه. لأنه جامع لكل علم.

ولما تسبب عن ذلك أن من انقاد له نجى نفسه، ومن

ص: 229

استعصى عليه أهلكها، قال له ربه سبحانه مسلياً ومؤسياً ومرغباً ومرهباً:{فمن اهتدى} أي باتباع هذا القرآن الداعي إلى الجنان {فإنما يهتدي لنفسه} لأنه يحييها بحوزة الثواب، ونجاته من العقاب، فإنما أنا من المبشرين، أبشره أنه من الناجين {ومن ضل} أي عن الطريق التي نهج وبينها من غير ميل ولا عوج {فقل} له كما تقول لغيره:{إنما أنا من المنذرين*} أي المخوفين له عواقب صنعه، وإنما فسره ورده فلم أومر به الآن {وقل} أي إنذاراً لهم وترغيباً وترجية وترهيباً:{الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي الذي له العظمة كلها سواء اهتدى الكل وضل الكل، أو انقسموا إلى مهتد وضال، لأنه لا يخرج شيء عن مراده.

ولما كانت نتيجة ذلك القدرة على كل شيء قال: {سيريكم} أي في الدنيا والآخرة بوعد محقق لا شك في وقوعه {آياته} أي الرادة لكم عما أنتم فيه يوم يحل لي هذه البلدة الذي حرمها بما أشار إليه جعلي من المنذرين وغير ذلك ما يظهر من وقائعه ويشتهر من أيامه التي صرح أو لوح بها القرآن، فيأتيكم تأويله فترونه عياناً، وهو معنى {فتعرفونها} أي بتذكركم ما أتوعدكم الآن به وأصفه لكم

ص: 230

منها، لا تشكون في شيء من ذلك أنه على ما وصفته ولا ترتابون، فتظهر لكم عظمة القرآن، وإبانة آيات الكتاب الذي هو الفرقان، وترون ذلك حق اليقين {ولتعلمن نبأه بعد حين} [ص: 88] ، {يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} [الأعراف: 53] ، {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} [يس: 52] .

ولما كان قد نفس لهم بالسين في الآجال، وكان التقدير تسلية له صلى الله عليه وسلم: وما ربك بتاركهم على هذا الحال من العناد لأن ربك قادر على ما يريد، عطف عليه قوله:{وما ربك} أي المحسن إليك بجميع ما أقامك فيه من هذه الأمور العظيمة والأحوال الجليلة الجسيمة {بغافل عما تعملون*} أي من مخالفة أوامره، ومفارقة زواجره، ويجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل {يرى} أي ربكم غير غافل، ومن قرأ بالخطاب كان المعنى: عما تعمل انت وأتباعك من الطاعة. وهو من المعصية، فيجازي كلاًّ منكم بما يستحق فيعلي أمرك، ويشد إزرك، ويوهن أيدهم، ويضعف كيدهم، بما له من الحكمة، والعلم ونفوذ الكلمة، فلا يظن ظان أن تركه للمعالجة بعقابهم لغفلة عن شيء من أعمالهم، إنما ذلك لأنه حد لهم حداهم بالغوه لا محالة لأنه لا يبدل القول لديه، فقد رجع آخرها كما ترى بإبانة الكتاب وتفخيم القرآن وتقسيم الناس فيه إلى مهتد وضال إلى أولها، وعانق ختامها ابتداءها بحكمة منزلها، وعلم مجملها ومفصلها، إلى غير ذلك

ص: 231

مما يظهر عند تدبرها وتأملها - والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.

نجز الجزء المبارك من مناسبات البقاعي بحمد الله وعونه ويتلوه القصص إن شاء الله تعالى - اللهم اغفر لنا ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا.

ص: 232

مقصودها التواضع لله، المستلزم لرد الأمر كله إليه، الناشىء عن الإيمان بالآخرة، الناشىء عن الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، الثابتة بإعجاز القرآن، المظهر للخفايا على لسان من لم يتعلم علماً قط من أحد من الخلق، المنتج لعلو المتصف به، وذلك هو المأخوذ من تسميتها بالقصص الذي حكم لأجله شعيب بعلو الكليم عليهما السلام على من ناواه، وقمعه لمن عاداه، فكان المآل وفق ما قال) بسم الله (الذي اختص بالكبرياء والعظمة، فألبس خدامه من ملابي هيبته) الرحمن (الذي عم بنعمة البيان، حتى أهل الكفران الرحيم الذي

ص: 233

خص بنعمة ما بعد البعث أهل الإيمان.

لما ختم تلك بالوعد المؤكد بأنه يظهر آياته فتعرف، وأنه ليس بغافل عن شيء، تهديداً للظالم، وتثبيتاً للعالم، وكان من الأول ما يوحيه في هذه من الأساليب المعجزة من خفايا علوم أهل الكتاب، فلا يقدرون على رده، ومن الثاني ما صنع بفرعون وآله، قال أول هذه:

ص: 234

{طسم*} مشيراً بالطاء المليحة بالطهر والطيب إلى خلاص بني إسرائيل بعد طول ابتلائهم المطهر لهم عظيم، وبالسين الرامزة إلى السمو والسنا والسيادة إلى أن ذلك يكون بمسموع من الوحي في ذي طوى من طور سيناء قديم، وبالميم المهيئة للملك والنعمة إلى قضاء من الملك الأعلى بذلك كله تام عميم.

ولما كانت هذه إشارات عالية، وما بعدها لزوم نظوم لأوضح الدلالات حاوية، قال مشيراً إلى عظمتها:{تلك} أي الآيات العالمية الشأن {آيات الكتاب} أي المنزل على قلبك، الجامع لجميع المصالح الدنيوية والأخروية {المبين*} أي الفاصل الكاشف الموضح المظهر، لأنه من عندنا من غير شك، ولكل ما يحتاج إليه من ذلك وغيره، عند من يجعله من شأنه ويتلقاه بقبول، ويلقي إليه السمع وهو شهيد؛ ثم أقام الدليل على إبانته. وأنه يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم يختلفون، بما أورد هنا في قصة موسى عليه الصلاة والسلام

ص: 234

من الدقائق التي قل من يعلمها من حذاقهم، على وجه معلم بما انتقم به من فرعون وآله، ومن لحق بهم كقارون، وأنعم به على موسى عليه الصلاة والسلام وأتباعه، ولذلك بسط فيها أمور القصة ما لم يبسط في غيرها فقال:{نتلوا} أي نقص قصاً متتابعاً متوالياً بعضه في أثر بعض {عليك} بواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام.

ولما كان المراد إنما هو قص ما هو من الأخبار العظيمة بياناً للآيات بعلم الجليات والخفيات، والمحاسبة والمجازاة، لا جميع الأخبار، قال:{من نبأ موسى وفرعون} أي بعض خبرهما العظيم متلبساً هذا النبأ وكائناً {بالحق} أي الذي يطابقه الواقع، فإنا ما أخبرنا فيه بمستقبل إلا طابقه الكائن عند وقوعه، ونبه على أن هذا البيان كما سبق إنما ينفع أولى الإذعان بقوله:{لقوم يؤمنون*} أي يجددون الإيمان في كل وقت عند كل حادثة لثبات إيمانهم، فعلم أن المقصود منها هنا الاستدلال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الأمي بالاطلاع علىلمغيبات، والتهديد بعلمه المحيط، وقدرته الشاملة، وأنه ما شاء كان ولا مدفع لقضائه، ولا ينفع حذر من قدرة، فصح أنها دليل على قوله تعالى آخر تلك {سيريكم آياته فتعرفونها} الآية، ولذلك لخصت رؤوس أخبار القصة، فذكرت فيها أمهات الأمور الخفية ودقائق أعمال

ص: 235

من ذكر فيها من موسى عليه الصلاة والسلام وأمه وفرعون وغيرهم إلى ما تراه من الحكم التي لا يطلع عليها إلا عالم بالتعلم أو بالوحي، ومعلوم لكل مخاطب بذلك انتفاء الأول عن المنزل عليه هذا الذكرُ صلى الله عليه وسلم، فانحصر الأمر في الثاني، يوضح لك هذا المرام مع هذه الآية الأولى التي ذكرتها قوله تعالى في آخر القصة {وما كنت بجانب الغربي} {وما كنت بجانب الطور} واتباع القصة بقوله تعالى:{ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون} فالمراد بهذا السياق منها كما ترى غير ما تقدم من سياقاتها كما مضى، فلا تكرير في شيء من ذلك - والله الهادي.

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمن قوله سبحانه {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها} - إلى آخر السورة من التخويف والترهيب والإنذار والتهديد لما انجرّ معه الإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام سيملك مكة البلدة ويفتحها الله تعالى عليه، ويذل عتاة قريش ومتمرديهم، ويعز أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن استضعفته قريش من المؤمنين، اتبع سبحانه ذلك بما قصه على نبيه من تطهير ما أشار إليه من قصة بني إسرائيل وابتداء امتحانهم بفرعون، واستيلائه عليهم، وفتكه بهم إلى

ص: 236

أن أعزهم الله وأظهرهم على عدوهم، وأورثهم أرضهم وديارهم، ولهذا أشار تعالى في كلا القصتين بقوله في الأولى {سيريكم آياته فتعرفونها} وفي الثانية بقوله:{وترى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} ثم قص ابتداء أمر فرعون وحذره واستعصامه بقتل ذكور الأولاد ثم لم يغن ذلك عنه من قدر الله شيئاً، ففي حاله عبرة لمن وفق للاعتبار، ودليل على أنه سبحانه المتفرد بملكه، يؤتي ملكه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، لا يزعه وازع، ولا يمنعه عما يشاء مانع، {قل الله مالك الملك} وقد أصح قوله تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} - الآية بما أشار إليه مجمل ما أوضحنا اتصاله من خاتمة النمل وفاتحة القصص، ونحن نزيده بياناً بذكر لمع من تفسير ما قصد التحامه فنقول: إن قوله تعالى معلماً لنبيه صلى الله عليه وسلم وآمراً {إنما أمرت أن أعبد} إلى قوله: {سيريكم آياته} لا خفاء بما تضمن ذلك من التهديد، وشديد الوعيد، ثم في قوله:{رب هذه البلدة} إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام سيفتحها ويملكها، لأنه بلد ربه وملكه، وهو عبده ورسوله، وقد اختصه برسالته، وله كل شيء، فالعباد والبلاد ملكه، ففي هذا من الإشارة مثل ما في قوله تعالى:

ص: 237

{إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد} وقوله تعالى: {وأن أتلو القرآن} أي ليسمعوه فيتذكروا ويتذكر من سبقت له السعادة، ويلحظ سنة الله في العباد والبلاد، ويسمع ما جرى لمن عاند وعنى وكذب واستكبر، فكيف وقصه الله وأخذه ولم يغن عنه حذره، وأورث مستضعف عباده أرضه ودياره، ومكن لهم في الأرض وأعز رسله وأتباعهم {نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون} أي يصدقون ويعتبرون ويستدلون ويستوضحون، وقوله:{سيريكم آياته} يشير إلى ما حل بهم يوم بدر، وبعد ذلك إلى يوم فتح مكة، وإذعان من لم يكن يظن انقياده، وإهلاك من طال تمرده وعناده، وانقياد العرب بجملتها بعد فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجاً، وعزة أقوام وذلة آخرين، بحاكم {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} إلى أن فتح الله على الصحابة رضوان الله عليهم ما وعدهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم، فكان كما وعد، فلما تضمنت هذه الآية ما أشير إليه، أعقب بما هو في قوة أن لو قيل: ليس عتوكم بأعظم من عتو فرعون وآله، ولا حال مستضعفي المؤمنين بمكة ممن قصدتم فتنته في دينه بدون حال بني إسرائيل حين كان فرعون يمتحنهم بذبح أبنائهم.

فهلا تأملتم عاقبة الفريقين، وسلكتم أنهج الطريقين؟ {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف

ص: 238

كان عاقبة الذين من قبلهم} - إلى قوله: {فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون} فلو تأملتم ذلك لعلمتم أن العاقبة للتقوى، فقال سبحانه بعد افتتاح السورة إن فرعون علا في الأرض، ثم ذكر من خبره ما فيه عبرة، وذكر سبحانه آياته الباهرة في أمر موسى عليه السلام وحفظه ورعايته وأخذ أم عدوه إياه {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً} فلم يزل يذبح الأبناء خيفة من مولود يهتك ملكه حتى إذا كان ذلك المولود تولي بنفسه تربيته وحفظه وخدمته ليعلم لمن التدبير والإمضاء، وكيف نفوذ سابق الحكم والقضاء، فهلا سألت قريش وسمعت وفكرت واعتبرت {أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} ثم أتبع سبحانه ذلك بخروج موسى عليه السلام من أرضه فخرج منها خائفاً يترقب، وما ناله عليه السلام في ذلك الخروج من عظيم السعادة، وفي ذلك منبهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على خروجه من مكة وتعزية له وإعلام بأنه تعالى سيعيده إلى بلده ويفتحه عليه، وبهذا المستشعر من هنا صرح آخر السورة في قوله تعالى:{إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} وهذا كاف فيما قصد - انتهى.

ولما كان كأنه قيل: ما هذا المقصوص من هذا النبأ؟ قال: {إن فرعون} ملك مصر الذي ادعى الإلهية {علا} أي بادعائه الإلهية وتجبره على عباد الله وقهره لهم {في الأرض} أي لأنا جمعنا عليه الجنود فكانوا معه إلباً واحداً فأنفذنا بذلك كلمته،

ص: 239

وهي وأن كان المراد بها أرض مصر ففي إطلاقها ما يدل على تعظيمها وأنها كجميع الأرض في اشتمالها على ما قل أن يشتمل عليه غيرها.

ولما كان التقدير بما دل عليه العاطف: فكفر تلك النعمة، عطف عليه قوله:{وجعل} بما جعلنا له من نفوذ الكلمة {أهلها} أي الأرض المرادة {شيعاً} أي فرقاً يتبع كل فرقة شيئاً وتنصره، والكل تحت قهره وطوع أمره، قد صاروا معه كالشياع، وهو دق الحطب، فرق بينهم لئلا يتمالؤوا عليه، فلا يصل إلى ما يريده منهم، فافترقت كلمتهم فلم يحم بعضهم لبعض فتخاذلوا فسفل أمرهم، فالآية من الاحتباك، ذكر العلو أولاً دليلاً على السفول ثانياً، والافتراق ثانياً دليلاً على الاجتماع أولاً، جعلهم كذلك حال كونه {يستضعف} أي يطلب ويوجد أن يضعف، أو هو استئناف {طائفة منهم} وهم بنو إسرائيل الذين كانت حياة جميع أهل مصر على يدي واحد منهم، وهو يوسف عليه السلام.

وفعل معهم من الخير ما لم يفعله والد مع ولده، ومع ذلك كافؤوه في أولاده وإخوته بأن استعبدوهم، ثم ما كفاهم ذلك حتى ساموهم على يدي هذا العنيد سوء العذاب فيا بأبي الغرباء بينهم قديماً وحديثاً، ثم بين سبحانه الاستضعاف بقوله:

ص: 240

{يذبح} أي تذبيحاً كثيراً {أبناءهم} أي عند الولادة، وكل بذلك أناساً ينظرون كلما ولدت امرأة ذكراً ذبحوه خوفاً على ملكه زعم من مولود منهم {ويستحيي نساءهم} أي يريد حياة الإناث فلا يذبحهن.

ولما كان هذا أمراً متناهياً في الشناعة، ليس مأموراً به من جهة شرع ما، ولا له فائدة أصلاً، لأن القدر - على تقدير صدق من أخبره - لا يرده الحذر، قال تعالى مبيناً لقبحه، شارحاً لما أفهمه ذلك من حاله:{إنه كان} أي كوناً راسخاً {من المفسدين*} أي الذين لهم عراقة في هذا الوصف، فلا يدع أن يقع منه هذا الجزئي المندرج تحت ما هو قائم به من الأمر الكلي.

ولما كان التقدير كما أرشد إليه السياق لمن يسأل عن سبب فعله هذا العجيب: يريد بذلك زعم دوام ملكه بأن لا يسلبه إياه واحد منهم أخبره بعض علمائه أنه يغلبه عليه ويستنقذ شعبه من العبودية، عطف عليه قوله يحكي تلك الحال الماضية:{ونريد} أو هي حالية، أي يستضعفهم والحال أنا نريد في المستقبل أن نقويهم. أي يريد دوام استضعافهم حال إرادتنا ضده من أنا نقطع ذلك بإرادة {أن نمن} أي نعطي بقدرتنا وعلمنا ما يكون جديراً بأن نمتن به

ص: 241

{على الذين استضعفوا} أي حصل استضعافهم وهان هذا الفعل الشنيع ولم يراقب فيهم مولاهم {في الأرض} أي أرض مصر فذلوا وأهينوا، ونريهم في أنفسهم وأعدائهم وفق ما يحبون وفوق ما يأملون {ونجعلهم أئمة} أي مقدمين في الدين والدنيا، علماء يدعون إلى الجنة عكس ما يأتي من عاقبة آل فرعون، وذلك مع تصييرنا لهم أيضاً بحيث يصلح كل واحد منهم لأن يقصد للملك بعد كونهم مستعبدين في غاية البعد عنه {ونجعلهم} بقوتنا وعظمتنا {الوارثين*} أي لملك مصر لا ينازعهم فيه أحد من القبط، ولكل بلد أمرناهم بقصدها، وهذا إيذان بإهلاك الجميع.

ص: 242

ولما بشر بتمليكهم في سياق دال على مكنتهم، صرح بها فقال:{ونمكن} أي نوقع التمكين {لهم في الأرض} أي كلها لا سيما أرض مصر والشام، بإهلاك أعدائهم وتأييدهم بكليم الله، ثم بالأنبياء من بعده عليهم الصلاة والسلام بحيث نسلطهم بسببهم على من سواهم بما نؤيدهم به من الملائكة ونظهر لهم من الخوارق.

ولما ذكر التمكين، ذكر أنه مع مغالبة الجبابرة إعلاماً بأنه أضخم تمكين فقال عاطفاً على نحو: ونريد أن نأخذ الذين علوا في الأرض وهم فرعون وهامان وجنودهما: {ونري} أي بما لنا من العظمة {فرعون} أي الذي كان هذا الاستضعاف منه {وهامان}

ص: 242

وزيره {وجنودهما} الذين كانا يتوصلان بهم إلى ما يريدانه من الفساد {منهم} أي المستضعفين {ما كانوا} أي بجد عظيم منهم كأنه غريزة {يحذرون*} أي يجددون حذره في كل حين على الاستمرار بغاية الجد والنشاط من ذهاب ملكهم بمولود منهم وما يتبع ذلك، قال البغوي: والحذر: التوقي من الضرر. والآية من الاحتباك: ذكر الاستضعاف أولاً دليلاً على القوة ثانياً، وإراءة المحذور ثانياً دليلاً على إرادة المحبوب أولاً، وسر ذلك أنه ذكر المسلي والمرجي ترغيباً في الصبر وانتظام الفرج.

ولما كان التقدير: فكان ما أردناه، وطاح ما أراد غيرنا، فأولدنا من بني إسرائيل الولد الذي كان يحذره فرعون على ملكه، وكان يذبح أبناء بني إسرائيل لأجله، وقضينا بأن يسمى موسى، بسبب أنه يوجد بين ماء وشجر، ونربيه في بيت الذي يحذره ويحتاط لأجله، عطف على هذا المعلوم التقدير أول نعمة منّ بها على الذين استضعفوا فقال:{وأوحينا} أي أوصلنا بعظمتنا بطريق خفي، الله أعلم به هل هو ملك أو غيره، إذ لا بدع في تكليم الملائكة الولي من غير نبوة {إلى أم موسى} أي الذي أمضينا في قضائنا أنه يسمى بهذا الاسم، وأن يكون هلاك فرعون

ص: 243

وزوال ملكه على يده، بعد أن ولدته وخافت أن يذبحه الذباحون {أن أرضعيه} ما كنت آمنة عليه، وحقق لها طلبهم لذبحه بقوله:{فإذا خفت عليه} أي منهم أن يصيح فيسمع فيذبح {فألقيه} أي بعد أن تضعيه في شيء يحفظه من الماء {في اليم} أي النيل، واتركي رضاعه، وعرفه وسماه يماً - واليم: البحر - لعظمته على غيره من الأنهار بكبره وكونه من الجنة، وما يحصل به من المنافع، وعدل عن لفظ البحر إلى اليم لأن القصد فيه أظهر من السعة؛ قال الرازي في اللوامع: وهذا إشارة إلى الثقة بالله، والثقة سواد عين التوكل، ونقطة دائرة التفويض، وسويداء قلب التسليم، ولها درجات: الأولى درجة الأياس، وهو أياس العبد من مقاواة الأحكام، ليقعد عن منازعة الإقسام، فيتخلص من صحة الإقدام؛ والثانية درجة الأمن، وهو أمن العبد من فوت المقدور، وانتقاص المسطور، فيظفر بروح الرضى وإلا فبعين اليقين، وإلا فبطلب الصبر؛ والثالثة معاينة أولية الحق جل جلاله، ليتخلص من محن المقصود، وتكاليف الحمايات، والتعريج على مدارج الوسائل.

{ولا تخافي} أي لا يتجدد لك خوف أصلاً من أن يغرق أو يموت من ترك الرضاع وإن طال المدى أو يوصل إلى أذاه {ولا تحزني} أي ولا يوجد لك حزن لوقوع فراقه.

ص: 244

ولما كان الخوف عما يلحق المتوقع، والحزن عما يلحق الواقع، علل نهيه عن الأمرين، بقوله في جملة اسمية دالة على الثبات والدوام، مؤكدة لاستبعاد مضمونها:{إنا رادوه إليك} فأزال مقتضى الخوف والحزن؛ ثم زادها بشرى لا تقوم لها بشرى بقوله: {وجاعلوه من المرسلين*} أي الذين هم خلاصة المخلوقين، والآية من الاحتباك، ذكر الإرضاع أولاً دليلاً على تركه ثانياَ، والخوف ثانياً دليلاً على الأمن أولاً، وسره أنه ذكر المحبوب لها تقوية لقلبها وتسكيناً لرعبها.

ولما كان الوحي إليها بهذا سبباً لإلقائه في البحر. وإلقاؤه سبباً لالتقاطه، قال:{فالتقطه} أي فأرضعته فلما خافت عليه صنعت له صندوقاً وقيرته لئلا يدخل إليه الماء وأحكمته وأودعته فيه وألقته في بحر النيل، وكأن بيتها كان فوق بيت فرعون، فساقه الماء إلى قرب بيت فرعون، فتعوق بشجر هناك، فتلكف جماعة فرعون التقاطه، قال البغوي: والالتقاط وجود الشيء من غير طلب. {آل فرعون} بأن أخذوا الصندوق، فلما فتحوه وجدوا موسى عليه السلام فأحبوه لما ألقى الله تعالى عليهم ممن محبته فاتخذوه ولداً وسموه موسى، لأنهم وجدوه

ص: 245

في ماء وشجر، ومو بلسانهم: الماء، وسا: الشجر.

ولما كانت عاقبة أمره إهلاكهم، وكان العاقل لا سيما المتحذلق، لا ينبغي له أن يقدم على شيء حتى يعلم عاقبته فكيف إذا كان يدعي أنه إله، عبر سبحانه بلام العاقبة التي معناها التعليل، تهكماً بفرعون - كما مضى بيان مثله غير مرة - في قوله:{ليكون لهم عدواً} أي بطول خوفهم منه بمخالفته لهم في دينهم وحملهم على الحق {وحزناً} أي بزوال ملكهم، لأنه يظهر فيهم الآيات التي يهلك الله بها من يشاء منهم، ثم يهلك جميع أبكارهم فيخلص جميع بني إسرائيل منهم، ثم يظفر بهم كلهم. فيهلكهم الله بالغرق على يده إهلاك نفس واحدة، فيعم الحزن والنواح أهل ذلك الإقليم كله، فهذه اللام للعلة استعيرت لما أنتجته العلة التي قصدوها - وهي التبني وقرة العين - من الهلاك، كما استعير الأسد للشجاع فأطلق عليه، فقيل: زيد أسد. لأن فعله كان فعله، والمعنى على طريق التهكم أنهم ما أخذوه إلا لهذا الغرض، لأنا نحاشيهم من الإقدام على ما يعلمون آخر أمره.

ولما كان لا يفعل هذا الفعل إلا أحمق مهتور أو مغفل مخذول لا يكاد يصيب على ذلك بالأمرين فقال: {إن فرعون وهامان وجنودهما}

ص: 246

أي كلهم على طبع واحد {كانوا خاطئين*} أي دأبهم تعمد الذنوب، والضلال عن المقاصد، فلا بدع في خطائهم في أن يربّوا من لا يذبحون الأبناء إلاّ من أجله، مع القرائن الظاهرة في أنه من بني إسرائيل الذين يذبحون أبناءهم؛ قال في الجمع بين العباب والمحكم: قال أبو عبيد: أخطأ وخطأ - لغتان بمعنى واحد، وقال ابن عرفة: يقال: خطأ في دينه وأخطأ - إذا سلك سبيل خطأ عامداً أو غير عامد.

وقال الأموي، المخطىء من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطىء: من تعمد ما لا ينبغي، وقال ابن ظريف في الأفعال: خطىء الشيء خطأ وأخطأه: لم يصبه.

ولما أخبر تعالى عن آخر أمرهم معه، تخفيفاً على السامع بجمع طرفي القصة إجمالاً وتشويقاً إلى تفصيل ذلك الإجمال، وتعجيلاً بالتعريف بخطائهم ليكون جهلهم الذي هو أصل شقائهم مكتنفاً لأول الكلام وآخره، أخبر عما قيل عند التقاطه فقال عاطفاً على {فالتقطه} :{وقالت امرأة فرعون} أي لفرعون لما أخرجته من التابوت، وهي التي قضى الله أن يكون سعادة، وهي آسية بنت مزاحم إحدى نساء بني إسرائيل - نقله البغوي:{قرت عين لي} أي به {ولك} أي يا فرعون.

ولما أثبت له أنه ممن تقر به العيون، أنتج ذلك استبقاءه، ولذلك

ص: 247

نهت عن قتله وخافت أن تقول: لا تقتله، فيجيبها حاملاً له على الحقيقة ثم يأمر بقتله، ويكون مخلصاً له عن الوقوع في إخلاف الوعد، فجمعت قائلة:{لا تقتلوه} أي أنت بنفسك ولا أحد ممن تأمره بذلك، ثم عللت ذلك أو استأنفت فقالت:{عسى} أي يمكن، وهو جدير وخليق {أن ينفعنا} أي لما أتخيل فيه النجابة ولو كان له أبوان معروفان {أو نتخذه ولداً} إن لم يعرف له أبوان، فيكون نفعه أكثر، فإنه أهل لأن يتشرف به الملوك.

ولما كان هذا كله فعل من لا يعلم، فلا يصح كونه إلهاً، صرح بذلك تسفيهاً لمن أطاعه في ادعاء ذلك فقال:{وهم} أي تراجعوا هذا القول والحال أنهم {لا يشعرون*} أي لا شعور لهم أصلاً، لأن من لا يكون له علم إلا بالاكتساب فهو كذلك، فكيف إذا كان لا يهذب نفسه باكتسابه، فكيف إذا كان مطبوعاً على قلبه وإذا كانوا كذلك فلا شعور لهم بما يؤول إليه أمرهم معه من الأمور الهائلة المؤدية إلى هلاك المفسدين ليعلموا لذلك أعماله من الاحتراز منه بما ينجيهم.

ص: 248

ولما أخبر عن حال من لقيه، أخبر عن حال من فارقه، فقال:{وأصبح} أي عقب الليلة التي حصل فيها فراقه {فؤاد أم موسى} أي قلبها الذي زاد احتراقه شوقاً وخوفاً وحزناً، وهذا يدل على أنها ألقته ليلاً {فارغاً} أي في غاية الذعر لما جلبت عليه من أخلاق البشر،

ص: 248

قد ذهب منه كل ما فيه من المعاني المقصودة التي من شأنها أن يربط عليها الجأش؛ ثم وصل بذلك مستأنفاً قوله: {إن} أي إنه {كادت} أي قاربت {لتبدي} أي يقع منها الإظهار لكل ما كان من أمره، مصرحة {به} أي بأمر موسى عليه السلام من أنه ولدها ونحو ذلك بسبب فراغ فؤادها من الأمور المستكنة، وتوزع فكرها في كل واد {لولا أن ربطنا} بعظمتنا {على قلبها} بعد أن رددنا إليه المعاني الصالحة التي أودعناها فيه، فلم تعلن به لأجل ربطنا عليه حتى صار كالجراب الذي ربط فمه حتى لا يخرج شيء مما فيه؛ ثم علل الربط بقوله:{لتكون} أي كوناً هو كالغريزة لها {من المؤمنين*} أي المصدقين بما وعد الله به من نجاته ورسالته، الواثقين بذلك.

ولما أخبر عن كتمها، أتبعه الخبر عن فعلها في تعرف خبره الذي أطار خفاؤه عليها عقلها، فقال عاطفاً على {وأصبح} :{وقالت} أي أمه {لأخته} أي بعد أن أصبحت على تلك الحالة، قد خفي عليها أمره:{قصيه} أي اتبعي أثره وتشممي خبره براً وبحراً،

ص: 249

ففعلت {فبصرت به عن جنب} أي بعد من غير مواجهة، ولذلك قال:{وهم لا يشعرون*} أي ليس لهم شعور لا بنظرها ولا بأنها أخته، بل هم في صفة الغفلة التي هي في غاية البعد عن رتبة الإلهية.

ولما كان ذلك أحد الأسباب في رده، ذكر في جملة حالية سبباً آخر قريباً منه فقال:{وحرمنا} أي منعنا بعظمتنا التي لا يتخلف أمرها، ويتضاءل كل شيء دونها {عليه المراضع} جمع مرضعة، وهي من تكترى للرضاع من الأجانب، أي حكمنا بمنعه من الارتضاع منهن، استعار التحريم للمنع لأنه منع فيه رحمة؛ قال الرازي في اللوامع: تحريم منع لا تحريم شرع.

ولما كان قد ارتضع من أمه من حين ولدته إلى حين إلقائه في اليم، فلم يستغرق التحريم الزمان الماضي، أثبت الجار فقال:{من قبل} أي قبل أن تأمر أمه أخته بما أمرتها به وبعد إلقائها له، ليكون ذلك سبباً لرده إليها، فلم يرضع من غيرها فأشفقوا عليه فأتتهم أخته فقالوا لها: هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها؟ {فقالت} أي فدنت أخته منه بعد نظرها له فقالت لهم لما رأتهم في غاية الاهتمام برضاعه لما عرضوا عليه المراضع فأبى أن يرتضع من واحدة منهن: {هل} لكم حاجة في أني {أدلكم على أهل بيت} ولم يقل:

ص: 250

على امرأة، لتوسع دائرة الظن {يكفلونه لكم} أي يأخذونه ويعولونه ويقومون بجميع مصالحه من الرضاع وغيره لأجلكم، وزادتهم رغبة بقولها:{وهم له ناصحون*} أي ثابت نصحهم له، لا يغشونه نوعاً من الغش؛ قال البغوي: والنصح ضد الغش، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد فكادت بهذا الكلام تصرح بأن المدلول عليها أمه، فارتابوا من كلامها فاعتذرت بأنهم يعملون ذلك تقرباً إلى الملك وتحبباً إليه تعززاً به، فظنوا ذلك، وهذا وأمثاله بيان من الله تعالى لأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا هو سبحانه، فلا يصح أن يكون غيره إلهاً، فلما سكنوا إليها طلبوا أن تدلهم، فأتت بأمها فأحللنا له رضاعها فأخذ ثديها فقالوا: أقيمي عندنا، فقالت: لا أقدر على فراق بيتي.

إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي، وأظهرت التزهد فيه نفياً للتهمة، فرضوا بذلك فرجعت به إلى بيتها، والآية من الاحتباك: ذكر التحريم أولاً دليلاً على الإحلال ثانياً، واستفهام أخته ثانياً دليلاً على استفهامهم لها أولاً، وسره أن ذكر الأغرب من أمره الأدل على القدرة،

ص: 251

ولذلك سبب عما مضى قوله: {فرددناه} أي مع هذا الظاهر في الكشف لسره الموجب للريبة في أمره، ومع ما تقدم من القرائن التي يكاد يقطع بها بأنه من بني إسرائيل، منها إلقاؤه في البحر على تلك الصفة، ومنها أن المدلول عليها لإرضاعه من بني إسرائيل، ومنها أنه قبل ثديها دون غيرها من القبط وغيرهم، بأيدنا الذي لا يقاويه أيد، ولا يداني ساحته شيء من مكر ولا كيد، من يد العدو الذي ما ذبح طفلاً إلا رجاء الوقوع عليه، والخلاص مما جعل في سابق العلم إليه {إلى أمه} وكان من أمر الله - والله هو غالب على أمره - أنه استخدم لموسى - كما قال الرازي - عدوه في كفالته وهو يقتل العالم لأجله؛ ثم علله بقوله:{كي تقر عينها} أي تبرد وتستقر عن الطرف في تطلبه إلى كل جهة وتنام بإرضاعه وكفالته في بيتها، آمنة لا تخاف، وقرة العين بردها ونومها خلاف سخنتها وسهرها بإدامة تقليبها، قرت عينه تقر - بالكسر والفتح - قرة، وتضم، وقروراً: بردت سروراً وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه، وأقر الله عينه وبعينه، وعين قريرة وقارة،

ص: 252

وقرتها ما قرت به، وقر بالمكان يقر - بالفتح والكسر - قراراً وقروراً وقراً وتقرة: ثبت واستكن، وأصل قرة العين من القر وهو البرد، أي بردت فصحت ونامت خلاف سخنة عينه، وقيل: من القرار، أي استقرت عيني، وقالوا: دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارة، فمعنى أقر الله عينك من الفرح وأسخنها من الحزن، وهذا قول الأصمعي، وقال أبو عباس: ليس كما ذكر الأصمعي بل كل دمع حار، فمعنى أقر الله عينك: صادفت سروراً فنامت وذهب سهرها، وصادفت ما يرضيك، أي بلغك الله أقصى أملك حتى تقر عينك من النظر إلى غيره استغناء ورضا بما يديك، قالوا: ومعنى قولهم: هو قرة عيني: هو رضى نفسي، فهي تقر وتسكن بقربه فلا تستشرف إلى غيره {ولا} أي وكيلاً {تحزن} أي بفراقه {ولتعلم} أي علماً هو عين اليقين، كما كانت عالمة به علم اليقين، وعلم شهادة كما كانت عالمة علم الغيب {أن وعد الله} أي الأمر الذي وعدها به الملك الأعظم الذي له الكمال كله في حفظه وإرساله {حق} أي هو في غاية الثبات في مطابقة الواقع إياه.

ولما كان العلم هو النور الذي من فقده لم يصح منه عمل، ولم ينتظم له قصد، قال عاطفاً على ما تقديره: فعلمت ذلك برده عين اليقين بعد علم اليقين: {ولكن أكثرهم} أي أكثر آل فرعون وغيرهم {لا يعلمون*} أي لا علم لهم أصلاً، فكيف يدعون ما يدعون من الإلهية والكبرياء على من يكون الله معه.

ولما استقر الحال، على هذا المنوال، علم أنه ليس بعده إلا الخير والإقبال، والعز بتبني فرعون له والجلال، فترك ما بينه وبين السن الصالح للإرسال، وقال مخبراً عما بعد ذلك من الأحوال:{ولما بلغ أشده} أي مجامع قواه وكمالاته {واستوى} أي اعتدل في السن وتم استحكامه بانتهاء الشباب، وهو من العمر ما بين إحدى وعشرين سنة إلى اثنتين وأربعين، فتم بسبب ذلك في الخلال الصالحة التي طبعناه عليها؛ وقال الرازي: قال الجنيد: لما تكامل عقله، وصحت بصيرته، وصلحت نحيرته، وآن أوان خطابه - أنتهى. أي وصار إلى الحد الذي لا يزاد الإنسان بعده غريزة من الغرائز لم تكن فيه أيام الشباب، بل لا يبقى بعد ذلك إلا الوقوف ثم النقصان {آتيناه} أي خرقاً للعادة أسوة إخوانه من الأنبياء ابتداء غرائز منحناه إياها من غير اكتساب أصلاً {حكماً} أي عملاً محكماً بالعلم {وعلماً} أي

ص: 253

مؤيداً بالحكمة، تهيئة لنبوته، وإرهاصاً لرسالته، جزيناه بذلك على ما طبعناه عليه من الإحسان، فضلاً منا ومنه، واختار الله سبحانه هذا السن للإرسال ليكون - كما أشير إليه - من جملة الخوارق، لأنه يكون به ابتداء الانتكاس الذي قال الله تعالى فيه {ومن نعمره - أي إلى اكتمال سن الشباب - ننكسه في الخلق} أي نوقفه، فلا يزاد بعد ذلك في قواه الظاهرة ولا الباطنة شيء، ولا توجد فيه غريزة لم تكن موجودة أصلا عشر سنين، ثم يأخذ في النقصان - هذه عادة الله في جميع بني آدم إلا الأنبياء، فإنهم في حد الوقوف يؤتون من بحار العلوم ما يقصر عنه الوصف بغير اكتساب، بل غريزة يغرزها الله فيهم حينئذ، ويؤتون من قوة الأبدان أيضاً بمقدار ذلك، ففي وقت انتكاس غيرهم يكون نموهم، وكذا من ألحقه الله بهم من صالحي أتباعهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يس من تمام هذا المعنى ما يفتح الله به لمن تأمله أبواباً من العلم، ولذلك قال الله تعالى عاطفاً على ما تقديره: فعلنا به ذلك وبأمه جزاء لهما على إحسانهما في إخلاصهما فيما يفعلانه اعتماداً على الله وحده من غير أدنى التفات إلى ما سواه: {وكذلك} أي ومثل هذا الجزاء العظيم

ص: 254

{نجزي المحسنين*} أي كلهم.

ص: 255

ولما أخبر، بتهيئه لنبوته، أخبر بما هو سبب لهجرته، وكأنها سنت بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال:{ودخل المدينة} أي مدينة فرعون آتياً من قصره، لأنه كان عنده بمنزلة الولد، قال ابن جرير: وهي مدينة منف من مصر، وقال البغوي: وقيل: عين الشمس. وقيل غير ذلك {على حين غفلة} قبل بعيد: وقيل بغير ذلك {من أهلها} أي إحكاماً لما جعلناه سبباً لنقلته منها طهارة من عشرة القوم الظالمين {فوجد فيها} أي المدينة {رجلين يقتتلان} أي يفعلان مقدمات القتل من الملازمة مع الخنق والضرب، وهما إسرائيلي وقبطي، ولذا قال مجيباً لمن كأنه يسأل عنهما وهو ينظر إليهما:{هذا من شيعته} أي من بني إسرائيل قومه {وهذا من عدوه} أي القبط، وكان قد حصل لبني إسرائيل به عز لكونه ربيب الملك، مع أن مرضعته منهم، لا يظنون أن سبب ذلك الرضاع

ص: 255

{فاستغاثه} أي طلب منه {الذي من شيعته} أن يغيثه {على الذي من عدوه فوكزه} أي فأجابه {موسى} فركز أي فطعن ودفع بيده العدو أو ضربه بجميع كفه، وكأنه كالكم، أو دفعه بأطراف أصابعه، وهو رجل أيد لم يعط أحد من أهل ذلك الزمان مثل ما أعطي من القوى الذاتية والمعنوية {فقضى} أي فأوقع القضاء الذي هو القضاء على الحقيقة، وهو الموت الذي لا ينجو منه بشر {عليه} فقتله وفرغ منه وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه وخفي هذا على الناس لما هم فيه من الغفلة، فلم يشعر به أحد منهم.

ولما كان كأنه قيل: إن هذا الأمر عظيم، فما ترتب عليه من قول من أوتي حكماً وعلماً؟ أجيب بالإخبار عنه بأنه ندم عليه في الحال بقوله:{قال} أي موسى عليه السلام: {هذا} أي الفعل الذي جرك إليه الإسرائيلي {من عمل الشيطان} أي لأني لم أومر به على الخصوص، ولم يكن من قصدي وإن كان المقتول كافراً؛ ثم أخبر عن حال الشيطان بما هو عالم به، مؤكداً له حملاً لنفسه على شدة الاحتراس

ص: 256

والحذر منه فقال: {إنه عدو} ومع كونه عدواً ينبغي الحذر منه فهو {مضل} لا يقود إلى خير أصلاً، ومع ذلك فهو {مبين*} أي عداوته وإضلاله في غاية البيان، ما في شيء منهما خفاء.

ولما كان هذا الكافر ليس فيه شيء غير الندم لكونه صلى الله عليه وسلم لم يأته في قتله إذن خاص، وكان قد أخبر عنه بالندم، تشوفت أنفس البصراء إلى الاستغفار عنه، علماً منهم بأن عادة الأنبياء وأهل الدرجات العلية استعظام الهفوات، فأجيبوا بالإخبار عن مبادرته إلى ذلك بقوله:{قال} وأسقط أداة النداء، على عادة أهل الاصطفاء، فقال:{رب} أي أيها المحسن إليّ.

ولما كان حال المقدم على شيء دالة على إرادته فاستحسانه إياه، أكد قوله إعلاماً بأن باطنه على غير ما دل عليه ظاهرة فقال:{إني ظلمت نفسي} أي بالإقدام على ما لم يتقدم إليّ فيه إذن بالخصوص وإن كان مباحاً.

ولما كان المقرب قد يعد حسنة غيره سيئته، قال مسبباً عن ذلك:{فاغفر} أي امح هذه الهفوة عينها وأثرها {لي} أي لأجلي لا تؤاخذني {فغفر} أي أوقع المحو لذلك كما سأل إكراماً {له} ثم علل ذلك

ص: 257

بقوله مشيراً إلى أن صفة غيره عدم بالنسبة إلى صفته مؤكداً لذلك: {إنه هو} أي وحده {الغفور} أي البالغ في صفة الستر لكل من يريد {الرحيم*} أي العظيم الرحمة بالإحسان بالتوفيق إلى الأفعال المرضية لمقام الإلهية، ولأجل أن هذه صفته، رده إلى فرعون وقومه حين أرسله إليهم فلم يقدروا على مؤاخذته بذلك بقصاص ولا غيره بعد أن نجاه منهم قبل الرسالة على غير قياس.

ولما أنعم عليه سبحانه بالإجابة إلى سؤله، تشوف السامع إلى شكره عليها فأجيب بقوله:{قال رب} أي أيها المحسن إليّ بكل جميل. ولما كان جعل الشيء عوضاً لشيء أثبت له وأجدر بإمضاء العزم عليه قال: {بما أنعمت عليّ} أي بسبب إنعامك عليّ بالمغفرة وغيرها. ولما كان في سياق التعظيم للنعمة، كرر حرف السبب تأكيداً للكلام، وتعريفاً أن المقرون به مسبب عن الإنعام، وقرنه بأداة النفي الدالة على التأكيد فقال:{فلن أكون ظهيراً} أي عشيراً أو خليطاً أو معيناً {للمجرمين*} أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل، أي لا أكون بين ظهراني القبط، فإن فسادهم كثير، وظلمهم لعبادك أبناء أوليائك متواصل وكبير، لا قدرة لي على ترك نصرتهم، وذلك يجر إلى أمثال هذه الفعلة، فلا أصلح من المهاجرة لهم، وهذا

ص: 258

من قول العرب: جاءنا في ظهرته - بالضم وبالكسر وبالتحريك، وظاهرته، أي عشيرته.

ولما ذكر القتل وأتبعه ما هو الأهم من أمره بالنظر إلى الآخرة، ذكر ما تسبب عنه من أحوال الدنيا فقال:{فأصبح} أي موسى عليه الصلاة والسلام {في المدينة} أي التي قتل القتيل فيها {خائفاً} أي بسبب قتله له {يترقب} أي لازم الخوف كثير الالتفات برقبته ذعراً من طارقة تطرقه في ذلك، قال البغوي: والترقب: انتظار المكروه. {فإذا} أي ففجئه {الذي استنصره} أي طلب نصرته من شيعته {بالأمس} أي اليوم الذي يلي يوم الاستصراخ من قبله {يستصرخه} أي يطلب ما يزيل ما يصرخ بسببه من الضر من قبطي آخر كان يظلمه، فكأنه قيل: فما قال له موسى بعدما أوقعه فيما يكره؟ فقيل: {قال له} أي لهذا المستصرخ {موسى} .

ولما كان الحال متقضياً أن ذلك الإسرائيلي يمكث مدة لا يخاصم أحداً خوفاً من جريرة ذلك القتيل، أكد قوله:{إنك لغوي} أي صاحب ضلال بالغ {مبين*} أي واضح الضلال غير خفيه، لكون ما وقع بالأمس لم يكفك عن الخصومة لمن لا تطيقه وإن كنت مظلوماً؛ ثم دنا منهما لينصره؛ ثم قال مشيراً بالفاء إلى المبادرة إلى إصراخه:{فلما}

ص: 259

وأثبت الحرف الذي أصله المصدر تأكيداً لمعنى الإرادة فقال: {أن أراد} أي شاء، وطلب وقصد مصدقاً ذلك بالمشي {أن يبطش} أي موسى عليه الصلاة والسلام {بالذي هو عدو لهما} أي من القبط بأخذه بعنف وسطوة لخلاص الإسرائيلي منه {قال} أي الإسرائيلي الغوي لأجل ما رأى من غضبه وكلمه به من الكلام الغص ظاناً أنه ما دنا إلا يريد البطش به هو، لما أوقعه فيه لا بعدوه:{يا موسى} ناصاً عليه باسمه العلم دفعاً لكل لبس منكر الفعلة الذي اعتقده لما رآه من دنوه إليهما غضبان وهو يذمه {أتريد أن تقتلني} أي اليوم وأنا من شيعتك {كما قتلت نفساً بالأمس} أي من شيعة أعدائنا، والذي دل على أن الإسرائيلي هو الذي قال له هذا الكلام السياق بكون الكلام معه - بما أشير إليه بدخول المدينة على حين غفلة من أنهم لم يره أحد غير الإسرائيلي، وبقوله {عدو لهما} من ذم الإسرائيلي كما صرح به موسى عليه الصلاة والسلام.

ولما نم عليه وأفشى ما لا يعلمه غيره، خاف غائلته فزاد في

ص: 260

الإغراء به. مؤكداً بقوله: {إن} أي ما {تريد إلا أن تكون} أي كوناً راسخاً {جباراً} أي قاهراً غالباً؛ قال أبو حيان: وشأن الجبار أن يقتل بغير حق. {في الأرض} أي التي تكون بها فلا يكون فوقك أحد {وما تريد} أي يتجدد لك إرادة {أن تكون} أي بما هو لك كالجبلة {من المصلحين*} أي العريقين في الصلاح، فإن المصلح بين الناس لا يصل إلى القتل على هذه الصورة، فلما سمع الفرعوني هذا ترك الإسرائيلي، وكانوا - لما قتل ذلك القبطي - ظنوا في بني إسرائيل، فأغروا فرعون بهم فقال: هل من بينة، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا ينبغي له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت - كما ذكر ذلك في حديث المفتون الذي رواه أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما، فلما قال هذا الغوي هذه المقالة تحقق الأمر في موسى عليه الصلاة والسلام.

ص: 261

ولما كان تقدير الكلام الذي أرشد إليه السياق: فلما سمع الفرعوني قول الإسرائيلي تركه. ثم رقي الكلام إلى أن ببغ فرعون فوقع الكلام في الأمر بقتل موسى عليه الصلاة والسلام، عطف عليه قوله:{وجاء رجل} أي ممن يحب موسى عليه الصلاة والسلام. ولما

ص: 261

كان الأمر مهماً، يحتاج إلى مزيد عزم وعظم قوة، قدم فاعل المجيء على متعلقه بخلاف ما في سورة يس.

ولما كان في بيان الاقتدار على الأمور الهائلة من الأخذ بالخناق حتى يقول القائل: لا خلاص، ثم الإسعاف بالفرج حتى يقول: لا هلاك، قال واصفاً للرجل:{من أقصا المدينة} أي أبعدها مكاناً، وبين أنه كان ماشياً بقوله:{يسعى} ولكنه اختصر طريقاً وأسرع في مشيه بحيث كان يعدو فسبقهم بإعظامه للسعي وتجديد العزم في كل وقت من أوقات سعيه فكأنه قيل: ما فعل؟ فقيل: {قال} منادياً له باسمه تعطفاً وإزالة للبس: {يا موسى} وأكد إشارة إلى أن الأمر قد دهم فلا يسع الوقت الاستفصال فقال: {إن الملأ} أي أشراف القبط الذين في أيديهم الحل والعقد، لأن لهم القدرة على الأمر والنهي {يأتمرون بك} أي يتشاورون بسببك، حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلاًّ منهم يأمر الآخر ويأتمر بأمره، فكأنه قيل: لم يفعلون ذلك؟ فقيل: {ليقتلوك} لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم {فاخرج} أي من هذه المدينة؛ ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرق من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك: {إني لك} أي خاصة {من الناصحين*} أي العريقين في نصحك {فخرج} أي موسى عليه الصلاة والسلام مبادراً {منها} أي المدينة لما علم من

ص: 262

صدق قوله مما حفّه من القرائن، حال كونه {خائفاً} على نفسه من آل فرعون {يترقب} أي يكثر الالتفات بإدراة رقبته في الجهات ينظر هل يتبعه أحد؛ ثم وصل به على طريق الاستئناف قوله:{قال} أي موسى عليه الصلاة والسلام: {رب} أي أيها المحسن إليّ بالإيجاد والتربية وغير ذلك من وجوه البر {نجني} أي خلصني، مشتق من النجوة، وهو المكان العالي الذي لا يصل إليه كل أحد {من القوم الظالمين*} أي الذين يضعون الأمور في غير مواضعها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم، فاستجاب الله له فوفقه لسلوك الطريق الأعظم نحو مدين، فكان ذلك سبب نجاته، وذلك أن الذين انتدبوا إليه قطعوا بأنه لا يسلك الطريق الأكبر، جرياً على عادة الخائفين الهاربين في المشي عسافاً، أو سلوك ثنيات الطريق فانثنوا فيما ظنوه يميناً وشمالاً ففاتهم.

ولما دعا بهذا الدعاء، أعلم الله تعالى باستجابته منه مخبراً بجهة قصده زيادة في الإفادة فقال:{ولما} أي فاستجاب الله دعاءه فنجاه منهم ووجهه إلى مدين ولما {توجه} أي أقبل بوجهه قاصداً {تلقاء} أي الطريق الذي يلاقي سالكه أرض {مدين} مدينة نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام متوجهاً بقلبه إلى ربه {قال} أي لكونه

ص: 263

لا يعرف الطريق: {عسى} أي خليق وجدير وحقيق.

ولما كانت عنايته بالله أتم لما له من عظيم المراقبة، قال مقدماً له:{ربي} أي المحسن إليّ بعظيم التربية في الأمور المهلكة {أن يهديني سواء} أي عدل ووسط {السبيل*} وهو الطريق الذي يطلعه عليها من غير اعوجاج.

ولما كان التقدير: فوصل إلى المدينة، بنى عليه قوله:{ولما ورد} أي حضر موسى عليه الصلاة والسلام حضور من يشرب {ماء مدين} أي الذي يستقي منها الرعاء {وجد عليه} أي على الماء {أمة} أي جماعة كثيرة هم أهل لأن يَقْصُدوا ويُقصَدوا، فلذلك هم عالون غالبون على الماء؛ ثم بين نوعهم بقوله:{من الناس} وبين عملهم أيضاً بقوله: {يسقون*} أي مواشيهم، وحذف المفعول لأنه غير مراد، والمراد الفعل، وكذا ما بعده فإن رحمته عليه الصلاة والسلام لم تكن لكون المذود والمسقي غنماً بل مطلق الذياد وترك السقي {ووجد من دونهم} أي وجداناً مبتدئاً من أدنى مكان من مكانهم الآتي إلى الماء {امرأتين} عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنها {تذودان} أي توجدان الذود، وهو الكف والمنع والطرد وارتكاب أخف

ص: 264

الضررين، فتكفان أغنامهما إذا نزعت من العطش إلى الملأ لئلا تخلط بغنم الناس.

ولما كان هذا حالاً موجباً للسؤال عنه، كان كأنه قيل: فما قال لهما؟ قيل: {قال} أي موسى عليه الصلاة والسلام رحمة لهما: {ما خطبكما} أي خبركما ومخطوبكما أي مطلوبكما، وهوكالتعبير بالشأن عن المشؤون الذي يستحق أن يقع فيه التخاطب لعظمه، في ذيادكما لأغنامكما عن السقي؛ قال أبو حيان: والسؤال بالخطب إنما يكون في مصاب أو مضطهد.

ولما كان من المعلوم أن سؤاله عن العلة {قالتا} أي اعتذاراً عن حالهما ذلك؛ وتلويحاً باحتياجهما إلى المساعدة: {لا} أي خبرنا أنا لا {نسقي} أي مواشينا، وحذفه للعلم به {حتى يصدر} أي ينصرف ويرجع {الرعاء} أي عن الماء لئلا يخالطهم - هذا على قراءة أبي عمرو وابن عامر بفتح الياء وضم الدال ثلاثياً، والمعنى على قراءة الباقين بالضم والكسر: يوجدوا الرد والصرف.

ص: 265

ولما كان التقدير: لأنا من النساء، وكان المقام يقتضي لصغر سنهما أن لهما أباً، وأن لا إخوة لهما وإلا لكفوهما ذلك، عطفتا على هذا المقدر قولهما:{وأبونا شيخ كبير*} أي لا يستطيع لكبره أن يسقي، فاضطررنا إلى ما ترى، وهذا اعتذار أيضاً عن كون أبيهما أرسلهما لذلك لأنه ليس بمحظور، فلا يأباه الدين، والناس مختلفون في ذلك بحسب المروءة، وعاداتهم فيها متباينة وأحوال العرب والبدو تباين أحوال العجم والحضر، لا سيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة {فسقى} أي موسى عليه الصلاة والسلام {لهما} لما علم ضرورتهما، انتهازاً لفرصة الأجر وكرم الخلق في مساعدة الضعيف، مع ما به من النصب والجوع {ثم تولى} أي انصرف موسى عليه الصلاة والسلام جاعلاً ظهره يلي ما كان يليه وجهه {إلى الظل} أي ليقيل تحته ويستريح، مقبلاً على الخالق بعد ما قضى من نصيحة الخلائق، وعرفه لوقوع العلم بأن بقعة لا تكاد تخلو من شيء له ظل ولا سيما أماكن المياه {فقال} لأنه ليس في الشكوى إلى المولى العلي الغني المطلق نقص {رب} .

ولما كان حاله في عظيم صبره حاله من لا يطلب، أكد سؤاله إعلاماً بشديد تشوقه لما سأل فيه وزيادة في التضرع والرقة، فقال:

ص: 266

{إني} ولأكد الافتقار بالإلصاق باللام دون «إلى» فقال: {لما} أي لأي شيء. ولما كان الرزق الآتي إلى الإنسان مسبباً عن القضاء الآتي عن العلي الكبير، عبر بالإنزال وعبر بالماضي تعميماً لحالة الافتقار، وتحققاً لإنجاز الوعد بالرزق فقال:{أنزلت} ولعله حذف العائد اختصاراً لما به من الإعياء {إليّ من خير} أي ولو قل {فقير*} أي مضرور، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان قد بلغ من الضر أن اخضر بطنه من أكل البقل وضعف حتى لصق بطنه بظهره. فانظر إلى هذين النبيين عليهما الصلاة والسلام في حالهما في ذات يدهما، وهما خلاصة ذلك الزمان، ليكون لك في ذلك أسوة، وتجعله إماماً وقدوة، وتقول: يا بأبي وأمي! ما لقي الأنبياء والصالحون من الضيق والأهوال في سجن الدنيا، صوناً لهم منها وإكراماً من ربهم عنها، رغعة لدرجاتهم عنده، واستهانة لها وإن ظنه الجاهل المغرور على غير ذلك، وفي القصة ترغيب في الخير، وحث على المعاونة على البر، وبعث على بذل المعروف مع الجهد.

ص: 267

ولما كان سماعهما لقوله هذا مع إحسانه إليهما سبباً لدعاء شعيب عليه الصلاة والسلام له، قال بانياً على ما تقديره: فذهبت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه بخبرهما وبإحسانه إليهما، فأمر بدعائه ليكافئه:{فجاءته} أي بسبب قول الأب وعلى الفور {إحداهما} أي المرأتين

ص: 267

حال كونها {تمشي} ولما كان الحياء كأنه مركب لها وهي متمكنة منه، مالكة لزمامه، عبر بأداة الاستعلاء فقال:{على استحياء} أي حياء موجود منها لأنها كلفت الإتيان إلى رجل أجنبي تكلمه وتماشيه؛ ثم استأنف الإخبار عما تشوف إليه السامع من أمرها فقال: {قالت} وأكدت إعلاماً بما لأبيها من الرغبة إلى لقائه في قولها: {إن أبي} وصورت حاله بالمضارع فقالت: {يدعوك ليجزيك} أي يعطيك مكافأة لك، لأن المكافأة من شيم الكرام، وقبولها لا غضاضة فيه {أجر ما سقيت لنا} أي مواشينا، فأسرع الإجابة لما بينهما من الملاءمة، ولذلك قال:{فلما} بالفاء {جاءه} أي موسى شعيباً عليهما الصلاة والسلام {وقص} أي موسى عليه الصلاة والسلام {عليه} أي شعيب عليه الصلاة والسلام {القصص*} أي حدثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم لعباد الله، وتتبع له الأمور على ما هي عليه لما توسم فيه بما آتاه اله من الحكم والعلم من النصيحة والشفقة، والعلم والحكمة، والجلال والعظمة.

ولما كان من المعلوم أنه لا عيشة لخائف، فكان أهم ما إلى الإنسان الأمان، قدم له التأمين بأن {قال} أي شعيب له عليهما الصلاة والسلام:{لا تخف} أي فإن فرعون لا سلطان له

ص: 268

على ما ههنا، ولأن عادة الله تعالى جرت أن تواضعك هذا ما كان في أحد إلا قضى الله برفعته، ولذلك كانت النتيجة:{نجوت} أي يا موسى {من القوم الظالمين*} أي هو وغيره وإن كانوا في غاية القوة والعراقة في الظلم.

ولما اقتضى هذا القول أنه آواه إليه، علمت انتباه مضمونه، وكانتا قد رأتا من كفايته وديانته ما يرغب في عشرته، فتشوفت النفس إلى حالهما حينئذ، فقال مستأنفاً لذلك:{قالت إحداهما} أي المرأتين. قيل: وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها: {يا أبت استأجره} ليكفينا ما يهمنا؛ ثم عللت قولها فقالت مؤكدة إظهاراً لرغبتها في الخير واغتباطها به: {إن خير من استأجرت} لشيء من الأشياء {القوي} وهو هذا لما رأيناه من قوته في السقي {الأمين*} لما تفرسنا فيه من حيائه، وعفته في نظره ومقاله وفعاله، وسائر أحواله؛ قال أبو حيان: وقولها قول حكيم جامع، لأنه إذا اجتمعت الأمانة والكفاية في القائم بأمر فقد تم المقصود. {قال} أي شعيب عليه الصلاة والسلام، وهو في التوراة يسمى: رعوئيل - بفتح الراء وضم العين

ص: 269

المهملة وإسكان الواو ثم همزة مكسورة بعدها تحتانية ساكنة ولام، ويثرو - بفتح التحتانية وإسكان المثلثة وضم الراء المهملة وإسكان الواو {إني أريد} يا موسى، والتأكيد لأجل أن الغريب قل ما يرغب فيه أول ما يقدم لا سيما من الرؤساء أتم الرغبة {أن أنكحك} أي أزوجك زواجاً، تكون وصلته كوصلة أحد الحنكين بالآخر {إحدى ابنتي} .

ولما كان يجوز أن يكون المنكح منهما غير المسقي لهما، نفى ذلك بقوله:{هاتين} أي الحاضرتين اللتين سقيت لهما، ليتأملهما فينظر من يقع اختياره عليها منهما ليعقد له عليها {على أن تأجرني} أي تجعل نفسك أجيراً عندي أو تجعل أجري على ذلك وثوابي {ثماني حجج} جمع حجة - بالكسر، أي سنين، أي العمل فيها بأن تكون أجيراً لي أستعملك فيما ينوبني من رعية الغنم وغيرها، وآجره - بالمد والقصر، من الأجر والإيجار، وكذلك أجر الأجير والمملوك وآجره: أعطاهما أجرهما {فإن أتممت} أي الثماني ببلوغ العقد بأن تجعلها {عشراً} أي عشر سنين {فمن} أي فذلك فضل من {عندك}

ص: 270

غير واجب عليك، وكان تعيين الثماني لأنها - إذا أسقطت منها مدة الحمل - أقل سن يميز فيه الولد غالباً، والعشر أقل ما يمكن فيه البلوغ، لينظر سبطه إن قدر فيتوسم فيه بما يرى من قوله وفعله، والتعبير بما هو من الحج الذي هو القصد تفاؤلاً بأنها تكون من طيبها بمتابعة أمر الله وسعة رزقه وإفاضة نعمه ودفع نقمه أهلاً لأن تقصد أو يكون فيها الحج في كل واحدة منها إلى بيت الله الحرام.

ولما ذكر له هذا، أراد أن يعلمه أن الأمر بعد الشرط بينهما على المسامحة فقال:{وما أريد أن أشق عليك} أي أدخل عليك مشقة في شيء من ذلك ولا غيره لازم أو غير لازم؛ ثم أكد معنى المساهلة بتأكيد وعد الملاءمة فقال: {ستجدني} ثم استثنى على قاعدة أولياء الله وأنبيائه في المراقبة على سبيل التنزل فقال: {إن شاء الله} أي الذي له جميع الأمر {من الصالحين*} أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت وكل ما تريد من خير {قال} أي موسى عليه السلام {ذلك} أي الذي ذكرت من الخيار وغيره {بيني وبينك} أي كائن بيننا على حكم النصفة والعدل والسواء على ما ألزمتني به لازماً، وما أشرت

ص: 271

إلى التفضل به إحساناً، وعليك ما ألزمت به نفسك فرضاً وفضلاً؛ ثم بين وفسر ذلك بقوله:{أيما الأجلين} أي أيّ أجل منهما: الثماني أو العشر {قضيت} أي عملت العمل المشروط علي فيه خرجت به من العهدة {فلا عدوان} أي اعتداء بسبب ذلك لك ولا لأحد {علي} أي في طلب أكثر منه لأنه كما لا تجب على الزيادة على العشر لا تجب عليّ الزيادة على الثمان، وكأنه أشار بنفي صيغة المبالغة إلى أنه لا يؤاخذ لسعة صدره وطهارة أخلاقه بمطلق العدو {والله} أي الملك الأعظم {على ما نقول} أي كله في هذا الوقت وغيره {وكيل*} أي شاهد وحفيظ قاهر عليه وملزم به في الدنيا والآخرة، فما الظن بما وقع بيننا من العهد من النكاح والأجر والأجل.

ص: 272

ذكر المضمون هذا من التوراة: قال في أول السفر الثاني منها: وهذه أسماء بني إسرائيل الذين دخلوا مصر مع يعقوب عليه السلام، دخل كل امرىء وأهل بيته روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وإيساخار وزيلون وبنيامين ودان ونفتالي وجاد وأشير، وكان عدد ولد

ص: 272

يعقوب الذين خرجوا من صلبه سبعين نفساً مع يوسف عليه الصلاة والسلام الذي كان بمصر، فتوفي يوسف وجميع إخواته وجميع ذلك الحقب، وبنو إسرائيل نموا وولدوا وكثروا واعتزوا جداً جداً، وامتلأت الأرض منهم، فملك على مصر ملك جديد لم يكن يعرف يوسف فقال لشعبه: هذا شعب بني إسرائيل قد كثر عددهم فهم أكثر وأعز منا، هلموا نحتال لهم قبل أن يكثروا، لعل أعداءنا يأتونا يقاتلونا فيكونوا عوناً، لأعدائنا علينا فيخرجونا من الأرض، فولى عليهم ولاة ذوي فظاظة وقساوة ليتعبدوهم، وجعلوا يبنون قرى لأجران فرعون واهرائه وفي نسخة: وبنوا لفرعون مدناً محصنة فيسترم في الفيوم وفي عين شمس، وفي نسخة: فيثوم ورعمسيس، وفي نسخة: وأكوان التي هي مدينة الشمس، واشتد تعبدهم لهم، وذلهم أياهم، وكانوا يزدادون كثرة ويعتزون، فاشتد غمهم وحزنهم بسبب بني إسرائيل، وكان المصريون يتعبدون بني إسرائيل بشدة وقساوة، ويمرون حياتهم بالكد والتعب الصعب الشديد بالطين وعمل اللبن وفي كل عمل الحقل، وكان تعبدهم

ص: 273

إياهم في جميع ما استعملوهم بالشدة والفظاظة والقسوة، فقال ملك مصر: وجعلنا لقوابل العبرانيات التي تسمى إحداهما فوعا والأخرى شوفرا، وأمرهما: إذا أنتما قبلتما العبرانيات فانظرا إذا سقط الولد، فإن كان ذكراً فاقتلاه، وإن كانت أنثى فاستبقياها فاتقت القابلتان الله ولم يفعلا ما أمرهما به ملك مصر، وجعلتا تستحييان الغلمان، فدعا ملك مصر القابلتين وقال لهما؟ ما بالكما؟ جاوزتما أمري وأحييتما الغلمان؟ فقالتا لفرعون: إن العبرانيات لسن كالمصريات لأنهن قوابل، ويلدن قبل أن تدخل القابلة عليهن، فأحسن الله إلى القابلتين لصنعهما هذا، فكثر الشعب وعز جداً، فلما اتقت القابلتان الله أنماهما وجعل لهما بنين، وفي نسخة: بيوتاً، فأمر فرعون جميع قومه قائلاً: كل غلام يولد لهم فألقوه في النهر، وكل جارية تولد فاستبقوها، فانطلق رجل من آل لاوي فتزوج إحدى بنات لاوي، فحبلت المرأة فولدت ابناً فرأته حسناً جداً، فغيبته ثلاثة أشهر ولم تقدر أن تغيبه أكثر من ذلك، فأخذت تابوتاً من خشب الصنوبر، وطلته بالقار والزفت

ص: 274

ووضعت فيه الغلام ووضعته في الضحضاح على شاطىء النهر، وقامت أخته من بعيد لتنظر ما يكون من أمره، فخرجت بنت فرعون تغتسل في النهر، فنظرت إلى التابوت في المخاضة، فأرسلت جواريها فأتوا به ففتحته فرأت الغلام، فإذا هو يبكي فرحمته، وقالت: هذا من بني العبرانيين، فقالت أخته لابنة فرعون: هل لك أن أنطلق أدعو لك ظئراً من العبرانيات فترضع هذا الغلام؟ فقالت لها ابنة فرعون: نعم! انطلقي، فانطلقت الفتاة ودعت أم الغلام، فقالت لها ابنة فرعون: خذي هذا الصبي فأرضعيه وأنا أعطيك أجرتك، فأخذت المرأة الغلام فأرضعته فشب الغلام فأتت به إلى ابنة فرعون فتبنته، وسمته موسى لأنها قالت: إني انتشلته من الماء.

فلما كان بعد تلك الأيام نشأ موسى عليه السلام وخرج إلى إخوته فنظر إلى ذلهم، فرأى رجلاً مصرياً يضرب رجلاً عبرانياً من إخوته من بني إسرائيل، فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً فقتل المصري، فمات ودفنه في الرمل، ثم خرج يوماً آخر فإذا هو برجلين عبرانيين يصطحبان، فقال للمسيء منهما: ما بالك؟ تضرب أخاك؟ فقال له: من جعلك علينا رئيساً وحاكماً؟ لعلك تريد أن تقتلني كما قتلت المصري أمس؟ ففرق موسى وقال: حقاً لقد فشا هذا الأمر، فبلغ فرعون الأمر وأراد موسى، فهرب موسى من فرعون وانطلق إلى أرض

ص: 275

مدين، وجلس على طوي الماء، وكان لحبر مدين سبع بنات، فكن يأتين فيدلن الماء فيملأن الحياض ليسقين غنم أبيهن، وكان الرعاة يأتون فيطردونهن، فقام موسى فخلصهن وأسقى غنمهن، فأتين إلى رعوئيل أبيهن فقال لهن: ما بالكن؟ أسرعتن السقي اليوم؟ فقلن له: رجل مصري خلصنا من أيدي الرعاة، فاستقى لنا الماء، وسقى غنمنا، فقال لبناته: وأين هو؟ لم تركتن الرجل، انطلقن وادعونه فيأكل عندنا خبزاً، ففعلن ذلك، فأعجب موسى أن ينزل على ذلك الرجل فزوجه صفورا ابنته فتزوجها فولدت له ابناً فسماه جرشون، لأنه قال: إني صرت ساكناً في أرض غريبة. وولدت لموسى ابناً آخر، فسماه اليعازار، لأنه قال: إن إله آبائي خلصني من حرب فرعون. وقوله: إن المتخاصمين في اليوم الثاني عبرانيان، إن أمكن تنزيل ما في القرآن عليه فذاك، وإلا فهو مما بدلوه، وقوله: إن بنات شعيب سبع لا يخالف ما في القرآن الكريم، بل أيده الزمخشري بتعيينهما بقوله «هاتين» لكن تقدم ما يشير إلى أن ذلك غير لازم.

ولما كان من المعلوم أن التقدير: فلما التزم موسى عليه السلام

ص: 276

زوجه ابنته كما شرط، واستمر عنده حتى قضى ما عليه، بنى عليه قوله:{فلما قضى} أي وفى وأتم، ونهى وأنفذ {موسى} صاحبه {الأجل} أي الأوفى وهو العشر، بأن وفى جميع ما شرط عليه من العمل، فإنه ورد أنه قضى من الأجلين أوفاهما، وتزوج من المرأتين صغراهما، وهي التي جاءت فقالت: يا أبت استأجره روى الطبراني في الأوسط معناه عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً، والظاهر أنه مكث عنده بعد الأجل أيضاً مدة، لأنه عطف بالواو قوله:{وسار} ولم يجعله جواباً للما {بأهله} أي امرأة راجعاً إلى أقاربه بمصر {آنس} أي أبصر {من جانب الطور ناراً} آنسته رؤيتها وشرحته إنارتها، وكان مضروراً إلى الدلالة على الطريق والاصطلاء بالنار.

ولما كان كأنه قيل: ماذا فعل عندما أبصرها قيل: {قال لأهله} ولما كان النساء أعظم ما ينبغي ستره، أطلق عليها ضمير الذكور فقال:{امكثوا} وإن كان معه بنين له فهو على التغليب، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً، لاستبعاد أن يكون في ذلك المكان القفر وفي ذلك

ص: 277

الوقت الشديد البرد نار: {إني آنست ناراً} فكأنه قيل: فماذا تعمل بها؟ فقال معبراً بالترجي لأنه أليق بالتواضع الذي هو مقصود السورة، وهو الحقيقة في إدراك الآدميين في مثل هذا، ولذا عبر بالجذوة التي مدار مادتها الثبات:{لعلي آتيكم منها} أي من عندها {بخبر} ينفعنا في الدلالة على المقصد {أو جذوة} أي عود غليظ {من النار} أي متمكنة منه هذه الحقيقة أو التي تقدم ذكرها؛ ثم استأنف قوله {لعلكم تصطلون*} أي لتكونوا على رجاء من أن تقربوا من النار فتنعطفوا عليها لتدفؤوا، وهذا دليل على أن الوقت كان شتاء {فلما أتاها} أي النار.

ولما كان آخر الكلام دالاً دلالة واضحة على أن المنادي هو الله سبحانه، بنى للمفعول قوله دالاًّ على ما في أول الأمر من الخفاء:{نودي} ولما كان نداؤه سبحانه لا يشبه نداء غيره بل يكون من جميع الجوانب، وكان مع ذلك قد يكون لبعض المواضع مزيد تشريف بوصف من الأوصاف، إما بأن يكون أول السماع منه أو غير ذلك أو يكون باعتبار كون موسى عليه الصلاة والسلام فيه قال:{من} أي

ص: 278

كائناً موسى عليه السلام بالقرب من {شاطئ} أي جانب {الواد} عن يمين موسى عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال:{الأيمن} وهو صفة للشاطىء الكائن أو كائناً {في البقعة المباركة} كائناً أول أو معظم النداء أو كائناً موسى عليه الصلاة والسلام قريباً {من الشجرة} كما تقول: ناديت فلاناً من بيته، ولعل الشجرة كانت كبيرة، فلما وصل إليها دخل النور من طرفها إلى وسطها، فدخلها وراءه بحيث توسطها فسمع - وهو فيها - الكلام من الله تعالى حقيقة، وهو المتكلم سبحانه لا الشجرة، قال القشيري: ومحصل الإجماع أنه عليه الصلاة والسلام سمع تلك الليلة كلام الله، ولو كان ذلك نداء الشجرة لكان المتكلم الشجرة، وقال التفتازاني شرح المقاصد أن اختيار حجة الإسلام أنه سمع كلامه الأزلي بلا صوت ولا حرف كما ترى ذاته في الآخرة، بلا كم ولا كيف، وتقدم في طه أن المراد ما إلى يمين المتوجه من مصر إلى الكعبة المشرفة، والشجرة قال البغوي: قال ابن مسعود رضي الله عنه: كانت سمرة خضراء تبرق، وقال قتادة ومقاتل والكلبي: كانت عوسجة، وقال وهب: من العليق، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنها العناب. ثم ذكر المنادي بقوله: {أن يا موسى} وأكد لأنه سبحانه

ص: 279

لعظمه يحتقر كل أحد نفسه لأن يؤهله للكلام لا سيما والأمر في أوله فقال: {إني أنا الله} أي المستجمع للأسماء الحسنى، والصفات العلى.

ولما كان هذا الاسم غيباً، تعرف بصفة هي مجمع الأفعال المشاهدة للإنسان فقال:{رب العالمين*} أي خالق الخلائق أجمعين ومربيهم {وأن ألق عصاك} أي لأريك فيها آية.

ولما كان التقدير: فألقاها فصارت في الحال حية عظيمة، وهي مع عظمها في غاية الخفة، بنى عليه قوله:{فلما رآها} أي العصا {تهتز كأنها} أي في سرعتها وخفتها {جان} أي حية صغيرة {ولّى مدبراً} خوفاً منها ولم يلتفت إلى جهتها، وهو معنى قوله:{ولم يعقب} أي موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك كناية عن شدة التصميم على الهرب والإسراع فيه خوفاً من الإدراك في الطلب فقيل له:{يا موسى أقبل} أي التفت وتقدم إليها {ولا تخف} ثم أكد له الأمر لما الآدمي مجبول عليه من النفرة وإن اعتقد صحة الخبر بقوله: {إنك من الآمنين*} أي العريقين في الأمن كعادة إخوانك من المرسلين؛ ثم زاد طمأنينته بقوله: {اسلك} أي ادخل على الاستقامة مع الخفة والرشاقة {يدك في جيبك} أي القطع الذي في ثوبك وهو الذي تخرج منه الرأس، أو هو الكم، كما يدخل السلك وهو الخيط الذي ينظم فيه الدرر، تنسلك على لونها وما هي عليه من

ص: 280

أثر الحريق الذي عجز فرعون عن مداواته، وأخرجها {تخرج بيضاء} أي بياضاً عظيماً يكون له شأن خارق للعادات {من غير سوء} أي عيب من حريق أو غيره، فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس، فالآية من الاحتباك.

ولما كان ذلك لا يكون آية محققة لعدم العيب إلا بعودها بعد ذلك إلى لون الجسد قال: {واضمم إليك} أي إلى جسدك. ولما كان السياق للتأمين من الخوف، عبر بالجناح، لأن الطائر يكون آمناً عند ضم جناحه فقال:{جناحك} أي يديك التي صارت بيضاء، والمراد بالجناح في آية طه الإبط والجانب لأنه لفظ مشترك {من الرهب} أي من خشية أن تظنها معيبة تخرج كما كانت قبل بياضها في لون جسدك - هذا على أن المراد بالرهب الخوف الذي بهره فأوجب له الهرب، ويجوز أن يكون المراد بالرهب الكم، فيكون إدخالها في الفتى - التي ليست موضعها بل الرأس - للبياض، وإدخالها في الكم - الذي هو لها - لرجوعها إلى عادتها، وفي البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره فذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية، وقال: وما من خائف بعد موسى عليه الصلاة والسلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه. وأظهر بلفظ الجناح من

ص: 281

غير إضمار تعظيماً للمقام وتنبيهاً على أن عودها إلى حالها الأول آية مستقلة، وعبر عنها بلفظ الجناح تنبيهاً على الشكر بتعظيم نفعها.

ولما تم كوناً آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال: {فذانك} أي العصي واليد البيضاء، وشدد أبو عمرو وابن كثير ورويس تقوية لها لتعادل الأسماء المتمكنة، وذكر لزيادة التقوية {برهانان} أي سلطانان وحجتان قاهرتان {من ربك} أي المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره {إلى} أي واصلان، أو أنت مرسل بهما إلى {فرعون وملئه} كلما أردت ذلك وجدته، لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحفرة فقط، ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله مؤكداً تنبيهاً على ان إقدامه على الرجوع إليهم فعل من يظن أنهم رجعوا عن غيهم، وإعلاماً بمنه عليه بالحماية منهم بهذه البراهين:{إنهم كانوا} أي جبلة وطبعاً {قوماً} أي أقوياء {فاسقين*} أي خارجين عن الطاعة، فإذا رأوا ذلك هابوك، فلم يقدروا على الوصول إليك بسوء، وكنت في مقام أن تردهم عن فسقهم.

ص: 282

ولما كان كأنه قيل: ما فعل بعد رؤية هذه الخوارق؟ قيل: ثبت، علماً منه بصعوبة المقام وخطر الأمر، فاشترط لنفسه حتى رضي، وتلك كانت عادته ثباتاً وحزماً، وحلماً وعلماً، ألا ترى إلى ما فعل معنا عليه السلام والتحية والإكرام من الخير ليلة الإسراء في السؤال في تخفيف الصلاة، ولذلك كله {قال رب} أي أيها المحسن إليّ {إني} أكده لأن إرسال الله سبحانه له فعل من لا يعتبر أن لهم عليه ترة، فذكر ذلك ليعلم وجه عدم اعتباره {قتلت منهم} أي آل فرعون {نفساً} وأنت تعلم ما خرجت إلا هارباً منهم من أجلها {فأخاف} إن باديتهم، بمثل ذلك {أن يقتلون*} لذنبي إليهم ووحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج.

ولما تسبب عن ذلك طلب الإعانة بشخص فيه كفاية وله عليه شفقة، وكان أخوه هارون أحق الناس بهذا الوصف، كان التقدير: فأرسل معي أخي هارون - إلى آخره، غير أنه قدم ذكره اهتماماً بشأنه فقال:{وأخي هارون} والظاهر أن واوه للحال من ضمير موسى عليه الصلاة والسلام، أو عاطفة على مقول القول، والمعنى أنه يخاف أن يفوت مقصود الرسالة إما بقتله أو لعدم بيانه، فاكتفى بالتلويح في الكفاية

ص: 283

من الأول، لأنه لا طاقة لأحد غير الله بها، وصرح بما يكفي من الثاني، فكأن التقدير: إني أخاف أن يقتلون فيفوت المقصود، ولا يحمني من ذلك إلا أنت، وإن لساني فيه عقدة، وأخي - إلى آخره؛ وزاد في تعظيمه بضمير الفصل فقال:{هو أفصح مني لساناً} أي من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون {فأرسله} أي بسبب ذلك {معي ردءاً} أي معيناً، من ردأت فلاناً بكذا، أي جعلته له قوة وعاضداً، وردأت الحائط - إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط؛ وقراءة نافع بغير همز من الزيادة.

ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه، نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله:{يصدقني} أي بأن يلخص بفصاحته ما قتله وبينته، ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً، فيكون - مع تصديقه لي بنفسه - سبباً في تصديق غيره لي؛ ورفعه عاصم وحمزة صفة لردءاً. ثم علل سؤاله هذا، وبين أنه هو المراد، لا أن يقول له: صدقت، فإن قوله لهذه اللفظة لا تعلق له بالفصاحة حتى يكون سبباً للسؤال فيه، بقوله مؤكداً لأجل أن من كان رسولاً عن الله لا يظن به أن يخاف:{إني أخاف أن يكذبون*} .

ولما كان ما رأى من الأفعال، وسمع من الأقوال، مقتضياً للأمن

ص: 284

من أن يكذبوه، وكان عالماً بما هم عليه من القساوة والكبر، أشار إلى ذلك بالتأكيد، أي وإذا كذبوني عسرت عليّ المحاججة على ما هو عادة أهل الهمم عند تمالؤ الخصوم على العناد، والإرسال موجب لكلام كثير وحجاج طويل، وقريب من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى بإنذار قومه

«إذن يثلغوا رأسي فيجعلوه خبزة» وكأن مراد السادة القادة عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام الاستعلام عن الأمر هل يجري على العادة أو لا؟ فإن كان يجري على العادة وطنوا أنفسهم على الموت، وإلا ذكر لهم الأمر الخارق فيكون بشارة لهم، ليمضوا في الأمر على بصيرة، ويسيروا فيه على حسب ما يقتضيه من السيرة.

ولما أكد أمر الطلب بهارون عليهما الصلاة والسلام، أكد له سبحانه أمر الإجابة بقوله مستأنفاً:{قال سنشد} وذكر أولى الأعضاء بمزاولة المكاره فقال: {عضدك} أي أمرك {بأخيك} أي سنقويك ونعينك به إجابة لسؤالك صلة منك لأخيك، وعوناً منه لك {ونجعل لكما سلطاناً} أي ظهوراً عظيماً عليهم، وغلبة لهم بالحجج

ص: 285

والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف {فلا} أي فيتسبب عن ذلك أنهم لا {يصلون إليكما} بنوع من أنواع الغلبة {بآياتنا} أي نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات المعظمة بنسبتها إلينا، ولذلك كانت النتيجة {أنتما ومن اتبعكما} أي من قومكما وغيرهم {الغالبون*} أي لا غيرهم، وهذا يدل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين لأنفسهم في الله، وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرر من ذكرهم، وقد كشفت العاقبة عن أن السحرة ليسوا من جنوده، بل من حزب الله وجنده، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها، وسيأتي في آخر سورة الحديد عن تاريخ ابن عبد الحكم أنهم خلصوا ورجع بعضهم إلى مصر فكانوا أول من ترهب.

شرح ما مضى من التوراة، قال بعدما تقدم: وكان من بعد

ص: 286

أيام كثيرة مات فرعون ملك مصر فاستراح بنو إسرائيل من شدة تعبدهم، فصلوا فسمع الله صلاتهم، وعرف تعبدهم، وسمع ضجتهم، وذكر عهده لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأبصر الله بني إسرائيل، وعرف ذلهم، فكان موسى يرعى غنم يثرو ختنه حبر مدين، فساق بالشاء إلى طرف البرية وأتى إلى حوريب جبل الله، فتراءى له ملك الله بلهب النار من جوف العوسج، تشتعل فيه النار، ولم يكن العوسج يحترق، فقال موسى: لأعدلن فأنظر إلى هذه الرؤيا العظيمة؛ ما بال هذه العوسجة لم تحترق؟ فرأى الرب أنه قد عدل لينظر، فدعاه الله من جوف العوسج وقال له: يا موسى يا موسى! فقال: هأنذا! قال: لا تدن إلى ههنا، اطرح خفيك عن قدميك، لأن المكان الذي أنت واقف عليه مكان طاهر، وفي نسخة: مقدس، وقال الله: أنا إله أبيك إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب، فغطى موسى وجهه لأنه فرق أن يمد بصره نحو الرب، وقال الرب: إني قد رأيت ذل شعبي بمصر، وسمعت ضجتهم التي ضجوا من تعبدهم، لأني عارف براءتهم، فنزلت لأخلصهم من أيدي المصريين، وأن أصعدهم

ص: 287

من تلك الأرض إلى أرض صالحة واسعة، تغل السمن والعسل: أرض الكنعانيين والحاثانيين والأمورانيين والفرزانيين والحاوانيين واليابسانيين، والآن هو ذا ضجيج بني إسرائيل قد ارتفع إليّ، ورأيت ضر المصريين لهم، فهبطت الآن حتى أرسلك إلى فرعون.

وأخرج شعبي بني إسرائيل من مصر، فقال موسى لله: من أنا حتى أنطلق إلى فرعون وأخرج بني إسرائيل من مصر، فقال الله: أنا أكون معك وهذه الآية لك أني أرسلتك: إنك إذا أخرجت الشعب من مصر تعبدون الله في هذا الجبل، فقال موسى: ها أنذا منطلق إلى بني إسرائيل وأقول لهم: الرب إله آبائكم أرسلني إليكم، فإن قالوا لي: ما اسمه؟ ما الذي أقول؟ فقال الرب لموسى: قل لهم: الأزلي الذي لم يزل، وفي نسخة: لا يزول، وقال: هكذا قل لبني إسرائيل: أهيا شر أهيا أرسلني إليكم، وقال الرب أيضاً لموسى هكذا قل لبني إسرائيل:

ص: 288

الله ربكم إله آبائكم إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب أرسلني إليكم هذا اسمي إلى الأبد، وهذا ذكري إلى حقب الأحقاب، انطلق فاجمع أشياخ بني إسرائيل وقل لهم: الرب إله آبائكم اعتلن لي، وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لكم: قد ذكرتكم وذكرت ما صنع بكم بمصر، ورأيت إخراجكم من تعبد أهل مصر إلى ارض الكنعانيين - ومن تقدم معهم - إلى الأرض التي تعل السمن والعسل، فإذا قبلوا منك فادخل أنت وأشياخ بني إسرائيل إلى ملك مصر فقولوا له: الرب إله العبرانيين ظهر علينا فننطلق الآن مسيرة ثلاثة أيام في البرية ونذبح الذبائح لله ربنا، وأنا أعلم أن ملك مصر لا يدعكم تخرجون، ولا بيد واحدة شديدة، حتى أبعث بآفتي وأضرب المصريين بجميع العجائب التي أحدثها فيهم، ومن بعد ذلك يرسلكم فأجعل للشعب في أعين المصريين رأفة ورحمة، فإذا انطلقتم فلا تنطلقوا عطلاً صفراً، بل تستعير المرأة منكم من جاراتها وساكنة بيتها حلي ذهب وفضة وكسوة، وألبسوها بنيكم وبناتكم، وأخربوا أهل مصر، فأجاب موسى وقال: إنهم لا يصدقونني، ولا يقبلون قولي، لأنه يقولون:

ص: 289

لم يتراءى لك الرب، فقال له الرب: ما هذه التي في يدك؟ فقال: هي عصاي، فقال: ألقها في الأرض، فألقاها في الأرض، فصارت ثعباناً، فهرب منه موسى، فقال له الرب: يا موسى! مد يدك، فخذ بذنبها، فمد يده فأمسكه فتحول في يده عصا، فقال: لكي يصدقوا أن الله إله آبائهم قد تراءى لك، إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب، وقال الرب لموسى: اردد يدك في ردنك، وفي نسخة: في كمك، فأدخلها ثم أخرجها فإذ بيده بيضاء كالثلج، فقال له: اردد يدك في حضنك، وفي نسخة: في كمك، فردها ثم أخرجها فإذا هي مثل جسده، فإن هم لم يؤمنوا ولم يسمعوا بالآية الأولى فإنهم يؤمنون ويسمعون بالآية الأخرى، فإن لم يؤمنوا بالآيتين، ولم يسمعوا قولك فخذ ماء من الأرض، وفي نسخة: النيل، فاصببه على الأرض، فإنه ينقلب ويصير دماً في اليبس، فقال موسى للرب: أطلب إليك يا رب لست رجلاً ناطقاً منذ أمس ولا قبله ولا من الوقت الذي كلمت عبدك فيه، لأني ألثغ المنطق عسر

ص: 290

اللسان، فقال له الرب: من الذي خلق المنطق للإنسان؟ ومن الذي خلق الأخرس والأصم والمبصر والمكفوف؟ أليس أنا الرب الذي أصنع ذلك؟ فانطلق الآن وأنا أكون معك، وراقباً للسانك وألقنك ما تنطق به، فقال: موسى أطلب إليك يا رب! أرسل في هذه الرسالة غيري، فقال: هذا أخوك هارون اللاوي، قد علمت أنه ناطق لسن، وهو أيضاً سيلقاك، ويشتد فرحه بك، وأخبره بالأمر، ولقنه كلامي، وأنا أكون راقباً على فيك وفيه وأعلمكما ما تصنعان، وهو يكلم الشعب عنك؛ فيكون لك مترجماً، وأنت تكون له إلهاً، وفي نسخة: أستاذاً ومدبراً، وخذ في يديك هذه العصا لتعمل بها الآيات، فرجع موسى منطلقاً إلى ثيرو ختنه وقال له: إني راجع إلى إخوتي بمصر، وناظر هل هم أحياء بعد؟ فقال: ثيرو لموسى: انطلق راشداً سالماً، وقال الرب لموسى في مدين: انطلق راجعاً إلى مصر لأن الرجال الذين كانوا معك يطلبون نفسك قد هلكوا جميعاً - إلى آخر ما مضى في الأعراف، وفي هذا الفصل ما لا يسوغ إطلاقه في شرعنا على مخلوق، وهو الإله، وهو في لغة العبرانيين بمعنى العالم والحاكم، وفيه أيضاً أن فرعون مات قبل رجوع موسى فإن كان المراد الذي

ص: 291

ربى موسى عليه الصلاة والسلام في بيته فهو مما بدلوه.

ص: 292

ولما كان التقدير: فأتاهم كما أمر الله، وعاضده أخوه كما أخبر الله، ودعواهم إلى الله تعالى، وأظهرا ما أمرا به من الآيات، بنى قوله مبيناً بالفاء سرعة امتثاله:{فلما جاءهم} أي فرعون وقومه.

ولما كانت رسالة هارون عليه الصلاة والسلام إنما هي تأييد لموسى عليه الصلاة والسلام، أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي، فقال:{موسى بآياتنا} أي التي أمرناه بها، الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها {بينات} أي في غاية الوضوح {قالوا} أي فرعون وجنوده {ما هذا} أي الذي أظهره من الآيات {إلا سحر مفترى} أي هو خيال لا حقيقة له كجميع أنواع السحر، متعمداً التخييل به، لا أنه معجزة من عند الله {وما سمعنا بهذا} أي الذي تقوله من الرسالة عن الله {في آبائنا} وأشاروا إلى البدعة التي قد أضلت أكثر الخلق، وهي تحكيم عوائد التقليد، ولا سيما عند تقادمها على القواطع في قوله:{الأولين*} وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك في أيام يوسف عليه السلام «وما بالعهد من قدم» فقد قال لهم الذي آمن {يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم

ص: 292

الأحزاب} [غافر: 34]- إلى قوله: {ولقد جاءكم يوسف من قبله بالبينات} [غافر: 34] .

ولما أخبر تعالى بقولهم عطف عليه الإخبار بقول موسى عليه الصلاة والسلام ليوازن السامع بين الكلامين، ويتبصر بعقله ما الفاسد منهما «فبضدها تتبين الأشياء» هذا على قراءة الجماعة بالواو، واستأنف جواباً لمن كأنه سأل عن جوابه على قراءة ابن كثير بحذفها، فإن الموضع موضع بحث عما أجابهم به عند تسميتهم الآيات الباهرات سحراً، استعظاماً لذلك فقال:{وقال موسى} أي لما كذبوه وهم الكاذبون، مشيراً لذي البصر إلى طريق يميزون به الأمرين في سياق مهدد لهم:{ربي} أي المحسن إليّ بما ترون من تصديقي في كل ما ادعيته بإظهار ما لا تقدرون عليه على قوتكم من الخوارق، ومنع هذا الظالم العاتي المستكبر من الوصول إليّ بسوء {أعلم بمن جاء} بالضلال ظلماً وعدواناً، فيكون مخذولاً لكونه ساحراً فمحرقاً مفترياً على الله، ويكون له سوء الدار، وأعلم بحاله، ولكنه قال «بمن جاء» {بالهدى} أي الذي أذن الله فيه، وهو حق في نفسه {من عنده} ، تصويراً لحاله، وتشويقاً إلى أتباعه {ومن تكون له} لكونه منصوراً مؤيداً {عاقبة الدار} أي الراحة والسكن والاستقرار مع الأمن والطمأنينة والسرور والظفر

ص: 293

بجميع المطالب في الحالة التي تكون آخر الحالات مني ومنكم، فيعلم أنه أتى بما يرضي الله وهي وإن كانت حقيقتها ما يتعقب الشيء من خير أو شر، لكنها لا يراد بها إلا ما يقصد للعاقل حتى تكون له، وأما عاقبة السوء فهي عليه لا له؛ ثم علل ذلك بما أجرى الله به عادته؛ فقال معلماً بأن المخذول هو الكاذب، إشارة إلى أنه الغالب لكون الله معه، مؤكداً لما استقر في الأنفس من أن التقوي لا يغلبه الضعيف {إنه لا يفلح} أي يظفر ويفوز {الظالمون*} أي الذين يمشون كما يمشي من هو في الظلام بغير دليل، فهم لا يضعون قدماً في موضع يثقون بأنه صالح للمشي فيه، لا تبعة فيه فستنظرون {ولتعلمن نبأه بعد حين} {وقال فرعون} جواباً لهذا الترغيب والترهيب بعد الإعذار، ببيان الآيات الكبار، قانعاً في مدافعة ما رأى أنه اجتذب قومه الأغمار الأغبياء عن الجهل من ظهور تلك الآيات البينات بأن يوقفهم عن الإيمان إلى وقت ما، وكذا كانت عادته كلما أظهر موسى عليه الصلاة والسلام برهاناً، لأن قومه في غاية الغباوة والعراقة في الميل إلى الباطل والنفرة من الحق وترجيح المظنة على المئنة:{يا أيها الملأ} أي الأشراف، معظماً لهم استجلاباً لقلوبهم {ما علمت لكم} وأعرق في النفي فقال:{من إله غيري} نفى علمه بذلك إظهاراً للنصفة، وأنه ما قصد غشهم، وذلك منه واضح في أنه قصد تشكيكهم،

ص: 294

إشارة منه إلى أن انتقاء علمه بوجوده ما هو إلا لانتفاء وجوده بعد علمه بأن الحق مع موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أنهى ما قدر عليه بعد رؤيتهم لباهر الآيات، وظاهر الدلالات؛ ثم زاد في إيقافهم عن المتابعة بأن سبب عن جهله قوله لوزيره معلماً له صنعة الآجر لأنه أول من عمله، مع أنه هذه العبارة أشبه بهمم الجبابرة من أن يقول: اصنع لي آجراً: {فأوقد لي} أضاف الإيقاد إليه إعلاماً بأنه لا بد منه {يا هامان} وهو وزيره {على الطين} أي المتخذ لبناً ليصير آجراً؛ ثم سبب عن الإيقاد قوله: {فاجعل لي} أي منه {صرحاً} أي بناء عالياً يتاخم السماء، قال الطبري: وكل بناء مسطح فهو صرح كالقصر، وقال الزجاج: كل بناء متسع مرتفع {لعلي أطلع} أي أتكلف الطلوع {إلى إله موسى} أي الذي يدعوا إليه، فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهماً لهم أنه مما يمكن الوصول إليه على تقدير صحة الدعوى بأنه موجود، وهو قاطع بخلاف ذلك، ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت، لعلمه أن العادة جرت بأن أكثر

ص: 295

الناس يظنون بالملوك القدرة على كل ما يقولونه؛ ثم زادهم شكاً بقوله، مؤكداً لأجل دفع ما استقر في الأنفس من صدق موسى عليه الصلاة والسلام:{وإني لأظنه} أي موسى {من الكاذبين*} أي دأبه ذلك، وقد كذب هو ولبس لعنة الله ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة العريقة في العدوان، وإن كان هذا الكلام منه على حقيقته فلا شيء أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته منه حيث ظن أنه يصل السماء؛ ثم علل على تقدير الوصول يقدر على الارتقاء على ظهرها، ثم على تقدير ذلك يقدر على منازعة بانيها وسامكها ومعليها.

ولما قال هذا مريداً به - كما تقدم - إيقاف قومه عن إتباع الحق، أتبعه تعالى الإشارة إلى أنهم فعلوا ما أراد، وإن كان ذلك هو الكبر عن الحق فقال تعالى:{واستكبر} أي وأوجد الكبر بغاية الرغبة فيه {هو} بقوله هذا الذي صدهم به عن السبيل {وجنوده} بانصدادهم لشدة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل {في الأرض} أي أرض مصر، ولعله عرفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل {بغير الحق} أي استكباراً مصحوباً بغير هذه الحقيقة، والتعبير

ص: 296

بالتعريف يدل على أن التعظيم بنوع من الحق ليس كبراً وإن كانت صورته كذلك، وأما تكبره سبحانه فهو بالحق كله، وعطف على ذلك ما تفرع عنه وعن الغباوة أيضاً ولذا لم يعطفه بالفاء، فقال:{وظنوا} أي فرعون وقومه ظناً بنوا عليه اعتقادهم في أصل الدين الذي لا يكون إلا بقاطع {أنهم إلينا} أي إلى حكمنا خاصة الذي يظهر عنده انقطاع الأسباب {لا يرجعون*} أي لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلذلك اجترؤوا على ما ارتكبوه من الفساد.

ص: 297

ولما تسبب عن ذلك إهلاكهم قال: {فأخذناه} أي بعظمتنا أخذ قهر ونقمة {وجنوده} أي كلهم، وذلك علينا هين، وأشار إلى احتقارهم بقوله:{فنبذناهم} أي على صغرهم وعظمتنا {في اليم} فكانوا على كثرتهم وقوتهم كحصيات صغار قذفها الرامي الشديد الذراع من يده في البحر، فغابوا في الحال، وما آبوا ولا أحد منهم إلى أهل ولا مال. ولما سببت هذه الآية من العلوم، ما لا يحيط به الفهوم، قال:{فانظر} أي أيها المتعرف للآيات الناظر فيها نظر الاعتبار؛ وزاد في تعظيم ذلك بالتنبيه على أنه مما يحق له أن يسأل عنه فقال: {كيف كان} أي كوناً هو الكون {عاقبة} أي آخر أمر {الظالمين*} وإن زاد ظلمهم، وأعيى أمرهم، ذهبوا في طرفة عين، كأن لم يكونوا، وغابوا عن العيون كأنهم قط لم يبينوا، وسكتوا بعد ذلك الأمر والنهي

ص: 297

فصاروا بحيث لم يبينوا، فليحذر هؤلاء الذين ظلموا إن استمروا على ظلمهم أن ينقطعوا ويبينوا، وهذا إشارة عظيمة بأعظم بشارة بأن كل ظالم يكون عاقبته هكذا إن صابره المظلوم المحق، ورابطه حتى يحكم الله وهو خير الحالكمين.

ولما كان «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» وكانوا أول من أصر وأطبق في ذلك الزمان على تكذيب الآيات، وإخفاء الدلالات النيرات، على تواليها وكثرتها، وطول زمانها وعظمتها وكانت منابذة العقل واتباع الضلال في غاية الاستبعاد، لا سيما إن كانت ضامنة للهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، قال تعالى في مظهر العظمة:{وجعلناهم} أي في الدنيا {أئمة} أي متبوعين في رد ما لا يرده عاقل من هذه الآيات، أي جعلنا أمرهم شهيراً حتى لا يكاد أحد يجهله، فكل من فعل مثل أفعالهم من رد الحق والتجبر على الخلق، فكأنه قد اختار الاقتداء بهم وإن لم يكن قاصداً ذلك، فأطلق ذلك عليه رفعاً له عن النسبة إلى أنه يعمل ما يلزمه الاتسام به وهو عاقل عنه كما أنه لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل،

ص: 298

وأحق الناس باتباعهم في باطن اعتقادهم وظاهر اصطناعهم، وخيبة آمالهم وأطماعهم أهل الإلحاد بمذهب الاتحاد أهلك الله أنصارهم. وعجل دمارهم، وكشف هذا المعنى بقوله:{يدعون} أي يوجدون الدعاء لمن اغتر بحالهم، فضل ضلالهم {إلى النار} أي وجعلنا لهم أعواناً ينصرونهم عكس ما أردنا لبني إسرائيل - كما سلف أول السورة - وجعلناهم موروثين.

ولما كان الغالب من حال الأئمة النصرة، وكان قد أخبر عن خذلانهم في الدنيا، قال:{ويوم القيامة} أي الذي هو يوم التغابن {لا ينصرون*} أي لا يكون لهم نوع نصرة أصلاً كما كانوا يوم هلاكهم في الدنيا سواء، ولا هم أئمة ولا لهم دعوة، يخلدون في العذاب، ويكون لهم سوء المآب.

ولما أخبر عن هذا الحال، أخبر عن ثمرته؛ فقال في مظهر العظمة، لأن السياق لبيان علو فرعون وآله، وأنهم مع ذلك طوع المشيئة {وأتبعناهم في هذه} ولما كان المراد الإطناب في بيان ملكهم، فسر اسم الإشارة فقال:{الدنيا} ولم يقل: الحياة، لأن السياق لتحقير أمرهم ودناءة شأنهم {لعنة} أي طرداً وبعداً عن جنابنا ودفعاً لهم بذلك ودعاء عليهم بذلك من كل من سمع خبرهم بلسانه

ص: 299

إن خالفهم، أو بفعله الذي يكون عليهم مثل وزره إن والفهم {ويوم القيامة هم} أي خاصة، ومن شاكلهم {من المقبوحين*} أي المبعدين أيضاً المخزيين مع قبح الوجوه والأشكال، والشناعة في الأقوال والأفعال والأحوال، من القبح الذي هو ضد الحسن، ومن قولهم: قبحت الشيء - إذا كسرته، وقبح الله العدو: أبعده عن كل خير، فيا ليت شعري أي صراحة بعد هذا في أن فرعون عدو الله، في الآخرة كما كان عدوه في الدنيا، فلعنة الله على من يقول: إنه مات مؤمناً، وإنه لا صريح في القرآن بأنه من أهل النار، وعلى كل من يشك في كفره بعد ما ارتكبه من جلي أمره.

ولما وعد سبحانه بإمامة بني إسرائيل وقص القصص حتى ختم بإمامة آل فرعون في الدعاء إلى النار إعلاماً بأن ما كانوا عليه تجب مجانبته ومنابذته ومباعدته، وكان من المعلوم أنه لا بد لكل إمامة من دعامة، تشوفت النفس إلى أساس إمامة بني إسرائيل التي يجب العكوف في ذلك الزمان عليها، والتمسك بها، والمبادرة إليها، فأخبر سبحانه عن ذلك مقسماً عليه مع الافتتاح بحرف التوقع، لأن العرب وإن كانوا مصدقين لما وقع من المنة على بني إسرائيل بإنقاذهم من يد فرعون

ص: 300

وتمكينهم بعده، وإنزال الكتاب عليهم، فحالهم بإنكار التمكين لأهل الإسلام والتكذيب بكتابهم حال المكذب بأمر بني إسرائيل، لأنه لا فرق بين نبي ونبي، وكتاب وكتاب، وناس وناس، لأن رب الكل واحد، فقال:{ولقد آتينا} أي بما لنا من الجلال والجمال والمجد والكمال {موسى الكتاب} أي التوراة الجامعة للهدى والخير في الدارين؛ قال أبو حيان: وهو أول كتاب أنزلت فيه الفرائض والأحكام.

ولما كان حكم التوراة لا يستغرق الزمان الآتي، أدخل الجار فقال:{من بعد ما} إشارة إلى أن إيتاءها إنما هو في مدة من الزمان، ثم ينسخها سبحانه بما يشاء من أمره {أهلكنا} أي بعظمتنا {القرون الأولى} أي من قوم نوح إلى قوم فرعون، ووقتها بالهلاك إشارة إلى أنه لا يعم أمة من الأمم بالهلاك بعد إنزالها تشريفاً لها ولمن أنزلت عليه وأوصلت إليه؛ ثم ذكر حالها بقوله:{بصائر} جمع بصيرة، وهي نور القلب، مصابيح وأنواراً {للناس} أي يبصرون بها ما يعقل من أمر معاشهم ومعادهم، وأولاهم وأخراهم، كما أن نور العين

ص: 301

يبصر به ما يحسن من أمور الدنيا.

ولما كان المستبصر قد لا يهتدي لمانع قال: {وهدى} أي للعامل بها إلى كل خير. ولما كان المهتدي ربما حمل على من توصل إلى غرضه، وكان ضاراً، قال:{ورحمة} أي نعمة هنية شريفة، لأنها قائدة إليها.

ولما ذكر حالها، ذكر حالهم بعد إنزالها فقال:{لعلهم يتذكرون*} أي ليكون حالهم حال من يرجى تذكره، وهذا إشارة إلى أنه ليس في الشرائع ما يخرج عن العقل بل متى تأمله الإنسان تذكر به من عقله ما يرشد إلى مثله.

ص: 302

ولما بين سبحانه في هذه السورة من غرائب أمر موسى عليه الصلاة والسلام وخفي أحواله ما بين، وكانت هذه الأخبار لا يقدر أهل الكتاب على إنكارها، نوعاً من الإنكار، وكان من المشهور أي اشتهار، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرفها ولا سواها من غير الواحد القهار، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله حالاً من ضمير {آتينا} {وما كنت بجانب الغربي} أي الوادي من الطور الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار، وهو مما يلي البحر منه من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرفة من ناحية مصر، فناداه منه العزيز

ص: 302

الجبار، وهو ذو طوى {إذ} أي حين {قضينا} بكلامنا بما حوى من الجلال، وزاد العظمة في رفيع درجاته بالإشارة بحرف الغاية فقال:{إلى موسى الأمر} أي أمر إرساله إلى فرعون وقومه، وما نريد أن نفعل من ذلك في أوله وأثنائه وآخره مجملاً، فكان كل ما أخبرنا به مطابقاً تفصيله لإجماله، فأنت بحيث تسمع ذلك الذي قضيناه إليه من الجانب الذي أنت فيه {وما كنت} أي بوجه من الوجوه {من الشاهدين*} لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى في ذلك المكان في أوقاته مع من شهده منه من أهل ذلك العصر من السبعين الذين اختارهم أو غيرهم ممن تبعه أو صد عنه حتى تخبر به كله على هذا الوجه الذي أتيناك به في هذه الأساليب المعجزة، ولا شك أن أمر معرفتك كذلك منحصر في شهودك إياه في وقته أو تعلمك له من الخالق، أو من الخلائق الذين شاهدوه، أو أخبرهم به من شاهده، وانتفاء تعلمه من أحد من الخلائق في الشهرة بمنزلة انتفاء شهوده له في وقته، فلم يبق إلا تلقيه له من الخالق، وهو الحق الذي لا شبهة فيه عند منصف.

ولما كان التقدير: وما كنت من أهل ذلك الزمان الحاضرين

ص: 303

لذلك الأمر، وامتد عمرك إلى هذا الزمان حتى أخبرت بما كنت حاضره، استدرك ضد ذلك فقال:{ولكنا} أي بما لنا من العظمة {أنشأنا} أي بعد ما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة والإخبار، كلهم {قروناً} أي ما أخرنا أحداً من أهل ذلك الزمان، ولكنا أهلكناهم وأنشأنا بعدهم أجيالاً كثيرة {فتطاول} بمروره وعلوه {عليهم العمر} جداً بتدريج من الزمان شيئاً فشيئاً فنسيت تلك الأخبار، وحرفت ما بقي منها الرهبان والأحبار، ولا سيما في زمان الفترة، فوجب في حكمتنا إرسالك فأرسلناك لتقوم المحجة، وتقوم بك الحجة، فعلم أن إخبارك بهذا والحال أنك لم تشاهده ولا تعلمته من مخلوق إنما هو عنا وبوحينا.

ولما نفى العلم بذلك بطريق الشهود، نفى سبب العلم بذلك فقال:{وما كنت ثاوياً} أي مقيماً إقامة طويلة مع الملازمة بمدين {في أهل مدين} أي قوم شعيب عليه السلام {تتلوا} أي تقرأ على سبيل القص للآثار والأخبار الحق {عليهم آياتنا} العظيمة، لتكون ممن يهتم بأمور الوحي وتتعرف دقيق أخباره، فيكون خبرهم وخبر موسى عليه الصلاة والسلام معهم وخبره بعد فراقه لهم

ص: 304

من شأنك، لتوفر داعيتك حينئذ على تعرفه {ولكنا كنا} أي كوناً أزلياً أبدياً نسبته إلى جميع الأزمنة بما لنا من العظمة، على حد سواء {مرسلين*} أي لنا صفة القدرة على الإرسال، فأرسلنا إلى كل نبي في وقته ثم أرسلنا إليك في هذا الزمان بأخبارهم وأخبار غيرهم لتنشرها في الناس، واضحة البيان سالمة من الإلباس، لأنا شاهدين لذلك كله، لم يغب عنا شيء منه ولا كان إلا بأمرنا.

ولما نفى السبب المبدئي للعلم بذلك الإجمال ثم الفائي للعلم بتفصيل تلك الوقائع والأعمال، نفى السبب الفائي للعم بالأحكام ونصب الشريعة بما فيها من القصص والمواعظ والحلال والحرام والآصار والأغلال بقوله:{وما كنت بجانب الطور إذ} أي حين {نادينا} أي أوقعنا النداء لموسى عليه الصلاة والسلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو قبله، ومن المشهور أنك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله، لأنك ما خالطت أحداً ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه الصلاة والسلام، ولا أحد أحملها عمن حملها عنه، ولكن ذلك كان إليك منا، وهو معنى قوله:{ولكن} أي أنزلنا ما أردنا منه ومن غيره عليك وأوحيناه إليك وأرسلناك به إلى الخلائق {رحمة من ربك} لك خصوصاً وللخلق عموماً {لتنذر} أي تحذر

ص: 305

تحذيراً كبيراً {قوماً} أي أهل قوة ونجدة، ليس لهم عائق من أعمال الخير العظيمة، لا الإعراض عنك، وهم العرب، ومن في ذلك الزمان من الخلق {ما آتاهم} وعم المنفي بزيادة الجار في قوله:{من نذير} أي منهم، وهم مقصودون بإرساله إليهم وإلا فقد أتتهم رسل موسى عليه السلام، ثم رسل عيسى عليه الصلاة والسلام، وإن صح أمر خالد بن سنان العبسي فيكون نبياً غير رسول، أو يكون رسولاً إلى قومه بني عبس خاصة، فدعاؤه لغيرهم إن وقع فمن باب الأمر بالمعروف عموماً، لا الإرسال خصوصاً، فيكون التقدير: نذير منهم عموماً، وزيادة الجار في قوله:{من قبلك} تدل على الزمن القريب، وهو زمن الفترة، وأما ما قبل ذلك فقد كانوا فيه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى غيره عمرو بن لحي فقد أنذرهم في تلك الأزمان إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم إسماعيل عليه الصلاة والسلام ثم من بعدهم من صالحي ذريتهم إلى زمان عمرو بن لحي، فهم لأجل عدم النذير عمي، عن الهدي، سالكون سبيل الردى، وقال:{لعلهم يتذكرون*} لمثل ما تقدم من أنهم إذا قبلوا ما جئت به وتدبروه أذكرهم إذكاراً ظاهراً - بما أشار إليه

ص: 306

الإظهار - ما في عقولهم من شواهده وإن كانت لا تستقل بدونه والله الموفق.

ولما كان انتفاء إنذارهم قبله عليه الصلاة والسلام نافياً للحجة في عذابهم بما أوجبه الله - وله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل - على نفسه الشريفة، فضلاً منه ورحمة، ذكر أن إرساله مما لا بد منه لذلك فقال:{ولولا} أي ولولا هذا الذي ذكرناه ما أرسلناك لتنذرهم، ولكنه حذف هذا الجواب إجلالاً له صلى الله عليه وسلم عن المواجهة به، وذلك الذي ختم الإرسال هو {أن تصيبهم} أي في وقت من الأوقات {مصيبة} أي عظيمة {بما قدمت أيديهم} أي من المعاصي التي قضينا بأنها مما لا يعفى عنه {فيقولوا ربنا} أي أيها المحسن إلينا {لولا} أي هل لا ولم لا {أرسلت إلينا} أي على وجه التشريف لنا، لنكون على علم بأنا ممن يعتني الملك الأعلى به {رسولاً} وأجاب التخصيص الذي شبهوه بالأمر لكون كل منهما باعثاً على الفعل بقوله:{فنتبع} أي فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع {آياتك ونكون} أي كوناً هو في غاية الرسوخ {من المؤمنين*} أي المصدين بك في كل ما أتى به عنك رسولك صلى الله عليه وسلم تصديقاً بليغاً، فإذا قالوا

ص: 307

ذلك على تقدير عدم الإرسال قامت لهم حجة في مجاري عاداتكم وإن كانت لنا الحجة البالغة.

ص: 308

ولما كان التقدير: ولكنا أرسلناك بالحق لقطع حجتهم هذه، بنى عليه قوله:{فلما جاءهم} أي أهل مكة {الحق} الذي هو أعم من الكتاب والسنة وما يقاس عليهما، وهو في نفسه جدير بأن يقبل لكونه في الذروة العليا من الثبات، فكيف وهو {من عندنا} على ما لنا من العظمة، وعلى لسانك وأنت أعظم الخلق! {قالوا} أي أهل الدعوة من العرب وغيرهم تعنتاً كفراً به:{لولا أوتي} من الآيات، أي هذا الآتي بما يزعم أنه الحق، وبني للمفعول لأن القصد مطلق الإيتاء لأنه الذي يترتب عليه مقصود الرسالة، مع أن المؤتى معلوم {مثل ما أوتي موسى} أي من اليد والعصا وغيرهما من الآيات التي لا يقدر على إتيانها إلا القادر على كل شيء.

ولما كان الإتيان بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام لا يكون موجباً للإيمان على زعمهم إلا بأن يكون أعظم مما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، أو يكون الناس لم يتوقفوا في الإيمان به، وكان كل من الأمرين منتفياً بأن أهل زمانه كفرو به، وهو لما سألوا

ص: 308

اليهود عن محمد صلى الله عليه وسلم وأمروهم أن يمتحنوه بالروح وقصتي أهل ألكهف وذي القرنين وجاء في كل من ذلك بما لزمهم تصديقه، فامتنعوا وأصروا على كفرهم، وكان في ذلك كفرهم به وبموسى عليهما الصلاة والسلام، فعلم أن التقدير: ألم يكفروا بما أتاهم به من الآيات الباهرة مع أنه مثل ما أتى به موسى عليهما الصلاة والسلام، بل أعظم منه {أولم يكفروا} أي العرب ومن بلغتهم الدعوة من بني إسرائيل أو من شاء الله منهم أو أبناء جنسهم ومن كان مثلهم في البشرية والعقل في زمن موسى عليه السلام {بما أوتي موسى} .

ولما كان كل من إتيانه وكفرهم لم يستغرق زمان القبل، أثبت الجار فقال:{من قبل} أي من قبل مجيء الحق على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إليهم. ولما كان كأنه قيل: ما كان كفرهم به؟ قيل: {قالوا} أي فرعون وقومه ومن كفر من بني إسرائيل كقارون ومن تبعه. ولما كان قد تقدم هنا قريباً أن المظاهر له أخوه، فكان المراد واضحاً، أضمرهما فقال:{ساحران} أي هو وأخوه {تظاهرا} أي أعان كل منهما صاحبه على سحره حتى صار سحرهما معجزاً فغلبا جميع السحرة، وتظاهر الساحرين من تظاهر السحرين - على قراءة الكوفيين، ويجوز - وهو أقرب أن يكون الضمير لمحمد وموسى

ص: 309

عليهما الصلاة والسلام، وذلك لأنه روي أن قريشاً بعثت إلى يهود فسألوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فأخبروهم أن نعته في كتابهم، فقالوا هذه المقالة، فيكون الكلام استئنافاً لجواب من كأنه قال: ما كان كفرهم بهما؟ فقيل: قالوا - أي العرب: الرجلان ساحران، أو الكتابان سحران، ظاهر أحدهما الآخر مع علم كل ذي لب أن هذا القول زيف.

لأنه لو كان شرط إعجاز السحر التظاهر، لكان سحر فرعون أعظم إعجازاً، لأنه تظاهر عليه جميع سحرة بلاد مصر وعجزوا عن معارض ما أظهر موسى عليه الصلاة والسلام من آية العصا، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد دعا أهل الأرض من الجن والإنس إلى معارضة كتابه وأخبرهم أنهم عاجزون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً فعجزوا.

ولما تضمن قولهم ذلك الكفر، صرحوا به في قولهم:{وقالوا} أي كفار قريش أو المتقدمون من فرعون وأضرابه: {إنا بكل} من الساحرين أو السحرين اللذين تظاهرا بهما، وهما ما أتيا به من عند الله {كافرون*} جرأة على الله وتكبراً على الحق.

ولما قالوا ذلك، كان كأنه قيل: فماذا فعل؟ قال: {قل}

ص: 310

إلزاماً لهم إن كنتم صادقين في أني ساحر وكتابي سحر وكذلك موسى عليه الصلاة والسلام: {فأتوا بكتاب} وأشار بالتعبير في وصفه بعند دون لدن إلى أنه يقنع منهم بكونه حكيماً خارقاً للعادة في حكمته وإن لم يبلغ الذروة في الغرابة بأن انفك عن الإعجاز في نظمه كالتوراة فقال: {من عند الله} أي الملك الأعلى، ينطق بأنه نم عنده أحواله وحكمته وجلاله {هو} أي الذي أتيتم به {أهدى منهما} أي مما أتيت به ومما أتى به موسى {أتبعه} أي واتركهما.

ولما أمرهم بأمره بالإتيان، ذكر شرطه من باب التنزل، لإظهار النصفة، وهو في الحقيقة تهكم بهم فقال:{إن كنتم} أيها الكفار! كوناً راسخاً {صادقين*} أي في أنا ساحران، فائتوا ما ألزمتكم به.

ولما كان شرط صدقهم، بين كذبهم على تقدير عدم الجزاء فقال:{فإن لم يستجيبوا} أي الكفار الطالبون للأهدى في الإتيان به. ولما كانت الاستجابة تتعدى بنفسها إلى الدعاء، وباللام إلى الداعي، وكان ذكر الداعي أدل على الاعتناء به والنظر إليه، قال

ص: 311

مفرداً لضميره صلى الله عليه وسلم لأنه لا يفهم المقايسة في الأهدوية غيره: {لك} أي يطلبوا الإجابة ويوجدوها في الإيمان أوالإتيان بما ذكرته لهم ودعوتهم إليه مما هو أهدى، من القرآن والتوراة ليظهر صدقهم {فاعلم} أنت {أنما يتبعون} أي بغاية جهدهم فيما هم عليه من الكفروالتكذيب {أهواءهم} أي دائماً، وأكثر الهوى مخالف للهدى فهم ظالمون غير مهتدين، بل هم أضل الناس، وذلك معنى قوله:{ومن أضل} أي منهم، ولكنه قال:{ممن اتبع} أي بغاية جهده {هواه} تعليقاً للحكم بالوصف؛ والتقييد وبقوله: {بغير هدى} أي بيان وإرشاد {من الله} أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال دليل على أن الهوى قد يوافق الهدى، والتعبير بالافتعال دليل على أن التابع وإن كان ظالماً قد لا يكون أظلم.

ولما كانت متابعة الهوى على هذا الصورة ظلماً، وصل به قوله مظهراً لئلا يدعى التخصيص بهم:{إن الله} أي الملك الأعظم الذي لا راد لأمره {لا يهدي} وأظهر موضع الإضمار للتعميم فقال: {القوم الظالمين*} أي وإن كانوا أقوى الناس لاتباعهم أهوائهم، فالآية من الاحتباك: أثبت أولاً اتباع الهوى دليلاً على حذفه ثانياً، وثانياً الظلم دليلاً على حذفه أولاً.

ص: 312

ولما أبلغ في هذه الأساليب في إظهار الخفايا، وأكثر من نصب الأدلة على الحق وإقامة على وجوب اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا بإعراضهم عن ذلك كله كأنهم منكرون لأن يكون جاءهم شيء من ذلك، قال ناسقاً على ما تقديره: فلقد آتيناك في هذه الآيات بأعظم البينات، منبهاً بحرف التوقع المقترن بأداة القسم على أنه مما يتوقع هنا أن يقال:{ولقد وصلنا} أي على ما لنا من العظمة التي مقتضاها أن يكفي أدنى إشارة منها {لهم} اي خاصة، فكان تخصيصهم بذلك منة عظيمة يجب عليهم شكرها {القول} أي أتبعنا بعض القول - الذي لا قول في الحقيقة سواه - بعضاً بالإنزال منجماً، قطعاً بعضها في أثر بعض، لتكون جواباً لأقولهم، وحلاًّ لإشكالهم، فيكون أقرب إلى الفهم، وأولى بالتدبر، مع تنويعه في وعد ووعيد، وأخبار ومواعظ، وحكم ونصائح، وأحكام ومصالح، وأكثرنا من ذلك حتى كانت آياته المعجزات وبيناته الباهرات كأنها أفراس الرهبان، يوم استباق الأقران، في حومة الميدان، غير أن كلاًّ منهما سابق في العيان.

ولما بكتهم بالتنبيه بهذا التأكيد على مبالغتهم في الكذب بالقول أو بالفعل في أنه ما أتاهم ما يقتضي التذكير أتبع ذلك التوصيل عليه فقال: {لعلهم يتذكرون*} أي ليكون حالهم حال الذين يرجى لهم

ص: 313

أن يرجعوا إلى عقولهم فيجدوا فيما طبع فيها ما يذكرهم بالحق تذكيراً، بما أشار إليه الإظهار.

ولما كان من التذكر ما دل عليه مجر العقل، ومنه ما انضم إليه مع ذلك العقل، وكان صاحب هذا القسم أجدر بأن يتبصر، وكان كأنه قيل: هل تذكروا؟ قيل: نعم أهل الكتاب الذين هم أهله حقاً تذكروا حقاً، وذلك معنى قوله:{الذين آتيناهم} أي بعظمتنا التي حفظناهم بها {الكتاب} أي العلم من التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الأنبياء، وهم يتلون ذلك حق تلاوته، في بعض الزمان الذي كان {من قبله} أي القرآن {هم} أي خاصة {به} أي القرآن، لا بشيء مما يخالفه {يؤمنون*} أي يوقعون الإيمان به في حال وصوله إليهم إيماناً لا يزال يتجدد؛ ثم أكد هذا المعنى بقوله:{وإذا يتلى} أي تتجدد تلاوته {عليهم قالوا} مبادرين: {آمنا به} ثم عللوا ذلك بقولهم الدال على غاية المعرفة، مؤكدين لأن من كان على دين لا يكاد يصدق رجوعه عنه، فكيف إذا كان أصله حقاً من عند الله، {إنه الحق} أي الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل، مع كونه {من ربنا} المحسن إلينا،

ص: 314

وكل من الوصفين موجب للتصديق والإيمان به؛ ثم عللوا مبادرتهم إلى الإذعان منبهين على أنهم في غاية البصيرة من أمره بأنهم يتلون ما عندهم حق تلاوته، لا بألسنتهم فقط، فصح قولهم الذي دل تأكيدهم له على اغتباطهم به الموجب لشكره:{إنا كنا} أي كوناً هو في غاية الرسوخ؛ وأشار إلى أن من صح إسلامه ولو في زمن يسير أذعن لهذا الكتاب، بإثبات الجار، فقال:{من قبله مسلمين*} أي منقادين غاية الانقياد لما جاءنا من عند الله من وصفه وغير وصفه وافق هوانا وما ألفناه أو خالفه، لا جرم كانت النتيجة:{أولئك} أي العالو الرتبة {يؤتون} بناه للمفعول لأن القصد الإيتاء، والمؤتى معروف {أجرهم مرتين} لإيمانهم به غيباً وشهادة، أو بالكتاب الأول ثم الكتاب الثاني {بما صبروا} على ما كان من الإيمان قبل العيان، بعدما هزهم إلى النزوع عنه إلف دينهم الذي كان، وغير ذلك من امتحان الملك الديان.

ولما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوىء، قال عاطفاً على {يؤمنون} مشيراً إلى تجديد هذه الأفعال كل حين:{ويدرءون بالحسنة} من الأقوال والأفعال {السيئة} أي من ذلك كله فيمحونها بها.

ص: 315

ولما كان بعض هذا الدرء لا يتم إلا بالجود قال: {ومما رزقناهم} أي بعظمتنا، لا بحول منهم ولا قوة، قليلاً كان أو كثيراً {ينفقون*} معتمدين في الخلق على الذي رزقه؛ قال البغوي: قال سعيد بن جبير: قدم مع جعفر رضي الله تعالى عنه من الحبشة أربعون رجلاً، يعني: فأسلموا، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في أموالهم، فأتوا بها فواسوا بها المسلمين.

ص: 316

ولما ذكر أن السماح بما تضن النفوس به من فضول الأموال من أمارات الإيمان، أتبعه أن حزن ما تبذله الألسن من فضول الأقوال من علامات العرفان، فقال:{وإذا سمعوا اللغو} أي ما لا ينفع في دين ولا دنيا من شتم وتكذيب وتعبير ونحوه {أعرضوا عنه} تكرماً عن الخنا {وقالوا} أي وعظاً وتسميعاً لقائله: {لنا} أي خاصة {أعمالنا} لا تثابون على شيء منها ولا تعاقبون {ولكم} أي خاصة {أعمالكم} لا نطالب بشيء منها، فنحن لا نشتغل بالرد عليكم لأن ذمكم لنا لا ينقصنا شيئاً من أجرنا ولا الاشتغال برده ينقصنا.

ولما كان معنى هذا أنهم سالمون منهم، صرحوا لهم به فقالوا:

ص: 316

{سلام عليكم} أي منا. ولما جرت العادة بأن مثل هذا يكسر اللاغي، ويرد الباغي، أشاروا لهم إلى قبح حالهم، رداً على ضلالهم، بقولهم تعليلاً لما مضى من مقالهم:{لا نبتغي} أي لا نكلف أنفسنا أن نطلب {الجاهلين*} أي نريد شيئاً من أحوالهم أو أقوالهم، أو غير ذلك من خلالهم.

ولما كان من المعلوم أن نفس النبي صلى الله عليه وسلم لما جبلت عليه من الخير والمحبة لنفع جميع العباد، لا سيما العرب، لقربهم منه صلى الله عليه وسلم، لاسيما أقربهم منه صلة للرحم تتأثر بسبق أهل الكتاب لقومه، وكان ربما ظن ظان أن عدم هدايتهم لتقصير في دعائه أو إرادته لذلك، وأنه لو أراد هدايتهم وأحبها، وعلق همته العلية بها لاهتدوا، أجيب عن هذا بقوله تعالى في سياق التأكيد إظهاراً لصفة القدرة والكبرياء والعظمة:{إنك لا تهدي من أحببت} أي نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه، وإنما في يدك الهداية التي هي الإرشاد والبيان.

ولما كان ربما ظن من أجل الإخبار بتوصيل القول وتعليله ونحو ذلك من أشباهه أن شيئاً من أفعالهم يخرج عن القدرة، قال نافياً لهذا الظن مشيراً إلى الغلط في اعتقاده بقوله:{ولكن الله} المتردي برداء الجلال والكبرياء والكمال وله الأمر كله {يهدي من يشاء} هدايته

ص: 317

بالتوفيق إلى ما يرضيه {وهو} أي وحده {أعلم بالمهتدين*} أي الذين هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم، فيكونوا عريقين فيه سواء كانوا من أهل الكتاب أو العرب، أقارب كانوا أو أباعد، روى البخاري في التفسير عن سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه: «قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيره، فقال: أي عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله عز وجل {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم {إنك لا تهدي من

ص: 318

أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} - الآية -»

انتهى وقال في كتاب التوحيد: {إنك لا تهدي من أحببت} قال سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه: نزلت في أبي طالب، وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتوحيد فقال: لولا أن تعيرني نساء قريش لأقررت بها عينك فأنزل الله الآية.

ولما عجب من حال قريش في طلبهم من الآيات مثل ما أوتي موسى عليه الصلاة والسلام ثم كفرهم به وبما هو أعظم منه، وختم بأنه أعلم بأهل الخير وأهل الشر، إشارة إلى الإعراض عن الأسف على أحد، والإقبال على عموم الدعاء للقريب والبعيد على حد سواء، قال دليلاً على ذلك لأنهم إنما يتبعون أهواءهم، عاطفاً على قالوا {لولا أوتي} {وقالوا إن نتبع} أي غاية الاتباع {الهدى} أي الإسلام فنوحد الله من غير إشراك {معك} أي وأنت على ما أنت عليه من مخالفة الناس {نتخطف} أي من أي خاطف أردنا، لأنا نصير قليلاً في كثير. من غير نصير {من أرضنا} كما تتخطف العصافير لمخالفة كافة العرب لنا، وليس لنا نسبة إلى كثرتهم ولا قوتهم فيسرعو إلينا فيتخطفونا، أي يتقصدون خطفنا واحداً واحداً، فإنه لا طاقة لنا على إدامة الاجتماع وأن لا يشذ بعضنا عن بعض؛ قال البغوي:

ص: 319

والاختطاف: الانتزاع بسرعة.

ولما كان التقدير في الرد على هذا الكلام الواهي: ألم نحمك ومن اتبعك منهم وقد جئتموهم من الخلاف بمثل ما يخالفون هم، به العرب أو أشد، ولا نسبة لكم إلى عددهم ولا جلدهم، عطف عليه قوله:{أولم نمكن} أي غاية التمكين {لهم} في أوطانهم ومحل سكناهم بما لنا من القدرة {حرماً آمناً} أي ذا أمن يأمن فيه كل خائف حتى الطير من كواسرها والوحش من جوارحها، حتى أن سيل الحل لا يدخل الحرم، بل إذا وصل إليه عدل عنه؛ قال ابن هشام في استيلاء كنانة وخزاعة على البيت: وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلماً ولا بغياً، لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته - انتهى. وكان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه فيها فلا يهيجه ولا يعرض له بسوء؛ وروى الأزرقي في تأريخ مكة بسنده عن حويطب بن عبد العزى رضي الله عنه قال: كانت في الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد، فجاء خائف ليدخل يده فاجتذبه رجل فشلت يده،

ص: 320

فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشل، وروي عن ابن جريج قصة العرب من غير قريش في أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا إن أعارتهم قريش ثياباً، فجاءت امرأة فطافت عريانة وكان لها جمال فرآها رجل فأعجبته فدخل فطاف إلى جنبها، فأدنى عضده من عضدها، فالتزقت عضده بعضدها، فخرجا من المسجد هاربين على وجوههما فزعين لما أصابهما من العقوبة، فلقيهما شيخ من قريش فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابا فيه الذنب، فيدعوان ويخلصان أن لا يعودا، فدعوا وأخلصا النية، فافترقت أعضادهما فذهب كل واحد منهما في ناحية، وبسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أخذ رجل ذود ابن عم له فأصابه في الحرم فقال: ذودي: فقال اللص: كذبت، قال: فاحلف، فحلف عند المقام، فقام رب الذود بين الركن والمقام باسطاً يديه يدعو، فما برح مقامه يدعو حتى ذهب عقل اللص وجعل يصيح بمكة: ما لي، وللزود، ما لي، ولفلان - رب الزود، فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الزود فدفعه إلى المظلوم، فخرج به وبقي الآخر متولهاً حتى وقع من جبل فتردى فأكلته السباع.

وعن أيوب بن موسى أن امرأة في الجاهلية كان معها ابن عم لها صغير فقالت له: يا بني: إني

ص: 321

أغيب عنك وإني أخاف أن يظلمك أحد، فإن جاءك ظالم بعدي فإن لله بمكة بيتاً لا يشبهه شيء من البيوت، وعليه ثياب ولا يقاربه مفسد، فإن ظلمك ظالم يوماً فعذبه، فإن له رباً سيمنعك، فجاءه رجل فذهب به فاسترقه، قال: وكان أهل الجاهلية يعمرون أنعامهم فأعمر سيده ظهره، فلما رأى الغلام البيت عرف الصفة فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت، وجاءه سيده فمد يده إليه ليأخذه، فيبست يده، فمد الأخرى فيبست، فاستفتى فأفتى أن ينحر عن كل واحدة من يدية بدنة، ففعل فأطلقت يداه، وترك الغلام وخلى سبيله. وعن عبد العزيز بن أبي رواد أن قوماً انتهوا إلى ذي طوى، فإذا ظبي قد دنا منهم، فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه فقال له أصحابه: ويحك! أرسله، فجعل يضحك ويأبى أن يرسله، فبعر الظبي وبال؛ ثم أرسله، فناموا في القائلة فانتبهوا، فإذا بحية منطوية على بطن الرجل الذي أخذ الظبي، فلم تنزل الحية عنه حتى كان منه من الحديث مثل ما كان من الظبي. وعن مجاهد قال: دخل قوم مكة نجاراً من الشام في الجاهلية فنزلوا ذا طوى فاختبزوا ملة لهم ولم يكن معهم إدام، فرمى رجل منهم ظبية من ظباء الحرم

ص: 322

وهي حولهم ترعى فقاموا إليها فسلخوها وطبخوا لحمها ليأتدموا به، فبينما قدرهم على النار تغلي بلحمة إذ خرجت من تحت القدر عنق من النار عظيمة فأحرقت القوم جميعاً ولم تحترق ثيابهم ولا أمتعتهم ولا السمرات التي كانوا تحتها.

وفي سيرة أبي ربيع بن سالم الكلاعي أن رجلاً من كنانة بن هذيل ظلم ابن عم له فخوفه بالدعاء في الحرم، فقال: هذه ناقتي فلانة اركبها فاذهب إليه فاجتهد في الدعاء، فجاء الحرم في الشهر الحرام، فقال: اللهم إني ادعوك جاهداً مضطراً على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له، ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه فصار مثل الزق، فما زال ينتفخ حتى انشق، وأن عمر رضي الله عنه سال رجلاً من بني سليم عن ذهاب بصره، فقال: يا أمير المؤمنين! كنا بني ضبعاء عشرة، وكان لنا ابن عم فكنا نظلمه فكان يذكرنا بالله، وبالرحم، فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه يقول:

لا همّ أدعوك دعاء جاهداً

اقتل بني الضبعاء إلا واحدا

ص: 323

ثم اضرب الرجل ودعه قاعداً

أعمى إذا قيد يعيي القائدا

قال: فمات إخوتي التسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد، وبقيت أنا فعميت، ورماني الله عز وجل في رجلي، فليس يلائمني قائد، فقال عمر رضي الله عنه: سبحان الله إن هذا لهو العجب، جعل الله هذا في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وشرفها، لينتكب الناس عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة، فلما جاء الدين، صار الموعد الساعة، ويستجيب الله لمن يشاء، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين - انتهى. وكأنه لمثل ذلك عبر بالتمكين ويتخطف الناس من حولهم كما يأتي تأكيده في التي بعدها، وقد كان قبل ذلك بقعة من بقاع الأرض لا مزية له على غيره بنوع مزية، فالتقدير: إنما فعلنا ذلك بعد سكنى إسماعيل عليه الصلاة والسلام، توطئة لما أردنا من الحكم والأحكام، أو ليس الذي قدر على ذلك وفعله لمن يعبد غيره بقادر على حماية من يدخل في دينه، وقد صار من حزبه بأنواع الحمايات، وإعلائه على كل من يناويه إلى أعلى الدرجات، كما فعل في حمايتكم منهم ومن غيرهم من سائر المخالفين أعداء الدين.

ولما وصفه بالأمن، أتبعه ما تطلبه النفس بعده فقال:{يجبى} أي يجمع ويجلب مما لا يرجونه ولا قدرة لهم على استجلابه {إليه}

ص: 324

أي خاصة، دون غيره من جزيرة العرب {ثمرات كل شيء} من النبات الذي بأرض العرب من ثمر البلاد الحارة كالبسر والرطب والموز والنبق، والباردة كالعنب والتفاح والرمان والخوخ، وفي تعبيره بالمضارع وما بعده إشارة إلى الاستمرار وأنه يأتي إليه بعد ذلك من كل ما في الأرض من المال، ما لم يخطر لأحد منهم في بال، وقد صدق الله فيما قال كما تراه - ومن أصدق من الله قيلاً.

ولما كان مجموع ما رزقهم في هذا الحرم من الأمن بأسبابه من الإسراع باصابة من آذى فيه بأنواع العقوبات، وجباية هذه الثمرات، في غاية الغرابة في تلك الأراضي اليابسة الشديدة الحر، المحفوفة من الناس بمن لا يدين ديناً، ولا يخشى عاقبة، ولا له ملك قاهر من الناس يرده، ولا نظام من سياسة العباد يمنعه، عبر عنه سبحانه مع مظهر العظمة بلدان فقال:{رزقاً من لدنا} أي من أبطن ما عندنا وأغربه، لا صنع لأحد فيه كما تعلم ذلك أنت ومن أتبعك ومن فيه قابلية الهداية منهم، وكل ذلك إنما هو لأجلك بحلولك في هذا الحرم مضمراً في الأصلاب، ومظهراً في تلك أشعاب، توطئة لنبوتك، وتمهيداً لرسالتك، ومتى غبت عنهم غاب عنهم ذلك كله وسينظرون.

ص: 325

ولما كان هذا الذي أبدوه عذراً عن تخلفهم عن الهدى يظنونه من نفائس العلم، رده تعالى نافياً عمن لم يؤمن منهم جميع العلم الذي بنفيه ينتفي أن يكون هذا الفرد علماً، فقال في أسلوب التأكيد لذلك:{ولكن أكثرهم} أي أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له {لا يعلمون*} أي ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بترتيب أسبابه حتى تمكن ذلك وتم فلا قدرة لأحد على تغييره، وإنا قادرون على أن نمنعهم - إذا تابعوا أمرنا - ممن يريدهم، بل نسلطهم على كل من ناواهم، كقدرتنا على ما مكنا لهم وهو خارج عن القياس على ما يقتضيه عقول الناس، وإنا قادرون على سلب ذلك كله عنهم لإصرارهم على الكفر، ولا بد أن نذيقهم ذلك أجمع بعد هجرتك ليعلموا أنه إنما نالهم ذلك ببركتك، ولو علموا ذلك لشكروا، ولكنهم جهلوا فكفروا، ولذلك أنذروا {ولتعلمن نبأه بعد حين} .

ولما أخبر تعالى أنه قادر على التأمين والإنجاء والتمكين مع الضعفة، أتبعه الإعلام بقدرته على الإخافة والإهلاك مع القوة، ترغيباً لهم - إن آمنوا - بإهلاك أضدادهم، وترهيباً - إن أصروا - من المعاملة بعكس مرادهم، فقال في مظهر العظمة عاطفاً على معنى

ص: 326

الكلام: {وكم أهلكنا} ويجوز أن يكون حالاً من ضمير نمكن أي فعلنا بهم ما ذكرنا من النعمة مع ضعفهم وعجزهم، والحال أنا كثيراً ما أهلكنا الأقوياء، وأشار إلى تأكيد التكثير مع تمييز المبهم بقوله:{من قرية} ، وأشار إلى سبب الإهلاك بقوله:{بطرت معيشتها} أي وقع منها البطر في زمان عيشها الرخي الواسع، فكان حالهم كحالكم في الأمن وإدرار الرزق، فلما بطروا معيشتهم أهلكناهم، ومعنى بطرهم لها أنهم شقوها بمجاوزة الحد في المرح، والأشر والفرح، إلى أن تعدوها فأفسدوها وكفروها فلم يشكروها، بل فعلوا في تلقيها فعل الحائر المدهوش، فلم يحسنوا رعايتها، وقل احتمالهم لحق النعمة فيها، فطغوا في التقلب عند مصاحبتها وتكبروا بها، وتمادوا في الغي قولاً وفعلاً، من أجل ما عمهم من الرفاهية عن تقييدها وساء احتمالهم للغنى بها، وطيب العيش فيها، فأبطلوها بهذه الخصائل، وأذهبوها هدراً من غير مقابل، وذلك من قول أهل اللغة: البطر: الأشر، وقلة احتمال النعمة، والدهش والحيرة والطغيان بالنعمة، والفعل من الكل كفرح، وبطر الحق أن يتكبر عنه فلا يقبله، وبطره كنصره وضربه: شقه، والبطور: الصخاب الطويل

ص: 327

اللسان، والمتمادي في الغي، وأبطره ذرعه: حمله فوق طاقته، وذهب دمه بطراً - بالكسر، أي هدراً وبطرهم لها أنهم عصوا من خولهم فيها، فخالفوا أمره، وأنساهم الكبر بما أعطاهم ذكره.

ولما تسبب عن هذا الإخبار تشوف النفس إلى آثار هذه الديار، سبب عنه الإشارة بأداة البعد إلى منازلهم، تنبيهاً على كثرتها وسهولة الوصول إليها في كل مكان، لكونها بحيث يشار إليها وعلى بعد رتبتها في الهلاك دليلاً على الجملة التي قبلها فقال:{فتلك مساكنهم} .

ولما كان المعنى أنها خاوية على عروشها وصل به قوله: {لم تسكن} أي من ساكن ما مختار أو مضطر. ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره، أثبت الجار فقال:{من بعدهم} بعد أن طال ما تغالوا فيها ونمقوها، وزخرفوها وزوقوها، وزفوا فيها الأبكار، وفرحوا بالأعمال الكبار، {إلا} سكوناً {قليلاً} بالمارة عليها ساعة من ليل أو من نهار، ثم يصير تباباً موحشة كالقفار، بعد أن كانت متمنعة القبا، ببيض الصفاح وسمر القنا.

ولما صارت هذه الأماكن بعد الخراب لا متصرف فيها ظاهراً إلا الله، ولا حاكم عليها فيما تنظره العيون سواه، وكان هذا أمراً

ص: 328

اللسان، والمتمادي في الغي، وأبطره ذرعه: حمله فوق طاقته، وذهب دمه بطراً - بالكسر، أي هدراً وبطرهم لها أنهم عصوا من خولهم فيها، فخالفوا أمره، وأنساهم الكبر بما أعطاهم ذكره.

ولما تسبب عن هذا الإخبار تشوف النفس إلى آثار هذه الديار، سبب عنه الإشارة بأداة البعد إلى منازلهم، تنبيهاً على كثرتها وسهولة الوصول إليها في كل مكان، لكونها بحيث يشار إليها وعلى بعد رتبتها في الهلاك دليلاً على الجملة التي قبلها فقال:{فتلك مساكنهم} .

ولما كان المعنى أنها خاوية على عروشها وصل به قوله: {لم تسكن} أي من ساكن ما مختار أو مضطر. ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره، أثبت الجار فقال:{من بعدهم} بعد أن طال ما تغالوا فيها ونمقوها، وزخرفوها وزوقوها، وزفوا فيها الأبكار، وفرحوا بالأعمال الكبار، {إلا} سكوناً {قليلاً} بالمارة عليها ساعة من ليل أو من نهار، ثم يصير تباباً موحشة كالقفار، بعد أن كانت متمنعة القبا، ببيض الصفاح وسمر القنا.

ولما صارت هذه الأماكن بعد الخراب لا متصرف فيها ظاهراً إلا الله، ولا حاكم عليها فيما تنظره العيون سواه، وكان هذا أمراً

ص: 329

عظيماً، وخطباً جسيماً، لأنه لا فرق فيه بين جليل وحقير، وصغير وكبير، وسلطان ووزير، دل على ضخامته بقوله مكرراً لمظهر العظمة:{وكنا} أي أزلاً وأبداً {نحن} لا غيرنا {الوارثين*} لم يستعص علينا أحد وإن عظم، ولا تأخر عن مرادنا لحظة وإن ضخم، فليت شعري! أين أولئك الجبارون وكيف خلا دورهم، وعطل قصورهم؟ المتكبرون أفنتهم والله كؤوس الحمام منوعة أشربة المصائب العظام، وأذلتهم مصارع الأيام، بقوة العزيز العلام، فيا ويح من لم يعتبر بأيامهم، ولم يزدجر عن مثل آثامهم.

ص: 330

ولما أظهر سبحانه سوط العذاب بيد القدرة، دل على وطأ العدل بثمرة الغنى، ولكونه في سياق الرحمة بالإرسال عبر بالربوبية فقال:{وما كان} أي كوناً ما {ربك} أي المحسن إليك بالإحسان بإرسالك إلى الناس {مهلك القرى} أي هذا الجنس كله بجرم وإن عظم {حتى يبعث في أمها} أي أعظمها وأشرفها، لأن غيرها تبع لها، ولم يشترط كونه من أمها فقد كان عيسى عليه الصلاة والسلام من الناصرة، وبعث في بيت المقدس {رسولاً يتلوا عليهم} أي أهل القرى كلهم {آياتنا} الدالة - بما لها من الجري على مناهيج العقول، على ما ينبغي لنا من الحكمة، وبما لها من الإعجاز - على تفرد الكلمة، باهر العظمة، إلزاماً للحجة، وقطعاً للمعذرة، لئلا يقولوا {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً} ولذلك لما أردنا عموم الخلق بالرسالة جعلنا الرسول من أم القرى كلها، وهي مكة البلد الحرام، وفيها لأنها مع كونها مدينة تجري فيها الأمور على قانون الحكمة هي في بلاد البوادي تظهر فيها الكلمة، فجمعت الأمرين لأن المرسل إليها جامع، وجازت الأثرين لأن الختام به واقع، وكان السر في جعل المؤيد لدينه عيسى عليهما الصلاة والسلام من البادية كثرة ظهور الكلمة على يديه.

ولما غيّى الإهلاك بالإرسال تخويفاً، ضرب له غاية أخرى تحريراً للأمر وتعريفاً، ولكونه في سياق التجرؤ من أهل الضلال، على مقامه العال، بانتهاك الحرمات، عبر بأداة العظمة فقال:{وما كنا} أي بعظمتنا وغنانا {مهلكي القرى} أي كلها، بعد الإرسال {إلا وأهلها ظالمون*} أي عريقون في الظلم بالعصيان، بترك ثمرات الإيمان.

ولما اعتلوا في الوقوف عن الإيمان بخوف التخطف، فذكرهم نعمته عليهم بإقامة أسباب الأمن وإدرار الرزق، وعرفهم أنه هو وحده الذي تخشى سطواته، ويتقي أخذه لمن خالفه وبطشاته، وكان خوفهم من عواقب المتابعة إما على أنفسهم وإما على ما بأيديهم من المتاع، علم من ذلك كله قطعاً أن التقدير بما سبب التخويف من عواقب الظلم بمثل مصارع الأولين: فأنفسكم في خطر من خوف الهلاك من القادر عليكم كقدرته على من قبلكم بسبب التوقف عن المتابعة أشد من خطر

ص: 330

الخوف من التخطف بسبب المتابعة، أو يكون التقدير: فما خفتم منه التخطف غير ضائركم، وكفكم عن المتابعة لأجله غير مخلدكم، فما إهلاككم على الله بأي وجه كان - بعزيز، فعطف على هذا الذي أرشد السياق إلى تقديره قوله:{وما أوتيتم} أي من أي مؤت كان {من شيء} أي من هذه الأشياء التي بأيدكم وغيرها {فمتاع} أي فهو متاع {الحياة الدنيا} وليس يعود نفعه إلى غيرها، فهو إلى نفاد وإن طال زمن التمتع به {وزينتها} أي وهو زينة الحياة الدنيا التي هي كلها - فضلاً عن زينتها - إلى فناء، فليست هي ولا شيء منها بأزلي ولا أبدي {وما عند الله} أي الملك الأعلى مما تثمره لكم المتابعة من الثواب الذي وعدكموه في الدار الآخرة التي دل عليها دلالة واضحة إطباقكم على وصف هذه بالدنيا، ومن أصدق وعداً منه {خير} على تقدير مشاركة ما في الدنيا له في الخيرية في ظنكم، لأن الذي عنده أكثر وأطيب وأظهر، وأحسن وأشهى، وأبهج وأزهى، {و} هو مع ذلك كله {أبقى} لأنه وإن شارك متاع الدنيا في أنه لم يكن أزلياً فهو أبدي.

فلما بان أنه لا يقدم على خطر المخالفة المذكور خوفاً من خطر المتابعة الموصوف عاقل، توجه الإنكار عليهم في قوله تعالى:{أفلا تعقلون*} .

ولما كان هذا سبباً لأن ظهر كالشمس بون عظيم بين حال المخالف والمؤالف، سبب عنه وأنتج قوله، مقرراً لما ذكر من الأمرين

ص: 331

موضحاً لما لهما من المباينة، منكراً على من سوى بينهما، فكيف بمن ظن أن حال المخالف أولى:{أفمن وعدناه} على عظمتنا في الغنى والقدرة والصدق {وعداً} وهو الإثابة والثواب {حسناً} لا شيء أحسن منه في موافقته لأمنيته وبقائه {فهو} بسبب وعدنا الذي لا يخلف {لاقيه} أي مدركه ومصيبه لا محالة {كمن متعناه} أي بعظمتنا {متاع الحياة الدنيا} فلا يقدر أحد غيرنا على سلبه منه بغير إذن منا، ولا يصل أحد إلى جعله باقياً، وهو مع كونه فانياً وإن طال زمنه مشوب بالأكدار، مخالط بالأقذار والأوزار {ثم هو} مع ذلك كله {يوم القيامة} الذي هو يوم التغابن، من خسر فيه لا يربح أصلاً، ومن هلك لا يمكن عيشه بوجه {من المحضرين*} أي المقهورين على الحضور إلى مكان يود لو افتدى منه بطلاع الأرض ذهباً، فإن كل من يوكل به لحضور أمر يتنكد على حسب مراتب التوكيل كائناً من كان في أي أمر كان.

ولما كان اليوم وإن كان واحداً يتعدد بتعدد أوصافه، بما يقع في أثناءه وأضعافه، على يوم القيامة تهويلاً لأمره، وتعظيماً لخطره وشره، قوله مقرراً لعجز العباد، عن شيء من الإباء في يوم العباد:

ص: 332

{ويوم يناديهم} أي ينادي الله هؤلاء الذين يغرون بين الناس ويصدون عن السبيل، ويتعللون في أمر الإيمان، وتوحيد المحسن الديان {فيقول} أي الله:{أين شركاءي} أي من الأوثان وغيرهم؛ ثم بين أنهم لا يستحقون هذا الاسم بقوله: {الذين كنتم} أي كوناً أنتم عريقون فيه {تزعمون*} ليدفعوا عنكم أو عن أنفسهم.

ولما كان اسم الشريك يقع على من سواه الإنسان بآخر في شيء من الأشياء، وكان الأتباع قد سووا المتبوعين الذين عبدوهم من الشياطين وغيرهم بالله تعالى في الخضوع لهم، والطواعية في عبادة الأوثان، ومعاندة الهداة ومعاداتهم، والصد عن أتباعهم، فكان اسم الشريك متناولاً لهم، وكان بطش من وقع الإشراك به يكون أولاً بمن عد نفسه شريكاً ثم بمن أنزله تلك المنزلة، فتشوفت النفس إلى مبادرة الرؤساء بالجواب خوفاً من حلول العقاب بهم وزيادتهم بقيادتهم عليهم، فقيل: قالوا - هكذا الأصل، ولكنه أظهر إعلاماً بالوصف الذي أوجب لهم القول فقال:{قال الذين حق} أي ثبت ووجب {عليهم القول} أي وقع عليهم معنى هذا الاسم وتناولهم، وهو العذاب المتوعد به بأعظم القول، وهم أئمة الكفر، وقادة الجهل، بإنزالهم أنفسهم منزلة الشركاء، وأفهم بإسقاط الأداة كعادة أهل القرب والتعبير بوصف الإحسان

ص: 333

أنهم وصلوا بعد السماجة والكبر إلى غاية الترقق والذل، فقال معبراً عن قولهم:{ربنا هؤلاء} إشارة إلى الأتباع {الذين أغوينا} أي أوقعنا الإغواء وهو الإضلال بهم بما زينا لهم من الأقوال التي أعاننا على قبولهم أنها منا، مع كونها ظاهرة العوار، واضحة العار، ما خولتنا فيه في الدنيا من الجاه والمال؛ ثم استأنفوا ما يظنون أنه يدفع عنهم فقالوا:{أغويناهم} أي فغووا باختيارهم {كما غوينا} أي نحن لما أغوانا بما زين لنا من فوقنا حتى تبعناهم، لم يكن هناك إكراه منا ولا إجبار، مع ما أتاهم من الرسل ولهم من العقول، كما غوينا نحن باختيارنا، لم يكن ممن فوقنا إجبار لنا كما قال إبليس

{وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} [إبراهيم: 22]- فالآية من الاحتباك: حذف أولاً {فغووا} لدلالة {غوينا} عليه، وثانياً «لما أغوانا، من قبلنا» لدلالة {أغويناهم} عليه ومرادهم، بقولهم هذا السفساف أنه لا لوم علينا في الحقيقة بسببهم، وهذا معنى قولهم:{تبرأنا إليك} أي من أمرهم، فلا يلزمنا عقوبة بسببهم، فهو تقرير لما قبل وتصريح به.

ولما كان يعلمون أنهم غير مؤمنين من أمرهم، تبرؤوا من انفرادهم

ص: 334

بإضلالهم، فقالوا لمن كأنه قال: ما وجه براءتكم وقد أقررتم باغوائهم؟ : {ما كانوا إيانا} أي خاصة {يعبدون*} بل كانوا يعبدون الأوثان بما زينت لهم أهواؤهم وإن كان لنا فيه نوع دعاء لهم إليه وحث عليه، فأقل ما نريد أن يوزع العذاب على كل من كان سبباً في ذلك كما في الآية الأخرى {فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء} وضل عن الجهلة أن هذا لا يغنيهم عن الله شيئاًَ، فإن الكل في العذاب وليس يغني أحد منهم عن أحد شيئاً، قال {لكل ضعف ولكن لا تعلمون} .

ص: 335

ولما لم يلتفت إلى هذا الكلام منهم بل عد عدماً، لأنه لا طائل تحته، أشير إلى الإعراض عنه لأنه لا يستحق جواباً كما قيل «رب قول جوابه في السكوت» بقوله:{وقيل} أي ثانياً للأتباع تهكماً بهم وإظهاراً لعجزهم الملزوم لتحسرهم وعظم تأسفهم، وعبر بصيغة المجهول، إظهاراً للاستهانة بهم، وأنهم من الذل والصغار بحيث يجيبون كل أمر كائناً من كان:{ادعوا} أي كلكم {شركاءكم} أي الذين ادعيتم جهلاً شركتهم ليدفعوا عنكم. وأضافهم هنا إليهم إشارة إلى أنهم لم يستفيدوا زعمهم أنهم شركاء الله - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - إلا أن

ص: 335

أشركوهم فيما صرفوا إليهم من أموالهم وأقوالهم، وأزمانهم وأحوالهم {فدعوهم} تعللاً بما لا يغني، وتمسكاً بما يتحقق أنه لا يجدي، لفرط الغلبة واستيلاء الحيرة والدهشة {فلم يستجيبوا لهم} كما يحق لهم بما لهم من وصف عدم الإدراك، والعجز والهلاك {ورأوا} أي كلهم {العذاب} عالمين بأنه مواقعهم لا مانع له عنهم، فكان الحال حينئذ مقتضياً لأن يقال من كل من يراهم:{لو أنهم كانوا} أي كوناً هو لهم صفة راسخة {يهتدون*} أي يحصل منهم هدى ساعة من الدهر، تأسفاً على أمرهم، وتمنياً لخلاصهم، أو لو أن ذلك كان في طبعهم لنجوا من العذاب، أو لما رأوه أصلاً، أو لما اتبعوهم.

ولما أشار إلى أنه لا خلاص من ذلك الردى إلا بالهدى، أتبعه الإعلام بأنه لا يمكن أحداً هناك أن يفعل ما قد يروج على سائله كما يفعل في هذه الدار من إظهار ما لم يكن مكرراً لتهويل ذلك اليوم وتبشيعه وتعظيمه وتفظيعه، سائلاً عن حق رسله عليهم الصلاة والسلام بعد السؤال عن حقه سبحانه، منادياً بعجز الشركاء في الأخرى كما كانوا عاجزين في الأولى {ويوم يناديهم} وهم بحيث يسمعهم

ص: 336

الداعي، وينفذهم البصر، قد برزو الله جميعاً من كان منهم عاصياً ومن كان مطيعاً في صعيد واحد، قد أخذ بأنفاسهم الزحام، وتراكبت الأقدام على الأقدام، وألجمهم العرق، وعمهم الغرق {فيقول ماذا} أي أوضحوا أو عينوا جوابكم الذي {أجبتم المرسلين*} أي به، ولما لم يكن لهم قدم صدق ولا سابق حق بما أتتهم الرسل به من الحجج، وتابعت عليهم من الأدلة، لم يكن لهم جواب إلا السكوت، وهو المراد بقوله:{فعميت} أي خفيت وأظلمت في غواية ولجاج {عليهم الأنباء} أي الأخبار التي هي من العظمة بحيث يحق لها في ذلك اليوم أن تذكر، وهي التي يمكن أن يقع بها الخلاص، وعداه بعلى إشارة إلى أن عماها وقع عليهم، فعم الكل العمى فصاروا بحيث لا تهتدي الأنباء لعماها إليهم لتجددها، ولا يهتدون إليها لانتشار عماها إليهم، وهذا كله إشارة إلى أنهم لم يقدموا عملاً في إجابة الرسل بحق أن يذكر في ذلك اليوم، بل أسلفوا من التكذيب والإساءة ما يودون لو أن بينهم وبينه أمداً بعيدأً، وقال:{يومئذ} تكريراً لتخويف ذلك اليوم وتهويله، وتقريراً لتعظيمه وتبجيله.

ص: 337

ولما تسبب عن هذا السؤال السكوت علماً منهم بأنه ليس عند أحد منهم ما يغني في جوابه من حسن القول وصوابه، وأنهم لا يذكرون شيئاً من المقال إلا عاد عليهم بالوبال، قال مترجماً عن ذلك:{فهم لا يتساءلون*} أي لا يسأل أحد منهم أحداً عن شيء يحصل به خلاص، لعلمهم أنه قد عمهم الهلاك، ولات حين مناص، ولأن كل منهم أبغض الناس في الآخر.

ولما علم بهذه الآيات حال من أصر على كفره وعمل سيئاً بطريق العبارة، وأشير إلى حال من تاب فوعد الوعد الحسن ألطف إشارة تسبب عن ذلك التشوف إلى التصريح بحالهم، فقال مفصلاً مرتباً على ما تقديره: هذا حال من أصر على كفره {فأما من تاب} أي عن كفره وقال: {وآمن} تصريحاً بما علم التزاماً، فإن الكفر والإيمان ضدان، لا يمكن ترك أحدهما إلا بأخذ الآخر {وعمل} تصديقاً لدعواه باللسان {صالحاً} .

ولما كانت النفس نزاعة إلى النقائص، مسرعة إلى الدنايا، أشير إلى صعوبة الاستمرار على طريق الهدى إلا بعظيم المجاهدة بقوله:{فعسى} أي فإنه يتسبب عن حاله هذا الطمع في {أن يكون} أي كوناً هو في غاية الثبات {من المفلحين*} أي الناجين من شر ذلك اليوم، الظافرين

ص: 338

بجميع المراد، باستمرارهم على طاعتهم إلى الموت، وإنما لم يقطع له بالفلاح وإن كان مثل ذلك في مجاري عادات الملوك قطعاً، إعلاماً بأنه لا يجب سبحانه شيء ليدوم حذره، ويتقي قضاؤه وقدره، فإن الكل منه.

ولما كان كأنه قيل: ما لأهل القسم الأول لا يتوخون النجا من ضيق ذلك البلا، إلى رحب هذا الرجا، وكان الجواب: ربك منعهم من ذلك، أو ما لم يقطع لأهل هذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسم الأول بالشقاء؟ وكان الجواب: إن ربك لا يجب عليه شيء عطف عليه - إشارة إليه قوله {وربك} أي المحسن إليك، بموافقة من وافقك ومخالفة منخالفك لحكم كبار، دقت عن فهم أكثر الأفكار {يخلق ما يشاء} من الهدى الضلال وغيرهما، لأنه المالك المطلق لا مانع له من شيء من ذلك {ويختار} أي يوقع الاختيار، لما يشاء فيريد الكفر للأشرار، والإيمان للأبرار، لا اعتراض عليه، فربما ارتد أحد ممن أظهر المتاب، لما سبق عليه من الكتاب، فكان من أهل التباب فلا تأس على من فاتك كائناً من كان، واعلم أنه ما ضر إلا نفسه،

ص: 339

ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته.

ولما أفهم هذا أن غيره سبحانه إذا أراد شيئاً لم يكن إلا أن يوافق مراده تعالى، صرح به بقوله:{ما كان لهم الخيرة} أي أن يفعلوا أو يفعل لهم كل ما يختارونه من إتيان الرسول بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام أو غيره، اسم من الاختيار، يقام مقام المصدر، وهو أيضاً اسم المختار، فهو تعبير بالمسبب عن السبب لأنه إذا خلى عنه كان عقيماً فكان عدماً، قال الرازي في اللوامع: وفيه دليل على أن العبد في اختياره غير مختار، فلهذا أهل الرضى حطوا الرحال بين يدي ربهم، وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض، يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا، وإن أصابهم بسهام المصائب العظام صابروا، وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا، وإن أذلهم رضوا وسلموا، فلا يرضيهم إلا ما يرضيه، ولا يريدون إلا ما يريده فيمضيه:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

متأخر عنه ولا متقدم

أجد الملامة في هواك لذيذة

حباً لذكرك فليلمني اللوم

وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً

ما من يهون عليك ممن أكرم

ولما كان إيقاع شيء على غير مراده نقصاً، وكان وقوع الشرك

ص: 340

سفولاً وعجزاً، قال تعالى مشيراً إلى نتيجة هذه الآيات في نفي ذلك عنه:{سبحان الله} أي تنزه الجامع لصفات الكمال عن أن يختار أحد شيئاً لا يريده فيص إليه أو يقع بوجه عليه {وتعالى} أي علا علو المجتهد في ذلك، فعلوُّه لا تبلغ العقول بوجه كنه هداه {عما يشركون*} لأنه لا إرادة لما ادعوهم شركاء، ولو كانت لهم إرادة لتوقف إنفادها لعجزهم على إيجاد الخالق.

ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم، قال:{وربك} أي المحسن إليك المتولي لتربيتك، كما هو بالغ القدرة، فهو شامل العلم {يعلم ما تكن} أي تخفي وتستر {صدورهم} من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل آيات موسى أو لا يؤمنون، ومن كون ما أظهر من أظهر منهم الإيمان بلسانه خالصاً أو مشوباً.

ولما كان علم الخفي لا يستلزم علم الجلي إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك قال: {وما يعلنون*} أي يظهرون، كل ذلك لديه سواء، فلا يكون لهم مراد إلا بخلقه.

ولما كان علمه بذلك إنما هو لكونه إلهاً، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه، عبر عن ذلك بقوله:{وهو الله} أي المستأثر بالإلهية الذي لا سمي له، الذي لا يحيط الوصف من عظمته بأكثر من أنه عظيم على الإجمال، وأما التفاصيل كلها أو أقلها فهيهات هيهات؛

ص: 341

ثم شرح معنى الاسم الأعظم بقوله {لا إله إلا هو} ثم علل ذلك بقوله: {له} أي وحده {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {في الأولى والآخرة} وليس ذلك لشيء سواه إن آمنوا أو كفروا {وله} أي وحده {الحكم} أي إمضاء القضاء على الإطلاق، فلو أراد لقسرهم على الإيمان {وإليه} أي لا إلى غيره {ترجعون*} أي بأيسر أمر يوم النفخ في الصور، لبعثرة القبور، بالبعث والنشور، ومع أنكم الآن أيضاً راجعون في جميع أحكامكم إليه ومقصورون عليه، إن شاء أمضاها، وإن أراد ردها ولواها، ففي الايات غاية التقوية لقلوب المطيعين، ونهاية الزجر والردع للمتمردين، بالتنبيه على كونه قادراً على جميع الممكنات، علماً بكل المعلومات، منزهاً عن النقائص والآفات يجزي الطائعين والعاصين بالقسط.

ص: 342

ولما قامت على القدرة الشاملة والعلم التام وأنه الإله وحده إن وحدوا أو الحدوا هذه الأعلام على هذا النظام، أقام دليلاً دالاًّ على ذلك كله بما اجتمع فيه من العلم والحكمة وتمام القدرة، منبهاً على وجوب حمده مفصلاً لبعض ما يحمد عليه، فقال مقدماً الليل لأن آيته عدمية، وهي أسبق:{قل} لمن ربما عاندوا في ذلك، منكراً عليهم ملزماً لهم، وعبر بالجمع لأنه أدل على الإلزام، أعظم في الإفحام،

ص: 342

فقال: {أرءيتم} أي أخبروني {إن جعل الله} أي الملك الأعلى نظراً إلى مقام العظمة والجلال {عليكم الليل} الذي به اعتدال حر النهار {سرمداً} أي دائماً، وقال:{إلى يوم القيامة} تنبيهاً على أنه مما لا يتوجه إليه إنكار {من إله غير الله} العظيم الشأن الذي لا كفوء له.

ولما كان النور نعمة في نفسه، ويعرف به خالقه، صرح به وطوى أثره فقال:{يأتيكم بضياء} أي يولد نهاراً تنتشرون فيه، ولقوة إعلامه بالقدرة وتعريفه بالله عبر بهذا دون يؤتيكم ضياء، ولما كان الليل محل السكون ومجمع الحواس، فهو أمكن للسمع وأنفذ للفكر، قال تعالى:{أفلا تسمعون*} أي ما يقال لكم إصغاء وتدبر، كما يكون لمن هو في الليل فينتفع بسمعه من أولي العقل {قل أرءيتم إن جعل الله} أي الذي له الأمر كله بجلاله وباهر كماله {عليكم النهار} الذي توازن حرارته رطوبة الليل فيتم بهما صلاح النبات، وغير ذلك من جميع المقدرات {سرمداً} أي دائماً، من السرد، وهو المتابعة بزيادة الميم مبالغة فيه {إلى يوم القيامة} أي الذي لا يسمع عاقلاً إنكاره {من إله غير الله} الجليل الذي ليس له مثيل، وهو على كل شيء وكيل.

ص: 343

ولما كان الظلام غير مقصود في نفسه، وكان بعد الضياء في غاية التعريف بموحده، عدل عن اسمه فقال معبراً لمثل ما مضى:{يأتيكم بليل} أي ينشأ من ظلام؛ ثم بين بما يدل على ما حذفه من الأول فقال: {تسكنون فيه} فالآية من الاحتباك: ذكر الضياء أولاً دليلاً على حذف الظلام ثانياً، والليل والسكون ثانياً دليلاً على حذف النهار والانتشار أولاً.

ولما كان الضياء مما ينفذ فيه البصر قال: {أفلا تبصرون*} أي بالبصر والبصيرة كيف تنقشع جلابيب الظلام، عن وجوه الضياء الغر الكرام، ثم تتقنع بسواد أردية الحياء، وجوه الأنوار والضياء قال ابن هبيرة: قال المبرد: سلطان السمع في الليل وسلطان البصر في النهار.

ولما كان التقدير: فمن حكمته جعل لكم السمع والأبصار، لتتدبروا آياته، وتتبصروا في مصنوعاته، عطف عليه {ومن رحمته} أي التي وسعت كل شيء لا من غيرها من خوف أو رجاء أو تعلق غرض من الأغراض {جعل لكم الليل والنهار} آيتين عظيمتين دبر فيهما وبهما جميع مصالحكم، وادخر معظم رحمته إلى الآخرة،

ص: 344

ومحا آية الليل {لتسكنوا فيه} أي فلا تسعوا في معاشكم {و} جعل آية النهار مبصرة {لتبتغوا من فضله} بأن تسعوا في معاشكم بجهدكم، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً السكون دليلاً على حذف السعي في المعاش ثانياً، والابتغاء ثانياً دليلاً على حذف عدم السعي في المعاش أولاً.

ولما ذكر هذه النعمة التي أسبغها من هذه الرحمة، وذكر علة جعله لها على الصفة المذكورة، ذكر علة أخرى هي المقصودة بالذات لأنها نتيجة السمع والبصر اللذين، قدم الحث على استعمالهما فقال:{ولعلكم تشكرون*} أي وليكون حالكم حال من يرجى منه الشكر بما يتجدد لكم بتقبلهما من النعم المتوالية المذكورة بالمنعم، وبما دبر لكم رفقاً بكم فيما كفلكم به في دار الأسباب من أمر المعاش والمعاد من الراحة بالسكون إثر ما أفادكم من الأرباح والمنح بالانتشار والتقلب، وأما الآخرة فلما كانت غير مبينة على الأسباب، وكان الجنة لا تعب فيها بوجه من الوجوه، كان لا حاجة فيها إلى الليل.

ولما ذكر ما للمفلح من الرجاء في يوم الجزاء، وأتبعه الإعلام بأن الهداية إلى الفلاح إنما هي به، ودل على ذلك إلى أن ذكر ايام الدنيا المشتملة على الليل والنهار على وجه دال على وحدانيته، معلم بالقدرة

ص: 345

على البعث بعد الموت بتكرير إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه وتكرير إماتة الناس بالنوم، ثم نشرهم باليقظة، وختم ذلك بالشكر إشارة إلى أنه سبب الفلاح، عاد إلى يوم الجزاء الذي تظهر فيه ثمرة ذلك كله، مقرعاً على الإشراك مع ظهور هذه الدلائل على التوحيد، وعدم شبهة قائمة على الشرك غير محض التقليد، فقال منبهاً على عجزهم عن البرهان عند استحقاق البرهان في يوم التناد، لمحضر من الأشهاد، مع ما فيه من التأكيد للتهويل بالتكرير، والتاطيد للتهليل والتقرير:{ويوم يناديهم} أي هؤلاء الذي يظنون أنهم معجزون {فيقول} بلسان الغضب والإخزاء والتوبيخ وقد جمعوا جمعاً: {أين شركاءي} وكرر الإشارة إلى أن إشراكهم إنما هو بالاسم لا معنى فيه أصلاً فقال: {الذين كنتم} أي بغاية جهدكم حتى صار لكم ذلك لمكة {تزعمون*} بلا شبهة لكم في ذلك عند التحقق أصلاً.

ولما ذكر الدليل الأول من الدليل على إبطال الشركة أن الشركاء لم يستجيبوا لهم ولا كانت لهم قدرة على نصرهم ولا نصر أنفسهم، وكان ربما قيل: إن ذلك الشيء عبر العجز، دل هنا على الإشراك لا شبهة دليل فقال صارفاً بقول إلى مظهر التكلم بأسلوب العظمة لأنه مجرد فعال {ونزعنا} أي أفردنا بقوة وسطوة {من كل أمة شهيداً}

ص: 346

أي وهو رسولهم، فشهد عليهم بأعمالهم وما كانوا فيه من الارتباك في أشراك الإشراك.

ولما تسبب عن ذلك سؤالهم عن سندهم في إشراكهم قال: {فقلنا} أي للأمم: {هاتوا برهانكم} أي دليلكم القطعي الذي فزعتم في الدنيا إليه، وعولتم في شرككم عليه، كما هو شأن ذوي العقول أنهم لا يبنون شيئاً على غير أساس {فعلموا} بسبب هذا السؤال لما اضطروا ففتشوا واجتهدوا فلم يجدوا لهم سنداً أصلاً {أن الحق} أي في الإلهية {لله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ولا مكافىء له، لا شركة لشيء معه {وضل} أي غاب وبطل غيبة الشيء الضائع {عنهم ما كانوا} أي كوناً هو كالجبلة لهم {يفترون*} أي يقولونه قول الكاذب المتعمد للكذب لكونه لا دليل عليه ولا شبهة موجبة للغلط فيه.

ص: 347

ولما دل على عجزهم في تلك الدار، وعلمهم أن المتصرف في جميع الأقدار، إنما هو الواحد القهار، دل على أن ذلك له أيضاً في هذه الدار وقوع العلم به بإهلاك أولي البطر، والمرح والأثر، من غير أن يغنوا عمن أضلوا، أو يغني عنهم من أضلهم من ناطق، وما أضلهم من

ص: 347

صامت، تطبيقاً لعموم {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} على بعض الجزئيات، تخويفاً لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما من نسبه إلى السحر، وإعلاماً بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقاطعون الأشقياء وإن كانوا أقرب الأقرباء، لأنه سبحانه عذب قارون ومن كان معه بعذاب لم يسبقهم فيه أحد، وهم من بني إسرائيل ومن أقرب بني إسرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فعلم كان من كان اغتر بما أوتيه أن الحق لله في كل ما دعت إليه رسله، ونطقت به كتبه، وضل عنهم ما كانوا يفتقرون، ولم يغن عنهم شيئاً ما اعتمدوا عليه، فكان معبودهم في الحقيقة مما جمعوه من حطام الدنيا فاعتدوا أنهم نالوا به السعادة الدائمة والعز الباقي، فكان مثله - كما يأتي في التي بعده - كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وكل ذلك بمرأى من موسى عليه الصلاة والسلام حين كذبه ونسبه إلى السحر وتكبر عليه، فلم يسأل الله تعالى فيه لخروجه باستكباره من الوعد بالمنة على الذين استضعفوا في الأرض، وكان ذلك العذاب الذي عذبوا به من جنس ما عذب به فرعون في الصورة من حيث إنه تغييب وإن كان ذلك في مائع، وهذا صلب جامد، ليعلم أنه قادر على ما يريد، ليدوم

ص: 348

منه الحذر، فيما سبق منه القضاء والقدر، ونزع موسى عليه الصلاة والسلام من كل سبط من أسباط بني إسرائيل شهيداً من عصبهم وقال لهم: هاتوا برهانكم فيها، فعلموا بإبراق عصا هاورن عليه الصلاة والسلام دون عصيهم أن الحق لله في أمر الحبورة وفي جميع أمره فقال:{إن قارون} ويسمى في التوراة قورح، ثم بين سبب التأكيد بقوله:{كان} أي كوناً متمكناً {من قوم موسى} تنبيهاً على أنه جدير بأن ينكر كونه كذلك لأنه فعله معهم لا يكاد يفعله أحد مع قومه، وذلك أنه كان من الذين آمنوا به وقلنا فيهم {ونريد أن نمن على الذين} إلى آخره، لأنه ابن عم موسى عليه الصلاة والسلام على ما حكاه أبو حيان وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما {فبغى عليهم} أي تجاوز الحد في احتقارهم بما خولناه فيه من هذا الحطام المتلاشي، والعرض الفاني، فقطع ما بينه وبينهم من الوصلة، ووصل ما بينه وبين فرعون وأضرابه، من الفرقة، فأخرجه ذلك من حوزة المنة والأمانة والوراثة إلى دائرة الهلاك والحقارة والخيانة، كما بغى عليهم فرعون؛ وكان أصل «بغى» هذه: أراد، لكن لما كان العبد لا ينبغي أن يكون

ص: 349

له إرادة، بل الإرادة لسيده كما نبه عليه {ما كان لهم الخيرة} ، جعلت إرادته تجاوز الحد، وعديت ب «على» المقتضية للاستعلاء تنبيهاً على خروجها عن أصلها.

ولما ذكر بغيه، ذكر سببه الحقيقي، فقال:{وآتيناه} أي ومع كوننا أنعمنا عليه بجعله من حزب أصفيائنا آتيناه بعظمتنا {من الكنوز} أي الأموال المدفونة المدخرة، فضلاً عن الظاهرة التي هي بصدد الإنفاق منه لما عساه يعرض من المهمات {ما} أي الذي أو شيئاً كثيراً لا يدخل تحت حصر حتى {إن مفاتحه} أي مفاتح الأغلاق التي هو مدفون فيما وراء أبوابها {لتنوء} أي تميل بجهد ومشقة لثقلها {بالعصبة} أي الجماعة الكثيرة التي يعصب - أي يقوي - بعضهم بعضاً، وفي المبالغة بالتعبير بالكنوز والمفاتيح والنوء والعصبة الموصوفة ما يدل على أنه أوتي من ذلك ما لم يؤته أحد ممن هو في عداده، وكل ذلك مما تستبعده العقول، فلذلك وقع التأكيد {أولي القوة} أي تميلهم من أثقالها إياهم، والنوء: الميل، قال الرازي: والنوء: الكوكب مال عن العين عند الغروب، يقال: ناء بالحمل - إذا نهض به مثقلاً، وناء به الحمل - إذا أماله لثقله.

ص: 350

ولما ذكر بغيه، ذكر وقته، والوقت قد يكون واسعاً كما نقول: جرى كذا عام كذا، وفيه التعرض للسبب فقال:{إذ قال له} وقال: {قومه} إشارة إلى تناهي بغيه بافتخاره وكبره على أقاربه الذين جرت العادة أن لا يغضب كلامهم ولا يؤرث التعزر عليهم ولا يحمل إلا على النصح والشفقة، وساغت نسبة القول للكل وإن كان القائل البعض، بدليل ما يأتي، إما عداً للساكت قائلاً لرضاه به لأنه مما لا يأباه أحد، وإما لأن أهل الخير هم الناس، ومن عداهم عدم:{لا تفرح} أي لا تسر سروراً يحفر في قلبك فيتغلغل فيه فيحرفك إلى الأشر والمرح، فإن الفرح بالعرض الزائل يدل على الركون إليه، وذلك يدل على نسيان الآخرة، وذلك على غاية الجهل والطيش وقلة التأمل للعواقب، فيجر إلى المرح فيجر إلى الهلاك، قال الرزاي: ومن فرح بغير مفروح به استجلب حزناً لا انقضاء له، وعللوا نهيهم له بما يفهم أشد الشفقة والمحبة فقالوا مؤكدين لاستبعاد من يرى تواصل النعم السارة على أحد أن يكون غير محبوب:{إن الله} أي الذي له صفات الكمال فلا شيء أجل منه، فبه ينبغي أن يفرح {لا يحب} أي لا يعامل معاملة المحبوب {الفرحين*} أي

ص: 351

الراسخين في الفرح بما يفنى، فإن فرحهم يدل على سفول الهمم.

ولما كان ترك الفرح سبباً للزهد، وهو سبب القرب إلى الله، كان كأن قيل: وازهد فيه إن الله يحب الزاهدين {وابتغ} أي اطلب طلباً تجهد نفسك فيه {فيما آتاك الله} أي الملك الأعظم الذي له الأمر كله من هذه الأموال حال تمكنك {الدار الآخرة} بإنفاقه فيما يحبه الله بحيث يكون ابتغاؤك ذلك مظروفاً له فيكون كالروح والمؤتى كالجسد ليكون حياً بذلك الابتغاء، فلا يكون منه شيء بغير حياة، فإن فعلك لذلك يذكرك أن هذه الدار دار قلعة وارتحال، وكل ما فيها إلى زوال، وذلك يوجب الزهد في جميع ما فيها من الأموال.

ولما كان ذلك شديد المشقة على النفوس مع ما فيه من شائبة الاتهام قالوا: {ولا تنس} أي تترك ترك الناسي {نصيبك من الدنيا} ترك المنسي، بل استعمل المباحات من المآكل والملابس والمناكح والمساكن وما يلائمها، وليكن استعمالك لذلك - كما دل عليه السياق - من غير إسراف ولا مخيلة توجب ترك الاتصاف بالإنصاف؛ وعن

ص: 352

علي رضي الله عنه: ولا تنس صحتك وقوتك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة.

ولما أطلق له الاقتصاد في التمتع بالزاد، وكانت النفس مجبولة على الشره، فإذا أذن لها من الدنيا في نقير جعلته أكبر كبير، أتبعوا ذلك ما لعله يكف من شرهها فقالوا:{وأحسن} أي أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج، والإنفاق في جميع الطاعات {كما أحسن الله} أي الجامع لصفات الكمال، المتردي برداء العظمة والجلال {إليك} بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع عليك.

ولما كانت النفس من شأنها إن لم تزم بزمام الشرع الإسراف والإجحاف، قالوا:{ولا تبغ} أي لا ترد إرادة ما {الفساد في الأرض} بتقتير ولا تبذير، ولا تكبر على عباد الله ولا تحقير، ثم أتبع ذلك علته مؤكداً لأن أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا، وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب، فقيل:{إن الله} أي العالم بكل شيء، القدير على كل شيء {لا يحب المفسدين*} أي لا يعاملهم معاملة من يحبه، فلا يكرمهم.

ولما كان مما قالوه أن الذي أعطاه ذلك إنما هو الله، وكان قد

ص: 353

أبطرته النعمة حتى على خالقه حتى حصل التشوف إلى جوابه فقيل في أسلوب التأكيد لأن كل أحد يعلم من نفسه العجز، وأن غيره ينكر عليه فيما يدعي أنه حصله بقوته:{قال إنما أوتيته} أي هذا المال {على علم} حاصل {عندي} فأنا مستحق لذلك، وذلك العلم هو السبب في حصوله، لا فضل لأحد عليّ فيه - بما يفيده التعبير بإنما، وبناء الفعل للمجهول إشارة إلى عدم علمه بالمؤتى من هو، وقد قيل: إن ذلك العلم هو الكيمياء.

ولما كان التقدير: ألا يخاف أن يسلبه الله - عقوبة له على هذا - علمه وماله ونفسه؟ ألم يعلم أن ذلك إنما هو بقدرة الله؟ لا صنع له في الحقيقة في ذلك أصلاً، لأن الله قد أفقر من هو أجل منه حيلة وأكثر علماً، وأعطى أكثر منه من لا علم له ولا قدرة، فهو قادر على إهلاكه، وسلب ما معه وإفنائه، كما قدر على إيتائه، عطف عليه قوله منكراً عليه:{أولم يعلم أن الله} أي بما به من صفات الجلال والعظمة والكمال {قد أهلك} ونبه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان بإدخال من في قوله: {من قبله} ولو حذفها لاستغرق الإهلاك على ذلك الوصف جميع ما تقدمه من

ص: 354

الزمان {من القرون} أي الذين هم في الصلابة كالقرون {من هو أشد منه} أي قرون {قوة} أي في البدن، والمعاني من العلم وغيره، والأنصار والخدم {وأكثر جمعاً} في المال والرجال، آخرهم فرعون الذي شاوره في ملكه، وحقق أمره يوم مهم هلكه، وكان يستعبده أمثالة ويسومهم سوء العذاب، ولم يعاملهم معاملة من يحبه ولا امتنع عليه ذلك لعلم عند أحد منهم ولا جمع، بل أخذهم لبغيهم وقبح تقلبهم وسعيهم.

ولما كانت عادة أهل الدنيا أنهم إذا غضبوا من أحد فأرادوا إهلاكه عاتبوه، فتارة يحلف على نفي الذنب فيقبل منه وإن كان كاذباً، وتارة يكشف الحال عن أن باطن أمره على خلاف ما ظهر من شره، فيكون له عذر خفي، أشار سبحانه إلى أن ذلك لا يفعله إلا جاهل بحقائق الأمور ومقادير ما يستحق على كل ذنب من العقوبة، وأمل المطلع على بواطن الضمائر وخفايا السرائر فغني عن ذلك، فقال تعالى ذاكراً لحال المفعول وهو {من} :{ولا} أي أهلكهم والحال أنهم لا يسألون - هذا الأصل، ولكنه قال:{يسأل} أي من سائل ما {عن ذنوبهم المجرمون*} فأظهر لإفادة أن الموجب للإهلاك الإجرام، وهو قطع ما ينبغي

ص: 355

وصله بوصل ما ينبغي قطعه، ولهذا سبب وعقب عن وعظهم الحسن وجوابه الخشن قوله سبحانه دليلاً على إجرامه، وطغيانه في آثامه:{فخرج على قومه} أي الذين نصحوه في الإقتصاد في شأنه، والإكثار في الجود على إخوانه، ثم ذكر حاله معظماً لها بقوله:{في زينته} أي التي تناسب ما ذكرنا من أمواله، وتعاظمه في كماله من أفعاله وأقوله.

ولما كان كأنه قيل: ما قال قومه؟ قيل: {قال الذين يريدون} أي هم بحيث يتجدد منهم أن يريدوا {الحياة الدنيا} منهم لسفول الهمم وقصور النظر على الفاني، لكونهم أهل جهل وإن كان قولهم من باب الغبطة لا من الحسد الذي هو تمني زوال نعمة المحسود:{يا ليت لنا} أي نتمنى تمنياً عظيماً أن نؤت من أيّ مؤت كان وعلى أيّ وجه كان {مثل ما أوتي قارون} من هذه الزينة وما تسببت عنه من العلم، حتى لا نزال أصحاب أموال، ثم عظموها بقولهم مؤكدين لعلمهم أن من يريد الآخرة ينكر عليهم:{إنه لذو حظ} أي نصيب وبخت في الدنيا {عظيم*} بما أوتيه من العلم الذي كان سبباً له إلى جميع هذا المال، ودل على جهلهم وفضل العلم الرباني وحقارة ما

ص: 356

أوتي قارون من المال والعلم الظاهر الذي أدى إليه باتباعه قوله: {وقال الذين} وعظم الرغبة في العلم بالبناء للمفعول إشارة إلى أنه نافع بكل اعتبار وباعتبار الزهد، وبالتعبير عن أهل الزهد به فقال:{أوتوا العلم} أي من قومه، فشرفت أنفسُهم عن إرادة الدنيا علماً بفنائها، زجراً لمن تمنى مثل حاله، وشمراً إلى الآخرة لبقائها:{ويلكم} أي عجباً لكم، أو حل بكم الشر حلولاً، وأصل ويل، «وي» قال الفراء: جيء بلام الجر بعدها مفتوحة ما المضمر نحو وي لك، ووي له، أي عجباً لك وله، ثم خلط اللام بوي لكثرة الاستعمال حتى صارت كلام الكلمة فصار معرباً بإتمامه ثلاثياً، فجاز أن يدخل بعدها لام أخرى في نحو ويلاً لك، لصيرورة الأول لام الكلمة، ثم نقل إلى باب المبتدأ فقيل: ويل لك، وهو باق على ما كان عليه في حال النصب إذ الأصل في ويل لك: هلكت ويلاً، أي هلاكاً فرفعوه بعد حذف الفعل نفضاً لغبار الحدوث، وقيل: أصل ويل الدعاء بالهلاك، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى كما استعمل لا أبا لك - وأصله الدعاء على الرجل - في الحث على الفعل، فكأنهم قالوا: ما لنا يحل بنا الويل؟ فأخبروهم بما ينبغي معرضين

ص: 357

عما استحقوا به الويل من التمني، تحقيراً لما استفزهم حتى قالوه فقالوا:{ثواب الله} أي الجليل العظيم {خير} أي من هذا الحطام، ومن فاته الخير حل به الويل؛ ثم بينوا مستحقه تعظيماً له وترغيباً للسامع في حاله فقالوا:{لمن آمن وعمل} أي تصديقاً لإيمانه {صالحاً} ثم بين سبحانه عظمة هذه النصيحة وعلو قدرها بقوله مؤكداً لأن أهل الدنيا ينكرون كونهم غير صابرين: {ولا يلقاها} أي لا يجعل لاقياً لهذا الكلمات أوالنصيحة التي قالها أهل العلم، أي عاملاً بها {إلا الصابرون*} أي على قضاء ربهم في السراء والضراء، والحاملون أنفسهم على الطاعات الذين صار الصبر لهم خلقاً، وعبر بالجمع ترغيباً في التعاون إشارة إلى أن الدين لصعوبته لا يستقل به الواحد.

ص: 358

ولما تسبب عن نظره هذا الذي أوصله إلى الكفر بربه أخذه بالعذاب، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله:{فخسفنا} أي بما لنا من العظمة {به وبداره} أي وهي على مقدار ما ذكرنا من عظمته بأمواله وزينته، فهي أمر عظيم، تجمع خلقاً كثيراً وأثاثاً عظيماً، لئلا يقول قائل: إن الخسف به كان للرغبة في أخذ أمواله {الأرض} وهو من قوم موسى عليه الصلاة والسلام وقريب منه جداً - على ما نقله

ص: 358

أهل الأخبار - فإياكم يا أمة هذا النبي أن تردوا ما آتاكم من الرحمة برسالته فتهلكوا وإن كنتم أقرب الناس إليه فإن الأنبياء كما أنهم لا يوجدون الهدى في قلوب العدى، فكذلك لا يمنعونهم من الردى ولا يشفعون لهم أبداً، إذا تحققوا أنهم من أهل الشقا {فما} أي فتسبب عن ذلك أنه ما {كان له} أي لقارون، وأكد النفي - لما استقر في الأذهان أن الأكابر منصورون - بزيادة الجار في قوله:{من فئة} أي طائفة من الناس يكرون عليه بعد أن هالهم ما دهمه، وأصل الفئة الجماعة من الطير - كأنها سميت بذلك لكثرة رجوعها وسرعته إلى المكان الذي ذهبت منه {ينصرونه} .

ولما كان الله تعالى أعلى من كل شيء قال: {من دون الله} أي الحائز لصفات الكمال، المتردي بالعظمة والجلال، لأن من كان على مثل رأيه هلك، ومن كان من أولياء الله راقب الله في أمره، فلم يسألوا الله فيه، وعلم هو أن الحق لله، وضل عنه - كما في الآية التي قبلها - ما كان يفتري {وما كان} أي هو {من المنتصرين*} لأنفسهم بقوتهم. ولما خسف به فاستبصر الجهال الذين هم كالبهائم لا يرون إلا المحسوسات، عبر عن حالهم بقوله:{وأصبح} أي

ص: 359

وصار، ولكنه عبر به لمقابلة الأمس، وإعلاماً بأن ما رأوا من حاله ملأ صدورهم فلم يكن لهم هم سواه {الذين تمنوا} أي أرادوا إرادة عظيمة بغاية الشغف أن يكونوا {مكانه} أي يكون حاله ومنزلته في الدنيا لهم {بالأمس} أي الزمان الماضي القريب وإن لم يكن يلي يومهم الذي هم فيه من قبله {يقولون ويكأن} هذه الكلمة والتي بعدها متصلة بإجماع المصاحف، وعن الكسائي أنه يوقف على الياء من وى، وعن أبي عمرو أنه يوقف على الكاف: ويك، قال الرضي في شرح الحاجبية: وي للتندم أو للتعجب، ثم قال: وهو عند الخليل وسيبويه «وي» للتعجب، ركبت مع «كأن» التي للتشبيه، وقال الفراء: كلمة تعجب ألحق بها كاف الخطاب نحو ويك عنتر أقدم، أي من قوله في قصيدته الميمية المشهورة إحدى المعلقات السبع:

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

أي ويلك وعجباً منك، وضم إليها «أن» فالمعنى: ألم تر أنه، ونقل ابن الجوزي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال الفراء: ولما صار معنى ويكأن ألم تر، لم تغير كاف الخطاب للمؤنث والمثنى والمجموع بل لزم حالة واحدة، وقال الجعبري في شرح الشاطبية: وي صوت يقوله المتندم والمتعجب، وويك أصله ويلك، حذفت

ص: 360

لامه تخفيفاً لكثرة دوره؛ والكاف للخطاب وفتحت «أن» لإضمار العلم؛ وقال قطرب: لتقدير اللام، ونشأ من التركيب معنى: ندمنا على تفريطنا، وتعجبنا من حالنا، وتحققنا خلاف اعتقادنا، ورسمت متصلة تنبيهاً على التركيب، وقال القزاز في ديوانه الجامع: ويك كلمة ينبه بها الإنسان، وقيل: معناها رحمة، ووي معناها التنبيه والإنكار، وقال الإمام عبد الحق: وي كلمة تقال في التعجب والاستدراك، وقيل: وي حزن، وقال قطرب: وي كلمة تفجع - انتهى. وقال سيبويه في باب ما ينتصب فيه الخبر بعد الأحرف الخمسة: وسألت الخليل عن هذه الآية فزعم أنها وي مفصولة من كأن والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم، أو نبهوا فقيل لهم: أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا - والله تعالى أعلم، وأما المفسرون: فقالوا: ألم تر أن الله. فالمعنى الذي يجمع الأقوال حينئذ: تعجباً أو ويلاً أو تندماً على ما قلنا في تبين غلطنا، وتنبيهاً على الخطأ، أو هلاك لنا، إو إنكار علينا، أو حزن لنا، أو تفجع علينا، أو استدراك علينا، أو رحمة لنا، أو تنبه منا، أو تنبيه لنا، ثم عللوا ذلك بقولهم: أن الله، أو يشبه أن الله،

ص: 361

أو ألم تر أيها السامع والناظر أن الله، وقال الرازي: اسم سمي به القول، أي أعجب، ومعناه التنبيه؛ ثم ابتدأ كأن {الله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله {يبسط الرزق} أي الكامل {لمن يشاء} سواء كان عنده ما يحتال به على الرزق أم لا.

ولما كانت القصة لقارون، وكان له من المكنة في الدنيا ما مضى ذكره، وكانت العادة جارية بأن مثله يبطر وقد يؤدي إلى تألهه، قال منبهاً بالإيقاع به على الوجه الماضي أنه من جملة عبيده، لا فرق بينه وبين أضعفهم بالنسبة إلى قدرته:{من عباده} .

ولما دل على أن البسط إنما هو منه، أتبعه قوله دليلاً آخر على ربوبيته:{ويقدر} أي يضيق على من يشاء سواء كان فطناً أم لا، لا يبسطه لأحد لكرامته عليه، ولا يضيق على أحد لهوانه عنده، ولا يدل البسط والقبض على هوان ولا كرامة، وهذا دليل على أنهم ظنوا صحة قول قارون أنه أوتيه على علم عنده، وأنهم إنما تمنوا علمه الذي يلزم منه على اعتقادهم حصول المال على كل حال.

ولما لاح لهم من واقعته أن الرزق إنما هو بيد الله، أتبعوه ما دل على أنهم اعتقدوا أيضاً أن الله قادر على ما يريد من غير الرزق كما

ص: 362

هو قادر على الرزق من قولهم: {لولا أن منَّ الله} أي تفضل الملك الأعظم الذي استأثر بصفات الكمال {علينا} بجوده، فلم يعطنا ما تمنيناه من الكون على مثل حاله {لخسف بنا} مثل ما خسف به {ويكأنه} أي عجباً أو ندماً لأنه، أو يشبه أنه، أو ألم تر أنه، قال الرضي في شرح الحاجبية: كأن المخاطب كان يدعى أنهم يفلحون فقال لهم: عجباً منك، فسئل: لم تتعجب منه؟ فقال: لأنه - إلى آخره، فحذف حرف الجر مع «أن» كما هو القياس.

{لا يفلح} أي يظفر بمراد {الكافرون*} أي العريقون في الكفر لنعمة الله، وقد عرف بهذا تنزيل المعنى على ما قالوه في المراد من ويكأنه، سواء وقف على وي أو يك أو لا.

ذكر شرح هذه القصة: قال البغوي: قال أهل العلم بالأخبار: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى عليه الصلاة والسلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم فبغى وطغى، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة، في كل طرف منها خيطاً أخضر بلون السماء يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ويعلمون أني منزل منها كلامي،

ص: 363

فقال موسى: يا رب! ألا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضراً، فإن بني إسرائيل تحتقر هذه الخيوط، فقال له ربه: يا موسى! إن الصغير من أمري ليس بصغير، فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير، فدعاهم موسى يعني فأعلمهم ففعلوا واستكبر قارون، فكان هذا بدء عصيانه وطغيانه وبغيه، فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة لهارون عليه السلام وهي رئاسة المذبح، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله، فقال قارون: يا موسى! لك الرسالة ولهارون الحبورة، ولست في شيء وأنا أقرأ التوراة، لا صبر لي على هذا، فقال له موسى عليه الصلاة والسلام: ما أنا بالذي جعلتها في هارون ولكن الله جعلها له، فقال قارون: والله لا أصدقك حتى أرى بيانه، يعني فجمع موسى عصي الرؤساء فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله فيها وباتوا يحرسونها، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر، وكانت من اللوز، فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر، وذكر أموراً مما كان يتعظم بها وأنه رمى موسى عليه الصلاة والسلام بعظيمة فحينئذ غار الله لموسى عليه الصلاة والسلام فخسف به.

ص: 364

والذي رأيته أنا في التوراة في السفر الرابع ما نصه: وكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل وقل لهم: اعملوا خيوطاً في أطراف أرديتكم في أحقابكم، ولتكن الخيوط التي تعملون في أطراف أرديتكم من حرير، ولتكن هذه الخيوط تذكركم وصايا الله لتعملوا بها ولا تضلوا بما في قلوبكم، ولا تتبعوا آراءكم، بل اذكروا جميع وصاياي واعملوا بها، لتكونوا مقدسين لله ربكم، أنا الله ربكم الذي أخرجتكم من أرض مصر، لا يكون لكم إله غيري، أنا الله ربكم.

ومن بعد هذه الأمور شق قورح - وهو اسم قارون بالعبرانية - بن يصهر بن قاهث بن لاوى، ودائن وأبيروم ابنا أليب، وأون بن قلب ابن روبيل العصي، وقاموا بين يدي موسى، وقم من بني إسرائيل عددهم مائتان وخمسون رجلاً من رؤساء الجماعة مذكورون مشهورون بأسمائهم أبطال، هؤلاء أجمعون اجتمعوا إلى موسى وهارون وقالوا لهما: ليس حسبكما أن الجماعة كلها طاهرة وأنتما رئيسان عليها حتى تريدا أن تتعظما على الجماعة كلها - أي يكون هارون هو الكاهن أي متولي

ص: 365

أمر القربان والحكم على خدمة قبة الزمان - فسمع موسى ذلك وخر ساجداً على وجهه، وكلم قورح وجماعته كلها فقال لهم: سيظهر الرب ويبين لمن الكهنوت والرئاسة بكرة، ومن كان طاهراً فليتقرب إليه. ومن يختار الرب يتقرب؛ ثم أمرهم أن يقربوا قرباناً ثم قال: يا بني لاوي! أما تكتفون بما اختاره الله لكم من كل جماعة بني إسرائيل وقربكم إليه لتعملوا العمل في بيت الرب وقربك أنت وجميع إخوتك معك إلا أن تريدوا الكهنوت أيضاً، فلذلك أنت وجماعتك كلها احتشدوا بين يدي الرب غداً، فأما هارون فمن هو حتى صرتم تقعون فيه وتتذمرون عليه، وأرسل موسى ليدعو دائن وأبيروم ابني أليب فقالا: لا تصعد إليك، أما تكتفيان بما صنعتما أنكما أخرجتمانا من الأرض التي تغل السمن والعسل لتقتلانا في هذه البرية حتى تعظما علينا وتفخرا، فأما ما وعدتنا به أنك تدخلنا الأرض التي تغل السمن والعسل فما فعلت، ولم تعطنا مواريث المزارع والكروم، فلو عميت أعيننا لم نصعد إليك. فشق ذلك على موسى جداً، وقال أمام الرب: لا تقبل قرابينهم يا رب لأني لم أظلم منهم رجلاً ولا أسأت إلى أحد منهم، ثم قال لقورح: اجتمع أنت وأصحابك أمام الرب وهارون معكم بكرة، وليأخذ كل منكم مجمرته، وقام موسى وهارون أمام قبة الزمان وجمع قورح

ص: 366

الجماعة كلها، وظهر مجد الرب للجماعة كلها، وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما: تنحيا عن هذه الجماعة فإني مهلكها في ساعة واحدة، فخرا ساجدين وقالا: اللهم أنت إله أرواح كل ذي لحم، يجرم رجل واحد فينزل الغضب بالجماعة كلها؟ فكلم الرب موسى وقال له: كلم الجماعة كلها وقل لهم: تنحوا عن خيم دائن وأبيروم وقورح، تنحوا عن خيم هؤلاء الفجار، ولا تقربوا شيئاً مما لهم لئلا تعاقبوا، وقال موسى: بهذه الخلة تعلمون أن الرب أرسلني أن أعمل هذه الأعمال كلها، ولم أعملها من تلقاء نفسي، إن مات هؤلاء مثل موت كل إنسان أو نزل بهم الموت مثل ما ينزل بجميع الناس فلم يرسلني الرب، وإن فتحت الأرض فاها وابتلعتهم وابتلعت كل شيء لهم نزلوا هم وكل شيء لهم إلى الجحيم علمتم أن هؤلاء قد أغضبوا الرب.

فلما أكمل موسى قوله هذا انفتحت الأرض من تحتهم، وفغرت فاها فابتلعتهم وابتلعت خيمهم وجميع مواشيهم فنزلوا إلى الجحم أحياء، ثم استوت الأرض فوقهم، وهرب جميع بني إسرائيل حيث سمعوا أصواتهم ورأوا ما قد صنع بهم، وقالوا: لعل الأرض تبتلعنا أيضاً، واشتعلت نار من قبل الرب فأحرقت المائتين

ص: 367

والخمسين رجلاً الذين كانوا يبخرون البخور، وتذمر جماعة بني إسرائيل من بعد ذلك اليوم على موسى وهارون فقالوا لهما: أنتما قتلتما جماعة شعب الرب، فأقبلوا إلى قبة الزمان ورأوا أن السحاب قد تغشى القبة وظهر مجد الرب، وأتى موسى وهارون فقاما في قبة الزمان، وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما: تنحيا عن هذه الجماعة لأني مهلكها في ساعة واحدة، فخرا ساجدين على وجوههما، وقال موسى لهارون: خذ مجمرة بيدك واجعل فيها ناراً وبخوراً، وانطلق مسرعاً إلى الجماعة واستغفر لهم لأنه قد نزل غضب الرب بالجماعة كلها، وبدأ موت الفجأة بالشعب، وأخذ هارون كما أمره موسى فأحضر إلى الجماعة ورأى أن الموت قد بدأ بالشعب، وبخر بخوراً للرب واستغفر للشعب، وقام فيما بين الأموات والأحياء، فكف موت الفجأة عن الشعب، وكان عدد الذين ماتوا فجأة أربعة عشر ألفاً وسبعمائة رجل غير المخسوف بهم، ورجع هارون إلى موسى إلى قبة الزمان فكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل وخذ منهم عصا عصا من كل سبط، واكتب اسم كل رجل على عصاه، واكتب اسم هارون على عصا سبط لاوي، واجعلها في قنة الزمان أمام تابوت الشهادة لأنزل إليكم إلى

ص: 368

هناك، فالرجل الذي أحبه تنضر عصاه، وأخلصكما من هتار بني إسرائيل وتذمرهم؛ ثم دخل موسى خبأ الشهادة فرأى عصا هارون قد نضرت وأخرجت أغصاناً وأورقت وأثمرت لوزاً، وأخرج موسى العصي كلها فنظروا إليها، وقال الرب لموسى: رد قضيب هارون إلى موضع الشهادة واحفظه آية لأبناء المتسخطين ليكف تذمرهم عني ولا يموتوا، ولا يعمل عمل قبة الزمان غير اللاويين - أي سبط لاوي، فأما بنو إسرائيل - أي باقيهم - فلا يقتربوا إلى قبة الزمان لئلا يعاقبوا ويموتوا؛ ثم ذكر وفاة هارون عليه السلام في هور الجبل وولاية إليعازر ابنه مكانه أمر الكهنوت - انتهى. وهو نحو مما فعل الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حنين الجذع، وتخيير النبي صلى الله عليه وسلم له أن يعيده تعالى إلى أحسن ما كان وهو حي أو يجعله في الجنة، فاختار أن يكون في الجنة، وكذا أمر سراقة بن مالك بن جعشم حيث لحقه صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة ليرده فخسف بقوائم حصانه حتى نزل إلى بطنه ثلاث مرات غير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان نبي الرحمة لم يكن القاضية، فكفى بذلك شره، وأسلم بعد ذلك علم الفتح،

ص: 369

وبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يلبس سوراى كسرى فكان كذلك، وشر من الخسف الذي يغيب به المخسوف به وأنكأ وأشنع وأخزى قصة الذي ارتد فقصم ودفن فلفظته الأرض - روى البيهقي في آخر الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، فرفعوه وأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها فتركوه منبوذاً، وقال: رواه مسلم في الصحيح، وعن أنس رضي الله عنه مثله أيضاً في رجل نصراني لفظته الأرض ثلاث مرات ثم تركوه.

وقال رواه البخاري في الصحيح.

ص: 370

ولما قدم سبحانه أن المفلح من تاب وآمن وعمل صالحاً، وهو الذي أشار أهل العلم إلى أن له ثواب الله، وكان ذلك للآخرة

ص: 370

سبباً ومسبباً، ومر فيما لا بد منه حتى ذكر قصة قارون المعرّفة - ولا بد - بأن هذه الدار للزوال، لا يغنى فيها رجال ولا مال، وأن الآخرة للدوام، وأمر فيها بأن يحسن الابتغاء في أمر الدنيا، وختم بأن هذا الفلاح مسلوب عن الكافرين، فكان موضع استحضار الآخرة، مع أنه قدم قريباً من ذكرها وذكر موافقتها ما ملأ به الأسماع، فصيرها حاضرة لكل ذي فهم، معظمة عند كل ذي علم، أشار إليها سبحانه لكلا الأمرين: الحضور والعظم، فقال:{تلك} أي الأمر المنظور بكل عين، الحاضر في كل قلب، العظيم الشأن، البعيد الصيت، العلي المرتبة، الذي سمعت أخباره، وطنت على الآذان أوصافه وآثاره {الدار الآخرة} أي التي دلائلها أكثر من أن تحصر، وأوضح من أن تبين وتذكر، من أعظمها تعبير كل أحد عن حياته بالدنيا والتي أمر قارون بابتغائها فأبى إلا علواً وفساداً {نجعلها} بعظمتنا {للذين} يعملون ضد عمله.

ولما كان المقصود الأعظم طهارة القلب الذي عنه ينشأ عمل الجوارح، قال:{لا يريدون} ولم يقل يتعاطون - مثلاً،

ص: 371

تعظيماً لضرر الفساد بالتنفير من كل ما كان منه تسبب، إعلاماً بأن النفوس ميالة إليه نزاعة له فمهما رتعت قريباً منه اقتحمته لا محالة {علواً} أي شيئاً من العلو {في الأرض} فإنه أعظم جارّ إلى الفساد، وإذا أرادوا شيئاً من ذلك فيما يظهر لك عند أمرهم بمعروف أو نهيهم عن منكر، كان مقصودهم به علو كلمة الله للإمامة في الدين لا علوهم {ولا فساداً} بعمل ما يكره الله، بل يكونون على ضد ما كان فيه فرعون وهامان وقارون، من التواضع مع الإمامة لأجل حمل الدين عنهم ليكون لهم مثل أجر من اهتدى بهم، لا لحظ دنيوي، وعلامة العلو لأجل الإمامة لا الفساد ألا يتخذوا عباد الله خولاً، ولا مال الله دولاً، والضابط العمل بما يرضي الله والتعظيم لأمر الله والعزوف عن الدنيا.

ولما كان هذا شرح حال الخائفين من جلال الله تعالى، أخبر سبحانه أنه دائماً يجعل ظفرهم آخراً، فقال معبراً بالاسمية دلالة على الثبات:{والعاقبة} أي الحالة الأخيرة التي تعقب جميع الحالات لهم في الدنيا والآخرة، هكذا الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وإعلاماً بالوصف الذي أثمر لهم ذلك فقال تعالى:{للمتقين*} أي دائماً في كلا الدارين، لا عليهم فمن اللام يعرف أنها محمودة، وهذه الآيةِ يُعْرَف

ص: 372

أهل الآخرة من أهل الدنيا، فمن كان زاهداً في الأولى مجتهداً في الصلاح، وكان ممتحناً في أول أحواله مظفراً في ماله، فهو من أبناء الآخرة، وإلا فهو للدنيا.

ولما تحرر الفرق بين أهل الدارين، وكان لا بد من إتيان الآخرة، وعلم أن الآخرة إنما هي جزاء الأعمال، وتقرر من كونها للخائفين أنها على الآمنين، فاستؤنف تفصيل ذلك جواباً لمن كأنه قال: ما لمن أحسن ومن أساء عند القدوم؟ بقوله: {من جاء} أي في الآخرة أو الدنيا {بالحسنة} أي الحالة الصالحة {فله} من فضل الله {خير منها} من عشرة أضعاف إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ما لا يحيط به إلا الله تعالى {ومن جاء بالسيئة} وهي ما نهى الله عنه، ومنه إخافة المؤمنين {فلا يجزى} من جاز ما، وأظهر ما في هذا الفعل من الضمير العائد على من فقال:{الذين عملوا السيئات} تصويراً لحالهم تقبيحاً لها وتنفيراً من عملها، ولعله جمع هنا وأفرد أولاً إشارة إلى أن المسيء أكثر {إلا} مثله سواء عدلاً منه تعالى، هكذا كان الأصل، ولكنه قال:{ما كانوا} أي بجميع هممهم {يعملون*} مبالغة في المثلية، هذا

ص: 373

في الآخرة، وزادت الآية الإشارة إلى أنه يفعل في الدنيا مثل ذلك وإن خفي، فسيخافون في حرمهم بما أخافوا المؤمنين فيه وقد جعله الله للأمن، فاعتلوا عن الدخول في دينه بخوف التخطف من أرضهم، فسيصير عدم دخولهم فيه سبباً لخوفهم وتخطفهم من أرضهم فيعلمون أن ما كانوا فيه من الأمن إنما هو بسببك، ثم يصيرون يوم الفتح في قبضتك.

ولما قرر ذكر الآخرة التي هي المرجع وكرره، وأثبت الجزاء فيها، وأن العاقبة للمتقين، أتبعه ما هو في بيان ذلك كالعلة، فقال مستأنفاً مقرراً مؤكداً لما تقرر في أذهانهم من إنكار الآخرة وما يقتضيه حال خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة المشرفة من استبعاد رده إليها:{إن الذي فرض} أي أوجب {عليك القرآن} أي الجامع لما تفرق من المحاسن، المفصل لما التبس من جميع المعاني، أي فرض عليك جميع ما في هذا الكتاب المشتمل على الجمع والفرق بما يظهر حسن تلقيه من تلاوة وإبلاغ وتحد وعمل وألزمك فيه وغيرك هذه الملازم، وكلفكم تلك التكاليف التي منها المقارعة بالسيوف {لرآدك}

ص: 374

أي بعد الموت لأجل صعوبة ما كلفك به وألزمك من مشقته {إلى معاد} أي مرجع عظيم يا له من مرجع! يجزي فيه كل أحد بما عمل، فيبعثك ربك فيه ثواباً على إحسانك في العمل مقاماً محموداً يغبطك فيه الأولون والآخرون، بما عانيت في أمره من هذه المشقات التي لا تحملها الجبال، ولولا الرد إلى إلى هذا المعاد لكانت هذه التكاليف - التي لا يعمل أكثرهم بأكثرها ولا يجازي على المخالفة فيها - من العبث المعلوم أن العاقل من الآدميين متنزه عنه فكيف بأحكم الحاكمين! فاجتهد فيما أنت فيه لعز ذلك اليوم فإن العاقبة لك، والآية مثل قوله تعالى

{واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281]، {ثم إليه ترجعون} [البقرة: 28] {إلى الله مرجعكم} [المائدة: 48] إلى غير ذلك من الآيات، ويجوز أن يقال: إلى معاد أيّ معاد، أي مكان هو لعظمته أهل لأن يقصد العودَ إليه كل من خرج منه وهو مكة المشرفة: وطنك الدنيوي، كما فسرها بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه عنه البخاري، وعود هو لجلالته أهل لأن يذكر لدخولك إليها في جنود يعز بها الإسلام، ويذل بها الكفر وأهله على الدوام، والجنة المزخرفة:

ص: 375

وطنك الخروي، على أكمل الوجوه وأعلاها، وأعزها وأولاها، فلا تظن أنه يسلك بك سبيل أبويك عليهما الصلاة والسلام: إبراهيم في هجرته من حران بلد الكفر إلى الأرض المقدسة فلم يعد إليها، وإسماعيل في العلو به من الأرض المقدسة إلى أقدس منها فلم يعد إليها، بل يسلك لك سبيل أخيك موسى عليه الصلاة والسلام الذي أنزل عليه الكتاب كما أنزل عليك الكتاب القرآن الفرقان، والذي أشركوك به في قولهم {لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} [القصص: 48]- في إعادته إلى البلد الذي ذكر في هذه السورة - توطئة لهذه الآية - أنه خرج منه خائفاً يترقب - وهي مصر - إلى مدين في أطراف بلاد العرب، على وجه أهلك فيه أعداءه، أما من كان من غير قومه فبالإغراق في الماء، وأما من كان من قومه فبالخسف في الأرض، وأعز أولياءه من قومه وغيرهم، كما خرجت أنت من بلدك مكة خائفاً تترقب إلى المدينة الشريفة غير أن رجوعك - لكونك نبي الرحمة، وكون خروجك لم يكن مسبباً عن قتل أحد منهم - لا يكون فيه هلاكهم، بل عزهم وأمنهم وغناهم وثباتهم، واختير لفظ القرآن دون الكتاب لما فيه من الجمع من لازم النشر - كما مضى في الحجر، فناسب السياق الذي هو للنشر والحشر والفصل من بلده ثم الوصل، فإنه روى أن هذه

ص: 376

الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في الجحفة وهي في طريق الهجرة.

ولما فهم من الإبلاغ في هذا التأكيد أن ثَم من يبالغ في النفي والإنكار على حسب هذا التأكيد في الإثبات فيقول: إن الأمر ليس كذلك، ولا يعود إلى مكة المشرفة ومنا عين تطرف، قال مهدداً على طريق الاستئناف على لسانه صلى الله عليه وسلم لكون الإنكار تكذيباً له كما كذب موسى صلى الله عليه وسلم حين أجاب بمثل ذلك كما تقدم:{قل} أي لهؤلاء المنكرين لما أخبرتك به: {ربي} أي المحسن إليّ {أعلم} أي من كل أحد.

ولما كانت هذه القصة مسلمة لا نزاع فيها لعاقل تثبت الخالق، وكانوا يقولون: من ادعى رجوعه فهو ضال، توجه السؤال عن المهتدي إلى الصواب والضال، بما يشهد به فتح مكة عند الإقبال في أولئك الضراغمة الأبطال، والسادة الأقيال، فقال في أسلوب الاستفهام لإظهار الإنصاف والإبعاد من الاتهام:{من جاء بالهدى} أي الذي لا أبين منه، أنا فيما جئت به من ربي بهذا الكلام الذي يشهد الله لي بإعجازه أنه من عنده أم أنتم فيما تقولون من عند أنفسكم؟ {ومن هو في ضلال} أي أنتم في كلامكم الظاهر العوار العظيم العار أم أنا {مبين*} أي بين

ص: 377

في نفسه مظهر لكل أحد ما فيه من خلل وإن اجتهد التابع له في ستره.

ولما كان الجواب لكل من أنصف: هم في ضلال مبين لأنهم ينحتون من عند أنفسهم ما لا دليل عليه، وأنت جئت بالهدى لأنك أتيت به عن الله، بني عليه قوله:{وما} ويجوز أن تكون الجملة حالاً من الضمير في {عليك} وما بينهما اعتراض للاهتمام بالرد على المنكر للمعاد، أي فرضه عليك والحال أنك ما، ويجوز أن يقال: لما كان رجوعه إلى مكة غاية البعد لكثرة الكفار وقلة الأنصار، قربه بقوله معلماً أن كثيراً من الأمور تكون على غير رجاء، بل وعلى خلاف القياس: وما {كنت ترجوا} أي في سالف الدهر بحال من الأحوال {أن يلقى} أي ينزل على وجه لم يقدر على رده {إليك الكتاب} أي بهذا الاعتقاد ولا بشيء منه؛ ولا كان هذا من شأنك، ولا سمعه أحد منك يوماً من الأيام، ولا تأهبت لذلك أهبته العادية من تعلم خط أو مجالسة عالم ليتطرق إليك نوع اتهام، كما يشير إليه قوله تعالى في التي بعدها {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب} [العنكبوت: 48] واختير هنا لفظ الكتاب لأن السياق للرحمة التي من ثمراتها الاجتماع

ص: 378

المحكم، وذلك مدلول الكتاب؛ ثم قال:{إلا} أي لكن ألقي إليك الكتاب {رحمة} أي لأجل رحمة عظيمة لك ولجميع الخلائق بك، لم تكن ترجوها {من ربك} أي المحسن إليك بجعلك مصطفى لذلك، بالدعاء إليه وقصر الهمم عليه، وعبر بأداة الاستثناء المتصل إشارة إلى أن حاله قبل النبوة من التنزه عن عبادة الأوثان وعن القرب منها والحلف بها وعن والفواحش جميعاً، ومن الانقطاع إلى الله بالخلوة معه والتعبد له توفيقاً من الله كان حال من يرجو ذلك.

ولما تسبب عما تقدم الاجتهاد في تحريك الهمم إلى العكوف على أمر الله طمعاً فيما عنده سبحانه من الثواب، وشكراً على إنزال الكتاب، قال في سياق التأكيد لأن الطبع البشري يقتضي إدراك مظاهرة الكفار لأمر من التوفيق عظيم، لكثرتهم وقوتهم وعزتهم:{فلا تكونن} إذ ذاك بسبب اتصافهم لك لكثرتهم {ظهيراً} أي معيناً {للكافرين*} بالمكث بين ظهرانيهم، أو بالفتور عن الاجتهاد في دعائهم، يأساً منهم لما ترى من بعدهم من الإجابة وإن طال إنذارك، لا تمل أنت كما لم نمل نحن، فقد وصلنا لهم القول، وتابعنا لهم الوعظ

ص: 379

والقص، ونحن قادرون على إهلاكهم في لحظة، وهدايتهم في أقل لمحة، وكما أن موسى عليه الصلاة والسلام بعد الإنعام عليه لم يكن ظهيراً للمجرمين، وهذا تدريب من الله تعالى لأئمة الأمة في الدعاء إلى الله عند كثرة المخالف، وقلة الناصر المحالف.

ولما كان التواني في النهي عن المنكر إعراضاً عن الأوامر وإن كان المتواني مجتهداً في العمل، قال مؤكداً تنبيهاً على شدة الأمر لكثرة الأعداء وتتابع الإيذاء والاعتداء:{ولا يصدنك} أي الكفار بمبالغتهم في الإعراض وقولهم {لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} ونحوه {عن آيات الله} أي عن الصدع بها وهي من المتصف بصفات الكمال، في الأوقات الكائنة {بعد إذ أنزلت} أي وقع إنزالها ممن تعلمه منتهياً {إليك} مما ترى من أوامرها ونواهيها، ولقد بين هذا المعنى قوله:{وادع} أي أوجد الدعاء للناس {إلى ربك} أي المحسن إليك لإحسانه إليك، وإقباله دون الخلق عليك، وأعراه من التأكيد اكتفاء بالمستطاع فإن الفعل ليس للمبالغة فيه جداً، إشارة إلى أن جلب المصالح أيسر خطباً من درء المفاسد، فإن المطلوب فيه النهاية محدود بالاجتناب.

ص: 380

ولما كان الساكت عن فاعل المنكر شريكاً له، قال مؤكداً تنبيهاً علىلاهتمام بدرء المفاسد، وأنه لا بد فيه من بلوغ الغاية:{ولا تكونن من المشركين*} أي معدوداً في عدادهم بترك نهيهم عن شركهم وما يتسبب عنه ساعة واحدة.

ولما كان الكائن من قوم موصوفاً بما اتصف به كل منهم، وكانت مشاركتهم بالفعل أبعد من مشاركتهم بالسكوت، قال من غير تأكيد:{ولا تدع مع الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال {إلهاً} ولما كانت النكرة في سياق النهي تعم كما لو كانت في سياق النفي، وكان المشركون قد تعنتوا لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يدعو باسم الله واسم الرحمن كما ذكر آخر الإسراء، قال:{آخر} أي غير الله حقيقة دون أن يغاير في الاسم دون الذات، ومضى في آخر الحجر، ويأتي إن شاء الله تعالى في الذاريات ما يتضح به هذا المعنى، والمراد بهذا كله المبالغة في الإنذار إعلاماً بأن تارك النهي عن المنكر مع القدرة شريك للفاعل وإن لم يباشره، والنبي صلى الله عليه وسلم قادر لحراسة الله تعالى له؛ ثم علل ذلك بقوله:{لا إله إلا هو} أي حتى يستحق أن يشتغل به عبد؛ ثم علل وحدانيته بقوله: {كل شيء هالك} أي

ص: 381

هو في قوة الهلاك والفناء ومستحق لذلك لأنه ممكن {إلا وجهه} أي هو، فهو الباقي لأنه الواجب الوجود، ووجود كل موجود إنما كان به، ولعله عبر عن الذات بالوجه ليشمل ما قصد به من العمل الصالح مع ما هو معروف من تسويغه لذلك بكونه أشرف الجملة، وبكون النظر إليه هو الحامل على الطاعة بالاستحياء وما في معناه؛ ثم علل ذلك بقوله:{له} أي لله وحده فالضمير استخدام {الحكم} أي العمل المحكم بالعلم النافذ على كل شيء، ولا حكم لشيء عليه {وإليه} وحده {ترجعون*} في جميع أحوالكم: في الدنيا بحيث أنه لا ينفذ لأحد مراد إلا بإرادته، وفي الآخرة بالبعث فيجازي المحسن بإحسانه والعاصي بعصيانه، ولا شك أن هذه الأوامر والنواهي وإن كان خطابها متوجهاً إليه صلى الله عليه وسلم فالمقصود بها أتباعه، ولعلها إنما وجهت إليه صلى الله عليه وسلم عليه لأن أمر الرئيس أدعى لأتباعه إلى القبول، وقد اتضح بهذا البيان، في هذه المعاني الحسان، أن هذا الكتاب مبين، وبإنفاذ إرادته سبحانه وتعالى في تقوية أهل الضعف من بني إسرائيل دون ما أراد فرعون وقارون وأتباعهما من أهل العلو بطاعة الماء والتراب وما جمع العناصر من اليد والعصا أن له وحده الحكم

ص: 382

على ما يريد ويختار، فصح أن إليه الرجوع يوم المعاد يوم لا تكلم نفس إلا بإذنه، فقد انطبق آخر السورة على أولها، وانشرح مجملها بمفصلها.

ص: 383

مقصودها الحث على الاجتهاد في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاء إلى الله تعالى وحمده من غير فترة، كما ختمت به السورة الماضية، من غير تعريج على غيره سبحانه أصلاً، لئلايكون مَثَلُ الفرج عند المتعوض عوضاً منه مَثَلَ العنكبوت، فهي سورة ضعف الكافرين وقوة المؤمنين، وقد ظهر سر تسميتها بالعنكبوت وأنه دال على مقصودها) بسم الله (الذي أحاط بجميع القوة فأعز جنده) الرحمن (الذي شمل جميع العباد بنعمة الأمر والنهي) الرحيم (الذي ألزم أهل العرفان ذروة الإحسان.

لما ختم السورة الماضية بالحث على العمل للدار الآخرة، وأن كل أحد من محسن مسيء مجزى بعمله، وبالإخبار بأنه سبحانه عالم بالسر والعلن، بالأمر بالاجتهاد فيالدعاء إليه وقصر الهمم عليه وإن أدى ذلك إلى الملال، وذهاب النفس والأموال، معللاً بأن له الحكم سبحانه لأنه الباقي بلا زوال، وكل ماعداه فإلى تلاش واضمحلال، وأنه لا يفوته شيء في حال ولا مآل، قال أول هذه:

ص: 384

{الم} إشارة بالألف الدال على القائم الأعلى المحيط ولام الوصلة وميم التمام

ص: 384

بطريق الرمز إلى أنه سبحانه أرسل جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام ليدعو الناس بالقرآن الذي فرض عليه إلى الله، لتعرف بالدعوة سرائرهم ويتميز بالتكليف محقهم ومماكرهم {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} [محمد: 31] .

ولما عبر بهذه الإشارة لأهل الفطنة والبصائر، قال منكراً على من ظن أن مدعي الإيمان لا يكلف البيان، ومفصلاً لما ختمت به تلك من جميع هذه المعاني، بانياً على ما أشارت إليه الأحرف لأولي العرفان:{أحسب الناس} أي كافة، فإن كلاًًّ منهم يدعي أنه مؤمن لمعنى أنه يقول: إنه على الحق، ولعله عبر بالحسبان والنوس إشارة إلى أن فاعل ذلك مضطرب العقل منحرف المزاج.

ولما كان الحسبان، لا يصح تعليقه بالمفردات، وإنما يعلق بمضمون الجملة، وكان المراد إنكار حسبان مطلق الترك، كانت «أن» مصدرية عند جميع القراء، فعبر عن مضمون نحو: تركهم غير مفتونين لقولهم آمناً، بقوله:{أن يتركوا} أي في وقت ما بوجه من الوجوه، ولو رفع الفعل لأفهم أن المنكر حسبان الترك المؤكد، فلا يفيد إنكار ما عرى عنه، وقد مضى في المائدة ما ينفع هنا {أن} أي في أن

ص: 385

{يقولوا} ولو كان ذلك على وجه التجديد والاستمرار: {آمنا وهم} أي والحال أنهم {لا يفتنون*} أي يقع فتنتهم ممن له الأمر كله وله الكبرياء في السماوات والأرض، مرة بعد أخرى بأن يختبر صحة قولهم أولاً بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأحكام، وثانياً بالصبر على البأساء والضراء عند الابتلاء بالمدعوين إلىلله في التحمل لأذاهم والتجرع لبلاياهم وغير ذلك من الأفعال، التي يعرف بها مرتبة الأقوال، في الصحة والاختلال.

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: افتتحت سورة القصص بذكر امتحان بني إسرائيل بفرعون وابتلائهم بذبح أبنائهم وصبرهم على عظيم تلك المحنة، ثم ذكر تعالى حسن عاقبتهم وثمرة صبرهم، وانجرّ مع ذلك مما هو منه لكن انفصل عن عمومه بالقضية امتحان أم موسى بفراقه حال الطفولية وابتداء الرضاع وصبرها على أليم ذلك المذاق حتى رده تعالى إليها أجمل رد وأحسنه، ثم ذكر ابتلاء موسى عليه الصلاة والسلام بأمر القبطي وخروجه خائفاً يترقب وحن عاقبته وعظيم رحمته، وكل هذا ابتلاء أعقب خيراً، وختم برحمة ثم بضرب آخر من الابتلاء أعقب محنة وأورث شراً وسوء فتنة، وهو ابتلاء قارون بماله وافتنانه به، فخسفنا به وبداره الأرض، فحصل بهذا أن الابتلاء في

ص: 386

غالب الأمر سنة، وجرت منه سبحانه في عبادة ليميز الخبيث من الطيب، وهو المنزه عن الافتقار إلى تعرف أحوال العباد بما يبتليهم به إذ قد علم كون ذلك منهم قبل كونه إذ هو موجده وخالقه خيراً كان أو شراً، فكيف يغيب عنه أو يفتقر تعالى إلى بيانه بتعرف أحوال العباد أو يتوقف علمه على سبب

{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] ولكن هي سنة في عباده ليظهر لبعضهم من بعض عند الفتنة والابتلاء ما لم يكن ليظهر قبل ذلك حتى يشهدوا على أنفسهم، وتقوم الحجة عليهم باعترافهم، ولا افتقار به تعالى إلى شيء من ذلك، فلما تضمنت سورة القصص هذا الابتلاء في الخير والشر، وبه وقه افتتاحها واختتامها، هذا وقد أنجز بحكم الإشارة أولاً خروج نبينا صلى الله عليه وسلم من بلده ومنشأه ليأخذه عليه الصلاة ولاسلام بأوفر حظ مما ابتلي به الرسل والأنبياء من مفارقة الوطن وما يحرز لهم الأجر المناسب لعليّ درجاتهم عليهم السلام، ثم بشارته صلى الله عليه وسلم آخراً بالعودة والظفر {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} [القصص: 85] فأعقب سبحانه هذا بقوله معلماً للعباد ومنبهاً أنها سنته فيهم فقال {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} أي أحسبوا أن يقع

ص: 387

الاكتفاء بمجرد استجابتهم، وظاهر إنابتهم، ولما يقع امتحانهم بالشدائد والمشقات، وضروب الاختبارات {ولنبلونكم بشيء من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات} [البقرة: 155] فإذا وقع الابتلاء فمن فريق يتلقون ذلك تلقي العليم أن ذلك من عند الله ابتلاء واختباراً، فيكون تسخيراً لهم وتخليصاً، ومن فريق يقابلون ذلك بمرضاة الشيطان، والمسارعة إلى الكفر والخذلان {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} ثم أتبع سبحانه هذا بذكر حال بعض الناس ممن يدعي الإيمان، فإذا أصابه أدنى أذى من الكفار صرفه ذلك عن إيمانه، فكان عنده مقاوماً بعذاب الله الصارف لمن ضربه عن الكفر والمخالفة فقال تعالى {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} فكيف حال هؤلاء في تلقي ما هو أعظم من الفتنة، وأشد في المحنة، ثم أتبع سبحانه ذلك بما به يتأسى الموفق من صبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وطول مكايدتهم من قومهم، فذكر نوحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً عليهم الصلاة والسلام، وخص هؤلاء بالذكر لأنهم من أعظم الرسل مكابدة وأشدهم ابتلاء، أما نوح عليه السلام فلبث في قومه - كما أخبر الله تعالى - ألف سنة إلا خمسين عاماً وما آمن

ص: 388

معه إلا قليل، وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فرمى بالمنجنيق في النار فكانت عليه برداً وسلاماً، وقد نطق الكتاب العزيز بخصوص المذكورين عليهم الصلاة والسلام وزبضروب من الابتلاءات حصلوا على ثوابها، وفازوا من عظيم الرتبة النبوية العليا بأسنى نصابها، ثم ذكر تعالى أخذ المكذبين من أممهم فقال {فكلاًّ أخذنا بذنبه} ثم وصى نبيه صلى الله عليه وسلم وأوضح حجته، وتتابع اتساق الكلام إلى آخر السورة - انتهى.

ولما كان التآسي من سنن الآدميين، توقع المخاطب بهذا الأمر الخبر عن حالهم في ذلك، فقال مؤكداً لمن يظن أن الابتلاء لا يكون، لأن الله غني عنه فلا فائدة فيه جاهلاً بما فيه من الحكمة بإقامة الحجة على مقتضى عوائد الخلق:{ولقد} أي أحسبوا والحال أنا قد {فتنا} أي عاملنا بما لنا من العظمة معاملة المختبر {الذين} .

ولما كان التآسي بالقريب في الزمان أعظم، أثبت الجار في قوله:{من قبلهم} أي من قبل هؤلاء الذين أرسلناك إليهم من أتباع الأنبياء حتى كان الرجل منهم يمشط لحمه بأمشاط الحديد ما يرده ذلك عن دينه، ومن رؤوسهم صاحب أكثر السورة الماضية موسى عليه الصلاة والسلام، ففي قصته حديث طويل عن ابن عباس رضي الله عنهما يقال له حديث الفتون وهو في مسند أبي يعلى، ومن آخر ما ابتلى به

ص: 389

أمر قارون وأتباعه.

ولما كان الامتحان سبباً لكشف مخبآت الإنسان بل الحيوان، فيكرم عنده أو يهان، وأرشد السياق إلى أن المعنى: فلنفتننهم، نسق به قوله:{فليعلمن الله} أي الذي له الكمال كله، بفتنة خلقه، علماً شهودياً كما كان يعلم ذلك علماً غيبياً، ويظهره لعباده ولو بولغ في ستره، وعبر بالاسم الأعظم الدال على جميع صفات الكمال التفاتاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منه تنبيهاً للناقصين - وهم أكثر الناس - على أنه منزه عن كل شائبة نقص، وأكد إشارة إلى أن أكثر الناس يظن الثبات عند الابتلاء وأنه إذا أخفى عمله لا يطلع عليه أحد {الذين صدقوا} في دعواهم الإيمان ولو كانوا في أدنى مراتب الصدق، وليعلمن الصادقين، وهم الصابرون الدين يقولون عند البلاء {هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} فيكون أحدهم عند الرخاء براً شكوراً، وعند البلاء حراً صبوراً، وليعلمن الذين كذبوا في دعواهم {وليعلمن الكاذبين*} أي الراسخين في الكذب الذين يعبدون الله على حرف، فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم، فظنوا، فيكون لكل من الجزاء على حسب ما كشف

ص: 390

منه البلاء، والتعبير بالمضارع لتحقق الاختبار، على تجدد الأعصار، لجمعي الأخيار والأشرار، فمن لم يجاهد نفسه عند الفتنة فيطيع في السراء والضراء كان من الكافرين فكان في جهنم {أليس في جهنم مثوى للكافرين} ومن جاهد كان من المحسنين، والآية من الاحتباك: دل بالذين صدقوا على الذين كذبوا، وبالكاذبين على الصادقين، ذكر الفعل أولا دليلاً على تقدير ضده ثانياً، والاسم ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً.

ولما أثبت سبحانه بهذا علمه الشامل وقدرته التامة في الدنيا، عادله بما يستلزم مثل ذلك في الآخرة، فكان حاصل ما مضى من الاستفهام: أحسب الناس أنا لا نقدر عليهم ولا نعلم أحوالهم في الدنيا أم حسبوا أنم ذلك لا يكون في الأخرى، فيذهب ظلمهم في الدنيا وتركهم لأمر الله وتكبرهم على عبادة مجاناً، فيكون خلقنا لهم عبثاُ لا حكمة فيه، بل الحكمة في تركه، وهذا الثاني هو معنى قوله منكراً أم حسب، أو يكون المعنى أنه لما انكر على الناس عموماً ظنهم الإهمال، علم أن أهل السيئات أولى بهذا الحكم، فكان الإنكار عليهم أشد، فعادل الهمزة بأم في السياق الإنكار كما عادلها بها في قوله:

{أتخذتم عند الله عهداً} [

ص: 391

البقرة: 80] الآية، فقال:{أم حسب} أي ظن ظناً يمشي له ويستمر عليه، فلا يبين له جهله فيه بأمر يحسبه فلا يشتبه عليه بوجه {الذين يعملون السيئات} أي التي منعناهم بأدلة النقل المؤيدة ببراهين العقل - منها بالنهي عنها، ووضع موضع المفعولين ما اشتمل على مسند ومسند إليه من قوله:{أن يسبقونا} أي يفوتونا فوت السابق لغيره فيعجزونا فلا نقدر عليهم في الدنيا بإمضاء ما قدرناه عليهم من خير وشر في أوقاته التي ضربناها له، وفي الدار الآخرة بأن نحييهم بعد أن نميتهم، ثم نحشرهم إلى محل الجزاء صغرة داخرين، فنجازيهم على ما عملوا ونقتص لمن أساؤوا إليه منهم، ويظهر تحلينا بصفة العدل فيهم.

ولما أنكر هذا، عجب ممن يحوك ذلك في صدره تعظيماً لإنكار فقال:{ساء ما يحكمون*} أي ما أسوأ هذا الذي أوقعوا الحكم به لأنفسهم لأن أضعفهم عقلاً لا يرضى لعبيده أن يظلم بعضهم بعضاً ثم لا ينصف بينهم فكيف يظنون بنا ما لا يرضونه لأنفسهم.

ص: 392

ولما خوف عباده المحسنين والمسيئين، وضربهم بسوط القهر أجمعين، أشار إلى التلويح بتهديد الكاذبين في التصريح بتشويق

ص: 392

الصادقين فقال على سبيل الاستنتاج مما مضى: {من كان يرجو} عبر به لأن الرجاء كافٍ عن الخوف منه سبحانه {لقاء الله} أي الجامع لصفات الكمال، فلا يجوز عليه ترك البعث فإنه نقص ومنابذ للحكمة، وشبه البعث باللقاء لانكشاف كثير من الحجب به وحضور الجزاء.

ولما كان المنكر للبعث كثيراً، أكد فقال موضع: فإنه آت فليحذر وليبشر، تفخيماً للأمر وتثبيتاً وتهويلاً:{فإن أجل الله} أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق وجميع صفات الكمال المحتوم لذلك {لآت} لا محيص عنه، فإنه لا يجوز عليه وقوع إخلاف الوعد، ولذلك عبر بالاسم الأعظم، وللإشارة إلى أن أهوال اللقاء لا يحيط لها العد، ولا يحصرها حد، فليتعد لذلك بالمجاهدة والمقاتلة لنفسه من ينصحها، وقال تعالى:{وهو} أي وحده {السميع العليم*} حثاً على تطهير الظاهر والباطن في العقد والقول والفعل.

ولما حث على العمل، بين أنه ليس إلا لنفع العامل، لئلا يخطر في خاطر ما يوجب تعب الدنيا وشقاء الآخرة من اعتقاد ما لا يليق بجلاله تعالى، فقال عاطفاً على ما تقديره: فمن أراح نفسه في الدنيا فإنما

ص: 393

ضر نفسه: {ومن جاهد} أي بذل جهده حتى كأنه يسابق آخر في الأعمال الصالحة {فإنما يجاهد لنفسه} لأن نفع ذلك له فيتعبها ليريحها، ويشقيها ليسعدها، ويميتها ليحييها، وعبر بالنفس لأنها الأمارة بالسوء، وإنما طوى ما أدعى تقديره لأن السياق للمجاهدة، ثم علل هذا الحصر بقوله:{إن الله} أي المتعالي عن كل شائبة نقص {لغني} وأكد لأن كثرة الأوامر ربما أوجبت للجاهل ظن الحاجة، وذلك نكتة الإتيان بالاسم الأعظم، وبين أن غناه الغنى المطلق بقوله موضع «عنه» {عن العالمين*} فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية.

ولما كان التقدير: فالذين كفروا وعملوا السيئات لنجزينهم أجمعين، ولكنه طواه لأن السياق لأهل الرجاء، عطف عليه قوله:{والذين آمنوا وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} في الشدة والرخاء على حسب طاقتهم، واشار بقوله:{لنكفرن عنهم سيئاتهم} إلى أن الإنسان وإن اجتهد لا بد أن يزل لأنه مجبول على النقص، فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما لم يؤت الكبائر، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان ونحو ذلك مما وردت به الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم. وزاده فضلاً وشرفاً لديه؛ قال البغوي: والتكفير إذهاب السيئة بالحسنة، أو لنغفرن لهم الشرك وما عملوا فيه،

ص: 394

وأكد لأن الإنسان مجبول على الانتقام ممن أساء ولو بكلمة ولو بالامتنان بذكر العفو فلا يكاد يحقق غير ما طبع عليه. ولما بشرهم بالعفو عن العقاب، أتم البشرى بالامتنان بالثواب، فقال عاطفاً على ما تقديره: ولنثبتن لهم حسناتهم {ولنجزينهم} أي في الإسلام {أحسن الذي كانوا} أي كوناً يحملهم على أتم رغبة {يعملون*} أي أحسن جزاء ما عملوه في الإسلام وما قبله وفي طبعهم أن يعملوه.

ولما ذكر سبحانه أنه لا بد من الفتنة، وحذر من كفر، وبشر من صبر، قال عاطفاً على {ولقد فتنا} مشيراً إلى تعظيم حرمة الوالد حيث جعلها في سياق تعظيم الخالق، وإلى أنها أعظم فتنة:{ووصينا} على ما لنا من العظمة {الإنسان} أي الذي أعناه على ذلك بأن جعلناه على الأنس بأشكاله لا سيما من أحسن إليه، فكيف بأعز الخلق عليه، وذلك فتنة له {بوالديه} .

ولما كان التقدير: فقلنا له: افعل بهما {حسناً} أي فعلاً ذا حسن من برهما وعطف عليهما، عطف عليه قوله:{وإن جاهداك} أي فعلاً معك فعل المجاهد مع من يجاهده فاستفرغا مجهودهما في معالجتك {لتشرك} وترك مظهر العظمة للنص على المقصود فقال: {بي} ونبهه على طلب البرهان في الأصول إشارة إلى خطر المقام لعظم المرام، فقال استعمالاً للعدل، مشيراً بنفي العلم إلى انتفاء العلوم:{ما ليس لك به علم}

ص: 395

أصلاً بأنه يستحق الشركة فإن من عبد ما لم يعلم استحقاقه للعبادة فهو كافر {فلا تطعهما} فإنه لا طاعة لمخلوق - وإن عظم - في معصية الخالق، وهذا موجب لئلا يقع من أحد شرك أصلاً، فإنه لا ريب أصلاً في أنه لا شبهة تقوم على أن غيره تعالى يستحق الإلهية، فكيف بدليل يوجب علماً، والمقصود من سياق الكلام إظهار النصفة والتنبيه على النصيحة، ليكون أدعى إلى القبول؛ ثم علل ذلك بقوله:{إليّ مرجعكم} أي جميعاً: من آمن ومن أشرك بالحشر يوم القيامة؛ ثم سبب عنه قوله: {فأنبئكم} أي أخبركم إخباراً عظيماً مستقصى بليغاً {بما كنتم} أي برغبتكم {تعملون*} أي فقفوا عند حدودي، واتركوا ما تزينه لكم شهواتكم، واحذروا مجازاتي على قليل ذلك وكثيره، عبر سبحانه بالسبب الذي هو الإنباء لأنه لا مثنوية فيه عن المسبب الذي هو الجزاء، مطلقاً للعبارة، وتهديداً بليغاً على وجه الإشارة، وطوى ذكره لأنه قد يدخله العفو، وهذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أسلم وكان باراً بأمه، فحلفت: لا تأكل ولا تشرب حتى يرجع عن دينه أو تموت فيعير بها ويقال قاتل أمه، فمكثت يومين بلياليهما فقال: ياأماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت

ص: 396

ديني فكلي، وإن شئت فلا تأكلي! فلما أيست منه أكلت وشربت - وأصل القصة في الترمذي.

ولما كان التقدير: فالذين أشركوا وعملوا السيئات لندخلنهم في المفسدين، ولكنه طواه لدلالة السياق عليه، عطف عليه زيادة في الحث على الإحسان إلى الوالدين قوله:{والذين آمنوا وعملوا} في السراء والضراء {الصالحات} .

ولما كان الصالح في الغالب سيىء الحال في الدنيا ناقص الحظ منها، فكان عدوه ينكر أن يحسن حاله أشد إنكار، أكد قوله:{لندخلنهم} أي بوعد لا خلف فيه {في الصالحين*} وناهيك به من مدخل، فإنه من أبلغ صفات المؤمنين.

ص: 397

ولما كانت ترجمة ما مضى من قسم الراجي والمجاهد والعامل للصالح: فمن الناس - كما أشير إليه - من يؤمن بالله، فإذا أوذى في الله صبر واحتسب انتظاراً للجزاء من العلي الأعلى، ولكنه حذف من كل جملة ما دل عليه بما ذكر في الأخرى، عطف عليه:{ومن الناس} أي المذبذبين {من يقول} أي بلسانه دون طمأنينة من قلبه: {آمنا بالله} أي الذي اختص بصفات الكمال، وأشار بعد الإيماء

ص: 397

إلى كثرة هذا الصنف بالإسناد إلى ضمير الجمع - إلى أن الأذى في هذه الدار ضربة لازب لا بد منه، بقوله بأداة التحقيق:{فإذا أوذي} أي فتنة له واختباراً من أيِّ مؤذ كان {في الله} أي بسبب كونه في سبيل الله الذي لا يدانيه في عظمته وجميع صفاته شيء، ببلاء يسلط به عباده عليه {جعل} أي ذلك الذي ادعى الإيمان {فتنة الناس} أي له بما يصيبه من أذاهم في جسده الذي إذا مات انقطع أذاهم عنه {كعذاب الله} أي المحيط بكل شيء، فلا يرجى الانفكاك منه، فيصرف المعذب بعد الشماخة والكبر إلى الخضوع والذل، لأن لا كفؤ له ولا مجير عليه، فلا يطاق عذابه، لأنه على كل من الروح والجسد، لا يمكن مفارقته لهما ولا لواحد منهما بموت ولا بحياة إلا بإرادته حتى يكون عمل هذا المعذب عند عذاب الناس له الطاعة لهم في جميع ما يأمرون به ظاهراً وباطناً، فيتبين حينئذ أنه كان كاذباً في دعوى الإيمان، وقصر الرجاء على الملك الديان، وأشار إلى أن الفتنة ربما استمرت إلى الممات وطال زمنها بالتعبير بأداة الشك، وأكد لاستبعاد كل سامع أن يقع من أحد بهت في قوله:{ولئن جاء نصر} أي لحزب الله الثابتي الإيمان.

ولما كان الإحسان منه إنما هو محض امتنان، فلا يجب عليه لأحد

ص: 398

شيء، عبر بما يدل على ذلك مشيراً إلى أنه يفعله لأجله صلى الله عليه وسلم فقال:{من ربك} أي المحسن إليك بنصر أهل دينك، تصديقاً لوعدك لهم، وإدخالاً للسرور عليك،

ولما كانت هذه الحالة رخاء، عبر بضمير الجمع إشارة إلى نحو قول الشاعر:

وما أكثر الإخوان حين تعدهم

ولكنهم في النائبات قليل

فقال: {ليقولن} أي هؤلاء الذين لم يصبروا، خداعاً للمؤمنين خوفاً ورجاءً وعبر في حالة الشدة بالإفراد لئلا يتوهم أن الجمع قيد، وجمع هنا دلالة على أنهم لا يستحيون من الكذب ولو على رؤوس الأشهاد، وأكدوا لعلمهم أن قولهم ينكر لأنهم كاذبون فقالوا:{إنا كنا معكم} أي لم نزايلكم بقلوبنا وإن أطعنا أولئك بآلسنتنا.

ولما كان التقدير: أليس أولياؤنا المتفرسون بأحوالهم عالمين؟ عطف عليه منكراً قوله: {أو ليس الله} المحيط بعلم الباطن كما هو محيط بعلم الظاهر {بأعلم بما في صدور العالمين*} أي كلهم، منهم فلا يخفى عليه شيء من ذلك إخلاصاً كان أو نفاقاً، بل هو أعلم من أصحاب الصدور بذلك.

ولما أنكر عدم العلم، صرح بالعلم فقال واعداً متوعداً، عاطفاً

ص: 399

على ما أفهمه السياق من نحو: فقد علم الله جميع ما أخفوا وما أعلنوا: {وليعلمن الله} أي المحيط علماً وقدرة في عالم الشهادة حتى ينكشف ذلك لديكم كما هو عالم به في عالم الغيب {الذين آمنوا} أي وقع منهم إيمان، وليعلمن المؤمنين إيماناً صادقاً بما يواليه عليهم من المحن، وهم لا يزدادون إلا تسليماً ورضى، وأكده لما قدم من أن الناس حسبوا أنهم لا يفتنون {وليعلمن} الذي نافقوا وليعلمن {المنافقين*} بمثل ذلك من الزلازل والفتن التي يميلون معها كيفما ميّلتهم، حتى يعلم كل من له لب أنه لا إيمان لهم كما أنه لا أيمان لهم، ولا شك أنه يعامل كلاًّ من الفريقين بما يستحق على حسب ما يعلم من قلبه، والآية من الاحتباك كما مضى عند {وليعلمن الله الذين صدقوا} .

ولما كان السياق للفتنة والأذى في الله المحقق أمره بإذا دون «إن» وكان الكفار يفتنون من أسلم في أول الأمر، ذكر سبحانه بعض ما كانوا يقولون لهم عند الفتنة جهلاً بالله وغروراً، فقال معجباً منهم،

ص: 400

عاطفاً على {ومن الناس من يقول} : {وقال الذين كفروا} اغتراراً منهم بالله، وجرأة على حماه المنيع {للذين} أي لطائفة من يقول بلسانه: آمنا بالله، وهم الذين {آمنوا} أي حقيقة، جهلاً منهم بما خالط قلوبهم من بشاشة الإيمان، وأنوار العرفان:{اتبعوا} أي كلفوا أنفسكم بأن تتبعوا {سبيلنا} أي طريق ديننا، وعطفوا وعدهم في مجازاتهم على ذلك بصيغة الأمر على أمرهم باتباعهم للدلالة على أنه محقق لا شك فيه فقالوا:{ولنحمل خطاياكم} بوعد صادق وأمر محتوم جازم، إن كان ما تقولون حقاً إنه لا بد لنا من معاد نؤاخذ فيه بالخطايا، ولو دروا لعمري ما الخبر، يوم يقولون: لا مفر، ما عرضوا أنفسهم لهذا الخطر، يوم يود كل امرىء لو افتدى بماله وبنيه، وعرسه وأخيه، وصديقه وأبيه، ويكون كلامهم - وإن كان أمراً - بمعنى الخبر لأنه وعد كذبه سبحانه لأن معناه: إن كتب عليكم إثم حملناه عنكم بوعد لا خلف فيه {وما هم} أي الكفار {بحاملين} ظاهراً ولا باطناً {من خطاياكم} أي المؤمنين {من شيء} وهم يقدرون أن لا يحملوا، أو حملاً يخفف عنهم العذاب، أي إنهم إذا عاينوا تلك الأحوال، وطاشت عقولهم في بحار هاتيك الأهوال، التي لا يقوم لها الجبال،

ص: 401

تبرؤوا ممن قالوا له هذا المقال، فقد أخبروا بما لا يطابق الواقع، ويجوز أن يكونوا تعمدوا الكذب حال الإخبار إن كانت نيتهم أنهم لا يفون على تقدير تحقق الجزاء.

ولما علم من هذا كذبهم بكل حال سواء تعمدوا أو لا، صرح به تأكيداً لمضمون ما قبله، مؤكداً لأجل ظن من غروه صدقهم في قوله: مستأنفاً: {إنهم لكاذبون*} .

ولما كان كل من أسلك أحداً طريقاً كان شريكه في عمله فيها، فكان عليه مثل وزره إن كانت طريق ردى، وله مثل أجره إن كانت سبيل هدى، قال تعالى مؤكداً لإنكارهم الآخرة وكل ما فيها:{وليحملن} أي الكفرة {أثقالهم} التي حملوها أنفسهم الضعيفة بما اكتسبوا {وأثقالاً} أخرى لغيرهم {مع أثقالهم} بما تسببوا به من إضلال غيرهم، ومن تأصيل السنن الجائرة الجارية بعدهم، فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص أحدهم من حمل الآخرة شيئاً.

ولما كان للسؤال على طريق الازدراء والإذلال، من الرعب

ص: 402

في القلب ما ليس للأفعال قال: {وليسألن} أي من كل من أمره المولى بسؤالهم {يوم القيامة} أي الذي هم به مكذبون، وله مستهينون والتأكيد إما لإنكارهم ذلك اليوم، أو لظن أن العالم لا يسأل عما يعلمه، {عما كانوا} أي بغاية الرغبة {يفترون*} أي يتعمدون كذبه، ويُعملون أفكارهم في ارتكابه ويواظبون عليه، والتعبير بصيغة الافتعال يدل على أنهم كانوا يعلمون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ويتعمدون الكذب في وعدهم لمن غروه.

ص: 403

ولما كان السياق للبلاء والامتحان، والصبر على الهوان، وإثبات علم الله وقدرته على إنجاء الطائع وتعذيب العاصي، ذكر من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام من طال صبره على البلاء، ولم يفتر عزمه عن نصيحة العباد على ما يعاملونه به من الأذى، تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ولتابعيه رضي الله تعالى عنهم وتثبيتاً لهم وتهديداً لقريش، فقال عاطفاً على {ولقد فتنا الذين من قبلهم} ما هو كالشرح له، وله نظر عظيم إلى {ولقد وصلنا لهم القول} [القصص: 51] وأكده دفعاً لوهم من يقول: إن القدرة على التصرف في القلوب مغنية عن الرسالة في دار التسبب: {ولقد أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة المغنية عن الرسالة إجراء للأمور على ما تقتضيه هذه الدار من حكمة التسبيب

ص: 403

{نوحاً} أي أول رسل الله الخافقين من العباد، وهو معنى {إلى قومه} فإن الكفر كان قد عم أهل الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم أطول الأنبياء بلاء بهم، ولذلك قال مسبباً عن ذلك ومعقباً:{فلبث فيهم} أي بعد الرسالة يدعوهم إلى الله، وعظم الأمر بقوله:{ألف} فذكر رأس العدد الذي لا رأس أكبر منه، وعبر بلفظ {سنة} ذماً لأيام الكفر، وقال:{إلا خمسين} فحقق أن ذلك الزمان تسعمائة وخمسون من غير زيادة ولا نقص مع الاختصار والعذوبة، وقال:{عاماً} إشارة إلى أن زمان حياته عليه الصلاة والسلام بعد إغراقهم كان رغداً واسعاً حسناً يإيمان المؤمنين وخصب الأرض.

ولما كان تكرير الدعاء مع عدم الإجابة أدل على الامتثال وعدم الملال، قال مسبباً عن لبثه فيهم ودعائه لهم ومعقباً له:{فأخذهم} أي كلهم بالإغراق أخذ قهر وغلبة {الطوفان} أي من الماء، لأن الطوفان في الأصل لكل فاش طامّ محيط غالب ممتلىء كثرة وشدة وقوة من سيل أو ظلام أو موت أو غيرها، والمراد هنا الماء {وهم ظالمون*} أي عريقون في هذا الوصف، وهو وضع الأشياء في غير مواضعها فعل من يمشي في أشد الظلام، بتكذيبهم رسولهم، وإصرارهم على كفرهم، وهو ملازم لدعائهم ليلاً ونهاراً لم يرجع منهم عن الضلال إلا ناس

ص: 404

لقلتهم لا يعدون؛ ودل عليهم مسبباً عن ذلك بقوله: {فأنجيناه} أي نوحاً عليه السلام بما لنا من العظمة التي لا يغلبها شيء {وأصحاب السفينة} من أولاده وأتباعه، من الغرق، وماذا يبلغ مقدار أهل سفينة واحدة في العدة والكثرة {وجعلناها} أي الفعلة أو السفينة أي نفسها وجنسها، بتلك العظمة {آية} أي علامة على قدرة الله وعلمه وإنجائه للطائع وإهلاكه للعاصي {للعالمين*} فإن لم يقع في الدهر حادثة أعظم منها ولا أغرب ولا أشهر في تطبيق الماء جميع الأرض، بطولها والعرض، وإغراق جميع من عليها من حيوان: إنسان وغير إنسان، وإنجاء ناس فيهم بما هيأ قبل الفعل من سبب ذلك المستمر نفعه على تكرار الأحقاب وتعاقب الأزمان، وكونها آية أما للآدميين الذين كانوا في ذلك الزمان فالأمر فيهم واضح، وأما غيرهم من الحيوان فقد عرفوا لمعرفتهم بالجزئيات المشاهدة أن ذلك الماء لا ينجى منه في دار الأسباب إلا هذه السفينة، فالهداية إلى فعلها للنجاة قبل وقوع سبب الهلاك دالة على تمام العلم وشمول القدرة، وأن من اهتدى إليه دون أهل ذلك

ص: 405

العصر كلهم إنما اهتدى بإعلام الله دون غيره، ونصف الآية الأولى الأول من هذه القصة تسلية وتعزية دليلاً على آيتي الفتنة أول السورة، ونصفها الثاني تحذير وتوقية، وفيه دليل على الآية الثالثة، والآية الثالثة، والآية الأخرى تبشير وترجية، وفيه دليل على ما بعد.

ولما كان بلاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام عظيماً في قذفه في النار وإخراجه من بلاده، أتبعه به فقال:{وإبراهيم} أي ولقد أرسلنا إبراهيم، ويجوز أن يكون التقدير: واذكر إبراهيم أباك الأعظم لتتأسى به وتتسلى ويتعظ قومك بقصته، لكن قوله {وإلى مدين} يرجح الأول، ودل على مبادرته للامتثال بقوله:{إذ} أي حين، وهو بدل اشتمال على التقدير الثاني لاشتمال الأحيان على ما قبلها {قال لقومه} الذين هو منهم:{اعبدوا الله} أي الملك الأعظم بما يأمركم به من طاعته {واتقوه} أي خافوه في أن تشركوا به شيئاً فإنه يعذبكم {ذلكم} أي الأمر العظيم الذي هو إخلاصكم في عبادتكم له وتقواكم {خير لكم} أي من كل شيء {إن كنتم} أي بما لكم من الغرائز الصالحة {تعلمون*} أي إن كنتم في عداد من يتجدد

ص: 406

له علم فأنتم تقولون: إنه خير، أي تعتقدون ذلك فتعملون به، وإن لم تعملوا ذلك فأنتم في عداد الحيوانات العجم، بل أضل، فإنها تهتدي لما ينفعها فتقبل عليه، وتسعى بجهدها إليه.

ولما أمرهم بما تقدم، ونفى العلم عمن جهل خيريته، دل عليه بقوله:{إنما تعبدون} ولما كان الله أعلى من كل شيء قال: {من دون الله} أي الذي لا شبيه له ولا نظير، ولا ثاني ولا وزير، وقال:{أوثاناً} إشارة إلى تفرق الهم بكثرة المعبود، والكثرة يلزمها الفرقة ولا خير في الفرقة. ومادة «وثن» بجميع تقاليبها واوية ويائية مهموزة تدور على الزيادة والكثرة، ويلزمها الفرقة من اختلاف الكلمة، فيلزمها حينئذ الرخاوة فيأتي العجز، وتراكيبها تسعة: في الواوي الثلاثة: وثن ثنو ثون، وفي اليائي ثلاثة: ثنى نثى ثين، وفي المهموز ثلاثة: أنث أثن نأث، فمن الزيادة: الوثن، قال القزاز: قال أبو منصور: الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما كان له جثة من خشب أو حجر أو فضة أو ذهب أو جوهر أو غيره ينحت فينصب فيعبد،

ص: 407

والصنم الصورة التي بلا جثة، ومنهم من جعل الوثن صنماً - انتهى.

وقال عبد الحق: قال الهروي: قال ابن عرفة: ما كان له صورة من جص أو حجارة أو غير ذلك فهو وثن - انتهى. فقد علم من ذلك أنه لا بد فيه من صورة أو جثة، وعلى كل تقدير فهو ثان لما شابه صورته أو جثته وزائد عليه. وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتاب الزينة: الصنم تمثال من حجارة على صورة الإنسان، فإذا كان من خشب فهو وثن، ويتخذ أيضاً من جص، وربما صوروا في الحائط أيضاً صورة إنسان فتسمى تلك الصورة أيضاً وثناً، والنصارى يفعلون ذلك ويصورون في بيعهم صورة المسيح وصورة مريم ويسجدون لها: واستوثن المال: سمن، فزاد لحمه، واستوثن من المال: استكثر، والنحل: صارت فرقتين صغاراً وكباراً، والإبل: نشأت أولادها معها، وأوثن زيداً: أجزل عطيته، والواثن: الشيء الثابت الدائم في مكانه، فالزيادة فيه بالنسبة إلى زمانه، ويمكن أن يكون من الرخاوة، فإنه لا يثبت على

ص: 408

هذه الصورة إلا ما لا قدرة له على حركة. ومن الفرقة: نثا الحديث - بتقديم النون - ينثوه وينثيه. يائي وواوي: أشاعه وحدث به، والشيء: فرقه وأذاعه، وأنثى: اغتاب وأنف من الشيء، ولا يؤنف منه إلا على تقدير نشره، والثوينا كالهوينا: الرقيق يفرش تحت الرغيف ليسوى ويعدل لأن يكون ظلمه، والتثاون: الاحتيال والخديعة، فإنها لا تكون إلا عن جمع فكر وتنبيه نظر، وهي أيضاً لا تكون إلا من عاجز عن الأخذ جهاراً، ومن ذلك تثاون للصيد - إذا جاءه مرة عن يمينه وأخرى عن يساره، والثني من كل شيء ما يثنى بعضه على بعض، ومن الوادي: منعطفه، واثنونى: انعطف، والثناء ككتاب: عقال البعير، وهو حبل مثنى يعقل به يد البعير فتثنى، والفناء لأنه يكثر انتيابه والتردد إليه، وأثناء الشيء: قواه وطاقاته، والاثنان: ضعف الواحد، والمؤنث ثنتان، وأصله ثنى،

ص: 409

والاثنين والثنى كإلى: يوم في الأسبوع، وثنيته عن وجهه: رددته، فصار له رجوع بعد ذهاب، وثنيث الرجلين: صرت ثانيهما وأنت أحدهما، ولا يقال: ثنيت فلاناً، ولكن يقال: صرت له ثانياً، والمثاني: القرآن أو ثني منه مرة بعد مرة، أو الحمد، أو البقرة إلى براءة - هكذا عبر في القاموس، وفي مختصر العين: ويقال: سور أولها البقرة وآخرها براءة، وذكر في القاموس في ذلك أقوالاً أخرى، ومن أوتار العود الذي بعد الأول واحدها مثنى، ومثنى الأيادي: إعادة المعروف مرتين فأكثر، والثنية: العقبة أوطريقها أو الجبل أو الطريقة فيه - لأنها بطلوعها ونزولها أو تعاريجها كأنها ثنيت مرتين، والثنايا من الأسنان: الأربع التي في مقدم الفم: ثنتان من فوق، وثنتان من أسفل، والناقة الطاعنة في السادسة، والبعير ثنى، والفرس الداخلة في الرابعة والشاة في الثالثة كالبقرة، وكأن ذلك كله من عرض

ص: 410

يعرض لثنيه الحيوان، والثنية: النخلة المستثناة من المساومة، والثنية والثناء، وصف بمدح أو ذم، أو خاص بالمدح، وذلك لأنه يكرر، والثين بالكسر: من يستخرج الدر من البحر، لأنه يكرر الغوص حتى يجد ويفارق مكانه لذلك ويفرق الدر من مكانه، والثين أيضاً: مثقب اللؤلؤ، لأن الثقب يفرق بين أجزائها ولأن المثقب نفسه يحرك فيكثر من حركته إذا فعل به ذلك.

ومن مهموزة؛ نأث عنه: بعد، والمنآث - بالضم، المبعد، والأثين: الأصيل، لأنه ثان لأصله، ومن الرخاوة الأنثى خلاف الذكر، والأنيت من الحديد الرخو وهو ما لم يكن ذكراً، والمؤنث: المخنث، والأنثيان: الخصيتان والأذنان، وأرض أنيثة ومئناث: سهلة، وسيف مئناث: كهام أي قليل لا يقطع - فقد تحرر أن المادة كلها دائرة على ما لا ينبغي لرتبة الإلهية من الكثرة والفرقة والرخاوة، ولذلك أتى بصيغة الحصر، وهو قصر قلب لسلب ما اعتقدوه فيها من الإلهية.

ولما أشار لهم إلى عدم صلاحيتها لتلك الرتبة العلية، والغاية الشماء السنية، بكثرتها، أشار لهم إلى قصورها أيضاً بتصويرها فقال بصيغة المضارع

ص: 411

إشارة إلى ما يرى في كل وقت من تجدد حدوثها: {وتخلقون} أي تصورون بأيديكم {إفكاً} أي شيئاً مصروفاً عن وجهه، فإنه مصنوع وأنتم تسمونه باسم الصانع، ومربوب وأنتم تعدونه رباً، وعبد وأنتم تقيمونه معبوداً، أو تقولون في حقها إنها آلهة كذباً.

ولما كان الإنسان محتاجاً أبداً، فكان لا يزال متوجهاً إلى من ينفعه، وكان قد أشار سبحانه إلى نقص معبوداتهم بنفي الخير عنها، صرح بعجزها، وأثبت اختصاصه بالخير، لينتج اسحقاقه للعبادة دونها وأكده رداً لما كانوا يتوهمونه من نفعها وضرها فقال:{إن الذين تعبدون} ضلالاً وعدولاً عن الحق الواضح {من دون الله} المحيط بصفات الكمال، المنزه عن شوائب الاختلال الذي لا يمكن أن يملأ جميع ما تحت رتبته شيء فكيف برتبته الشماء، وحضرته العلياء {لا يملكون لكم} أي وأنتم تعبدونها فكيف بغيركم {رزقاً} أي شيئاً من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه، فتسبب عن ذلك قوله:{فابتغوا} وأشار بصيغة الافتعال إلى السعي فيه، لأنه أجرى عادته سبحانه أنه في الغالب لا يؤتيه إلا بكد من المرزوق

ص: 412

وجهد، إما في العبادة والتوكل، وإما في السعي الظاهر في تحصيله بأسبابه الدنيوية «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» .

ولما أشار إلى ذلك، أشار إلى الإجمال في الطلب، وأن لا يعتقد أنه لا محالة في السبب، وإنما الأمر مع ذلك بيده، إن شاء أنجح وإن شاء خيب، بقوله:{عند الله} أي الذي له كل صفة كمال {الرزق} أي كله، فإنه لا شيء منه إلا وهو بيده، وقد دخل فيه كل موجود، فإن الكل خلق لذلك، فأحكمت صنعته وربط بعضه ببعض، فلو نقص منه شيء لاختل النظام، فتبطل الأحكام {واعبدوه} أي عبادة يقبلها، وهي ما كان خالصاً عن الشرك، فإن من يكون كذلك يستحق ذلك ويثيب العابد له، ويعاقب الزاهد فيه، فلا يشغلكم ابتغاء الرزق بالأسباب الظاهرة عن عبادته، فإنها هي الأسباب الحقيقية، فربما حرم العبد الرزق بالذنب يصيبه {واشكروا} أي أوقعوا الشكر {له} خاصة على ما أفاض عليكم من النعم؛ ثم علل ذلك بقوله:{إليه} أي وحده {ترجعون*} أي معنى في الدنيا والآخرة بأنه لا حكم في الحقيقة لأحد سواه، وحساً بالنشر والحشر بعد الموت بأيسر أمر فيثيب الطائع ويعذب العاصي في الدارين.

ص: 413

ولما كان التقدير: فإن تصدقوا فهو حظكم في الدنيا والآخرة، عطف عليه قوله:{وإن تكذبوا} والذي دلنا على هذا المحذوف هذه الواو العاطفة على غير معطوف معروف {فقد} أي فيكفيكم في الوعظ والتهديد معرفتكم بأنه {كذب أمم} في الأزمان الكائنة {من قبلكم} كثيرة، كعاد وثمود وقوم نوح وغيرهم، فجرى الأمر فيهم على سنن واحد لم يختلف قط في نجاة والمطيع للرسول وهلاك العاصي له، ولم يضر ذلك بالرسول شيئا وما ضروا به إلا أنفسهم {وما على الرسول} أن يقهركم على التصديق، بل ما عليه {إلا البلاغ المبين*} الموضح مع - ظهوره في نفسه - للأمر بحيث لا يبقى فيه شك، بإظهار المعجزة وإقامة الأدلة على الوحدانية.

ولما كان التقدير: ألم تروا إلى مصارعهم؟ واتساق الحال في أمرهم؟ فيكفيكم ذلك زاجراً، عطف عليه للدلالة على الرجوع إليه منكراً قوله:{أو لم يروا} بالخطاب في قراءة حمزة والكسائي وفي رواية عن أبي بكر عن عاصم جرياً على النسق السابق، وبالغيب للباقين، إعراضاً للإيذان بالغضب {كيف يبدئ الله} أي الذي له كل كمال {الخلق} أي يجدد إبداءه في كل لحظة، وهو بالضم من أبدأ، وقرىء بالفتح من بدأ، وهما معاً بمعنى الإنشاء من العدم؛

ص: 414

قال القزاز: أبدأت الشيء أبدئه إبداء - إذا أنشأته، والله المبدىء أي الذي بدأ الخلق، يقال: بدأهم وأبدأهم، وفي القاموس: بدأ الله الخلق: خلقهم كأبدأ. ورؤيتهم للإبداء موجودة في الحيوان للإبداء والإعادة في النبات، ولا فرق في الإعادة بين شيء وشيء فيكون قوله - {ثم يعيده} أي يجدد إعادته في كل لمحة - معطوفاً على {يبدئ} ولو لم يكن كذلك لكان عطفه عليه من حيث إن مشاهدة حال الابتداء جعلت مشاهدة لحال الإعادة من حيث إنه لا فرق، ولا حاجة حينئذ إلى تكلف عطفه على الجملة من أولها. ثم حقر أمره بالنسبة إلى عظيم قدرته، فقال ذاكراً نتيجة الأمر السابق:{إن ذلك} أي الإبداء والإعادة، وأكد لأجل إنكارهم {على الله يسير*} لأنه الجامع لكل كمال، المنزه عن كل شائبة نقص.

ولما ساق العزيزالجليل هذا الدليل، عما حاج به قومه الخليل، انتهزت الفرصة في إرشاد نبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام، وذلك أنه لما استدل عليه السلام على الوحدانية المستلزمة للقدرة على المعاد بإبطال إلهية معبوداتهم المستلزم لإبطال كل

ص: 415

ما شاكلها، فحصل الاستعداد للتصريح بأمر المعاد، فصرح به، كان ذلك فخراً عظيماً، ومفصلاً بيناً جسيماً، لإقامة الحجة على قريش وسائر العرب، فانتهزت فرصته واقتحمت لجته، كما هي عادة البلغاء، ودأب الفصحاء الحكماء، لأن ذلك كله إنما سيق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعظاً لقومه فقيل:{قل} أي يا محمد لهؤلاء الذين تقيدوا بما تقلدوا من مذاهب آبائهم من غير شبهة على صحته أصلاً: قد ثبت أن هذا كلام الله لما ثبت من عجزكم عن معارضته، فثبت أن هذا الدليل كلام أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنتم مصرحون بتقليد الآباء غير متحاشين من معرته ولا أب لكم أعظم من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإذا قلدتم من لا يفارقه في عبادة ما لا يضر ولا ينفع من غير شبهة أصلاً فقلدوا أباكم الأعظم في عبادة الله وحده لكونه أباكم، ولما أقام على ذلك من الأدلة التي لا مراء فيها قال: أو {سيروا} إن لم تقتدوا بأبيكم إبراهيم عليه السلام، وتتأملوا ما أقام من الدليل القاطع والبرهان الساطع {في الأرض} إن لم يكفكم النظر في أحوال بلادكم.

ولما كان السياق لإثبات الإلهية التي تجب المبادرة إلى تفريغ الفكر وتوجيه كل الذهن إلى الاستدلال عليها، عبر بالفاء المعقبة فقال:

ص: 416

{فانظروا} أي نظر اعتبار {كيف بدأ} أي ربكم الذي خلقكم ورزقكم {الخلق} من الحيوانات والنبات من الزروع والأشجار، وغيرها مما تضمنته الجبال والسهول والأوعار، وهذا يدل على أن الأول فيما هو أعم من الحيوان، فتقريرهم على الإعادة فيه حسن.

ولما كان المقصود بالذات بيان الإعادة التي هي من أجل مقاصد السورة، لإظهار ما مضى أولها من العدل يوم الفصل، وكانوا بها مكذبين، بين الاهتمام بأمرها بإبراز الاسم الأعظم بعد تكريره في هذا السياق غير مرة، وأضمره في سياق البداءة لإقرارهم له بها، إشارة إلى أنه باطن في هذه الدار، ظاهر بجميع الصفات في تلك، فقال:{ثم الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال فلا يفوته شيء، المتردي بالجلال، فاخشوا سطوته، واتقوا عقوبته ونقمته {ينشئ النشأة الآخرة} بعد النشأة الأولى. ثم علل ذلك بقوله مؤكداً تنزيلاً لهم منزلة المنكر لإنكارهم البعث:{إن الله} فكرر ذكره تنبيهاً بعد التيمن به على ما ذكره وعلى أنه في كل أفعاله لا سيما هذا مطلق غير مقيد بجهة من الجهات، ولا مشروط بأمر من الأمور {على كل شيء قدير*} لأن نسبة الأشياء كلها إليه واحدة.

ص: 417

ولما ثبت ذلك، أنتج لا محالة قوله: مهدداً بعد البيان الذي ليس بعده إلا العناد: {يعذب} بعدله {من يشاء} أي منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة، فلا يقدر أحد بشفاعة ولا غيرها على الحماية منه {ويرحم} بفضله {من يشاء} فلا يقدر أحد على أن يمسه بسوء {وإليه} أي وحده {تقلبون*} أي بعد موتكم بأيسر سعي.

ولما لم يبق للقدرة على إعادتهم مانع يدعي إلا ممانعتهم منها، أبطلها على تقدير ادعائهم لها فقال:{وما أنتم} أي أجمعون العرب وغيرهم {بمعجزين} أي بواقع إعجازهم في بعثكم وتعذيبكم {في الأرض} كيفما تقلبتم في ظاهرها وباطنها.

ولما كان الكلام هنا له أتم نظر إلى ما بعد البعث، وكانت الأحوال هناك خارجة عما يستقل به العقل، وكان أثر القدرة أتم وأكمل، وأهم وأشمل، وكان بعض الأرواح يكون في السماء بعد الموت قال:{ولا في السماء} أي لو فرض انكم وصلتم إليها بعد الموت بالحشر أو قبله، لأن الكل بعض ملكه، فكيف يعجزه من في ملكه، ويمكن أن يكون له نظر إلى قصة نمرود في بنائه الصرح الذي أراد به التوصل إلى السماء لا سيما والآيات مكتنفة بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من قبلها ومن بعدها.

ص: 418

ولما اخبرهم أنهم مقدور عليهم، وكان ربما بقي احتمال أن غيرهم ينصرهم، صرح بنفيه فقال:{وما لكم} أي أجمعين أنتم وغيركم أيها المحشورون، وأشار إلى سفول رتبة كل من سواه بقوله:{من دون الله} أي الذي هو أعظم من كل عظيم؛ وأكد النفي بإثبات الجار فقال: {من ولي} أي قريب يحميكم لأجل القرابة {ولا نصير*} لشيء غير ذلك لأنه لا كفوء له.

ولما كان التقدير: فالذين آمنوا بآيات ربهم ولقائه أولئك يرجون رحمتي وأولئك لهم نعيم مقيم، وكان قد أمرهم بالاستدلال، وهددهم ليرجعوا عن الضلال، بما أبقى للرجال بعض المحال، أتبعه ما قطعه، فقال عاطفاً على ذلك المقدر:{والذين كفروا} أي ستروا ما أظهرته لهم أنوار العقول {بآيات الله} أي دلائل الملك الأعظم المرئية والمسموعة التي لا أوضح منها {ولقائه} بالبعث بعد الموت الذي أخبر به وأقام الدليل على قدرته عليه بما لا أجلى منه {أولئك} أي البعداء البغضاء البعيدو الفهم المحطوطون عن رتبة الإنسان، بل رتبة مطلق الحيوان {يئسوا} أي تحقق يأسهم من الآن، بل من الأزل، لأنهم لم يرجوا

ص: 419

لقاء الله يوماً؛ ولا قال أحد منهم {رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} .

ولما كان أكثرهم متعنتاً، بين أن المتكلم بهذا الكلام، العالي عن متناول الأنام، هو الله المنوه باسمه في هذا النظام، بالالتفات إلى أسلوب التلكم، تنبيهاً لمفات السامعين بما ملأ الصدور وقصم الظهور فقال:{من رحمتي} أي من أن أفعل بهم من الإكرام بدخول الجنة وغيرها فعل الراحم؛ وكرر الإشارة تفخيماً للأمر فقال: {وأولئك} أي الذين ليس بعد بعدهم بعد، وتهكم بهم في التعبير بلام الملك التي يغلب استعمالهما في المحبوب فقال:{لهم عذاب أليم*} أي مؤلم بالغ إيلامه في الدنيا والآخرة.

ص: 420

ولما ختم سبحانه هذه الجملة الاعتراضية بما ابتدأها به وبما ختم به ما قبلها من كلام الخليل عليه الصلاة والسلام، وزاد هذا ما ترى من التهديد الشديد، شرع في إكمال قصته عليه الصلاة والسلام دالاً على أنه لا أحد يعجزه، ولا يقدر على نصر أحد من عذابه الأليم، مشيراً إلى أنهم سببوا عن قوله ضد ما يقتضيه إيذاناً بالعناد، والإصرار على سوء الاعتقاد، فقال:{فما كان جواب قومه} أي الذين يرجى قبولهم

ص: 420

لنصحه علماً منهم بوفور شفقته وعظم أمانته ونصيحته {إلا أن قالوا} بأعظم فظاظة {اقتلوه} أي بالسيف {أو حرقوه} أي بالنار.

ولما استقر رأي الجميع على هذا الثاني، ولم يكن له فيهم نصير، أشار إليه سبحانه بقوله ناسقاً له على ما تقديره: فأبى المعظم القتل لأنه عذاب مألوف لمن يستحقه من المجرمين، وهو قد عمل عملة مفردة في الدهر فالذي ينبغي أن يخص العذاب عليها بعذاب لم يعهد مثله وهو الإحراق على هيئة غريبة، فرجعوا عن القتل واستقر رأيهم على الإحراق فجمعوا له حطباً إلى أن ملأ ما بين الجبال، وأضرموا فيه النار حتى أحرقت ما دنا منها بعظيم الاشتعال، وقذفوه فيها بالمنجنيق {فأنجاه الله} بما له من كمال العظمة إنجاء وحيّاً من غير احتياج إلى تدريج {من النار} أي من إحراقها وأذاها، ونفعته بأن أحرقت وثاقه.

ولما اشتملت قصته بهذا السياق على دلائل واضحات، وأمور معجزات، عظم أمرها سبحانه بقوله مؤكداً لمزيد التنويه بذكرها، وتنزيلاً في توقفهم عما دعت إليه الآيات الظاهرة من الإيمان منزلة المنكر لها:{إن في ذلك} أي ما ذكر من أمره وما خللت به قصته من الحكم {لآيات} أي براهين قاطعة في الدلالة على جميع أمر الله من تصرفه في الأعيان والمعاني، لكون النار لم تحرقه وأحرقت وثاقه وكل ما

ص: 421

مر عليها من طائر، ومع رؤيته ذلك لم يؤمنوا ولم يقدروا على ضرره بشيء غير ذلك.

ولما كان ما للشيء إنما هو في الحقيقة ما ينفعه، وكان قد حجبها سبحانه بالشهوات والحظوظ الشاغلة عن استعمال نور العقل، قال:{لقوم يؤمنون*} أي يقبلون على استعمال نور العقل الذي وهبهموه الله فيصدقون بالغيب حتى صار الإيمان -بكثرة ما صقلوا مرائي قلوبهم بالنظر في أسبابه - لهم خلقاً بحيث إنهم في كل لحظة يجددون الترقي في مراتبه، والتنقل في أخبيته ومضاربه.

ولما تقدم سلبه النفع عن هذه الأوثان، أشار هنا إلى نفع يعقب من الضر ما لا نسبة له منه، فليس حينئذ بنفع، فقال تعالى:{وقال} أي إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير هائب لتهديدهم بقتل ولا غيره، مؤكداً لأجل ما أشار إليه مما ينكرونه من ضعف شركائهم وعجزها:{إنما اتخذتم} أي أخذتم باصطناع وتكلف، وأشار لى عظمة الخالق وعلو شأنه بقوله:{من دون الله} أي الذي كل شيء تحت قهره، ولا كلفة - في اعتقاد كونه رباً - باحتياج إلى مقدمة جعل وصنعة ولا غير ذلك، وقال:{أوثاناً} إشارة إلى تكثرها الذي هو مناف

ص: 422

لرتبة الإلهية؛ وأشار إلى ذلك النفع بقوله: {مودة} أي لأجل مودة - عند من نصب سواء ترك التنوين وهم حمزة وخفص عن عاصم وروح عن يعقوب أو نوّن وهم الباقون {بينكم} من خفضه على الاتساع ورفع «مودة» وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب كان المعنى: هي مودة البين الجامع لكم بمعنى مودتكم على وجه أبلغ، لأن المودة إذا كانت لبين جامع الناس كانت لأولئك الناس بطريق الأولى، ومن خفضه ونصبها وهم حمزة وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب فالمعنى: لأجل المودة، ومن نصبها ونوّن وهم نافع وابن عامر وأبو جعفر وشعبة فالبين عنده ظرف {في الحياة الدنيا} بالاجتماع عندها والتواصل في أمرها بالتناصر والتعاضد كما يتفق ناس على مذهب فيكون ذلك سبب تصادقهم، وهذا دال على أن جمع الفسوق لأهل الدنيا هو العادة المستمرة، وأن الحب في الله والاجتماع له عزيز جداً، لما فيه من قطع علائق الدنيا وشهواتها التي زينت للناس، بما فيها من الإلباس، وعظيم البأس.

ولما أشار إلى هذا النفع الذي هو في الحقيقة ضر، ذكر ما يعقبه من الضر البالغ، فقال معبراً بأداة البعد إشارة إلى عظيم ذلك اليوم،

ص: 423

وإلى أنه جعل لهم في الحياة أمداً يمكنهم فيه السعي للتوقي من شر ذلك اليوم: {ثم يوم القيامة} ساقه مساق ما لا نزاع فيه لما قام عليه من الأدلة {يكفر بعضكم ببعض} فينكر كل منهم محاسن أخيه، ويتبرأ منه بلعن الأتباع القادة، ولعن القادة الأتباع، وتنكرون كلكم عبادة الأوثان تارة إذا تحققتم أنها لا ضر ولا نفع لها، وتقرون بها أخرى طالبين نصرتها راجين منفعتها، وتنكر الأوثان عبادتكم وتجحد منفعتكم {ويلعن بعضكم بعضاً} على ما ذكر {ومأواكم} جميعاً أنتم والأوثان {النار} لتزيد في عذابكم ويزداد بغضكم لها {وما لكم} وأعرق في النفي فقال:{من ناصرين*} أصلاً يحمونكم منها، ويدخل في هذا كل من وافق أصحابه من أهل المعاصي أو البطالة على الرذائل ليعدوه حسن العشرة مهذب الأخلاق لطيف الذات، أو خوفاً من أن يصفوه بكثافة الطبع وسوء الصحبة، ولقد عم هذا لعمري أهل الزمان ليوصفوا بموافاة الإخوان ومصافاة الخلان، معرضين عن رضى الملك الديان.

ولما كان في سياق الابتلاء، وذكر من الأنبياء من طال ابتلاؤه،

ص: 424

بين أنه لم يكن لهم من أممهم تابع يقدر على نصرهم، وأن الله سبحانه تولى كفايتهم فلم يقدر واحد على إهلاكهم، وأهلك أعدائهم، فلم يكن لهم من ناصرين فقال:{فآمن له} أي لأجل دعائه له مع ما رأى من الآيات {لوط} أي ابن أخيه هاران وحده، وهو أول من صدقه من الرجال {وقال} أي إبراهيم عليهما الصلاة والسلام مؤكداً لما هو جدير بالإنكار من الهجرة لصعوبتها:{إني مهاجر} أي خارج من أرضي وعشيرتي على وجه الهجر لهم فمنتقل ومنحاز {إلى ربي} أي إلى أرض ليس بها أنيس ولا عشير، ولا من ترجى نصرته، ولا من تنفع مودته، فحينئذ يتبين الرضى بالله وحده، والاعتماد عليه دون ما سواه، فهاجر من كوثى من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى الأرض المقدسة، فكانت له هجرتان، وهو أول من هاجر في الله، قال مقاتل: وكان إذ ذاك ابن خمس وسبعين سنة.

ثم علل ذلك بما يسليه عن فراق أرضه وأهل وده من ذوي رحمه وأنسابه وأولي قربه، فقال مؤكداً تسكيناً لمن عساه يتبعه وتهويناً عليه لفراق ما ألفت النفوس من أنه

ص: 425

لا عز إلا به من العشائر والأموال والمعارف: {إنه هو} أي وحده {العزيز} أي فهو جدير بإعزاز من انقطع إليه {الحكيم*} فهو إذا أعز أحداً منعته حكمته من التعرض له بإذلال، بفعل أو مقال، كما صنع بي حين أراد إذلالي من كان جديراً بإعزازي من عشيرتي وأهل قربى، وبالغ في أذاي ممن كان حقيقاً بنفعي من ذوي رحمي وحبي.

ولما كان التقدير: فأعززناه كما ظن بنا إعزازاً أحكمناه حتى استمر في عقبه إلى القيامة، عطف عليه قوله:{ووهبنا له} أي بجليل قدرتنا شكراً على هجرته {إسحاق} من زوجته سارة عليها السلام التي جمعت إلى العقم في شبابها اليأس بكبرها، وعطفه لهبته له بالواو دليل على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الصافات من أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام لتعقيبه للهبة هناك على الهجرة بالفاء {ويعقوب} من ولده إسحاق عليهما الصلاة والسلام.

ولما كان السياق في هذه السورة للامتحان، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد ابتلي في إسماعيل عليه الصلاة والسلام بفراقه مع أمه رضي الله عنهما ووضعهما في قضيعة من الأرض لا أنيس بها، لم يذكره تصريحاً في سياق الامتنان، وأفرد إسحاق عليه الصلاة والسلام لأنه لم يبتل فيه بشيء من ذلك، ولأن المنة به - لكون أمه عجوزاً وعقيماً - أكبر وأعظم لأنها أعجب، وذكر إسماعيل عليه الصلاة والسلام

ص: 426

تلويحاً في قوله: {وجعلنا} أي بعزتنا وحكمتنا {في ذريته} من ولد إسحاق وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام {النبوة} فلم يكن بعده نبي أجنبي عنه، ومتى صحت هذه المناسبة لزم قطعاً أن يكون الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإنه أعرى ذكر هذه السورة منه، ويكون كأنه قيل: إنا بشرناه بما يسرّ به من إسحاق بعد أن أمرناه بما يضر من إسماعيل عليهما السلام فصبر في محنة الضراء، وشكر في محنة السراء {والكتاب} فلم ينزل كتاب إلا على أولاده، وأفرد ليدل - مع تناوله بالجنسية الكتب الأربعة - على أنه لا شيء يستحق أن يكتب إلا ما أنزل فيها، أو كان راجعاً إليه، ولو جمع لم يفد هذا المعنى {وآتيناه أجره} على هجرته {في الدنيا} بما خصصناه به مما لا يقدر عليه غيرنا من سعة الرزق، ورغد العيش، وكثرة الخدم، والولد في الشيخوخة، وكثرة النسل، والثناء الحسن، والمحبة من جميع الخلق، وغير ذلك.

ولما كان الكافر يعتقد - لإنكاره البعث - أنه نكد حياته بالهجرة نكداً لا تدارك له، اقتضى الحال التأكيد في قوله:{وإنه في الآخرة} أي التي هي الدار وموضع الاستقرار {لمن الصالحين*} الذين خصصناهم بالسعادة وجعلنا لهم الحسنى وزيادة.

ص: 427

ولما كان - كما مضى - السياق للابتلاء، خص بالبسط في القص

ص: 427

من لم يكن له ناصر من قومه، أو كان غريباً منها، ولذلك أتبع الخليل عليه الصلاة والسلام ابن أخيه الذي أرسله الله إلى أهل سدوم: ناس لا قرابة له فيهم ولا عشيرة، فقال:{ولوطاً} أي أرسلناه، وأشار إلى إسراعه في الامتثال بقوله:{إذ} أي وأرسلناه حين {قال لقومه} أهل سدوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه، حين فارق عمه إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام، منكراً ما رأى من حالهم، وقبيح فعالهم، مؤكداً له إشارة إلى أنه - مع كونه يرونه من أعرف المعارف - جدير بأن ينكر:{إنكم لتأتون الفاحشة} أي المجاوزة للحد في القبح، فكأنها لذلك لا فاحشة غيرها. ثم علل كونها فاحشة استئنافاً بقوله:{ما سبقكم} أو هي حال مبينة لعظيم جرأتهم على المنكر، أي غير مسبوقين {بها} وأعرق في النفي بقوله:{من أحد} وزاد بقوله: {من العالمين*} أي كلهم فضلاً عن خصوص الناس؛ ثم كرر الإنكار تأكيداً لتجاوز قبحها الذي ينكرونه فقال: {أئنكم لتأتون الرجال} إتيان الشهوة، وعطف عليها ما ضموه إليها من المناكر، بياناً لاستحقاق الذم من وجوه، فأوجب حالهم ظن أنهم وصلوا من الخبث إلى حد لا مطمع في الرجوع عنه مع

ص: 428

ملازمته لدعائهم من غير ملل ولا ضجر، فقال {وتقطعون السبيل*} أي بأذى الجلابين والمارة.

ولما خص هذين الفسادين، عم دالاً على المجاهرة فقال:{وتأتون في ناديكم} أي المكان الذي تجلسون فيه للتحدث بحيث يسمع بعضكم نداء بعض من مجلس المؤانسة، وهو ناد ما دام القوم فيه، فإذا قاموا عنه لم يسم بذلك {المنكر} أي هذا الجنس، وهو ما تنكره الشرائع والمروءات والعقول، ولا تتحاشون عن شيء منه في المجتمع الذي يتحاشى فيه الإنسان من فعل خلاف الأولى، من غير أن يستحي بعضكم من بعض؛ ودل على عنادهم بقوله مسبباً عن هذه النصائح بالنهي عن تلك الفضائح:{فما كان جواب قومه} أي الذين فيهم قوة ونجدة بحيث يخشى شرهم، ويتقي أذاهم وضرهم، لما أنكر عليهم ما أنكر {إلا أن قالوا} عناداً وجهلاً واستهزاء:{ائتنا بعذاب الله} وعبروا بالاسم الأعظم زيادة في الجرأة. ولما كان الإنكار ملزوماً للوعيد بأمر ضار قالوا: {إن كنت} أي كوناً متمكناً {من الصادقين*} أي في وعيدك وإرسالك، إلهاباً وتهييجاً.

ولما كان كأنه قيل: بم أجابهم؟ قيل: {قال} أي لوط عليه الصلاة والسلام معرضاً عنهم، مقبلاً بكليته على المحسن إليه:{رب}

ص: 429

أي أيها المحسن إليّ {انصرني على القوم} أي الذين فيهم من القوة ما لا طاقة لي بهم معه {المفسدين*} بإتيان ما تعلم من القبائح.

ولما كان التقدير: فاستجبنا له فأرسلنا رسلنا بشرى لعمه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولإهلاك قوم لوط عليه الصلاة والسلام، تحقيقاً لانتقامنا من المجرمين، وإنعامنا على الصالحين، ولابتلائنا لمن نريد من عبادنا حيث جعلنا النذارة مقارنة للبشارة، عطف عليه قوله:{ولما جاءت} وأسقط «أن» لأنه لم يتصل المقول بأول المجيء بل كان قبله السلام والإضافة؛ وعظم الرسل بقولهك {رسلنا} أي من الملائكة تعظيماً لهم في أنفسهم ولما جاؤوا به {إبراهيم بالبشرى} أي بإسحاق ولداً له، ويعقوب ولداً لإسحاق عليهما الصلاة والسلام.

ولما كان المقام للابتلاء والامتحان، أجمل البشرى، وفصل النذري، فقال:{قالوا} أي الرسل عليهم الصلاة والسلام لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد أن بشروه وتوجهوا نحو سدوم، جواباً لسؤاله عن خطبهم، تحقيقاً لأن أهل السيئات مأخوذون، وأكدوا لعلمهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام يود أن يهديهم الله على يد ابن أخيه ولا يهلكهم، فقالوا:{إنا مهلكو} وأضافوا تحقيقاً لأن الأمر قد حق وفرغ منه فقالوا: {أهل هذه القرية} ثم عللوا ذلك بقولهم: {إن أهلها} مظهرين غير مضمرين إفهاماً لأن المراد أهلها الأضلاء في ذلك، إخراجاً للوط عليه السلام:{كانوا ظالمين*} أي عريقين في هذا الوصف، فلا حيلة في رجوعهم عنه.

ولما كان السامع بحيث يتشوف إلى معرفة ما كان بعد ذلك، كان كأنه قيل: لم يقنع الخليل عليه السلام لخطر المقام بهذا التلويح، بل {قال} مؤكداً تنبيهاً على جلالة ابن أخيه، وإعلاماً بشدة اهتمامه به، وأنه ليس ممن يستحق الهلاك، ليعلم ما يقولون في حقه، لأن الحال جد، فهو جدير بالاختصار:{إن} وأفهم بقوله: {فيها لوطاً} دون، منهم، أنه نزيل تدرجاً إلى التصريح بالسؤال فيه، وسؤالاً في الدفع عنهم بكونه فيهم، لأنه بعيد عما عللوا به الإهلاك من الظلم، {قالوا} أي الرسل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام:{نحن أعلم} أي منك {بمن فيها} أي من لوط وغيره.

ولما كان كلامهم محتملاً للأنجاء والإرداء، صرحوا بقولهم على سبيل التأكيد، لأن إنجاءه من بينهم جدير بالاستبعاد:{لننجينه} أي إنجاءاً عظيماً {وأهله} ولما أفهم هذا امرأته استثنوها ليكون ذلك أنص على إنجاء غيرها من جميع أهله فقالوا: {إلا امرأته} فكأنه قيل: فما حالها؟ فقيل: {كانت} أي جبلة وطبعاً {من الغابرين*} أي الباقين في الأرض المدمرة والجماعة الفجرة، ليعم وجهها معهم الغبرة.

ص: 429

ولما لم يبق بعد هذا إلا خبر الرسل مع لوط عليه الصلاة والسلام، قال عاطفاً على ما تقديره: ثم فارقوه ومضوا إلى المدينة التي فيها لوط عليه السلام، مفهماً بالعدول عن الفاء إلى الواو أن بين المكانين بعداً:{ولما} وأثبت ما صورته صورة الحرف المصدري لما اقتضاه مقصود السورة، وأكثر سياقاتها بين التسليك في مقام الامتحان والاجتهاد في النهي عن المنكر، ولذا ذكر هنا في قصة إبراهيم عليه السلام القتل والإحراق، وأتبعت بشراء بإهلاك القرية الظالمة، فقال:{أن جاءت رسلنا} أي المعظمون بنا {لوطاً} بيانا لأنه {سيء} أي حصلت له المساءة {بهم} أول أوقات مجيئهم إليه وحين قدومهم عليه، فاجأته المساءة من غير ريب لما رأى من حسن أشكالهم، وخاف من تعرض قومه لهم، وهو يظن أنهم من الناس، وذلك أن أن في مثل هذا صلة وإن كان أصلها المصدر لتؤكد وجود الفعلين مرتباً وجود أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما

ص: 432

فإنها وجدا في جزء واحد من الزمان، قال ابن هشام في المغني ما معناه أن علة ذلك أن الزائد يؤكد معنى ما جيء به لتأكيده، ولما تقيد وقوع الفعل الثاني عقيب الأول وترتبه عليه فالحرف الزائد يؤكد ذلك. {وضاق بهم} أي بأعمال الحيلة في الدفع عنهم {ذرعاً} أي ذرعة طاقتهم كما بين وأشبع القول فيه في سورة هود عليه السلام، والأصل في ذلك أن من طالت ذراعه نال ما لا يناله قصيرها، فضرب مثلاً في العجز والقدرة، وذلك أنهم أتوه في صورة مردان ملاح جداً، وقد علم أمر أهل القرية في مثل ذلك ولم يعلم أنهم رسل الله.

ولما كان التقدير: فقالوا له: يا لوط! إنا رسل ربك، فخفض عليك من هذا الضيق الذي نراه بك فإنا ما أرسلنا إلا لإهلاكهم، عطف عليه قوله:{وقالوا} أي لما رأوا ما لقي في أمرهم: {لا تخف} أي من أن يصلوا إلينا أو من أن تهلك أنت أو أحد من أهل طاعتك ولا تحزن أي على أحد ممن نهلكه فإنه ليس في أحد منهم خير يؤسف عليهم بسببه؛ ثم عللوا ذلك بقولهم مبالغين في التأكيد للإغناء به عن جمل طوال، إشارة إلى أن الوقت أرق فهو لا يحتمل التطويل:{إنا منجوك} أي مبالغون في إنجائك {وأهلك} أي ومهلكوا أهل هذه القرية، فلا يقع ضميرك أنهم يصلون

ص: 433

إلينا، وقالوا:{إلا امرأتك} تنصيصاً على كل فرد منهم سواها؛ ثم دلوا على هلاكها بقولهم جواباً لمن كأنه قال: ما لها؟ فقيل: {كانت من الغابرين*} أي كأن هذا الحكم في أصل خلقتها.

ولما أفهمت العبارة كما مضى إهلاكهم، صرحوا به فقالوا معينين لنوعه، معللين لما أخبروه به، مؤكدين إعلاماً بأن الأمر قد فرغ منه قطعاً لأن يشفع فيهم، جرياً على عادة الأنبياء في الشفقة على أممهم:{إنا منزلون} أي لا محالة {على أهل هذه القرية رجزاً} أي عذاباً يكون فيه اضطراب شديد يضطرب منه من أصابه كائناً من كان {من السماء} فهو عظيم وقعه، شديد صدعه {بما كانوا} أي كوناً راسخاً {يفسقون*} أي يخرجون في كل وقت من دائرة العقل والحياء.

ولما كان التقدير: ففعلت رسلنا ما وعدوه به من إنجائه وإهلاك جميع قراهم، فتركناها، كأن لم يسكن بها أحد قط، عطف عليه قوله مؤكداً إشارة إلى فضيلة المخاطبين بهذه القصة من العرب وغيرهم، وأنه ليس بينهم وبين الهدى إلا تفكرهم في أمرهم مع

ص: 434

الإنخلاع من الهوى: {ولقد تركنا} بما لنا من العظمة {منها} أي من تلك القرية {آية} علامة على قدرتنا على كل ما نريد {بينة} وهو الماء الأسود المنتن الذي غمر قراهم كلها بعد الخسف بها وهو مباين لجميع مياه الأرض لكونه ماء السخط لمن باينوا بفعلهم الخلق مع اشتهار كونه على الخسف.

ولما كان سبحانه قد حجب عن الأبصار كثيراً من الناس قال: {لقوم يعقلون*} فعد من لم يستبصر به عير عاقل ولا شاعر بأنها آية ولا فيه أهلية القيام بما يريد.

ولما كان السياق لإثبات يوم الدين وإهلاك المفسدين، ولمن طال ابتلاؤه من الصالحين ولم يجد له ناصراً من قومه، إما لغربته عنهم، وإما لقلة عشيرته لتسميتهم وعدم أتباعه، وكان شعيب عليه السلام ممن استضعفه قومه واستقلوا عشيرته لتسميتهم لهم رهطاً، والرهط ما دون العشرة أو من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر، فكان عليه السلام كذلك في هذا العداد، عقب قصة لوط بقصته عليه الصلاة والسلام فقال:{وإلى} أي ولقد أرسلنا إلى

ص: 435

{مدين أخاهم} أي من النسب والبلد {شعيباً} .

ولما كان مقصود السورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير فترة، عبر بالفاء فقال:{فقال} أي فتسبب عن إرساله وتعقبه أن قال: {يا قوم اعبدوا الله} أي الملك الأعلى وحده، ولا تشركوا به شيئاً، فإن العبادة التي فيها شرك عدم، لأن الله تعالى أغنى الشركاء فهو لا يقبل إلا ما كان له خالصاً.

ولما كان السياق لإقامة الأدلة على البعث الذي هو من مقاصد السورة قال: {وارجوا اليوم الآخر} أي حسن الجزاء فيه لتفعلوا ما يليق بذلك {ولا تعثوا في الأرض} حال كونكم {مفسدين*} أي متعمدين الفساد.

ولما تسبب عن هذا النصح وتعقبه تكذيبهم فتسبب عنه وتعقبه إهلاكهم، تحقيقاً لأن أهل السيئات لا يسبقون قال:{فكذبوه فأخذتهم} أي لذلك أخذ قهر وغلبة {الرجفة} أي الصيحة التي زلزلت بهم فأهلكتهم {فأصبحوا في دارهم} أي محالهم التي كانت دائرة بهم وكانوا يدورون فيها {جاثمين*} أي واقعين على صدورهم، لازمين مكاناً واحداً، لا يقدرون على حركة أصلاً، لأنه لا أرواح لهم.

ولما كان من المقاصد العظيمة الدلالة على اتباع بعض هذه الأمم بعضاً في الخير والشر على نسق، والجري بهم في إهلاك المكذبين

ص: 436

وإنجاء المصدقين طبقاً عن طبق، وكان إهلاك عاد وثمود - لما اشتهروا به من قوة الأبدان، ومتانة الأركان - في غاية الغرابة، وكان معنى ختام قصة مدين: فأهلكناهم، عطف عليه على ذلك المعنى قوله:{وعاداً} أي وأهلكنا أيضاً عاداً {وثموداْ} مع ما كانوا فيه من العتو، والتكبر والعلو {وقد تبين لكم} أي ظهر بنفسه غاية الظهور أيها العرب أمرهم {من مساكنهم} أي ما وصف من هلاكهم وما كانوا فيه من شدة الأجسام، وسعة الأحلام، وعلو الاهتمام، وثقوب الأذهان، وعظيم الشأن، عند مروركم بتلك المساكن، ونظركم إليها في ضربكم في التجارة إلى الشام، فصرفوا أفكارهم في الإقبال على الاستمتاع بالعرض الفاني من هذه الدنيا، فأملوا بعيداً، وبنوا شديداً، ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئاً من أمر الله {وزين لهم} في غاية التزيين {الشيطان} أي بعيد من الرحمة، المحترق باللعنة، بقوة احتياله، ومحبوب ضلاله ومحاله {أعمالهم} أي الفاسدة، فأقبلوا بكليتهم عليها مع العدو المبين، وأعرضوا عن الهداة الناصحين.

ولما تسبب عن هذا التزيين منعهم لعماهم عن الصراط المستقيم قال: {فصدهم عن السبيل} أي منعهم عن سلوك الطريق الذي لا طريق إلا هو، لكونه يوصل إلى النجاة، وغيره يوصل إلى الهلاك،

ص: 437

فهو عدم بل العدم خير منه. ولما كان ذلك ربما ظن أنه لفرط غباوتهم قال: {وكانوا} أي فعل بهم الشيطان ما فعل من الإغواء والحال أنهم كانوا كوناً هم فيه في غاية التمكن {مستبصرين*} أي معدودين بين الناس من البصراء العقلاء جداً لما فاقوهم به مما يعلمون من ظاهر الحياة الدنيا، ولم يسبقونا، بل أوقعناهم بعملهم السيئات فيما أردنا من أنواع الهلكات، فاحذروا مثل مصارعهم فإنكم لا تشابهونهم في القوة، ولا تقاربونهم في العقول.

ص: 438

ولما كان لفرعون ومن ذكر معه من العتو بمكان لا يخفى، لما أتوا من القوة بالأموال والرجال قال:{وقارون} أي أهلكناه وقومه لأن وقوعه في أسباب الهلاك أعجب، لكونه من بني إسرائيل، ولأنه ابتلى بالمال والعلم، فكان ذلك سبب إعجابه، فتكبر على موسى وهاورن عليهما السلام فكان ذلك سبب هلاكه {وفرعون وهامان} وزيره الذي أوقد له على الطين، فلا هو نجا ولا كان رأساً في الكفر، بل باع سعادته بكونه ذنباً لغيره.

ولما كان هلاكهم مع رؤية الآيات أعجب، فكان جديراً بالإنكار، إشارة إلى أن رؤية الآيات جديرة بأن يلزم عنها الإيمان قال:

ص: 438

{ولقد جاءهم موسى بالبينات} أي التي لم تدع لبساً فتسببوا عما يقتضيه من الاستبصار الاستكبار {فاستكبروا} أي طلبوا أن يكونوا أكبر من كل كبير بأن كانت أفعالهم أفعال من يطلب ذلك {في الأرض} بعد مجيء موسى عليه الصلاة والسلام إليهم أكثر مما كانوا قبله.

ولما كان من يتكبر - وهو عالم بأنه مأخوذ - أشد لوماً ممن يجهل ذلك قال: {وما كانوا} أي الذين ذكروا هذا كلهم، كوناً ما {سابقين*} أي فائتين ما نريدهم، بأن يخرجوا من قبضتنا، بل هم في القبضة كما ذكرنا أول السورة وهم عالمون بذلك {فكلاً} أي فتسبب عن تكذيبهم وعصيانهم أن كلاًّ منهم {أخذنا} أي بما لنا من العظمة {بذنبه} أخذ عقوبة ليعلم أنه لا أحد يعجزنا {فمنهم من أرسلنا عليه} إرسال عذاب يا له من عذاب! {حاصباً} أي ريحاً ترمى لقوة عصفها وشدة قصفها بالحجارة كعاد وقوم لوط {ومنهم من أخذته} أخذ هلاك وغضب وعذاب، وعدل عن أسلوب العظمة لئلا يوهم الإسناد في هذه إليه صوتاً ليوقع في مصيبة التشبيه {الصيحة} التي تظهر شدتها الريح الحاملة لها الموافقة

ص: 439

لقصدها فترجف لعظمتها الأرض كمدين وثمود {ومنهم من} وأعاد أسلوب العظمة الماضي لسلامة من الإيهام المذكور في الصيحة وللتنبيه على أنه لا يقدر عليه غير الله سبحانه ففيه من الدلالة على عظمته ما يقصر عنه الوصف فقال: {خسفنا به الأرض} بأن غيبناه فيها كقارون وجماعته {ومنهم من أغرقنا} بالغمر في الماء كقوم نوح وفرعون وجنوده، وعذاب قوم لوط صالحٌ للعد في الإغراق والعد في الخسف، فتارة نهلك بريح تقذف بالحجارة من السماء كقوم لوط، أو من الأرض كعاد، وأخرى بريح تقرع بالصرخة الأسماع فتزلزل القلوب والبقاع، ومرة نبيد بالغمس في الكثيف وكرة بالغمر في اللطيف - فلله درّ الناظرين في هذه الأوامر النافذة، والمتفكرين في هذه الأقضية الماضية، ليعلموا حقيقة قوله {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء} - الآية.

ولما كان ذلك ربما جر لأهل التعنت شيئاً مما اعتادوه في عنادهم قال: {وما كان الله} أي الذي لا شيء من الجلال والكمال إلا هو وله {ليظلمهم} أي مريداً ليعاملهم معاملة الظالم الذي يعاقب من لا جرم له، أو من أجرم ولم يتقدم إليه بالنهي عن إجرامه ليكف

ص: 440

فيسلم، أو يتمادى فيهلك لأنه لا نفع يصل إليه سبحانه من إهلاكهم، ولا ضرر يلحقه عز شأنه من إبقائهم {ولكن كانوا} أي هم لا غيرهم {أنفسهم} لا غيرها {يظلمون*} بارتكابهم ما أخبرناهم غير مرة أنه يغضبنا وأنا نأخذ من يفعله، فلم يقبلوا النصح مع عجزهم، ولا خافوا العقوبة على ضعفهم، وأما ما عبدوه ورجوا نصره لهم وأملوه فأضعف منهم، ولكون شيء منه لم يغن عن أحد منم شيئاً فلم تختل سنة الله في أوليائه وأعدائه في قرن من القرون ولا عصر من العصور، بل جرت على أقوم نظام، واتقن إحكام، وصل بذلك قوله تعالى على وجه الاستنساج:{مثل الذين} .

ولما كان دعاء غير الله مخالفاً لقويم العقل، وصريح النقل، وسليم الفطرة وصحيح الفكرة فكان ذلك يحتاج إلى تدرب إلى الجلافة، وتطبع في الكثافة، قال:{اتخذوا} أي تكلفوا أن أخذوا.

ولما كانت الرتب تحت رتبته سبحانه لا تحصى، وكل الرتب دون رتبته، قال منبهاً على ذلك بالجار:{من دون الله} أي الذي لا كفوء له، فرضوا بالدون، عوضاً عمن لا تكفيه الأوهام والظنون {أولياء}

ص: 441

ينصرونهم بزعمهم من معبودات وغيرها، في الضعف والوهي {كمثل العنكبوت} الدابة المعروفة ذات الأرجل الكثيرة الطوال؛ ثم استأنف ذكر وجه الشبه وعبر عنها بالتأنيث وإن كانت تقال بالتذكير تعظيماً لضعفها، لأن المقام لضعف ما تبنيه فقال:{اتخذت بيتاً} أي تكلفت أخذه في صنعتها له ليقيها الردى، ويحميها البلا، كما تكلف هؤلاء اصطناع أربابهم لينفعوهم، ويحفظوهم بزعمهم ويرفعوهم، فكان ذلك البيت مع تكلفها في أمره، وتعبها الشديد في شأنه، في غاية الوهن.

ولما كان حالها في صنعها حال من ينكر وهنه، قال مؤكداً:{وإن} وواوه للحال من ضمير - {اتخذت} أي والحال أنه أوهن - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر للتعميم فقال:{أوهن البيوت} أي أضعفها {لبيت العنكبوت} التي عانت في حوكه ما عانت وقاست في نسجه ما قاست، لأنه لا يكنّ من حر، ولا يصون من برد، ولا يحصن عن طالب، كذلك ما اتخذ هؤلاء من هذه الأوثان، وهذا الدين الذي لا أصل له فهو أوهن

ص: 442

الأديان وأهونها {لو كانوا يعلمون*} أي لو كان لهم نوع ما من العلم لانتفعوا به فعلموا أن هذا مثلهم، فأبعدوا عن اعتقاد ما هذا مثله.

ص: 443

ولما انتفى نفعهم بعلمهم، صح نفيه، فكانوا وإياها على حد سواء، ليس لفريق منهما شيء مما نوى، فيا لها من صفقة خاسرة، وتجارة كاسدة بائرة. ولما كان ضرب المثل للشيء لا يصح إلا من العالم بذلك الشيء، وكان النصير على شيء لا يمكن أن يتوجه إلى معارضته إلا أن يعلمه ويعلم مقدار قدرته، وعدة جنوده، وصل بذلك أن هذا شأنه سبحانه وأن شركاءهم في غاية البعد عن ذلك، فكيف يعلقون بنصرهم آمالهم، وزاد ذلك ذاك حسناً تعقيبه لنفي العلم عنهم، فقال إشارة إلى جهلهم في إنكارهم أن يقدر أحد على إهلاك آلهتهم التي هي أو هي الأشياء:{إن الله} أي الذي له صفات الكمال {يعلم} بما له من تلك الصفات {ما} أي الذي {يدعون} أي الذين ضرب لهم المثل، أو أنتم - في قراءة الفوقانية التفاتاً إلى أسلوب الخطاب إيذاناً بالغضب {من دونه} إشارة إلى سفول رتبتهم، وأكد العموم بقوله:{من شيء} أي سواء كان نجماً أو صنماً أو ملكاً أو جنيناً أو غيره، وهم لا يعلمونه ولا يعلمون شيئاً مما يتوصلون إليه، فكيف يشفعون عنده أو ينصرون

ص: 443

منه، وإليه الإشارة بقوله:{وهو العزيز} أي عن أن يعلمه شركاؤهم أو يحيط به أحداً علماً، أو يمتنع عليه شيء يريده؛ وجوزوا أن تكون ما نفية، أي شيء يعتد به. ولما كان ذلك ربما أفهم أنه لا يعلم أصلاً قال:{الحكيم*} أي البالغ العلم، الواضع كل شيء يريده في أكمل مواضعه، فأبطن نفسه بكبريائه وجلاله حتى لا باطن سواه، وأظهرها بأفعاله وما كشف من جماله حتى لا ظاهر في الحقيقة غيره، وهو يغلب من شاء بعزته، ويمهله إن شاء بحكمته، فلا يغتر أحد بإمهاله فيظن أنه لإهماله.

ولما فرغ من مثلهم ومما تتوقف صحته عليه، كان كأنه قيل على وجه التعظيم لهذا المثل: هذا مثلهم فعطف عليه قوله إشارة إلى أمثال القرآن كلها تعظيماً لها وتنبيهاً على جليل قدرها وعليّ شأنها: {وتلك الأمثال} أي العالية عن أن تنال بنوع احتيال؛ ثم استأنف قوله: {نضربها} بما لنا من العظمة، بياناً {للناس} تصويراً للمعاني المعقولات بصور المحسوسات، لعلها تقرب من عقولهم فينتفعوا بها، وهكذا حال التشبيهات كلها في طرق للأفهام إلى المعاني المحتجبة في الأستار، تبرزها وتكشف عنها وتصورها.

ص: 444

ولما كانوا يتهكمون بما رأوه من الأمثال مذكوراً به الذباب والبعوض ونحوهما قال مجملاً لهم: {وما يعقلها} أي حق عقلها فينتفع بها {إلا العالمون*} أي الذين هيئوا للعلم وجعل طبعاً بما بث في قلوبهم من أنواره، وأشرق في صدورهم من أسراره، فهم يضعون الأشياء مواضعها؛ روى الحارث بن أبي أسامة عن جابر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» قال البغوي: والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول.

ولما قدم أنه لا معجز له سبحانه، ولا ناصر لمن أخذ، وصحح ذلك بالمشاهدة في القرون البائدة، وقربه إلى الأذهان بالمثل المستولي على غاية البيان، وختم ذلك أنه حجب فهمه عن أكثر خلقه، دل على ذلك كله بقوله مظهراً لقوته وسائر صفات كماله، بعد ما حقق أن أولياءهم في أنزل مراتب الضعف {خلق الله} أي الذي لا يداني في عظمة ولا جلال، ولا جمال ولا كمال {السماوات والأرض بالحق} أي الأمر الذي يطابقه الواقع، أو بسبب إظهار أن الواقع يطابق إخباره، أو بسبب إثبات الحق وإبطال الباطل، فلا تجد أحداً يفهم عنه

ص: 445

حق الفهم مع تساويهم في الإنسانية إلا وهو من أهل السكينة، والإخبات والطمأنينة، ولا يعجزه أحد يريد أخذه، ولا يفلح أحد عصى أنبياءه، فبانت عزته، وظهرت حكمته، فطابق الواقع ما أخبر به، وأيضاً فالأمثال إنما تكون بالمحسوسات، وهي إما سماوية أو أرضية، فإيجاد هذه الموجودات إنما هو لأجل العلم بالله تعالى.

ولما كان المراد بالعالم قد يخفي، بينه بقوله مشيراً بالتأكيد إلى أن حالهم في عدم الانتفاع بالنظر فيها حال من ينكر أن يكون فيها دلالة:{إن في ذلك} أي الأمر العظيم من تأملهم لمطابقة الواقع لإخباره سبحانه، فلا يخبر بشيء إلا كان الواقع منهما أو مما فيهما يطابقه سواء بسواء {لآية} أي دلالة مسعدة {للمؤمنين*} أي الذين هم العالمون في الحقيقة، حداهم علمهم بما في الكونين من المنافع المترتبة على النظام المعروف مع ما في خلقهما أنفسهما مع كبر الأجرام وبديع الإحكام، على الإيمان بجميع ما أخبر به حتى لم يكن عندهم نوع شك، وصار لهم صفة لا تنفك.

ولما أفاد هذا الخبر كله القرآن الذي لا حق أحقّ منه، ودل على أن فهم أمثاله يحتاج إلى مزيد علم، وأن مفتاح العلم به سبحانه رسوخ الإيمان، خاطب رأس أهل الإيمان لأنه أعظم الفاهمين له ليقتدي به الأتباع فقال:

ص: 446

{اتل ما} أي تابع قراءته؛ ودل على شرفه لا ختصاصه به بقوله: {أوحي إليك} إذ الوحي الإلقاء سراً {من الكتاب} أي الجامع لكل خير، فإنه المفيد للإيمان، مع أنه أحق الحق الذي خلقت السماوات والأرض لأجله، والإكثار في تلاوته يزيد بصيرة في أمره، ويفتح كنوز الدقائق من علمه، وهو أكرم من أن ينيل قارئه فائده وأجلّ من أن يعطي قياد فوائده ويرفع الحجاب عن جواهره وفرائده في أول مرة، بل كلما ردده القارىء بالتدبر حباه بكنز من أسراره، ومهما زاد زاده من لوامع أنواره، إلى أن يقطع بأن عجائبه لا تعد، وغرائبه لا تحد.

ولما أرشد إلى مفتاح العلم، دل قانون العمل الذي لايصح إلا بالقرآن، وهو ما يجمع الهم، فيحضر القلب، فينشرح الصدر، فينبعث الفكر في رياض علومه، فقال:{وأقم الصلاة} أي التي هي أحق العبادات، ثم علل ذلك بقوله دالاً بالتأكيد على فخامة أمرها، وأنه مما يخفى على غالب الناس:{إن الصلاة تنهى} أي توجد النهي وتجدده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها {عن الفحشاء} أي الخصال ألتي بلغ قبحها {والمنكر} أي الذي فيه نوع قبح وإن دق، وأقل ما فيها من النهي النهي عن تركها الذي هو كفر، ومن انتهى

ص: 447

عن ذلك انشرح صدره، واتسع فكره، فعلم من أسرار القرآن ما لا يعلمه غير {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة: 282] .

ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله، أتبع ذلك الحث على روح الصلاة والمقصد الأعظم منها، وهو المراقبة لمن يصلي له حتى كأنه يراه ليكون بذلك في أعظم الذكر بقوله:{ولذكر الله} أي ولأن ذكر المستحق لكل صفة كمال {أكبر} أي من كل شيء، فمن استحضر ذلك بقلبه هان عنده كل شيء سواه «إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه» أو يكون المراد أن من واظب على الصلاة ذكر الله، ومن ذكره أوشك أن يرق قلبه، ومن رق قلبه استنار لبه، فأوشك أن ينهاه هذا الذكر المثمر لهذه الثمرة عن المعصية، فكان ذكر الذاكر له سبحانه أكبر نهياً له عن المنكر من نهي الصلاة له، وكان ذكره له سبحانه كبيراً، كما قال تعالى {فاذكروني أذكركم} وإذا كان هذا شأن ذكر العبد لمولاه، فما ظنك بذكر مولاه له كلما أقبل عليه بصلاة فإنه جدير بأن يرفعه إلى حد لا يوصف، ويلبسه من أنواره ملابس لا تحصر.

ص: 448

ولما كان ذلك يحتاج إلى علاج لمعوج الطباع ومنحرف المزاج، وتمرن على شاق الكلف، ورياضة لجماح النفوس، وكان صلى الله عليه وسلم قد نزه عن ذلك كله بما جبل عليه من أصل الفطرة، ثم بما غسل به قلبه من ماء الحكمة، وغير ذلك من جليل النعمة، عدل إلى خطاب الأتباع يحثهم على المجاهدة فقال:{والله} أي المحيط علماً وقدرة {يعلم} أي في كل وقت {ما تصنعون*} من الخير والشر، معبراً بلفظ الصنعة الدال على ملازمة العمل تنبيهاً على أن إقامة ما ذكر تحتاج إلى تمرن عليه وتدرب، حتى يصير طبعاً صحيحاً، ومقصوداً صريحاً.

ولما انتهى الكلام إلى روح الدين وسر اليقين مما لا يعلمه حق علمه إلا العلماء بالكتب السماوية والأخبار الإلهية، وكان العالم يقدر على إيراد الشكوك وترويج الشبه، فربما أضل بالشبهة الواحدة النيام من الناس، بما له عندهم من القبول، وبما للنفوس من النزوع إلى الأباطيل، وبما للشيطان في ذلك من التزيين، وكان الجدال يورث الإحن، ويفتح أبواب المحن، فيحمل على الضلال، قال تعالى عاطفاً على {اتل} مخاطباً لمن ختم الآية بخطابهم تنزيهاً لمقامه صلى الله عليه وسلم عن المواجهة بمثل ذلك تنبيهاً على أنه لا يصوب همته الشريفة إلى مثل ذلك، لأنه ليس

ص: 449

في طبعه المجادلة، والمماراة والمغالبة:{ولا تجادلوا أهل الكتاب} أي اليهود والنصارى ظناً منكم أن الجدال ينفع الدين، أو يزيد في اليقين، أو يرد أحداً عن ضلال مبين {إلا بالتي} أي بالمجادلة التي {هي أحسن} أي بتلاوة الوحي الذي أمرنا راس العابدين بإدامة تلاوته فقط، وهذا كما تقدم عند قوله تعالى في سبحان

{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} [الإسراء: 53] .

ولما كان كل من جادل منهم في القرآن ظالماً، كان من الواضح أن المراد بمن استثنى في قوله تعالى:{إلا الذين ظلموا منهم} أي تجاوزوا في الظلم بنفي صحة القرآن وإنكار إعجازه مثلاً وأن يكون على أساليب الكتب المتقدمة، أو مصدقاً لشيء منها، أو بقولهم {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91] ونحو هذا من افترائهم، فإن هؤلاء يباح جدالهم ولو أدى إلى جلادهم بالسيف، فإن الدين يعلو ولا يعلى عليه.

ولما نهى عن موجب الخلاف، أمر بالاستعطاف، فقال:{وقولوا آمنا} أي أوقعنا الإيمان {بالذي أنزل إلينا} أي من هذا الكتاب المعجز {وأنزل إليكم} من كتبكم، يعني في أن أصله حق وإن كان قد نسخ منه ما نسخ، وما حدثوكم به من شيء ليس عندكم

ص: 450

ما يصدقه ولا ما يكذبه فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإن هذا أدعى إلى الإنصاف، وأنفى للخلاف.

ولما لم يكن هذا جامعاً للفريقين، أتبعه بما يجمعهما فقال:{وإلهنا وإلهكم} ولما كان من المعلوم قطعاً أن المراد به الله، لأن المسلمين لا يعبدون غيره، وكان جميع الفرق مقرين بالإلهية ولو بنوع إقرار لم تدع حاجة إلى أن يقول {إله} كما في بقية الآيات فقال:{واحد} إلى لا إله لنا غيره وإن ادعى بعضكم عزيراً والمسيح {ونحن له} خاصة {مسلمون*} أي خاضعون منقادون أتم انقياد فيما يأمرنا به بعد الأصول من الفروع سواء كانت موافقة لفروعكم كالتوجه بالصلاة إلى بيت المقدس، أو ناسخة كالتوجه إلى الكعبة، ولا نتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله لنأخذ ما يشرعونه لنا مخالفاً لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فنكون حينئذ قد خضعنا لهم وتكبرنا عليه فأوقعنا الإسلام في غير موضعه ظلماً.

ص: 451

ولما كان التقدير تعليلاً للأمر بهذا القول: إنا أنزلنا كتبهم إلى رسلهم، عطف عليه قوله مخاطباً للرأس تخصيصاً له لئلا يتطرق لمتعنت طعن

ص: 451

عموم أو اتهام في المنزل عليه: {وكذلك} أي ومثل ذلك الإنزال الذي أنزلناه إلى أنبيائهم {أنزلنا إليك الكتاب} أي هذا القرآن الذي هو الكتاب في الحقيقة، لا كتاب غيره في علو كماله، في نظمه ومقاله، مصدقاً لما بين يديه:{فالذين} أي فتسبب عن إنزالنا له على هذا المنهاج أن الذين {آتيناهم} أي إيتاءاً يليق بعظمتنا، فصاروا يعرفون الحق من الباطل {الكتاب} أي من قبل {يؤمنون به} أي بهذا الكتاب حقيقة كعبد الله بن سلام ومخيريق رضي الله عنهما، أو مجازاً بالمعرفة به مع الكفر كحيي بن أخطب وخلق كثير منهم {ومن هؤلاء} أي العرب {من يؤمن به} أس كذلك في الحقيقة والمجاز في المعرفة بالباطن بأنه حق لما أقامه من البرهان على ذلك بعجزهم عن معارضته مع الكفر به، وأدل دليل على ما أردته من الحقيقة والمجاز قوله:{وما يجحد} أي ينكر من الفريقين بعد المعرفة، قال البغوي: قال قتادة: الجحود إنما يكون بعد المعرفة. {بآياتنا} التي حازت أقصى غايات العظمة حتى استحقت الإضافة إلينا {إلا الكافرون*} أي العريقون في ستر المعارف بعد ظهورها طمعاً في إطفاء نورها.

ص: 452

ولما أشار إلى أن المنكر لأصل الوحي متوغل في الكفر، دل على ذلك بحال المنزل إليه صلى الله عليه وسلم فقال مسلياً له:{وما} أي أنزلناه إليك والحال أنك ما {كنت تتلوا} أي تقرأ مواصلاً مواظباً في وقت ما.

ولما كان المراد نفي التلاوة عن كثير الزمن الماضي وقليله، أدخل الجار فقال {من قبله} أي هذا الكتاب الذي أنزلناه إليك؛ وأكد استغراق الكتب فقال:{من كتاب} أصلاً {ولا تخطه} أي تجدد وتلازم خطه؛ وصور الخط وأكده بقوله: {بيمينك} أي التي هي أقوى الجارحتين، وعبر بذلك إشارة إلى أنه لا تحدث الريبة في أمره لعاقل إلا بالمواظبة لمثل ذلك مواظبة قوية ينشأ عنها ملكة، فكيف إذا لم يحصل أصل الفعل، ولذلك قال:{إذاً} أي إذ لو كان شيء من هذه المواظبة في التلاوة أو الخط التي يحصل بها الدربة المورثة للملكة {لارتاب} أي لساغ أن تكلف أنفسهم لدخول في الريب أي الشك {المبطلون*} أي هؤلاء الذين ينكرون الوحي إليك من أهل الكتاب ومن العرب، ويقولون: هو سجع وكهانة وشعر وأساطير الأولين، العريقون في وصف الإبطال، أي الدخول

ص: 453

في الباطل، فكانوا يجدون مطعناً، فتقول العرب: لعله أخذه من كتب الأقدمين، ويقول الكتابيون: المبشر به عندنا أمي. ولكنه لم يكن شيء من قراءة ولا خط كما هو معروف من حالك فضلاً عن المواظبة لشيء منهما، فلا ريبة في صدقك في نسبته إلى الله تعالى، وإذا انتفت الريبة من أصلها صح نفي ما عندهم منها، لأنه لما لم يكن لهم في الواقع شبهة، عدت ريبتهم عدماً، وسموا مبطلين على تقدير هذه الشبهة، لقيام بقية المعجزات القاطعة بالرسالة، القاضية بالصدق، كما قضت بصدق أنبيائهم مع أنهم يكتبون ويقرؤون، وكتبهم لم تنزل للإعجاز، فصح أنهم يلزمهم الاتصاف بالإبطال بالارتياب على كل تقدير من تقديري الكتابة والقرءة وعدمهما، لأن العمدة على المعجزات.

ولما كان التقدير: ولكنهم لا ريبة لهم أصلاً ولا شبهة، لقولهم: إنه باطل، قال:{بل هو} أي القرآن الذي جئت به وارتابوا فيه فكانوا مبطلين لذلك على كل تقدير {آيات} أي دلالات {بينات} أي واضحات جداً في الدلالة على صدقك {في صدور الذين} ولما كان المقصود المبالغة في تعظيم العلم، بني للمفعول، أظهر ما كان أصله الإضمار فقال:{أوتوا العلم} دلالة على أنه العلم الكامل النافع، فلا يقدر أحد على تحريف شيء منه لبيان الحق لديهم، وفي ذلك إشارة إلى أن خفاءه عن غيرهم لا أثر له، ولما كان المراد بالعلم النافع، قال

ص: 454

إشارة إلى أنه في صدور غيرهم عرياً عن النفع: {وما يجحد} وكان الأصل: به، ولكنه أشار إلى عظمته فقال:{بآياتنا} أي ينكرها بعد المعرفة على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا والبيان الذي لا يجحده أحد {إلا الظالمون*} أي الراسخون في الظلم الذي لا ينتفعون بنورهم في وضع كل شيء في محله، بل هم في وضع الأشياء في غير محلها كالماشي في الظلام الذي تأثر عن وصفهم أولاً بالكفر الذي هو تغطية أنوار العقول.

ولما كان التقدير: فجحدوها بما لهم من الرسوخ في الظلم أصلاً ورأساً، ولم يعدوها آيات فضلاً عن كونها بينات، عطف عليه قوله:{وقالوا} موهمين مكراً وإظهار النصفة بالاكتفاء بأدنى ما يدل على الصدق: {لولا} أي هلا {أنزل عليه} أي على أي وجه كان من وجوه الإنزال {آية} أي واحدة تكون بحيث تدل قطعاً على صدق الآتي بها {من ربه} أي الذي يدعي إحسانه إليه كما أنزل على الأنبياء قبله من نحو ناقة صالح عصا موسى ونحوهما، لنستدل به على صدق مقاله، وصحة ما يدعيه من حاله هذا على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وأبي بكر بالإفراد، وجمع غيرهم دلالة على أن فريقاً آخر قالوا: إن مثل هذا المهم العظيم لا يثبت إلا بآيات متعددة، وأوهموا

ص: 455

مكابرة وعناداً أن ذلك لم يقع، وإن وقع ما يسمى آية.

ولما كان هذا إنكاراً للشمس بعد شروقها، ومكابرة فيما تحدى به من المعجزات بعد حقوقها، أشار إليه بقوله:{قل} أي لهم إرخاء للعنان حتى كأنك ما أتيتهم بشيء: {إنما الآيات عند الله} أي الذي له الأمر كله فلا يقدر على إنزال شيء منها غيره، فإنما الإله هو لا سواه {وإنما أنا نذير} أقوم لكم بما حملني وكلفني من النذارة، دالاً عليه بما أعطيت من الآيات، ونواقض المطردات وليس لي أن أقترح عليه الآيات، على أن المقصود من الآية الدلالة على الصدق، وهي كلها في حكم آية واحدة في ذلك، ولم يذكر البشارة لأنه ليس أسلوبها {مبين*} أي أوضح ما آتى به من ذلك بعد أن أوضح صحة كوني نذيراً، فليس إليّ إنزال الآيات ولا طلبها اقتراحاً على الله، فهو قصر قلب فيهما، خوطب به من لزمه ادعاء أن إنزال الآيات إليه صلى الله عليه وسلم وأن أمره الإتيان بما يريد أو يطلب منه.

ص: 456

ولما أفرحهم بما كأنه تسليم لمدعاهم، وكان من البين أن لسان الحال يقول: ألم يكفهم ما جئتهم به من الآيات المرئيات والمسموعات، وعجزوا عن الإتيان بشيء منها، عطف على ذلك قوله منكراً على جهلهم

ص: 456

وعنادهم: {أولم يكفهم} أي إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين آية بينة مغنية عن كل آية {أنا أنزلنا} بعظمتنا {عليك الكتاب} أي الجامع لسعادة الدارين بحيث صار خلقاً لك غالباً على حركاتك وسكناتك {يتلى عليهم} أي يتجدد متابعة قراءته عليهم شيئاً بعد شيء في كل مكان وكل زمان من كل تالٍ مصدقاً لما في الكتب القديمة من نعتك وغيره من الآيات الدالة على صدقك، يتحدّون بكل شيء نزل منه مع تحديهم بما قبله من آياته صباح مساء، يصفعون بذلك مدى الدهر في أقفائهم ويدفعون، فكلما أرادوا التقدم ردوا عجزاً إلى ورائهم، فأعظم به آية باقية، إذ كل آية سواه منقضية ماضية، وقال الشيخ أبو العباس المرسي: خشع بعض الصحابة رضي الله عنهم من سماع اليهود بقراءة التوراة فعتبوا إذ تخشعوا من غير القرآن، وهم إنما تخشعوا من التوراة وفي كلام الله فما ظنك بمن أعرض عن كتاب الله وتخشع بالملاهي والغناء.

ولما كان هذا أعظم من كل آية يقترحونها ولو توالى عليهم إتيانها كل يوم لدوام هذا على مر الأيام والشهور، حتى تفنى

ص: 457

الأزمان والدهور، أشار تعالى إلى هذا العظمة، مع ما فيها من النعمة، بقوله مؤكداً على جهلهم فيما لزم من كلامهم الأول من إنكار أن يكون في القرآن آيه تدلهم على الصدق:{إن في ذلك} أي إنزال الكتاب على هذا الوجه البعيد المنال البديع المثال {لرحمة} لهم لصقله صدأ القلوب في كل لحظة، وتطهيره خبث النفوس في كل لمحة {وذكرى} أي عظيمة مستمراً تذكرها.

ولما عم بالقول، خص من حيث النفع فقال:{لقوم يؤمنون*} أي يمكن أن يتجدد لهم إيمان، ليس من همهم التعنت، قال الحرالي في كتاب له في أصول الدين: ولما كان القرآن لسان إحاطة لم يف بالقيام به خلق من خلق الله، لأنه ببناء على كليه أمر الله حتى أن السورة الواحدة منه لما كان موقع الخطاب بها من مدد بنائه على إحاطة أمر الله لا يستطيعها أحد من الخلق، وإذا كان الأقل من كلام العالم لا يستطيعه من دون رتبته، فعجز الخلق عن كلام الله أحق وأولى، ثم كل ناظر فيه - من أيّ وجه نظره - أدرك بمقتضى علوه على رتبته وجهاً من العجز فيه، إن كان فصيحاً بليغاً فمن جهة البلاغة، ومعناها بلوغ الكلام في مطابقة أنبائه ويسمى الفصاحة، وحسن نظم

ص: 458

حروف كلماته ويسمى الجزالة، وكمال انتظام كلماته وآياته، ويسمى حسن النظم - إلى أنهى غاياته وأتم نهاياته، وإن كان عالماً بأخبار الأولين فبصحة مقتضاها فيه، وإن كان حكيماً فبالإعلام الأتم بوجه تقاضي المترتبات، وبالجملة فما يكون لأحد أصل من عقل وحظ من علم - أي علم كان - إلا ويجد له موقعاً في القرآن، يفي له بحظ بيان علو مرتبة أنبائه على نهاية مدركة منه بمقدار لا يرتاب في وقوعه فوق طور الخلق، فكان آية باقية دائمة لم يتفاوت في تلقيه أول سامع له من آخر سامع في وجه سماعه، فكل نبي فقدت آيته بفقده أو بفقد وقت ظهورها على يديه، وآية محمد صلى الله عليه وسلم باقية ببقاء الله، فجهات ظهور إعجازه تأتي على حظوظ أصناف الخلق من وجوه الإدراك، لا يتعين لظهور الإعجاز فيه جهة، ولا يفقد ناظر فيه حظاً يتطرق بمقدار إدراكه منه إلى يقين وجه إعجازه، وذلك لما كان محيطاً بكل تفصيل وكل إجمال، ولم يفرط فيه من شيء، وكان تفصيلاً لكل شيء ولإحاطته بإثبات كل رتبة من رتب حكمة الله تعالى لم يقدر أحد من الخلق في التوقف عن الإيمان به من الجن والإنس والأحمر والأسود وجميع خلق الله، من يعرفه الناس منهم ومن لا يعرفونهم ممن أحاط بهم علم العالمين بإعلام الله، ومن

ص: 459

حكم إحاطة كتابة كان ممكناً من عالية كل آية جاء بها نبي قبله ممن شاهد ذلك منه حاضروه، ونقله نقل التواتر والاستفاضة حملة العلم خلفاً عن سلف؛ ثم رتب قياساً على إثبات النبوة فقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ذو آية هذا القرآن المشهود، وهذا القرآن المشهود معجز كل ذي إدراك، وبشرى من كل جهة من جهات معانيه وبلاغته، فذو آية هذا القرآن نبي، فمحمد صلى الله عليه وسلم نبي، أما أن محمداً صلى الله عليه وسلم ذو آيته فبالتجربة السمعية المتيقنة المسماة بالتواتر، وأما أن هذا القرآن معجز فيما يجده كل ناظر في معناه المشتمل على تمام الحكمة فيما هو كائن ونبأ ما كان من قبل وخبر ما يكون بعد المتيقن بوقوع أوائله وقوع جملته وصحة خبره، وبذلك يتضح أن ذا آيته نبي، ثم بما تضمنه من شهادته لذي آيته وتصريحه بذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم، فصح أن محمداً صلى الله عليه وسلم ذو ايته، وإنه نبي صلى الله عليه وسلم، والمستعمل في ذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم تحدى بهذا القرآن العرب الفصحاء واللد البلغاء، فلما لجؤوا للحرب وضح أنهم فروا لذلك المكان ما وجدوه في أنفسهم من العجز، وإذا عجز أولئك فمن بعدهم أحق بالعجز، فلما شمل العجز الكل من الخلق،

ص: 460

وجب العلم بأن هذا القرآن حق، والمتحدي به نبي جاء بالصدق، وحاصله: لو لم تعجز العرب لم تحارب ثقل الحرب وخفة المعارضة لو استاطاعوها، ولم يعارضوا وحاربوا فقد عجزوا، فثبت بذلك أنه نبي صلى الله عليه وسلم انتهى.

ولما كان من المعلوم أنهم يقولون: نحن لا نصدق أن هذا الكتاب من عند الله فضلاً عن أن نكتفي به، قال:{قل} أي جواباً لما قد يقولونه من نحو هذا: {كفى بالله} أي الحائز لجميع العظمة وسائر الكمالات، الذي شهد لي بالرسالة في كتابة الذي أثبت أنه كلامه عجز الخلق عن معارضته.

ولما كانت العناية في هذه السورة بذكر الناس، وتفصيل أحوالهم، ابتدأ بقوله:{بيني وبينكم} قبل قوله: {شهيداً} بخلاف الرعد والأنعام، ثم وصف الشهيد أو علل كفايته بقوله:{يعلم ما في السماوات} أي كلها. ولما لم يكن للارض غير هذه التي يشاهدونها ذكر في إتيان الوحي والقرآن منها، أفرد فقال:{والأرض} أي لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو عليم بما ينسبونه إليّ من التقول عليه وبما أنسبه أنا إليه

ص: 461

من هذا القرآن الذي شهد لي به عجزكم عنه فهو شاهد لي، والله في الحقيقة هو الشاهد لي، بما فيه من الثناء عليّ، والشهادة لي بالصدق، لأنه قد ثبت بالعجز عنه أنه كلامه وسيتحقق بالعقل إبطال المبطل منا.

ولما كان التقدير: وأنتم تعلمون أنه قد شهد لي بأني على الحق، وأن كل ما خالف ما جئت به فهو باطل، فالذين آمنوا بالحق وكفروا بالباطل فأولئك هم الفائزون، عطف عليه قوله:{والذين آمنوا بالباطل} أي الذي لا يجوز الإيمان به من كل معبود سوى الله {وكفروا بالله} الذي يجب الإيمان به والشكر له، لأنه له الكمال كله وكل ما سواه هالك ليس له من ذاته إلا العدم {أولئك} البعداء البغضاء {هم} أي خاصة {الخاسرون*} أي العريقون في الخسارة، فإنهم خسروا أنفسهم أبداً.

ولما كان قولهم مرة واحدة «لولا أنزل عليه آية» عجباً، أتى بعد إخباره بخسارتهم بأعجب منه، وهو استمرار استعجالهم بما لا قدرة لهم على شيء منه من عذاب الله فقال:{ويستعجلونك} أي يطلبون تعجيلك في كل وقت {بالعذاب} ويجعلون تأخره عنهم شبهة لهم فيما يزعمون من التكذيب {ولولا أجل مسمى} قد ضرب لوقت عذابهم لا تقدم فيه ولا تأخر {لجاءهم العذاب} وقت استعجالهم، لأن القدرة تامة والعلم محيط.

ص: 462

ولما أفهم هذا أنه لا بد من إتيانه، صرح به في قوله مؤكداً رداً على استهزائهم المتضمن للإنكار:{وليأتينهم} ثم هوّله بقوله: {بغتة} وأكد معناها بقوله: {وهم لا يشعرون*} بل هم في غاية الغفلة عنه والاشتغال بما ينسيه، ثم زاد في التعجب من جهلهم بقوله مبدلاً:{يستعجلونك بالعذاب} أي يطلبون منك إيقاعه بهم ناجزاً ولو كان في غير وقته الأليق به، فلو علموا ما هم سائرون إليه لتمنوا أنهم لم يخلقوا فضلاً عن أن يستعجلوا، ولأعملوا جميع جهدهم في الخلاص منه.

ولما كان دخولهم النار لا بد منه لإحاطة القدرة بهم، قال مؤكداً لإنكارهم الآخرة بإثبات أخص منها:{وإن جهنم} التي هي من عذاب الآخرة {لمحيطة} أي بما هي مهيأة له، لأنه لا يفوتها شيء منه، لأن الذي أعدها عليم قدير، وقال:{بالكافرين*} موضع «بهم» تنبيهاً على ما استحقوا به عذابها، وتعميماً لكل من اتصف به.

ولما كان هذا كله دليلاً على إنكارهم قال: {يوم} أي يعلمون ذلك اليوم {يغشاهم العذاب} أي يلحقهم ويلصق بهم ما لا يدع لهم شيئاً يستعذبونه، ولا أمراً يستلذونه ونبه على عدم استغراق

ص: 463

جهة الفوق مع استعلائه عليهم بإثبات الجار فقال: {من فوقهم} ولما أفهم ذلك الإحاطة بما هو أدنى من جهة الفوق، صرح به فقال:{ومن تحت أرجلهم} فعلم بذلك إحاطته بجميع الجواتب، وصرح بالرجل تحقيقاً للآدمي {ويقول} أي الله في قراءة نافع وعاصم وحمزة والكسائي بالتحتانية جرياً على الأسلوب الماضي، أو نحن بعظمتنا في قراءة الباقين ترويعاً بالالتفات إلى مظهر العظمة:{ذوقوا} ما سببه لكم {ما كنتم} بغاية الرغبة {تعملون*} أي في ذلك اليوم تعملون ذلك حق اليقين بعد علمكم له عين اليقين بسبب تكذيبكم بعلم اليقين.

ص: 464

ولما أبلغ في الإنذار، وحذر من الأمور الكبار، ولم يهمل الإشارة إلى الصغار، وكانت هذه الآيات في المتعنتين من الكفار، وكان قد كرر أن هذه المواعظ إنما هي للمؤمنين، قال مخاطباً لهم معرضاً عن سواهم إذا كانت أسماعهم لبليغ هذه المواعظ قد أصغت، وقلوبهم لجليل هذه الإنذارات قد استيقظت، التفاتاً على قراءة الجمهور إلى

ص: 464

التلذيذ في المناجاة بالإفراد والإبعاد من مداخل التعنت: {يا عبادي} فشرفهم بالإضافة، ولكنه لما أشار بأداة البعد إلى أن فيهم من لم يرسخ، حقق ذلك بقوله:{الذين آمنوا} أي وإن كان الإيمان باللسان مع أدنى شعبة من القلب.

ولما كان نزول هذه السورة بمكة، وكانوا بها مستخفين بالعبادة خوفاً من الكفار، وكانت الهجرة الأهل والأوطان شديدة، قال مؤكداً تنبيهاً على أن حال من ترك الهجرة حال من يظن أن الأرض ضيقة:{إن أرضي واسعة} أي في الذات والرزق وكل ما تريدون من الرفق، فإن لم تتمكنوا بسبب هؤلاء المعاندين الذين يفتنونكم في دينكم ويمنعونكم من الإخلاص إلي في أرضكم والاجتهاد في عبادتي حتى يصير الإيمان لكم وصفاً، فهاجروا إلى أرض تتمكنون فيها من ذلك.

ولما كانت الإقامة بها قبل الفتح مؤدية إلى الفتنة، وكان المفتون ربما طاوع بلسانه، وكان ذلك وإن كان القلب مطمئناً بالإيمان في صورة الشرك قال:{فإياي} أي خاصة بالهجرة إلى أرض تأمنون فيها اعبدوا وتنبهوا {فاعبدون*} بسبب ما دبرت لكم من المصالح من توسيع الأرض وغيره، عبادة لا شرك فيها، لا باللسان ولا بغيره ولا استخفافاً بها ولا مراعاة لمخلوق في معصيته، ولا شيء يجر إليها بالهرب ممن يمنعكم من ذلك إلى من يعينكم عليه.

ص: 465

ولما كانت الهجرة شديدة المرارة لأنها مرت في المعنى من حيث كونها مفارقة المألوف المحبوب من العشير والبلد والمال، وكان في الموت ذلك كله بزيادة، قال مؤكداً بذلك مذكراً به مرهباً من ترك الهجرة:{كل نفس ذائقة الموت} أي مفارقة كل ما ألفت حتى بدناً طالما لابسته، وآنسها وآنسته، فإن أطاعت ربها أنجت نفسها ولم تنقصها الطاعة في الأجل شيئاً، وإلا أوبقت نفسها ولم تزدها المعصية في الأجل شيئاً، فإذا قدر الإنسان أنه مات سهلت عليه الهجرة، فإنه إن لم يفارق بعض مألوفه بها فارق كل مألوفه بالموت، وما ذكر الموت في عسير إلا يسره، ولا يسير إلا عسره وكدره.

ولما هوّن أمر الهجرة، حذر من رضي في دينه بنوع نقص لشيء من الأشياء حثاً على الاستعداد بغاية الجهد في التزود للمعاد فقال:{ثم إلينا} على عظمتنا، لا إلى غيرنا {ترجعون*} على أيسر وجه، فيجازي كلاً منكم بما عمل.

ولما كان التقدير: فالذين آمنوا فلبسوا إيمانهم بنوع نقص لننقصنهم في جزائهم، والذين كفروا لنركسنهم في جهنم دركات تحت دركات

ص: 466

فبئس مثوى الظالمين، ولكنه لما تقدم ذكر العذاب قريباً، وكان القصد هنا الترغيب في الإيمان كيفما كان، طواه ودل عليه بأن عطف عليه قوله:{والذين آمنوا وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي كلها.

ولما كان الكفار ينكرون البعث، فكيف ما بعده، أكد قوله:{لنبوئنهم} أي لنسكننهم في مكان هو جدير بأن يرجع إليه من حسنه وطيبه من خرج منه لبعض أغراضه، وهو معنى {من الجنة غرفاً} أي بيوتاً عالية تحتها قاعات واسعة بهية عالية، وقريب من هذا المعنى قراءة حمزة والكسائي بالثاء المثلثة من ثوى بالمكان - إذا أقام به.

ولما كانت العلالي لا تروض إلا بالرياض قال: {تجري} ولما كان عموم الماء لجهة التحت بالعذاب أشبه، بعضه فقال:{من تحتها الأنهار} ومن المعلوم أنه لا يكون في موضع أنهار، إلا كان به بساتين كبار، وزروع ورياض وأزهار - فيشرفون عليها من تلك العلالي.

ولما كانت بحالة لا نكد فيها يوجب هجره في لحظة ما، كنى عنه بقوله:{خالدين فيها} أي لا يبغون عنها حولاً؛ ثم عظم أمرها، شرف قدرها، بقوله:{نعم أجر العاملين} ثم وصفهم بما يرغب في الهجرة، فقال معرفاً بجماع الخير كله الصبر وكونه على جهة التفويض لله،

ص: 467

منبهاً على أن الإنسان لا ينفك عن أمر شاق ينبغي الصبر عليه: {الذين صبروا} أي أوجدوا هذه الحقيقة حتى استقرت عندهم فكانت سجية لهم، فأوقعوها على كل شاق من التكاليف من هجرة وغيرها.

ولما كان الإنسان إلى المحسن إليه أميل، قال مرغباً في الاستراحة بالتفويض إليه:{وعلى ربهم} أي وحده لا على أهل ولا وطن {يتوكلون*} أي يوجدون التوكل إيجاداً مستمر التجديد عند كل مهم يعرض لهم إرزاقهم بعد الهجرة وغيرها وجهاد أعدائهم وغير ذلك من أمورهم.

ص: 468

ولما أشار بالتوكل إلى أنه الكافي في أمر الرزق في الوطن والغربة، لا مال ولا أهل، قال عاطفاً على ما تقديره: فكأيّ من متوكل عليه كفاه، ولم يحوجه إلى أحد سواه، فليبادر من أنقذه من الكفر وهداه إلى الهجرة طالباً لرضاه:{وكأيّن من دابة} أي كثير من الدواب العاقلة وغيرها {لا تحمل} أي لا تطيق أن تحمل {رزقها} ولا تدخر شيئاً لساعة أخرى، لأنها قد لا تدرك نفع ذلك، وقد تدركه وتتوكل، أو لا تجد.

ولما كان موضع أن يقال: فمن يرزقها؟ قال جواباً له: {الله} أي المحيط علماً وقدرة، المتصف بكل كمال {يرزقها} وهي لا تدخر {وإياكم} وأنتم تدخرون، لا فرق بين ترزيقه لها على ضعفها وترزيقه لكم

ص: 468

على قوتكم وادخاركم، فإن الفريقين تارة يجدون وتارة لا يجدون، فصار الادخار وعدمه غير معتد به ولا منظور إليه.

ولما كان أهم ما للحيوان الرزق، فهو لا يزال في تدبيره بما يهجس في ضميره وينطق به إن كان ناطقاً ويهمهم به إن كان صامتاً، أما العاقل فبأمور كلية، وأما غيره فبأشياء جزئية وحدانية، وكان العاقل ربما قال: إني لا أقدر على قطع العلائق من ذلك، قال تعالى:{وهو السميع} أي لما يمكن أن يسمع في أمره وغير أمره {العليم*} أي بما يعلم من ذلك، وبما يصير إليه أمركم وأمر عدوكم، فهو لم يأمركم بما أمركم به إلا وقد أعد له أسبابه، وهو قادر على أن يسبب لما اعتمد عليه الإنسان من الأسباب المنتجة عنده ولا بد ما يعطله، وعلى أن يسبب للمتوكل القاطع للعلائق ما يغنيه، ومن طالع كتب التصوف وتراجم القوم وسير السلف - نفعنا الله بهم - وجد كثيراً من ذلك بما يبصره ويسليه سبحانه ويصبره.

ولما هوّن سبحانه أمر الرزق بخطابه مع المؤمنين بعد أن كان قد أبلغ في تنبيه الكافرين بإيضاح المقال، وضرب الأمثال، ولين المحاورة في الجدال، ولما كان الملك لا يتمكن غاية التمكن من ترزيق من في غير مملكته، قال عاطفاً على نحو: فلئن سألتهم عن ذلك ليصدقنك

ص: 469

عائداً إلى استعطاف المعرضين، واللطف بالغافلين، ناهجاً في تفنين الوعظ أعني طرق الحكمة، فإن السيد إذا كان له عبدان: مصلح ومفسد، ينصح المفسد، فإن لم يسمع التفت إلى المصلح، إعراضاً عنه قائلاً: هذا لا يستحق الخطاب، فاسمع أنت ولا تكن مثله، فكان قوله متضمناً نصح المصلح وزجر المفسد، ثم إذا سمع وعظ أخيه كان ذلك محركاً منه بعد التحريك بالإعراض والذم بسوء النظر لنفسه وقلة الفطنة، فإذا خاطبه بعد هذا وجده متهيئاً للقبول، نازعاً إلى الوفاق، مستهجناً للخلاف:{ولئن سألتهم} أي المؤمن وغيره، وأغلب القصد له:{من خلق السماوات والأرض} وسواهما على هذا النظام العظيم {وسخر الشمس والقمر} لإصلاح الأقوات، ومعرفة الأوقات، وغير ذلك من المنافع.

ولما كان حالهم في إنكار البعث حال من ينكر أن يكون سبحانه خلق هذا الوجود، أكد تنبيهاً على أن الاعتراف بذلك يلزم منه الاعتراف بالبعث فقال:{ليقولن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال لما قد تقرر في فطرهم من ذلك وتلقفوه عن أبائهم موافقة للحق في نفس الأمر.

ولما كان حال من صرف الهمة عنه عجباً يستحق أن يسأل عنه

ص: 470

وجه التعجب منه إشارة إلى أنه لا وجه له، قال {فأنى} أي فكيف ومن أي وجه {يؤفكون*} أي يصرف من صارف ما من لم يتوكل عليه أو لم يخلص له العبادة في كل أحواله، وجميع أقواله وأفعاله، عن الإخلاص له مع إقرارهم بأنه لا شريك له في الخلق فيكون وجهه إلى قفاه فينظر الأشياء على خلاف ما هي عليه فيقع في خبط العشواء وحيرة العجباء.

ولما كان قد يشكل على ذلك التفاوت في الرزق عند كل من لم يتأمل حق التأمل فيقال: بكل الخلق والرزق له، فما بالهم متفاوتين في الرزق؟ قال:{الله} أي بما له من العظمة والإحاطة بصفات الكمال {يبسط الرزق} بقدرته التامة {لمن يشاء من عباده} على حسب ما يعلم من بواطنهم {ويقدر} أي يضيق.

ولما كان ذلك إنما هو لمصالح العباد وإن لم يظهر لهم وجه حكمته قال: {له} أي لتظهر من ذلك قدرته وحكمته، وأنت ترى الملوك وغيرهم من الأقوياء يفاوتون في الرزق بين عمالهم بحسب ما يعلمون من علمهم الناقص بأحوالهم، فما ظنك بملك الملوك العالم علماً لا تدنو من ساحته ظنون ولا شكوك، وهذه الآية نتيجة ما قبلها.

ولما كان سبحانه يرزق الناس، ويمكن لهم بحسب ما يعلم من

ص: 471

ضمائرهم أنه لا صلاح إلا فيه، قال معللاً لذلك ومؤكداً رداً على من يعتقد أن ذلك إنما هو من تقصير بعض العباد وتشمير بعضهم، معلماً بأنه محيط العلم فهو محيط القدرة فهو الذي سبب عجز بعضهم وطاقة الآخرين لملازمة القدرة العلم:{إن الله} أي الذي له صفات الكمال {بكل شيء} أي من المرزوقين ومن الأرزاق وكيف تمنع او تساق وغير ذلك {عليم*} فهو على ذلك كله قدير، يعلم ما يصلح العباد من ذلك وما يفسدهم، ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء وكم رام بعض الأقوياء إغناء فقير وإفقار غني، فكشف الحال عن فساد ما راموا من الانتقال.

ولما ثبت بهذا شمول علمه، لزم تمام قدرته كما برهن عليه في طه، فقال مشيراً إلى ذلك ذاكراً السبب القريب في الترزيق بعد ما ذكر البعيد، فإن الاعتراف بأن هذا السبب منه يستلزم الاعتراف بأن المسبب أيضاً منه:{ولئن سألتهم من نزل} بحسب التدريج على حسب ما فعل في الترزيق، ولما كان ربما ادعى مدع أنه استنبط ماء فأنزله من جبل ونحوه، ذكر ما يختص به سبحانه سالماً عن دعوى المدعين فقال:{من السماء ماء} بعد أن كان مضبوطاً في جهة العلو

ص: 472

{فأحيا} ولما كان أكثر الأرض يحيى بماء المطر من غير حاجة إلى سقي، قدم الجار فقال {به الأرض} الغبراء، وأشار بإثبات الجار إلى قرب الإنبات من زمان الممات، وإلى أنهم لا يعلمون إلى الجزئيات الموجودة المحسوسة، ولا تنفذ عقولهم إلى الكليات المعقولة نفوذ أهل الإيمان ليعلموا أن ما أوجده سبحانه بالفعل في وقت فهو موجود إما بإيجاده إذا أراد، فالأرض حية بإحيائه سبحانه بسبب المطر في جميع الزمن الذي هو بعد الموت بالقوة كما أنها حية في بعضها بالفعل فقال:{من بعد موتها} فصارت خضراء تهتز بعد أن لم يكن بها شيء من ذلك، وأكد لمثل ما تقدم من التنبيه على أن حالهم في إنكار البعث حال من أن ينكر أن يكون الله صانع ذلك، لملازمة القدرة عليه القدرة على البعث بقوله:{ليقولن الله} وهو الذي الكمال كله، فلزمهم توحيده.

فلما ثبت أنه الخالق بدءاً وإعادة كما يشاهد في كل زمان، قال منبهاً على عظمة صفاته اللازم من إثباتها صدق رسوله صلى الله عليه وسلم:{قل} معجباً منهم في جمودهم حيث يقرون بما يلزمهم التوحيد ثم لا يوحدون: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال كلها {لله} الذي لا سمي له وليس لأحد غيره إحاطة بشيء من الأشياء، فلزمهم الحجة بما

ص: 473

أقروا به من إحاطته، وهم لا يثبتون ذلك بإعراضهم عنه {بل أكثرهم لا يعقلون*} أي لا يتجدد لهم عقل، بعضهم مطلقاً لأنه مات كافراً حيث هم مقرون بمعنى الحمد من أنه الخالق لكل شيء بدءاً وإعادة ثم يفعلون ما ينافي ذلك فيشركون به غيره مما هم معترفون بأنه خلقه ولا يتوكلون في جميع الأمور براً وبحراً عليه ويوجهون العبادة خالصة إليه، فهم لا يعرفون معنى الحمد حيث لم يعملوا به، ومنهم من آمن بعد ذلك فكان في الذروة من كمال العقل في التوحيد الذي يتبعه سائر الفروع، ومنهم من كان دون ذلك، فكان نفي العلم عنه مقيداً بالكمال.

ص: 474

ولما تبين بهذا الآيات أن الدنيا مبنية على الفناء والزوال، والقلعة والارتحال، وصح أن السرور بها في غير موضعه فلذلك قال تعالى مشيراً بعد سلب العقل عنهم إلى أنهم فيها كالبهائم يتهارجون:{وما هذه الحياة الدنيا} فحقرها بالإشارة ولفظ الدناءة مع الإشارة إلى أن الاعتراف بهذا الاسم كافٍ في الإلزام بالاعتراف بالأخرى.

ولما كان مقصود السورة الحث على الجهاد والنهي عن المنكر، وكان في معرض سلب العقل عنهم، قدم اللهو لأن الإعراض عنه يحسم مادة الشر فإنه الباعث عليه فقال:{إلا لهو} أي شيء يلهي عما ينفع

ص: 474

{ولعب} يشتغل به صبيان العقول، وكل غافل وجهول، فإن اللهو كل شيء من شأنه أن يعجب النفس كالغناء والزينة من المال والنساء وغيره، فيحصل به فرح وزيادة سرور، فيكون سبباً للغفلة والذهول والنسيان والشغل عن استعمال العقل في اتباع ما ينجي في الآخرة فينشأ عنه ضلال - على ما أشارت إليه آية لقمان {ليشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} [آية: 6] ومنه اللعب، وهو فعل ما يزيد النفس في دنياها سروراً كالرقص بعد السماع وينقضي بسرعة لأنه ضد الجد ومثل الهزل، وهو كل شيء سافل، وكل باطل يقصد به زيادة البسط والترويح والتمادي في قطع الزمان فيما يشتهي من غير تعب، واللعبة - بالضم: التمثال، وما يلعب به كالشطرنج، والأحمق يسخر به، ولعب لعباً: مرح، وفي الأمر والدين: استخف به.

ولما كانوا ينكرون الحياة بعد الموت، أخبر على سبيل التأكيد أنه لا حياة غيرها فقال:{وإن الدار الآخرة لهي} أي خاصة {الحيوان} أي الحياة التامة الباقية العامة الوافية نفسها من حيث أنه لا موت فيها ولا فناء لشيء من الأشياء، ولذلك اختير هذا البناء الدال على المبالغة، وحركته مشعرة بما في الحياة من مطلق الحركة والاضطراب، فلا انقضاء لشيء من لعبها ولا لهواها الذي لا يوافق ما في الدنيا إلا في الصورة فقط

ص: 475

لا في المعنى، لأنه ليس فيها شيء سافل لا في الباعث ولا في المبعوث إليه، بل كان ذلك بالتسبيح والتقديس وما يترتب عليه من المعارف والبسط والترويح، والانشراح والأنس والتفريح.

ولما كانوا قد غلطوا في الدارين كلتيهما فأنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها، فعدوا الدنيا وجوداً دائماً على هذا الحالة والآخرة عدماً، لا وجود لها بوجه، قال:{لو كانوا} أي كوناً هو كالجبلة {يعلمون*} أي لهم علم ما لم يغلطوا في واحدة منهما فلم يركبوا مع إيثارهم للحياة وشدة نفرتهم من الموت، لا عتقادهم أن لا قيام بعده إلى الدنيا، مع أن أصلها عدم الحياة الذي هو الموتان.

ولما ختم هذه الآية بما أفهم أنهم لا يعلمون، والتي قبلها بأن أكثرهم لا يعقلون، سبب عن ذلك قوله:{فإذا} أي فتسبب عن عدم عقلهم المستلزم لعدم علمهم أنهم إذا {ركبوا} أي البحر {في الفلك} أي السفن {دعوا الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء إذا أصابتهم مصيبة خافوا منها الهلاك {مخلصين} بالتوحيد {له الدين*} بالإعراض عن شركائهم بالقلب واللسان، لما هم له محققون أنه لا منجى عند تلك الشدائد غيره {فلما نجّاهم} أي الله سبحانه، موصلاً لهم {إلى البر إذا هم} أي حين الوصول إلى البر

ص: 476

{يشركون*} فصح أنهم لا يعلمون، لأنهم لا يعقلون، حيث يقرون بعجز آلهتهم ويشركونها معه، ففي ذلك أعظم التهكم بهم؛ قال البغوي: قال عكرمة: كانوا إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب! يا رب.

وقال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان، وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء - انتهى. فعلم أن الاشتغال بالدنيا هو الصادّ عن كل خير وأن الانقطاع عنها معين للفطرة الأولى المستقيمة، ولهذا نجد الفقراء أقرب إلى كل خير.

ولما كانوا مع هذا الفعل - الذي لا يفعله إلا مسلوب العقل - يدعون أنهم أعقل الناس وأبصرهم بلوازم الأفعال وما يشين الرجال، وكان فعلهم هذا كفراً للنعمة، مع ادعائهم أنهم أشكرالناس للمعروف، قال مبيناً أن عادتهم مخالفة لعادة المؤمنين في جعلهم نعمة النجاة سبباً لزيادة طاعاتهم، فعلم أنه ما كان إخلاصهم في البحر إلا صورة لا حقيقة لها:{ليكفروا بما آتيناهم} على عظمتنا من هذه النعمة التي يكفي في عظمتها أنه لا يمكن غيرنا أن يفعلها ما أشركوا إلا لأجل هذا الكفر، وإلا لكانوا فاعلين لشيء من غير قصد، فيكون ذلك فعل من لا عقل له أصلاً وهم يحاشون عن مثل ذلك {وليتمتعوا} بما يجتمعون

ص: 477

عليه في الإشراك من التواصل والتعاون، وعند من سكن اللام - وهم ابن كثير وحمزة والكسائي وقالون عن نافع - يكون معطوفاً تهديداً على مقدر هو «فليكفروا» أو على {ليكفروا} السابق، على أن لامه للأمر، وسيأتي في الروم إن شاء الله تعالى ما يؤيده {فسوف يعلمون*} بوعد لا خلف فيه ما يحل بهم بهذا الفعل الذي هو دائر بين كفر وجنون.

ولما كان قد فعل بهم سبحانه من الأمن الشديد المديد في البر دون سائر العرب عكس ما ذكر من حال خوفهم الشديد في البحر، وكان قادراً على إخافتهم في البر كما قدر على إخافتهم في البحر ليدوم إخلاصهم، وكان كفرهم عند الأمن بعد الإخلاص عند الخوف - مع أنه أعظم النقائص - هزلاً لا يفعله إلا من أمن مثل تلك المصيبة في البر، توجه الإنكار في نحو أن يقال: ألم يروا أنا قادرون على إخافتهم وإهلاكهم في البر كما نحن قادرون على ذلك في البحر كما فعلنا بغيرهم، فعطف عليه قوله:{أولم يروا} أي بعيون بصائرهم {أنا جعلنا} أي بعظمتنا لهم {حرماً} وقال تعالى: {آمناً} لأنه لا خوف على من دخله، فلما أمن كل حالّ به كان كأنه هو نفس الأمن،

ص: 478

وهو حرم مكة المشرفة، وأمنه موجب للتوحيد والإخلاص، رغبة في دوامه، وخوفاً من انصرامه، كما كان الخوف في البحر موجباً للإخلاص خوفاً من دوامه، ورغبة في انصرامه {و} الحال أنه {يتخطف} وبناه للمفعول لأن المقصود الفعل لا فاعل معين.

ولما كان التخطف غير خاص بناس دون آخرين، بل كان جميع العرب يغزو بعضهم بعضاً، ويغير بعضهم على بعض بالقتل والأسر والنهب وغير ذلك من أنواع الأذى، قال:{الناس من حولهم} أي من حول من فيه من كل جهة تخطفَ الطيور مع قلة من بمكة وكثر من حولهم، فالذي خرق العادة في فعل ذلك حتى صار على هذا السنن قادر على أن يعكس الحال فيجعل من بالحرم متخطفاً ومن حوله آمناً، أو يجعل الكل في الخوف على منهاج واحد.

ولما تبين أنه لا وجه لشركهم ولا لكفرهم هذه النعمة الظاهرة المكشوفة، تسبب الإنكار في قوله:{أفبالباطل} أي خاصة من الأوثان وغيرها {يؤمنون} والحال أنه لا يشك عاقل في بطلانه، وجاء الحصر من حيث إن من كفر بالله تبعه الكفر بكل حق والتصديق بكل باطل {وبنعمة الله} التي أحدثها لهم من الإنجاء وغيره

ص: 479

{يكفرون*} حيث جعلوا موضع شكرهم له على النجاه شركهم بعبادة غيره.

ص: 480

ولما كان الظلم وضع الشيء في غير محله، وكان وضع الشيء في موضع لا يمكن أن يقبله أظلم الظلم، كان فعلهم هذا الذي هو إنزال ما لا يعلم شيئاً ولا يقدر على شيء في منزلة من يعلم كل شيء ويقدر على كل مقدور أظلم الظلم، فكان التقدير: فمن أظلم منهم في ذلك، عطف عليه قوله:{ومن أظلم} أي أشد وضعاً للأشياء في غير مواضعها، لأنه لانور له بل هو في ظلام الجهل يخبط {ممن افترى} أي تعمد {على الله كذباً} أي أيّ كذب كان من الشرك وغيره كما كانوا يقولون إذا فعلوا فاحشة: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها {أو كذب بالحق} من هذا القرآن المعجز المبين، على لسان هذا الرسول الأمين الذي ما أخبر خبراً إلا طابقه الواقع {لما} أي حين {جاءه} من غير إمهال إلى أن ينظر ويتأمل فيما جاءه من الأمر الشديد الخطر.

ولما كان التقدير: لا أحد أظلم منه، بل هو أظلم الظالمين، فهو كافر ومأواه جهنم، وكان من المعلوم أنهم يقولون عناداً: ليس الأمر كذلك، قال إنكاراً عليهم، ولأن فعلهم فعل المنكر، وتقريراً لهم لأن همزة الإنكار إذا دخلت على النفي كانت للتقرير، عدّاً به بمنزلة ما

ص: 480

لا نزاع فيه أصلاً: {أليس في جنهم مثوى} أي منزل وموضع إقامة وحبس له وقد ارتكب هذا الكفر العظيم - هكذا كان الأصل، ولكنه لقصد التعميم وتعليق الفعل بالوصف قال:{للكافرين*} أي الذين يغطون أنوار الحق الواضح، أو ليس هو من الكافرين؟ أي إن كلاًّ من المقدمتين صحيح لا إنكار فيه، ولا ينتظم إنكارهم إلا بإفساد إحديهما، أما كفره للمنعم بعد إنجائه من الهلاك حيث عبد غيره فلا يسع عاقلاً إنكاره، وأما كون جهنم تسعة بعد إخبار القادر به فلا يسع مقراً بالقدرة إنكاره، فالمقدمتان مما لا مطعن فيه عندهم، فأنتجتا أن مثواه جهنم، وصار القياس هكذا: عابد غير من أنجاه كافر، وكل كافر مثواه جهنم، فعابد غير من أنجاه مثواه جهنم.

ولما كان هذا كله في الذين فتنوا فلم يجاهدوا أنفسهم، كان المعنى: فالذين فتناهم فوجدوا كاذبين ضلوا فصاروا لا يعقلون ولا يعلمون، لكونهم لم يكونوا من المجاهدين، فعطف عليه قوله:{والذين جاهدوا} أي أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم على ما دل عليه بالمفاعلة {فينا} أي بسبب حقنا ومراقبتنا خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار وغيرهم

ص: 481

من كل ما ينبغي الجهاد فيه بالقول والفعل في الشدة والرخاء، ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن، وشدائد المحن، مستحضرين لعظمتنا.

ولما كان الكفار ينكرون فلاحهم وكان المفلح والظافر في كل شيء هو المهتدي، قال معبراً بالسبب عن المسبب:{لنهدينهم} بما نجعل لهم من النور الذي لا يضل من صحبه، هداية يليق بعظمتنا {سبلنا} أي لا سبل غيرها، علماً وعملاً، ونكون معهم بلطفنا ومعونتنا، لأنهم أحسنوا المجاهدة فهنيئاً لمن قاتل في سبيل الله ولو فواق ناقة لهذه الآية وقوله تعالى

{والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم} [محمد: 4]، ولهذا كان سفيان بن عيينة يقول: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الغزو.

ولما كان المحسن كلما توفر حظه في مقام الإحسان نقص حظه من الدنيا، فظن الأغبياء أنه ليس لله به عناية، عظم التأكيد في قوله، لافتاً الكلام عن أسلوب الجلال إلى أجلّ عنه بما زاد من الجمال {وإن الله} أي بعظمته وجلاله وكبريائه وجميع كماله لمعهم - هكذا كان الأصل، ولكنه أراد الإعلام بإحسابهم وتعليق الحكم

ص: 482

بالوصف والتعميم فأظهر قائلاً: {لمع المحسنين*} أي كلهم بالنصر والمعونة في دنياهم، والثواب والمغفرة في عقباهم، بسبب جهادهم لأنه شكر يقتضي الزيادة، ومن كان معه سبحانه فاز بكل مطلوب، وإن رأى الجاهل خلاف ذلك، فإنه يجعل عزهم من وراء ذل ويستر غناهم بساتر فقر، حماية لهم مما يجر إليه دائم العز من الكبر، ويحمل عليه عظيم الغنى من الطغيان، وما أحسن ما نقل الأستاذ أبو القاسم القشيري في الرسالة عن الحارث المحاسبي أنه قال: من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة، والآية من الاحتباك: أثبت أولاً الجهاد دليلاً على حذفه ثانياً، وثانياً أنه مع المحسنين دليلاً على حذف المعية والإحسان أولاً، فقد عانق أول السورة هذا الآخر، وكان إليه أعظم ناظر، فنسأل الله العافية من الفتن، والمجاهدة إن كان لا بد من المحن، وإليه المآب.

ص: 483