الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما كان آخر هذه القصص في الحقيقة إبطال كل ما خالف الإسلام الذي هو معنى {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]- وما بعد ذلك إنما جرّه - ختم الآية بدعوى أن المخالفين من الخاسرين، وختم ذلك بأن من مات على الكفر لا يقبل إنفاقه للإنقاذ مما يلحقه من الشدائد، لا بدفع لقاهر ولا بتقوية لناصر، فتشوفت النفس إلى الوقت الذي يفيد فيه الإنفاق وأي وجوهه أنفع، فأرشد إلى ذلك وإلى أن الأحب منه أجدر بالقبول، رجوعاً إلى ما قرره سبحانه وتعالى قبل آية الشهادة بالوحدانية من صفة عباده المنفقين والمستغفرين بالأسحار على وجه أبلغ بقوله:{لن تنالوا البر} وهو كمال الخير {حتى تنفقوا} أي في وجوه الخير {مما تحبون} أي من كل ما تقتضون، كما ترك إسرائيل عليه الصلاة والسلام أحب الطعام إليه لله سبحانه وتعالى.
ولما كان التقدير: فإن أنفقتم منه علمه الله سبحانه وتعالى فأنالكم به البر، وإن تيممتم الخبيث الذي تكرهونه فأنفقتموه لم تبروا، وكان كل من المحبة والكراهة أمراً خفياً، قال سبحانه وتعالى مرغماً مرهباً:{وما تنفقوا من شيء} أي من المحبوب وغيره {فإن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة. وقدم الجار اهتماماً به إظهاراً لأنه يعلمه من جميع وجوهه ما تقول لمن سألك - هل تعلم كذا: لا أعلم إلا هو، فقال:{به عليم *} فهذا كما ترى احتباك.
ولما أخبر بذلك بين أنه كان ديدن أهل الكمال على وجه يقرر به ما مضى من الإخبار بعظيم اجتراء أهل الكتاب على الكذب بأمر حسّي فقال تعالى: {كل الطعام} أي من الشحوم مطلقاً وغيرها {كان حلاًّ لبني إسرائيل} أي أكله - كما كان حلاًّ لمن قبلهم على أصل الإباحة {إلا ما حرم إسرائيل} تبرراً وتطوعاً {على نفسه} وخصه بالذكر استجلاباً لبنيه إلى ما يرفعهم بعد اجتذابهم للمؤمنين إلى ما يضرهم ولا ينفعهم. ولما كانوا بما أغرقوا فيه من الكذب ربما قالوا: إنما حرم ذلك اتباعاً لحكم التوراة قال:
{من قبل} وأثبت الجار لأن تحريمه كان في بعض ذلك الزمان، لا مستغرقاً له. وعبر بالمضارع لأنه أدل على التجدد فقال:{أن تنزل التوراة} وكان قد ترك لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب الأطعمة إليه لله وإيثاراً لعباده - كما تقدم ذلك في البقرة عند {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} [البقرة: 89] .
ولما كانت هذه الآية إلزاماً لليهود باعتقاد النسخ الذي طعنوا به في هذا الدين في أمر القبلة، وكانوا ينكرونه ليصير عذراً لهم في التخلف عن اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم، فكانوا يقولون: لم تزل الشحوم وما ذكر معها حراماً على من قبلنا كما كانت حراماً علينا، فأمر بجوابهم بأن قال:{قل} أي لليهود {فأتوا بالتوارة فاتلوها} أي لتدل لكم {إن كنتم صادقين *} فيما ادعيتموه، فلم يأتلوا بها فبان كذبهم فافتضحوا فضيحة لا مثل لها في الدنيا {فمن} أي فتسبب عن ذلك أنه من {افترى} أي تعمد {على الله} أي الملك الأعظم {الكذب} أي في أمر المطاعم أو غيرها.
ولما كان المراد النهي عن إيقاع الكذب في أي زمن كان، لا عن إيقاعه في جميع الزمان الذي بعد نزول الآية أثبت الجار فقال:{من بعد ذلك} أي البيان العظيم الظاهر جداً {فأولئك} أي الأباعد الأباغض {هم} خاصة
لتعمدهم الكذب على من هو محيط بهم ولا تخفى عليه خافية {الظالمون *} أي المتناهو الظلم بالمشي على خلاف الدليل فعل من يمشي في الظلام، فهو لا يضع شيئاً في موضعه، وذلك بتعرضهم إلى أن يهتكهم التام العلم ويعذبهم الشامل القدرة.
ولما اتضح كذبهم وافتضح تدليسهم - لأنه لما استدل عليهم بكتابهم فلم يأتوا به صار ظاهراً كالشمس، لا شك فيه ولا لبس، ولم يزدهم ذلك إلا تمادياً في الكذب - أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:{قل} أي لأهل الكتاب الذي أنكروا النسخ فأقمت عليهم الحجة من كتابهم {صدق الله} أي الملك الأعظم الذي له الكمال كله في جميع ما أخبر، وتخبر به عن ملة إبراهيم وغيره من بنيه أسلافكم، وتبين أنه ليس على دينكم هو ولا أحد ممن قبل موسى عليه الصلاة والسلام، لأنكم لو كنتم صادقين لأتيتم بالتوراة، نافياً بذلك أن يكون تأخرهم عن الإتيان بها لعلة يعتلون بها غير ذلك، وإذ قد تبين صدقه تعالى في جميع ما قال وجب اتباعه في كل ما يأمر به، وأعظمه ملة إبراهيم فإنها الجامعة للمحاسن.
ولما ثبت ذلك بهذا الدليل المحكم لزم قطعاً أنه ما كان يهودياً
ولا نصرانياً ولا مشركاً، وقد أقروا بأن ملته هي الحق وأنهم أتباعه، فتسبب عن ذلك وجوب اتباعه فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به فبان كالشمس صدقه، لا فيما افتروه هم من الكذب، فقال سبحانه وتعالى:{فاتبعوا ملة إبراهيم} وهي الإسلام أي الانقياد للدليل، وهو معنى قوله:{حنيفاً} أي تابعاً للحجة إذا تحررت، غير متقيد بمألوف. ولما كان صلى الله عليه وسلم مفطوراً. على الإسلام فلم يكن في جبلته شيء من العوج فلم يكن له دين غير الإسلام نفى الكون فقال:{وما كان من المشركين} أي بعزير ولا غيره من الأكابر كالأحبار الذين تقلدونهم مع علمكم بأنهم يدعون إلى ضد ما دعا إليه سبحانه وتعالى.
ولما ألزمهم سبحانه وتعالى بالدليل الذي دل على النسخ أنهم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأوجب عليهم اتباعها بعد بيان أنها هي ما عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، أخبر عن البيت الذي يخول إليه التوجه في الصلاة، فعابوه على أهل الإسلام أنه أعظم شعائر إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كفروا بتركها، ولذلك أبلغ في تأكيده فقال سبحانه وتعالى:{إن أول بيت}
أي من البيوت الجامعة للعبادة {وضع للناس} أي على العموم متعبداً واجباً عليهم قصده وحجه بما أمرهم به على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، واستقباله في الصلاة بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولعل بناء وضع، للمفعول إشارة إلى أن وضعه كان قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام {للذي ببكة} أي البلدة التي تدق أعناق الجبابرة، ويزدحم الناس فيها إزدحاماً لا يكون في غيرها مثله ولا قريب منه، فلا بد أن يدق هذا النبي الذي أظهرته منها الأعناق من كل من ناواه ويزدحم الناس على الدخول في دينه ازدحاماً لم يعهد مثله فإن فاتكم ذلك ختم في الدارين غاية الخيبة ودام ذلكم وصغاركم؛ حال كونه {مباركاً} أي عظيم الثبات كثير الخيرات في الدين والدنيا {وهدى للعالمين *} أي من بني إسرائيل ومن قبلهم ومن بعدهم، فعاب عليهم سبحانه وتعالى في هذه الآية فعلهم من النسخ ما أنكروه على مولاهم.
وذلك نسخهم لما شرعه من حجة من عند أنفسهم تحريفاً منهم مثالاً لما قدم من الإخبار به عن كذبهم، وهذا أمر شهير يسجل عليهم بالمخالفة ويثبت للمؤمنين
المؤالفة، فإن حج البيت الحرام وتعظيمه من أعظم ما شرعه إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما هو مبين في السير وغيرها وهم عالمون بذلك، وقد حجه أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام وأسلافهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم - كما روي من غير طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أن في بعض الطرق أنه كان مع موسى عليه الصلاة في حجة إليه سبعون ألفاً من بني إسرائيل، ومن المحال عادة أن يخفى ذلك عليهم، ومن الأمر الواضح أنهم قد تركوا هذه الشريعة العظيمة أصلاً ورأساً، فكيف يصح لهم دعوى أنهم على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع انسلاخهم من معظم شرائعه! ثم فسر الهدى بقوله:{فيه آيات بينات} وقوله: {مقام إبراهيم *} أي أثر قدمه عليه الصلاة والسلام في الحجر حيث قام لتغسل كنته رأسه الشريف - أعربه أبو حيان بدلاً أو عطف بيان من الموصول الذي هو خبر {إن} في قوله: {للذي ببكة} فكأنه قيل: إن أول بيت وضع للناس لمقام إبراهيم، وأعربه غيره بدل بعض من قوله {آيات} وهو وحده آيات لعظمه ولتعدد ما فيه من تأثير القدم، وحفظه
إلى هذا الزمان مع كونه منقولاً، وتذكيره بجميع قضايا إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان أمن أهله في بلاد النهب والغارات التي ليس بها حاكم يفزع إليه ولا رئيس يعول في ذلك عليه من أدل الآيات قال سبحانه وتعالى: {ومن دخله} أي فضلاً عن أهله {كان آمناً} أي عريقاً في الأمن، أو فأمنوه بأمان الله، وتحويل العبارة عن «وأمن داخله» لأن هذا أدل على المراد من تمكن الأمن، وفيه بشارة بدخول الجنة.
ولما أوضح سبحانه وتعالى براءتهم من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمخالفتهم إياه بعد دعواهم بهتاناً أنه على دينهم، وكانت المخالفة في الواجب أدل قال سبحانه وتعالى:{ولله} أي الملك الذي له الأمر كله {على الناس} أي عامة، فأظهر في موضع الإضمار دلالة على الإحاطة والشمول - كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي في {استطعما أهلها} [الكهف: 77] في الكهف،
وذلك لئلا يدعي خصوصة بالعرب أو غيرهم {حج البيت} أي زيارته زيارة عظيمة، وأظهر أيضاً تنصيصاً عليه وتنويهاً بذكره تفخيماً لقدره، وعبر هنا بالبيت لأنه في الزيارة، وعادة العرب زيارة معاهد الأحباب وأطلالهم وأماكنهم وحلالهم، وأعظم ما يعبر به عن الزيارة عندهم الحج، ثم مَن بالتخفيف بقوله مبدلاً من الناس، تأكيداً بالإيضاح بعد الإبهام وحملاً على الشكر بالتخفيف بعد التشديد وغير ذلك من البلاغة:{من استطاع} أي منهم {إليه سبيلاً} فمن حجه كان مؤمناً.
ولما كان من الواضح أن التقدير: ومن لم يحجه مع الاستطاعة كفر بالنعمة إن كان معترفاً بالوجوب، وبالمروق من الدين إن جحد، عطف عليه قوله:{ومن كفر} أي بالنعمة أو بالدين {فإن الله} اي الملك الأعلى {غني} ولما كان غناه مطلقاً دل عليه بقوله موضع عنه: {عن العالمين *} أي طائعهم وعاصيهم، صامتهم وناطقهم، رطبهم ويابسهم، فوضح بهذه الآية وما شاكلها أنهم ليسوا على دينه كما وضح بما تقدم أنه ليس على دينهم، فثبتت بذلك براءته منهم،
والآية من الاحتباك لأن إثبات فرضه أولاً يدل على كفر من أباه، وإثبات {ومن كفر} ثانياً يدل على إيمان من حجه.
ولما أتم سبحانه وعز شأنه البراهين وأحكم الدلائل عقلاً وسمعاً، ولم يبق لمتعنت شبهة، ولم يبادروا الإذعان، بل زادوا في الطغيان، وكادوا أن يوقعوا الضراب والطعان بين أهل الإيمان، أعرض سبحانه وتعالى عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب ورابع الانتقام فقال سبحانه وتعالى مخاطباً لرسوله الذي يكون قتلهم على يده:{قل} وأثبت أداة دالة على بعدهم عن الحضرة القدسية فقال: {يا أهل الكتاب} أي من الفريقين {لم تكفرون} أي توقعون الكفر {بآيات الله} أي وهي - لكونه الحائز بجميع الكمال - البينات نقلاً وعقلاً الدالة على أنكم على الباطل لما وضح من أنكم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ولما كان كفرهم ظاهراً ذكر شهادته تعالى فقال مهدداً {والله} أي والحال أن الله الذي هو محيط بكل شيء قدرة وعلماً فلا إله غيره وقد أشركتم به {شهيد على} كل {ما تعملون *} أي لكونه يعلم
سبحانه السر وأخفى وإن حرفتم وأسررتم. ثم استأنف إيذاناً بالاستقلال تقريعاً آخر لزيادتهم على الكفر التكفير فقال: {قل يا آهل الكتاب} أي المدعين للعلم واتباع الوحي، كرر هذا الوصف لأنه مع أنه أبعد في التقريع أقرب إلى التطلف في صرفهم عن ضلالهم {لم تصدون} أي بعد كفركم {عن سبيل الله} أي الملك الذي له القهر والعز والعظمة والاختصاص بجميع صفات الكمال، وسبيله دينه الذي جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقدمه اهتماماً به. ثم ذكر المفعول فقال:{من أمن} حال كونكم {تبغونها} أي السبيل {عوجاً} أي بليكم ألسنتكم وافترائكم على الله، ولم يفعل سبحانه وتعالى إذ أعرض عنهم في هذه الآية ما فعل من قبل إذ أقبل عليهم بلذيذ خطابه تعالى جده وتعاظم مجده إذ قال:{يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم} [آل عمران: 65]{يا أهل الكتاب لم تكفرون} [آل عمران: 70] والآية التي بعدها بغير واسطة. وقال أبو البقاء في إعرابه: إن تبغون يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً من الضمير في تصدون أو من السبيل،
لأن فيها ضميرين راجعين إليها، فلذلك يصح أن يجعل حالاً من كل واحد منهما، وعوجاً حال - انتهى. وقال صاحب القاموس في بنات الواو: بغا الشيء بغواً: نظر إليه كيف هو، وقال في بنات الياء: بغيته أبغيه: طلبته، فالظاهر أن جعل عوجاً حالاً - كما قال أبو البقاء - أصوب من جعله مفعولاً - كما قال في الكشاف. ويكون تبغون إما يائياً فيكون معناه: تريدونها معوجة أو ذات عوج، فإن طلب بمعنى: أراد؛ وإما أن يكون واوياً بمعنى: ترونها ذات عوج، أي تجعلونها في نظركم يعني: تتكلفون وصفها بالعوج مع علمكم باستقامتها، لكن قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح «ابغني أحجاراً أستنفض بهن» يؤيد قول صاحب الكشاف.
ولما ذكر صدهم وإرادتهم العوج الذي لا يرضاه ذو عقل قال موبخاً: {وأنتم شهداء} أي باستقامتها بشهادتكم باستقامة دين إبراهيم مع قيام أدلة السمع والعقل أنها دينه وأن النبي والمؤمنين أولى الناس به
لانقيادهم للأدلة. ولما كان الشهيد قد يغفل، وكانوا يخفون مكرهم في صدهم، هددهم بإحاطة علمه فقال:{وما الله} أي الذي تقدم أنه شهيد عليكم وله صفات الكمال كلها {بغافل} أي أصلاً {عما تعملون *} ولما تم إيذانه بالسخط على أعدائه وأبلغ في إنذارهم عظيم انتقامه إن داموا على إضلالهم، أقبل بالبشر على أحبائه، مواجهاً لهم بلذيذ خطابه وصفي غنائه، محذراً لهم الاغترار بالمضلين، ومنبهاً ومرشداً ومذكراً ودالاً على ما ختم به ما قبلها من إحاطة علمه بدقيق مكر اليهود، فقال سبحانه وتعالى:{يا أيها الذين آمنوا} أي بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم {إن تطيعوا فريقاً} أتى بهذا اللفظ لما كان المحذر منه الافتراق والمقاطعة الذي يأتي عيب أهل الكتاب به {من الذين أوتوا الكتاب} أي القاطعين بين الأحباب مثل شأس بن قيس الذي مكر بكم إلى أن أوقع الحرب بينكم، فلولا النبي الذي رحمكم به ربكم لعدتم إلى شر ما كنتم فيه {يردوكم} وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد:{بعد إيمانكم كافرين *}
أي غريقين في صفة الكفر، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها! .
ولما حذرهم منهم عظم عليهم طاعتهم بالإنكار والتعجيب من ذلك مع ما هم عليه بعد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحوال الشريفة فقال - عاطفاً على ما تقديره: فكيف تطيعونهم وأنتم تعلمون عداوتهم: {وكيف تكفرون} أي يقع منكم ذلك في وقت من الأوقات على حال من الأحوال {وأنتم تتلى} أي تواصل بالقراءة {عليكم آيات الله} أي علامات الملك الأعظم البينات {وفيكم رسوله} الهادي من الضلالة المنقذ من الجهالة، فتكونون قد جمعتم إلى موافقة العدو مخالفة الولي وأنتم بعينه وفيكم أمينه {ومن} أي والحال أنه من {يعتصم} أي يجهد نفسه في ربط أموره {بالله} المحيط بكل شيء علماً وقدرةً في جميع أحواله كائناً من كان. ولما
كان من قصر نفسه على من له الكمال كله متوقعاً للفلاح عبر بأداة التوقع مقرونة بفاء السبب فقال: {فقد هدى} وعبر بالمجهول على طريقة كلام القادرين {إلى صراط مستقيم *} .
ولما انقضى هذا التحذير من أهل الكتاب والتعجيب والترغيب، أمر بما يثمر ذلك من رضاه فقال:{يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم {اتقوا الله} أي صدقوا دعواكم بتقوى ذي الجلال والإكرام {حق تقاته} فأديموا الانقياد له بدوام مراقبته ولا تقطعوا أمراً دونه {ولا تموتن} على حالة من الحالات {إلا وأنتم مسلمون *} أي منقادون أتم الانقياد، ونقل عن العارف أبي الحسن الشاذلي أن هذه الآية في أصل الدين وهو التوحيد، وقوله سبحانه وتعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] في فروعه.
ولما كان عزم الإنسان فاتراً وعقله قاصراً، دلهم - بعد أن أوقفتهم التقوى - على الأصل لجميع الخيرات المتكفل بالحفظ من جميع الزلات فقال:{واعتصموا} أي كلفوا أنفسكم الارتباط الشديد والانضباط العظيم {بحبل الله} أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له التي نهجها لكم ومهدها، وأصل الحبل السبب الذي يوصف به
إلى البغية والحاجة، وكل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله عنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن الخوف، ولا يخفى دقة الصراط بما ورد به النقل الصحيح وهذا الدين مثاله فصعوبته وشدته على النفوس بما لها من النوازع والحظوظ مثال دقته، فمن قهر نفسه وحفظها على التمسك به حفظ عن السقوط عما هو مثاله.
ولما أفهم كل من الضمير والحبل والاسم الجامع إحاطة الأمر بالكل أكده بقوله: {جميعاً} لا تدعوا أحداً منكم يشذ عنها، بل كلما عثرتم على أحد فارقها ولو قيد شبر فردوه إليها ولا تناظروه ولا تهملوا أمره، ولا تغفلوا عنه فيختل النظام، وتتعبوا على الدوام، بل تزالوا كالرابط ربطاً شديداً حزمة نبل بحبل، لا يدع واحدة منها تنفرد عن الأخرى، ثم أكد ذلك بقوله:{ولا تفرقوا} ثم ذكرهم نعمة الاجتماع، لأن ذلك باعث على شكرها، وهو باعث
على إدامة الاعتصام والتقوى، وبدأ منها بالدنيوية لأنها أس الأخروية فقال:{واذكروا نعمة الله} الذي له الكمال كله {عليكم} يا من اعتصم بعصام الدين! {إذا كنتم أعداء} متنافرين أشد تنافر {فألف بين قلوبكم} بالجمع على هذا الصراط القويم والمنهج العظيم {فأصبحتم بنعمته إخواناً} قد نزع ما في قلوبكم من الإحن، وأزال تلك الفتن والمحن.
ولما ذكر النعمةت التي أنقذتهم من هلاك الدنيا ثنى بما تبع ذلك من نعمة الدين التي عصمت من الهلاك الأبدي فقال: {وكنتم على شفا} أي حرف وطرف {حفرة من النار} بما كنتم فيه من الجاهلية {فأنقذكم منها} .
ولما تم هذا البيان على هذا الأسلوب الغريب نبه على ذلك بقوله - جواباً لمن يقول: لله در هذا البيان! ما أغربه من بيان! - {كذلك} أي مثل هذا البيان البعيد المنال البديع المثال {يبين الله} المحيط علمه الشاملة قدرته بعظمته {لكم آياته} وعظم الأمر
بتخصيصهم به وإضافة الآي إليه. ولما كان السياق لبيان دقائق الكفار في إرادة إضلالهم ختم الآية بقوله: {لعلكم تهتدون *} أي ليكون حالكم عند من ينظركم حال من ترجى وتتوقع هدايته، هذا الترجي حالكم فيما بينكم، وأما هو سبحانه وتعالى فقد أحاط علمه بالسعيد والشقي، ثم الأمر إليه، فمن شاء هداه، ومن أراد أرداه.
ولما عاب سبحانه وتعالى الكفار بالضلال ثم بالإضلال أمر المؤمنين بالهدى في أنفسهم، وأتبعه الأمر بهداية الغير بالاجتماع، وكان الأمر بالاجتماع المؤكد بالنهي عن التفرق ربما أفهم الوجوب لتفرد الجميع في كل جزئية من جزئيات العبادة في كل وقت على سبيل الاجتماع مع الإعراض عن كل عائق عن ذلك سواء كان وسيلة أو لا بالنسبة إلى كل فرد فرد؛ أتبعه بقوله - منبهاً على الرضى بإيقاع ذلك في الجملة سواء كان بالبعض أو الكل كما هو شأن فروض الكفايات -:{ولتكن منك أمة} أي جماعة تصلح لأن يقصدها غيرها، ويكون بعضها قاصداً بعضاً، حتى تكون أشد شيء ائتلافاً واجتماعاً في
كل وقت من الأوقات على البدل {يدعون} مجددين لذلك في كل وقت {إلى الخير} أي بالجهاد والتعليم والوعظ والتذكير.
ولما عم كل خير خص ليكون المخصوص مأموراً به مرتين دلالة على جليل أمره وعليّ قدره فقال: {ويأمرون بالمعروف} أي من الدين {وينهون عن المنكر} فيه بحيث لا يخلو وقت من الأوقات عن قوم قائمين بذلك، وهو تنبيه لهم على أن يلازموا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه رضي الله تعالى عنهم من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر حين استفزهم الشيطان بمكر شأس بن قيس في التذكير بالأحقاد والأضغان والأنكاد، وإعلام بأن الذكرى تنفع المؤمنين.
ولما كان هذا السياق مفهماً لأن التقدير: فإنهم ينالون بذلك خيراً كثيراً، ولهم نعيم مقيم؛ عطف عليه مرغباً:{وأولئك} أي العالون الرتبة العظيمو النفع {هم المفلحون *} حق الإفلاح، فبين سبحانه وتعالى أن الاجتماع المأمور به إنما هو بالقلوب الجاعلة لهم كالجسد الواحد، ولا يضر فيه صرف بعض الأوقات إلى المعاش وتنعيم البدن ببعض المباحات، وإن كان الأكمل صرف الكل بالنية إلى العبادة.
ولما أمر بذلك أكده بالنهي عما يضاده معرضاً بمن نزلت هذه الآيات فيهم من أهل الكتاب مبكتاً لهم بضلالهم واختلافهم في دينهم على أنبيائهم فقال: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا} بما ابتدعوه في أصول دينهم وبما ارتكبوه من المعاصي، فقادهم ذلك ولا بد إلى التخاذل والتواكل والمداهنة التي قصدوا بها المسالمة فجرتهم إلى المصارمة. ولما كان التفرق ربما كان بالأبدان فقط مع الاتفاق في الآراء بيَّن أن الأمر ليس كذلك فقال:{واختلفوا} بما أثمر لهم الحقد الحامل على الاتصاف بحالة من يظن أنهم جميع وقلوبهم شتى.
ولما ذمهم بالاختلاف الذي دل العقل على ذمه زاد في تقبيحه بأنهم خالفوا فيه بعد نهي العقل واضح النقل فقال: {من} أي وابتدأ اختلافهم من الزمان الذي هو من {بعد ما جاءهم} وعظمه بإعرائه عن التأنيث {البينات} أي بما يجمعهم ويعليهم ويرفعهم ويوجب اتفاقهم وينفعهم، فأرداهم ذلك الافتراق وأهلكهم.
ولما كان التقدير: فأولئك قد تعجلوا الهلاك في الدنيا فهم الخائبون،
عطف عليه قوله: {وأولئك} أي البعداء البغضاء {لهم عذاب عظيم *} أي في الدار الآخرة بعد عذاب الدنيا باختلافهم منابذين لما من شأنه الجمع، والآية من الاحتباك: إثبات «المفلحون» أولاً يدل على «الخاسرون» ثانياً، والعذاب العظيم ثانياً يدل على النعيم المقيم أولاً.
ولما قدم ما لأهل الكتاب المقدمين على الكفر على علم يوم القيامة في قوله {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم} [آل عمران: 77] وختم تلك الآية بأنهم لهم عذاب أليم واستمر حتى ختم هذه الآية بأنه مع ذلك عظيم؛ بين ذلك اليوم بقوله - بادئاً بما هو أنكى لهم من تنعيم أضدادهم -: {يوم تبيض وجوه} أي بما لها من المآثر الحسنة {وتسود وجوه} بما عليها من الجرائر السيئة {فأما الذين اسودت وجوههم}
بدأ بهم لأن النشر المشوش أفصح، ولأن المقام للترهيب وزيادة النكاية لأهله، فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً:{أكفرتم} يا سود الوجوه وعبيد الشهوات! {بعد إيمانكم} بما جبلتم عليه من الفطر السليمة ومكنتم به من العقول المستقيمة من النظر في الدلائل، ثم بما أخذ عليكم أنبياؤكم من العهود {فذوقوا العذاب} أي الأليم العظيم {بما كنتم تكفرون *} وأنتم تعلمون، فإنكم في لعنة الله ماكثون {وأما الذين ابيضت وجوهم} إشراقاً وبهاء لأنهم آمنوا فأمنوا من العذاب {ففي رحمة الله} أي ثمرة فعل ذي الجلال والإكرام الذي هو فعل الراحم. لا في غير رحمته. ثم أجاب عن سؤال من كأنه قال: هل تزول عنهم كما هو حال النعم في الدنيا؟ بقوله - على وجه يفهم لزومها لهم في الدنيا والآخرة -: {هم} أي خاصة {فيها خالدون} فلذا كانوا يؤمنون، فالآية من الاحتباك: إثبات الكفر أولاً دل على إرادة الإيمان ثانياً، وإثبات الرحمة ثانياً دل على حذف اللعنة أولاً.
ولما حازت هذه الآيات من التهذيب وإحكام الترتيب وحسن السياق قصب السباق أشار إليها مع قربها بأداة البعد وأضافها إلى أعظم أسمائه فقال: {تلك آيات الله} أي هذه دلائل الملك الأعظم العالية الرتب البعيدة المتناول، ثم استأنف الخبر عنها في مظهر العظمة قائلاً:{نتلوها} أي نلازم قصها، وزاد في تعظيمها بعد المبتدأ بالمنتهي فقال:{عليك} ثم أكد ذلك بقوله: {بالحق} أي ثابتة المعاني راسخة المقاصد صادقة الأقوال في كل مما أخبرت به من فوزكم وهلاكهم من غير أن نظلم أحداً منهم {وما الله} أي الحائز لجميع الكمال {يريد ظلماً} قلَّ أو جلَّ {للعالمين *} أي ما ظلمهم ولا يريد ظلم أحد منهم، لأنه سبحانه وتعالى متعالٍ عن ذلك، لا يتصور منه وهو غني عنه، لأن له كل شيء.
ولما كان أمرهم بالإقبال عليه ونهيهم عن الإعراض عنه ربما أوقع في وهم أنه غير قادر على ضبطهم أو محتاج إلى ربطهم أزال ذلك دالاً على أنه غني عن الظلم بقوله: {ولله} الملك الأعلى {ما} أي
كل شيء {في السماوات و} كل {ما في الأرض} من جوهر وعرض مِلكاً ومُلكاً. ولما كان المقصود سعة الملك لم يضمر لئلا يظن تخصيص الثاني بما في حيز الأول فقال: {وإلى الله} الذي لا أمر لأحد معه {ترجع الأمور} أي كلها، التي فيهما والتي في غيرهما، فلا داعي له إلى الظلم، لأنه غني عن كل شيء وقادر على كل شيء.
ولما كان من رجوع الأمور إليه هدايته من يشاء وإضلاله من يشاء قال - مادحاً لهذه الأمة ليمعنوا في رضاه حمداً وشكراً ومؤيساً لأهل الكتاب عن إضلالهم ليزدادوا حيرة وسكراً: {كنتم خير أمة} أي وجدتم على هذا الوصف الثابت لكم جبلة وطبعاً. ثم وصف الأمة بما يدل على عموم الرسالة وأنهم سيقهرون أهل الكتاب فقال: {أخرجت للناس} ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل مجموعة لغيرهم على ما هم عليه من المكنة بقوله: {تأمرون} أي على سبيل التجدد والاستمرار {بالمعروف} أي كل ما عرفه الشرع وأجازه
{وتنهون عن المنكر} وهو ما خالف ذلك، ولو وصل الأمر إلى القتال، مبشراً لهم بأنه قضى في ألأزل أنهم يمتثلون ما أمرهم به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} إراحة لهم من كلفة النظر في أنهم هل يمتثلون فيفلحوا، وإزاحة لحملهم أعباء الخطر بكونهم يعانون عليه ليفوزوا ويربحوا، فصارت فائدة الأمر كثيرة الثواب بقصد امتثال الواجب، وللترمذي - وقال: حسن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه يقول في هذه الآية: «أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله سبحانه وتعالى» وللبخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «أنتم خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام» .
ولما أخبر عنهم بهذا الوصف الشريف في نفسه أتبعه ما زاده شرفاً، وهو أنهم فعلوه في حال إيمانهم فهو معتبر به لوجود شرطه
الذي هو أساس كل خير فقال {وتؤمنون} أي تفعلون ذلك والحال أنكم تؤمنون {بالله} أي الملك الأعلى الذي تاهت الأفكار في معرفة كنه ذاته، وارتدت نوافذ أبصار البصائر خاسئة عن حصر صفاته، أي تصدقون أنبياءه ورسله بسببه في كل ما أخبروا به قولاً وفعلاً ظاهراً وباطناً، وتفعلون جميع أوامره وتنهون عن جميع مناهيه؛ وهذا يفهم أن من لم يؤمن كإيمانهم فليس من هذه الأمة أصلاً، لأن الكون المذكور لا يحصل إلا بجميع ما ذكر، وكرر الاسم الأعظم زيادة في تعظيمهم، وقد صدق الله ومن أصدق من الله حديثاً!
قال الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري في خطبة كتاب الاستيعاب: روى ابن القاسم عن مالك أنه سمعه يقول: لما دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب فقال: ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطعوا بالمناشير وصلبوا على الخشب بأشد اجتهاداً من هؤلاء - انتهى.
ولما كان من المعلوم أن التقدير: وذلك خير لكم، عطف عليه
قوله: {ولو آمن أهل الكتاب} أي أوقعوا الإيمان كما آمنتم بجميع الرسل وجميع ما أنزل عليهم في كتابهم وغيره، ولم يفرقوا بين شيء من ذلك {لكان} أي الإيمان {خيراً لهم} إشارة إلى تسفيه أحلامهم في وقوفهم مع ما منعهم عن الإيمان من العرض القليل الفاني والرئاسة التافهة، وتركهم الغنى الدائم والعز الباهر الثابت.
ولما كان هذا ربما أوهم أنه لم يؤمن منهم أحد قال مستأنفاً: {منهم المؤمنون} أي الثابتون في الإيمان، ولكنهم قليل {وأكثرهم الفاسقون *} أي الخارجون من رتبة الأوامر والنواهي خروجاً يضمحل معه خروج غيرهم. ولما كانت مخالفة الأكثر قاصمة خفف عن أوليائه بقوله:{لن يضروكم} ولما كان الضر- كما تقدم عن الحرالي - إيلام الجسم وما يتبعه من الحواس، والأذى إيلام النفس وما يتبعها من الأحوال، أطلق الضر هنا على جزء معناه وهو مطلق الإيلام، ثم استثنى منه فقال:{إلا أذى} أي بألسنتهم، وعبر بذلك لتصوير مفهومي الأذى والضر ليستحضر في الذهن، فيكون الاستثناء أدل على نفي وصولهم إلى المواجهة {وإن يقاتلوكم} أي يوماً من الأيام {يولوكم}
صرح بضمير المخاطبين نصاً في المطلوب {الأدبار} أي انهزاماً ذلاً وجبناً.
ولما كان المولي قد تعود له كرة بعد فرة قال - عادلاً عن حكم الجزاء لئلا يفهم التقييد بالشرط مشيراً بحرف التراخي إلى عظيم رتبة خذلانهم -: {ثم لا ينصرون *} أي لا يكون لهم ناصر من غيرهم أبداً وإن طال المدى، فلا تهتموا بهم ولا بأحد يمالئهم من المنافقين، وقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلاً! لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك.
ولما أخبر عنهم سبحانه وتعالى بهذا الذل أتبعه الإخبار بأنه في كل زمان وكل مكان معاملة منه لهم بضد ما أرادوا، فعوضهم عن الحرص على الرئاسة إلزامهم الذلة، وعن الإخلاد إلى المال إسكانهم المسكنة، وأخبر أن ذلك لهم طوق الحمامة غير مزائلهم إلى آخر الدهر باقٍ في أعقابهم بأفعالهم هذه التي لم ينابذهم فيها الأعقاب فقال سبحانه وتعالى مستأنفاً:{ضربت عليهم الذلة} وهي الانقياد كرهاً، وأحاطت بهم كما يحيط البيت المضروب بساكنه {أين ما ثقفوا} أي
وجدهم من هو حاذق خفيف فطن في كل مكان وعلى كل حال {إلا} حال كونهم معتصمين {بحبل} أي عهد وثيق مسبب للأمان، وهو عهد الجزية وما شاكله {من الله} أي الحائز لجميع العظمة {وحبل من الناس} أي قاطبة: الذي آمنوا وغيرهم، موافقٍ لذلك الحبل الذي من الله سبحانه وتعالى.
ولما كان الذل ربما كان مع الرضى ولو من وجه قال: {وبآءو} أي رجعوا عما كانوا فيه من الحال الصالح {بغضب من الله} الملك الأعظم، ملازمٍ لهم، ولما كان الوصفان قد يصحبهما اليسار قال:{وضربت} أي مع ذلك {عليهم} أي كما يضرب البيت {المسكنة} أي الفقر ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل، فكأنه قيل: لم استحقوا ذلك؟ فقيل: {ذلك} أي الإلزام لهم بما ذكر {بأنهم} أي أسلافهم الذي رضوا هم فعلهم {كانوا يكفرون} أي يجددون الكفر مع الاستمرار {بآيات الله} اي
الملك الأعظم الذي له الكمال كله، وذلك أعظم الكفر لمشاهدتهم لها مع اشتمالها من العظم على ما يليق بالاسم الأعظم {ويقتلون الأنبياء} أي الآتين من عند الله سبحانه وتعالى حقاً على كثرتهم بما دل عليه جمع التكسير، فهو أبلغ مما في أولها الأبلغ مما في البقرة ليكون ذمهم على سبيل الترقي كما هي قاعدة الحكمة.
ولما كانوا معصومين ديناً ودنيا قال: {بغير حق} أي يبيح قتلهم؛ ثم علل إقدامهم على هذا الكفر بقوله: {ذلك} أي الكفر والقتل العظيمان {بما عصوا وكانوا} أي جبلة وطبعاً {يعتدون *} أي يجددون تكليف أنفسهم الاعتداء، فإن الإقدام على المعاصي والاستهانة بمجاوزة الحدود يهوّن الكفر، فقال الأصفهاني: قال أرباب المعاملات: من ابتلى بترك الآداب وقع في ترك السنن، ومن ابتلى بترك السنن وقع في ترك الفرائض، ومن ابتلى بترك الفرائض وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلى بذلك وقع في الكفر، والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب وإن علا، وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم الآن، قال في السفر الثاني: وقال الله سبحانه
وتعالى جميع هذه الآيات كلها: أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق، لا تكون لك آلهة أخرى، لا تعملن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت، ومما في الماء أسفل الأرض، لا تسجدن لها ولا تعبدنها، لأني أنا الرب إلهك إله غيور، أجازي الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة خلوف، وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحبائي وحافظي وصاياي.
ولما كان السياق ربما أفهم أنهم كلهم كذلك قال مستأنفاً نافياً لذلك: {ليسوا سوآء} أي في هذه الأفعال، يثني سبحانه وتعالى على من أقبل على الحق منهم وخلع الباطل ولم يراع سلفاً ولا خلفاً بعيداً ولا قريباً. ثم استأنف قوله بياناً لعدم استوائهم:{من أهل الكتاب} فأظهر لئلا يتوهم عود الضمير على خصوص من حكم بتكفيرهم {أمة} أي جماعة يحق لها أن تؤم {قائمة} أي مستقيمة على ما أتاها به نبيها في الثبات على ما شرعه، متهيئة بالقيام للانتقال عنه عند مجيء الناسخ الذي بشر به ووصفه. غير زائغة بالإيمان ببعضه والكفر ببعضه. ثم ذكر الحامل على الاستقامة فقال:{يتلون} أي
يتابعون مستمرين {آيات الله} أي علامات ذي الجلال والإكرام المنزلة الباهرة التي لا لبس فيها {آناء الليل} أي ساعاته {وهم يسجدون *} أي يصلون في غاية الخضوع. ثم ذكر ما أثمر لهم التهجد فقال: {يؤمنون} وكرر الاسم الأعظم إشارة إلى استحضارهم لعظمته فقال: {بالله} أي الذي له من الجلال وتناهي الكمال ما حير العقول. وأتبعه اليوم الذي تظهر فيه عظمته كلها، لأنه الحامل على كل خير فقال:{واليوم الآخر} أي إيماناً يعرف أنه حق بتصديقهم له بالعمل الصالح بما يرد عليهم من المعارف التي ما لها من نفاد، فيتجدد تهجدهم فتثبت استقامتهم.
ولما وصفهم بالاستقامة في أنفسهم في أنفسهم وصفهم بأنهم يقوّمون غيرهم فقال: {ويأمرون بالمعروف} أي مجددين ذلك مستمرين عليه {وينهون عن المنكر} لذلك، ولما ذكر فعلهم للخير ذكر نشاطهم
في جميع أنواعه فقال: {ويسارعون في الخيرات} ولما كان التقدير: فأولئك من المستقيمين، عطف عليه:{وأولئك} أي العالو الرتبة {من الصالحين *} إشارة إلى أن من لم يستقم لم يصلح لشيء، وأرشد السياق إلى أن التقدير: وأكثرهم ليسوا بهذه الصفات.
ولما كان التقدير: فما فعلوا من خير فهو بعين الله سبحانه وتعالى، يشكره لهم، عطف عليه قوله:{وما تفعلوا} أي أنتم {من خير} من إنفاق أو غيره {فلن تكفروه} بل هو مشكور لكم بسبب فعلكم، وبني للمجهول تأدباً معه سبحانه وتعالى، وليكون على طريق المتكبرين. وعطف على ما تقديره: فإن الله عليم بكل ما يفعله الفاعلون، قوله:{والله} أي المحيط بكل شيء {عليم بالمتقين *} من الفاعلين الذين كانت التقوى حاملة لهم
على كل خير، فهو يثيبهم أعظم الثواب، ويغيرهم فهو يعاقبهم بما يريد من العقاب، هذا على قراءة الخطاب، وأما على قراءة الغيبة فأمرها واضح في نظمها بما قلته.
ولما رغبهم في الإنفاق بما يشمل كل خير وأخبرهم بأنه عالم بدقة وجله، وأخبر أن ذلك كان دأب إسرائيل عليه الصلاة والسلام على وجه أنتج أن بنيه كاذبون في ادعائهم أنهم على ملة جده إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم حذر منهم وختم ما ختمه بالمتقين بالترغيب في الخير بما اندرج فيه الإنفاق الذي قدم أول السورة أنه من صفة المتقين المستغفرين بالأسحار التي هي أشرف آناء الليل وكان مما يمنع منه خوفُ الفقر والنزول عن حال الموسرين من الكفار المفاخرين بالإكثار المعيرين بالإقلال من المال والولد وقوفاً مع الحال الدنيوي، وكان قد أخبر أنه لا يقبل من أحد منهم في الآخرة ملء الأرض ذهباً، أعقب هذا بمثل ذلك على وجه أعم فقال - واصفاً أضداد من تقدم، نافياً ما يعتقدون من أن أعمالهم الصورية تنفعهم -: {إن الذين
كفروا} أي بالله بالميل عن المنهج القويم وإن ادعوا الإيمان به نفاقاً أو غيره {لن تغني عنهم أموالهم} أي وإن كثرت {ولا أولادهم} وإن عظمت {من الله} أي الملك الذي لا كفوء له {شيئاً} أي من الإغناء تأكيداً لما قرر من عدم نصرة أهل الكتاب الذين حملهم على إيثار الكفر على الإيمان استجلاب الأموال والرئاسة على الأتباع على وجه يعم جميع الكفار - كما قال في أول السورة - سواءً.
ولما كان التقدير: فأولئك هم الخاسرون، عطف عليه قوله:{وأولئك أصحاب النار} أي هم مختصون بها، ثم استأنف ما يفيد ملازمتها فقال:{هم فيها خالدون *} ولما كان ربما قيل: فما حال ما يبدلونه في المكارم ويواسون به في المغارم؟ ضرب لذلك مثلاً جعله هباء منثوراً، ضائعاً وإن كثر بوراً، كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، بقوله سبحانه وتعالى جواباً لهذا السؤال:{مثل ما ينفقون} أي من المال، وحقر قصدهم بتحقير محطه فقال:{في هذه الحياة الدنيا} أي على وجه القربة أو غيرها، لكونهم ضيعوا الوجه الذي به يقبل، وهو الإخلاص. ومثل إنفاقهم له ومثل حرث أصيب بالريح {كمثل ريح فيها صر} أي برد شديد {أصابت حرث قوم} موصوفين بأنهم
{ظلموا أنفسهم} أي بالبناء على غير أساس الإيمان {فأهلكته} فمثل ما ينفقون في كونه لم ينفعهم في الدنيا بإنتاج ما أرادوا في الدنيا وضرهم في الدارين، أما في الدنيا فبضياعه في غير شيء، وأما في الآخرة فبالمعاقبة عليه لتضييع أساسه وقصدهم الفاسد به، مثل الزرع الموصوف فإنه لم ينفع أهله الموصوفين، بل ضرهم في الدنيا بضياعه، وفي الآخرة بما قصدوا به من المقصود الفاسد، ومثل إنفاقهم له في كونه ضرهم ولم ينفعهم مثل الريح في كونها ضرت الزرع ولم تنفعه، فلما كانت الريح الموصوفة أمراً مشاهداً جلياً جعلت في إهلاكها مثلاً لضياع أنفاقهم الذي هو أمر معنوي خفي، ولما كان الزرع المحترق أمراً محسوساً جعل فيما حصل له بعد التعب من العطب مثالاً لأمر معقول، وهو أموالهم في كون إنفاقهم إياها لم يثمر لهم شيئاً غير الخسارة والتعب، فالمثلان ضياع الرزع والإنفاق، وضياع الزرع أظهر فهو مثل لضياع الإنفاق لأنه أخفى، وقد بان أن الآية من الاحتباك: حذف أولاً مثل الإنفاق لدلالة الريح عليه، وثانياً الحرث لدلالة ما ينفق عليه.
ولما كان سبحانه وتعالى موصوفاً بأنه الحكم العدل القائم بالقسط وأنه لا ينسى خيراً فعل قال دفعاً لتوهم أن ذلك بخس: {وما ظلمهم} أي الممثل بهم والممثل لهم {الله} الملك الأعظم الغنيّ الغِِنى المطلق
لأنه المالك المطلق، وقد كفروا، أما الممثل لهم فبكونهم أنفقوا على غير الوجه الذي شرعه، وأما الممثل بهم فبكونهم لم يحرسوا زرعهم بالطاعات، وفي الآية دليل على أن أهل الطاعات تحرس ضوائعهم من الآفات وتخرق فيها العادات، ثم قال:{ولكن} لوما كان الممثل لأجلهم الذين كفروا أعم من أن يموتوا عليه أو يسلموا لم يعبر في الظلم بما تقتضيه الجبلة من فعل الكون وقال: الأساس بكفرهم، وأن ظلمهم مقصور على أنفسهم، لا يتعداها إلى غيرها وإن ظهر لإنفاقهم نكاية في عدوهم، فإن العاقبة لما كانت للمؤمنين كانت نكايتهم كالعدم، بل هي زيادة في وبالهم، فهي من ظلمهم لأنفسهم.
ولما كان الجمال بالمال لا سيما مع الإنفاق من أعظم المرغبات في الموالاة، وكانت هذه الآية قد صيرت جميلة قبيحاً وبَذوله شحيحاً؛ قال سبحانه وتعالى مكرراً التنبيه على مكر ذوي الأموال والجمال الذين يريدون إيقاع الفتنة بينهم من اليهود والمنافقين ليضمحل أمرهم وتزول شوكتهم:{يا أيها الذين آمنوا} أي إيماناً صحيحاً مصدقاً ادعاؤه بالعمل الصالح الذي من أعظمه الحب في الله والبغض في الله {لا تتخذوا بطانة} أي من تباطنونهم بأسراركم وتختصونهم بالمودة
والصفاء ومبادلة المال والوفاء {من دونكم} أي ليسوا منكم أيها المؤمنون، وعبر بذلك إعلاماً بأنهم يهضمون أنفسهم وينزلونها عن علّي درجتها بموادتهم. ثم وصفهم تعليلاً للنهي بقوله:{لا يألونكم خبالاً} أي يقصرون بكم من جهة الفساد، ثم بين ذلك بقوله على سبيل التعليل أيضاً:{ودّوا ما عنتم} أي تمنوا مشقتكم.
ولما كان هذا قد يخفى بيَّنه بقوله معللاً: {قد بدت البغضاء من أفواههم} أي هي بينة في حد ذاتها مع اجتهادهم في إخفائها، لأن الإنسان إذا امتلأ من شيء غلبه بفيضه، ولكنكم لحسن ظنكم وصفاء نياتكم لا تتأملونها فتأملوا. ثم أخبر عن علمه سبحانه قطعاً وعلم الفطن من عباده بالقياس ظناً بقوله:{وما تخفي صدورهم أكبر} مما ظهر على سبيل الغلبة. ثم استأنف على طريق الإلهاب والتهييج قوله: {قد بيَّنا} أي بما لنا من العظمة {لكم} أي بهذه الجمل {الآيات} أي الدالات على سعادة الدارين ومعرفة الشقي والسعيد والمخالف والمؤالف. وزادهم إلهاباً بقوله: {إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {تعقلون *} ثم استانف الإخبار عن ملخص حالهم معهم
فقال منبهاً أو مبدلاً الهاء من همزة الإنكار: {ها أنتم أولاء} أي المؤمنون المسلمون المستسلمون {تحبونهم} أي لاغتراركم بإقرارهم بالإيمان لصفاء بواطنكم {ولا} أي والحال أنهم لا {يحبونكم} لمخالفتهم لكم في الدين، فإنهم كاذبون في إقرارهم بالإيمان {وتؤمنون} أي أنتم {بالكتاب كله} أي ويكفرون هم به كله، إما بالقصد الأول وإما بالإيمان بالبعض والكفر بالبعض {وإذا لقوكم قالوا} أي لكم {آمنا} لتغتروا بهم {وإذا خلوا} أي منكم، وصوّر شدة حنقهم بقوله:{عضّوا عليكم} لما يرون من ائتلافكم وحسن أحوالكم {الأنامل من الغيظ} أي المفرط منكم، ومن جعل الهاء في {ها أنتم} بدلاً عن همزة الاستفهام فالمراد عنده: أأنتم يا هؤلاء القرباء مني تحبونهم والحال أنهم على ما هم عليه من منابذتكم وأنتم على ما أنتم عليه من الفطنة بصفاء الأفكار وعليّ الآراء بقبولكم الحق كله، لأن المؤمن كيس فطن؛ فهو استفهام - وإن كان من وادي التوبيخ - المراد به التنبيه والتهييج المنقل من سافل الدركات إلى عالي الدرجات - والله الموفق.
ولما كانوا كأنهم قالوا: فما نفعل؟ قال مخاطباً للرأس المسموع الأمر المجاب الدعاء: {قل} أي لهم {موتوا بغيظكم} أي ازدراء بهم ودعاء عليهم بدوام الغيظ من القهر وزيادته حتى يميتهم. ولما كانوا يحلفون على نفي هذا ليرضوهم قال تعالى مؤكداً لما أخبر به لئلا يظن أنه أريد به غير الحقيقة: {إن الله} أي الجامع لصفات الكامل {عليم بذات الصدور *} أي فلا تظنوا أنه أراد بعض ما يتجوز بالغيظ عنه.
ولما كان ما أخبرت به هذه الجمل من بغضهم وشدة عداوتهم محتاجاً ليصل إلى المشاهدة إلى بيان دل عليه بقوله: {إن تمسسكم} أي مجرد مس {حسنة تسؤهم} ولما كان هذا دليلاً شهودياً ولكنه ليس صريحاً أتبعه الصريح بقوله: {وإن تصبكم} أي بقوة مرها وشدة وقعها وضرها {سيئة يفرحوا بها} ولما كان هذا أمراً مبكتاً غائظاً مؤلماً داواهم بالإشارة إلى النصر مشروطاً بشرط التقوى والصبر فقال: {وإن تصبروا وتتقوا} أي تكونوا من أهل الصبر والتقوى {لا يضركم كيدهم شيئاً} ثم علل ذلك بقوله:
{إن الله} أي ذال الجلال والإكرام {بما يعملون محيط *} أي فهو يعد لكل كيد ما يبطله، والمعنى على قراءة الخطاب: بعملكم كله، فمن صبر واتقى ظفرته، ومن عمل على غير ذلك انتقمت منه.
ولما كان ما تضمنته هذه الآية من الإخبار ومن الوعد ومن الوعيد منطوقاً ومفهوماً محتاجاً إلى الاجتلاء في صور الجزئيات ذكرهم سبحانه وتعالى بالوقائع التي شوهدت فيها أحوالهم من النصر عند العمل بمنطوق الوعد من الصبر والتقوى وعدمه عند العمل بالمفهوم، وشوهدت فيها أحوال عدوهم من المساءة عند السرور والسرور عد المساءة، وذلك غني عن دليل لكونه من المشاهدات، مشيراً إلى ذلك بواو العطف على غير مذكور، مخاطباً لأعظم عباده فطنة وأقربهم إليه رتبة، تهييجاً لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل من غير أدنى وقوف مع المألوف فقال تعالى:{وإذ} أي اذكر ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين صبرتم واتقيتم
فنصرتم، وحين ساءهم نصركم في كل ذلك في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، ثم في بدر، ثم في غزوة بني قينقاع ونحو ذلك، واذكر إذ لم يصبر أصحابك فأصيبوا، وإذ سرتهم مصيبتكم في وقعة أحد إذ {غدوت} أي يا خاتم الأنبياء وأكرم المرسلين! {من أهلك} أي بالمدينة الشريفة صبيحة يوم الجمعة إلى أصحابك في مسجدك لتستشيرهم في أمر المشركين. وقد نزلوا بأحد في أواخر يوم الأربعاء، أو في يوم الخميس لقتالكم. وبنى من {غدوت} حالاً إعلاماً بأن الشروع في السبب شروع في مسببه فقال:{تبوىء} أي تنزل {المؤمنين} أي صبيحة يوم السبت وعبر بقوله: {مقاعد} إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم تقدم إلى كل أحد بالثبات في مركزه، وأوعز إليه في أن لا يفعل شيئاً إلا بأمره لا سيما الرماة، ثم ذكر علة ذلك فقال:{للقتال} .
ولما كان التقدير: وتتقدم إليهم بأبلغ مقال في تشديد الأقوال والأفعال، أشار تعالى إلى أنه وقع في غضون ذلك منه ومنهم كلام
كثير خفي وجلي بقوله: {والله} أي والحال أن الملك الأعظم الذي أنتم في طاعته {سميع} أي لأقوالكم {عليم *} أي بنياتكم في ذلك وغيره فاحذروه، ولعله خص النبي صلى الله عليه وسلم بلذيذ الخطاب في التذكير تحريضاً لهم مع ما تقدمت الإشارة إليه على المراقبة تعريضاً لهم بأنهم خفوا مع الذين ذكرهم أمر بعاث حتى تواثبوا حين تغاضبوا إلى السلاح - كما ذكر في سبب نزول قوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب} [آل عمران: 100] ، فوقفوا عن نافذ الفهم وصافي الفكر خفة إلى ما أراد بهم عدوهم فاقتضى هذا التحذير كله، ويؤيد ذلك إقباله في الخطاب عليهم عند نسبة الفشل إليها - كما يأتي قريباً، ولعله إنما خص هذه الغزوة بالذكر دون ما ذكرت أن واو عطفها دلت عليه مما أيدوا فيه بالنصر لأن الشماتة بالمصيبة أدل على البغضاء والعداوة من الحزن بما يسر، ودل ذكرها على المحذوف لأن المدعي فيما قبلها شيئان: المساءة بالحسنة،
والفرح والمسرة بالمصيبة، فإذا برهن المتكلم على الثاني عليم ولا بد أنه حذف برهان الأول، وأنه إنما حذفه - وهو حكيم - لنكتة، وهي هنا عدم الاحتياج إلى ذكره لوضوحه بدلالة السياق مع واو العطف عليه، وما تقدم من كونه غير صريح الدلالة في أمر البغض على أنه تعالى قد ذكر بدراً - كما ترى - بعد محكمة ستذكر، وأطلق سبحانه وتعالى كما عن الطبري وغيره - التبوء على ابتداء القتال بالاستشارة فإن الكفار لما نزلوا يوم الأربعاء ثاني عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة في سفح أحد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر فيهم ما يأتيه من الوحي بقية يوم الأربعاء ويوم الخميس وليلة الجمعة وباتت وجوه الأنصار في المسجد بباب النبي صلى الله عليه وسلم يحرسونه صلى الله عليه وسلم وحرست المدينة الشريفة، ثم دعا الناس صبيحة يوم الجمعة فاستشارهم في أمرهم وأخبرهم برؤياه تلك الليلة: البقر المذبوحة، والثلم في سيفه، وإدخال يده في الدرع الحصينة، وكان رأيه مع رأي كثير من الصحابة المكث في المدينة، فإن قاتلوهم فيها قاتلهم الرجال مواجهة والنساء والصبيان من فوق الأسطحة، وكان عبد الله بن أبيّ المنافق على هذا الرأي، فلم يزل ناس ممن أكرمهم الله
بالشهادة - منهم أسد الله وأسد رسوله عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه يلحون عليه صلى الله عليه وسلم في الخروج إليهم حتى أجاب فدخل بيته ولبس لأمته بعد أن صلى الجمعة فندموا على استكراههم له صلى الله عليه وسلم وهو يأتيه الوحي، فلما خرج إليهم أخبروه وسألوه في الإقامة إن شاء فقال:«ما كان ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه» .
وفي رواية «حتى يلاقي» فأتى الشيخين - وهما أطمان - فعرض بهما عسكره ففرغ مع غياب الشمس، ورآه المشركون حين نزل بهما، واستعمل تلك الليلة على حرسه محمد ابن مسلمة، واستعمل المشركون على حرسهم عكرمة بن أبي جهل، ثم أدلج من سحر ليلة السبت، وندب الأدلاء ليسيروا أمامه، وحانت صلاة الصبح في الشوط وهم بحيث يرون المشركين، فأمر بلالاً رضي الله عنه فأذن وأقام، وصلى بأصحابه صلى الله عليه وسلم الصبح صفوفاً، فانخزل عبد الله بن أبيّ بثلث العسكر فرجع وقال: أطاع الولدان، ومن لا رأي له وعصاني، وما ندري علام نقتل أنفسنا! وتبعهم عبد الله بن عمرو
بن حرام أبو جابر ابن عبد الله -أحد بني سلمة وأحد من استشهد في ذلك اليوم وكلمه الله قبلاً - يناشدهم الله في الرجوع، فلم يرجعوا فقال: أبعدكم الله! سيغني الله نبيه صلى الله عليه وسلم عنكم، ورجع فوافق النبي صلى الله عليه وسلم يصف أصحابه، وكادت طائفتان من الباقين - وهما بنو سلمة عشيرة عبد الله بن عمرو وبنو حارثة - أن تفشلا لرجوع المنافقين، ثم ثبتهم الله تعالى؛ ونزل صلى الله عليه وسلم الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وعبأ أصحابه وقال:
«لا يقاتلن أحد حتى نأمره!» وعين طائفة من الرماة وأنزلهم بعينين - جبيل هناك من ورائهم - وأوعز إليهم في أن لا يتغيروا منه حتى يأمرهم إن كانت له أو عليه، حتى قال لهم:«إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تعينونا، وإن رأيتمونا هزمناهم فلا تشركونا في الغنيمة، وانضحوا الخيل عنا إذا أتت من ورائنا» وبرز
صاحب لواء المشركين وطلب المبارزة، فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله المسلم فحمله آخر وبرر فقتل، وفعلوا ذلك واحداً بعد واحد حتى تموا عشرة كلهم يقتل، فلما انكسرت قلوب المشركين بتوالي القتل في أصحاب اللواء أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فشدوا فهزموا المشركين وخلوا عسكرهم ونساءهم، وكان الخيل كلما أتت من وراء المسلمين نضحهم الرماة بالنبل فرجعوا فلما وقع الصحابة رضي الله عنهم في نهب العسكر خلى الرماة ثغرهم، فنهاهم أميرهم وحذرهم مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يطعه منهم إلا نحو العشرة، فأتى أصحاب الخيل فقتلوا من بقي من الرماة، ثم أتوا الصحابة رضي الله عنهم من ورائهم وهم ينتهبون، فأسرعوا فيهم القتل ونادى إبليس: إن محمداً قد قتل، فانهزم الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم إلا قليل ما بين العشرة إلى الثلاثين - على اختلاف الأقوال، فاستمر يحاول بهم العدو، والله تعالى يحفظه ويدافع عنه حتى دنت الشمس للمغرب، وصرف الله العدو، فدفن النبي صلى الله عليه وسلم الشهداء وصف أصحابه رضي الله عنهم فأثنى على الله عز وجل ثناء عظيماً، ذكر فيه فضله سبحانه وعدله، وأن الملك ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، ورجع إلى المدينة الشريفة وقد أصابته الجراحة في
مواضع من وجهه بنفسي هو وأبي وأمي ووجهي وعيني.
ولما كان رجوع عبد الله بن أبي المنافق - كما يأتي في صريح الذكر آخر القصة - من الأدلة على أن المنافقين فضلاً عن المصارحين بالمصارمة متصفون بما أخبر الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء مع أنه كان سبباً في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد في غاية المناسبة، ولذلك افتتحها سبحانه وتعالى بقوله - مبدلاً من {إذ غدوت} دليلاً على ما قبله من أن بطانة السوء لا تألوهم خبالاً وغير ذلك -:{إذا همت طائفتان} وكانا جناحي العسكر {منكم} أي بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس {أن تفشلا} أي تكسلاً وتراخياً وتضعفاً وتجبناً لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم فترجعا، كما رجع المنافقون {والله} أي والحال أن ذا الجلال والإكرام {وليهما} وناصرهما لأنهما مؤمنتان فلا يتأتى وقوع الفشل وتحققه منهما لذلك، فليتوكلا عليه وحده لإيمانهما،
أو يكون التقدير: فالعجب منهما كيف تعتمدان على غيره سبحانه وتعالى لتضعفا بخذلانه {و} الحال أنه {على الله} أي الذي له الكمال كله وحده {فليتوكل المؤمنون *} أي الذين صار الإيمان صفة لهم ثابتة، أجمعون لينصرهم، لا على كثرة عدد ولا قوة جلد، والأحسن تنزيل الآية على الاحتباك ويكون أصل نظمها: والله وليهما لتوكلهما وإيمانهما فلم يمكن الفشل منهما، فتولوا الله وتوكلوا عليه ليصونكم من الوهن، وعلى الله فليتوكل المؤمنون كلهم ليفعل بهم ذلك، فالأمر بالتوكل ثانياً دال على وجوده أولاً، وإثبات الولاية أولاً دال على الأمر بها ثانياً، وفي البخاري في التفسير عن جابر رضي الله عنه قال: فينا نزلت {إذ همت طائفتين منكم أن تفشلا} قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل لقول الله عز وجل:{والله وليهما} .
ولما كان ظاهر الحال فيما أصاب الكفار من المسلمين في هذه الغزوة ربما كان سبباً في شك من لم يحقق بواطن الأمور ولا له أهلية النفوذ في الدقائق من عجائب المقدور في قوله تعالى: {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً} [آل عمران: 10]{قل للذين كفروا ستغلبون} [آل عمران: 12] ذكرهم الله تعالى نصره لهم في غزوة بدر، وهم في القلة دون ما هم الآن بكثير، مشيراً لهم إلى ما أثمره توكلهم من النصر، وحالهم إذ ذاك حال الآيس منه، ولذلك كانوا في غاية الكراهة للّقاء بخلاف ما كانوا عليه في هذه الكرة، حثاً على ملازمة التوكل، منبهاً على أنه لا يزال يريهم مثل ذلك النصر ويذيق الكفار أضعاف ذلك الهوان حتى يحق الحق ويبطل الباطل ويظهر دينه الإسلام على الدين كله فقال - عاطفاً على ما تقديره: فمن توكل عليه نصره وكفاه وإن كان قليلاً فلقد نصركم الله أول النهار في هذه الغزوة حيث صبرتم واتقيتم بطاعتكم للرسول صلى الله عليه وسلم في ملازمة التعب والإقبال على الحرب وغير ذلك بما أمركم به صلى الله عليه وسلم ولم تضركم قلتكم ولا ضعفكم بمن رجع
عنكم شيئاً -: {ولقد نصركم الله} بما له من صفات الجلال والجمال {ببدر} المشار إليها أول السورة بقوله تعالى: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا} [آل عمران: 13] لما صبرتم واتقيتم.
ولما كانوا في عدد يسير أشار إليه بجمع القلة فقال: {وأنتم أذلة} أي فاذكروا ذلك واجعلوه نصب أعينكم لينفعكم، وكان الإتيان بأمر بدر بعد آية الفشل المختتمة بالحث على التوكل في الغاية من حسن النظم، وهو دليل أيضاً على منطوق قوله تعالى:{وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} [آل عمران: 120] كما كان أمر أحد دليلاً على منطوقها ومفهومها معاً: دل على منطوقها بنصرهم أول النهار عند صبرهم، وعلى مفهومها بإدالة العدو عليهم عند فشلهم آخره - والله الموفق؛ على أنك إذا أنعمت التأمل في قصة أحد من السير وكتب الأخبار علمت أن الظفر فيها ما كان إلا للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي الخبر به في قوله تعالى:{ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} [آل عمران: 52] ، فإن الصحابة رضي الله عنهم هزموهم - كما مضى - في أول النهار حتى لم يبق في عسكرهم أحد ولا بقي عند نسائهم حامٍ، فلما خالف الرماة أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأقبلوا على الغنيمة أراد الله تأديبهم وتعريفهم أن نصرته لنبيه صلى الله عليه وسلم غير محتاجة في الحقيقة إليهم حين انهزموا حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم غير نفر يسير ما يبلغون الخمسين، والكفار ثلاثة آلاف وخيلهم مائتان، فاستمر عليه الصلاة والسلام في نحورهم يحاولهم ويصاولهم، يرامونه مرة ويطاعنون أخرى، ويجتمعون عليه كرة ويفترقون عنه أخرى، والله تعالى يمنعه منهم بأيده ويحفظه بقوته حتى تدلت الشمس للغروب، وقتل بيده صلى الله عليه وسلم أُبي بن خلف مبارزة، تصديقاً لما كان أوعده به قبل الهجرة، وخالطوه غير مرة ولم يمكنهم الله منه ولا أقدرهم على أسر أحد من أصحابه، ثم ردهم خائبين بعد أن تراجع إليه من أصحابه في أثناء النهار، ولم يرجع صلى الله عليه وسلم من أحد إلا بعد انصرافهم ودفن من استشهد من أصحابه، وأما هم فاستمروا راجعين ولم يلووا على أحد ممن قتل منهم، وهم اثنان وعشرون رجلاً من سرواتهم وحمال راياتهم، وقال الجلال الخجندي في كتابه فردوس المجاهدين: إنه صح النقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما نصر
النبي صلى الله عليه وسلم في موطن من المواطن نصرته في يوم أحد - انتهى.
كفى على ذلك دليلاً ما نقل موسى بن عقبة - وسيرته أصح السير في غزوة الفتح - عن قائد الجيش بأحد أبي سفيان بن حرب أنه قال عندما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام: يا محمد! قد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك، فوالله ما لقيتك من مرة إلا ظهرت علي، فلو كان إلهي محقاً وإلهك مبطلاً لقد ظهرت عليك، وإنما كانت الهزيمة وقتل من قتل لحكم ومصالح لا تخفى على من له رسوخ في الشريعة وثبات قدم في السنن، ويمكن أن تكون هذه القصة مندرجة في حكم النهي في القصة التي قبلها عن طاعة فريق من أهل الكتاب عطفاً على قوله تعالى:{نعمة} في قوله: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم} [آل عمران: 103] لتشابه القصتين في الإصغاء إلى الكفار قولاً أو فعلاً، المقتضي لهدم الدين من أصله، لأن همّ الطائفتين بالفشل إنما كان من أجل رجوع عبد الله بن أبي المنافق حليف أهل الكتاب ومواليهم ومصادقهم ومصافيهم، ويؤيد ذلك نهيه تعالى في أثناء هذه عن مثل ذلك بقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} [آل عمران: 149] ، ويكون
إسناد الفعل في {غدوت} ، وأمثاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الإسناد إلى الجمع، لأنه الرئيس فخطابه خطابهم، ولشرف هذا الفعل، فكان الأليق إفراده به صلى الله عليه وسلم، وأما الفشل ونحوه فأسند إليهم وقصر- كما هو الواقع - عليهم.
ولما امتن الله سبحانه عليهم بالنصرة في تلك الكرة سبب عن ذلك أمرهم بالتقوى إشارة إلى أنها السبب لدوام النعمة فقال: {فاتقوا الله} أي في جمع أوامره ونواهيه بأن التقوى التنزه عن المعاصي، والشكر فعل ينبىء عن تعظيم المنعم، وشكر الله صرف جميع ما أنعم به في طاعاته فحينئذ التقوى من الشكر فإن أريد العموم انحل الكلام إلى: اشكروا لعلكم تشكرون، ولا يتحرر الجواب إلا بعد معرفة حقيقة التقوى لغة؛ قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي: الواقية ما وقاك الشر، وكل شيء وقيت به شيئاً فهو وقاء له ووقاية، وقوله سبحانه وتعالى:{لعلكم تتقون} قال ابن عرفة - أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم به وقاية بينكم وبين النار - انتهى.
فاتضح أن حقيقة {واتقوا} : اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية، وأن
سبب اتخاذ الوقاية الخوف من ضاره فالظاهر - والله أعلم - أن اتقوا بمعنى: خافوا - مجازاً مرسلاً من إطلاق اسم المسبب على السبب، فالمعنى: خافوا الله لتكونوا على رجاء من أن يحملكم خوفه على طاعته على سبيل التجديد والاستمرار، ولئن سلمنا أن التقوى من الشكر فالمعنى: اشكروا هذا الشكر الخاص ليحملكم على جميع الشكر، وغايته أنه نبه على أن هذا الفرد من الشكر هو أصل الباب الذي يثمر باقيه، وهوالمراد بقول ابن هشام في السيرة: إن المعنى: فاتقوني، فإنه شكر نعمتي، ويجوز أن يكون: لعلكم تزدادون نعماً فتشكرون عليها - إقامة للمسبب مقام السبب - والله أعلم.
ولما اشتملت هذه القصة على المصيبة التي سيقص الله كثيراً منها، وهي مستوفاة في السير كان أنسب من قصها وبيان ما اتفق لها - لوعظ من يأتي - البداءةُ بتذكير من باشرها بما وعدهم الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قبل وقوع القتال من النصر المشروط بالصبر
والتقوى تنبيهاً لهم على أن الخلل من جهتهم أتى، ثم وعظمهم بالنهي عما منعهم النصر، والأمر بما يحصله لهم كما سيحثهم على ذلك بما يقص عليهم من نبأ من قاتل مع الأنبياء قبلهم بأنهم لما أصابهم القتل لم يهنوا وعلموا أن الخلل من أنفسهم، فبادروا إلى إصلاحه بأفعال المتقين من الصبر والتضرع والإقرار بالذنب، فقال - مبدلاً من {إذ غدوت} عوداً على بدء تعظيماً للأمر حثاً على النظر في موارده ومصادره والتدبر لأوائله وأواخره -:{إذ تقول للمؤمنين} أي الذين شاورتهم في أمر أحد - وفي غمارهم المنافقون - لما زلزلوا برجوع أكثر المنافقين به، حتى كاد بعض الثابتين أن يرجع ضعفاً وجبناً، مع ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم به من تلك الرؤيا التي أولها بذبح يكون في أصحابه، ليكون إقدامهم على بصيرة، أو يصدهم ذلك عن الخروج إلى العدو كما كان ميل النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر أصحابه وإعلامهم إلى المكث في المدينة قال منكراً آتياً بأداة التأكيد للنفي:{ألن يكفيكم} أي أيها المؤمنون {أن يمدكم} إمداداً خفياً - بما أشار إليه الإدغام {ربكم} أي المتولي لتربيتكم ونصر دينكم {بثلاثة آلاف}
ثم عظم أمرهم بقوله: {من الملائكة} ثم زاد في إعظامهم بأنهم من السماء بقوله: {منزلين *} ثم تولى سبحانه وتعالى هو الجواب عنهم تحقيقاً للكفاية فقال: {بلى} أي يكفيكم ذلك، ثم استأنف قوله:{إن تصبروا وتتقوا} أي توقعوا الصبر والتقوى لله ربكم، فتفعلوا ما يرضيه وتنتهوا عما يسخطه {ويأتوكم} أي الكفار {من فورهم} أي وقتهم، استعير للسرعة التي لا تردد فيها، من: فارت القدر - إذا غلت {هذا} أي في هذه الكرة {يمددكم} أي إمداداً جلياً - بما أشار إليه إشارة لفظية: الفك، وإشارة معنوية: التسويم {ربكم} أي المحسن إليكم بأكثر من ذلك {بخمسة آلاف من الملائكة} ثم بين أنهم من أعيان الملائكة بقوله: {مسومين *} أي معلمين بما يعرف به مقامهم في الحرب، والظاهر من التعبير بالتسويم إفهام القتال، ومن الاقتصار على الإنزال عدمه، ويكون فائدة نزولهم البركة بهم وإرهاب الكفار بمن يرونه منهم.
قال البغوي: قال ابن عباس ومجاهد: لم يقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون، إنما يكونون عدداً ومدداً.
ولما كان التقدير: وليس الإمداد بهم موجود للنصر، وكان قد قدم في أول السورة قوله:{والله يؤيد بنصره من يشاء} [آل عمران: 13] قال هنا
قاصراً للأمر عليه: {وما جعله الله} أي الإمداد المذكور وذكره لكم على ما له من الإحاطة بصفات الكمال التي لا يحتاج مراقبها إلى شيء أصلاً {إلا بشرى} .
وما كانت الهزيمة عليهم في هذه الكرة، وكان المقتول منهم أكثر قال:{لكم} لئلا يتوهم أن ذلك بشرى لضدهم، ولمثل هذا قدم القلوب فقال:{ولتطمئن} وعلم أن التقدير - لتكون الآية من الاحتباك: لتستبشر نفوسكم به وطمأنينة لكم لتطمئن {قلوبكم به} أي الإمداد، فحكم هنا بأنه بشرى مقيداً بلكم، فكانت العناية بضمير أشد حتى كأنه قيل: إلا وبشرى لكم وطمأنينتكم، فوجب تأخير ضميره عنهم، والمعنى أنهم كانوا أولاً خائفين، فلما وردت البشرى اطمأنوا بها رجاء أن يفعل بهم مثل ما فعل في بدر، فلما اطمأنوا بها وقع النصر كما وقع به الوعد ثم لما اطمأنت قلوبهم إلى شيء ألزّ قوتها لأنه قد سبق لها نصر وسرور بضرب وطعن في بدر
وغيرها فلمحت نحو شيء من ذلك؛ حصلت الهزيمة ليصيروا إلى حق اليقين بأنه لا حول لهم ولا قوة، ولذلك قال تعالى:{وما النصر} أي في ذلك غيره {إلا من عند الله} أي المستجمع لصفات الكمال، لا بمدد ولا غيره فلا تجدوا في أنفسكم من رجوع من رجع ولا تأخر من تأخر ولا هزيمة من انهزم.
ولما قدم أمر بدر هنا وأول السورة، وتحقق بذلك ما له من العزة والحكمة قال:{العزيز} الذي لا يغالب، فلا يحتاج إلى قتال أحد ولا يحتاج في نصره - إن قاتل - إلى معونة أحد {الحكيم *} الذي يضع الأشياء في أتقن محالها من غير تأكيد أي الذي نصركم قبل هذه الغزوة وفي أول النهار فيها، ليس لكم ولا لغيركم ناصر غيره، فمتى التفت أحد إلى سواه وكله إليه فخذل، فاحذروه لتطيعوه طاعة أولي الإحسان في كل أوان، وهذا بخلاف ما في قصة بدر في الأنفال وسيأتي إن شاء الله ما يتعلق بها من المقال مما اقتضاه هناك الحال، والحكيم رأس آية بإجماع أهل العلم - كما في الأنفال، ولما قرر الوعد ذكر ثمرته فقال معلقاً الجار بيمددكم:{ليقطع} أي بالقتل {طرفاً} أي طائفة من كرامهم، يهنون بهم {من الذين كفروا} أي ويهزم الباقين {أو يكبتهم} أي يكسرهم ويردهم بغيظهم مع الخزي
أذلاء، وأصل الكبت صرع الشيء على وجهه {فينقلبوا} أي كلهم مهزومين {خائبين *} وذلك في كلتا الحالتين بقوتكم عليهم بالمد وضعفهم عنكم به، ويجوز تعليق {ليقطع} بفعل التوكل، أي فليتوكلوا عليه ليفعل بأعدائهم ما يشاءه من نصرهم عليهم، فيقبل بهم إلى الإسلام رغبة أو رهبة، أو يميتهم على كفرهم فيديم عذابهم مع عافيتهم منهم؛ ورأيت في سير الإمام محمد بن عمر الواقدي ما يدل على تعليقه بجعل من قوله:{وما جعله الله إلا بشرى} أو بقوله: {ولتطمئن} وهو حسن أيضاً.
ولما كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على طلب الإدالة عليهم ليمثل بهم كما مثلوا بعمه حمزة وعدة من أصحابه رضي الله عنهم قال تعالى: {ليس لك من الأمر} أي فيهم ولا غيرهم {شيء} موسطاً له بين المتعاطفات، يعني من الإدالة عليهم بقتل أو هزيمة تدرك بهما ما تريد، بل الأمر له كله، إن أراد فعل بهم ما تريد، وإن أراد منعك منه بالتوبة عليهم أو إماتتهم على الكفر حتف الأنف فيتولى هو عذابهم، وذلك معنى قوله:{أو يتوب عليهم} أي كلهم بما يكشف عن قلوبهم من حجاب الغفلة فيرجعوا عما هم عليه من الظلم {أو يعذبهم} كلهم بأيديكم بأن تستأصلوهم فلا يفلت منهم أحد، أو يعذبهم هو من
غير واسطتكم بما يستدرجهم به مما يوجب إصرارهم حتى يموتوا على الكفر مع النصر عليكم وغيره مما هو لهم في صورة النعم الموجب لزيادة عقابهم. ثم علل الأقسام الأربعة بقوله: {فإنهم ظالمون *} وفي المغازي من صحيح البخاري معلقاً عن حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد الله قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت {ليس لك من الأمر شيء} - إلى قوله: {ظالمون} » ورواه موصولاً في المغازي والتفسير والاعتصام عن سالم عن أبيه بغير هذا اللفظ، وفيه «اللهم العن فلاناً وفلاناً» .
ولما كان التقدير: بل الأمر له سبحانه وحده عطف عليه قوله - مبيناً لقدرته على ما قدم من فعله بهم على وجه أعم -: {ولله} أي الملك الأعظم وحده {ما في السماوات} أي كلها على عظمها من عاقل وغيره، وعبر ب «ما» لأن غير العاقل أكثر وهي به أجدر {وما في الأرض} كذلك مِلكاً ومُلكاً فهو يفعل في مِلكه ومُلكه ما يشاء، وفي التعبير ب «ما» أيضاً إشارة إلى أن الكفرة الذين السياق لهم في عداد ما لا يعقل.
ولما كانت الأقسام كلها راجعة إلى قسمين: عافية وعذاب، قال - مترجماً لذلك مقرراً لقوله:{ليس لك من الأمر شيء} [آل عمران: 128] : {يغفر لمن يشاء} أي منهم ومن غيرهم فيعطيه ما يشاء من خيري الدنيا والآخرة ويغنيه عن الربا وغيره {ويعذب من يشاء} بالمنع عما يريد من خيري الدارين، لا اعتراض عليه، فلو عذب الطائع ونعّم العاصي لحسن منه ذلك، ولا يقبح منه شيء، ولا اعتراض بوجه عليه، هذا مدلول الآية وهو لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل.
ولما كان صلى الله عليه وسلم لشدة غيظه عليهم في الله جديراً بالانتقام منهم بدعاء أو غيره أشار له سبحانه إلى العفو للحث على التخلق بأخلاق الله الذي سبقت رحمته غضبه بقوله: {والله} أي المختص بالجلال والإكرام {غفور رحيم *} أي محاء للذنوب عيناً وأثراً، مكرم بعد ذلك بأنواع الإكرام، فانطبق ذلك على إيضاح {ليس لك} [آل عمران: 128] وإفهامه الموجب لاعتقاد أن يكون له سبحانه وتعالى الأمر
وحده.
ولما أنزل عليه ذلك وما في آخر النحل مما للصابرين والعافين حرم المثلة واشتد نهيه صلى الله عليه وسلم عنها، فكان لا يخطب خطبة إلا منع منها.
ولما كان الختم بهاتين الصفتين ربما أطمع في انتهاك الحرمات لاتباع الشهوات فكان مبعداً لمتعاطيه من الرحمة مدنياً من النقمة، وكان أعظم المقتضيات للخذلان تضييعهم للثغر الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحفظه بسبب إقبالهم قبل إتمام هزيمة العدو على الغنائم للزيادة في الأعراض الدنيوية التي هي معنى الربا في اللغة إذ هو مطلق الزيادة أقبل تعالى عليهم بقوله:{يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان، صدقوا إيمانكم بأن {لا تأكلوا الربا} أي المقبح فيما تقدم أمره غاية التقبيح، وهو كما ترى إقبال متلطف منادٍ لهم باسم الإيمان الناظر إلى الإنفاق المعرض عن التحصيل {ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3] ؛ {والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17] ؛ {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] ناهٍ عن الالتفات إلى الدنيا بالإقبال على غنيمة أو غيرها
بطريق الإشارة بدلالة التضمن، إذ المطلق جزء المقيد، ففي هذه العبارة التي صريحها ناهٍ عن الإقبال على الدنيا إقبالاً يوجب الإعراض عن الآخرة باستباحة أكل الربا المتقدم في البقرة من النهي عنه من المبالغة ما يردع من له أدنى تقوى، ويوجب لمن لم يتركه وما يقاربه الضمان بالخذلان في كل زمان {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 278] ، {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} [البقرة: 86] .
ولما كان في تركه الإثخان في العدو بعد زوال المانع منه بالهزيمة مع أن فيه من حلاوة الظفر ما يجل عن الوصف لأجل الغنيمة التي هي لمن غلب، وليس في المبادرة إلى حوزها كبير فائدة، دلالة على تناهي الحب للتكاثر، ناسب المقام ربا التضعيف فقال: - أو يقال: لما كان سبب الهزيمة طلبهم الزيادة بالغنيمة، وكان حب الزيادة حلالاً قد يجر إلى حبها حراماً، فيجر إلى الربا المضاعف، لأن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه قال -:{أضعافاً مضاعفة} أي لا تتهيؤوا لذلك بإقبالكم على مطلق الزيادة، فإن المطلوب منكم بذل المال فضلاً عن الإعراض عنه فضلاً عن الإقبال عليه، فالحاصل أنه دلت على الربا بمطابقتها،
وعلى مطلق الزيادة بتضمنها، وهي من وادي قوله صلى الله عليه وسلم:«من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه»
وختام الآية بقوله: {واتقوا الله} أي الملك الأعظم {لعلكم تفلحون} مشير إلى ذلك، أي واجعلوا بينكم وبين مخالفة نهيه عن الربا وقاية بالإعراض عن مطلق محبة الدنيا والإقبال عليها، لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطالب، فمن له ملك الوجود وملكه فإنه دير بأن يعطيكم من ملكه إن اتقيتم، ويمنعكم إن تساهلتم، فهو نهي عن الربا بصريح العبارة، وتحذير من أن يعودوا إلى ما صدر منهم من الإقبال على الغنائم قبل انفصال الحرب فعلاً وقوة بطريق الإشارة، وهي من أدلة إمامنا الشافعي على استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، والذي دلنا على إرادة المعنى التضمني المجازي نظمها، والناظم حكيم في سلك هذه القصة ووضعها في هذا الموضع، فلا يقدح في ذلك أنه قد كان في هذه القصة أمر يصلح أن يكون سبباً لنزول هذه الآية ووضعها عنا، لأن ذلك غير لازم ولا مطرد، فقد كان حلفه صلى الله عليه وسلم أنه يمثل بسبعين منهم كما مثلوا بعمه
حمزة رضي الله عنه سبباً لنزول آخر سورة النحل {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126] إلى آخرها، ولم توضع هنا، والأمر الصالح لأن يكون سبباً لها ما روى أبو داود في سننه بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة أن عمروا بن أقيش رضي الله عنه كان له ربا في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد، قال: فأين فلان؟ قالوا: بأحد؛ فلبس لأمته وركب فرسه ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو! قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال لأخته: سليه: حمية لقومك أو غضباً لهم، أم غضباً لله عز وجل؟ فقال: بل غضباً لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمات فدخل الجنة وما صلى لله عز وجل صلاة. والقصة في جزء عبيد الله بن محمد بن حفص العيشي - بالمهملة ثم التحتانية ثم المعجمة - تخريج أبي القاسم
عبد الله ابن محمد بن عبد العزيز البغوي، والجزء السابع عشر من المجالسة للدينوري من طريق حماد بن سلمة شيخ أبي داود، ولفظ العيشي: إن عمرو بن وقش - وقال الدينوري: أقيش - كان له ربا في الجاهلية، وكان يمنعه ذلك الربا من الإسلام حتى يأخذه ثم يسلم، فجاء ذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم زاد الدينوري: وأصحابه بأحد فقال: أين سعد ابن معاذ؟ وقال العيشي: فقال لقومه: أين سعد بن معاذ؟ قالوا: هو بأحد، قال الدينوري: فقال: أين بنو أخيه؟ قالوا: بأحد، فسأل عن قومه، فقالوا: بأحد، فأخذ سيفه ورمحه ولبس لأمته، ثم أتى أحداً؛ وقال الدينوري: ثم ذهب إلى أحد، فلما رآه السملمون قالوا: إليك عنا يا عمرو! قال: إني قد آمنت! فقاتل فحمل إلى أهله جريحاً، فدخل عليه سعد بن معاذ فقال - يعني لامرأته -: سليه! وقال العيشي: فقال لأخته: ناديه، فقولي؛ وقال الدينوري: فقالت: أجئت غضباً لله ورسوله أم حمية وغضباً لقومك؟ فنادته، فقال: جئت غضباً لله ورسوله! فمات فدخل الجنة ولم يصل لله قط؛ وقال الدينوري: قال أبو هريرة: ودخل الجنة، وما صلى لله صلاة.
ورواها ابن إسحاق والواقدي عن أبي هريرة رضي الله عنهم أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلِّ قط؛ وقال الواقدي: أخبروني برجل يدخل الجنة
لم يسجد لله قط، فيسكت الناس، فيقول أبو هريرة رضي الله عنه: هو أخو بني عبد الأشهل؛ وقال ابن إسحاق: فإذا لم يعرفه الناس سألوا: من هو؟ فيقول: أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش رضي الله تعالى عنه؛ زاد ابن إحساق: قال الحصين - يعني شيخه: فقلت لمحمود بن لبيد: كيف كان شأن الأصيرم؟ قال: كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد بدا له في الإسلام فأسلم، ثم أخذ سيف فغدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم! ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر بذا الحديث! فسألوه ما جاء به، فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني. ثم لم يلبث أن
مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«إنه لمن أهل الجنة» والمعنى على هذا: يا أيها الذين يريدون الإيمان! لا تفعلوا مثل فعل الأصيرم في تأخير إيمانه لأجل الربا، بل سابقوا الموت لئلا يأتيكم بغتة فتهلكوا، أو يا أيها الذين أخبروا عن أنفسهم بالإيمان ورسوخ الإذعان في أنفسهم والإيقان بمر الزمان! افعلوا مثل فعله ساعة أسلم في صدق الإيمان وإسلام نفسه إلى ربه بركوب الأهوال في غمرات القتال من غير خوف ولا توقف ولا التفات إلى أمر دنيوي وإن عظم؛ فقد بان أنه نبه بالإشارة إلى قصة بدر ثم بهذه الآية على أن من أعرض عن الدنيا حصلت له بعز وإن كان قليلاً، ومن أقبل عليها فاتته بذل وإن كان كثيراً جليلاً، لأن مَن له ملك السماوات والأرض يفعل ما يشاء، ولا تفيد الآية إباحة مطلق الفضل في الربا ما لم ينته إلى الأضعاف المضاعفة، لأن إفهامها لذلك معارض لمنطوق آيات البقرة الناهية عن مطلق الربا، والمفهوم لا يعمل به إذا عارض منطوق نص آخر، وهذا من مزيد الاعتناء بشأن الربا إذ حرم كل نوع منه في آية تخصه، فحرم ربا الفضل في آيات البقرة،
ويلزم من ترحيمه تحريم ربا الأضعاف، ثم نص عليه في هذه الآية، فصار محرمأً مرتين: مفهوماً ومنطوقاً، مع ما أفاد ذكره من النكت التي تقدم التنبيه عليها.
ولما كان الفائز بالمطالب قد لا يوقي المعاطب قال تعالى: {واتقوا النار} أي إن لم تكونوا ممن يتقيه سبحانه لذاته {التي أعدت} أي هيئت {للكافرين *} أي بالله باستحلال الربا وغيره بالذات، وللكافرين بالنعمة عصياناً بالعرض. ولما كان الفائز السالم قد لا يكون مقرباً قال اتباعاً للوعيد بالوعد:{وأطيعوا الله} ذا الجلال والإكرام {والرسول} أي الكامل في الرسلية كمالاً ليس لأحد مثله، أي في امتثال الأوامر واجتناب النواهي بالإخلاص {لعلكم ترحمون *} أي لتكونوا على رجاء وطمع في أن يفعل بكم فعل المرحوم بالتقريب والمحبة وإنجاز كل ما وعد على الطاعة من نصره وغيره.
ولما نهى عما منع النصر بالنهي عن الربا، المراد بالنهي عنه الصرف عن مطلق الإقبال على الدنيا، المشار إلى ذمها في قوله تعالى:{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران: 14] ، وأمر بما تضمن الفوز والنجاة والقرب، وكان ذلك قد يكون مع التواني أمر بالمسارعة فيه
توصلاً إلى ما أعد للذين اتقوا الموعودين بالنصر المشروط بتقواهم وصبرهم في قوله: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم} [آل عمران: 125]، {وإن تصبرو وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} [آل عمران: 120] الموصوفين بما تقدم في قوله تعالى في المقصد الثالث من دعائم هذه السورة {قل أأنبئكم بخير من ذلك للذين اتقوا} [آل عمران: 15] ، على وجه أبلغ من ذلك بالمسارعة إلى ما يوجب المغفرة من الرب اللطيف بعباده، وإلى ما يبيح الجنة أعدت للمتقين الذين تقدمت الإشارة إليهم في قوله تعالى:{واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران: 130] الذين يتخلون عن الأموال وجميع مصانع الدنيا فلا تمتد أعينهم إلى الازدياد من شيء منها ويتحلون بالزهد فيها والإنفاق لها في سبيل الله في مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهاد وغيره في السراء والضراء، لا بالإقبال على الدنيا من غنيمة أو غيرها إقبالاً يخلّ ببعض الأوامر، وبالصبر بكظم الغيظ عمن أصيب منهم بقتل او جراحة، والعفو عمن
يحسن العفو عنه في التمثيل بالقتل في أحد أو غير ذلك إرشاداً إلى أن لا يكون جهادهم إلا غضباً لله تعالى، لا مدخل فيه لحظ من حظوظ النفس أصلاً، وبالصبر أيضاً على حمل النفس على الإحسان إلى من أساء بذلك أو غيره كما فعل صلى الله عليه وسلم في فتح مكة بعد أن كان حلف ليمثلن بسبعين منهم مكان تمثيلهم بسيد الشهداء أسد الله وأسد رسوله عمه حمزة ابن ساقي الحجيج عبد المطلب، فإنه وقف صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الذي كان أعظم أيام الدنيا الذي أثبت فيه نور الإسلام عل مشرق الأرض ومغربها، فهزم ظلام الكفر وضرب أوتاده في كل قطر على درج الكعبة وهم في قبضته فقال:
«ما تظنون إني فاعل بكم يا معشر قريش؟ قالوا: خيراً! أخ وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» ، وبالاستغفار عنعمل الفاحشة من خذلان المؤمنين أو أكل الربا أو التولي عن قتال الأعداء، وعن ظلم النفس من محبة الدنيا الموجب للإقبال على الغنائم التي كانت سبب الانهزام أو يغر ذلك مما أراد الله تعالى فقال تعالى:{وسارعوا} أي بأن تفعلوا في الطاعات فعل من يسابق خصماً {إلى مغفرة من ربكم} أي المحسن إليكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب بعمل ما يوجبها من التوبة والإخلاص وكل ما يزيل العقاب {وجنة} أي عظيمة جداً بعمل كل ما يحصل
الثواب، ثم بين عظمها بقوله:{عرضها السماوات والأرض} أي كعرضهما، فكيف بطولها، ويحتمل أن يكون كطولهما، فهي أبلغ من آية الحديد - كما يأتي لما يأتي، وعلى قراءة {سارعوا} بحذف الواو يكون التقدير: سارعوا بفعل ما تقدم، فهو في معناه، لا مغائر له.
ولما وصف الجنة بين أهلها بقوله: {أعدت} أي الآن وفرغ منها {للمتقين *} وهم الذين صارت التقوى شعارهم، فاستقاموا واستمروا على الاستقامة، ثم وصف المتقين بما تضمن تفصيل الطاعة المأمور بها قبل إجمالاً على وجه معرف بأسباب النصر إلى آخر ما قص من خبر الأنبياء الماضين ومن معهم من المؤمنين بادئاً بما هو أشق الأشياء ولا سيما في ذلك الزمان من التبر ومن المال الذي هو عديل الروح فقال:{الذين ينفقون} أي مما آتاهم الله، وهو تعريض بمن أقبل على الغنيمة {في السراء والضراء} أي في مرضاة الله في حال الشدة والرخاء. ولما ذكر أشق ما يترك ويبذل أتبعه أشق ما يحبس فقال:{والكاظمين} أي الحابسين {الغيظ} عن
أن ينفذوه بعد أن امتلؤوا منه.
ولما كان الكاظم غيظه عن أن يتجاوز في العقوبة قد لا يعفو حثه على العفو بقوله: {والعافين} وعمم في الحكم بقوله: {عن الناس} أي ظلمهم لهم ولو كانوا قد قتلوا منهم أو جرحوهم. ولما كان التقدير: فإن الله يحبهم لإحسانهم عطف عليه تنويهاً بدرجة الإحسان قوله: {والله} أي الذي له صفات الكمال {يحب المحسنين *} أي يكرمهم بأنواع الإكرام على سبيل التجديد والاستمرار.
ولما أخبر أنها للمحسنين إلى الغير ومن قاربهم أخبر أناه لمن دونهم في الرتبة من التائبين المحسنين إلى أنفسهم استجلاباً لمن رجع عن أحد من المنافقين ولغيرهم من العاصين فقال: {والذين إذا فعلوا} أي باشروا عن علم أوجهل فعله {فاحشة} أي من السيئات الكبار {أو ظلموا أنفسهم} أي بأي نوع كان من الذنوب، لتصير الفاحشة موعوداً بغفرانها بالخصوص وبالعموم {ذكروا الله} أي بما له من كمال العظمة فاستحيوه وخافوه {فاستغفروا} الله، أي فطلبوا المغفرة بالتوبة بشرطها {لذنوبهم} أي فإنه يغفر لهم
لأنه غفار لمن تاب.
ولما كان هذا مفهماً لأنه تعالى يغفر كل ذنب أتبعه تحقيق ذلك ونفي القدرة عليه عن غيره، لأن المخلوق لا يمضي غفرانه لذنب إلا إذا كان مما شرع الله غفرانه، فكان لا غافر في الحقيقة إلا الله قال مرغباً في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين:{ومن يغفر الذنوب} أي يمحو آثارها حتى لا تذكر ولا يجازى عليها {إلا الله} أي الملك الأعلى. ولما كان سبحانه وتعالى قد تفضل برفع القلم عن الغافل قال: {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون *} أي إنهم على ذنب.
ولما أتم وصف السابقين وهم المتقون واللاحقين وهم التائبون قال - معلماً بجزائهم الذين سارعوا إليه من المغفرة والجنة مشيراً إليهم بأداة البعد تعظيماً لشأنهم على وجه معلم بأن أحدأً لا يقدر الله حق قدره -: {أولئك} أي العالو الرتبة {جزآؤهم مغفرة} أي لتقصيرهم أو لهفواتهم أو لذنوبهم، وعظمها بقوله:{من ربهم} أي المسحن إليهم بكل إحسان، وأتبع ذلك للإكرام فقال:{وجنات} أيّ جنات، ثم بين عظمها بقوله:{تجري من تحتها الأنهار} حال كونكم {خالدين فيها} هي أجرهم على عملهم {ونعم أجر العاملين *} هي، هذا على تقدير أن تكون الإشارة لجميع الموصوفين، وإن كانت للمستغفرين خاصة فالأمر واضح في نزول رتبتهم عمن قبلهم.
ولما فرغ من بيان الزلل الذي وقع لهم به الخلل، والترهيب مما يوقع فيه، والترغيب فيما ينجى منه في تلك الأساليب التي هي أحلى من رائق الزلال ولذيذ الوصال بعد طول المطال أخذ يشجعهم على الجهاد لذوي الفساد، فبدأ بالسبب الأقوى، وهو الأمر بمشاهدة مصارع من مضى من المكذبين برؤية ديارهم وتتبع آثارهم مع أنهم كانوا أشد خلقاً وأقوى همماً وأكثر عدداً وأحكم عدداً، فقال تعالى معللاً للأمر بالمسارعة إلى المغفرة:{قد خلت} ولما كان العلم بالقريب في الزمان والمكان أتم، وكان الذين وقعت فيهم السنن جميع أهل الأرض، ولا في جميع الزمان، أثبت الجار فقال:{من قبلكم} اي فلا تظنوا بما أملى لهم بهذه الإدالة أن نعمته انقطعت عنهم {سنن} أي وقائع سنها الله في القرون الماضية والأمم الخالية في المؤمنين والمكذبين، وأحوال وطرائق كانت للفريقين، فتأسوا بالمؤمنين وتوقعوا لأعدائكم مثل ما للمكذبين، فانظروا وأنعموا التأمل في أحوال الفريقين وإن لم يحصل ذلك إلا بالسير في الكد والتعب الشديد {فسيروا في الأرض} أي للاتعاظ بأحوال تلك الأمم برؤية آثارهم لتضموا الخير إلى الخير، وتعتبروا من العين بالأثر، وتقرنوا بين النقل والنظر، ولما كان الرجوع عن الهفوة واجباً على الفور عقب بالفاء قوله:{فانظروا} أي نظر اعتبار، ونبه على
عظمة المنظور فيه بأنه أهل لأن يستفهم عنه لأنه خرج عن العوائد فتعاظم إشكاله فقال: {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {المكذبين *} .
ولما تكفلت هذه الجمل بالهداية إلى سعادة الدارين نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله على طريق الاستفتاح: {هذا بيان} أي يفيد إزالة الشبه {للناس} أي المصدقين والمكذبين {وهدى} أي إرشاد بالفعل {وموعظة} أي ترقيق {للمتقين*} .
ولما أمرهم بالمسارعة وأتبعها علتها ونتيجتها نهاهم عما يعوق عنها من قبل الوهن الذي عرض لهم عند رؤيتهم الموت فقال - ويجوز أن يعطف على ما تقديره: فتبينوا واهتدوا واتعظوا إن كنتم متقين، وانظروا أخذنا لمن كان قبلكم من أهل الباطل وإن كان لهم دول وصولات ومكر وحيل -:{ولا تهنوا} أي في جهاد أعدائكم الذين هم أعداء الله، فالله معكم عليهم، وإن ظهروا يوم أحد نوع ظهور فسترون إلى من يؤول الأمر {ولا تحزنوا} أي على ما أصابكم منهم ولا على غيره مما عساه ينوبكم {و} الحال أنكم {أنتم الأعلون} أي في الدارين {إن كنتم مؤمنين *} أي إن كان الإيمان - وهو التصديق بكل ما يأتي عن الله - لكم صفة راسخة، فإنهم لا يهنون؛
لأنكم بين إحدى الحسنيين - كما لم يهن من سيقص عليكم نبأهم ممن كانوا مع الأنبياء قبلكم لعلوكم عدوكم، أما في الدنيا فلأن دينكم حق ودينهم باطل، ومولاكم العزيز الحكيم الذي قد وعدكم الحق الملكَ الكبير لمن قتل، والنصر والتوزر لمن بقي، وهو حي قيوم، ولا يخفى عليه شيء من أحوالكم، فهو ناصركم وخاذلكم، وأما في الآخرة فلأنكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وهم في النار عند ملائكة العذاب الغلاظ الشداد أبداً.
ولما نهاهم عما تقدم وبشرهم سلاهم وبصرهم بقوله: {إن يمسسكم قرح} أي مصيبة بإدالتهم عليكم اليوم {فقد مس القوم} أي الذين لهم من قوة المحاولة ما قد علمتم، أي في يوم أحد نفسه وفي يوم بدر {قرح مثله} أي في مطلق كونه قرحاً وإن كان أقل من قرحكم في يوم أحد وأكثر منه في يوم بدر، على أنه كما أنه ظفرهم - بعدما أصابهم وأنكأهم يوم بدر بالزهد الذي ليس بعده وهن - بقتل مثل من قتل منكم وأسر مثلكم، ويوم أحد بالقتل
والهزيمة أول النهار وهم أعداؤه، فهو جدير بأن يظفركم بعد وهنكم وأنتم أولياؤه، فكما لم يضعفهم وهنهم وهم على الباطل فلا تضعفوا أنتم وأنتم على الحق، ترجون من الله ما لا يرجون، فقد أدلناكم عليهم يوماً وأدلناهم عليكم آخر {وتلك الأيام} ولما نبه على تعظيمها بأداة البعد، وكانت إنما تعظم بعظم أحوالها ذكر الحال المنبه عليها بقوله:{نداولها بين الناس} أي بأن نرفع من نشاء تارة ونرفع عليه أخرى.
ولما كان التقدير: ليدال على من كانت له الدولة، فيعلم كل أحد أن الأمر لنا بلا شريك ولا منازع عطف عليه قوله:{وليعلم الله} أي المحيط بجميع الكمال {الذين آمنوا} أي بتصديق دعوى الإيمان بنية الجهاد فيكرمهم، ومعنى {ليعلم} أنه يفعل فعل من يريد علم ذلك بأن يبرز ما يعلمه غيباً إلى عالم الشهادة ليقيم الحجة على الفاعلين على ما يتعارفه الناس بينهم {ويتخذ منكم شهداء} أي بأن يجعل قتلهم عين الحياة التي هي الشهادة، لا غيبة فيها، فهو سبحانه وتعالى يزيد في إكرامهم بما صدقوا في إيمانهم بأن لا يكونوا مشهوداً عليهم
أصلاً بفتنة في قبورهم ولا غيرها ولا يغفلوا بخوف ولا صعق ولا غيره، فإن الله يحب المؤمنين، وليعلم الذين ظلموا ويمحق منهم أهل الجحد والاعتداء {والله} أي الملك الأعلى {لا يحب الظالمين *} أي الذين يخالف فعلهم قولهم، فهو لا يستشهدهم، وإنما يجعل قتلهم أول خيبتهم وعذابهم، وفيه بشارة في ترغيب بأنه لا يفعل مع الكفرة فعل المحب، لئلا يحزنوا على ما أصابهم، ونذارة في تأديب بأنهم ما أخذوا إلا بتضييعهم الثغر الذي أمرهم به من التزموا طاعته وأمر الله بها في المنشط والمكره بحفظه، وأقبلوا على الغنائم قبل أن يفرغوا من العدو، والآية من الاحتباك: إثبات الاتخاذ أولاً دال على نفيه ثانياً، وإثبات الكراهة ثانياً دال على المحبة أولاً.
ولما قدم التنفير من الظلم دلالة على الاهتمام به أكمل ثمرات المداولة بقوله: {وليمحص} أي وليطهر {الله} أي ذو الجلال والإكرام {الذين أمنوا} أي إن أصيبوا، ويجعل مصيبتهم سبباً لقوتهم {ويمحق الكافرين *} أي شيئاً فشيئاً في تلك الحالتين بما يلحقهم من
الرجس، أما إذا كانت لهم فبالنقص بالقوة بالبطر الموجب للعكس، وأما إذا كانت عليهم فبالنقص بالفعل الموجب للقطع بالنار. ولما كان السياق يرشد إلى أن المعنى: أحسبتم أنه لا يفعل ذلك، عادله بقوله:{أم حسبتم} أي يا من استكره نبينا على الخروج في هذا الوجه {أن تدخلوا الجنة} أي التي أعدت للمتقين {ولما يعلم الله} أي يفعل المحيط علماً وقدرة بالامتحان فعل من يريد أن يعلم {الذين جاهدوا منكم} أي أوقعوا الجهاد بصدق العزيمة، ثم أمضوه بالفعل تصديقاً للدعوى {ويعلم الصابرين *} أي الذين شأنهم الصبر عند الهزاهز والثبات عند جلائل المصائب تصديقاً لظاهر الغرائز، فإن ذلك أعظم دليل على الوثوق بالله ووعده الذي هو صريح الإيمان.
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير: فلقد كنتم تقولون: لئن خرجت بنا ليبتلين الله بلاء حسناً، عطف عليه قوله:{ولقد} ويجوز أن يكون حالاً من فاعل {حسبتم} {كنتم تمنون الموت} أي الحرب، عبر عنها به لأنها سببه، ولقد تمنى بعضهم الموت نفسه بتمني الشهادة
{من قبل أن تلقوه} أي رغبة فيما أعد الله للشهداء {فقد رأيتموه} أي برؤية قتل إخوانكم، والضمير يصلح أن يكون للموت المعبر به عن الحرب، وللموت نفسه برؤية أسبابه القريبة، وقوله:{وأنتم تنظرون *} بمعنى رؤية العين، فهو تحقيق لإرادة الحقيقة.
ولما كان التقدير: فانهزمتم عندما صرخ الشيطان كذباً: ألا إن محمداً قد قتل! ولم يكن لكم ذلك فإنكم إنما تعبدون رب محمد الحي القيوم وتقاتلون له، وأما محمد فما هو بخالد لكم في الدنيا قال:{وما محمد إلا رسول} أي من شأنه الموت، لا إله، ثم قرر المراد من السياق بقوله:{قد خلت} أي بمفارقة أممهم، إما بالموت أو الرفع إلى السماء، ولما كان المراد أن الخلو منهم إنما كان في بعض الزمان الماضي لما مضى أثبت الجار فقال:{من قبله الرسل} أي فيسلك سبيلهم، فاسلكوا أنتم سبيل من نصح نفسه من أتباعهم فاستمسك بنورهم.
ولما سبب عن ذلك إنكار انهزامهم ودعتهم على تقدير فقده أنكر عليهم بقوله: {أفإن} ولما كان الملك القادر على ما يريد
لا يقول شيئاً وإن كان فرضاً إلا فعله ولو على أقل وجوهه، وكان في علمه سبحانه أنه صلى الله عليه وسلم يموت موتاً - لكونه على فراشه، وقتلاً - لكونه بالسم، قال:{مات} أي موتاً على الفراش {أو قتل} أي قتلاً {انقلبتم} أي عن الحال التي فارقكم عليها فأضعتم مشاعر الدين وتركتم مشاريع المرسلين! ثم قرر المعنى بقوله: {على أعقابكم} لئلا يظن أن المراد مطلق الانتقال وإن كان على الاستواء والانتقال إلى أحسن {ومن} أي انتقلتم والحال أنه من {ينقلب على عقبيه} أي بترك ما شرعه له نبيه أو التقصير فيه {فلن يضر الله} أي المحيط بجميع العظمة {شيئاً} لأنه متعالٍ عن ذلك بأن الخلق كلهم طوع أمره، لا يتحركون حركة إلا على وفق مراده، فلو أراد لهداهم أجمعين، ولو أراد أضلهم أجمعين، وإنما يضر ذلك المنقلب نفسه لكفره بالله، وسيجزي الله الشاكرين، ومن سار ثابتاً على المنهج السوي فإنما ينفع نفسه لشكره لله {وسيجزي الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {الشاكرين *} أي كلهم، فالآية من الاحتباك: أثبت الانقلاب وعدم الضر أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، والجزاء ثانياً دليلاً على حذف مثله أولاً.
ولما كان موت الرأس من أنصار الدين لا يصلح أن يكون سبباً للفرار إلا إذا كان موته بغير إذن صاحب الدين، وكان الفرار لا يصلح إلا أذا كان يمكن أن يكون سبباً للنجاة، وأما إذا كان موته لا يكون إلا بإرادة رب الدين، والفرار لا يكون سبباً في زيادة الأجل ولا نقصه؛ أشار إلى ذلك بقوله:{وما كان لنفس} أي من الأنفس كائنة من كانت {أن تموت} أي بشيء من الأشياء {إلا بإذن الله} أي بعلم الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامة وإرادته وتمكينه من قبضها «كتب لكل نفس عمرها» {كتاباً مؤجلاً} أي أجلاً لا يتقدم عنه بثبات، ولا يتأخر عنه بفرار أصلاً.
ولما كان المعنى: فمن أقدم شكرته ولم يضره الإقدام، ومن أحجم ذممته ولم ينفعه الإحجام، وكان الحامل على الإقدام إيثار ما عند الله، والحامل على الإحجام إيثار الدنيا؛ عطف على ذلك قوله:{ومن يرد ثواب الدنيا} أي بعمله - كما افهمه التعبير بالثواب، وهم المقبلون على الغنائم بالنهب والفارون كفراً لنعمة الله {نؤته منها} أي ما أراد، وختام الآية يدل على أن التقدير هنا: وسنردي الكافرين ولكنه طواه رفقاً لهم {ومن يرد ثواب الآخرة} أي وهم الثابتون شكراً على إحسانه إليهم من غير أن يشغلهم شاغل عن الجهاد، ولما كان قصد الجزاء غير قادح في الإخلاص منه من الله تعالى علينا قال:
{نؤته} ونبه على أن العمل لذات الله من غير نظر إلى ثواب ولا عقاب أعلى فقال: {منها} أي وسنجزيه لشكره، وهو معنى قوله:{وسنجزي الشاكرين *} لكنه أظهر لتعليق الحكم بالوصف وعمم.
ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الجمل على هذا الوجه الذي بين فيه العلل، وأوضح بحال الزلل، وكان التقدير بعد انقضائها: فكأين من قوم أمرناهم بالجهاد، فكانوا على هذين القسمين، فأثبنا الطائع وعذبنا العاصي، ولم يضرنا ذلك شيئاً، ولا جرى شيء منه على غير مرادنا، عطف عليه يؤسيهم بطريق الصالحين من قبلهم ويسيلهم بأحوالهم قوله:{وكأين} وهي بمعنى كم، وفيها لغات كثيرة، قرىء منها في العشر بثنتين: الجمهور بفتح الهمزة بعد الكاف وتشديد الياء المكسورة، وابن كثير وأبو جعفر بألف ممدودة بعد الكاف وهمزة مكسورة، ولعلها أبلغ - لأنه عوض عن الحرف المحذوف - من المشهورة بالمد، والمد أوقع في النفس وأوقر في القلب؛ وفيها كلام كثير - في لغاتها ومعناها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلاً ووقفاً، ورسمها في مصحف الإمام عثمان بن عفان رضي الله عنه
الذي وقع إجماع الصحابة عليه ليكون المرجع عند الاختلاف إليه، وهل هي بسيطة أو مركبة ومشتقة أو جامدة وفي كيفية التصرف في لغاتها - استوعبته في كتابي الجامع المبين لما قيل في {كأين} ، وقال سبحانه:{من نبي} لتكون التسلية أعظم بذكر ما هو طبق ما وقع في هذه الغزوة من قتل أصحابه، واحتمال العبارة لقتله نفسه بقوله:{قتل} أي ذلك النبي حال كونه {معه} لكن الأرجح إسناد {قتل} إلى {ربيون} لموافقته قراءة الجماعة - سوى الحرميين وأبي عمرو -: قاتل معه {ربيون} أي علماؤهم ورثة الأنبياء، وعلى منهاجهم {كثير فما} أي فما تسبب عن قتل نبيهم وهنهم، أو يكون المعنى ويؤيده الوصف بالكثرة -: قتل الربيون، فما تسبب عن قتلهم أن الباقين بعدهم {وهنوا} أي ضعفوا عن عملهم {لما أصابهم في سبيل الله} أي الملك الأعظم من القتل لنبيهم الذي هو عمادهم، أو لإخوانهم الذين هم أعضادهم لكونه من الله {وما ضعفوا} أي
مطلقاً في العمل ولا في غيره {وما استكانوا} أي وما خضعوا لأعدائهم فطلبوا أن يكونوا تحت أيديهم - تعريضاً بمن قال: اذهبَوا إلى أبي عامر الراهب ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، بل صبروا، فأحبهم الله لصبرهم {والله} أي الذي له صفات الكمال {يحب الصابرين *} أي فليفعلن بهم من النصر وإعلاء القدر وجميع أنواع الإكرام فعل من يحبه.
ولما أثنى سبحانه وتعالى على فعلهم أتبعه قولهم فقال: {وما كان} أي شيء من القول {قولهم} أي بسبب ذلك الأمر الذي دهمهم {إلا أن قالوا} أي وهم يجتهدون في نصر دين الله ناسبين الخذلان إلى أنفسهم بتعاطي أسبابه {ربنا اغفر لنا ذنوبنا} أي التي استوجبنا بها الخذلان {وإسرافنا في أمرنا} هضماً لأنفسهم، فمع كونهم ربانيين مجتهدين نسبوا ما أصابهم إلى ذنوبهم، فافعلو أنتم فعلهم لتنالوا من الكرامة ما نالوا، كما أشار لكم سبحانه وتعالى إلى ذلك قبل الأخذ في قص القصة عندما وصف به المتقين من قوله:{أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} [آل عمران: 135] .
ولما دعوا بمحو ما أوجب الخذلان دعوا بثمرة المحو فقالوا: {وثبت أقدامنا} إشارة إلى أن الرعب من نتائج الذنب، والثبات من ثمرات الطاعة - إنما تقاتلون الناس بأعمالكم - ثم أشاروا إلى أن قتالهم لهم إنما هو لله، لا لحظ من حظوظ النفس أصلاً بقوله:{وانصرنا على القوم الكافرين *} .
فلما تم الثناء على فعلهم وقولهم ذكر ما سببه لهم ذلك من الجزاء فقال {فأتاهم الله} المحيط علماً وقدرةً {ثواب الدنيا} أي بأن قبل دعاءهم بالنصر والغنى بالغنائم وغيرها وحسن الذكر وانشراح الصدر وزوال شبهات الشر.
ولما كان ثواب الدنيا كيف ما كان لا بد أن يكون بالكدر مشوباً وبالبلاء مصحوباً، لأنها دار الأكدار؛ أعراه من وصف الحسن، وخص الآخرة به فقال:{وجسن ثواب الآخرة} أي مجازاً بتوفيقهم إلى الأسباب في الدنيا، وحقيقة في الآخرة، فإنهم أحسنوا في هذا الفعال والمقال، لكونهم لم يطلبوا بعبادتهم غير وجه الله، فأحبهم
لإحسانهم {والله} المحيط بصفات الكمال {يحب المحسنين *} كلهم، فهو جدير بأن يفعل بهم كل جميل ولذلك رفع منزلتهم ولم يجعل ثوابهم بعضاً، كما فعل بمن عبد لإرادة الثواب فقال:{نؤته منها} [آل عمران: 145] فقد بان أن هذه الآية منعطفة على ما أمر به الصحابة رضي الله عنهم على طريقة اللف والنشر المشوش، فنفي الوهن تعريض بمن أشير إليه في آية {ولقد كنتم تمنون الموت} [آل عمران: 143] ونحو ذلك والثناء لعى قولهم حث عل مثل ما ندبهم إليه في قولهم {ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} [آل عمران: 135] وثبات الإقدام إشارة إلى {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139] وإلى أن ثبات القدم للنصر على أعداء الله كان شاغلاً لهم عن الالتفات إلى غيره، وتعريض بمن أقبل على الغنائم وترك طلب العدو لتمام النصر المشار إليهم بآية {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها} [آل عمران: 145] وإيتاء الثواب ناظر إلى النهي عن الربا وما انتظم في سلكه وداناه، وإلى الأمر بالمسارعة إلى الجنة وما والاه، وإيماء إلى أن من فعل فعلهم نال ما نالوا، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، لأن علمه محيط، وكرمه لا يحد، وخزائنه لا تنفد، بل
لا تنقص، ثم ختمها بما ختم به للحث على التخلق بأوصاف المتقين؛ فقد اتضح بغير لبس أن المراد بهذه الآية - وهي الإخبار عن إيتائهم الثواب - التنبيه على أن أهم الأمور وأحقها بالبداءة التخلق بما وعظوا به قبل قص القصة، ولا ريب أن في مدح من سواهم تهييجاً زائداً لانبعاث نفوسهم وتحرك هممهم وتنبيه نشاطهم وثوران عزائمهم غيرة منهم أن يكون أحد - وهم خير أمة أخرجت للناس - أعلى همة وأقوى عزيمة وأشد شكيمة وأصلب عوداً واثبت عموداً وأربط جأشاً وأذكر لله وأرغب فيما عنده وأزهد فيما أعرض عنه منهم.
ولما أمر سبحانه وتعالى بطاعته الموجبة للنصر والأجر وختم بمحبته للمحسنين، حذر من طاعة الكافرين المقتضية للخذلان رغبة في موالاتهم ومنا صرتهم فقال تعالى واصلاً بالنداء في آية الربا:{يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {إن تطيعوا} بخضوع واستئمان أو غيره {الذين كفروا} أي هذا الفريق منهم أو غيره {يردوكم على أعاقبكم} بتعكيس أحوالكم إلى أن تصيروا مثلهم ظالمين كافرين
{فتنقلبوا خاسرين *} في جميع أموركم في الدارين، فتكونوا في غاية البعد من أحوال المحسنين، فتكونوا بمحل السخط من الله صغرة تحت أيدي الأعداء في الدنيا خالدين في العذاب في الأخرى، وذلك ناظر إلى قوله تعالى أول ما حذر من مكر الكفار
{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب} [آل عمران: 100] ، وموضح أن جميع هذه الآيات شديد اتصال بعضها ببعض - والله الموفق.
ولما كان التقدير: فلا تطيعوهم، إنهم ليسوا صالحين للولاية مطلقاً ما دمتم مؤمنين، عطف عليه قوله:{بل الله} أي الملك الأعظم {مولاكم} مخبراً بأنه ناصرهم وأن نصره لا يساويه نصر أحد سواه بقوله: {وهو خير الناصرين *} أي لأن من نصره سبب له جميع أسباب النصر وأزال عنه كل أسباب الخذلان فمنع غيره - كائناً من كان - من إذلاله ثم قرر ذلك بقوله محققاً للوعد: {سنلقي} أي بعظمتنا {في قلوب الذين كفروا الرعب} أي المقتضي لامتثال ما أمر به من الجرأة عليهم وعدم الوهن في أمرهم، كما افتتح القصة بالإيماء إلى ذلك بالأمر بالسير في الأرض والنظر في عاقبة المكذبين، ثم بين سبب ذلك فقال:{بما أشركوا بالله} أي ليعلموا
قطعاً أنه لا ولي لعدوه لأنه لا كفوء له، وبين بقوله:{ما لم ينزل} أي في وقت من الأوقات {به سلطاناً} أنه لا حجة لهم في الإشراك، وما لم ينزل به سلطاناً فلا سلطان له، ومادة سلط ترجع إلى القوة، ولما كان التقدير: فعليهم الذل في الدنيا لاتباعهم ما لا قوة به، عطف عليه:{ومأواهم النار} ثم هوّل أمرها بقوله: {وبئس مثوى الظالمين *} أي هي، وأظهر في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف.
ولما كانت السين في {سنلقي} مفهمة للاستقبال كان ذلك ربما أوهم أنه لم يرغبهم فيما مضى، فنفى هذا الوهم محققاً لهم ذلك بتذكيرهم بما أنجز لهم من وعده في أول هذه الوقعة مدة تلبسهم بما شرط عليهم من الصبر والتقوى بقوله تعالى - عطفاً على قوله:{بلى إن تصبروا وتتقوا} [آل عمران: 125]، مصرحاً بما لوح إليه تقديراً قبل {ولقد نصركم الله ببدر} [آل عمران: 123] كما مضى -: {ولقد صدقكم الله وعده} أي في قوله {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم} [آل عمران: 120]{إذ تحسونهم} أي تقتلونهم بعضهم بالفعل والباقين بالقوة التي هيأها لكم {بإذنه} فإن الحسن بالفتح: القتل والاستئصال - قاله في القاموس. ثم بين لهم سبب هزيمتهم بعد تمكينه منهم ليكون
رادعاً لهم عن المعاودة إلى مثله فقال مبيناً لغاية الحسن: {حتى إذا فشلتم} أي ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة خلاف ما تدعو إليه الهمم العوالي، فكيف بهم إذا كانوا من حزب مولى الموالي! فلو كانت العرب على حال جاهليتها تتفاخر بالإقبال على الطعن والضرب في مواطن الحرب والإعراض عن الغنائم - كما قال عنترة بن شداد العبسي يفتخر:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك
…
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
إذ لا أزال على رحالة سابح
…
نهد تعاوره الكماة مكلم
طوراً يعرض للطعان وتارة
…
يأوي إلى حصد القسي عرموم
يخبرك من شهد الوقيعة أنني
…
أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم
وقال يفاخر بقومه كلهم:
إنا إذا حمس الوغى نروي القنا
…
ونعف عند مقاسم الأنفال
ولما ذكر الفشل عطف عليه ما هو سببه في الغالب فقال: {وتنازعتم} أي بالاختلاف، وأصله من نزع بعض شيئاً من
يد بعض {في الأمر} أي أمر الثغر المأمور بحفظه {وعصيتم} أي وقع العصيان بينكم بتضييع الثغر. وأثبت الجار تصويراً للمخالفة بأنها كانت عقب رؤية النصر سواء، وتبشيراً بزوالها فقال:{من بعد ما أراكم ما تحبون} أي من حسهم بالسيوف وهزيمتهم.
ولما كان ذلك ربما أفهم أن الجميع عصوا نفي ذلك معللاً للعصيان بقوله: {منكم من يريد الدنيا} أي قد أغضى عن معايبها التي أجلاها فناؤها. ولما كان حكم الباقين غير معين للفهم من هذه الجملة قال: {ومنكم من يريد الآخرة} وهم الثابتون في مراكزهم، لما يعرجوا على الدنيا.
ولما كان التقدير جواباً لإذا: سلطهم عليكم، عطف عليه قوله:{ثم صرفكم عنهم} أي لاندهاشكم إتيانهم إليكم من ورائكم، وعطفه بثم لاستبعادهم للهزيمة بعد ما رأوا من النصرة {ليبتليكم} أي يفعل في ذلك فعل من يريد الاختبار في ثباتكم على الدين في حالي السراء والضراء. ولما كان اختباره تعالى بعصيانهم شديد الإزعاج
للقلوب عطف على قوله {صرفكم} {ولقد عفا عنكم} أي تفضلاً عليكم لإيمانكم {والله} الذي له الكمال كله {ذو فضل على المؤمنين *} أي كافة، وهو من الإظهار في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف.
ولما ذكر علة الصرف والعفو عنه صوّره فقال: {إذ} أي صرفكم وعفا عنكم حين {تصعدون} أي تزيلون الصعود فتنحدرون نحو المدينة، أو تذهبون في الأرض لتبعدوا عن محل الوقعة خوفاً من القتل {ولا تلوون} أي تعطفون {على أحد} أي من قريب ولا بعيد {والرسول} أي الذي أرسل إليكم لتجيبوه إلى كل ما يدعوكم إليه وهو الكامل في الرسلية {يدعوكم في أخراكم} أي ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير لا يبلغون أربعين نفساً على اختلاف الروايات - وثوقاً بوعد الله ومراقبة له يقول كلما مرت عليه جماعة منهزمة:«إليّ عباد الله! أنا رسول الله! إليّ إليّ عباد الله» كما هو اللائق بمنصبه الشريف من الاعتماد على الله والوثوق بما عنده وعد من دونه من ولي
وعدو عدماً؛ وإنما قلت: إن معنى ذلك الانهزام، لأن الدعاء يراد منه الإقبال على الداعي بعد الانصراف عما يريده ليأمر وينهى، فعلم بذلك أنهم مولون عن المقصود وهو القتال، وفي التفسير من البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبد الله بن جبير رضي الله تعالى عنه وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً.
ولما تسبب عن العفو ردهم عن الهزيمة إلى القتال قال تعالى: {فأثابكم} أي جعل لكم ربكم ثواباً {غماً} أي باعتقادكم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان اعتقاداً كاذباً مُلتئم به رعباً {بغم} أي كان حصل لكم من القتل والجراح والهزيمة، وسماه - وإن كان في صورة العقاب - باسم الثواب لأنه كان سبباً للسرور حين تبين أنه خبر كاذب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سالم حتى كأنهم - كما قال بعضهم - لم تصبهم مصيبة، فهو من الدواء بالداء، ثم علله بقوله:{لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} أي من النصر والغنيمة {ولا ما أصابكم} أي من القتل والجراح والهزيمة لاشتغالكم عن ذلك
بالسرور بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولما قص سبحانه وتعالى عليهم ما فعلوه ظاهراً وما قصدوه باطناً وما داواهم به قال - عاطفاً على ما تقديره: فالله سبحانه وتعالى خبير بما يصلح أعمالكم ويبرىء أدواءكم -: {والله} أي المحيط علماً وقدرة {خبير بما تعملون *} أي من خير وشر في هذه الحال وغيرها، وبما يصلح من جزائه ودوائه، فتارة يداوي الداء بالداء وتارة بالدواء، لأنه الفاعل القادر المختار.
ولما كان أمانهم بعد انخلاع قلوبهم بعيداً، ولا سيما بكونه بالنعاس الذي هو أبعد شيء عن ذلك المقام الوعر والمحل الضنك عطف بأداة البعد في قوله:{ثم أنزل عليكم} ولما أفاد بأداة الاستعلاء عظمة الأمن، وكان متصلاً بالغم ولم يستغرق زمن ما بعده أثبت الجار فقال:{من بعد الغم} أي المذكور وأنتم في نحر العدو {أمنة} أي أمناً عظيماً، ثم ابدل منها تنبيهاً على ما فيها من الغرابة قوله:{نعاساً} دليلاً قطعياً فإنه لا يكون إلا من أمن؛ روي البخاري في التفسير عن أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة رضي الله عنه
قال:
«غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه» ولما كان لبعضهم فقط استأنف وصفه بقوله: {يغشى طائفة منكم} وهم المؤمنون، وابتدأ الإخبار عن الباقين بقوله:{وطائفة} أي أخرى من المنافقين {قد أهمتهم أنفسهم} لا المدافعة عن الدين فهم إنما يطلبون خلاصها، ولا يجدون إلى ذلك فيما يظنون سبيلاً لاتصال رعبهم وشدة جزعهم، فعوقبوا على ذلك بأنه لم يحصل لهم الأمن المذكور، ثم فسر همهم فقال:{يظنون بالله} المحيط بصفات الكمال {غير الحق} أي من أن نصره بعده هذا لا يمكن، أو أنهم لو قعدوا في المدينة لم يقتل أحد، ونحو ذلك من سفساف الكلام وفاسد الظنون التي فتحتها لو والأوهام {ظن الجاهلية} أي الذين لا يعلمون - من عظمة الله سبحانه وتعالى بأن ما أراده كان ولا يكون غيره - ما يعلم أتباع الرسل. ثم فسر الظن بقوله:{يقولون} أي منكرين لأنه لم يجعل الرأي رايهم ويعمل بمقتضاه غشباً وتاسفاً على خروجهم في هذا الوجه وعدم رجوعهم مع ابن أبيّ بعد أن خرجوا {هل لنا من الأمر} أي المسموع، ولكون الاستفهام بمعنى النفي ثبتت أداة الاستغراق في قوله:{من شيء} فكأنه قيل: فماذا يقال لهم؟ فقيل: {قل} أي لهم رداً عليهم احتقاراً
بهم {إن الأمر} أي الحكم الذي لا يكون سواه {كله لله} أي الذي لا كفوء له، وليس لكم ولا لغيركم منه شيء، شئتم أو أبيتم، غزوتم أو قعدتم، ثبتم أو فررتم.
ولما قص سبحانه وتعالى عليهم بعض أمرهم في هذه الحرب، وبين لهم شيئاً من فوائد ما فعل بهم بقوله:{إن يمسسكم قرح} [آل عمران: 140] وكان من جملة ذلك ما أظهر من أسرار المنافقين بهذه الوقعة في اتهامهم الله ورسوله، حتى وصل إلى هنا، وكان قولهم هذا غير صريح في الاتهام لإمكان حمله على مساق الاستفهام أخبر سبحانه وتعالى بتدليسهم بقوله:{يخفون} أي يقولون ذلك مخفين {في أنفسهم ما لا يبدون لك} لكونه لا يرضاه اللهز ثم بين ذلك بعد إجماله فقال: {يقولون لو كان لنا من الأمر} أي المسموع {شيء ما قتلنا ههنا} لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدو.
ولما أخبر سبحانه وتعالى عنهم بما أخفوه جهلاً منهم ظناً أن الحذر يغني من القدر أمره سبحانه وتعالى بالرد عليهم بقوله: {قل لو كنتم في بيوتكم} أي بعد أن أجمع رأيكم على أن لا يخرج منكم
أحد {لبرز الذين كتب عليهم القتل} أي في هذه الغزوة {إلى مضاجعهم} أي التي هي مضاجعهم بالحقيقة وهي التي قتلوا بها، لأن ما قدرناه لا يمكن أحداً دفعه بوجه من الوجوه، ثم عطف على ما علم تقديره ودل عليه السياق قوله:{ليبتلي} أي لبرز المذكورون لينفذ قضاؤه ويصدق قوله لكم في غزوة بدر: إن فاديتم الأسارة ولم تقتلوهم قتل منكم في العام المقبل مثلهم {وليبتلي الله} أي المحيط بصفات الكمال بهذا الأمر التقديري {ما في صدوركم} أي من الإيمان والنفاق بأن يفعل في إظهاره من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فعل المختبر كما فعل بما وجد في هذه الغزوة من الأمور التحقيقية {وليمحص ما في قلوبكم} اي يطهره ويصفيه من جميع الوساوس الصارفة عن المراقبة من محبة الدنيا من الغنائم التي كانت سبب الهزيمة وغيرها. وختم بقوله: {والله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {عليم بذات الصدور *} مرغباً ومرهباً ودافعاً لما قد يتوهم من ذكر الابتلاء من عدم العلم بالخفايا.
ولما كانوا في هذه الغزوة قد حصل لهم ضرر عظيم، لكنه كان بما وقع من بعضهم من الخلل الظاهر فأدبهم بذلك، عفا عنهم سبحانه
وتعالى بعد ذلك التأديب ورحمهم وطيب قلوبهم بهذه الآية بما فيها من التأمين صريحاً، وبما فيها من الإشارة بجمع جميع حروف المعجم فيها تلويحاً إلى أن أمرهم لا بد أن يتم كما تمت الحروف في هذه الآية. لكنه افتتحها بأداة التراخي إشارة إلى أنه لا يكون إلا بعد مدة مديدة حتى تصقل مرائي الصدور التي ختمها بها بخلاف ما في الآية الأخرى الجامعة للحروف في آخر سورة الفتح التي نزلت في الحديبية التي ساءهم رجوعهم منها دون وصولهم إلى قصدهم - كما يأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى.
ولما كان فيه مع ذلك معنى التعليل والتنبيه على أنه غني عن الاختبار، خبير بدقائق الأسرار أتبعه قوله مستأنفاً لبيان ما هو من ثمرات العلم:{إن الذين تولوا منكم} أي عن القتال ومقارعة الأبطال {يوم التقى الجمعان} أي من المؤمنين والكفار {إنما استزلّهم} أي طلب زللهم عن ذلك المقام العالي {الشيطان} أي عدوهم البعيد من الرحمة المحترق باللعنة {ببعض ما كسبوا} أي من الذنوب التي لا تليق بمن طلب الدنو إلى حضرات القدس ومواطن الأنس من ترك المركز والإقبال على الغنيمة وغير ذلك، فإن القتال في الجهاد إنما هو بالأعمال،
فمن كان أصبر في أعمال الطاعة كان أجلد على قتال الكفار، ولم يكن توليهم عن ضعف في نفس الأمر.
ولما كان ذلك مفهماً أن الذين تولوا صاروا من حزب الشيطان فاستحقوا ما استحق ألصق به قوله: {ولقد عفا الله} أي الذي له صفات الكمال {عنهم} لئلا تطير أفئدة المؤمنين منهم، وختم ذلك ببيان علته مما هو أهله من الغفران والحلم فقال معيداً للاسم الأعظم تنبيهاً على أن الذنب عظيم والخطر بسببه جسيم، فلولا الاشتمال على جميع صفات الكمال لعوجلوا بأعظم النكال:{إن الله غفور} أي محاء للذنوب عيناً وأثراً. ولما كان الغفر قد يكون مع تحمل نفاه بقوله: {حليم *} أي حيث لم يعامل المتولين حذر الموت معاملة الذين خرجوا من ديارهم - كما تقدم - حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا.
ولما كان قولهم: إنا لو ثبتنا في المدينة الممثلة بالدرع الحصينة - كما «كان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأكابر من أصحابه» لسلمنا، إلى غير ذلك مما أشار سبحانه وتعالى إليه قولاً موجباً لغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم. لما فيه من الاتهام وسوء العقيدة، وكان مع ذلك مظنة لأن يخدع كثيراً من أهل الطاعة لشدة حبهم لمن قتل منهم
وتعاظم أسفهم عليهم. كان أنسب الأشياء المبادرة إلى الوعظ بما يزيل هذا الأثر، ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيداً بأعظم الثبات لما طبع عليه من الشيم الطاهرة والمحاسن الظاهرة كان الأنسب البداءة بغيره، فنهى الذين آمنوا عن الانخداع بأقوالهم فقال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا} أي أظهروا الإقرار بالإيمان! صدقوا قولكم بأن {لا تكونوا كالذين كفروا} أي بقلوبهم على وجه الستر {وقالوا} أي ما فضحهم {لإخوانهم} أي لأجل إخوانهم الأعزة عليهم نسباً أو مذهباً {إذا ضربوا} أي سافروا مطلق سفر {في الأرض} أي لمتجر أو غيره {أو كانوا غزّى} أي غزاة مبالغين في الغزو في سبيل الله بسفر أو غيره جمع غازٍ، فماتوا أو قتلوا {لو كانوا عندنا} أي لم يفارقونا {ما ماتوا وما قتلوا} وهذا في غاية التهكم بهم، لأن إطلاق هذا القول منهم - لا سيما على هذا التأكيد - يلزم منه ادعاء أنه لا يموت أحد في المدينة، وهو لا يقوله عاقل
ولما كان هذا القول محزناً اعتقاده وكتمانه علق سبحانه وتعالى بقوله: «قالوا» وبانتفاء الكون كالذين قالوا قوله: {ليجعل الله} أي الذي لا كفوء له {ذلك} أي القول أو الانفراد به عن مشارك
{حسرة في قلوبهم} أي باعتقاده وعدم المواسي فيه وعلى تقدير التعليق ب «قالوا» يكون من باب التهكم بهم لأنهم لو لم يقولوه لهذا الغرض الذي لا يقصده عاقل لكانوا قد قالوه لا لغرض أصلاً وذلك أعرق في كونه ليس من أفعال العقلاء {والله} أي لا تكونوا مثلهم والحال.
أو قالوا ذلك والحال. أن الذي له الإحاطة الكاملة {يحيي} أي من أراد في الوقت الذي يريد {ويميت} أي من أراد إذا أراد لا يغني حذره من قدره {والله} أي المحيط بكل شيء قدره وعلماً {بما تعملون} أي بعملكم وبكل شيء منه {بصير *} وعلى كل شيء منه قدير لا يكون شيء منه بغير إذنه ومتى كان على خلاف أمره عاقب عليه.
ولما نهاهم عن قول المنافقين الدائر على تمني المحال من دوام البقاء وكراهة الموت بيّن لهم ثمرة فوات أنفسهم في الجهاد بالموت أو القتل ليكون ذلك مبعداً لهم مما قال المنافقون موجباً لتسليم الأمر للخالق بل محبباً فيه وداعياً إليه فقال: {ولئن} وهو حال أخرى من لا «تكونوا» {قتلتم} أي من أية قاتل كان {في سبيل الله}
أي الملك الأعظم قتلاً {او متم} أي فيه موتاً على أية حالة كانت. ولما كان للنفوس غاية الجموح عن الموت زاد في التأكيد فقال: {لمغفرة} أي لذنوبكم تنالكم فهذا تعبد بالخوف من العقاب {من الله} أي الذي له نهاية الكمال بما كنتم عليه من طاعة {ورحمة} أي لأجل ذلك وهو تعبد لطلب الثواب {خير مما يجمعون *} أي مما هو ثمرة البقاء في الدنيا عند أهل الشقاء مع أنه ما فاتكم شيء من أعماركم.
ولما ذكر أشرف الموت بادئاً بأشرفه ذكر ما دونه بادئاً بأدناه فقال: {ولئن متم أو قتلتم} أي في أي وجه كان على حسب ما قدر عليكم في الأزل {لإلى الله} أي الذي هو متوفيكم لا غيره، وهو ذو الجلال والإكرام الذي ينبغي أن يعبد لذاته. ودل على عظمته بعد الدلالة بالاسم الأعظم بالبناء للمجهول فقال:{تحشرون *} فإن كان ذلك الموت أو القتل على طاعته أثابكم وإلا عاقبكم، والحاصل أنه لا حيلة في دفع الموت على حالة من الحالات: قتل أو غيره، ولا في الحشر إليه سبحانه وتعالى، وأما الخلاص من هول ذلك اليوم ففيه حيلة بالطاعة. والله سبحانه وتعالى الموفق. وما أحسن ما قال عنترة في نحوه وهو
جاهلي، فالمؤمن أولى منه بمثل ذلك:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني
…
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل
…
لا بد أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي
…
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
ولما فرغ من وعظ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أتبعه تحبيب النبي صلى الله عليه وسلم فيما فعل بهم من الرفق والللين مع ما سبب الغضب الموجب للعنف والسطوة من اعتراض من اعترض على ما أشار به، ثم مخالفتهم لأمره في حفظ المركز والصبر والتقوى، ثم خذلانهم له وتقديم أنفسهم على نفسه الشريفة، ثم عدم العطف عليه وهو يدعوهم إليه ويأمر بإقبالهم عليه، ثم اتهام من اتهمه. إلى غير ذلك من الأمور التي توجب لرؤساء الجيوش وقادة الجنود اتهام أتباعهم وسوء الظن بهم الموجب للغضب والإيقاع ببعضهم ليكون ذلك زاجراً لهم عن العود إلى مثله فقال تعالى:{فبما رحمة من الله} أي الذي له الكمال كله {لنت لهم} أي ما لنت لهم هذا اللين الخارق للعادة ورفقت بهم هذا الرفق بعدما فعلوا بك إلا بسبب رحمة عظيمة من
الله الحائز لجميع الكمال، فقابلتهم بالجميل ولم تعنفهم بانهزامهم عنك بعد إذ خالفوا رأيك، وهم كانوا سبباً لاستخراجك؛ والذي اقتضى هذا الحصر هو ما لأنها نافية في سياق الإثبات فلم يمكن أن توجه إلا إلى ضد ما أثبته السياق، ودلت زيادتها على أن تنوين «رحمة» للتعظيم، أي فبالرحمة العظيمة لا بغيرها لنت.
ولما بين سبحانه وتعالى سبب هذا اللين المتين بين ثمرته ببيان ما في ضده من الضرر فقال: {ولو كنت فظّاً} أي سيىء الخلق جافياً في القول {غليظ القلب} أي قاسية لا تتأثر بشيء، تعاملهم بالعنف والجفاء {لانفضّوا} أي تفرقوا تفرقاً قبيحاً لا اجتماع معه {من حولك} أي ففات المقصود من البعثة.
ولما أخبره سبحانه وتعالى أنه هو عفا عنهم ما فرطوا في حقه أمره بالعفو عنهم فيما يتعلق به صلى الله عليه وسلم، وبالاستمرار على مشاورتهم عند النوائب لئلا يكون خطؤهم في الرأي - أولاً في الخروج من المدينة.
وثانياً في تضييع المركز، وثالثاً في إعراضهم عن الإثخان في العدو بعد الهزيمة الذي ما شرع القتال إلا لأجله بإقبالهم عن النهب، ورابعاً
في وهنهم عند كر العدو إلى غير ذلك - موجباً لترك مشاورتهم، فيفوت ما فيها من المنافع في نفسها وفيما تثمره من التألف والتسنن وغير ذلك فقال سبحانه وتعالى:{فاعف عنهم} أي ما فرطوا في هذه الكره في حقك {واستغفر لهم} أي الله سبحانه وتعالى لما فرطوا في حقه {وشاورهم} أي استخرج آراءهم {في الأمر} أي الذي تريده من أمور الحرب تألفاً لهم وتطييباً لنفوسهم ليستن بك من بعدك {فإذا عزمت} أي بعد ذلك على أمر فمضيت فيه، وقراءة من ضم التاء للمتكلم بمعناها، أي فإذا فعلت أنت أمراً بعد المشاورة لأني فعلت فيه - بأن أردته - فعل العازم.
ولما أمر بالمشاورة التي هي النظر في الأسباب أمر بالاعتصام بمسببها من غير التفات إليها ليكمل جهاد الإنسان بالملابسة ثم التجرد فقال: {فتوكل} أي فيه {على الله} أي الذي له الأمر كله، ولا يردك عنه خوف عاقبة - كما فعلت بتوفيق الله في هذه الغزوة، ثم علل ذلك بقوله:{إن الله} أي الذي لا كفوء له {يحب المتوكلين *} أي فلا يفعل بهم إلا ما فيه إكرامهم
وإن رُئي غير ذلك.
ولما كان التقدير؛ فإذا فعلوا ما يحبه أعطاهم مُناهم مما عزموا عليه لأجله؛ استأنف الإخبار بما يقبل بقلوبهم إليه ويقصر هممهم عليه، بأن من نصره هو المنصور، ومن خذله هو المخذول، فقال تعالى:{إن ينصركم الله} أي الذي له جميع العظمة {فلا غالب لكم} أي إن كان نبيكم صلى الله عليه وسلم بينكم أو لا، فما بالكم وهنتم لما صاح إبليس أن محمداً قد قتل! وهلا فعلتم كما فعل سعد بن الربيع رضي الله تعالى عنه وكما فعل أنس بن النضير رضي الله تعالى عنه حين قال:«موتوا على ما مات عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم! فهو أعذر لكم عند ربكم» {وإن يخذلكم} أي بإمكان العدو منكم {فمن ذا الذي ينصركم من بعده} أي من نبي أو غيره، ولما كان التقدير: فعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، عطف عليه قوله:{وعلى الله} أي الملك الأعظم وحده، لا على نبي ولا على قوة بعد ولا بمال من غنيمة ولا غيرها {فليتوكل المؤمنون *} أي كلهم فيكون ذلك أمارة صحة إيمانهم.
ولما كان الغلول من أعظم موجبات الخذلان أو أعظمها. والنزاهة عن من أعظم موجبات النصر، كان أنسب الأشياء تعقيب هذه الآية
بآية الغلول بياناً، لأنه كان سبب هزيمتهم في هذه الغزوة، فإنه لا يخذل إلا بالذنوب، ومن أعظم الذنوب الموجبة للخذلان الغلول فيكون المراد بتنزيهه صلى الله عليه وسلم عنه - والله أعلم - أن إقبالهم عن نهب الغنائم قبل وقته إما أن يكون لقصد أن يغلو بإخفاء ما انتهبوه أو بعضه، وإما أن يكون للخوف من أن يغل رئيسهم وحاشاه! وإما أن يكون للخوف من مطلق الخيانة بأن لا يقسمه صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء، وحاشاه من كل من ذلك! وأما المبادرة إلى النهب لغير هذا القصد فخفة وطيش وعبث، لا يصوب عاقل إليه؛ إذا تقرر هذا فيمكن أن يكون التقدير: فليتوكلوا في كبت العدو وتحصيل ما معه من الغنائم، فلا يقبلوا على ذلك إقبالاً يتطرق منه احتمال لظن السوء بهاديهم في أن يغل، وهو الذي أخبرهم بتحريم الغلول وبأنه سبب للخذلان، وما نهى صلى الله عليه وسلم قط عن شيء إلا كان أول تارك له وبعيد منه وما كان ينبغي لهم أن يفتحوا طريقاً إلى هذا الاحتمال فعبر عن ذلك بقوله عطفاً على
{وكأين من نبي} [آل عمران: 146]{وما كان} أي ما تأتى وما صح في وقت من الأوقات
ولا على حالة من الحالات {لنبي} أي أي نبي كان فضلاً عن سيد الأنبياء وإمام الرسل {أن يغل} تبشيعاً لفعل ما يؤدي إلى هذا الاحتمال زجراً من معاودة مثل ذلك الفعل المؤدي إلى تجويز شيء مما ذكر، وعلى قراءة الجماعة غير ابن كثير وأبي عمرو - بضم الياء وفتح العين مجهولاً من: أغل - المعنى: وما كان له وما صح أن يوجد غالاً، أو ينسب إلى الغلول، أو يظن به ما يؤدي إلأى ذلك؛ ويجوز أن يكون التقدير بعد الأمر بالتوكل على الله سبحانه وتعالى وحده: فلا تأتوا إن كنتم مؤمنين بما يقدح في التوكل كالغلول وما يدانيه فتخذلوا، فإنه ما كان لكم أن تغلوا، وما كان أي ما حل لنبي أي من الأنبياء قط أن يغل، أي لم أخصكم بهذه الشريعة بل ما كان في شرع نبي قط إباحة الغلول، فلا تفعلوه ولا تقاربوه بنحو الاستباق إلى النهب، فإن ذلك يسلب كمال التوكل، فإنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، فيوجب له الخذلان، روى الطبراني في الكبير- قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً فردت رايته. ثم بعث فردت، ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب، فنزلت {وما كان لنبي أن يغل} » .
ولما كان فعلهم ذلك محتملاً لقصدهم الغلول ولخوفهم من غلول غيرهم عمم في التهديد بقوله: {ومن يغلل} أي يقع منه ذلك كائناً من كان {يأت بما غل يوم القيامة} ومن عرف كلام أهل اللغة في الغلول عرف صحة قولي: إنه لمطلق الخيانة، وإنه يجوز أن يكون التقدير: وما كان لأحد أن يفعل ما يؤدي - ولو وعلى بعد - إلى نسبة نبي إلى غلول، قال صاحب القاموس: أغل فلاناً: نسبه إلى الغلول والخيانة، وغل غلولاً: خان - كأغل، أو خاص بالفيء، وقال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي: أغل الرجل أغلالاً - إذا خان، فهو مغل وغل في المغنم يغل غلولاً، وقرىء: أن يَغُل، وأن يُغَل، فمن قرأ: يَغُل - أراد: يخون، ومن قرأ: يُغَل - أراد: يخان، ويجوز أن يريد: لا ينسب إلى الخيانة وكل من خان شيئاً في خفاء فقد غل يغل غلولاً، ويسمى الخائن غالاً، وفي الحديث
«لا إغلال ولا إسلال» الإغلال: الخيانة في كل شيء، وغللت الشيء أغله غلاًّ - إذا سترته، قالوا: ومنه الغلول في المغنم، إنما أصله أن الرجل كان إذا أخذ منه شيئاً ستره في متاعه، فقيل للخائن: غال ومغل، ويقال: غللت الشيء في الشيء - إذا أدخلته فيه، وقد انغل - إذا دخل في الشيء، وقد انغل في الشجر.
دخل - انتهى. فهذه الآية نهي للمؤمنين عن الاستباق إلى المغنم على طريق الإشارة، فتم بها الوعظ الذي في أواخره القصة، كما أن آية الربا نهي عنه على طريق الإشارة، فتم بها الوعظ الذي في أوائل القصة، فقد اكتنف التنفير من الغلول - الذي هو سبب الخذلان في هذه الغزوة بخصوصها لمباشرة ما هو مظنة له وفي الغزو مطلقاً - طرفي الوعظ فيها، ليكون من أوائل ما يقرع السمع وأواخره.
ولما كان ثمرة الإتيان به الجزاء عليه عمم الحكم تنبيهاً على أن ذلك اليوم يوم الدين، فلا بد من الجزاء فيه وتصويراً له تبشيعاً للفضيحة فيه بحضرة الخلق أجمعين، وزاد في تعظيمه وتعظيم الجزاء فيه بأداة التراخي وتضعيف الفعل فقال معمماً الحكم ليدخل الغلول من باب الأولى:{ثم توفى} أي في ذلك اليوم العظيم، وبناه للمجهول إظهاراًَ لعظمته على طريق كلام القادرين {كل نفس} أي غالة وغير غالة {ما كسبت} أي ما لها فيه فعل ما من خير أو شر وافياً مبالغاً في تحريز وفائه {وهم لا يظلمون *} أي لا يقع عليهم ظلم في شيء منه بزيادة ولا نقص.
ولما أخبر تعالى أنه لا يقع في ذلك اليوم ظلم أصلاً تسبب عنه
الإنكار على من حدثته نفسه بالأماني الكاذبة، فظن غير ذلك من استواء حال المحسن وغيره، أو فعل فعلاً وقال قولاً يؤدي إلأى ذلك كالمنافقين وكالمقبلين على الغنيمة فقال تعالى:{أفمن اتبع} أي طلب بجد واجتهاد {رضوان الله} أي ذي الجلال والإكرام بالإقبال على ما أمر به الصادق، فصار إلى الجنة ونعم الصبر {كمن بآء} أي رجع من تصرفه الذي يريد به الربح، أو حل وأقام {بسخط من الله} أي من الملك الأعظم بأن فعل ما يقتضي السخط بالمخالفة ثم الإدبار لولا العفو {ومأواه جهنم} أي جزاء بما جعل أسباب السخط مأواه {وبئس المصير *} أي هي.
ولما أفهم الإنكار على من سوّى بين الناس أنهم متمايزون صرح بذلك في قوله: {هم درجات} أي متباينون تباين الدرجات. ولما كان اعتبار التفاوت ليس بما عند الخلق قال: {عند الله} أي الملك الأعلى في حكمه وعلمه وإن خفي ذلك عليكم، لأن الله سبحانه وتعالى خلقهم فهو عالم بهم حين خلقهم {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال {بصير} أي بالبصر والعلم {بما يعملون *} أي بعد إيجادهم، لأن ذلك أيضاً خلقه وتقديره، ولس لهم فيه إلا نسبته
إليهم بالكسب، فهو يجازيهم بحسب تلك الأعمال، فكيف يتخيل أنه يساوي بينهم في المآل وقد فاوت بينهم في الحال وهو الحكم العدل! فعلم بما في هذا الختام من إحاطته بتفاصيل الأعمال صحة ما ابتدىء به الكلام من التوفية.
ولما أرشدهم إلى هذه المراشد، وبين لهم بعض ما اشتملت عليه من الفوائد، وبان بهذه القصة قدر من أسدى إليهم ذلك على لسانه صلى الله عليه وسلم بما له من الفضائل التي من أعظمها كونه من جنسهم، يميل إليهم ويرحمهم ويعطف عليهم، فيألفونه فيعلمهم؛ نبه على ذلك سبحانه وتعالى ليستمسكوا بغرزه، ولا يلتفتوا لحظة عن لزوم هدية فقال سبحانه وتعالى مؤكداً لما اقتضاه الحال من فعل يلزم منه النسبة إلى الغلول -:{لقد من الله} أي ذو الجلال والإكرام {على المؤمنين} خصهم لأنهم المجتبون لهذه النعمة {إذا بعث فيهم} أي فيما بينهم أو بسببهم {رسولاً} وزادهم رغبة فيه بقوله: {من أنفسهم} أي نوعاً وصنفاً، يعلمون أمانته وصيانته وشرفه ومعاليه
وطهارته قبل النبوة وبعدها {يتلوا عليهم آياته} أي فيمحو ببركة نفس التلاوة كبيراً من شر الجان وغيرها مما ورد في منافع القرآن مما عرفناه، وما لم نعرفه أكثر {ويزكيهم} أي يطهرهم من أوضار الدنيا والأوزار بما يفهمه بفهمه الثاقب من دقائق الإشارات وبواطن العبارات، وقدم التزكية لاقتضاء مقام المعاتبة على الإقبال على الغنيمة ذلك، كما مضى في سورة البقرة {ويعلمهم الكتاب} أي تلاوة بكونه من نوعهم يلذ لهم التلقي منه {والحكمة} تفسيراً وإبانة وتحريراً {وإن} أي والحال أنهم {كانوا} ولما كانوا قد مرت لهم أزمان وهم على دين أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام نبه على ذلك بإدخال الجار فقال {من قبل} أي من قبل ذلك {لفي ضلال مبين *} أي ظاهر، وهو من شدة ظهوره كالذي ينادي على نفسه بإيضاح لبسه، وفي ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام علمهم من الحكمة في هذه الوقعة ما أوجب نصرتهم في أول النهار، فلما خالفوه حصل الخذلان.
ولما أزال شبهة النسبة إلى الغلول بحذافيرها. وأثبت ما له من أضدادها من معالي الشيم وشمائل الكرم صوب إلى شبهة قولهم: لو كان رسولاً ما انهزم أصحابه عنه،
فقال تعالى: {أولما} أي أتركتم ما أرشدكم إليه الرسول الكريم الحليم العليم الحكيم ولما {أصابتكم} أي في هذا اليوم {مصيبة} لمخالفتكم لأمره وإعراضكم عن إرشاده {قد أصبتم مثليها} أي في بدر وأنتم في لقاء العدو وكأنما تساقون إلى الموت على الضد مما كنتم فيه في هذه الغزوة، وما كان ذلك إلا بامتثالكم لأمره وقبولكم لنصحه {قلتم أنّى} من أين وكيف أصابنا {هذا} أي بعد وعدنا النصر {قل هو من عند أنفسكم} أي لأن الوعد كان مقيداً بالصبر والتقوى، وقد تركتم المركز وأقبلتم على الغنائم قبل الأمر به، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن ذلك باختيارهم الفداء يوم بدر الذي نزل فيه {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} [الأنفال: 68] وأباح لهم سبحانه وتعالى الفداء بعد أن عاتبهم وشرط عليهم إن اختاروه أن يقتل منهم في العام المقبل بعدّ الأسرى، فرضوا وقالوا: نستعين بما نأخذه منهم عليهم ثم نرزق الشهادة. ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الذي لا كفوء له {على كل شيء} أي من النصر والخذلان ونصب أسباب كل منهما {قدير *}
وقد وعدكم بذلك سبحانه وتعالى في العام الماضي حين خيركم فاخترتم الفداء، وخالف من خالف منكم الآن، فكان ذكر المصيبة التي كان سببها مخالفة ما رتبه صلى الله عليه وسلم بعد ختم الآية التي قبلها بالتذكير بما كانوا عليه من الضلال على ما ترى من البلاغة.
ولما كانت نسبة المصيبة إليهم ربما أوهمت من لم ترسخ قدمه في المعارف الإلهية أن بعض الأفعال خارج عما مراده تعالى قال: {وما أصابكم} ولما استغرقت الحرب ذلك اليوم نزع الجار فقال: {يوم التقى الجمعان} أي حزب الله وحزب الشيطان في أحد {فبإذن الله} أي بتمكين من له العظمة الكاملة وقضائه، وإثبات أن ذلك بإذنه نحو ما ذكر عند التولية يوم التقى الجمعان من نسبة الإحياء والإماتة إليه.
ولما كان التقدير: ليؤدبكم به، عطف عليه قوله:{وليعلم المؤمنين *} أي الصادقين في إيمانهم. ولما كان تعليق العلم بالشيء على حدته أتم وآكد من تعليقه به مع غيره أعاد العامل لذلك، وإشعاراً بأن أهل النفاق أسفل رتبة من أن اجتمعوا مع المؤمنين في شيء فقال:{ولعلم الذين نافقوا} أي علماً تقوم به الحجة في مجاري عاداتكم، وهذا مثل قوله هناك {وليبتلي الله ما في صدوركم} [آل عمران: 154] . وعطف
على قوله {نافقوا} ما أظهر نفاقهم، أو يكون حالاً من فاعل {نافقوا} فقال:{وقيل لهم تعالوا قاتلوا} أي أوجدوا القتال {في سبيل الله} أي الذي له الكمال كله بسبب تسهيل طريق الرب الذي شرعه {أو ادفعوا} أي عن أنفسكم وأحبائكم على عادة الناس لا سيما العرب {قالوا لو نعلم} أي نتيقن {قتالاً} أي أنه يقع قتال {لاتبعناكم} أي لكنه لا يقع فيما نظن قتال ورجعوا.
ولما كان هذا الفعل المسند إلى هذا القول ظاهراً في نفاقهم ترجمة بقوله: {هم للكفر يومئذ} أي يوم إذ كان هذا حالهم {أقرب منهم للإيمان} عند كل من سمع قولهم أو رأى فعلهم، ثم علل ذلك أو استأنف بقوله - معبراً بالأفواه التي منها ما هو أبعد من اللسان لكونهم منافقين، فقولهم إلى أصوات الحيوان أقرب منه إلى كلام الإنسان ذي العقل واللسان لأنهم -:{يقولون بأفواههم} ولما أفهم هذا أنه لا يجاوز ألسنتهم فلا حقيقة له ولا ثبات عندهم؛ صرح به في قوله {ما ليس في قلوبهم} بل لا شك عندهم في وقوع القتال، علم الله هذا منهم كما علموه من أنفسهم {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {أعلم} أي منهم {بما يكتمون *} أي كله لأنه يعلمه قبل كونه وهم لا يعلمونه إلا بعد كونه، وإذا كان نسوه بتطاول الزمان
والله سبحانه وتعالى لا ينساه.
ولما حكى عنهم ما لا يقوله ذو إيمان أتبعه ما لا يتخيله ذو مروة ولا عرفان فقال مبيناً للذين نافقوا: {الذين قالوا لإخوانهم} أي لأجل إخوانهم والحال أنهم قد أسلموهم {وقعدوا} أي عنهم خذلاناً لهم {لو أطاعونا} أي في الرجوع {ما قتلوا} ولما كان هذا موجباً للغضب أشار إليه بإعراضه في قوله: {قل} أي لهؤلاء الأجانب الذين هم بمنزلة الغيبة عن حضرتي لما تسبب عن قولهم هذا من ادعاء القدرة على دفع الموت {فادرءوا} أي ادفعوا بعز ومنعة وميّلوا {عن أنفسكم الموت} أي حتى لا يصل إليكم أصلاً {إن كنتم صادقين} أي في أن الموت يغني منه حذر. فقد انتظم الكلام بما قبل الجملة الواعظة أتم انتظام على أنه قد لاح لك أن ملائمة الجمل الواعظة لما قبلها وما بعدها ليس بدون ملاءمة ما قبلها من صلب القصة لما بعدها منه.
ولما أزاح سبحانه وتعالى العلل وشفى الغلل وختم بأنه لا مفر من القدر، فلم يبق عند أهل الإيمان إلا ما طبع عليه الإنسان من الأسف على فقد الإخوان، وكان سرور المفقود يبرد غلة الموجود بشرهم بحياتهم وما نالوه من لذاتهم؛ ولما كان العرب بعيدين قبل الإسلام
من اعتقاد الحياة بعد الموت خاطب الذي لا ريب في علمه بذلك إشارة إلى أنه لا يفهمه حق فهمه سواه، كما أشار إليه قوله في البقرة {ولكن لا تشعرون} [البقرة: 153] فقال تعالى عاطفاً على قل محبباً في الجهاد، إزالة لما بغضه به المنافقون من أنه سبب الموت:{ولا تحسبن الذين قتلوا} أي وقع لهم القتل في هذه الغزوة أو غيرها {في سبيل الله} أي الملك الأعظم، والله أعلم بمن يقتل في سبيله {أمواتاً} أي الآن {بل} هم {أحياء} وبين زيادة شرفهم معبراً عن تقربهم بقوله:{عند ربهم} أي المحسن إليهم في كل حال، فكيف في حال قتلهم فيه حياة ليست كالحياة الدنيوية! فحقق حياتهم بقوله {يرزقون *} أي رزقاً يليق بحياتهم {فرحين بما آتاهم الله} أي الحاوي لجميع الكمال من ذلك الفوز الكبير {من فضله} لأنه لو حاسبهم على أقل نعمة من نعمة لم توف جميع أعمالهم بها لأن أعمالهم من نعمه، فأعلمنا سبحانه وتعالى بهذا تسلية وحسن تعزية أن لم يفت منهم إلا حياة الكدر التي لا مطمع لأحد في بقائها وإن طال المدى، وبقيت لهم
حياة الصفاء التي لا انفكاك لها ولا آخر لنعيمها بغم يلحقهم ولا فتنة تنالهم ولا حزن يعتريهم ولا دهش يلم بهم في وقت الحشر ولا غيره، فلا غفلة لهم، فكان ذلك مذهباً لحزن من خلفوه ومرغباً لهم في الأسباب الموصلة إلى مثل حالهم، وهذا - والله سبحانه وتعالى أعلم - معنى الشهادة، أي أنهم ليست لهم حال غيبة، لأن دائم الحياة بلا كدر أصلاً كذلك.
ولما ذكر سرورهم بما نالوه ذكر سرورهم بما علموه لمن هو على دينهم فقال: {ويستبشرون} أي توجد لهم البشرى وجوداً عظيم الثبات حتى كأنهم يوجدونها كلما أرادوا {بالذين لم يلحقوا بهم} أي في الشهادة في هذه الغزوة. ثم بين ذلك بقوله: {من خلفهم} أي في الدنيا. ثم يبن المبشر به فقال: {ألاّ خوف عليهم} أي على إخوانهم في آخرتهم {ولا هم يحزنون *} أي أصلاً، لأنه لا يفقد منه شيء، بل هم كل لحظة في زيادة، وهذا أعظم البشرى لمن تركوا على مثل حالهم من المؤمنين، لأنهم يلحقونهم في مثل ذلك، لأن السبب واحد، وهو منحة الله لهم بالقتل فيه، أو مطلق الإيمان لمطلق ما هم فيه من السعادة بغير قيد الشهادة.
ولما ذكر سرورهم لأنفسهم تارة ولإخوانهم أخرى كرره تعظيماً له وإعلاماً بأنه في الحقيقة عن غير استحقاق. وإنما هو مجرد مَنّ فقال: {يستبشرون بنعمة من الله} أي ذي الجلال والإكرام، كبيرة
{وفضل} أي منه عظيم {وأن الله} أي الملك الأعظم الذي لا يقدره أحد حق قدره {لا يضيع أجر المؤمنين *} أي منهم ومن غيرهم، بل يوفيهم أجرهم على أعمالهم ويفضل عليهم، ولو شاء لحاسبهم على سبيل العدل، ولو فعل ذلك لم يكن لهم شيء.
ولما ذم المنافقين برجوعهم من غير أن يصيبهم قرح، ومدح أحوال الشهداء ترغيباً في الشهادة، وأحوال من كان على مثل حالهم ترغيباً في النسج على منوالهم، وختم بتعليق السعادة بوصف الإيمان، أخذ يذكر ما أثمر لهم إيمانهم من المبادرة إلى الإجابة إلى ما يهديهم إليه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لم يحمل على التخلف عن أمره من غير عذر إلا صريح النفاق فقال:{الذين استجابوا} أي أوجدوا الإجابة في الجهاد إيجاداً مؤكداً محققاً ثابتاً ما عندهم من خالص الإيمان {لله والرسول} أي لا لغرض مغنم ولا غيره، ثم عظم صدقهم بقوله - مثبتاً الجار لإرادة ما يأتي من إحدى الغزوتين إلا استغراق ما بعد الزمان -:{من بعد ما أصابهم القرح} .
ولما كان تعليق الأحكام بالأوصاف حاملاً على التحلي بها عند المدح قال سبحانه وتعالى: {للذين أحسنوا} وعبر بما يصلح للبيان
والبعض ليدوم رغبهم ورهبهم فقال: {منهم واتقوا أجر عظيم *} وهذه الآيات من تتمة هذه القصة سواء قلنا: إنها إشارة إلى غزوة حمراء الأسد، أو غزوة بدر الموعد، فإن الوعد كان يوم أحد - والله الهادي، ومما يجب التنبيه له أن البيضاوي قال تبعاً للزمخشري: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر الموعد في سبعين راكباً، وفي تفسير البغوي أن ذلك كان في حمراء الأسد، فإن حمل على أن الركبان من الجيش كان ذلك عددهم وأن الباقين كانوا مشاة فلعله، وإلا فليس كذلك، وأما في حمراء الأسد فإن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن المشركين هموا بعد انفصالهم من أحد بالرجوع، فأراد أن يرهبهم وأن يريهم من نفسه وأصحابه قوة، فنادى مناديه يوم الأحد - الغد من يوم أُحد - بطلب العدو وأن لا يخرج معه إلا من كان حاضراً معه بالأمس، فأجابوا بالسمع والطاعة، فخرج في أثرهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، ولا يشك في أنهم أجابوا كلهم، ولم يتخلف منهم أحد، وقد كانوا في أحد نحو سبعمائة ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج معه لأحد لم يشهد القتال يوم أحد، واستأذنه رجال لم يشهدوها فمنعهم إلا ما كان من جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
فإنه أذن له لعلة ذكرها في التخلف عن أحد محمودة.
قال الواقدي: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل من الأمس، فدفعه إلى علي رضي الله عنه، ويقال: إلى أبي بكر رضي الله عنه، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه مشجوج وهو مجروح، في وجهه أثر الحلقتين، ومشجوج في جبهته في أصول الشعر، ورباعيته قد سقطت، وشفته قد كلمت من باطنها وهو متوهن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة، وركبتاه مجحوشتان بأبي هو وأمي ووجهي وعيني! فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فركع ركعتين والناس قد حشدوا، ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، فدعا بفرسه على باب المسجد، وتلقاه طلحة رضي الله عنه وقد سمع المنادي فخرج ينظر متى يسير، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الدرع والمغفر وما يرى منه إلا عيناه فقال: يا طلحة سلاحك! قال: قلت: قريب، قال: فأخرج، أعدو فألبس درعي ولأنا أهم بجراح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مني بجراحي، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلحة فقال:«أين ترى القوم الآن؟ قال: هم بالسيالة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي ظننت! أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا!» ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى عسكر بحمراء الأسد، قال جابر رضي الله عنه: وكان عامة زادنا التمر، وحمل سعد بن عبادة رضي الله عنه ثلاثين بعيراً حتى وافت الحمراء، وساق جزوراً فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم في النهار بجمع الحطب، فإذا أمسوا أمر أن توقد النيران، فيوقد كل رجل ناراً، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نار حتى نرى من المكان البعيد، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجه حتى كان ما كبت الله به عدونا فهنا ظاهر في أنهم كانوا خمسمائة رجل - والله أعلم - ويؤيده ذلك ما نقل من أخبار المثقلين بالجراح - قال الواقدي: جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه والجراح في الناس فاشية، عامة بني عبد الأشهل جريح، بل كلهم رضي الله عنهم! فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يأمركم أن تطلبوا عدوكم، قال: يقول أسيد بن حضير رضي الله عنه وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها: سمعاً وطاعة لله ولرسوله! فأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء جراحه ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجاء سعد بن عبادة رضي الله عنه قومه بني ساعده فآمرهم بالمسير، فلبسوا ولحقوا، وجاء أبو قتادة رضي الله عنه أهل خربى وهم يداوون الجراح فقال: هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب العدو، فوثبوا إلى سلاحهم وما عرجوا على جراحاتهم رضي الله عنهم! فخرج من بني سلمة رضي الله عنهم أربعون جريحاً، وبالطفيل بن النعمان رضي الله عنه ثلاثة عشر جرحاً، وبقطبه بن عامر بن حديدة رضي الله عنه تسع جراحات حتى وافوا النبي صلى الله عليه وسلم ببئر أبي عتبة إلى رأس الثنية عليهم السلاح، قد صفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليهم والجراح فيهم فاشية قال:
«اللهم ارحم بني سلمة!» وحدث ابن إسحاق والواقدي أن عبد الله بن سهل ورافع بن سهل رضي الله عنهما كان بهما جراح كثيرة،
فلما بلغهما النداء قال أحدهما لصاحبه: والله إن تركنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لغَبنا والله ما عندنا دابة نركبها وما ندري كيف نصنع! قال عبد الله: انطلق بن، قال رافع: لا والله ما بي مشي! قال أخوه: انطلق بنا نتجارّ، فخرجا يزحفان فضعف رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبة ويمشي الآخر عقبة حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العشاء وهو يوقدون النيران، فأتى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر فقال:«ما حبسكما؟ فأخبراه بعلتهما، فدعا لهما بخير وقال: إن طالت بكم مدة كانت لكم مراكب من خيل وبغال وإبل، وليس ذلك بخير لكم» وأما غزوة بدر الموعد فروى الواقدي - ومن طريقه الحاكم في الإكليل - كما حكاه ابن سيد الناس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج في هذه الغزوة في ألف وخمسمائة من
أصحابه رضي الله عنهم، وكان الخيل عشرة قال الواقدي: وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أهل الموسم: يا محمد! لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعلمكم إلا أهل الموسم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليرفع ذلك إلى عدوه: ما أخرجنا إلا موعد أبي سفيان وقتال عدونا، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك العهد ثم جالدناكم قبل أن نبرح من منزلنا هذا، فقال الضمري: بل نكف أيدينا عنكم ونتمسك بحلفك» .
ولما كان قول نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس عند الصحابة رضي الله عنهم صدقاً لا شك فيه لما قام عندهم من القرائن، فكان بمنزلة المتواتر الذي تمالأ عليه الخلائق، وكانت قريش أعلى الناس شجاعة وأوفاهم قوة وأعرقهم أصالة فكانوا كأنهم جميع الناس، كان التعبير - بصيغة في قوله:{الذين قال لهم الناس} أي نعيم أو ركب عبد القيس {إن الناس} يعني قريشاً {قد جمعوا لكم فاخشوهم} أمدح للصحابة رضي الله عنهم من التعبير عمن أخبرهم ومن جمع لهم بخاص اسمه أو وصفه.
ولما كان الموجب لأقدامهم على اللقاء بعد هذا القول الذي لم يشكوا في صدقه ثبات الإيمان وقوة الإيقان قال تعالى: {فزادهم} أي هذا القول {إيماناً} لأنه ما ثناهم عن طاعة الله ورسوله {وقالوا} ازدراء بالخلائق اعتماداً على الخالق {حسبنا} أي كافينا {الله} أي الملك الأعلى في القيام بمصالحنا. ولما كان ذلك هو شأن الوكيل وكان في الوكلاء من يذم قال: {ونعم الوكيل *} أي الموكول إليه المفوض إليه جميع الأمور؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «هذه الكلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم. وقال: كان آخر كلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل» . ولما كان اعتمادهم على الله سبباً لفلاحهم قال {فانقلبوا} أي فكان ذلك سبباً لأنهم انقلبوا، أي من الوجه الذي ذهبوا فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم {بنعمة} وعظمها بإضافتها إلى الاسم الأعظم فقال:{من الله} أي الذي له الكمال كله {وفضل}
أي من الدنيا ما طاب لهم من طيب الثناء بصدق الوعد ومضاء العزم وعظيم الفناء والجرأة إلى ما نالوه. عند ربهم حال كونهم {لم يمسسهم سوء} أي من العدو خوفوه ولا غيره {واتبعوا} أي مع ذلك بطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغاية جهدهم {رضوان الله} أي الذي له الجلال والجمال فحازوا أعظم فضله {والله} أي الذي لا كفوء له {ذو عظيم *} أي في الدارين على من يرضيه، فستنظرون فوق ما تؤملون، فليبشر المجيب ويغتم ويحزن المتخلف، ولعظم الأمر كرر الاسم الأعظم كثيراً.
ولما جزاهم سبحانه على أمثال ذلك بما وقع لهم من فوزهم بالسلامة والغنيمة بفضل من حاز أوصاف الكمال وتنزه عن كل نقص بما له من رداء الكبرياء والجلال، ورغبهم فيما لديه لتوليهم إياه، أتبع ذلك بما يزيدهم بصيرة من أن المخوف لهم مَن كيده ضعيف وأمره هين خفيف واهٍ سخيف وهو الشيطان، وساق ذلك مساق التعليل لما قبله من حيازتهم للفضل وبعدهم عن السوء بأن وليهم الله وعدوهم
الشيطان فقال التفاتاً إليهم بزيادة في تنشيطهم أو تشجيعهم وتثبيتهم: {إنما ذلكم} أي القائل الذي تقدم أنه الناس {الشيطان} أي الطريد البعيد المحترق.
ولما نسب القول إلأيه لأنه الذي زينه لهم حتى أشربته القلوب وامتلأت به الصدور، كان كأنه قيل: فماذا عساه يصنع؟ فقال: {يخوف} أي يخوفكم {أولياءه} لكنه أسقط المفعول الأول إشارة إلى أن تخويفه يؤول إلى خوف أوليائه، لأنه أولياء الرحمن إذا ثبتوا لأجله أنجز لهم ما وعدهم من النصرة على أولياء الشيطان، وإلى أن من خاف من تخويفه وعمل بموجب خوفه ففيه ولاية له تصحح إضافته إليه قلت أو كثرت.
ولما كان المعنى أنه يشوش بالخوف من أوليائه، تسبب عنه النهي عن خوفهم فقال:{فلا تخافوهم} أي لأن وليهم الشيطان {وخافون} أي فلا تعصوا أمري ولا تتخلفوا أبداً عن رسولي {إن كنتم مؤمنين *} أي مباعدين لأولياء الشيطان بوصف الإيمان.
ولما مدح سبحانه وتعالى المسارعين في طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وختم ذلك بالنهي عن الخوف من أولياء الشيطان،
أعقبه بذم المسارعين في الكفر والنهي عن الحزن من أجلهم.
ولما كان أكثر الناس - كالمنافقين الراجعين عن أحد، ثم المقاتلين القائلين: هل لنا من الأمر من شيء - أرجفوا إلى أبي عامر وعبد الله بن أبيّ لأخذ الأمان من أبي سفيان، ثم ركب عبد القيس أو نعيم بن مسعود، ثم من استجاب من أهل المدينة وأرجف بما قالوا في ثبط المؤمنين، وكان ذلك مما يخطر بالبال تمادي أيام الكفر وأهله غالبِين، ويقدح في رجاء قصر مدته، ويوجب الحزن على ذلك، قال تعالى قاصراً الخطاب على أعظم الخلق وأشفقهم وأحبهم في صلاحهم {ولا يحزنك الذين يسارعون} أي يسرعون إسراع من يسابق خصماً {في الكفر} ثم علل ذلك بقوله:{إنهم لن يضروا الله} أي الذي له جميع العظمة {شيئاً} أي دينه بإذلال أنصاره والقائمين به، وحذف المضاف تفخيماً له وترغيباً فيه حيث جعله هو المضاف إليه.
ولما نفى ما خيف من أمرهم كان مظنة السؤال عن الحاكم لهم على المسارعة فقيل جواباً: {يريد الله} أي الذي له الأمر كله {ألاّ يجعل لهم حظاً} أي نصيباً {في الآخرة} ولما كانت المسارعة في ذلك عظيمة ختمت الآية بقوله: {ولهم عذاب عظيم *} قد عم
جميع ذواتهم، لأن المسارعة دلت على أن الكفر قد ملأ أبدانهم ونفوسهم وأرواحهم.
ولما كان قبول نعيم وركب عبد القيس لذلك الجعل الذي هو من أسباب الكفر شرى الكفر بالإيمان عقب بقوله: {إن الذين اشتروا الكفر} أي فأخذوه {بالإيمان} أي فتركوه، وأكد نفي الضرر وأبده فقال:{لن يضروا الله} أي الذي لا كفوء له {شيئاً} لما يريد سبحانه وتعالى من الإعلاء للإسلام وأهله، وختمها بقوله:{ولهم عذاب أليم *} لما نالوه من لذة العوض في ذلك الشرى كما هي العادة في كل متجدد من الأرباح والفوائد.
ولما كان مما اشترى به الكفر رجوع المنافقين عن أحد الذي كان سبباً للإملاء لهم قال سبحانه وتعالى: {ولا يحسبن الذين كفروا} أي بالله ورسوله {إنما نملي} أي أن إملاءنا أي إمهالنا وإطالتنا {لهم خير لأنفسهم} ولما نفى عنهم الخير بهذا النهي تشوفت النفس إلى ما لهم فقال: {إنما نملي لهم} أي استدراجاً {ليزدادوا إثماً} وهو جميع ما سبق العلم الأزلي بأنهم يفعلونه، فإذا بلغ النهاية أوجب
الأخذ. ولما كان الرجوع المسفر عن السلامة مظنة لعزهم في هذه الدار الفانية عند من ظن حسن ذلك الرأي؛ عوضوا عنه الإهانة الدائمة فقال سبحانه وتعالى: {ولهم عذاب مهين *} .
ولما كان مطلق المسارعة أعم مما بالعوض، وهو أعم مما بالرجوع، جاء نظم الآيات على ذاك؛ ولما كشفت هذه الوقعة جملة من المغيبات من أعظمها تمييز المخلص فعلاً أو قولاً من غيره، أخبر تعالى أن ذلك من أسرارها على وجه يشير إلى النعي على المنافقين بتأخيرهم أنفسهم بالرجوع وغيره فقال مشيراً بخطاب الأتباع إلى مزيد علمه صلى الله عليه وسلم وعلو درجته لديه وعظيم قربه منه سبحانه وتعالى:{ما كان الله} أي مع ما له من صفات الكمال.
ولما كان ترك التمييز غير محمود، عبر بفعل الوذر، وأظهر موضع الإضمار لإظهار شرف الوصف تعظيماً لأهله فقال:{ليذر المؤمنين} أي الثابتين في وصف الإيمان {على ما أنتم عليه} من الاختلاط بالمنافقين ومن قاربهم من الذين آمنوا على حال الإشكال
للاقتناع بدعوى اللسان دليلاً على الإيمان {حتى يميز الخبيث من الطيب} بأن يفضح المبطل وإن طال ستره بتكاليف شاقة وأحوال شيديدة، لا يصبر عليها إلا المخلص من العباد، المخلصون في الاعتقاد {وما كان الله} لاختصاصه بعلم الغيب {ليطلعكم على الغيب} أي وهو الذي لم يبرز إلى عالم الشهادة بوجه لتعلموا به الذي في قلوبهم مع احتمال أن يكون الرجوع للعلة التي ذكروها في الظاهر والقول لشدة الأسف على إخوانهم {ولكن الله} أي الذي له الأمر كله {يجتبي} أي يختار اختياراً بليغاً {من رسله من يشاء} أي فيخبر على ألسنتهم بما يريد من المغيبات كما أخبر أنهم برجوعهم للكفر أقرب منهم للإيمان، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ولما تسبب عن هذا وجوب الإيمان به قال:{فأمنوا بالله} أي في عالم الغيب والشهادة، له الأسماء الحسنى {ورسله} في أنه أرسلهم وفي أنهم صادقون في كل ما يخبرون به عنه.
ولما كان التقدير: فإنكم إن لم تؤمنوا كان لكم ما تقدم من العذاب العظيم الأليم المهين، عطف عليه قوله:{وإن تؤمنوا} أي بالله
ورسله {وتتقوا} أي بالمداومة على الإيمان وما يقتضيه من العمل الصالح {فلكم أجر عظيم *} أي منه أنه لا يضركم كيد أعدائكم شيئاً كما تقدم وعدكم به.
ولما كان من جملة مباني السورة الإنفاق، وتقدم في غير آية مدح المتقين به وحثهم عليه، وتقدم أن الكفار سارعوا في الكفر: أبو سفيان بالإنفاق في سبيل الشيطان على من يخذل الصحابة، ونعيم أو عبد القيس بالسعي في ذلك. وكان المبادرون إلى الجهاد قد تضمن فعلهم السماح بما آتاهم الله من الأنفس والأموال، وكان الله سبحانه وتعالى قد أخبر لما لهم عنده من الحياة التي هي خير من حياتهم التي أذهبوها في حبه، والرزق الذي هو أفضل مما أنفقوا في سبيله، ذم الله سبحانه وتعالى الباخلين بالأنفس والأموال في سبيل الله فقال راداً الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم لأنه أمكن لسروره وأوثق في إنجاز الوعد:{ولا تحسبن} أي أنت يا خير البرية - هذا على قراءة حمزة، وعند الباقين الفاعل الموصول في قوله:{الذين يبخلون} أي عن الحقوق الشرعية {بما آتاهم الله} أي بجلاله وعز كماله {من فضله} أي لا لاستحاقهم له ببخلهم {هو خيراً لهم} أي لتثمير المال بذلك
{بل هو} أي البخل {شر لهم} لأنهم مع جعل الله البخل مَتلفة لأموالهم {سيطوقون} أي يفعل من يأمره بذلك كائناً من كان بغاية السهولة عليه {ما يخلوا به} أي يجعل لهم بوعد صادق لا خلف فيه بعد الإملاء لهم طوقاً بأن يجعله شجاعاً أي حية عظيمة مهولة، تلزم الإنسان منهم، محيطة بعنقه، تضربه في جانبي وجهه {يوم القيامة} لأن الله سبحانه وتعالى يرثه منهم بعد أن كان خوّلهم فيه، فيجعله بسبب ذلك التخويل عذاباً عليهم، روى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع، له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - يقول: أنا مالك! أنا كنزك! - ثم تلا هذه الآية» . ولما كان هذا طلباً منهم للإنفاق، وكان الطالب منا محتاجاً إلى ما يطلبه، وكان ذو المال إذا علم أنه ذاهب وأن ماله موروث عنه تصرف فيه؛ أخبر تعالى بغناه على وجه يجرئهم على الإنفاق فقال عاطفاً على ما تقديره: لأنه ثمرة كونه من فضله فلله كل ما في أيديهم: {ولله} أي الذي له الكمال كله {ميراث السماوات والأرض} أي اللذين هذا مما فيهما، بأن يعيد سبحانه وتعالى جميع الأحياء وإن
أملى لهم، ويفنى سائر ما وهبهم من الأعراض، ويكون هو الوارث لذلك كله.
ولما كانت هذه الجمل في الإخبار عن المغيبات دنيا وأخرى، وكان البخل من الأفعال الباطنة التي يستطاع إخفاؤها ودعوى الاتصاف بضدها كان الختم بقوله:{والله} أي الملك الأعظم. ولما كان منصب النبي صلى الله عليه وسلم الشريف في غاية النزاهة صرف الخطاب إلى الأتباع في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو، وهو أبلغ في الوعيد من تركه على مقتضى السياق من الغيبة في قراءتهما، وقدم الجار إشارة إلى أن علمه بأعمالهم بالغ إلى حد لا تدرك عظمته لأن ذلك أبلغ في الوعيد الذي اقتضاه السياق:{بما تعملون خبير *} .
ولما كان العمل شاملاً لتصرفات الجوارح كلها من القلب واللسان وسائر الأركان قال - دالاًّ على خبره بسماع ما قالوه متجاوزين وهدة البخل إلى حضيض القبح مريدين التشكيك لأهل الإسلام بما يوردونه من الشبه قياساً على ما يعرفونه من أنفسهم من أنه - كما تقدم - لا يطلب إلا محتاج -: {لقد سمع الله} أي الذي له جميع الكمال {قول الذين قالوا} أي من اليهود {إن الله} أي الملك الأعظم {فقير}
أي لطلبه القرض {ونحن أغنياء} لكونه يطلب منا، وهذا رجوع منه سبحانه وتعالى إلى إتمام ما نبه عليه قبل هذه القصة من بغض أهل الكتاب لأهل هذا الدين وحسدهم لهم وإرادة تشكيكهم فيه للرجوع عنه على أسنى المناهج وأعلى الأساليب.
ولما تشوفت النفوس إلى جزائهم على هذه العظيمة، وكانت الملوك إذا علمت انتقاص أحدها وهي قادرة عاجلته لما عندها من نقص الأذى بالغيظ قال سبحانه وتعالى مهدداً لهم مشيراً إلى أنه على غير ذلك:{سنكتب} أي على عظمتنا لإقامة الحجة عليهم على ما يتعارفونه في الدنيا {ما قالوا} أي من هذا الكفر وأمثاله، والسين للتأكيد، ويجوز أن تكون على بابها من المهلة للحث على التوبة قبل ختم رتب الشهادة، وسيأتي في الزخرف له مزيد بيان.
ولما كان هذا اجتراء على الخالق أتبعه اجتراءهم على أشرف الخلائق فقال - مشيراً بإضافة المصدر إلى ضميرهم، وبجمع التكسير الدال على الكثير إلى أنهم أشد الناس تمرداً تمرناً على ارتكاب العظائم، وأن الاجتراء على أعظم أنواع الكفر قد صار لهم خلقاً -:{وقتلهم الأنبياء}
أي الذي أقمناهم فيهم لتجديد ما أوهوه من بنيان دينهم، ولما لم يكن في قتلهم شبهة أصلاً يقال:{بغير حق} فهو أعظم ذمّاً مما قبله من التعبير بالفعل المضارع في قوله {ويقتلون الأنبياء بغير حق} [آل عمران: 112] . ثم عطف على قوله {سنكتب} قوله: {ونقول} أي بما لنا من الجلال {ذوقوا} أي بما نمسكم به من المصائب في الدنيا والعقاب في الأخرى كما كنتم تذوقون الأطعمة التي كنتم تبخلون بها فلا تؤدون حقوقها {عذاب الحريق *} جزاء على ما أحرقتم به قلوب عبادنا، ثم بين السبب فيه بقوله:{ذلك} أي العذاب العظيم {بما قدمت أيديكم} أي من الكفر بقتلهم وبغيره {وأن} أي وبسبب أن {الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {ليس بظلام} أي بذي ظلم {للعبيد *} ولو لم يعذبكم لكان ترككم على صورة الظلم لمن عادوكم فيه واشتد أذاكم لهم.
ولما كان القربان من جنس النفقات ومما يتبين به سماح النفوس وشحها حسن نظم آية القربان هنا بقوله - رادّاً شبة لهم أخرى ومبيناً قتلهم الأنبياء: {الذين قالوا} تقاعداً عما يجب عليهم من المسارعة بالإيمان {إن الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {عهد إلينا} وقد كذبوا في ذلك {ألا نؤمن لرسول} أي كائن من كان
{حتى يأتينا بقربان} أي عظيم نقربه لله تعالى، فيكون متصفاً بأن {تأكله النار} عند تقريبه له وفي ذلك أعظم بيان لأنهم ما أرادوا - بقولهم {إن الله فقير} حيث طلب الصدقة - إلا التشكيك حيث كان التقرب إلى الله بالمال من دينهم لاذي يتقربون إلى الله به، بل وادعوا أنه لا يصح دين بغيره.
ولما افتروا هذا التشكيك أمر سبحانه بنقضه بقوله: {قل قد جاءكم رسل} فضلاً عن رسول. ولما كانت مدتهم لم تستغرق الزمان الماضي أثبت الجار فقال {من قبلي} كزكريا وابنه يحيى وعيسى عليه السلام {بالبينات} أي من المعجزات {وبالذي قلتم} أي من القربان فإن الغنائم لم تحل - كما في الصحيح - لأحد كان قبلنا، فلم تحل لعيسى عليه السلام فلم تكن مما نسخه من أحكام التوراة، وقد كانت تجمع فتنزل نار من السماء فتأكلها إلا إن وقع فيها غلول {فلم قتلتموهم} أي
قتَلَهم أسلافكم ورضيتم أنتم بذلك فشاركتموهم فيه {إن كنتم صادقين *} أي في أنكم تؤمنون لمن أتاكم على الوجه الذي ذكرتموه، وفي ذلك رد على الفريقين: اليهود المدعين أنهم قتلوه الزاعمين أنه عهد إليهم في الإيمان بمن أتاهم بذلك، والنصارى المسلمين لما ادعى اليهود من قتله المستلزم لكونه ليس بإله.
ولما كانت هذه السورة متضمنة لكثير من الدقائق التي أخفوها من كتابهم الذي جعلوه قراطيس، يبدونها ويخفون كثيراً، وفي هذه الآية بخصوصها من ذلك ما يقتضي تصديقه صلى الله عليه وسلم وكان سبحانه عالماً بأن أكثرهم يعاندون سبب عن ذلك أن سلاه في تكذيب المكذبين منهم بقوله:{فإن كذبوك} فكان كأنه قيل: هذا الذي أعلمتك به يوجب تصديقك، فإن لم يفعلوا بل كذبوا {فقد} ولما كان السياق لإثبات مبالغتهم في الغلظة والجفاء
والكفر وعدم الوفاء وكانت السورة سورة التوحيد، والرسل متفقون عليه، وقد أتى كل منهم فيه بأنهى البيان وأزال كل لبس أسقط تاء التأنيث لأنها ربما دلت على نوع ضعف فقال:{كذب رسل} ولما كانت تسلية الإنسان بمن قاربه في الزمان أشد أثبث الجار فقال {من قبلك} أي فلك فيهم مسلاة وبهم أسوة {جآءو بالبينات} أي من المعجزات {والزبر} أي من الصحف المضمنة للمواعظ والحكم الزواجر والرقائق التي يزبر العالم بها عن المساوي {والكتاب المنير} أي الجامع للأحكام وغيرها. الموضح لأنه الصراط المستقيم.
ولما تقدم في قصة أحد رجوع المنافقين وهزمية بعض المؤمنين مما كان سبب ظفر الكافرين، وعاب سبحانه ذلك عليهم بأنهم هربوا من موجبات السعادة والحياة الأبدية إلى ما لا بد منه، وإلى ذلك أشار بقوله:{قل لو كنتم في بيوتكم} [آل عمران: 154]{ولئن قتلتم في سبيل الله} [آل عمران: 157]{قل فادرءوا عن أنفسكم الموت} [آل عمران: 168]{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله} [آل عمران: 169] وغير ذلك مما
بكتهم به في رجوعهم حذر الموت وطلب امتداد العمر، مع ما افتتح به من أن موت هذا النبي الكريم وقتله ممكن كما كان من قبله من إخوانه من الرسل على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام! وختم بالإخبار بأنه وقع قتل كثير من الرسل، فكان ذلك محققاً لأنه لا يصان من الموت خاص ولا عام، مضموماً إلى ما نشاهد من ذلك في كل لحظة؛ صوَّر ذلك الموت بعد أن صار مستحضراً للعيان تصويراً أوجب التصريح به إشارة إلى أن حالهم في هربهم ورجوعهم وما تبع ذلك من قولهم حال من هو في شك منه فقال تعالى:{كل نفس} أي منفوسة من عيسى وغيره من أهل الجنة والنار {ذآئقة الموت} أي وهو المعنى الذي يبطل معه تصرف الروح في البدن وتكون هي باقية بعد موته لأن الذائق لا بد أن يكون حال ذوقه حيّاَ حساساً، ومن يجوز عليه ذوق الموت يجوز عليه ذوق النار، وهو عبد محتاج، فالعاقل من سعى في النجاة منها والإنجاء كما فعل الخلص الذين منهم عيسى ومحمد عليهما أفضل الصلاة وأزكى السلام، وكان نظمها بعد الآيات المقتضية لتوفية الأجور بالإثابة عليها وأنه ليس بظلام للعبيد شديد الحسن، وذلك مناسب أيضاً لختم الآية بالتصريح
لتوفية الأجور يوم الدين، وأن الزحزحة عن النار ودخول الجنة لهو الفوز، لا الشح في الدنيا بالنفس والمال الذي ربما كان سبباً لامتداد العمر وسعة المال بقوله:{وإنما توفون} أي تعطون {أجوركم} على التمام جزاء على ما عملتموه من خير وشر {يوم القيامة} وأما ما يكون قبل ذلك من نعيم القبر ونحوه فبعض لا وفاء {فمن زحزح} أي أبعد في ذلك اليوم إبعاداً عظيماً سريعاً {عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} أي بالحياة الدائمة والنعيم الباقي.
والمعنى أن كل نفس توفى ما عملت، فتوفى أنت أجرك على صبرك على أذاهم، وكذا من أطاعك، ويجازون هم على ما فرطوا في حقك فيقذفون في غمرة النار، وكان الحصر إشارة إلى تقبيح إقبالهم على الغنيمة وغيرها من التوسع العاجل، أي إنما مقتضى الدين الذي دخلتم فيه هذا، وذلك ترهيباً من الالتفات إلى تعجل شيء من الأجر في الدنيا - كما قال أبو بكر رضي الله عنه في أول إسلامه: وجدت بضاعة بنسيئة، ما وقعت على بضاعة قط أنفس منها، وهي لا إله إلا الله. فالحاصل أن «كل نفس» أي حذرة من الموت ومستسلمة {ذائقة الموت} أي فعلام الاحتراس منه بقعود عن الغزو أو هرب من العدو! {وإنما توفون أجوركم} أي يا أهل الإسلام التي وعدتموها على الأعمال الصالحة
{يوم القيامة} أي فما لكم تريدون تعجلها بإسراعكم إلى الغنائم أو غيرها مما يزيد في أعراض الدنيا فتكونوا ممن تعجل طيباته في الحياة الدنيا {فمن} أي فحيث علم أنه لا فوز في الدنيا إلا بما يقرب إلى الله سبحانه وتعالى تسبب عن ذلك أنه من {زحزح عن النار} أي بكونه وفي أجره ولم يتعجل طيباته {وأدخل الجنة} أي بما عمل من الصالحات فحاز الحياة الدائمة مع الطيبات الباقية {فقد فاز} أي كل الفوز، ولما صح أنه لا فوز إلا ذلك صح قوله:{وما الحياة الدنيا} أي التي أملي لهم فيها وأزيلت عن الشهداء {إلا متاع الغرور *} أي المتاع الذي يدلس الشيطان أمره على الناس حتى يغتروا به فيغبنوا بترك الباقي وأخذ الأشياء الزائلة بانقضاء لذاتها والندم على شهواتها بالخوف من تبعاتها.
وفي ذلك أيضاً مناسبة من وجه آخر، وهو أنه لما سلاه سبحانه وتعالى بالرسل - الذين لازموا الصبر والاجتهاد في الطاعة حتى ماتوا - وأممهم. وتركوا ما كان بأيديهم عاجزين عن المدافعة، ولم يبق إلا ملكه سبحانه وتعالى، وأن الفريقين ينتظرون الجزاء، فالرسل لتمام الفوز، والكفار لتمام الهلاك؛ أخبر أن كل نفس كذلك، ليجتهد الطائع ويقتصر العاصي، وفي ذلك تعريض بالمنافقين الذين رجعوا عن أحد خوف القتل وقالوا عن الشهداء:{لو أطاعونا ما قتلوا} أي إن الذي فررتم
منه لا بد منه، والحياة التي آثرتموها متاع يندم عليه من محضه للتمتع كما يندم المغرور بالمتاع الذي غر به، فالسعيد من سعى في أن يكون موته في رضى مولاه الذي لا محيص له عن الرجوع إليه والوقوف بين يديه.
ولما سلى الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم لما بما لقي إخوانه من الرسل وبأنه لا بد من الانقلاب إليه، فيفوز من كان من أهل حزبه، ويشقى من والى أعداءه وذوي حزبه؛ أعاد التسلية على وجه يشمل المؤمنين، وساقها مساق الإخبار بحلول المصائب الكبار التي هي من شعائر الأخيار في دار الأكدار المعلية لهم في دار القرار فقال - مؤكداً لأن الواقف في الخدمة ينكر أن يصيبه معبوده بسوء، هذا طبع البشر وإن تطبّع بخلافه، وأفاد ذكره قبل وقوعه تهوينه بتوطين النفس عليه، وأفاد بناؤه للمفعول أن المنكى البلاء لا كونه من جهة معينة -:{لتبلون} أي تعاملون معاملة المختبر لتبيين المؤمن من المنافق {في أموالكم} أي بأنواع الإنفاق {وأنفسكم} أي بالإصابة في الجهاد وغيره، فكما نالكم ما نالكم من الأذى بإذني ليلحقنكم بعده من الأذى ما أمضيت به سنتي في خلص عبادي وذوي محبتي، وكان إيلاء ذلك للآية التي فيها الإشارة إلى أن توفية الأجور للأعمال الصالحة مما ينيل
الفوز مناسباً من حيث الترغيب في كل ما يكون سبباً لذلك من الصبر على ما يبتلي به سبحانه وتعالى من كل ما يأمر به من التكاليف، أو يأذن فيه من المصائب، وقدم المال لأنه - كما قيل - عديل الروح، وربما هان على الإنسان الموت دون الفقر المؤدي إلى الذل بالشماتة والعار بما تقصر عنه يده بفقده من أفعال المكارم، وما أحسن ذكر هذه الآية إثر قصة أحد التي وقع فيها القتل بسبب الإقبال على المال، وكان ذكرها تعليلاً لبغضة أهل الكتاب وغيرهم من الكفار.
ولما كان يومها يوم بلاء وتمحيص، وكان ربما أطمع في العافية بعده، فتوطنت النفس على ذلك فاشتد انزعاجها بما يأتي من أمثاله، وليس ذلك من أخلاق المشمرين أراد سبحانه وتعالى توطين النفوس على ما طبعت عليه الدار من الأثقال والآصار، فأخبر أن البلاء لم ينقص به، بل لا بد بعده من بلايا وسماع أذى من سائر الكفار، ورغب في شعار المتقين: الصبر الذي قدمه في أول السورة ثم قبل قصة أحد، وبناها عليه معلماً أنه مما يستحق أن يعزم عليه ولا يتردد فيه فقال:{ولتسمعن} أي بعد هذا اليوم {من الذين} ولما كان المراد تسوية العالم بالجاهل في الذم نزه المعلم عن الذكر فبنى للمفعول
قوله: {أوتوا الكتاب} ولما كان إيتاؤهم له لم يستغرق الزمن الماضي أدخل الجار فقال: {من قبلكم} أي من اليهود والنصارى {ومن الذين أشركوا} أي من الأميين {أذى كثيراً} أي من الطعن في الدين وغيره بسبب هذه الوقعة أو غيرها {وإن تصبروا} أي تتخلقوا بالصبر على ذلك وغيره {وتتقوا} أي وتجعلوا بينكم وبين ما يسخط الله سبحانه وتعالى وقاية بأن تغضوا عن كثير من أجوبتهم اعتماداً على ردهم بالسيوف وإنزال الحتوف {فإن ذلك} أي الأمر العالي الرتبة {من عزم الأمور *} أي الأشياء التي هي أهل لأن يعزم على فعلها، ولا يتردد فيه، ولا يعوق عنه عائق، فقد ختمت قصة أحد بمثل ما سبقت دليلاً عليه من قوله:
{قد بدت البغضاء من أفواههم} [آل عمران: 118] إلى أن ختم بقوله: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} [آل عمران: 120] ما أخبر به هنا بأنه من عزم الأمور.
ولما قدم سبحانه وتعالى في أوائل قصص اليهود أنه أخذ على النبيين الميثاق بما أخذ، وأخبرهم أنه من تولى بعد ذلك فهو الفاسق، ثم أخبر بقوله:{قد جائكم رسل من قبلي} [آل عمران: 183]{فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك} [آل عمران: 184] أن النبيين وفوا بالعهد، وأن كثيراً من أتباعهم خان؛ ثنى هنا بالتذكير بذلك العهد على وجه يشمل العلماء بعد الإخبار بسماع الأذى المتضمن لنقضهم للعهد، فكان التذكير بهذا الميثاق كالدليل على
مضمون الآية التي قبلها، وكأنه قيل: فاذكروا قولي لكم {لتبلون} واجعلوه نصب أعينكم لتوطنوا أنفسكم عليه، فلا يشتد جزعكم بحلول ما يحل منه {و} اذكروا {إذ أخذ الله} الذي لا عظيم إلا هو {ميثاق الذين} .
ولما كانت الخيانة من العالم أشنع، وكان ذكر العلم دون تعيين المعلم كافياً في ذلك بنى للمجهول قوله:{أوتوا الكتاب} أي في البيان، فخافوا فما آذوا إلا أنفسهم، وإذا آذوا أنفسهم بخيانة عهد الله سبحانه وتعالى كانوا في أذاكم اشد وإليه أسرع، أو يكون التقدير: واذكروا ما أخبرتكم به عند ما أنزله بكم، واصبروا لتفوزوا، واذكروا إذ اخذ الله ميثاق من قبلكم فضيعوه كيلا تفعلوا فعلهم، فيحل بكم ما حل بهم من الذل والصغار في الدنيا مع ما يدخر في الآخرة من عذاب النار.
هذا ما كان ظهر لي أولاً، ثم بان أن الذي لا معدل عنه أنه لما انقضت قصة أحد وما تبعها إلى أن ختمت بعد الوعظ بتحتم الموت الذي فر من فر منهم منه وخوّف الباقين أمره بمثل ما تقدم أن جعلها
دليلاً عليه من بغض أهل الكتاب وما تبعه؛ عطف على «إذا» المقدرة لعطف {وإذا غدوت} [آل عمران: 121] عليها - قوله: {وإذا أخذ الله} أي اذكروا ذلك يدلكم على عداوتهم، واذكروا ما صح عندكم من إخبار الله تعالى المشاهد بإخبار من أسلم من الأحبار والقسيسين أن الله أخذ {ميثاق الذين أوتوا الكتاب} أي من اليهود والنصارى بما أكد في كتبه وعلى ألسنة رسله:{ليبيننه} أي الكتاب {للناس ولا يكتمونه} أي نصيحة منهم لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المؤمنين وعامتهم ليؤمنوا بالنبي المبشر به {فنبذوه} أي الميثاق بنبذ الكتاب {ورآء ظهورهم} حسداً لكم وبغضاً، وهو تمثيل لتركهم العمل به، لأن من ترك شيئاً وراءه نسيه {واشتروا به} ولما كان الثمن الذي اشتروه خسارة لا ربح فيه أصلاً على العكس مما بذلوه على أنه ثمن، وكان الثمن إذا نض زالت مظنة الربح منه عبر عنه بقوله:{ثمناً} وزاد في بيان سفههم بقوله: {قليلاً} أي بالاستكثار من المال والاستئمار للرئاسة، قكتموا ما عندهم من العلم بهذا النبي الكريم {فبئس ما يشترون *} أي لأنه مع فنائه أورثهم العار الدائم والنار
الباقية، وعبر عن هذا الأخذ بالشراء إعلاماً بلجاجهم فيه، ونبه بصيغة الافتعال على مبالغتهم في اللجاج.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأنهم احتووا على المال والجاه بما كتموا من العلم وأظهروا من خلافه المتضمن لمحبة أهل دينهم فيهم وثنائهم عليهم بأنهم على الدين الصحيح وأنهم أهل العلم، فهم أهل الاقتداء بهم؛ قال سبحانه وتعالى مخبراً عن مآلهم تحذيراً من مثل حالهم على وجه يعم كل امرىء:{لا تحسبن} على قراءة الجماعة بالغيب {الذين يفرحون بما آتوا} أي مما يخالف ظاهره باطنه. وتوصلوا به إلى الأغراض الدنيوية من الأموال والرئاسة وغير ذلك، أي لا يحسبن أنفسهم، وفي قراءة الكوفيين ويعقوب بالخطاب المعنى: لا تحسبنهم أيها الناظر لمكرهم ورواجهم بسببه في الدنيا واصلين إلى خير {ويحبون أن يحمدوا} أي ويجد الثناء بالوصف الجميل عليهم {بما لم يفعلوا} أي بذلك الباطن الذي لم يفعلوه، قال ابن هشام في السيرة: أن يقول الناس: علماء، وليسوا بأهل علم، لم يتحملوهم على هدى ولا حق.
ولما تسبب عن ذلك العلمُ بهلاكهم قال: {فلا تحسبنهم} أي تحسبن أنفسهم، على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيب وضم الباء
وعلى قراءة الجماعة المعنى: لا تحسبنهم أيها الناظر {بمفازة من العذاب} بل هم بمهلكة منه {ولهم عذاب أليم *} .
ولما أخبر بهلاكهم دل عليه بحال من فاعل «يحسب» فقال تعالى: {ولله} أي الذي له جميع صفات الكمال وحده {ملك السماوات والأرض} أي لا يقع في فكرهم ذلك والحال أن ملكه محيط بهم، وله جميع ما يمكنهم الانحياز إليه، وله ما لا تبلغه قُدَرُهم من ملك الخافقين فهو بكل شيء محيط {والله} أي الذي له جميع العظمة {على كل شيء قدير *} وهو شامل القدرة، فمن كان في ملكه كان في قبضته، ومن كان في قبضته كان عاجزاً عن التفصي عما يريد به، لأنه الحي القيوم الذي لا إله إلا هو - كما افتتح به السورة.
ولما ذكر هذا الملك العظيم وختم بشمول القدرة دل على ذلك بالتنبيه على التفكر فيه الموجب للتوحيد الذي هو المقصد الأعظم من هذه السورة الداعي إلى الإيمان الموجب للمفازة من العذاب، لأن المقصود الأعظم من إنزال القرآن تنوير القلوب بالمعرفة، وذلك لا يكون إلا بغاية التسليم، وذلك هو اتباع الملة الحنيفية، وهو متوقف على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فبدأ سبحانه وتعالى السورة بدلائل صدقه بإعجاز القرآن بكشفه - مع الإعجاز بنظمه على لسان النبي الأمي -
للشبهات وبيانه للخفيات، وأظهر مكابرة أهل الكتاب، وفضحهم أتم فضيحة، فلما تم ذلك على أحسن وجه منظماً ببدائع الحكم من الترغيب والترهيب شرع في بث أنوار المعرفة بنصب دلائلها القريبة وكشف أستارها العجيبة فقال:{إن في خلق السماوات والأرض} أي على كبرهما وما فيهما من المنافع، ونبه على التغير الدال على المغير بقوله:{واختلاف الليل والنهار} أي اختلافاً هو - كما ترون - على غاية الإحكام بكونه على منهاج قويم وسير لا يكون إلا بتقدير العزيز العليم {لآيات} أي على جميع ما جاءت به الرسل عن الخالق، وزاد الحث على التفكر والتهييج إليه والإلهاب من أجله بقوله:{لأولي الألباب *} وذكر سبحانه وتعالى في أخت هذه الآية في سورة البقرة ثمانية أنواع من الأدلة واقتصر هنا على ثلاثة، لأن السالك يفتقر في ابتداء السلوك إلى كثرة الأدلة. فإذا استنار قلت حاجته إلى ذلك، وكان الإكثار من الأدلة كالحجاب الشاغل له عن استغراق القلب في لجج المعرفة، واقتصر هنا من آثار الخلق على السماوية لأناه أقهر وأبهر والعجائب فيها أكثر، وانتقال القلب منها إلى عظمته سبحانه وتعالى وكبريائه أشد وأسرع، وختم تلك بما هو لأول السلوك: العقل، وختم هذه بلبه لأنها لمن تخلص من وساوس الشيطان وشوائب هواجس الوهم المانعة من الوصول إلى حق اليقين بل علم اليقين.
ولما كان كل مميز يدعي أنه في الذروة من الرشاد نعتهم بما بين من يعتد بعقله فقال: {الذين يذكرون الله} أي الذي ليس في خلقه لهما ولا لغيرهما شك، وله جميع أوصاف الكمال.
ولما كان المقصود الدوام وكان قد يتجوز به عن الأكثر، عبر عنه لهذا التفصيل نفياً لاحتمال التجوز ودفعاً لدعوى العذر فقال:{قياماً وقعوداً} ولما كان أكثر الاضطجاع على الجنب قال: {وعلى جنوبهم} أي في اشتغالهم بأشغالهم وفي وقت استراحتهم وعند منامهم، فهم في غاية المراقبة.
ولما بدأ من أوصافهم بما يجلو أصداء القلوب ويسكنها وينفي عنها الوساوس حتى استعدت لتجليات الحق وقبول الفيض بالفكر لانتفاء قوة الشهوة وسورة الغضب وقهرهما وضعف داعية الهوى، فزالت نزغات الشيطان ووساوسه وخطرات النفس ومغالطات الوهم قال:{ويتفكرون} أي على الأحوال.
ولما كانت آيات المعرفة إما في الآفاق وإما في الأنفس، وكانت آيات الآفاق أعظم {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57] . قال: {في خلق السماوات والأرض} على كبرهما واتساعهما وقوة ما فيهما من النافع لحصر الخلائق فيعلمون - بما في ذلك من الأحكام
مع جري ما فيهما من الحيوان الذي خلقا لأجله على غير انتظام - أن وراء هذه الدار داراً يثبت فيها الحق وينفى الباطل ويظهر العدل ويضمحل الجور، فيقولون تضرعاً إليه وإقبالاً عليه:{ربنا} أي أيها المحسن إلينا {ما خلقت هذا} أي الخلق العظيم المحكم {باطلاً} أي لأجل هذه الدار التي لا تفصل فيها على ما شرعت القضايا، ولا تنصف فيها الرعاة الرعايا، بل إنما خلقته لأجل دار أخرى، يكون فيها محض العدل، ويظهر فيها الفصل.
ولما كان الاقتصار على هذه الدار مع ما يشاهده من ظهور الأشرار نقصاً ظاهراً وخللاً بيناً نزهوه عنه فقالوا: {سبحانك} وفي ذلك تعليم العباد أدب الدعاء بتقديم الثناء قبله، وتنبيه على أن العبد كلما غزرت معرفتة زاد خوفه فزاد تضرعه، فإنه يحسن منه كل شيء من تعذيب الطائع وغيره، ولولا أن ذلك كذلك لكان الدعاء بدفعه عبثاً، وما أحسن ختمها حين تسبب عما مضي تيقنهم أن أمامنا داراً يظهر فيها العدل مما هو شأن كل أحد في عبيده، فيعذب فيها العاصي وينعم فيها الطائع، كما هو دأب كل ملك في رعيته بقولهم
رغبة في الخلاص في تلك الدار: {فقنا عذاب النار *} على وجه جمع بين ذكر العذاب المختتم به آية محبّي المحمدة بالباطل، والنار المحذر منها في {فمن زحزح عن النار} [آل عمران: 185] ثم تعقبها بقولهم معظمين ما سألوا دفعه من العذاب ليكون موضع السؤال أعظم، فيدل على أن الداعية في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه أتم، مكررين الوصف المقتضي للإحسان مبالغة في إظهار الرغبة استمطاراً للإجابة:{ربنآ} وأكدوا مع علمهم بإحاطة علم المخاطب إعلاماًَ بأن حالهم في تقصيرهم حال من أمن النار حثاً لأنفسهم على الاجتهاد في العمل فقالوا: {إنك من تدخل النار} أي للعذاب {فقد أخزيته} أي أذللته وأهنته إهانة عظيمة بكونه ظالماً.
وختمها بقوله: {وما للظالمين من أنصار *} الحاسم لطمع من يظن منهم أنه بمفازة من العذاب، وأظهر موضع الإضمار لتعليق الحكم بالوصف والتعميم.
ولما ابتهلوا بهاتين الآيتين في الإنجاء عن النار توسلوا بذكر مسارعتهم إلى إجابة الداعي بقولهم {ربنآ} ولما كانت حالهم - لمعرفتهم بأنهم لا ينفكون عن تقصير وإن بالغوا في الاجتهاد، لأنه لا يستطيع أحد أن يقدر الله حق قدره - شبيهة بحال من لم يؤمن؛ اقتضى
المقام التأكيد إشارة إلى هضم أنفسهم بالاعتراف بذنوبهم فقالوا مع علمهم بأن المخاطب عالم بكل شيء: {إننا} فأظهروا النون إبلاغاً في التأكيد {سمعنا منادياً} أي من قبلك، وزاد في تفخيمه بذكر ما منه النداء مقيداً بعد الإطلاق بقوله:{ينادي} قال محمد بن كعب القرظي: هو القرآن، ليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت اللام تصلح للتعليل ومعنى «إلى» عبر بها فقيل: {للإيمان} ثم فسروه تفخيماً له بقولهم: {أن آمنوا بربكم} ثم أخبر بمسارعتهم إلى الإجابة بقولهم: {فآمنا} أي عقب السماع. ثم أزالوا ما ربما يظن من ميلهم إلى ربوة الإعجاب بقولهم تصريحاً بما أفهمه التأكيد لمن علمه محيط: {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا} أي التي أسلفناها قبل الإيمان بأن تقبل منا الإيمان فلا تزيغ قلوبنا، فيكون جابّاً لما قبله عندك كما كان جابّاً له في ظاهر الشرع، وكذا ما فرط منا بعد الإيمان ولو كان بغير توبة، وإليه الإشارة بقولهم:{وكفر عنا سيآتنا} أي بأن توفقنا بعد تشريفك لنا بالإيمان لاجتناب الكبائر بفعل الطاعات المكفرة للصغائر {وتوفنا مع الأبرار *} أي ليس لنا سيئات.
ولما كان الله سبحانه وتعالى هو المالك التام الملك، فهو ذو التصرف المطلق الذي لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء؛ أشار إلى ذلك بقوله ملقناً لهم مكرراً صفة الإحسان تنبيهاً على مزيد الابتهال والتضرع
والتخضع والتخشع: {ربنا وآتنا ما وعدتنا} ثم أشار إلى صدق هذا الوعد بحرف الاستعلاء الدال على الالتزام والوجوب فقال: {على رسلك} أي من إظهار الدين والنصر على الأعداء وحسن العاقبة وإيراث الجنة في مثل قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات} [البقرة: 25] وفي الدعاء بذلك إشارة إلى أنه لا يجب على الله سبحانه وتعالى شيء ولو تقدم به وعده الصادق وإن كنا نعتقد أنه لا يبدل القوة لديه {ولا تخزنا يوم القيامة} أي بالمؤاخذة بالسيئاتن ثم أرشدهم إلى الإلهاب والتهييج مع التنبيه على ما نبه عليه أولاً من أنه لا يجب عليه شيء بقوله باسطاً لهم بلذة المنادمة بالمخاطبة: {إنك لا تخلف الميعاد} .
ولما تسبب عن هذا الدعاء الإجابة لتكمل شروطه وهي استحضار عظمته تعالى بعد معرفته بالدليل وإدامة ذكره والتفكر في بدائع صنعه وافتتاحه بالثناء عليه سبحانه وتنزيهه والإخلاص في سؤاله قال: {فاستجاب} أي فأوجد الإجابة حتماً {لهم} قال الأصفهاني: وعن جعفر الصادق: من حزبه أمر فقال خمس مرات «ربنا» أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد - وقرأ هذه الآية. وأشار إلى أنها من
منّه وفضله بقوله: {ربهم} أي المحسن إليهم المتفضل عليهم {إني لا أضيع عمل عامل منكم} كائناً من كان {من ذكر أو أنثى} وقوله معللاً: {بعضكم من بعض} التفات إلى قوله سبحانه {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} [آل عمران: 59] الناظر إلى قوله {ذرية بعضها من بعض} [آل عمران: 34] المفتتح بأن الله سبحانه وتعالى {اصطفى آدم ونوحاً} [آل عمران: 33] المنادي بأن البشر كلهم في العبودية للواحد - الذي ليس كمثله شيء الحي القيوم - سواء من غير تفاوت في ذلك أصلاً، والمراد أنهم إذا كانوا مثلهم في النسب فهم مثلهم في الأجر على العمل.
ولما أقر أعينهم بألإجابة، وكان قد تقدم ذكر الأنصار عموماً في قوله:{ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم - وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} [آل عمران: 170-171] خص المهاجرين بياناً لفضلهم وزيادة شرفهم بتحقيقهم لكونهم معه، لم يأنسوا بغيره ولم يركنوا لسواه من أهل ولا مال بقوله مسبباً عن الوعد المذكور ومفصلاً ومعظماً ومبجلاً:{فالذين هاجروا} أي صدقوا إيمانهم بمفارقة أحب الناس غليهم في الدين المؤدي إلى المقاطعة وأعز البلاد عليهم.
ولما كان للوطن من القلب منزل ليس لغيره نبه عليه بقوله: {وأخرجوا من ديارهم} أي وهي آثر المواطن عندهم بعد أن
باعدوا أهلهم وهم أقرب الخلائق إليهم، ولما كان الأذى مكروهاً لنفسه لا بالنسبة إلى معين بنى للمفعول قوله:{وأوذوا} أي بغير ذلك من أنواع الأذى {في سبيلي} أي بسبب ديني الذي نهجته ليسلك إليّ فيه، وحكمت أنه لا وصول إلى رضائي بدونه {وقاتلوا} أي في سبيلي.
ولما كان القتل نفسه هو المكروه، لا بالنسبة إلى معين؛ كان المدح على اقتحام موجباته، فبنى للمفعول قوله:{وقتلوا} أي فيه فخرجوا بذلك عن مساكن أرواحهم بعد النزوح عن منازل أشباحهم، وقراءة حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول أبلغ معنى، لأنها أشد ترغيباً في الإقدام على الأخصام، لأن من استقتل أقدم على الغمرات إقدام الأسد فقتل أخص منه ولم يقف أحد أمامه، فكأنه قيل: وأرادوا القتل، هذا بالنظر إلى الإنسان نفسه، ويجوز أن يكون الخطاب للمجموع فيكون المعنى: وقاتلوا بعد أن رأوا كثيراً من أصحابهم قد قتل {لأكفرن عنهم سيئاتهم} كما تقدم سؤالهم إياي في ذلك علماً منهم بأن أحداً لن يقدر على أن يقدر الله حق قدره
وإن اجتهد {ولأدخلنهم} أي بفضلي {جنات تجري من تحتها الأنهار} كما سبق به الوعد {ثواباً} وهو وإن كان على أعمالهم فهو فضل منه، وعظمه بقوله:{من عند الله} أي المنعوت بالأسماء الحسنى التي منها الكرم والرحمة لأن أعمالهم لا توازي أقل نعمه {والله} أي الذي له الجلال والإكرام، ونبه على عظمة المحدث عنه بالعندية فقال:{عنده} أي في خزائن ملكوته التي هي في غاية العظمة {حسن الثواب *} أي وهو ما لا شائبة كدر فيه، لأنه شامل القدرة بخلاف غيره.
ولما كانت هذه المواعدة آجلة، وكان نظرهم إلى ما فيه الكفار من عاجل السعة ربما أثر في بعض النفوس أثراً يقدح في الإيمان بالغيب الذي هو شرط قبول الإيمان؛ داواه سبحانه بأن تلا تبشير المجاهدين بإنذار الكفار المنافقين والمصارحين الذين أملى لهم بخذلانهم المؤمنين بالرجوع عن قتال أحد وغيره من أسباب الإملاء على وجه يصدق ما تقدم أول السورة من الوعد بأنهم سيغلبون، وأن أموالهم إنما هي صورة، لا حقائق لها، عطفاً لآخرها على أولها، وتأكيداً لاستجابة دعاء أوليائه آخر التي قبلها بقوله مخاطباً لأشرف عباده، والمراد من
يمكن ذلك عادة فيه، لأن خطاب الرئيس أمكن في خطاب الأتباع - {لا يغرنك تقلب} أي لا تغترر بتصرف {الذين كفروا} تصرف من يقلب الأمور بالنظر في عواقبها لسلامتهم في تصرفهم وفوائدهم وجودة ما يقصدونه في الظاهر كجودة القلب في البدن {في البلاد *} فإن تقلبهم {متاع قليل} أي لا يعبأ به ذو همة علية، وعبر بأداة التراخي إشارة إلى أن تمتيعهم - وإن فرض أنه طال زمانه وعلا شأنه - تافه لزواله ثم عاقبته، وإلى هول تلك العاقبة وتناهي عظمتها، فقال:{ثم مأواهم} أي بعد التراخي إن قدر {جهنم} أي الكريهة المنظر الشديدة الأهوال، العظيمة الأوجال، لا مهاد لهم غيرها {وبئس المهاد *} أي الفراش الذي يوطأ ويسهل للراحة والهدوء.
ولما بين بآية المهاجرين أن النافع من الإيمان هو الموجب للثبات عند الامتحان. وكانت تلك الشروط قد لا توجد، ذكر وصف التقوى العام للأفراد الموجب للإسعاد، فعقب تهديد الكافرين بما لأضدادهم المتقين الفائزين بما تقدم الدعاء إليه بقوله تعالى:{قل أأنبئكم بخير من ذلكم} [آل عمران: 15] فقال تعالى: {لكن الذين اتقوا ربهم} أي أوقعوا الاتصاف بالتقوى بالائتمار بما أمرهم به المحسن إليهم والانتهاء عما نهاهم شكراً
لإحسانه وخوفاً من عظم شأنه {لهم جنات} وإلى جنات، ثم وصفها بقوله:{تجري من تحتها الأنهار} تعريفاً بدوام تنوعها وزهرتها وعظيم بهجتها.
ولما وصفها بضد ما عليه النار وصف تقلبهم فيها بضد ما عليه الكفار من كونهم في ضيافة الكريم الغفار فقال: {خالدين فيها} ولما كان النزل ما يعد للضيف عند نزوله قال معظماً ما لمن يرضيه: {نزلا} ولما كان الشيء يشرف بشرف من هو من عنده نبه على عظمته بقوله: {من عند الله} مضيفاً إلى الاسم الأعظم، وأشار بجعل الجنات كلها نزلاً إلى التعريف بعظيم ما لهم بعد ذلك عنده سبحانه من النعيم الذي لا يمكن الآدميين وجه الاطلاع على حقيقة وصفه، ولهذا قال معظماً - لأنه لو أضمر لظن الاختصاص بالنزل - {وما عند الله} أي الملك الأعظم من النزل وغيره {خير للأبرار *} مما فيه الكفار ومن كل ما يمكن أن يخطر بالبال من النعيم.
ولما كان للمؤمنين من أهل الكتابين - مع التشرف بما كانوا عليه من الدين الذي أصله حق - حظٌّ من الهجرة، فكانوا قسماً ثانياً من المهاجرين، وكان إنزال كثير من هذه السورة في مقاولة أهل الكتاب ومجادلتهم والتحذير من مخاتلتهم ومخادعتهم والإخبار - بأنهم
يبغضون المؤمنين مع محبتهم لهم، وأنهم لا يؤمنون بكتابهم، وأنهم سيسمعون منهم أذى كثيراً إلى أن وقع الختم في أوصافهم بأنهم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً - ربما أيأس من إيمانهم؛ أتبع ذلك مدح مؤمنيهم وغير الأسلوب عن أن يقال مثلاً: والذين آمنوا من أهل الكتاب - إطماعاً في موالاتهم بعد التدريب بالتحذير منهم على مناواتهم وملاواتهم فقال: {وإن من أهل الكتاب} أي اليهود والنصارى {لمن يؤمن بالله} أي الذي حاز صفات الكمال، وأشار إلى الشرط المصحح لهذا الإيمان بقوله:{وما أنزل إليكم} أي من هذا القرآن {وما أنزل إليهم} أي كله، فيذعن ملا يأمر منه باتباع هذا النبي العربي، وإليه الإشارة بقوله جامعاً للنظر إلى معنى من تعظيماً لوصف الخشوع بالنسبة إلى مطلق الإيمان:{خاشعين لله} أي لأنه الملك الذي لا كفوء له، غير مستنكفين عن نزل المألوف {لا يشترون بآيات الله} أي التي متى تأملوها علموا أنه لا يقدر عليها إلا من أحاط بالجلال والجمال، الآمرة لهم بذلك {ثمناً قليلاً} بما هم عليه من الرئاسة ونفوذ الكلمة - كما تقدم قريباً في وصف معظمهم، فهم يبينونها ويرشدون إليها ولا يحرفونها.
ولما أخبر تعالى عن حسن ترحمهم إليه أخبر عن جزائهم عنده بما يسر النفوس ويبعث الهمم فقال: {أولئك} أي العظيمو الرتبة {لهم أجرهم} أي الذي يؤملونه ثم زادهم فيه رغبة تشريفة بقوله: {عند ربهم} أي الذي رباهم ولم يقطع إحسانه لحظة عنهم، كل ذلك تعظيماً له من حيث إن لهم الأجر مرتين.
ولما اقتضت هذه التأكيدات المبشرات إنجاز الأجر وإتمامه وإحسانه، وكان قد تقدم أنه تعالى يؤتي كل أحد من ذكر وأنثى أجره، ولا يضيع شيئاً، ويجازي المسيء والمحسن، وكانت العادة قاضية بأن كثرة الخلق سبب لطول زمن الحساب، وذلك سبب لطول الانتظار، وذلك سبب لتعطيل الإنسان عن مهماته ولضيق صدره بتفرق عزمه وشتاته كان ذلك محل عجب يورث توهم ما لا ينبغي، فأزال هذا التوهم بأن أمره تعالى على غير ذلك لأنه لا يشغله شأن عن شأن بقوله:{إن الله} أي بما له من الجلال والعظمة والكمال {سريع الحساب *} ولما كثر في هذه الآيات الأمر بمقاساة الشدائد وتجرع مرارات الأذى واقتحام الحروب واستهانة عظائم الكروب، والحث على المعارف الإلهية والآداب الشرعية من الأصول والفروع انخلاعاًَ من المألوفات
إلى ما يأمر به سبحانه من الطاعات، وختم بتجرع فرقة من أهل الكتاب لتلك المرارات كانت نتيجة ذلك لا محالة قوله تعالى منبهاً على عظمة ما يدعو إليه لأنه شامل لجميع الآداب:{يا أيها الذين آمنوا} أي بكل ما ذكرنا في هذه السورة {اصبروا} أي أوقعوا الصبر تصديقاً لإيمانكم على كل ما ينبغي الصبر عليه مما تكرهه النفوس مما دعتكم إليه الزهراوان {وصابروا} أي أوجدوا المصابرة للأعداء من الكفار والمنافقين وسائر العصاة، فلا يكونن على باطلهم أصبر منكم على حقكم {ورابطوا} أي بأن تربطوا في الثغور خيلاً بإزاء ما لهم من الخيول إرهاباً لهم وحذراً منهم - هذا أصله، ثم صار الرباط يطلق على المكث في الثغور لأجل الذب عن الدين ولو لم تكن خيول، بل وتطلق على المحافظة على الطاعات، ثم أمر بملاك ذلك كله فقال:{واتقوا الله} أي في جميع ذلك بأن تكونوا مراقبين له، مستحضرين لجميع ما يمكنكم أن تعلموه من عظمته بنعمته ونقمته {لعلكم تفلحون *} أي ليكون حالكم حال من يرجى فلاحه وظفره بما يريد من النصر على الأعداء والفوز بعيش الشهداء، وهذه الآية - كما ترى - معلمة بشرط استجابة الدعاء بالنصرة على الكافرين،
المختتم به البقرة
{فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} [البقرة: 186] داعية إلى تذكير أولي الألباب بالمراقبة للواحد الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء في اتباع آياته ومعاداة أعدائه، كما أن التي قبلها فيمن آمن بجميع الكتب: هذا القرآن المصدق لما بين يديه والتوراة والإنجيل، كل ذلك للفوز بالفرقان بالنصر وتعذيب أهل الكفر بأيديهم تمكيناً من الله - والله عزيز ذو انتقام - ردّاً للمقطع على المطلع على أحسن وجه - والله أعلم بالصواب وعنده حسن المآب.
مقصودها الاجتماع على التوحيد الذي هدت إليه آل عمران، والكتاب الذي حدت عليه البقرة لأجل الدين الذي جمعته الفاتحة تحذيرا مما أراده شأس بن قيس وأنظاره من الفرقة، وذه السورة من أواخر ما نزل، روى البخاري في فضائل القرآ، " عن يوسف بن ماهك أن عراقيا سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تريه مصحفها، فقالت: لم؟ قال لعلي: أؤلف القرآن عليه، فإنه يقرأ
غير مؤلف، قالت: وما يضرك أيه قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل احلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا تدع الزنى أبدا، لقد نزل بمكة على محمد وإني لجارية ألعب) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) [القمر: 46] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلأا وأنا عنده، قال: فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السورة انتهي. وقد عنت بهذا رضي الله عنعا أن القرآن حاز أعلى البلاغة في إنزاله مطابقا لما تقتضيه الأحوال بحسب الأزمان، ثم رتب على أعلى وجوه البلاغة بحسب ما تقتضيه المفاهيم من المقال، كما تشاهده من هذا الكتاب البديع البعيد المنال
ولما كان مقصودها الاجتماع على ما دعت إليه السورتان قبلها
من التوحيد، وكان السبب الأعظم في الاجتماع والتواصل عادةً الأرحام العاطفة التي مدارها النساء سميت «النساء» لذلك، ولأن بالاتقاء فيهم تتحقق العفة والعدل الذي لبابه التوحيد {بسم الله} الجامع لشتات الأمور بإحسان التزاوج في لطائف المقدور {الرحمن} الذي جعل الأرحام رحمة عامة {الرحيم *} الذي خص من أراد بالتواصل على ما دعا إليه دينه الذي جعله نعمة تامة.
لما تقرر أمر الكتاب الجامع الذي هو الطريق، وثبت الأساس الحامل الذي هو التوحيد احتيج إلى الاجتماع على ذلك، فجاءت هذه السورة داعية إلى الاجتماع والتواصل والتعاطف والتراحيم فابتدأت بالنداء العام لكل الناس، وذلك أنه لما كانت أمهات الفضائل - كما تبين في علم الأخلاق - أربعاً: العلم والشجاعة والعدل والعفة، كما يأتي شرح ذلك في سورة لقمان عليه السلام، وكانت آل عمران داعية مع ما ذكر من مقاصدها إلى اثنين منها، وهما العلم والشجاعة - كما أشير إلى ذلك في غير آية {نزل عليك الكتاب بالحق} [آل عمران: 3] ، {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} [آل عمران: 7] ، {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم} [آل عمران: 18] {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139]{فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله} [آل عمران: 146]{فإذا عزمت فتوكل على الله} [
آل عمران: 159] {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً} [آل عمران: 169]، {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح} [آل عمران: 172] ، {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا} [آل عمران: 200] ، وكانت قصة أحد قد أسفرت عن أيتام استشهد مورثوهم في حب الله، وكان من أمرهم في الجاهلية منع أمثالهم من الإرث جوراً عن سواء السبيل وضلالاً عن أقوم الدليل؛ جاءت هذه السورة داعية إلى الفضيلتين الباقيتين، وهما العفة والعدل مع تأكيد الخصلتين الأخريين حسبما تدعو إليه المناسبة، وذلك مثمر للتواصل بالإحسان والتعاطف بإصلاح الشأن للاجتماع على طاعة الديان، فمقصودها الأعظم الاجتماع على الدين بالاقتداء بالكتاب المبين، وما أحسن ابتداءها بعموم:{يا أيها الناس} بعد اختتام تلك بخصوص «يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا» الآية.
ولما اشتملت هذه السورة على أنواع كثيرة من التكاليف، منها التعطف على الضعاف بأمور كانوا قد مرنوا على خلافها، فكانت في غاية المشقة على النفوس، وأذن بشدة الاهتمام بها بافتتاح السورة واختتامها بالحث عليها قال:{اتقوا ربكم} أي سيدكم ومولاكم المحسن إليكم بالتربية بعد الإيجاد، بأن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية، لئلا يعاقبكم بترك إحسانه إليكم فينزل بكم كل بؤس. ابتدأ هذه ببيان
كيفية ابتداء الخلق حثاً على أساس التقوى من العفة والعدل فقال: {الذي} جعل بينكم غاية الوصلة لتراعوها ولا تضيعوها، وذلك أنه {خلقكم من نفس واحدة} هي أبوكم آدم عليه الصلاة والسلام مذكراً بعظيم قدرته ترهيباً للعاصي وترغيباَ للطائع توطئة للأمر بالإرث، وقد جعل سبحانه الأمر بالتقوى مطلعاً لسورتين: هذه وهي رابعة النصف الأول، والحج وهي رابعة النصف الثاني، وعلل الأمر بالتقوى في هذه بما دل على كمال قدرته وشمول علمه وتمام حكمته من أمر المبدإ، وعلل ذلك في الحج بما صور المعاد تصويراً لا مزيد عليه، فدل فيها على المبدإ والمعاد تنبيهاً على أنه محط الحكمة، ما خلق الوجود إلا لأجله، لتظهر الأسماء الحسنى والصفات العلى أتم ظهور يمكن البشر الاطلاع عليه، وربت ذلك على الترتيب الأحكم، فقدم سورة المبدإ على سورة المعاد لتكون الآيات المتلوة طبق الآيات المرئية، وأبدع من ذلك كله وأدق أنه لما كان أعظم مقاصد السورة الماضية المجادلة في أمر عيسى، وأن مثله كمثل آدم عليهما الصلاة والسلام، وكانت حقيقة حاله أنه ذكرٌ يولّد من أنثى فقط بلا واسطة ذكر؛
بين في هذه السورة بقوله - عطفاً على ما تقديره جواباً لمن كأنه قال: كيف كان ذلك؟ - إنشاء تلك النفس، أو تكون الجملة حالية - {وخلق منها زوجها} أي مثله في ذلك أيضاً كمثل حواء: أمه فإنها أنثى تولدت من ذكر بلا واسطة أنثى فصار مثله كمثل كل من أبيه وأمه: آدم وحواء معاً عليهما الصلاة والسلام، وصار الإعلام بخلق آدم وزوجه وعيسى عليهم الصلاة والسلام - المندرج تحت آية بعضكم من بعض مع آية البث التي بعد هذه - حاصراً للقسمة الرباعية العقلية التي لا مزيد عليها، وهي بشر لا من ذكر ولا أنثى، بشر منهما، بشر من ذكر فقط، بشر من أنثى فقط؛ ولذلك عبر في هذه السورة بالخلق، وعبر عن غيرها بالجعل، لخلو السياق عن هذا الغرض، ويؤيد هذا أنه قال تعالى في أمر يحيى عليه الصلاة والسلام
{كذلك الله يفعل ما يشاء} [آل عمران: 40] وفي أمر عيسى عليه الصلاة والسلام {يخلق ما يشاء} [آل عمران: 47] ، وأيضاً فالسياق هنا للترهيب الموجب للتقوى، فكان بالخلق الذي هو أعظم في إظهار الاقتداء - لأنه اختراع الأسباب وترتيب المسببات عليها - أحق من الجعل الذي هو ترتيب المسببات على أسبابها وإن لم يكن اختراع - فسبحان العزيز العليم العظيم الحكيم! .
ولما ذكر تعالى الإنشاء عبر بلفظ الرب الذي هو من التربية، ولما
كان الكل - المشار إليه بقوله تعالى عطفاً على ما تقديره: وبث لكم منه إليها: {وبث منهما} أي فرق ونشر من التوالد، ولما كان المبثوث قبل ذلك عدماً وهو الذي أوجده من العدم نكر لإفهام ذلك قوله:{رجالاً كثيراً ونساءً} من نفس واحدة؛ كان إحسان كل من الناس إلى كل منهم من صلة الرحم، ووصف الرجال دونهن مع أنهن أكثر منهم إشارة إلى أن لهم عليهن درجة، فهم أقوى وأظهر وأطيب وأظهر في رأي العين لما لهم من الانتشار وللنساء من الاختفاء والاستتار.
ولما كان قد أمر سبحانه وتعالى أول الآية بتقواه مشيراً إلى أنه جدير بذلك منهم لكونه ربهم، عطف على ذلك الأمر أمراً آخر مشيراً إلى أنه يستحق ذلك لذاته لكونه الحاوي لجميع الكمال المنزه عن كل شائبة نقص فقال:{واتقوا الله} أي عموماً لما له من إحاطة الأوصاف كما اتقيتموه خصوصاً لما له إليكم من الإحسان والتربية، واحذروه وراقبوه في أن تقطعوا أرحامكم التي جعلها سبباً لتربيتكم.
ولما كان المقصود من هذه السورة المواصلة وصف نفسه المقدسة بما يشير إلى ذلك فقال: {الذين تساءلون} أي يسأل بعضكم بعضاً {به} فإنه لا يسأل باسمه الشريف المقدس إلا الرحمة والبر والعطف،
ثم زاد المقصود إيضاحاً فقال: {والأرحام} أي واتقوا قطيعة الأرحام التي تساءلون بها، فإنكم تقولون: ناشدتك بالله والرحم! وعلل هذا الأمر بتخويفهم عواقب بطشه، لأنه مطلع على سرهم وعلنهم مع ما له من القدرة الشاملة. فقال مؤكداً لأن أفعال الناس في ترك التقوى وقطيعة الأرحام أفعال من يشك في أنه بعين الله سبحانه:{إن الله} أي المحيط علماً وقدرة {كان عليكم} وفي أداة الاستعلاء ضرب من التهديد {رقيباً *} وخفض حمزة «الأرحام» المقسم بها تعظيماً لها وتأكيداً للتنبيه على أنهم قد نسوا الله في الوفاء بحقوقها - كما أقسم بالنجم والتين وغيرهما، والقراءاتان مؤذنتان بأن صلة الأرحام من الله بمكان عظيم، حيث قرنها باسمه سواء كان عطفاً كما شرحته آية {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] ، وغيرها - أو كان قسماً، واتفق المسلمون على أن صلى الرحم واجبة، وأحقهم بالصلة الولد، وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال.
ولما بان من هذا تعظيمه لصلة الرحم بجعلها في سياق ذكره سبحانه وتعالى المعبر عنه باسمه الأعظم - كما فعل نحو ذلك في غير آية، وكان
قد تقدم في السورة الماضية ذكر قصة أحد التي انكشفت عن أيتام، ثم ذكر في قوله تعالى:{كل نفس ذائقة الموت} [آل عمران: 185] ، أن الموت مشرع لا بد لكل نفس من وروده؛ علم أنه له بد من وجود الأيتام في كل وقت، فدعا إلى العفة والعدل فيهم لأنهم بعد الأرحام أولى من يتقى الله فيه ويخشى مراقبته بسببه فقال:{وآتوا اليتامى} أي الضعفاء الذين انفردوا عن آبائهم، وأصل اليتيم الانفراد {أموالهم} أي هيئوها بحسن التصرف فيها لأن تؤتوهم إياها بعد البلوغ - كما يأتي، أو يكون الإيتاء حقيقة واليتم باعتبار ما كان.
أو باعتبار الاسم اللغوي وهو مطلق الانفراد، وما أبدع إيلاءها للآية الآمرة بعد عموم تقوى الله بخصوصها في صلة الرحم المختتمة بصفة الرقيب! لما لا يخفى من أنه لا حامل على العدل في الأيتام إلا المراقبة، لأنه لا ناصر لهم، وقد يكونون ذوي رحم.
ولما أمر بالعفة في أموالهم أتبعه تقبيح الشره الحامل للغافل على لزوم المأمور به فقال: {ولا تتبدلوا} أي تكلفوا أنفسكم أن تأخذوا على وجه البدلية {الخبيث} أي من الخباثة التي لا أخبث منها،
لأنها تذهب بالمقصود من الإنسان، فتهدم - جميع أمره {بالطيب} أي الذي هو كل أمر يحمل على معالي الأخلاق الصائنة للعرض، المعلية لقدر الإنسان؛ ثم بعد هذا النهي العام نوّه بالنهي عن نوع منه خاص، فقال معبراً بالأكل الذي كانت العرب تذم بالإكثار منه ولو أنه حلال طيب، فكيف إذا كان حراماً ومن مال ضعيف مع الغنى عنه:{ولا تأكلوا أموالهم} أي تنتفعوا بها أيّ انتفاع كان، مجموعة {إلى أموالكم} شرهاً وحرصاً وحباً في الزيادة من الدنيا التي علمتم شؤمها وما أثرت من الخذلان في آل عمران، وعبر بإلى إشارة إلى تضمين الأكل معنى الضم تنبيهاً على أنها متى ضمت إلى مال الولي أكل منها فوقع في النهي، فحض بذلك على تركها محفوظة على حيالها؛ ثم علل ذلك بقوله:{إنه} أي الأول {كان حوباً} أي إثماً وهلاكاً {كبيراً *} .
ولما كان تعالى قد أجرى سنة الإلهية في أنه لا بد في التناسل من توسط النكاح إلا ما كان من آدم وحواء وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكانوا قد أمروا بالعدل في أموال اليتامى، وكانوا يلون أمور يتاماهم، وكانوا ربما نكحوا من في حجورهم منهن، فكان ربما أوقفهم هذا التحذير من أموالهم عن النكاح خوفاً من التقصير في
حق من حقوقهن أتبعه تعالى عطفاً على ما تقديره: فإن وثقتم من أنفسكم بالعدل فخالطوهم بالنكاح وغيره: {وإن خفتم} فعبر بأداة الشك حثاً على الورع {ألا تقسطوا} أي تعدلوا {في اليتامى} ووثقتم من أنفسكم بالعدل في غيرهن {فانكحوا} .
ولما كانت النساء ناقصات عقلاً وديناً، عبر عنهن بأداة ما لا يعقل إشارة إلى الرفق بهن والتجاوز عنهن فقال:{ما} ولما أفاد أنكحوا الإذن المتضمن للحل، حمل الطيب على اللذيذ المنفك عن النهي السابق ليكون الكلام عاماً مخصوصاً بما يأتي من آية المحرمات من النساء - ولا يحمل الطيب على الحل لئلا يؤدي - مع كونه تكراراً - إلى أن يكون الكلام مجملاً - لأن الحل لم يتقدم علمه، والحمل على العام المخصوص أولى، لأنه حجة في غير محل التخصيص، والمجمل ليس بحجة أصلاً - أفاده الإمام الرازي؛ فقال تعالى:{طاب} أي زال عنه حرج النهي السابق ولذّ، وأتبعه قيداً لا بد منه بقوله:{لكم} وصرح بما علم التزاماً فقال: {من النساء} أي من غيرهن {مثنى وثلاث ورباع} أي حال كون هذا المأذون في نكاحه موزَّعاً هكذا: ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً لكل واحد، وهذا الحكم عرف من العطف بالواو، ولو كان بأو لما أفاد التزوج إلا على أحد هذه الوجوه الثلاثة،
ولم يفد التخيير المفيد للجمع بينها على سبيل التوزيع، وهذا دليل واضح على أن النساء أضعاف الرجال، وروى البخاري في التفسير «عن عروة ابن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى:{وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} [النساء: 3]، فقالت: يا ابن أختي! هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن ذلك أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله عز وجل {ويستفتونك في النساء} [النساء: 127] قالت عائشة: وقول الله عز وجل في آية أخرى {وترغبون أن تنكحوهن} [النساء: 127] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، قالت: فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهم إذا كن قليلات المال والجمال» وفي رواية «
في النكاح» ، فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق؛ وهذا الخطاب للأحرار دون العبيد، لأن العبد لا يستقل بنكاح ما طاب له، بل لا بد من إذن السيد.
ولما كان النساء كالتيامى في الضعف قال مسبباً عن الإذن في النكاح: {فإن خفتم ألا تعدلوا} أي في الجمع {فواحدة} أي فانكحوها، لأن الاقتصار عليها أقرب إلى العدل لأنه ليس معها من يقسم له فيجب العدل بينها وبينه ولما كان حسن العشرة المؤدي إلى العدل دائراً على اطراح النفس، وكان الإماء - لكسرهن بالغربة وعدم الأهل - أقرب إلى حسن العشرة سوّى بين العدد منهم إلى غير نهاية وبين الواحدة من الحرائر فقيل:{أو ما} أي انكحوا ما {ملكت أيمانكم} فإنه لا قسم بينهن، وذكر ملك اليمين يدل أيضاً على أن الخطاب من أوله خاص بالأحرار {ذلك} أي نكاح غير التيامى والتقلل من الحرائر والاقتصار على الإماء {أدنى} أي أقرب إلى {ألا تعولوا *} أي تميلوا بالجور عن منهاج القسط وهو الوزن المستقيم، أو تكثر عيالكم، أما عند الواحدة فواضح، وأما
عند الإماء فالبعزل، وعدم احتياج الرجل معهن لخادم له أو لهن، والبيع لمن أراد منهن، وأمرهن بالاكتساب، أو تحتاجوا فتظلموا بعض النساء، أو تأكلوا أموال التيامى؛ وكل معنى من هذه راجع إلى لازم لمعنى المادة الذي مدارها عليه، لأن مادة «علا» - واوية بجميع تقاليبها الست: علو، عول، لوع، لعو، وعل، ولع؛ ويائية بتركيبيها: ليع، عيل تدور على الارتفاع، ويلزمه الزيادة والميل، فمن الارتفاع: العلو والوعل والولع، ومن الميل والزيادة: العول، وبقية المادة يائيةً وواويةً إما للإزالة، وإما لأحد هذه المعاني - على ما يأتي بيانه؛ فعلا يعلو: ارتفع، والعالية: الفتاة القويمة - لأ، ها تكون أرفع مما ساواها وهو معوج، والعالية من محال الحجاز - لإشرافها على ما حولها، وكذا العوالي - لقرى بظاهر المدينة الشريفة - لأنها في المكان العالي الذي يجري ماؤه إلى غيره، والمعلاة: كسب الشرف، ومقبرة مكة بالحجون - لأنها في أعلى مكة وماؤها يصوب إلى ما دونه، وفلان من علية الناس، أي أشرافهم، والعلية بالتشديد: الغرفة، وعلى
حرف الاستعلاء، وتعلت المرأة من نفاسها، أي طهرت وشفيت - لأنها كانت في سفول من الحال، والعلاوة: رأس الجبل وعنقه، وما يحمل على البعير بين العدلين، ومن كل شيء: ما زاد عليه، والمعلى: القدح السابع من الميسر - لأنه الغاية في القداح الفائزة، لأن القداح عشرة: السبعة الأولى منها فائزة، والثلاثة الأخيرة مهملة لا أنصباء لها، وعلوان الكتاب: عنوانه وارتفاعه على بقية الكتاب واضح، والعليان: الطويل والضخم، والناقة المشرفة، ومن الأصوات: الجهيرة، والعلاة: السندان، والعلياء: رأس كل جبل مشرف، والسماء، والمكان العالي، وكل ما علا من شيء، وعليك زيداً: الزمه - لأنه يلزم من ملازمته له العلو على أمره، وعلا النهار: ارتفع وعلا الدابة: ركبها وأعلى عنها: نزل - كأنه من الإزالة وكذا علَّى المتاع عن الدابة تعلية: أنزله، وأعليت عن الوسادة وعاليت: ارتفعت وتنحيت، ورجل عالي الكعب: شريف، وعلَّى الكتاب تعلية: عنونه كعلونه، وعالوا نعيه: أظهروه، والعلي: الشديد القوي، وعليون في السماء
السابعة، وأخذه علواً: عنوة، والتعالي: الاتفاع، إذا أمرت منه قلت: تعال - بفتح اللام، ولها: تعالي - بفتح اللام، - ولو كنت في موضع أسفل من موضع المأمور، لأنه يحتاج إلى تطاول مهما كان بينك وبينه مسافة، ولأن الآمر أعلى من المأمور رتبة فموضعه كذلك، وتعلى: علا في مهلة، والمعتلي: الأسد؛ واللعو: السيء الخلق، والفسل، والشره الحريص، واللاعي: الذي يفزعه أدنى شيء، إما لأنه وصل إلى الغاية في السفول فتسنم أعلاها حتى رضي لنفسه هذه الأخلاق، وإما لأنه من باب الإزالة، أو التسمية بالضد، وذئبة لعوة وامرأة لعوة، أي حريصة، واللعوة: السواد بين حلمتي الثدي، إما لأن ذلك أعلاه، وإما لعلو لون السواد على لون الثدي، والألعاء: السلاميات، والسلامى عظم يكون في فرسن البعير،
وعظام الصغار في اليد والرجل، وذلك لأن العظام أعلى ما في الجسد في القوة والشدة والصلابة، وهي أعظم قوامه؛ واللاعية: شجيرة في سفح الجبل، لها نور أصفر، ولها لبن، وإذا ألقي منه شيء في غدير السمك أطفاها، أي جعلها طافية أي عالية على وجه الماء، سميت بذلك إما من باب الإزلاة نظراً إلى محل بيتها، وإما لأن ريحها يعلو كل ما خالطه ويكسبه طعمها وإما لفعلها هذا في السمك وتلعّى العسل: تعقّد وزناً ومعنى - إما من اللاعية لأنها كثيرة العقد، وإما من لازم العلو: القوة والشدة، ولعا لك - يقال عند العثرة، أي أنعشك الله؛ والعول: ارتفاع الحساب في الفرائض، والعول: الميل، وقدم تقدم أنه لازم للعلو، والعول: كل ما أمر غلبك، كأنه علا عنك فلم تقدر على نيله والمستعان به - لأنه لا يتوصل به إلى المقصود إلا وفيه علو، وقوت العيال - لأنه سبب علوهم، وعوّل عليه معولاً: اتكل
واعتمد، والاسم كعنب، وعيّل ككيس، وعال: جار والميزان: نقص أو زاد، فالزيادة من الارتفاع، والنقص من لازم الميل، وعالت الفريضة: ارتفعت أي زادت سهامها فدخل النقصان على أهل الفرائض، قال أبو عبيد: أظنه مأخوذاً من الميل، وعال أمرهم: اشتد وتفاقم، وعال فلان عولاً وعيالاً: كثر عياله، كأعول وأعيل، ورجل معيل ومعيّل ذو عيال، وأعال الرجل وأعول - إذا حرص، إما مما تقدم تخريجه، وإما لأنه لازم لذي العيال، وعال عليه: حمل، أي رفع عليه الحمول كعول، وفلان: حرص، والفرس، صوتت، وأعولت المرأة: رفعت صوتها بالبكاء، وعيل عوله: ثكلته أمه - لما يقع من صياحها، وعيل ما هو عائله: غلب ما هو غالبه، يضرب لمن يعجب من كلامه ونحوه لأنه لا يكون كذلك إلا وقد خرج عن أمثاله علواً، وقد يكون بسفول، فيكون من التسمية بالضد، والعالة: النعامة لأنها أطول الطير، وما له عال ولا مال: شيء ح لأن ذلك غاية في السفول إن كان عجزاً، وفي العلو إن كان زهداً، ويقال للعاثر: عالك عالياً.
كقولهم: لعا لك، والمعول: حديدة تنفر بها الجبال - من القوة اللازمة للعلو، والعالة، شبه الظلة يستر بها
من المطر؛ واللوعة: حرقة توجد من الحزن أو الحب أو المرض أو الهم - لأنها تعلو الإنسان، ولاعه الحب: أمرضه، وأتان لاعة الفؤاد إلى جحشها - كأنها ولهى فزعاً، ولاع يلاع: جزع أو مرض ورجل هاع لاع: جبان جزوع، أو حريص، أو سيىء الخلق - لما علاه من هذه الأخلاق المنافية للعقل وغلبه منها، ولاعته الشمس: غيرت لونه واللاعة أيضاً: الحديدة الفؤاد الشهمة - لأنه يعلوا غيره، وامرأة لاعة: التي تغازلك ولا تمكنك - لما لها في ذلك من الغلبة والعلو على القلوب؛ والوعل: تيس الجبل، والشريف، والملجأ، والوعلة: الموضع المنيع من الجبل، أو صخرة مشرفة منه، وهم علينا وعل واحد: مجتمعون، وما لك عن ذلك وعل، أي بد - إنه لولا علوه عليك ما اضطررت إليه والوعل: اسم شوال - كأنه لما له من العلو بالعيد والحج، والوعل ككتف: اسم شعبان ح لما له من العلو بتوسطه بين رجب وشوال، والوعلة أيضاً: عروة القميص
والزير زره والقدح والإبريق الذي يعلق بها فيعلو، ووعال كغراب: حصن باليمن، والمستوعل - بفتح العين: حرز الوعل، ووعل كوعد: أشرف، وتوعلت الجبل: علوته؛ وأولع فلان بكذا، أو ولع بالكسر: استخف، أي صار عالياً عليه غالباً له إطاقته حمله، وولع بحقه: ذهب، وولع بالفتح - إذا كذب، إما للإزالة وإما لأنه استخفه الكذب فحمله، وولع والع - مبالغة، أي كذب عظيم والمولع: الذي فيه لمع من ألوان - كأنه علا على تلك الألوان، أو غلب تلك الألوان أصل لونه، وعبارة القاموس: والتوليع: استطالة البلق، يقال برذون وثور مولع - كمعظم، والوليع: الطلع ما دام في قيقائه، أي وعائه. وهو قشرة الطلع لعلوه، وما أدري ما ولعه - بالفتح أي حبسه، إما للإزالة، لإنه لما منعه كان كأنه أزال علوه، وإما لأنه علا عليه، وأولعه به، أي أغراه، أي حمله عليه؛ والعيلة: الحاجة، وعال يعيل - إذا افتقر، وذلك إما من الإزالة، أو لأن الحاجة علته، أو لأنها ميل، وعالني الشيء: أعجزني، وعيل صبري: قل وضعف أي علاه من الأمر ما أضعفه، وعلت الضالة: لم أدر أين أبغيها، والمعيل:
الأسد والنمر والذئب - لأنه يعيل صيداً أي يلتمس فهو يرجع إلى العلو والقدرة على الطلب، وعالني الشيء: أعوزني - إما أزال علوي، أو علا عني، وعال في مشيه: تمايل واختال وتبختر - لأنه لا يفعله إلا عال في نفسه مع أنه كله من الميل، وعال في الأرض: ذهب أي علا عليها مشياً، والذكر من الضباع عيلان، والعيل محركة: عرضك حديثك وكلامك على من لا يريده وليس من شأنه - كأنه لم يهتد لمن يريده فعرضه على من لا يريده، فهو يرجع إلى الحاجة المزيلة للعلو؛ وليعة الجوع - بالفتح: حرقته - كما تقدم في اللوعة، ولعت - بالكسر: ضجرت، كأنه من الإزالة، أو أن العلو للأمر المتضجر منه، والملياع - علاها، والملياع: التي تقدم الإبل سابقة ثم ترجع إليها، وريح لياع - بالكسر: شديدة، وقد وضح بذلك صحة ما فسر به إمامنا الشافعي صريحاً ومطابقة - كما تقدم، وشهد له العول في الحساب والسهام، وهو كثرتها، وظهر تحامل من
رد ذلك وقال: إنه لا يقال في كثرة العيال إلا: عال يعيل، وكم من عائب قولا صحيحاً! وكيف لا وهو من الأئمة المحتج بأقوالهم في اللغة، وقد وافقه غيره وشهد لقوله الحديث الصحيح؛ قال الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني الشافعي في كتابه البيان:{ألا تعولوا} قال الشافعي: معناه أن لا تكثر عيالكم ومن تمونونه، وقيل: إن أكثر السلف قالوا: المعنى أن لا تجوروا، يقال: عال يعول - إذا جار وأعال يعيل - إذا كثر عياله؛ إلا زيد بن أسلم فإنه قال: معناه أن لا تكثر عيالكم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم يشهد لذلك، قال:
«ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» انتهى.
وهذا الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما عن حكيم بن حزام عن أبي هريرة رضي الله عنهما بلفظ «أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» وفي الباب أيضاً عن عمران بن حصين وأبي رمثة البلوي وأبي أمامة رضي الله عنهم، وأثر زيد بن أسلم رواه الدارقطني والبيهقي من طريق سعيد بن أبي هلال عنه، قال:«ذلك أدنى أن لا يكثر من يعولونه» أفاده شيخنا ابن حجر
في تخريج أحاديث الرافعي وقال الإمام: إن تفسير الشافعي هو تفسير الجماعة، عبر عنه بالكناية وهي ذكر الكثرة، وأراد الميل لكون الكثرة، لا تنفك عنه، وقال ابن الزبير: لما تضمنت سورة البقرة ابتداء الخلق وإيجاد آدم عليه الصلاة والسلام من غير أب ولا أم، وأعقبت بسورة آل عمران لتضمنها - مع ذكر في صدرها - أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه كمثل آدم عليه الصلاة والسلام في عدم الافتقار إلى أب، وعلم الموقنون من ذلك أنه تعالى لو شاء لكانت سنة فيمن بعد آدم عليه الصلاة والسلام، فكأن سائر الحيوان لا يتوقف إلا على أم فقط؛ أعلم سبحانه أن من عدا المذكورين عليهما الصلاة والسلام من ذرية آدم سبيلهم سبيل الأبوين فقال تعالى:{يا أيها الناس اتقوا ربكم} إلى قوله: {وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} ثم أعلم تعالى كيفية النكاح المجعول سبباً في التناسل وما يتعلق به، وبين حكام الأرحام والمواريث فتضمنت السورة ابتداء الأمر وانتهاءه، فأعلمنا بكيفية التناكح وصورة الاعتصام واحترام بعضنا لبعض وكيفية تناول الإصلاح فيما بين الزوجين عند التشاجر والشقاق، وبين لنا ما ينكح
وما أبيح من العدد وحكم من لم يجد الطول وما يتعلق بهذا إلى المواريث، فصل ذلك كله إلا الطلاق.
لأن أحكامه تقدمت، ولأن بناء هذه السورة على التواصل والائتلاف ورعي حقوق ذوي الأرحام وحفظ ذلك كله إلى حالة الموت المكتوب علينا، وناسب هذا المقصود من التواصل والألفة ما افتتحت به السورة من قوله تعالى:{الذي خلقكم من نفس واحدة} [النساء: 1] ، فافتتحها بالالتئام والوصلة ولهذا خصت من حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والمعدلة إبقاء لذلك التواصل فلم يكن الطلاق ليناسب هذا، فلم يقع له هنا ذكر إلا إيماء {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} [النساء: 13] ولكثرة ما يعرض من رعي حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة - ويدق ذلك ويغمض - تكرر كثيراً في هذه السورة الأمر بالاتقاء، وبه افتتحت {اتقوا ربكم} [النساء: 1] ، {واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام} [النساء: 1] ، {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131] ، ثم حذروا من حال من صمم على الكفر وحال اليهود والنصارى والمنافقين وذوي التقلب في الأديان بعد أذن اليقين، وكل ذلك تأكيد لما أمروا به من الاتقاء، والتحمت الآيات إلى الختم
بالكلالة من المواريث المتقدمة - انتهى.
ولما حذروا من القول الذي من مدلوله المحاجة عن كثرة النساء؛ كان ربما تعلق به من يبخل عن بعض الحقوق، لا سيما ما يستكثره من الصداق، فأتبعه ما ينفي ذلك، فقال - مخاطباً للأزواج، لأن السياق لهم، معبراً بما يصلح للدفع والالتزام المهيىء له:{وآتوا النساء} أي عامة من اليتامى وغيرهن {صدقاتهن} ، وقوله مؤكداً للإيتاء بمصدر من معناه:{نحلة} مؤيد لذلك، لأن معناها: عطية عن طيب نفس؛ قال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه: وأصله - أي النحل: إعطاء الشيء لا يراد به عوض وكذا إن قلنا: معنى النحلة الديانة والملة والشرعة والمذهب، أي آتوهن ذلك ديانة.
ولما وقع الأمر بذلك كان ربما أبى المتخلق بالإسلام قبول ما تسمح به المرأة منه بإبراء أو رد على سبيل الهبة - لظنه أن ذلك لا يجوز أو غير ذلك فقال: {فإن طبن لكم} أي متجاوزات {عن شيء} ووحّد الضمير ليرجع إلى الصداق المفهوم من الصدقات، ولم يقل: منها، لئلا يظن أن الموهوب لا يجوز إلا إن كان صداقاً كاملاً فقال:{منه} أي الصداق {نفساً} أي عن شهوة صادقة من غير إكراه
ولا خديعة {فكلوه} أي تصرفوا فيه بكل تصرف يخصكم {هنيئاً} أي سائغاً صالحاً لذيذاً في عافية بلا مشقة ولا مضرة {مريئاً *} أي جيد المغبة بهجا ساراً، لا تنغيص فيه، وربما كان التبعيض ندباً إلى التعفف عن قبول الكل، لأنه في الغالب لا يكون إلا عن خداع أو ضجر فربما أعقب الندم، وهذا الكلام يدل أيضاً على تخصيص الأحرار دون العبيد، لأنهم لا يملكون ماجعلته النساء لهم ليأكلوه هنيئاً. قال الأصبهاني: فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة علم أنها لم تطب نفسها، وعن الشعبي ان رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع، فقال شريح: رد عليها، فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: {فإن طبن لكم} [النساء: 4] قال: لو طابت نفسها لما رجعت فيه؛ وعنه قال: أقيلها فيما وهبت ولا أقيله، لأنهن يخدعن.
ولما أمر بدفع أموال اليتامى والنساء إليهم، ونهى عن أكل شيء منها تزهيداً في المال واستهانة به، وكان في النساء والمحاجير من الأيتام وغيرهم سفهاء، وأمر بالاقتصاد في المعيشة حذراً من الظلم والحاجة نهى عن التبذير، وقد حث سبحانه على حسن رعاية المال في غير آية من كتابه لأنه «نعم المال الصالح للرجل الصالح» رواه أحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص رفعه؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل ما يهمه من الدنيا، وما لم يتمكن من تحصيل ما يهمه من الدنيا لا يمكنه أمر الآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة ما يكفيه من المال - لأنه لا يتمكن في هذه الدار التي مبناها على الأسباب من جلب المنافع ودفع المضار إلا به، فمن أراده لهذا الغرض كان من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرين، ومن أراد لنفسه كان من أعظم المعوقات عن سعادة الآخرة فقال تعالى:{ولا تؤتوا} أيها الأزواج والأولياء {السفهاء} أي من محاجيركم ونسائكم وغيرهم {أموالكم} أي الأموال التي خلقها الله لعباده سواء كانت مختصة بكم أو بهم، ولكم بها علقة بولاية أو غيرها، فإنه يجب عليكم حفظها {التي جعل الله} أي الذي له
الإحاطة بالعلم الشامل والقدرة التامة {لكم قياما} أي ملاكاً وعماداً تقوم بها أحوالكم، فيكون ذلك سبباً لضياعها، فضياعها سبب لضياعكم، فهو من تسمية السبب باسم المسبب للمبالغة، في سببيته {وارزقوهم} متجرين {فيها} وعبر بالظرف إشارة إلى الاقتصاد واستثمار الأموال حتى لا تزال موضعاً للفضل، حتى تكون النفقة والكسوة من الربح لا من رأس المال {واكسوهم} أي فإن ذلك ليس من المنهيّ عنه، بل هو من معالي الأخلاق ومحاسن الأعمال {وقولوا لهم} أي مع ذلك {قولاً معروفاً *} أي في الشرع والعقل كالعدة الحسنة ونحوها، وكل ما سكنت إليه النفس وأحبته من قول أو عمل وليس مخالفاً للشرع فهو معروف، فإن ذلك ربما كان أنفع في كثير من الإعطاء وأقطع للشر؛ والحجر على السفيه مندرج في هذه الآية، لأن ترك الحجر عليه من الإيتاء المنهي عنه.
ولما نهى عن ذلك البذل للسفهاء أيتاماً كانا أو غيرهم، بين أنه ليس دائماً بل ما دام السفه قائماً، فمست الحاجة إلى التعريف بمن يعطي ومن يمنع وكيف عند الدفع، ولما كان السفه أمراً
باطناً لا يعرف إلا بالتصرف ولا سيما في المال؛ بدأ سبحانه بتعليم ما يتوصلون به إلى معرفته فقال مصرحاً بالأيتام اهتماماً بأمرهم: {وابتلوا اليتامى} أي اختبروهم في أمر الرشد في الدين والمال في مدة مراهقتهم واجعلوا ذلك دأبكم {حتى إذا بلغوا النكاح} أي وقت الحاجة إليه بالاحتلام أو السن {فإن آنستم} أي علمتم علماً أنتم في عظيم تيقنه كأنكم تبصرونه على وجه تحبونه وتطيب أنفسكم به {منهم} أي عند بلوغه {رشداً} أي بذلك التصرف، ونكره لأن وجود كمال الرشد في أحد يعز وقوعه {فادفعوا إليهم أموالهم} أي لزوال الحاجة إلى الحجر بخوف التبذير، وأضافها إليهم بعد إضافتها أولاً إلى المعطين إشارة إلى أنه لا يستحقها إلا من يحسن التصرف فيها.
ولما كان الإنسان مجبولاً على نقائص منها الطمع وعدم الشبع لا سيما إذا خالط، لا سيما إن حصل له إذن ما؛ أدبه سبحانه بقوله:{ولا تأكلوها} أي بعلة استحقاقكم لذلك بالعمل فيها {إسرافاً} أي مسرفين بالخروج عن القصد في التصرف ووضع الشيء في غير موضعه وإغفال العدل والشفقة {وبداراً} أي مبادرين {أن يكبروا} أي فيأخذوها منكم عند كبرهم فيفوتكم الانتفاع بها، وكأنه عطف
بالواو الدالة على تمكن الوصف وتمامه إشارة إلى عدم المؤاخذة بما يعجز عنه الإنسان المجبول على النقصان مما يجري في الأفعال مجرى الوسوسة في الأقوال
«ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» .
ولما أشعر النهي عن أكل الكل بأن لهم في الأكل في الجملة علة مقبولة، أفصح به في قوله:{ومن كان} أي منكم أيها الأولياء {غنياً فليستعفف} أي يطلب العفة ويوجدها ويظهرها عن الأكل منها جملة، فيعف عنه بما بسط الله له من رزقه {ومن كان فقيراً} وهو يتعهد مال اليتيم لإصلاحه، ولما كان يخشى من امتناعه من الأكل منه التفريط فيه بالاشتغال بما يهمه في نفسه، أخرج الكلام في صيغة الأمر فقال معبراً بالأكل لأنه معظم المقصود:{فليأكل بالمعروف} أي بقدر أجرة سعيه.
ولما كان ذلك ربما أفهم الأمان إلى الرشد بكل اعتبار، أمر بالحزم - كما في الطبراني الأوسط عن أنس «احترسوا من الناس بسوء الظن» - فقال:{فإذا دفعتم إليهم} أي اليتامى {أموالهم} أي التي كانت تحت أيديكم لعجزهم عن حفظها {فأشهدوا عليهم}
أي احتياطاً لأن الأحوال تتبدل، والرشد يتفاوت، فالإشهاد أقطع للشر، وأنفع في كل أمر، والأمر بالإشهاد أزجر للولي عن الخيانة، لأن من عرف أنه لا يقبل عند الخصام إلا ببينة عف غاية العفة، واحترز غاية الاحتراز.
ولما كانت الأموال مظنة لميل النفوس، وكان الحب للشيء يعمي ويصم؛ ختم الآية بقوله:{وكفى بالله} أي الذي له الحكمة البالغة والقدرة الباهرة والعظمة التي لا مثل لها، والباء في مثل هذا تأكيد لأن ما قرنت به هو الفاعل حقيقة لا مجازاً - كما إذا أمرنا بالفعل مثلاً {حسيباً *} أي محاسباً بليغاً في الحساب، فهو أبلغ تحذيراً لهم وللأيتام من الخيانة والتعدي ومدّ العين إلى حق الغير.
ولما ذكر أموال اليتامى على حسب ما دعت إليه الحاجة واقتضاه التناسب إلى أن ختم بهذه الآية، كان كأن سائلاً سأل: من أين تكون أموالهم؛ فبين ذلك بطريق الإجمال بقوله تعالى: {للرجال} أي الذكور من أولاد الميت وأقربائه، ولعله عبر بذلك دون الذكور لأنهم كانوا لا يورثون الصغار، ويخصون الإرث بما عمر الديار، فنبه
سبحانه على أن العلة النطفة {نصيب} أي منهم معلوم {مما ترك الوالدان والأقربون} .
ولما كانوا لا يورثون النساء قال: {وللنساء نصيب} ولقصد التصريح للتأكيد قال موضع «مما تركوا» : {مما ترك الوالدان والأقربون} مشيراً إلى أنه لا فرق بينهن وبين الرجال في القرب الذي هو سبب الإرث، ثم زاد الأمر تأكيداً وتصريحاً بقوله إبدالاً مما قبله بتكرير العامل:{مما قل منه أو كثر} ثم عرف بأن ذلك على وجه الحتم الذي لا بد منه، فقال مبيناً للاعتناء به بقطعه عن الأول بالنصب على الاختصاص بتقدير أعني:{نصيباً مفروضاً *} أي مقدراً واجباً مبيناً، وهذه الآية مجملة بينتها آية المواريث، وبالآية علم أنها خاصة بالعصبات من التعبير بالفرض لأن الإجماع - كما نقله الأصبهاني عن الرازي - على أنه ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر.
ولما بين المفروض أتبعه المندوب فقال تعالى: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى} أي ممن لا يرث صغاراً أو كباراً {واليتامى والمساكين} أي قرباء أو غرباء {فارزقوهم منه} أي المتروك،
وهو أمر ندب لتطييب قلوبهم، وقرينة صرفه عن الوجوب ترك التحديد {وقولوا لهم} أي مع الإعطاء {قولاً معروفاً *} أي حسناً سائغاً في الشرع مقبولاً تطيب به نفوسهم.
ولما أعاد الوصية باليتامى مرة بعد أخرى، وختم بالأمر بالإنة القول، وكان للتصوير في التأثير في النفس ما ليس لغيره؛ أعاد الوصية بهم لضعفهم مصوراً لحالهم مبيناً أن القول المعروف هو الصواب الذي لا خلل فيه فقال:{وليخش} أي يوقع الخشية على ذرية غيرهم {الذين} وذكر لهم حالاً هو جدير بإيقاع الخشية في قلوبهم فقال: {لو تركوا} أي شارفوا الترك بموت أو هرم، وصوّر حالهم وحققه بقوله:{من خلفهم} أي بعد موتهم أو عجزهم العجز الذي هو كموتهم {ذرية} أي أولاداً من ذكور أو إناث {ضعافاً} أي لصغر أو غيره {خافوا عليهم} أي جور الجائرين.
ولما تسبب عن ذلك التصور في أنفسهم خوفهم على ذرية غيرهم كما يخافون على ذريتهم سواء كانوا أوصياء أو أولياء أو أجانب، وكان هذا الخوف ربما أداهم في قصد نفعهم إلى جور على غيرهم؛ أمر بما
يحفظهم على الصراط السوي بقوله: {فليتقوا} وعبر بالاسم الأعظم إرشاداً إلى استحضار جميع عظمته فقال: {الله} أي فليعدلوا في أمرهم ليقيِّض الله لهم من يعدل في ذريتهم، وإلا أوشك أن يسلط على ذريتهم من يجور عليهم {وليقولوا} أي في ذلك وغيره {قولاً سديداً *} أي عدلاً قاصداً صواباً، ليدل هذا الظاهر على صلاح ما أتمره من الباطن.
ولما طال التحذير والزجر والتهويل في شأن اليتامى، وكان ذلك ربما أوجب النفرة من مخالطتهم رأساً فتضيع مصالحهم؛ وصل بذلك ما بين أن ذلك خاص بالظالم في سياق موجب لزيادة التحذير فقال مؤكداً لما كان قد رسخ في نفوسهم من الاستهانة بأموالهم:{إن الذين} ولما كان الأكل أعظم مقاصد الإنسان عبر به عن جميع الأغراض فقال: {يأكلون أموال اليتامى ظلماَ} أي أكلاً هو في غير موضعه بغير دليل يدل عليه، فهو كفعل من يمشي في الظلام، ثم أتبعه ما زاده تأكيداً بالتحذير في سياق الحصر فقال:{إنما يأكلون} أي في الحال وصور الأكل وحققه بقوله: {في بطونهم ناراً} أي
تحرق المعاني الباطنية التي تكون بها قوام الإنسانية وبين أنها على حقيقتها في الدنيا ولكنا لا نحسها الآن لأنها غير النار المعهودة في الظاهر بقوله - مكرراً التحذير مبيناً بقراءة الجماعة بالبناء للفاعل أنهم يلجؤون إليها إلجاء يصيّرهم كأنهم يدخلونها بأنفسهم: {وسيصلون} أي في الآخرة - بوعيد حتم لا خلف فيه {سعيراً *} أي عظيماً هو نهاية في العظمة، وذلك هو معنى ابن عامر وعاصم بالبناء للمجهول، أي يلجئهم إلى صليها ملجىء قاهر لا يقدرون على نوع دفاع له.
ولما تم ذلك تشوفت النفوس إلى بيان مقادير الاستحقاق بالإرث لكل واحد، وكان قد تقدم ذكر استحقاق الرجال والنساء من غير تقييد يتيم، فاقتضت البلاغة بيان أصول جميع المواريث، وشفاء العليل بإيضاح أمرها، فقال - مستأنفاً في جواب من كأنه سأل عن ذلك مؤكداً لما أمر به منها غاية التأكيد مشيراً إلى عظمة هذا العلم بالتقدم في الإيصاء في أول آياته، والتحذير من الضلال في آخرها، ورغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نصف العلم، وحذر من إضاعته بأنه أول علم ينزع من الأمة:{يوصيكم الله} أي بما له من
العظمة الكاملة والحكمة البالغة، وبدأ بالأولاد لأن تعلق الإنسان بهم أشد فقال:{في أولادكم} أي إذا مات مورثهم.
ولما كان هذا مجملاً كان بحيث يطلب تفسيره، فقال جواباً لذلك بادئاً بالأشرف بياناً لفضله بالتقديم وجعله أصلاً والتفضيل:{للذكر} أي منهم إذا كان معه شيء من الإناث، ولم يمنعه مانع من قتل ولا مخالفة دين ونحوه {مثل حظ الأنثيين} أي نصيب من شأنه أن يغني ويسعد، وهو الثلثان، إذا انفردتا فللواحدة معه الثلث، فأثبت سبحانه للإناث حظاً تغليظاَ لهم من منعهن مطلقاً، ونقصهن عن نصيب الرجال تعريضاً بأنهم أصابوا في نفس الحكم بانزالهن عن درجة الرجال.
ولما بان سهم الذكر مع الأنثى بعبارة النص، واشعر ذلك بأن لهن إرثاً في الجملة وعند الاجتماع مع الذكر، وفُهم بحسب إشارة النص وهي ما ثبت بنظمه، لكنه غير مقصود، ولا سبق له النص - حكم الأنثيين إذا لم يكن معهن ذكر، وهو أن لهما الثلثين، وكان ذلك أيضاً مفهماً لأن الواحدة غذا كان لها مع الأخ الثلث كان لها ذلك مع الأخت إذا لم يكن ثمَّ ذكر من باب الأولى،
فاقتضى ذلك أنهن إذا كن ثلاثاً أو أكثر ليس معهم ذكر استغرقن التركة، وإن كانت واحدة ليس معها ذكر لم تزد على الثلث؛ بين أن الأمر ليس كذلك - كما تقدم - بقوله مبيناً إرثهن حال الانفراد:{فإن كن} أي الوارثات {نساء} أي إناثاً.
ولما كان ذلك قد يحمل على أقل الجمع، وهو اثنتان حقيقة أو مجازاً حقق ونفى هذا الاحتمال بقوله:{فوق اثنتين} أي لا ذكر معهن {فلهن ثلثا ما ترك} أي الميت، لا أزيد من الثلثين {وإن كانت} أي الوارثة {واحدة} أي منفردة، ليس معها غيرها {فلها النصف} أي فقط.
ولما قدم الإيصاء بالأولاد لضعفهم إذا كانوا صغاراً، وكان الوالد أقرب الناس إلى الولد وأحقهم بصلته وأشدهم اتصالاً به أتبعه حكمه فقال:{ولأبويه} أي الميت، ثم فصل بعد أن أجمل ليكون الكلام آكد، ويكون سامعه إليه أشوق بقوله مبدلاً بتكرير العامل:{لكل واحد منهما} أي أبيه وأمه اللذين ثنيا بأبوين
{السدس مما ترك} ثم بين شرط ذلك فقال: {إن كان له} أي الميت {ولد} أي ذكر، فإن كانت أنثى أخذ الأب السدس فرضاً، والباقي بعد الفروض حق عصوبة.
ولما بين حكمهما مع الأولاد تلاه بحالة فقدهم فقال: {فإن لم يكن له ولد} أي ذكر ولا أنثى {وورثه أبواه} أي فقط {فلأمه الثلث} أي وللأب الباقي لأن الفرض أنه لا وارث له غيرهما، ولما كان التقدير: هذا مع فقد الإخوة أيضاً، بني عليه قوله:{فإن كان له إخوة} أي اثنان فصاعدا ذكوراً أو لا، مع فقد الأولاد {فلأمه السدس} أي لأن الإخوة ينقصونها عن الثلث إليه، والباقي للأب، ولا شيء لهم، وأما الأخت الواحدة فإنها لا تنقصها إلى السدس سواء كانت وارثة أو لا، وكذا الأخ إذا كان واحداً، ثم بين أن هذا كله بعد إخراج الوصية والدين لأن ذلك سبق فيه حق الميت الذي جمع المال فقال:{من بعد وصية يوصي بها} أي كما مندوب لكل ميت، وقدمها في الوضع على ما هو مقدم عليها في الشرع بعثاً على أدائها، لأن أنفس الورثة تشح بها، لكونها مثل مشاركتهم في الإرث لأنها بلا عوض {أو دين} أي إن كان
عليه دين.
ولما كان الإنسان قد يرى أن بعض أقربائه من أصوله أو فصوله أو غيرهم أنفع له، فأحب تفضيله فتعدى هذه الحدود لما رآه، وكان ما رآه خلاف الحق في الحال أو في المآل، وكان الله تعالى هو المستأثر بعلم ذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما» الحديث لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف شاء؛ قال تعالى حاثاً على لزوم ما حده مؤكداً بالجملة الاعتراضية - كما هو الشأن في اعتراض - لأن هذه القسمة مخالفة لما كانت العرب تفعله، وهي على وجوه لا تدرك عللها:{أبآؤكم وأبنآؤكم} أي الذين فضلنا لكم إرثهم على ما ذكرنا {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} أي من غيره، لأنه لا إحاطة لكم في علم ولا قدرة، فلو وكل الأمر في القسمة إليكم لما وضعتم الأمور في أحكم مواضعها.
ولما بين أن الإرث على ما حده سبحانه وتعالى مؤكداً له بلفظ الوصية، وزاده تأكيداً بما جعله اعتراضاً بين الإيصاء وبين (فريضة) بين أنه على سبيل الحتم الذي من تركه عصى، فقال ذاكراً مصدراً
مأخوذاً من معنى الكلام: {فريضة من الله} أي الذي له الأمر كله، ثم زادهم حثاً على ذلك ورغبة فيه بقوله تعليلاً لفريضته عليهم مطلقاً وعلى هذا الوجه:{إن الله} أي المحيط علماً وقدرة {كان} ولم يزل ولا يزال لأن وجود لا يتفاوت في وقت من الأوقات، لأنه لا يجري عليه زمان، ولا يحويه مكان، لأنه خالقهما {عليماً} أي بالعواقب {حكيماً *} أي فوضع لكم هذه الأحكام على غاية الإحكام في جلب المنافع لكم ودفع الضر عنكم، ورتبها سبحانه وتعالى أحسن ترتيب، فإن الوارث يتصل بالميت تارة بواسطة وهو الكلالة، وأخرى بلا واسطة، وهذا تارة يكون بنسب، وتارة بصهر ونسب، فقدم ما هو بلا واسطة لشدة قربه، وبدأ منه بالنسب لقوته، وبدأ منهم بالولد لمزيد الاعتناء به.
ولما كان الإرث بالمصاهرة أضعف من الإرث بالقرابة ذكره بعده، وقدمه على الإرث بقرابة الأخوة تعريفاً بالاهتمام به ولأنه بلا واسطة، وقدم منه الرجل لأنه أفضل فقال:{ولكم نصف ما ترك أزواجكم} وبين شرط هذا بقوله: {إن لم يكن لهن ولد} أي منكم أو من غيركم، ثم بين الحكم على التقدير الآخر فقال:{فإن كان لهن ولد} أي وارث وإن سفل سواء كان ابناً أو بنتاً {فلكم الربع مما تركن} أي
تركت كل واحدة منهن، ويغسلها الزوج لأن الله أضافها إليه باسم الزوجية، والأصل الحقيقة، ولا يضر حرمة جماعها بعد الموت وحلُّ نكاح أختها وأربع سواها، لأن ذلك لفقد المقتضي أو المانع وهو الحياة، وذلك لا يمنع علقة النكاح المبيح للغسل - كما لم يمنعها لأجل العدة لو كان الفراق بالطلاق، ثم كرر حكم الوصية اهتماماً بشأنها فقال:{من بعد وصية يوصين بها} أي الأزواج أو بعضهن، ولعله جمع إشارة إلى أن الوصية أمر عظيم ينبغي أن يكون مستحضراً في الذهن غير مغفول عنه عند أحد من الناس {أو دين} .
ولما بين إرث الرجل أتبعه إرثها فقال معلماً أنه على النصف مما للزوج - كما مضى في الأولاد -: {ولهن} أي عدداً كن أو لا {الربع مما تركتم} أي يشتركن فيه على السواء إن كن عدداً، وتنفرد به الواحدة إن لم يكن غيرها، ثم بين شرطه بقوله:{إن لم يكن لكم ولد} ثم بين حكم القسم الآخر بقوله: {فإن كان لكم ولد} أي
وارث {فلهن الثمن مما تركتم} كما تقدم في الربع، ثم كرر الخروج عن حق الموروث فقال:{من بعد وصية توصون بها أو دين} .
ولما فرغ من قسمي ما اتصل بالميت بلا واسطة أتبعه الثالث وهو ما اتصل بواسطة، ولما كان قسمين، لأنه تارة يتصل من جهة الأم فقط وهم الأخياف، أمهم واحدة وآباؤهم شتى، وتارة من جهة الأب فقط وهم العلات، أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، وتارة من جهة الأبوين وهم الأعيان، وكانت قرابة الأخوة أضعف من قرابة البنوة؛ أكدها بما يقتضيه حالها، فجعلها في قصتين، ذكر إحداهما هنا إدخالاً لها في حكم الوصية المفروضة، وختم بالأخرى السورة لأن الختام من مظنات الاهتمام.
ولما كانت قرابة الأم أضعف من قرابة الأب قدمها هنا دلالة على الاهتمام بشأنها، وأن ما كانوا يفعلونه من حرمان الإناث خطأ وجور عن منهاج العدل، فقال تعالى:{وإن كان} أي وجد {رجل يورث} ي من ورث حال كونه {كلالة} أي ذا حالة لا ولد له فيها ولا والد، أو يكون يورث من: أورث - بمعنى أن إرث الوارث بواسطة من مات كذلك: لا هو ولد للميت ولا والد،
ووارثه أيضاً كلالة لأنه ليس بوالد ولا ولد، فالمورث كلالة وارثه، والوارث كلالة مورثة؛ قال الأصبهاني: رجل كلالة، وامرأة كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع، لأنه مصدر كالدلالة والوكالة، وهو بمعنى الكلال، وهو ذهاب القوة من الإعياء، وقد تطلق الكلالة على القرابة من غير جهة الولد والوالد، ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة {أو} وجدت {امرأة} أي تورث كذلك، ويجوز أن يكون (يورث) صفة، و (كلالة) خبر كان {وله} خبر كان {وله} أي للمذكور وهو الموروث على أي الحالتين كان.
ولما كان الإدلاء بمحض الأنوثة يستوي بين الذكر والأنثى لضعفها قال {أخ أو أخت} أي من الأم - بإجماع المفسرين، وهي قراءة أبيّ وسعد بن مالك رضي الله عنهما {فلكل واحد منهما السدس} أي من تركته، من غير فضل للذكر على الأنثى.
ولما أفهم ذلك - أي بتحويل العبارة المذكورة من أن يقال: فله السدس - أنهما إن كانا معاً كان لهما الثلث، وكان ذلك قد يفهم أنه
إن زاد وارثه زاد الإرث عن الثلث نفاه بقوله: {فإن كانوا} أي ما أفهمه (أخ أو أخت) من الوراث منهم {أكثر من ذلك} أي واحد، كيف كانوا {فهم شركاء} أي بالسوية {في الثلث} أي المجتمع من السدسين اللذين تقدم أنهما بينهما، لا يزادون على ذلك شيئاً، ثم كرر الحث على مصلحة الميت بياناً للاهتمام بها فقال:{من بعد وصية يوصى بها أو دين} .
ولما كان الميت قد يضار ورثته، أو بعضهم بشيء يخرجه عنهم ظاهراً أو باطناً كأن يقر بماله لأجنبي، أو بدين لا حقيقة له، أو بدين كان له بأنه استوفاه؛ ختم الآية بالزجر عن ذلك بقوله:{غير مضار} مع ما تقدم من الإشارة إلى ذلك أول القصة بقوله {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً} [النساء: 11] ؛ قال الأصبهاني: والإضرار في الوصية من الكبائر، ثم أكد ذلك بقوله مصدراً ليوصيكم:{وصية من الله} أي الذي له الأمر كله مع تأكيده بجميع ما في الآيات تعظيماً للأمر باكتناف الوصية بأولها وأخرها، وهو دون الفريضة في حق الأولاد، لأن حقهم آكد.
ولما بين سبحانه الأصول وفصل النزاع، وكان ذلك خلاف مألوفهم
وكان الفطام عن المألوف في الذروة من المشقة؛ اقتضى الحال الوعظ بالترغيب والترهيب، فختم القصة بقوله:{والله} أي الجامع لصفات الكمال من الجلال والجمال، وللإشارة إلى عظيم الوصية كرر هذا الاسم الأعظم في جميع القصة، ثم قال:{عليم} أي فلا يخفى عليه أمر من خالف بقول أو فعل، نية أو غيرها {حليم *} فهو من شأنه أن لا يعاجل بالعقوبة فلا يغتر بإمهاله، فإنه إذا أخذ بعد طول الأناة لم يفلت فاحذروا غضب الحليم! وفي الوصفين مع التهديد استجلاب للتوبة.
ولما كان فطم أنفسهم عن منع الأطفال والنساء شديداً عليهم لمرونهم عليه بمرور الدهور الطويلة على إطباقهم على فعله واستحسانهم له أتبعه سبحانه الترغيب والترهيب لئلا يغتر بوصف الحليم، فقال معظماً للأمر بأداة البعد ومشيراً إلى جميع ما تقدم من أمر المواريث والنساء واليتامى وغيره:{تلك} أي هذه الحدود الجليلة النفع العظيمة الجدوى المذكورة من أول هذه السورة، بل من أول القرآن {حدود الله} أي الملك الأعظم، فمن راعاها - ولو لم يقصد
طاعته، بل رفعاً لنفسه عن دناءة الإخلاد إلى الفاني ومعرة الاستئثار على الضعيف المنبىء عن البخل وسفول الهمة - نال خيراً كبيراً، فإنه يوشك أن يجره ذلك إلى أن يكون ممن يطيع الله {ومن يطع الله} الحائز لصفتي الجلال والإكرام {ورسوله} أي في جميع طاعاته هذه وغيرها، بالإقبال عليها وترك ما سواها لأجله سبحانه؛ قال الأصبهاني:«من» عام ووقوعه عقيب هذه التكاليف الخاصة لا يخصصه.
ولما تشوف السامع بكليته إلى الخبر التفت إليه تعظيماً للأمر - على قراءة نافع وابن عامر بالنون - فقال: {ندخله جنات} أي بساتين، وقراءة الجماعة بالياء عظيمة أيضاً لبنائها على الاسم الأعظم وإن كانت هذه أشد تنشيطاً بلذة الالتفات {تجري من تحتها الأنهار} أي لأن أرضها معدن المياه، ففي أي موضع أردت جرى نهر. فهي لا تزال يانعة غضة، وجمع الفائزين بدخول الجنة في قوله:{خالدين فيها} تبشيراً بكثرة الواقف عند هذه الحدود، ولأن منادمة الإخوان من أعلى نعيم الجنان.
ولما كان اختصاصهم بالإرث عن النساء والأطفال من الفوز عندهم، بل لم يكن الفوز العظيم عندهم إلا الاحتواء على الأموال وبلوغ ما في البال منها من الآمال قال تعالى معظماً بأداة البعد:{وذلك} أي الأمر العالي المرتبة من الطاعة المندوب إليها {الفوز العظيم *} أي لا غيره من الاحتواء على ما لم يأذن به الله، وهذا أنسب شيء لتقديم الترغيب لتسمح نفوسهم بترك ما كانوا فيه مع ما فيه من التلطف بهذه الأمة والتبشير له صلى الله عليه وسلم بأنها مطيعة راشدة.
ولما أشربت القلوب الصافية ذوات الهمم العالية حب نيل هذا الفوز أتبعه الترهيب فطماً لها عن تلك الفوائد بالكلية فقال: {ومن يعص الله} أي الذي له العظمة كلها {ورسوله} أي في ذلك وغيره {ويتعد حدوده} أي التي حدها في هذه الأحكام وغيرها، وأفرد العاصي في النيران في قوله:{يدخله ناراً خالداً فيها} لأن الانفراد المقتضي للوحشة من العذاب والهوان، ولما كان منعهم للنساء والأطفال من الإرث استهانة بهم ختم الآية بقوله:{وله عذاب مهين *} .
ولما تقدم سبحانه في الإيصاء بالنساء، وكان الإحسان في الدنيا تارة يكون بالثواب، وتارة يكون بالزجر والعتاب، لأن مدار الشرائع على العدل والإنصاف، والاحتراز في كل باب عن طرفي الإفراط
والتفريط، وختم سبحانه بإهانة العاصي إحساناً إليه بكفه عن الفساد، لئلا يلقيه ذلك إلى الهلاك أبد الآباد، وكان من أفحش العصيان الزنى، وكان الفساد في النساء أكثر، والفتنة بهن أكبر، والضرر منهن أخطر، وقد يدخلن على الرجال من يرث منهم من غير أولادهم؛ قدمهن فيه اهتماماً بزجرهن فقال:{واللاتي} وهو جمع «التي» ولعله عبر فيهن بالجمع إشارة إلى كثرتهن - كما أشار إلى ذلك
{مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3] وإلى كثرة الفساد منهن {يأتين} أي يفعلن - من إطلاق السبب على المسبب، والتعبير به أبلغ {الفاحشة} أي الفعلة الشديدة الشناعة، وفي الآية - لأن من أعظم المرادات بنظمها عقب آيات الإرث وما تقدمها الاحتياط للنسب - إشارة بذكر عقوبة الزانية من غير تعرض لإرث الولد الآتي منها إلى أن الولد للفراش، وأنه لا ينفي بالمظنة، بل بعد التحقق على ما في سورة النور، لأنه لا يلزم من وجود الزنى نفيه، وكونه من الزنى، قال ابو حيان في النهر: والفاحشة هنا الزنى بإجماع المفسرين إلا ما ذهب إليه مجاهد وتبعه أبو مسلم الأصفهاني من أنها المساحقة، ومن الرجال اللواط، ثم بين الموصول بقوله:
{من نسائكم} أي الحرائر {فاستشهدوا} أي فاطلبوا أن تشهدوا {عليهن أربعة} من الرجال.
ولما كان تعالى قد جعل هذه الأمة وسطاً يقبلون على غيرهم ولا يقبل غيرهم عليهم قال: {منكم} أي من عدول المسلمين بأنهن فعلنها {فإن شهدوا} أي بذلك {فأمسكوهن} أي فاحبسوهن {في البيوت} أي وامنعوهن من الخروج، فإن ذلك أصون لهن، وليستمر هذا المنع {حتى يتوفاهن الموت} أي يأتيهن وهن وافيات الأعراض {أو يجعل الله} المحيط علمه وحكمته {لهن سبيلاً *} اي للخروج قبل الموت بتبين الحد أو بالنكاح، وإن لم يشهد الأربعة لم يفعل بهن ذلك وإن تحقق الفعل.
ولما ذكر أمر النساء أتبعه حكم الرجال على وجه يعم النساء أيضاً فقال: {والّذان} وهو تثنية «الذي» وشدد نونه ابن كثير تقوية له ليقرب من الأسماء المتمكنة {يأتيانها منكم} أي من بكر أو ثيب، أو رجل أو امرأة، ويثبت ذلك بشهادة الأربعة - كما تقدم {فآذوهما} وقد بين مجمل الأذى الصادق باللسان وغيره آية الجلد وسنة الرجم {فإن تابا} أي بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود {وأصحا}
أي بالاستمرار على ما عزما عليه، ومضت مدة علم فيها الصدق في ذلك {فأعرضوا عنهما} أي عن أذاهما، وهو يدل على أن الأذى باللسان يستمر حتى يحصل الاستبراء، ثم علل ذلك بقوله:{إن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {كان تواباً} أي رجاعاً بمن رجع عن عصيانه إلى ما كان فيه من المنزلة {رحيماً *} أي يخص من يشاء من عباده بالتوفيق لما يرضاه له، فتخلقوا بفعله سبحانه وارحموا المذنبين إذا تابوا، ولا يكن أذاكم لهم إلا لله ليرجعوا، وليكن أكثر كلامكم لهم الوعظ بما يقبل بقلوبهم إلى ما ترضاه الإلهية، ويؤيده أن المراد بهذا البكر والثيب من الرجال والنساء تفسير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه مسلم والأربعة والدارمي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه «قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» فالحديث مبين لما أجمل في الآية من ذكر السبيل.
ولما ختم ذلك بذكر توبة الزناة، وكان الحامل على الزنى - على ما يقتضيه الطبع البشري - شدة الشبق وقلة النظر في العواقب، وكان
ذلك إنما هو في الشباب؛ وصل بذلك قوله تعالى معرفاً بوقت التوبة وشرطها مرغباً في تعجيلها مرهباً من تأخيرها: {إنما التوبة} وهي رجوع العبد عن المعصية اعتذاراً إلى الله تعالى، والمراد هنا قبولها، سماه باسمها لأنها بدون القبول لا نفع لها، فكأنه لا حقيقة لها.
ولما شبه قبوله لها بالواجب من حيث إنه بها، لأنه لا يبدل القول لديه؛ عبر بحرف الاستعلاء المؤذن بالوجوب حثاً عليها وترغيباً فيها فقال:{على الله} أي الجامع بصفات الكمال {للذين يعملون السوء} أيَّ سوء كان من فسق أو كفر، وقال:{بجهالة} إشارة إلى شدة قبح العصيان، لا سيما الزنى من المشايخ، لإشعار السياق ترهيباً بأن الأمر فيهم ليس كذلك - كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البزار بإسناد جيد عن سلمان رضي الله عنه «ثلاثة لا يدخلون الجنة: الشيخ الزاني، والإمام الكذاب، والعائل المزهو» وهو في مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه
«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر» وهو عن كثير من الصحابة من طرق كثيرة، وذلك لأن حضور الموت بالقوة القريبة من الفعل
وإضعاف القوى الموهنة لداعية الشهوة قريب من حضوره بالفعل، وذلك ينبغي أن يكون مذهباً لداعية الجهل، ماحقاً لعرامة الشباب، سواء قلنا: إن المراد بالجهالة ضد الحلم، أو ضد العلم؛ قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي: قال أبو عبد الله - يعني القزاز: والجاهلية الجهلاء اسم وقع على أهل الشرك يكون مأخوذاً من الجهل الذي هو ضد العلم والذي هو ضد الحلم قال وأصل الجهل من قولهم: استجهلت الريح الغصن - إذا حركته، فكأن الجهل إنما هو حركة تخرج عن الحق والعلم - انتهى. فالمعنى حينئذ: يعملون السوء ملتبسين بسفه أو بحركة وخفة أخرجتهم عن الحق والعلم فكانوا كأنهم لا يعلمون - بعملهم عمل أهل الجاهلية الذين لا يعلمون، وزاد في التنفير من مواقعة السوء والتحذير بقوله:{ثم يتوبون} أي يجددون التوبة.
ولما كان المراد الترغيب فيها ولو قصر زمنها بمعاودة الذنب أثبت الجار فقال: {من} أي من بعض زمان {قريب} أي من زمن المعصية وهم في فسحة من الأجل، وذلك كناية عن
عدم الإصرار إلى الموت، ولعله عبر بثم إشارة إلى بُعد التوبة ولا سيما مع القرب ممن واقع المعصية، لأن الغالب أن الإنسان إذا ارتبك في حبائلها لا يخلص إلا بعد عسر، ولذلك أشار إلى تعظيمهم بأداة البعد في قوله - مسبباً عن توبتهم واعداً أنه فاعل ما أوجبه على نفس لا محالة من غير خلف وإن كان لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء:{فأولئك} أي العظيمو الرتبة الصادقو الإيمان {يتوب الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {عليهم} أي يردهم إلى ما كانوا فيه عندهم من مكانة القرب قبل مواقعة الذنب {وكان الله} أي المحيط علماً وقدرة {عليماً} أي بالصادقين في التوبة والكاذبين وبنياتهم، فهو يعاملهم بحسب ما يقتضيه حالهم {حكيماً} فهو يضع الأشياء في أحكم محل لها، فمهما فعله لم يمكن نقضه.
ولما بين سبحانه المقبول أتبعه المطرود فقال: {وليست التوبة} أي قبولها {للذين يعملون السيئات} أي واحدة بعد أخرى مصرين عليها فسقة كانوا أو كفرة، غير راجعين من قريب، بل يمهلون {حتى إذا حضر} ولما كان تقديم المفعول - على وجه يجوّز كل سامع وقوعه عليه - أهول، لكونه يصير مرتقباً حال فاعله، خائفاً من عاقبته قال:{أحدهم الموت} أي بأن وصل إلى حد الغرغرة، وهي
حالة المعاينة {قال} أي بلسانه كفرعون، أو قلبه {إني تبت الآن} فبين أن ما قبل الاحتضار قريب مع الترغيب في المسارعة جداً بالتعبير بقريب {ولا الذين} أي وليست التوبة للذين {يموتون وهم كفار} حقيقة أو مجازاً، من غير أن يتوبوا، ولا عند الغرغرة، فسوى بين الفسق والكفر تنفيراً من الفسق لصعوبة النزع عنه بعد مواقعته، ولذلك جمعهما في العذاب بقوله - جواباً لمن كأنه قال: فما جزاء هذين الصنفين: {أولئك} أي البعداء من الرحمة، الذين لم يتوبوا إلا حال الغرغرة، والذين ماتوا مصرين {أعتدنا} أي هيأنا وأحضرنا {لهم عذاباً} ولما كان تأخير التوبة لذة نفسانية ختم بقوله:{أليماً *} أي نعذب به الكافرين ومن شئنا من عصاة المؤمنين، لأن توبتهم في تلك الحالة عدم، والميت من غير توبة من المؤمنين في المشيئة.
ولما انقضى ما تخلل ذكر النساء الوالدات للوراث، وختمه بهذا التهديد الهائل لمن فعل ما لا يحل له؛ وصل الكلام فيهن بأمر من فعله، فهو زان مصر على الزنى إلى الموت إن اعتقد حرمته، أو كافر
إن اعتقد حله، فقال مشيراً بتخصيص المؤمنين عقب {ولا الذين يموتون وهم كفار} [النساء: 18] إلى أنه لا يرث كافر من مسلم، وإلا لقال: يا أيها الناس - مثلاً، منفراً من ذلك بالتقييد بما هو لأدنى الإيمان:{يا أيها الذين آمنوا} أي فوقف بهم الإيمان عند زواجرنا {لا يحل لكم أن ترثوا النساء} أي مالهن {كرهاً} أي كارهين لهن، لا حامل لكم على نكاحهن إلا رجاء الإرث، وذلك أنهم كانوا ينكحون اليتامى لمالهن، وليس لهم فيهن رغبة إلا تربص الموت لأخذ مالهن ميراثاً - كما سيأتي في تفسير {ويستفتونك في النساء} [النساء: 127] أو يكون الفعل واقعاً على نفس النساء، ويكون (كرهاً) على هذا حالاً مؤكدة، أي كارهات، أو ذوات كره، وذلك لأن الرجل كان إذا مات وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فيلقي ثوبه عليها، فيصير أحق بها من نفسها ومن غيرها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج، يضارها لتفتدي منه بما ورثت من الميت، أو تموت هي فيرثها، وكان أهل المدينة على هذا حتى توفي
أبو قيس بن الأسلت، ففعل ابنه حصن هذا مع زوجة له، فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال؛ «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً} » ولهذا أتبعه سبحانه قوله: {ولا تعضلوهنَّ} أي تمنعوهن من التزوج بعد طلاقكم لهن أو بعد موت أزواجهن، أوتشددوا عليهن بالمضارة وهن في حبائلكم؛ قال البيضاوي: وأصل العضل: التضييق، يقال عضلت الدجاجة بيضها - انتهى. والظاهر أن مدار مادته إنما هو على الاشتداد، من عضلة الساق، وهي اللحمة التي في باطنه، ونقل عبد الحق أنها كل لحم اجتمع، قال: وقال الخليل: كل لحمة اشتملت على عصبة - انتهى. وتارة يكون الاشتداد ناظراً إلى المنع، وتارة إلى الغلبة والضيق، ثم علل ذلك بقوله:{لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} أي أنتم إن كن أزواجاً لكم، أو مورثوكم إن كن أزواجاً لهم وعضلتموهن بعدهم، ليذهب ذلك بسبب إنفاقهن له على أنفسهن في زمن العضل،
أو بسبب افتدائهن لأنفسهن به منكم، ثم استثنى من تحريم العضل في جميع الحالات فقال:{إلا أن} أي لا تفعلوا ذلك لعلة من العلل إلا لعلة أن {يأتين بفاحشة} أي فعلة زائدة القبح {مبينة} أي بالشهود الأربعة إن كانت زنى فاعضلوهن بالإمساك في البيوت - كما مضى - لأن من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، أو بمن يقبل من الشهود إن كانت نشوزاً وسوء عشرة، فلكم العضل حينئذ إلى الصلاح أو الافتداء بما تطيب به النفس، والأنسب لسياق الأمر في {وعاشروهن} أن يكون {تعضلوهن} منهياً، لا معطوفاً على «أن ترثوا» {بالمعروف} أي من القول والفعل بالمبيت والنفقة والموادة قبل الإتيان بالفاحشة {فإن} أي إن كنتم لا تكرهونهن فالأمر واضح، وإن {كرهتموهن} فلا تبادروا إلى المضاجرة أو المفارقة، واصبروا عليهن نظراً لما هو الأصلح، لا لمجرد الميل النفسي، فإن الهوى شأنه أن لا يدعو إلى خير ثم دل على هذه العلة بقوله:{فعسى} ولوضوح دلالتها على ذلك صح جعلها جواباً للشرط {أن تكرهوا شيئاً} أي من الأزواج أو غيرها، لم يقيده سبحانه تعميماً تتميماً للفائدة {ويجعل الله} أي المحيط علماً وقدرة، وغيَّب بحكمته علمكم العواقب
لئلا تسكنوا إلى مألوف، أو تنفروا من مكروه {فيه خيراً كثيراً *} .
ولما نهى عن العضل تسبباً إلى إذهاب بعض ما أعطيته المرأة أتبعه التصريح بالنهي عن أخذ شيء منه في غير الحالة التي أذن فيها في المضارة فقال: {وإن} أي إن لم تعضلوا المرأة، بل {أردتم استبدال زوج} أي تنكحونها {مكان زوج} أي فارقتموها أو لا، ولم يكن من قبلنا ما يبيح الضرار.
ولما كان المراد بزوج الجنس جمع في قوله: {وآتيتم إحداهن} أي إحدى النساء اللاتي وقع الإذن لكم في جمعهن في النكاح سواء كانت بدلاً أو مستبدلاً بها {قنطاراً} أي مالاً جماً {فلا تأخذوا منه شيئاً} أي بالمضارة عن غير طيب نفس منها، ولا سبب مباح، ثم عظم أخذه باستفهام إنكار وتوبيخ فقال:{أتأخذونه} أي على ذلك الوجه، ولما تقدم أن من صور الغصب على الافتداء حال الإتيان بالفاحشة شبه الأخذ في هذه الحالة التي لا سبب لها بالأخذ في تلك الحالة، فجعل الأخذ على هذه الصورة قائماً
مقام القذف بما لا حقيقة له فلذلك قال: {بهتاناً وإثماً مبيناً *} أي كذوي بهتان في أخذه وإثم مبين - لكونه لا سبب له - يورث شبهة فيه، ثم غلظ ذلك باستفهام آخر كذلك فقال:{وكيف تأخذونه وقد} أي والحال أنه قد {أفضى} أي بالملامسة {بعضكم إلى بعض} أي فكدتم أن تصيروا جسداً واحداً {وأخذن} أي النساء {منكم} أي بالإفضاء والاتحاد {ميثاقاً غليظاً *} قوياً عظيماً، أي بتقوى الله في المعاشرة بالإحسان وعدم الإساءة، لأن مبنى النكاح على ذلك وإن لم يصرح به فيه.
ولما كرر ذكر الإذن في نكاحهن وما تضمنه منطوقاً مفهوماً، وكان قد تقدم الإذن في نكاح ما طاب من النساء، وكان الطيب شرعاً قد يحمل على الحل؛ مست الحاجة إلى ما يحل منهن لذلك وما يحرم فقال:{ولا تنكحوا} أي تتزوجوا وتجامعوا {ما نكح} أي بمجرد العقد في الحرة، وبالوطء في ملك اليمين {آبآؤكم} وبين {ما} بقوله:{من النساء} أي سواء كانت إماء أو لا، بنكاح أو ملك يمين، وعبر بما دون «من» لما في النساء غالباً من السفه المدني لما لا يعقل.
ولما نهى عن ذلك فنزعت النفوس عما كان قد ألف بهاؤه
فلاح أنه في غاية القباحة وأن الميل إليه إنما هو شهوة بهيمية لا شيء فيها من عقل ولا مروة، وكانت عادتهم في مثل ذلك مع التأسف على ارتكابه السؤال عما مضى منه - كما وقع في استقبال بيت المقدس وشرب الخمر؛ أتبعه الاستثناء من لازم الحكم وهو: فإنه موجب لمقت من ارتكبه وعقابه فقال: {إلا ما قد سلف} أي لكم من فعل ذلك في أيام الجاهلية كما قال الشافعي رحمه الله في الأم، قال السهيلي في روضه: وكان ذلك مباحاً في الجاهلية لشرع متقدم، ولم يكن من الحرمات التي انتهكوها. ثم علل النهي بقوله:{إنه} اي هذا النكاح {كان} أي الآن وما بعده كوناً راسخاً {فاحشة} أي والفاحشة لا يقدم عليها تام العقل {ومقتاً} أي أشر ما يكون بينكم وبين ذوي الهمم لما انتهكتم من حرمة آبائكم {وساء سبيلاً *} أي قبح طريقاً طريقه.
ولما ابتدأ بتعظيم الآباء واحترامهم في أن ينكح الأبناء أزواجهم على العموم ثنى بخصوص الأم بقوله: {حرمت عليكم} ولما كان أعظم مقصود من النساء النكاح، فكان إضافة التحريم إلى أعيانهن إفادة التأكيد غير قادح في فهمه، وكان مع ذلك قد تقدم ما يدل
على أن المراد النكاح؛ أسند التحريم إلى الذات تأكيداً للتحريم فقال: {أمهاتكم} أي التمتع بهن بنكاح أو ملك يمين، فكان تحريمها مذكوراً مرتين تأكيداً له وتغليظاً لأمره في نفسه واحتراماً للأب وتعظيماً لقدره {وبناتكم} أي وإن سفلن لما في ذلك من ضرار أمهاتهن، وهذان الصنفان لم يحللن في دين من الأديان {وأخواتكم} أي أشقاء أو لا {وعمّاتكم} كذلك {وخالاتكم} أيضاً، والضابط لهما أن كل ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمتك، وقد تكون من جهة الأم وهي أخت أبي أمك؛ وكل أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فأختها خالتك، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك {وبنات الأخ} شقيقاً كان أو لا {وبنات الأخت} أي كذلك، وفروعهن وإن سفلن.
ولما انقضى أمر النسب وهو سبعة أصناف أتبعه أمر السبب وهو ثمانية: أوله أزواج الآباء، أفردها وقدمها تعظيماً لحرمتها، لما كانوا استهانوا من ذلك، وآخره المحصنات، وبدأ من هذا القسم بالأم من الرضاع كما بدأ النسب بالأم فقال:{وأمهاتكم اللَاّتي أرضعنكم} تنزيلاً له منزلة النسب، ولذلك سماها أمّاً، فكل أنثى انتسب باللبن
إليها فهي أمك، وهي من أرضعتك، أو أرضعت امرأة أرضعتك، أو رجلاً أرضعك بلبانه من زوجته أو أم ولده، وكل امرأة ولدت امرأة أرضعتك أو رجلاً أرضعك فهي أمك من الرضاعة والمراضعة أختك، وزوج المرضعة الذي أرضعت هي بلبانه أبوك وأبواه جداك، وأخته عمتك، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده إخوة الأب، وأم المرضعة جدتك، وأختها خالتك، وكل من ولد لها من هذا الزوج إخوة لأب وأم، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم، فعلى ذلك ينزل قوله:{وأخواتكم من الرضاعة} كما في النسب بشرط أن يكون خمس رضعات وفي الحولين، وبتسمية المرضعة أمّاً والمشاركة في الرضاع أختاً عُلِم أن الرضاع كالنسب. كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» فالصورتان منبهتان على بقية السبع؛ الأم منبهة على البنت بجامع الولادة، والأخوات على العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت بجامع الأخوة.
ولما انقضى ما هو كلحمة النسب أتبعه أمر بالمصاهرة فقال:
{وأمهات نسائكم} أي دخلتم بهن أو لا - لما في ذلك من إفساد ذات البين غالباً {وربائبكم} وذكر سبب الحرمة فقال: {اللَاّتي في حجوركم} أي بالفعل أو بالقوة - لما فيهن من شبه الأولاد {من نسائكم} ولما كانت الإضافة تسوغ في اللغة بأدنى ملابسة بين سبحانه أنه لا بد من الجماع الذي كنى عنه بالدخول لأنه ممكن لحكم الأزواج الذي يصير به أولادها كأولاده فقال: {اللَاّتي دخلتم بهن} قيد بالدخول لأن غيرة الأم من ابنتها دون غيرة البنت من أمها.
ولما أشعر هذا القيد بحل بنت من عقد عليها ولم يدخل بها أفصح به تنبيهاً على عظيم حرمة الإرضاع فقال: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن} أي الأمهات {فلا جناح عليكم} أي في نكاحهن؛ ولما افتتح المحرمات على التأبيد بزوجة الأب ختمها بزوجة الولد فقال: {وحلائل أبنائكم} أي زوجة كانت أو موطوءة بملك يمين؛ ولما لم يكن المتبنى مراداً قيد بقوله: {الذين من أصلابكم} أي وإن سفلوا، ودخل ما بالرضاع لأنه كلحمة النسب فلم يخرجه القيد.
ولما انقضى التحريم المؤبد أتبعه الموقت فقال: {وأن} أي وحرم عليكم أن {تجمعوا} بعقد نكاح لأن مقصوده الوطء،
أو بوطء في ملك يمين {بين الأختين} فإن كانت إحداهما منكوحة والأخرى مملوكة حلت المنكوحة وحرمت المملوكة ما دام الحل، لأن النكاح أقوى، فإذا زال الحل حلت الأخرة ولو في عدة التي كانت حلالاً.
ولما كان الجمع بين الأختين شرعاً قديماً قال: {إلا ما قد سلف} أي فإنه لا إثم عليكم فيه رحمة من الله لكم، ثم علل رفع حرجه فقال:{إن الله} أي المحيط بصفات الكمال {كان غفوراً} أي ساتراً لما يريد من أعيان الزلل وآثاره {رحيماً *} أي معاملاً بغاية الإكرام الذي ترضاه الإلهية.
ولما ذكر مضارة الجمع أتبعه مضارة الإغارة على الحق والأول جمع بين المنكوحين وهذا جمع بين الناكحين فقال - عاطفاً على النائب عن فاعل {حرمت} :
{والمحصنات} أي الحرائر المزوجات لأنهن منعت فروجهن بالنكاح عن غير الأزواج {من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} أي من أزواج أهل الحرب، فإن الملك بالأسر يقطع النكاح.
ولما أتم ذلك قال مؤكداً له ومبيناً عظمته: {كتاب الله} أي خذوا فرض الملك الأعظم الذي أوجبه عليكم إيجاب ما هو موصول في الشيء بقطعه منه، والزموه غير ملتفتين إلى غيره، وزاد في تأكيده بأداة الوجوب فقال:{عليكم} ولما أفهم ذلك حل ما سواه أفصح به احتياطاً للإيضاح وتعظيماً لحرمتها في قوله: {وأحل لكم} وبين عظمة هذا التحريم بأداة البعد فقال: {ما وراء ذلكم} أي الذي ذكر لكم من المحرمات العظيمة.
ولما كان الكلام في المنع لمن يصرح بالفاعل بل قال؛ «حرمت» - ترفقاً في الخطاب حثاً على الآداب، فلما وصل الأمر إلى الحل أظهره تطييباً للقلوب وتأنيساً للنفوس في قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر بفتح الهمزة والحاء، وأبهمه في قراءة الباقين على نسق {حرمت} لأن فاعل الحل والحرمة عند أهل هذا الكتاب معروف أنه الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه أصلاً، ثم أتبع التحليل علته فقال:{أن} أي إرادة أن {تبتغوا} أي تطلبوا متبعين من شئتم مما أحل لكم {بأموالكم} اللاتي تدفعونها مهوراً
حال كونكم {محصنين} أي قاصدين بذلك العفة لأنفسكم ولهن {غير مسافحين} أي قاصدين قضاء الشهوة وصب الماء الدافق لذلك فقط، وهو على هذا الوجه لا يكون إلا زنًى سراً وجهراً، فيكون فيه حينئذ إضاعة المال وإهلاك الدين، ولا مفسدة أعظم مما يجمع هذين الخسرانين.
ولما تقدم أول السورة وأثناءهها الأمر بدفع الصداق والنهي عن أخذ شيء مما دفع إلى المرأة، وكان ذلك أعم من أن يكون بعد الدخول أو قبله، مسمى أو لا قال هنا مسبباً عن الابتغاء المذكور:{فما استمتعتم} أي أوجدتم المتاع وهو الانتفاع {به منهن} بالبناء بها، متطلبين لذلك من وجوهه الصحيحة راغبين فيه {فآتوهن أجورهن} أي عليه كاملة، وهي المهور {فريضة} أي حال كونها واجبة من الله ومسماة مقدرة قدرتموها على أنفسكم، ويجوز كونه تأكيداً لآتوا بمصدر من معناه {ولا جناح} أي حرج وميل {عليكم فيما تراضيتم به} أي أنتم والأزواج {من بعد الفريضة} أي من طلاق أو فراق أو زيادة أو نقص إن كانت موجودة مقدرة، أو من مهر المثل من بعد تقديره إن لم تكن مسماة فيمن عقد عليها من غير تسمية صداق.
ولما ذكر في هذه الآيات أنواعاً من التكاليف هي في غاية الحكمة، والتعبير عنها في الذروة العليا من العظمة، وختمها بإسقاط الجناح عند الرضى وكان الرضى أمراً باطناً لا يطلع عليه حقيقة إلا الله تعالى،
حث على الورع في شأنه بنوط الحكم بغلبة الظن فقال مرغباً في امتثال أوامره ونواهيه: {إن الله} أي الذي له الإحاطة التامة علماً وقدرة {كان عليماً} أي بمن يقدم متحرياً لرضى صاحبه أو غير متحرٍّ لذلك {حكيماَ *} أي يضع الأشياء في أمكن مواضعها من الجزاء على الذنوب وغيره.
ولما مضى ذلك على هذا الوجه الجليل عرف أنه كله في الحرائر لأنه الوجه الأحكم في النكاح، وأتبعه تعليم الحكمة في نكاح الإماء؛ فقال عاطفاً على ما تقديره: هذا حكم من استطاع نكاح حرة: {ومن لم يستطع منكم} أي أيها المؤمنون {طولاً} أي سعة وزيادة عبر فيما قبله بالمال تهويناً لبذله بأنه ميال، لا ثبات له، وهنا بالطول الذي معناه: التي قل من يجدها {أن} أي لأن {ينكح المحصنات} أي الحرائر، فإن الحرة مظنة العفة الجاعلة لها فيما هو كالحصن على مريد الفساد، لأن العرب كانوا يصونونهنَّ وهنَّ أنفسهن عن أن يكن كالإماء {المؤمنات} بسبب كثرة المؤنة وغلاء المهر {فمن} أي فلينكح إن أراد من {ما ملكت أيمانكم} أي مما ملك غيركم من المؤمنين {من فتياتكم} أي إمائكم، وأطلقت الفتوة -
وهي الشباب - على الرقيق لأنه يفعل ما يفعل الشاب لتكليف السيد له إلى الخدمة وعدم توقيره وإن كان شيخاً، ثم وضح المراد بالإضافة فقال:{المؤمنات} أي لا من الحرائر الكافرات ولا مما ملكتم من الإماء الكافرات ولا مما ملك الكفار حذراً من مخالطة كافرة خوفاً من الفتنة - كما مضى في البقرة، ولئلا يكون الولد المسلم بحكم تبعية أمه في الرق ملكاً لكافر، هذا ما تفهمه العبارة ولكنهم قالوا: إن تقييد المحصنات بالمؤمنات لا مفهوم له، وإلا لصار نكاح الحرة الكتابية المباح بآية المائدة مشروطاً بعقد مسلمة، حرة كانت أو أمة، ولم يشترط ذلك؛ ومذهب الشافعي أنه لا يجوز نكاح الأمة مع القدرة على حرة كتابية، والظاهر أن فائدة التقييد الندب إلى مباعدة الكفار فلا ينكح منهن إلا لضرورة، فكأن هذه سورة المواصلة، أسقط فيها أهل المباعدة، والمائدة سورة تمام الدين، فذكر فيها ما يجوز لأهله فلا ضرر في القيد، لأن المفهوم لا يقوى لمعارضة المنطوق مع ما فيه من فائدة الندب إلى الترك، وهذا كما أن قيد الإحصان هنا للندب إلى عدم نكاح الزواني مع جوازه بآية النور {وانكحوا الأيامى منكم} [النور: 32] كما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
ولما شرط في هذا النكاح الإيمان، وعبر فيه بالوصف، وكان أمراً قلبياً، لا يطلع على حقيقته إلا الله؛ أعقبه ببيان أنه يكتفى فيه بالظاهر فقال:{والله} أي الذي له الإحاطة التامة بالمعلومات والمقدورات {أعلم بإيمانكم} فربما ظهر ضعف إيمان أحد والباطن بخلافه، لكن في التعبير به وبالوصف لا بالفعل إرشاد إلى مزيد التحري من جهة الدين «فاظفر بذات الدين، تربت يداك!» . ولما اشترط الدين كان كأنه قيل: فالنسب؟ فأشير إلى عدم اشتراطه بقوله: {بعضكم من بعض} أي كلكم من آدم وإن تشعبتم بعده {فانكحوهن} أي بشرط العجز {بإذن أهلهن} أي من مواليهن، ولا يجوز نكاحهن من غير إذنهم.
ولما كان مما لا يخفى أن السيد المالك للرقبة مالك للمنفعة من باب الأولى كان الأمر بدفع المهور إليهن مفيداً لندب السيد إلى جبرها به من غير أن يوهم أنها تملكه وهي لا تملك نفسها، فلذلك قال تعالى:{وآتوهن أجورهن} وهي المهور {بالمعروف} أي من غير ضرار، لا عليكم ولا عليهن ولا على أهلهن، حال كونهن {محصنات} أي عفائف بانفسهن أو بصون الموالي لهن {غير مسافحات}
أي مجاهرات بالزنى لمن أراد، لا لشخص معين {ولا متخذات أخدان} أي أخلاء في السر للزنى معينين، لا تعدو ذات الخدن خدنها إلى غيره؛ قال الأصبهاني: وهو - أي الخدن - الذي يكون معك في كل ظاهر وباطن.
ولما لم يتقدم بيان حد الإماء قال مبنياً له: {فإذا أحصن} مبنياً للفاعل في قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم، والمفعول في قراءة الباقين، أي انتقلن من حيز التعريض للزنى بالإكراه إلى حيز الحرائر بأن حفظن فروجهن بكراهتهن للزنى، أو حفظهن الموالي بالرضى لهن بالعفة؛ وقال الشافعي في أوائل الرسالة في آخر الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه: إن معنى (أحصن) هنا: أسلمن، لا نكحن فاصبن بالنكاح، ولا أعتقن وإن لم يصبن، وقال: فإن قال قائل: أراك توقع الإحصان على معان مختلفة؟ قيل: نعم، جماع الإحصان أن يكون دون التحصين مانع من تناول المحرم، فالإسلام مانع، وكذلك الحرية مانعة، وكذلك التزوج والإصابة مانع وكذلك الحبس في البيوت
مانع، وكل ما منع أحصن، وقد قال الله عز وجل {وعلمناه صنعة لبؤس لكم لتحصنكم من بأسكم} [الأنبياء: 80] وقال: {لا يقاتلونكم جميعاً إلى في قرى محصنة} [الحشر: 41] يعني ممنوعة، قال: وآخر الكلام وأوله يدلان على أن معنى الإحصان المذكور عام في موضع دون غيره، إذ الإحصان ها هنا الإسلام دون النكاح والحرية والتحصين بالحبس والعفاف، وهذه الأسماء التي يجمعها اسم الإحصان - انتهى. {فإن أتين بفاحشة} ولا تكون حينئذ إلا عن رضى من غير إكراه.
ولما كان من شأن النكاح تغليظ الحد، فغلظ في الحرائر بالرجم؛ بين تعالى أنه لا تغليظ على الإماء، بل حدهن بعده هو حدهن قبله، فقال {فعليهن نصف ما على المحصنات} أي الحرائر لأنهن في مظنة العفة وإن كن بغير أزواج {من العذاب} أي الحد - كما كان ذلك عذابهن قبل الإحصان، وهذا يفهمه بطريق الأولى، والمراد هنا الجلد، لأن الرجم لا ينتصف.
ولما كان كأنه قيل: هل هذا لكل عاجز عن الحرة؟ استؤنف جواب هذا السؤال بقوله تعالى مشيراً بأداة البعد إلى أنه مما لا يحسن قربه: {ذلك} أي حل نكاح الإماء الذي ينبغي البعد منه {لمن خشي العنت} أي الوقوع في الزنا الموجب للإثم المقتضي للهلاك
بالعذاب في الدنيا والآخرة بما عنده من عظيم الداعية إلى النكاح ومشقة الصبر عنه؛ قالوا: وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر؛ قال الأصبهاني: وقيل: إن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد يؤدي بالإنسان إلى الأمراض الشدية، أما في حق النساء فقد يؤدي إلى اختناق الرحم، وأما في حق الرجال فقد يؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر.
ولما كان هذا التخفيف والتيسير خاصاً بالمؤمنين منا قيد بقوله: {منكم} .
ولما بين إباحته وأشار إلى البعد عنه لما فيه من استرقاق الولد صرح بالندب إلى حبس النفس عنه فقال: {وإن تصبروا} أي عن نكاحهن متعففين {خير لكم} أي لئلا تعيروا بهن، أو تسترق أولادكم منهن، ثم أتبع ذلك بتأكيده لذوي البصائر والهمم في سياق دال على رفع الحرج فقال:{والله} أي الذي له الجلال والإكرام {غفور} أي لمن لم يصبر، والمغفرة تشير إلى نوع تقصير {رحيم *} أي فاعل به فعل الراحم منكم بالإذن في قضاء وطره واللطف فيما يتبع ذلك من المحذور.
ولما أتم سبحانه الحلال والحرام من هذه الحدود والأحكام،
وختمها بصفة الرحمة بين ما أراد بها من موجبات الرحمة تذكيراً بالنعمة لتشكر، وتحذيراً من أن تنسى فتكفر فقال تعالى:{يريد الله} أي الملك الأعظم إنزال هذه الأحكام على هذا النظام {ليبين لكم} أي ليوقع لكم البيان الشافي فيما لكم وعليكم من شرائع الدين {ويهديكم} أي يعرفكم {سنن} أي طرق {الذين} ولما كان المراد بعض الماضين قال: {من قبلكم} أي من أهل الكتاب: الأنبياء وأتباعهم {ويتوب عليكم} أي يرجع بكم عن كل ما لا يرضيه، لا سيما ما يجر إلى المقاطعة - مثل منع النساء والأطفال الإرث، ومثل نكاح ما يحرم نكاحه وغير ذلك، فأعلمهم بهذا أنهم لم يخصهم بهذه التكاليف، بل يسلك بهم فيها صراط الذين أنعم عليهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى القبول وأعون على الامتثال، وليتحققوا أن إلقاء أهل الكتاب الشبه إليهم وتذكيرهم بالأضغان لإرادة إلقاء العداوة محض حسد لمشاركتهم لهم في مننهم إذ هدوا لسننهم، وما أحسن ختم ذلك بقوله:{والله} أي المحيط بأوصاف الكمال {عليم حكيم *} فلا يشرع لكم شيئاً إلا وهو في غاية الإحكام. فاعملوا به يوصلكم إلى دار السلام.
بيان ذلك أن ما في هذه السورة الأمر بالتقوى والحث عليها،
وبيان الفرائض وأمر الزناة، وما يحل ويحرم من النساء، والتحري في الأموال، والإحسان إلى الناس، لا سيما الأيتام والوالدين، والإذعان للأحكام، وتحريم القتل، والأمر بالعدل في الشهادة وغيرها، وكل ذلك مبين أصوله في التوراة كما هو مبثوث في هذا الديوان عن نصوصها في المواضع اللائقة به، لكن القرآن أحسن بياناً وأبلغ تبياناً وأبدع شأناً وألطف عبارة وأدق إشارة، وأعجب ذلك أن سبب إنزال فرائض الميراث في شريعتنا النساء، ففي الصحيحين وغيرهما عن جابر رضي الله عنه قال:«مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاني وقد أغمي عليّ» وفي رواية البخاري في التفسير: «عادني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ فصب عليّ وضوءه فأفقت، فقلت: يا رسول الله! كيف أصنع في مالي؟» وفي رواية لمسلم: «إنما يرثني كلالة فلم يجبني بشيء» وفي رواية الترمذي: «وكانت لي تسع أخوات حتى نزلت آية الميراث» وفي رواية للبخاري: «فنزلت» وفي رواية للترمذي: «حتى نزلت (يوصيكم الله في أولادكم) » وفي رواية للترمذي: حتى نزلت آية الميراث {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} الآية، وقال: حديث صحيح. ولأبي داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
«جاءت
امرأة سعد بن ربيع بابنتيها من سعد رضي الله عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا ولهما مال، قال: يقضي الله عز وجل في ذلك، فنزلت آية الميراث» وفي رواية أبي داود: ونزلت الآية في سورة النساء، {يوصيكم الله في أولادكم} وفي رواية الدارقطني:«فنزلت سورة النساء، وفيها {يوصيكم الله في أولادكم} إلى آخر الآية - فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك» وفي رواية للدارقطني: «إن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله! إن سعداً هلك وترك ابنتين وأخاه فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن، فلم يجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه ذلك، ثم جاءته فقالت: يا رسول الله! ابنتا سعد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادعي لي أخاه! فجاء فقال: ادفع إلى ابنتيه الثلثين، وإلى امرأته الثمن،
ولك ما بقي» وقال شيخنا حافظ عصره أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر في الإصابة في أسماء الصحابة: روى أبو الشيخ في تفسيره من طريق عبد الله بن الأجلح الكندي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الأولاد الصغار حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت، وترك بنتين وابناً صغيراً، فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة فأخذا ميراثه، فقالت امرأته للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فأنزل الله تعالى {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} [النساء: 7] فأرسل إلى خالد وعرفطة فقال: لا تحركا من الميراث شيئاً» ورواه أبو الشيخ من وجه آخر فقال: قتادة وعرفطة ورواه الثعلبي في تفسيره فقال: سويد وعرفطة، ووقع عنده أنهما أخوا أوس: ورواه مقاتل في تفسيره لفقال: إن أوس بن مالك توفي يوم أحد وترك امرأته أم كجة وبنتين
فذكر القصة «وذكر شيخنا في تخريج أحاديث الكشاف أن الثعلبي والبغوي ساقا بلا سند أن أوس بن الصامت الأنصاري ترك امرأته أم كجة وثلاث بنات، فزوى ابنا عمه سويد وعرفطه أو قتادة وعرفجة ميراثة عنهن، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح، وذاد عن الحوزة، وحاز الغنيمة، فجاءت أم كجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفضيخ، فشكت إليه، فقال: ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله، فنزلت
{للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} [النساء: 7] فبعث إليهما: لا تفرقا من مال أوس شيئاً، فإن الله قد جعل لهن نصيباً، ولم يبين حتى نزلت {يوصيكم الله في أولادكم} الآية، فأعطى أم كجة الثمن والبنات الثلثين والباقي لابني العم «ورواه الطبري من طريق ابن جريج عن عكرمة على غير هذا السياق، ولفظه:» نزلت في أم كجة وابنة أم كجة وثعلبة وأوس بن سويد، وهم من الأنصار، كان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها، فقالت: يا رسول الله! توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث، فقال عم ولدها: إن ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلاًّ
ولا ينكأ عدواً، فنزلت {للرجال نصيب} [النساء: 7] ، وروي من طريق السدي، قال في قوله:{يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11]«كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان، ولا يورثون إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها أم كجة، وترك خمس أخوات، فجاءت الورثة فأخذوا ماله، فشكت أم كجة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} [النساء: 11] ثم قال في أم كجة {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد} [النساء: 12] » .
فجميع هذه الروايات - كما ترى - ناطقة بأن سبب نزول آيات الميراث النساء، ويمكن أن يكون المجموع سبباً - والله أعلم؛ وذلك كما أن سبب إنزال الفرائض في التوراة كان النساء أيضاً، وذلك أنه جل أمره وعز اسمه وتعالى جده لما أمات من نكص عن أمره من بني إسرائيل ومن آلافهم في التيه وأخرج أبناءهم منه؛ أمر موسى عليه الصلاة والسلام بقسمة أرض الكنعانيين بين بنيهم بعد معرفة عددهم على منهاج ذكره، ولم يذكر البنات، وكان فيهم بنات لا أب
لهن فسألن ميراث أبيهن، فأنزل الله حكمهن؛ قال في السفر الرابع من التوراة ما نصه: ولما كان بعد الموت الفاشي قال الرب لموسى ولليعازر بن هارون الحبر: احفظا عدد جماعة بني إسرائيل من ابن عشرين سنة إلى فوق، كل من خرج للمحاربة من بين بني إسرائيل فكلما الجماعة في عربات مؤاب التي عند أردن أريحا، وأخبراهم بقول الرب، ثم أحصياهم، فكان عددهم ستمائة ألف وسبعمائة وثلاثين رجلاً غير اللاويين سبط موسى فإنهم كانوا لحفظ قبة الزمان وخدمتها، وكانوا ثلاث قبائل: أحدهم فغث فولد له عمران، وكان اسم امرأة عمران حنة ابنة لوى، ولدت له بأرض مصر هارون
وموسى ومريم، وكان عددهم في هذا الوقت ثلاثة وعشرين ألفاً، كل ذكر منهم ابن شهر فما فوق، ولم يكن في هؤلاء ممن أحصاه موسى وهارون حيث عدا بني إسرائيل في برية سيناء، لأن الرب قال لهم: يقتلون في هذه المفازة، ولا يبقى منهم رجل ما خلا كلاب بن يوفنا ويوشع بن نون، ودنا بنات صلفحد من قبيلة منشى بن يوسف وقلن: أبونا توفي في البرية ولم يخلف ابناً، أعطنا ميراثنا، فرفع موسى أمرهن إلى الرب فقال الرب لموسى: الحق قلن أعطهن ميراثاً مع أعمامهن ليتبين ميراث أبيهن وقلن لبني إسرائيل: أي رجل مات ولم يخلف ابناً يعطى ميراثه ابنته وإن لم يكن له ابنة يعطى ميراثه إخوته ومن لم يكن له إخوة يعطى ميراثه أعمامه ومن لم يكن له أعمام يعطى ميراثه لمن كان قرابته من أهل عشيرته، وتكون هذه سنة لبني إسرائيل في أحكامهم كما أمر الرب موسى؛ وقال في السفر الثالث منها ما نصه سنة الخطايا التي إذا ارتكبها إنسان
عوقب بالموت: وكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل، وقل لهم: أنا الله ربكم! لا تعملوا مثل أعمالكم أهل مصر التي سكنتموها، ولا تعملوا مثل أعمال أهل كنعان التي أدخلكم إليها ولا تسيروا سنتهم ولكن اعملوا بأحكامي، واحفظوا وصاياي، وسيروا بها، أنا الله ربكم! احفظوا شرائعي وأحكامي.
لأن الذي يعمل بها يعيش، أنا الرب وليس إله غيري! ولا يجسرن الرجل منكم أنيكشف عورة قرابته، أنا الرب وليس إله غيري! ولا تكشفن عورة أبيك ولا عورة أمك، لأنها أمك، ولا تفضح امرأة ابنك ولا تكشف عورتها، لان عورتها عورة ابنك، ولا تفضح أختك من أبيك ومن أمك التي ولدت من أبيك، أو أختك من أمك لا من أبيك، لا تكشف عورتها، لأن فضيحتها فضيحتك، ولا تكشف عورة بنت امرأة أبيك التي ولدت من أبيك، لأنها أختك، ولا تكشف عورة عمتك لإنها أخت أبيك ولا تكشف عورة خالتك لأنها أخت أمك ولا تكشف عورة امرأة عمك ولا تدن من امرأته، لأنها امرأة عمك، ولا تكشف عورة كنتك، لأنها امرأة ابنك، ولا تكشف
عورة امرأة أخيك، لأن فضيحتها فضيحة أخيك، ولا تكشف عورة امرأة وبنتها، أي لا تتزوج بهما، ولا تكشف عورة بنت الابن ولا بنت البنت، لأن فضيحتهما فضيحتك، ولا تكشف عورتهما، هن قرابتك وارتكابهن إثم، ولا تتزوج أخت امرأتك في حياتها فتحزنها، ولا تكشف عورتهما جميعاً في حياة امرأتك، والمرأة إذا حاضت وطمثت لا تدن لتكشف عورتها، ولا تسفح بامرأة صاحبك ولا تنجس، ولا تنجس اسم إلهك، أنا الله ربكم! لا تضاجعن الذكر، ولا ترتكب من الذكر ما ترتكب من المرأة، لأنه فعل نجس، ولا بهيمة، ولا تلق زرعك فيها فتنجس بها، والمرأة أيضاً لا تقوم بين يدي بهيمة تطأها، لأنه فعل نجس، لا تنجسوا منها بشيء، فبهذه كلها تنجست الشعوب التي أهلكتها من بين أيديكم وتنجست أرضهم بفعلهم وعاقبتها بإثمها وتعطلت الأرض من سكانها لحال خطاياهم؛ احفظوا عهودي وأحكامي ولا ترتكبوا شيئاً من هذه الخطايا لأن أهل البلاد التي ترثونها فعلوا هذه الأفاعيل كلها
وتنجست الأرض بهم، ولا تنجسوا الأرض لئلا تعطل منكم كما تعطلت من الشعوب التي كانوا يها قبلكم، لأن كل من يفعل هذه الخطايا يهلك؛ احفظوا شرائعي ولا ترتكبوا شيئاً من سير الخطايا التي فعلها من كان قبلكم، ولا تنجسوا بها، أنا الله ربكم! .
ثم كلم الرب موسى وقال له: كلم جميع بني إسرائيل وقل لهم: تقدسوا، لأني قدوس، أنا الله ربكم! يهاب كل امرىء منكم والديه ويكرمهما، واحفظوا وصاياي، لأني أنا الله ربكم! لا تقبلوا إلى الشيطان ولا تتخذوا آلهة مسبوكة، أنا الله ربكم وقال في السفر الثاني: ولا تصدقن الخبر الكاذب، لا توالِ الخبيث لتكون له شاهد زور، ولا تتبعن هوى الكبير فتنسى، ولا تشايعن الكبراء الذين يحيفون في القضاء فتحيف معهم، ولا تعن المسكين على الظلم، لا تحيفن في فضاء المسكين وتباعد عن القول الكاذب. وقال في السفر الخامس: ودعا موسى بجميع بني إسرائيل وقال لهم: اسمعوا يا بني إسرائيل السنن والأحكام التي أتلوا عليكم لتعلموها وتحفظوها وتعملوا بها، وتعلمون
أن الله ربنا عاهدنا عهداً بأرض حوريب، ولم يعاهد الله آباءنا بهذا العهد، بل إنما عاهدنا، نحن الذين ها هنا أحياناً سالمين، وجهاً قبل وجه كلمنا الرب في النار عن الجبل، فأنا كنت قائماً بين يدي الرب وبينكم لأظهر لكم ذلك الزمان أقول الله ربكم، حيث فرقتم من النار ولم تصعدوا إلى الجبل، وقال الرب: أنا الله ربكم الذي أخرجتكم من أرض مصر وخلصتكم من العبودية! لا يكون لكم إله غيري، ولا تتخذوا أصناماً ولا أشباهاً، ولا تقسم باسم ربك كذباً، لأن الربّ لا يزكي من يحلف باسمه كذباً، احفظوا يوم السبت وطهروه - إلى أن قال؛ لا تعملوا فيه عملاً ليستريح عبيدكم وإماؤكم معكم، واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر فأخرجكم الله ربكم من هناك بيد منيعة وذراع عظيمة، لذلك أمركم ربكم أن تحفظوا يوم السبت، فيكرم كل امرىء منكم والديه كما أمركم الله ربكم لتطول أعماركم، وينعم عليكم في الأرض التي يعطيكم، لا تقتلوا، لا تزنوا، لا تسرقوا، لا يشتهين الرجل منكم امرأة صاحبه - إلى أن قال: ولا شيئاً مما لصاحبك - هذه الآيات
التي أمر بها الرب بني إسرائيل، وكلمهم بها في الجبل من النار بالسحاب والضباب بصوت عظيم لا يوصف ولا يحد، وهي التي كتبها على لوحي الحجارة ودفعها إلى موسى النبي - فما سمعتم صوتاً من الظلمة ورأيتم ناراً تشتعل في الجبل تقدم إليّ رؤساؤكم، وقالوا: قد أرانا الله ربنا مجده وكرامته وعظمته، اليوم رأينا أن كلم الله الناس وعاشوا، إن عدنا نسمع صوت الله ربنا متنا، تقدم أنت واسمع ما يقول الله ربنا وقص علينا فسمع الرب صوت كلامكم حين كلمتموني وقال لي الرب: قد سمعت صوت الشعب وما قالوا لك، نعم ما تكلموا به ويا ليت تكون لهم قلوب هكذا، فتكون تسمع وتطيع وتتقوى، ويفزعون من قولي، ويحفظون جميع وصاياي، كلها احفظوا، واعملوا بما أمركم الله ربكم ولا تحيدوا يمنة ولا يسرة، بل سيروا في كل الطريق الذي أمركم ربكم لتعيشوا، وينعم عليكم، وتطول
مدتكم في الأرض التي ترثون - هذه السنن والوصايا والأحكام التي أمرني الله ربكم أن أعلمكم لتعلموا وتتقوا الله ربكم أنتم وبنوكم كل أيام حياتكم فتطول أعماركم، اسمعوا يا بني إسرائيل! الله ربنا واحد، أحبوا الله ربكم في كل قلوبكم، ولتكن هذه الآيات التي أمركم في قلوبكم أبداً، وعلموها بنيكم، وتكلموا بها إذا حضرتم في منازلكم، وإذا سافرتم، وإذا رقدتم، وإذا قمتم، وشدوها علامة على أيديكم، ويكون ميسماً بين أعينكم، واكتبوها على قوائم بيوتكم وعلى أبوابكم، ولا تنسوا الله ربكم، وإياه فاعبدوا وباسمه فأقسموا، ولا تتبعوا الآلهة الأخرى التي تعبدها الشعوب التي حولكم، لأن الله ربكم الحالّ فيكم هو إله غيور فاتقوه، لا يشتد غضبه عليكم، ويهلككم عن حديد الأرض، ولا تجربوا الله ربكم كما جربتموه بالبلايا، ولكن احفظوا وصية الله ربكم وشهادته وسنته التي أمركم بها، فاعملوا الحسنات، وأنصفوا واعدلوا لينعم عليكم، وتدخلوا وترثوا الأرض المخصبة
التي أقسم الله لآبائكم، ويكسر جميع أعدائكم ويهزمهم قدامكم كما قال الرب، فإذا سألكم بنوكم غداً وقالوا: ما الشهادة والسنة والحكومة التي أمركم الله بها؟ قولوا لبنيكم: إنا كنا عبيداً لفرعون بأرض مصر، وأخرجنا الرب من أرض مصر بيد منيعة، وأنزل بأهل مصر بلاء شديداً، وفعل ذلك بفرعون وجميع أهل بيته تجاهنا، وأخرجنا الرب من هناك ليدخلنا ويعطينا الأرض التي أقسم لآبائنا، وأمرنا الرب أن نعمل هذه السنن كلها، وأن نتقي الله ربنا لينعم كل أيامنا، ويحيينا بالخير والنعم، ويكون ربنا بنا براً إذا حفظنا هذه الوصية كلها، وعلمناها أمام الله ربنا كما أمرنا.
وقال في السفر الخامس: ولا تكف يدك عن العطاء والصدقة على أخيك المسكين، ولكن يصدق بعضكم على بعض، ويعطي بعضكم بعضاً، ولا يضيق قلبك، ولا تحزن إذا صدقت على أخيك، لأنك إذا فعلت هذا القول وأوسعت على أخيك يبارك الله لك في جميع أعمالك، وفي كل ما تمد يدك إليه، من أجل أن الأرض لا تعدم المساكين، فلذلك
آمرك - والعزم إليك - أن تمد يدك إلى أخيك المسكين، وتصدق على الفقير في الأرض. وقال فيه: أنصفوا بين إخوتكم وأحكموا بالحق ولا تحيفوا في القضاء، واسمعوا من الصغير كما تسمعون من الكبير، ولا تهابوا الرجل ولو عظم شأنه وكثرت أمواله، لأن القضاء لله.
وقال فيه: صيروا لكم قضاة وكتاباً في جميع قراكم، وتقضون للشعب قضاء العدل والبر، ولا تحيفن في القضاء، ولا تحابوا ولا ترتشوا، لأن الرشوة تعمي أعين الحكام في القضاء، ولكن أقضي بالحق لتعيشوا وتبقوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله ربكم - فقد علم من هذا أصول غالب ما ذكره تعالى في هذه السورة مع ما تقدم من أشكاله في البقرة عند قوله تعالى:{وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله} [البقرة: 83] وغيرها من الآيات، وفي آل عمران أيضاً، وأما حد الزاني وأمر القتل والجراح فسيذكر إن شاء الله تعالى في المائدة.
ولما قرر سبحانه وتعالى إرادته لصلاحهم ورغب في اتباع الهدى بعلمه وحكمته عطف على ذلك قوله: {والله} بلطف منه وعظم سلطانه {يريد} إي بإنزاله هذا الكتاب العظيم وإرساله هذا الرسول
الكريم {أن يتوب عليكم} أي يرجع لكم بالبيان الشافي عما كنتم عليه من طرق الضلال لما كنتم فيه من العمى بالجهل، وزادهم في ذلك رغبة بقوله:{ويريد الذين يتبعون} أي على سبيل المبالغة والاستمرار {الشهوات} أي من أهل الكتابين وغيرهم كشاش بن قيس وغيره من الأعداء {أن تميلوا} أي عن سبيل الرشاد {ميلاً عظيماً *} أي إلى أن تصيروا إلى ما كنتم فيه من الشرك والضلال، فقد أبلغ سبحانه في الحمل على الهدى بموافقة الولي المنعم الجليل الذي لا تلحقه شائبة نقص، ومخالفة العدو الحسود الجاهل النازل من أوج العقل إلى حضيض طباع البهائم.
ولما كان الميل متعباً لمرتكبه أخبرهم أن علة بيانه للهداية وإرادته التوبة الرفق بهم فقال: {يريد الله} أي وهو الذي له الجلال والجمال وجميع العظمة والكمال {أن يخفف عنكم} أي يفعل في هذا البيان وهذه الأحكام فعل من يريد ذلك، فيضع عنكم الآصار التي كانت على من كان قبلكم الحاملة على الميل، ويرخص لكم في
بعض الأشياء كنكاح الأمة - على ما تقدم، ودل على علة ذلك بالواو العاطفة؛ لأنكم خلقتم ضعفاء يشق عليكم الثقل {وخلق الإنسان} أي الذي أنتم بعضه {ضعيفاً *} مبناه الحاجة، فهو لا يصبر عن النكاح ولا غيره من الشهوات، ولا يقوى على فعل شيء إلا بتأييد منه سبحانه.
ولما كان غالب ما مضى مبنياً على الأموال تارة بالإرث، وتارة بالجعل في النكاح، حلالاً أو حراماً؛ قال تعالى - إنتاجاً مما مضى بعد أن بين الحق من الباطل وبين ضعف هذا النوع كله، فبطل تعليلهم لمنع النساء والصغار من الإرث بالضعف، وبعد أن بين كيفية الترصف في أمر النكاح بالأموال وغيرها حفظاً للأنساب، ذاكراً كيفية التصرف في الأموال، تطهيراً للإنسان، مخاطباً لأدنى الأسنان في الإيمان، ترفيعاً لغيرهم عن مثل هذا الشأن:{يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان والتزام الأحكام.
ولما كان الأكل أعظم المقاصد بالمال، وكان العرب يرون التهافت على الأكل أعظم العار وإن كان حلالاً؛ كنى به التناول
فقال: {لا تأكلوا} أي تتناولو {أموالكم} أي الأموال التي جعلها الله قياماً للناس {بينكم بالباطل} أي من التسبب فيها بأخذ نصيب النساء والصغار من الإرث، وبعضل بعض النساء وغير ذلك مما تقدم النهي عنه وغيره.
ولما نهى عن الأكل بالباطل، استدرك ما ليس كذلك فقال:{إلا أن تكون} أي المعاملة المدارة المتداولة بينكم {تجارة} هذا في قراءة الكوفيين بالنصب، وعلى قراءة غيرهم: إلا أن توجد تجارة كائنة {عن تراض منكم} أي غير منهي عنه من الشارع، ولعل الإتيان بأداة الاستثناء المتصل - والمعنى على المنقطع - للإشارة إلى أن تصرفات الدنيا كلها جديرة بأن يجري عليها اسم الباطل ولو لم يكن إلا معنياً بها تزهيداً فيها وصدّاً عن الاستكثار منها، وترغيباً فيما يدوم نفعه ببقائه، وهكذا كل استثناء منقطع في القرآن، من تأمله حق التأمل وجد للعدول عن الحرف الموضوع له - «وهو لكن» - إلى صورة الاستثناء حكمة بالغة - والله الموفق.
ولما كان المال عديل الروح ونهى عن إتلافه بالباطل، نهى عن
إتلاف النفس، لكون أكثر إتلافهم لها بالغارات لنهب الأموال وما كان بسببها وتسبيبها على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل، فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل فقال تعالى:{ولا تقتلوا أنفسكم} أي حقيقة بأن يباشر الإنسان قتل نفسه، أو مجازاً بأن يقتل بعضكم بعضاً، فإن الأنفس واحدة، وذلك أيضاً يؤدي إلى قتل نفس القاتل، فلا تغفلوا عن حظ أنفسكم من الشكر فمن غفل عن حظها فكأنما مثلها، ثم علله بما يلين أقسى الناس فقال:{إن الله} أي مع ما له من صفات العظمة التي لا تدانيها عظمة {كان بكم} أي خاصة حيث خفف عليكم ما شدده على من كان قبلكم {رحيماً *} أي بليغ الرحمة حيث يسر لكم الطاعة ووفقكم لها فأبلغ سبحانه الترغيب في الامتثال؛ ثم قال ترهيباً من مواقعة الضلال: {ومن يفعل ذلك} أي المنهي عنه من القتل وغيره العظيم الإبعاد عن حضرات الإله {عدواناً وظلماً} أي بغير حق، وعطفه للوصف بالواو يدل على تناهي كل منهما، هذا مع ما أفهمه صفة الفعلان من المبالغة، فكان المراد العدو الشديد المفرط المتجاوز
للحدود الناشيء عن العهد وتناهي الظلم الذي لا شائبة فيه للحق {فسوف نصليه ناراً} أي ندخله إياها بوعيد لا خلف فيه وإن طال إمهاله {وكان ذلك} أي الأمر العظيم الذي توعد به {على الله} أي الذي له الجلال والجمال {يسيراً *} أي لأنه لا ينقصه من مكله شيئاً، ولا يمنع منه مانع.
ولما بين تعالى ما لفاعل ذلك تحذيراً، وكان قد تقدم جملة من الكبائر، أتبعه ما للمنتهي تبشيراً جواباً لمن كأنه قال: هذا للفاعل فما للمجتنب؟ فقال على وجه عام: {إن تجتنبوا} أي تجهدوا أنفسكم بالقصد الصالح في أن تتركوا تركاً عظيماً وتباعدوا {كبائر ما تنهون عنه} أي من أكل المال والقتل بالباطل والزنى وغير ذلك مما تقدم روى البزار - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن عبد الله - يعني ابن مسعود - أنه سئل عن الكبائر فقال: ما بين أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين قال الأصبهاني: وكل ذنب عظم الشرع الوعيد عليه بالعذاب وشدده، أو عظم ضرره في الخمس الضرورية: حفظ الدين والنفس والنسب والعقل والمال، فهو كبيرة، وما عداه صغيرة {نكفر عنكم سيئاتكم} أي التي هي دون الكبائر كلها، فإن ارتكبتم
شيئاً من الكبائر وأتيتم بالمكفرات من الصلوات الخمس والجمعة وصوم رمضان والحج، أو فرطتم في شيء منها فمنَّ الله عليكم بأن أتاكم بالمرض؛ كفر ذلك المأتي به الصغائر، ولم يقاوم تلك الكبيرة فلم يكفر جميع السيئات، لعدم إتيانه على تلك الكبيرة {وندخلكم مدخلاً كريماً *} أي يجمع الشرف والعمل والجود وكل معنى حسن، ومن فاته جميع ذلك لم يكفر عنه سيئاته، ولم يدخله هذا المدخل، ويكفي في انتفائه حصول القصاص في وقت ما؛ وقال الإمام أحمد: المسلمون كلهم في الجنة - لهذه الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم
«ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فالله تعالى يغفر ما دون الكبائر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر، فأي ذنب على المسلمين! ذكره عنه الأصبهاني، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه.
ولما نهى عن القتل وعن الأكل بالباطل بالفعل وهما من أعمال الجوارح، ليصير الظاهر طاهراً عن المعاصي الوخيمة؛ نهى عن التمني الذي هو مقدمة الأكل، ليكون نهياً عن الأكل بطريق الأولى، فإن التمني قد يكون حسداً، وهو المنهي عنه هنا كما هو ظاهر الآية: وهو حرام والرضى بالحرام، والتمني على هذا
الوجه يجر إلى الأكل والأكل يعود إلى القتل، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، والنهي هنا للتحريم عند أكثر العلماء فقال:{ولا تتمنوا} أي تتابعوا أنفسكم في ذلك {ما فضل الله} أي الذي له العظمة كلها، فلا ينقصه شيء {به} اي من المال وغيره {بعضكم عن بعض} أي في الإرث وغيره من جميع الفضائل النفسانية المتعلقة بالقوة النظرية كالذكاء التام والحدس الكامل وزيادة المعارف بالكمية والكيفية، أو بالقوة العملية كالعفة التي هي وسط بين الجمود والفجور، والشجاعة التي هي وسط بين التهور والجبن، والسخاء الذي هو وسط بين الإسراف والبخل، وكاستعمال هذه القوى على الوجه الذي ينبغي وهو العدالة، أو الفضائل البدنية كالصحة والجمال والعمر الطويل مع اللذة والبهجة، أو الفضائل الخارجية مثل كثرة الأولاد الصلحاء، وكثرة العشائر والأصدقاء والأعوان، والرئاسة التامة ونفاذ القول، وكونه محبوباً للناس حسن الذكر فيهم؛ فهذه مجامع السعادات وبعضها نظرية لا مدخل للكسب فيها، وبعضها كسبية، ومتى تأمل العاقل في ذلك وجده محض عطاء من الله، فمن
شاهد غيره أرفع منه في شيء من هذه الأحوال تألم قلبه وكانت له حالتان: إحداهما أن يتمنى حصول مثل تلك السعادة له، والأخرى أن يتمنى زوالها عن صاحبها وهذا هو الحسد المذموم، لأنه كالاعتراض على الله الذي قسم هذه القسمة، فإن اعتقد أنه أحق منه فقد فتح على نفسه باب الكفر، واستجلب ظلمات البدعة، ومحا نور الإيمان، فإن الله فعال لما يريد، لا يسأل عما يفعل فلا اعتراض عليه، وكما أن الحسد سبب الفساد في الدين فهو سبب الفساد في الدنيا؛ فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأن ذلك مصلحة، ولو كان غير ذلك فسد، فإن ذلك كله قسمة من الله صادرة عن حكمه وتدبيره وعلمه بأحوال العباد فيما يصلحهم ويفسدهم.
وأما تمني المثل فإن كان دينياً كان حسناً، كما قال صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين» وإن كان دنيوياً فمن الناس من جوز ذلك، ومنهم من قال - وهم المحققون: لا يجوز ذلك، لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة في الدنيا كقصة قارون - قال معنى ذلك الإمام الرازي.
ولما نهى سبحانه عن ذلك علله بما ينبه على السعي في الاسترزاق والإجمال في الطلب، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله» وكما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» فقال مشيراً إلى أنه لا ينال أحد جميع ما يؤمل: {للرجال نصيب} أي قد فرغ من تقديره فهو بحيث لا يزيد ولا ينقص، وبين سبحانه أنه ينبغي الطلب والعمل، كما أشار إليه الحديث فقال:{مما اكتسبوا} أي كلفوا أنفسهم وأتعبوها في كسبه من أمور الدارين من الثواب وأسبابه من الطاعات ومن الميراث والسعي في المكاسب والأرباح «جعل رزقي تحت
ظل رمحي» «لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً» {وللنساء نصيب مما اكتسبن} أي وكذلك فالتمني حينئذ غير نافع، فالاشتغال به مجرد عناء.
ولما أشار بالتبعيض إلى أن الحصول بتقديره، لا بالكسب الذي جعله سبباً، فإنه تارة ينجحه وتارة يخيبه، فكان التقدير: فاكتسبوا ولا تعجزوا فتطلبوا بالتمني؛ أمر بالإقبال - في الغنى وكل شيء - عليه إشارة إلى تحريك السبب مع الإجمال في الطلب فقال: {وسئلوا الله} أي الذي له جميع صفات الكمال.
ولما كان سبحانه تعالى عظمته لا ينقصه شيء وإن جل قال: {من فضله} أي من خزائنه التي لا تنفد ولا يقضيها شيء، وفي ذلك تنبيه على عدم التعيين، لأنه ربما كان سبب الفساد، بل يكون الطلب لما هو له صلاح، وأحسن الدعاء المأثور، وأحسنه {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201] ثم علل ذلك
بقوله: {إن الله} أي الملك الأعظم الذي بيده مقاليد كل شيء {كان بكل شيء عليماً *} أي فكان على كل شيء قديراً، فإن كمال العلم يستلزم شمول القدرة - كما سيبين إن شاء الله تعالى في سورة طه، والمعنى أنه قد فعل بعلمه ما يصلحكم فاسألوه بعلمه وقدرته ما ينفعكم، فإنه يعلم ما يصلح كل عبد وما يفسده. وعطف على ذلك ما هو من جملة لعلة فقال:{ولكل} أي من القبيلتين صغاراً كانوا أو كباراً {جعلنا} بعظمتنا التي لا تضاهى {موالي} أي حكمنا بأنهم هم الأولياء، أي الأنصار، والأقرباء لأجل الإرث، هم الذين يلون المال ويرثونه، سواء كانوا عصبة خاصة وهم الوراث، أو عصبة عامة وهم المسلمون.
ولما كان الاهتمام بتوريث الصغار أكثر قال: {مما} أي من أجل ما {ترك} أي خلفه {الوالدان} أي لكم، ثم أتبع ذلك ما يشمل حقي الأصل والفرع فقال:{والأقربون} أي إليكم، ثم عطف على ذلك قوله:{والذين} أي وما ترك الذين {عقدت أيمانكم} أي مما تركه من تدلون إليه بنسب أو سبب بالحلف أو الولاء أو الصهر، وذكر اليمين لأن العهد يكون مع
المصافحة بها، ثم سبب عن ذلك قوله:{فآتوهم} أي الموالي وإن كانوا صغاراً أو إناثاً على ما بينت لكم في آية المواريث السابقة، واتركوا كل ما خالف ذلك فقد نسخ بها {نصيبهم} أي الذي فرضناه لهم من الإرث موافراً غير منقوص، ولا تظنوا أن غيرهم أولى منهم أو مساوٍ لهم، ثم رهب من المخالفة، وأكد الأمر وعداً ووعيداً بقوله:{إن الله} أي المحيط بصفات الكمال {كان على كل شيء شهيداً *} أي فهو يعلم الولي من غيره والخائن من غيره وإن اجتهد في الإخفاء، لأنه لا يخفى عليه شيء، لأنه لا يغيب شيء ولا يغيب عنه شيء، فالمعنى: إنا لم نفعل سوى ما قصدتم من إعطاء المال لمن يحمي الذمار ويذب عن الحوزة، وأنتم كنتم غير منزليه حق منازله لغيبتكم عن حقائق الأمور وغيبتها عنكم، فإنا لم نخرج شيئاً منه لغير الموالي - أي الأنصار - إما بالقرابة أو بالمعاقدة بالولاء أو المصاهرة، فالحاصل أنه لمن يحمي بالفعل، أو بالقوة القريبة منه، أو البعيدة الآئلة إلى القرب، وأما التفضيل في الأنصباء فأمر استأثرنا بعلم مستحقيه، وفي البخاري في التفسير عن ابن عباس: «موالي: ورثة والذين عاقدت أيمانكم
كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجرين الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت {ولكل جعلنا موالي} نسخت، ثم قال:{والذي عاقدت أيمانكم} من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له» .
ثم بين سبحانه وجه استحقاق بعض المفضلين، فقال - جوباً لسؤال من كأنه قال: ما للرجال فضلوا؟ - {الرجال قوامون} أي قيام الولاة {على النساء} في التأديب والتعليم وكل أمر ونهي، وبين سببي ذلك بقوله:{بما فضل الله} أي الذي له الحكمة البالغة والكمال الذي لا يدانى، هبة منه وفضلاً نم غير تكسب {بعضهم} وهم الرجال، في العقل والقوة والشجاعة، ولهذا كان فيهم الأنيباء والولاة والإمامة الكبرى والولاية في النكاح ونحو ذلك من كل أمر يحتاج إلى فضل قوة في البدن والعقل والدين {على بعض} يعني النساء، فقال للرجال {انفروا خفافاً وثقالاً} [التوبة: 41] وقال للنساء: {وقرن في بيوتكن} [الأحزاب: 33] .
ولما ذكر السبب الموهبي أتبعه الكسبي فقال: {وبما أنفقوا} أي من المهور والكسى وغيرها {من أموالهم} أي عليهن، فصارت الزيادة في أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر.
ولما بان بذلك فضلهم، فأذعنت النفس لما فضلوا به في الإرث وغيره، وكان قد تقدم ذكر نكاحهم للنساء والحث على العدل فيهن؛ حسن بيان ما يلزم الزوجات من حقوقهم وتأديب من جحدت الحق، فقال مسبباً لما يلزمهن من حقوقهم عما ذكر من فضلهم {فالصالحات قانتات} أي مخلصات في طاعة الأزواج، ولذلك ترتب عليه {حافظات للغيب} أي لحقوق الأزواج من الأنفس والبيوت والأموال في غيبتهم عنهن {بما} أي بالأمر الذي {حفظ الله} أي المحيط علماً وقدرة به غيبتهم بفعله فيه فعل من يحفظ من الترغيب في طاعتهم فيما يرضي الله والترهيب من عصيانهم بما يسخطه، ورعي الحدود التي أشار إليها سبحانه من البقرة، وشرحتها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما عرف بالصالحات لاستحقاق الإنفاق في اللوازم أتبعه حكم غيرهن فقال: {واللاّتي تخافون نشوزهن} أي ترفعهن عليكم عن
الرتبة التي أقامهن الله بها، وعصيانهن لكم فيما جعل الله لكم من الحق، وأصل النشوز: الانزعاج في ارتفاع، قال الشافعي: دلالات النشوز قد تكون قولاً، وقد تكون فعلاً، فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها، وتخضع له بالقول إذا خاطبها، ثم تغيرت؛ والفعل مثل أن كانت تقوم له إذا دخل إليها، أو كانت تسارع إلى أمره، وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها، ثم إذا تغيرت فحينئذ ظن نشوزها؛ ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز {فعظوهن} أي ذكروهن من أمر الله بما يصدع قلوبهن ويرققها ويخيفهن من جلال الله.
ولما كان الوعظ موجباً لتحقق الطاعة أو المعصية قال: {واهجروهن} أي إن لم يرجعن بالوعظ {في المضاجع} أي التي كنتم تبيتون معهن فيها من البيت، وفي ضمن الهجر امتناعه من كلامها؛ قال الشافعي: ولا يزيد في هجرة الكلام على ثلاث {واضربوهن} أي إن أصررن ضرب تأديب غير مبرح، وهو ما لا يكسر عظماً ولا يشين عضواً، ويكون مفرقاً على بدناه ولا يوالي به في موضع واحد، ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، ويكون دون الأربعين؛ قال الشافعي: الضرب مباح وتركه أفضل {فإن أطعنكم} أي بشيء من الوعظ،
والهجر في موضع المبيت من البيت، أو الضرب {فلا تبغوا} أي تطلبوا {عليهن سبيلاً} أي طريقاً إلى الأذى على ما سلف من العصيان من توبيخ على ما سلف نحوه، بما لكم عليهن من العلو، بل اغفروا لهن ما سلف، ولا يحملنكم ما منحكم الله من العلو على المناقشة، ثم علل ذلك بقوله:{إن الله} أي وقد علمتم ما له من الكمال {كان} ولم يزل {علياً كبيراً *} أي له العلو والكبر على الاطلاق بكمال القدرة ونفوذ المشيئة فهو لا يحب الباغي ولا يقره على بغيه، وقدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن، وهو مع ذلك يعفو عمن عصاه وإن ملأ الأرض خطايا - إذا أطاعه، ولا يؤاخذه بشيء مما فرط في حقه، بل يبدل سيئاته حسنات، فلو أخذكم بذنوبكم أهلككم؛ فتخلقوا بما قدرتم عليه من صفاته لتنالوا جليل هباته، وخافوا سطواته، واحذروا عقوبته، بما له من العلو والكبر.
ولما بين حال الوفاق وما خالطه من شيء من الأخلاق التي يقوم بإصلاحها الزوج، أتبعه حال المباينة والشقاق المحوج إلى من ينصف أحدهما من الآخر فقال:{وإن خفتم} أي أيها المتقون القادرون على الإصلاح من الولاة وغيرهم {شقاق بينهما} أي الزوجين المفهومين من السياق، يكون كل واحد منهما في شق غير الشق الذي فيه الآخر،
ولا يكون ذلك إلا وأحدهما على باطل، وأضاف الشقاق إلى البين ليفيد أن هذا العمل إنما يكون عند الخوف من شقاق خاص، وهو أن يكون البين المضاف إليهما - وهو الذي يميز كل واحد منهما من الآخر - لا تمكن في العادة إزالته ليكونا شيئاً واحداً كما كانا لا بين لهما، وذلك بظن أنه لا صلاح في اجتماعهما {فابعثوا} أي إليهما للإصلاح بينهما بإنصاف المظلوم من الظالم {حكماً من أهله} أي الزوج {وحكماً من أهلها} أي الزوجة، هذا أكمل لأن أهلهما أقرب إلى إزالة أسباب الشقاق من بينهما، لأنهم أجدر بالإطلاع على بواطن أمورهما وعلى حقائق أحوالهما، والزوجان أقرب إلى إطلاعهما إن كانا قريبين على ضمائرهما، وأقرب إلى إخفاء ذلك عن الأجانب؛ وفائدة الحكمين أن يخلو كل منهما بصاحبة ويستكشف حقيقة الحال ليعرف وجه الصلاح.
ثم أجاب من كأنه قال: وماذا عسى أن يضيفا؟ بقوله: {إن يريدا} أي الحكمان {إصلاحاً} أي بينهما، وكأنه نكره لأن الإخلاص ووجود الكمال قليل {يوفق الله} الذي له الإحاطة بعلم الغيب والشهادة {بينهما} أي الزوجين لأن صلاح النية أكبر معين
على بلوغ المقاصد، وهذا دالعلى أنه لا يكون شيء إلا بالله، وأن الأسباب إنما هي محنة من الله، يسعد بها من يباشرها ويعتمد على الله دونها، ويشقى بها من يجعلها محط قصده، فيعتمد عليها.
ولما كان المصلح قد يظن مفسداً لصدعه بمر الحق من غير مداراة، والمفسد قد يعد مصلحاً لما يرى منه من المداهنة والمراءاة والمكر، فيظن من يخلق الوعد بالتوفيق غير ما في نفس الأمر؛ قال تعالى مزيلاً لهذا الوهم مرغباً ومرهباً:{إن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {كان عليماً} أي مطلقاً على ما يمكن الاطلاع عليه وإن غاب عن غيره {خبيراً *} أي لا يخفى عليه من ذلك خفي، ولا يغيب عنه خبيء، فصارت هذه الآيات كفيلة بغالب أحوال النكاح، ولم يذكر سبحانه وتعالى الطلاق عندما ذكر الشقاق لتقدمه في البقرة، ولأن مبنى هذه السورة على التواصل والتوادّ دون التفاصل والترادّ كما قال ابن الزبير، ولهذا - أي لبناء السورة على التواصل والائتلاف دون التفاصل والاختلاف - خصت من حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والعدالة إبقاء لذلك التواصل، فلم يكن الطلاق
ليناسب هذا، فلم يقع له هنا ذكر ولا إيماء إلا قوله:{وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته} [النساء: 130]- انتهى.
ولما كثرت في هذه السورة الوصايا من أولها إلى هنا بنتيجة التقوى: العدل والفضل، والترغيب في نواله، والترهيب من نكاله - إلى أن ختم ذلك بإرشاد الزوجين إلى المعاملة بالحسنى، وختم الآية بما هو في الذروة من حسن الختام من صفتي العلم والخبر، وكان ذلك في معنى ما ختم به الآية الآمرة بالتقوى من الوصف بالرقيب، اقتضى ذلك تكرير التذكير بالتقوى التي افتتحت السورة بالأمر بها، فكان التقدير حتماً: فاتقوه؛ عطف عليه، أو على نحو {وسئلوا الله من فضله} [النساء: 32] أو على {اتقوا ربكم} الخُلق المقصود من الخلق المبثوثين على تلك الصفة، وهو العبادة الخالصة التي هي الإحسان في معاملة الخالق، وأتبعها الإحسان في معاملة الخلائق فقال:{واعبدوا الله} أي أطيعوا - الذي له الكمال كله فلا يشبهه شيء - طاعة محضة من غير شائبة خلاف مع الذل والانكسار، لأن ملاك ذلك كله التعبد بامتثال الأوامر واجتناب الزواجر.
ولما كان سبحانه غنياً لم يقبل إلا الخالص، فقال مؤكداً لما أفهمه
ما قبله: {ولا تشركوا به شيئاً} .
ولما أمر للواحد الحقيقي بما ينبغي له، وكان لذلك درجتان: أولاهما الإيمان، وأعلاهما الإحسان، فصار المأمور بذلك مخلصاً في عبادته؛ أمره بالإحسان في خلافته، وبدأ بأولى الناس بذلك، وهو من جعله سبباً لإيجاده فقال - مشيراً إلى أنه لا يرضى له من ذلك إلا درجة الإحسان، وإلى أن من أخلص له أغناه عن كل ما سواه، فلا يزال منعماً على من عداه -:{وبالوالدين} أي وأحسنوا بهما {إحساناً} وكفى دلالة على تعظيم أمرهما جعل برهما قرين الأمر بتوحيده سبحانه.
ولما كان مبنى السورة على الصلة لا سيما لذي الرحم، قال مفصلاً لما ذكر أول السورة تأكيداً له:{وبذي القربى} لتأكد حقهم بمزيد قربهم، ولاقتضاء هذه السورة مزيد الحث على التعاطف أعاد الجار، ثم أتبع ذلك من تجب مراعاته لله، أو لمعنى تفسد بالإخلال به ذات البين، وبدأ بما لله لأنه إذا صح تبعه غيره فقال:{واليتامى والمساكين} أي وإن لم تكن رحمهم معروفة، وخصهم لضعفهم وقدم اليتيم لأنه أضعف، لأنه لصغره يضعف عن دفع حاجته ورفعها إلى غيره {والجار ذي القربى} أي لأن له حقين {والجار الجنب}
أي الذي لا قرابة له، للبلوى بعشرته خوفاً من بالغ مضرته «اللهم! إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول» {والصاحب الجنب} أي الملاصق المخالط في أمر من الأمور الموجبة لامتداد العشرة {وابن السبيل} أي المسافر لغربته وقلة ناصره ووحشته {وما ملكت أيمانكم} أي من العبيد والإماء كذلك، فإن الإحسان إليهم طاعة عظيمة «آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم» .
ولما ذكر الإحسان الذي عماده التواضع والكرم، ختم الآية ترغيباً فيه وتحذيراً من منعه معللاً للأمر به بقوله:{إن الله} أي بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى {لا يحب} أي لا يفعل فعل المحب مع {من كان مختالاً} أي متكبراً معجباً بنفسه متزيناً بحليته مرائياً بما آتاه الله تعالى من فضله على وجه العظم واحتقار الغير، يأنف من أن ينسب إليه أقاربه الفقراء، ويقذر جيرانه إذا كانوا ضعفاء، فلا يحسن إليهم لئلا يلمّوا به فيعيَّر بهم.
ولما كان المختال ربما أحسن رياء، قال معلماً أنه لا يقبل إلا الخالص:{فخوراً *} مبالغاً في التمدح بالخصال، يأنف من عشرة الفقراء
وفي ذلك أتم ترهيب من الخلق المانع من الإحسان، وهو الاختيال على عباد الله والافتخار عليهم ازدراء بهم، فإنه لا مقتضى لذلك لأن الكل من نفس واحدة، والفضل نعمة منه سبحانه، يجب شكرها بالتواضع لتدوم، ويحذر كفرها بالفخار خوفاً من أن تزول.
ولما كان الاختيال والفخر على الفرح بالأعراض الفانية والركون إليها والاعتماد عليها، فكانا حاملين على البخل خوفاً من زوالها؛ قال واصفاً لهم بجملة من الأخلاق الرديئة الجلية، ذلك منشأها:{الذين يبخلون} أي يوقعون البخل بما حملهم من المتاع الفاني على الفخار، وقصره ليعم كتم العلم ونحوه؛ ثم تلا ذلك بأسوأ منه فقال {ويأمرون الناس بالبخل} مقتاً للسخاء، وفي التعبير بما هو من النوس إشارة إلى أنهم لا يعلقون أطماعهم بذلك إلا بذوي الهمم السافلة والرتب القاصرة، ويحتمل أن يكون الأمر كناية عن حملهم غيرهم على البخل بما يرى من اختيالهم وافتخارهم عليهم؛ ثم أتبع ذلك أخبث منه، وهو الشح بالكلام الذي لا يخشى نقصه وجحد النعمة وإظهار الافتقار فقال:{ويكتمون ما أتاهم الله} أي الذي له الجلال
والإكرام {من فضله} أي من العلم جاحدين أن يكون لهم شيء يجودون به. قال الأصبهاني: ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر، مثل أن يظهر الشكاية لله سبحانه وتعالى ولا يرضى بالقضاء. ثم عطف على {إن الله لا يحب} ملتفتاً إلى مقام التكلم، دلالة على تناهي الغضب وتعييناً للمتوعد، مصرحاً بمظهر العظمة الذي دل عليه هناك بالاسم الأعظم قوله:{وأعتدنا} أي أحضرنا وهيأنا، وكان الأصل: لهم، ولكنه قال - تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، وإعلاماً بأن ذلك حامل على الكفر -:{للكافرين} أي بفعل هذه الخصال كفراً حقيقياً بما أوصلهم إليه لزوم الأخلاق الدنية، أو مجازياً بكتمان النعمة {عذاباً مهيناً *} أي بما اغتروا بالمال الحامل على الفخر والكبر والاختيال «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر» .
ولما ذم المقترين، أتبعه ذم المسرفين المبذرين فقال - عطفاً على {الكافرين} أو {الذين يبخلون} معرفاً أن الذين لا يحسنون على الوجه المأمور به فيمن تقدم الأمر بالإحسان إليهم فرقتان: فرقة يمنعون النفقة أصلاً، وفرقة يمنعون وصفها ويفعلونها رياء، فيعدمون بذلك روحها -:{والذين ينفقون} وأشار إلى عظيم رغبتهم في نفقتهم
بقوله: {أموالهم} ودل على خسة مقاصدهم وسفول هممهم بقوله: {رئاء الناس} أي لقصور نظرهم وتقيده بالمحسوسات كالبهائم التي لا تدرك إلا الجزيئات المشاهدات.
ولما ذكر إخراج المال على وجه لا يرضاه ذو عقل، ذكر الحامل عليه مشيراً إلى أنهم حقروا أنفسهم بما عظموها به، وذلك أنهم تعبدوا للعبيد، وتكبروا على خالقهم العزيز المجيد فقال:{ولا يؤمنون بالله} وهو الملك الأعظم. ولما كان المأمور بالإحسان إليهم هنا من الوالدين ومن ذكر معهم أخص ممن أشير إليهم في البقرة، أكد بزيادة النافي فقال:{ولا باليوم الآخر} الحامل على كل خير، والنازع عن كل شر.
ولما كان التقدير: فكان الشيطان قرينهم، لكفره بإعجابه وكبره؛ عطف عليه قوله:{ومن يكن الشيطان} أي وهو عدوه البعيد من كل خير، المحترق بكل ضير {له قريناً} فإنه يحمله على كل شر، ويبعده عن كل خير؛ وإلى ذلك أشار بقوله:{فساء قريناً *}
ولما كان التقدير: فماذا لهم في الكفر والإنفاق رياء لمن لا ضر
ولا نفع بيده؟ عطف عليه قوله تعنيفاً لهم وإنكاراً عليهم: {وماذا عليهم} أي من حقير الأشياء وجليلها {لو آمنوا بالله} أي الذي له كل كمال، وبيده كل شيء {واليوم الآخر} الحامل على كل صلاح {وأنفقوا} .
ولما وصفهم بإنفاق جميع أموالهم للعدو الحقير أشار إلى شحهم فيما هو لله العلي الكبير بشيء يسير يحصل لهم به خير كثير، فقال:{مما رزقهم الله} الذي له الغنى المطلق والجود الباهر، ولما كان التقدير: فقد كان الله عليهم لما بذروا أموالهم قديراً، عطف عليه قوله:{وكان الله} أي المحيط بصفات الكمال {بهم} أي في كلتا الحالتين {عليماً *} أي بليغ العلم، وللإعلام بعظمة العلم بهم قدم الجار المفيد للاختصاص في غير هذا الموضع.
ولما فرغ من توبيخهم قال معللاً: {إن الله} أي الذي له كل كمال، فهو الغني المطلق {لا يظلم} أي لا يتصور أن يقع منه ظلم ما {مثقال ذرة} أي فما دونها، وإنما ذكرها لأنها كناية عن العدم، لأنها مثل في الصغر، أي فلا ينقص أحداً شيئاً مما عمله، ولا يثيب عليه شيئاً لم يعمله، فماذا على من آمن به وهو
بهذه الصفة العظمى.
ولما ذكر التخلي من الظلم، أتبعه التحلي بالفضل فقال عاطفاً على ما تقديره: فإن تك الذرة سيئة لم يزد عليها، ولا يجزي بها إلا مثلها:{وإن} ولما كان تشوف السامع إلى ذلك عظيماً، حذف منه النون بعد حذف المعطوف عليه تقريباً لمرامه فقال:{تك} أي مثقال الذرة، وأنثه لإضافته إلى مؤنث، وتحقيراً له، ليفهم تضعيف ما فوقه من باب الأولى، وهذا يطرد في قراءة الحرميين برفع {حسنة} أي وإن صغرت {يضاعفها} أي من جنسها بعشرة أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة ضعف إلى أزيد من ذلك بحسب ما يعلم من حسن العمل بحسن النية {ويؤت من لدنه} أي من غريب ما عنده فضلاً من غير عمل لمن يريد. قال الإمام: وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية، وهذا الأجر إلى السعادات الروحانية {أجراً عظيماً *} وسماه أجراً - وهو من غير جنس تلك الحسنة - لابتنائه على الإيمان، أي فمن كان هذا شأنه لا يسوغ لعاقل توجيه الهمة إلا إليه، ولا الاعتماد أصلاً بإنفاق وغيره إلا عليه.
ولما تم تحذيره من اليوم الآخر وما ذكره من إظهار العدل
واستقصائه فيه كان سبباً للسؤال عن حال المبكتين في هذه الآيات إذ ذاك، فقال:{فكيف} أي يكون حالهم وقد حملوا أمثال الجبال من مساوي الأعمال! {إذا جئنا} على عظمتنا {من كل أمة بشهيد} أي يشهد عليهم {وجئنا بك} وأنت أشرف خلقنا {على هؤلاء} أي الذين أرسلناك إليهم وجعلناك شهيداً عليهم {شهيداً *} وفي التفسير من البخاري عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم» اقرأ عليّ «قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال» إني أحب أن أسمعه من غيري «فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} قال» أمسك «فإذا عيناه تذرفان» ثم استأنف الجواب عن ذلك بقوله: {يومئذ} أي تقوم الإشهاد {يود الذين كفروا} أي ستروا ما تهدي إليه العقول من آياته وبين أنهم مخاطبون بالفروع في قوله: {وعصوا الرسول} بعد ستر ما أظهر من بيناته {لو تسوى بهم الأرض} أي تكون مستوية معتدلة بهم، ولا تكون كذلك إلا وقد غيبتهم واستوت بهم،
ولم يبق فيها شيء من عوج ولا نتوّ بسبب أحد منهم ولا شيء من أجسامهم؛ وإنما ودوا ذلك خوفاً مما يستقبلهم من الفضيحة بعتابهم ثم الإهانة بعقابهم.
ولما كان التقدير: فلا تسوى بهم، عطف عليه قوله:{ولا يكتمون الله} أي الملك الأعظم {حديثاً *} أي شيئاً أحدثوه بل يفتضحون بسيىء أخبارهم، ويحملون جميع أوزارهم، جزاء لما كانوا يكتمون من آياته وما نصب للناس من بيناته.
ولما وصف الوقوف بين يديه في يوم العرض والأهوال الذي أدت فيه سطوة الكبرياء والجلال إلى تمني العدم، ومنعت قوة يد القهر والجبر أن يكتم حديثاً، وتضمن وصفه أنه لا ينجو فيه إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ وصف الوقوف بين يديه في الدنيا في مقام الأنس وحضرة القدس المنجي من هول الوقوف في ذلك اليوم، والذي خطرت معاني اللطف والجمال فهي الالتفات إلى غيره، وأمر بالطهارة في حال التزين به عن الخبائث فقال:{يا أيها الذين أمنوا} أي أقروا بالتصديق بالرسل وما أتوا به عن الله، وأوله وأولاه
أن لا تشركوا به شيئاً من الإشراك {لا تقربوا الصلاة} أي بأن لا تكونوا في موضعها فضلاً عن أن تفعلوها {وأنتم} أي والحال أنكم {سكارى} أي غائبو العقل من الخمر أو نحوها، فإنه يوشك أن يسبق اللسان - بتمكن الشيطان بزوال العقل - إلى شيء من الإشراك، فيكون شركاً لسانياً وإن كان القلب مطمئناً بالإيمان، فيوشك أن يعرض ذلك عليه يوم الوقوف الأكبر، فإن من أنتم بين يديه لا يكتم حديثاً، فيود من نطق سانه بذلك - لما يحصل له من الألم - لو كان من أهل العدم! وأصل السكر في اللغة: سد الطريق؛ وسبب نزولها ما رواه مسدد بإسناد - قال شيخنا البوصيري: رجاله ثقات - عن علي رضي الله تعالى عنه «أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فسقاهما قبل أن تحرم الخمر، فأمهم علي رضي الله تعالى عنه في المغرب وقرأ {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] فنزلت» هكذا رواه، وقد رواه أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وعبد بن حميد والبزار والحاكم والطبري، فبينوا المراد، وهو أن الذي صلى بهم قرأ: أعبد ما تعبدون، وفي رواية الترمذي: ونحن نعبد ما تعبدون.
ولما أفهم النهي عن قربانها ي هذا الحال زواله بانقضائه، صرح به في قوله:{حتى} أي ولا يزال هذا النهي قائماً حتى {تعلموا} بزوال السكر {ما تقولون} فلا يقع منكم حينئذ تبديل؛ وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه أن المراد بالصلاة نفسها وموضعها وهو المسجد، وذلك من أدلته على استعمال الشيء في حقيقته ومجازه؛ نهى السكران أن يصلي إلى أن يفهم، أي يصحو، ونهى كل واحد أن يكون في المسجد وهو جنب بقوله عطفاً على محل {وأنتم سكارى} :{ولا} أي ولا تقربوا الصلاة بالكون في محالها فضلاً عنها {جنباً} أي ممنين بالفعل أو القوة القريبة منه بالتقاء الختانين، لأن الجنابة المني سواء كان عن جماع أو لا في حال من أحوال الجنابة {إلا عابري سبيل} أي مارين مروراً من غير مكث ولا صلاة؛ ولما غيَّى منع الجنابة بقوله:{حتى تغتسلوا} أي تغسلوا البدن عمداً، ولما كان للإنسان حالات يتعسر أو يتعذر فيها عليه استعمال الماء؛ ذكرها فقال مرتباً لها على الأحوج إلى الرخصة فالأحوج:{وإن كنتم مرضى} أي بجراحة أو غيرها مرضاً يمنع من طلب الماء أو استعماله {أو على سفر} كذلك سواء كان السفر طويلاً أو قصيراً {أو جاء أحد منكم} أي
أيها المؤمنون! ولو كان حاضراً صحيحاً {من الغائط} أي المكان المطمئن من الأرض الواسع الذي يقصد للتخلي، أي: أو جاء من التخلي فقضى حاجته التي لا بد له منها، فهو بها أحوج إلى التخفيف مما بعده.
ولما تقدم أمر الجنابة التي هي المني أعم من أن تكون بجماع أو غيره، ذكر هنا ما يعمها وغيرها من وجه فقال:{أو لامستم النساء} أي بمجرد التقاء البشرتين أو بالجماع سواء حصل إنزال أو لا، وأخر هذا لأنه مما منه بد، ولا يتكرر تكرر قضاء الحاجة {فلم تجدوا ماء} أي إما بفقده أو بالعجز عن استعماله {فتيمموا} أي اقصدوا قصداً صادقاً بأن تلابسوا ناوين {صعيداً} أي تراباً {طيباً} أي طهوراً خالصاً فهو بحيث ينبت {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} [الأعراف: 58] {فامسحوا} وهذه عبادة خاصة بنا.
ولما كان التراب لا يتمكن من جميع العضو وإن اجتهد الإنسان في ذلك أدخل الباء قاصراً للفعل في قوله: {بوجوهكم} أي أوقعوا المسح بها سواء عم التراب منبت الشعر أم لا {وأيديكم} أي منه
كما صرح به في المائدة، لا فيه ولا عليه مثلاً، ليفهم التمعك أو أن الحجر مثلاً يكفي، والملامسة جوز الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضاً أن يراد بها المس - أي ملاقاة البشرتين - الذي هو حقيقة اللمس والجماع الذي هو مسبب عن المس، أو هو مماسة خاصة، فهو من تسمية الكل باسم البعض حينئذ.
ولما نهى عما يدني من وقوع صورة الذنب الذي هو جري اللسان بما لا يليق به سبحانه وتعالى، وخفف ما كان شديداً بالتيمم؛ ختم الآية بقوله:{إن الله} أي الذي اختص بالكمال {كان عفوّاً} أي بترك العقاب على الذنب، وكأن هذا راجع إلى ما وقع حالة السكر {غفوراً *} أي بترك العقاب وبمحو الذنب حتى لا يذكر بعد ذلك أصلاً، وكأن هذا راجع إلى التيمم، فإن الصلاة معه حسنة، ولولاه كانت سيئة مذكورة ومعاقباً عليها، إما على تركها لمشقة استعمال الماء عند التساهل، أو على فعلها بغير طهارة في بعض وجوه التنطع، وذلك معنى قوله سبحانه وتعالى في المائدة {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} [المائدة: 6] ومن كانت عادته العفو والمغفرة كان ميسراً غير معسر.
ولما أفهم ختام هذه الآية أن التشديد في الأحكام يكون سبباً للإجرام، فيكون سبباً في الانتقام؛ قرر ذلك بحال اليهود الذين أوجبت
لهم الآصار عذاب النار فقال - ليكون ذلك مرغباً في تقبل ما مر من التكاليف ليسره ولرجاء الثواب، مرهباً من تركها خوفاً من العقاب، وليصير الكلام حلواً رائقاً بهجاً بتفصيل نظمه تارة بأحكام، وتارة بأقاصيص عظام، فينشط الخاطر وتقوى القريحة -:{ألم تر} أو يقال: إنه لما حذر سبحانه وتعالى فيما مضى من أهل الكتاب بقوله سبحانه وتعالى {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} [النساء: 27] ومر إلى أن أنزل هذه فيمن حرف في الصلاة لسانه فقط لا عن عمد الكلم عن واضعه؛ أتبعها التصريح بالتعجيب من حال المحرفين بالقلب واللسان عمداً وعدواناً اجتراء على الله سبحانه وتعالى، الملوح إليهم بالآية السابقة أنهم يريدون لنا الضلال عما هدينا إليه من سننهم فقال:{ألم تر} .
ولما كانوا بمحل البعد - بما لهم من اللعن - عن حضرته الشريفة، عبر بأداة الانتهاء، بصرية كانت الرؤية أو قلبية، فقال:{إلى الذين أوتوا} وحقر أمرهم بالبناء للمفعول وبقوله: {نصيباً من الكتاب} أي كشاس بن قيس الذي أراد الخلف بين الأنصار، وفي ذلك أن أقل شيء من الكتاب يكفي في ذم الضلال، لأنه كاف في الهداية
{يشترون} أي يتكلفون ويلحون - بما هم فيه من رئاسة الدنيا من المال والجاه - أن يأخذوا {الضلالة} معرضين عن الهدى غير ذاكريه بوجه، وسبب كثير من ذلك ما في دينهم من الآصال والأثقال، كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة} [مريم: 59] أي بسبب ما شدد عليهم فيها بأنها لا تفعل إلا في الموضع المبني لها، وبغير ذلك من أنواع الشدة، وكذا غيرها المشار إليه بقوله سبحانه وتعالى {فبما نقضهم ميثاقهم} [النساء: 155] وغير ذلك، ومن أعظمه ما يخفون من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ليتقربوا بذلك إلى أهل دينهم، ويأخذوا منهم الرشى على ذلك، ويجعلوهم عليهم رؤساء.
ولما ذكر ضلالهم المتضمن لإضلالهم، أتبعه ما يدل على إعراقهم فيه، فقال مخاطباً لمن يمكن توجيه هممهم بإضلال إليه:{ويريدون أن تضلوا} أي يا أيها الذين آمنوا {السبيل *} حتى تساووهم، فلذلك يذكرونكم بالأحقاد والأضغان والأنكاد - كما فعل شاس - لا محبة فيكم، ويلقون إليكم الشبهة، فالله سبحانه وتعالى أعلم بهم حيث
حذركم منه بقوله {لا يألونكم خبالاً} [آل عمران: 118] وما بعده إلى هنا {والله} أي المحيط علمه وقدرته {أعلم} أي من كل أحد {بأعدائكم} أي كلهم هؤلاء وغيرهم، بما يعلم من البواطن، فمن حذركم منه كائناً من كان فاحذره.
ولما كان كل من قبيلتي الأنصار قد والوا ناساً من اليهود ليعتزوا بهم وليستنصروهم، قال تعالى فاطماً لهم عن موالاتهم:{وكفى} أي والحال أنه كفى به هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الاسم الأعظم لتستحضر عظمته، فيستهان أمر الأعداء فقال:{بالله ولياً} أي قريباً بعمل جميع ما يفعله القريب الشفيق.
ولما كان الولي قد تكون فيه قوة النصرة، والنصير قد لا يكون له شفقة الولي، وكانت النصرة أعظم ما يحتاج إلى الولي فيه؛ أفردها بالذكر إعلاماً باجتماع الوصفين مكرراً الفعل والاسم الأعظم اهتماماً بأمرها فقال:{وكفى بالله} أي الذي له العظمة كلها {نصيراً *} أي لمن والاه فلا يضره عداوة أحد، فثقوا بولايته ونصرته دونهم، ولا تبالوا بأحد منهم ولا من غيرهم، فهو يكفيكم الجميع.
ولما وفرت هذه الآيات الدواعي على تعيين هؤلاء الذين يريدون الإضلال، قال بعد الاعتراض بما بين المبين والمبين من الجمل لمزيد الاهتمام به:{من الذين هادوا} ثم بين ما يضلون به ويضلون بقوله - ويجوز أن يكون استئنافاً بمعنى: بعضهم، أو منهم من -:{يحرفون الكلم} أي الذي أتى به شرعهم من صفة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وصفه دينه وأمته وغير ذلك مما يريدون تحريفه لغرض، فيتألفون في إمالته وتغييره عن حده وطرفه إلى حد آخر مجاوزين به {عن} ولما كانت الكلمة إذا غيرت تبعها الكلام وهو المقصود بالذات، نبه على ذلك بتذكير الضمير فقال:{مواضعه} أي التي هي به أليق، فيتم ضلالهم وإضلالهم، وهو يشمل ما إذا كان المعنى المغير إليه بعيداً عن المغير أو قريباً، فالذي في المائدة أخص.
ولما كان سبحانه وتعالى عالماً بجميع تحريفهم، أشار إليه بالعطف على ما تقديره: فيقولون كذا ويقولون كذا: {ويقولون سمعنا} أي ما تقول {وعصينا} موهمين أنهم يريدون أن ذلك حكاية ما وقع لأسلافهم قديماً، وإنما يريدون أنهم هم سمعوا ما تقول وخالفوه عمداً ليظن من سمع ذلك أنهم على بصيرة في المخالفة بسبب ما عندهم
من العلم الرباني ليورثه ذلك شكاً في أمره وحيرة في شأنه {واسمع} حال كونك {غير مسمع} موهمين عدم إسماعه ما يكره من قولهم: فلان أسمع فلاناً الكلام، وإنما يريدون الدعاء، كما يقال: اسمع لا سمعت! {وراعنا} موهمين إرادة المراعاة والإقبال عليهم، وإنما يريدون الشتم بالرعونة؛ وقال الأصفهاني: ويحتمل شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها وهي: راعينا، فكانوا - سخرية بالدين وهزءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون التوقير والإكرام، ولذلك قال:{ليّاً بألسنتهم} أي صرفاً لها عن مخارج الحروف التي تحق لها في العربية إلى ما يفعله العبرانيون من تغليظ بعض الحروف وشوب بعضها بغيره، لإرادة معانٍ عندهم قبيحة مع احتمالها لإرادة معانٍ غير تلك يقصدها العرب مليحة {وطعناً في الدين} أي بما يفسرونه به لمن يطمعون فيه من تلك المعاني الخبيثة.
ولما ذكر هذه الكلمات الموجهة، بين ما كان عليهم لو وقفوا
فقال قاطعاً جدالهم: {ولو أنهم قالوا} أي في الجواب له صلى الله عليه وسلم {سمعنا وأطعنا} أي بدل الكلمة الأولى {واسمع وانظرنا} بدل ما بعدها {لكان} أي هذا القول {خيراً لهم} أي من ذلك، لعدم استيجابهم الإثم {وأقوم} أي لعدم الاحتمال الذم {ولكن لعنهم الله} أي طردهم الذي له جميع صفات العظمة والكمال، وأبعدهم عن الخير {بكفرهم} أي بدناءتهم بما يغطون من أنوار الحق ودلائل الخير، فلم يقولوا ذلك.
ولما سبب عن طردهم استمرار كفرهم قال: {فلا يؤمنون} أي يتجدد لهم إيمان {إلا قليلاً *} أي منهم؛ استثناء من الواو، فإنهم يؤمنون، أو هو استثناء مفرغ من مصدر يؤمن أي من إيمانهم ببعض الآيات الذي لا ينفعها لكفرهم بغيره.
ولما بكتهم على فعلهم وقولهم وصرح بلعنهم، خوَّفهم إظهار ذلك في الصور المحسوسة فقال مقبلاً عليهم إقبال الغضب:{يا أيها الذين} منادياً لهم من محل البعد {أوتوا الكتاب} ولم يسند الإيتاء إليه تحقيراً لهم، ولم يكتف بنصيب منه لأنه لا يكفي في العلم
بالمصادقة إلا الجميع {آمنوا بما نزلنا} أي تدريجاً كما نزلنا التوراة كذلك، على ما لنا من العظمة التي ظهرت في إعجازه وإخباره بالمغيبات ودقائق العلوم مما عندكم وغيره على رشاقته وإيجازه؛ وأعلم بعنادهم وحسدهم بقوله:{مصدقاً لما معكم} من حيث أنهم له مستحضرون، وبه في حد ذاته مُقِرّون.
ولما أمرهم وقطع حجتهم، حذرهم فقال - مخففاً عنهم بالإشارة بحرف الجر إلى أنه متى وقع منهم إيمان في زمن مما قبل الطمس أخره عنهم -:{من قبل أن نطمس} أي نمحو {وجوهاً} فإن الطمس في اللغة: المحو؛ وهو يصدق بتغيير بعض الكيفيات، ثم سبب عن ذلك قوله:{فنردها} فالتقدير: من قبل أن نمحو أثر وجوه بأن نردها {على أدبارها} أي بأن نجعل ما إلى جهة القبل من الرأس إلى جهة الدبر، وما إلى الدبر النقل من حال إلى ما دونها من ضدها بجعلها على حال القفا، ليس فيها معلم من فم ولا غيره، ليكون المعنى بالطمس مسح ما في الوجه من المعاني؛ قال ابن هشام: نطمس: نمسحها فنسويها، فلا يرى فيها عين ولا أنف ولا فم ولا شيء مما يرى في الوجه، وكذلك {فطمسنا أعينهم} [القمر: 37] المطموس العين: الذي
ليس بين جفنيه شق، ويقال: طمست الكتاب والأثر فلا يرى منه شيء. ويكون الوجه في هذا التقدير على حقيقته؛ ثم خوفهم نوعاً آخر من الطمس فقال عاطفاً على (نردها) : {أو نلعنهم} أي نبعدهم جداً عن صورة البشر أن نقلب وجوههم أو جميع ذواتهم على صورة القردة {كما لعنا أصحاب السبت} إذ قلنا لهم {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65] ويكون الوجه في هذا التقدير الأخير عبارة عن الجملة، فهو إذن مما استعمل في حقيقته ومجازه، ويجوز أن يكون واحد الوجهاء، فيكون عود الضمير إليه استخداماً، ويكون المراد بالرد على الأدبار جعلهم أدنياء صغرة من الأسافل - والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما كان ذلك أمراً غريباً ومقدوراً عجيباً، وكان التقدير: فقد كان أمر الله فيهم بذلك - كما علمتم - نافذاً؛ أتبعه الإعلام بأن قدرته شاملة، وأن وجوه مقدوراته لا تنحصر فقال عاطفاً على ما قدرته:{وكان أمر الله} أي حكمه وقضاؤه ومراده في كل شيء شاء منهم ومن غيره بذلك وبغيره، لأن له العظمة التي لا حد لها والكبرياء التي تعيي الأوصاف دونها {مفعولاً *} أي كائناً حتماً، لا تخلف
له أصلاً، فلا بد من وقوع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا، وقد آمن بعضهم فلم يصح أنهم لم يؤمنوا، لأنه قد وقع منهم إيمان.
ولما كانوا مع ارتكابهم العظائم يقولون: سيغفر لنا، وكان امتثالهم لتحريف أحبارهم ورهبانهم شركاً بالله - كما قال سبحانه وتعالى {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} [التوبة: 31] قال - معللاً لتحقيق وعيدهم، معلماً أن ما أشير إليه من تحريفهم أداهم إلى الشرك -:{إن الله} أي الجامع لصفات العظمة {لا يغفر أن يشرك به} أي على سبيل التجديد المستمر إلى الموت سواء كان المشرك من أهل الكتاب أم لا، وزاد ذلك حسناً انه في سياق {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} [النساء: 36] .
ولما أخبر بعدله أخبر بفضله فقال: {ويغفر ما دون ذلك} الأمر الكبير العظيم من كل معصيته سواء كانت صغيرة أو كبيرة، سواء تاب فاعلها أو لا، ورهب بقوله - إعلاماً بأنه مختار، لا يجب عليه شيء -:{لمن يشاء} .
ولما كان التقدير: فإن من أشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً، عطف عليه قوله:{ومن يشرك} أي يوجد منه شرك في الحال أو المآل، وأما الماضي فجبته التوبة {بالله} أي الذي كل شيء
دونه {فقد افترى} أي تعمد كذباً {إثماً عظيماً *} أي ظاهراً في نفسه من جهة عظمه أنه قد ملأ أقطار نفسه وقلبه وروحه وبدنه مظهراً للغير أنه إثم، فهو في نفسه منادٍ بأنه باطل مصر، فلم يدع للصلح موضعاً، فلم تقتض الحكمة العفو عنه، لأنه قادح في الملك، وإنما طوى مقدمة الضلال وذكر مقدمة الافتراء - لكون السياق لأهل الكتاب الذين ضلالهم على علم منهم وتعمد وعناد، بخلاف ما يأتي عن العرب، وفي التعبير بالمضارع استكفاف مع استعطاف واستجلاب في استرهاب.
ولما كان في ذلك إشارة إلى أن المرادين بهذه الآيات من أهل الكتاب أضل الناس، وكانوا يقولون: إنهم أهدى الناس؛ عجب منهم منكراً عليهم بعد افترائهم تزكية أنفسهم فقال: {ألم تر} وأبعدهم بقوله: {إلى الذين يزكون أنفسهم} أي بما ليس لهم من قولهم {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} [البقرة: 80] وقولهم {لن يدخل الجنة لا من كان هوداً أو نصارى} [البقرة: 111] وقوله: {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} [آل عمران: 188]{ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} [النساء: 27] فإن إبعاد غيرهم
في الميل مصحح لتزكيتهم أنفسهم بالباطل ونحو ذلك مما تقدم وغيره.
ولما كان معنى الإنكار: ليس لهم ذلك لأنهم كذبوا فيه وظلموا، أشار إليه بقوله:{بل الله} أي الذي له صفات الكمال {يزكي من يشاء} أي بما له من العلم التام والقدرة الشاملة والحكمة البالغة والعدل السوي بالثناء عليه وبخلق معاني الخير الظاهرة فيه لتنشأ عنها الأعمال الصالحة، فإذا زكي أحداً من أصفيائه بشيء كالنبوة، كان له أن يزكي نفسه بذلك حملاً على ما ينفع الناس به عن الله {ولا} أي والحال أن الذين يزكيهم أو يدسيهم لا {يظلمون فتيلاً *} أي مقدار ما في شق النواة من ذلك الشيء المفتول، أي قليلاً ولا كثيراً، لأنه عالم بما يستحقون وهو الحكم العدل الغني عن الظلم، لأن له صفات الكمال.
ولما أخبر تعالى أن التزكية إنما هي إليه بما له من العظمة والعلم الشامل، وكان ذلك أمراً لا نزاع فيه، وشهد عليهم بالضلال، وثبت أن ذلك كلامه بما له من الإعجاز في حالتي الإطناب والإيجاز؛ ثبت كذبهم فزاد في توبيخهم فقال - معجباً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
من وقاحتهم واجترائهم على من يعلم كذبهم، ويقدر على معالجتهم بالعذاب، مبيناً أنه صلى الله عليه وسلم في الحضرة بعد بيان بعدهم -:{انظر كيف يفترون} أي يتعمدون {على الله} أي الذي لا يخفي عليه شيء ولا يعجزه شيء {الكذب} أي من غير خوف منهم لذلك عاقبة {وكفى} أي والحال أنه كفي {به} أي بهذا الكذب {إثماً مبيناً *} أي واضحاً في نفسه ومنادياً عليها بالبطلان.
ولما عجب من كذبهم دلَّ عليه بقوله: {ألم تر} وكان الأصل: إليهم، ولكنه قال - لزيادة التقريع والتوبيخ والإعلام بأن كفرهم عناد لكونه عن علم -:{إلى الذين} وعبر بإلى دلالة على بعدهم عن الحضرات الشريفة {أوتوا نصيباً من الكتاب} أي الذي هو الكتاب في الحقيقة لكونه من الله {يؤمنون بالجبت} وهو الصنم والكاهن والساحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله {والطاغوت} وهو اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله؛ وكل هذه المعاني تصح إرادتها هنا، وهي مما نهي عنه في كتابهم - وأصله ومداره مجاوزة الحد عدواناً، وهو واحد وقد يكون جمعاً، قال سبحانه وتعالى
{أوليائهم الطاغوت يخرجونهم} [البقرة: 257] والحال أن أقل نصيب من الكتاب كافٍ في النهي عن ذلك وتكفير فاعله.
ولما دل على ضلالهم دل على إضلالهم بقوله - معبراً بصيغة المضارع دلالة على عدم توبتهم -: {ويقولون للذين كفروا} ودل بالتعبير بالإشارة دون الخطاب على أنهم يقولون ذلك فيهم حتى في غيبتهم، حيث لا حامل لهم على القول إلا محض الكفر فقال:{هؤلاء} أي الكفرة العابدون للأصنام {أهدى} أي أقوم في الهداية {من الذين آمنوا} أي أوقعوا هذه الحقيقة، فيفهم ذمهم بالتفضيل على الذين يؤمنون ومن فوقهم من باب الأولى {سبيلاً *} مع أن في كتابهم من إبطال الشرك وهدمه وعيب مدانيه وذمه في غير موضع تأكيداً أكيداً وأمراً عظيماً شديداً.
ولما أنتج ذلك خزيهم قال: {أولئك} أي البعداء عن الحضرات الربانية {الذين لعنهم الله} أي طردهم بجميع ما له من صفات الكمال طرداً هم جديرون بأن يختصوا به. ولما كان قصدهم بهذا القول مناصرة المشركين لهم وكان التقدير: فنالوا بذلك اللعن الذل والصغار، عطف عليه قوله:{ومن يلعن الله} أي الملك الذي له الأمر كله منهم ومن غيرهم {فلن تجد له نصيراً *} أي في وقت من الأوقات أصلاً، وكرر التعبير بالاسم الأعظم لأن المقام يقتضيه إشعاراً لتناهي الكفر
الذي هو أعظم المعاصي بتناهي الغضب.
ولما كان التقدير: كذلك كان من إلزامهم الذل والصغار، عطف عليه قوله:{أم} أي ليس {لهم نصيب} أي واحد من الأنصباء {من الملك فإذاً} أي فيتسبب عن ذلك أنهم إذا كان لهم أدنى نصيب منه {لا يؤتون الناس} أي الذين آمنوا {نقيراً *} أي شيئاً من الدنيا ولا الآخرة من هدى ولا من غيره، والنقير: النقرة في ظهر النواة، قيل: غاية في القلة؛ فهو كناية عن العدم، فهو بيان لأنهم لإفراط بخلهم لا يصلحون إلا لما هم فيه من الذل فكيف بدرجة الملك لأن الملك والبخل لا يجتمعان {أم} أي ليس لهم نصيب ما من الملك، بل ذلهم لازم وصغارهم أبداً كائن دائم، فهم {يحسدون الناس} أي محمداً صلى الله عليه وسلم الذي جمع فضائل الناس كلهم من الأولين والآخرين وزاد عليهم ما شاء الله، أو العرب الذي لا ناس
الآن غيرهم، لأنَّا فضلناهم على العالمين - بأن يتمنوا دوام ذلهم كما دام لهم هم، ودل على نهاية حسدهم بأداة الاستعلاء في قوله:{على ما آتاهم الله} أي بما له من صفات الكمال {من فضله} حسدوهم لما رأوا من إقبال جدهم وظهور سعدهم وأنهم سادة الناس وقادة أهل الندى والبأس:
إن العرانين تلقاها محسدة
…
ولن ترى للئام الناس حساداً
وقد آتاهم الله سبحانه وتعالى جميع أنواع الملك، فإنه على ثلاثة أقسام: ملك على الظواهر والبواطن معاً، وهو للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لهم من غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة والشفاعة والبر واللطف التي كل منها سبب للانقياد، وذلك مع ما لهم بالله سبحانه وتعالى من تمام الوصلة؛ وملك على الظواهر فقط، وهو ملك الملوك؛ وملك على البواطن فقط، وهو ملك العلماء.
ولما ذمهم سبحانه وتعالى أولاً بالجهل ومدح النفس تشبعاً بما لم يعطوا، وذلك سبب لجميع النقائص، وثانياً بأعظم منه: منع الحق من أهله بخلاً، وثالثاً بأعظم منهما: تمنى ألا يصل إلى أحد نعمة وإن كانت لا تنقصهم، فحازوا بذلك أعلى خلال الذم، وكانت
المساوي تضع والمحاسن ترفع، تسبب عن هذا توقع السامع لإعلاء العرب وإدامة ذل اليهود وموتهم بحسدهم فقال:{فقد} أي فتسبب عن هذا وتعقبه أنَّا آتيناهم - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر للتنبيه على التوصيف الذي شاركوهم به في استحقاق الفضائل فقال:{آتينا} أي بما لنا من العظمة {آل إبراهيم} أي الذي أعلمناكم في كتابكم أنا أقسمنا له أنَّا نعز ذريته ونهديهم ونجعل ابنة إسماعيل حالاً على جميع حدود إخوته، ويده في جميع الناس ويده على كل أحد ويد كل به {الكتاب} أي الذي لا كتاب إلا هو لما له من الحفظ والفضل بالإعجاز والفصل {والحكمة} أي النبوة التي ثمرتها العمل المتقن بالعلم المحرر المحكم {وآتيناهم} مع ذلك {ملكاً عظيماً *} أي ضخماً واسعاً باقياً إلى أن تقوم الساعة {فمنهم} أي من آل إبراهيم {من آمن به} وهم أغلب العرب {ومنهم من صد عنه} أي أعرض بنفسه، وصد غيره كبني إسرائيل وبعض العرب.
ولما كان قد علم من السياق أن الطاعن فيه ميت بحسده من غير أن يضره بأمر دنيوي، وكان التقدير لبيان أمرهم في الآخرة: فحكمنا أن تسعر بهم النار بعد الذل في هذه الدار والهوان والصغار، عطف
عليه قوله: {وكفى بجهنم سعيراً *} أي توقداً والتهاباً في غاية الإحراق والعسر والإسراع إلى الأذى، وفي آية الطاغوت أنهم سمحوا ببدل الدين - وهو لا أعز منه عند الإنسان - في شهادتهم للكفرة بالهداية، وفي آية الملك الإيماء إلى أنهم في الحضيض من الشح بالخسيس الفاني، وفي آية الحسد أنه لم يكفهم التوطن في حضيض الشح بما أوتوا مع الغنى حتى سفلوا عنه إلى أدنى من ذلك بالحسد لمن آتاه الله ما لا ينقصهم.
ولما أثبت لمن صد عنه النار علله بقوله: {إن الذين كفروا بآياتنا} أي ستروا ما أظهرته عقولهم بسببها {سوف نصليهم} أي بوعيد ثابت وإن طال معه الإمهال {ناراً} ولما كانت النار - على ما نعهده - مفنية ماحقة، استأنف قوله رداً لذلك:{كلما نضجت جلودهم} أي صارت بحرّها إلى حالة اللحم النضيج الذي أدرك أن يؤكل، فصارت كاللحم الميت الذي يكون في الجرح، فلا يحس بالألم {بدَّلناهم} أي جعلنا لهم {جلوداً غيرها} أي غير النضيجة بدلاً منها بأن أعدناها إلى ما كانت عليه قبل تسليط النار عليها،
كما إذا صُغتَ من خاتم خاتماً على غير هيئته، فإنه هو الأول لأن الفضة واحدة، وهو غيره لأن الهيئة متغايرة، وهكذا الجلد الثاني مغاير للنضيج في الهيئة {ليذوقوا} أي أصحاب الجلود المقصودون بالعذاب {العذاب} أي ليدوم لهم تجدد ذوقه، فتجدد لهم مشاهده الإعادة بعد البلى كل وقت، كما كانوا يجددون التكذيب بذلك كل وقت، ليكون الجزاء من جنس العمل، فإنه لو لم يُعِدْ منهم ما وهي لأداه وهيه إلى البلى، ولو بلى منهم شيء لبلوا كلهم فانقطع عذابهم.
ولما كان هذا أمراً لم يعهد مثله، دل على قدرته عليه بقوله:{إن الله} أي الملك الأعظم {كان} ولم يزل {عزيزاً} أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {حكيماً *} ي يتقن صنعه، فجعل عذابهم على قدر ذنوبهم، لأن عزائمهم كانت على دوامهم على ما استحقوا به ذلك ما بقوا.
ولما ذكر الترهيب بعقاب الكافرين أتبعه الترغيب بثواب المؤمنين فقال: {والذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {وعملوا} بياناً لصدقهم فيه {الصالحات سندخلهم} أي بوعد لا خلف فيه، وربما أفهم التنفيس لهم بالسين دون سوف - كما في الكافرين - أنهم أقصر الأمم
مدة، أو أنهم أقصرهم أعماراً إراحة لهم من دار الكدر إلى محل الصفاء، وأنهم يدخلون الجنة قبل جميع الفرق الناجية من أهل الموقف {جنات} أي بساتين، ووصفها بما يديم بهجتها ويعظم نضرتها وزهرتها فقال:{تجري من تحتها الأنهار} أي إن أرضها في غاية الريّ، كل موضع منها صالح لأن تجري منه نهر.
ولما ذكر قيامها وما به دوامها، أتبعه ما تهواه النفوس من استمرار الإقامة بها فقال:{خالدين فيها أبداً} ولما وصف حسن الدار ذكر حسن الجار فقال: {لهم فيها أزواج} والمطرد في وصف جمع القلة لمن يفضل الألف والتاء، فعدل هنا عن ذلك إلى الوحدة لإفهام أنهن لشدة الموافقة في الطهر كذات واحد فقيل:{مطهرة} أي متكرر طهرها، لا توجد وقتاً ما على غير ذلك. ولما كانت الجنان في الدنيا لا تحسن إلا بتمكن الشمس منها وكانت الشمس تنسخ الظل فتخرج إلى التحول إلى مكان آخر، وربما آذى حرها، أمّن من ذلك فيها بقوله:{وندخلهم} أي فيها {ظلاً} أي عظيماً، وأكده بقوله {ظليلاً *}
أي متصلاً لا فرج فيه، منبسطاً لا ضيق معه دائماً لا تصيبه الشمس يوماً ما، ولا حر فيه ولا برد، بل هو في غاية الاعتدال.
ولما تقدم في هذه السورة الأمر بالإحسان والعدل في النساء واليتامى في الإرث وغيره، وفي غير ذلك من الدماء والأموال والأقوال والأفعال، وذكر خيانة أهل الكتاب وما أحل بهم لذلك من العقاب، وذكر أنه آتى هذه الأمة الملك المقتضي للحكم، وآتاهم الحكمة بعد جهلهم وضعفهم؛ أقبل عليهم بلذيذ خطابه بعد ما وعدهم على امتثال أمره من كريم ثوابه بما ختمه بالظل الموعود على العدل في حديث «سبعة يظلمهم الله في ظله» فقال:{إن الله} أي الذي له صفات الكمال {يأمركم} أي أيتها الأمة {أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} أي من غير خيانة ما، كما فعل أهل الكتاب في كتمان ما عندهم والإخبار بغيره، والأمانة: كل ما وجب لغيرك عليك.
ولما أمر بما يحق للإنسان في نفسه، أمر بما يحق له في معاملة غيره،
وحقق لهم ما لم يكونوا يرومونه من أمر الملك بقوله بأداة القطع عاطفاً شيئين على شيئين: {إذا حكمتم} وبين عموم ملكهم لسائر الأمم بقوله: {بين الناس} وبين المأمور به بقوله: {أن تحكموا بالعدل} أي السواء بأن تأمروا من وجب عليه حق بأدائه إلى من هو له، فإن ذلك من أعظم الصالحات الموجبة لحسن المقيل في الظل الظليل، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل» الحديث.
ولما أخبرهم بأمره زادهم رغبة بقوله: {إن الله} معبراً أيضاً بالاسم الأعظم {نعمَّا} أي نعم شيئاً عظيماً {يعظكم به} وحثهم على المبادرة إلى حسن الامتثال بقوله: {إن الله} مكرراً لهذا الاسم الشريف ليجتهدوا في الترقي في طهارة الأخلاق إلى حد لم يبلغه غيرهم. ولما كان الرقيب في الأمانات لا بد له من أن يكون له من يد سمع وعلم قال: {كان} أي ولم يزل ولا يزال
{سميعاً} أي بالغ السمع لكل ما يقولونه جواباً لأمره وغيره ذلك {بصيراً *} أي بالغ البصر والعلم بكل ما يفعلونه في ذلك وغيره من امتثال وغيره.
ولما أمر سبحانه بالعدل ورغب فيه، ورهب من تركه؛ أمر بطاعة المتنصبين لذلك الحاملة لهم على الرفق بهم والشفقة عليهم فقال:{يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان، وبدأ بما هو العمدة في الحمل على ذلك فقال:{أطيعوا} أي بموافقة الأمر تصديقاً لدعواكم الإيمان {الله} أي فيما أمركم به في كتابه مستحضرين ما له من الأسماء الحسنى، وعظم رتبة نبيه صلى الله عليه وسلم بإعادة العامل فقال:{وأطيعوا الرسول} فيما حده لكم في سنته عن الله وبينه من كتابه لأن منصب الرسالة مقتضٍ لذلك، ولهذا عبر به دون النبي {وأولي الأمر منكم} أي الحكام، فإن طاعتهم فيما لم يكن معصية - كما أشير إلى ذلك بعدم إعادة العامل - من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاعته من طاعة الله عز وجل؛ والعلماء من أولي الأمر أيضاً، وهم العاملون فإنهم يأمرون بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما أبان هذا الحكم الأصول الثلاثة أتبعها القياس، فسبب عما تقديره: هذا في الأمور البينة من الكتاب والسنة والتي وقع الإجماع عليها، قوله:{فإن تنازعتم في شيء} أي لإلباسه فاختلفت فيه آراؤكم {فردوه إلى الله} أي المحيط علماً وقدرة بالتضرع بين يديه بما شرعه لكم من الدعاء والعبادة، ليفتح لكم ما أغلق منه ويهديكم إلى الحق منه {والرسول} أي الكامل الرسالة بالبحث عن آثار رسالته من نص في ذلك بعينه أو أولى قياس، ودلت الآية على ترتيب الأصول الأربعة على ما هو فيها وعلى إبطال ما سواها، وعلم من إفراده تعالى وجمع النبي صلى الله عليه وسلم مع أعلام أمته أن الأدب توحيد الله حتى في مجرد ذكره، وأكد البيان لدعوى الطاعة بقوله:{إن كنتم تؤمنون} أي دائمين على الإيمان بتجديده في كل أوان {بالله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له {واليوم الآخر} الحامل على الطاعة الحاجز عن المعصية، ثم دل على عظمة هذا الأمر وعميم نفعه بقوله مخصصاً رسوله صلى الله عليه وسلم:{ذلك} أي الأمر العالي الرتبة {خير} أي وغيره شر {وأحسن تأويلاً *} أي عاقبة أو
ترجيعاً ورداً من ردكم إلى ما يقتضيه قويم العقل من غير ملاحظة لآثار الرسالة من الكتاب والسنة، فإن في الأحكام ما لا يستقل عنهما قال:«نزلت هذه الآية {أطيعوا الله} في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية» يعني فأمرهم أن يدخلوا في النار.
ولما كان التقدير - كما أفهمه آخر الآية وأشعر به أولها بعد أن جمع الخلق على طاعته بالطريق الذي ذكره: فمن أبى ذلك فليس بمؤمن، دل عليه بقوله معجباً مخاطباً لأكمل الخلق الذي عرفه الله المنافقين في لحن القول:{ألم تر} وأشار إلى بعدهم عن على حضرته بقوله: {إلى الذين} وإلى كذبهم ودوام نفاقهم بقوله: {يزعمون أنهم آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة وأوقعوها في أنفسهم {بما أنزل إليك} ودل على أن هذا الزاعم المنافق كان من أهل الكتاب قبل ادعاء الإسلام بقوله: {وما} أي ويزعمون أنهم آمنوا بما {أنزل من قبلك} أي من التوراة والإنجيل، قال الأصبهاني: ولا يستعمل - أي الزعم - في الأكثر
إلا في القول الذي لا يتحقق، يقال: زعم فلان - إذا شك فيه فلم يعرف كذبه أو صدقه، والمراد أن هؤلاء قالوا قولاً هو عند من لا يعلم البواطن أهل لأن يشك فيه بدليل أنهم {يريدون أن يتحاكموا} أي هم وغرماؤكم {إلى الطاغوت} أي إلى الباطل المعرق في البطلان {وقد} أي والحال أنهم قد {أمروا} ممن له الأمر {أن يكفروا به} في كل ما أنزل من كتابك وما قبله، ومتى تحاكموا إليه كانوا مؤمنين به كافرين بالله وهو معنى قوله:{ويريد الشيطان} بإرادتهم ذلك التحاكم {أن يضلهم} أي بالتحاكم إليه {ضلالاً بعيداً *} بحيث لا يمكنهم معه الرجوع إلى الهدى. وهذه الآية سبب تسمية عمر رضي الله عنه بالفاروق لضربه عنق منافق لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة ذكرها الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ولما ذكر ضلالهم بالإرادة ورغبتهم في التحاكم إلى الطاغوت، ذكر فعلهم فيه في نفرتهم عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:{وإذا قيل لهم} أي من أي قائل كان {تعالوا} أي أقبلوا رافعين أنفسكم من وهاد الجهل إلى شرف العلم {إلى ما أنزل الله}
أي الذي عنده كل شيء {وإلى الرسول} أي الذي تجب طاعته لأجل مرسله مع أنه أكمل الرسل الذين هم أكمل الخلق رسالة، رأيتهم - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الوصف الذي دل على كذبهم فيما زعموه من الإيمان فقال:{رأيت المنافقين يصدون} أي يعرضون {عنك} وأكد ذلك بقوله: {صدوداً} أي هو في أعلى طبقات الصدود.
ولما تسبب عن هذا تهديدهم، قال - مهولاً لوعيدهم بالإبهام والتعجيب منه بالاستفهام، معلماً بأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم، ولا يغني عنهم الاعتذار -:{فكيف} أي يكون حالهم {إذا أصابتهم مصيبة} أي عقوبة هائلة {بما قدمت أيديهم} مما ذكرنا ومن غيره.
ولما كان الذي ينبغي أن يكون تناقضهم بعيداً لأن الكذب عند العرب كان شديداً؛ قال: {ثم جاءوك} أي خاضعين بما لينت منهم تلك المصيبة حال كونهم {يحلفون بالله} أي الحاوي لصفات الكمال من الجلال والجمال غير مستحضرين لصفة من صفاته {إن} أي ما {أردنا} أي في جميع أحوالنا وبسائر أفعالنا {إلا إحساناً وتوفيقاً *} أي أن تكون الأمور على الوجه الأحسن والأوفق لما رأينا في ذلك مما خفي على غيرنا - وقد كذبوا في جميع ذلك.
ولما ذكر سبحانه وتعالى بعض ما يصدر منهم من التناقضات وهم غير محتشمين ولا هائبين، قال معلماً بشأنهم معلماً لما يصنع بهم:{أولئك} أي البعداء عن الخير {الذين يعلم الله} أي الحاوي لنعوت العظمة {ما في قلوبهم} أي من شدة البغض للإسلام وأهله وإن اجتهدوا في إخفائه عنه، ثم سبب تعليماً لما يصنع بهم وإعلاماً بأنهم لا يضرون إلا أنفسهم قوله:{فأعرض عنهم} أي عن عقابهم وعن الخشية منهم وعن عتابهم، لأنهم أقل من أن يحسب لهم حساب {وعظهم} أي وإن ظننت أن ذلك لا يؤثر، لأن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى يصطنعها لما أراد متى أراد {وقل لهم في أنفسهم} أي بسببها وما يشرح أحوالها ويبين نقائصها من نفائسها، أو خالياً معهم، فإن ذلك أقرب إلى ترقيقهم {قولاً بليغاً *} أي يكون في غاية البلاغة في حد ذاته.
ولما أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذم من حاكم إلى غيره وهدده، وختم تهديده بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه والوعظ له، فكان التقدير: فما أرسلناك وغيرك من الرسل إلا الرفق بالأمة والصفح عنهم والدعاء لهم على غاية الجهد والنصيحة، عطف عليه قوله:{وما أرسلنا} أي بما لنا من العظمة، ودل على الإعراق في الاستغراق بقوله:{من رسول} ولما كان ما يؤتيهم
سبحانه وتعالى من الآيات ويمنحهم به من المعجزات حاملاً في ذاته على الطاعة شبهه بالحامل على إرساله فقال: {إلا ليطاع} أي لأن منصبه الشريف مقتض لذلك آمر به داعٍ إليه {بإذن الله} أي بعلم الملك الأعظم الذي له الإحاطة بكل شيء في تمكينه من أن يطاع، لما جعلنا له من المزية بالصفات العظيمة والمناصب الجليلة والأخلاق الشريفة كما قال صلى الله عليه وسلم «ما من الأنبياء نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولما كان التقدير: فلو أطاعوك لكان خيراً لهم، عطف عليه قوله:{ولو أنهم إذ} أي حين {ظلموا أنفسهم} أي بالتحاكم إلى الطاغوت أو غيره {جاءوك} أي مبادرين {فاستغفروا الله} أي عقبوا مجيئهم بطلب المغفرة من الملك الأكرم لما استحضروه له من الجلال {واستغفر لهم الرسول} أي ما فرطوا بعصيانه فيما استحقه عليهم من الطاعة {لوجدوا الله} أي الملك الأعظم {تواباً رحيماً *} أي بليغ التوبة على عبيده والرحمة، لإحاطته بجميع صفات الكمال، فقبل توتبهم ومحا ذنوبهم وأكرمهم.
ولما أفهم ذلك أن إباءهم لقبول حكمه والاعتراف بالذنب لديه سبب مانع لهم من الإيمان، قال - مؤكداً للكلام غاية التأكيد بالقسم المؤكد لإثبات مضمونه و «لا» النافية لنقيضه:{فلا وربك} أي المحسن إليك {لا يؤمنون} أي يوجدون هذا الوصف ويجددونه {حتى يحكموك} أي يجعلوك حكماً {فيما شجر} أي اختلط واختلف {بينهم} من كلام بعضهم لبعض للتنازع حتى كانوا كأغصان الشجر في التداخل والتضايق.
ولما كان الإذعان للحكم بما يخالف الهوى في غاية الشدة على النفس أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم لا يجدوا في نفسهم حرجاً} أي نوعاً من الضيق {مما قضيت} أي عليهم به، وأكد إسلامهم لأنفسهم بصيغة التفعيل فقال:{ويسلموا} أي يوقعوا التسليم البليغ لكل ما هو لهم من أنفسهم وغيرها لله ورسوله صلى الله عليه وسلم خالصاً عن شوب كره؛ ثم زاده تأكيداً بقوله: {تسليماً *} وفي الصحيح أن الآية نزلت في الزبير وخصم له من الأنصار، فلا التفات إلى من قال: إنه حاطب رضي الله عنه.
ولما كان التقدير: فقد كتبنا عليهم طاعتك والتسيم لك في هذه الحنيفية السمحة التي دعوتهم إليها وحملتهم عليها، عطف عليه قوله:{ولو أنا كتبنا عليهم} أي هذا المخاصم للزبير رضي الله تعالى عنه
وأشباه هذا المخاصم ممن ضعف إيمانه كتابة مفروضة {إن اقتلوا أنفسكم} أي كما كان في التوراة في كفارة بعض الذنوب مباشرة حقيقة، وكما فعل المهاجرون بتعريض أنفسهم لذلك ثلاث عشرة سنة، هم فيها عند أعداء الله مضغة لحم بين يدي نسور يتخاطفونها {أو اخرجوا} كما فعل المهاجرون - رضي الله تعالى عنهم - الذين الزبير من رؤوسهم {من دياركم} أي التي هي لأشباحكم كأشباحكم لأرواحكم - توبة لربكم {ما فعلوه} أي لقصور إيمانهم وضعف إيقانهم، ولو كتبناه عليهم ولم يرضوا به كفروا، فاستحقوا القتل.
ولما كان كل كدر لا يخلو عن خلاصه، قال:{إلا قليل منهم} أي وهم العالمون بأن الله سبحانه وتعالى خير لهم من أنفسهم، وأن حياتهم إنما هي في طاعته؛ روي أن من هؤلاء ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه، قال: أما والله! إن الله ليعلم مني الصدق، لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلها! وكذا قال ابن مسعود وعمار ابن ياسر رضي الله عنهما، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: والله لو أمرنا ربنا لفعلنا! والحمد الله الذي لم يفعل بنا ذلك. ولا ريب في أن التقدير: ولكنا لم نكتب عليهم فليشكروا لنا ويستمسكوا
بهذه الحنيفية السمحة.
ولما كان مبنى السورة على الائتلاف وكان السياق للاستعطاف، قال مرغباً:{ولو أنهم} أي هؤلاء المنافقين {فعلوا ما يوعظون} أي يجدد لهم الوعظ في كل حين {به لكان} أي فعلهم ذلك {خيراً لهم} أي مما اختاروه لأنفسهم {وأشد تثبيتاً *} أي مما ثبتوا به أنفسهم بالأيمان الحانثة {وإذاً لآتيناهم} أي وإذا فعلوا ما يوعظون به آتيناهم بما لنا من العظمة إيتاء مؤكداً لا مرية فيه. وأشار بقوله: {من لدنا} إلى أنه من غرائب ما عنده من خوارق خوارق العادات ونواقض نواقض المطردات {أجراً عظيماً * ولهديناهم} أي بما لنا من العظمة {صراطاً مستقيماً *} أي يوصلهم إلى مرادهم، وقد عظم سبحانه وتعالى هذا الأجر ترغيباً في الطاعة أنواعاً من العظمة منها التنبيه ب «إذا» ، والإتيان بصيغة العظمة و «لدن» مع العظمة والوصف بالعظيم.
ولما رغب في العمل بمواعظه، وكان الوعد قد يكون لغلظ في الموعوظ، وكان ما قدمه في وعظه أمراً مجملاً؛ رغب بعد ترقيقه بالوعظ في مطلق الطاعة التي المقام كله لها، مفصلاً إجمال ما وعد
عليها فقال: {ومن يطع الله} أي في امتثال أوامره والوقوف عند زواجره مستحضراً عظمته - طاعة هي على سبيل التجدد والاستمرار {والرسول} أي في كل ما أراده، فإن منصب الرسالة يقتضي ذلك، لا سيما من بلغ نهايتها {فأولئك} أي العالو الرتبة العظيمو الشرف {مع الذين أنعم} أي بما له من صفات الجلال والجمال {عليهم} أي معدود من حزبهم، فهو بحيث إذا أراد زيارتهم أو رؤيتهم وصل إليها بسهولة، لا أنه يلزم أن يكون في درجاتهم وإن كانت اعماله قاصرة. ثم بينهم بقوله:{من النبيين} أي الذين أنبأهم الله بدقائق الحكم، وأنبؤوا الناس بحلائل الكلم، بما لهم من طهارة الشيم والعلو والعظم {والصديقين} أي الذين صدقوا أول الناس ما أتاهم عن الله وصدقوا هم في أقوالهم وأفعالهم، فكانوا قدوة لمن بعدهم {والشهداء} أي الذين لم يغيبوا أصلاً عن حضرات القدس ومواطن الأنس طرفة عين، بل هم مع الناس بجسومهم ومع الله سبحانه وتعالى بحلومهم وعلومهم سواء شهدوا لدين الله بالحق، ولسواه بالبطلان بالحجة أو بالسيف، ثم قتلوا في سبيل الله {والصالحين} أي الذين لا يعتريهم في ظاهر ولا باطن بحول الله فساد أصلاً، وإلى
هذا يشير كلام العارف الشيخ رسلان حيث قال: ما صلحت ما دامت فيك بقية لسواه، وقد تجتمع الصفات الأربع في شخص وقد لا تجتمع، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أحق الأمة بالصديقية وإن قلنا: إن علياً وزيداً رضي الله تعالى عنهما أسلما قبله، لأنه - لكبره وكونه لم يكن قبل الإسلام تابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم كان قدوة لغيره، ولذلك كان سبباً لإسلام ناس كثير وأولئك كانوا سبباً لإسلام غيرهم، فكان له مثل أجر الكل، وكان فيه حين إسلامه قوة الجهاد في الله سبحانه وتعالى بالمدافعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأفعال الدالة على صدقه، ولملاحظة هذه الأمور كانت رتبتها تلي رتبة النبوة، ولرفع الواسطة بينهما وفق الله سبحانه وتعالى هذه الأمة التي اختارها بتولية الصديق رضي الله تعالى عنه بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ودفنه إلى جانبه، ومن عظيم رتبتهم تنويه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره بهم فقال:«مع الرفيق الأعلى» روى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنهما قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا
والآخرة»
، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحّة شديدة، فسمعته يقول:{مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} فعلمت أنه خيّر.
ولما أخبر أن المطيع مع هؤلاء، لم يكتف بما أفهم ذكرهم من جلالهم وجلال من معهم، بل زاد في بيان علو مقامهم ومقام كل من معهم بقوله:{وحسن} أي وما أحسن {أولئك} أي العالو الأخلاق السابقون يوم السباق {رفيقاً *} من الرفق، وهو لغة: لين الجانب ولطافة الفعل وهو مما يستوي واحده وجمعه. ثم أشار إلى تعظيم ما منحهم به مرغباً في العمل بما يؤدي إليه بأداة البعد فقال: {ذلك الفضل} وزاد في الترغيب فيه بالإخبار عن هذا الابتداء بالاسم الأعظم فقال: {من الله} .
ولما كان مدار التفضيل على العلم، قال - بانياً على تقديره: لما يعلم من صحة بواطنهم اللازم منها شرف ظواهرهم -: {وكفى بالله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {عليماً *} يعلم من الظواهر والضمائر ما يستحق به التفضيل من فضله على غيره.
ولما دل على درجة الشهادة بعد ما ذكر من ثواب من قبل موعظته
ولو في قتل نفسه، وذم من أبى ذلك بعد ما حذر من الأعداء من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين المخادعين، فتوفرت دواعي الراغبين في المكارم على ارتقابها؛ التفت إلى المؤمنين ملذذاً لهم بحسن خطابه نادباً إلى الجهاد مع الإرشاد إلى الاستعداد له مما يروع الأضداد، فقال سبحانه وتعالى منبهاً بأداة البعد وصيغة المضي إلى أن الراسخ لا ينبغي له أن يحتاج إلى تنبيه على مثل هذا -:{يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان.
ولما كان سبحانه وتعالى قد خلق للإنسان عقلاً يحمله على التيقظ والتحرز من الخوف، فكان كالآلة له، وكان - لما عنده من السهو والنسيان في غالب الأوقات - مهملاً له، فكان كأنه قد ترك آلة كانت منه؛ قال سبحانه وتعالى:{خذوا حذركم} أي من الأعداء الذين ذكرتهم لكم وحذرتكم منهم: المشاققين منهم والمنافقين {فانفروا} أي اخرجوا تصديقاً لما ادعيتم إلى جهادهم مسرعين {ثبات} أي جماعات متفرقين سرية في إثر سرية. لا تملوا ذلك أصلاً {أو انفروا جميعاً *} أي عسكراً واحداً، ولا تخاذلوا تهلكوا، فكأنه قال: خففت
عنكم قتل الأنفس على الصفة التي كتبتها على من قبلكم، ولم آمركم إلا بما تألفونه وتتمادحون به فيما بينكم وتذمون تاركه، من موارد القتال الذي هو مناهج الأبطال، ومشارع فحول الرجال، وجعلت للباقي منكم المحبوبين من الظفر وحل المغنم، وللماضي أحب المحبوب، وهو الدرجة التي ما بعدها إلا درجة النبوة، مع أنه لم ينقص من أجله شيء، ولو لم يقتل في ذلك السبيل المرضى لقتل في غيره في ذلك الوقت.
ولما كان التقدير: فإن منكم الخارج إلى الجهاد عن غير حزم ولا حذر، عطف عليه قوله - مبيناً لما هو من أجلّ مقاصد هذه الآيات من تبكيت المنافقين للتحذير منهم، ووصفهم ببعض ما يخفون، مؤكداً لأن كل ما ادعى الإيمان ينكر أن يكون كذلك -:{وإن منكم} أي يا أيها الذين آمنوا وعزتنا {لمن ليبطئن} أي يتثاقل في نفسه عن الجهاد لضعفه في الإيمان أو نفاقه، ويأمر غيره بذلك أمراً مؤكداً إظهاراً للشفقة عليكم وهو عين الغش فإنه يثمر الضعف المؤدي إلى جرأة العدو المفضي إلى التلاشي.
ولما كان لمن يتثاقل عنهم حالتا نصر وكسر، وسبب عن تثاقله
مقسماً لقوله فيهما: {فإن أصابتكم مصيبة} أي في وجهكم الذي قعدوا عنه {قال} ذلك القاعد جهلاً منه وغلظة {قد أنعم الله} أي الملك الأعظم، ذاكراً لهذا الاسم غير عارف بمعناه {عليّ إذ} أي حين، أو لأني {لم أكن معهم شهيداً *} أي حاضراً، ويجوز أن يريد الشهيد الشرعي، ويكون إطلاقه من باب التنزل، فكأنه يقول: هذا الذي هو أعلى ما عندهم أعدُّ فواته مني نعمة عظيمة {ولئن أصابكم فضل} أي فتح وظفر وغنيمة {من الله} أي الملك الأعلى الذي كل شيء بيده.
ولما كان تحسره إنما هو على فوات الأغراض الدنيوية أكد قوله: {ليقولن} أي في غيبتكم، واعترض بين القول ومقوله تأكيداً لذمهم بقوله:{كأن} أي كأنه {لم} أي مشبهاً حاله حال من لم {يكن بينكم وبينه مودة} أي بسبب قوله: {يا ليتني كنت معهم فأفوز} أي بمشاركتهم في ذلك {فوزاً عظيماً *} وذلك لأنه لو كان ذا مودة لقال حال المصيبة: يا ليتها لم تصبهم! ولو كنت معهم لدافعت عنهم! وحال الظفر: لقد سرني عزهم، ولكنه لم يجعل
محط همه في كلتا الحالتين غير المطلوب الدنيوي، ولعله خص الحالة الثانية بالتشبيه لأن ما نسب إليه فيها لا يقتصر عليه محب، وأما الحالة الأولى فربما اقتصر المحب فيها على ذلك قصداً للبقاء لأخذ الثأر ونكال الكفار، وذكر المودة لأن المنافقين كانوا يبالغون في إظهار الود والشفقة والنصيحة للمؤمنين.
ولما بين أن محط حال القاعد عن الجهاد الدنيا، علم أن قصد المجاهد الآخرة، فسبب عن ذلك قوله:{فليقاتل في سبيل الله} أي بسبب تسهيل طريق الملك الذي له الأمر كله وحفظ الناس عليه {الذين يشرون} أي يبيعون برغبة ولجاجة وهم المؤمنون، أو يأخذون وهم المنافقون - استعمالاً للمشترك في مدلوليه {الحياة الدنيا} فيتركونها {بالآخرة} ولما كان التقدير: فإنه من قعد عن الجهاد فقد رضي في الآخرة بالدنيا، عطف عليه قوله:{ومن يقاتل في سبيل الله} أي فيريد إعلاء كلمة الملك المحيط بصفات الجمال والجلال {فيقتل} أي في ذلك الوجه وهو على تلك النية بعد أن يغلب القضاء والقدر على نفسه {أو يغلب} أي الكفار فيسلم {فسوف نؤتيه} أي بوعد لا خلف فيه بما لنا من العظمة المحيطة بالخير والشر، والآية من الاحتباك:
ذكرُ القتل أولاً دليل على السلامة ثانياً، وذكر الغالبية ثانياً دليل على المغلوبية أولاً؛ وربما دل التعبير بسوف على طول عمر المجاهد غالباً خلافاً لما يتوهمه كثير من الناس - إعلاماً بأن المدار على فعل الفاعل المختار، لا على الأسباب {أجراً عظيماً *} أي في الدارين على اجتهاده في إعزاز دين الله سبحانه وتعالى، واقتصاره على هذين القسمين حث على الثبات ولو كان العدو أكثر من الضعف {فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة} [البقرة: 249] {والله يؤيد بنصره من يشاء} [آل عمران: 13] والله مع الصابرين.
ولما كان التقدير: فما لكم لا تقاتلون في سبيل الله لهذا الأجر الكثير ممن لا يخلف الميعاد، وكانوا يقولون: إنا لا نعطي الميراث إلا لمن يحمي الذمار، ويذب عن الجار، ويمنع الحوزة؛ قال عاطفاً على هذا المقدر ملهباً لهم ومهيجاً، ومبكتاً للقاعدين وموبخاً:{وما} أي وأي شيء {لكم} من دنيا آو آخره حال كونكم {لا تقاتلون} أي تجددون القتال في كل وقت، لا تملونه {في سبيل الله} أي بسبب تسهيل طريق الملك الذي له العظمة الكاملة والغنى المطلق وبسبب خلاص {والمستضعفين} أي المطلوب من الكفار ضعفهم حتى صار موجوداً، ويجوز - وهو أقعد - أي يكون منصوباً
على الاختصاص تنبيهاً على أنه من أجل ما في سبيل الله.
ولما كان الإنكاء من هذا ما لمن كان رجاء نفعه أعظم، ثم ما لمن يكون العار به أقوى وأحكم؛ رتبهم هذا الترتيب فقال:{من الرجال والنساء والولدان} أي المسلمين الذين حبسهم الكفار عن الهجرة، وكانوا يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، وكل منهما كافٍ في بعث ذوي الهمم العالية والمكارم على القتال، ثم وصفهم بما يهيج إلى نصرهم ويحث على غياثهم فقال:{الذين يقولون} أي لا يفترون {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بإخراجنا من الظلمات إلى النور {أخرجنا من هذه القرية} ثم وصفوها بالحامل على هذا الدعاء فقالوا: {الظالم أهلها} أي بما تيسره لنا من الأسباب {واجعل لنا من لدنك} أي من أمورك العجيبة في الأمور الخارقة للعادات {ولياً} يتولى مصالحنا.
ولما كان الولي قد لا يكون فيه قوة النصر قالوا: {واجعل لنا} ولما كانوا يريدون أن يأتيهم خوارق كرروا قولهم: {من لدنك نصيراً *} أي بليغ النصر إلى حد تعجب منه المعتادون للخوارق، فكان بهذا الكلام كأنه سبحانه وتعالى قال: قد جعلت لكم
الحظ الأوفر من الميراث، فما لكم لا تقاتلون في سبيلي شكراً لنعمتي وأين ما تدّعون من الحمية والحماية! ما لكم لا تقاتلون في نصر هؤلاء الضعفاء لتحقق حمايتكم للذمار ومنعكم للحوزة وذبكم عن الجار! .
ولما أخبر عن افتقارهم إلى الأنصار وتظلمهم من الكفار، استأنف الإخبار عن الفريقين فقال مؤكداً للترغيب في الجهاد:{الذين آمنوا} أي صدقوا في دعواهم الإيمان {يقاتلون} أي تصديقاً لدعواهم من غير فترة أصلاً {في سبيل الله} أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال قاصدين وجهه بحماية الذمار وغيره، وأما من لم يصدق دعواه بهذا فما آمن {والذين كفروا يقاتلون} أي كذلك {في سبيل الطاغوت} فلا ولي لهم ولا ناصر.
ولما كان الطاغوت الشيطان أو من زينه الشيطان، وكان كل من عصى الله منه وممن أغواه حقيراً؛ سبب عن ذلك قوله:{فقاتلوا أولياء الشيطان} ثم علل الجرأة عليهم بقوله: {إن كيد الشيطان} أي الذي هو رأس العصاة {كان} جبلة وطبعاً {ضعيفاً *} .
ولما عرفهم هذه المفاوز الأخروية والمفاخر الدنيوية، وختم بما
ينهض الجبان، ويقوي الجنان، ورغبهم بما شوق إليه من نعيم الجنان؛ عجب من حال من توانى بعد ذلك واستكان، فقال تعالى مقبلاً بالخطاب على أعبد خلقه وأطوعهم لأمره:{ألم تر} وأشار إلى أنهم بمحل بعد عن حضرته تنهيضاً لهم بقوله: {إلى الذين قيل لهم} أي جواباً لقولهم: إنا نريد أن نبسط ايدينا إلى الكفار بالقتال لأن امتحاننا بهم قد طال {كفوا أيديكم} أي ولا تبسطوها إليهم فإنا لم نأمر بهذا {وأقيموا الصلاة} أي صلة بالخالق واستنصاراً على المشاقق {وأتوا الزكاة} منماة للمال وطهرة للأخلاق وصلة للخلائق {فلما كتب عليهم القتال} أي الذي طلبوه وهم يؤمرون بالصفح، كتابة لا تنفك إلى آخر الدهر {إذا فريق منهم} أي ناس تلزم عن فعلهم الفرقة، فأحبوا هذه الكتب بأنهم {يخشون الناس} أي الذين هم مثلهم، أن يضروهم، والحال أنه يقبح عليهم أن يكونوا أجراً منهم وهم ناس مثلهم {كخشية الله} أي مثل ما يخشون الله الذي هو القادر لا غيره.
ولما كان كفهم عن القتال شديداً يوجب لمن يراه منهم أن يظن بهم من الجبن ما يتردد به في الموازنة بين خوفهم من الناس وخوفهم من الله، عبر بأداة الشك فقال:{أو أشد خشية} أي أو كانت خشيتهم لهم عند الناظر لهم أشد من خشيتهم من الله، فقد أفاد هذا أن خوفهم من الناس ليس بأقل من خوفهم من الله جزماً بل إما مثله أو أشد منه؛ وقد يكون الإبهام لتفاوت بالنسبة إلى وقتين، فيكون خوفهم منه في وقت متساوياً، وفي آخر أزيد، فهو متردد بين هذين الحالين؛ ويجوز أن يكون ذلك كناية عن كراهتهم القتال في ذلك الوقت وتمنيهم لتأخيره إلى وقت ما.
وأيد ما تقدم من الظن بقوله ما هو كالتعليل للكراهة: {وقالوا} جزعاً من الموت أو المتاعب - إن كانوا مؤمنين، أو اعتراضاً - إن كانوا منافقين، على تقدير صحة ما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم {ربنا} أي أيها المحسن إلينا القريب منا {لم كتبت علينا القتال} أي ونحن الضعفاء {لولا} أي هلا {أخرتنا} أي عن الأمر بالقتال {إلى أجل قريب} أي لنأخذ راحة مما كنا فيه من الجهد من الكفار بمكة، «وسبب نزولها أن عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون وسعد بن
أبي وقاص وجماعة رضي الله عنهم كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيراً قبل أن يهاجروا، ويقولون: يا رسول الله! إئذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفوا أيديكم، فإني لم أومر بقتالهم، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله سبحانه وتعالى بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم» حكاه البغوي عن الكلبي، وحكاه الواحدي عنه بنحوه، وروي بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عبد الرحمن ابن عوف وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا رسول الله! كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال:» إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم «فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله عز وجل {ألم إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم} » الآية. وهذا يفهم أن نسبة القول إليهم إنما هي حالهم في التأخر عن المبادرة إلى القتال حال من يقول ذلك، فالمراد من الآية إلهابهم إلى القتال وتهييجهم، ليس غير.
ولما عجب عليه الصلاة والسلام منهم إنكاراً عليهم كان كأنه قال: فما أقول لهم؟ أمره بوعظهم وتضليل عقولهم وتقييل أرائهم
بقوله: {قل متاع الدنيا قليل} أي ولو فرض أنه مدّ في آجالكم إلى أن تملوا الحياة، فإن كل منقطع قليل، مع أن نعيمها غير محقق الحصول، وإن حصل كان منغصاً بالكدورات {والآخرة خير لمن اتقى} أي لأنها لا يفنى نعيمها مع أنه محقق ولا كدر فيه، وهي شر من الدنيا لمن لم يتق، لأن عذابها طويل لا يزول {ولا تظلمون فتيلاً *} أي لا في دنياكم بأن تنقص آجالكم بقتالكم، ولا أرزاقكم باشتغالكم، ولا في آخرتكم بأن يضيع شيء من ثوابكم على ما تنالونه من المشقة، لأنه سبحانه وتعالى حكيم لا يضع شيئاً في غير موضعه، ولا يفعل شيئاً إلا على قانون الحكمة، فما لكم تقولون قول المتهم: لم فعلت؟ أتخشون الظلم في إيجاب ما لم يجب عليكم وفي نقص الرزق والعمر؟ أتخشون الظلم في إيجاب العدل وله أن يفعل ما شاء،
{لا يسئل عما يفعل} [الأنبياء: 23] يحسن ويعطي من تقبل إحسانه أتم الفضل.
ولما زهدهم في دار المتاعب والأكدار على تقدير طول البقاء،
وكانوا كأنهم يرجون بترك القتال الخلود، أو تأخير موت يسببه القتال؛ نبههم على ما يتحققون من أن المنية منهل لا بد من وروده في الوقت الذي قدر له وإن امتنع الإنسان منه في الحصون، أو رمى نفسه في المتألف فقال تعالى - مبكتاً من قال ذلك، مؤكداً بما النافية لنقيض ما تضمنه الكلام لأن حالهم حال من ينكر الموت بغير القتال، مجيباً بحاق الجواب بعد ما أورد الجواب الأول على سبيل التنزل -:{أينما تكونوا} أيها الناس كلكم مطيعكم وعاصيكم {يدرككم الموت} أي فإنه طالب، لا يفوته هارب {ولو كنتم في بروج} أي حصون برج داخل برج، أو كل واحد منكم في برج.
ولما كان ذلك جمعاً ناسب التشديد المراد به الكثرة في {مشيّدة} أي مطولة، كل واحد منها شاهق في الهواء منيع، وهو مع ذلك مطلي بالشيد أي بالجص، فلا خلل فيه أصلاً، ويجوز أن يراد بالتشيد مجرد الإتقان، يعني أنها مبالغ في تحصينها - لأن السياق أيضاً يقتضيه، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يكون في الجهاد الذي يستعقب السعادة الأبدية أولى من أن يكون في غيره.
ثم عطف ما بقي من أقوالهم على ما سلف منها في قوله: {ربنا لم كتبت} [النساء: 77] إلى آخره وإن كان هذا الناس منهم غير الأولين، ويجوز أن يقال: إنه لما أخبر أن الحذر لا يغني من القدر أتبع ذلك حالاً لهم مبكتاً به لمن توانى في أمره، مؤذناً بالالتفات إلى الغيبة إعراضاً عن خطابهم ببعض غضب، لأنهم جمعوا إلى الإخلال بتعظيمهم لله تعالى الإخلال بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أرسله ليطاع بإذن الله فقال:{وإن} أي قالوا ذلك والحال أنه إن {تصبهم} أي بعض المدعوّين من الأمة، وهم من كان في قلبه مرض {حسنة} أي شيء يعجبهم، ويحسن وقعه عندهم من أي شيء كان {يقولوا هذه من عند الله} أي الذي له الأمر كله، لا دخل لك فيها {وإن تصبهم سيئة} أي حالة تسوءهم من أي جهة كانت {يقولوا هذه من عندك} أي من جهة حلولك في هذا البلد تطيراً بك.
ولما كان هذا أمراً فادحاً، وللفؤاد محرقاً وقادحاً، سهل عليه بقوله:{قل كل} أي من السيئة والحسنة في الحقيقة دنيوية كانت أو أخروية {من عند الله} أي الذي له كل شيء، ولا شيء لغيره، وذلك كما قالوا لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة نقيب بني النجار رضي الله تعالى عنه عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في السيرة -:
«بئس الميت أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب! يقولون: لو كان نبياً لم يمت صاحبه، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئاً» . ولما تسبب عن هذا معرفة أنهم أخطؤوا في ذلك، فاستحقوا الإنكار قال منكراً عليهم:{فما} وحقرهم بقوله: {لهؤلاء} وكأنه قال: {القوم} الذي هو دال على القيام والكفاية، إما تهكماً بهم، وإما نسبة لهم إلى قوة الأبدان وضعف المكان {لا يكادون يفقهون} لا يقربون من أن يفهموا {حديثاً *} أي يلقي إليهم أصلاً فهما جيداً.
ولما أجابهم بما هو الحق إيجاداً علمهم ما هو الأدب لماحظة السبب فقال مستأنفاً: {ما أصابك من حسنة} اي نعمة دنيوية أو أخروية {فمن الله} أي إيجاداً وفضلاً، والإيمان أحسن الحسنات، قال الإمام: إنهم يقولون: إنهم اتفقوا على أن قوله {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} [فصلت: 33] المراد به كلمة الشهادة {وما أصابك} وأنت خير الخلق {من سيئة} أي بلاء {فمن نفسك} أي بسببها فغيرك بطريق الأولى.
ولما اقتضى قولهم إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم إلا أن فعل كل خارق، وأخبر سبحانه وتعالى بأنه مستو مع الخلق في القدرة قال سبحانه وتعالى مخبراً بما اختصه به عنهم:{وأرسلناك} أي مختصين لك بعظمتنا {للناس} أي كافة {رسولاً} أي تفعل ما على الرسل من البلاغ ونحوه، وقد اجتهدت في البلاغ والنصيحة، ولم نجعلك إلهاً تأتي بما يطلب منك من خير وشر، فإن أنكروا رسالتك فالله يشهد بنصب المعجزات والآيات البينات {وكفى بالله} المحيط علماً وقدرة {شهيداً *} لك بالرسالة والبلاغ. ولما نفى عللهم في التخلف عن طاعته إلى أن ختم بالشهادة برسالته؛ قال مرغباً مرهباً على وجه عام يسكن قلبه، ويخفف من دوام عصيانهم له، دالاً على عصمته في جميع حركاته وسكناته:{من يطع الرسول} أي كما هو مقتضى حاله {فقد أطاع الله} الملك الأعظم الذي لا كفوء له، لأنه داع إليه، وهو لا ينطق عن الهوى، إنما يخبر بما يوحيه إليه {ومن تولى} أي عن طاعته.
ولما كان التقدير: فإنما عصى الله. والله سبحانه وتعالى عالم به وقادر عليه، فلو راد لرده ولو شاء لأهلكه بطغيانه، فاتركه وذاك!
عبر عن ذلك كله بقوله: {فما أرسلناك} أي بعظمتنا {عليهم حفيظاً} إنما أرسلناك داعياً.
ولما كان من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحفظ من أطاعه ومن عصاه ليبلغ ذلك من أرسله، وكان سبحانه وتعالى قد أشار له إلى الإعراض عن ذلك، لكونه لا يحيط بذلك علماً وإن اجتهد؛ شرع يخبره ببعض ما يخفونه فقال حاكياً لبعض أقوالهم مبيناً لنفاقهم فيه وخداعهم {ويقولون} أي إذا أمرتهم بشيء من أمرنا وهم بحضرتك {طاعة} أي كل طاعة منا لك دائماً، نحن ثابتون على ذلك، والتنكير للتعظيم بالتعميم {فإذا برزوا} أي خرجوا {من عندك بيَّت طائفة} هم في غاية التمرد {منهم} أي قدرت وزورت على غاية من التقدير والتحرير مع الاستدارة والتقابل كفعل من يدبر الأمور ويحكمها ويتقنها ليلاً {غير الذي تقول} أي تجدد قوله لك في كل حين من الطاعة التي أظهروها أو غير قولك الذي بلغته لهم، وأدغم أبو عمرو وحمزة التاء بعد تسكينها استثقالاً لتوالي الحركات في الطاء لقرب المخرجين، والطاء تزيد بالإطباق، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد؛ وأظهر الباقون، والإدغام أوفق لحالهم، والإظهار أوفق لما
فصح من محالهم.
ولما كان الإنسان من عادته إثبات الأمور التي يريد تخليدها بالكتابة أجرى الأمر على ذلك فقال: {والله} أي والحال أن الملك المستجمع لصفات الكمال {يكتب ما يبيتون} أي يجددون تبييته كلما فعلوه، وهو غني عنه ولكن ذلك ليقربهم إياه يوم يقوم الأشهاد، ويقيم به الحجة عليهم على ما جرت به عاداتهم، أو يوحى به إليك فيفضحهم بكتابته وتلاوته مدى الدهر، فلا يظنوا أن تبييتهم يغنيهم شيئاً.
ولما تسبب عن ذلك كفايته صلى الله عليه وسلم هذا المهم قال: {فأعرض عنهم} أي فإنهم بذلك لا يضرون إلا أنفسهم {وتوكل} أي في شأنهم وغيره {على الله} أي الذي لا يخرج شيء عن مراده {وكفى بالله} أي المحيط علماً وقدرة {وكيلاً *} فستنظر كيف تكون العاقبة في أمرك وأمرهم.
ولما كان سبب إبطانهم خلاف ما يظهرونه اعتقاد أنه صلى الله عليه وسلم رئيس، لا يعلم إلا ما أظهروه، لا رسول من الله الذي يعلم السر وأخفى؛ سبب عن ذلك على وجه الإنكار إرشادهم
إلى الاستدلال على رسالته بما يزيح الشك ويوضح الأمر، وهو تدبر هذا القرآن المتناسب المعاني المعجز المباني، الفائت لقوى المخاليق، المظهر لخفاياهم على اجتهادهم في إخفائها، فقال سبحانه وتعالى دالاً على وجوب النظر في القرآن والاستخراج للمعاني منه:{أفلا يتدبرون} أي يتأملون، يقال: تدبرت الشيء - إذا تفكرت في عاقبته وآخر أمره {القرآن} أي الجامع لكل ما يراد علمه من تمييز الحق من الباطل على نظام لا يختل ونهج لا يمل؛ قال المهدوي: وهذا دليل على وجوب تعلم معاني القرآن وفساد قول من قال: لا يجوز أن يؤخذ منه إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب، وفيه دليل على النظر والاستدلال.
ولما كان التقدير: فلو كان من عند غير الله لم يخبر بأسرارهم، عطف عليه قوله:{ولو كان من عند غير الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة - كما زعم الكفار {لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً *} أي في المعنى بالتناقض والتخلف عن الصدق في الإخبار بالمغيبات أو بعضها، وفي النظم بالتفاوت في الإعجاز؛ فإذا علموا أنه من عند الله بهذا الدليل القطعي حفظوا سرائرهم كما يحفظون علانياتهم، لأن الأمر بالطاعة مستوٍ عند السر والعلن؛ والتقيد بالكثير يفيد أن المخلوق عاجز عن
التحرز من النقص العظيم بنفسه، وإفهامه - عند استثناء نقيض التالي - وجود الاختلاف اليسير فيه تدفعه الصرائح.
ولما أمر سبحانه وتعالى بالنفر إلى الجهاد على الحزم والحذر، وأولاه الإخبار بأن من الناس المغرر والمخذل تصريحاً بالثاني وتلويحاً إلى الأول، وحذر منهما ومن غيرهما إلى أن ختم بأمر الماكرين، وبأن القرآن قيم لا عوج فيه؛ ذكر أيضاً المخذلين والمغررين على وجه أصرح من الأول مبيناً ما ان عليهم فقال:{وإذا جاءهم} أي هؤلاء المزلزلين {أمر من الأمن} من غير ثبت {أو الخوف} كذلك {أذاعوا} أي أوقعوا الإذاعة لما يقدرون عليه من المفاسد {به} أي بسببه نم غير علم منهم بصدقه من كذبه، وحقه من باطله، ومتفقه من مختلفه، فيحصل الضرر البالغ لأهل الإسلام، أقله قلب الحقائق؛ قال في القاموس: أذاعه وبه: أفشاه ونادى به في الناس. وذلك كما قالوا في أمر الأمن حين انهزم أهل الشرك بأحد، فتركوا المركز الذي وضعهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالفوا أمره وأمر أميرهم، فكان سبب كرة المشركين وهزيمة المؤمنين، وفي أمر الخوف حين صاح الشيطان: إن محمداً قد قتل، فصدقوه وأذاعه بعضهم لبعض، وانهزموا وأرادوا الاستجارة بالكفار من أبي سفيان
وأبي عامر، وكذا ما أشاعوه عند الخروج إلى بدر الموعد من أن أبا سفيان قد جمع لهم ما لا يحصى كثرة، وأنهم إن لقوة لم يبق منهم أحد - إلى غير ذلك من الإرجاف إلى أن صارت المدينة تفور بالشر فوران المرجل، حتى أحجموا كلهم - أو إلا أقلهم - حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد» فاستجابوا حينئذ، وأكسبهم هذا القول شجاعة وأنالهم طمأنينة، فرجعوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء كما وعدهم الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إن صبروا واتقوا، فكذب ظنهم وصدق الله ورسوله، وفي هذا إرشاد إلى الاستدلال على كون القرآن من عنده سبحانه وتعالى بما يكذب من أخبارهم هذه التي يشيعونها ويختلف، وأن ما كان من غيره تعالى فمختلف - وإن تحرى فيه متشبه - وإن دل عقله وتناهي نبله إلا أن استند عقله إلى ما ورد عن العالم بالعواقب، المحيط بالكوائن على لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام، وإلى أن القياس حجة. وأن تقليد القاصر للعالم واجب، وأن الاستنباط واجب على العلماء، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رأس العلماء، وإلى ذلك يومي قوله تعالى:{ولو ردوه} أي ذلك الأمر الذي لا نص فيه من قبل أن يتكلموا به {إلى الرسول} أي نفسه إن كان موجوداً، وأخباره إن كان مفقوداً {وإلى أولي الأمر منهم} أي المتأهلين لأن يأمروا وينهوا من الأمراء بالفعل أو بالقوة من العلماء وغيرهم {لعلمه} أي ذلك الأمر على حقيقته وهل هو مما يذاع أو لا {الذين يستنبطونه} أي يستخرجونه بفطنتهم وتجربتهم كما يستخرج الإنباط المياه ومنافع الأرض {منهم} أي من الرسول وأولي الأمر.
ولما كان التقدير: فلولا فضل الله عليكم ورحمته بالرسول وورّاث علمه لاستبيحت بإشاعاتهم هذه بيضة الدين واضمحلت أمور المسلمين؛ عطف عليه قوله: {ولولا فضل الله عليكم} أي أيها المتسمون بالإسلام بإنزال الكتاب وتقويم العقول {ورحمته} بإرسال الرسول {لاتبعتم الشيطان} أي المطرود المحترق {إلا قليلاً *} أي منكم فإنهم لا يتبعونه حفظاً من الله سبحانه وتعالى بما وهبهم من صحيح العقل من غير واسطة رسول؛ وهذه الآية من المواضع المستصعبة على الأفهام بدون توقيف على المراد بالفضل إلا عند من آتاه الله سبحانه وتعالى علماً بالمناسبات، وفهماً ثاقباً بالمراد بالسياقات، وفطنة بالأحوال والمقامات
تقرب من الكشف، وذلك أن من المقرر أنه لا بد من مخالفة حكم المستثنى لحكم المستثنى منه وهو هنا من وجد عليهم الفضل والرحمة فاهتدوا ومخالفة المستثنى لهم تكون بأحد أمور ثلاثة كل منها فاسد، إما بأن يعدموا الفضل فيتبعوه، ويلزم عليه أن يكون الضال أقل من المهتدي، وهو خلاف المشاهد؛ أو بأن يعدموه فلا يتبعوه، فيكونوا مهتدين من غير فضل؛ أو بأن يوجد عليهم الفضل فيتبعوه، فيكونوا ضالين مع الفضل والرحمة اللذين كانا سبباً في امتناع الضلال عن المخاطبين.
فيكونان تارة مانعين، وتارة غير مانعين، فلم يفيدا إذن مع أن أيضاً يلزم عليه أن يكون الضال أقل من المهتدي؛ فإذا حمل الكلام على أن المراد بالفضل الإرسال وضح المعنى ويكون التقدير: ولولا إرسال الرسول لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم، فإنهم لا يتبعونه من غير إرشاد الرسول، بل بهداية من الله سبحانه وتعالى وفضل بلا واسطة كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل؛ والدليل على هذا المقدر أن السياق لرد الأشياء كلها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والمنع من الاستقلال بشيء دونه.
ولما بين سبحانه وتعالى نفاقهم المقتضي لتقاعدهم عن الجهاد بأنفسهم
وتنشيطهم لغيرهم، كان ذلك سبباً لأن يمضي صلى الله عليه وسلم لأمره سبحانه وتعالى من غير التفات إليهم وافقوا أو نافقوا، فقال سبحانه وتعالى بعد الأمر بالنفر ثبات وجميعاً، وبيان أن منهم المبطىء، مشيراً إلى أن الأمر باق وإن بطّأ الكل:{فقاتل في سبيل الله} أي الذي له الأمر كله ولو كنت وحدك.
ولما كان كأنه قيل: فما أفعل فيمن أرسلت إليهم إن لم يخرجوا؟ قال - معلماً بأنه قد جعله أشجع الناس وأعلمهم بالحروب وتدبيرها، وهو مع تأييده بذلك قد تكفل بنصرته ولم يكله إلى أحد -:{لا تكلف إلا نفسك} أي ليس عليك إثم أتباعك لو تخلفوا عنك، وقد أعاذهم الله سبحانه وتعالى من ذلك، ولا ضرر عليك في الدنيا أيضاً من تخليهم، فإن الله سبحانه وتعالى ناصرك وحده، وليس النصر إلا بيده سبحانه وتعالى، وما كان سبحانه وتعالى ليأمره بشيء إلا وهو كفوء له، فهو ملىء بمقاتلة الكفار كلهم وحده وإن كانوا أهل الأرض كلهم، ولقد عزم في غزوة بدر الموعد - التي قيل: إنها سبب نزول هذه الآية - على الخروج إلى الكفار ولو لم يخرج معه أحد؛ وقد اقتدى به صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه في قتال أهل الردة فقال للصحابة رضي الله تعالى عنهم: والله لو لم أجد إلا هاتين - يعني ابنتيه:
عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما - لقاتلتهم بهما.
ولما كان ذلك قد يفتر عن الدعاء قال: {وحرض المؤمنين} أي مرهم بالجهاد وانههم عن تركه وعن مواصلة كل من يثبطهم عنه وعظمهم واجتهد في أمرهم حتى يكونوا مستعدين للنفر متى ندبوا حتى كأنهم لشدة استعدادهم حاضرون في الصف دائماً. ثم استأنف الذكر لثمرة ذلك فقال: {عسى الله} أي الذي استجمع صفات الكمال {أن يكف} بما له من العظمة {بأس الذين كفروا} أي عن أن يمنعوك من إظهار الدين بقتالك وقتال من تحرضه، ولقد فعل سبحانه وتعالى ذلك، فصدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، حتى ظهر الدين، ولا يزال ظاهراً حتى يكون آخر ذلك على يد عيسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كان السامع ربما فهم أنه لا يتأتى كفهم إلا بذلك، قال ترغيباً وترهيباً واحتراساً:{والله} أي الذي لا مثل له {أشد بأساً} أي عذاباً وشدة من المقاتِلين والمقاتَلين {وأشد تنكيلاً *} أي تعذيباً بأعظم العذاب، ليكون ذلك مهلكاً للمعذب ومانعاً لغيره عن مثل فعله؛ قال الإمام أبو عبد الله القزاز: يقال: نكلته تنكيلاً - إذا عملت به عملاً يكون نكالاً لغيره، أي عبرة فيرجع عن المراد من
أجله، وهو أن الناظر إليه والذي يبلغه ذلك يخاف أن يحل به مثله، أي فيكون له ذلك قيداً عن الإقدام؛ والنكل - بالكسر: القيد.
ولما كان ذلك موجباً للرغبة في طاعة النبي صلى الله عليه وسم لا سيما في الجهاد، وللرغبة فيمن كان بصفة المؤمنين من الإقبال على الطاعة، والإعراض عن كل من كان بصفة المنافقين، والإدامة لطردهم وإبعادهم والغلظة عليهم والحذر من مجالستهم حتى يتبين إخلاصهم، وكان بين كثير من خلص الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبينهم قرابات توجب العطف المقتضي للشفقة عليهم، الحاملة للشفاعة فيهم، إما بالإذن في التخلف عن الجهاد لما يزخرفون القول من الأعذار الكاذبة، أو في العفو عنهم عند العثور على نقائصهم، أو في إعانتهم أو إعانة غيرهم بالمال والنفس في أمر الجهاد عند ادعاء أن المانع له عنه العجز - وفي غير ذلك، وكانت التوبة معروضة لهم ولغيرهم، وكان البر ما سكن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر، والإنسان على نفسه بصيرة، وكانت البواطن لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وكان الإنسان ربما أظهر شراً في صورة خير؛ رغب سبحانه وتعالى في البر، وحذر من الإثم بقوله - معمماً مستأنفاً في جواب من كأنه قال:
أما تقبل فيهم شفاعة -: {من يشفع} أي يوجد ويجدد، كائناً من كان، في أي وقت كان {شفاعة حسنة} أي يقيم بها عذر المسلم في كل ما يجوز في الدين ليوصل إليه خيراً، أو يدفع عنه ضيراً {يكن له نصيب منها} بأجر تسببه في الخير {ومن يشفع} كائناً من كان، في أي زمان كان {شفاعة سيئة} أي بالذب عن مجرم في أمر لا يجوز، والتسبب في إعلائه وجبر دائه؛ وعظّم الشفاعة السيئة لأن درء المفاسد أولى من جلب المصلح، فقال - معبراً بما يفهم النصيب ويفهم أكثر مه تغليظاً في الزجر -:{يكن له كفل منها} وهذا بيان لأن الشفاعة فيهم سيئة إن تحقق إجرامهم، حسنة إن علمت توبتهم وإسلامهم.
ولما كان كل من تحريض المؤمنين على الجهاد والشفاعة الحسنة من وادي «من سنَّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» حَسُنَ اقترانهما جداً، والنصيب قدر متميز من الشيء يخص من هو له، وكذا الكفل إلا أن الاستعمال يدل على أنه أعظم من النصيب، ويؤيده ما قالوا من أنه قد يراد به الضعف، فكأنه نصيب متكفل بما هو له
من إسعاد وإبعاد؛ قال أهل اللغة: النصيب: الحظ، والكفر - بالكسر: الضعف والنصيب والحظ، ومادة «نصب» يدور على العلم المنصوب، ويلزمه الرفع والوضع والتمييز والأصل والمرجع والتعب، فيلزمه الوجع، ومن لوازمه أيضاً الحد والغاية والجد الوقوف؛ ومادة «كفل» تدور على الكفل - بالتحريك وهو العجز أو ردفه، ويلزمه الصحابة واللين والرفق والتأخر؛ وقال الإمام: الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الإنسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، والمقصود هنا حصول ضد ذلك كقوله
{فبشرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21 والتوبة: 34 والانشقاق: 24] والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سيقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله سبحانه وتعالى انتهى. وما غلظ هذا الزجر إلا للعلم بأن أكثر النفوس ميالة بأصحابها للشفاعة بالباطل.
ولما كان الأليق بالرغبة أن لا يقطع في موجبها وإن عظم بالحقية، ليكون ذلك زاجراً عن مقارفة شيء منها وإن صغر؛ عبر في الحسنة بالنصيب، وفي السيئة بالكفل؛ ويؤيد إرادة هذا أنه
تعالى لما ذكر ما يوجب الجنة من الإيمان والتقوى، وكان في سياق الوعظ لأهل الكتاب الذين هم على شرع أصله حق بتشريع رسول من عند الله، فتركهم لذلك بعيد يحتاج إلى زيادة ترغيب؛ عبر بالكفل فقال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته} [الحديد: 28] إلى آخرها.
ولما كان النصيب مبهماً بالنسبة إلى علمنا لتفاوته بالنسبة إلى قصور الشافعين، وإقدامهم على الشفاعة على علم أو جهل وغير ذلك مما لا يمكن الإحاطة به إلا الله سبحانه وتعالى علماً وقدرة؛ قال تعالى مرغباً ومرهباً:{وكان الله} أي ذو الجلال والإكرام {على كل شيء} من الشافعين وغيرهم وجزاء الشفاعة {مقيتاً *} أي حفيظاً وشهيداً وقديراً على إعطاء ما يقوت من أخلاق النفوس وأحوال القلوب وأرزاق الأبدان وجميع ما به القوام جزاء وابتداء من جميع الجهات، وعلى تقدير ما يستحق كل أحد من الجزاء على الشفاعة وكل خير وشر.
ولما كان ذلك موجباً للإعراض عنهم رأساً ومنابذتهم قولاً وفعلاً، وبين سبحانه وتعالى أن التحية ليست من وادي الشفاعة، وأن الشفاعة تابعة للعمل، والتحية تابعة للظاهر، فقال سبحانه وتعالى عاطفاً
على ما تقديره: فلا تشفعوا فيهم وأنتم تعلمون سوء مقاصدهم، فقال معبراً بأداة التحقق بشارة لهم بأنهم يصيرون - بعد ما هم فيه الآن من النكد - ملوكاً، وفي حكم الملوك، يحبون ويشفع عندهم، وحثاً على التواضع:{وإذا حييتم بتحية} أي أي تحية كانت إذا كانت مشروعة، وأصل التحية الملك، واشتقاقها من الحياة، فكأن حياة الملك هي الحياة وما عداها عدم ثم أطلقت على كل دعاء يبدأ به عند اللقاء؛ وقال الأصبهاني: لفظ التحية صار كناية عن الإكرام، فجميع أنواع الإكرام تدخل تحت لفظ التحية {فحيوا بأحسن منها} كأن تزيدوا عليها {أو ردوها} أي من غير زيادة ولا نقص، وذلك دال على وجوب رد السلام - من الأمر، وعلى الفور - من الفاء والإجماع موافق لذلك، وترك الجواب إهانة، والإهانة ضرر، والضرر حرام؛ قال الأصبهاني: والمبتدىء يقول: السلام عليكم، والمجيب يقول: وعليكم السلام، ليكون الافتتاح والاختتام بذكر الله سبحانه وتعالى.
وما أحسن جعلها تالية لآية الجهاد إشارة إلى أن من بذل السلام وجب الكف عنه ولو كان في الحرب، على أن من مقتضيات هاتين الآيتين أن مبني هذه السورة على الندب إلى الإحسان والتعاطف
والتواصل، وسبب ذلك إما المال وقد تقدم الأمر به في قوله تعالى {وإذا حضر القسمة} [النساء: 8] ، وإما غيره ومن أعظمه القول، لأنه ترجمان القلب الذي به العطف، ومن أعظم ذلك الشفاعة والتحية، قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم والأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه «والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم» فناسب ذكر هاتين الآيتين بعد ذكر آية الجهاد المختتمة بالبأس والتنكيل.
ولما كانت الشفاعة أعظمها في الإحسان قدمت ولا سيما وموجبها الإعراض، ومقصد السورة التواصل، فشأنها أهم والنظر إليها آكد، ثم رغب في الإحسان في الرد، ورهب من تركه بقوله معللاً:{إن الله} أي الذي له الإحاطة علماً وقدرة {كان} أي أزلاً وأبداً {على كل شيء حسيباً *} أي محصياً لجميع المتعددات دقيقها وجليلها، كافياً لها في أقواتها ومثوباتها، محاسباً بها، مجازياً عليها، وذلك كله شأن المقيت؛ ثم علل ذلك بقوله دالاً على تلازم التوحيد والعدل:{الله} أي الذي لا مثل له {لا إله إلا هو} أي وقد أمركم بالعدل في الشفاعة والسلام، فإن لم تفعلوه - لما لكم من النقائص
التي منها عدم الوحدانية - فهو فاعله ولا بد فاحذروه لأنه واحد فلا معارض له في شيء من الحساب ولا غيره، ولا يخفى عليه شيء فالحكم على البواطن إنما هو له تعالى، وأما أنتم فلم تكلفوا إلا بالظاهر.
ولما تبين أنه لا معارض له أنتج قوله مبيناَ لوقت الحساب الأعظم: {ليجمعنكم} وأكده باللام والنون دلالة على تقدير القسم لإنكار المنكرين له، ولما كان التدريج بالإماتة شيئاً فشيئاً، عبر بحرف الغاية فقال:{إلى يوم القيامة} والهاء للمبالغة، ثم آكده بقوله:{لا ريب فيه} أي فيفصل بينكم وبين من أخبركم بهم من المنافقين ونقد أحوالهم وبين محالهم، فيجازي كلاً بما يستحق.
ولما كان التقدير: فمن أعظم من الله قدرة! عطف عليه قوله: {ومن أصدق من الله} أي الذي له الكمال كله فلا شوب نقص يلحقه {حديثاً} وهو قد وعد بذلك لأنه عين الحكمة، وأقسم عليه، فلا بد من وقوعه، وإذ قد تحرر بما مضى أن المنافقين كفرة، لا لبس في أمرهم، وكشف سبحانه وتعالى الحكم في باطن أمرهم بالشفاعة وظاهره بالتحية، وحذر من خالف ذلك بما أوجبته على نفسه حكمته من الجمع ليوم الفصل للحكم بالعدل، وختم بأن الخبر عنهم وعن جميع ذلك صدق؛ كان ذلك سبباً لجزم القول بشقاوتهم والإعراض
عنهم والبعد عن الشفاعة فيهم، والإجماع على ذلك من كل مؤمن وإن كان مبنى السورة على التواصل، لأن ذلك إنما هو حيث لا يؤدي إلى مقاطعة أمر الله، فقال تعالى مبكتاً لمن توقف عن الجزم بإبعادهم:{فما لكم} أيها المؤمنون {في المنافقين} أي أيّ شيء لكم من أمور الدنيا أو الآخرة في افتراقكم فيهم {فئتين} بعضكم يشتد عليهم وبعضكم يرفق بهم.
ولما كان هذا ظاهراً في بروز الأمر المطاع بين القول بكفرهم وضحه بقوله؛ {والله} أي والحال أن الملك الذي لا أمر لأحد معه {أركسهم} أي ردهم منكوسين مقلوبين {بما كسبوا} أي بعد إقرارهم بالإيمان من مثل هذه العظائم، فاحذروا ذلك ولا تختلفوا في أمرهم بعد هذا البيان؛ وفي عزوة أحد والتفسير من البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال:«لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: {فما لكم في المنافقين} - الآية، وقال: إنها طيبة تنفي الذنوب وفي رواية: - كما تنفي النار خبث الفضة» انتهى. فالمعنى حينئذ: اتفقوا على أن تسيروا فيها بما ينزل عليكم في هذه الآيات.
ولما كان حال من يرفق بهم حال من يريد هدايتهم، أنكر سبحانه وتعالى ذلك عليهم صريحاً لبت الأمر في كفرهم فقال {أتريدون} أي أيها المؤمنون {أن تهدوا} أي توجدوا الهداية في قلب {من أضل الله} أي وهو الملك الأعظم الذي لا يرد له أمر، وهو معنى قوله:{ومن} أي والحال أنه من {يضلل الله} أي بمجامع أسمائه وصفاته {فلن تجد} أي أصلاً أيها المخاطب كائناً من كان {له سبيلاً *} أي إلى ما أضله عنه أصلاً، والمعنى: إن كان رفقكم بهم رجاء هدايتهم فذلك أمر ليس إلا الله، وإنما عليكم أنتم الدعاء، فمن أجاب صار أهلاً للمواصلة، ومن أبى صارت مقاطعته ديناً، وقتله قربة، والإغلاظ واجباً.
ولما أخبر بضلالهم وثباتهم عليه، أعلم بأعراقهم فيه فقال:{ودّوا} أي أحبوا وتمنوا تمنياً واسعاً {لو تكفرون} أي توجدون الكفر وتجددونه وتستمرون عليه دائماً {كما كفروا} ولما لم يكن بين ودهم لكفرهم وكونهم مساوين لهم تلازم، عطف على الفعل المودود - ولم يسبب - قوله:{فتكونون} أي وودوا
أن يتسبب عن ذلك ويتعقبه أن تكونوا أنتم وهم {سواء} أي في الضلال، أي توجدون الكفر وتجددونه وتستمرون عليه دائماً، فأنتم ترجون في زمان الرفق بهم هدايتهم وهم يودون فيه كفركم وضلالكم، فقد تباعدتم في المذاهب وتباينتم في المقاصد.
ولما أخبر بهذه الودادة، سبب عنه أمرهم بالبراءة منهم حتى يصلحوا، بياناً لأن قولهم في الإيمان لا يقبل ما لم يصدقوه بفعل فقال:{فلا تتخذوا} أي أيها المؤمنون {منهم أولياء} أي أقرباء منكم {حتى يهاجروا} أي يوقعوا المهاجرة {في سبيل الله} أي يهجروا من خالفهم في ذات من لا شبه له، ويتسببوا في هجرانه لهم إن كانوا في دار الحرب فبتركها، وإن كانوا عندكم فبترك موادة الكفرة والموافقة لهم في أقوالهم وأفعالهم وإن كانوا أقرب أقربائهم، وهجرتهم في جميع ذلك بمواصلتكم في جميع أقوالكم وأفعالكم، والهجرة العامة هي ترك ما نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه.
ولما نهى عن موالاتهم وغيّي النهي بالهجرة، سبب عنه قوله:{فإن تولوا} أي عن الهجرة المذكورة {فخذوهم} أي اقهروهم بالأسر وغيره {واقتلوهم حيث وجدتموهم} أي في حل أو حرم. ولما كانوا في هذه الحالة لا يوالون المؤمنين إلا تكلفاً قال: {ولا تتخذوا} أي تتكلفوا أن تأخذوا {منهم ولياً} أي من تفعلون معه فعل المقارب المصافي {ولا نصيراً} على أحد من أعدائكم، بل جانبوهم مجانبة كلية.
ولما كان سبحانه وتعالى قد أمر فيهم على تقدير توليهم بما أمر، استثنى منه فقال:{إلا الذين يصلون} فراراً منكم، وهم من الكفار عند الجمهور {إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي عهد وثيق بأن لا تقاتلوهم ولا تقاتلوا من لجأ إليهم أو دخل فيما دخلوا فيه فكفوا حينئذ عن أخذهم وقتلهم {أو} الذين {جاءوكم} حال كونهم {حصرت} أي ضاقت وهابت وأحجمت {صدورهم أن} أي عن أن {يقاتلوكم} أي لأجل دينهم وقومهم {أو يقاتلوا قومهم} أي لأجلكم فراراً أن يكفوا عن قتالكم وقتال قومهم فلا تأخذوهم ولا تقاتلوهم، لأنهم كالمسالمين بترك القتال، ولعله عبر بالماضي في «جاء»
إشارة إلى أن شرط مساواتهم للواصلين إلى المعاهدين عدم التكرر، فإن تكرر ذلك منهم فهم الآخرون الآتي حكمهم.
ولما كان التقدير: فلو شاء الله لجعلهم مع قومهم إلباً واحداً عليكم، عطف عليه قوله:{ولو} أي يكون المعنى: والحال أنه لو {شاء الله} أي وهو المتصف بكل كمال {لسلطهم} أي هؤلاء الواصلين والجائين على تلك الحال من الكفار {عليكم} ينوع من أنواع التسليط، تسليطاًَ جارياً على الأسباب ومقتضى العوائد، لأن بهم قوة على قتالكم {فلقاتلوكم} أي فتسبب عن هذا التسليط أنهم قاتولكم منفردين أو مع غيرهم من أعدائكم، واللام فيه جواب «لو» على التكرير، أو البدل من سلط.
ولما كان المغيّي على النهي عن قتالهم حينئذ، صرح به في قوله:{فإن اعتزلوكم} أي هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عنهم من المنافقين، فكفوا عنكم {فلم يقاتلوكم} منفردين ولا مجتمعين مع غيرهم {وألقوا إليكم السلم} أي الانقياد {فما جعل الله} أي الذي
لا أمر لأحد معه بجهة من الجهات {لكم عليهم سبيلاً *} أي إلى شيء من أخذهم ولا قتلهم.
ولما كان كأنه قيل: هل بقي من أقسام المنافقين شيء؟ قيل: نعم! {ستجدون} أي عن قرب بوعد لا شك فيه {آخرين} أي من المنافقين {يريدون أن يأمنوكم} أي فلا يحصل لكم منهم ضرر {ويأمنوا قومهم} كذلك، لضعفهم عن كل منكم. فهم يظهرون لكم الإيمان إذا لقوكم، ولهم الكفر إذا لقوهم، وهو معنى {كلما ردوا إلى الفتنة} أي الابتلاء بالخوف عند المخالطة {أركسوا} أي قلبوا منكوسين {فيها} .
ولما كان هؤلاء أعرق في النفاق وأردى وأدنى من الذين قبلهم وأعدى، صرح بمفهوم ما صرح به في أولئك، لأنه أغلظ وهم أجدر من الأولين بالإغلاظ، وطوى ما صرح به، ثم قال:{فإن لم يعتزلوكم} ولما كان الاعتزال خضوعاً لا كبراً، صرح به في قوله:{ويلقوا إليكم السلم} أي الانقياد. ولما كان الإلقاء لا بد له من قرائن يعرف بها قال: {ويكفوا أيديهم} أي عن قتالكم وأذاكم {فخذوهم} أي اقهروهم بكل نوع من أنواع القهر تقدرون عليه {واقتلوهم} .
ولما كان نفاقهم - كما تقدم - في غاية الرداءة، وأخلاقهم في نهاية الدناءة، أشار إلى الوعد بتيسير التمكين منهم فقال:{حيث ثقفتموهم} فإن معناه: صادفتموهم وأدركتموهم وأنتم ظافرون بهم، حاذقون في قتالهم، فطنون به، خفيفون فيه، فإن الثقف: الحاذق الخفيف الفطن، ولذلك أشار إليهم بأداة البعد فقال:{وأولئكم} أي البعداء عن منال الرحمة من النصر والنجاة وكل خير {جعلنا} أي بعظمتنا {لكم عليهم سلطاناً} أي تسلطاً {مبيناًَ *} أي ظاهراً قوته وتسلطه. وهذه الآيات منسوخة بآية براءة، فإنها متأخرة النزول فإنها بعد تبوك.
ولما بين أقسامهم بياناً ظهر منه أن أحوالهم ملبسة، وأمر بقتالهم مع الاجتهاد في تعرف أحوالهم، وختم بالتسلط عليهم، وكان ربما قتل من لا يستحق القتل بسبب الإلباس؛ أتبع ذلك بقوله المراد به التحريم، مخرجاً له في صورة النفي المؤكد بالكون لتغليظ الزجر عنه لما للنفوس عند الحظوظ من الدواعي إلى القتل:{وما كان لمؤمن} أي يحرم عليه {أن يقتل مؤمناً} أي في حال من الحالات {إلا خطأ} أي في حالة الخطأ بأن لا يقصد القتل، أو لا يقصد الشخص، أو يقصده
بما لا يقصد به زهوق الروح، أو لا يقصد ما هو ممنوع منه كمن يرمي إلى صف الكفار وفيهم مسلم، أو بأن يكون غير مكلف، فإن القتل على هذا الوجه ليس بحرام، وهذا الذي ذكره في أقسام المنافقين إشارة إلى أنه ينبغي التثبت والتحري في جميع أمر القتل متى احتمل أن يكون القاتل مؤمناً احتمالاً لا تقضي العادة بقربه، فلزم من ذلك بيان حكم الخطأ، ولام الاختصاص قد تطلق على ما لا مانع منه «فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب» وكأنه عبر به ليفيد بإيجاب الكفارة والدية غاية الزجر عن قتل المؤمن، لأنه إذا كان هذا جزاء ما هو له فما الظن بما ليس له! فقال تعالى:{ومن قتل مؤمناً} صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، ولعله عبَّر سبحانه وتعالى بالوصف تنبيهاً على أنه إن لم يكن كذلك في نفس الأمر لم يكن عليه شيء في نفس الأمر وإن ألزم به في الظاهر {خطأ} .
ولما كان الخطأ مرفوعاً عن هذه الأمة، فكان لذلك يظن أنه لا شيء على المخطىء؛ بين أن الأمر في القتل ليس كذلك حفظاً للنفوس، لأن الأمر فيها خطر جداً، فقال - مغلظاً عليه حثاً على زيادة النظر والتحري عند فعل ما قد يقتل -:{فتحرير} أي فالواجب عليه تحرير {رقبة} أي نفس، عبر بها عنها لأنها لا تعيش بدونها
كاملة الرق {مؤمنة} ولو ببيع الدار أو البساتين، سليمة عما يخل بالعمل، وقدم التحرير هنا حثاً على رتق ما خرق من حجاب العبد، وإيجاب ذلك في الخطأ إيجاب له في العمد بطريق الأولى، وكأنه لم يذكره في العمد لأنه تخفيف في الجملة والسياق للتغليظ {ودية مسلّمة} أي مؤداة بيسر وسهولة {إلى أهله} أي ورثته يقتسمونها كما يقسم الميراث {إلا أن يصدّقوا} أي يجب ذلك عليه في كل حال إلا في حال تصدقهم بالعفو عن القاتل بإبرائه من الدية، فلا شيء عليه حينئذ، وعبر بالصدقة ترغيباً {فإن كان} أي المقتول {من قوم} أي فيهم منعة {عدو لكم} أي محاربين {وهو} أي والحال أنه {مؤمن فتحرير} أي فالواجب على القاتل تحرير {رقبة مؤمنة} وكأنه عبر بذلك إشارة إلى التحري في جودة إسلامها، وقد أسقط هذا حرمة نفسه بغير الكفارة بسكناه في دار الحرب التي هي دار الإباحة أو وقوعه في صفهم، ولعده في عدادهم قال:{من} ومعناه - كما قال الشافعي وغيره تبعاً لابن عباس رضي الله تعالى عنهما -: في {وإن كان} أي المقتول {من قوم} أي كفرة أيضاً عدو لكم {بينكم وبينهم ميثاق} وهو كافر مثلهم {فدية} أي فالواجب فيه كالواجب
في المؤمن المذكور قبله دية {مسلّمة إلى أهله} على حسب دينه، إن كان كتابياً فثلث دية المسلم، وإن كان مجوسياً فثلثا عشرها {وتحرير رقبة مؤمنة} وكأنه قدم الدية هنا إشارة إلى المبادرة بها حفظاً للعهد، ولتأكيد أمر التحرير بكونه ختاماً كما كان افتتاحاً حثاً على الوفاء به، لأنه أمانة لا طالب له إلا الله؛ وقال الأصبهاني: إن سر ذلك أن إيجابه في المؤمن أولى من الدية، وبالعكس ها هنا - انتهى.
وكان سره النظر إلى خير الدين في المؤمن، وإلى حفظ العهد في الكافر {فمن لم يجد} أي الرقبة ولا ما يتوصل به إليها {فصيام} أي فالواجب عليه صيام {شهرين متتابعين} حتى لو أفطر يوماً واحداً بغير حيض أو نفاس وجب الاستئناف، وعلل ذلك بقوله عادا للخطأ - بعد التعبير عنه باللام المقتضية أنه مباح - ذنباً تغليظاً للحث على مزيد الاحتياط:{توبة} أي أوجب ذلك عليكم لأجل قبول التوبة {من الله} أي الملك الأعظم الذي كل شيء في قبضته.
ولما كان الكفارات من المشقة على النفس بمكان، رغب فيها سبحانه وتعالى بختم الآية بقوله:{وكان الله} أي المحيط بصفات الكمال
{عليماً} أي بما يصلحكم في الدنيا والآخرة، وبما يقع خطأ في نفس الأمر أو عمداً، فلا يغتر أحد بنصب الأحكام بحسب الظاهر {حكيماً *} في نصبه الزواجر بالكفارات وغيرها، فالزموا أوامره وباعدوا زواجره لتفوزوا بالعلم والحكمة.
ولما ساق تعالى الخطأ مساق ما هو للفاعل منفراً عنه هذا التنفير، ناسب كل المناسبة أن يذكر ما ليس له من ذلك، إذ كان ضبط النفس بعد إرسالها شديداً، فربما سهلت قتل من تحقق إسلامه إحنة، وجرت إليه ضغينة وقوت الشبه فيه شدة شكيمة، ولعمري إن الحمل على الكف بعد الإرسال أصعب من الحمل على الإقدام! وإنما يعرف ذلك من جرب النفوس حال الإشراف على الظفر واللذاذة بالانتقام مع القوى والقدرة فقال:{ومن يقتل مؤمناً} ولعله أشار بصيغة المضارع إلى دوم العزم على ذلك لأجل الإيمان، وهو لا يكون إلا كفراً، وترك الكلام محتملاً زيادة تنفير من قتل المسلم {متعمّداً} أي وأما الخطأ فقد تقدم حكمه في المؤمن وغيره {فجزاؤه} أي على ذلك {جهنم} أي تتلقاه بحالة كريهة جداً كما تجهم المقتول
{خالداَ فيها} أي ماكثاً إلى ما لا آخر له {وغضب الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له مع ذلك {عليه ولعنه} أي وأبعده من رحمته {وأعد له عذاباً عظيماً *} أي لا تبلغ معرفته عقولكم، وإن عمم القول في هذه الآية كان الذي خصها ما قبلها وما بعدها من قوله تعالى {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48 و116] لا آية الفرقان فإنها مكية وهذه مدنية.
ولما تبين بهذا المنع الشديد من قتل العمد، وما في قتل الخطأ من المؤاخذة الموجبة للتثبت، وكان الأمر قد برز بالقتال والقتل في الجهاد ومؤكداً بأنواع التأكيد، وكان ربما التبس الحال؛ أتبع ذلك التصريح بالأمر بالتثبت جواباً لمن كأنه قال: ماذا نفعل بين أمري الإقدام والإحجام؟ فقال: {يا أيها الذين أمنوا} مشيراً بأداة البعد والتعبير بالماضي الذي هو لأدنى الأسنان إلى أن الراسخين غير محتاجين إلى مزيد التأكيد في التأديب، وما أحسن التفاته إلى قوله تعالى {وحرض المؤمنين} [النساء: 84] إشارة منه تعالى إلى أنهم يتأثرون من تحريضه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وينقادون لأمره، بما دلت عليه كلمة «إذا» في قوله تعالى:{إذا ضربتم} أي سافرتم وسرتم في الأرض {في سبيل الله} أي الذي له الكمال كله، لأجل وجهه خالصاً {فتبينوا} أي اطلبوا بالتأني والتثبت بيان الأمور والثبات في تلبسها والتوقف الشديد عند منالها، وذلك بتميز بعضها من بعض وانكشاف لبسها غاية الانكشاف؛ ولا تقدموا إلا على ما بان لكم {ولا تقولوا} قولاً فضلاً عما هو أعلى منه {لمن ألقى} أي كائناً من كان {إليكم السلام} أي بادر بأن حياكم بتحية افسلام ملقياً قياده {لست مؤمناً} أي بل متعوذ - لتقتلوه.
ولما كان اتباع الشهوات عند العرب في غاية الذم قال موبخاً منفراً عن مثل هذا في موضع الحال من فاعل «تقولوا» {تبتغون} أي حال كونكم تطلبون طلباً حثيثاً بقتله {عرض الحياة الدنيا} أي بأخذ ما معه من الحطام الفاني والعرض الزائل، أو بإدراك ثأر كان لكم قبله؛ روى البخاري ي التفسير ومسلم في آخر كتابه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
كان رجل في غنيمة له، فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم: فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك إلى قوله {عرض الحياة الدنيا} » ورواه الحارث بن أبي أسامة عن سعيد بن جبير وزاد {كذلك كنتم من قبل} تخفون إيمانكم وأنتم مع المشركين، {فمنَّ الله عليكم} وأظهر الإسلام {فتبينوا} ثم علل النهي عن هذه الحالة بقوله:{فعند الله} أي الذي له الجلال والإكرام {مغانم كثيرة} أي يغنيكم بها عما تطلبون من العرض مع طيبها؛ ثم علل النهي من أصله بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الذي قتلتموه بجعلكم إياه بعيداً عن الإسلام {كنتم} وبعّض زمان القتل - كما هو الواقع - بقوله: {من قبل} أي قبل ما نطقتم بكلمة الإسلام {فمنّ الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {عليكم} أي بأن ألقى في قلوب المؤمنين قبول ما أظهرتم امتثالاً لأمره سبحانه وتعالى بذلك، فقوى أمر الإيمان في قلوبكم قليلاً قليلاً
حتى صرتم إلى ما أنتم عليه في الرسوخ في الدين والشهرة به والعز، ولو شاء لقسى قلوبكم وسلطهم عليكم فقتلوكم. فإذا كان الأمر كذلك فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الدين من القبول ما فعل بكم، وهو معنى ما سبب عن الوعظ من قوله تأكيداً لما مضى إعلاماً بفظاعة أمر القتل:{فتبينوا} أي الأمور وتثبتوا فيها حتى تنجلي؛ ثم علل هذا الأمر بقوله مرغباً مرهباً: {إن الله} أي المختص بأنه عالم الغيب والشهادة {كان بما تعملون خبيراً *} أي يعلم ما أقدمتم عليه عن تبيين وغيره فاحذروه بحفظ بواطنكم وظواهركم.
ولما ناسبت هذه الآية ما قبلها من آية القتل العمد، والتفتت إلى {وحرض المؤمنين} [النساء: 84] وإلى آية التحية، فاشتد اعتناقها لهما، وعلم بها أن في الضرب في سبيل الله هذا الخطر، فكان ربما فتر عنه؛ بين فضله لمن كأنه قال: فحينئذ نقعد عن الجهاد لنسلم، بقوله:{لا يستوي القاعدون} أي عن الجهاد حال كونهم {من المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان، ليفيد التصريح بتفضيل المؤمن المجاهد على المؤمن القاعد لئلا يخصه أحد بالكافر الجاحد.
ولما كان من الناس من عذره سبحانه وتعالى برحمته استثناهم،
فقال واصفاً للقاعدين أو مستثنياً منهم: {غير أولي الضرر} أي المانع أو العائق عن الجهاد في سبيل الله من عوج أو مرض أو عمى ونحوه، وبهذا بان أن الكلام في المهاجرين؛ وفي البخاري في التفسير عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه
«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها عليّ فقال: يا رسول الله! والله لو استطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى؛ فأنزل الله ع وجل على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سرى عنه فأنزل الله {غير أولي الضرر} » وأخرجه في فضائل القرآن عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: «لما نزلت {لا يستوي القاعدون} - الآية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لي زيداً وليجىء باللوح والدواة والكتف؛ ثم قال: اكتب - فذكره» وحديث زيد أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي، وفي رواية أبي داود: قال: «كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سرى عنه فقال لي: اكتب،
فكتبت في كتف {لا يستوي القاعدون} إلى آخرها؛ فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلاً أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، فسرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا زيد! فقرأت {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {غير أولي الضرر} - الآية كلها، قال زيد: أنزلها الله وحدها فألحقتها والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف» ورواه أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو يعلى الموصلي وفيه: «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه، وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عز وجل» .
ولما ذكر القاعد أتبعه قسيمه المجاهد بقوله: {والمجاهدون في سبيل الله} أي دين الملك الأعظم الذي من سلكه وصل إلى رحمته {بأموالهم وأنفسهم} ولما كان نفي المساواة سبباً لترقب كل من الحزبين الأفضليبة، لأن القاعد وإن فاته الجهاد فقد تخلف الغازي في أهله، إذ يحيي الدين بالاشتغال بالعلم ونحوه؛ قال
متسأنفاً: {فضل الله} أي الذي له صفات الكمال {المجاهدين} ولما كان المال في أول الأمر ضيقاً قال مقدماً للمال: {بأموالهم وأنفسهم} أي جهاداً كائناً بالفعل {على القاعدين} أي عن ذلك وهم متمكنون منه بكونهم في دار الهجرة {درجة} أي واحدة كاملة لأنهم لم يفوقوهم بغيرها، وفي البخاري في المغازي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
«لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر» .
ولما شرك بين المجاهدين والقاعدين بقوله: {وكلاً} أي من الصنفين {وعد الله} أي المحيط بالجلال والإكرام أجراً على إيمانهم {الحسنى} بين أن القاعد المشارك إنما هو الذي يه قوة الجهاد القريبة من الفعل، وهو التمكن من تنفيذ الأمر بسبب هجرته لأرض الحرب وكونه بين أهل الإيمان، وأما القاعد عن الهجرة مع التمكن فليس بمشارك في ذلك، بل هو ظالم لنفسه فإنه ليس متمكناً من تنفيذ الأوامر فلا هو مجاهد بالفعل ولا بالقوة القريبة منه، فقال:{وفضل الله} أي الملك الذي لا كفوء له فلا يجبر عليه {المجاهدين} أي بالفعل مطلقاً بالنفس أو المال {على القاعدين} أي عن الأسباب الممكنة من الجهاد ومن الهجرة {أجراً عظيماً *} ثم بينه بقوله: {درجات}
وعظمها بقوله: {منه} وهي درجة الهجرة، ودرجة التمكن من الجهاد بعد الهجرة ودرجة مباشرة الجهاد بالفعل.
ولما كان الإنسان لا يخلو عن زلل وإن اجتهد في العمل قال: {ومغفرة} أي محواً لذنوبهم بحيث أنها لا تذكر ولا يجازى عليها {ورحمة} أي كرامة ورفعة {وكان الله} أي المحيط بالأسماء الحسنى والصفات العلى {غفوراً رحيماً *} أزلاً وأبداً، لم يتجدد له ما لم يكن؛ ثم علل ذلك بأبلغ حث على الهجرة فقال:{إن الذين توفاهم الملائكة} أي تقبض أرواحهم كاملة على ما عندهم من نقص بعض المعاني بما تركوا من ركن الهجرة بما أشارة إليه حذف التاء، وفي الحذف إرشاد إلى أنه إذا ترك من يسعى في جبره بصدقة أو حج ونحوه من أفعال البر جُبر، لأن الأساس الذي تبنى عليه الأعمال الصالحة موجود وهو الإيمان {ظالمي أنفسهم} أي بالقعود عن الجهاد بترك الهجرة والإقامة في بلاد الحرب حيث لا يتمكنون من إقامة شعائر الدين كلها {قالوا} أي الملائكة موبخين لهم {فيم كنتم} أي في أي شيء من الأعمال والأحوال كانت إقامتكم في بلاد الحرب.
ولما كان المراد من هذا السؤال التوبيخ لأجل ترك الهجرة
{قالوا} معتذرين {كنا مستضعفين في الأرض} أي أرض الكفار، لا نتمكن من إقامة الدين، وكأنهم أطلقوها إشارة إلى أنها عندهم لا تساعها لكثرة الكفار هي الأرض كلها، فكأنه قيل: هل قنع منهم بذك؟ فقيل: لا، لأنهم لم يكونوا ضعفاء عن الهجرة، فكأنه قال: فما قيل لهم؟ فقيل: {قالوا} أي الملائكة بياناً لأنهم لم يكونوا ضعفاء عن الهجرة إلى موضع يأمنون فيه على دينهم {ألم تكن أرض الله} أي المحيط بكل شيء، الذي له كل شيء {واسعة فتهاجروا} أي بسبب اتساعها كل من يعاديكم في الدين ضاربين {فيها} أي إلى حيث يزول عنكم المانع، فالآية من الاحتباك: ذكر الجهاد أولاً في {وفضل الله المجاهدين} [النساء: 95] دليل عى حذفه ثانياً بعد {ظالمي أنفسهم} [النساء: 97] ، وذكر الهجرة ثانياً دليل على حذفها أولاً بالقعود عنها، ولذلك خص الطائفة الأولى بوعد الحسنى.
ولما وبخوا على تركهم الهجرة، سبب عنه جزاؤهم فقيل:{فأولئك} أي البعداء من اجتهادهم لأنفسهم {مأواهم جهنم} أي لتركهم الواجب وتكثيرهم سواد الكفار وانبساطهم في
وجوه أهل الناس {وساءت مصيراً *} روى البخاري في التفسير والفتن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله تعالى {إن الذين توافاهم} [النساء: 97] .
ولما توعد على ترك الهجرة، أتبع ذلك بما زاد القاعد عنها تخويفاً بذكر من لم يدخل في المحكوم عليه بالقدرة على صورة الاستثناء تنبيهاً على أنهم جديرون بالتسوية في الحكم لولا فضل الله عليهم، فقال بياناً لأن المستثنى منهم كاذبون في ادعائهم الاستضعاف:{إلا المستضعفين} أي الذين وجد ضعفهم في نفس الأمر وعُدوا ضعفاء وتقوى عليهم غيرهم {من الرجال والنساء والولدان} ثم بين ضعفهم بقوله: {لا يستطيعون حيلة} أي في إيقاع الهجرة {ولا يهتدون سبيلاً *} أي إلى ذلك.
ولما كانت الهجرة شديدة، وكان ربما تركها بعض الأقوياء واعتل بالضعف، وربما ظن القادر مع المشقة أنه ليس بقادر؛ نفر من ذلك بالإشارة إليهم بأداة البعد فقال:{فأولئك} ولما كان الله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء، لا يجب عليه شيء
ولا يقبح منه شيء، بل له أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ويفعل ويقول ما يشاء {لا يسأل عما يفعل} [الأنبياء: 23] أحل هؤلاء المعذورين محل الرجاء إيذاناً بأن ترك الهجرة في غاية الخطر فقال: {عسى الله} أي المرجو والخليق والجدير من الملك المحيط بأوصاف الكمال {أن يعفو عنهم} أي ولو آخذهم لكان له ذلك، وكل ما جاء في القرآن من نحو هذا فهو للإشارة إلى هذا المعنى، وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن عسى من الله واجبة، معناه أنه مع أن له أن يفعل ما يشاء لا يفعل إلا ما يقتضيه الحكمة على ما يستصوبه منهاج العقل السليم {وكان الله} أي الملك الذي له كل شيء فلا اعتراض عليه أزلاً وأبداً {عفواً} أي يمحو الذنب إذا أراد فلا يعاقب عليه وقد يعاتب عليه {غفوراً *} أي يزيل أثره أصلاً ورأساً بحيث لا يعاقب عليه ولا يعاتب ولا يكون بحيث يذكر أصلاً، ولعل العفو راجع إلى الرجال، والغفران إلى النساء والولدان.
ولما رهب من ترك الهجرة، رغب فيها بما يسلي عما قد يوسوس به الشيطان من أنه لو فارق رفاهية الوطن وقع في شدة الغربة، وأنه ربما تجشم المشقة فاخترم قبل بلوغ القصد، فقال تعالى:{ومن يهاجر} أي يوقع الهجرة لكل ما أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بهجرته {في سبيل الله} أي الذي لا أعظم من
ملكه ولا أوضح من سبيله ولا أوسع {يجد في الأرض} أي في ذات الطول والعرض {مراغماً} أي مهرباً ومذهباً ومضطرباً يكون موضعاً للمراغمة، يغضب الأعداء به ويرغم أنوفهم بسبب ما يحصل له من الرفق وحسن الحال، فيخجل مما جروه من سوء معاملتهم له؛ من الرغم وهو الذل والهوان، وأصله: لصوق الأنف بالرغام وهو التراب، تقول: راغمت فلاناً، أي هجرته وهو يكره مفارقتك لذلة تلحقه بذلك.
ولما كان ذلك الموضع وإن كان واحداً فإنه لكبره ذو أجزاء عديدة، وصف بما يقتضي العدد فقال {كثيراً} .
ولما كانت المراغمة لذة الروح، فكانت أعز من لذة البدن فقدمها؛ أتبعها قوله:{وسعة} أي في الرزق، كما قال صلى الله عليه وسلم «صوموا تصحوا وسافروا تغنموا» أخرجه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه «واغزوا، وهاجروا تفلحوا» .
ولما كان ربما مات المهاجر قبل وصوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فظن أنه لم يدرك الهجرة مع تجشمه لفراق بلده قال: {ومن يخرج من بيته} أي فضلاً عن بلده {مهاجراً إلى الله} أي رضى الملك
الذي له الكمال كله {ورسوله} أي ليكون عنده {ثم يدركه الموت} أي بعد خروجه من بيته ولو قبل الفصول من بلده {فقد وقع أجره} أي في هجرته بحسب الوعد فضلاً، لا بحسب الاستحقاق عدلاً {على الله} أي الذي له تمام الإحاطة فلا ينقصه شيء، وكذا كل من نوى خيراً ولم يدركه «لا حسد إلا في اثنتين» فهو موفيه إياه توفية ما يلتزمه الكريم منكم.
ولما كان بعضهم ربما قصر به عن البلوغ توانيه في سيره أو عن خروجه من بلده فظن أن هجرته هذه لم تجبُر تقصيره قال: {وكان الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {غفوراً} أي لتقصير إن كان {رحيماً *} يكرم بعد المغفرة بأنواع الكرامات.
ولما أوجب السفر للجهاد والهجرة، وكان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء؛ ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله سبحانه وتعالى:{وإذا ضربتم} أي بالسفر {في الأرض} أيّ سفر كان لغير معصية. ولما كان القصر رخصة غير عزيمة، بينه بقوله:{فليس عليكم جناح} أي إثم وميل في {أن تقصروا} ولما كان القصر خاصاً ببعض الصلوات، أتى بالجار لذلك ولإفادة أنه في الكم لا في الكيف فقال: {من
الصلاة} أي فاقصروا إن أردتم وأتموا إن أردتم، وبينت السنة أعيان الصلوات المقصورات، وكم يقصر منها من ركعة، وأن القصر من الكمية لا من الكيفية بالإيماء مثلاً في صلاة الخوف بقول عمر رضي الله تعالى عنه ليعلى بن أمية - حين قال له: كيف تقصر وقد أمنا -: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك -، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» وهذا هو حقيقة القصر والذي دلت عليه «من» ، وأما الإيماء ونحوه من كيفيات صلاة الخوف فإبدال لا قصر، والسياق كام ترى مشير إلى شدة الاهتمام بشأنها، وأنه لا يسقطها عن المكلف شيء، وقاض بأن المخاطرة بالنفس والمال لا تسقط الجهاد ولا الهجرة إذ الخوف والخطر مبنى أمرهما ومحط قصدهما، فهذا سر قوله:{وإن خفتم أن يفتنكم} أي يخالطم مخالطة مزعجة {الذين كفروا} لا أنه شرط في القصر، كما بينت نفي شرطيته السنة، والحاصل أن هذا الشرط ذكر لهذا المقصد، لا لمخالفة المفهوم للمنطوق بشهادة السنة؛ وقد كانت الصلاة قبل الهجرة ركعتين ركعتين، فأتمت بعد الهجرة إشارة إلى أن المدينة دار الإقامة وما قبلها كان محل سفر ونقلة؛
روى الشيخان وأحمد - وهذا لفظه - عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
ولما ذكر الخوف منهم، علله مشيراً بالإظهار موضع الإضمار، وباسم الفاعل إلى أن من تلبس بالكفر ساعة ما، أعرق فيه، أو إلى أن المجبول على العداوة المشار إليه بلفظ الكون إنما هو الراسخ في الكفر المحكوم بموته عليه فقال:{إن الكافرين} أي الراسخين منهم في الكفر {كانوا} أي جبلة وطبعاً. ولعله اشار إلى أنهم مغلوبون بقوله: {لكم} دون عليكم {عدواً} ولما كان العدو مما يستوي فيه الواحد والجمع قال: {مبيناً} أي ظاهر العداوة، يعدون عليكم لقصد الأذى مهما وجدوا لذلك سبيلاً، فربما وجدوا الفرصة في ذلك عند طول الصلاة فلذلك قصرتها، ولولا أنها لا رخصة فيها بوجه لوضعتها عنكم في مثل هذه الحالة، أو جعلت التخفيف في الوقت فأمرت بالتأخير، ولكنه لا زكاء للنفوس بدون فعلها على ما حددت من الوقت وغيره.
ولما أتم سبحانه وتعالى بيان القصر في الكمية مقروناً بالخوف لما ذكر، وكان حضور النبي صلى الله عليه وسلم مظنة الأمن بالتأييد بالملائكة ووعد العصمة من الناس، وما شهر به من الشجاعة ونصر به من الرعب وغير ذلك من الأمور القاضية بأن له العاقبة؛ بيَّن سبحانه وتعالى حال الصلاة في الكيفية عند الخوف، وأن صلاة الخوف تفعل عند الأنس بحضرته كما تفعل عند الاستيحاش بغيبته صلى الله عليه وسلم، فجوازها لقوم ليس هو صلى الله عليه وسلم فيهم مفهوم موافقة، فقال سبحانه وتعالى:{وإذا كنت} حال الخوف الذي تقدم فرضه {فيهم} أي في أصحابك سواء كان ذلك في السفر أو في الحضر {فأقمت} أي ابتدأت وأوجدت {لهم الصلاة} أي الكاملة وهي المفروضة {فلتقم طائفة منهم معك} أي في الصلاة ولتقم الطائفة الأخرى وجاه العدو ويطوفون في كل موضع يمكن أن يأتي منه العدو {وليأخذوا} أي المصلون لأنهم المحتاجون إلى هذا الأمر لدخولهم في حالة هي بترك السلاح أجدر {أسلحتهم} كما يأخذها من هو خارج الصلاة، وسبب الأمر بصلاة الخوف - كما في صحيح مسلم وغيره عن جابر رضي الله تعالى عنه «أنهم غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقاتلوا قوماً من جهينة فقاتلوا قتالاً شديداً، قال جابر رضي الله تعالى عنه: فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم،
فأخبر جبرئيل عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقالوا: إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد فلما حضرت العصر صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة» الحديث {فإذا سجدوا} يمكن أن يكون المراد بالسجود ظاهره، فيكون الضمير في {فليكونوا} للجمع الذين منهم هذه الطائفة - المذكورين بطريق الإضمار في قوله {وإذا كنت فيهم} وفي {فلتقم طائفة منهم} أي فإذا سجد الذين قاموا معك في الصلاة فليكن المحدث عنهم وهم الباقون الذين أنت فيهم وهذه الطائفة منهم {من ورائكم} فإذا أتمت هذه الطائفة صلاتها فلتذهب إلى الحراسة {ولتأت طائفة أخرى} أي من الجماعة {لم يصلوا فليصلوا معك} كما صلت الطائفة الأولى، فإن كانت الصلاة ثنائية ولم تصل بكل طائفة جميع الصلاة فلتسلم بالطائفة الثانية، وإن كانت رباعية ولم تصل بكل فرقة جميع الصلاة فلتتم صلاتها، ولتذهب إلى وجاه العدو ولتأت طائفة أخرى - هكذا حتى تتم الصلاة؛ ويمكن أن يكون المراد بالسجود الصلاة - من إطلاق اسم الجزء على الكل، فكأنه قال: فإذا صلوا، أي أتموا صلاتهم - على ما مضت الإشارة إليه، والضمير حينئذ
في «فليكونوا» للطائفة الساجدة، وقوله:{وليأخذوا} يمكن أن يكون ضميره للكل، لئلا يتوهم أن الأمر بذلك يختص بالمصلي، لأن غيره لا عائق له عن الأخذ متى شاء، أو ولتأخذ جميع الطوائف الحارسون والمصلون {حذرهم وأسلحتهم} في حال صلاتهم وحراستهم وإتيانهم إلى الصلاة وانصرافهم منها فجعل الحذر الذي هو التيقظ والتحرز بإقبال الفكر على ما يمنع كيد العدو كالآلة المحسوسة، وخص في استعماله في الصلاة في شأن العدو وخص آخر الصلاة بزيادة لاحذر إشارة إلى أن العدو في أول الصلاة قلما يفطنون لكونهم في الصلاة بخلاف الآخر، فلهذا خص بمزيد الحذر، وهذا الكلام على وجازته محتمل - كما ترى - لجميع الكيفيات المذكورة في الفقه لصلاة الخوف إذا لم يكن العدو في وجه القبلة على أنها تحتمل التنزيل على ما إذا كان في وجه القبلة بأن يحمل الواء على ما واراه السجود عنكم وإتيان الطائفة الأخرى على الإقبال على المتابعة للامام في الأفعال {ولم يصلوا} اي بقيد المتابعة له فيها - والله سبحانه وتعالى الهادي.
وما أحسن اتصال ذلك بأول آيات الجهاد في هذه السورة {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} [النساء: 71] فهو من رد المقطع على المطلع، ثم علل أمره بهذه الكيفية على هذا الاحتياط والحزم بقوله مقوياً لترغيبهم في ذلك بإقبال الخطاب
عليهم: {ودَّ} أي تمنى تمنياً عظيماً {الذين كفروا} أي باشروا الكفر وقتاً ما، فكيف بمن هو غريق فيه {لو تغفلون} أي تقع لكم غفلة في وقت ما {عن أسلحتكم} .
ولما كانت القوة بالآلات مرهبة للعدو ومنكبة قال: {وأمتعتكم} ولما كانت الغفلة ضعفاً ظاهراً، تسبب عنها قوله:{فيميلون} وأشار إلى العلو والغلبة بقوله: {عليكم} وأشار إلى سرعة الأخذن بقوله: {ميلة} وأكده بقوله: {واحدة} .
ولما كان الله - وله المنّ - قد رفع عن هذه الأمة الحرج، وكان المطر والمرض شاقين قال:{ولا جناح} أي حرج {عليكم إن كان بكم أذى} أي وإن كان يسيراً {من مطر} أي لأن حمل السلاح حينئذ يكون سبباً لبلّه {أو كنتم مرضى} أي متصفين بالمرض وكأن التعبير بالوصف إشارة إلى أن أدنى شيء منه لا يرخص {أن تضعوا أسلحتكم} أي لأن حملها يزيد المريض وهنا.
ولما خفف ما أوجبه أولاً من أخذ السلاح برفع الجناح في حال العذر، فكان التقدير: فضعوه إن شئتم؛ عطف عليه بصيغة الأمر إشارة إلى وجوب الحذر منهم في كل حال قوله: {وخذوا حذركم} أي في كل حالة، فإن ذلك نفع لا يتوقع منه ضرر؛ ثم علل ذلك بما بشر فيه بالنصر تشجيعاً للمؤمنين، وإعلاماً بأن الأمر بالحزم إنما هو
للجري على ما رسمه من الحكمة في قوله - ربط المسببات بالأسباب، فهو من باب «اعقلها وتوكل» فقال:{إن الله} المحيط علماً وقدرة {أعدَّ} أي في الأزل {للكافرين} أي الدائمين على الكفر، لا من اتصف به وقتاً ما وتاب منه {عذاباً مهيناً *} أي يهينهم به، من أعظمه حذركم الذي لا يدع لهم عليكم مقدماً، ولا تمكنهم معه منكم فرصة.
ولما علمهم بما يفعلون في الصلاة حال الخوف، أتبع ذلك ما يفعلون بعدها لئلا يظن أنها تغني عن مجرد الذكر، فقال مشيراً إلى تعقيبه به:{فإذا قضيتم الصلاة} أي فرغتم من فعلها وأديتموها على حالة الخوف أو غيرها {فاذكروا الله} أي بغير الصلاة لأنه لإحاطته بكل شيء يستحق أن يراقب فلا ينسى {قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم} أي في كل حالة، فإن ذكره حصنكم في كل حالة من كل عدو ظاهر أو باطن.
ولما كان الذكر أعظم حفيظ للعبد، وحارس من شياطين الإنس والجن، ومسكن للقلوب {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28] ؛ أشار
إلى ذلك بالأمر بالصلاة حال الطمأنينة، تنبيهاً على عظم قدرها، وبياناً لأنها أوثق عرى الدين وأقوى دعائمه وأفضل مجليات القلوب ومهذبات النفوس، لأنها مشتملة على مجامع الذكر {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 48] فقال: {فإذا اطمأننتم} أي عما كنتم فيه من الخوف {فأقيموا الصلاة} أي فافعلوها قائمة المعالم كلها على الحالة التي كنتم تفعلونها قبل الخوف؛ ثم علل الأمر بها في الأمن والخوف والسعة والضيق سفراً أو حضراً بقوله: {إن الصلاة} مظهراً لما كان الأصل فيه الإضمار تنيبهاً على عظيم قدرها بما للعبد فيها من الوصلة بمعبوده {كانت على المؤمنين كتاباً} أي هي - مع كونها فرضاً - جامعة على الله جمعاً لا يقارنها فيه غيره {موقوتاً *} أي وهي - مع كونها محدودة - مضبوطة بأوقات مشهورة، فلا يجوز إخراجها عنها في أمن ولا خوف فوت - بما أشارت إليه مادة وقت للأبدان بما تسبب من الأرزاق. وللقلوب بما تجلب من المعارف والأنوار.
ولما عرف من ذلك أن آيات الجهاد في هذه السورة معلمة للحذر خوف الضرر، مرشدة إلى إتقان المكائد للتخلص من الخطر،
وكان ذلك مظنة لمتابعة النفس والمبالغة فيه، وهو مظنة للتواني في أمر الجهاد؛ أتبع ذلك قوله تعالى منبهاً على الجد في أمره، وأنه لم يدع في الصلاة ولا غيرها ما يشغل عنه، عاطفاً على نحو: فافعلوا ما أمرتكم به، أو على {فأقيموا الصلاة} :{ولا تهنوا} أي تضعفوا وتتوانوا بالاشتغال بذكر ولا صلا، فقد يسرت ذلك لكم تيسيراً لا يعوق عن شيء من أمر الجهاد {في ابتغاء القوم} أي طلبهم بالاجتهاد وإن كانوا في غاية القوم والقيام بالأمور؛ ثم علل ذلك بقوله:{إن تكونوا تألمون} أي يحصل لكم ألم ومشقة بالجهاد من القتل وما دونه {فإنهم يألمون كما تألمون} أي لأنهم يحصل لهم من ذلك ما يحصل لكم، فلا يكونن على باطلهم اصبر منكم على حقكم.
ولما بين ما يكون مانعاً لهم من الوهن دونهم، لأنه مشترك بينهم؛ بيّن ما يحملهم على الإقدام لاختصاصه به فقال:{وترجون} أي أنتم {من الله} أي الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى {ما لا يرجون} أي من النصر والعزم والكرم واللطف، لأنكم تقاتلون فيه وهم يقاتلون في الشيطان، وهذا لكل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر سواء كان ذلك في جهاد الكفار أو لا.
ولما كان العلم مبنى كل خير، وكانت الحكمة التي هي نهاية العلم وغاية القدرة مجمع الصفات العلى قال تعالى؛ {وكان الله} أي الآمر لكم بهذه الأوامر وهو المحيط بكل شيء {عليماً} أي بالغ العلم فهو لا يأمر إلا بما يكون بالغ الحسن مصلحاً للدين والدنيا {حكيماً} فهو يتقن لمن يأمره الأحوال، ويسدده في المقال والفعال، فمن علم منه خيراً أراده ورقاه في درج السعادة، ومن علم منه شراً كاده فنكس مبدأه ومعاده.
ولما كان أول هذه القصص والتعجيب من حال الذين أوتوا نصيباً من الكتاب في ضلالهم وإضلالهم، ثم التعجيب من إيمانهم بالجبت والطاغوت، ثم التعجيب من حال من ادعى الإيمان بهذا الكتاب مع الكتب السالفة، ثم رضي بحكم غيره، وساق سبحانه وتعالى أصول ذلك وفروعه، ونصب الأدلة حتى علت على الفرقدين، وانتشر ضياؤها على جميع الخافقين، وختم ذلك بمجاهدة المبطلين بالحجة والسيف، وسوّر ذلك بصفتي العلم والحكمة؛ ناسب أتم مناسبة الإخبار بأنه أنزل هذا الكتاب بالحق وبين فائدته التي عدل عنها المنافقون في استحكام غيره فقال:{إنا أنزلنا} أي بما لنا من العظمة التي تتقاصر دونها كل عظمة {إليك} أي خاصة وأنت أكمل الخلق {الكتاب} أي الكامل الجامع لكل خير {بالحق} أي ملتبساً بما يطابقه الواقع
{لتحكم بين الناس} أي عامة، لأن دعوتك عامة فلا أضل ممن عدل عن حكمك وابتغى خيراً من غير كتابك، وأشار إلى أنه لا ينطق عن الهوى بقوله:{بما أراك الله} أي عرفكه الذي له القدرة الشاملة والعلم الكامل، فإن كان قد بين لك شيئاً غاية البيان فافعله، وإلا فانتظر منه البيان؛ ثم شرع سبحانه وتعالى في إتمام ما بقي من أخبارهم، وكشف ما بطن من أسرارهم، وبيان علاماتهم ليعرفوا، ويجتنبها المؤمنون لئلا يوسموا بميسمهم.
ولما كان سبحانه وتعالى قد خفف عليه صلى الله عليه وسلم بأن شرع له القناعة في الحكم بالظاهر وعدم التكليف بالنقب عن سرائرهم بالدفع عن طعمة بن أبيرق، لأن أمره كان مشكلاً، فإنه سرق درعاً وأودعها عند يهودي، فوجدت عنده فادعى أن طعمة أودعها عنده، ولم يثبت ذلك على طعمة حتى أنزل الله سبحانه وتعالى الآية، فأراد تعالى إنزاله في هذه النازلة وغيرها مما يريده سبحانه وتعالى في المقام الخضري من الحكم بما في نفس الأمر مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى إذ كان الصحيح الذي عليه الجمهور - كما نقله شيخنا قاضي الشافعية بمصر أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر رحمه الله تعالى
في الإصابة في أسماء الصحابة - أن الخضر عليه الصلاة والسلام نبي، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم قد أعطى مثل جميع معجزات الأنيباء صلوات الله عليهم مع ما اختص به دونهم - على جميعهم أفضل الصلاة وأتم التسليم والبركات، فقال تعالى عاطفاً على ما علم تقديره من نحو: فاحكم بما نريك من بحار العلوم التي أودعناها هذا الكتاب: {ولا تكن للخائنين} أي لأجلهم، من طعمة وغيره {خصيماً *} أي مخاصماً لمن يخاصمهم، وأتبع ذلك قوله:{واستغفر الله} أي الذي له الإحاطة التامة والغنى المطلق {كان} أي أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً *} وهذا الاستغفار لا عن ذنب إذ هو منزه عن ذلك، معصوم منه، ولكن عن مقام عال تام للارتقاء إلى أعلى منه وأتم؛ وقد روى الترمذي سبب نزول هذه الآيات إلى قوله تعالى {فقل ضل ضلالاً بعيداً} من وجه مستقص مبين بياناً شافياً وسمى بني أبيرق بشراً وبشيراً ومبشراً، ولم يذكر طعمة - والله
سبحانه وتعالى أعلم، قال: عن قتادة بن النعمان قال: «كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبشير ومبشر، فكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث! قال: وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فقدمت ضافطة من الشام، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح درع وسيف، فعدى عليه من تحت البيت فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي! إنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، قال: فتحسسنا في الدار، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق
استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال: وكان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار -؛ والله ما نرى صابحكم إلا لبيد بن سهل - رجل منا له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق! فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقةَ! قالوا: إليك عنا أيها الرجل! فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي! لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له! قال قتادة: فأتيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سآمر في ذلك، فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا: يا رسول الله! إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت! قال
قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح! ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة! قال: فقال لي عمي: يا ابن أخي! ما صنعت؟ فأخبرته بام قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله المستعان! فلم يلبث أن نزل القرآن {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} إلى {خصيماً} بني أبيرق، {واستغفر الله} مما قلت لقتادة، {إن الله كان غفوراً رحيماًْ} إلى قوله:{فسوق نؤتيه أجراً عظيماً} ؛ فلا نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله سبحانه وتعالى {ومن يشاقق الرسول} إلى قوله:{ضلالاً بعيداً} » وروى الحديث ابن إسحاق في السيرة وزاد: إن حساناً قال في نزوله عندها أبياتاً فطردته، فلحق بالطائف فدخل بيتاً ليسرق منه، فوقع عليه فمات، فقالت قريش: والله ما يفارق محمداً من أصحابه أحد فيه خير.
ولما نهاه عن الخصام لمطلق الخائن، وهو من وقعت منه خيانة ما؛ أتبعه النهي عن المجادلة عمن تعمد الخيانة فقال سبحانه وتعالى:{ولا تجادل} أي في وقت ما {عن الذين يختانون} أي يتجدد منهم تعمد أن يخونوا {أنفسهم} بأن يوقعوها في الهلكة بالعصيان فيما اؤتمنوا عليه من الأمور الخفية، والتعبير بالجمع - مع أن الذي نزلت فيه الآية واحد - للتعميم وتهديد من أعانه من قومه، ويجوز أن يكون أشار بصيغة الافتعال إلى أن الخيانة لا تقع إلا مكررة، فإنه يعزم عليها أولاً ثم يفعلها، فأدنى لذلك أن يكون قد خان من نفسه مرتين، قال الإمام ما معناه أن التهديد في هذه الآية عظيم جداً، وذلك أنه سبحانه وتعالى عاتب خير الخلق عنده وأكرمهم لديه هذه المعاتبة وما فعل إلا الحق في الظاهر، فكيف بمن يعلم الباطن ويساعد أهل الباطل؟ فكيف إن كان بغيرهم؟ ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن من خان غيره كان مبالغاً في الخيانة بالعزم وخيانة الغير المستلزمة لخيانة النفس فلذا ختمت بالتعليل بقوله:{إن الله} أي الجليل العظيم ذا الجلال والإكرام {لا يحب} أي لا يكرم {من كان
خواناً أثيماً} بصيغتي المبالغة - على أن مراتب المبالغين في الخيانة متفاوتة، وفيه مع هذا استعطاف لمن وقعت منه الخيانة مرة واحدة وقدم سبحانه وتعالى ذلك، لأن فيه دفعاً للضر عن البريء وجلباً للنفع إليه؛ ثم أتبعه بعيب هذا الخائن وقلة تأمله والإعلام بأن المجادلة عنه قليلة الجدوى، فقال سبحانه وتعالى معجباً منهم بما هو كالتعليل لما قبله:{يستخفون} أي هؤلاء الخونة: طعمة ومن مالأه وهو يعلم باطن أمره {من الناس} حياء منهم وخوفاً من أن يضروهم لمشاهدتهم لهم وقوفاً مع الوهم كالبهائم {ولا يستخفون} أي يطلبون ويوجدون الخفية بعدم الخيانة {من الله} أي الذي لا شيء أظهر منه لما له من صفات الكمال {وهو} أي والحال أنه {معهم} لا يغيب عنه شيء من أحوالهم، ولا يعجزه شيء من نكالهم، فالاستخفاء منه لا يكون إلا بترك الخيانة ومحض الإخلاص، فواسوأتاه من أغلب الأفعال والأقوال والأحوال! {إذ} أي حين {يبيتون} أي يرتبون ليلاً على طريق الإمعان في الفكر والإتقان للرأي {ما لا يرضى من القول} أي من البهت والحلف عليه، فلا يستحيون منه ولا يخافون، لاستيلاء الجهل والغفلة على قلوبهم وعدم إيمانهم بالغيب.
ولما أثبت علمه سبحانه وتعالى بهذا من حالهم عمم فقال: {وكان الله} أي الذي كل شيء في قبضته لأنه الواحد الذي لا كفوء له {بما يعملون} أي من هذا وغيره {محيطاً *} أي علماً وقدرة.
ولما وبخهم سبحانه وتعالى على جهلهم، حذر من مناصرتهم فقال مبنياً أنها لا تجديهم شيئاً، مخوفاً لهم جداً بالمواجهة بمثل هذا التنبيه والخطاب ثم الإشارة بعد:{هاأنتم هؤلاء} وزاد في الترهيب للتعيين بما هو من الجدل الذي هو أشد الخصومة - من جدل الحبل الذي هو شدة فتله - وإظهاره في صيغة المفاعلة، فقال مبيناً لأن المراد من الجملة السابقة التهديد:{جادلتم عنهم} في هذه الواقعة أو غيرها {في الحياة الدنيا} أي بما جعل لكم من الأسباب.
ولما حذرهم وبخهم على قلة فطنتهم وزيادة في التحذير بأن مجادلتهم هذه سبب لوقوع الحكومة بين يديه سبحانه وتعالى فقال: {فمن يجادل الله} أي الذي له الجلال كله {عنهم} أي حين تنقطع الأسباب {يوم القيامة} ولا يفترق الحال في هذا بين أن تكون «ها» من {هأنتم} للتنبيه أو بدلاً عن همزة استفهام - على ما تقدم، فإن معنى الإنكار هنا واضح على كلا الأمرين.
ولما كان من أعظم المحاسن كف الإنسان عما لا علم له به، عطف على الجملة من أولها من غير تقييد بيوم القيامة منبهاً على قبح المجادلة عنهم بقصور علم الخلائق قوله:{أم من يكون} أي فيما يأتي من الزمان {عليهم وكيلاً *} أي يعلم منهم ما يعلم الله سبحانه وتعالى بأن يحصي أعمالهم فلا يغيب عنه منها شيء ليجادل الله عنهم، فيثبت لهم ما فارقوه، وينفي عنهم ما لم يلابسوه ويرعاهم ويحفظهم مما يأتيهم به القدر من الضرر والكدر.
ولما نهى عن نصرة الخائن وحذر منها، ندب إلى التوبة من كل سوء فقال - عاطفاً على ما تقديره: فمن يصر على مثل هذه المجادلة يجد الله عليماً حكيماً -: {من يعمل سوءاً} أي قبيحاً متعدياً يسوء غيره شرعاً، عمداً - كما فعل طعمة - أو غير عمد {أو يظلم نفسه} بما لا يتعداه إلى غيره شركاً كان أو غيره، أو بالرضى لها بما غيره أعلى منه، ولم يسمه بالسوء لأنه لا يقصد نفسه بما يضرها في الحاضر {ثم يستغفر الله} أي يطلب من الملك الأعظم غفرانه بالتوبة بشروطها {يجد الله} أي الجامع لكل كمال {غفوراً} أي ممحيّاً للزلات
{رحيماً *} أي مبالغاً في إكرام من يقبل إليه «من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» روى إسحاق بن راهويه عن عمر رضي الله تعالى عنه وأبو يعلى الموصلي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية نسخت {من يعمل سوءاً يجز به} [النساء: 123] وأنها نزلت بعدها.
ولما ندب إلى التوبة ورغب فيها، بين أن ضرر إثمه لا يتعدى نفسه، حثاً على التوبة وتهييجاً إليها لما جبل عليه كل أحد من محبة نفع نفسه ودفع الضر عنها فقال:{ومن يكسب إثماً} أي إثم كان {فإنما يكسبه على نفسه} لأن وباله راجع عليه إذ الله له بالمرصاد، فهو مجازيه على ذلك لا محالة غير حامل لشيء من إثمه على غيره كما أنه غير حامل لشيء من إثم غيره عليه، والكسب: فعل ما يجر نفعاً أو يدفع ضراً.
ولما كان هذا لا يكون إلا مع العلم والحكمة قال تعالى: {وكان الله} أي الذي له كمال الإحاطة أزلاً وأبداً {عليماً} أي بالغ العلم بدقيق ذلك وجليله، فلا يترك شيئاً منه {حكيماً *} فلا يجازيه إلا بمقدار ذنبه، وإذا أراد شيئاً وضعه في أحكم مواضعه فلا يمكن غيره شيء من نقضه.
ولما ذكر ما يخص الإنسان من إثمه أتبعه ما يعديه إلى غيره فقال: {ومن يكسب خطيئة} أي ذنباً غير متعمد له {أو إثماً} أي ذنباً تعمده. ولما كان البهتان شديداً جداً قلَّ من يجترىء عليه، أشار إليه بأداة التراخي فقال:{ثم يرم به بريئاً} أي ينسبه إلى من لم يعمله - كما فعل طعمة باليهودي، وابن أبي بالصديقة رضي الله تعالى عنها. وعظم جرم فاعل ذلك بصيغة الافتعال في قوله:{فقد احتمل} وبقوله: {بهتاناً} أي خطر كذب يبهت المرمى به لعظمه، وكأنه إشارة إلى ما يلحق الرامي في الدنيا من الذم {وإثماًَ} أي ذنباً كبيراً {مبيناً} يعاقب به في الآخرة، وإنما كان مبيناً لمعرفته بخيانة نفسه وبراءة المرمى به، ولأن الله سبحانه وتعالى أجرى عادته الجميلة أن يظهر براءة المقذوف به يوماً ما بطريق من الطرق ولو لبعض الناس.
ولما وعظ سبحانه وتعالى في هذه النازلة وحذر ونهى وأمر، بين نعمته على نبيه صلى الله عليه وسلم في عصمته عما أرادوه من مجادلته عن الخائن بقوله تعالى:{ولولا فضل الله} أي الملك الأعلى
{عليك} أي بإنزال الكتاب {ورحمته} أي بإعلاء أمرك وعصمتك من كل ذي كيد وحفظك في أصحابك الذين أتوا يجادلون عن ابن عمهم سارق الدرع في التمسك بالظاهر وعدم قصد العناد {لهمت طائفة منهم} أي فرقة فيها أهلية الاستدارة والتخلق، لا تزال تتخلق فتفيل الآراء وتقلب الأمور وتدير الأفكار في ترتيب ما تريد {أن يضلوك} أي يوقعوك في ذلك بالحكم ببراءة طعمة، ولكن الله حفظك في أصحابك فما هموا بذلك، وإنما قصدوا المدافعة عن صاحبهم بما لم يتحققوه، ولو هموا لما أضلوك {وما يضلون} أي على حالة من حالات هذا الهم {إلا أنفسهم} إذ وبال ذلك عليهم {وما يضرونك} أي يجددون في ضرك حالاً ولا مالاً بإضلال ولا غيره {من شيء} وهو وعد بدوام العصمة في الظاهر والباطن كآية المائدة أيضاً وإن كانت هذه بسياقها ظاهرة في الباطن وتلك ظاهرة في الظاهر {وأنزل الله} أي الذي له جميع العظمة {عليك} وأنت أعظم الخلق عصمة لأمتك {الكتاب} أي الذي تقدم أول القصة الإشارة إلى كماله وجمعه لخيري الدارين {والحكمة}
أي الفهم لجميع مقاصد الكتاب فتكون أفعالك وأفعال من تابعك فيه على أتم الأحوال، فتظفروا بتحقيق العلم وإتقان العمل، وعمم بقوله:{وعلمك ما لم تكن تعلم} أي من المشكلات وغيرها غيباً وشهادة من أحوال الدين والدنيا {وكان فضل الله} أي المتوحد بكل كمال {عليك عظيماَ *} أي بغير ذلك من أمور لا تدخل تحت الحصر، وهذا من أعظم الأدلة على أن العلم أشرف الفضائل.
ولما كان قوم طعمة قد ناجوا النبي صلى الله عليه وسلم في الدفع عنه، نبههم سبحانه وغيرهم على ما ينبغي أن يقع به التناجي، ويحسن فيه التفاؤل والتجاذب على وجه ناه عن غيره أشد نهي بقوله سبحانه وتعالى:{لا خير في كثير من نجواهم} أي نجوى جميع المناجين {إلا من} أي نحوى من {أمر بصدقة} ولما خص الصدقة لعزة المال في ذلك الحال، عمم بقوله:{أو معروف} أيّ معروف كان مما يبيحه الشرع من صدقة وغيرها.
ولما كان إصلاح ذات البين أمراً جليلاً، نبه على عظمه بتخصيصه بقوله:{أو إصلاح بين الناس} أي عامة، فقد بين سحانه وتعالى أن غير المستثنى من التناجي لا خير فيه، وكل ما انتقى عنه الخير كان مجتنباً - كما روى أحمد والطبراني في الكبير بسند لا بأس به وهذا لفظه
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال: إنما الأمور ثلاثة: أمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالمه» .
ولما كان التقدير: فمن أمر بشي من ذلك فنجواه خير، وله عليها أجر؛ عطف عليه قوله:{من يفعل ذلك} أي الأمر العظيم الذي أمر به من هذه الأشياء {ابتغاء مرضاة الله} الذي له صفات الكمال، لأن العمل لا يكون له روح إلا بالنية {فسوف نؤتيه} أي في الآخرة بوعد لا خلف فيه {أجراًَ عظيماً *} وهذه الآية من أعظم الدلائل على أن المطلوب من أعمال الظاهر رعاية أحوال القلب في إخلاص النية، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض دنيوي، فإن كان رياء انقلبت فصارت من أعظم المفاسد.
ولما رتب سبحانه وتعالى الثواب العظيم على الموافقة، رتب العقاب الشديد على المخالفة والمشاققة، ووكل المخالف إلى نفسه بقوله تعالى:{ومن يشاقق الرسول} أي الكامل في الرسلية، فيكون بقلبه أو شيء من فعله في جهة غير جهته على وجه المقاهرة، وعبر بالمضارع رحمة منه سبحانه بتقييد الوعيد بالاستمرار، وأظهر القاف إشارة إلى تعليقه بالمجاهرة، ولأن السياق لأهل الأوثان وهم مجاهرون، وقد جاهر سارق الدرعين الذي كان سبباً لنزول الآية في آخر قصته - كما مضى.
ولما كان في سياق تعليم الشريعة التي لم تكن معلومة قبل الإيحاء بها، لا في سياق الملة المعلومة بالعقل، أتى ب «من» تقييداً للتهديد بما بعد الإعلام بذلك فقال:{من بعد ما} ولو حذفت لفهم اختصاص الوعيد بمن استغرق زمان البعد بالمشاققة. ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الظهور قال: {تبين له الهدى} أي الدليل الذي هو سببه.
ولما كان المخالف للإجماع لا يكفر إلا بمنابذة المعلوم بالضرورة، عبر بعد التبين بالاتباع فقالك {ويتبع غير سبيل} أي طريق {المؤمنين} أي الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة، والمراد الطريق المعنوي، وجه الشبه الحركة البدنية الموصلة إلى المطلوب في الحسي، والنفسانية في مقدمات الدليل الموصل إلى المطلوب في المعنوي {نوله} أي بعظمتنا في الدنيا والآخرة {ما تولى} أي نكله إلى ما اختار لنفسه وعالج فيه فطرته الأولى خذلاناً منا له {ونصله} أي في الآخرة {جهنم} أي تلقاه بالكراهة والغلظة والعبوسة كما تجهم أولياءنا وشاققهم.
ولما كان التقدير: فهو صائر إليها لا محالة، بين حالها في ذلك فقال:{وساءت مصيراً *} وهذه الآية دالة على أن الإجماع حجة لأنه لا يتوعد إلا على مخالفة الحق، وكذا حديث «لا تزال طائفة من أمتي
قائمة بأمر الله - وفي رواية: ظاهرين على الحق - حتى يأتي أمر الله» رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثوبان والمغيرة وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله ومعاوية وأنس وأبو هريرة، بعض أحاديثهم في الصحيحين، وبعضها في السنن، وبعضها في المسانيد، وبعضها في المعاجيم وغير ذلك؛ ووجه الدلالة أن الطائفة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالحق في جملة أهل الإجماع والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما كان فاعل ذلك بعد بيان الهدى هم أهل الكتاب ومن أضلوه من المنافقين بما ألقوه إليهم من الشبه، فردوهم إلى ظلام الشرك والشك بعد أن بهرت أبصارهم أشعة التوحيد؛ حسن إيلاؤه قوله سبحانه وتعالى معللاً تعظيماً لأهل الإسلام، وحثاً على لزوم هديهم، وذما لمن نابذهم وتوعداً له، إشارة إلى أن من خرق إجماع المسلمين صار حكمه حكم المشركين، فكيف بمن نابذ المرسلين:{إن الله} أي الأحد المطلق فلا كفوء له {لا يغفر أن يشرك به} أي وقوع الشرك به، من أي شخص كان، وبأي شيء كان، لأن من قدح في الملك استحق البوار والهلك، وسارق الدرع أحق الناس بذلك {ويغفر ما} أي كل شيء هو {دون ذلك} أي الأمر الذي لم يدع للشناعة
موضعاً - كما هو شأن من ألقى السلم ودخل في ربقة العبودية، ثم غلبته الشهوة فقصر في بعض أنواع الخدمة. ثم دل على نفوذ أمره بقوله:{لمن يشاء} .
ولما كان التقدير: فإن من أشرك به فقد افترى إثماً مبيناً، عطف عليه قوله:{ومن يشرك} أي يوقع هذا الفعل القذر جداً في أي وقت كان من ماض أو حال أو استقبال مداوماً على تجديده {بالله} أي الملك الذي لا نزاع في تفرده بالعظمه لأنه لا خفاء في ذلك عند أحد {فقد ضل} أي ذهب عن السنن الموصل {ضلالاً بعيداً *} لا تمكن سلامة مرتكبه، وطوزى مقدمة الافتراء الذي هو تعمد الكذب، وذكر مقدمة الضلال، لأن معظم السياق للعرب أهل الأوثان والجهل فيهم فاش، بخلاف ما مضى لأهل الكتاب فإن كفرهم عن علم فهو تعمد للكذب.
ولما كان المنافقون هم المقصودين بالذات بهذه الآيات، وكان أكثرهم أهل أوثان؛ ناسب كل المناسبة قوله معللاً لأن الشرك ضلال:{إن} أي ما {يدعون} وما أنسب التعبير لعباد الأوثان عن العبادة بالدعاء إشارة إلى أن كل معبود لا يدعي في الضرورات فيسمع، فعابده أجهل الجهلة. ولما كان كل شيء دونه سبحانه
وتعالى، لأنه تحت قهره؛ قال محتقراً لما عبدوه:{من دونه} أي وهو الرحمن.
ولما كانت معبوداتهم أوثاناً متكثرة، وكل كثرة تلزمها الفرقة والحاجة والضعف مع أنهم كانوا يسمون بعضها بأسماء الإناث من اللات والعزى، ويقولون في الكل: إنها بنات الله، ويقولون عن كل صنم: أنثى بني فلان؛ قال: {إلا إناثاً} أي فجعلوا أنفسهم للإناث عباداً وهم يأنفون من أن يكون لهم لهم أولاداً، وفي التفسير من البخاري: إناثاً يعني الموات حجراً أو مدراً - أو ما أشبه ذلك؛ هذا مع أن مادة «أنث» و «وثن» يلزمها في نفسها الكثرة والرخاوة والفرقة، وكل ذلك في غاية البعد عن رتبة الإلهية، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في سورة العنكبوت وأن هذا القصر قلب قصر لاعتقادهم أنها آلهة، ومعنى الحصر: ما هي إلا غير آلهة لما لها من النقص {وإن يدعون} أي يعبدون في الحقيقة {إلا شيطاناً} أي لأنه هو الآمر لهم بذلك، المزين لهم {مريداً} أي عاتياً صلباً عاصياً ملازماً للعصيان، مجرداً من كل خير، محترقاً بأفعال الشر، بعيداً من كل أمن، من: شاط وشطن؛ ومرد - بفتح عينه وضمها، وعبر بصيغة فعيل التي هي للمبالغة في سياق ذمهم تنبيهاً على أنهم تعبدوا لما لا إلباس في شرارته، لأنه شر كله، بخلاف ما في سورة الصافات، فإن سياقه يقتضي
عدم المبالغة - كما سيأتي إن شاء الله تعالى؛ ثم بين ذلك بقوله: {لعنه الله} أي أبعده الملك الأعلى منكل خير فبعد فاحترق.
ولما كان التقدير: فقال إصراراً على العداوة بالحسد: وعزتك لأجتهدن في إبعاد غيري كما أبعدتني! عطف عليه قوله: {وقال لأتخذنَّ} أي والله لأجتهدن في أن آخذ {من عبادك} الذين هم تحت قهرك، ولا يخرجون عن مرادك {نصيباً مفروضاً *} أي جزءاً أنت قدرته لي {ولأضلنهم} أي عن طريقك السوي بما سلطتني به من الوساوس وتزيين الأباطيل {ولأمنينّهم} أي كل ما أقدر عليه من الباطل من عدم البعث وغيره من طول الأعمال وبلوغ الآمال من الدنيا والآخرة بالرحمة والعفو والإحسان ونحوه مما هو سبب للتسويف بالتوبة {ولآمرنهم} .
ولما كان قد علم مما طبعوا عليه من الشهوات والحظوظ التي هيأتهم لطاعته، وكانت طاعته في الفساد عند كل عاقل في غاية الاستبعاد؛ أكد قوله:{فليبتكن} أي يقطعن تقطيعاً كثيراً {آذان الأنعام} ويشققونها علامة على ما حرموه على أنفسهم {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} أي الذي له الحكمة الكاملة فلا كفوء له، بأنواع التغيير من تغيير الفطرة الأولى السليمة إلى ما دون ذلك من فقء عين الحامي
ونحو ذلك، وهو إشارة إلى ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم بالتقريب للأصنام من السائبة وما معها، المشار إلى إبطاله في أول المائدة بقوله
{أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم} [المائدة: 1] المصرح به في آخرها بقوله: {ما جعل الله من بحيرة} [المائدة: 103] ويكون التغيير بالوشم والوشر، ويدخل فيه كل ما خالف الدين، فإن الفطرة الأولى داعية إلى خلاف ذلك حتى أدخلوا فيه تشبيه الرجال بالنساء في التخنث وما يتفرع عنه في تشبيه النساء بالرجال في السحق ومانحاً فيه نحوه.
ولما كان التقدير: فقد خسر من تابعه في ذلك، لأنه صار للشيطان ولياً؛ عطف عليه معمماً قوله:{ومن يتخذ} أي يتكلف منهم ومن غيرهم تغيير الفطرة الأولى فيأخذ {الشيطان ولياً} ولما كان ذلك ملزوماً لمحادة الله سبحانه وتعالى، وكان ما هو أدنى من رتبته في غاية الكثرة؛ بعّض ليفهم الاستغراق من باب الأولى فقال:{من دون الله} أي المستجمع لكل وصف جميل {فقد خسر} باتخاذه ذلك ولو على أدنى وجوه الشرك {خسراناً مبيناً *} أي في غاية الظهور والرداءة بما تعطيه صيغة الفعلان، لأنه تولى من لا خير عنده؛ ثم علل ذلك بقوله:{يعدهم} أي بأن يخيل إليهم بما يصل إلى قلوبهم بالوسوسة في شيء من الأباطيل أنه قريب الحصول، وأنه
لا درك في تحصيله، وأنه إن لم يحصل كان في فواته ضرر، فيسعون في تحصيله، فيضيع عليهم في ذلك الزمانُ، ويرتكبون فيه ما لا يحل من الأهوال والهوان {ويمنيهم} أي يزين لهم تعليق الآمال بما لا يتأتى حصوله، ثم بين ذلك بقوله:{وما} أي والحالة أنه ما {يعدهم} وأظهر في موضع الإضمار تنبيهاً على مزيد النفرة فقال: {الشيطان} أي المحترق البعيد عن الخير {إلا غروراًَ *} أي تزييناً بالباطل خداعاً ومكراً وتلبيساً، إظهاراً - لما لا حقيقة له أو له حقيقة سيئة - في أبهى الحقائق وأشرفها وألذها إلى النفس وأشهاها إلى الطبع، فإن مادة «غر» و «رغ» تدول على الشرف والحسن ورفاهة العيش، فالغرور إزالة ذلك.
ولما أثبت لهم ذلك أنتج بلا شك قوله: {أولئك} أي البعداء من كل خير {مأواهم جهنم} أي تتجهمهم وتتقد عليهم بما اتخذوا من خلق منها ولياً {ولا يجدون عنها محيصاً *} أي موضعاً ما يميلون إليه شيئاً من الميل.
ولما ذكر ما للكافرين ترهيباً أتبعه ما لغيرهم ترغيباً فقال: {والذين آمنوا} أي بوعد لا خلف فيه {جنات تجري}
وقرب وبعض بقوله: {من تحتها الأنهار} أي لرّي أرضها، فحيث ما أجرى منها نهر جرى.
ولما كان الانزعاج عن مطلق الوطن - ولو لحاجة تعرض - شديداً، فكيف بهذا! قال:{خالدين فيها} ولما كان الخلود يطلق على مجرد المكث الطويل، دل على أنه لا بإلى آخر بقوله:{أبداً} ثم أكد ذلك بأن الواقع يطابقه، وهويطابق الواقع فقال:{وعد الله حقاً} أي يطابقه الواقع، لأنه الملك الأعظم وقد برز وعده بذلك، ومن أحق من الله وعداً، وأخبر به خبراً صاداقً يطابق الواقع {ومن أصدق من الله} أي المختص بصفات الكمال {قيلاً *} وأكثر من التأكيد هنا لأنه في مقابلة وعد الشيطان، ووعد الشيطان موافق للهوى الذي طبعت عليه النفوس فلا تنصرف عنه إلا بعسر شديد.
ولما أخبر تعالى عما أعد لهم ولمن أضلهم من العقاب وعما أعد للمؤمنين من الثواب، وكانوا يمنون أنفسهم الأماني الفارغة من أنه لا تبعة عليهم في التلاعب بالدين، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ويشجعهم على ذلك أهل الكتاب ويدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، لا يؤاخذهم بشيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى أو من شفعوا فيه، ونحو هذه التكاذيب مما يطمعون به من والاهم بأنهم ينجونه، وكان
المشركون يقولون: {نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين} [سبأ: 35]، ونحو ذلك - كنا قال العاصي بن وائل لخباب بن الأرت وقد تقاضاه ديناً كان له عليه: دعني إلى تلك الدار فأقضيك مما لي فيها، فوالله لا تكون أنت وصاحبك فيها آثر عند الله مني ولا أعظم حظاً، فأنزل الله في ذلك:{أفرأيت الذي كفر بآياتنا} [مريم: 77] الآيات من آخر مريم، ويقول لهم أهل الكتاب: أنتم أهدى سبيلاً، لما كان ذلك قال تعالى راداً على الفريقين:{ليس} أي ما وعده الله وأوعده {بأمانيكم} أي أيها العرب {ولا أماني أهل الكتاب} أي التي يمنيكم جميعاً بها الشيطان.
ولما اكنت أمانيهم أنهم لا يجازون بأعمالهم الخبيثة، أنتج ذلك لا محالة قوله:{ومن يعمل سوءاً يجز به} أي بالمصائب من الأمراض وغيرها، عاجلاً إن أريد به الخير، وآجلاًَ إن أريد به الشر، وما أحسن إيلاؤها لتمنيه الشيطان المذكورة في قوله {يعدهم ويمنيهم}
[النساء: 120] فيكون الكلام وافياً بكشف عوار شياطين الجن ثم الإنس في غرورهم لمن خف معهم مؤيساً لمن قبل منهم، وما أبدع ختامها بقوله: {ولا
يجد له} ولما كان كل أحد قاصراً عن مولاه، عبر بقوله:{من دون الله} أي الذي حاز جميع العظمة {ولياً} أي قريباً يفعل معه ما يفعل القريب {ولا نصيراً *} أي ينصره في وقت ما! وما أشد التئامها بختام أول الآيات المحذرة منهم {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة} [النساء: 44] إلى قوله {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} [النساء: 45] إشارة إلى أن مقصود المنافقين من مشايعة أهل الكتاب ومتابعتهم إنما هو الولاية والنصرة، وأنهم قد ضيعوا منيتهم فاستنصروا بمن لا نصرة له، وتركوا من ليست النصرة إلا له.
ولما أبدى جزاء المسيء تحذيراً، أولاه أجر المحسن تبشيراً فقال:{ومن يعمل} وخفف تعالى عن عباده بقوله: {من الصالحات} ولما عمم بذكر (من) صرح بما اقتضته في قوله: {من ذكر وأنثى} وقيد ذلك بقوله: {وهو} أي والحال أنه {مؤمن} ليكون بناؤه الأعمال على أساس الإيمان {فأولئك} أي العالو الرتبة، وبنى فعل الدخول للمفعول في قراءة ابن كثير وأبي عمروا وأبي جعفر وأبي بكر عن عاصم وروح عن يعقوب، وللفاعل في قراءة غيرهم، لأن المقصود نفس الفعل، لا كونه من فاعل معين؛ وإن كانت قراءة الأولين أكثر فائدة {يدخلون} أي يدخلهم الله {الجنة} أي الموصوفة {ولا يظلمون} وبنى الفعل للمجهول، لأن المقصود الخلاص
منه لا بقيد فاعل معين {نقيراً *} أي لا يظلم الله المطيع منهم بنقص شيء ما، ولا العاصي بزيادة شيء ما، والنقير: ما في ظهر النواة من تلك الوقبة الصغيرة جداً، كني بها عن العدم، وهذا على ما يتعارفه الناس وإلا فالله تعالى له أن يفعل ما يشاء، فإن مِلكه ومُلكه عام، لا يتصور منه ظلم كيف ما فعل.
ولما كشف سبحانه زورهم وبيَّن فجورهم، أنكر أن يكون أحد أحسن ديناً ممن اتبع ملة إبراهيم الذي يزعمون أنه كان على دينهم زعماًَ تقدم كشف عواره وهتك أستاره في آل عمران، فقال عاطفاً على ما تقديره: فمن أحسن دائناً ومجازياً وحاكماً منه سبحانه وتعالى: {ومن أحسن ديناً} أو يكون التقدير: لأنهم أحسنوا في دينهم ومن أحسن ديناً منهم! لكنه أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به وتعليماً لما يفعل يفعل المؤمن وحثاً عليه فقال: {ممن أسلم} أي أعطى.
ولما كان المراد الإخلاص الذي هو أشرف الأشياء، عبر عنه بالوجه الذي هو أشرف الأعضاء فقال:{وجهه} أي قياده، أي الجهة التي يتوجه إليها بوجهه أي قصده كله الملازم للإسلام نفسه كلها {لله} فلا حركة له سكنة إلا فيما يرضاه، لكونه الواحد الذي لا مثل له، فهو حصر بغير صيغة الحصر، فأفاد فساد طريق من
لفت وجهه نحو سواه باستعانة أو غيرها ولا سيما المعتزلة الذين يرون الطاعة من أنفسهم، ويرون أنها موجبة لثوابهم، والمعصية كذلك وأنها موجبة لعقابهم، في الحقيقة لا يرجون إلا أنفسهم، ولا يخافون غيرها؛ وأهل السنة فوّضوا التدبير والتكوين والخلق إلى الحق، فهم المسلمون.
ولما عبر تعالى عن كمال الاعتقاد بالماضي، شرط فيه الدوام والأعمال الظاهرة بقوله:{وهو} أي والحال أنه {محسن} أي مؤمن مراقب، لا غفلة عنده أصلاً، بل الإحسان صفة له راسخة، لأنه يعبد الله كأنه يراه، فقد اشتملت هذه الكلمات العشر على الدين كله أصلاً وفرعاً مع الترغيب بالمدح الكامل لمتبعه وإفهام الذم الكامل لغيره.
ولما كان هذا ينتظم مَنَ كان على دين أي نبي كان قبل نسخه، قيده بقوله:{واتبع} أي بجهد منه {ملة إبراهيم} الذي اشتهر عند جميع الطوائف أنه ما دعا إلا إلى الله سبحانه وتعالى وحده، وتبرأ مما سواه من فلك وكوكب وصنم وطبيعة وغيرها حال كون ذلك المتبع {حنيفاً} أي ليناً سهلاً ميّالاً مع الدليل، والملة: ما دعت إليه الفطرة الأولى بمساعدة العقل السليم من كمال الإسلام بالتوحيد.
ولما كان التقدير ترغيباً في هذا الاتباع: فقد جعل الله سبحانه وتعالى ملة إبراهيم أحسن الملل، وخلقه يوم خلقه حنيفاً، عطف عليه قوله:{واتخذ الله} أي الملك الأعظم أخذ من معين بذلك مجتهد فيه {إبراهيم خليلاً *} لكونه كان حنيفاً، وذلك عبارة عن اختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله من ترديد الرسل بالوحي بينه وبينه، وإجابة الدعوة، وإظهار الخوارق عليه وعلى آله، والنصرة على الأعداء وغير ذلك من الألطاف، وأظهر اسمه في موضع الإضمار تصريحاً بالمقصود احتراساً من الإبهام وإعلاءً لقدره تنويهاً بذكره.
ولما أخبر بمن يحبه ومن يبغضه وبما يرضيه وما يغضبه، وكان ربما توهم عدم القدرة على أخذه لغير ما أخذ، وجعله لغير ما جعل، أو تعنت بذلك متعنت فظن أن في الكلام دخلاً بنوع احتياج إلى المحالة أو غيرها قال:{ولله} أي والحال أن للمختص بالوحدانية - فلا كفوء له {ما في السماوات} .
ولما كان السياق للمنافقين والمشركين أكد فقال: {وما في الأرض} من إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن غيره إشارة إلى أنه التام المُلك العظيم المِلك، فلا يعطي إلا من تابع أولياءه وجانب أعداءه، ولا يختار إلا من علمه خياراً
وهو مع ذلك قادر على ما يريد من إقرار وتبديل، ولذلك قال:{وكان الله} أي الملك الذي له الكمال كله {بكل شيء} أي منهما ومن غيرهما {محيطاً *} علماً وقدرة، فمهما راد كان في وعده ووعيده للمطيع والعاصي، لا يخفى عليه أحد منهم، ولا يعجزه شيء.
ولما كان سبحانه وتعالى قد رتب هذا الكتاب على أنه يذكر أحكاماً من الأصول والفروع، ثم يفصلها بوعد ووعيد وترغيب وترهيب، وينظمها بدلائل كبريائه وجلاله وعظيم بره وكماله، ثم يعود إلى بيان الأحكام على أبدع نظام لأن إلقاء المراد في ذلك القالب أقرب إلى القبول، والنظم كذلك أجدر بالتأثير في القلوب، لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا تنقاد له النفوس إلا إذا كان مقروناً ببشارة ونذارة، وذلك لا يؤثر إلا عند القطع بغاية الكمال لمن صدر عنه ذلك المقال، ولا ينتقل مع ذلك من أسلوب إلى آخر إلا على غاية ما يكون من المناسبة بين آخر كل نوع وأول ما بعده بكمال التعلق لفظاً ومعنى، وفعل سبحانه وتعالى في هذه السورة في أحكام العدل الذي بدأ السورة به في المواصلة التي مبناها النكاح والإرث وغير ذلك مما اتصل به - كما بين - إلى أن ختم هنا بالإسلام المثمر لقبول ذلك
كله وعظمة الملك الموجبة لتمام الإسلام، وقامت البراهين وسطعت الحجج، وكان من أعظم مقاصد السورة العدل في الضعفاء من الأيتام وغيرهم في الميراث وغيره، وكان توريث النساء والأطفال - ذكوراً كانوا أو إناثاً - مما أبته نفوسهم، وأشربت بغضه قلوبهم، وكان التفريق في إثبات ما هذا سبيله أنجع، وإلقاؤه شيئاً فشيئاً في قوالب البلاغة أنفع؛ وصل بذلك قوله تعالى:{ويستفتونك} في جملة حالية من اسم الجلالة التي قبلها، أي له ما ذكر فلا مساغ للاعتراض عليه والحال أنهم يسألونك طلباً لأن تتفتى عليهم بالجواب في بعض ما أعطى من ملكه لبعض مخلوقاته {في النساء} طمعاً في الاستئثار عليهم بالمال وغيره محتجين بأنه لا ينبغي أن يكون المال إلا لمن يحمي الذمار والحال أنهم قد عبدوا من دونه إناثاً، وجعلوا لهم مما خولهم فيه من الرزق الذي ملكهم له بضعف من الحرث والأنعام نصيباً، فلا تعجب من حال من كرر الاستفتاء - الذي لا يكون في العرف غالباً إلا فيما فيه اعتراض - في إناث أحياء وأطفال ذكور وأعطاهم المِلك التام المُلك العظيم المِلك بعض ما يريد، ولم يعترض على نفسه حيث أعطى إناثاً
لا حياة لها ولا منفعة مما في يده، وملكه في الحقيقة لغيره، ولم يأذن فيه المالك ما لا ينتفع به المعطي.
ولما كان المقام بكثرة الاستفتاء محتاجاً إلى زيادة الاعتناء قال: {قل الله} آمراً معبراً بالاسم الأعظم منبهاً على استحضار ما ذكر أول السورة {يفتيكم} أي يبين لكم حكمه {فيهن} أي الآن لأن تقوموا لهن بالقسط {وما} أي مع ما {يتلى عليكم} أي تجدد فيكم تلاوته إلى آخر الدهر سيفاً قاطعاً وحكماً ماضياً جامعاً {في الكتاب} أي فيما سبق أول السورة في قوله: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ، وغير ذلك {في يتامى النساء} أي في شأن التيامى من هذا الصنف {اللاّتي لا تؤتونهن} أي بسبب التوقف في ذلك وتكرير الاستفتاء عنه {ما كتب لهن} أي ما فرض من الميراث وسائر الحقوق فرضاً وهو في غاية اللزوم {وترغبون أن} أي في أن أو عن أن {تنكحوهن} لجمالهن أو لدمامتهن {و} يفتيكم في {المستضعفين} أي الموجود ضعفهم والمطلوب إضعافهم، يمنعهم حقوقهم {من الولدان} .
ولما كان التقدير؛ في أن تقوموا لهم بالقسط، أي في ميراثهم وسائر حقوقهم ولا تحقروهم لصغرهم؛ عطف عليه قوله:{وأن تقوموا} أي تفعلوا فيه من القوة والمبادرة فعل القائم المنشط {لليتامى}
من الذكور والإناث {بالقسط} أي بالعدل من الميراث وغيره.
ولما كان التقدير: فما تفعلوا في ذلك من شر فإن الله كان به عليماً وعليكم قديراً؛ عطف عليه قوله ترغيباً: {وما تفعلوا من خير} أي في ذلك أو في غيره {فإن الله} أي الذي له الكمال كله {كان به عليماً *} أي فهو جدير - وهو أكرم الأكرمين وأحكم الحاكمين - بأن يعطي فاعله على حسب كرمه وعلو قدره، فطيبوا نفساً وتقروا عيناً؛ روى البخاري في الشركة والنكاح ومسلم في آخر الكتاب وأبو داود والنسائي في النكاح «عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن قول الله عز وجل:{فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} إلى {رباع} قالت: يا ابن أختي! هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن؛ قال عروة: قالت عائشة رضي الله عنها: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله عز وجل (ويستفتونك - إلى - وترغبون أن تنكحوهن) »
والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب: الآية الأولى التي قال فيها: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} قالت عائشة رضي الله عنها: وقول الله تعالى في الآية الأخرى: {وترغبون أن تنكحوهن} هي رغبة أحدكم يتيمته - وقال مسلم: عن يتيمته - التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن، زاد مسلم: إذا كن قليلات المال والجمال، وقال البخاري في النكاح: فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى في الصداق؛ وفي البخاري
ومسلم في التفسير عن عروة أيضاً {يستفتونك في النساء} الآية قالت: «هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته - وقال مسلم: لعلها أن تكون قد شركته، في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية؛ وفي رواية مسلم: نزلت في الرجل تكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينحكها لمالها فيضر بها ويسيء صحبتها فقال: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} يقول: ما حللت لكم، ودع هذه التي تضر بها» وفي رواية له وللبخاري في النكاح «فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في ماله - وقال البخاري: فيدخل عليه في ماله - فيعضلها ولا يتزوجها ولا يزوجها، زاد البخاري: فنهاهم الله سبحانه وتعالى» عن ذلك، وحاصل ذلك ما نقله الأصبهاني أنه كان الرجل في الجاهلية
تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً، فإن كانت جميلة وهواها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت، فإذا ماتت ورثها.
وما أنسب ذكر هذا الحكم الذي كثرت فيه المراجع على وجه يؤذن بعدم إذعان بعض النفوس له عقب آية الإسلام الذي معناه الانقياد والخضوع والإحسان الذي صار في العرف أكثر استعماله للاعطاء والتألف والعطف لا سيما للضعيف، وذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم أنه أتم ما ابتلاه الله تعالى به من الكلمات ووفي بها من غير مراجعة ولا تلعثم، وأنه كان حنيفاً ميالاً مع الدليل، تعنيفاً لمن قام عليه دليل العقل وأتاه صريح النقل وهو يراجع! وإذا تأملت قوله تعالى:{من يعمل سوءاً يجز به} [النساء: 123] مع قوله فيما قبل {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم} [النساء: 9] لاحت لك أيضاً مناسبة بديعة.
ولما صاروا يعطفون اليتامى أموالهم، وصاروا يتزوجون ذوات الأموال منهن ويضاجرون بعضهن؛ عقب ذلك تعالى بالإفتاء في أحوال المشاققة بين الأزواج فقال:{وإن امرأة} أي واحدة أو على ضرائر.
ولما كان ظن المكروه مخوفاً قال: {خافت} أي توقعت
وظنت بما يظهر لها من القرائن {من بعلها نشوزاً} أي ترفعاً بما ترى من استهانته لها بمنع حقوقها أو إساءة صحبتها {أو إعراضاً} عنها بقلبه بأن لا ترى من محادثته ومؤانسته ومجامعته ما كانت ترى قبل ذلك، تخشى أن يجر إلى الفراق وإن كان متكلفاً لملاطفتها بقوله وفعله {فلا جناح} أي حرج وميل {عليهما أن يصلحا} أي يوقع الزوجان {بينهما} تصالحاً ومصالحة، هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة الكوفيين بضم الياء وإسكان الصاد وكسر اللام التقدير: إصلاحاً، لكنه لما كان المأمور به يحصل بأقل ما يقع عليه اسم الصلح بنى المصدر على غير هذين الفعلين فقال مجرداً له:{صلحاً} بأن تلين هي بترك بعض المهر أو بعض القسم أو نحو ذلك، وأن يلين لها هو بإحسان العشرة في مقابلة ذلك.
ولما كان التقدير: ولا حناح عليهما أن يتفارقا على وجه العدل، عطف عليه قوله:{والصلح} أي بترك كل منهما حقه أو بعض حقه {خير} أي المفارقة التي أشارت إليها الجملة المطوية لأن الصلح مبناه الإحسان الكامل بالرضى من الجانبين، والمفارقة مبناها العدل الذي يلزمه في الأغلب غيظ أحدهما وإن كانت مشاركة للصلح في الخير، لكنها مفضولة، وتخصيصُ المفارقة بالطي لأن مبنى السورة على المواصلة.
ولما كان منشأ التشاجر المانع من الصلح شكاسة في الطباع، صوَّر سبحانه وتعالى ذلك تنفيراً عنه، فقال اعتراضاً بين هذه الجمل للحث على الجود بانياً الفعل للمجهول إشارة إلى أن هذا المُحِضر لا يرضى أحد نسبته إليه:{وأحضرت الأنفس} أي الناظرة إلى نفاستها عجباً {الشح} أي الحرص وسوء الخلق وقلة الخير والنكد والبخل بالموجود، وكله يرجع إلى سوء الخلق والطبع الرديء واعوجاج الفطرة الأولى الذي كني عنه بالإحضار الملازم الذي لا انفكاك له إلا بجهاد كبير يناله به الأجر الكثير.
ولما كان هذا خلقاً رديئاً لم يذكر فاعله، والمعنى: أحضرها إياه مُحضر. فصار ملازماً لها، لا تنفك عنه إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى في قهرها عليه بتذكير ما عنده سبحانه وتعالى من حسن الجزاء، ولما كان التقدير: فإن شححتم فإنه أعلم بها في الشح من موجبات الذم، عطف عليه قوله:{وإن تحسنوا} أي توقعوا الإحسان بالإقامة على نكاحكم وما ندبتم إليه من حسن العشرة وإن كنتم كارهين {وتتقوا} أي توقعوا التقوى بمجانبة كل ما يؤذي نوع أذى إشارة إلى أن الشحيح لا محسن ولا متق {فإن الله} أي وهو الجامع لصفات الكمال
{كان} أزلاً وأبداً {بما تعملون} أي في كل شح وإحسان {خبيراً *} أي بالغ العلم به وأنتم تعلمون أنه أكرم الأكرمين، فهو مجازيكم عليه أحسن جزاء.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أن الوقوف على الحق فضلاً عن الإحسان - وإن كانت المرأة واحدة - متعسر، أتبعه أن ذلك عند الجمع أعسر، فقال تعالى معبراً بأداة التأكيد:{ولن تستطيعوا} أي توجدوا من أنفسكم طواعية بالغة دائمة {أن تعدلوا} أي من غير حيف أصلاً {بين النساء} في جميع ما يجب لكل واحدة منهن عليكم من الحقوق {ولو حرصتم} أي على فعل ذلك، وهذا مع قوله تعالى:{فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} [النساء: 3] كالمختم للاختصار على واحدة.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأن لا يخلو نكاح العدد عن ميل، سبب عنه قوله:{فلا} أي فإن كان لا بد لكم من العدد، أو فإن وقع الميل والزوجة واحدة فلا {تميلوا} ولما كان مطلق الميل غير مقدور على تركه فلم يكلف به، بين المراد بقوله:{كل الميل} ثم سبب عنه قوله: {فتذروها} أي المرأة {كالمعلقة} أي بين النكاح والعزوبة والزواج والانفراد.
ولما كان الميل الكثير مقدوراً على تركه، فكان التقدير: فإن
ملتم كل الميل مع إبقاء العصمة فإن الله كان منتقماً حسيباً، عطف عليه قوله:{وإن تصلحوا وتتقوا} أي بأن توجدوا الإصلاح بالعدل في القسم والتقوى في ترك الجور على تجدد الأوقات {فإن الله} أي الذي له الكمال كله {كان غفوراً رحيماً *} أي محّاء للذنوب بليغ الإكرام فهو جدير بأن يغفر لكم مطلق الميل، ويسبغ عليكم ملابس الإنعام.
ولما كان من الإصلاح المعاشرة بالمعروف، ذكر قسيمه فقال:{وإن يتفرقا} أي يفترق كل من الزوجين من صاحبه {يغن الله} أي الذي له صفات الكمال {كلاًّ} أي منهما، أي يجعله غنياً هذه برجل وهذا بامرأة أو بغير ذلك من لطفه، وبين منشأ هذا الغني فقال:{من سعته} أي من شمول قدرته وغير ذلك من كل صفة كمال، ولمزيد الاعتناء بتقرير هذه المعاني في النفوس لإحضارها الشح، كرر اسمه الأعظم الجامع فقال:{وكان الله} أي ذو الجلال والإكرام أزلاً وأبداً {واسعاً} أي محيطاً بكل شيء {حكيماً *} أي يضع الأشياء في أقوم محالها.
ولما كان مبنى هذه السورة على التعاطف والتراحم والتواصل،
لم يذكر فيها الطلاق إلا على وجه الإيماء في هذه الآية على وجه البيان لرأفته وسعة رحمته وعموم تربيته، وفي ذلك معنى الوصلة والعطف، قال ابن الزبير: ولكثرة ما يعرض من رعى حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة - ويدق ذلك ويغمض - لذلك ما تكرر كثيراً في هذه السورة الأمرُ بالاتقاء، وبه افتتحت {اتقوا ربكم} [النساء: 1] ، {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} [النساء: 1] ، {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [النساء: 131] .
ولما ذكر تعالى آية التفرق وختمها بصفتي السعة والحكمة دل على الأول ترغيباً في سؤاله: {ولله} أي الذي له العظمة كلها {ما في السماوات} ولما كان في السياق بيان ضعف النفوس وجبلها على النقائص، فكانت محتاجة إلى تقوية الكلام المخرج لها عما ألفت من الباطل قال:{وما في الأرض} وعلى الثانية بالوصية بالتقوى لأنه كرر الحث على التقوى في هذه الجمل في سياق الشرط بقوله: {وإن تحسنوا وتتقوا} [النساء: 128]{وإن تصلحو وتتقوا} [النساء: 129] فأخبر تعالى بعد اللطف بذلك السياق أن وصيته بها مؤكدة، لم تزل قديماً وحديثاً، لأن العلم بالمشاركة في الأمر يكون أدعى للقبول، وأهون على النفس، فقال تعالى:{ولقد وصينا} أي على ما لنا من العظمة.
ولما كان الاشتراك في الأحكام موجباً للرغبة فيها والتخفيف لثقلها، وكانت الوصية للعالم أجدر بالقبول قال:{الذين أوتوا الكتاب} أي التوراة والإنجيل وغيرهما وبنى الفعل للمجهول لأن القصد بيان كونهم أهل علم ليرغب فيما أوصوا به، ودلالة على أن العلم في نفسه مهيىء للقبول، ولإفادة أن وصيتهم أعم من أن تكون في الكتاب، أو على لسان الرسول من غير كتاب، ولما كان إيتاؤهم الكتاب غير مستغرق للماضي وكذا الإيصاء قال:{من قبلكم} أي من بني إسرائيل وغيرهم {وإياكم} أي ووصيانكم مثل ما وصيناهم؛ ولما كانت التوصية بمعنى القول فسرها بقوله: {أن اتقوا الله} أي الذي لا يطاق انتقامه لأنه لا كفوء له.
ولما كان التقدير: فإن تتقوا فهو حظكم وسعادتكم في الدارين، عطف عليه قوله:{وإن تكفروا} أي بترك التقوى {فإن الله} أي الذي له الكمال المطلق {ما في السماوات} ولما كان السياق لفرض الكفر حسن التأكيد في قوله: {وما في الأرض} منكم ومن غيركم من حيوان وجماد أجساداً وأروحاً وأحوالاً.
ولما كان المعنى: لا يخرج شيء عن ملكه ولا إرادته، ولا يلحقه ضرر بكفركم، ولم تضروا إن فعلتم إلا أنفسكم، لأنه غني عنكم،
لا يزداد جلاله بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات؛ أكده بقوله دالاً على غناه واستحقاقه للمحامد:{وكان الله} أي الذي له الإحاطة كلها {غنياً} أي عن كل شيء الغنى المطلق لذاته {حميداً *} أي محموداً بكل لسان قالي وحالي، كفرتم أو شكرتم، فكان ذلك غاية في بيان حكمته.
ولما كان الملك قد لا يمنع الاعتراض على المالك بين أن ذلك إنما هو في الملك الناقص وأنه ملكه تام: {ولله} أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة {ما في السماوات} وأكد لمثل ما مضى فقال: {وما في الأرض} أي هو قائم بمصالح ذلك كله، يستقل بجميع أمره، لا معترض عليه، بل هما وكل من فيهما مظهر العجز عن أمره، معلق مقاليد نفسه وأحواله إليه طوعاً أو كرهاً، فهو وكيل على كل ذلك فاعل به ما يفعل الوكيل من الأخذ والقبض والبسط، ولمثل ذلك كرر الاسم الأعظم فقال:{وكفى بالله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {وكيلاً *} أي قائماً بالمصالح قاهراً متفرداً بجميع الأمور، قادراً على جميع المقدور، وقد بان - كما ترى - أن جملة «لله» المكررة ثلاث مرات ذكرت كل مرة دليلاً على شيء غير الذي قبله وكررت، لأن الدليل الواحد إذا كان دالاً على مدلولات كثيرة يحسن
أن يستدل به على كل واحد منها. وإعادته مع كل واحد أولى من الاكتفاء بذكره مرة واحدة، لأن عند إعادته يحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فيكون العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل؛ وفي ختم كل جملة بصفة من الصفات الحسنى تنبيه الذهن بها إلى أن هذا الدليل دال على أسرار شريفة ومطالب جليلة لا تنحصر، فيجتهد السامع في التفكر لإظهار الأسرار والاستدلال عل صفات الكمال لأن الغرض الكلي من هذا الكتاب صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله تعالى إلى الاستغراق في معرفته سبحانه، وهذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده، فكان في غاية الحسن والكمال.
ولما تقرر بهذا شمول علم من هذا من شأنه وتمام قدرته أنتج قوله مهدداً مخوفاً مرهباً: {إن يشأ يذهبكم} وصرح بالعموم إشارة إلى عموم الإرسال بقوله: {أيها الناس} أي المتفرعون من تلك النفس الواحدة كافة لغناه عنكم وقدرته على ما يريد منكم {ويأت بآخرين} أي من غيركم يوالونه {وكان الله} أي الواحد الذي لا شريك له أزلاً وأبداً {على ذلك} أي الأمر العظيم من الإيجاد والإعدام {قديراً *} أي بالغ القدرة، وهذا غاية البيان لغناه وكونه حميداً وقاهراً وشديداً، وإذا تأملت ختام قوله تعالى في قصة عيسى عليه الصلاة والسلام
في آخر هذه السورة {سبحانه أن يكون له ولد} [النساء: 171] زاد ذلك هذا السر - وهو كونه لا اعتراض عليه - وضوحاً.
ولما كان في هذا تهديد بليغ وتعريف بسعة الملك وكمال التصرف، وكان مدار أحوال المتشاححين في الإرث وحقوق الأزواج وغيرها الأمرَ الدنيوي، وكان سبحانه وتعالى قد بين فيما مضى أن مبنى أحوال المنافقين على طلب العرض الفاني خصوصاً قصة طعمة بن أبيرق الراضي لنفسه بالفضيحة في نيل شيء تافه؛ قال تعالى تفييلاً لآرائهم وتخسيساً لهممهم حيث نزلوا إلى الأدنى مع القوة على طلب الأعلى مع طلب الأدنى أيضاً منه تعالى، فلا يفوتهم شيء من معوّلهم مع إحراز الأنفس:{ما كان يريد ثواب الدنيا} لقصور نظره على المحسوس الحاضر مع خسته كالبهائم {فعند} أي فليقبل إلى الله فإنه عند {الله} أي الذي له الكمال المطلق {ثواب الدنيا} الخسيسة الفانية {والآخرة} أي النفسية الباقية فليطلبها منه، فإنه يعطي من أراد ما شاء، ومن علت همته عن ذلك فأقبل بقلبه إليه وقصر همه عليه فلم يطلب إلا الباقي جمع سبحانه وتعالى له بينهما، كمن يجاهد الله خالصاً، فإنه يجمع له بين الأجر والمغنم، وما أشد التئامها مع ذلك بما قبلها، لأن من كان تام القدرة واسع الملك كان كذلك.
ولما كان الناشيء عن الإرادة إما قولاً أو فعلاً، وكان الفعل قد يكون قلبياً قال:{وكان الله} أي المختص بجميع صفات الكمال {سميعاً} أي بالغ السمع لكل قول وإن خفي، نفسياً كان أو لسانياً {بصيراً *} أي بالغ البصر لكل ما يمكن أن يبصر من الأفعال، والعلم بكل ما يبصر وما لا يبصر منها ومن غيرها فيكون من البصر ومن البصيرة، فليراقبه العبد قولاً وفعلاً.
ولما كان ذلك من أحسن المواعظ لقوم طعمة الذين اعتصبوا له، التفت إليهم مستعطفاً بصيغة الإيمان، جائياً بصيغة الأمر على وجه يعم غيرهم، قائلاً ما هو كالنتيجة لما مضى من الأمر بالقسط من أول السورة إلى هنا على وجه أكده وحث عليه:{يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان بألسنتهم {كونوا قوَّامين} أي قائمين قياماً بليغاً مواظباً عليه مجتهداً فيه.
ولما كان أعظم مباني هذه السورة العدل قدمه فقال: {بالقسط} بخلاف ما يأتي في المائدة فإن النظر فيها إلى الوفاء الذي إنما يكون بالنظر إلى الموفى له {شهداء} أي حاضرين متيقظين حضور المحاسب لكل شيء أردتم الدخول فيه {لله} أي لوجه الذي كل شيء بيده لا لشيء غيره {ولو} كان ذلك القسط {على أنفسكم} أي فإني لا أزيدكم بذلك إلا عزاء، وإلا تفعلوا ذلك قهرتكم على الشهادة على أنفسكم على
رؤوس الأشهاد، ففضحتم في يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون من جميع العباد.
ولما كان ذكر أعز ما عند الإنسان أتبعه ما يليه وبدأ منه بمن جمع إلى ذلك الهيبة فقال: {أو} أي أو كان ذلك القسط على {الوالدين} وأتبعه ما يعمهما وغيرها فقال: {والأقربين} أي من الأولاد وغيرهم، ثم علل ذلك بقوله:{إن يكن} أي المشهود له أو عليه {غنياً} أي ترون الشهادة له بشيء باطل دافعة ضراً منه للغير من المشهود عليه أو غيره، أو مانعة فساداً أكبر منها، أو عليه بما لم يكن صلاحاً طمعاً في نفع الفقير بما لا يضره ونحو ذلك {أو فقيراً} فيخيل إليكم أن الشهادة له بما ليس له نفعه رحمة له أو بما ليس عليه لمن هو أقوى منه تسكن فتنة {فالله} أي ذو الجلال والإكرام {أولى بهما} أي بنوعي الغني والفقير المندرج فيهما هذان المشهود بسببهما منكم، فهو المرجو لجلب النفع ودفع الضر بغير ما ظننتموه، فالضمير من الاستخدام، ولو عاد للمذكور لوحد الضمير لأن المحدث عنه واحد مبهم.
ولما كان هذا، تسبب عنه قوله:{فلا تتبعوا} أي تتكلفوا تبع {الهوى} وتنهمكوا فيه انهماك المجتهد في المحب له {أن} أي إرادة أن {تعدلوا} فقد بان لكم أنه لا عدل في ذلك.
ولما كان التقدير: فإن تتبعوه لذلك أو لغيره فإن الله كان عليكم قديراً، عطف عليه قوله:{وإن تلوا} أي ألسنتكم لتحرفوا الشهادة نوعاً من التحريف أو تديروا ألسنتكم أي تنطقوا بالشهادة باطلاً، وقرأ ابن عامر وحمزة بضم اللام - من الولاية أي تؤدوا الشهادة على وجه من العدل، أو الليّ {أو تعرضوا} أي عنها وهي حق فلا تؤدوها لأمر ما {فإن الله} أي المحيط علماً وقدرة {كان} أي لم يزل ولا يزال {بما تعملون خبيراً *} أي بالغ العلم باطناً وظاهراً، فهو يجازيكم على ذلك بما تستحقونه، فاحذروه إن خنتم، وارجوه إن وفيتم، وذلك بعد ما مضى من تأديبهم على وجه الإشارة والإيماء من غير أمر، وما أنسبها لختام التي قبلها وأشد التئام الختامين: ختام هذه بصفة الخبر وتلك بصفتي السمع والبصر.
ولما أمر بالعدل على هذا الوجه أمر بالحامل على ذلك، وهو الإيمان بالشارع والمبلغ والكتاب الناهج لشرائعه المبين لسرائره الذي افتتح القصة بحقيته وبيان فائدته فقال:{يا أيها الذين ءامنوا} أي أقروا بالإيمان؛ ولما ناداهم بوصف الإيمان أمرهم بما لا يحصل إلا به فقال مفصلاً له: {ءامنوا بالله} أي لأنه أهل لذلك لذاته المستجمع لجميع صفات الكمال كلها.
ولما كان الإيمان بالله لا يصح إلا بالإيمان بالوسائط، وكان أقرب الوسائط إلى الإنسان الرسول قال:{ورسوله} أي لأنه المبلغ عنه سواء كان من الملك أو البشر {والكتاب الذي نزل} أي مفرقاً بحسب المصالح تدريجاً تثبيتاً وتفهيماً {على رسوله} أي لأنه المفصل لشريعتكم المتكفل بما تحتاجون إليه من الأحكام والمواعظ وجميع ما يصلحكم، وهو القرآن الواصل إليكم بواسطة أشرف الخلق {والكتاب الذي أنزل} أي أوجد إنزاله ومضى؛ ولما لم يكن إنزاله مستغرقاً للزمان الماضي بين المراد بقوله:{من قبل} من الإنجيل والزبور
والتوراة وغيرها لأن رسولكم بلغكم ذلك فلا يحصل الإيمان إلا بتصديقه في كل ما يقوله.
ولما كان المؤمن الذي الخطاب معه عالماً بأن التنزيل والإنزال لا يكون إلا من الله بنياً للمفعول في قراءة ابن كثير وأبي عمروا وابن عامر للعلم بالفاعل، وصرحت قراءة الباقين به.
ولما كان التقدير: فمن آمن بذلك فقد اهتدى وآمن قطعاً بالملائكة واليوم الآخر وغير ذلك من كل ما دعا إليه الكتاب والرسول، عطف عليه قوله:{ومن يكفر} أي يوجد الكفر ويجدده وقتاً من الأوقات {بالله وملائكته وكتبه} أي التي أنزلها على أنبيائه بواسطة ملائكته أو بغير واسطة {ورسله} أي من الملائكة والبشر، فكان الإيمان بالترقي للاحتياج إليه، وكان الكفر بالتدلي للاجتراء عليه.
ولما كان الإيمان بالبعث - وإن كان أظهر شيء - مما لا تستقل به العقول فلا تصل إليه إلا بالرسل، ذكره بعدهم فقال:{واليوم الآخر} أي الذي أخبرت به رسله، وقضت به العقول الصحيحة وإن كانت لا تستقل بإدراكه قبل تنبيه الرسل لها عليه، وهو روح الوجود وسره وقوامه وعماده، فيه تكشف الحقائق وتجمع الخلائق،
ويظهر شمول العلم وتمام القدرة ويبسط ظل العدل وتجتني ثمرات الفضل {فقد ضل} وأبلغ في التأكيد لكثرة المكذبين فقال: {ضلالاً بعيداً *} أي لا حيلة في رجوعه معه.
ولما كان المتمادي بعد نزول هذا الهدي موجداً للكفر مجدداً له، نبه على إغراقه في البعد بغضبه سبحانه وتعالى لتماديه معلماً أن الثبات على الكفر عظيم جداً، وصوّره بأقبح صورة، وفي ذلك ألطف استعطاف إلى النزوع عن الخلاف فقال:{إن الذين ءامنوا} أي بما كانوا مهيئين له من الإيمان بالفطرة الأولى {ثم كفروا} أي أوقعوا الكفر فعوَّجوا ما أقامه الله من فطرهم {ثم ءامنوا} أي حقيقة أو بالقوة بعد مجيء الرسول بما هيأهم له بإظهار الأدلة وإقامة الحجج {ثم كفروا} أي بذلك الرسول أو برسول آخر بتجديد الكفر أو التمادي فيه {ثم ازدادوا} أي بإصرارهم على الكفر إلى الموت {كفراً لم يكن الله} أي الذي له صفات الكمال {ليغفر لهم} أي ما داموا على هذا الحال لأنه لا يغفر أن يشرك به {ولا ليهديهم سبيلاً *} أي من السبل الموصلة إلى المقصود.
ولما كانت جميع صور الآية منطبقة على النفاق، بعضها حقيقة
وبعضها مجازاً، قال جواباً لمن كأنه سأل عن جزائهم متهكماً بهم:{بشر المنافقين} فأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف {بأن لهم عذاباً أليماً *} ثم وصفهم بما يدل على أنهم المساترون بالكفر بقوله تعالى: {الذين يتخذون الكافرين} أي المجاهرين بالكفر {أولياء} أي يتعززون بهم تنفيراً من مقاربة صفتهم ليتميز المخلص من المنافق، وبياناً لأن مرادهم بولايتهم إنما هو التعزز بهم فإن محط أمرهم على العرض الدنيوي، ونبه على دناءة أمرهم على أن الغريق في الإيمان أعلى الناس بقوله:{من دون المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان، ثم أنكر عليهم هذا المراد بقوله:{أيبتغون} أي المنافقون يتطلبون، تطلباً عظيماً {عندهم} أي الكافرين {العزة} فكأنه قال: طلبهم العزة بهم سفه من الرأي وبُعد من الصواب، لأنه لا شيء من العزة عندهم.
ولما أنكر عليهم هذا الابتغاء علله بقوله: {فإن العزة لله} أي الذي لا كفوء له {جميعاً *} أي وهم أعداء الله فإنما يترقب لهم ضرب الذلة والمسكنة، وما أحسن التفات هذه الآية إلى أول الآيات المحذرة من أهل الكتاب {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب} [النساء: 44] المختتمة بقوله: {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} [النساء: 45]{وقد}
أي يتخذونهم والحال أنه قد {نزل عليكم} أي أيتها الأمة، الصادقين منكم والمنافقين {في الكتاب} أي في سورة الأنعام النازلة بمكة المشرفة النهي عن مجالستهم فضلاً عن ولايتهم، أفلا تخافون عزة من نهاكم عن ذلك أن يضربكم بذل لا تخلصون منه أبداً، لأنهم لا ينفكون عن الكفر بآيات الله فإنه لا تباح ولايتهم في حال من الأحوال إلا عند الإعراض عن الكفر، وذلك هو المراد من قوله:{أنْ} أي إنه {إذا سمعتم آيات الله} أي ذي الجلال والإكرام.
ولما كان السماع مجملاً بين المراد بقول: {يكفر بها} أي يستر ما أظهرت من الأدلة من أي كافر كان من اليهود وغيرهم {ويستهزأ بها} أي يطلب طلباً شديداً أن تكون مما يهزأ به {فلا تقعدوا معهم} أي الذين يفعلون ذلك بها {حتى يخوضوا} وعبر عن الشروع بالخوض إيماء إلى أن كلامهم لا يخلو عن شيء في غير موضعه، رمزاً إلى عدم مجالستهم على كل حال {في حديث غيره} فهذا نهي من مجرد مجالستهم فكيف بولايتهم.
ولما كانت آية الأنعام مكية اقتصر فيها على مجرد الإعراض وقطع المجالسة لعدم التمكن من الإنكار بغير القلب، وأما هذه الآية فمدنية فالتغيير عند إنزالها باللسان واليد ممكن لكل مسلم، فالمجالس من
غير نكير راض، فلهذا علل بقوله:{إنكم إذاً} أي إذا قعدتم معهم وهم يفعلون ذلك {مثلهم} أي في الكفر لأن مجالسة المظهر للإيماء المصرح بالكفران دالة على أن إظهاره لما أظهر نفاق، وأنه راض بما يصرح به هذا الكافر والرضى بالكفر كفر، فاشتد حسن ختم الآية بجمع الفريقين في جهنم بقوله مستأنفاً لجواب السؤال عما تكون به المماثلة:{إن الله} أي الذي أحاط علمه فتمت قدرته {جامع} .
ولما كان حال الأخفى أهم قدم قوله: {المنافقين} أي الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر فيقعدون مع من يسمعونه بكفر {والكافرين} أي الذين يجاهرون بكفرهم لرسوخهم فيه {في جهنم} التي هي سجن الملك {جميعاً} كما جمعهم معهم مجلس الكفر الذي هو طعن في ملك الملك، والتسوية بينهم في الكفر بالقعود معهم دالة على التسوية بين العاصي ومجالسه بالخلطة من غير إنكار؛ ثم وصفهم سبحانه وتعالى بما يعرف بهم فقال:{الذين يتربصون بكم} أي يثبتون على حالهم انتظاراً لوقوع ما يغيظكم {فإن كان لكم فتح} أي ظهور وعز وظفر، وقال:{من الله} أي الذي له العظمة كلها - تذكيراً للمؤمنين بما يديم اعتمادهم عليه وافتقارهم إليه {قالوا} أي الذين آمنوا نفاقاً لكم أيها المؤمنون {ألم نكن معكم} أي ظاهراً بأبداننا بما تسمعون من
أقوالنا فأشركونا في فتحكم {وإن كان للكافرين} أي المجاهرين، وقال:{نصيب} تحقيراً لظفرهم وأنه لا يضر بما حصل للمؤمنين من الفتح {قالوا} للكافرين ليشركوهم في نصيبهم {ألم نستحوذ عليكم} أي نطلب حياطتكم والمحافظة على مودتكم حتى غلبنا على جميع أسراركم واستولينا عليها، وخالطناكم مخالطة الدم للبدن، من قولهم: حاذه، أي حاطه وحافظ عليه {ونمنعكم من المؤمنين} أي من تسلطهم عليكم بما كنا نخادعهم به، ونشيع فيهم من الإرجافات والأمور المرغبات الصارفة لهم عن كثير من المقاصد، لتصديقهم لنا لأظهارنا الإيمان، ورضانا من مداهنة من نكره بما لا يرضاه إنسان.
ولما كان هذا لأهل الله سبحانه وتعالى أمراً غائظاً مقلقاً موجعاً؛ سبب عنه قوله: {فالله} أي بما له من جميع صفات العظمة {يحكم بينكم} أي أيها المؤمنون والكافرون المساترون والمجاهرون.
ولما كان الحكم في الدارين بين أنه في الدار التي لا يظهر فيها لأحد غيره أمر ظاهراً ولا باطناً، وتظهر فيها جميع المخبئات فقال:{يوم القيامة} ولما كان هذا ربما أيأسهم من الدنيا قال: {ولن يجعل الله} عبر بأداة التأكيد وبالاسم الأعظم لاستبعاد الغلبة
على الكفرة لما لهم في ذلك الزمان من القوة والكثرة {للكافرين} أي سواء كانوا مساترين أو مجاهرين {على المؤمنين} أي كلهم {سبيلاً *} أي بوجه في دنيا ولا آخرة، وهذا تسفيه لآرائهم واستخفاف بعقولهم فكأنه يقول: يا أيها المتربصون بأحباب الله الدوائر، المتمنون لأعدائه النصر - وقد قامت الأدلة على أن العزة جميعاً لله -! ما أضلكم في ظنكم أنه يخذل أولياءه! وما أغلظ أكبادكم! ويدخل في عمومها أنه لا يقتل مسلم بذمي، ولا يملك كافر مال مسلم قهراً؛ ثم بين أن صورتهم في ضربهم الشقة بالوجهين صورة المخادع، وما أضلهم حيث خادعوا من لا يجوز عليه الخداع لعلمه بالخافيا، فقال معاللاً لمنعهم السبيل.
{إن المنافقين} لإظهارهم لكل من غلب أنهم منه {يخادعون الله} أي يفعلون بإظهار ما يسر وإبطان ما يضر فعل المخادع مع من له الإحاطة الكاملة بكل شيء لأنه سبحانه وتعالى يستدرجهم من حيث لا يشعرون، وهم يخدعون المؤمنين بإظهار الإيمان وإبطان الكفر {وهو} الذي أمر المؤمنين بما أمرهم فكأنهم يفعلون ذلك معه وهو {خادعهم} باستدراجهم من حيث لا يعلمون، لأنه قادر على أخذهم من مأمنهم وهم ليسوا قادرين على خدعه بوجه {وإذا} أي يخادعونه والحال أنهم قد فضحوا أنفسهم بما أظهر مكرهم للمستبصرين وهو أنهم إذا {قاموا إلى الصلاة} أي المكتوبة {قاموا كسالى}
متقاعسين متثاقلين عادة، لا ينفكون عنها، بحيث يعرف ذلك منهم كل من تأملهم، لأنهم يرون أناه تعب من غير أرب، فالداعي إلى تركها - وهو الراحة - أقوى من الداعي إلى فعلها وهو خوف الناس؛ ثم استأن في جواب من كأنه قال: ما لهم يفعلون ذلك؟ فقال: {يرآءون الناس} أي يفعلون ذلك ليراهم الناس، ليس إلا ليظنوهم مؤمنين، ويريهم الناس لأجل ذلك ما يسرهم من عدهم في عداد المؤمنين لما يرون هم المؤمنين حين يصلون {ولا يذكرون الله} أي الذي له جميع صفات الكمال في الصلاة وغيرها {إلا قليلاً *} أي حيث يتعين ذلك طريقاً لمخادعتهم، يفعلون ذلك حال كونهم {مذبذبين} أي مضطربين كما يضطرب الشيء الخفيف المعلق في الهواء، وحقيقة: الذي يذب عن كلا الجانبين ذباً عظيماً.
ولما كان ما تقدم يدل على إيمانهم تارة وكفرهم أخرى قال: {بين ذلك} أي الإيمان والكفر؛ ولما كان الإيمان يدل على أهله والكفر كذلك قال: {لا إلى} أي لا يجدون سبيلاً مفر إلى {هؤلاء} أي المؤمنين {ولا إلى هؤلاء} أي الكافرين؛ ولما كان التقدير! لأن الله أضلهم، بنى عليه قوله:{ومن يضلل الله} أي
الشامل القدرة الكامل العلم {فلن تجد} أي أصلاً {له سبيلاً *} أي طريقاً إلى شيء يريده.
ولما انقضى ما أراد من الإنكار على من ادعى الإيمان في اتخاذ الكافرين أولياء، المستلزم للنهي عن ذلك الاتخاذ، صرح به مخاطباً للمؤمنين فقال:{يا أيها الذين ءامنوا} أي أقروا بالإيمان بألسنتهم صدقاً أو كذباً {لا تتخذوا} أي تكلفوا أنفسكم غير ما تدعوا إليه الفطرة الأولى السليمة فتأخذوا {الكافرين} أي المجاهرين بالكفر الغريقين فيه {أولياء} أي أقرباء، تفعلون معهم من الود والنصرة ما يفعل القريب مع قريبه.
ولما كان الغريق في الإيمان أعلى الناس، وكان تحت رتبته رتب متكاثره، نبه على ذلك وعلى دناءة مقصدهم بالجار فقال:{من دون المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان، وهذا إشارة إلى أنه لا يصح لمن يواليهم دعوى الإيمان، ولذلك قال منكراً:{أتريدون} أي بموالاتهم {أن تجعلوا لله} أي الذي لا تطاق سطوته لأن له الكمال كله {عليكم} أي في النسبة إلى النفاق {سلطاناً} أي دليلاً اضحاً على كفركم باتباعكم غير سبيل المؤمنين {مبيناً *} واضحاً مسوِّغاً لعقابكم وخزيكم
وجعلكم في زمرة المنافقين.
ولما نهاهم عن فعل المنافقين استأنف بيان جزائهم عنده فقال: {إن المنافقين في الدرك} أي البطن والمنزل {الأسفل من النار} لأن ذلك أخفى ما في النار وأستره وأدناه وأوضعه كما أن كفرهم أخفى الكفر وأدناه، وهو أيضاً أخبث طبقات النار كما أن كفرهم أخبث أنواع الكفر، وفيه أن من السلطان وضع فاعل ذلك في دار المنافقين لفعله مثل فعلهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وسميت طبقات النار أدراكاً لأناه متداركة متتابعة إلى أسفل كما أن الدرج متراقية إلى فوق.
ولما أخبر أنهم من هذا المحل الضنك، أخبر بدوامه لهم على وجه مؤلم جداً فقال:{ولن تجد} أي أبداً {لهم نصيراً *} وأشار بالنهي عن موالاتهم وعدم نصرهم إلى ختام أول الآيات المحذرة من الكافرين {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} [النساء: 45] .
ولما كان فيما تقدم أن الغفران للكافر - أعم من أن يكون منافقاً أولاً - متعذر، وأتبعه ما لاءمه إلى أن ختم بما دل على أن النفاق أغلظ أنواع الكفر استثنى منه دلالة على أن غيره من الكفرة في هذا الاستثناء أولى، تنبيهاً على أن ذلك النفي المبالغ فيه إنما هو لمن
مات على ذلك، ولكنه سيق على ذلك الوجه تهويلاً لما ذكره في حيزه وتنفيراً منه فقال تعالى:{إلا الذين تابوا} أي رجعوا عما كانوا عليه من النفاق بالندم والإقلاع {وأصلحوا} أي أعمالهم الظاهرة من الصلاة التي كانوا يراؤون فيها وغيرها بالإقلاع عن النفاق {واعتصموا بالله} أي اجتهدوا في أن تكون عصمتهم - أي ارتباطهم - بالملك الأعظم في عدم العود إلى ما كانوا عليه.
ولما كان الإقلاع عن النفاق الذي من أنواعه الرياء - أصلاً ورأساً في غاية العسر قال حثاً على مجاهدة النفس فيه: {وأخلصوا دينهم} أي كله {لله} أي الذي له الكمال كله، فلم يريدوا بشيء من عبادتهم غير وجهه لا رياء ولا غيره {فأولئك} أي العالو الرتبة {مع المؤمنين} أي الذي صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً في الجنة، وإن عذبوا على معاصيهم ففي الطبقة العليا من النار {وسوف يؤت الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {المؤمنين} أي بوعد لا خلف فيه وإن أصابهم قبل ذلك ما أصابهم وإن طال عذابهم، تهذيباً لهم من المعاصي بما أشار إليه لفظ «سوف» {أجراً عظيماً *} أي بالخلود في الجنة التي لا ينقضي نعيمها، ولا يتكدر يوماً نزيلها، فيشاركهم من كان معهم، لأنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ولما كان معنى الاستثناء أنه لا يعذبهم، وأنهم يجدون الشفيع بإذنه؛ قال مؤكداً لذلك على وجه الاستنتاج منكراً على من ظن أنه لا يقبلهم بعد الإغراق في المهالك:{ما يفعل الله} أي وهو المتصف بصفات الكمال التي منها الغنى المطلق {بعذابكم} أي أيها الناس، فإنه لا يجلب له نفعاً ولا يدفع عنه ضراً.
ولما كان الخطاب مع الذين آمنوا قال: {إن شكرتم} أي نعمه التي من أعظمها إنزال الكتاب الهادي إلى الرشاد، المنقذ من كل ضلال، المبين لجميع ما يحتاج إليه العباد، فأداكم التفكر في حالها إلى معرفة مسديها، فأذعنتم له وهرعتم إلى طاعته بالإخلاص في عبادته وأبعدتم عن معصيته.
ولما كان الشكر هو الحامل على الإيمان قدمه عليه، ولما كان لا يقبل إلا به قال:{وآمنتم} أي به إيماناً خالصاً موافقاً فيه القلب ما أظهره اللسان؛ ولما كان معنى الإنكار أنه لا يعذبكم، بل يشكر ذلك قال عاطفاً عليه:{وكان الله} أي ذو الجلال والإكرام أزلاً وأبداً {شاكراً} لمن شكره بإثابته على طاعته فوق ما يستحقه {عليماً *} بمن عمل له شيئاً وإن دق، لا يجوز عليه سهو ولا غلط ولا اشتباه.
ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من تقبيح حال المجالسين الخائضين في آياته بما هي منزهة عنه، ومما يتبعه من وصفهم وبيان قصدهم
بتلك المجالسة من النهي عن مثل حالهم، ومن جزاء من فعل مثل فعلهم - إلى أن ختم بأشد عذاب المنافقين، وحث على التوبة بما ختمه بصفتي الشكر والعلم؛ أخبر أنه يبغض خوض الكافرين الذين قبح مجالستهم حال التلبس به، وكذا كل جهر بسوء إلا ما استثناه، فمن أقدم على ما لا يحبه لم يقم بحق عبوديته، فقال معللاً ما مضى قبل افتتاح أمر المنافقين من الأمر بإحسانه التحية:{لا يحب الله} أي المختص بصفات الكمال {الجهر} أي ما يظهر فيصير في عداد الجهر {بالسوء} أي الذي يسوء ويؤذي {من القول} أي لأحد كائناً من كان، فإن ذلك ليس من شكر الله تعالى في الإحسان إلى عباده وعياله ولا من شكر الناس في شيء ولا يشكر الله من لا يشكر الناس {إلا من} أي جهر من {ظلم} أي كان من أحد من الناس ظلم إليه كائناً من كان فإنه يجوز له الجهر بشكواه والتظلم منه والدعاء عليه وإن ساءه ذلك بحيث لا يعتدي.
ولما كان القول مما يسمع، وكان من الظلم ما قد يخفي، قال مرغباً مرهباً:{وكان الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {سمعياً} أي لكل ما يمكن سماعه من جهر وغيره {عليماً *} أي بكل ما يمكن أن يعلم
فاحذروه لئلا يفعل بكم فعل الساخط، وجهر ومن ظلم - وإن كان داخلاً فيما يحبه الله تعالى على تقدير كون الاستثناء متصلاً - لكن جعله من جملة السوء وإن كان من باب المشاكلة فإن فيه لطيفة، وهي نهي الفطن عن تعاطيه وحثه على العفو، لأن من علم أن فعله بحيث ينطلق اسم السوء - على أي وجه كان إطلاقه - كف عنه إن كان موفقاً.
ولما كانت معاقد الخيرات على كثرتها منحصرة في قسمين: إيصال النفع إبداء وإخفاء، ودفع الضرر، فكان قد أشار سبحانه وتعالى إلى العفو، وختم بصفتي السمع والعلم؛ قال مصرحاً بالندب إلى العفو والإحسان، فكان نادباً إليه مرتين: الأولى بطريق الإشارة لأولى البصارة، والثانية بطريق العبارة للراغبين في التجارة، حثاً على الأحب إليه سبحانه والأفضل عنده والأدخل في باب الكرم:{إن تبدوا خيراً} أي من قول أو غيره {أو تخفوه} أي تفعلوه خفية ابتداء أو في مقابلة سوء فعل إليكم؛ ولما ذكر فعل الخير أتبعه نوعاً منه هو أفضله فقال: {أو تعفوا عن سوء} أي فعل بكم.
ولما كان التقدير: يعلمه بما له من صفتي السمع والعلم فيجازي عليه بخير أفضل منه وعفو أعظم من عفوكم؛ سبب عنه قوله: {فإن}
أي فأنتم جديرون بالعفو بسبب علمكم بأن {الله كان} أي دائماً أزلاً وأبداً {عفواً} ولما كان ترك العقاب لا يسمى عفواً إلا إذا كان من قادر وكان الكف - عند القدرة عن الانتقام، ممن أثر في القلوب الآثار العظام - بعيداً، شاقاً على النفس شديداً؛ قال تعالى مذكراً للعباد بذنوبهم إليه وقدرته عليهم:{قديراً *} أي بالغ العفو عن كل ما يريد العفو عنه من أفعال الجانين والقدرة على كل ما يريد ومن يريد، فالذي لا ينفك عن ذنب وعجز أولى بالعفو طمعاً في عفو القادر عنه وخوفاً من انتقامه منه وتخلقاً بخلقه العظيم والاقتداء بسنته.
ولما انقضى ذلك على أتم وجه وأحسن سياق ونحو، وختم بصفتي العفو والقدرة؛ شرع في بيان أحوال من لا يعفى عنه من أهل الكتاب، وبيان أنهم هم الذين أضلوا المنافقين بما يلقون إليهم من الشبه التي وسَّعَ عقولهم لها ما أنعم به عليهم سبحانه وتعالى من العلم، فأبدوا الشر وكتموا الخير، فوضعوا نعمته حيث يكره، ثم كشف سبحانه وتعالى بعض شبههم، فقال مبيناً لما افتتح به قصصهم من أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، ويريدون ضلال غيرهم، بعد أن كان ختم هناك
ما قبل قصصهم بقوله عفواً قديراً: {إن الذين يكفرون} أي يسترون ما عندهم من العلم {بالله} أي الذي له الاختصاص بالجلال والجمال {ورسله} .
ولما ذكر آخر أمرهم ذكر السبب الموقع فيه فقال: {ويريدون أن يفرقوا بين الله} أي الذي له الأمر كله، ولا أمر لأحد معه {ورسله} أي فيصدقون بالله ويكذبون ببعض الرسل فينفون رسالاتهم، المستلزم لنسبتهم إلى الكذب على الله المقتضي لكون الله سبحانه وتعالى بريئاً منهم.
ولما ذكر الإرادة ذكر ما نشأ عنها فقال: {ويقولون نؤمن ببعض} أي من الله ورسله كاليهود الذين آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام وغيره إلا عيسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم فكفروا بهما {ونكفر ببعض} أي من ذلك وهم الرسل كمحمد صلى الله عليه وسلم {ويريدون أن يتخذوا} أي يتكلفوا أن يأخذوا {بين ذلك} أي الإيمان والكفر {سبيلاً *} أي طريقاً يكفرون به، وعطف الجمل بالواو - وإن كان بعضها سبباً لبعض - إشارة إلى أنهم جديرون بالوصف بكل منها على انفراده، وأن كل خصلة كافية في نسبة الكفر إليهم، وقدم نتيجتها،
وختم بالحكم بها على وجه أضخم، تفظيعاً لحالهم، وأصل الكلام: أرادوا سبيلاً بين سبيلين، فقالوا: نكفر ببعض، فأرادوا التفرقة، فكفروا كفراً هو في غاية الشناعة على علم منهم، فأنتج ذلك:{أولئك} أي البعداء البغضاء {هم الكافرون} أي الغريقون في الكفر {حقاً} ولزمهم الكفر بالجميع لأن الدليل على نبوة البعض لزم منه القطع بنبوة كل من حصل منه مثل ذلك الدليل، وحيث جوز حصول الدليل بدون المدلول تعذر الاستدلال به على شيء كالمعجزة، فلزم حينئذ الكفر بالجميع، فثبت أن من كذب بنبوة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لزمه الكفر بجميع الأنبياء، ومن لزمه الكفر بهم لزمه الكفر بالله وكل ما جاء به.
ولما كان التقدير: فلا جرم أنا أعتدنا - أي هيأنا - لهم عذاباً مهيناً، عطف عليه تعميماً:{وأعتدنا للكافرين} أي جميعاً {عذاباً مهيناً *} أي كما استهانوا ببعض الرسل وهم الجديرون بالحب والكرامة، والآية شاملة لهم ولغيرهم ممن كان حاله كحالهم، وإيلاء ذلك بيان أحوال المنافقين أنسب شيء وأحسنه للتعريف بأنهم منافقون، من حيث أنهم يظهرون شيئاً من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويبطنون غيره وإن كان ما يظهرونه على الضد مما يظهره المنافقون، وبأنهم هم الذين أضلوا
المنافقين، وللتحذير من أقوالهم وتزييف ما حرفوا من محالهم، وفي ذلك التفات إلى أول هذه القصة {يا أيها الذين ءامنوا ءامِنوا بالله ورسوله} [النساء: 136] .
ولما بين سبحانه وتعالى ما أعد لهم بيّن ما أعد لأضدادهم من أهل طاعته بقوله: {والذين ءامنوا بالله} أي الذي له الكمال والجمال {ورسله} ولما جمعوهم في الإيمان ضد ما فعل أهل الكفران، صرح بما أفهمه فقال:{ولم يفرقوا} أي في اعتقادهم {بين أحد منهم} أي لم يجعلوا أحداً منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه بأن كفروا ببعض وآمنوا ببعض - كما فعل الأشقياء، والتفرقة تقتضي شيئين فصاعداً، و «أحد» عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعهما، فلذلك صح التعبير به بمعنى: بين اثنين أو جماعة، وكأنه اختير للمبالغة بأن لو أن الواحد يمكن فيه التفرقة فكان الإيمان بالبعض دون البعض كفراً {أولئك} أي العالو الرتبة في رتب السعادة.
ولما كان المراد تأكيد وعدهم، وكان المشاهد فيه غالباً التأخر قال:{سوف نؤتيهم} أي بما لنا من العظمة بوعد لا خلف فيه وإن تأخر، فالمراد تحقيقه، لا تحقيق تأخره، ولكنه أتى بالأداة التي هي أكثر حروفاً وأشد تنفيساً، لأن هذا السياق لأهل الإيمان المجرد، الشامل
لمن لم يكن له عمل، ولذا أضاف الأجور إليهم، وختم بالمغفرة لئلا يحصل لهم بأس وإن طال المدى {أجورهم} أي كاملة بحسب نياتهم وأعمالهم.
ولما كان الإنسان محل النقصان قال: {وكان الله} أي الذي لا يبلغ الواصفون كنه ما له من صفات الكمال {غفوراً} لما يريد من الزلات {رحيماً *} أي بمن يريد إسعادة بالجنات.
ولما أخبر تعالى بما على المفرقين بين الله ورسله وما لأضدادهم أتبعه بعض ما أرادوا به الفرقة، وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا من اليهود قالا كذباً: إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة من السماء نعاينه حين ينزل - كما أتى موسى عليه الصلاة والسلام بكتابه كذلك، فأنزل الله تعالى موبخاً لهم على هذا الكذب مشيراً إلى كذبهم فيه موهياً لسؤالهم محذراً من غوائله مبيناً لكفرهم بالله ورسله:{يسألك} .
ولما كانت هذه من أعظم شبههم التي أضلوا بها من أراد الله، وذلك أنهم رأوا أن هذا الكتاب المبين أعظم المعجزات، وأن العرب لم يمكنهم الطعن فيه على وجه يمكن قبوله، فوجهوا مكايدهم نحوه
بهذه الشبهة ونحوها، زيفها سبحانه وتعالى أتم تزييف، وفضحهم بسببها غاية الفضيحة، وزاد سبحانه في تبكيتهم بقوله:{أهل الكتاب} إشارة إلى أن العالم ينبغي له أن يكون أبعد الناس من التمويه فضلاً عن الكذب الصريح {أن تنزل عليهم} أي خاصاً بهم بإثبات أسمائهم {كتاباً من السماء} ؛ وما أوهموا به في قولهم هذا من أن موسى عليه الصلاة والسلام أتى بالتوراة جملة كذبة تلقفها منهم من أراد الله تعالى من أهل الإسلام، ظناً منهم أن الله تبارك وتعالى أقرهم عليها وليس كذلك - كما يفهمه السياق كله، ويأتي ما هو كالصريح فيه في قوله:{إنا أوحينا إليك} - الآية كما سيأتي بيانه، واليهود الآن معترفون بأنها لم تنزل جملة، وقال الكلبي في قصة البقرة التي ذبحوها لأجل القتيل الذي تداروا فيه: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة.
ولما كان هذا مما يستعظمه النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك مبيناً تسلية له صلى الله عليه وسلم أن عادتهم التعنت، وديدنهم الكفر وأنهم أغرق الناس في غلظ الأكباد وجلافة الطبائع، وأن أوائلهم تعنتوا على من يدعون الإيمان به الآن، وأنهم على شريعته، وأحب شيء فيه ما أراهم من تلك الآيات العظام التي منها استنقاذهم من العبودية بل من الذبح وأن ذلك تكرر منهم مع ما يشاهدونه من القوارع والعفو
فقال: {فقد} أي إن تستعظم ذلك فقد {سألوا} أي آباؤهم، أي وهم على نهجهم في التعنت فهم شركاؤهم {موسى} لغير داع سوى التعنت {أكبر} أي أعظم {من ذلك} أي الأمر العظيم الذي واجهوك به بعد ما ظهرت من المعجزات ما أوجبنا على كل من علمها الإيمان بك والتأديب معك، ثم بينه بقوله:{فقالوا أرنا الله} أي الملك الأعلى الذي لا شبيه له وتقصر العقول عن الإحاطة بعظمته {جهرة} أي عياناً من غير ستر ولا حجاب ولا نوع من خفاء بل تحيط به أبصارنا كما يحيط السمع بالقول الجهر، وهذا يدل على أن كلاً من السؤالين ممنوع لكونه ظلماً، لأدائه إلى الاستخفاف بما نقدمه من المعجزات، وعده غير كاف مع أن إنزا الكتاب جملة غير مناسب للحكمة التي بنيت عليها هذه الدار من ربط المسببات بالأسباب وبنائها عليها، لأن من المعلوم أن تفريق الأوامر سبب لخفة حملها، وذلك أدعى لامتثالها وايسر لحفظها وأعون على فهمها، وأعظم تثبيتاً للمنزل عليه وأشرح لصدره وأقوى لقلبه وأبعث لشوقه، والرؤية على هذا الوجه الذي طلبوه - وهو الإحاطة - محال فسؤالهم لذلك استخفاف مع أنه تعنت، ولذلك سبب عن سؤالهم قوله:{فأخذتهم} أي عقب هذا السؤال وبسببه من غير إمهال أخذ قهر وغلبة {الصاعقة} أي نار نزلت من
السماء بصوت عظيم هو جدير بأن لا يسمى غيره - إذا نسب إليه - صاعقة، فأهلكتهم {بظلمهم} أي بسبب ظلمهم بهذا السؤال وغيره، لكونه تعنتاً من غير مقتض له أصلاً، وبطلب الرؤية على وجه محال وهو طلب الإحاطة {ثم} بعد العفو عنهم وإحيائهم من إماتة هذه الصاعقة {اتخذوا العجل} أي تكلفوا أخذه وعتوا أنفسهم باصطناعه.
ولما كان الضال بعد فرط البيان أجدر بالتبكيت قال: {من بعد} وأدخل الجار إعلاماً بأن اتخاذهم لم يستغرق زمان البعد، بل تابوا عنه {ما جاءتهم البينات} أي بهذا الإحياء وغيره من المعجزات {فعفونا} أي على ما لنا من العظمة {عن ذلك} أي الذنب العظيم بتوبتنا عليهم من غير استئصال لهم {وآتينا} أي بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة {موسى سلطاناً} أي تسلطاًَ واستيلاء قاهراً {مبيناً *} أي ظاهراً فإنه أمرهم بقتل أنفسهم فبادروا الامتثال بعد ما ارتكبوا من عظيم هذا الضلال، وفي رمز ظاهر إلى أنه سبحانه وتعالى يسلط محمداً صلى الله عليه وسلم على كل من يعانده أعظم من هذا التسليط.
ولما بيَّن هذا من عظمته أتبعه أمراً آخر أعظم منه فقال: {ورفعنا} أي بعظمتنا؛ ولما كان قد ملأ جهة الفوق بأن وارى جميع أبدانهم ولم يسلم أحد منهم من ذلك؛ نزع الجار فقال: {فوقهم الطور} أي الجبل العظيم، ثم ذكر سبب رفعه فقال:{بميثاقهم}
أي حتى التزموه وأذعنوا له وقبلوه.
ولما ذكر الميثاق على هذا الوجه العجيب أتبعه ما نقضوا فيه على سهولته دليلاً على سوء طباعهم فقال: {وقلنا لهم} أي بما تكرر لهم من رؤية عظمتنا {ادخلوا الباب} أي الذي لبيت المقدس {سجداً} أي فنقضوا ذلك العهد الوثيق وبدلوا {وقلنا لهم} أي على لسان موسى عليه الصلاة والسلام في كثير من التوراة {لا تعدوا} أي لا تتجاوزوا ما حددناه لكم {في السبت} أي لا تعملوا فيه عملاً من الأعمال - تسمية للشيء باسم سببه سمي عدواً لأن العالم للشيء يكون لشدة إقباله عليه كأنه يعدو {وأخذنا منهم} أي في جميع ذلك {ميثاقاً غليظاً *} وإنما جزمت بأن المراد بهذا - والله تعالى أعلم - على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، لأنه تعالى كرر التأكيد عليهم في التوراة في حفظ السبت، وأوصاهم به، وعهد إليهم فيه ما قل أن عهده في شيء من الفروع غيره، قال بعض المترجمين للتوراة في السفر الثاني في العشر الآيات التي أولها «أنا إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق، لا يكون لك إله غيري» ما
نصه: اذكر حفظ يوم السبت وطهره ستة أيام، كد فيها واصنع جميع ما ينبغي لك أن تصنعه، واليوم السابع سبت الله ربك، لا تعملن فيه شيئاً من الأعمال أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك ودوابك والساكن في قراك، لأن الرب خلق السماوات والأرض في ستة أيام والبحور وجميع ما فيها، واستراح في اليوم السابع، ولذلك بارك الله اليوم السابع وقدسه، أكرم أباك - إلى آخر ما مر في سورة البقرة؛ ثم عاد العشر الآيات في أوائل السفر الخامس وقال في السبت: احفظوا يوم السبت وظهوره كما أمركم الله ربكم، واعملوا الأعمال في ستة أيام كما أمركم الله ربكم، واعملوا الأعمال في ستة أيام، فاصنعوا ما أردتم أن تصنعوا فيها، فأما يوم السبت فأسبوع ربكم، لا تعملوا فيه عملاً أنتم وبنوكم وعبيدكم وإماؤكم وثيرانكم وحميركم وكل بهائمكم والساكن الذي في قراكم ليستريح عبيدكم - إلى آخر ما في أوائل هذه السورة عند {ويهديكم سنن الذين من قبلكم} وقال في الثاني بعد ذلك: وقال الرب لموسى: وأنت فأمر بني إسرائيل أن تحفظوا السبوت، لأنها أمارة العهد وعلامة فيما بيني وبينكم لأحقابكم، فتعلموا أني أنا الرب إلهكم مقدسكم، احفظوا يوم السبت
فإنه مطهر مخصوص لكم، ومن نقصه وأخذ العمل فيه فليقتل، ومن عمل عملاً فليهلك ذلك الإنسان من شعبه، اعملوا أعمالكم ستة أيام، واليوم السابع فهو يوم سبت قدس للرب، لأن الرب خلق السماوات والأرض في ستة أيام والبحور وما فيها، وهذا في اليوم السابع ودفع إلى موسى عليه الصلاة والسلام لما فرغ كلامه له في طور سيناء لوحي الشهادة، وأبلغ في تأكيد حفظه عليهم في غير ذلك من المواضع، حتى أنه شرع لهم أسباب الأرض ونحوها، فقال في السفر الثاني أيضاً: ازرع أرضك ست سنين واحمل أثقالها وفي السنة السابعة ابذرها ودعها فيأكل مسكين شعبك، وما يبقى بعد ذلك يأكله حيوان البر وكذلك فافعل بكرومك وزيتونك، اعمل عملك في ستة أيام وفي اليوم السابع تستريح لكي يستريح ثورك وحمارك، وتستريح أمتك وابن أمتك والساكن في قراك، ثم ذكر الأعياد في السفر الثالث، وحرم العمل فيها؛ وقال في بعضها: وكل نفس يعمل عملاً في هذا اليوم تهلك تلك النفس من شعبها، فلا تعملوا فيه عملاً، لأنه سنة جارية لكم إلى الأبد في جميع مساكنكم، فليكن هذا اليوم سبت السبوت؛ ثم أمرهم بعيد المظال سبعة أيام وقال: ليعلم أحقابكم أنني
أجلست بني إسرائيل في المظال حيث أخرجتهم من أرض مصر، ثم ذكر بعض القرابين وقال: ويصف هارون الخبز صفين في اليوم السادس وهو يوم الجمعة، ويكون ذلك من عيد بني إسرائيل؛ وكلم الرب موسى وقال له في طور سيناء كلم بني إسرائيل وقل لهم: إذا دخلتم الأرض التي أعطيكم ميراثاً تسبت الأرض سبتاً للرب، ازرعوا مزارعكم ست سنين واكسحوا كرومكم ست سنين، واستغلوا غلاتكم ست سنين، فأما السنة السابعة فلتكن سبت الراحة للأرض، لا تزرعوا مزارعكم، ولا تكسحوا كرومكم، ول تحصدوا ما ينبت في أرضكم في تلك السنة من غير أن يزرع، ولا تقطعوا عنب كرومكم، بل يكون سبت الراحة للأرض لكم ولبنيكم ولإمائكم ولإخوانكم وللسكان الذين يسكنون معكم، وأحصوا سبع مرات سبعاً سبعاً: تسعاً وأربعين سنة، وقدسوا سنة خمسين، وليكن رد الأشياء إلى أربابها، ولا تزرعوا أرضكم في تلك السنة، ولا تحصدوا ما نبت فيها، ولا تقطعوا عشبها لأنها سنة الرد، واتقوا الله لأني أنا الله ربكم، احفظوا وصاياي واعملوا بها، واحفظوا أحكامي واعملوا بها، واسكنوا أرضكم بالسكون والطمأنينة لتغل لكم الأرض غلاتها، وتأكلوا وتشبعوا وتسكنوها مطمئنين، وإن قلتم: من أين نأكل في السنة السابعة التي لا نزرع فيها
فلا تهتموا! أنا منزل لكم بركاتي في السادسة، وتغل لكم أرضكم في تلك السنة غلة ثلاث سنين، حتى إذا زرعتم في السنة الثامنة لم تحتاجوا إلى غلتها، لأنكم تأكلون من السنة السادسة إلى التاسعة، وأما الأرض فلا تباع بيعاً صحيحاً أبداً، لن الأرض لي، وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا نسبة الاستراحة إليه سبحانه هذا مع أنه أكد سبحانه العهود عليهم في التوحيد وحفظ الأحكام في جميع التوراة على نحو ما تراه فيما أنقله منها في هذا الكتاب.
فلما بين سبحانه أنه أكد عليهم الميثاق، وأكثر من التقدم في حفظ العهد؛ بين أنهم نقضوا، فأقبهم بسبب ذلك ما هددوا به في التوراة من الخزي وضرب الذلة مع ما ادخر لهم في الآخرة فقال:{فبما} مؤكداً بإدخال «ما» {نقضهم ميثاقهم} أي فعلنا بهم بسبب ذلك جميع ما ذكرنا في التوراة من الخزي، وقد تقدم كثير منه في القرآن، ولا يبعد عندي تعليقه بقوله الآتي «حرمنا عليهم طيبات - واعتدنا» ويكون من الطيبات العز ورغد العيش، وذلك جامع لنكد الدارين وعطف على هذا الأمر العام ما اشتدت به العناية من إفراده عطف الخاص على العام فقال:{وكفرهم بآيات الله} مما جاءهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم واقتضت حكمته سبحانه أن يكون عظمتها مناسبة لعظمة اسمه
الأعظم الذي هو مسمى جميع الأسماء، فاستلزم كفرهم به كفرهم بما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أعظم ما نقضوا فيه وأخص من مطلق النقض {وقتلهم الأنبياء} وهو أعظم من مطلق كفرهم، لأن ذلك سد لباب الإيمان عنهم وعن غيرهم، لأن الأنبياء سبب الإيمان وفي محو السبب محو المسبب.
ولما كان الأنيباء معصومين من كل نقيصة، ومبرئين من كل دنية، لا يتوجه عليهم حق لا يؤدونه؛ قال:{بغير حق} أي كبير ولا صغير أصلاً. وهذا الحرف - لكونه في سياق طعنهم في القرآن الذي هو أعظم الآيات - وقع التعبير فيه أبلغ مما في آل عمران الذي هو أبلغ مما سبق عليه، لأن هذا مع جمع الكثرة وتنكير الحق عبر فيه بالمصدر المفهم لأن الاجتراء على القتل صار لهم خلقاً وصفة راسخة، بخلاف ما مضى، فإنه بالمضارع الذي ربما دل على العروض؛ ثم ذكر أعظم من ذلك كله وهو إسنادهم عظائمهم إلى الله تعالى فقال:{وقولهم قلوبنا غلف} أي لا ذنب لنا لأن قلوبنا خلقت من أصل الفهم بعيدةً عن فهم مثل ما يقول الأنبياء، لكونها في أغشية، فهي شديدة الصلابة، وذلك سبب قتلهم ورد قولهم، وهذا بعد أن كانوا يقرون بهذا النبي الكريم، ويشهدون له بالرسالة وبأنه خاتم الأنبياء، ويصفون
بأشهر صفاته، ويترقبون إتبانه، لا جرم رد الله عليهم بقوله عطفاً على ما تقديره: وقد كذبوا لأنهم ولدوا على الفطرة كسائر الولدان، فلم تكن قلوبهم في الأصل غلفاً:{بل طبع الله} أي الذي له معاقد العز ومجامع العظمة {عليها} طبعاً عارضاً {بكفرهم} بل إنه خلقها أولاً على الفطرة متمكنة من اختيار الخير والشر، فلما أعرضوا بما هيأ قلوبهم له من قبول النقض - عن الخير، واختاروا الشر باتباع شهواتهم الناشئة من نفوسهم، وترك ما تدعو إليه عقولهم، طبع سبحانه وتعالى عليها.
فجعلها قاسية محجوبة عن رحمته، ولذا سبب عنه قوله:{فلا يؤمنون} أي يجددون الإيمان في وقت من الأوقات الآتية، ويجوز أن يتعلق بما تقديره تتمة لكلامهم: طبع الله عليها فهي لا تعي، وتكون «بل» استدراكاً للطبع بالكفر وحده، لأنه ربما انضم إليه، وأن يكون أضرب عن قولهم: إنها في غلف، لكون ما في الغلاف قد يكون مهيئاً لإخراجه من الغلاف إلى الطبع الذي من شأنه الدوام {إلا قليلاً *} من الإيمان بأن يؤمنوا وقتاً يسيراً كوجه النهار ويكفروا في غيره، ويؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، أو إلا إناساً قليلاً منهم - كما كان أسلافهم يؤمنون بما يأتي به موسى عليه الصلاة والسلام
من الآيات، ثم لم يكن بأسرع من كفرهم وتعنتهم بطلب آية أخرى كما هو مذكور في توراتهم التي بين أظهرهم، ونقلت كثيراً منه في هذا الكتاب، فقامت الحجة عليهم بأنهم يفرقون بين قدرتهم على الإيمان وقدرتهم على الطيران.
ولما بين كفرانهم بقتل الأنبياء بين كفرهم بالبهتان الذي هو سبب القتل، والفتنة أكبر من القتل، فقال معظماً له باعادة العامل:{وبكفرهم} أي المطلق الذي هو سبب اجترائهم على الكفر بنبي معين كموسى عليه الصلاة والسلام، وعلى القذف، ليكون بعض كفرهم معطوفاً على بعض آخر، ولذلك قال:{وقولهم على مريم} أي بعد علمهم بما ظهر على يديها من الكرامات الدالة على براءتها وأنها ملازمة للعبادة بأنواع الطاعات {بهتاناً عظيماً *} ثم علمهم بما لم ينالوا من قتل أعظم من جاء من أنبيائهم بأعظم ما رأوا من الآيات من بعد موسى وهو عيسى عليهما الصلاة والسلام، ثم بادعائهم لقتله وصلبه افتخاراً به مع شكهم فيه فقال:{وقولهم إنا قتلنا المسيح} ثم بينه بقوله: {عيسى ابن مريم} ثم تهكموا به بقولهم {رسول الله}
أي الذي له أنهى العظمة، فجمعوا بين أنواع من القبائح، منها التشيع بما لم يعطوا، ومنها أنه على تقدير صدقهم جامع لأكبر الكبائر مطلقاً، وهو الكفر بقتل النبي لكونه نبياً، وأكبر الكبائر بعده وهو مطلق القتل، ولم يكفهم ذلك حتى كانوا يصفونه بالرسالة مضافة إلى الاسم الأعظم استهزاء به وبمن أرسله عزَّ اسمه وجلت عظمته وتعالى كبرياؤه وتمت كلماته ونفذت أوامره لكونه لم يمنعه منهم على زعمهم {وما} أي والحالة أنهم ما {قتلوه وما صلبوه} وإن كثر قائلو ذلك منهم، وسلمه لهم النصارى {ولكن} لما كان المقصود وقوع اللبس عليهم الضار لهم، لا لكونه من معين قال:{شبه لهم} أي فكانوا في عزمهم بذلك متشيعين بما لم يعطوا.
ولما أفهم التشبيه الاختلاف، فكان التقدير: فاختلفوا بسبب التشبيه في قتله، فمنهم من قال: قتلناه جازماً، ومنهم من قال: ليس هو المقتول، ومنهم من قال: الظاهر أنه هو، عطف عليه قوله دالاً على شكهم باختلافهم:{وإن الذين اختلفوا فيه} أي في قتله {لفي شك منه} أي تردد مستوى الطرفين، كلهم وإن جزم بعضهم، ثم أكد هذا المعنى بقوله:{ما لهم به} وأغرق في النفي بقوله: {من علم} .
ولما كانوا يكلفون أنفسهم اعتقاد ذلك بالنظر في شهادته، فربما قويت عندهم شبهة فصارة أمارة أوجبت لهم - لشغفهم بآمالها - ظناً ثم اضمحلت في الحال لكونها لا حقيقة لها، فعاد الشك وكان أبلغ في التحير؛ قال:{إلا} أي لكن {اتباع الظن} أي يكلفون أنفسهم الارتقاء من درك الشك إلى رتبة الظن، وعبر بأداة الاستثناء دون «لكن» الموضوعة للانقطاع إشارة إلى أن إدراكهم لما زعموه من قتله مع كونه في الحقيقة شكاً يكلفون أنفسهم جعله ظناً، ثم يجزمون به، ثم صار عندهم متواتراً قطعياً، فلا أجهل منهم.
ولما أخبر بشكهم فيه بعد الإخبار بنفيه أعاد ذلك على وجه أبلغ فقال: {وما قتلوه} أي انتفى قتلهم له انتفاء {يقيناً *} أي انتفاؤه على سبيل القطع، ويجوز أن يكون حالاً من «قتلوه» أي ما فعلوا القتل متيقنين أنه عيسى عليه الصلاة والسلام، بل فعلوه شاكين فيه والحق أنهم لم يقتلوا إلا الرجل الذي ألقى شبهه عليه، والوجه الأول أولى لقوله:{بل رفعه الله} بما له من العظمة البالغة والحكمة الباهرة، رفع عيسى عليه الصلاة والسلام {إليه} أي
إلى مكان لا يصل إليه حكم آدمي، وعن وهب أنه أوحى إليه ابن ثلاثين، ورفع ابن ثلاث وثلاثين فكانت رسالته ثلاثاً وثلاثين سنة {وكان الله} أي الذي له جميع صفات الكمال في كل حال عند قصدهم له وقبله وبعده {عزيزاً} أي يغلب ولا يغلب {حكيماً *} أي إذا فعل شيئاً أتقنه بحيث لا يطمع أحد في نقض شيء منه، وختمُ الآية بما بين الصفتين يدل على أن المراد ما قررته من استهزائهم، وأنه قصد الرد عليهم، أي إنه قد فعل ما يمنع من استهزائكم، فرفعه إليه بعزته وحفظه بحكمته، وسوف ينزله ببالغ قدرته، فيردكم عن أهوائكم، ويسفك دماءكم، ويبيد خضراءكم، وله في رفعه وإدخاله الشهبة عليكم حكمة تدق عن أفكار أمثالكم.
قصة رفعه عليه الصلاة والسلام من الإنجيل الموجود اليوم بين أظهر النصارى، وهي تتضمن الإنذار بالدجال والإخبار بنزوله صعيد، والبشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي وصفه بالفارقليط وبالأركون، وأن إخبارهم بقتله وصلبه ليس مستنداً إلا إلى شك - كما قال الله تعالى، وأحسن ما رد على الإنسان بما يعتقده، قال مترجمهم في إنجيل متى: إنه عليه الصلاة والسلام دخل إلى الهيكل في يروشليم -
وهي القدس - وجرت بينه وبين الأحبار محاورات كان آخرها أن قال لهم: إني أقول لكم: إنكم لا تروني الآن حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب، ثم خرج من الهيكل، فجاء إليه تلاميذه كي يُروه بناء الهيكل، فأجاب وقال لهم: انظروا هذا كله، الحق أقول لكم: إنه لا يترك هنا حجر على حجر إلا نقض، ثم جلس على جبل الزيتون - قال مرقس: قدام الهيكل - فجاء إليه تلاميذه قائلين: قل لنا: متى هذا وما علامة مجيئك وانقضاء الزمان؟ فقال لهم: انظروا لا يضلنكم أحد - قال مرقس ولوقا: فإن كثيراً يأتون باسمي قائلين: إنما هو المسيح، ويضلون كثيراً - فإذا سمعتم بالحروب وأخبار الحروب انظروا لا تقلقوا، فلا بد أن يكون هذا كله، تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة، ويكون خوف عظيم واضطراب وجوع ووباء - قال لوقا: وعلامات عظيمة من السماء - وزلازل في أماكن، وكل هذا أول المخاض - وقال مرقس: وهذه بداية الطلق، انظروا أنتم! إنهم يسلمونكم إلى المجامع والمحافل وتضربون - وقال لوقا: وقبل هذا كله يضعون أيديهم عليكم، ويطردونكم إلى المجامع والسجون وتقامون أمام الملوك والقواد
شهادة عليهم وعلى كل الأمم، ينبغي أولاً أن يكرز بالإنجيل، فإذا قدّموكم وأسلموكم فلا تهتموا بما تقولون ولا ماذا تجيبون، فإنكم تعطون في تلك الساعة الذي تتكلمون به ولستم المتكلمين، لكن روح القدس؛ قال لوقا: فإني معطيكم فماً وحكمة لا يقدر الذين يناصبونكم يقاومونها ولا الجواب عنها، ويسلم الأخ أخاه للموت، والأب ابنه، ويثب الأبناء على آبائهم؛ قال متى: حينئذ يسلمونكم إلى الضيق ويقتلونكم، وتكونون مبغوضين من كل الأمم، وحينئذ يشك كثير، ويسلم بعضكم بعضاً، ويبغض بعضكم بعضاً، ويقوم كثير من المنتهى يخلص، ويكرز بهذه البشارة في الملكوت في جميع المسكونة بشهادة لكل الأمم؛ قال مرقس: فإذا رأيتم فساد الحراب المذكور في دانيال النبي قائماً حيث لا ينبغي - فليفهم القارىء - حينئذ الذين تهودوا يهربون إلى
الجليل، والذي فوق السطح لا يقدر أن ينزل إلى بيته ليأخذ شيئاً، والويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام؛ وقال لوقا: وحينئذ الذين في اليهودية يهربون إلى الجبال، والذين في وسطها يفرون خارجاً، والذين في الكورة لا يدخلونها، لأن هذه في أيام الانتقام لكي يتم كل ما هو مكتوب، يكون على الأرض ضر وشدة عظيمة، وسخط على هذا الشعب، ويقعون في فم السيف، ويسبون في كل الأمم.
ويكون يروشليم موطىء الأمم حتى يكمل الزمان، وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم، وتخرج نفوس أناس من الخوف؛ وقال متى: وحينئذ يأتي الانفصال، ثم قال: سيكون ضيق عظيم - قال مرقس: تلك الأيام - لم يكن مثله في أول العالم حتى الآن ولا يكون، ولولا أن تلك الأيام قصرت لم يخلص ذو جسد - وقال مرقس: فلولا أن الرب أقصر تلك الأيام لم يحيى ذو جسد - لكن لأجل المتحببين قصرت تلك الأيام، فإن قال لكم أحد: إن المسيح ها هنا فلا تصدقوا، فسيقوم مسيحو كذب وأنبياء كذبة، ويعطون علامات عظاماً وآيات، ويضلون المختارين إن قدروا، هو ذا قد تقدمت وأخبرتكم، فإن قالوا لكم: إنه في البرية، فلا تخرجوا، أو فيّ المخادع، فلا تصدقوا، وكما أن البرق يخرج من المشرق فيظهر في المغرب، كذلك يكون حضور ابن البشر، لأنه حيث تكون الجثة
تجتمع النسور وتلوف بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه، والكواكب تتساقط من السماء، وقوات ترتج، وحينئذ تظهر علامات ابن الإنسان في السماء، وتنوح كل قبائل الأرض، وترون ابن الإنسان آتياً في سحاب السماء مع قوات ومجد كثير، ويرسل الملائكة مع صوت الناقور العظيم، ويجمع مختاريه من الأربعة الأزياج من أقصى السماوات - وقال مرقس: من أطراف الأرض إلى أطراف السماء - فمن شجرة التينة - وقال لوقا: ومن كل الأشجار - تعلمون المثل، إذا لانت أغصانها وفرعت أوراقها علمتم أن الصيف قد دنا.
كذلك أنتم إذا رأيتم هذا كله علمتم أنه قد قرب على الأبواب، الحق أقول لكم! إن هذا الجيل لا يزول حتى يتم هذا كله، والأرض والسماء تزولان وكلامي لا يزول، لأجل ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفها أحد ولا ملائكة السماوات - وقال مرقس: ولا الابن - إلا الأب وحده، وقال لوقا: سأله الفريسيون: متى يأتي ملكوت الله؟ فقال: ليس يأتي ملكوت الله برصد ولا يقولون: هوذا هاهنا
أو هناك! ها هو ذا ملكوت الله؛ ثم قال لتلاميذه: ستأتي أيام تشتهون أن تروا يوماً واحداً من أيام ابن الإنسان ولا ترون، فإن قالوا لكم: هوذا هاهنا أو هناك، فلا تذهبوا ولا تسرعوا، لأنه كمثل البرق الذي يضيء في السماء فيضيء تحت السماء، كذلك تكون أيام ابن البشر - انتهى. وكما كان في أيام نوح عليه الصلاة والسلام كذلك يكون استعلاء ابن الإنسان، لأنه كما كنوا قبل أيام الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح إلى السفينة، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان فأدرك جميعهم، كذلك يكون حضور ابن الإنسان؛ وقال لوقا: ومثل ما كان في أيام لوط يأكلون ويشربون ويبيعون ويشترون ويغرسون ويبنون إلى اليوم الذي خرج فيه لوط من سدوم، وأمطر من السماء ناراً وكبريتاً، وأهلك جميعهم، كذلك في اليوم الذي يظهر فيه ابن الإنسان، وفي ذلك اليوم من كان في السطح وآلته في البيت لا ينزل كي يأخذها، ومن كان في الحقل أيضاً لا يرجع هكذا إلى ورائه. انظروا إلى امرأة لوط، من أراد أن يحيي نفسها فليهلكها، ومن أهلكها أحياها، أقول لكم: إن في هذه الليلة - وقال متى: حينئذ - يكون اثنان في الحقل، يؤخذ واحد، ويترك الآخر، واثنتان تطحنان على رحى واحدة، تؤخذ الواحدة، وتترك
الأخرى، وقال مرقس: فانظروا واسهروا وصلّوا، لأنكم لا تعلمون متى يكون الزمان! اسهروا فإنكم لا تعملون متى يأتي رب البيت ليلاً! يأتي بغتة فيجدكم نياماً، والذي أقول لكم أقوله للجميع، اسهروا! قال لوقا: في كل حين وتضرعوا لكي تقووا على الهرب في هذه الأمور الكائنة كلها، وتقفوا قدام ابن الإنسان، وقال متى: فاسهروا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم، واعلموا أنه لو علم رب البيت في أي هجعة يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب، كذلك كونوا مستعدين لأن ابن الإنسان يأتي ساعة لا تظنونها، من ترى هو العبد الأمين الحليم الذي يقيمه سيده على بيته ليعطيهم الطعام في حينه! طوبى لذلك العبد، يأتي سيده فيجده يعمل هكذا، الحق أقول لكم! إنه يقيمه على جميع ماله، فإن قال ذلك العبد الرديء في قلبه: إن سيدي يبطىء، فيبدأ يأكل ويشرب مع المسكرين فيأتي سيده في يوم لا يظنه وساعة لا يعرفها، فيجعل نصيبه مع المرائين، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.
يشبه ملكوت السماوات عشرة عذاراى أخذن
مصابيحهن وخرجن للقاء العريس، خمس منهن جاهلات، وخمس حليمات، فأما الجاهلات فأخذن مصابيحهن ولم يأخذن زيتاً، وأما الحليمات فأخذن زيتاً في إناء مع مصابيحهن، فلما أبطأ العريس نعسن كلهن ونمن، وانتصف الليل فُصرِخ: هذا العريس قد أقبل، اخرجن للقائه! حينئذ قام جميع العذارى وزين مصابيحهن، فقال الجاهلات للحليمات: أعطيننا من زيتكن، فإن مصابيحنا قد طفئت! فقلن: ليس معنا ما يكفينا وإياكن، فاذهبن إلى الباعة وابتعن لكنّ، فلما ذهبن ليبتعن جاء العريس، فالمستعدات ذهبن معه وأُغلِقَ، فجاء بقية العذارا قائلات: يا رب! افتح لنا، فأجاب وقال: الحق أقول لكنّ! إني لا أعرفكن؛ اسهروا الآن فإنكم لا تعرفون ذلك اليوم ولا تلك الساعة، كمثل إنسان أراد السفر، فدعا عبيداً له فأعطاهم ماله، فأعطى خمس وزنات لواحد، ووزنتين للآخر، وواحداً وزنة، كل منهم على قدر قوته، وسافر للوقت، فمضى الذي أخذ الخمس فاتجر فيها، فربح خمس وزنات أخرى وهكذا الذي أخذ الوزنتين ربح فيهما وزنتين أخريين، وأما الذي أخذ الوزنة فمضى وحفر في الأرض ودفن حصة سيده، وبعد زمان كثير جاء سيد هؤلاء فحاسبهم، فجاء الذي أخذ الخمس وزنات فأعطى خمس وزنات أخرى قائلاً: يا رب! خمس وزنات أعطيتني، وهذه خمس وزنات أخرى ربحتها، قال له سيده - قال لوقا-:
حبذا أيها العبد الصالح! ألفيت أميناً على القليل، وقال متى: نعم يا عبد صالح أمين! وجدت في القليل أميناً، أنا أقيمك على الكثير أميناً، ادخل إلى فرح سيدك، وجاء الذي أخذ الوزنتين فقال: يا سيد! وزنتين دفعت إليّ وهذان وزنتان أخريان ربحتهما فقال له سيده: نعم يا عبد صالح أمين! وجدت في القليل أميناً، أنا أقيمك على الكثير، ادخل إلى فرح سيدك، فجاء الغير مصيب الذي أخذ الوزنة فقال: يا سيد! عرفت أنك إنسان شديد، تحصد ما لم تزرع، وتجمع من حيث لا تبذر، فخفت ومضيت فدفنت مالك في الأرض، هذا مالك، فأجاب سيده وقال: أيها العبد الشرير الكسلان! علمت أنني أحصد من حيث لا أزرع، وأجمع من حيث لا أبذر، كان ينبغي لك أن تجعل حصتي على مائدة، فأنا آتي وآخذه إليّ مع أرباحه، خذوا منه الوزنة، وأعطوها للذي له عشر وزنات، لأن من له يعطي ويزاد، والذي ليس له يؤخذ منه ما معه، والعبد الشرير الغير نافع ألقوه في الظلمة القصياء، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان؛ إذا جاء ابن الإنسان في مجده، وجميع الملائكة المقدسين معه، حينئذ يجلس على
كرسي مجده،، ويجمع إليه كل الأمم، فيميز بعضهم من بعض كما يميز الراعي الخراف من الجداء، ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن شماله، حينئذ يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي رِثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم، جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وغريباً كنت فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، ومريضاً فعدتموني، ومحبوساً فأتيتم إليّ، حينئذ يجيب الصديقون ويقولون: يا رب! متى رأيناك جائعاً فأطعمناك؟ أو عطشاناً فسقيناك؟ ومتى رأيناك غريباً فآويناك؟ أو عرياناً فكسوناك؟ أو مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك؟ فيجيب الملك ويقول: الحق أقول لكم! الذي فعلتموه بأحد هؤلاء الحقيرين فبي فعلتم، حينئذ يقول للذين عن يساره: اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبدة المعدّة لإبليس وجنوده، جعت فلم تطعموني - إلى آخره، فيذهب هؤلاء إلى العذاب الدائم، والصديقون إلى الحياة الأبدية.
ولما أكمل يسوع هذا الكلام كله قال لتلاميذه: علمتم أن بعد يومين يكون الفسح - وقال مرقس: وكان الفسح والفطير بعد يومين - واجتمع رؤساء الكيسر والكهنة ومشايخ الشعب في دار رئيس الكهنة الذي يقال له قيافاً، فتشاوروا على يسوع ليمسكوه - قال
مرقس: بمكر - ويقتلوه، وقالوا: ليس في العيد لئلا يكون شجن؛ وقال مرقس: شغب في الشعب؛ وقال يوحنا: فجمع عظماء الكهنة والفريسيين محفلاً وقالوا: ماذا نصنع إذا كان هذا الرجل يعمل آيات كثيرة، وإن تركناه هكذا فسيؤمن به جميع الناس، وتأتي الروم فتتغلب على أمتنا، وإن واحداً منهم اسمه قيافا كان رئيس الكهنة فقال: إنه خير لنا أن يموت رجل واحد عن الشعب من أن تهلك الأمة كلها، لأن يسوع كان مزمعاً أن يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد؛ وفي تلك الساعة تشاوروا على قتله، فأما يسوع فلم يكن يمشي بين اليهود علانية، ولكنه انطلق من هناك إلى البرية إلى كورة تسمى مدينة أفريم، وكان يتردد هناك مع تلاميذه، وكان عيد فسح اليهود قد قرب فصعد كثير من القرى إلى يروشليم قبل الفسح ليطهروا أنفسهم، فطلب اليهود يسوع، وكانوا أمروا إن علم إنسان مكانه أن يدلهم عليه، وإن يسوع قبل ستة أيام من الفسح قصد إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الميت الذي أقامه يسوع، فصنعوا له هناك وليمة، وجعلت
مرتا تخدم، وعلم جمع كثير من اليهود فجاؤوا إليه، ولينظروا إلى لعازر الذي أقامه من بين الأموات، وتشاور عظماء الكهنة أن يقتلوا لعازر، لأن كثيراً من اليهود من أجله كانوا يؤمنون بيسوع، وكان الجمع الذي معه يشهد له أنه دعا لعازر من القبر وأقامه، ومن الغد سمعوا أن يسوع يأتي إلى يروشليم، فخرجوا للقائه يصرخون: مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل! ووجد يسوع حماراً فركبه - كما هو مكتوب: لا تخافي يا بنت صيون! هوذا ملكك يأتيك راكباً على جحش - ابن أتان - ثم قال: وقال يسوع: قد قربت الساعة التي يمجد فيها ابن البشر، الحق الحق أقول لكم! إنه حبة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتَمُتْ بقيت وحدها، وإن هي ماتت أتت بثمار كثيرة، من أحب نفسه فليهلكها، ومن أبغض نفسه في هذا العالم فإنه يحفظها لحياة الأبد، وقال: يا رباه! مجد اسمك، فجاء صوت من السماء: قد مجدتُ وأيضاً أمجد، فسمع الجمع الذي كان واقفاً فقال بعضهم: إنما كان رعداً، وقال آخرون: إن ملاكاً كلمه، قال يسوع: ليس من أجلي كان هذا الصوت، ولكن من أجلكم،
وقد حضر الآن دينونة هذا العالم، الآن يلقى رئيس هذا العالم إلى خارج، وأنا إذا ارتفعت من الأرض جبيت إليّ كل واحد، فأجاب الجمع: نحن سمعنا في الناموس أن المسيح يدوم إلى الأبد، فكيف تقول أنت: يرتفع ابن البشر، فقال لهم يسوع: إن النور معكم زماناً يسيراً، فسيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام، إن الذي يمشي في الظلام ليس يدري أين يتوجه، فما دام لكم النور آمنوا بالنور لتكونوا أبناء النور؛ تكلم يسوع بهذا ثم مضى وتوارى عنهم، وقال: يا بني! أنا معكم زماناً قليلاً، وتطلبوني فلا تجدوني، وكما قلت لليهود: إن الموضع الذي امضي إليه أنا، لستم تقدرون على المضي إليه، قال يوحنا في محاورته ليهود في الهيكل: قال يسوع: أنا أمضى وتطلبوني وتموتون بخطاياكم، وحيث أنا أذهب لستم تقدرون على إتيانه، فقال اليهود: لعله يريد أن يقتل نفسه، فقال لهم: أنتم من أسفل، وأنا من فوق، أنتم من هذا العالم، وأما أنا فلست من هذا العالم، قد أخبرتكم أنكم تموتون بخطاياكم، فقالوا له: أنت من أنت؟ ثم قال: وقالوا له: إن أبانا هو إبراهيم، قال: لو كنتم بني إبراهيم كنتم تعملون أعمال إبراهيم، لكنكم تريدون قتل إنسان كلمكم بالحق الذي سمعه من الله تعالى، ولم يفعل إبراهيم هذا، أنتم تعملون أعمال أبيكم؟ فقالوا: أما نحن فلسنا مولودين من زنى،
فقال لهم: أنتم من أبيكم إبليس، وشهوة أبيكم تهوون إن لم تعملوا ذلك، الذي هو من البدء قتّال الناس ولم يلبث على الحق لأنه ليس فيه حق، وإذا ما تكلم بالكذب فإنما يتكلم بما هو له، وأما أنا فأتكلم بالحق ولستم تؤمنون بي، من منكم يوبخني على خطيئة - انتهى، وأقول لكم الآن أن يحب بعضكم بعضاً كما أحببتكم، فبهذا يعرف كل أحد أنكم تلاميذي، وقال يسوع: من يؤمن بي ليس من يؤمن بي فقط، بل وبالذي أرسلني، ومن رآني فقد رأى الذي أرسلني، أنا جئت نور العالم لكي ينجو كل من يؤمن بي من الظلام، ومن يسمع كلامي ولا يؤمن بي أنا لا أدينه، لأني لم آت لأدين العالم، بل لأحيي العالم، من جحدني ولم يقبل كلامي فإن له من يدينه، الكلمة التي نطقت بها هي تدينه في اليوم الآخر، لأني لم أتكلم من نفسي، لأن الرب الذي أرسلني هو أعطاني الوصية، ثم قال: الحق الحق أقول لكم! من يؤمن بي يعمل الأعمال التي أعملها، وأفضل منها يصنع، إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب يعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد - روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه، لأنهم لم يروه ولم يعرفوه، وأنتم تعرفونه، لأنه مقيم عندكم وهو فيكم، لست أدعكم يتامى لأني سوف أجيئكم عن قليل، من يحبّني يحفظ كلمتي، ومن لا يحبني ليس يحفظ كلامي، الكلمة التي تسمعونها
ليست لي، بل للرب الذي أرسلني، كلمتكم بهذا لأني عندكم مقيم، والفارقليط روح القدس الذي يرسله ربي باسمي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلت لكم، السلام استودعتكم، سلامي خاصة أعطيكم، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع، قد سمعتم أني قلت لكم: إني منطلق وعائد إليكم، لو كنتم تحبوني لكنتم تفرحون بمضيّي إلى الرب، لأن الرب أعظم مني، وها قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون، ولست أكلمكم كثيراً لأن أركون العالم يأتي وليس له فيّ شيء، ولكن ليعلم العالم أني أحب الرب، وكما أوصاني الرب كذلك أفعل، أنا هو الكرمة الحقيقية وربي الغارس، كل غصن لا يأتي بثمار ينزعه، والذي يأتي بثمار ينقيه ليأتي بثمار كثيرة، أنتم لتيامن هذا الكلام الذي كلمتكم به اثبتوا فيّ وأنا فيكم، كما أن الغصن لا يطيق أن يأتي بالثمار من عنده إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم إن لم تثبتوا فيّ، أنا هو الكرمة وأنتم الأغصان، من ثبت فيّ وأنا فيه يأتي بثمار كثيرة، وبغيري لستم تقدرون تعملون شيئاً، فإن لم يثبت أحد فيّ طرح خارجاً مثل الغصن الذي يجني فيأخذونه ويطرحونه في النار فيحترق، وإن أنتم ثبتم فيّ وثبت كلامي فيكم كان لكم كل ما تريدونه، وبهذا يمجد ربي بأن تأتوا
بثمار كثيرة، وأنتم أحبابي إن علمتم كل ما وصيتكم به، إنما وصيتكم بهذا لكي يحب بعضكم بعضاً، فإن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم، لو كنتم من العالم كان العالم يحب من هو منه، لكنكم لستم من العالم، بل اخترتكم من العالم، من أجل هذا يبغضكم العالم، لو لم آت وأكلمهم لم يكن لهم خطيئة، والآن ليس لهم حجة في خطيئتهم، لو لم أعمل أعمالاً لم يعملها أحد لم يكن لهم خطيئة، لتتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني باطلاً، إذا جاء الفارقليط الذي أرسله إليكم - روح الحق الذي من الرب بسق - هو يشهد وأنتم تشهدون، لأنكم معي صفوة، كلمتكم بهذا لكيلا تشكون، فإنهم سوف يخرجونكم من مجامعهم، ولم أخبركم بهذا من قبل لأني كنت معكم، والآن فإني منطلق إلى من أرسلني، أقول لكم الحق! إنه خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط، فإذا انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء ذاك فهو موبخ العالم على الخطيئة، وإن لي كلاماً كثيراً أريد أن أقول لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن، وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما يأتي، وهو
مجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم، قليلاً ولا ترونني، وقليلاً وترونني، قالوا: ما هذا القليل الذي يقول؟ فقال لهم: أفي هذا يراطن بعضكم بعضاً، الحق أقول لكم! إنكم تبكون وتنوحون والعالم يفرح، وأنتم تحزنون لكن حزنكم يؤول إلى فرح، كالمرأة إذا حضر ولادها تحزن لأن قد جاءت ساعتها، فإذا ولدت ابناً لم تذكر الشدة من أجل الفرح، لأنها ولدت إنساناً في العلم؛ تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه إلى السماء وقال: يا رب! قد حضرت الساعة فمجد عبدك ليمجدك عبدك، كما أعطيته السلطان على كل ذي جسد، ليعطي كل من أعطيته حياة الأبد، وهذه هي حياة الأبد أن يعرفوك أنك أنت إله الحق وحدك، والذي أرسلته يسوع المسيح، أنا قد مجدتك على الأرض، ذلك العمل الذي أعطيتني لأصنعه قد أكمت، والآن مجدني أنت يا رباه بالمجد الذي عندك، قد أظهرت اسمك للناس، الآن علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك، وعلموا حقاً أني من عندك أتيت، وآمنوا أنك أرسلتني، وأنا أجيء إليك أيها الرب القدوس! احفظهم باسمك الذي أعطيتني كي يكونوا واحداً كما نحن، إذ كنت معهم في العالم أنا كنت أحفظهم باسمك، ليس أسأل أن تنزعهم من العالم، بل أن نحفظهم من الشرير، لأنهم ليسوا من العالم، كما أني لست من العالم، قدسهم بحقك فإذا كلمتك خاصة هي الحق، كما أرسلتني إلى العالم
أرسلتهم أنا أيضاً إلى العالم، ولست أسأل في هؤلاء فقط، بل وفي الذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بأجمعهم واحداً، كما أنك يا رباه فيّ وأنا فيك ليكونوا أيضاً فيناً واحداً، ليؤمن العالم أنك أرسلتني؛ قال يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عين عمرة وادي الأرز، وكان هناك بستان، دخله هو وتلاميذه، وكان يهودا الذي أسلمه يعرف ذلك المكان، لأن يسوع كان يجتمع هناك مع تلاميذه كثيراً، وقبل عيد الفسح كان يسوع يعلم أن قد حضرت الساعة التي ينتقل فيها من هذا العالم، فلما حضر العشاء خامر الشيطانُ قلبَ يهودا شمعون الإسخريطي لكي يسلمه، فقام يسوع عن العشاء وترك ثيابه وائتزر وسطه بمنديل، وبدأ يغسل أقدام التلامذة وينشفها بمنديل كان مؤتزراً به، فلما انتهى إلى شمعون الصفا قال له: أنت يا سيدي تغسل لي قدمي؟ فقال يسوع: إن الذي أصنعه لست تعرفه الآن، ولكنك ستعرفه فيما بعده، قال له شمعون الصفا: إنك لست غاسلاً لي قدمي الآن، قال له يسوع: إن أنا لم أغسلهما فليس لك معي نصيب، قال شمعون: يا سيدي! ليس تغسل لي قدمي فقط، بل ويدي ورأسي، قال له يسوع:
إن الذي يطهر لا يحتاج إلا إلى غسل قدمي؛ فلما غسل أرجلهم تناول ثيابه واتكأ وقال لهم: تعلمون ما صنعت بكم؟ أنتم تدعونني معلماً ورباً، وما أحسن ما تقولون! فإذا كنت أنا معلمكم وربكم قد غسلت أقدامكم فأنتم أحرى أن يغسل بعضكم أرجل بعض، والحق الحق أقول لكم! ليس عبد أعظم من سيده ولا رسول أعظم ممن أرسله وقال: اتلحق والحق أقول لكم! إن واحداً منكم يسلمني؛ وقال متى: ولما كان يسوع في بيت عنيا في بيت شمعون الأبرص جاءت امرأة معها قارورة طيب كثير الثمن فأفاضته على رأسه وهو متكىء، حينئذ مضى أحد الاثني عشر - أي الحواريين الذي سيذكرون في المائدة والأنعام بأسمائهم - وهو الذي يقال له يهودا الإسخريطي إلى رؤساء الكهنة وقال لهم: ماذا تعطوني حتى أسلمه إليكم؟ فأقاموا له ثلاثين من الفضة، ومن ذلك الوقت جعل يطلب فرصة ليسلمه، وفي أول يوم الفطير - قال مرقس: لما ذبحوا الفسح - قال له تلاميذه: أين تريد حتى نستعد لتأكل الفسح؟ فقال: اذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولوا له: المعلم يقول: زماني قد اقترب، وعندك أصنع الفسح مع تلاميذي، ففعل التلاميذ كما أمرهم يسوع وأعدوا الفسح، وقال لوقا: وكان في النهار يعلم في الهيكل، ويخرج في الليل ليستريح في الجبل الذي يدعى جبل الزيتون، وكان جميع الشعب يدلجون إليه ليسمعوا منه وكان لما قرب عيد الفطير المسمى بالفسح
تطلّب الكهنة كيف يهلكونه، وكانوا يخافون من الشعب، فدخل الشيطان في يهودا الذي يدعى الإسخريطي الذي كان من الأثني عشرة، فمضى وكلم رؤساء الكهنة ليسلمه إليهم، ففرحوا ووعدوه، وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم مفرداً عن الجمع، فجاء يوم الفطير الذي يذبح فيه الفسح، فأرسل بطرس ويوحنا وقال: امضيا وأعدا لنا الفسح، ثم قال: فانطلقا وأعدا الفسح، ولما كان المساء اتكأ مع الاثني عشر تليمذاً، قال: فقال لهم: شهوة اشتهيت أن آكل معكم الفسح، فإني أقول لكم: إني أيضاً لا آكل منه حتى يتم في ملكوت الله؛ وقال متى: وفيما هم يأكلوا قال: الحق أقول لكم! إن واحداً منكم يسلمني، فحزنوا جداً وشرع كل واحد منهم يقول: لعلي أنا هو؛ وقال يوحنا: وقال: الحق الحق أقول لكم! إن واحداً منكم يسلمني، فنظر التلاميذ بعضهم إلى بعض، وكان واحداً من تلاميذه متكئاً في حضن يسوع، وهو الذي كان يسوع يحبه، فأومأ شمعون الصفا إليه أن يعلمه مَن الذي قال لأجله؛ فوقع ذلك التلميذ على صدر يسوع وقال له: يا سيدي! من هذا؟ فقال يسوع: هو الذي أبلّ خبزاً وأناوله، فبلّ خبزاً ودفعه إلى شمعون الإسخريوطي، وقال متى: فقال: الذي يجعل يده معي في الصحفة هو يسلمني؛ وابن الإنسان ماضٍ كما كتب
من أجله، الويل لذلك الإنسان الذي يسلم ابن الإنسان، حبذا له لو لم يولد، أجابه يهودا مسلمه وقال: لعلي أنا هو يا معلم! قال: أنت، قال: فسبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون؛ وقال لوقا: فقال لهم: إن ملوك الأمم هم ساداتهم، والمسلطون عليهم يدعون المحسنين إليهم، فأما أنتم فليس كذلك، لكن الكبير منكم يكون كالصغير والمقدم كالخادم، من أكبر؟ المتكىء أم الذي يخدم؟ أليس المتكىء فأما أنا في وسطكم فمثل الخادم، وأنتم الذي صبرتم معي في تجاربي، وأنا أعد لكم كما وعدني ربي الملكوت، لتأكلوا وتشروبوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كرسيّ، وتدينوا اثني عشر سبط إسرائيل - إلى أن قال: ثم خرج كالعادة ومضى إلى جب الزيتون، ومعه أيضاً تلاميذه، فلما انتهى إلى المكان قال لهم: صلوا لئلا تدخلوا التجربة، وانفرد عنهم كرمية حجر وخرَّ على ركبتيه فصلى؛ وقال متى: حينئذ قال لهم يسوع: كلكم تشكون في هذه الليلة، لأنه مكتوب: أضرب الراعي، تفرق خراف الرعية، فأجاب بطرس وقال له: لو شك جميعهم لم أشك أنا، قال له يسوع: الحق أقول لك! في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات؛ وقال يوحنا: الحق الحق أقول لكم! لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاثاً، لا تضطرب قلوبكم، آمنوا بالله وآمنوا بي؛
وقال متى: قال له بطرس: لو ألجئت إلى أن أموت معك ما أنكرت؛ وقال مرقس: فتمادى بطرس وقال: يا أبت! وإن اضطررت إلى أن أموت معك ليس أنكرك، وهكذا قال جميع التلاميذ، حينئذ جاء معهم إلى قرية تدعى جسمانية، فقال للتلاميذ: اجلسوا ها هنا لأمضي أصلي هناك، امكثوا واسهروا معي، وبعد ذلك خرَّ على وجهه يصلي، وجاء إلى التلاميذ فوجدهم نياماً، قال مرقس: فقال البطرس: يا شمعون! أنت نائم؟ ما قدرت تسهر معي ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا التجارب، أما الروح فمستبشرة، وقال مرقس: فمستعدة، وأما الجسد فضعيف، ومضى أيضاً وصلى، وجاء أيضاً فوجدهم نياماً، لأن عيونهم كانت ثقيلة، فتركهم؛ ومضى أيضاً يصلي، قال لوقا: وظهر له ملاك من السماء ليقويه، وكان يصلي تواتراً، وكان عرفه كعبيط الدم نازلاً على الأرض! وقال متى: حينئذ جاء إلى التلاميذ وقال لهم: ناموا الآن واستريحوا! قد اقتربت الساعة، وفيما هو يتكلم إذ جاء يهودا الإسخريوطي أحد الاثني عشر، معه جمع كثير بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب، والذي أسلمه أعطاهم علامة وقال: الذي أقبّله هو هو فأمسكوه، وجاء إلى يسوع وقال له: السلام يا معلم!
وقبّله فقال له يسوع: يا هذا! ألهذا جئت؟ حينئذ جاؤوا فوضعوا أيديهم على يسوع وقبضوا عليه، ثم قال: في تلك الساعة قال يسوع للجموع: كأنكم قد خرجتم إلى لص بالسيوف والعصيّ لتأخذوني، في كل يوم كنت أجلس عندكم أعلِّم في الهيكل فما قبضتم عليّ، وهذا كله كان لتكميل كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وقال يوحنا: إن يهودا أخذ جنداً من عند عظماء الكهنة والفريسيين وشرطاً، وجاء إلى هناك بسرج ومصابيح وسلاح، ويسوع كان عارفاً بكل شيء يأتي عليه، فخرج وقال لهم: من تطلبون؟ قالوا: يسوع الناصري، قال: أنا هون وكان يهودا واقفاً معهم، فلما قال: أنا هو، رجعوا إلى ورائهم وسقطوا على الأرض، فقال يسوع: إن كنتم تطلبوني فدعوا هؤلاء يذهبوا، لتتم الكلمة التي قالها: إن الذي أعطيتني لن يهلك منهم أحد؛ وقال متى: حينئذ تركه تلاميذه كلهم وهربوا، والذين أخذوا يسوع اقتادوه إلى دار قيافا رئيس الكهنة، وأما بطرس فأتبعه على بُعُد منه إلى دار رئيس الكهنة، ودخل إلى داخلها وجلس مع الخدام لينظر التمام، وقال مرقس: وجلس مع الخدام عند النار
يصطلي؛ وقال يوحنا: وإن شمعون الصفا والتلميذ الآخر - يعني الذي تقدم أن عيسى كان يحبه - تبعا يسوع، وكان عظيم الكهنة يعرف ذلك التلميذ، فدخل يسوع إلى دار عظيم الكهنة، فأما شمعون فكان واقفاً خارج الباب، فخرج التلميذ الآخر الذي كان معارف رئيس الكهنة، فقال للبوابة وأدخل شمعون بطرس، فقالت الجارية البوابة لشمعون: أما أنت من تلاميذ هذا الرجل؟ فقال لها: لا! وكان العبيد والشرط قياماً يوقدون ناراً ليصطلوا، لأنها كانت ليلة باردة، وقام شمعون معهم أيضاً يصطلي: قال متى: فقال رئيس الكهنة: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا إن كنت أنت هو المسيح! قال له يسوع: أنت قلت؛ ثم ذكر أنهم أفتوا بقتله وقال: عند ذلك بصقوا في وجهه وستروا وجهه بثوب ولطموا وجهه فوقه قائلين: أيها المسيح! بين لنا مَنْ هو الذي ضربك؟ قال مرقس: وبينما بطرس في أسفل الدار جاءت فتاة من جواري رئيس الكهنة فقالت له: وأنت أيضاً قد كنت مع يسوع الناصري؛ وقال متى: مع يسوع الجليلي، وقال لوقا: فلما رأته جارية جالساً عند الضوء ميزته فقالت: هذا أيضاً كان معه، فأنكر وقال: ما أعرفه؛ وقال متى: فجحد بين أيديهم أجمعين، وعند خروجه إلى الباب أبصرته جارية أخرى فقالت: وهذا أيضاً كان مع
يسوع الناصري، فجحد أيضاً بيمين: إني لست أعرف الرجل، وبعد قليل تقدم الوقوف فقالوا لبطرس: بالحقيقة إنك منهم أنت! لأن كلامك يدل عليك؛ وقال مرقس: وأنت جليلي وكلامك يشبه كلامهم، وقال: حينئذ أقبل بطرس يلعن ويحلف: إني لست أعرف الإنسان، وفي الحال صاح الديك، فذكر بطرس كلمة يسوع: قبل أن يصيح الديك، تجحدني ثلاثاً، فخرج إلى خارج وبكى بكاءً مُرّا.
ولما كان الصبح عملوا كلهم مؤامرة على يسوع حتى يميتوه فربطوه وساقوه إلى بيلاطيس النبطي، ولما أبصر يودس - يعني يهودا الإسخريوطي - أنه قد حكم عليه تندم ورد الثلاثين الفضة على رؤساء الكهنة قائلاً: قد أخطأت إذ أسلمت دماً زكياً، فقالوا: ما علينا! فطرح الفضة في الهيكل ومضى فخنق نفسه، فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا: لن يجوز لنا أن نلقيها في داخل الزكاة، لأنها ثمن دم، فتشاوروا وابتاعوا حقل الفاخوري لدفن الغرباء، لذلك دعي ذلك الحقل حقل الدم إلى اليوم، حينئذ تم قول إرميا النبي القائل: وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن الدم الذي ثمنه بنوا إسرائيل، وجعلوها في حقل الفاخوري على ما رسم لي؛ وأما يسوع فوقف أمام الوالي،
ثم ذكر أن الوالي كان كارهاً لقتله، وأن امرأته أرسلت إليه تقول: إياك ودم ذاك الصديق، فإني توجعت في هذا اليوم كثيراً من أجله في الحلم، وأنه اجتهد بهم ليطلقوه فأبوا إلا صلبه، وصاحوا عليه، وأنه قال لهم: أي شر عمل؟ فازدادوا صياحاً وقالوا: يصلب؛ فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع وقال: إنني بريء من دم هذا الصديق، فقالوا: دمه علينا وعلى أولادنا، وقال لوقا: وإن بيلاطس قال لرؤساء الكهنة: أنا لم أجد على هذا الإنسان علة - حتى قال: فلما علم أنه من سلطان هيرودس - يعني من الجليل - أرسله إلى هيرودس، لأنه كان في تلك الأيام بيروشليم، وأن هيرودس لما رأى يسوع فرح جداً، لأنه كان يشتهي أن يراه من زمان طويل لما كان يسمع عنه من الأمور الكثيرة، وكان يرجو أن يعاين آية يعملها، وسأله عن كلام كثير ذكره، وذكر أنه لم يجبه، فاحتقره هيرودس وجنده واستهزؤوا به وألبسه ثياباً حمراء، وأرسله إلى بيلاطس وصار بيلاطس وهيرودس صديقين في ذلك اليوم، لأنه كان بينهما عداوة، ثم ذكر أن بيلاطس قال لهم: لم أجد عليه علة آخذة بها، ولا هيرودس أيضاً، وأنهم لم يقبلوا منه ذلك وصاروا يصيحون: اصلبه اصلبه، وقال يوحنا: ثم جلس -
يعني بيلاطس - على كرسي في موضع يعرف برصيف الحجارة، وبالعبرانية يسمى جاحلة؛ ثم ذكر جميع نقلة أناجيلهم أنهم صلبوه بين لصّين، وأنهم كانوا يستهزئون به حتى اللصان المصلوبان؛ قال مرقس: فلما كانت الساعة السادسة تفشّت الأرض كلها ظلمة إلى الساعة التاسعة، وأنه صاح بصوت عظيم منه: إلهي! إلهي! لِمَ تركتني! فانشق ستر حجاب الهيكل باثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، وتشققت الصخور، وتفتحت القبور، وكثير من أجساد القدسين النيام قاموا من قبورهم، ودخلوا المدينة فظهروا لكثير، وكان هناك نسوة كثير ينظرن من بعيد، ومن اللاتي تبعن عيسى من الجليل منهم مريم المجدلانية، ومريم أم يعقوب الصغير، وأم يوسا، وأم ابن يزبدي، وقال يوحنا: وكان واقفاً عند صلبه أمه وأخت أمه مريم ابنة إكلاوبا ومريم المجدلية، ثم ذكروا أنه دفن؛ وذكر مرقس أنه كان يوم جمعة؛ وقال يوحنا: وأما اليهود - فلأنه يوم الجمعة - قالوا: هذه الأجساد لا تثبت على صلبها، لأن السبت كان عظيماً، ثم ذكر أنهم أنزلوهم، وأن عيسى دفن؛ وقال متى: إن الملك جاء
بعد ثلاث وأقامه، وقال للنسوة: إنه قد قام فأسرعن فقلن لتلاميذه: هوذا سبقكم إلى الجليل، وإن رؤساء اليهود رشوا الجند الذين كانوا يحرسون قبره ليقولوا: إن تلاميذه سرقوه من القبر، فقالوا وشاع ذلك عند اليهود إلى اليوم، فأما الأحد عشر تلميذاً فمضوا إلى الجليل الذي أمروا به، فلما رأوه سجدوا له، وبعضهم شك؛ وقال لوقا: وفيما هم يتكلمون وقف عيسى إلى وسطهم، وقال لهم: السلام عليكم يا هؤلاء! لا تخافوا! فاضطربوا وخافوا وظنوا أنهم ينظرون روحاً، فقال لهم: ما بالكم تضطربون؟ وِلمَ يأتي الإنكار في قلوبكم؟ انظروا يدي ورجلي فإني أنا هو، جسّوني وانظروا إليّ! الروح ليس له لحم ولا عظم، كما ترون أنه لي، ولما قال هذا أراهم يديه ورجليه، وإذا هم غير مصدقين من الفرح والتعجب، وقال لهم: أعندكم هاهنا ما يؤكل؟ فأعطوه جزءاً من حوت مشوي ومن شهد عسل، فأخذ قدامهم وأكل، وأخذ الباقي وأعطاهم، ثم قال: ثم أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا فرفع يديه وباركهم، وكان فيما هو يباركهم انفرد عنهم، وصعد إلى السماء؛ وقال يوحنا: إنه قال لمريم: امضي إلى إخوتي وقولي لهم: إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي والهكم؛ وقال متى: فجاء
يسوع فكلمتهم فقال: أعطيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض فاذهبوا الآن وتلمذوا كل الأمم.
انتهى ما أردته هنا من الأناجيل من هذه القصة، فقد بان لك أن أناجيلهم كلها اتفقت على أن علمهم في أمره انتهى إلى واحد، وهو الإسخريوطي، وأما غيره من الأعداء فلم يكن يعرفه، وأنه إنما وضع يده عليه، ولم يقل بلسانه: إنه هو، وأن الوقت كان ليلاً، وأن عيسى نفسه قال لأصحابه: كلكم تشكون في هذه الليلة، وأن تلاميذه كلهم هربوا، فلم يكن لهم علم بعد ذلك بما اتفق في أمره، وأن بطرس إنما تبعه من بعيد، وأن الذي دل عليه خنق نفسه، وأن الناقل لأن الملك قال: إنه قام من الأموات، إنما هو نسوة كن عند القبر في مدى بعيد، وما يدري النسوة الملك من غيره - ونحوه ذلك من الأمور التي لا تفيد غير الظن بالجهد، وأما الآيات التي وقعت فعلى تقدير تسليمها لا يضرنا التصديقُ بها، وتكون لجرأتهم على الله بصلب من يظنونه المسيح ومن أحسن ما في ذلك قوله بعد اجتماعهم به بعد رفعه: أعطيت كل سلطان، فأثبت أن المعطي غيره، وهذا كله يصادق القرآن في أنهم في شك منه، ويدل على أن المصلوب - إن صح أنهم صلبوه من ظنوه إياه - هو الذي دل عليه، كما
قال بعض العلماء: إنه ألقى شبهه عليه، ويؤيد ذلك قولهم: إنه خنق نفسه، فالظاهر أنهم لما لم يروه بعد ذلك ظنوا أنه خنق نفسه، فجزموه به - والله أعلم، وقوله: إنك يا رباه فيّ وأنا فيك، ليكونوا - أي التلاميذ - فينا، ونحوه مما يوهم حلولاً المراد به الاتحاد في المراد بحيث أن واحداً منهم لا يريد إلا ما يريد الآخر، ولا يرضى إلا ما يرضاه، فهو من وادي ما في الحديث القدسي
«كنت سمعه الذي يسمع به» - إلى آخره، وكذا إطلاق الابن والأب معناه أنه يعاملهم في لطفه معاملة الأب ابنة، فالمراد الغاية، كما يؤل ذلك في إطلاق الغضب والمحبة ونحو ذلك في حق الله تعالى في شرعنا، وقد مضى كثير من رد المتشابه في مثل ذلك إلى المحكم في آل عمران، ومضى في ذلك الموضع وغيره أن كل ما أوهم نقصاً لا يجوز في شرعنا إطلاقه على الله تعالى - والله الموفق.
ولما أنجز الكلام إلى أمر عيسى عليه الصلاة والسلام على هذا المنهاج البديع بما ذكر في نصائح اليهود وقبائح أفعالهم، وأنهم قصدوا قتله عليه الصلاة والسلام، فخاب قصدهم، واصلد زندُهم،
وقال رأيهم، ورد عليهم بغيهم، وحصل له بذلك أعلى المناصب وأولى المراتب؛ قال محققاً لما أثبته في الآية قبلها من القطع بكذبهم، مثبتاً أنهم في مبالغتهم في عداوته سيكونون من أتباعه المصدقين بجميع أمره الذي منه التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومؤكداً له أشد تأكيد لما عندهم من الإنكار له:{وإن} أي والحال أنه ما {من أهل الكتاب} أي أحد يدرك نزوله في آخر الزمان {إلا} وعزتي {ليؤمنن به} أي بعيسى عليه الصلاة والسلام {قبل موته} أي موت عيسى عليه الصلاة والسلام، أي إنه لا يموت حتى ينزل في آخر الزمان، يؤيد الله دين الإسلام، حتى يدخل فيه جميع أهل الملل، إشارة إلى أن موسى عليه الصلاة والسلام إن كان قد أيده الله تعالى بأنبياء كانوا يجددون دينه زماناً طويلاً، فالنبي الذي نسخ شريعة موسى - وهو عيسى عليهما الصلاة والسلام - هو الذي يؤيد الله به هذا النبي العربي في تجديد شريعته وتمهيد أمره والذب عن دينه، ويكون من أمته بعد أن كان صاحب شريعة مستقلة وأتباع مستكثرة، أمر قضاء الله في الأزل فأمضاه، فأطيلوا أيها اليهود أو أقصروا! فمعنى الآية إذن - والله أعلم - أنه ما من أحد من أهل الكتاب المختلفين في عيسى عليه الصلاة والسلام على شك إلا وهو يوقن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موته بعد نزوله
من السماء أنه ما قتل وما صلب، ويؤمن به عند زوال الشبهة - والله أعلم؛ روى الشيخان وأحمد وأبو بكر بن مردويه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً وإماماً عادلاً، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها» ؛ وفي رواية: وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين؛ وفي رواية: حتى يهلك الله الملل كلها غير الإسلام، فيهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} الآية: موت عيسى عليه الصلاة والسلام ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات - ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد؛ وفي رواية: ويفيض المال حتى لا يقبله أحد؛ ولمسلم عنه رضي الله عنه: كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؛ وفي رواية: فأمكم منكم، قال الوليد بن مسلم - أحد رواة الحديث: قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قلت تخبرني! قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم؛
ولمسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيقول أميرهم: تعال صل لنا! فيقول: لا! إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة؛ وروى عن ابن عباس ومحمد بن علي المشهور بابن الحنفية رضي الله عنهم أن المعنى: ألا ليؤمنن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موت ذلك الكتابي عند الغرغرة حين لا ينفعه الإيمان، ليكون ذلك زيادة في حسرته، قال الأصبهاني: وتدل على صحة هذا التأويل قراءة أبيّ: ليؤمنن قبل موتهم - بضم النون.
ولما أخبر تعالى عن حالهم معه في هذه الدار أتبعه فعله بهم في تلك فقال: {ويوم القيامة} أي الذي يقطع ذكره القلوب، ويحمل التفكر فيه على كل خير ويقطع عن كل شر {يكون} وأذن بشقائهم بقوله:{عليهم شهيداً} أي بما عملوا؛ ولما أذن حرف الاستعلاء في الشهادة بأنه لا خير لهم في واحد من الدارين، وبأن التقدير: فبظلمهم، سبب عنه قوله دلالة على أن التوراة نزلت منجمة:{فبظلم} أي عظيم جداً راسخ ثابت، وهو جامع لتفصيل نقض الميثاق وما عطف
عليه مما استحلوه بعد أن حرمته التوارة، وقال مشيراً إلى زيادة تبكيتهم:{من الذين هادوا} أي تلبسوا باليهودية في الماضي ادعاء أنهم من أهل التوراة والرجوع إلى الحق، ولم يضمر تعييناً لهم زيادة في تقريعهم {حرمنا عليهم طيبات أحلت} أي كان وقع إحلالها في التوراة {لهم} كالشحوم التي ذكرها الله تعالى في الأنعام.
ولما ذكر ظلمهم ذكر مجامع من جزئياته، وبدأها بإعراضهم عن الدين الحق، فقال معيداً للعامل تأكيداً له:{وبصدهم عن سبيل الله} أي الذي لا أوضح منه ولا أسهل ولا أعظم، لكون الذي نهجه له من العظمة والحكمة ما لا يدرك، و «صد» يجوز أن يكون قاصراً فيكون {كثيراً *} صفة مصدر محذوف، وأن يكون متعدياً فيكون مفعولاً به، أي وصدهم كثيراً من الناس بالإضلال عن الطريق، فمُنِعوا مستلذات تلك المآكل بما مَنَعوا أنفسهم وغيرهم من لذاذة الإيمان.
ولما ذكر امتناعهم ومنعهم من المحاسن التي لا أطيب منها ولا أشرف، أتبعه إقدامهم على قبائح دنية فيها ظلمهم للخلق فقال:{وأخذهم الربا} أي وهو قبيح في نفسه مُزرٍ بصاحبه {وقد} أي الحال أنهم قد {نهوا عنه} فضموا إلى مخالفة الطبع السليم الاجتراء على انتهاك حرمة الله العظيم.
ولما ذكر الربا أتبعه ما هو أعم منه فقال: {وأكلهم أموال الناس بالباطل} أي سواء كانت رباً أو رشوة أو غيرهما؛ ولما ذكر بعض ما عذبهم به في الدنيا أتبعه جزاءهم في الآخرة، فقال عاطفاً على قوله «حرمنا» :{وأعتدنا للكافرين} أي الذين صار الكفر لهم صفة راسخة فماتوا عليه؛ ولما علم أن منهم من يؤمن فيدخل الجنة فقال: {منهم} ولما كان الجزاء من جنس العمل قال: {عذاباً أليماً *} أي بسبب ما آلموا الناس بأكل أموالهم وتغطيتهم على حقوقهم من الفضائل والفواضل.
ذكرُ تحريم المال بالربا وغيره من أنواع الباطل بنص التوراة، قال في السفر الثاني بعد ما قدمتهُ في البقرة من الأمر بالإحسان إلى الناس والنهي عن أذاهم: وإن أسلفت ورقك للمسكين الذي معك من شعبي فلا تكونن له كالغريم ولا تأخذن منه رباً؛ وقال في الثالث: وإن افتقر أخوك واستعان بك فلا تتركه بمنزلة الغريب الساكن معك، بل وسع عليه، وإياك أن تأخذ منه رباً أو عينة، لا تقرضه بالعينة؛ وقال في الخامس: ولا تطعموا بيت الله ربكم أجر زانية ولا ثمن كلب، ولا تأخذوا من إخوتكم رباً في فضة ولا في طعام ولا في شيء مما تعانونه،
وأما الغريب فخذوا منه إن أحببتم؛ فقد ثبت من توراتهم النهيُ عن الربا، وأما تخصيصه بالغريب فتبديل منهم بلا ريب، بدليل ما قدمته عنها في البقرة عند قوله تعالى:{إن الذين آمنوا والذين هادوا} [البقرة: 62] من النهي عن غدر العدو، وعند قوله تعالى:{لا تعبدون إلا الله} [البقرة: 83] من الإحسان إلى عامة الناس لا سيما الغريب - والله الموفق.
ولما بين تعالى ما للمطبوع على قلوبهم الغريقين في الكفر من العقاب، بين ما لنّيري البصائر بالرسوخ في العلم والإيمان من الثواب فقال:{لكن الراسخون في العلم منهم} أي الذي هيئت قلوبهم في أصل الخلقة لقبول العلم فأبعد عنها الطبع، وجلت الحكمة، ورسخت بالرحمة، فامتلأت من نور العلم، وتمكنت بأنس الإيمان.
ولما ذكر نعت العلم المفيد لجميع الفضائل أبتعه ما نشأ عنه فقال: {والمؤمنون} أي الذين هيئوا للإيمان ودخلوا فيه، فصار لهم خلقاً لازماً، منهم ومن غيرهم {يؤمنون} أي يجددون الإيمان في كل لحظة {بما أنزل إليك} لأنهم أعرف الناس بأنه حق {وما أنزل من
قبلك} أي على موسى عليه الصلاة والسلام، وبسبب إيمانهم الخالص أمنوا بما أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم بما أنزل إليك.
ولما كانت الصلاة أعظم دعائم الدين، ولذلك كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر، نصبت على المدح من بين هذه المرفوعات إظهاراً لفضلها فقال تعالى:{والمقيمين الصلاة} أي بفعلها بجميع حدودها، ويجوز على بُعد أن يكون المقتضي لنصبها جعل «لكن» بالنسبة إليها بمعنى «إلا» وتضمينها لفظها، لما بينهما من التآخي، فيكون المعنى أنهم مستثنون ممن أعد لهم العذاب الأليم على معنى أن الله سبحانه وتعالى وهو الفاعل المختار - سبق علمه بأن مقيم الصلاة بجميع حدودها لا يموت كما يموت كافر بل تناله بركتها فيسلم وهذا أعظم مدح لها والحاصل أن (لكن) استعيرت لمعنى (إلا) بجامع أن ما بعد كل منهما مخالف في الحكم لما قبله كما استعيرت «إلا» لمعنى «لكن» في الاستثناء المنقطع.
ولما كان الرجوع بما بعدها إلى الأسلوب الماضي أبين في مدحها قال: {والمؤتون الزكاة} ولما ذكر أنهم جمعوا إلى صلة الخالق
الإحسان إلى الخلائق ذكر الإيمان بانياً على عظمته مفصلاً له بعض التفصيل ومشيراً غلأآ أن نفعه كما يشترط أن يكون فاتحاً يشترط أن يكون خاتماً فقال: {والمؤمنون بالله} أي مستحضرين ما له من صفات الكمال، وضم إليه الحامل على كل خير والمقعد عن كل شر ترغيباً وترهيباً فقال:{واليوم الآخر} فصار الإيمان مذكوراً خمس مرات، فإن هذه الأوصاف لموصوف واحد عطفت بالواو تفخيماً لها وإشارة إلى أن وصف الرسوخ في العلم مقتض لأنهم في الذروة من كل وصف منها والاتصافُ بكل منها يتضمن الإيمان بيوم الدين، فإنه لا يمدح أحد اتصف بشيء منها عرياً عن الإيمان به، لا جرم نبه على فخامة أمرهم وعلو شأنهم بأداة البعد فقال:{أولئك} أي العالو الرتبة والهمم، ولكون السياق في الراسخين العاملين أنهى في التأكيد بالسين لأن المكر هنا أقل منه في الأولى، ولم يعرف الأجر، ووصفه بالعظم فقال:{سنؤتيهم} أي بعظمتنا الباهرة بوعد لا خلف فيه {أجراً عظيماً} .
ولما كانت هذه الأوصاف منطبقة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكان من أحوالهم الوحي، قال تعالى إبطالاً لشبهتهم القائلة:
لو كان نبياً أتى بكتابه جملة من السماء كما أتى موسى عليه الصلاة والسلام بالتوارة كذلك، بإقرارهم بنبوة هؤلاء الأنبياء عليهم السلام مع كونهم ليس لهم تلك الصفة، ولم يكن ذلك قادحاً في نبوة أحد منهم ولا رسالته:{إنا} ويصح أن يكون هذا تعليلاً ليؤمنون، أي إنهم آمنوا بما أنزل إليك لأنا {أوحينا إليك كما} أي مثل ما {أوحينا إلى نوح} وقد آمنوا بما به لما أتى به من المعجز الموجب للإيمان من غير توقف على معجز آخر ولا غيره، لأن إثبات المدلول إنما يتوقف على ثبوت الدليل، فإذا تم الدليل كانت المطالبة بدليل آخر طلباً للزيادة وإظهاراً للتعنت واللجاج - والله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ولما كان مقام الإيحاء - وهو الأنبياء - من قِبَل الله تعالى قال: {والنبيِّين من بعده} أي فهم يعلمون ذلك بما لهم من الرسوخ في العلم وطهارة الأوصاف، ولا يشكون في أن الكل من مشكاة واحدة، مع أن هذا الكتاب أبلغ، والتعبير فيه عن المقاصد أجلى وأجمع، فهم إليه أميل، وله أقبل، وأما المطبوع على قلوبهم، الممنوعون من رسوخ العلم فيها بكثافة الحجاب، حتى أنها لا تنظر إلى اسراره إلا من وراء غشاء، فهم غير قابلين لنور العلم المتهيىء للإيمان، فأسرعوا إلى الكفر، وبادروا بالذل والصغار، وفي الآخرة بالسخط والنار.
ولما أجمل تعالى ذكر النبيين فصّل فقال منبهاً على شرف من ذكرهم وشهرتهم: {وأوحينا إلى إبراهيم} أي أبيكم وأبيهم كذلك {وإسماعيل} أي ابنه الأكبر الذي هو أبوكم دونهم {وإسحاق} وهو ابنه الثاني وأبوهم {ويعقوب} أي ابن إسحاق {والأسباط} أي أولاد يعقوب.
ولما أجمل بذكر الأسباط بعد تفصيل مَنْ قبلهم فصّل من بعدهم فقال: {وعيسى} أي الذي هو آخرهم من ذرية يعقوب {وأيوب} وهو من ذرية عيصو بن إسحاق على ما ذكروا {ويونس وهارون وسليمان} ولما كان المقام للتعظيم بالوحي، وكان داود عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب قال:{وآتينا داود زبوراً *} أي وهم يدعون الإيمان به مع اعترافهم بأنه لم ينزل جملة ولا مكتوباً من السماء.
ولما تم ما اقتضاه مقام النبوة، وكان فيهم رسل، وكان ربما قال متعنت: إن شأن الرسل غير شأن الأنيباء في الوحي، قال عاطفاً على ما تقديره من معنى «أوحينا» : أرسلنا من شئنا من هؤلاء الذين قصصناهم عليك هنا إلى من شئنا من الناس: {ورسلاً} أي غير هؤلاء {قد قصصناهم} أي تلونا ذكرهم {عليك} ولما كان القص عليه غير مستغرق للزمان الماضي قال: {من قبل} أي من قبل إنزال هذه الآية {ورسلاً لم نقصصهم عليك} أي إلى الآن.
ولما كان المراد أنه لا فرق بين النبي والرسول في الوحي نبه على ذلك بقوله: {وكلم الله} أي الذي له الكمال كله فهو يفعل ما يريد لا أمر لأحد معه {موسى تكليماً *} أي على التدرج شيئاً فشيئاً بحسب المصالح من غير واسطة ملك، فلا فرق في الوحي بين ما كان بواسطة وبين ما كان بلا واسطة، والمعنى أنكم لو كنتم إنما تتوقفون عن الإيمان ببعض الأنبياء تثبتاً لتعلموا أنه فعل به ما فعل بموسى عليه الصلاة والسلام من الكرامة، لم تؤمنوا بإبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط وهارون وغيرهم، فإنه خص بالتكليم دونهم، فلِمَ جعلتم الإتيان بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام شرطاً في الإيمان ببعض الأنبياء دون بعض؟ وإن جعلتم الشرط الإتيان بالكتاب جملة ومن السماء مدعين أنه كان له ذلك دون التكليم وغيره مما جعل له، كان ذلك - على تقدير التسليم تنزلاً - تحكماً وترجيحاً من غير مرجح، على أن التوراة أيضاً - كما تقدم بيانه - كهذا القرآن في إنزالها منجمة على حسب الوقائع على ما أشار إليه قوله (تكليماً) ولم يكتب منها جملة إلا اللوحان اللذان وضعا في تابوت الشهادة كما أنزل بعض سور القرآن جملة كسورة الأنعام، وليس في نزول موسى عليه الصلاة والسلام بهما من جبل الطور مكتوبَين دليل
على نزولهما من السماء ويدل على ذلك كثير من نصوصها أصرحها أنه تعالى حرم عليهم العمل في السبت عقب إخراجهم من البحر عند إنزال المن - كما بين في السفر الثاني منهما - ولم يبين كيف يفعل بالعاصي فيه إلا بعد ذلك بدهر، بدليل ما في السفر الرابع منها في قصة التيه: ومكث بنو إسرائيل في البرية ووجدوا رجلاً يحتطب حطباً يوم السبت، فقدمه الذين وجدوه يحتطب إلى موسى وهارون وإلى الجماعة كلها، وحبسوه في السجن، لأنه لم يكن أوحى إلى موسى كيف يصنع به؟ فقال الرب لموسى: يقتل هذا الرجل، يرجم بالحجارة خارجاً من العسكر، ورجمه الجماعة كلها بالحجارة ومات - كما أمر الرب موسى؛ ومنها أنه أمرهم - كما بين في السفر الثاني - بنصب قبة الزمان التي كانوا يصلون إليها، ويسمع موسى الكلام منها، ثم بعد ذلك بمدة أمرهم - كما بين في السفر الرابع - بالزيادة فيها؛ ومنها أنه كتب له الألواح في الطور: اللوحين اللذين كسرهما غضباً من اتخاذهم العجل، ثم لوحين عوضاً عنهما، ثم لما نصبت قبة الزمان صار سبحانه وتعالى يكلمه منها، وغالب أحكامهم إنما شرعت بالكلام الذي كان في قبة الزمان - كما هو في غاية الوضوح في التوراة؛ ومنها ما قال في أوخر السفر الخامس وهو آخرها: فلما أكمل موسى كتاب آيات هذه التوراة في السفر وفرغ منها، أمر موسى الأحبار الذين يحملون تابوت عهد الرب وقال لهم: خذوا سفر هذه السنن واجعلوه
في جوف تابوت عهد الله ربكم في جانب من جوانبه، ليكون هناك شاهداً، لأني قد عرفت جفاءكم وقساوة قلوبكم وما تصيرون إليه، وكيف لا يكون ذلك وقد أغضبتم الرب وأنا حي معكم؟ فمن بعد موتي أحرى أن تفعلوا ذلك، فليجتمع إليّ أشياخ أسباطكم وكتّابكم فأتلو عليهم هذه الأقوال، ولأشهد عليهم السماء والأرض، لأنكم مفسدون من بعد وفاتي، تحيدون عن الطريق الذي آمركم به، شر شديد في آخر الأيام إذا عملتم السيئات بين يدي الرب، وأغضبتموه بأعمال أيديكم، وقال موسى بين يدي جماعة بني إسرائيل: انصتي أيتها السماء فأتكلم، ولتسمع الأرض النطق من فيّ - وقال كلاماً كثيراً في ذمهم أذكره إن شاء الله تعالى في المائدة عند
{من لعنه الله وغضب عليه} [المائدة: 60] ثم قال: يقول الله: أسخطوني مع الغرباء بأوثانهم، وأغضبوني حين ذبحوا للشياطين - ومضى يتكلم من كلام الله الذي هو من أحسن التوراة إلى أن قال: فلما أكمل موسى هذه الآيات كلها لبني إسرائيل قال لهم: أقبلوا بقلوبكم إلى هذه الأقوال؛ ثم قال: وكلم الرب موسى ذلك اليوم وقال:
اصعد إلى جبل العبرانيين، هذا جبل نابو الذي في أرض مواب حيال إيريحا، وانظر إلى أرض كنعان التي أعطى بني إسرائيل ميراثاً - وذكر بعد ذلك كلاماً طويلاً فيها كلها لمن يتأملها كثير مما هو ظاهر في ذلك، بل صريح، وفي قصة نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ما هو صريح في أن الإيحاء إليهما كان منجماً - كما مضى عنهما في قصة إبراهيم عليه السلام في البقرة، ويأتي إن شاء الله تعالى في ذكر الأحبار في الأعراف وفي قصة نوح عليه الصلاة والسلام في سورة هود - والله الموفق، وقد ابتدأ سبحانه في هذه الآية بنوح عليه الصلاة والسلام أول أولي العزم وأصحاب الشرائع وجوداً، وهو من أوائل الأنبياء، وزمانه في القدم بحيث لا يعلم مقداره على الحقيقة إلا الله تعالى، ثم ثنى بثانيهم في الوجود وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم ذكر أولاده على ترتيبهم، والأسباط يحتمل أن يراد بهم أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام أنفسهم وقبائلهم، ويكون المعنى حينئذ: وأنبياء الأسباط، ويكون مما استعمل في حقيقته ومجازه، ويكون شاملاً لجميع أنبياء بني إسرائيل، ثم صرح ببعض من دخل منهم في العموم فبدأهم بآخرهم بعثاً
وهو عيسى عليه الصلاة والسلام الذي هو أحد نبي أهل الكتابين، وختم الآية بأحد أصحاب الكتب منهم، وهو جده المشهور بالنسبة إليه، فإن اليهود يقولون لعيسى عليه الصلاة والسلام: يا ابن داود! لأن أمه في ذريته، وختم الآية بأول نبي أهل الكتابين موسى عليه الصلاة والسلام الذي آخر آجرّ تبنى على الإسلام، فانتقله المنتمون إلى أتباعه، ووسّط أخاه هارون عليه الصلاة والسلام بين اثنين من أهل البلاء: أيوب ويونس واثنين من أهل الملك - وأحدهم صاحب كتاب - وهما سليمان وداود، وكل ذلك إشارة إلى أنه لا فرق في كيفية الإيحاء بحوما إلى الأنبياء بين متقدمهم ومتأخرهم، سواء كان من بني إسرائيل أو من غيرهم، وسواء منهم من أوتي الملك ومن لم يؤته، ومن أتى بكتاب ومن لم يأت؛ ومن لطائف هذا الترتيب أن المخصوصين بالذكر في الآية الأولى بعد دخولهم في العموم أحد عشر أسماء، الأسباط أحدها، والمشهور بالكتب والصحف منهم ثلاثة: إبراهيم وعيسى وداود، وقد وقع كل منهم سادساً لصاحبه، وهو العد الذي كان فيه الخلق، فلعل ذلك إشارة إلى أن الله لا يحب العجلة، فكما أنه لم يعجل في إنشاء الخلق فكذلك
لم يعجل بإنزال الكتب التي بها قوامهم وبقاؤهم دفعة، بل أنزلها منجمة تبعاً لمصالحهم وتثبيتاً لدعائمهم، ومن لطائفه أنه تعالى بدأ المذكورين، وختمهم باثنين من أولي العزم اشتركا في أن كلاً منهما أهلك من عانده كنفس واحدة بالإغراء، ترهيباً لهؤلاء الملبسين على أهل الإسلام بالباطل المدعين أنهم أتباع، ووسّط بينهم وبين بقية المسمين عموم النبيين والمرسلين، ولعله آخر الرسل ليفهم أن كل من عطفوا عليه مرسل، ولأن رتبة النبوة قبل رتبة الرسالة، بمعنى أنها أعم منها.
ولما سرد أسماء من دخل في العموم بدأهم بأشرفهم ثم بالأقرب إلى هذا النبي الكريم فالأقرب من المرتبين على حسب ترتيب الوجود، إشارة إلى أنه سن به في الوحي سنة آبائه وإخوانهم وذرياتهم - والله أعلم.
ولما كان معظم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم بشارة ونذارة، قال مبيناً أنهم مثله في ذلك كما كانوا قبله في الوحي، لأن المقصود من الإرسال لجميع الرسل جمع الخلق بالبشارة والنذارة:{رسلاً} أي جعلناهم رسلاً، ويجوز أن يكون بدلاً من «رسلاً» الماضي، وأن يكون حالاً، حال كونهم {مبشرين ومنذرين} ثم علل ذلك بقوله:{لئلا يكون} أي لينتفي أن يوجد {للناس} أي نوع مَنْ فيه قوة النوس.
ولما كانت الحجة قد تطلق على مطلق العذر ولو كان مردوداً، عبّر بأداة الاستعلاء فقال:{على الله حجة} أي واجبة القبول على الملك الذي اختص بجميع صفات الكمال في أن لا يعذب عصاتهم؛ ولما كان المراد استغراق النفي لجميع الزمان المتعقب للإرسال أسقط الجار فقال: {بعد} أي انتفى ذلك انتفى مستغرقاً لجميع الزمان الذي يوجد بعد إرسال {الرسل} وتبليغهم للناس، وذلك على أن وجوب معرفته تعالى إنما يثبت بالسمع، وأما نفس المعرفة والنظر والتوحيد فطريقها العقل، فالمعرفة متلقاة من العقل، والوجوب متلقى من الشرع والنقل.
ولما كان ذلك ربما أوهم أنه ربما امتنع عليه قبل ذلك سبحانه أخذ بحجة أو غيرها، قال مزيلاً لذلك:{وكان الله} أي المستجمع لصفات العظمة {عزيزاً} أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، فهو قادر على ما طلبوه، ولكنه لا يجب عليه شيء، لأنه على سبيل اللجاج وهم غير معجزين {حكيماً *} أي يضع الأشياء في أتقن مواضعها، فلذلك رتب أموراً لا يكون معها لأحد حجة ومن حكمته أنه لا يجيب المتعنت.
ولما لم يبق سبحانه لهم شبهة، واستمروا على عنادهم، أشار تعالى إلى ما تقديره: إنهم لا يشهدون لك عند اتضاح الأمر، فقال:{لكن} أي ومع ما قام من البراهين على صدقك وكون كتابك من عند الله فهم لا يشهدون بذلك لكن {الله} أي الذي له الأمر كله فلا كفوء له {يشهد} أي لك {بما أنزل إليك} أي من هذا الكتاب المعجز الذي قد أخرس الفصحاء وأبكم البلغاء، وفيه هذه الأحكام الصادقة لما عندهم وهم يريدون الإضلال عنها، فشهادته ببلاغته وحكمته بصدق الآتي به هي شهادة الله لأنه قائله، ولذلك عللل بقوله:{أنزله بعلمه} أي عالماً بإنزاله على الوجه المعجز مع كثرة المعارض فلم يقدر أحد ولا يقدر على إحداث شيء فيه من تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان ولا معارضة {والملائكة} أيضاً {يشهدون} بذلك لأنهم كانوا حضوراً لإنزاله وأمناء على من كان منهم على يده ليبلغه - كما قال تعالى: {فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} [الجن: 27-28] وهذا خطاب للعباد على حسب ما يعرفون.
ولما كان ربما أفهم نقصاً نفاه بقوله: {وكفى بالله} أي الذي له الكمال كله {شهيداً} أي وكفى بشهادته في ذلك شهادة عن شهادة غيره، وذلك لأنه أنزله سبحانه شاهداً بشهادته ناطقاً بها لإعجازه بنظمه وبما فيه من علمه من الحِكَم والأحكام وموافقة كتب أهل الكتاب، فشهادته بذلك هي شهادة الله، وهي لعمري لا تحتاج إلى شهادة أحد غيره.
ولما بين سبحانه أنه أقام الأدلة على صحته بالمعجزات، فصار كأنه شهد بحقيقته كان أنفع الأشياء اتباع ذلك بوصف من جحده في نفسه وصد عنه غيره زجراً عن مثل حاله وتقبيحاً لما أبدى من ضلاله فقال:{إن الذين كفروا} أي ستروا ما عندهم من العلم بصدقه بما دل عليه من شاهد العقل وقاطع النقل، من اليهود وغيرهم {وصدوا عن سبيل الله} أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه بأنفسهم وبإضلال غيرهم بما يلقونه من الشبه من مثل هذه وقولهم كذباً: إن في التوراة أن شريعة موسى عليه الصلاة والسلام لا تنسخ، وقولهم: إن الأنبياء لا يكونون إلا من أبناء هارون وداود عليهما الصلاة والسلام {قد ضلوا} أي عن الطريق الموصل إلى مقصودهم في حسده ومنع
ما يراد من إعلائه {ضلالاً بعيداً *} أي لأن أشد الناس ضلالاً مبطل يعتقد أنه محق، ثم يحمل غيره على مثل باطله، فصاروا بحيث لا يرجى لهم الرجوع إلى الطريق النافع، لا سيما إن ضم إلى ذلك الحسد، لأن داء الحسد أدوأ داء؛ ثم علل إغراقهم في الضلال بإضلاله لهم لتماديهم فيما تدعوا إليه نقيصة النفس من الظلم بقوله وعيداً لهم:{إن الذين كفروا} أي ستروا ما عندهم من نور العقل {وظلموا} أي فعلوا لحسدهم فعل الماشي في الظلام بإعراضهم وإضلالهم غيرهم {لم يكن الله} أي بجلاله {ليغفر لهم} أي لظلمهم {ولا ليهديهم طريقاً *} أي لتضييعهم ما أتاهم من نور العقل ومنابذتهم؛ ثم تهكم بهم بقوله: {إلا طريق جهنم} أي بما تجهموا مَنْ ظلموه.
ولما كان المعنى: فإنه يسكنهم إياها، قال:{خالدين فيها} أي لأن الله لا يغفر الشرك، وأكد ذلك بقوله:{أبداً} ولما كان ذلك مع ما لهم من العقول أمراً عجيباً قال تعالى: {وكان ذلك} أي الأمر العظيم من كفرهم وضلالهم وعذابهم {على الله يسيراً *} أي لأنه قادر على كل شيء.
ولما وضح بالحجاج معهم الحق، واستبان بمحو شبههم كلها من وجوه كثيرة الرشدُ، وأوضح فساد طرقهم، وأبلغ في وعيدهم؛ أنتج
ذلك صدق الرسول وحقيقة ما يقول: فأذعنت النفوس، فكان أنسب الأشياء أن عمم سبحانه في الخطاب لما وجب من اتباعه على وجه العموم عند بيان السبيل ونهوض الدليل، فقال مرغباً مرهباً {يا أيها الناس} أي كافة {قد جاءكم الرسول} أي الكامل في الرسلية الذي كان ينتظره أهل الكتاب لرفع الارتياب ملتبساً {بالحق} أي الذي يطابقه الواقع، وستنظرون الوقائع فتطبقونها على ما سبق من الأخبار، كائناً ذلك الحق {من ربكم} أي المحسن إليكم، فإن اتبعتم رسوله قبلتم إحسانه، فتمت نعمته عليكم، ولهذا سبب عن ذلك قوله:{فآمنوا} .
ولما كان التقدير بما أرشد إليه السياق توعداً لهم: إن تؤمنوا يكن الإيمان {خيراً لكم} ، عطف عليه قوله:{وإن تكفروا} أي تستمروا على كفرانكم، أو تجددوا كفراً، يكن الكفران شراً لكم، أي خاصاً ذلك الشر بكم، ولا يضره من ذلك شيء، ولا ينقصه من ملكه شيئاً، كما أن الإيمان لم ينفعه شيئاً ولا زاد في ملكه شيئاً لأن له الغنى المطلق، وهذا معنى قوله:{فإن الله} أي الكامل العظمة {ما في السماوات والأرض} فإنه من إقامة العلة مقام المعلول، ولم يؤكد بتكرير «ما» وإن كان الخطاب مع المضطربين، لأن
قيام الأدلة أوصل إلى حد من الوضوح بشهادة الله ما لا مزيد عليه، فصار المدلول به كالمحسوس.
ولما كان التقدير: فهو غني عنكم، وله عبيد غيركم لا يعصونه، وهو قادر على تعذيبكم بإسقاط ما أراد من السماء، وخسف ما أراد من الأرض وغير ذلك، وكان تنعيم المؤالف وتعذيب المخالف وتلقي النصيحة بالقبول دائراً على العلم وعلى الحكمة التي هي نتيجة العلم والقدرة قال:{وكان الله} أي الذي له الاختصاص التام بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً مع أن له جميع الملك {عليماً} أي فلا يسع ذا لب أن يعدل عما أخبر به من أن أمر هذا الرسول حق إذ هو لم يخبر به إلا عن تمام العلم، ولا يخفى عليه عاص ولا مطيع {حكيماً *} فلا ينبغي لعاقل أن يضيع شيئاً من أوامره لأنه لم يضعها إلا على كمال الأحكام، فهو جدير بأن يحل بمخالفه أي انتقام، ويثيب من أطاعه بكل إنعام.
ولما اقتضى السياق الأكمل فيما سبق إتمام أمر عيسى عليه الصلاة والسلام
إذ كان الكلام في بيان عظيم جرأتهم وجفاءهم، وكان ما فعلوا معه أدل دليل على ذلك، وكان كل من أعدائه وأحبابه قد ضل في أمره، وغلا في شأنه اليهود بخفضه، والنصارى برفعه؛ اقتضى قانون العلم والحكمة المشار إليهما بختام الآية السالفة بيان ما هو الحق من شأنه ودعاء الفريقين إليه فقال:{يا أهل الكتاب} أي عامة {لا تغلوا في دينكم} أي لا تفرطوا في أمره، فتجاوزوا بسببه حدود الشرع وقوانين العقل {ولا تقولوا على الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له شيئاً من القول {إلا الحق} أي الذي يطابقه الواقع، فمن قال عن عيسى عليه الصلاة والسلام أنه لغير رشدة، فقد أغرق في الباطل، فإنه لو كان كذلك ما وقفت أمه للدوام على الطاعات، ولا ظهرت عليها عجائب الكرامات، ولا تكلم هو في المهد، ولا ظهرت على لسانه ينابيع الحكمة، ولا قدر على إحياء الموتى، وذلك متضمن لأن الله تعالى العليم الحكيم أظهر المعجزات على يد من لا يحبه، وذلك منافٍ للحكمة، فهو كذب على الله بعيد عن تنزيهه، ومن قال: إن الله أو ابن الله، فهو أبطل وأبطل، فإنه لو كان كذلك لما كان حادثاً ولما احتاج إلى الطعام والشراب وما ينشأ عنهما، ولا قدر أحد على أذاه ولثبتت الحاجة إلى الصاحبة للإله، فلم يصلح للإلهية، وذلك أبطل الباطل.
ولما ادعى اليهود أنه غير رسول، والنصارى أنه إله، حسن تعقيبه بقوله:{إنما المسيح} أي المبارك الذي هو أهل لأن يمسحه الإمام
بدهن القدس، لما فيه من صلاحية الإمامة، وهو أهل أيضاً لأن يمسح الناس ويطهرهم. لما له من الكرامة، ولما ابتدأ سبحانه بوصفه الأشهر، وكان قد يوصف به غيره بيّنه بقوله:{عيسى} ثم أخبر عنه بقوله: {ابن مريم} أتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم، لا يصح نسبته للبنوة إلى غيرها، وليس هو الله ولا ابن الله - كما زعم النصارى {رسول الله} لا أنه لغير رشدة - كما كذب اليهود.
ولما كان تكّونه بكلمة الله من غير واسطة ذكر، جعل نفس الكلمة فقال:{وكلمته} لأن كان بها من غير تسبب عن أب بل، كوناً خارقاً للعوائد {ألقاها} أي تشريفاً بقوله:{وروح} أي عظيمة نفخها فيما تكّون في مريم من الجسد الذي قام بالكلمة، لا بمادة من ذكر، والروح هو النفخ في لسان العرب، وهو كالريح إلا أنه أقوى، بما له من الواو والحركة المجانسة لها، ولغلبة الروح عليه كان يحيي الموتى إذا اراد، وأكمل شرفه بقوله:{منه} أي وإن كان جبرئيل هو النافخ، وإذا وصف شيء بغاية الطهارة قيل: روح، لا سيما إن كان به حياة في دين أو بدن.
ولما أفصح بهذا الحق سبب عنه قوله: {فآمنوا بالله} أي الذي لا يعجزه شيء، ولا يحتاج إلى شيء {ورسله} أي عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره عامة، من غير إفراط ولا تفريط، ولا تؤمنوا ببعض ولا تكفروا ببعض، فإن ذلك حقاً هو الكفر الكامل - كما مر.
ولما أمرهم بإثبات الحق نهاهم عن التلبس بالباطل فقال: {ولا تقولوا} أي في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام {ثلاثة} أي استمروا أيها اليهود على التكذيب بما يقول فيه النصارى، ولا تقولوا: إنه متولد من أب وأم لغير رشدة - المقتضي للتثليث، وارجعوا أيها النصارى عن التثليث الذي تريدون به أن الإله بثلاثة وإن ضممتم إليه أنه إله واحد، لأن ذلك بديهي البطلان، فالحاصل أنه نهى كلاً عن التثليث وإن كان المرادان به مختلِفَين، وإنما العدل فيه أنه ابن مريم، فهما اثنان لا غير، وهو عبد الله ورسوله وكلمته وروح منه.
ولما نهاهم عن ذلك بصيغة النهي صرح به في مادته مرغباً مرهباً في صيغة الأمر بقوله: {انتهوا} أي عن التثليث الذي نسبتموه إلى الله بسببه، وعن كل كفر، وقد أرشد سياق التهديد إلى أن التقدير: إن تنتهوا يكن الانتهاء {خيراً لكم} .
ولما نفى أن يكون هو الله، كما تضمن قولهم، حصر القول فيه سبحانه في ضد ذلك، كما فعل في عيسى عليه الصلاة والسلام فقال:
{إنما الله} أي الذي له الكمال كله؛ ولما كان النزاع إنما هو في الوحدانية من حيث الإلهية، لا من حيث الذات قال:{إله واحد} أي لا تعدد فيه بوجه.
ولما كان المقام عظيماً زاد في تقديره، فنزهه عما قالوه فقال:{سبحانه} أي تنزه وبعد بعداً عظيماً وعلا علواً كبيراً {أن} أي عن أن {يكون له ولد} أي كما قلتم أيها النصارى! فإن ذلك يقتضي الحاجة، ويقتضي التركيب والمجانسة، فلا يكون واحداً؛ ثم علل ذلك بقوله:{له} أي لأنه إله واحد لا شريك له له {ما في السماوات} وأكد لأن المقام له فقال: {وما في الأرض} أي خلقاً ومِلكاَ ومُلكاً، فلا يتصور أن يحتاج إلى شيء منهما ولا إلى شيء متحيّز فيهما، ولا يصح بوجه أن يكون بعض ما يملكه المالك جزءاً منه وولداً له، وعيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام من ذلك، وكل منهما محتاج إلى ما في الوجود.
ولما كان معنى ذلك أنه الذي دبرهما وما فيهما، لأن الأرض في السماء، وكل سماء في التي فوقها، والسابعة في الكرسي، والكرسي في العرش، وهو ذو العرش العظيم لا نزاع في ذلك، وذلك هو وظيفة الوكيل
بالحقيقة ليكفي من وكله كل ما يهمه؛ كان كأنه قيل: وهو الوكيل فيهما وفي كل ما فيهما في تدبير مصالحكم، فبنى عليه قوله:{وكفى بالله} أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة {وكيلاً *} أي يحتاج إليه كل شيء، ولا يحتاج هو إلى شيء، وإلا لما كان كافياً.
ولما كان الوكيل من يقوم مقام الموكل، ويفعل ما يعجز عنه الموكل، وكان الله تعالى لا يعجزه شيء، ولا يحتاج إلى شيء، وكان عيسى عليه الصلاة السلام لا يدّعي القدرة على شيء إلا بالله، وكان يحتاج إلى النوم وإلى الأكل والشرب وإلى ما يستلزمانه، صح أنه عبد الله فقال سبحانه دالاً على ذلك:{لن يستنكف} أي يطلب ويريد أن يمتنع ويأبى ويستحي ويأنف ويستكبر {المسيح} أي الذي ادعوا فيه الإلهية، وأنفوا له من العبودية لكونه خلق من غير ذكر، ولكونه أيضاً يخبر ببعض المغيبات، ويحيي بعض الأموات، ويأتي بخوارق العادات {أن} أي من أن {يكون عبداً لله} أي الملك الأعظم الذي عيسى عليه الصلاة والسلام من جملة مخلوقاته، فإنه من جنس البشر في الجملة وإن كان خلقه خارقاً لعادة البشر {ولا الملائكة} أي الذين هم أعجب خلقاً منه في كونهم ليسوا من ذكر ولا أنثى
ولا ما يجانس عنصر البشر، فكانوا لذلك أعجب خلقاً من آدم عليه الصلاة والسلام أيضاً، وهم لا يستنكفون بذلك عن أن يكونوا عباد الله.
ولما كان التقريب مقتضياً في الأغلب للاستحقاق، وكان صفة عامة للملائكة قال:{المقربون} أي الذين هم في حضرة القدس، فهم أجدر بعلم المغيبات وإظهار الكرامات، وجبرئيل الذي هو أحدهم كان سبباً في حياة عيسى عليه الصلاة والسلام، وقد ادعى بعض الناس فيهم الإلهية أيضاً، وبهذا طاح استدلال المعتزلة بهذه الآية على أفضلية الملك على البشر بأن العادة في مثل هذا السياق الترقي من الأدنى إلى الأعلى بعد تسليم مدعاهم، لكن في الخلق لا في المخلوق.
ولما أخبر تعالى عن خلّص عباده بالتشرف بعبوديته أخبر عمن يأبى ذلك، فقال مهدداً محذراً موعداً:{ومن يستنكف} أي من الموجودات كلهم {عن عبادته} ولما كان الاستنكاف قد يكون بمعنى مجرد الامتناع لا كبراً، قال مبيناً للمراد من معناه هنا:{ويستكبر} أي يطلب الكبر عن ذلك ويوجده، لأن مجرد الامتناع لا يستلزمه.
ولما كان الحشر عاماً للمستكبر وغيره كان الضمير في {فسيحشرهم} عائداً على العباد المشار إليهم بعبداً وعبادته، ولا يستحسن عوده على «مَنْ» لأن التفصيل يأباه، والتقدير حينئذ: فسيذلهم لأنه سيحشر العباد
{إليه جميعاً *} أي المستكبرين وغيرهم بوعد لا خلف فيه لأن الكل يموتون، ومن مات كان مخلوقاً محدثاً قطعاً، ومن كان مقدوراً على ابتدائه وإفنائه كانت القدرة على إعادته أولى، والحشر: الجمع بكره.
ولما عم بالحشر المستكبرين وغيرهم جاء التفصيل إلى القسمين فقال: {فأما الذين آمنوا} أي أذعنوا الله تعالى وخضعوا له {وعملوا الصالحات} تصديقاً لإقرارهم بالإيمان {فيوفيهم أجورهم} أي التي جرت العادات بينكم أن يُعطَوها وإن كانوا في الحقيقة لا يستحقونها، لأن الله تعالى هو الذي وفقهم لها، فهي فضل منه عليهم {ويزيدهم} أي بعد ما قضيت به العادات {من فضله} أي شيئاً لا يدخل تحت الحصر لأنه ذو الفضل العظيم {وأما الذين استنكفوا واستكبروا} أي طلبوا كلاً من الإباء والكبر {فيعذبهم عذاباً أليماً *} أي بما وجدوا من لذاذة الترفع والكبر، وآلموا بذلك أولياء الله {ولا يجدون لهم} أي حالاً ولا مآلاً {من دون الله} الذي لا أمر لأحد معه {ولياً} أي قريباً يصنع معهم ما يصنع القريب {ولا نصيراً *} أي وإن كان بعيداً، وفي هذا أتم زاجر عما قصده المنافقون من موالاة أهل الكتاب، وأعظم نافٍ لما منّوهم إياه مما لهم وزعموا من المنزلة عند الله، المقتضية أن يقربوا
من شاؤوا، ويبعدوا من شاؤوا، وهو من أنسب الأشياء لختام أول الآيات المحذرة منهم
{وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} [النساء: 45] .
ولما أزاح شبه جميع المخالفين من سائر الفرق: اليهود والنصارى والمنافقين، وأقام الحجة عليهم، وأقام الأدلة القاطعة على حشر جميع المخلوقات، فثبت أنهم كلهم عبيده؛ عمّ في الإرشاد لطفاً منه بهم فقال:{يا أيها الناس} أي كافة أهل الكتاب وغيرهم.
ولما كان السامع جديراً بأن يكون قد شرح صدراً بقواطع الأدلة بكلام وجيز جامع قال: {قد جاءكم برهان} أي حجة نيّرة واضحة مفيدة لليقين التام، وهو رسول مؤيد بالأدلة القاطعة من المعجزات وغيرها {من ربكم} أي المحسن إليكم بإرسال الذي لم تروا قط إحساناً إلا منه.
ولما كان القرآن صفة الرحمن أتى بمظهر العظمة فقال: {وأنزلنا} أي بما لنا من العظمة والقدرة والعلم والحكمة على الرسول الموصوف، منتهياً {إليكم نوراً مبيناً *} أي واضحاً في نفسه موضحاً لغيره، وهو هذا القرآن الجامع بإعجازه وحسن بيانه بين تحقيق النقل وتبصير العقل، فلم يبق لأحد من المدعوين به نوع عذر، والحاصل أنه سبحانه لما خلق للآدمي عقلاً وأسكنه نوراً لا يضل ولا يميل مهما جرد،
ولكنه سبحانه حفّه بالشهوات والحظوظ والملل والفتور، فكان في أغلب أحواله قاصراً إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ألحقه سبحانه بهم؛ أنزل كتبه بذلك العقل مجرداً عن كل عائق، وأمرهم أن يجعلوا عقولهم تابعة له منقادة به، لأنها مشوبة، وهو مجرد لا شوب فيه بوجه.
ولما أشار في هذه الآية إلى الرسول الأصفى والنبي الأهدى، المجبول على هذا العقل الأقوم الأجلي، والكتاب الأتم الأوفى، الجاري على هذا القانون الأعلى، الوافي تعبيره الوجيز بأحكام الأولى والأخرى، الكفيل سياقه وترتيب آياته بوضوح الأدلة وظهور الحجج؛ أخذ يقسم المنذرين فقال تعالى:{فأما الذين آمنوا بالله} أي الذي اتضح أنه لا أمر لأحد معه في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه بما دل عليه قاطع البرهان {واعتصموا به} أي جعلوه عصاماً لهم في الفرائض التي هي من أعظم مقاصد هذه السورة، يربطهم ويضبطهم عن أن يضلوا بعد الهدى، ويرجعوا من الاسبتصار إلى العمى، لأن العصام هو الرابط للوعاء أن يخرج شيء مما فيه، وصيغة الافتعال تدل على الاجتهاد في ذلك، لأن النفس داعية إلى الإهمال المنتج للضلال {فسيدخلهم} أي بوعد لا خلف فيه، ولعل السين ذكرت لتفيد
مع تحقيق الوعد الحثَّ على المثابرة والمداومة على العمل إشارة إلى عزة ما عنده سبحانه {في رحمة منه} أي ثواب عظيم هو برحمته لهم، لا بشيء استوجبوه، وأشار إلى البر على ما تقتضيه أعمالهم لو كانت لهم بقوله:{وفضل} أي عظيم يعلمون أنه زيادة، لا سبب لهم فيها {ويهديهم} أي في الدنيا والآخرة {إليه صراطاً} أي عظيماً واضحاً جداً {مستقيماً *} أي هو مرشد قومه، كأنه طالب لتقويم نفسه، فهو يوصلهم لا محالة إلى وعده بما يحفظهم في سرهم وعلنهم، يستجلي أنوار عالم القدس في أرواحهم وتوفيقهم لاتباع ما هدت إليه من أمر الفرائض وغيرها، فقد أتى - كما ترى - بأما المقتضية للتقسيم لا محالة، وأتى بأحد القسمين المذكورين في الآية التي قبلها، ووصفهم بالاعتصام بالله في النصرة وقبول جميع أحكامه في الفرائض غيرها، وافقت أهويتهم أو خالفتها، تعريضاً للمنافقين الذين والوا غيرهم، وبالكافرين الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وترك القسم الآخر وهو قسم المستنكفين والمستكبرين، ووضع موضعه حكماً من أحكام الفرائض المفتتح بها السورة التي هي من أعظم مقاصدها من غير حرف عطف، بل بكمال الاتصال، فقال منكراً عليهم تكرير السؤال
عن النساء والأطفال بعد شافي المقال، مبيناً أنه قد هدى في ذلك كله أقوم طريق:{يستفتونك} أي يسألونك أن تفتيهم، أي أن تبين لهم بما عندك من الكرم والجود والسخاء ما انغلق عليهم أمره وانبهم لديهم سره من حكم الكلالة، وللاعتناء بامر المواريث قال إشارة إلى أن الله لم يكل أمرها إلى غيره:{قل الله} أي الملك الأعظم {يفتيكم في الكلالة} وهو من لا ولد له؛ ولا والد روى البخاري في التفسير عن البراء رضي الله عنه قال: آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} ، وقال الأصبهاني عن الشعبي: اختلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في الكلالة، فقال أبو بكر: هو ما عدا الوالد، وقال عمر: ما عدا الوالد والولد، ثم قال عمر: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر رضي الله عنه؛ ثم استأنف قوله: {إن امرؤ هلك} أي وهو موصوف بأنه، أو حال كونه {ليس له ولد} أي وإن سفل سواء كان ذكراً أو أنثى عند إرث النصف، وليس له أيضاً والد، فإن كان له أحدهما لم يسم كلالة وقد بينت ذلك السنة؛ قال الأصبهاني: وليسا بأول حكمين بُينَ أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:
«ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر، والأب أولى من الأخ»
{و} الحال أنه {له أخت} أي واحدة من أب شقيقة كانت أو لا، لأنه سيأتي أن أخاها يعصبها، فلو كان ولد أم لم يعصب {فلها نصف ما ترك وهو} أي وهذا الأخ الميت {يرثها} أي إن ماتت هي وبقي هو، جميع مالها {إن لم يكن لها ولد} أي ذكراً كان أو أنثى - كما مر في عكسه، هذا إن أريد بالإرث جميع المال، وإلا فهو يرث مع الأنثى كما أنها هي أيضاً ترث مع الأنثى - كما يرشد إليه السياق أيضاً - دون النصف.
ولما بين الأمر عند الانفراد أتبعه بيانه عند الاجتماع، وقدم أقله فقال:{فإن كانتا} أي الوارثتان ببيان السياق لهما وإرشاده إليهما؛ ولما أضمر ما دل عليه السياق، وكان الخبر صالحاً لأن يكون: صالحتين، أو صغيرتين، أو غير ذلك؛ بين أن المراد - كما يرشد إليه السياق أيضاً - مطلق العدد على أي وصف اتفق فقال:{اثنتين} أي من الأخوات للأب شقيقتين كانتا أو لا {فلهما الثلثان مما ترك} فإن كانت شقيقتين كان لكل منهما ثلث، وإن اختلفتا كان للشقيقة النصف وللتي للأب فقط السدس تكملة الثلثين.
ولما بين أقل الاجتماع أتبعه ما فوقه فقال: {وإن كانوا} أي
الوارث {إخوة} أي مختلطين {رجالاً ونساء فللذكر} أي منهم {مثل حظ الأنثيين} وقد أنهى سبحانه ما أراد من بيان إرث الأخوة لأب، فتم بذلك جميع أحوال ما أراد من الإرث، وهو على وجازته كما ترى - يحتمل مجلدات - والله الهادي، ووضع هذه الآية هنا - كما تقدم - إشارة منه إلى أن من أبى توريث النساء والصغار الذي تكرر الاستفتاء عنه فقد استنكف عن عبادته واستكبر وإن آمن بجميع ما عداه من الأحكام، ومن استنكف عن حكم من الأحكام فذاك هو الكافر حقاً، وهذا مراد شياطين أهل الكتاب العارفين بصحة هذه الأحكام، الحاسدين لكم عليها، المريدين لضلالكم عنها لتشاركوهم في الشقاء الذي وقع لهم لما بدلوا الأحكام المشار إليهم بعد ذكر آيات الميراث وما تبعها من أحوال النكاح بقوله:
{يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} [النساء: 26] وقوله: {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} [النساء: 27] ثم المصرح بهم في قوله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم} [النساء: 44] ولذلك - والله أعلم - ختم هذه الآية بقوله: {يبين الله} أي الذي
أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {لكم} أي ولم يكلكم في هذا البيان إلى بيان غيره، وقال مرغباً مرهباً:{أن} أي كراهة أن {تضلوا والله} أي الذي له الكمال كله {بكل شيء عليم *} أي فقد بين لكم بعلمه ما يصلحكم بيانه محياًَ ومماتاً دنيا وأخرى، حتى جعلكم على المحجة البيضاء في مثل ضوء النهار، لا يزيغ عنها منكم إلا هالك، والحاصل أن تأخير هذه الآية إلى هنا لما تقدم من أن تفريق القول فيما تأباه النفوس وإلقاءه شيئاً فشيئاً باللطف والتدريج أدعى لقبوله، وللإشارة إلى شدة الاهتمام بأمر الفرائض بجعل الكلام فيها في جميع السورة أولها وأثنائها وآخرها، والتخويف من أن يكون حالهم كحال المنافقين في إضلال أهل الكتاب لهم بإلقاء الشبهة وأخذهم من الموضع الذي تهواه نفوسهم ومضت عليه أوائلهم، وأشربته قلوهبم، والترهيب من أن يكونوا مثلهم في افيمان ببعض والكفر ببعض، فيؤديهم ذلك إلى إكمال الكفر، لأن الدين لا يتجزأ، بل من كفر بشيء منه كفر به جميعه، ومن هنا ظهرت مناسبة آخر هذه السورة لأولها، لأن أولها مشير إلى أن الناس كلهم كشيء واحد، وذلك يقتضي عدم الفرق بينهم إلا فيما شرعه الله، وآخرها مشير إلى ذلك بالتسوية بين النساء
والرجال في مطلق التوريث بقرب الأرحام وإن اختلفت الأنصباء، فكأنه قيل: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، وسوى بينهم فيما أراد من الأحكام فإنه من استكبر - ولو عن حكم من أحكامه - فسيجازيه يوم الحشر، ولا يجد له من دون الله ناصراً؛ ولا يخفى عليه شيء من حاله، وما أشد مناسبة ختامها بإحاطة العلم لما دل عليه أولها من تمام القدرة، فكان آخرها دليلاً على أولها لأن تمام العلم مستلزم لشمول القدرة، قال الإمام: وهذان الوصفان هما اللذان بهما ثبتت الربوية والإلهية والجلال والعزة، وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعاًَ للأوامر والنواهي منقاداً لكل التكاليف - انتهى. ولختام أول آية فيها بقوله:{إن الله كان عليكم رقيباً} [النساء: 1] أي وهو بكل شيء من أحوالكم وغيرها عليم، فلا تظنوا أنه يخفى عليه شيء وإن دقَّ، فليشتد حذركم منه ومراقبتكم له، وذلك أشد شيء مناسبة لأول المائدة - والله الموفق بالصواب، وإليه المرجع والمآب.