الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم شرع يخبر عن أشياء تقع منهم عند الرجوع دلالة على أن هذا كلامه وأنه عالم بالمغيبات كليها وجزئيها، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فقال مبيناً لعدم علمهم:{يعتذرون} أي يثبتون الأعذار لأنفسهم: وأشار إلى بعدهم بالقلوب بقوله: {إليكم} أي عن التخلف {إذا رجعتم إليهم} أي من هذه الغزوة، كأنه قيل: فماذا يقال في جوابهم؟ فقال للرأس الذي لا تأخذه في الله لومة لائم: {قل لا تعتذروا} أي فإن أعذاركم كاذبة، ولذلك علل النهي بقوله:{لن نؤمن لكم} أي نصدقكم في شيء منها، ثم علل عدم تصديقهم بما أوجب لهم القطع بذلك فقال:{من نبأنا الله} أي أعلمنا الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء إعلاماً جليلاً {من أخباركم} أي التي ظننتم جهلاً بالله أنها تخفى فقد علمناها؛ ثم هددهم بقوله: {وسيرى الله} أي لأنه عالم بكل شيء وإن دق قادر على كل شيء {عملكم} أي بعد ذلك أتتبينون أم تثبتون على حالكم هذا الخبيث كما رأى الذي قبل {ورسوله} أي بما يعلمه به سبحانه
وحياً أو تفرساً، ولما كان الكلام في المنافقين، فكانت الرؤية لنفاقهم الذي يجتهدون في إخفائه، وكان المؤمنون لا اطلاع لجميعهم عليهم، لم يذكرهم بخلاف من يأتي بعد فإنهم مؤمنون.
ولما كان هذا ربما أوهمهم أنه لا يعلم إلا ما أوقعوه بالفعل، نفى ذلك بإظهار وصفه في موضع الإضمار مهدداً بقوله مشيراً بأداة التراخي إلى استبعادهم لقيامهم إلى معادهم:{ثم تردون} أي براد قاهر لا تقدرون على دفاعه بعد استيفاء آجالكم بالموت وإن طالت ثم البعث {إلى عالم الغيب} وهو ما غاب عن الخلق {والشهادة} وهو ما اطلع عليه أحد منهم. فصار بحيث يطلعون عليه وهذا ترجمة عن الذي يعلم الشيء قبل كونه ما يعلم بعد كونه {فينبئكم} أي يخبركم إخباراً عظيماً جليلاً مستوعباً {بما كنتم} أي بجبلاتكم {تعملون*} أي مما أبرزتموه إلى الخارج ومما كان في جبلاتكم، ولو تأخرتم لبرز، وهو تهديد عظيم، ووقع ترتيبهم للاعتذار على الأسهل فالأسهل على ثلاث مراتب: الأولى مطلق الاعتذار وقد مضى ما فيها؛ الثانية تأكيد ذلك بالحلف للإعراض عنهم فقال سبحانه: {سيحلفون بالله} أي الذي لا أعظم منه {لكم إذا انقلبتم إليهم} أي جهد إيمانهم أنهم كانوا معذورين في التخلف
كذباً منهم إرادة أن يقلبوا قلوبكم عما اعتقدتم فيهم {لتعرضوا عنهم} أي إعراض الصفح عن معاتبتهم {فأعرضوا عنهم} إعراض المقت؛ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» ثم علل وجوب الإعراض بقوله {إنهم رجس} أي لا يطهرهم العتاب فهو عبث.
ولما كان من المقرر أنه لا بد لهم من جزاء، وأن النفس تتشوف إلى معرفته، قال:{ومأواهم} أي في الآخرة {جهنم جزاء} أي لأجل جزائهم {بما كانوا يكسبون*} أي فلا تتكلفوا لهم جزاء غير ذلك بتوبيخ ولا غيره؛ المرتبة؛ الثالثة الحلف للرضى عنهم فقال: {يحلفون لكم} أي مجتهدين في الحلف بمن تقدم أنهم يحلفون به وهو الله {لترضوا عنهم} خوفاً من غائلة غضبكم {فإن ترضوا عنهم} أي لمجرد أيمانهم المبني على عدم إيمانهم {فإن الله} أي الذي له الغنى المطلق {لا يرضى} عنهم، هكذا كان الأصل ولكنه قال:{عن القوم الفاسقين*} إشارة إلى تعليق الحكم بالوصف وتعميماً لكل من اتصف بذلك، والمعنى أنه لا ينفعهم رضاكم وتكونون به مخالفين الله، فهو في الحقيقة نهي للمؤمنين عن الرضى عنهم، أبرز في هذا الأسلوب العجيب المرقص، وفي ذلك رد على من يتوهم أن رضى المؤمنين لو رضوا عنهم يقتضي رضى الله، فإن ذلك رد نزعة مما يفعل الأحبار والرهبان في رضاهم وغضبهم وتحليلهم وتحريمهم الذي يعتقد أتباعهم أنه عن الله تعالى.
ولما ترتب سبحانه الاستئذان في العقود والرضى بما فيه من الدناءة على عدم الفقه تارة والعلم أخرى وختم بصنف الأعراب، بين أن الأعراب أولى بذلك لكونهم أعرق في هذا الوصف وأجرأ على الفسق لبعدهم عن معدن العلم وصرفهم أفكارهم في غير ذلك من أنواع المخازي لتحصيل المال الذي كلما داروا عليه طار عنهم فأبعد. فهم لا يزالون في همه قد شغلهم ذلك عن كل هم وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً فقال تعالى:{الأعراب} أي أهل البدو {أشد} أي من أهل المدر {كفراً ونفاقاً} لبعدهم عن دار الهجرة ومعدن العلم وجفائهم بأن مرائي قلوبهم لم تصقل بأنوار الكتاب والسنة {وأجدر أن} أي وأحق بأن {لا يعلموا} ولما كان الإحجام أصعب من الإقدام، وأطراف الأشياء المختلطة في غاية الإلباس، قال:{حدود ما أنزل الله} أي المحيط علماً وحكمة بكل شيء {على رسوله} أي الذي أعلم الخلق من القرآن والشرائع والأحكام لعدم إقبالهم عليه شغلاً بغيره فإن الله يعلم ذلك منهم {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال {عليم} أي بالغ العلم بكل شيء {حكيم*} أي بالغ الحكمة فهو يضع الأشياء في أتم محالها.
ولما أثبت هذا الوصف لهذا الصنف بين أن أفراده انقسموا إلى من
ثبت على ما هو الأليق بحالهم، وقسم نزع إلى ما هو الأليق بأهل المدر، كما انقسم أهل المدر إلى مثل ذلك، وبدأ بالخبيث لأنه الأصل فيهم فقال:{ومن الأعراب} أي المذكورين {من يتخذ} أي يتكلف غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من الأريحية والهمم العلية بأن يعد {ما ينفق مغرماً} أي فلا يبذله إلا كرهاً ولا يرى له فائدة أخروية بل يراه مثل الصنائع بالنهب ونحوه {ويتربص} أي يكلف نفسه الربص، وهو أن يسكن ويصبر وينتظر {بكم الدوائر} أي الدواهي التي تدور بصاحبها فلا يتخلص منها، وذلك ليستريح من الإنفاق وغيره مما ألزمه به الدين.
ولما تربصوا هذا التربص، دعا عليهم بمثل ما تربصوا فقال:{عليهم دائرة السوء} أي دائماً لا تنفك إما بإذلال الإسلام وإما بعذاب الاصطلام، فهم فيما أرادوه بكم على الدوام، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم السين على أن معناه الشر والضر، وقراءة الباقين بالفتح على أنه مصدر، فهو ذم للدائرة.
ولما كان الانتقام من الأعداء وإيقاع البأس بهم لا يتوقف من القادر غالباً إلا على سماع أخبارهم والعلم بها، جرت سنته تعالى في ختم مثل بقوله:{والله} أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الكاملة {سميع} يسمع ما يقولون {عليم*} أي فهو يعلم ما يضمرون عطفاً على نحو أن يقال: فالله على كل شيء قدير، ونحوه قوله {إنني
معكما أسمع وأرى} .
ولما افتتح الآية الثانية بقوله: {ومن الأعراب من يؤمن} أي لا يزال يجدد إيمانه آثار الدين {بالله واليوم الآخر} علم أن القسم الأول غير مؤمن بذلك، وإنما وقع منهم الإقرار باللسان من غير إذعان، والإيمان هو الأصل الذي يترتب عليه الإنفاق عن طيب نفس لما يرجى من ثوابه في اليوم الآخر الذي لولا هو انتفت الحكمة من هذا الخلق على هذا الترتيب: ثم عطف عليه ما يثمره الإيمان فقال: {ويتخذ} أي يحث نفسه ويجاهدها إن عرضت له الوساوس الشيطانية على أن يعد {ما ينفق} أي فيما أمر الله به {قربات} جمع قربة لما تقرب إليه سبحانه {عند الله} أي الذي لا أشرف من القرب منه لأنه الملك الأعظم {وصلوات} أي دعوات {الرسول} أي الذي وظيفته التبليغ فهو لا يقول لهم شيئاً إلا عن الله، وأطلق القربة والصلاة على سببها.
ولما أخبر عن أفعالهم، أخبر عن عاقبتهم ومآلهم؛ قال مستأنفاً محققاً لرجائهم ترغيباً في الصدقة بأبلغ تأكيد لما لأعدائهم من التكذيب:{ألا إنها} أي نفقاتهم {قربة لهم} أي كما أرادوا؛ ثم بين ثمرة كونها قربة بقوله: {سيدخلهم الله} أي الذي له صفات الكمال بوعد لا خلف فيه {في رحمته} أي إكرامه فتكون محيطة بهم ثم علل ذلك بقوله
معبراً بالاسم الأعظم تنبيهاً على أنه لا يسع الإنسان إلا العفو وإن أعظم الاجتهاد: {إن الله} أي الذي الذي لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره {غفور} أي بليغ الستر لقبائح من تاب {رحيم*} أي بليغ الإكرام، ذلك وصف له ثابت، يجلله كل من يستأهله.
ولما ذكر القسم الصالح منهم وكانوا متفاوتين فمنهم السابق وأكثرهم التابع اللاحق، أتبعه السابقين على وجه شامل حاصر لصنفي البادي والحاضر إشارة إلى أنه - وإن أجره - أصله فقد قدمه وصفه بحيث ساوى أهل الكمال في مطلق الانخراط في ملكهم والفوز بدرجتهم لإحسانه في اتباعهم ترغيباً لأهل القدرة والرحمة في اتباع أهل الرضوان والنعمة فقال:{والسابقون} ولما دل على سبقهم بالعلو في مراتبه دل على قديم دخولهم فيه فقال: {الأولون} أي إلى هذا الدين القيم {من المهاجرين} أي لدار الكفر فضلاً عن أهلها {والأنصار} أي الذين آووا ونصروا {والذين اتبعوهم} أي الفريقين {بإحسان} أي في اتباعهم فلم يحولوا عن شيء من طريقهم {رضي الله} أي الذي له الكمال كله {عنهم} أي بأفعالهم هذه التي هي وفق ما أمر به {ورضوا عنه} أي بما أتاهم عنه من البشرى وقذف في قلوبهم من النور بلطيف الوعظ والذكرى {وأعد لهم} أي جزاء على فعلهم {جنات تجري} ونبه على عموم ريّها وكثرة مائها بنزع الجار على قراءة
الجماعة فقال: {تحتها الأنهار} أي هي كثيرة المياه. فكل موضع أردته نبع منه ماء فجرى منه نهر؛ ولما كان المقصود من الماء إنما هو السهولة في إنباطه بقربه ويسر جريه وانبساطه أثبته ابن كثير دلالة على ذلك كسائر المواضع، ولعل تخصيص هذا الموضع بالخلاف لأنه يخص هذه الأمة، فلعلها تخص بجنة هي أعظم الجنان رياً وحسناً وزياً.
ولما كان أعظم العيوب الانقطاع، نفاه بقوله:{خالدين فيها} وأكد المراد من الخلود بقوله: {أبداً} ثم استأنف مدح هذا الذي أعده لهم بقوله: {ذلك} أي الأمر العالي المكانة خاصة {الفوز العظيم*} .
ولما استوفى الأقسام الأربعة: قسمي الحضر وقسمي البدو ثم خلط بين قسمين منهم تشريفاً للسابق وترغيباً للاحق، خلط بين الجميع على وجه آخر ثم ذكر منهم فرقاً منهم من نجز الحكم بجزائه بإصرار أو متاب. ومنهم من أخر أمره إلى يوم الحساب، وابتدأ الأقسام بالمستور عن غير علمه ليعلم أهل ذلك القسم أنه سبحانه عالم بالخفايا فلا يزالوا أذلاء خوفاً مما هددهم به فقال مصرحاً بما لم يتقدم التصريح به من نفاقهم:{وممن حولكم} أي حول بلدكم المدينة {من الأعراب} أي الذين قدمنا أنهم أشد كفراً لما لهم من الجفاء {منافقون} أي راسخون في النفاق، وكأنه قدمهم لجلافتهم وعتوهم، وأتبعهم من هو أصنع منهم
في النفاق فقال: {ومن أهل المدينة} أي منافقون أيضاً؛ ثم بين أنهم لا يتوبون بوصفهم بقوله: {مردوا} أي صُلبوا وداموا وعتوا وعسوا وعصوا وصار لهم به دربة عظيمة وضراوة حتى ذلت لهم فيه جميع أعضائهم الظاهرة والباطنة وصار لهم خلقاً {على النفاق} أي استعلوا على هذا الوصف بحيث صاروا في غاية المكنة منه؛ ثم بين مهارتهم فيه بقوله: {لا تعلمهم} أي بأعيانهم مع ما لك من عظيم الفطنة وصدق الفراسة لفرط توقيهم وتحامي ما يشكل من أمره؛ ثم هددهم وبين خسارتهم بقوله: {نحن} أي خاصة {نعلمهم} ثم استأنف جزاءهم بقوله: {سنعذبهم} أي بوعد لا خلف فيه {مرتين} أي إحداهما برجوعك سالماً وشفوف أمرك وعلو شأنه وضخامة أركانه وعز سلطانه وظهور برهانه، فإنهم قطعوا لغباوتهم وجلافتهم وقساوتهم كما أشرت إليه بقولي {ويتربص بكم الدوائر} - أنك لا ترجع هذه المرة من هذه السفرة لما يعرفونه من ثباتك للأقران، وإقدامك على الليوث الشجعان، واقتحامك للأهوال، إذا ضاق المجال، ونكص الضراغمة الأبطال، ومن عظمة الروم وقوتهم وتمكنهم وكثرتهم، وغاب عن الأغبياء وخفي عن الأشقياء الأغنياء أن الله الذي خلقهم أعظم منهم وأكبر، وجنوده أقوى من جنودهم وأكثر؛ والثانية بعد وفاتك بقهر أهل لردة ومحقهم ورجوع ما أصلته بخليفتك الصديق رضي الله عنه إلى
ما كان عليه في أيامك من الظهور وانتشار الضياء والنور والحكم على من خالفه بالويل والثبور، وسيأتي أنه يمكن أن تكون المرة الثانية إخراب مسجد الضرار والإخبار بما أضمروا في شأنه من خفي الأسرار {ثم يردون} أي بعد الموت {إلى عذاب عظيم*} أي لا يعلم عظمة حق علمه إلا الله تعالى، وهو العذاب الأكبر الدائم الذي لا ينفك أصلاً.
ولما ذكر هذا القسم المارد الجافي، ثنى بمقابلة اللين الصافي، وهي الفرقة التي نجز المتاب عليها والنظر بعين الرحمة إليها فقال:{وآخرون} أي ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة آخرون {اعترفوا بذنوبهم} أي كلفوا أنفسهم ذكرها توبة منهم ندماً وإقلاعاً وعزماً ولم يفزعوا إلى المعاذير الكاذبة وهو المقتصدون.
ولما كان الخلط جمعاً في امتزاج، كان بمجرد ذكره يفهم أن المخلوط امتزج بغيره، فالإتيان بالواو في {آخر} يفهم أن المعنى:{خلطوا عملاً صالحاً} بسيىء {وآخر سيئاً} بصالح، فهو من ألطف شاهد لنوع الاحتباك، ولعل التعبير بما أفهم ذلك إشارة إلى تساوي العملين وأنه ليس أحدهما بأولى أحدهما بأولى من الآخر أن يكون أصلاً، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أناس رآهم في المنام شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح كما رواه البخاري في التفسير عن سمرة رضي الله عنه ثم أوجب تحقيق توبتهم الملزومة للاعتراف بقبولها بقوله:{عسى الله} أي بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال
{أن يتوب عليهم} فإن {عسى} منه سبحانه وتعالى واجبه لأن هذا دأب الملوك ولعل التعبير بها يفيد - مع الإيذان بأنه لا يجب عليه لأحد شيء وأن كل إحسان يفعله فإنما هو على سبيل الفضل إشارة إلى أنهم صاروا كغيرهم من خلص المؤمنين غير المعصومين في مواقعة التقصير وتوقع الرحمة من الله بالرجوع بهم إلى المراقبة، فكما أن أولئك معدودون في حزب الله مع هذا التقصير المرجو له العفو فكذلك هؤلاء؛ ثم علل فعله بهم مرجياً للمزيد بقولع:{إن الله} أي ذا الجلال والإكرام {غفور رحيم*} أي لم يزل موصوفاً بقبول المعرض إذا أقبل وإبدال سئيه بحسن فضلاً منه وإكراماً؛ روى البخاري في صحيحه في التفسير عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: «أتاني الللية آتيان فابتعثاني فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عفا الله عنهم» .
ولما كان من شأن الرضوان قبول القربان، أمره صلى الله عليه وسلم تطهيراً لهم وتطييباً لقلوبهم بقوله:{خذ} ورحمهم بالتبعيض فقال: {من أموالهم صدقة} أي تطيب أنفسهم بإخراجها {تطهرهم} أي هي من ذنوبهم وتجري بهم مجرى الكفارة {وتزكيهم} أي أنت تزيدهم وتنميهم {بها} بتكثير حسناتهم {وصل} أي اعطف {عليهم} وأظهر شرفهم بدعائك لهم؛ ثم علل ذلك بقوله: {إن صلواتك} أي دعواتك التي تصلهم بها فتكون موصلة لهم إلى الله {سكن لهم} أي تطمئن بها قلوبهم بعد قلق الخوف من عاقبة الذنب لما يعلمون من أن القبول لا يكون إلا ممن حصل له الرضى عنهم ومن أن الله سمع قولك إجابة لك ويعلم صدقك في صلاحهم {والله} أي المحيط بكل شيء {سميع عليم*} أي لكل ما يمكن أن يسمع وما يمكن أن يعلم منك ومنهم ومن غيركم، فهو جدير بالإجابة والإثابة، وذلك أن هذا الصنف لما اشتد ندمهم على التخلف أوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فسأل عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم فقيل: ندموا على التخلف عنك فحلفوا: لا يطلقهم إلا أنت، فقال: وأنا أطلقهم حتى أومر بذلك، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات فقالوا: يارسول الله! هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها! فقال: ما أمرت بذلك، فلما أنزل الله هذه الآية أخذ الثلث فتصدق به.
ولما ساق توبتهم سبحانه في حيز {عسى} ، وكان الأصل فيها الترجية في المحبوب والإشفاق في المكروه، وأمر سبحانه بالأخذ من أموالهم لذلك، وكان إخراج المال شديداً على النفوس لا سيما في ذلك الزمان، كان ربما استوقف الشيطان من لم يرسخ قدمه في الإيمان عن التوبة وما يترتب عليها من الصدقة لعدم الجزم بأنها تقبل، فأتبع ذلك سبحانه بقوله:{ألم يعلموا} أي المعترفون بالذنوب حتى تسمح أنفسهم بالصدقة أو غيرهم حتى يرغبوا في التوبة والصدقة {أن الله} أي الذي له الكمال كله {هو} أي وحده {يقبل} أي من شأنه أن يقبل {التوبة} تجاوزاً {عن عباده} أي التائبين المخلصين {ويأخذ} أي يقبل قبول الآخذ لنفسه {الصدقات} أي ممن يتقرب بها إليه بنية خالصة {وأن الله} أي المحيط بصفتي الجلال والإكرام {هو} أي وحده {التواب الرحيم*} أي لم يزل التجاوز والإكرام من شأنه وصفته، وفي ذلك إنكار على غيرهم من المختلفين في كونهم لم يفعلوا مثل فعلهم من الندم الحامل على أن يعذبوا أنفسهم بالإيثاق في السواري ويقربوا بعض أموالهم كما فعل هؤلاء أو نحو ذلك مما يدل على الاعتراف والندم.
ولما أمره من تطهيرهم بما يعيدهم إلى ما كانوا عليه قبل الذنب، عطف على قوله {خذ} قوله تحذيراً لهم من مثل ما وقعوا فيه:{وقل اعملوا} أي بعد طهارتكم {فسيرى الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {عملكم} أي بما له من إحاطة العلم والقدرة فاعملوا عمل من
يعلم أنه بعين الله {ورسوله} أي بإعلام الله له. ولما كان هذا القسم من المؤمنين فكانت أعمالهم لاخفاء فيها، قال {والمؤمنون} فزينوا أعمالكم جهدكم وأخلصوا، وفي الأحاديث «لو أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها لأظهر الله علمه للناس كائناً ما كان» .
ولما كان هذا السياق للمؤمنين حذف منه «ثم» لكنه لما كان للمذنبين، أكد بالسين فقال:{وستردون} أي بوعد لا خلف فيه {إلى عالم الغيب والشهادة} أي بعد الموت والبعث {فينبئكم} أي بعلمه بكل شيء {بما كنتم تعملون*} أي ما أظهرتم عمله وما كان في غرائزكم، فلو تأخرتم تظهرتم، يجاريكم على حسنة ويزيد من فضله، وعلى سيئة عدلاً إن شاء ولا يظلم مثقال ذرة.
ولما ذكر القسمين المنجز عذابهم ومثابهم، ذكر المؤخر أمرهم وهو القسم الظالم لنفسه في الذي بدأ به في سورة فاطر سورة الحشر الآخر، ولا يبعد أن تكون هذه سورة الحشر الأول لأنه صلى الله عليه وسلم ساق الناس إلى أرض المحشر فقال:{وآخرون} أي ومنهم آخرون {مرجون} أي مؤخرون بين الرجاء والخوف {لأمر الله} أي لما يأمر به فيهم الملك الأعظم الذي له الأمر كله لا يدرون أيعذبون أم يرحمون؛ وقدم قوله -: {إما يعذبهم} إن أصروا - تخويفاً لهم حملاً على المبادرة إلى التوبة وتصفيتها والإخلاص فيها وحثاً على أن يكون الخوف ما دام الإنسان صحيحاً
أغلب وثنى بقوله: {وإما يتوب عليهم} أي إن تابوا ترجية لهم وترقيقاً لقلوبهم بالتذكير بمنزل الأُنس الذي أخرجوا أنفسهم منه ومنعوها من حلوله وطيب مستقره ومقيله وحليّ أوقاته وعليّ مقاماته وشهيّ أقواته.
ولما كان ربما قال قائل: ما فائدة التأخير وما المانع من التنجيز؟ قال: {والله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {عليم حكيم*} ترهيباً وترغيباً وتبعيداً وتقريباً واحتراساً مما قد يوهمه الترديد من الشك وتدريباً، وقراءة غفور رحيم للزيادة في الترجية.
ولما ذكر الذين أقامهم في مقام الخطر أتبعه تعيين طائفة من القسم الأول المستور الموصوف بالمرود، فألحق بهم الضرر فقال:{والذين} وهو معطوف في قراءة من أثبت الواو على قوله {وآخرون} وخبره على ما يليق بالقصة: منافقون ماردون، وأما على قراءة المدنيين وابن عامر بحذفها فيكون على تقدير سؤال سائل، وذلك أنه لما قال تعالى {لا تعلمهم نحن نعلمهم} تشوفت النفس إلى الإعلام بهم، فلما قال {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} اشتغل السامع بتفهمه، وربما ظن أنه يأتي في آخر الكلام من تسميتهم ما يغنيه عن السؤال، فلما إنتقل بقوله {وآخرون مرجون} إلى قسم آخر، وختم الآية بصفتي العلم والحكمة ليعلم أن الترديد للتقسيم وأنه إن كان شك فهو بالنسبة إلى العباد وأما الله تعالى فمنزه عنه فذكر السامع بالصفتين ما كان دار
في خلده ومال إليه قلبه من الإعلام بالماردين على النفاق، فاشتد تشوفه إليه فكان كأنه قال: منْ منَ الماردين منهم؟ فقال تعالى الذين {اتخذوا مسجداً} أي من الماردين وهم من أعظمهم مهارة في النفاق وإخفاء الكيد والشقاق لأنهم توصلوا إلى ذلك بأن كلفوا أنفسهم الأخذ لأعظم عرى الدين مع المنازعة للفطرة الأولى والحذر من أن يفضحوا، فكان ختام هذه الآية من بديع الختام فإن احتراس عما يتوهم فيما قلبه ودليل على ما بعده، ولذلك ختم قصتهم أيضاً بصفتي العلم والحكمة، ولاح من هذا أن قوله {سنعذبهم مرتين} يمكن أن يراد به: مرة برجوعك، ومرة بإخرابك مسجدهم وتفريقك لشملهم بعد هتك سرائرهم بكشف ضمائرهم، وبَيَّنَ سبحانه علة اتخاذهم بقوله:{ضراراً} أي لأهل مسجد قباء أو لحزب الله عامة {وكفراً} أي بالله لاتخاذ دينه هزؤاً {وتفريقاً} أي مما يبيتونه من المكايد باستجلابهم لبعض من يخدعونه من المؤمنين ويطمعون فيه ليأتي مسجدهم ويترك المسجد المؤسس على التقوى {بين المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان بما جاء من عند الله، لأنهم كانوا يجتمعون في مسجد قباء فيغتص بهم {وإرصاداً} أي إعداداً وانتظاراً {لمن حارب الله} أي الملك الأعظم {ورسوله} ولما لم تكن محاربتهم مستغرقة للزمن الماضي، أدخل الجار فقال:{من قبل}
أي قبل اتخاذهم لهذا المسجد بزمن قريب وهو أبو عامر الفاسق ليأتي إليهم فيزيدهم قوة على نفاقهم بأن يصير كهفاً يأوون إليه ورأساً لهم يتجمعون عليه
«وذلك أنه كان من بني غنم بن عوف، وهو والد حنظلة الغسيل الذي كان من خيار الصحابة، وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال: الحنيفية دين إبراهيم، قال: أبو عامر: أنا عليها، قال صلى الله عليه وسلم: لست عليها، قال: بلى ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها، قال: ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريداً شريداً وحيداً غريباً! فقال صلى الله عليه وسلم: آمين! وسماه الفاسق، ثم تحيز إلى قريش وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم معهم يوم أحد وقال: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلما قاتل يوم حنين مع هوازن وانهزموا أيس وهرب إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجنود ومخرج محمداً! وكانوا قد حسدوا إخوانهم بني عمرو بن عوف على مسجد قباء لما بنوه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه ويصلي فيه، فبنوا مسجد الضرار
وأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم ليأتيهم فيصلي فيه، وكان يتجهز لتبوك فقال: أنا على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا صلينا فيه إن شاء الله! فلما قدم فكان قريباً من المدينة نزلت الآية، فدعا مالك بن الدخشم وجماعة وقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه، ففعلوا، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يتخذ مكانه كناسه يلقي فيها الجيف والقمامه؛ ومات أبو عامر بالشام وحيداً غريباً طريداً»
وقيل: كل مسجد بني مباهاة أو لغرض ليس به إخلاص أو بمال مشتبه فهو لاحق بمسجد الضرار.
ولما أخبر عن سرائرهم، أخبر عن نفاقهم في ظواهرهم بقوله:{وليحلفن} أي جهد أيمانهم {إن} أي ما {أردنا} أي باتخاذ له {إلا الحسنى} أي من الخصال؛ ثم كذبهم بقوله: {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {يشهد} أي يخبر إخبار الشاهد {إنهم لكاذبون*} وقد بان بهذا كله أن سبب فضيحتهم ما تضمنه فعلهم من عظيم الضرر للإسلام وأهله؛ ثم قال ناهياً عن إجابتهم إلى ما أرادوا به من التلبيس إنتاجاًعن هذا الكلام الذي هو أمضى من السهام: {لا تقم فيه} أي مسجد الضرار {أبداً} أي سواء تابوا أو لا، وأراد بعض المخلصين أن يأخذه أولاً، اي لا بد من إخرابه ومحو أثره عن وجه الأرض.
ولما ذمه وذم أهله، مدح مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، إما الذي
بالمدينة الشريفة وإما الذي ببني عمرو بن عوف بقباء على الخلاف في ذلك. وهو الذي اتخذ في أول الإسلام مسجداً إحساناً وإيماناً وجمعاً بين المؤمنين وإعداداً لمن صادق الله ورسوله، ومدح أهله إرشاداً لكل من كان مال إليه من المؤمنين لقرب أو غيره إلى العوض عنه، ولعله أبهم تعيينه وذكر وصفه ليكون صالحاً لكل من المسجدين.
لما اتصف بهذا الوصف من غيرهما فقال مؤكداً تعريفاً بما له من الحق ولما للمنافقين من التكذيب: {لمسجد أُسس} أي وقع تأسيسه {على التقوى} أي فأحاطت التقوى به لأنها إذا أحاطت بأوله أحاطت بآخره؛ ولما كان التأسيس قد تطول مدة أيامه فيكون أوله مخالفاً لآخره، قال:{من أول يوم} أي من أيام تأسيسه، وفيه إشارة إلى ما تقدم من احتمال أن يريد أحد من أهل الإخلاص أن يتخذه مصلى، فبين أنه لايصلح لذلك لأن تأسيسه كان لما هو مباعد له {أحق أن تقوم فيه} أي بالصلاة والوعظ وغيره من مسجد لم يقصد به التقوى على التقدير فرض محال إلا في ثاني الحال.
ولما مدحه مدح أهله بقوله: {فيه رجال} أي لهم كمال الرجولية {يحبون أن يتطهروا} أي في أبدانهم وقلوبهم كمال الطهارة - بما أشار إليه الإظهار، فهم دائماً في جهاد أنفسهم في ذلك فأحبهم الله
{والله} أي الذي له صفات الكمال {يحب} أي يفعل ما يفعل المحب من الإكرام بالفضل والإحسان، ولإثبات ما أفهم الاجتهاد حصل الغنى عن إظهار تاء التفعل أو للندب إلى الطهارة ولو على أدنى الوجوه المجزئة فقال:{المطهرين*} أي قاطبة منهم ومن غيرهم.
ولما علم من هذا بطريق الإشارة والتلويح أن التأسيس مثل ابتداء خلق الحيوان، فمن جبل من أول مرة جبلة شر لا يصلح للخير أبداً ولا يقبله كما قال تعالى {ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23] ذكره على سبيل التصريح فسبب عما مضى قوله ممثلاً الباطل ببناء على حرف واد واه جداً على شفير جهنم: {أفمن أسس بنيانه} أي كما أشرت إليه في المسجد المحثوث بالإقبال عليه {على تقوى من الله} أي الملك الأعلى {ورضوان} فكان كمن بنى بنيانه على جبل لا تهدمه الأمطار ولا تؤثر فيه السيول {خير أم من أسس بنيانه} على فسق وفجور وعدم اكتراث بالأمور فكان كمن بنى بنيانه {على شفا} أي حرف، ومنه الشفه {جرف} أي مكان جفرة السيل وجرفه فصار مشرفاً على السقوط، ولذلك قال:{هار} أي هائر، من هار الجرف - إذا أشرف لتخريق السيول على السقوط {فانهار} أي فكان بناؤه لذلك سبباً لأنه سقط سقوطاً لا تماسك معه {به} أي وهو فيه آمناً من سقوطه بقلة عقله وسفاهة رأيه {في نار جهنم}
فالجواب: لا شك الأول خير بل، لا خير في الثاني أصلاً، والعجب كل العجب من كونه بنى هذا البناء هكذا، فأجيب بأنه لا عجب لأن الأمر بيد الله، لا مفر من قضائه، وهو قد هدى الأول إلى ما فيه صلاحه، ولم يهد الثاني لما علم فيه من عدم قابلية الخير {والله} الذي له صفات الكمال {لا يهدي القوم} أي الذين لهم قوة المحاولة لما يريدون {الظالمين*} أي المطبوعين على ظلام البصائر، فهم لا يكفرون في شيء إلا جاء في غير موضعه وعلى غير نظام كخطوات الماشي في الظلام، وقد علم أن الآية من قبيل الاحتباك: أثبت أولاً التقوى لأن أهل الإسلام أحق بها، فدلت على حذف ضدها ثانياً، وأثبت ثانياً ضعف البناء حساً لأن مسجد الضرار أولى به، فدل على حذف ضده أولاً، فذكر النهاية المعقولة لأهلها والبداية المحسوسة للناظرين لها؛ وروي عن جابر رضي الله عنه قال: رأيت الدخان من مسجد الضرار؛ وحكي عن خلف بن يسار أنه رأى فيه حجراً يخرج منه الدخان في أول دولة بني العباس.
ولما كان ما تقدم غير قاطع في إخرابه لما ثبت للمساجد من الحرمة، استأنف الإخبار عن أنه لا يعد في عداد المساجد بوجه، وإنما هو في عداد بيوت الأصنام فهو واجب الإعدام فقال:{لا يزال بنيانهم}
أي نفس المبنى وهو المسجد {الذي بنوا ريبة} أي شكاً ونفاقاً {في قلوبهم} كما أن بيوت الأصنام كذلك لأهلها، فكان ذلك حثاً على إخرابه ومحوه وقطع أثره. والمعنى أنه جامع لهم على الريبة في كل زمان يمكن أن يكون {إلا أن} ولما كان القطع محصلاً للمقصود من غير نظر إلى قاطع معين، قال بانياً للمفعول:{تقطع قلوبهم} أي إلا زمان يوجد فيه القطع البليغ الكثير لقلوبهم وعزائمهم ويباعد بينهم ويفرق شملهم بإخراجه، وقراءة يعقوب ب «إلى» الجارة واضحة في المراد، أو يكون المراد أنه لايزال حاملاً لهم على التصميم على النفاق إلى أن يموتوا، فهو كناية عن عدم توبتهم.
ولما كان التقدير: فالله عليم بما أخبركم به فلا تشكوا فيه، عطف عليه تعميماً للحكم وتعظيماً للأمر قوله:{والله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {عليم} أي بالغ العلم بكل معلوم {حكيم*} فهو يتقن ما يأمر به.
ولما تقدم الإنكار على المتثاقلين عن النفر في سبيل الله في قوله تعالى {ما لكم إذا قيل لكم انفروا} [التوبة: 38] ثم الجزم بالأمر بالجهاد بالنفس والمال في قوله {انفروا خفافاً وثقالاً} [التوبة: 41] وكان أمره تعالى كافياً للمؤمن الذي صدق إيمانه بالإسلام في امتثاله لذلك في منشطه ومكرهه، وكان كثير منهم قد فعلوا بتثاقلهم ما يقدح في
إيمانهم طعماً في ستره بمعاذيرهم وإيمانهم، اقتضى المقام تبكيت المتثاقلين وتأنيب المنافقين على وجه مهتك لأستارهم مكشف لأسرارهم، فلما استوفى تعالى في ذلك أقسامهم، ونكس ألويتهم وأعلامهم، وختمهم بهذه الطائفة التي ظهر فيها امتثاله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} بأن هدّ مسجدهم وحرقة بالنار وأزال بنيانه وفرقة، وقدّ أديمه عن جديد الأرض ومزقه، أتبع ذلك سبحانه بتذكير المؤمنين ما أمرهم به في قوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} وقوله {انفروا خفافاً وثقالاًً} ليفعلوا فيه ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به، فساق مساق الجواب لسؤال من كأنه قال: لقد طال المدى وعظم الخطب في هذه السورة في إبانة الفضائح وهتك السرائر وإظهار القبائح، فلم فعل ذلك وقد جرت عادته بالأمر بالستر وأخذ العفو؟ قوله:{إن الله} أي الملك الذي لا ملك في الحقيقة غيره ولا يخشى إلا عذابه ولا يرجى إلا خيره {اشترى} أي بعهود أكيدة ومواثيق غليظة شديدة، ولذلك عبر بما يدل على اللجاج فيها فقال:{من المؤمنين} أي بالله وما جاء من عنده، وقدم النفس إشارة إلى المبايعة سابقة على اكتساب المال فقال مقدماً للأعز:{أنفسهم} أي التي تفرد بخلقها {وأموالهم} أي التي تفرد برزقها وهو يملكها دونهم.
ولما ذكر المبيع أتبعه الثمن فقال: {بأن لهم الجنة} أي خاصة بهم مقصورة عليهم، لا يكون لغير مؤمن، فميزهم حتى يقابل كل بما يستحقه، فكأنه قيل: اشترى منهم ذلك بماذا؟ فقيل: {يقاتلون في سبيل الله} أي الملك الأعلى بسبب دينه الذي لا يرضي غيره، قتالاً يكون الدين محيطاً به وظرفاً، فلا يكون فيه شائبة لغيره؛ ثم سبب عن ذلك ما هو حقيق به، فقال:{فيقتلون ويقتلون} أعم من يكون ذلك بالقوة أو بالفعل، فيخصهم بالجنة كما وعدهم، وقراءة حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول أمدح، لأن من طلب الموت - لا يقف له خصمه فيكون المعنى: فطلبوا أن يكونوا مقتولين فقتلوا أقرانهم، ويجوز أن يكون النظر إلى المجموع فيكون المعنى أنهم يقاتلون بعد رؤية مصارع أصحابهم من غير أن يوهنهم ذلك، وعن بعض الأعراب أنه لما سمع هذه الاية قال: بيع والله مربح! لا نقيل ولا نستقيل، فخرج إلى الغزو فاستشهد.
ولما كان القتل لكونه سبباً للجنة بشارة ووعداً، أكد ذلك بقوله:{وعداً} وزاده بحرف الإيجاب فقال: {عليه} وأتم التأكيد بقوله: {حقاً} ولما أكد هذه المبايعة الكريمة هذه التأكيدات العظيمة، زاد ذلك بذكره في جميع الكتب القديمة فقال:{في التوراة}
كتاب موسى عليه السلام {والإنجيل} كتاب عيسى عليه السلام {والقرآن} أي الكتاب الجامع لكل ما قبله ولكل خير، وهؤلاء المذكورون في هذه السورة كلهم ممن ادعى الإيمان وارتدى به حلل الأمان، ثم إنهم فعلوا بتخلفهم عن الإقباض وتوقفهم عن الإسراع والإيقاض وغير ذلك من أقوالهم ومساوىء أفعالهم فعل الكاذب في دعواه أو الشاك أعم من أن يكون كذب بالآخرة المشتملة على الجنة أو يكون شك في وعد الله بإيراثهم إياها أو بتخصيصهم بها، وجوز أن يدخلها غيرهم وطمع أن يكون هو ممن يدخلها مع التكذيب، والله تعالى منزه عن جميع ذلك وهو وفي بعهده {ومن} أي وعد بذلك والحال أنه أوفى المعاهدين فهو مقول فيه على طريق الاستفهام الإنكاري: من {أوفى بعهده من الله} أي الذي له جميع صفات الكمال لأن الإخلاف لا يقدم عليه الكرام من الناس فكيف بخالقهم الذي له الغنى المطلق.
ولما كان ذلك سبباً للتبشير، لأنه لا ترغيب في الجهاد أحسن منه، قال مهنئاً لهم:{فاستبشروا} أي فأوجدوا في نفوسكم غاية البشر يا معاشر المجاهدين ولما ذكره في ابتداء العقد يدل على التأكيد، ذكره في آخر بلفظ يدل على السعة إشارة إلى سعة الجزاء فقال:{ببيعكم الذي بايعتم}
أي أوقعتم المبايعة لله {به} فإنه موفيكم لا محالة فذلك هو الأجر الكريم {وذلك} أي إيراثكم الجنة وتخصيصكم بها {هو} أي خاصة لا غيره {الفوز العظيم*} فالحاصل أن هذه الآية واقعة موقع التعليل للأمر بالنفر بالنفس والمال.
ولما ثبتت المعاقدة وأحكامها، وصف المعاقدين على طريق المدح للحث على أوصافهم فقال:{التآئبون} مبتدئاً أوصافهم بالتوبة التي هي أساس العمل الصالح، ثم ابتدأ المؤسس بمطلق العبادة الشاملة لجميع أنواع الدين من العلم وغيره فقال:{العابدون} أي الذين أقبلوا على العبادة فأخلصوها لله؛ ولما كان التزام الدين لا يعرف إلا بالإقرار باللسان، أتبع ذلك الحمد الذي تدور مادته على بلوغ الغاية الذي من جملته الثناء اللساني بالجميل الشامل للتوحيد وغيره فقال:{الحامدون} أي المثنون عليه سبحانه ثناء عظيماً، تطابقت عليه ألسنتهم وقلوبهم فتبعته آثاره؛ ولما كان الإقرار باللسان لا يقبل إلا عند مطابقة القلب، تلاه بالسياحة التي تدور بكل ترتيب على الاتساع الذي منه إصلاح القلب ليتسع للتجرد عن ضيق المألوفات إلى فضاء الحضرات الإلهيات فقال:{السائحون} ولما كانت الصلاة نتيجة ذلك لكونها جامعة لعمل القلب واللسان وغيرهما من الأركان، وهي أعظم موصل إلى بساط الأنس في حضرات القدس وأعلى مجرد عن الوقوف مع المألوف. وكان أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود، وكان جميع
أشكال الصلاة موافقاً للعادة إلا الركوع والسجود، أشار إليها بقوله مخصصاً لها بالذكر تنبيهاً على أن المراد من الصلاة نهاية الخضوع:{الراكعون} فبين أن تمام هذه البشرى لهذه الأمة أن صلاة غيرهم لا ركوع فيها، وأتمها بقوله:{الساجدون} ولما كان الناصح لنفسه بتهذيب لسانه وقلبه وجميع جوارحه لا يقبل إلا إذا بذل الجهد في نصيحة غيره كما صرح به مثال السفر في السفينة ليحصل المقصود من الدين وهو جمع الكل على الله المقتضي للتعاضد والتناصر الموجب لدوام العبادة والنصرة وبذلك يتحقق التجرد عن كل مألوف مجانس وغير مجانس، أتبع ذلك قوله:{الآمرون بالمعروف} أي السنة.
ولما كان الدين متيناً فلن يشاده أحد إلا غلبه، كان المراد من المأمورات مسماها دون تمامها ومنتهاها «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» والمراد من المنهيات تركها كلها، ومن الحدود الوقوف عندها من غير مجاوزة «وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» رواه البخاري في الاعتصام من صحيحه ومسلم ايضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكانت العرب - كما تقدم في البقرة عند قوله تعالى {والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] وفي آل عمران عند قوله {الصابرين والصادقين} [آل عمران: 17] عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي - إذا أتبعت بعض الصفات بعضاً من غير عطف علم أنها غير تامة، فإذا عطفتها أردت التمكن فيها والعراقة والتمام، فأعلم سبحانه أن المراد
فيما تقدم من الأوصاف الإتيان بما أمكن منها، فأتى بها اتباعاً دون عطف لذلك، وأشار إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف عند الحدود لا يقنع منه إلا بالتمام لأن المقصر في شيء من ذلك إما راض بهدم الدين وإما هادم بنفسه، فيجب التجرد التام فيه لأن النهي أصعب أقسام العبادة لأنه متعلق بالغير وهو مثير للغضب موجب للحمية وظهور الخصومة، فربما كان عنه ضرب وقتل، فلذلك عطفها ولم يتبعها فقال:{والناهون} أي بغاية الجد {عن المنكر} أي البدعة.
ولما كان فاعل الخير لا ينفعه فعله إلا باستمراره عليه إلى الموت أتبعه قوله: {والحافظون} أي بغاية العزم والقوة {لحدود الله} أي الملك الأعظم التي حدها في هذا الشرع القيم فلم يتجاوزوا شيئاً منها، فختم بما به بدأ مع قيد الدوام بالرعي والقوة، والحاصل أن الوصف الأول للتجرد عن ربقة مألوف خاص وهو شرك المعصية بشركه أو غيره، والثاني للتجرد عن قيود العادات إلى قضاء العبادات، والثالث لبلوغ الغاية في تهذيب الظاهر. والرابع للتوسع إلى التجرد عن قيود الباطن، والخامس والسادس للجمع بين كمال الباطن والظاهر، والسابع للسير إلى إفاضة ذلك على الغير، والثامن للدوام على تلك الحدود بترك جميع القيود. فمقصود الآية العروج من الحضيض الجسماني إلى الشرف الروحاني؛ ثم أمره صلى الله عليه وسلم بتبشير المتخلق بهذه الأوصاف عاطفاً لأمره به
على محذوف تقديره - والله أعلم: فأنذر من تخلى منها بكل ما يسوءه بعد سجنه في دار الشقاوة فإنه كافر وبشرهم، أي هؤلاء الموصوفين، هكذا كان الأصل الإضمار، ولكنه أظهر ختاماً بما به بدأ وتعليقاً يالوصف وتعميماً فقال:{وبشر المؤمنين*} أي المتخلقين بها بكل ما يسرهم بعد تخصيصهم بدار السعادة، وفي ختم الآيتين بالبشارة تارة من الخالق وتارة من أكمل الخلائق أعظم مزية للمؤمنين، وفي جعل الأولى من الله أعظم ترغيب في الجهاد وأعلى حث على خوض غمرات الجلاد، وفي ابتداء الأيتين بالوصف المعشر بالرسوخ في الإيمان الذي هو الوصف المتمم للعشر وختمهما بمثله إشارة إلى أن هذه مائدة لا يخلس عليها طفيلي، وأن من عدا الراسخين في درجة الإهمال لا كلام معهم ولا التفات بوجه إليهم.
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر بالبراءة من أحياء المشركين وجاء الأمر أيضاً بالبراءة من أموات المنافقين بالنهي عن الدعاء لهم، جاءت هذه الآية مشيرة إلى البراءة من كل مشرك فوقع التصريح بعدها بما أشارت إليه، وذلك أنه لما ثبت بهذه الآية في تقديم الجار أن المبايعة وقعت على تخصيص الجنة بالمؤمنين وأنه تعالى أوفى من عاهد، ثبت أنه لا يجوز أن يدخل غيرهم الجنة وأن غيرهم أصحاب النار، لأنه قد علم أن الآخرة داران: جنة ونار، ولما ثبت هذا كله علم قطعاً علم النتيجة من المقدمات الصحيحة أنه {ما كان} أي في نفس الأمر
{للنبي} أي الذي لا ينطق إلا بما عنده فيه بيان من الله {والذين آمنوا} أي أقروا بأنهم صدقوا بدعوته فلا يفعلون إلا ما عندهم منه علم {أن يستغفروا} أي يطلبوا المغفرة ويدعوا بها {للمشركين} أي الراسخين في الإشراك في عبادة ربهم {ولو كانوا} أي المشركين {أولي قربى} أي للذين آمنوا {من بعد ما تبين لهم} أي بموتهم على الشرك وإنزال هذه الآية للختم بالتخصيص بالجنة {أنهم أصحاب الجحيم*} أي لا أهلية لهم للجنة.
فإن الاستغفار معناه محو الذنوب حتى ينجو صاحبها من النار ويدخل الجنة وما ينبغي لهم أن يكون لهم إليهم التفات فإن ذلك ربما جر إلى ملاينة تفتر عن القتال الواقع عليه المبايعة، فما ينبغي إلا محض المقاطعة والمخاشنة والمنازعة. وتقييد النهي بالتبيين يدل على جواز الدعاء للحي فإن القصد بالاستغفار الإقبال به إلى الإيمان الموجب للغفران. ولما أنكر أن يكون لهم ذلك. وكان الخليل عليه السلام المأمور بالاقتداء به واللزوم بملته قد استغفر لأبيه، بين أنه كان أيضاً قبل العلم بما في نفس الأمر من استحقاقه للتأبيد في النار، فقال دالاً بواو العطف على أن التقدير: فما استغفر لهم بعد العلم أحد من المؤمنين: {وما كان استغفار إبراهيم} أي خليل الله {لأبيه} أي بعد أن خالفه في الدين {إلا عن موعدة} أي وهي قوله {لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء} [الممتحنة: 4] وأكد صدور
الوعد بقوله: {وَعَدَها إياه} أي الخليل لأبيه قبل أن يعلم أنه أبدى الشقاوة، وقيل: الضمير لأبيه، كان وعده أنه يسلم فاستغفر له ظناً منه أنه صدق في وعده فأسلم، والذي يدل على أنه كان قبل علمه بذلك قوله:{فلما تبين له} أي بياناً شافياً قاطعاً {أنه عدو لله} أي الملك الأعلى مؤبد العداوة له بموته على الكفر أو بالوحي بأنه يموت عليه {تبرأ} أي أكره نفسه على البراءة {منه} ثم علل ما أفهمته صيغة التفعل من المعالجة بقوله: {إن إبراهيم لأواه} أي شديد الرقة الموجبة للتأوه من خوف الله ومن الشفقة على العباد؛ قال الزجاج: والتأوه أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء {حليم*} أي شديد التحمل والإغضاء عن المؤذى له، هكذا خلقه في حد ذاته فكيف في حق أبيه ولو قال له {لأرجمنك واهجرني} [مريم: 46] وأضعاف ذلك؛ قال الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل البستي القاضي في تفسيره: حدثنا حرملة حدثنا ابن وهب أخبرني ابن جريح عن أيوب بن هانىء عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً وخرجنا معه حتى انتهى إلى المقابر فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فجلس إليه فناجاه طويلاً ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أن
النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما الذي أبكاك يا نبي الله فقد فقد أبكانا وأفزعنا، فأخذ بيد عمر رضي الله عنه ثم أقبل إلينا فأتيناه فقال: أفزعكم بكائي؟ قلنا: نعم يا رسول الله! قال: إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب وإني استأذنت ربي في الاستغفار لها فلم ياذن لي ونزل عليّ {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى} حتى ختم الآية {وما كان استغفار إبراهيم لأبية إلا عن موعدة وعدها إياه} فأخذني ما يأخذ الولد من الرقة فذلك الذي أبكاني»
وهذا سند حسن، ولمسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه في الجنائز عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» وللبخاري في التفسير وغيره ابن المسيب عن أبيه رضي الله عنه قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي عم! قل: لا إله إلا الله، أُحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب!
أترغب عن ملة عبد المطلب؟ - وفي رواية: فكان آخر ما كلمهم أن قال: هو على ملة عبد المطلب - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} وأنزل الله في أبي طالب {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56] » ولعله استمر يستغفر له ما بين موته وغزوة تبوك حتى نزلت، ورُوي في سبب نزولها غير هذا أيضاً، وقد تقدم أنه يجوز أن تتعدد الأسباب.
ولما كان الاستغفار للمشركين أمراً عظيماً، وكان فيه نوع ولاية لهم، أظهر سبحانه للمؤمنين ما منّ عليهم به من عدم المؤاخذة بالإقدام عليه تهويلاً لذلك وقطعاً لما بين أوج الإيمان وحضيض الكفران بكل اعتبار فقال تعالى:{وما كان الله} أي الذي له صفات الكمال؛ ولما كان الضلال سبب الهلاك، وكان من شرع شريعة ثم عاقب ملتزمها من غير بيان كمن دل على طريق غير موصل فهلك صاحبه فكان الدال بذلك مضلاً، قال:{ليضل قوماً} أي يفعل بهم ما يفعل بالضالين من العقوبة لأجل ارتكابهم لما ينهي عنه بناسخ نسخه {بعد إذ هداهم} أي بشريعة نصبها لهم {حتى يبين لهم} أي بياناً شافياً لداء العي {ما يتقون} أي مما هو جدير بأن يحذروه ويتجنبوه خوفاً من غائلته بناسخ ينسخ حال الإباحة التي كانوا عليها.
ولما كان الذي يأمر بسلوك طريق ثم يترك فيها ما يحتاج إلى البيان إنما يؤتى عليه من الجهل أو النسيان. نفي ذلك سبحانه عن نفسه فقال معللاً لعدم الإضلال: {إن الله} أي المحيط بصفات الكمال {بكل شيء عليم*} أي بالغ العلم فلا يتطرق إليه خفاء بوجه من الوجوه في حين من الأحيان فهو يبين لكم جميع ما تأتون وتذرون وما يتوقف عليه الهدى، وما تركه فهو إنما يتركه رحمة لكم {لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52] فلا تبحثوا عنه؛ ثم علل علمه بكل شيء بأن قدرته شاملة فهو قادر على نصرة من يريد والانتقام ممن يريد، فلا ينبغي لأحد أن يحب إلا فيه ولا يبغض إلا فيه ولا يهتم بعداوة أحد ممن عاداه فقال:{إن الله} أي الملك الأعظم {له} أي بكل اعتبار تعدونه من اعتبارات الكمال {ملك السماوات والأرض} فلا يخفى عليه شيء فهو خبير بكل ما ينفعكم ويضركم وهو وليكم، يبينه لكم، ومن كان له جميع الملك كان بحيث لا يستعصي على أمره شيء: علم ولا غيره، لأن العلم من أعظم القوى والقدر، ولا يكون الملك إلا عالماً قادراً؛ ثم علل قدرته وعلمه بما يشاهد متكرراً من فعله في الحيوان والنبات وغير ذلك فقال:{يحيي ويميت} أي بكل معنى فهو الذي أحياكم وغيركم الحياة الجسمانية وخصم أنتم بالحياة الإيمانية، وكما جعل غيركم بعضهم أولياء بعض وجمعهم كلهم على ولاية عدوهم الشيطان جعلكم
أنتم أولياء ربكم الرحمن فهو وليكم وناصركم {وما} أي والحال أنه ما {لكم} ولما كان ليس لأحد أن يجوز كل ما دون رتبته سبحانه، أثبت الجار فقال. {من دون الله} أي الملك الذي له الأمر كله، وأغرق في النفي بقوله:{من ولي} أي قريب يفعل معكم من الحياطة والنصح ما يفعل القريب من النصرة وغيره.
ولما كان الإنسان قد ينصره غير قريبه قال. {ولا نصير*} أي فلا توالوا إلا من كان من حزبه وأهل حبه وقربه، وفيه تهديد لمن أقدم على ما ينبغي أن يتقي لا سيما الملاينة لأعداء الله من المساترين والمصارحين، فإن غاية ذلك موالاتهم وهي لا تغني من الله شيئاً.
ولما أشار إلى أنه هو وليهم أحياهم بروح منه مبين لهم ما يصلحهم وأنه لا ولي لهم غيره، أقام الدليل على ذلك بقوله:{لقد تاب الله} أي الذي له الجلال والإكرام {على النبي} أي الذي لا يزال عنده من الله خبر عظيم يرشده إلى ما يؤذن بتقوية حياته برفع درجاته، فما من مقام يرقيه إليه إلا رأى أنه لمزيد علوه وتقربه للمقام الذي كان دونه، فهو في كل لمحة في ارتقاء من كامل إلى أكمل إلى ما لا نهاية له.
ولما أخبر تعالى بعلو رتبة النبي صلى الله عليه وسلم بترقيته في رتب الكمالات والأكمليات إلى ما لا نهاية له على وجه هو في غاية البعث لكل
مؤمن على المبادرة إلى التوبة، أكد ذلك بقوله:{والمهاجرين والأنصار} بمحو هفواتهم ورفع درجاتهم {الذين اتبعوه} أي النبي صلى الله عليه وسلم {في ساعة العسرة} أي أزمنة عزوة تبوك، كانوا في عسرة من الزمان بالجدب والضيقة الشديدة والحر الشديد، وعسرة من الظهر «يعتقب العشرة» على بعير واحد. وعسرة من الزاد «تزودوا التمر المدوّد والشعير المسوّس والإهالة الزنخة» وبلغت بهم الشدة أن اقتسم التمر اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها؛ وسماها ساعة تهويناً لأوقات الكروب وتشجيعاً على مواقعة المكاره فإن أمدها يسير وأجرها عظيم خطير، فكانت حالهم باتباعه في هذه الغزوة أكمل من حالهم قبلها، وأشار سبحانه إلى تفاوتهم في الثبات على مقامات عالية، ترقوا بالتوبة إلى أعلى منها، وفي قبول وساوس أبعدتهم التوبة عن قبولها بقوله:{من بعد ما كاد} أي قرب قرباً عظيماً {يزيغ} أي تزول عن أماكنها الموجبة لصلاحها، وأشار ب «من» إلى تقارب ما بين كيدودة الزيغ والتدارك بالتوبة. ولما كان المقام للزلازل،
ناسب التعبير بما منه الانقلاب والفرقة فقال: {قلوب فريق} أي هم بحيث تحصل منهم الفرقة لما هناك من الزلازل المميلة {منهم} أي من عظيم ما نالهم من الشدائد فتميل لذلك عن الحق كأبي خيثمة ومن أحب الراحة وهاب السفر في ذلك الحر الشديد إلى بني الأصفر الملوك الصيد الأبطال الصناديد، وهم ملء الأرض كثرة وقدر الحصى عدة ومثل الجبال شدة، ثم عزم الله له فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع سبحانه بالجميع إلى ما كانوا عليه قبيل مقاربة الزيغ من مباعدته، ولما صاروا كمن لم يقارب الزيغ.
أعلاهم إلى مقام آخر عبرعن عظمته بأداة التراخي فقال: {ثم تاب عليهم} أي كلهم تكريراً للرفعة، أو على من كاد يزيغ بالثبات على مباعدة الزلات وبالترقي في أعالي الدرجات إلى الممات؛ ونقل أبو حيان عن الحسن أن زيغها همها بالانصراف لما لقيت من المشقة، قال وقيل: ساء ظنها بما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد الشقة وقوة العدو المقصود -انتهى. ويجوز أن يكون عبر ب {ثم} لوصولهم إلى حالة يبعد معها الثبات فضلاً عن مباعدة مواقع الزلات فثبتها حتى عادت كالحديد من غير سبب ظاهر من «جيش أو غيره» فثبت بذلك أنه مالك الملك متمكن
من فعل كل ما يريده وأنه لا ولي لهم سواه: ثم علل لطفه بهم بقوله: {إنه بهم رؤوف رحيم*} والرأفة: شدة الرحمة، فقدم الأبلغ فيقال فيه ما قيل في {الرحمن الرحيم} فالمعنى أنه يرحمهم أعلى الرحمة بإسباغ جلائل النعم ودفع جلائل النقم، ويرحمهم أيضاً بإسباغ دقائق النعم ودفع دقائق النقم، وقيل: الرأفة: إزالة الضر، والرحمة: إيصال النفع، ومادة رأف تدور مع السعة على ما أُشير إليه في سورة سبحان على شدة الوصلة. فالرأفة - كما قال الحرالي في البقرة - عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم، والرحمة تعم من لا صلة له بالراحم - انتهى. فتكون الرأفة حينئذ للثابتين والرحمة لمن قارب الزيغ. فيصير الثابت مرحوماً مرتين لأنه منظور إليه بالصفتين، وتقدم عند الحزبين من البقرة ما ينفع هنا.
ولما صرح بالتوبة على من قارب الزيغ وخلط معهم أهل الثبات إشارة إلى أن كل أحد فقير إلى الغني الكبير وليكون اقترانهم بأهل المعالي، وجعلهم في حيزهم تشريفاً لهم وتأنيساً لئلا يشتد إنكارهم، أتبعه التوبة على من وقع منه الزيغ فقال غير مصرح بالزيغ تعليماً للأدب وجبراً للخواطر المنكسرة:{وعلى} أي ولقد
تاب الله على {الثلاثة الذين} .
ولما كان الخلع للقلوب مطلق التخليف، بني للمفعول قوله:{خلفوا} أي خلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجران ونهى الناس عن كلامهم، وأخر الحكم فيهم ليأتي أمر الله في بيان أمرهم واستمر تخليفهم {حتى إذا ضاقت} أشار إلى عظيم الأمر بأداة الاستعلاء فقال:{عليهم الأرض} أي كلها {بما رحبت} أي مع شدة اتساعها، أي ضاق عليهم فسيحها ووسعها.
ولما كان هذا قد يراد به الحقيقة، وكان ضيق المحل قد لا يستلزم ضيق الصدر، أتبعه الدلالة على أن المراد المجاز فقال:{وضاقت عليهم} بالهم المزعج والغم المقلق {أنفسهم} أي من شدة ما لاقوا من الهجران حتى بالكلام حتى برد السلام؛ ولما كان ذلك لا يقتضي التوبة إلا بالمراقبة، أتبعه ذلك للتخلف بها قوله:{وظنوا} أي أيقنوا، ولعله عبر بالظن إيذان بأنهم لشدة الحيرة كانت قلوبهم لا تستقر على حال، فكان يقينهم لشدة الخواطر كأنه ظن، أو يقال - وهو حسن -: إن التعبير به عن يقين المخلصين إشارة إلى أن أعلى اليقين في التوحيد لا يبلغ الحقيقة على ما هي عليه أن لا يقدر أحد أن يُقدر لله حق قدره - كما قال صدق الخلق صلى الله عليه وسلم «لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» وهذا من النفائس فاستعمله في أمثاله {أن لا ملجأ} أي مهرب ومفزع {من الله}
أي الذي له الإحاطة الكاملة {إلا إليه} أي بما يرضيه، وهو مثل لتحيرهم في أمرهم، وجواب {إذا} محذوف دل عليه صدر الكلام تقديره: تداركهم بالتوبة فردهم إلى ما كانوا عليه قبل مواقعة الذنب.
ولما كان ما عملوه من التخلف عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عظيماً بمجرد المخالفة ثم يترك المواساة ثم بالرغبة عنه صلى الله عليه وسلم ثم بأمور عظيمة شديدة القبح وخيمة فكان يبعد معه الزيادة عن رتبة التوبة، أعلم سبحانه أنه رقاهم في رتب الكمال بأن جعل ذلك سبباً لتطهيرهم من جميع الأدناس وتنقيتهم من سائر الأردان المقتضي لمزيد القرب بالعروج في مصاعد المعارف - كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم لكعب رضي الله عنه «أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك» ، أتبع ذلك سبحانه الإعلام به بقوله - مشيراً إلى ما بعده لولا فضل الله - بأداة الاستبعاد:{ثم تاب عليهم} أي رجع بهم بعد التوبة إلى مقام من مقامات سلامة الفطرة الذي هو أحسن تقويم يعلو لعلوه بالنسبة إلى ما دونه، توبة {ليتوبوا} أي ليرجعوا إلى ما تقتضيه الفطرة الأولى من الثبات على ما كانوا عليه من الإحسان في الدين والتخلق بإخلاق السابقين، ولعله عبر بالظن موضع العلم إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من جلاله للانقطاع إليه مجرد الظن بأنه لا سبب إليه إلا منه لأنه محيط بكل شيء لا يعجزه شيء، ويمكن أن يكون التعبير - {ثم} إشارة إلى عظيم ما قاسوا من الأهوال وما ترقوا إليه من مراتب الخوف، وامتنان عليهم بالتوبة
من عظيم ما ارتكبوا، وإنما خصوا عن رفقائهم بأن أرجئوا لأمر الله لعلو مقامهم بما لهم من السابقة ورسوخ القدم في الإسلام، فالمخالفة اليسيرة منهم أعظم من الكثير من غيرهم لأنهم أئمة الهدى ومصابيح الظلم، ومن هذا البارق - حسنات الأبرار سيئات المقربين - ثم علل التوبة بأمر يعم غيرهم ترغيباً فقال معبراً بما يشير مع أعلى مقامهم إلى نزوله عن مقام من قبلهم:{إن الله} أي الذي له الكمال كله {هو} أي وحده {التواب} أي البليغ التوبة على من تاب وإن عظم جرمه وتكررت توبته لتكرر ذنوبه {الرحيم*} أي المكرم لمن أراد من عباده بأن يحفظه على ما يرتضيه فلا يزيغ، ويبالغ في الإنعام عليه.
ولما كان الذي نالوا به الإقبال من مولاهم عليهم - مما وصفهم به من الضيق وما معه - هو التقوى والصدق في الإيمان كما كان ما يجده الإنسان في نفسه مما الموت عنده والقذف في النار أحب إليه من التلفظ به صريح الإيمان بشهادة المصطفى صلى الله عليه وسلم، رغب سبحانه في الصدق فقال:{يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك {اتقوا الله} أي خافوا سطوة من له العظمة الكاملة تصديقاً لدعواكم فلا تفعلوا إلا ما يرضيه {وكونوا} أي كوناً صادقاً بجميع الطبع والجبلة {مع الصادقين*} أي في كل أمر يطلب منهم، ولعله أخرج الأمر مخرج العموم ليشمل
كل مؤمن، فمن كان مقصراً كانت آمره له باللحاق، ومن كان مسابقاً كانت حاثة له على حفظ مقام الاستباق، ولعله عبر ب {مع} ليشمل أدنى الدرجات، وهو الكون بالجثت، وقد روى البخاري توبة كعب أحد هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم في مواضع من صحيحه منها التفسير، وكذا رواه غيره عن كعب نفسه رضي الله عنه «أنه لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير غزوتين: غزوة العسرة - يعني هذه - وغزوة بدر، وأن تخلفه ببدر إنما كان لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب الناس إليها ولا حثهم عليها لأنه ما خرج أولاً إلا لأجل العير، قال: فأجمعت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان قل ما يقدم من سفر سافره إلا ضحى، وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي - يعني مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي - ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال عليَّ الأمر، وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي عليّ النبي صلى الله عليه وسلم أو يموت النبي صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي عليّ، فأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الآخر من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة رضي الله عنها، وكانت أم سلمة
محسنة في شأني معنية في أمري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ياأم سلمة! تيب على كعب، قالت: أفلا أرسل إليه فأشره؟ قال: إذن يحطمكم الناس فيمنعوكم النوم سائر الللية حتى إذا صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا، وكان إذا استبشر استنار وجهه حتى كأنه قطعة من القمر، وكنا - أيها الثلاثة الذين خلفوا - خلفنا عن الأمر الذي قبل من هؤلاء الذين اعتذروا حين أنزل الله لنا التوبة، فلما ذكر الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المتخلفين واعتذروا بالباطل ذكروا بشر ما ذكر به أحد، قال الله عز وجل {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} » .
ولما كان ما نالهم من الأهوال إنما نالهم بتخلفهم عن أشرف الخلق، والذي التفت بهم إلى مرابع الإقبال إنما هو الصدق، قال تعالى ناهياً بصيغة الخبر ليكون أبلغ، جامعاً إليهم من كان على مثل حالهم في مطلق التخلف:{ما كان} أي ما صح وما انبغى بوجه من الوجوه {لأهل المدينة} أي التي هي سكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي دار الهجرة ومعدن النصرة {ومن حولهم} أي في جميع نواحي المدينة الشريفة {من الأعراب} أي من سكان البوادي الذين أقسموا بالإسلام {أن يتخلفوا} أي في أمر من الأمور {عن رسول الله}
أي الملك الأعلى، ومن شأن المرسل إليه أن لا يبرح عن جنان الرسول لا سيما وهو رأس الصادقين الذين وقع الأمر بالكون معهم {ولا يرغبوا} أي وما كان لهم أن يرغبوا، ولعله قللهم بصيغة القلة بالنسبة إلى من أيده به صلى الله عليه وسلم من جنوده فقال تعالى:{بأنفسهم عن نفسه} أي التي هي أشرف النفوس مطلقاً بأن يصونوا نفوسهم عما باشره صلى الله عليه وسلم بل يلقونها في المتالف دونه وصيانة لنفسه الشريفة عن أدنى الأذى، فهى كالتعليل للأمر بالتقوى أي خافوا الله وأصدقوه كما صدق هؤلاء ليتوب عليكم كما تاب عليهم فإنه لم يكن لكم التخلف فهو نهي بليغ مع تقبيح وتوبيخ وإلهاب وتهييج.
ولما علل الأمر بالتقوى، علل النهي عن التخلف بما يدل على صدق الإيمان فيصير نقيضه دالاً على نقيضه فقال:{ذلك} أي النهي العظيم عن التخلف في هذا الأسلوب النافي للكون {بأنهم لا يصيبهم ظمأ} أي عطش شديد {ولا نصب} أي تعب بالغ {ولا مخمصة} أي شدة مجاعة {في سبيل الله} أي طرق دين الملك الأعظم المتوصلة به إلى جهاد أعدائه، ورتبت هذه الأشياء ترتيبها في الوجود فإن مطلق الحركة يهيج الحرارة فينشأ العطش وتماديها يورث التعب، والأغلب
أن يكون قبل الجوع.
ولما كان المقصود من إجهاد النفس بما ذكر إرغام الكفار باقتحام أرضهم المتوصل به إلى إيمانهم بالنيل منهم، أتبع ذلك قوله:{ولا يطؤون موطئاً} أي وطأً أو مكاناً وطؤه {يغيظ الكفار} أي وطؤهم له بأرجلهم أو دوابهم {ولا ينالون من عدو نيلاً} أي كائناً ما كان صغيراً او كبيراً {إلا كتب لهم به} أي في صحائف الأعمال، بني للمفعول لأن القصد إثباته لا من معين {عمل صالح} أي ترتب لهم عليه أجر جزيل.
ولما كان فاعل هذه الأشياء مقدماً على المعاطب في نفسه ومحصلاً لعرض الجهاد، أشير على وجه التأكيد في جملة اسمية إلى أنه محسن، أما في حق نفسه فبإقامة الدليل بطاعته على صدق إيمانه. وأما في غيره من المؤمنين فبحمايتهم عن طمع الكافرين. وأما في حق الكفار فبحملهم على الإيمان بغاية الإمكان، فقال تعالى معللاً للمجازاة:{إن الله} أي الذي له صفات الكمال {لا يضيع} أي لا يترك تركه ما من شأنه الإهمال {أجر المحسنين*} وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً بالوصف.
ولما كانت المشقة بالإنفاق العائد ضرره إلى المال، ووطئ مطلق الأرض
الذي قد لا يلزم منه وصول إلى ما يغيظ العدو دون المشقة الحاصلة في النفس بالظمأ وما معه من فعل ما يغيظ العدو وينقصه، قدم ذلك على قوله:{ولا ينفقون} ولما كان القليل قد يحتقر، ابتدأ به ترغيباً في قوله:{نفقة صغيرة} ولما كان ربما تعنت متعنت فجعل ذكرها قيداً، قال:{ولا كبيرة} إعلاماً بأنه معتد به لئلا يترك، وفيه إشارة إلى آية اللمز للمطوعين في الصدقات {ولا يقطعون وادياً} أي من الأدوية بالسير في الجهاد، والوادي: كل منفرج بين جبال وآكام ينفذ فيه السيل، وهو في الأصل فاعل من ودى - إذا سال {إلا كتب لهم} أي ذلك الإنفاق والقطع، بناه للمفعول لأن القصد الحفظ بالكتابة مطلقاً {ليجزيهم الله} أي ذو الجلال والإكرام، أي بذلك من فضله {أحسن ما كانوا} أي جبلة وطبعاً {يعملون*} مضاعفاً على قدر الثبات، وأكدت فاصلة الأولى دون هذه لزيادة تلك في المشقة والنفع، ولذا صرح فيها الأجر والعمل الصالح - نبه على ذلك الإمام أبو حيان. ومن هنا بل من عند {إن الله اشترى} شرع في عطف الآخر على الأول الذي مضمونه البراءة من المشركين والاجتهاد في قتالهم بعد انقضاء مدتهم حيث وجدوا - إلى أن قال {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} - إلى أن قال {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} ثم قال
{انفروا خفافاً وثقالاً} ثم أتبع ذلك قصص المنافقين كما أنه فعل هنا كذلك أن ختم بقوله {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} الآية ثم أتبعها ذكر المنافقين.
ولما تواترت النواهي للمتخلفين وتواصلت الزواجر وتعاظم التبكيت والتهديد، طارت القلوب وأشفقت النفوس، فكان ذلك مظنة أن لا يتخلف بعدها أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمن يقوم مقامه فيتمكن حينئذ الأعداء من الأموال والذراري والعيال، فأتبع ذلك قوله تعالى:{وما كان المؤمنون} أي الذين حثهم على النَّفر الرسوخ في الإيمان {لينفروا كآفة} أي جميعاً فإن ذلك بخل بكثير من الأغراض الصالحة، وهو تعليم لما هو الأنسب بالدين والدنيا من انقسام الناس قسمين: قسماً للجهاد، وقسماً للنفقة وحفظ الأموال والأولاد، كل ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام والعمل بما يرضاه، ولا يخفى ذلك على المخلص، ولعل التعبير بالفعل الماضي في قوله مسبباً عما قبله:{فلولا نفر} ليفهم تبكيت من قصد تبكيته من المتخلفين في جميع هذه السورة بأنه كان عليهم أن ينفر مع النبي صلى الله عليه وسلم {من كل فرقة} أي ناس كثير يسهل افتراقهم، قالوا: وهو اسم يقع على ثلاثة {منهم طائفة} أي ناس لا ينفكون حافين بالنبي صلى الله عليه وسلم يلزمونه، قيل: والطائفة واحد واثنان، فالآية حجة على قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وكأنه عبر به للإشارة
إلى الحث على كثرة النافرين كما هو أصل مدلولها الأغلب فيه {ليتفقهوا} أي ليكلف النافرون أنفسهم الفهم منه صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً {في الدين} أي بما يسمعونه من أقواله ويرونه من جميل أفعاله ويصل إلى قلوبهم من مستنير أحواله، وهذا غاية الشرف للعلم حيث جعل غاية الملازمة له صلى الله عليه وسلم للجهاد، هذا إن كان هو صلى الله عليه وسلم النافر في تلك الغزاة، وإن كان غيره كان ضمير {يتفقهوا} للباقين معه صلى الله عليه وسلم.
ولما كان من العلم بشارة ومنه نذارة، وكان الإنسان - لما فيه من النقصان - أحوج شيء إلى النذارة، خصها بالذكر فقال عطفاً على نحو: ليخافوا في أنفسهم فيعملوا في خلاصها: {ولينذروا قومهم} أي يحذروهم ما أمامهم من المخاوف إن فرطوا في جانب التقوى {إذا رجعوا إليهم} أي ما أنذرهموه الرسول صلى الله عليه وسلم ويبشروهم بما بشرهم به؛ ثم بين غاية العلم مشيراً إلى أن من جعل له غاية غيرها من ترفع أو افتخار فقد ضل ضلالاً كبيراً، فقال موجباً لقبول خبر من بلغهم:{لعلهم} أي كلهم {يحذرون*} أي ليكون حالهم حال أهل الخوف من الله بما حصلوا من الفقه لأنه أصل كل خير، به تنجلي القلوب فَتقبل على الخير وتعرض عن الشر، فإن الحذر تجنب الشيء لما فيه من الضرر، والمراد بالفقه هنا حفظ الكتاب والسنة وفهم معانيهما
من الأصول والفروع والآداب والفضائل، وقال الرماني: الفقه فهم موجبات المعاني المضمنة بها من غير تصريح بالدلالة عليها.
ولما علمت المقاصد وتهيأت القلوب لقبول الفوائد، وأمر بالإنذار بالفقه، وكان من الناس من لا يرجع إلا بشديد البأس، أقبل على الكل مخاطباً لهم بأدنى أسنان القلوب ليتوجه إلى الأدنى ويتناول الأعلى منه من باب الأولى فقال:{يا أيها الذين آمنوا} أي ادَّعوا بألسنتهم الإيمان {قاتلوا} أي تصديقاً لدعواكم ذلك {الذين يلونكم} أي يقربون منكم {من الكفار} فالذين يلونهم إن لم تروا غيره أصلح لمعنى يعرض لما في ذلك من حسن الترتيب ومقتضى الحكمة ولأن الجهاد معروف وإحسان، والأقربون أولى بالمعروف، ولتبعدوا العدو عن بلادكم فيكثر صلاحهم ويقل فسادكم وتكونوا قد جمعتم بالتفقه والقتال بين الجهادين: جهاد الحجة وجهاد السيف مع الاحتراس بهذا الترتيب من أن يبقى وراءكم إذا قاتلتم من تخشون كيده.
ولما كانت الملاينة أولى بالمسالمة، والمخاشنة أولى بالمصارمة، قال:{وليجدوا} من الوجدان {فيكم غلظة} أي شدة وحمية لأن ذلك أهيب في صدورهم.
وأكف عن فجورهم، وحقيقة الغلطة في الأجسام، استعيرت هنا للشدة في الحرب، وهي تجمع الجراءة والصبر على القتال وشدة العدواة، فإذا فعلوا ذلك كانوا جامعين بين جهاد الحجة والسيف كما قيل:
من لا يعدله القرآن كان له
…
من الصغار وبيض الهند تعديل
نبه على ذلك أبو حيان.
ولما كان التقدير: وليكن كل ذلك مع التقوى لا بسبب مال ولا جاه فإنها ملاك الأمر كله، قال منبهاً على ذلك بقوله:{واعلموا أن الله} أي الذي له الكمال كله {مع المتقين*} فلا تخافوا أن يؤدي شيء من مصاحبتها إلى وهن فإن العبرة بمن كان الله معه.
ولما ذكر هذه السورة أي الطائفة الحاضة بصيغة «لولا» على النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الآمرة بجهاد الكفار والغلظة عليهم، وكان لا يحمل على ذلك إلا ما أشار إليه ختم الآية السالفة من التقوى بتجديد الإيمان كلما نزل شيء من القرآن، وكان قد ذكر سبحانه المخالفين لأمر الجهاد بالتخلف دون أمر الإيمان حين قال {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} التفت إلى ذلك ليذكر القسم الآخر وهو القاعد عن الإيمان فقال:{وإذا} وأكد بزيادة النافي تنبيهاً على فضل الإيمان
فقال: {ما} .
ولما كان المنكي لهم مطلق النزول، بني للمفعول قوله:{أنزلت سورة} أي قطعة من القرآن، أي في معنى من المعاني {فمنهم} أي من المنزل إليهم {من يقول} أي إنكاراً واستهزاء، وهم المنافقون {أيكم} أي أيها العصابة المنافقة {زادته هذه إيماناً} إيهاماً لأنهم متصفون بأصل الإيمان، لأن الزيادة ضم الشيء إلى غيره مما يشاركه في صفته، هذا ما يظهرون تستراً، وأما حقيقة حالهم عند أمثالهم فالاستهزاء استبعاداً لكونها تزيد أحداً في حاله شيئاً، وسبب شكهم واستفهامهم أن سامعيها انقسموا إلى قسمين: مؤمنين ومنافقين، ولذلك أجاب تعالى بقوله مسبباً عن إنزالها:{فأما الذين آمنوا} أي أوقعوا الإيمان حقيقة لصحة أمزجة قلوبهم {فزادتهم} أي تلك السورة {إيماناً} أي بإيمانهم بها إلى ما كان لهم من الإيمان بغيرها وبتدبرها ورقة القلوب بها وفهم ما فيها من المعارف الموجبة لطمأنينة القلوب وثلج الصدور.
ولما كان المراد بالإيمان الحقيقة وكانت الزيادة مفهمة لمزيد عليه، استغنى عن أن يقول: إلى إيمانهم، لذلك ولدلالة {الذين آمنوا} عليه {وهم يستبشرون*} أي يحصل لهم البشر بما زادتهم من الخير الباقي الذي لا يعدله شيء {وأما الذين} وبين أن أشرف ما فيهم مسكن الآفة فقال:{في قلوبهم مرض} فمنعهم الإيمان وأثبت لهم الكفران فلم يؤمنوا.
ولما كان المراد بالمرض الفساد المعنوي المؤدي إلى خبث العقيدة، عبر عنه بالرجس فقال:{فزادتهم رجساً} أي اضطراباً موجباً للشك، وزاد الأمر بياناً بأن المراد المجاز بقوله:{إلى رجسهم} أي شكهم الذي كان في غيرها {وماتوا} أي واستمر بهم ذلك لتمكنه عندهم إلى أن ماتوا {وهم كافرون*} أي عريقون في الكفر، وسمي الشك في الدين مرضاً لأنه فساد في الروح يحتاج إلى علاج كفساد البدن في الاحتياج، ومرض القلب أعضل، وعلاجه أعسر وأشكل، ودواءه أعز وأطباؤه أقل. ولما زاد الكفار بالسورة رجساً من أجل كفرهم بها، كانت كأنها هي التي زادتهم، وحسن وصفها بذلك كما حسن: كفى بالسلامة داء، وكما قال الشاعر:
أرى بصري قد رابني بعد نصحه
…
وحسبك داء أن تصح وتسلما
قاله الرماني، فالمؤمنون يخبرون عن زيادة إيمانهم وهؤلاء يخبرون عن عدمه في وجدانهم، فهذا موجب شكهم وتماديهم في غيهم وإفكهم، ولو أنهم رجعوا إلى حاكم العقل لأزال شكهم وعرفهم صدق المؤمنين بالفرق بين حالتيهم، فإن ظهور الثمرات مزيل للشبهات، والآية من الاحتباك: إثبات الإيمان أولاً دليل على حذف ضده ثانياً، وإثبات المرض ثانياً دليل على حذف الصحة أولاً.
ولما كان التقدير تسبيباً عما جزم به من الحكم بعراقتهم في الرجس
وازديادهم منه: أفلا يرون إلى تماديهم في النفاق وثباتهم عليه؟ عطف عليه تقريرهم بعذاب الدنيا والإنكار عليهم في قوله: {أولا يرون} أي المنافقون، قال الرماني: والرؤية هنا قلبية لأن رؤية العين لا تدخل على الجملة لأن الشيء لا يرى من وجوه مختلفة {أنهم} أي المنافقين؛ ولما كان مطلق وقوع الفتنة من العذاب، بنى للمفعول قوله:{يفتنون} أي يخالطون من حوادث الزمان ونوازل الحدثان بما يضطرهم إلى بيان أخلاقهم بإظهار سرائرهم في نفاقهم {في كل عام} أي وإن كان الناس أخصب ما يكونون وأرفعه عيشاً {مرة أو مرتين} فيفضحون بذلك، وذلك موجب للتوبة للعلم بأن من علم سرائرهم - التي هم مجتهدون في إخفائها - عالم بكل شيء قادر على كل مقدور، فهو جدير بأن تمتثل أوامره وتخشى زواجره.
ولما كان عدم توبتهم مع فتنتهم على هذا الوجه مستبعداً، أشار إليه بأداة التراخي فقال:{ثم لا يتوبون} أي لا يجددون توبة {ولا هم} أي بضمائرهم {يذكرون*} أي أدنى تذكر بما أشار إليه الإدغام، فلولا أنه حصلت لهم زيادة في الرجس لأوشك تكرار الفتنة أن يوهي رجسهم إلى أن يزيله ولكن كلما أوهى شيئاً خلقه مثله أو أكثر بسبب الزيادات المترتبة على وجود نجوم القرآن، والتذكر طلب الذكر للمعنى بالكفر فيه، فالآية ذامة لهم على عدم التوبة بإصابة المصائب لعدم تذكر
أنه سبحانه ما أصابهم بها إلا بذنوبهم {ويعفو عن كثير} [الشورى: 34] كما أن أحدهم لا يعاقب فتاة إلا بذنب وما لم يتب فهو يوالي عقابه.
ولما ذكر ما يحدث منهم من القول استهزاء، أتبعه تأكيداً لزيادة كفرهم وتوضيحاً لتصويره ما يحدث من فعلهم استهزاء من الإيمان والتغامز بالعيون فقال {وإذا} وأكد بالنافي فقال:{ما} ولما كان الغرض نفس الإنزال لا تعيين المنزل، بني للمفعول قوله {أُنزلت سورة} أي طائفة من القران {نظر بعضهم} أي المنافقين {إلى بعض} أي متغامزين سخرية واستهزاء قائلين:{هل يراكم} وأكدوا العموم فقالوا: {من أحد} أي من المؤمنين إن انصرفتم، فإن يشق علينا سماع مثل هذا، ويشق علينا أن يطلع المؤمنون على هذا السر منا.
ولما كان انصرافهم عن مثل هذا المقام مستهجناً، أشار إلى شدة قبحه بأداة التراخي فقال:{ثم انصرفوا} أي إن لم يكن أحد يراهم، وإن رآهم أحد من المؤمنين تجشموا المشقة وثبتوا؛ ولما كانوا مستحقين لكل سوء، أخبر عنهم في أسلوب الدعاء بقوله:{صرف الله} أي الذي له الغنى المطلق والكمال كله {قلوبهم} أي عن الإيمان؛ ثم علل ذلك بقوله: {بأنهم قوم} وإن كانوا ذوي قوة على ما يحاولونه فإنهم {لا يفقهون*} أي قلوبهم مجبولة على عدم الفهم لما بها من الغلظة،
وهذا دليل على ختام الآية قبلها، وهاتان الآيتان المختتمتان - ب {لا يفقهون} التاليتان للأمر بالجهاد في قوله {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} الموازي - {انفروا خفافاً وثقالاً} الآية - قد احتوتا مع وجازتهما على حاصل أوصاف المنافقين التالية لآية {انفروا} المختتم ما هو العام منها في أهل الحاضرة في قوله {استأذنك أولوا الطول منهم} ب {يفقهون} ثم عند إعادة ذكرهم ب {لا يعلمون} وتصويب هاتين الآيتين إلى أهل الحاضرة ظاهر لكونهم ممن يحضر نزول الذكر كثيراً مع احتمالهما للعموم، والختم هنا ب {لا يفقهون} أنسب لأن المقام - وهو النظر في زيادة الإيمان بالنسبة إليهم - يقتضي فكراً وتأملاً وإن كان بالنظر إلى المؤمنين في غاية الوضوح.
ولما أمر صلى الله عليه وسلم أن يبلغ هذه الأشياء الشاقة جداً من أمر هذه السورة، وكان من المعلوم أنه لا يحمل ذلك إلا من وفقه الله تعالى، وأما المنافقون فيكرهون ذلك وكان انصرافهم دالاً على الكراهة، عرفهم أن الأمر كان يقتضي توفر دواعيهم على محبة هذا الداعي لهم المقتضي لملازمته والبعد عما يفعلونه به من الانصراف عنه، وأن أحواله الداعية لهم إلى محبته أعظم من أحوال آبائهم التي أوجبت لهم منهم من المحبة وعليهم من الحقوق ما هم مفتخرون بالتلبس به والمغالاة فيه، وأن كل ما يحصل بهذا القرآن من العز
والشرف في الدنيا فهو لكل من آمن به فقال: {لقد جاءكم رسول} .
ولما كان الرسول يجب إكرامه والوقوف في خدمته لأجل مرسله ولو تجرد عن غير ذلك الوصف، شرع يذكر لهم من أوصافه ما يقتضي لهم مزيد إكرامه فقال:{من أنفسكم} أي ترجعون معه إلى نفس واحدة بأنكم لأب قريب، وذلك أقرب إلى الألفة وأسرع إلى فهم الحجة وأبعد من المحل واللجاجة {عزيز} أي شديد جداً {عليه ما عنتم} والعزة: امتناع الشيء بما يتعذر معه ما يحاول منه بالقدرة أو بالقلة أو بالصعوبة، والعنت: لحاق الأذى الذي يضيق الصدر به ولا يهتدي للمخرج منه {حريص} أي بليغ الحرص {عليكم} أي على نفعكم، والحرص: شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه، وقدم الجار لإفادة الاختصاص فقال:{بالمؤمنين} أي العريقين في هذا الوصف كافة خاصة، ولما ذكر الوصف المقتضي للرسوخ، قدم ما يقتضي العطف على من يتسبب له بما يقتضي الوصلة فقال:{رءوف} أي شديد الرحمة لمن له منه عاطفة وصلة لما تقدم من معنى الرأفة قريباً.
ولما كان المؤمن يطلق مجازاً على من يمكن منه الإيمان فوصلته الآن ليست بالفعل بل الإمكان، قال تعميماً لرحمته صلى الله عليه وسلم كما هو اللائق بشريف منصبه وعظيم خلقه:{رحيم*} ولأجل مثل هذه الأغراض النفسية رتب سبحانه هذين الوصفين هكذا، ولكن
المعاني المراده تارة يظهرها الله تعالى لعبده منحة له وإكراماً، وتارة يخفيها إظهاراً لعجزه ونقصانه ثم يظهرها له في وقت آخر إن صدق في التضرع وإظهار الافتقار والتذلل وأدام الطلب، أو لغيره ممن هو أقل منه علماً وأضعف نظراً وفهماً، وإذا تأملت كتابي هذا ظهر لك أن كثيراً من الآيات فسرها على غير المراد منها قطعاً أكابر العلماء، فعلى الأنسان - إذا خفي عليه أمر - أن يقول: لا أعلم، ولا يظن أنه رتب شيء من هذا الكتاب العزيز لأجل الفواصل، فلذلك أمر لا يليق بكلام الله تعالى، وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم السجع، لأن الساجع يكونُ محطَ نظره الألفاظ، فيدير المعاني عليها ويتبعها إياها، فربما عجز اللفظ عن توفية المعنى؛ روى البخاري في الطب وغيره من صحيحه ومسلم في الديات وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه
«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة، فقال الذي قضى عليه: كيف أغرم من لاشرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك بطل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان» من أجل سجعه الذي سجع، وفي رواية: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سجع كسجع الأعراب» وذلك - والله أعلم - أنه لو كان نظره إلى المعنى وتصحيحه لأغنى عن هذا السجع أن يقال: كيف أغرم من لاحياة له، ولوقصد السجع وتهذيب المعنى لأتى مما يدل على نفي الحياة التي جعلها محط أمره فإن
ما أتى به لا يستلزم نفيها، ولو تقيد بالصحة لاغتنى بنفي النطق عن نفي الاستهلال، فصح بهذا أنه دائر مع تحسين اللفظ صح المعنى أم لا، وينطبع في عقل عاقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يذم السجع وهو يأتي به ويقصده في القرآن أو في السنة، ولو كان ذلك لأسرعوا الرد عليه، وذكر أصحاب فتوح البلاد في فتح مكران من بلاد فارس أن الحكم بن عمرو لما فتحها أرسل بالأخماس مع صحار العبدي، فلما قدم على عمر رضي الله عنه سأله عن مكران وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه فقال: يا أمير المؤمنين! أرض سهلها جبل، وماءها وشل وثمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر منها؛ فقال، أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال: لا بل مخبر، قال: لاوالله! لا يغزوها جيش لي ما أطعت.
فقد جعل الفاروق السجع قسيماً للخير فدل على أن التقيد به عيب لإخلاله بالفائدة أو بتمام الفائدة، ولعله إنما جوز أن يكون مخبراً لنه انفك عن السجع في آخر كلامه وكرر لفظ «قليل» فكان ما ظنه، لأنه لو أراد السجع لأمكنه أن يقول والكثير بها ذليل،
والقليل بها ضائع كليل، وما وراءها شر منها بأقوم قيل؛ وقد نفى سبحانه عن هذا القرآن المجيد تصويب النظر إلى السجع كما نفى عنه الشعر فإنه تعالى قال {وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون} [الحاقة: 41، 42] فكما أن قول الشاعر إتيانه بالكلام موزوناً، فكذلك قول الكاهن إتيانه بالكلام مسجوعاً والقرآن ليس من هذا ولا من هذا. وإن وقع فيه كل من الأمرين فغير مقصود إليه ولا معول عليه، بل لكون المعنى انتظم به على اتم الوجوه فيؤتي به لذلك، ثم تبين أنه غير مقصود بالانفكاك عنه في كثير من الأماكن بقرينة ليس لها مجانس في اللفظ لتمام المعاني المرادة عندها فيعلم قطعاً أن ذلك غير مقصود أصلاً لأن مثل ذلك لا يرضى به أقل الساجعين، بل يراه عجزاً وضيقاً عن تكميل المشاكلة ونقصاً - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومما يوجب لك القطع بأن ترتيب هذين الاسمين الشريفين هكذا لغير مراعاة الفواصل قوله تعالى في سورة الحديد {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة} [الحديد: 27] وسيأتي إن شاء الله في سورة طه عن الفخر الرازي والقاضي أبي بكر الباقلاني مَنَع النظر إلى السجع في الكتاب العزيز نقلاً عن جميع الأشاعرة، وإذا تأملت الفواصل في الإتيان بها تارة بكثرة وتارة بقلة، وتارة تترك
بالكلية ويؤتى في كل آية بفاصلة لا توافق الأخرى، علمت أن هذا المذهب هو الصواب ولا سيما آخر سورة {اقرأ} وإذا تأملت كتب أهل العدد أتقنت علم هذا المستند، وإذا تأملت ما قلته في هذا النحو من كتابي مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور لم يبق عندك شك في شيء من هذا، فإياك ان تجنح لهذا القول فتكون قد وقعت في أمر عظيم وأنت لا تشعر، وأورد سبحانه هذه الآية إيراد المخاطب المتلطف المزيل لما عندهم من الريب بالقسم، فكأنه قال: ما لكم تنصرفون عن حضرته الشماء وشمائله العلى! والله لقد جاءكم - إلى آخره، ثم أقبل عليه مسلياً له مقابلاً لإعراضهم إن أعراضوا بالإعراض عنهم والبراءة منهم ملتفتاً إلى السورة الآمر بالبراءة من كل مخالف، قائلاً مسبباً عن النصيحة بهذه الآية التي لا شك عاقل في مضمونها:{فإن تولوا} أي اجتهدوا في تكليف فطرهم الأولى أو ولوا مدبرين عنك بالانصراف المذكور أو غيره بعد النصيحة لهم بهذه الآية {فقل} اي استعانة بالله تفويضاً إليه {حسبي} أي كافي؛ قال الرماني: وهو من الحساب لأنه جل ثناه يعطى بحسب الكفاية التي تعني عن غيره، ويزيد من نعمته مالا يبلغ إلى حد ونهاية إذ نعمه دائمة ومننه متظاهر {الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له، وإنما كان كافياً لأنه {لا إله إلا هو} فلا مكافىء له فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه.
ولما قام الدليل على أنه لا كفؤ له، وجب قصر الرغائب عليه
فقال: {عليه} أي وحده {توكلت} لأن أمره نافذ في كل شيء {وهو رب} اي مالك ومخترع ومدبر؛ ولما كان في سياق القهر والكبرياء بالبراءة من الكفار والكفاية للأبرار، كان المقام بالعظمة أنسب كآية النمل فقال:{العرش العظيم*} أي المحيط بجميع الأجسام الحاوي لسائر الأجرام الذي ثبت بآية الكرسي وغيرها أن ربه أعظم منه لأن عظمته على الأطلاق فلا شيء إلا هو في قبضته وداخل في دائرة مملكته، وإذا كان كافي فأنا بريء ممن تولى عني وبعد مني كائناً من كان في كل زمان ومكان فقد عانق آخر السورة أولها وصافح منتهاها مبتدأها وتأكد ما فهمته من سر الالتفات في {فسيحوا} وفي {فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله} والله تعالى أعلم.
سورة يونس
وهي أولى المئين إن جعلها براءة مع الأنفال من الطول، وإلا فبراءة أولاهن، مقصودها وصف الكتاب بأنه من عند الله من عند الله لما اشتمل عليه من الحكمة وأنه ليس إلا من عنده سبحانه لأن غيره لا يقدر على شيء منه، وذلك دال ريب على أنه واحد في ملكه لا شريك له في شيء من أمره، وتمام الدليل على هذا قصة قوم يونس عليه السلام بأنهم لما آمنوا
عند المخايل كشف عنهم، فدل قطعاً على ان الآتي به هو الله الذي آمنوا به غذ لو كان غيره لكان إيمانهم به موجباً للإيقاع بهم، ولو عذبوا كغيرهم ليقل: هذه عادة الدهر، كما قالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء ودل ذلك على أن عذاب غيرهم من الأمم إنما هو من عند الله لكفرهم لما اتسق من ذلك طرداً بأحوال سائر الأمم من أنه كلما وجد الإصرار على التكذيب وجد العذاب، وعكساً منه كلما انتفى في وقت يقبل قبول التوبة انتفى - والله الموفق) بسم الله (اي الذي لا أمر لأحد سواه فلا كلام يشبه كلامه فلا كفوء له) الرحمن (الذي عم بكلامه جميع خلقه فأوضح البيان) الرحيم (الذي أتم لمطيعهم نعمة الامتنان)
{الر} فخم الراء ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم، وأمالها ورش عن نافع بين بين، والباقون بالإمالة المحضة، والأصل في ذلك الفتح، وكذا ما كان من أمثالها مما ألفاتها ليست منقلبة عن ياء نحو ما ولا، وإمالتها للتنبيه على أنها أسماء للحروف وليست حروفاً - نقل ذلك عن الواحدي.
لما قدم في أول الأعراف الحث على إبلاغ النصيحة بهذا الكتاب وفرغ مما اقتضاه السياق من التحذير من مثل وقائع الأولين ومصارع الماضين ومما استتبع ذلك من توصيل القول قي ترجمة هذا النبي الكريم مع قومه في أول أمره وأثنائه وآخر في سورتي الأنفال وبراءة، وختم ذلك بأن سور الكتاب تزيد كل أحد مما هو ملائم له متهيىء
لقبوله وتبعده عما هو منافر له بعيد من قبول ملاءمته. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قد حوى من الأوصاف والحلي والأخلاق العلى ما يوجب الإقبال عليه والإسراع إليه. والإخبار بأن توليهم عنه لا يضره شيئاً لأن ربه كافيه لأنه لامثل له وأنه ذو العرش العظيم؛ لما كان ذلك كذلك، أعاد سبحانه القول في شأن الكتاب الذي افتتح به الأعراف وختم سورة التوبة، وزاده وصف الحكمه وأشار بأداة البعد إلى أن رتبته فيها بعيدة المنال بديعة المثال فقال:{تلك} أي الآيات العظيمة جداً التي اشتملت عليها هذه السورة، أو السور التي تقدمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أن القرآن كلام الله وإلا لما أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف {آيات الكتاب} أي الذكر الجامع لكل خير، وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كل ما في التوارة والإنجيل من ذلك، فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً لأنه لم يكن يعرف شيئاً مما في الكاتبين ولا جالس أحداً يعلمه {الحكيم*} فكان فيما مضى - أن كونه من عند الله كاف في وجوب اتباعه - وفيما هنا تأكيد الوجوب بكونه مع ذلك حكيماً والآية: العلامة التي تنبىء عن مقطع الكلام من جهة مخصوصة، والحكيم: الناطق بالحكمة. وهي المعروف بما يجتمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد
والنقص، استعير له ذلك لأنه دليل كالناطق بالحكمة لأنه يؤدي إلى المعرفة التي يميز بها طريق النجاة من طريق الهلاك، وهو حاكم يبين الحق من الباطل في الأصول والفروع ويحكم بالعدل الذي لا جور فيه بوجه في كل نازلة، ومحكم لما أتى به، مانع له من الفساد، لا يمحوه الماء ولا تحرقه النار ولا تغيره الدهور، وهذا ما ظهر لي في التحامها بما قبلها؛ وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة براءة قوله تعالى
{إلا تنصروه فقد نصره الله} [براءة: 40] وقوله {عفا الله عنك لما أذنت لهم} [براءة: 43] وقوله {ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} [براءة: 61] وقوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} [براءة: 128] إلى آخر السورة إلى ما تخلل أثناء آي هذه السورة الكريمة مما شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتخصيصه بمزايا السبق والقرب والاختصاص والملاطفة في الخطاب ووصفه بالرأفة والرحمة، هذا ما انطوت هي والأنفال عليه من قهره أعداءه وتأييده ونصره عليهم وظهوره دينه وعلو دعوته وإعلاء كلمته إلى غير هذا من نعم الله سبحانه عليه، وكان ذلك كله مظنة لتعجب المرتاب وتوقف الشاك ومثيراً لتحرك ساكن الحسد من العدو العظيم ما منحه عيه السلام، قال تعالى {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} إلى قوله:
{لسحر مبين} ثم قال {إن ربكم الله} الآيات، فبين انفراده تعالى بالربوبية والخلق والاختراع والتدبير، فكيف تعترض أفعاله أو يطلع البشر على وجه الحكمة في كل ما يفعله ويبديه، وإذا كان الكل ملكه وخلقه فيفعل في ملكه ما يشاء ويحكم في خلقه بما يريد {ذلكم الله ربكم فاعبدوه} {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} ثم توعد سبحانه الغافلين عن التفكر في عظيم آياته حتى أدتهم الغفلة إلى مرتكب سلفهم في العجب والإنكار حتى قالوا {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7] وقالوا {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} [الفرقان: 21] وهذه مقالات الأمم المتقدمة {قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا} [يس: 15]{قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا} [المؤمنون: 47]{ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم} [سبأ: 43] فقال تعالى متوعداً للغافلين {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا} ، ثم وعد المعتبرين فقال {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} ، وكل هذا بيّن الالتحام جليل الالتئام، تناسجت آي السور - انتهى.
ولما كان كونه من عند الله مع كونه حكيماً - موجباً لقبوله بادىء بدء والسرور به لما تقرر في العقول وجبلت عليه الفطر من أنه تعالى
الخالق الرازق كاشف الضر ومدبر الأمر، كان ذلك موضع أن يقال: ما كان حال من تلي عليهم؟ فقيل: لم يؤمنوا، فقيل: ماشبهتهم؟ هل قدروا على معارضته والطعن في حكمته؟ فقيل: لا! بل تعجبوا من إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم وليس بأكثرهم مالاً ولا بأقدمهم سناً، فرجع حاصل تعجبهم إلى ما قاله تعالى إنكاراً عليهم. فإنه لو أرسل ذا سن قالوا مثل ذلك، وهل مثل ذلك محل العجب! {أكان} أي بوجه من الوجوه {للناس عجباً} أي الذين فيهم أهلية التحرك إلى المعالي، والعجب: تغير النفس بما لا يعرف سببه مما خرج عن العادة؛ ثم ذكر الحامل على العجب وهو اسم «كان» فقال بعد ما حصل لهم شوق إليه: {أن أوحينا} أي ألقينا أوامرنا بما لنا من العظمة بواسطة رسلنا في خفاء منهين {إلى رجل} أي هو في غاية الرجولية، وهو مع ذلك {منهم} بحيث إنهم يعرفون جميع أمره كما فعلنا بمن قبلهم والملك العظيم المُلك المالك التام الملك لا اعتراض عليه فيما به تظهر خصوصيته من إعلاء من شاء.
ولما كان في الإيحاء معنى القول، فسره بقوله {أن أنذر الناس} أي عامة، وهم الذين تقدم نداءهم أول البقرة، ما أمامهم من البعث وغيره إن لم يؤمنوا أصلاً أو إيماناً خالصاً ينفي كل معصية صغيرة أو كبيرة وكل هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات {وبشر} أي خص {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا
الوصف وعملوا تصديقاً لدعواهم له الصالحات، أي من الأعمال اللسانية وغيرها، بالبشارة بقبول حسناتهم وتكفير سيئاتهم والتجاوز عن هفواتهم وترفع درجاتهم كما كان إرسال الرسل قبله وكما هو مقتضى العدل في إثابة الطائع الطائع وعتاب العاصي، والإنذار: الإعلام بما ينبغي أن يحذر منه، والتبشير: التعريف بما فيه السرور، واضاف القدم - الذي هو السابقة بالطاعة - إلى الصدق في قوله تعالى موصلاً لفعل البشارة إلى المبشر به دون حرف جر:{أن لهم} أي خاصة {قدم صدق} أي أعمالاً حقة ثابته قدموها لأنفسهم صدقوا فيها وأخلصوا فيما يسّروا له لأنهم خلقوا له وكان مما يسعى إليه بالأقدام، وزاد في البشارة بقوله:{عند ربهم} ففي إضافة القدم تنبيه على أنه يجب أن يخلص له الطاعة كإخلاص الصدق من شوائب الكذب، وفي التعبير بصفة الإحسان إشارة إلى المضاعفة.
ولما ثبت أن الرسول وما أرسل به على وفق العادة، انتفى أن يكون عجباً من هذه الجهة، فصار المحل قابلاً لأن يتعجب منهم فيقال: ما قالوا حين أظهروا العجب؟ ومن أيّ وجه رأوه عجباً؟ فقيل: {قال الكافرون} أي الراسخون في هذا الوصف منهم وتبعهم غيرهم مؤكدين ما يحق لقولهم من الإنكار {إن هذا} أي القول وما تضمنه من الإخبار بما لا يعرف من البعث وغيره
{لسحر} أي محمد لساحر - كما في قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي {مبين*} أي ظاهر في نفسه، وهو من شدة ظهوره مظهر لكل شيء أنه كذلك، فجاؤوا بما هو في غاية البعد عن وصفه، فإن السحر قد تقرر لكل ذي لب أنه - مع كونه تمويهاً لا حقيقة له - شر محض ليس فيه شيء من الحكمة فضلَا عن أن يمتطي الذروة منه مع أن في ذلك ادعاءهم أمراً متناقضاً، وهو أنه من قول البشر كما هي العادة في السحر، وأنهم عاجزون عنه، لأن السحر فعل تخفى الحيلة فيه حتى يتوهم الإعجاز به، فقد اعترفوا بالعجز عنه وكذبوا في ادعاء أنه لسحر لأن الآتي به منهم لم يفارقهم قط وما خالط عالماً لا بسحر ولا غيره حتى يخالطهم فيه شبهة، فهم يعلمون أن قولهم في غاية الفساد، فشرع سبحانه يقيم الدليل على بطلان قولهم من أنه - مع ما تضمنه من البعث - سحر، وعلى حقيقة أنه من عنده من غير شبهة، وعلى أن الرسالة لا عجب فيها، لأنه سبحانه خلق الوجود كله وهو نافذ الأمر فيه وقد ابتلى من فيه من العقلاء ليردهم إليه ويحاسبهم فإنه لم يخلقهم سدى لأنه حكيم، فلا بد من رسول يخبرهم بما يرضيه وما يغضبه لتقوم بذلك الحجة فقال:{إن ربكم} أي الموجد لكم والمربي والمحسن {الله} أي من ربى شيئاً ينبغي أن يكون حكيماً وقادراً على أسباب
صلاحه، فأيقظوا أنفسكم من سنة غفلتها تعلموا أن هذا الكتاب من عند الذي له العظمة كلها قطعاً، وأنه قادر على بعثكم لأنه ربكم {الذي} بدأ الخلق بأن {خلق} أي قدر وأوجد {السماوات والأرض} على اتساعهما وكثرة ما فيهما من المنافع {في ستة أيام} لحكمة أرادها على أن ذلك وقت يسير لا يفعل مثل ذلك في مثله إلا من لا يعجزه شيء.
ولما أوجد سبحانه هذا الخلق الكثير المتباعد الأقطار الواسع الانتشار المفتقر إلى عظيم التدبير ولطيف التصريف والتقدير، عبر سبحانه عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي:{ثم استوى} أي عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك {على العرش} المتقدم وصفه بالعظمة، وليست «ثم» للترتيب بل كناية عن علو الرتبة وبعد منالها؛ ثم بين ذلك الاستواء بقوله:{يدبر} لأن التدبير أعدل أحوال الملك فالاستواء كناية عنه {الأمر} كله فلا يخفي عليه عاقبة أمر من الأمور، فحصل الأمن بهذا من أن يفعل شيء بغير علمه، لأن التدبير تنزيل الأمور في مراتبها على إحكام عواقبها، وهو مع ذلك منزه عما تعرفونه من أحوال الملوك من أنه يكون في ممالكهم من يقضي بعض الأمور بغير إذن منهم وإن علموا به لعجزهم عن المجاهرة بإدامة دفعه،
بل هو متصف بأنه {ما من شفيع} أي وإن كان بليغ الاتصاف بذلك.
ولما كان تمام قهره وعظيم سلطانه لا يفيد أحداً عند إذنه له إذناً عاماً لجميع الأزمان والأماكن، أتى بالجار فقال:{إلا من بعد إذنه} فإذا لم يقدر شفيع على الكلام في الشفاعة إلا بإذنه فكيف يقدر أحد أن يأتي بشيء من الأشياء بغير إذنه فكيف يأتي بكتاب حكيم ليس من عنده يعجز الخلق عن معارضته، فحصل الأمن أن يكون غيره قاله أو شفع فيمن أبلغه فأبلغه من غير إرادة منه سبحانه، فتحرر أنه ليس إلا من عنده وأنه أمر بإبلاغه، وقد عرف من هذا أن {ما من شفيع} في موضع الدلالة على أنه لا يخرج عن تدبيره أمر من الأمور ولا يغلبه شيء اصلاً فبطل ما كانوا يقولون في الأصنام من الشفاعة وغيرها والشفيع: السائل في غيره بتبليغ منزلته من عفو أو زيادة منزلة، وقد وقع ذكر الكتاب والرسول والعرش مرتباً في أول هذه على ما رتب آخر تلك؛ فلما تقرر ما وصف به من العظمة التي لا يشاركه فيها أحد، وجب أن يعبد عبادة لا يشاركه فيها شيء، فنبه على ذلك بقوله:{ذلكم} أي العظيم الشأن العالي المراتب {الله} أي
الملك الأعلى {ربكم} الذي تقرر له من العظمة والإحسان بالإيجاد والتربية ما لا يبلغه وصف {فاعبدوه} أي فخصُّوه بالعبادة فإن عبادتكم مع الإشراك ليست عبادة، ولولا فضله لم يكن لمن زل أدنى زلة طاعة.
ولما سبب سبحانه عن أوصافه العلى ما وجب له من الأمر بالعبادة، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في التوقف عنها والاحتياج فيها إلى بروز الأمر بها قام على استحقاقه للأفراد بها من الأدلة التي فيهم شواهدها فقال:{أفلا تذكرون*} أي ولو بأدنى أنواع التذكر بما أشار إليه الإدغام، ما أخبركم سبحانه به ونبهكم عليه بما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه لا يقدر أحد أن يعمل كل ما يريد، ويعمل كثيراً مما لا غرض له فيه ويعلم أنه يضره إلى غير ذلك من الأمور ليعلم قطعاً أن الفاعل الحقيقي غيره وأنه لا بد لهذا الوجود من مؤثر فيه هو في غاية العظمة لا يصح بوجه أن يشاركه شيء ولو كان أعظم ما يعرف من الأشياء فكيف بجماد لا يضر ولا ينفع! .
فلما تقرر أنه هو الذي بدأ الخلق، تقرر بذلك أنه قادر على إعادته فقال:{إليه} أي خاصة {مرجعكم} أي رجوعكم وموضع رجوعكم ووقته حال كونكم {جميعاً} لا يتخلف منكم أحد، تقدم وعده لكم بذلك {وعد الله} أي الذي له الكمال كله {حقاً}
فهو تعليل لعبادته لوحدانيته، فيحيون بعد الموت ويحشرون إلى موضع جزاء الله تعالى لهم زمانه الذي قدره له، ويرفع ما كان لهم من المكنة في الدنيا، فعلم قطعاً أنه لا بد من الرسول، فاستعدوا للقاء هذا الملك الأعظم بكل ما أمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ثم أوضح التنبيه على قدرته مضمناً له بيان حكمته فقال معللاً لوجوب المرجع إليه مؤكداً عداً لهم في عداد المنكر للابتداء لأجل إنكارهم ما يلزم عنه من تمام القدرة على البعث وغيره:{إنه يبدأ الخلق} أي ينشئه النشأة الأولى، له هذه الصفة متجددة التعلق على سبيل الاستمرار {ثم يعيده} ليقيم العدل في خلقه بأن ينجز لمن عبده، وعده بأن يعزه ويذل عدوه وذلك معنى قوله:{ليجزي} .
ولما كان في سياق البعث، قدم أهل الجزاء وبدأ بأشرافهم فقال:{الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف الذي هو الأساس المتقن لكل عمل صالح {وعملوا} أي وصدقوا إيمانهم بأن عملوا {الصالحات} جزاء كائناً {بالقسط} ، واقتصر على العدل دون الفضل ليفهم أن ترك الحشو مخل بالعمل الذي هو محط الحكمة التي هي أعظم مصالح السورة، والجزاء: الإعطاء بالعمل ما يقتضيه من خير أو شر، فلو كان الإعطاء ابتداء لم يكن جزاء، ولو كان
ما لا يقتضيه العمل لم يكن جزاء مطلقاً والقسط: العدل {والذين كفروا} أي أوجدوا هذا الوصف {لهم} أي في الجزاء على جهة الاستحقاق {شراب من حميم} أي مسخن بالنار أشد الإسخان {وعذاب أليم} أي بالغ الإيلام {بما كانوا} أي جبلة وطبعاً {يكفرون*} فإن عذابهم من أعظم نعيم المؤمنين الذين عادوهم فيه سبحانه {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} [سورة المطففين: 34-36] وكأنه قال: {يبدأ} مضارعاً لا كما قال في آية أخرى {كما بدأكم تعودون} [الأنفال: 29] حكاية للحال وتصويراً لها تنبيهاً على تأمل ما يتجدد إنشاءه ليكون أدعى لهم إلى تصور القدرة على الإعادة؛ قال الرماني: وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه التمكين في الدنيا من تجديد النشأة للجزاء لأنه لا بد - مع التمكين من الحسن والقبيح - من ترغيب وترهيب لا يؤمن معه العذاب على الخلود ليخرج المكلف بالزجر عن القبيح عن حال الإباحة له يرفع التبعة عليه - انتهى. فقد لاح بما ذكر ما تعين في أثناء السورة بتكريره لتوضيحه وتقريره - أن مقصودها وصف الكتاب بما يدل قطعاً على أنه من عنده سبحانه وبإذنه، لأنه لا غائب عن علمه ولا مداني لقدرته ولا مجترىء على عظمته، وأنه تام القدرة متفرد بالخلق والأمر فهو قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء،
وأن المراد بالكتاب البشارة والنذارة للفوز عند البعث والنجاة من غوائل يوم الحشر مع أنه سبحانه نافذ القضاء، فلا تغني الآيات والدلالات البينات عمن حكم بشقاوته وقضى بغوايته، وأن ذلك من حكمته وعدله فيجب التسليم لأمره وقطع الهمم عن سواه؛ ثم شرع سبحانه يقرر أمر بدئه للخلق وإعادته في سياق مذكر بالنعم التي يجب شكرها، ويسمى المعرض عن شكره كافراً فقال:{هو} أي غيره {الذي جعل} أي بما هيأ من الأسباب {الشمس} .
ولما كان النور كيفية قابلة للشدة والضعف، خالف سبحانه في الأسماء مما يدل على ذلك فقال نور الشمس:{ضياء} أي ذات نور قوي ساطع وقدرها منازل، هكذا التقدير، لكن لما كانت في تقلبها بطيئة بالنسبة إلى القمر ذكره دونها فقال:{والقمر} أي وجعل القمر {نوراً} أي ذا نور من نورها {وقدره} أي وزاده عليها بأن قدره مسيرة {منازل} سريعاً يقلبه فيها، وباختلاف حاله في زيادة نوره ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات والحرارات التي دبر الله بها هذا الوجود - إلى غير ذلك من الأسرار التي هي فرع وجود الليل والنهار {لتعلموا} بذلك علماً سهلاً {عدد السنين} أي المنقسمة إلى الفصول الأربعة وما يتصل بذلك من الشهور وغيرها
ليمكن لكم تدبير المعاش في أحوال الفصول وغيرها {والحساب} أي غير ذلك مما يدل على بعض تدبيره سبحانه.
ولما كان ذلك مشاهداً لا مرية فيه، وصل به قوله:{ما خلق الله} أي الذي له الكمال كله {ذلك} أي الأمر العظيم جداً {إلا بالحق} أي خلقاً ملتبساً بالحق الكامل في الحقية لا مرية فيه، فعلم أنه قادر على إيجاد الساعة كذلك إذ لا فرق، وإذا كان خلقه كذلك فكيف يكون أمره الناشىء عنه الخلق غير الخلق بأن يكون من السحر الذي مبناه على التمويه والتخييل الذي هو عين الباطل، أو ما خلقه إلا بسبب إظهار الحق من العدل بين العباد بإعزاز الطائع وإذلال العاصي، فإنه لا نعيم كالانتصار على المعادي والانتقام من المشانىء، والجعل: وجود ما به يكون الشيء على صفة لم يكن عليها، والشمس: جسم عظيم النور فإنه يكون ضياء النهار؛ والقمر: جسم نير يبسط نوره على جميع الظاهر من الأرض ويكسفه نور الشمس؛ والنور: شعاع فيه ما ينافي الظلام؛ والحساب: عدد يحصل به مقدار الشيء من غيره.
ولما كان النظر في هذه الآيات من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى كثير من الاتصاف بقابلية العلم، ختم الآية بقوله:{يفصل} أي الله
في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالياء التحتية، وبالالتفات إلى أسلوب العظمة تعظيماً للبيان في قراءة الباقين بالنون {الآيات} أي يبين الدلائل الباهرة واحدة في إثر واحدة متفاصلة بياناً شافياً. ولما كان البيان لمن لا علم له كالعدم، قال:{لقوم} أي لهم قوة المحاولة لما يريدون {يعلمون} أي لهم هذا الوصف على سبيل التجدد والاستمرار؛ ولما كانت لهم المعرفة التامة والنظر الثاقب في منازل القمر عدت من الجلي.
ولما أشار سبحانه إلى الاستدلال على فناء العالم بتغيره وإلى القدرة على البعث بإيجاد كل من الملوين بعد إعدامه في قوله - مؤكداً له لإنكارهم أن يكون في ذلك دلالة: {إن في اختلاف الليل} أي على تباين أوصافه {والنهار} أي كذلك {وما} أي وفيما {خلق الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {في السماوات والأرض} من أحوال السحاب والأمطار وما يحدث من ذلك الخسف والزلازل والمعادن والنبات والحيونات وغير ذلك من أحوال الكل التي لا يحيط البشر بإحصائها؛ لما أشار إلى ذلك ختمها بقوله: {لآيات} أي دلالات بينة جداً {لقوم يتقون*} أي أن من نظر في هذا الاختلاف وتأمل تغير الأجرام الكبار كان جديراً بأن يخاف من أن تغير أحواله وتضطرب أموره فيتقي الله لعلمه قطعاً بأن أهل هذه الدار غير مهملين،
فلا بد لهم من أمر ونهي وثواب وعقاب؛ والاختلاف: ذهاب كل من الشيئين في غير جهة الآخر، فاختلاف الملوين: ذهاب هذا في جهة الضياء وذاك في جهة الظلام؛ والليل: ظلام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، هو جمع ليلة كتمر وتمرة؛ والنهار: اتساع الضياء من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ والخلق: فعل الشيء على ما تقتضيه الحكمة، وأصله التقدير؛ ونبه بما خلق في السماوات والأرض على وجوه الدلالات. لأن الدلالة في الشيء قد تكون من جهة خلقه أو اختلاف صورته أو حسن منظره أو كثرة نفعه أو عظم أمره أو غير ذلك.
ولما أُشير بالآية إلى أنقراض الدنيا بأن الحادث لا ثبات له، وقام الدليل القطعي على المعاد، ناسب تعقيبها بعيب من اطمأن إليها في سياق مبين أن سبب الطمأنينة إنكار الطمأنينة اعتقاداً أو حالاً؛ ولما كانت ختم تلك ب {يتقون} لاح أن ثمّ من يتقي ومن لا يتقي؛ ولما كان الغرور أكثر، بدأ به تنفيراً عن حاله، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم:{إن الذين} ولما كان الخوف والرجاء معدن السعادة، وكان الرجاء أقرب إلى الحث على الإقبال، قال مصرحاً بالرجاء ملوحاً إلى الخوف:{لا يرجون لقاءنا} بالبعث بعد الموت ولا يخافون ما لنا من العظمة {ورضوا} أي عوضاً
عن الاخرة {بالحياة الدنيا} أي فعملوا لها عمل المقيم فيها مع ما إشتملت عليه مما يدل على حقارتها {واطمأنوا} إليها مع الرضى {بها} طمأنينة من لا يزعج عنها مع ما يشاهدونه مع سرعة زوالها {والذين هم} أي خاصة {عن آياتنا} أي على ما لها من العظمة لا عن غيرها من الأحوال الدنيّة الفانية {غافلون} أي غريقون في الغفلة، وتضمن قوله تعالى استئنافاً:{أولئك} أي البعداء البغضاء {مأواهم النار بما} أي بسبب ما {كانوا} أي جبلة وطبعاً {يكسبون*} فإن كسبهم كله ضلال - أنه لا يعاجلهم بالعقاب على تأخير المتاب، وجعلت ملاقاة ما لا يقدر إلا الله ملاقاة الله تفخيماً لشأنها كما جعل إتيان جلائل آيات الله في قوله:
{إلا أن يأتيهم الله في ظِلل من الغمام} [البقرة: 210] ونحوه، والاطمئنان: الركون إلى الشيء على تمكن فيه، فهؤلاء مكنوا الأحوال للدنيا فصار فرحهم وسخطهم لها؛ والغفلة: ذهاب المعنى عن القلب بما يضاد حضوره إياه، واليقظة نقيضها.
ولما أنقضى هذا القسم حالاً ومآلاً، أتبعه سبحانه القسم الآخر بقوله مؤكداً لإنكار الكفار هدايتهم:{إن الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف بما لهم من القوة النظرية التي كمالها معرفة الأشياء وسلطانها معرفة الله تعالى {وعملوا} أي وصدقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا {الصالحات} بالقوة العملية التي سلطانها عبودية الله تعالى، والصالح: ما جاء بالحث عليه الأنبياء عليهم السلام {يهديهم} أي على
سبيل التجدد والاستمرار {ربهم} أي المحسن إليهم {بإيمانهم} أي بسبب تصديقهم وإذعانهم لمعرفة الآيات التي غفل عنها الذين يأملون البقاء ولا يرجون اللقاء، فقادتهم إلى دار السلام، وهذا كما كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم بعد إسلامهم يشتد تعجبهم مما كان من تباطئهم عن الإسلام، وكما ترى أنك تخنق على بعض الكملة فلا يدعك حظ النفس ترى له حسنة، ثم أنك قد ترضى عنه فتراه كله محاسن.
ولما ذكر أم مآل القسم الأول النار، ذكر مآل هذا القسم في معرض سؤال من يقول: ماذا تورثهم هدايتهم؟ فقيل له: {تجري} وأشار إلى قرب منال المياه وانكشافها عن كل ما ينتفع به في غير ذلك بإثبات الجار فقال: {من تحتهم} أي تحت غرفهم وأسرّتهم وغير ذلك من مشتهياتهم كقوله تعالى {قد جعل ربك تحتك سرياً} [مريم: 14] وكذا قول فرعون {وهذه الأنهار تجري من تحتي} [الزخرف: 51]{الأنهار} كائنين {في جنّات النعيم} أي التي ليس فيها من غيره.
ولما كان الواجب على العباد أولاً تنزيهه تعالى عن النقائض التي أعظمها الإشراك. وكان من فعل ذلك سلم من غوائل الضلال فربح نفسه فعرف ربه وفاز في شهود حضرته بمشاهدة أوصاف الكمال، أشار التسليك في ذلك بقوله:{دعواهم} أي دعاؤهم العظيم الثابت
الكثير الذي يقولونه فيها لا على وجه التكليف، بل يلهمونه إلهام النفس في الدنيا {فيها} وأشار إلى مجامع التنزيه عن كل شائبة نقص فقال:{سبحانك اللهم} إشارة إلى الأمر الأول هو الأساس وهو المعراج في الآخرة {وتحيتهم} أي لله وفيما بينهم {فيها سلام} إشارة إلى أول نتائج الأساس بأنه لا عطب معه بوجه وهو نزول عن المعراج بالنظر في أحوال الخلق {وآخر دعواهم} أي دعائهم العظيم وهو المعراج الكمالي {أن الحمد} أي الكمال {لله} أي المحيط بجميع أوصاف الجلال والجمال يعني أن التنزيه عن النقص أوجب لهم السلامة؛ ولما سلموا من كل نقص وصلوا إلى الحضرة فغرقوا في بحار الجلال وانكشفت لهم سمات الكمال؛ والدعوى: قول يدعى به إلى أمر؛ والتحية: التكرمة بالحال الجليلة، وأصله من قولهم: أحياك الله حياة طيبة، وأشار بقوله:{رب العالمين} إلى نعمة الإيجاد إرشاداً بذلك إلى القدرة على المعاد، وفيه هبوط عن المعراج الكمالي إلى الخلق، وذلك إشارة إلى أن الإنسان لا ينفك عن الحاجة والنقصان.
ولما أشير في هذه الآية إلى تنزهه تعالى وعلوه وتفرده بنعوت الكمال، ودل بختمها بالحمدِ على إحاطته وبرب العالمين على تمام قدرته وحسن تدبيره في ابتدائه وإعادته، اتبعت بما يدل على ذلك من لطفه
في معاملته من أنه لا يفعل شيئاً قبل أوانه لأن الاستعجال من سمات الاحتياج. بل وروى أبو يعلى وأحمد بن منيع عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «التأني من الله والعجلة من الشيطان» قال شيخنا ابن حجر: وفي الباب عن سهل وسعد رضي الله عنهما فقال تعالى عاطفاً على قوله {يدبر الأمر} ما معناه أنه تعالى يفعل فعل من ينظر في ادبار الأمور فلا يفعل إلاّ ما هو في غاية الإحكام، فهو لا يعاجل العصاة بل يمهلهم ويسبغ عليهم النعم وهم في حال عصيانهم له أضل من النِّعم يطلبون خيراته ويستعجلونه بها:{ولو يعجل الله} أي المحيط بصفات الكمال {للناس} أي الذين اتخذوا القرآن عجباً لما لهم من صفة الاضطراب {الشر استعجالهم} أي عاملاً في إرادته لإيقاع الشر بهم مثل عملهم في إرادتهم وطلبهم العجلة {بالخير لقضي} أي حُتم وبت وأدى، بناه للمفعول في قراءة الجماعة دلالة على هوانه عنده، ولأن المحذور مجرد فراغه لا كونه من معين.
وبناه ابن عامر للفاعل ونصب الأجل {إليهم} أي الناس خاصة {أجلهم} أي عمرهم أو آخر لحظة تكون منه، فأهلك من في الأرض فاختل النظام الذي دبره، ولكنه لا يفعل إلاّ ما تقدم من إمهاله لهم إلى ما سمي من الآجال المتفاوتة. وذلك سبب إضلال من يريد ضلاله. ولعل التعبير بنون العظمة في {فنذر} إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور؛ فكان القياس هداهم لكثرة ما عليه من الدلائل الظاهرة ولكنه تعالى أراد ضلالهم
وهو من العظمة بحيث لا يعجزه شيء. ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله {أولئك مأواهم النار} لأن معناه: أولئك يمهلهم الله إلى انقضاء ما ضرب لهم من الآجال مع مبالغتهم في الإعراض. ثم يكون مأواهم النار ولا يعجل لهم ما يستحقونه من الشر {ولو يعجل الله للناس الشر} أي ولو يريد عجلة الشر للناس إذا خالفوه أو إذا استعجلوه به في نحو قولهم {فأمطر علينا حجارة من السماء} [الأنفال: 32] ودعاء الإنسان على ولده وعبده، مثل استعجالهم أي مثل إرادتهم تعجيل الخير. وعدل عن أن يقال: ولو يستعجل الله للناس الشر {استعجالهم بالخير} أي يعجل، دفعاً لإيهام النقص بأن من يستعجل الشيء ربما يكون طالباً عجلته من غير لعدم قدرته، وتنبيهاً على أن الأمر ليس إلاّ بيده {لقضي إليهم أجلهم} فإنه إذا أراد شيئاً كان ولم يتخلف أصلاً.
ولما كان التقدير لأن «لو» امتناعية: ولكنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه لا يفوته شيء بل يمهل الظالمين ويدر لهم النعم ويضربهم بشيء من النقم حتى يقولوا: هذه عادة الدهر، قد مس آباءنا الضراء والسراء، سبب عن قوله:{فنذر} أي على أيّ حالة كانت، ووضع موضع الضمير تخصيصاً وتنبيهاً على ما أوجب لهم الإعراض والجرأة قوله:{الذين} وأشار بنفي الرجاء إلى نفي الخوف على الوجه الأبلغ فقال: {لا يرجون لقآءنا} أي بعد الموت بهذا الاستدراج على ما لنا
من العظمة التي من أمنها كان أضل من الأنعام {في طغيانهم} أي تجاوزهم للحدود تجاوزاً لا يفعله من له أدنى روية {يعمهون} أي يحكم مشيئتنا السابقة في الأزل عمياً عن رؤية الآيات صماً عن سماع البينات؛ والتعجيل: تقديم الشيء على وقته الذي هو أولى به؛ والشر: ظهور ما فيه الضر، وأصله الإظهار من قولهم: شررت الثوب - إذا أظهرته للشمس، ومنه شرر النار -لظهوره بانتشاره؛ والطغيان: الغلو في ظلم العباد؛ والعمه، شدةُ الحيرة.
ولما بين تعالى أن دأبهم استعجالهم بالخير، وكان منه استكشاف الضر، بينَ أن حالهم عنده الاعتراف، وشكرهم على النجاة منه الإنكار فدأبهم الطغيان والعمه، وذلك في غاية المنافاة لما يدعونه من رجاحة العقول وإصالة الآراء وسلامة الطباع، فالحاصل أن الانسان عند البلاء غير صابر، وعند الرجاء غير شاكر، فكأنه قيل: فإذا مس الإنسان منهم الخير كان في غفلة بالفرح والأشر والمرح {وإذا مسَّ الإنسان} منهم {الضر} وإن كان من جهة يتوقعها لطغيان هو فيه ولا ينزع عنه خوفاً مما يتوقعه من حلول الضر لشدة طغيانه وجهله {دعانا} مخلصاً معترفاً بحقنا عالماً بما لنا من كمال العظمة عاملاً بذلك معرضاً عما ادعاه شريكاً لنا كائناً {لجنبه} أي مضطجعاً حال إرادته للراحة، وكأنه عبر باللام إشارة إلى أن ذلك أسر أحواله إليه {أو قاعداً} أي متوسطاً في أحواله {أو قآئماً} أي في غاية السعي في
مهماته، لا يشغله عن ذلك شيء في حال من الأحوال، بل يكون ظرف المس بالضر ظرف الدعاء بالكشف، ويجوز أن يكون عبر بالأحوال الثلاثة عن مراتب الضر، وقال: لجنبه، إشارة إلى استحكام الضر وغلبته بحيث لا يستطيع جلوساً كما يقال: فلان لما به، وأشار بالفاء إلى قرب زمن الكشف فقال:{فلما كشفنا} أي بما لنا من العظمة {عنه ضره} أي الذي دعانا لأجله {مرّ} أي في كل ما يريده لاهياً عنا بكل اعتبار {كأن} أي كأنه {لم يدعنآ} أي على ما كان يعترف به وقت الدعاء من عظمتنا؛ ولما كان المدعو يأتي إلى الداعي فيعمل ما دعاه لأجله قال: {إلى} أي كشف {ضر مسه} أي كأن لم يكن له بنا معرفة أصلاً فضلاً عن أن يعترف بأنا نحن كشفنا عنه ضره، فهذه الآية في بيان ضعف الإنسان وسوء عبوديته، والتي قبلها في بيان قدرة الله وحسن ربوبيته؛ والمسُ: لقاء من غير فصل؛ والدعاء: طلب الفعل من القادر عليه؛ والضر: إيجاب الألم بفعله أو السبب المؤدي إليه.
ولما كان هذا من فعل الإنسان من أعجب العجب. كان كأنه قيل: لم يفعل ذلك؟ فقيل: لما يزين له من الأمور التي يقع بها الاستدراج لإسرافه. وهذا دأبنا أبداً {كذلك} أي مثل هذا التزيين العظيم الرتبة؛ ولما كان الضار مطلق التزيين، بنى للمفعول قوله:{زين للمسرفين}
أي كلهم العريقين في هذا الوصف {ما كانوا} أي بجبلاتهم {يعملون} أي يقبلون عليه على سبيل التجديد والاستمرار من المعصية بالكفر وغيره مع ظهور فساده ووضوح ضرره؛ والإسراف: الإكثار من الخروج عن العدل.
ولما كان محط نظرهم الدنيا، وكان هذا صريحاً في الإمهال للظالمين والإحسان إلى المجرمين، أتبعه بقوله تعالى مهدداً لهم رادعاً عما هم فيه من اتباع الزينة مؤكداً لأنهم ينكرون أن هلاكهم لأجل ظلمهم:{ولقد أهلكنا} أي بما لنا من العظمة {القرون} أي على ما لهم من الشدة والقوة؛ ولما كان المهلكون هلاك العذاب المستأصل بعض من تقدم، أثبت الجار فقال:{من قبلكم لما ظلموا} أي تكامل ظلمهم إهلاكاً عم آخرهم وأولهم كنفس واحدة دفعاً لتوهم أنه سبحانه لا يعم بالهلاك، وقال تعالى عطفاً على {أهلكنا} :{وجآءتهم رسلهم} أي إلى كل أمة رسولها {بالبينات} أي التي بينت بمثلها الرسالة {وما} أي والحال أنهم ما {كانوا} أي بجبلاتهم، وأكد النفي بمن ينكر أن يتأخر إيمانهم عن البيان فقال:{ليؤمنوا} ولو جاءتهم كل آية، تنبيهاً لمن قد يطلب أنه سبحانه يريهم بوادر العذاب أو ما اقترحوه من الآيات ليؤمنوا، فبين سبحانه أن ذلك لا يكون سبباً لإيمان من قضى بكفره، بل يستوي في التكذيب حاله قبل مجيء الآيات وبعدها ليكون سبباً لهلاكه.
فكأنه قيل: هل يختص ذلك بالأمم
الماضية؟ فقيل: بل {كذلك} أي مثل ذلك الجزاء العظيم {نجزي القوم} أي الذين لهم قوة على محاولة ما يريدونه {المجرمين} لأن السبب هو العراقة الإجرام وهو قطع ما ينبغي وصله، فحيث ما وجد جزاؤه؛ والإهلاك: الإيقاع فيما لا يتخلص منه من العذاب؛ والقرن: أهل العصر لمقارنة بعضهم لبعض.
ولما صرح بأن ذلك عام لكل مجرم، أتبعه قوله:{ثم جعلناكم} أي أيها المرسل إليهم أشرف رسلنا {خلائف في الأرض} أي لا في خصوص ما كانوا فيه: ولما كان زماننا لم يستغرق ما بعد زمان المهلكين أدخل الجار فقال: {من بعدهم} أي القرون المهلكة إهلاك الاستئصال {لننظر} ونحن - بما لنا من العظمة - أعلم بكم من أنفسكم، وإنما ذلك لنراه في عالم الشهادة لإقامة الحجة {كيف تعملون} فيتعلق نظرنا بأعمالكم موجودة تخويفاً للمخاطبين من أن يجرموا فيصيبهم ما أصاب من قبلهم.
ولما تقدم أن من قضى بشقاوته لا يتأتى إيمانه بآية من الآيات حتى تنزل به سطوته وتذيقه بأسه ونقمته. وكان القرآن أعظم آية أنزلت إلى الناس لما لا يخفى. أتبع ذلك عطفاً على قوله {قال الكافرون إن هذا لسحر مبين} بقوله بياناً لذلك: {وإذا تتلى} بناه للمفعول إيذاناً بتكذيبهم عند تلاوة أي تالٍ كان. وأبداه مضارعاً
إشارة إلى أنهم يقولون ذلك ولو تكررت التلاوة {عليهم} أي على هؤلاء الناس {آياتنا} أي على ما لها من العظمة بإسنادها إلينا {بينات} فإنه مع ما اشتمل عليه مما لزمهم به الإقرار بحقيقته قالوا فيه ما لا معنى له إلا التلاعب والعناد، ويجوز عطفه على {ثم جعلناكم خلائف} - الآية - والالتفات إلى مقام الغيبة للإيذان بأنهم للإعراض لإساءتهم الخلافة، والموصول بصلته في قوله:{قال الذين لا يرجون لقآءنا} في موضع الضمير تنبيهاً على أن هذا الوصف علة قولهم، ولعله عبر بالرجاء ترغيباً لهم لأن الرجاء محط أمرهم في طلب تعجيله للخير ودفعه للضمير. فكان من حقهم أن يرجوا لقاءه تعالى رغبة في مثل ما أعده لمن أجابه، ولوح إلى الخوف بنون العظمة ليكون ذلك أدعى لهم إلى الإقبال {ائت} أي من عندك {بقرآن} أي كلام مجموع جامع لما تريد {غير هذا} في نظمه ومعناه {أو بدله} أي بألفاظ أخرى والمعاني باقية وقد كانوا عالمين صلى الله عليه وسلم مثلهم في العجز عن ذلك ولكنهم قصدوا أنه يأخذ في التعبير حرصاً على إجابة مطلوبهم فيبطل مدعاه أو يهلك.
ولما كان كأنه قيل: فماذا أقول لهم؟ قال: {قل ما يكون} أي يصح ويتصور بوجه من الوجوه {لي} ولما كان التبديل يعم القسمين الماضيين قال: {أن أبدله} وقال: {من تلقاء} أي عند وقِبَل
{نفسي} إشارة إلى الرد عليهم في إنكار تبديل الذي أنزله بالنسخ بحسب المصالح كما أنزل أصله لمصلحة العباد مع نسخ الشرائع الماضية به، فأنتج ذلك قطعاً قوله:{إن أتبع} أي بغاية جهدي {إلاّ ما} ولما كان قد علم أن الموحي إليه الله قال {يوحى إلي} أي سواء كان بدلاً أو أصلاً؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم مضمونه: {إني أخاف} أي على سبيل التجدد والاستمرار {إن عصيت ربي} أي المحسن إليّ والموجد لي والمربي والمدبر بفعل غير ما شرع لي {عذاب يوم عظيم} فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم من الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم، وإذا خفته - مع استحضار صفة الإحسان - هذا الخوف فكيف يكون خوفي مع استحضار صفة الجلال. ولما تم ما دفع به مكرهم في طعنهم، اتبعه بعذره صلى الله عليه وسلم في الإبلاغ على وجه يدل قطعاً على أنه كلام الله وما تلاه إلاّ بإذنه فيجتث طعنهم من أصله ويزيله بحذافيره فقال:{قل} أي لهم معلماً أنه سبحانه إما أن يشاء الفعل وإما أن يشاء عدمه وليست ثَمّ حالة سكوت أصلاً {لو شآء الله} أي الذي له العظمة كلها أن لا أتلوه عليكم {ما تلوته} أي تابعت قراءته {عليكم ولآ أدراكم} أي أعلمكم على وجه المعالجة هو سبحانه {به} على لساني؛ ولما كان ذكر ذلك أتبعه السبب المعرف به فقال: {فقد لبثت فيكم عمراً}
ولما كان عمره لم يستغرق زمان القبل قال: {من قبله} مقدار أربعين سنة بغير واحد من الأمرين لكون الله لم يشأ واحداً منهما إذ ذاك، ثم أتيتكم بهذا الكتاب الأحكم المشتمل على حقائق علم الأصول ودقائق علم الفروع ولطائف علم الأخلاق وأسرار قصص الأولين في عبارة قد عجزتم - وأنتم أفصح الناس وأبلغهم - عن معارضة آية منها، فوقع بذلك العلم القطعي الظاهر جداً أنه من عند الله فلذلك سبب عنه إنكار العقل فقال:{أفلا تعقلون} إشارة إلى أنه يكفي - في معرفة أن القرآن من عند الله وأن غيره عاجز عنه - كون الناظر في أمره وأمري من أهل العقل، أي أفلا يكون لكم عقل فتعرفوا به حقيقة القرآن بما أرشدكم إليه في هذه الآية من هذا البرهان الظاهر والسلطان القاهر القائم على أنه ما يصح لي بوجه أن أبدله من قبل نفسي لأني مثلكم وقد عرفتم أنكم عاجزون عن ذلك مع التظاهر، فأنا وحدي - مع كوني أمياً - أعجز، ومن أنه تعالى لو شاء ما بلغكم، ومن أني مكثت فيكم إتياني به زمناً طويلاً لا أتلو عليكم شيئاً ولا أدعي فيكم علماً ولا أتردد إلى عالم؛ وتعرفوا أن قائل ما قلتم مكذب بآيات الله، وفاعل ما طلبتم كاذب على الله، وكل من ذلك أظلم الظلم {فمن} أي فهو سبب لأن يقال: من {أظلم ممن افترى} أي تعمد {على الله} أي الذي حاز جميع العظمة {كذباً} أي أيّ كذب كان، وكان الأصل: مني، على تقدير أن لا يكون هذا القرآن
من عند الله كما زعمتم، ولكنه وضع هذا الظاهر مكانه تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف {أو كذب بآياته} كما فعلتم أنتم، وذلك من أعظم الكذب.
ولما كان التقدير: لا أحد أظلم منه فهو لا يفلح لأنه مجرم، علله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم:{إنه لا يفلح} أي بوجه من الوجوه {المجرمون} فد وضح أن المقصود نفي الكذب عن نفسه صلى الله عليه وسلم وإلحاق الوعيد حيث كذبوا بالآيات بعد ثبوت أنها من عند الله والإعلام بأنه لا أحد أظلم منهم لأنهم كذبوا على الله في كل ما ينسبونه إليه مما نهى عنه وكذبوا بآياته، والإتيان بالغير قد يكون مع وجود الأول والتبديل لا يكون إلاّ برفع الأول ووضع غيره مكانه؛ والتلقاء: جهة مقابلة الشيء، أتبعه بمجيئه بعده؛ والمشيئة خاصة تكون سبباً مؤدياً إلى وقوع الشيء، ومرتباً له على وجه قد يمكن أن يقع خلافه، والإرادة نظيرها؛ والعقل: العلم الغريزي الذي يمكن به الاستدلال بالشاهد على الغائب، ويجوز أن يكون {ويعبدون} حالاً من {الذين لا يرجون لقاءنا} أي قالوا ذلك عابدين {من دون الله} أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال الذي ثبت عندهم أن هذا القرآن كلامه لعجزهم عن معارضة شيء منه وهو ينهاهم عن عبادة غيره وهم يعلمون قدرته على الضر والنفع.
ولما كان السياق للتهديد والتخويف، قدم الضر لذلك وتنبيهاً لهم على أنهم مغمورون في نعمه التي لا قدرة لغيره على منع شيء منها، فعليهم أن يقيدوها بالشكر فقال:{ما لا يضرهم} أي أصلاً من الأصنام وغيرها {ولا ينفعهم} في معارضة القرآن بتبديل أو غيره ولا في شيء من الأشياء، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية وإلا كانت عبادته عبثاً، معرضين عما جاءهم من الآيات البينات من عند من يعلمون أنه يضرهم وينفعهم ولا يملك شيئاً من ذلك أحد سواه، وقد أقام الأدلة على ذلك غير مرة، وفي هذا غاية التبكيت لهم بمنابذة العقل مع ادعائهم رسوخ الأقدام فيه وتمكن المجال منه؛ والعبادة: خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع؛ ثم عجب منهم تعجيباً آخر فقال: {ويقولون} أي لم يكفهم قوله ذلك مرة من الدهر حتى يجددوا قوله مستمرين عليه: {هؤلاء} أي الأصنام أو غيرهم {شفعاؤنا} أي ثابته شفاعتهم لنا {عند الله} أي الملك الأعظم الذي لا يمكن الدنو من شيء من حضرته إلا بإذنه، وقد مضى إبطال ما تضمنته هذه المقالة في قوله تعالى {ما من شفيع إلا من بعد إذنه} وفيه تخجيلهم في العجز عن تبديل القرآن أو الإتيان بشيء من مثله حيث لم تنفعهم في ذلك فصاحتهم ولا أغنت عنهم شيئاً بلاغتهم، وأعوزهم في شأنه فصحاءهم، وضل عنهم شفعاءهم، فدل ذلك قطعاً على أنه ما من شفيع إلا بإذنه
من بعد، فكأنه قال: بماذا أجيبهم؟ فقال: {قل} منكراً عليهم هذا العلم {أتنبئون} أي تخبرون إخباراً عظيماً {الله} وهو العالم بكل شيء المحيط بكل كمال {بما لا يعلم} أي لا يوجد له به علم في وقت من الأوقات {في السماوات} ولما كان الحال مقتضياً لغاية الإيضاح، كرر النافي تصريحاً فقال:{ولا في الأرض} وفي ذلك من الاستخفاف بعقولهم مما لا يقدرون على الطعن فيه بوجه ما يخجل الجماد، فإن ما لا يكون معلوماً لله لا يكون له وجود أصلاً، فلا نفي أبلغ من هذا كما أنك إذا بالغت في نفي شيء عن نفسك تقول: هذا شيء ما عمله الله مني.
ولما بين تعالى هنا ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ختم ذلك بتنزيه نفسه بقوله:{سبحانه} أي تنزه عن كل شائبة نقص تنزهاً لا يحاط به {وتعالى} أي وفعل بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال فعل المبالغ في التنزه {عما يشركون*} أي يوجدون الإشراك به.
ولما بين شرارتهم بعبادة غير الله وختم بتنزيهه وكماله، بين أن هذا الدين الباطل حادث، وين نزاهته وكماله ببيان أن الناس كانوا أولاً مجتمعين على طاعته ثم خالفوا أمره فلم يقطع إحسانه إليهم بل استمر
في إمهالهم مع تماديهم في سوء أعمالهم ما سبق في عمله ومضى به قضاءه فقال تعالى: {وما كان الناس} أي كلهم مع ما لهم من الاضطراب {إلا أُمة} ولما أفهم ذلك وحدتهم في القصد حققه وأكده فقال: {واحدة} أي حنفاء متفقين على طاعة الله {فاختلفوا} في ذلك على عهد نوح عليه السلام كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عقب وحدتهم بسبب ما لهم من النوس فاستحق كافرهم تنجيز العقاب {ولولا كلمة} أي عظيمة {سبقت} أي في الأزل {من ربك} أي المحسن إليك برحمة أمتك بإمهالهم، وبين التأكيد بما دل على القسم لأجل إنكارهم أن يكون تأخيرهم لأجل ذلك فقال:{لقضي بينهم} أي عاجلاً بأيسر أمر {فيما} ولما لم يبين الكلام على الاتخاذ الذي محط أمره معالجة بالباطن، لم يذكر الضمير بخلاف الزمر فقال:{فيه} أي لا في غيره بأن يعجل جزاءهم عليه: {يختلفون*} وأشار ذلك إلى أن هذا الأمر الذي دعوا إليه ليس أمراً طارئاً حادثاً فيكون بحيث يتوقف فيه للنظر في عواقبه والتأمل في مصادره وموارده، بل هو - مع ظهور دلائله واستقامة مناهجه وصحة مذاهبه وإلقاء الفطر أزمة الانقياد إليه - أصل ما كان العباد عليه، وما هم فيه الآن هو الطارىء الحادث مع ظهور فساده ووضوح سقمه، وهو ناظر إلى قوله تعالى {أكان للناس عجباً} لأن قوله {قال
الكافرون إن هذا لسحر مبين} دال على أنهم قسمان: كافر ومؤمن؛ والأمة: الجماعة على معنى واحد في خلق واحد كأنها تؤم - أي تقصد - شيئاً واحداً؛ ثم قال تعالى عطفاً على قوله {ويعبدون} : {ويقولون} أي أنهم لما أتتهم البينات قالوا: ائت بقرآن غير هذا، كافرين بمنزلها عابدين من دونه ما لا يرضى عاقل بتسويته بنفسه فكيف بعبادته قائلين بفرط عنادهم وتماديهم في التمرد {لولا} أي هلا ولم لا {أنزل} أي بأيّ وجه كان {عليه آية} أي واحدة كائنة وآتية {من ربه} أي المحسن إليه غير ماجاء به وذلك إما لطلبهم آية ملجئة لهم إلى الإيمان أو لكونهم لم يعدوا ما أنزل عليه عداد الآيات فضلاً عن كونها بينات، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة في الآيات دقيقة المسلك بين المعجزات مع عجزهم عن معارضته بتبديل أو غيره، فأيّ عناد أعظم من هذا.
ولما كان في ذلك شوب من الاستفهام، قال مسبباً عن قولهم:{فقل} قاصراً قصراً حقيقياً {إنما الغيب} أي الذي عناه عيسى عليه السلام بقوله
{ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116] وهو ما لم يطلع عليه مخلوق أصلاً {لله} أي الذي له الإحاطة الكاملة وحده، لا علم لي بعلة عدم إنزال ما تريدون، وهل تجابون إليه أو لا.
ولما خصه سبحانه بالعلم. وكان إنزال الآيات من الممكنات. سبب عنه قوله: {فانتظروا} ثم أجاب من كأنه يقول له: فما تعمل أنت؟ بقوله: {إني معكم} أي في هذا الأمر غير مخالف لكم في التشوف إلى آية تحصل بها هدايتكم، ثم حقق المعنى وأكده فقال:{من المنتظرين*} أي لما يرد علي من آية وغيرها.
ولما كان طلبهم محركاً لنفوس الخيّرين إلى ترجى إجابة سؤالهم، أتبعه سبحانه بما يبين أن ذلك غير نافع لهم لأنه محض تعنت. فقال تعالى عاطفاً على قوله {قال الكافرون إن هذا لسحر مبين} أو {وإذا مسَّ الإنسان الضر} مبيناً أن رحمته محققة الوجود كثيرة الورود إليهم مبيناً أن لهم آية عظمى من أنفسهم لا يحتاجون معها إلى التعنت بطلب آية وهي دالة على نتيجة مقصود السورة الذي هو الوحدانية وأن إشراكهم إنما هو بما لهم من نقص الغرائز الموجب لكفران الإحسان، وذلك أنهم عامة إذا أكرموا بنعمة قابلوها بكفر جعلوا ظرفه على مقدار ظرف تلك النعمة بما أشار إليه التعبير ب «إذا» ثم إذا مسهم الضر ألجأهم إلى الحق فأخلصوا، لم يختلف حالهم في هذا قط، وهذا الإجماع من الجانبين دليل واضح على كلا الأمرين؛ الكفر ظلماً بما جر إليه من البطر. والتوحيد حقاً بما دعا إليه من الفطرة القويمة الكائنة في أحسن تقويم بما زال عنها إلحاق الضرر من الحظوظ والشهوات والفتور، وهذا كما وقع في سورة الروم المافقة لهذه في الدلالة على
الوحدانية فلذا عبر في كل منهما بالناس ليكون إجماعهم دليلاً كافياً عليها وسلطاناً جليلاً مضطراً إليها - والله الهادي: {وإذا أذقنا} أي على ما لنا من العظمة {الناس} أي الذين لهم وصف الاضطراب {رحمة} أي نعمة رحمناهم بها من غير استحقاق.
ولما كان كان وجود النعمة لا يستغرق الزمان الذي يتعقب النقمة، أدخل الجار فقال:{من بعد ضراء} أي قحط وغيره {مستهم} فاجأوا المكر وهو معنى {إذا لهم مكر} أي عظيم بالمعاصي التي يفعلون في الاستخفاء بأغلبها فعل الماكر {في آياتنا} إشارة إلى أنهم لا ينفكون عن آياته العظام، فلو كانوا منتفعين بالآيات اهتدوا بها، فإذا أتتهم رحمة من بعد نقمة لم يعدوها آية دالة على من أرسلها لهم لخرقها لما كانوا فيه من عادة النقمة مع أنهم يعترفون بأنه لا يقدر على إرسالها وصرف الشدة إلا هو سبحانه، بل يعملون فيها عمل الماكرين بأن يصرفوها عن ذلك بأنواع الصوارف كأن ينسبوها إلى الأسباب كنسبة المطر للأنواء ونحو ذلك غير خائفين من إعادة مثل تلك الضراء أو ما هو أشد منها.
ولما كانت هذه الجملة دالة على إسراعهم بالمكر من ثلاثة أوجه: التعبير بالذوق الذي هو أول المخالطة ولفظ «من» التي هي للابتداء و «إذا» الفجائية، كان كأنه قيل: أسرعوا جهدهم في المكر، فقيل:{قل الله} أي الذي له له الإحاطة الكاملة بكل شيء {أسرع مكراً}
ومعنى اوصف بالأسرعية أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم - نبه عليه أبو حيان ولما كان المكر إخفاء الكيد، بين لهم سبحانه أنهم غير قادرين على مطلق المكر في جهته عز شأنه وتعالى كبرياءه وسلطانه، لأنه عالم بالسر وأخفى، بل لا يمكرون مكراً إلا ورسله سبحانه مطلعون عليه فكيف به سبحانه! فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم:{إن رسلنا} أي على ما لهم من العظمة بإضافتهم إلينا {يكتبون} أي كتابة متجددة على سبيل الاستمرار باستمرار المكتوب {ما تمكرون*} لأنهم قد وكلوا بكم قبل كونكم نطفاً ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما يفعلونه ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه، وأما هو سبحانه فإذا قضى لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا باطلاعه فكيف بغيرهم! وإذا تبين أنه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره، علمَ أنه لا يدعهم يدبرون كيداً إلا وقد سبب له ما يجعله في نحورهم؛ والمكر: فتل الشيء إلى غير وجهه على طريق الحيلة فيه؛ والسرعة؛ الشيء في وقته الذي هو أحق به، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه حال الجاهل من تضييع حق النعمة والمكر فيها وإن جلت منزلتها وأتت على فاقة إليها وشدة حاجة إلى نزولها مع الوعيد بعائد
الوبال على الماكر فيها، ثم أخذ سبحانه يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في الاية قبلها من نقله سبحانه لعباده من الضر إلى النعمة ومن سرعة تقلبهم فقال:{هو} أي لا غيره {الذي يسيركم} أي في كل وقت تسيرون فيه سيراً عظيماً لا تقدرون على الانفكاك عنه {في البر والبحر} أي يسبب لكم أسباباً توجب سيركم فيهما ويقدركم على ذلك ويهديكم من بين سائر الحيونات إلى ما فيه من أصناف المنافع مع قدرته على إصابتكم في البر بالخسف وما بالخسف وما دونه وفي البحر بالغرق وما أشبهه.
ولما كان العطب بأحوال البحر أظهر مع أن السير فيه من أكبر الآيات وأوضح البينات، بينه معرضاً عن ذكر البر فقال:{حتى إذا كنتم} أي كوناً لا براح لكم منه {في الفلك} أي السفن، يكون واحداً وجمعاً؛ وأعرض عنهم بعد الإقبال لما سيأتي فقال:{وجرين} أي الفلك؛ {بهم} ولما ذكر جريها وهم فيها، ذكر سببه فقال:{بريح طيبة} ثم أوضح لهم عدم علمهم بالعواقب بقوله: {وفرحوا بها} أي بتلك الريح وبالفلك الجارية بها {جاءتها ريح عاصف} فأزعجت سفنهم وساءتهم {وجاءهم الموج} أي المعروف لكل أحد بالرؤية أو الوصف {من كل مكان} أي يعتاد الإتيان منه فأرجف قلوبهم {وظنوا أنهم} ولما كان المخوف الهلاك، لا كونه من معين، بني للمفعول ما هو كناية عنه لأن العدو إذا أحاط بعدوه أيقن بالهلاك فقال:{أحيط بهم} .
ولما كان ما تقدم من حالهم الغريبة التي تجب لها القلوب وتضعف عندها القوى - مقتضياً لأن يسأل عما يكون منهم عند ذلك، أتى المقال على مقتضى هذا السؤال مخبراً عن تركهم العناد وإخلاصهم الدال على جزعهم عند سطواته وانحلال عزائمهم في مشاهدة ضرباته، وعبارة لرماني: اتصال دعوى الأجوبة، كأنه قيل: لما ظنوا أنهم أحيط بهم {دعوا الله} أي الذي له صفات الكمال بالرغبة إليه في الخلاص والعبادة له بالإخلاص {مخلصين} أي عن كل شرك {له الدين *} أي التوحيد والتصديق بالظاهر والباطن، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه بديهة العقل من الفزع عند الشدة إلى واهب السلامة ومسبغ النعمة في كشف تلك البلية؛ ثم أتبع سبحانه ذلك حكاية حالهم في وعدهم الشكر على النجاة ثم كذبهم في ذلك مع ادعائهم أنهم أطهر الناس ذيولاً عن الكذب وأشدهم استقباحاً له وأبعد الناس من كفران الإحسان، فقال تعالى حاكياً قولهم الذي دلُّوا بتأكيدهم له أنهم قالوه بغاية الرغبة نافين ما يظن بهم من الرجوع إلى ما كانوا فيه قبل تلك الحال من الكفر:{لئن أنجيتنا} أي أيها الملك الذي لا سلطان لغيره {من هذه} أي الفادحه {لنكونن} أي كوناً لا ننفك عنه {من الشاكرين*} أي المديمين لشكرك العريقين في الاتصاف به.
ولما أعلم سبحانه أنهم اكدوا هذا الوعد هذا التأكيد، أتبعه بيان أنهم أسرعوا في نقضه غاية الإسراع فقال:{فلما أنجاهم} ولما أبانت الفاء عن الإسراع في النقض، أكد مناجاتهم لذلك بقوله:{إذا هم يبغون} أي يتجاوزون الحدود {في الأرض} أي جنسها {بغير الحق} أي الكامل، فلا يزال الباغي مذموماً حتى يكون على الحق الكامل الذي لا باطل فيه بوجه، وجاء الخطاب أولاً في {يسيركم} ليعم المؤمنين لأن التسيير يصلح للامتنان، ثم التفت إلى الغيبة عند صدور ما لا يليق بهم - نبه على ذلك أبو حيان، وأحسن منه أن يقال: إنه سبحانه أقبل عليهم تنبيهاً على أنه جعلهم - بما هيأ فيهم من القوى - أهلاً لخطابه ثم أعرض عنهم إشارة إلى أنهم استحقوا الإعراض لإعراضهم اغتراراً بما أتاحهم من الريح الطيبة في محل يجب فيه الإقبال عليه والغنى عن كل ما سواه لعظم الخطر وشدة الأمر، وكأنه يذكر لغيرهم من حالهم ما يعجبه منه لينكر عليهم ويقبح حالهم؛ والتسيير: التحريك في جهة تمتد كالسير؛ والبر: الأرض الواسعة التي تقطع من بلد، ومنه البر لاتساع الخير به؛ والبحر: مستقر الماء الواسع حتى لا يرى من وسطه حافتاه؛ والفلك: السفن التي تدور في الماء، وأصله الدور، فمنه فلكة المغزل، والفلك الذي يدور فيه النجوم؛ والنجاة: التخليص من الهلاك؛ والبغي: قصد الاستعلاء بالظلم، وأصله الطلب؛ والحق: وضع الشيء في موضعه على ما يدعو إليه العقل؛
ثم بين أن ما هم فيه من الإمهال إنما هو متاع الدنيا وأنها دار زوال فقال تعالى: {يا أيها الناس} أي الذي غلب عليهم وصف الاضطراب {إنما بغيكم} أي كل بغي يكون منكم {على أنفسكم} لعود الوبال عليها خاصة وهو على تقدير انتفاعكم به عرض زائل {متاع الحياة الدنيا} ثم يبقى عاره وخزيه بعد الموت {ثم إلينا} أي خاصة {مرجعكم} بعد البعث {فننبئكم} على ما لنا من العظمة إنباء عظيماً {بما كنتم} أي كوناً هو كالجبلة {تعملون*} ونجازيكم عليه.
ولما كان السياق لإثبات البعث وتخويفهم به وكانوا ينكرونه ويعتقدون بقاء الدنيا وأنها إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلغ دائماً بلا انقضاء فهي دار يرضى بها فيطمئن إليها، وللتنفير من البغي والتعزز بغير الحق، وكانت الأمثال أجلى لمحال الأشكال، قال تعالى ممثلاً لمتاعها قاصراً أمرها على الفناء رداً عليهم في اعتقاد دوامها من غير بعث:{إنما} فهو قصر قلب {مثل الحياة الدنيا} التي تتنافسون فيها في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله {كماء أنزلناه} أي بما لنا من العظمة وحقق أمره وبينه بقوله: {من السماء} فشبهه بأمر النبات وأنه قليل يبلغ منتهاه فتصبح الأرض منه بلاقع بعد ذلك الاخضرار والينوع، وفي ذلك إشارة إلى البعث وإلى أنه تعالى قادر على ضربة قبل نهايته أو بعدها
ببعض الآفات كما يوجد في بعض السنين، فيقفرون منه ويفتقرون إليه، وفي ذلك تحذيرعظيم {فاختلط} أي بسبب إنزالنا له {به} أي بسبب تليينه ولطافته {نبات الأرض} عموماً في بطنها {مما يأكل الناس} أي كافة {والأنعام} من الحبوب والثمار والبقول فظهر على وجهها {حتى} ولم يزل كذلك ينمو ويزيد في الحسن والجرم؛ ولما كان الخصب هو الأصل، عبر عنه بأداة التحقيق فقال:{إذا} ولما كانت بهجة النبات تابعة للخصب، فكان الماء كأنه يعطيها إياها فتأخذه، قال:{أخذت الأرض} أي التي لها أهلية النبات {زخرفها وازينت} بأنواع ذلك النبات زينة منها الجلي ومنها الخفي - بما يفهمه الإدغام {وظن أهلها} أي ظناً مؤكداً جداً بما أفاده العدول عن «قدرتهم» إلى {أنهم قادرون} أي ثابته قدرتهم {عليها} باجتناء الثمرة من ذلك النبات وغاب عنهم لجهلهم علم العاقبة، فلما كان ذلك {أتاها أمرنا} أي الذي لا يرد من البرد أو الحر المفرطين {ليلاً أو نهاراً فجعلناها} أي زرعها وزينتها بعظمتها بسبب ذلك الأمر وتعقيبه بالإهلاك {حصيداً} وعبر بما فهمه فعيل من المبالغة والثبات بقوله:{كأن} أي كأنها {لم تغن} أي لم تكن غانية أي ساكنة حسنة غنية ذات وفر مطلوبة مرغوباً فيها أي زرعها وزينتها {بالأمس} فكان
حال الدنيا في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله كحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف وزين الأرض بخضرته وألوانه وبهجته.
ولما كان هذا المثل في غاية المطابقة للساعة، هز السامع له فازداد عجبه من حسن تفصيله بعد تأصيله فقيل جواباً له:{كذلك} أي مثل هذا التفصيل الباهر {نفصل} أي تفصيلاً عظيماً {الآيات لقوم} أي ناس أقوياء فيهم قوة المحاولة لما يريدون {يتفكرون*} أي يجددون الفكر على وجه الاستمرار والمبالغة؛ والمثل: قول سائر يشبه فيه الحال الثاني بالأول؛ والاختلاط: تداخل الأشياء بعضها في بعض؛ والزخرف: حسن الألوان.
ولما قرر سبحانه هذه الآيات التي حذر فيها من أنواع الآفات، بين أن الدار التي رضوا بها وأطمأنوا إليها دار المصائب ومعدن الهلكات والمعاطب وأنها ظل زائل تحذيراً منها وتنفيراً عنها، بين تعالى أن الدار التي دعا إليها سالمة من كل نصب وهم ووصب، ثابته بلا زوال، فقال تعالى عاطفاً على قوله {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض} ترغيباً في الآخرة وحثاً عيها:{والله} أي الذي له الجلال والإكرام {يدعوا} أي يعلق دعاءه على سبيل التجدد والاستمرار بالمدعوين {إلى دار السلام} عن قتادة أنه سبحانه أضافها إلى اسمه تعظيماً لها وترغيباً فيها، يعني بأناه لا عطب فيها أصلاً، والسلامة فيها دائمة،
والسلام فيها فاش من بعضهم على بعض ومن الملائكة وغيرهم؛ والدعاء: طلب الفعل بما يقع لأجله، والدواعي إلى الفعل خلاف الصوارف عنه.
ولما أعلم - بالدعوة بالهداية بالبيان وأفهم ختم الآية بقوله: {ويهدي من يشاء} أي بما يخلق في قلبه من الهداية {إلى صراط مستقيم*} أن من الناس من يهديه ومنهم من يضله. وأن الكل فاعلون لما يشاء - كان موضع أن يقال: هل هم واحد في جزائه كما هم واحد في الانقياد لمراده؟ فقيل: لا، بل هم فريقان:{للذين أحسنوا} أي الأعمال في الدنيا منهم وهم من هداه {الحسنى} أي الخصلة التي هي في غاية الحسن من الجزاء {وزيادة} أي عظيمة من فضل الله فالناس: مزيد خرجت هدايته من الجهاد {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69] ، ومراد خرجت هدايته من المشيئة، فالدعوة إلى الجنة بالبيان عامة، والهداية إلى الصراط خاصة لأنها الطريق إلى المنعم.
ولما كان النعيم لا يتم إلاّ بالدوام بالأمن من المضار قال: {ولا يرهق} أي يغشي ويلحق {وجوههم قتر} أي غبرة كغبره الموت وكربة، وهو تغير في الوجه معه سواد وعبوسة تركبهما غلبة {ولا ذلة} أي كآبة وكسوف يظهر منه الانكسار والهوان.
ولما كان هذا واضحاً في أنهم أهل السعادة، وصل به قوله:
{أولئك} أي العالو الرتبة {أصحاب الجنة} ولما كانت الصحبة جديرة بالملازمة، صرح بها في قوله:{هم} أي لا غيرهم {فيها} أي خاصة {خالدون} أي مقيمون لا يبرحون، لأنهم لا يريدون ذلك لطيبها ولا يراد بهم.
ولما بين حال الفضل فيمن أحسن، بين حال العدل فيمن أساء فقال:{والذين كسبوا} أي منهم {السيئات} أي المحيطة بهم {جزآء سيئة} أي منهم {بمثلها} بعدل الله من غير زيادة {وترهقهم ذلة} أي من جملة جزائهم، فكأنه قيل: أما لهم انفكاك عن ذلك؟ فقيل جواباً: {ما لهم من الله} أي الملك الأعظم؛ وأغرق في النفي فقال: {من عاصم} أي يمنعهم من شيء يريده بهم.
ولما كان من المعلوم أن ذلك مغير لأحوالهم، وصل به قوله:{كأنما} ولما كان المكروه مطلق كونها بالمنظر السيىء، بني للمفعول قوله:{أغشيت وجوههم} أي أغشاها مغش لشدة سوادها لما هي فيه من السوء {قطعاً} ولما كان القطع بوزن عنب مشتركاً بين ظلمة آخر الليل وجمع القطعة من الشيء. بين وأكد فقال: {من الليل} أي هذا الجنس حال كونه {مظلماً} ولما كان ذلك ظاهراً في أنهم أهل الشقاوة، وصل به قوله:{أولئك} أي البعداء
البغضاء {أصحاب النار} ولما كانت الصحبة الملازمة، بينها بقوله:{هم فيها} أي خاصة {خالدون} أي لا يمكنون من مفارقتها؛ والرهق: لحق الأمر، ومنه: راهق الغلام - إذا لحق حال الرجال؛ والقتر: الغبار، ومنه الإقتار في الإنفاق لقتله؛ والذلة: صغر النفس بالإهانة؛ والكسب: الفعل لاجتلاب النفع إلى النفس أو النفس أو استدفاع الضر.
ولما بين سبحانه مآل الفريقين، نبه على بعض مقدمات ذلك المانعة أن يشفع أحد من غير إذنه بقوله:{ويوم} أي وفرقنا بينهم لأنه لا أنساب هناك ولا أسباب فلا تناصر يوم {نحشرهم} أي الفريقين: الناجين والهالكين العابدين منهم والمعبودين حال كونهم {جميعاً} ثم يقطع ما بين المشركين وشركائهم فلا يشفع فيهم شيء مما يعتقدون شفاعته ولا ينفعهم بنافعة، بل يظهرون الخصومة ويبارزون بالعداوة وهو ناظر إلى قوله تعالى {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده} [يونس: 4] وإلى قوله {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} [يونس: 18] والحشر: الجمع بكره من كل جانب إلى موقف واحد؛ وأشار سبحانه إلى طول وقوفهم بقوله: {ثم نقول للذين أشركوا} أي بنا من لم يشارك في خلقهم؛ وقوله: {مكانكم} نقل أبو حيان عن النحوين أنهم جعلوه اسماً لأثبتوا، ورد
على الزمخشري تقديره بألزموا لأنه متعد ويجب أن يساوي بين الاسم والمسمى في التعدي واللزوم، أي نقول لهم: قفوا وقوف الذل {أنتم وشركآؤكم} حتى ينفذ فيكم أمرنا إظهار لضعف معبوداتهم التي كانوا يترجونها وتحسيراً لهم، فلا يمكنهم مخالفة ذلك.
ولما كان التقدير: فوقفوا موافقة للأمر على حسب الإرادة، عطف عليه مسبباً عنه قوله:{فزيلنا} أي أزلنا إزالة كثيرة مفرقة ما كان {بينهم} في الدنيا من الوصلة والألفة حتى صارت عداوة ونفرة فقال الكفار: ربنا هؤلاء الذين أضلونا، وكنا ندعو من دونك {وقال شركاؤهم} لهم متبرئين منهم بما خلق لهم سبحانه من النطق {ما كنتم} أي أيها المشركون، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين نصبوهم بغير أمر ولا دليل ولأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم {إيانا تعبدون} أي تخصوننا بالعبادة لأنا لا نستحق ذلك إشارة لى أنه لا يعبد إلاّ من يستحق الإخلاص في ذلك بأن يعبد وحده من غير شريك، ومن لا يستحق ذلك لا يستحق مطلق العبادة ولا يصلح لها، وكل عبادة فيها شرك لا تعد أصلاً ولا يرضى بها جماد لو نطق، فمتى نفي المقيد بالخلوص نفي المطلق لأنه لا اعتداد به أصلاً، ومن المعلوم أن ما كان بهذه الصفة لا يقدم عليه أحد، فنحن نظن أنه لم يعبدنا عابد فضلاً عن أن يخصنا بذلك، والشخص يجوز له أن ينفي ما
يظن نفيه ونحن لم نعلم شيئاً من ذلك.
ولما نفوا ذلك عطفوا عليه مسببين عنه قولهم: {فكفى بالله} أي المحيط علماً وقدرة {شهيداً} أي هو يكفينا كفاية عظيمة جداً من جهة الشهادة التي لا غيبة فيه بوجه ولا ميل أصلاً {بيننا وبينكم} في ذلك يشهد لنا وعلينا؛ ثم استأنفوا خبراً يصحح نفيهم فقالوا مؤكدين لأنهم كانوا يعتقدون علمهم: {إن} أي إنا {كنا} أي كوناً هو جبلة لنا {عن عبادتكم} لنا أو لغيرنا مخلصة أو مشوبة؛ ولما كانت «إن» هي المخففة من الثقيلة تلقيت باللام الفارقة بينها وبين النافية فقيل: {لغافلين} لأنه لا أرواح فينا، فلم تكن بحيث نأمر بالعبادة ولانرضاها فاللوم عليكم دوننا، وذلك افتداء من موقف الذل أو أنهم لما تخيلوا في الشركاء صفات عبدوها لأجلها وكانت خالية عنها صح النفي لأنهم عبدوا ذوات موصوفة بصفات لا وجود لها في الأعيان، وأيضاً فإنهم ما عبدوا إلاّ الشياطين التي كانت تزين لهم ذلك وتغويهم، ويكون التقدير على ما دل عليه السياق:{فزيلنا بينهم} أي منعناهم مما كانونا فيه من التواصل والتواد المقتضي للتناصر بعبادة الأوثان، فقال المشركون لشركائهم لما أبطأ عنهم نصرهم: إنا كنا نعبدكم من دون الله فأغنوا عنا كما كنا نذب عنكم وننصر دينكم {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون}
أي كُشِف لنا اليوم بتفهيم الله أنه ليس الأمر كما زعمتم وأنكم لم تخصونا بالعبادة حتى يلزمنا منعكم على أنكم لو خصصتمونا ما قدرنا على ذلك قال الشيطان {ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي} [إبراهيم: 22]{فكفى} أي فتسبب عن نفينا لذلك على ما كشف لنا من العلم أن نقول: كفى {بالله شهيداً بيننا وبينكم} في ذلك، يشهد أنكم لم تخصوا أحداً منه ومنا بعبادة بل كنتم مذبذبين، وهذا كله إشارة إلى أن العبادة المشوبة لا اعتداد بها ولا يرضاها جماد لو نطق، وإن من استحق العبادة استحق الإخلاص فيها وأن لا يشرك به أحد وأنه لا يستحق ذلك إلاّ القادر على كشف الكرب والمنع من أن يقطع بينه وبين متوليه وعابده قاطع؛ ولما كانت فائدة الشاهد ضبط ما قد ينساه المتشاهدان، عللوا اكتفاءهم بشهادة الله بقوله:{إن كنا عن عبادتكم} في تلك الأزمان {لغافلين} فأقروا لهم بما هو الحق مما كان يعلمه كل من له تأمل صحيح أنهم لم يشعروا بعبادتهم ساعة من الدهر قبل ساعتهم هذه، فهم أجدر الخلق بالاكتفاء بشهادة الشهيد لأنهم أسوأ حالاً ممن يعلم المشهود به ويخشى النسيان، أو يقال: فقال المشركون لشركائهم: إنا كنا نعبدكم فهل أنتم ناصرونا أو شافعون لنا فنجونا مما وقعنا فيه {وقال شركاؤهم
ما كنتم إيانا} وحدنا {تعبدون} أي ما كنتم تخلصون لنا العبادة حتى يلزمنا أن نخلصكم كما أعلمنا بذلك الله ربنا وربكم المحيط بكل شيء علماً {فكفى} أي فتسبب عن ذلك أنه كفى {بالله شهيداً بيننا وبينكم} في ذلك، فكأن المشركين قالوا: قد تضمن كلامكم أن عبدناكم على غير منهج الإخلاص، أفليس قد عبدناكم؟ أفلا تغنون عنا شيئاً؟ فأجاب الشركاء بقولهم:{إن كنا عن عبادتكم} خالصة كانت أو مشوبة {لغافلين} فلا نقر لكم بعبادة أصلاً وإن تيقنا الإخلاص لسلب العلم عنا بما كنا فيه من الجمادية فضلاً عن أن نأمركم أو نرضى بعبادتكم على أنه لا غناء عندنا على تقدير من التقادير؛ أو يقال - وهو أحسن مما مضى -: {وقال شركاؤهم} لما تحققوا العذاب طلباً لأن يخفف عنهم منه بتوزيعه عليهم وعلى كل من عبدوه من غيرهم {ما كنتم} أيها العابدون لنا {إيانا} أي خاصة {تعبدون} بل كنتم تعبدون أيضاً غيرنا، وهذا يعم والله كل من يرائيه غيره بعمل وهو يعلم أنه يرائيه فيقره ولا ينكره عليه؛ ولما أفهموا بنفي العبادة بقيد الخصوص أنهم كانوا يعبدون معهم غيرهم، وكان المخلوق قاصر العلم غير محيطه بوجه بأحوال نفسه فكيف يعبدون بأحوال غيره، سببوا عن ذلك قولهم:{فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن} أي في أنا {كنا عن عبادتكم} أي في الجملة {لغافلين} والحاصل أن هذا ترجمة كلام الكفار وهو ناشىء منهم عن محض غلبة ودهش وفرط غم وندم وقلق،
فلا يشترط أن يكون معناه على الوجه الأسدّ والطريق الأبلغ، فالإعجاز في نظمه، ومرادهم به أن يخفف عنهم من العذاب ولو بمشاركة من كانوا يعبدونهم معهم، فهو من وادي قوله تعالى
{فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء} [إبراهيم: 21]، {فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار} [غافر: 47] {فآتاهم عذاباً ضعفاً من النار} [الأعراف: 38] ونحوه {فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب} [الأعراف: 39]- والله أعلم.
ولما أخبر عن حال المشركين، تشوفت النفس إلى الاطلاع على حال غيرهم فقال مستأنفاً مخبراً عن كِلا الفريقين:{هنالك} أي في ذلك الموقف من المكان والزمان العظيم الأهوال المتوالي الزلزال {تبلوا} أي تخبر وتخالط مخالطة مميلة محلية {كل نفس} طائعة وعاصية {مآ أسلفت} أي قدمت من العمل فيعرف هل كان خيراً أو شراً وهل كان يؤدي إلى سعادة أو شقاوة.
ولما كان مطلق الرد - وهو صرف الشيء إلى الموضع الذي ابتدأ منه - كافياً في الرهبة لمن له اب، بُني للمفعول قوله:{وردوآ} أي بالبعث بالإحياء كما كانوا أولاً {إلى الله} أي الملك الأعظم {مولاهم الحق} فلم يكن لهم قدرة على قصدِ غيره ولا الالتفات إلى سواه من تلك الأباطيل، بل انقطع رجاءهم من كل ما كانوا يدعونه
في الدنيا، وهو المراد بقوله:{وضَلَّ عنهم} أي بطل وذهب وضاع {ما كانوا} أي كوناً هو جبلة لهم {يفترون} أي يتعمدون كذبه من أن معبوداتهم شركاء، وتيقنوا في ذلك المقام أن توليهم لغير الله كان باطلاً غير حق؛ والتزييل: تفريق يزول به كل واحد عن مكانه، وهو من تفريق الجثث، وليس من الواوي، بل من اليائي، يقال: زلته عن الشيء أزيله - إذا فرقت بينه وبينه؛ والكفاية: بلوغ مقدار الحاجة في دفع الأذية أو حصول المنفعة؛ والإسلاف: تقديم أمر لما بعده؛ والرد: الذهاب إلى الشيء بعد الذهاب عنه كالرجع؛ والمولى: من يملك تولى أمر مولاه.
ولما قدم سبحانه أن شركاءهم مربوبون مقهورون، لا قدرة لهم إلاّ على ما يقدرهم الله عليه، وأنه وحده المولى الحق، وبانت بذلك فضائحهم، أتبعه ذكر الدلائل على فساد مذهبهم، فوبخهم بأن وجه السؤال إليهم عما هم معترفون بأنه مختص به ويدل قطعاً على تفرده بجميع الأمر الموجب من غير وقفة لاعتقاد تفرده بالإلهية فقال:{قل} أي يا أكرم خلقنا وأرفقهم بالعباد {من يرزقكم} أي يجلب لكم الخيرات أيها المنكرون للبعث المدعون للشركة {من السمآء} أي بالمطر وغيره من المنافع {والأرض} بالنبات وغيره لتعيشوا {أمّن يملك السمع} أي الذي تسمعون به الآيات، ووحده للتساوي فيه في الغالب
{والأبصار} التي تبصرون بها ما أنعم عليكم به في خلقها ثم حفظها في المدد الطوال على كثرة الآفات فيفيضها عليكم لتكمل حياتكم الحسية ببقاء الروح، والمعنوية بوجود العلم؛ روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم.
فلما سألهم عن أوضح ما هم فيه وأقربه، نبههم على ما قبله من بدء الخلق فقال:{ومن يخرج الحي} من الحيوان والنبات {من الميت} أي من النطفة ونحوها {ويخرج الميت} أي من النطفة ونحوها مما لا ينمو {من الحي} أي فينقل من النقص إلى الكمال؛ ثم عم فقال: {ومن يدبر الأمر} أي كله التدبير العام.
ولما كانوا مقرين بالرزق وما معه من الخلق والتدبير، أخبر عن جوابهم إذا سئلوا عنه بقوله:{فسيقولون الله} أي مسمى هذا الاسم الذي له الكمال كله بالحياة والقيومية بخلاف ما سيأتي من الإعادة والهداية {فقل} أي فتسبب عن ذلك أنا نقول لك: قل لهم مسبباً عن جوابهم هذا الإنكار عليهم في عدم التقوى: {أفلا تتقون} أي تجعلون وقاية بينكم وبين عقابه على اعترافكم بتوحده في ربوبيته وإشراككم غيره في إلهيته؛ ثم علل إنكار عدم تقواهم بقوله: {فذلكم} أي العظيم الشأن {الله} أي الذي له الجلال والإكرام، فكانت هذه قدرته وأفعاله {ربكم} أي الموجد لكم المدبر لأموركم الذي لا إحسان
عندكم لغيره {الحق} أي الثابته ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لاجتماع الصفات الماضية له لا لغيره لأنه لا تكون الربوبية حقيقة لمن لم تجتمع له تلك الصفات {فما} أي فتسبب عن ذلك أن يقال لكم: ما {ذا بعد الحق} أي الذي له أكمل الثبات {إلاّ الضلال} فإنه لا واسطة بينهما - بما أنبأ عنه إسقاط الجار، ولا يعدل عاقل عن الحق إلى الضلال فانّى تصرفون أنتم عن الحق إلى الضلال؛ ولذلك سبب عنه قوله:{فأنى} أي فكيف ومن أيّ جهة {تصرفون} أي أنتم من صارف ما كائناً ما كان، عن الحق إلى الضلال.
ولما كانوا جديرين عند تقريرهم بهذه الآية وإقرارهم بمضمونها بأن يقولوا: سلمنا فأسلمنا ولا نصرف عن الحق أبداً، فلم يقولوا، كانوا حقيقين بأن يقال لهم: حقت عليكم كلمة الله لفسقكم وزوغانكم عن الحق. فقيل: هل خصوا بذلك؟ فقيل: بل {كذلك} أي مثل ذلك الحقوق العظيم {حقت كلمت ربك} أي المحسن إليك بإهلاك أعدائك: الكلمة الواحدة النافذة التي لا تردد فيها، ومعنى الجمع في قراءة نافع وابن عامر أنه لا شيء من كلماته يناقض الكلمة التي أوجبت عذابهم، بل كلها توافقها فالمراد واحد، أو يكون ذلك كناية عن أن عذابهم دائم فإن كلماته لا تنفذ {على} كل {الذين} فعلوا فعلهم لأنهم {فسقوا} أي أوقعوا الترك لأمر الله وأوجدوا عصيانه وفعلوا الخروج عن طريق الحق والخروج عن دائرة الصلاح، وهو كونهم أمة واحدة إلى دين أبيهم آدم صَفيُ الله عليه السلام؛
ثم علل ذلك الحقوق بقوله: {أنهم لا يؤمنون*} أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً، وعبر بالفسق المراد به الكفر لأن السياق للخروج عن دائرة الدين الحق في قوله {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} وهذا المعنى أحق بالتعبير للفسق الذي أصله الخروج عن محيط في قولهم: فسقت الرطبة عن قشرها - أي خرجت، أو يكون المعنى: حقت الربوبية له سبحانه بهذا الليل، وهو فعل هذه الأمور المختتمة بالتدبير المقتضي للوحدانية له سبحانه قطعاً لأنه لو كان قادر يساويه في مقدوره لأمكن أن يمانعه، وبطل أن يكون قادراً، وحق أن من زاغ عن الحق كان في الضلال كما حق هذا {كذلك حقت} أي ثبتت ثباتاً عظيماً {كلمت ربك على} كل {الذين} قضى بفسقهم منهم. و {أنهم لا يؤمنون} تفسير لكلمته التي حقت؛ والرزق: جعل العطاء الجاري.
ولما علم أنهم معترفون بأمر الهداية وما يتبعها من الرزق والتدبير أعاد سبحانه السؤال عنها مقرونة بالإعادة تنبيهاً لهم على ما يتعارفونه من أن الإعادة أهون، فإنكارها مع ذلك إما جمود أو عناد، وإنكار المسلمات كلها هكذا، وسوقه على الطريق الاستفهام أبلغ وأوقع في القلب فقال:{قل} أي على سبيل الإنكار عليهم
والتوبيخ لهم {هل من شركائكم} أي الذين زعمتموهم شركاء لي وأشركتموهم في أموالكم من أنعامكم وزروعكم {من يبدأ الخلق} كما بدأته ليصح لهم ما ادعيتم من الشركة {ثم يعيده} .
ولما كان الجواب قطعاً من غير توقف. ليس فيهم من يفعل شيئاً من ذلك، وكان لجاجهم في إنكار الإعادة وعنادهم لا يدعهم انة يجيبوا بالحق، أمره بجوابهم بقوله:{قل الله} أي الذي له الأمر كله {يبدأ الخلق} أي مهما أراد {ثم يعيده} وأتى هنا بجزئي الاستفهام وكذا ما يأتي في السؤال عن الهداية تأكيداً للأمر بخلاف ما اعترفوا به، فإنه اكتفى فيه بأحد الجزأين في قوله {فسيقولون الله} ولم يقل: يرزقنا - إلى آخره؛ ثم زاد في تبكيتهم على عدم الإذعان لذلك بالتعجيب منهم في قوله: {فأنى تؤفكون*} أي كيف ومن أي جهة تصرفون بأقبح الكذب عن وجه الصواب من صارف ما، وقد استنارت جميع الجهات، ورتب هذه الجمل أحسن ترتيب، وذلك أنه سألهم أولاً عن سبب دوام حياتهم وكمالها بالرزق والسمع والبصر وعن بدء الخلق في إخراج الحي من الميت وما بعده، وكل ذلك تنبيهاً على النظر في أحوال أنفسهم مرتباً على الأوضح فالأوضح، فلما اعترفوا به كله أعاد السؤال عن بدء الخلق ليقرن به الإعادة تنبيهاً على أنهما بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، فلما فرغ مما يتعلق بأحوال
الجسد أمره أن يسألهم عن غاية ذلك، والمقصود منه من أحوال الروح في الهداية التي في سبب السعادة إمعاناً في الاستدلال بالمصنوع على الصانع على وجه مشير إلى التفضيل فقال:{قل} أي يا أفهم العباد وأعرفهم بالمعبود {هل من شركائكم} أي الذين زعمتم أنهم شركاء لله، فلم تكن شركتهم إلا لكم لأنكم جعلتم لهم حظاً من أموالكم وأولادكم {من يهدي} أي بالبيان أو التوفيق ولو بعد حين {إلى الحق} فضلاً عن أن يهدي للحق على أقرب ما يكون من الوجود إعلاماً.
ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين، أمره أن يجيبهم معرضاً عن انتظار جوابهم آتياً بجزئي الاستفهام أيضاً فقال:{قل الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {يهدي} ولما كان قادراً على غاية الإسراع، عبر باللام فقال:{للحق} إن أراد، ويهدي إلى الحق من يشاء، لا أحد ممن زعموهم شركاء، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض واختلال في المزاج كبير، فالآية من الاحتباك: ذكر {إلى الحق} أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، و {للحق} ثانياً دليلاً على حذفه أولاً، فتسبب عن ذلك إنكار أتباعهم لهم فقال:{أفمن يهدي} أي منتهياً في هداه ولو على بعد {إلى الحق} أي الكامل الذي لا زيغ فيه بوجه ولو على أبعد الوجوه
{أحق أن يتبع} أي بغاية الجهد {أم من لا يهدي} أي يهتدي فضلاً عن أن يهدي غيره إلى شيء من الأشياء أصلاً ورأساً؛ وإدغام تاء الافتعال للإيماء إلى انتفاء جميع أسباب الهداية حتى أدانيها، فإن التاء عند أرباب القلوب معناها انتهاء التسبب إلى أدناه {إلا أن يهدى} أي يهديه هاد غيره كائناً من كان، وهذا يعم كل ما عبد من دون الله من يعقل وممن لا يعقل؛ فلما أتم ذلك على هذا النهج القويم كان كأنه قيل: أتجيبون أم تسكتون؟ وإذا أجبتم أتؤثرون الحق فترجعوا عن الضلال أم تعاندون، تسبب عن ذلك سؤالهم عى وجه التوبيخ بقوله:{فما} اي أيّ شيء ثبت {لكم} في فعل غير الحق من كلام أو سكوت؛ ثم استأنف تبكيتاً آخر فقال: {كيف تحكمون*} فيما سألناكم عنه مما لا ينبغي أن يخفى على عاقل، أبالباطل أم بالحق؟ فقد تبين الرشد من الغي؛ والبدء: العقل الأول؛ والإعادة: إيجاد الشيء ثانياً؛ والهداية: التعريف بطريق الرشد من الغي.
ولما أخبر بإقرارهم عن بعض ما يسألون عنه ثم عقبه بما لوح إلى إنكارهم أو سكوتهم عن بعضه مما يتعلق بشركائهم، عطف على ما صرح به من قولهم {فسيقولون} وما لوح إليه من «فسينكرون» أو «فسيسكتون» قوله:{وما يتبع} أي بغاية الجهد {أكثرهم} أي نطقه أو سكوته في عبادته للأصنام وقوله: إنها شفعاء، وغير ذلك
{إلا ظناً} تنبيهاً على أنهم إنما هم مقلدون وتابعون للأهواء.
ولما كان الظن لا ينكر استعماله في الشرائع، نبه على أن محله إنما هو حيث لا يوجد نص على المقصود، فيقاس حينئذ على النصوص بطريقة، وأما إذا وجد القاطع في حكم فإنه لا يجوز العدول عنه بوجه من الوجوه فقال تعالى في جواب من يقول: أو ليس الظن مستعملاً في كثير من الأحكام؟ : {إن الظن لا يغني} أي أصلاً {من الحق} أي الكامل {شيئاً} أي بدله، ولايكون بدل الحق إلا إذا كان تابعه مخالفاً فيه لقاطع يعمله.
ولما صار ظهور الفرق ضرورياً، أوقع تهديد المتمادي في غيه في جواب من كأنه قال: إن ذلك غير خفي عنهم ولكنهم يستكبرون فلا يرجعون، فقال:{إن الله} أي المحيط بكل شيء {عليم} أي بالغ العلم {بما يفعلون*} فاصبر فلسوف يعملون.
ولما قدم في هذه السورة قولهم {لولا أنزل عليه آية من ربه} وأتى فيها رداً عليهم ووعظاً لهم من الآيات البالغة في الحكمة جداً يتجاوز قوى البشر ويضمحل دونه من الخلق القدر، وكان آخر ذلك التنبيه على أن شركاءهم لا يهتدون إلا أن هداهم الهادي فضلاً عن أن يهدوا، وإقامة الدليل على أن مذاهبهم ليست مستندة إلى علم بل هى تابعة للهوى، أتبع ذلك دليلاً قطعياً في أمر القرآن من أنه لا يصح أصلاً أن يؤتى به من دون أمره سبحانه رداً لقولهم: إنه مفترى، لأنه
من وادي ما ختم به هذه الآيات من اتباعهم للظنون لأنه لا سند لهم في ذلك بل ولا شبهة أصلاً، وإنما هو مجرد هوى بل وأكثرهم عالم بالحق في أمره، فنفى ذلك بما يزيح الظنون ويدمغ الخصوم ولا يدع شبهة لمفتون، وأثبت أنه هو الآية الكبرى والحقيق بالاتباع لأنه هدى، فقال تعالى:{وما كان} عاطفاً له على قوله {ما يكون لي أن أبدله} إلى آخره، فهو حينئذ مقول القول، أي قل لهم ذاك الكلام وقل لهم {ما كان} أي قط بوجه من الوجوه، وعينه تعييناً لا يمكن معه لبس، فقال:{هذا القرآن} أي الجامع لكل خير مع التأدية بأساليب الحكمة المعجزة لجميع الخلق {أن يفترى} أي أن يقع في وقت من الأوقات تعمد نسبته كذباً إلى الله من أحد من الخلق كائناً من كان؛ وعرف بتضاؤل رتبتهم دون شامخ رتبته سبحانه بقوله: {من دون الله} أي الذي تقرر أنه يدبر الأمر كله، فما من شفيع إلا من بعد إذنه وما يعزب عنه شيء فسبحان المتفضل على عباده بإيضاح الحجج وإزالة الشكوك والدعاء إلى سبيل الرشاد مع غناه عنهم وقدرته عليهم؛ والافتراء: الإخبار على القطع بالكذب، لأنه من فرى الأديم وهو قطعه بعد تفزيره.
ولما كان إتيان الأمي - الذي لم يجالس عالماً - بالأخبار والقصص الماضية على التحرير دليلاً قطعاً على صدق الآتي في ادعائه أنه لا معلم
له إلا الله، عبر بأداة العناد فقال:{ولكن} أي كان كوناً لا يجوز غيره {تصديق الذي} أي تقدم {بين يديه} أي قبله من الكتب، والدليل على تصادقه شاهد الوجود مع أن القوم كانوا في غاية العدواة له صلى الله عليه وسلم وكان أهل الكتابين عندهم في جزيرة العرب على غاية القرب منهم مع أنهم كانوا يتجرون إلى بلاد الشام وهم متمكنون من السؤال عن كل ما يأتي به، فلو وجدوا مغمزاً ما لقدحوا به، فدل عدم قدحهم على التصادق قطعاً.
ولما كان ذلك سلطاناً قاهراً صلى الله عليه وسلم، زاده ظهوراً بما اشتمل الكتاب الآتي به عليه من التفصيل الذي هو نهاية العلم فقال:{وتفصيل الكتاب} أي الجامع المجموع فيه الحكم والأحكام وجوامع الكلام من جميع الكتب السماوية في بيان مجملاتها وإيضاح مشكلاتها، فهو ناظر إلى قوله {أفمن يهدي إلى الحق} ، فهو برهان على أنه هو الهادي وحده، فهو الحقيق بالاتباع والتفصيل بتبيين الفصل بين المعاني الملتبسة حتى تظهر كل معنى على حقه، ونظيره التقسيم، ونقضيه التخليط والتلبيس، وبيان تفصيله أنه أتى من العلوم العلمية الاعتقادية من معرفة الذات والصفات بأقسامها، والعملية التكليفية المتعلقة بالظاهر وهي علم الفقه وعلم الباطن ورياضة النفوس بما لا مزيد عليه ولا يدانيه فيه كتاب، وعلم الأخلاق كثير في القرآن مثل
{خذ العفو} [الأعراف: 199]{إن الله يأمر بالعدل} [النحل: 90] وأمثالهما.
ولما كان - مع الشهادة بالصدق بتصديق ما ثبت حقيقة - معجزاً بالجمع والتفصيل لجميع العلوم الشريفة: عقليها ونقليها إعجازاً لم يثبت لغيره، ثبت أنه مناقض للافتراء حال كونه {لا ريب فيه} وأنه {من رب العالمين*} أي موجدهم ومدبر أمرهم والمحسن إليهم لأنه - مع الجمع لجميع ذلك - لا اختلاف فيه بوجه، وذلك خارج عن طوق البشر.
ولما كان هذا موضع أن يذعنوا لأن هذا القرآن ليس إلا من عند الله وبأمره قطعاً، كان كأنه قيل: ارجعوا عن غيهم فآمنوا واستقاموا {أم} استمروا على ضلالهم {يقولون} على سبيل التجديد والاستمرار عناداً {افتراه} أي تعمد نسبته كذباً إلى الله، فكأنه قيل، تمادوا على عتوهم فقالوا ذلك فكانوا كالباحث عن حتفه بظلفه، لأنهم أصلوا أصلاً فاسداً لزم عليه قطعاً إمكان أن يأتوا بمثله لأنهم عرب مثله، بل منهم من قرأ وكتب وخالط العلماء واشتد اعتناءه بأنواع البلاغة من النظم والنثر والخطب وتمرنه فيها بخلافه صلى الله عليه وسلم في جميع ذلك، فلهذا أمره في جوابهم بقوله {قل} أي لهم يا أبلغ خلقنا وأعرفهم بمواقع الكلام لجميع أنواعه، أتى بالفاء
السببية في قوله: {فأتوا} أي أنتم تصديقاً لقولكم هذا الذي تبين وأنكم فيه معاندون؛ ولما كانوا قد جزموا في هذه السورة بأنه افتراه، وكان مفصلاً إلى سور كل واحدة منها لها مقصد معين يستدل فيها عليه، وتكون خاتمتها مرتبطة بفاتحتها متحدة بها، اكتفى في تحديهم بالإتيان بقطعة واحدة غير مفصلة إلى مثل سورة لكن تكون مثل جميع القرآن في الطول والبيان وانتظام العبارة والتئام المعاني فلذلك قال:{بسورة} قال الرماني: والسورة منزلة محيطة بآيات من أجل الفاتحة والخاتمة كإحاطة سور البناء، وهذا نظراً إلى أن المتحدي به سورة اصطلاحية والصواب أنها لغوية، وهي كما قال الحرالي تمام جملة من المسموع تحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدنية؛ ووصفها بقوله:{مثله} أي قي البلاغة وحسن النظم وصحة المعاني ومصادقة الكتب وتفصيل العلوم لأنكم مثلي في العربية وتزيدون بالكتابة ومخالطة العلماء - من غير إتيان ب «من» لما تقدم من أن المراد كونها مثل القرآن كله، ولذلك وسع لهم في الاستعانة بجميع من قدروا عليه ووصلت طاقتهم إليه ولم يقصرهم على من بحضرتهم فقال:{وادعوا} أي لمعاونتكم {من استطعتم} أي قدرتم على طاعته ولو ببذل الجهد من الجن والإنس وغيرهم للمعاونة، وحقق أن هذا القرآن من عنده سبحانه
باستثنائه في قوله: {من دون الله} أي الذي له الكمال كله، ونبه على أنهم متعمدون لما نسبوه إليه - وحاشاه من تعمد الكذب - وأنهم معاندون بقوله:{إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {صادقين*} أي في أنه أتى به من عنده، لأن العاقل لا يجزم بشيء إلا إذا كان عنده منه مخرج، وذلك لا يكون إلا عن دليل ظاهر وسلطان قاهر باهر، وقد مضى في البقرة ويأتي في هود إن شاء الله تعالى ما يوضح هذا المعنى؛ والاستطاعة: حالة تتطاوع بها الجروح والقوى للفعل لأنه مأخوذ من الطوع؛ ثم كان كأنه قيل: فقال لهم ذلك فلم يأتوا لقومهم بشبهة توجب شكاً فضلاً عن مصدق، لأنه معجز لكونه كلاماً في أعلى طبقات البلاغة بحسن النظام والجزالة منزلاً من عند الله المحيط علماً وقدرة، فهو مشتمل من كل معنى على ما علا كل العلو عن مدان {بل} .
وأحسن من ذلك أنه لما أقام الدليل على أن القرآن كلامه، وكان الدليل إنما من شأنه أن يقام على من عرض له غلط أو شبهة، وكان قولهم {افتراه} لا عن شبهة وإنما هو مجرد عناد، نبه سبحانه على ذلك وعلى أنه إنما أقام الدليل لإظهار عنادهم لا لأن عندهم شبهة في كونه حقاً بالإضراب عن قولهم فقال:{بل} أي لم يقولوا {افتراه} عن اعتقاد منهم لذلك بل {كذبوا} أي أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك من غير أن يتفهموه مستهينين {بما لم يحيطوا بعلمه} اي في نظمه أو معناه من غير شبهة أصلاً بل
عناداً وطغياناً ونفوراً مما يخالف دينهم وشراداً، فهو من باب «من جهل شيئاً عاداه» والإحاطة: إرادة ما هو كالحائط حول الشيء، فإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه.
ولما كان لا بد من وقوع تأويله، وهو إتيان ما فيه من الإخبار بالمغيبات على ما هي عليه، قال:{ولما يأتهم} أي إلى زمن تكذيبهم {تأويله} أي ترجيعنا لأخباره إلى مراجعها وغاياتها حتى يعلموا أصدق هي أم كذب، فإنه معجز من جهة نظمه ومن جهة صدقه في أخباره؛ والتأويل: المعنى الذي يؤول إليه التفسير، وهو منتهى التصريح من التضمين.
ولما كان كأنه قيل: إن فعلهم هذا لعجب، فما حملهم على التمادي فيه؟ فقيل: تبعوا في ذلك من قبلهم لموافقتهم في سوء الطبع، قال مهدداً لهم ومسلياً له صلى الله عليه وسلم:{كذلك} أي مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبير المعجز {كذب الذين} ولما كان المكذبون بعض السالفين، أثبت الجار فقال:{من قبلهم} أي من كفار الأمم الخالية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم؛ ولما كان التكذيب خطراً لما يثير من السرور، سبب عنه - تحذيراً منه - النظر في عاقبة أمره فقال:{فانظر} أي بعينك ديارهم وبقلبك أخبارهم.
ولما كان من نظر هذا النظر وجد فيه أجل معتبر وأعلى مزدجر، وجه السؤال إليه بقوله:{كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {الظالمين*}
أي الذين رسخت أقدامهم في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى كذبوا من لا يجوز عليه الكذب بوجه، ومن المقطوع به أن هذا المسؤول يقول من غير تعلثم ولا تردد: عاقبة وخيمة قاصمة ذميمة؛ والعاقبة سبب تؤدي إليه البادئة، فالذي أدى إلى إلى هلاكهم بعذاب الاستئصال ما تقدم من ظلمهم لأنفسهم وعتوهم في كفرهم.
ولما ذكر سبحانه تكذيبهم، كان ذلك ربما أيأس من إذعانهم وتصديقهم، وآذن باستئصالهم لتكمل المشابهة للأولين، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الشفقة عليهم والحرص على إيمانهم، فأتبعه تعالى بقوله بياناً لأن علمه بانقسامهم أوجب عدم استئصالهم عاطفاً على {كذبوا} :{ومنهم} أي قومك {من يؤمن به} أي في المستقبل {ومنهم من لا يؤمن به} أي القرآن أصلاً ولو رأى كل آية {وربك} أي المحسن إليك بالرفق بأمتك {أعلم بالمفسدين*} أي الذين هم عريقون في الإفساد فسيعاملهم بما يشفي صدرك.
ولما قسمتهم هذه الآية قسمين، وتليت بذكر القسم الثاني بالواو، عرف أنه معطوف على مطوى القسم الأول، فكان كأنه قيل: فإن صدقوك فقل: الله ولي هدايتكم ولي مثل أجوركم بنسبتي فيها فضلاً من ربي: {وإن كذبوك فقل} أي قول منصف معتمد على قادر عالم {لي علمي} بالإيمان والطاعة {ولكم عملكم}
ما لأحد من ولا عليه من جزاء الآخر شيء؛ ثم صرح بالمقصود من ذلك بقوله محذراً لهم: {أنتم بريئون مما أعمل} أي فإن كان خيراً لم يكن لكم منه شيء وإن كان غيره لم يكن عليكم منه شيء {وأنا بريء مما تعملون*} لا جناح عليّ في شيء منه لأني لا أقدر على ردكم عنه؛ والبراءة: قطع العلقة الذي يوجب رفع المطالبة، ولا حاجة إلى ادعاء نسخ هذه الآية بآية السيف، فإنه لا منافاة بينهما، لأن هذه في رفع لحاق الإثم وهو لا ينافي الجهاد.
ولما قسمهم إلى هذين القسمين، قسم القسم الأخير إلى قسمين فقال:{ومنهم} أي المكذبين {من} ولما كان المستمع إليه أكثر لأنهم أشهى الناس إلى تعرف حاله، وكان طريق ذلك السمع والبصر، وكان تحديق العين إليه لا يخفى، فكان أكثرهم يتركه إظهاراً لبغضه وخوفاً من إنكار من يراه عليه، وكان إلقاء السمع بغاية الجهد يمكن إخفاءه بخلاف الإبصار، عبر هنا بالافتعال، وجمع دالاً على كثرتهم نظراً إلى معنى «من» وأفرد في النظر اعتباراً للفظها ودالاً على قلة الناظر بما ذكر فقال:{يستمعون} وضمن الاستماع الإصغاء ليؤدي مؤدي الفعلين، ودل على الإصغاء بصلته معلقة بحال انتزعت منه فكأنه: قال مصغين {إليك} أي عند قراءة القرآن وبيانه بالسنة، ولكنهم وإن كانوا قسمين بالنسبة إلى الاستماع والنظر فهم
قسم واحد بالنسبة إلى الضلال، فكان تعقيب ذلك بحشرهم بعد قصر الهداية عليه سبحانه كذكر حشرهم فيما مضى تقسيمهم إلى قسمين بعد قوله {ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} .
ولما كان صلى الله عليه وسلم يريد - بإسماعه لهم ما أنزل الله - هدايتهم به، سبب عن استماعهم إنكار إسماعهم الإسماع المترتب عليه الهدى فقال:{أفأنت} أي وحدك {تسمع الصم} أي في آذان قلوبهم لأنهم يستمعون إليك وقد ختم على أسماعهم فهم لا ينتفعون باستماعهم لأنهم يطلبون السمع للرد لا للفهم؛ والسمع إدراك الشيء بما يكون به مسموعاً، فكانوا بعدم انتفاعهم كأنهم هم مجانين، لأن الأصم العاقل ربما فهم بالتفرس في تحريك الشفاه وغيرها فلذا قال:{ولو كانوا} أي جبلة وطبعاً {لا يعقلون*} أي لا يتجدد لهم عقل أصلاً فصاروا بحيث لا يمكن إسماعهم لأنه لا يمكن إلا بسماع الصوت الدال على المعنى وبفهم المعنى، والمانع من الأول الصمم، ومن الثاني عدم العقل، فصاروا شراً من البهائم لأنها وإن كانت لا تعقل فهي تسمع، والأصم: المنسد السمع بما يمنع من إدراك الصوت {ومنهم من ينظر} محدقاً أو رامياً ببصره من بعيد {إليك} فهو من التضمين كما سبق في {يستمعون} ؛ نقل عن التفتازاني أنه قال في حاشية الكشاف: وحقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه
وهو كثير في كلام العرب، وذلك مع حذف حال مأخوذ من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية، ويتعين جعل الفعل المذكرو أصلاً والمذكور حاله تبعاً، لأن حذفه والدلالة عليه بصلته يدل على اعتباره في الجملة لا على زيادة القصد إليه، ومن أمثلته: أحمد إليك الله، أي منهياً إليك حمده، ويقلب كفيه على كذا، أي نادماً عليه،
{ولا تعد عيناك عنهم} [الكهف: 28] أي مجاوزتين عنهم إلى غيرهم، {ولا تأكلوا أموالهم} -ضاميها {إلى أموالكم} [النساء: 2] ، {الرفث - مفضين - إلى نسائكم} [البقرة: 187] ، {ولا تعزموا} [البقرة: 235] أي على النكاح وأنتم تنوون عقدته {ولا يسمعون} مصغين {إلى الملإ الأعلى} [الصافات: 8] ، سمع الله - أي مستجيباً - لمن حمده، {والله يعلم المفسد} [البقرة: 220] مميزاً له - {من المصلح} ، {والذين يؤلون} - ممتنعين {من} وطء {نسائهم} [البقرة: 226] .
ولما كان المعنى أنك يا أكرم الخلق تريد بنظر هذا الناظر إليك ان ينظر إلى ما تأتي به من باهر الآيات فيهتدي وهو غير منتفع بنظره لما جعل عليه من الغشاوة فكان كالأعمى الذي زاد على عدم بصره عدم العقل فلا بصر ولا بصيرة، قال منكراً لذلك:{أفأنت تهدي العمي}
أي عيوناً وقلوباً {ولو كانوا} أي بما جبلوا عليه {لا يبصرون*} أي لا يتجدد لهم بصر ولا بصيرة، فلا تمكن هدايتهم، لأن هداية الطريق الحسي لا تمكن إلا بالبصر، وهداية الطريق المعنوي لا تمكن إلا بالبصيرة؛ والنظر: طلب الرؤية بتقليب البصر، ونظر القلب طلب العلم بالفكر؛ والعمى: آفة تمنع الرؤية عن العين والقلب؛ والإبصار: إدراك الشيء بما به يكون مبصراً، فكأنه قيل: ما له فعل بهم هذا والأمر بيده؟ فقيل: لأنه تام المُلك والمِلك وهو متفضل في جميع نعمة لا يجب عليه لأحد شيء فهو لا يسأل عما يفعل، وبنى عليه قوله:{إن الله} وأحسن منه أن يقال: ولما كان التقدير: إذا علمت ذلك فخفف عنك بعض ما أنت فيه، فإنك لا تقدر على إسماعهم ولا هدايتهم لأن الله تعالى أراد ما هم عليه منهم لاستحقاقهم ذلك لظلمهم أنفسهم، علله بقوله:{إن الله} أي المحيط بجميع الكمال {لا يظلم الناس شيئاً} وإن كان هو الذي جبلهم على الشر {ولكن الناس} أي لما عندهم من شدة الاضطراب والتقلب {أنفسهم} أي خاصة {يظلمون*} بحملهم لها على الشر وصرف قواهم فيه باختيارهم مع زجرهم عن ذلك وحجبهم عما جبلوا عليه وإن كان الكل بيده سبحانه ولا يكون إلا بخلقه.
ولما كان في هذه الآيات ما ذكر من أفانين جدالهم في أباطيلهم وضلالهم، وكان فعل ذلك - ممن لا يرى حشراً ولا جزاء ولا نعيماً وراء نعيم هذه الدار - فعل فارغ السر مستطيل للزمان آمن من نوازل الحدثان، حسن تعقيبه بأنهم يرون يوم الحشر من الأهوال ما يستقصرون معه مدة لبثهم في الدنيا، فقد خسروا إذن دنياهم بالنزاع، وآخرتهم بالعذاب الذي لا يستطاع، وليس له انقطاع، فقال تعالى مهدداً لهؤلاء الكفار الذين يعاندون فلا يسمعون ولا يبصرون عاطفاً على {ويوم نحشرهم} الأولى:{ويوم يحشرهم} أي واستقصروا مدة لبثهم في الدنيا يوم الحشر لما يستقبلهم من الأهوال والزلازل الطوال، فكأنه قيل: إلى أي غاية؟ فقيل: {كأن} أي كأنهم {لم يلبثوا} في دنياهم، والجملة في موضع الحال من ضمير {يحشرهم} البارز أي مشبهين بمن لم يلبثوا {إلا ساعة} أي حقيرة {من النهار} وقوله:{يتعارفون بينهم} حال ثانية، أي لم يفدهم تلك الساعة أكثر من أن عرف فيها بعضهم بعضاً ليزدادوا بذلك حسرة في ذلك اليوم بعدم القدرة على التناصر والتعاون والتظافر كما كانوا يفعلون في الدنيا.
ولما كانت حالهم هذه هي الخسارة التي ليس معها تجارة، فكان السامع متوقعاً للخبر عنها، قال متعجباً منهم موضع: ما أخسرهم:
{قد خسر} أي حقاً {الذين كذبوا} أظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف مستهينين {بلقاء الله} أي الملك الأعلى بما أخذوا من الدنيا من الخسيس الفاني وتركوا مما كشف لهم عنه البعث من النعيم الشريف الباقي؛ ولما كان الذي وقع منه تكذيب مرة في الدهر قد يفيق بعد ذلك فيهتدي، قال عاطفاً على الصلة:{وما كانوا} أي جبلة وطبعاً {مهتدين*} مشيراً إلى تسفيههم فيما يدعون البصر فيه من أمر المتجر والمعرفة بأنواع الهداية.
ولما كان إخبار الصادق بهلاك الأعداء مقراً لعين، وكانت مشاهدة هلاكهم أقر لها، عطف على قوله {قد خسر} :{وإما نرينك} أي إراءة عظيمة قبل وفاتك {بعض الذي نعدهم} أي في الدنيا بما لنا من العظمة فهو أقر لعينك {أو نتوفينك} قبل ذلك {فإلينا مرجعهم} فنريك فيما هنالك ما هو أقر لعينك وأسر لقلبك، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً الإراءة دليلاً على حذفها ثانياً، والوفاة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً؛ و «ثم» في قوله:{ثم الله} أي المحيط بكل شيء {شهيد} أي بالغ الشهادة {على ما يفعلون*} في الدارين - يمكن أن يكون على بابها، فتكون مشيرة إلى التراخي بين ابتداء رجوعهم بالموت وآخره بالقيامة، ليس المراد بقوله {شهيد} ظاهره، بل العذاب الناشىء عن الشهادة في الآخرة إلى أن الله يعاقبهم بعد مرجعهم، فيريك ما بعدهم لأنه عالم بما يفعلون.
ولما كان في هذه الآية التهديد بالعذاب إما في الدنيا أو في الآخرة غير معين له صلى الله عليه وسلم واحدةً منهما، أتبعها بما هو صالح للأمرين بالنسبة إلى كل رسول إشارة إلى أن أحوال الأمم على غير نظام فلذلك لم يجزم بتعيين واحدة من الدارين للجزاء، وجعل الأمر منوطاً بالقسط، ففي أي دار أحكم جعله فيها، فقال تعالى: دالاً على أنه نشر ذكر الإسلام وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر من عهد آدم عليه السلام إلى آخر الدهر على وجه لم يحصل له اندراس في دهر من الدهور، فمن تركه استحق العذاب سواء كان ممن بين عيسى ومحمد عليهما السلام أم لا، فلا تغتر بما يقال من غير هذا:{ولكل أمة} أي من الأمم التي خلت قبلك {رسول} يدعوهم إلى الله؛ ثم سبب عن إتيان رسولهم بيان القضاء فيهم فقال: {فإذا جاء} أي إليهم {رسولهم} في الدنيا بالبينات والهدى؛ وفي الآخرة في الموقف بالإخبار بما صنعوا به في الدنيا من تكذيب أو تصديق {قضي بينهم} أي في جميع الأمور بما أفاده نزع الخافض على أسهل وجه من غير شك بما أفاده البناء للمفعول؛ ولما كان السياق بالترهيب أجدر، قال {بالقسط} أي أظهر خفياً من استحقاقهم في القضاء بالعدل والقسمة المنصفة بينهم كلهم بالسوية فأعطى كل أحد منهم مقدار ما يخصه من تعجيل العذاب وتأخيره كما فعل معك؛ ولما كان ذلك لا يستلزم الدوام، قال:{وهم لا يظلمون*}
أي لا يتجدد لهم ظلم منه سبحانه ولا من غيره.
ولما تقدم في هذه الآيات تهديدهم بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة، حكى سبحانه جوابهم عن ذلك عطفاً على قوله:{ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه} فقال: {ويقولون} أي هؤلاء المشركون مجددين لهذا القول مستمرين على ذلك استهزاء: {متى هذا الوعد} أي بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة، وألهبوا وهيجوا بقولهم:{إن كنتم} أي أنت ومن قال بقولك {صادقين*} والقول كلام مضمن في ذكره بالحكاية وقد يكون كلام لا يعبر عنه فلا يكون له ذكر مضمن بالحكاية، فلا يكون قولاً لأنه إنما يكون قولاً من أجل تضمن ذكره بالحكاية - قاله الرماني، ولتضمين جعل الشيء في وعاء؛ والوعد: خبر بما يعطي من الخير، والوعيد: خبر بما يعطى من الشر، وقد يراد الإجمال كما هنا فيطلق الوعد على المعنيين: وعد المحسن بالثواب والمسيء بالعقاب؛ والصدق: الخبر عن الشيء على ما هو به؛ والكذب: الخبر عنه على خلاف ما هو به.
ولما تضمن قولهم هذا استعجاله صلى الله عليه وسلم بما يتوعدهم به، أمره بأن يتبرأ من القدرة على شيء لم يقدره الله عليه بقوله:{قل} أي لقومك المستهزئين {لا أملك لنفسي} فضلاً عن غيري؛ ولما كان السياق للنقمة، قدم الضر منبهاً على أن نعمه أكثر من نقمة؛
وأنهم في نعمه، عليهم أن يقيدوها بالشكر خوفاً من زوالها فضلاً عن أن يتمنوه فقال:{ضراً ولا نفعاً} .
ولما كان من المشاهد أن كل حيوان يتصرف في نفسه وغيره ببعض ذلك قال: {إلا ما شاء الله} أي المحيط علماً وقدرة أن أملكه من ذلك، فكأنه قيل: فما لك لا تدعوه بأن يشاء ذلك ويقدرك عليه؟ فقيل: {لكل أمة أجل} فكأنه قيل: وماذا يكون فيه؟ فقيل: {إذا جاء أجلهم} هلكوا؛ ولما كان قطع رجائهم من الفسحة في الأجل من أشد عذابهم، قدم قوله:{فلا يستأخرون} أي عنه {ساعة} ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها {ولا يستقدمون*} فلا تستعجلوه فإن الوفاء بالوعد لا بد منه. والسين فيهما بمعنى الوجدان، أي لا يوجد لهم المعنى الذي صيغ منه الفعل مثل: استشكل الشيء واستثقله، ويجوز كون المعنى: لا يوجدون التأخر ولا التقدم وإن اجتهدوا في الطلب، فيكون في السين معنى الطلب والملك قوة يتمكن بها من تصريف الشيء أتم تصريف، والنفع: إيجاب اللذة بفعلها والتسبب المؤدي إليها؛ والضر: إيجاب الألم بفعله أو التسبب إليه؛ والأجل: الوقت المضروب لوقوع أمر.
ولما كان جل قصدهم بذلك الاستهزاء، وكان وقوعه أمراً ممكناً، وكان من شأن العاقل أن يبعد عن كل خطر ممكن، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بجواب آخر حذف منه واو العطف لئلا يظن أنه لا يكفي في كونه جواباً إلا بضمنه إلى ما عطف عليه فقال: {قل} أي لمن استبطأ وعيدنا بالعذاب في الدنيا أو في الأخرى، وهو لا يكون إلا بعد الأخذ في الدنيا إعلاماً بأن الذي يطلبونه ضرر لهم محض لا نفع فيه بوجه، فهو مما لا يتوجه إليه قصد عاقل {أرءيتم} وهي من رؤية القلب لأنها دخلت على الجملة من الاستفهام {إن أتاكم عذابه} في الدنيا.
ولما كان أخذ الليل أنكى وأسرع، قدمه فقال:{بياتاً} أي في الليل بغتة وأنتم نائمون كما يفعل العدو؛ ولما كان الظفر ليلاً لا يستلزم الظفر نهاراً مجاهرة قال: {أو نهاراً} أي مكاشفة وأنتم مستيقظون، أتستمرون على عنادكم فلا تؤمنوا؟ فكأنهم قالوا: لا، فليجعل به ليرى، فقيل: إنكم لا تدرون ما تطلبون! إنه لا لمخلوق بنوع منه، ولا يجترىء على مثل هذا الكلام إلا مجرم {ماذا} أي ما الذي؟ ويجوز أن يكون هذا جواب الشرط {يستعجل} أي يطلب العجله {منه} أي من عذابه، وعذابه كله مكروه لا يحتمل شيء منه {المجرمون*} إذ سنة الله قد استمرت بأن المكذب لا يثبت إلا عند مخايله، وأما إذا برك بكلكه وأناخ بثقله فإنه يؤمن حيث لا ينفعه الإيمان {ولن تجد لسنةِ الله تحويلاً} [فاطر: 43] وهذا معنى التراخي في قوله: {أثُمَّ إذا ما وقع}
أي عذابه وانتفى كل ما يضاده {آمنتم به} وذلك أنه كانت عادتهم كمن قبلهم الاستعجال بالعذاب عند التوعد به، وكانت سنة الله قد جرت بأن المكذبين إذا أتاهم العذاب يتراخى إيمانهم بعد مجىء مقدماته وقبل اجتثاثهم بعظائم صدماته لشدة معاندتهم فيه وتوطنهم عليه كما وقع للأولين من الأمم بغياً وعتواً كقوم صالح لما تغيرت وجوههم بألوان مختلفة في اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث وأيقنوا بالهلكة وودع بعضهم بعضاً ولم يؤمنوا. وجرت بأنهم إذا ذاقوا مس العذاب وأخذتهم فواجئه الصعاب شغلتهم دواهيه عن العناد واضطرتهم أهواله إلى سهل الانقياد، فكان في غاية الحسن وضع تقريعهم على الاستعجال عقب الوعيد، ثم وضع التراخي عن الإيمان بالعناد بعد الإشراف على الهلاك ومعاينة التلف، فكان كأنه قيل: أخبروني على تقدير أان يأتيكم عذابه الذي لا عذاب أعظم منه - كما دل ذلك إضافته إليه - فبيتكم أو كاشفكم، ما تفعلون؟ ألا تؤمنون؟ فقالوا لا، فليعجل به ليرى، فناسب لما كان استعجالهم بعد هذا الإنذار تسفيههم على ذلك فقيل {ماذا} أي أي نوع منه يطلب عجلته {المجرمون} ، ولا نوع منه الإ وهو فوق الطاقة ووراء الوسع، إن هذا لمنكر من الآراء، أفبعد تراخي إيمانكم عن مخايل صدمته ومشاهدة مبادىء عظمته وشدته أوجدتم الإيمان به عند وقوعه؟ يقال لكم حين اضطرتكم فواجئه إلى الإيمان وحملتكم
قوارعه على صيورة الإذعان: {آلآن} تؤمنون به - أي بسببه - بعد أن أزال بطشاً قواكم وحل عزائم هممكم وأوهاكم {وقد كنتم} أي كوناً كأنكم مجبولون عليه {به تستعجلون*} أي تطلبون تعجيله طلباً عظيماً حتى كأنكم لاتطلبون عجلة شيء غيره تكذيباً وعزماً على الثبات على العناد، لو وقع فلم نقبل إيمانكم هذا منكم ولا كف عذابنا عنكم، بل صيركم كأمس الدابر.
ولما كان ما ذكر هو العذاب الدنيوي، أتبعه ما بعده إعلاماً بأنه لا يقتصر عليه في جزائهم فقال:{ثم قيل} أي من أيّ قائل كان استهانة {للذين ظلموا} أي وبعد أزّكم في الدنيا والبرزخ بالعذاب وهزّكم بشديد العقاب قيل لكم يوم الدين بظلمكم بالآيات وبما أمرتم به فيها بوضعكم كلاًّ من ذلك في غير موضعه: {ذوقوا عذاب الخلد} فالإتيان ب «ثم» إشارة إلى تراخي ذلك عن الإهلاك في الدنيا بالمكث في البرزخ أو إلى أن عذابه أدنى من عذاب يوم الدين {هل تجزون} بناه للمفعول لأن المخيف مطلق الجزاء؛ ولما كان الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، وكان المعنى: بشيء، استثنى منه فقال:{إلا بما كنتم} أي بجبلاتكم {تكسبون*} أي في الدنيا من العزم على الاستمرار على الكفر
ولو طال المدى لاتنفكون عنه بشيء من الأشياء وإن عظم، فكان جزاءكم الخلود في العذاب طبق النعل بالنعل؛ والعذاب: الألم المستمر، وأصله الاستمرار، ومنه العذوبة لاستمرارها في الحلق؛ والبيات: إتيان الشيء ليلاً؛ والذوق: طلب الطعم بالفم في ابتداء الأخذ.
ولما انقضى ما اشتملت عليه الآية من التهديد وصادع الوعيد، أخبر تعالى أنهم صاروا إلى ما هو جدير بسامع ذلك من النزول عن ذلك العناد إلى مبادىء الانقياد بقوله تعالى:{ويستنبئونك} عطفاً على قوله «ويقولون متى هذا الوعد» أي ويطلبون منك الإنباء وهو الإخبار العظيم عن حقيقة هذا الوعد الجسيم، ويمكن أن يكون ذلك منهم على طريق الاستهزاء كالأول، فيكون التعجيب والتوبيخ فيه بعد ما مضى من الأدلة أشد {أحق هو} أي أثابت هذا الذي تتوعدنا به أم هو كالسحر لا حقيقية له كما تقدم أنهم قالوه {قل} أي في جوابهم {إي وربي} أي المحسن إليّ المدبر لي والمصدق لجميع ما آتي به؛ ولما كانوا منكرين، أكد قوله:{إنه لحق} أي كائن ثابت لا بد من نزوله بكم.
ولما كان الشيء قد يكون حقاً، ويكون الإنسان قادراً على دفعه فلا يهوله، قال نفياً ذلك:{وما أنتم} أي لمن توعدكم {بمعجزين*} فيما يراد بكم.
ولما أخبرهم بحقيقته، أخبرهم بما يكون منهم من الظلم أيضاً عند معياينته بالسماح ببذل جميع ما في الأرض حيث لا ينفع البذل بعد ترك المأمور به
وهو من أيسر الأشياء وأحسنها فقال: {ولو أن لكل نفس ظلمت} أي عند المعاينة {ما في الأرض} أي كلها من خزائنها ونفائسها {لافتدت به} أي جعلت فدية لها من العذاب لكنه ليس لهم ذلك، ولو كان من قبل منهم، فإذا وقع ما يوعدون استسلموا {وأسروا الندامة} أي اشتد ندمهم ولم يقدروا على الكلام {لما رأوا العذاب} لأنهم بهتوا لعظم ما دهمهم فكان فعلهم فعل المسر، لأنهم لم يطيقوا بكاء ولا شكاية ولا شيئاً مما يفعله الجازع؛ والاستنباء: طلب النبأ كما أن الاستفهام طلب الفهم؛ والنبأ: خبر عن يقين في أمر كبير؛ والحق: عقد على المعنى على ماهو به تدعو لحكمة إليه، وكل ما بنى على هذا العقد فهو حق لأجله، والحق في الدين ما شهد به الدليل على الثقة فيما طريقه العلم، والقوة فيما طريقة غالب الأمر، وذلك فيما يحتمل أمرين أحدهما أشبه بألاصل الذي جاء به النص؛ والافتداء: إيقاع الشيء بدل غيره لرفع المكروه، فداه فدية وأفداه وافتداه افتداء وفاداه مفاداة وفداه تفدية وتفادى منه تفادياً؛ والإسرار: إخفاء الشيء في النفس؛ والندامة: الحسرة على ما كان يتمنى أنه لم يكن أوقعها، وهي حال معقولة يتأسف صاحبها على ما وقع منها ويود أنه لم يكن أوقعها.
ولما اشتملت الآيات الماضيات على تحتم إنجاز الوعد والعدل في الحكم، وختمت بقوه:{وقضي} أي وأوقع القضاء على أيسر وجه وأسهله؛
ولما استغرق القضاء جميع وقائعهم. دل بنزع الجار فقال: {بينهم} أي الظالمين والمظلومين والظالمين والأظلمين {بالقسط} أي العدل؛ ولما كان وقوع ذلك لا ينفي وقوع الظلم في وقت آخر قال: {وهم} أي والحال أنهم {لا يظلمون*} أي لا يقع فيهم ظلم من أحد أصلاً كائناً من كان في وقت ما.
ولما كان السبب الحامل لملوك الدنيا على الكذب والجور والظلم العجز أو طلب التزيد في الملك، أشار إلى تنزهه عن ذلك بقوله مؤكداً سوقاً لهم مساق المنكر لأن فعلهم في عبادة الأصنام فعل من ينكر مضمون الكلام:{ألا إن لله} أي الملك الأعظم وحده {ما في السماوات} بدأ بها لعلوها معنى وحساً وعظمتها؛ ولما كان المقام للغنى عن الظلم لم يحوج الحال إلى تأكيد بإعادة النافي فقال: {والأرض} أي من جوهر وعرض صامت وناطق، فلا شيء خارج عن ملك يحوجه إلى ظلم أو إخلاف وعد لحيازته، والحاصل أنه لا يظلم إلا ناقص الملك وأما من له الملك كله فهو الحكم العدل: لأن جميع الأشياء بالنسبة إليه على حد سواء، ولا يخلف الوعد إلا ناقص القدرة وأما من له كل شيء ولا يخرج عن قبضته شيء فهو المحق في الوعد العدل في الحكم، وفي الآية زيادة تحسير وتنديم للنفس الظالمة حيث أخبرت بأن ما تود أن تفتدي به ليس لها منه شيء ولا تقدر على التوصل إليه، ولو قدرت ما قبل
منها، وإنما هو لمن رضي منها بالقليل منه فضلاً منه عليها على ما أمر به على لسان رسله، وعلى هذا فيجوز أن يكون التقدير: لو أن لها ذلك لافتدت به، لكنه ليس لها بل لله؛ فلما ثبت بذلك حكمه بالعدل وتنزهه عن إخلاف الوعد.
صرح بمضمون ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم: {ألا إن وعد الله} أي الذي له الكمال كله {حق} لأنه تام القدرة والغنى، فلا حامل له على الإخلاف {ولكن أكثرهم} أي الذين تدعوهم وهم يدعون دقة الأفهام وسعة العقول {لا يعلمون*} أي لا علم لهم فهم لا يتدبرون ما نصبنا من الأدلة فلا ينقادون لما أمرنا به من الشريعة فهم باقون على الجهل معدودون مع البهائم؛ و {ألا} مركبة من همزة الاستفهام و «لا» وكانت تقريراً وتذكيراً فصارت تنبيهاً، وكسرت إن بعدها لأنها استئنافيه ينبه بها على معنى يبتدأ به ولذا يقع بعدها الأمر والدعاء بخلاف «لو» و «إلا» للاستقبال فلم يجز بعدها إلا كسر «إن» «أما» قد تكون بمعنى «حقاً» في قولهم: أما إنه منطلق، وهي للحال فجاز في «أن» بعدها الوجهان - ذكره الرماني؛ والسماوات طبقات مرفوعه أولها سقف مزين بالكواكب. وهي من سما بمعنى علا.
ولما تقرر أنه لا شيء خارج عن ملكه، وأنه تام القدرة لأنه لا منجي من عذابه، شامل العلم لقضائه بالعدل، صادق الوعد لأنه
لا حامل له على غيره، وثبت تفرده بأنه يحي ويميت؛ ثبت أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، فثبت أنه لا يكون الرد إلا إليه فنبه على ذلك بقوله:{هو} أي وحده {يحيي} أي كما أنتم به مقرون {ويميت} كما أنتم له مشاهدون {وإليه} أي لا إلى غيره {ترجعون*} لأنه وعد بذلك في قوله: {إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً} [يونس: 4] وفي قوله: {فإلينا مرجعهم} [يونس: 46] وفي قوله {إي وربي إنه لحق} [يونس: 53] وغير ذلك ولا مانع له منه؛ والحياة معنى يوجب صحة العلم والقدرة ويضاد الموت، وهو يحل سائر أجزاء الحيوان فيكون بجميعه حياً واحداً، والحي هو الذي يصح أن يكون قادراً، والقادر هو الذي يصح أن يذم ويحمد بما فعل، والموت معنى يضاد الحياة على البنية الحيوانية، وليس كذلك الجمادية.
ولما ثبت أن ذلك كله حق مباين للسحر الذي مبناه على التخييل، أقبل على الذين تقدم الإخبار عنهم في أول السورة في قوله: أكان للناس عجباً أنهم قالوا إنه سحر، فقال:{يا أيها الناس} أي الذين قالوا: إن وعدنا والإخبار به سحر؛ ولما كان بين الأرواح والأبدان حب غريزي بالتعلق، والتذ الروح لذلك بمشتهيات هذه الحياة الدنيا بما انطبع فيه بمظاهر الحس فلم يأته نور العقل حتى تعود النقائص بقوة التعلق
فحدثت له أخلاق ذميمة هي أمراض روحانية، فأرسل ربه الذي أوجده ودبره وأحسن إليه طبيباً حاذقاً هو الرسول صلى الله عليه وسلم لعلاج هذه الأمراض.
وأنزل كتابه العزيز لوصف الأدوية، فكان أحكم الطب منع المريض عن أسباب المرض، قال تعالى:{قد جاءتكم موعظة} أي زاجر عظيم عن التخلي عن كل ما يشغل القلب عن الله من المحظورات وغيرها من كل ما لا ينبغي، وذلك هو الشريعة.
ولما كان تناول المؤذي شديد الخطر، وهو لذيذ إلى النفس بينهما من ملاءمة النقص، وكان الانكفاف عنه أشق شيء عليها، رغبها في القبول بقوله:{من ربكم} أي المحسن إليكم المدبر لمصالحكم بهذا القرآن؛ ولما كان أليق ما يعمل بعد الحمية تعاطي الدواء المزيل للأخلاط الفاسدة من الباطن، قال:{وشفاء} أي عظيم جداً {لما في الصدور} من أدواء الجهل، وذلك الشفاء يحصل بتطهير الباطن بعد التخلي عن الأخلاق الذميمة بالتحلي بالصفات الحميدة ليصير الباطن سالماً عن العقائد الفاسدة والأخلاق الناقصة كما سلم البدن من الأفعال الدنية، وهذا هو الطريق.
ولما كانت الروح إذا انصقلت مرآتها فصارت قابلة لتجلي الأنوار عليها بفيض البروق الإلهية والنفخات القدسية والمواهب الملكوتية لأنها دائمة اللمعان كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه: «إن لربكم أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا له» الحديث.
وليس المانع من نزولها في كل قلب إلا عدم القابلية من بعضها لتراكم الظلمات فيها من صداء المخالفة ودين الإعراض والغفلة، فيكون بذلك كالمرايا الصديئة لا تقبل انطباع الصور بها، قال تعالى:{وهدى} إلى الحق لأنه نور عظيم يقود صاحبه - ولابد - إلى الطريق الأقوم، وهذا للصديقين وهو الحقيقة.
ولما كان هذا النور إذا زاد عظمة وانتشر إشراقه يفيض - بعد الوصول إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية - على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام العالم فينير كل قابل له مقبل عليه، قال تعالى:{ورحمة} أي إكرام عظيم بالإمامية بالغ في الكمال والإشراق إلى حد لا مزيد عليه، وهذا للأنبياء عليهم السلام؛ ولما كان لا ينتفع بأنوارهم إلا من توجه إليهم، ثم إن الانتفاع بهم يتفاوت بتفاوت درجات التوجه إليهم والإقبال عليهم، قال:{للمؤمنين*} الذين اتبعوه وهم راسخون في التوجه إلى المرشدين والاستسلام لهم فكان ذلك سبباً لنجاتهم - أشار إلى هذا الإمام وقال: فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الكلمات الأربع القرآنية على وجه لا يمكن تأخير شيء منها عن موضعه ولا تقديمه، وهذا بخلاف ما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من السحر فإنه داء كله وضلال يجر إلى الشقاء، والموعظة: إبانة تدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة،
والوعظ ما دعا إلى الخشوع والنسك وصرف عن الفسوق والإثم؛ والشفاء: إزالة الداء، وداء الجهل أضر من داء البدن وعلاجه أعسر وأطباؤه أقل، والشفاء منه أجل؛ والصدر: موضع القلب، وهو أجل موضع في الحي لشرف القلب؛ والهدى: بيان عن معنى يؤدي إلى الحق، وهو دلالة تؤدي إلى المعرفة؛ والرحمة: نعمة على المحتاج.
ولما ثبت ذلك، حثهم عليه لبعده عن السحر بثباته وعدم القدرة على زلزلته فضلاً عن إزالته وبأن شفاء وموعظة وهدى ورحمة فهو جامع لمراتب القرب الإلهي كلها، وزهدهم فيما هم عليه مقبلون من الحطام: لمشاركته للسحر في سرعة التحول والتبدل بالفناء والاضمحلال فهو أهل للزهد فيه والإعراض عنه فقال تعالى: {قل بفضل الله} الآية، وحسن كل الحسن تعقيب ذلك لقوله:{هو يحيي ويميت} لما ذكر من سرعة الرحيل عنه، ولأن القرآن محيي لميت الجهل، من أقبل عليه أفاده العلم والحكمة، فكان للقلب كالحياة للجسد، ومن أعرض عنه صار في ضلال وخبط فوصل إلى الهلاك الدائم، فكان إعراضه عنه مميتاً له، وجعل أبو حيان متعلق الباء في بفضل محذوفاً تقديره:{قل} ليفرحوا {بفضل الله} أي الملك الأعلى {وبرحمته} ثم عطف قصر الفرح على ذلك {فبذلك} أي الأمر العظيم جداً وحده إن فرحوا يوماً ما بشيء {فليفرحوا} فهما جملتان وقال: إن ذلك أظهر، وفائدة الثانية قصر الفرح على ذلك دون ما يسرون به من الحطام
فإن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية. ثم صرح بسبب الفرح فقال: {هو} أي المحدث عنه من الفضل والرحمة {خير مما يجمعون*} أي من حطام الدنيا وإن كان أشرف ما فيها من المتاع دائبين فيه على تعاقب الأوقات، والعاقل يختار لتعبه الأفضل؛ والفضل: الزيادة في النعمة؛ والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى.
ولما وصف القرآن العظيم بالشفاء وما معه المقتضي لاستقامة المناهج وسداد الشرائع ووضوح المذاهب، وأشار إلى أن العاقل ينبغي له أن يخصه بالفرح لبقاء آثاره وما يدعو إليه وزهده فيما يجمعون لفنائه ولأنه يدعو إلى رذائل الأخلاق فيحط من أوج المعالي، أشار إلى أنهم كما خبطوا في الفرح فخصوه بما يفني معرضين عما يبقى فكذلك خبطوا في طريق الجمع فوعدوها على أنفسهم بأن حرموا بعض ما أحله، فمنعوا أنفسهم ما هم به فرحون دون أمر من الله تعالى فنقصوا بذلك حظهم في الدنيا بهذا المنع وفي الآخرة بكذبهم على ربهم في تحريمه حيث جعلوه شرعاً مرضياً وهو في غاية الفساد والبعد عن الصواب والقصور عن مراقي السداد فقال تعالى:{قل} أي لهؤلاء الذين يستهزئون بك استهزاء قاضياً عليهم بأنهم لا عقول لهم مستهزئاً بهم وموبخاً لهم توبيخاً هو في أحكم مواضعه، وساقه على طريق السؤال بحيث إنهم
لا يقدرون على الجواب أصلاً بغير الإقرار بالافتراء فقال: {أرءيتم} أي أخبروني، وعبر عن الخلق بالإنزال تنبيهاً على أنه شيء لا يمكن ادعاءه لأصنامهم لنزول أسبابه من موضع لا تعلق لهم به بوجه فقال:{ما أنزل الله} أي الذي له صفات الكمال التي منها الغنى المطلق {لكم} أي خاصاً بكم {من رزق} أي أيّ رزق كان {فجعلتم منه} أي ذلك الرزق الذي خصكم به {حراماً وحلالاً} على النحو الذي تقدم في الأنعام وغيرها قصته وبيان فساده على أنه جلي الفساد ظاهر العوج؛ ثم ابتدأ أمراً آخر تأكيداً للإنكار عليهم فقال: {قل} أي من أذن لكم في ذلك؟ {الله} أي الملك الأعلى {أذن لكم} فتوضحوا المستند به {أم} لم يأذن لكم فيه مع نسبتكم إياه إليه لأنكم فصلتموه إلى حرام وحلال ولا محلل ومحرم إلا الله، فأنتم {على الله} أي المحيط بكل شيء عظمة وعلماً {تفترون*} مع نسبتكم الافتراء إلي في هذا القرآن الذي أعجز الأفكار والشرع الذي بهر العقول وادعائكم أنكم أبعد الناس عن مطلق الكذب وأطهرهم ذيولاً منه، وتقديم الجار للإشارة إلى زيادة التشنيع عليهم من حيث إنهم أشد الناس تبرؤاً من الكذب وقد خصوا الله - على تقدير التسليم لهم - بأن تعمدوا الكذب عليه.
ولما كان قد مضى من أدلة المعاد ما صيره كالشمس، وكان افتراءهم قد ثبت بعدم قدرتهم على مستند بإذن الله لهم في ذلك، قال مشيراً
إلى أن القيامة مما هو معلوم لا يسوغ إنكاره: {وما ظن الذين يفترون} أي يتعمدون {على الله} أي الملك الأعظم {الكذب} أي أنه نازل بهم {يوم القيامة} أي هب أنكم لم تستحيوا منه ولم تخافوا عواقبه في الدنيا فما تظنون أنه يكون ذلك اليوم؟ أتظنون أنه لا يحاسبكم فيكون حينئذ قد فعل ما لا يفعله رب مع مربوبه.
ولما كان تعالى يعاملهم بالحلم وهم يتمادون في هذا العقوق، قال:{إن الله} أي الذي له الكمال كله {لذو فضل} أي عظيم {على الناس} أي بنعم منها إنزال الكتب مفصلاً فيها ما يرضاه وما يسخطه وإرسال الرسل عليهم السلام لبيانها بما يحتمله عقول الخلق منها، ومنها طول إمهالهم على سوء أعمالهم فكان شكره واجباً عليهم {ولكن أكثرهم} أي الناس لاضطراب ضمائرهم {لا يشكرون} أي لا يتجدد منهم شكر فهم لا يتبعون رسله ولا كتبه، فهم يخبطون خبط عشواء فيفعلون ما يغضبه سبحانه؛ والتحريم: عقد معنى النهي عن الفعل؛ والتحليل: حل معنى النهي بالإذن؛ والشكر: حق يجب بالنعمة من الاعتراف به والقيام فيما تدعو إليه على قدرها؛ وافتراء الكذب: تزويره وتنميقه فهو أفحش من مطلق الكذب.
ولما وصف القرآن بما وصفه به من الشفاء وما معه بعد إقامة الدليل
على إعجازه، وأشار إلى أن ما تدينوا به في غاية الخبط وأنه مع كونه كذباً يقدر كل واحد على تغييره بأحسن منه لكونه غير مبني على الحكمة، وختم ذلك بتهديدهم على افتراء الكذب في شرع ما لم يأذن به مع ادعائهم أن القرآن مفترى وهم عاجزون عن معارضته، وبأنهم لم يشكروه على نعمه التي أجلّها تخصيصهم بهذا الذكر الحكيم والشرع القويم، وكان قد أكثر في ذلك كله من الأمر له صلى الله عليه وسلم بمحاجتهم {قل لا أملك لنفسي} ، {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه} ، {قل إي وربي إنه لحق} ، {قل بفضل الله} - الآية، {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم} ، {قل الله أذن لكم} ، قال تعالى ناظراً إلى قوله:{وما كان هذا القرآن أن يفترى} الآية، تسلية له صلى الله عليه وسلم وتقوية لهمته وزيادة في تهديدهم عطفاً على ما تقديره: فقد أنزلت إليهم على لسانك ما هو شرف لهم ونعمة عليهم وهو في غاية البعد عن مطلق الكذب فإن كل شيء منه في أحكم مواضعه وأحسنها لا يتطرق إليه الباطل بوجه وهم يقابلون نعمته بالكفر: {وما تكون} أنت {في شأن} أي أيّ شأن كان {وما تتلوا منه} أي من القرآن المحدث عنه في جميع هذه السورة، الذي تقدم أنهم كذبوا به من غير شبهة لهم {من قرآن} أي قليل أو كثير {ولا تعملون} أي كلكم طائعكم وعاصيكم، وأغرق في النفي فقال:{من عمل}
صغير أو كبير {إلا كنا} أي بما لنا من العظمة {عليكم شهوداً} أي عاملين بإحاطة علمنا ووكالة جنودنا عمل الشاهد {إذ تفيضون فيه} الآية إيذاناً بأنك بعيني في جميع هذه المراجعات وغيرها من شؤونك وأنا العالم بتدبيرك والقادر على نصرتك، وهي كلها من كتابي الذي تتضاءل القوى دونه وتقف الأفكار عن مجاراته لأنه حكيم لكونه من عندي فجل عن مطلق المعارضة لفظاً أو معنى فضلاً عن التغيير فضلاً عن الإتيان بما هو مثله فكيف بما هو أحسن منه، لاستقامة أمره وتناسب أحكامه كونها شفاء وهدى ورحمة، وما كان كذلك فهو من عندي قطعاً وبإذني جزماً لأني عالم بالإفاضة فيه والانفصال عنه وجميع الأمور الواقعة منك ومنهم ومن غيرهم.
ولما كان ربما ظن ظان من إفهام {كنا} و {شهوداً} للجنود أنه سبحانه محتاج إليهم، نفى ذلك بقوله:{وما} أي والحال أنه ما {يعزب} أي يغيب ويخفى {عن ربك} أي المربي لكل مخلوق بعام أفضاله ولك بخاص نعمه وأشرف نواله، وأغرق في النفي فقال:{من مثقال ذرة} أي وزن نملة صغيرة جداً وموضع وزنها وزمانه؛ ولما كان «في» بمزون أهل الأرض كان تقديمها أولى فقال: {في الأرض} ولما لم يدع السياق إلى الجمع - كما سيأتي في سبأ - قال اكتفاء بالمفرد الدال على الجنس: {ولا في السماء}
أي ما علا عن الأرض كائناً ما كان.
ولما كان ربما أدى الجمود بعض الأغبياء إلى أن يحمل المثقال على حقيقته ويجهل أن المراد به المبالغة، قال عاطفاً على الجملة من أولها وهو على الابتداء سواء رفعنا الراءين على قراءة حمزة ويعقوب أو نصبناهما عند الباقين:{ولا أصغر من ذلك} أي من مثقال الذرة {ولا أكبر} ولما أتى بهذا الابتداء الشامل الحاصر، أخبر عنه بقوله:{إلا} أي لا شيء من ذلك إلا موجود {في كتاب} أي جامع {مبين*} أي ظاهر في نفسه مظهر لكل ما فيه، وسيأتي في سبأ ما يتم به هذا المكان، وفي ذلك تهديداً لهم وتثبيت له صلى الله عليه وسلم، ولاح بهذا أن ما بعد {إلا} حال من الفاعل، أي ما يفعل شيئاً إلا وأنت بأعيننا فثبت أن القرآن بعلمه، فلو افتراه أحد عليه لأمكن منه؛ والإفاضة: الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل أخذاً من فيض الإناء إذا انصب ما فيه من جوانبه، وأفضتم: تفرقتم كتفرق الماء الذي يتصبب من الإناء؛ والعزوب: ذهاب المعنى عن العلم، وضده الحضور؛ والذر: صغار النمل وهو خفيف الوزن جداً، ومثقاله: وزنه.
ولما تقدم أنه سبحانه شامل العلم، وعلم - من وضع الأحوال
ما لا يتسع ومن لا تسع مجرد أسمائهم الأرض في كتاب مبين أي مهما كشف منه وجد من غير خفاء ولا احتياج إلى تفتيش - أنه كامل القدرة بعد أن تقدم أنهم فريقان: صادق في أمره، ومفتر عليه، وأنه متفضل على الناس بعدم المعاجلة والتأخير إلى القيامة، وخوّف المفتري عواقب أمره عاجلاً وآجلاً، ورجىّ المطيع، كان موضع أن يقال: ليت شعري ماذا يكون تفصيل حال الفريقين في الدارين على الجزم؟ فأجيب بأن الأولياء فائزون والأعداء هالكون ليشمر كل مطيع عن ساعد جده ويبذل غاية جهده في لحاق المخلصين وتحامي جانب المفترين بقوله تعالى مؤكداً لاعتقادهم أنهم يهلكون حزب الله وإنكارهم غاية الإنكار أن يفوتوهم: {ألا إن أولياء الله} أي الذين يتولون بالطاعة من لا شيء أعز منه ولا أعظم ويتولاهم {لا خوف} أي ثابت عال {عليهم} أي من شيء يستقبلهم {ولا هم} أي بضمائرهم {يحزنون} أي يتجدد لهم حزن على فائت لأن قلوبهم معلقة بالله سبحانه فلا يؤثر فيهم لذلك خوف ولا حزن أثراً يقطع قلوبهم كما يعرض لغيرهم، وفسرهم بقوله:{الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف المصحح للأعمال وبه كمال القوة العلمية {وكانوا} أي كوناً صار لهم جبلة وخلقاً {يتقون} أي يوجدون التقوى، وهي كمال القوة العملية في الإيمان والأعمال ويجددونها فإنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق
قدره؛ وانتهى الجواب بقوله: {إن الذين يفترون على الله الكذب} - الآية، وهذا الذي فسر الله به الأولياء لا مزيد على حسنه، وعن علي رضي الله عنه «هم قوم صفر الوجوه من السهر عمش العيون من العبر خمص البطون من الخوى» وقيل: الولي من لا يرائي ولا ينافق، وما أقل صديق من كان هذا خلقه، وصح عن الإمامين: أبي حنيفة والتبيان أن كلاًّ منهما قال: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي.
وهذا في العالم العامل بعلمه كما بينته عند قوله في سورة الزمر {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] .
ولما نفىعنهم الخوف والحزن، زادهم فقال مبيناً لتوليه لهم بعد أن شرح توليهم له:{لهم} أي خاصة {البشرى} أي الكاملة {في الحياة الدنيا} أي بأن دينهم يظهر وحالهم يشتهر وعدوهم يخذل وعمله لا يقبل وبالرؤية الصالحة {وفي الآخرة} بأنهم هم السعداء وأعداؤهم الأشقياء وتتلقاهم الملائكة {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} [الأنبياء: 103] . وما كان الغالب على أحوال أهل الله في الدنيا الضيق ولا سيما في أول الإسلام، كان السامع لذلك بمعرض أن يقول: يا ليت شعري هل يتم هذا السرور! فقيل: نعم، وأكد بنفي الجنس لأن الجبابرة ينكرون ذلك لهم لما يرون من أن عزهم من
وراء ذل ليس فيه سوء ما لباطل المتكبرين من السورة والإرجاف والصولة: {لا تبديل} أي بوجه من الوجوه {لكلمات الله} أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة؛ وقوله -: {ذلك} أي الأمر العالي الرتبة {هو} أي خاصة {الفوز العظيم} في موضع البيان والكشف لمضمون هذه البشرى؛ والخوف: انزعاج القلب بما يتوقع من المكروه، ونظيره الجزع والفزع، ونقيضه الأمن؛ والحزن: انزعاجه وغلظ همه مما وقع من المكروه، من الحزن للأرض الغليظة، ونقيضه السرور، وهما يتعاقبان على حال الحي الذاكر للمحبوب؛ والبشرى: الخبر الأول بما يظهر سروره في بشرة الوجه.
ولما تقدمت البشرى بنفي الخوف والحزن معاً عن الأولياء، علم أن المعنى: هذه البشرى للأولياء وأنت رأسهم فلا تخف، فعطف عليه قوله:{ولا يحزنك قولهم} أي في نحو قولهم: إنهم يغلبون، وفي تكذيبك والاستهزاء بك وتهديدك، فإن ذلك قول يراد به تبديل كلمات الله الغني القدير، وهيهات ذلك من الضعيف الفقير فكيف بالعلي الكبير! وإلى هذا يرشد التعليل لهذا النهي بقوله:{إن العزة} أي الغلبة والقهر وتمام العظمة {لله} أي الملك الأعلى حال كونها {جميعاً} أي فسيذلهم ويعز دينه، والمراد بذلك التسلية عن قولهم الذي يؤذونه به.
ولما بدئت الآية بقولهم، ختمها بالسمع له والعلم به وقصرهما عليه لأن صفات كل موصوف متلاشية بالنسبة إلى صفاته فقال:{هو} أي وحده {السميع} أي البليغ السميع لأقوالهم {العليم} أي المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم بما تقتضيه، وهو تعليل لتفرده بالعزة لأنه تفرد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة! والعزة: قدرة على كل جبار بما لا يرام ولا يضام، والمعنى أنه يعزك على من ناواك، والنهي في {ولا يحزنك} في اللفظ للقول وفي المعنى للسبب المؤدي إلى التأذي بالقول، وكسرت «إن» هاهنا للاستئناف بالتذكر بما ينفي الحزن، لا لأنها بعد القول لأنها ليست حكاية عنهم، وقرىء بفتحها على معنى «لأن» .
ولما ختمت بعموم سمعه وعلمه بعد قصر العزة عليه، كان كأنه قيل: إن العزة لا تتم إلاّ بالقدرة فأثبت اختصاصه بالملك الذي لا يكون إلاّ بها، فقال مؤكداً لما يستلزمه إشراكهم من الإنكار لمضمون هذا الكلام:{ألآ إن لله} أي الذي له الإحاطة الكاملة؛ ولما كان بعض الناس قد أشركوا ببعض النجوم، جمع فقال معبراً بأداة العقلاء تصريحاً بما أفهمه التعبير سابقاً بأداة غيرهم:{من في السماوات} أي كلها، وابتدأ بها لأن ملكها يدل على ملك الأرض بطريق الأولى، ثم صرح بها في قوله مؤكداً لما تقدم:{ومن في الأرض} أي كلهم
عبيده ملوكهم ومن دونهم، نافذ فيهم تصريفه، منقادون لما يريده، وهو أيضاً تعليل ثان لقوله {ولا يحزنك قولهم} أو للتفرد بالعزة، وعبر ب «من» التي للعقلاء والمراد كل ما في الكون لأن السياق لنفي العزة عن غيره، والعقلاء بها أجدر، فنفيها عنهم نفي عن غيرهم بطريق الأولى، ثم غلبوا لشرفهم على غيرهم، ولذا تطلق «ما» التي هي لغيرهم في سياق هو بها أحق ثم يراد بها العموم تغليباً للأكثر الذي لا يعقل على الأقل؛ ثم نفى أن يكون له في ذلك شريك بقوله عاطفاً على ما تقديره: فما له شريك مما ادعاه المشركون منهما أو من إحداهما: {وما يتبع} أي بغاية الجهد {الذين يدعون} أي على سبيل العبادة {من دون الله} أي الذي له العظمة كلها {شركآء} على الحقيقة؛ ويجوز أن تكون «ما» موصولة تحقيراً للشركاء بالتعبير بأداة ما لا يعقل ومعطوفه على «من» {إن} أي ما {يتبعون} في ذلك الذي هو أصل أصول الدين يجب فيه القطع وهو دعاءهم له شركاء {إلاّ الظن} أي المخطىء على أنه لو كان صواباً كانوا مخطئين فيه حيث قنعوا في الأصل بالظن، ثم نبه على الخطأ بقوله:{وإن} أي وما {هم إلاّ يخرصون} أي يحزرون ذلك ويقولون ما لا حقيقة له أصلاً؛ والاتباع: طلب اللحاق بالأول على تصرف الحال، فهؤلاء اتبعوا الداعي إلى عبادة الوثن وتصرفوا معه
فيما دعا إليه، وظنهم في عبادتها إنما هو بشبيهة ضعيفة كقصد زيادة التعظيم لله وتعظيم تقليد الأسلاف، ويجوز أن يكون {شركاء} مفعولاً تنازعه {يتبع} و {يدعون} ؛ ثم أثبت سبحانه اختصاصه بشيء جامع للعلم والقدرة تأكيداً لاختصاصه بالعزة وتفرده بالوحدانية، وأن من أشرك به خارص لا علم له بوجه لكثرة الدلائل على وحدانيته ووضوحها فقال:{هو} أي وحده {الذي جعل} أي بسبب دوران الأفلاك الذي أتقنه {لكم} أي نعمة منه {الليل} أي مظلماً {لتسكنوا فيه} راحة لكم ودلالة على قدرته سبحانه على الإيجاد والإعدام وأُنساً للمحبين لربهم {والنهار} وأعار السبب وصف المسبب فقال: {مبصراً} أي لتنتشروا فيه، حذف وصف الليل وذكرت علته عكس ما فعل بالنهار ليدل ما ثبت على ما حذف، فالآية من الاحتباك.
ولما كانت هذه الآيات من الظهور بحيث لا يحتاج إلى أكثر من سماعها، قال:{إن في ذلك} أي الأمر العظيم {لآيات لقوم} أي لهم قوة المحاولة على ما يريدونه {يسمعون} أي لهم سمع صحيح، وفي ذلك أدلة واضحات على أنه مختص بالعزة فلا شريك له، لأن الشريك لا بد وأن يقاسم شريكه شيئاً من الأفعال أو الأحوال أو الملك، وأما عند انتفاء جميع ذلك فانتفاء الشركة أوضح من أن يحتاج فيه إلى دليل، ويجوز أن يكون المعنى: لآيات لقوم يبصرون إبصار اعتبار
ويسمعون سماع تأمل وإدكار، ولكنه حذف «يبصرون» لدلالة {مبصراً} عليه، ويزيد ذلك وضوحاً وحسناً كون السياق لنفي الشركاء، فهو إشارة إلى أنها لا تسمع ولا تبصر أصلاً فكيف بالاعتبار والافتكار؟ فالذين عبدوهم أكمل حالاً منهم.
ولما لم يكن شبهة على ادعاء الولد لله سبحانه ولا لهم اطلاع عليه بوجه، ساق قوله:{قالوا اتخذ} أي تكلف الأخذ بالتسبب على ما نعهد {الله} أي المسمى بهذا الاسم الذي يقتضي تسميته به أن يكون له الكمال كله، فلا يكون محتاجاً إلى شيء بوجه {ولداً} مساق البيان لقوله {إن يتبعون إلاّ الظن} وهذا صالح لأن يكون تعجيباً ممن ادعى في الملائكة أو عزير أو المسيح وغيرهم.
ولما عجب منهم في ذلك لمنافاته بما يدل عليه من النقص لما ثبت لله تعالى من الكمال كما مرّ، نزه نفسه الشريفة عنه فقال:{سبحانه} أي تنزه عن كل شائبة نقص التنزه كله؛ ثم علل تنزهه عنه وبينه بقوله: {هو} أي وحده {الغني} أي عن الولد وغيره لأنه فرد منزه عن الإبعاض والأجزاء والمجانسة؛ ثم بين غناه بقوله: {له ما في السماوات} ولما كان سياق الاستدلال يقتضي التأكيد، أعاد «ما» فقال:{وما في الأرض} من صامت وناطق، فهو غني بالملك ذلك عن أن يكون شيء منه ولداً له لأن الولد لا يملك، وعدم ملكه نقص مناف للغنى،
ولعله عبر ب «ما» لأن الغني محط نظره الصامت مع شمولها للناطق.
ولما بين بالبرهان القاطع والدليل الباهر الساطع امتناع أن يكون له ولد، بكتهم بنفي أن يكون لهم بذلك نوع حجة فقال:{إن} أي ما {عندكم} وأغرق في النفي فقال: {من سلطان} أي حجة {بهذا} أي الاتخاذ، وسميت الحجة سلطاناً لاعتلاء يد المتمسك بها؛ ثم زادهم بها تبكيتاً بالإنكار عليهم بقوله:{أتقولون} أي على سبيل التكرير {على الله} أي الملك الأعظم على سبيل الاستعلاء {ما لا تعلمون} لأن ما لا برهان عليه في الأصول فهو جهل، فكيف بما قام الدليل على خلافه؛ والسلطان: البرهان القاهر لأنه يتسلط به على صحة الأمر ويقهر به الخصم، وأصله القاهر للرعية بعقد الولاية.
ولما قدم أن قولهم كذب، وبكتهم عليه مواجهة، أتبعه بما يشير إلى أنهم أهل للإعراض في سياق مهدد على الكذب، فقال معرضاً عن خطابهم مؤكداً لأن اجتراءهم على ذلك دال على التكذيب بالمؤاخذة عليه:{قل} أي للذين ادعوا الولد لله وحرموا ما رزقهم من السائبة ونحوها {إن الذين يفترون} أي يتعمدون {على الله} أي الملك الأعلى {الكذب لا يفلحون} ثم بين عدم الفلاح بقوله: {متاع}
أي لهم، ونكره إشارة إلى قلته كما قال في الآية الأخرى {متاع قليل} وأكد ذلك بقوله:{في الدنيا} لأنها دار ارتحال، وما كان إلى زوال وتلاش واضمحلال كان قليلاً وإن تباعد مدّه وتطاولت مُدَده وجل مَدَده، وزاد على الحصر عَدده؛ وبين حالهم بعد النقلة بقوله:{ثم} أي بعد ذلك الإملاء لهم وإن طال {إلينا} أي على ما لنا من العظمة لا إلى غيرنا {مرجعهم} بالموت فنذيقهم عذاباً شديداً لكنه دون عذاب الآخرة {ثم نذيقهم} يوم القيامة {العذاب الشديد بما} أي بسبب ما {كانوا} أي كوناً هو جبلة لهم {يكفرون} ووجب كسر «إن» بعد القول لأنه حكاية عما يستأنف الإخبار به كما فعل في لام الابتداء لذلك.
ولما تقدم سؤالهم الإتيان بما يقترحون من الآيات، ومضت الإشارة إلى أن تسييرهم في الفلك من أعظم الآيات وإن كانوا لإلفهم له قد نسوا ذلك، وتناسجت الآي كما سلف إلى أن بين هذا أن متاع المفترين الكذبَ قليل تخويفاً من شديد السطوة وعظيم الأخذ، عقب ذلك بقصة قوم نوح لأنهم كانوا أطول الأمم الظالمة مدة وأكثرهم عدة، ثم أخذوا أشد أخذ فزالت آثارهم وانطمست أعلامهم ومنارهم فصاروا كأنهم لم يكونوا أصلاً ولا أظهروا قولاً
ولا فعلاً، فقال تعالى عاطفاً على قوله {قل إن الذين} مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لأن المصيبة إذا عمت خفت، وتخويفاً للكفار ليرجعوا أو يخفوا من أذاهم:{واتل} أي اقرأ قراءة متتابعة مستعلية {عليهم نبأ نوح} أي خبره العظيم مذكراً بأول كون الفلك وأنه كان إذ ذاك آية غريبة خارقة للعادة عجيبة، وأن قوم نوح لم ينفعهم ذلك ولا أغنى عنهم افتراءهم وعنادهم مع تطاول الأمد وتباعد المدد، بل صار أمرهم إلى زوال، وأخذ عنيف ونكال {كأن لم يلبثوا إلاّ ساعة من النهار يتعارفون بينهم} [يونس: 45] مع نجاة رسولهم وخيبة مأمولهم، قد لبث فيهم ما لم يلبثه نبي في قولهم ولا رسول في أمته ألف سنة إلاّ خمسبن عاماً، وما آمن معه إلاّ قليل {إذ قال لقومه} أي بعد أن دعاهم إلى الله فأطال دعاءهم ومتعوا في الدنيا كثيراً وأملى لهم طويلاً فما زادهم ذلك إلا نفوراً {يا قوم} أي يا من يعز عليّ خلافهم ويشق عليّ ما يسوءهم لتهاونهم بحق ربهم مع قوتهم على الطاعة {إن كان كبر} أي شق وعظم مشقة صارت جبلة {عليكم} ولما كانت عادة الوعاظ والخطباء أن يكونوا حال الخطبة واقفين، قال:{مقامي} أي قيامي، ولعله خص هذا المصدر لصلاحيته لموضع القيام وزمانه فيكون
الإخبار بكراهته لأجل ما وقع فيه من القيام أدل على كراهة القيام {وتذكيري} أي بكم {بآيات الله} أي الذي له الجلال والإكرام، فإن ذلك لا يصدني عن مجاهدتي بما يكبر عليكم من ذلك خوفاً منكم لأن الله أمرني به وأنا أخاف عذابه إن تركت، ولا أبالي بكراهيتكم لذلك خوف عاقبة قصدكم لي بالأذى {فعلى} أي فإني على {الله} أي الذي له العزة كلها وحده {توكلت} فإقامة ذلك المقام الجزاء من إطلاق السبب - الذي هو التوكل - على المسبب - الذي هو انتفاء الخوف - مجازاً مرسلاً، إعلاماً لهم بعظمة الله وحقارتهم بسبب أنهم أعرضوا عن الآيات وهم يعرفونها، بما دل عليه التعبير بالتذكير، فدل ذلك على عنادهم بالباطل، والمبطل لا يخشى أمره لأن الباطل لا ثبات له، ودل على ذلك بقوله:{فأجمعوا أمركم} أي في أذاي بالإهلاك وغيره، أعزموا عليه وانووه واجزموا به، والواو بمعنى «مع» في قوله:{وشركآءكم} ليدل على أنه لا يخافهم وإن كانوا شركاءهم أحياء كائنين من كانوا وكانت كلمتهم واحدة لا فرقة فيها بوجه.
ولما كان الذي يتستر بالأمور بما يفوته بعض المقاصد لاشتراط التستر، أخبرهم أنه لا يمانعهم سواء أبدوا أو أخفوا فقال:{ثم لا يكن} أي بعد التأبي وطول زمان المجاوزة في المشاورة {أمركم} أي الذي تقصدونه بي {عليكم غمة} أي خفياً يستتر عليكم شيء منه بسبب ستر ذلك عني لئلا أسعى في معارضتكم، فلا تفعلوا ذلك بل جاهروني به
مجاهرة فإنه لا معارضة لي بغير الله الذي يستوي عنده السر والعلانية؛ والتعبير ب {ثم} إشارة إلى التأني وإتقان الأمر للأمان من معارضته بشيء من حول منه أو قوة {ثم اقضوا} ما تريدون، أي بتوه بتة المقضي إليه واصلاً {إلي} .
ولما كان ذلك ظاهراً في الإنجاز وليس صريحاً، صرح به في قوله:{ولا تنظرون*} أي ساعة ما، وكل ذلك لإظهار قلة المبالاة بهم للاعتماد على الله لأنه لا يعجزه شيء ومعبوداتهم لا تغني شيئاً؛ ثم سبب عن ذلك قوله:{فإن توليتم} أي كلفتم أنفسكم الإعراض عن الحق بعد عجزكم عن إهلاكي ولم ينفعكم علمكم بأن الذي منعني - وأنا وحدي - منكم وأنتم ملء الأرض له العزة جميعاً وأن من أوليائه الذين تقدم وعده الصادق بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون {فما} أي فلم يكن توليكم عن تفريط مني لأني سقت الأمر على ما يحب، ما {سألتكم} أي ساعة من الدهر، وأغرق في النفي فقال:{من أجر} أي على دعائي لكم يفوتني بتوليكم ولا تتهموني به في دعائكم.
ولما كان من المحال أن يفعل عاقل شيئاً لا لغرض، بين غرضه بقوله مستأنفاً:{إن} أي ما {أجري إلا على الله} أي الذي له صفات الكمال؛ ثم عطف عليه غرضاً آخر وهو اتباع الأمر خوفاً من حصول
الضر فقال: {وأمرت} أي من الملك الأعلى الذي لا أمر لغيره، وبناه للمفعول للعلم بأنه هو الآمر وليزيد في الترغيب في المأمور به وتغطية بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال {أن أكون} أي كوناً أتخلق به فلا أنفك عنه؛ ولما كان في مقام الاعتذار عن مفاجأته لهم بالإنذار، عبر بالإسلام الذي هو الأفعال الظاهرة فقال:{من المسلمين*} أي الراسخين في صفة الانقياد بغاية الإخلاص، لي ما لهم وعليّ ما عليهم، أنا وهم في الإسلام سواء، لا مرية لي فيه أتهم بها، أن أستسلم لكل ما يصيبني في الله، لا يردني ذلك عن إنفاذ أمره، والحاصل أنه لم يكن بدعائه إياهم في موضع تهمة، لا سألهم غرضاً دنيوياً يزيده إن أقبلوا ولا ينقصه إن أدبروا، ولا أتى بشيء من عند نفسه ليظن أنه أخطأ فيه ولا سلك به مسلكاً يظن به استعباده إياهم في اتباعه، بل أعلمهم بأنه أول مؤتمر بما أمرهم به مستسلم لما دعاهم إليه ولكل ما يصيبه في الله، ولما لم يردهم كلامه هذا عن غيهم، سبب عنه قوله مخبراً بتماديهم:{فكذبوه} أي ولم يزدهم شيء من هذه البراهين الساطعة والدلائل القاطعة إلا إدباراً، وكانوا في آخر المدة على مثل ما كانوا عليه من التكذيب {فنجيناه} أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة الباهرة بسبب امتثاله لأوامرنا وصدق اعتماده علينا {ومن معه} أي من العقلاء وغيرهم {في الفلكِ} كما وعدنا أولياءنا، وجعلنا
ذلك آية للعالمين {وجعلناهم} أي على ضعفهم بما لنا من العظمة {خلائف} أي في الأرض بعد من أغرقناهم، فمن فعل في الطاعة فعلهم كان جديراً بأن نجازيه بما جازيناهم {وأغرقنا} أي بما لنا من كمال العزة {الذين كذبوا} أي مستخفين مستهينين {بآياتنا} كما توعدنا يفترون على الله الكذب.
ولما كان هذا أمراً باهراً يتعظ به من له بصيرة، سبب عنه أمر أعلى الخلق فهما بنظره إشارة إلى أنه لا يعتبر به حق الاعتبار غيره فقال:{فانظر} وأشار إلى أنه أهل لأن يبحث عن شأنه بأداة الاستفهام، وزاد الأمر عظمة بذكر الكون فقال:{كيف كان} أي كوناً كان كأنه جبلة {عاقبة} أي آخر أمر {المنذرين*} أي الغريقين في هذا الوصف وهم الذين أنذرتهم الرسل، فلم يكونوا أهلاً للبشارة لأنهم لم يؤمنوا لنعلم أن من ننذرهم كذلك، لا ينفع من أردنا شقاوته منهم إنزال آية ولا إيضاح حجة؛ والتوكل: تعمد جعل الأمر إلى من يدبره للتقدير في تدبيره؛ والغمة: ضيق الأمر الذي يوجب الحزن؛ والتولي: الذهاب عن الشيء؛ والأجر: النفع المستحق بالعمل؛ والإسلام الاستسلام لأمر الله بطاعته بأنها خير ما يكتسبه العباد.
ولما لم يكن في قصص من بينه وبين موسى عليهم السلام مما يناسب
مقصود هذه السورة إلا ما شاركوا فيه قوم نوح من أنهم لم تنفع الآيات من أريدت شقاوته منهم، ذكره سبحانه طاوياً لما عداه فقال تعالى:{ثم} أي بعد مدة طويلة {بعثنا} أي على عظمتنا؛ ولما كان البعث لم يستغرق زمان البعد، أدخل الجار فقال:{من بعده} أي قوم نوح {رسلاً} كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام.
ولما كان ربما ظن أن قوم الإنسان لا يكذبونه، وإن كذبوه لم يتمادوا على التكذيب لا سيما إن أتاهم بما يقترحونه من الخوارق قال:{إلى قومهم} أي ففاجأهم قومهم بالتكذيب {فجاءوهم} أي فتسبب عن استنادهم إلى عظمتنا أن جاؤوهم {بالبينات} ليزول تكذيبهم فيؤمنوا {فما} أي فتسبب عن ذلك ضد ما أمروا به وقامت دلائله وهو أنهم ما {كانوا} أي بوجه من وجوه الكون {ليؤمنوا} أي مقرين {بما كذبوا} أي مستهينين {به} أول ما جاؤوهم. ولما كان تكذيبهم في بعض الزمن الماضي، أدخل الجار فقال:{من قبل} أي قبل مجيء البينات لأنا طبعنا على قلوبهم؛ قال أبو حيان: وجاء النفي مصحوباً بلام الحجود ليدل على أن إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع - انتهى. ويجوز أن يكون التقدير: من قبل مجيء الرسل إليهم، ويكون التكذيب أسند إليهم لأن أباهم كذبوا لما بدلوا ما كان عندهم من الدين الصحيح
الذي أتتهم به الرسل ورضوا هم بما أحدث آباؤهم استحساناً له، أو لأنه كان بين أظهرهم بقايا على بقايا مما شرعته الرسل فكانوا يعظونهم فيما يبتدعون فلا يعون ولا يسمعون كما كان قس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهم قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم، لكن المعنى الأول أولى - والله أعلم.
ولما قرر عدم انتفاعهم بالآيات، بنى ما يليه على سؤاله من لعله يقول: هل استمر الخلق فيمن بعدهم؟ فكأنه قيل: نعم! {كذلك} أي مثل ما طبعنا على قلوبهم هذا الطبع العظيم {نطبع} أي نوجد الطبع ونجدده متى شئنا بما لنا من العظمة {على قلوب المعتدين*} في كل زمن لكل من تعمد العدو فيما لا يحل له، وهذا كما أتى موسى عليه السلام إلى فرعون فدعاه إلى الله فكذبه فأخبره أن معه آية تصدقه فقال له: إن كنت جئت بآية فائت بها إن كنت من الصادقين، فلما أتاه بها استمرعلى تكذيبه وكان كلما رأى آية ازداد تكذيباً، وكان فرعون قد قوي ملكه وعظم سلطانه وعلا في كبريائه وطال تجبره على الضعفاء، فطمست أمواله وآثاره، وبقيت أحاديثه وأخباره، ولهذا أفصح سبحانه بقصته فقال: دالاً على الطبع: {ثم بعثنا} أي وبعد زمن طويل من إهلاكنا إياهم بعثنا، ولعدم استغراق زمن البعد أدخل الجار فقال:{من بعدهم} أي من بعد أولئك الرسل
{موسى و} كذا بعثنا {هاورن} تأييداً له لأن اتفاق اثنين أقوى لما يقررانه وأوكد لما يذكرانه؛ ولما استقر في الأذهان بما مضى أن ديدن الأمم تكذيب من هو منهم حداً له ونفاسة عليه.
كان ربما ظن أن الرسول لو أتى غير قومه كان الأمر على غير ذلك، فبين أن الحال واحد في القريب والغريب، فقال مقدماً لقوله:{إلى فرعون وملئه} أي الأشراف من قومه، فإن الأطراف تبع لهم {بآياتنا} أي التي لا تكتنه عظمتها لنسبتها إلينا، فطبعنا على قلوبهم {فاستكبروا} أي طلبوا الكبر على قبول الآيات وأوجدوا ما يدل عليه من الرد بسبب انبعاثه إليهم عقب ذلك {وكانوا} أي جبلة وطبعاً {قوماً مجرمين*} أي طبعهم قطع ما ينبغي وصله ووصل ما ينبغي قطعه، فلذلك اجترؤوا على الاستكبار مع ما فيها أيضاً من شديد المناسبة لما تقدم من قول الكافرين {هذا سحر مبين} في نسبة موسى عليه السلام إليه وبيان حقيقة السحر في زواله وخيبته متعاطية لإفساده إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار، هذا إلى ما ينظم إليه من مناسبة ما بين إهلاك القبط وقوم نوح بآية الغرق، وأنه لم ينفع أحداً من الفريقين معاينة الآيات ومشاهدة الدلالات البينات، بل ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه بعد تلك المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة، ثم اتبعهم فرعون بعد أن كانت انحلت عن حبسهم عراه، وتلاشت من تجبره قواه، وشاهد من الضربات ما يهد الجبال،
ودخل في طلبهم البحر بحزات لا يقرب ساحتها الأبطال، لما قدره عليه ذو الجلال، ولم يؤمن حتى أتاه البأس حيث يفوت الإيمان بالغيب الذي هو شرط الإيمان، فلم ينفعه إيمانه مع اجتهاده فيه وتكريره لفوات شرطه إجابة لدعوة موسى عليه السلام، ثم إن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء موسى عليه السلام على منهاج واحد. فما اختلفوا إلا بعد مجيء العلم إليهم وبيان الطريق واضحة لديهم، ولهذا المراد ذكر هنا هارون عليه السلام لأن من أعظم مقاصد السورة المنع من طلب الآيات لمن بعد الإيمان عند الإتيان بها، إشارة إلى أن القول من الاثنين أوكد، ومع ذلك فلم يصدق من حكم القدير بشقاوته، كل ذلك حثاً على الرضا والتسليم، ووكل الأمر إلى الرب الحكيم، فمهما أمر به قبل، وما أعرض عنه ترك السؤال فيه رجاء تدبيره بأحسن التدبير وتقديره ألطف المقادير؛ ولما أخبر سبحانه باستكبارهم، بين أنه تسبب عنه طعنهم في معجزاته من غير تأمل، بل بغاية المبادرة والإسراع بما أشعرت به الفاء والسياق، فقال تعالى:{فلما جاءهم} أي فرعون وملؤه {الحق} أي البالغ في الحقية، ثم زاد في عظمته بقوله:{من عندنا} أي على ما لنا من العظمة التي عرفوا بها أنه منا، لا من الرسولين {قالوا} أي غير متأملين له ولا ناظرين في أمره بل
عناداً ودلالة على استكبارهم مؤكدين لما علموا من تصديق الناس به {إن هذا لسحر مبين*} كما قال الناس الذين أخبر عنهم سبحانه في أول السورة في هذا القرآن وما إبانه من البعث.
فلما قالوا كان كأنه قيل: فماذا أجابهم؟ فأخبر أنه أنكر عليهم، بقوله:{قال موسى} ولما كان تكريرهم لذلك القول أجدر بالإنكار، عبر بالمضارع الدال على أنهم كرروه لينسخوا ما ثبت في قلوب الناس من عظمته {أتقولون للحق} ونبه على أنهم بادروا إلى التكذيب من غير نظر ولا توقف بقوله:{لما جاءكم} أي هذا القول الذي قلتموه وهو أنه سحر، فإن القول يطلق على المكروه، تقول: فلان قال في فلان، أي ذمه، وفلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول؛ ثم كرر الإنكار بقوله:{أسحر هذا} أي الذي هو في غاية الثبات والمخالفة للسحر في جميع الصفات حتى تقولون فيه ذلك. فالآية من الاحتباك: ذكر القول في الأول دال على حذف مثله في الثاني، وذكر السحر الثاني دال على حذف مثله في الأول.
ولما كان التقدير: أتقولون هذا والحال أنكم قد رأيتم فلاحه، بني عليه قوله:{ولا يفلح} أي يظفر بما يريد في وقت من الأوقات {الساحرون*} أي العريقون فيه لأن حاصل أمرهم تخييل وتمويه في الأباطيل، فالظفر بعيد عنهم، ويجوز أن تجعل هذه الجملة معطوفه
على قوله: {أسحر هذا} لأنه إنكاري بمعنى النفي، فلما أنكر عليهم عليه السلام ما ظهر به الفرق الجلي بين ما أتى به في كونه أثبت الأشياء وبين السحر، لأنه لا ثبات له أصلاً، عدلوا عن جوابه إلى الإخبار بما يتضمن أنهم لا يقرون بحقيته لأنه يلزم عن ذلك ترك ما هم عليه من العلو وهم لا يتركونه، وأوهموا الضعفاء أن مراده عليه السلام الاستكبار معللين لاستكبارهم عن اتباعه بما دل على أنهم لا مانع أنهم منه إلا الكبر، فقال تعالى حكاية عنهم:{قالوا} أي منكرين عليه معللين بأمرين: التقليد، والحرص على الرئاسة.
ولما كان هو الأصل في الرسالة. وكان أخوه له تبعاً، وحدوا الضمير فقالوا:{أجئتنا} أي أنت يا موسى {لتلفتنا} أي لتقتلنا وتصرفنا {عما وجدنا عليه} وقالوا مستندين إلى التقليد غير مستحيين من ترك الدليل {آباءنا} من عبادة الأصنام والقول بالطبيعة لنقل نحن بذلك {وتكون لكما} أي لك أنت ولأخيك دوننا {الكبرياء} أي بالملك {في الأرض} أي أرض مصر التي هي - لما فيها من المنافع - كأنها الأرض كلها {وما} أي وقالوا أيضاً: ما {نحن لكما} وبالغوا في النفي وغلب عليهم الدهش فعبروا بما دل على أنهم غلبهم الأمر فعرفوا أنه صدق ولم يذعنوا فقالوا: {بمؤمنين*}
أي عريقين في الإيمان، فهو عطف على {أجئتنا} أي قالوا ذاك وقالوا هذا، أو يكون عطفاً على نحو: فما نحن بموصليك إلى هذا الغرض، أفردوه أولاً بالإنكار عليه في المجيء ليضعف ويكف أخوه عن مساعدته، وأشركوه معه ثانياً تأكيداً لذلك الغرض وقطعاً لطمعه؛ والبعث: الإطلاق في أمر يمضي فيه، وهو خلاف الإطلاق من عقال؛ والملأ: الجماعة الذين هم وجوه القبيلة، لأن هيبتهم تملأ الصدور عند منظرهم؛ والاستكبار: طلب الكبر من غير استحقاق؛ والمجرم من اكتسب سيئة كبيرة، من جرم التمر - إذا قطعه، فالجرم يوجب قطع الخير عن صاحبه؛ والسحر: إيهام المعجزة على طريق الجيلة، ويشبه به البيان في خفاء السبب؛ والحق: ما يجب الحمد عليه ويشتد دعاء الحكمة إليه ويعظم النفع به والضرر بتركه؛ والكبرياء: استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب، وهي صفة مدح لله وذم للعباد لأنها منافية لصفة العبودية.
ولما لبسوا بوصفه بما هم به متصفون، أرادوا الزيادة في التلبيس بما يوهم أن ما أتى به سحر تمكن معارضته إيقافاً للناس عن تباعه، فقال تعالى حكاية عطفاً على قوله:{قالوا أجئتنا} : {وقال فرعون} إرادة المناظرة لما أتى به موسى عليه السلام {ائتوني بكل ساحر عليم*}
أي بالغ في علم السحر لئلا يفوت شيء من السحر بتأخر البعض، وقراءة حمزة والكسائي بصيغة فعال دالة على زيادة لزعمه أقل من سياق الشعراء كما مضى في الأعراف.
ولما كان التقدير: فامتثلوا أمره وجمعوهم، دل على قرب اجتماعهم بالفاء في قوله:{فلما جاء السحرة} أي كل من في أرض مصر منهم {قال لهم موسى} مزيلاً لهذا الإيهام {ألقوا} جميع {ما أنتم ملقون*} أي راسخون في صنعة إلقائه، إشارة إلى أن ما جاؤوا به ليس أهلاً لأن يلقى إليه بال {فلما ألقوا} أي وقع منهم الإلقاء بحبالهم وعصيهم على إثر مقالاته وخيلوا بسحرهم لعيون الناس ما زلزل عقولهم {قال موسى} منكراً عليهم {ما جئتم به} ثم بين أنه ما استفهم عنه جهلاً بل احتقاراً وإنكاراً، وزاد في بيان كل من الأمرين بقوله:{السحر} لأنه استفهام أيضاً سواء قطعت الهمزة ومدت كما في قراءة أبي عمرو وأبي جعفر أوجعلت همزة وصل كما في قراءة الباقين، فإن همزة الاستفهام مقدرة، والتعريف إما للعهد وإما للحقيقة وهو أقرب، ويجوز في قراءة الجماعة أن يكون خبراً لما يقصد به الحصر، أي هو السحر لا ما نسبتموه إليّ؛ ثم استأنف بيان ما حقره به فقال:{إن الله} أي الذي له إحاطة العلم والقدرة {سيبطله} أي عن قريب بوعد لا خلف فيه؛ ثم علل ذلك بما بين
أنه فساد فقال: {إن الله} أي الذي له الكمال كله {لا يصلح} أي وفي وقت من الأوقات {عمل المفسدين*} أي العريقين في الفساد بأن لا ينفع بعملهم ولا يديمه؛ ثم عطف عليه بيان إصلاحه عمل المصلحين فقال: {ويحق} أي يثبت إثباتاً عظيماً {الله} أي الملك الأعظم {الحق} أي الشيء الذي له الثبات صفة لازمة؛ ولما كان في مقام تحقيرهم، دل على ذلك بتكرير الاسم الجامع الأعظم. وأشار إلى ما له من الصفات العلى بقوله:{بكلماته} أي الأزلية التي لها ثبات الأعظم، وزاد في العظمة بقوله:{ولو كره المجرمون} أي العريقون في قطع ما أمر الله به أن يوصل، فكان كما قال عليه السلام بطل سحرهم، واضمحل مكرهم، وحق الحق - كما بين في سورة الأعراف.
ولما حكى سبحانه أن موسى عليه السلام أبان ما أبان من بطلان السحر وكونه إفساداً، فثبت ما أتى به لمخالفته له، أخبر تعالى - تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وفطماً عن طلب الإجابة للمقترحات - أنه ما تسبب عن ذلك في أول الأمر عقب إبطال سحرهم من غير مهلة إلا إيمان ناس ضعفاء غير كثير، فقال تعالى:{فما آمن} أي متبعاً {لموسى} أي بسبب ما فعل، ليعلم أن الآيات ليست سبباً للهداية إلا لمن أردنا ذلك منه؛ وبين أن الصغار أسرع إلى القبول بقوله:{إلا ذرية} أي شبانهم هم أهل لأن تذر فيهم البركة {من قومه} أي قوم موسى الذين لهم القدرة
على القيام في المحاولة لما يريدونه، والظاهر أنهم كانوا أيتاماً وأكثرهم - كما قاله مجاهد {على خوف} أي عظيم {من فرعون وملئهم} أي أشراف قوم الذرية؛ ولما كان إنكار الملأ إنما هو بسبب فرعون أن يسلبهم رئاستهم، انحصر الخوف فيه فأشار إلى ذلك بوحدة الضمير فقال:{أن يفتنهم} وأتبعه ما يوضح عذرهم بقوله مؤكداً تنزيلاً لقريش منزلة من يكذب بعلو فرعون لتكذيبهم لأن ينصر عليهم الضعفاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لعلوهم: {وإن فرعون لعال} أي غالب قاهر متمكن بما فتناه به من طاعة الناس له {في الأرض} أي أرض مصر التي هي بكثرة ما فيها من المرافق كأنها جميع الأرض {وإنه لمن المسرفين*} أي العريقين في مجاوزة الحدود بظاهره وباطنه، وإذا ضممت هذه الآية إلى قوله تعالى:
{وإن المسرفين هم أصحاب النار} [غافر: 43] كان قياساً بديهياً منتجاً إنتاجاً صريحاً قطعياً أن فرعون من أصحاب النار، تكذبياً لأهل الوحدة في قولهم: إنه آمن، ليهونوا المعاصي عند الناس فيحلوا بذلك عقائد أهل الدين.
ولما ذكر خوفهم وعذرهم، أتبعه ما يوجب طمأنينتهم، وهو التوكل على الله الذي من راقبه تلاشى عنده كل عظيم، فقال:{وقال موسى} أي لمن آمن به موطناً لهم على أن الجنة لا تنال إلا بمشقة عظيمة «يبتلى
الناس على قدر إيمانهم» {يا قوم} فاستعطفهم بالتذكير بالقرب وهزهم إلى المعالي به فيهم من القوة ثم هيجهم وألهبهم على الثبات بقوله: {إن كنتم} أي كوناً هو في ثباته كالخلق الذي لا يزول {آمنتم بالله} وثبتهم بذكر الاسم الأعظم وما دل عليه من الصفات، وأجاب الشرط بقوله:{فعليه} أي وحده لما علمتم من عظمته التي لا يداينها شيء سواه {توكلوا} وليظهر عليكم أثر التوكل من الطمأنينة والثبات والسكينة {إن كنتم} أي كوناً ثابتاً {مسلمين*} جامعين إلى تصديق القلب إذعان الجوارح؛ وجواب هذا الشرط ما دل عليه الماضي من قوله: {فعليه توكلوا} {فقالوا} أي على الفور كما يقتضيه الفاء {على الله} أي الذي له العظمة كلها وحده {توكلنا} أي فوضنا أمورنا كلها إليه {ربنا} أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا {لا تجعلنا فتنة} أي موضع مخالطة بما يميل ويحيل {للقوم الظالمين*} أي لا تصبنا أنت بما يظنون به تهاونك بنا فيزدادوا نفرة عن دينك لظنهم أنا على الباطل ولا تسلطهم علينا مما يفتننا عن ديننا فيظنوا أنهم على الحق {ونجنا برحمتك} أي إكرامك لنا {من القوم} أي الأقوياء {الكافرين*} أي العريقين في تغطية الأدلة، وفي دعائهم هذا إشارة إلى أن أمر الدين أهم من أمر النفس.
ولما أجابوه إلى إظهار الاعتماد عليه سبحانه وفوضوا الأمور إليه، أتبعه ما يزيدهم طمأنينة من التوطن في أرض العدو إشارة إلى عدم المبالاة به، لأنه روي أنه كانت لهم متعبدات يجتمعون فيها، فلما بعث موسى عليه السلام أخربها فرعون، فأمر الله تعالى أن تجعل في بيوتهم لئلا يطلع عليهم الكفرة فقال تعالى عاطفاً على قوله:{وقال موسى} {وأوحينا} أي بما لنا من العظمة البالغة {إلى موسى وأخيه} أي الذي طلب مؤازرته ومعارضته {أن تبوءا} أي اتخذا {لقومكما بمصر} وهي ما بين البحر إلى أقصى أسوان والإسكندرية منها {بيوتاً} تكون لهم مرجعاً يرجعون إليه ويأوون إليه {واجعلوا} أي أنتما ومن معكما من قومكما {بيوتكم قبلة} أي مصلى لتتعبدوا فيها مستترين عن الأعداء تخفيفاً من أسباب الخلاف {وأقيموا الصلاة} أي بجميع حدودها وأركانها مستخفين ممن يؤذيكم جمعاً بين آلتي النصر: الصبر والصلاة، وتمرناً على الدين وتثبيتاً له في القلب.
ولما كان الاجتماع فيما تقدم أضخم وأعز وأعظم، وكان واجب على الأمة كوجوبه على الإمام جمع فيه، وكان إسناده البشارة عن الملك إلى صاحب الشريعة أثبت لأمره وأظهر لعظمته وأثبت في قلوب أصحابه وأقر لأعينهم، أفرد في قوله:{وبشر المؤمنين*}
أي الراسخين في الإيمان من أخيك وغيره.
ولما ختم ببشارة من دل على إيمانهم إسلامهم بفعل ما يدل على هوان أمر العدو، وكان هلاك المشانىء من أعظم البشائر، وكان ضلال فرعون وقومه بالزينة والمال إضلالاً لغيرهم، سأل موسى عليه السلام إزاله ذلك كله للراحة من شره، فقال تعالى حاكياً عنه:{وقال موسى} أي بعد طول دعائه لفرعون وإظهار المعجزات لديه وطول تكبره على أمر الله وتجبره على المستضعفين من عباده، ولما كان من أعظم أهل الاصطفاء، أسقط الأداة تسنناً بهم، وأشار بصفة الإحسان إلى أن هلاك أعدائهم أعظم إحسان إليهم فقال:{ربنا} أي أيها المحسن إلينا {إنك} أكد لما للجهال من إنكار أن يكون عطاء الملك الأعظم سبباً للإهانة {آتيت فرعون وملأه} أي أشراف قومه على ما هم فيه من الكفر والكبر {زينة} أي عظيمة يتزينون بها من الحلية واللباس وغيرهما {وأموالاً} أي كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما {في الحياة الدنيا} روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت؛ ثم بين غايتها لهم فقال مفتتحاً بالنداء باسم الرب ليعيذه وأتباعه من مثل حالهم: {ربنا} أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا والمدبر لأمورنا {ليضلوا} في
أنفسهم ويضلوا غيرهم {عن سبيلك} أي الطريق الواسعة التي نهجتها للوصول إلى رحمتك.
ولما بين أن مآلهم الضلال، دعا عليهم فقال مفتتحاً أيضاً بالنداء باسم الرب ثالثاً لأن ذلك من أمارات الإجابة كما أُشير إليه في آخر آل عمران وإشارة إلى أنهم لا صلاح لهم بدون هلاكهم وهلاكها:{ربنا اطمس} أي أوقع الطمس وهو التسوية بين المطموس وبين غيره مما ليس له نفعه {على أموالهم} .
ولما كان قد رأى منهم من التكبر على الله والتكذيب لآياته والتعذيب لأوليائه ما لا يشفي غيظه منه إلا إدامة شقائهم دنيا وأخرى، وكان عالماً بأن قدرة الله على إبقائهم على الكفر مع تحسيرهم بسلب المال كقدرته على ذلك باستدراجهم إليه بالمال، قال:{واشدد} أي شداً ظاهراً لكل أحد - بما أشار إليه الفك مستعلياً {على قلوبهم} قال ابن عباس: اطبع عليها وامنعها من الإيمان، وأجاب الدعاء بقوله:{فلا يؤمنوا} أي ليتسبب عن ذلك الشد عدم إيمانهم إذا رأوا مبادىء العذاب الطمس {حتى يروا} أي بأعينهم {العذاب الأليم*} حيث لا ينفعهم الإيمان فيكونوا جامعين ذل النفوس المطلوب منهم اليوم ليفيدهم العز الدائم إلى شدة الغضب بوضع الشيء في غير موضعه المنتج لدوام ذلهم بالعقاب؛ وهذه الآية منبهة على أن الرضى بكفر خاص
لا يستلزم استحسان الكفر من حيث هو كفر؛ قال الإمام الحليمي في كتاب شعب الإيمان المسمى بالمنهاج: وإذا تمنى مسلم كفر مسلم فهذا على وجهين: أحدهما أن يتمناه له كما يتمنى الصديق لصديقه الشيء يستحسنه فيحب أن يكون له فيه نصيب، فهذا كفر لأن استحسان الكفر كفر، والآخر أن يتمناه له كما يتمنى لعدوه الشيء يستفظعه - فيجب أن يقع فيه، فهذا ليس بكفر، تمنى موسى صلوات الله عليه وسلامه بعد أن أجهده فرعون ألا يؤمن فرعون وملأه ليحق عليهم العذاب، وزاد على ذلك أن دعا الله تبارك وتعالى فلم ينكر تعالى ذلك عليه لعلمه أن شدته على فرعون وغلظته عليه لما رآه من عتوه وتجبره هي التي حملته على ذلك، فمن كان في معناه فله حكمه؛ وقد نقل ذلك عنه الزركشي في حرف الثاء من قواعده مرتضياً له، ونقل عنه أيضاً أنه قال: ولو كان في قلب مسلم على كافر فأسلم فحزن المسلم لذلك وتمنى لو عاد إلى الكفر لا يكفر، لأن استقباحه الكفر هو الذي حمله على تمنيه واستحسانه الإسلام هو الحامل لله على كراهته؛ ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لو قتل عدو للإنسان ظلماً ففرح هل يأثم! إن فرح بكونه عصى الله فيه فنعم، وإن فرح بكونه خلص
من شره فلا بأس لاختلاف سببي الفرح - انتهى.
ويؤيده ما روى البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن مقسم مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عل عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمي وجهه فقال: «اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً!» فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار، ومسألة أن الرضى بالكفر كفر نقلها الشيخان عن المتولي وسكتا عليها، ولكن قال الشيخ محيي الدين في شرح المهذب: إن ذلك إفراط، فما تقدم من التفصيل عن الحليمي وابن عبد السلام هو المعتمد، والمسألة في أصل الروضة. فإنه قال: لو قال لمسلم: سلبه الله الإيمان، أو لكافر: رزقه الله الإيمان، فليس بكفر لأنه ليس رضى بالكفر لكنه دعاء عليه بتشديد الأمر والعقوبة؛ قلت: ذكر القاضي حسين في الفتاوى وجهاً ضعيفاً أنه لو قال مسلم: سلبه الله الإيمان، كفر - والله أعلم، وحكى الوجهين عن القاضي في الأذكار وقال: إن الدعاء بذلك معصية.
ولما أخبر سبحانه عن دعائه عليه السلام أخبر بإجابته بقوله مستأنفاً: {قال} ولما كان الموضع محل التوقع للإجابة، افتتحه بحرفه فقال:{قد أجيبت دعوتكما} والبناء للمفعول أدل على القدرة وأوقع في النفس من جهة الدلالة على الفاعل بالاستدلال، وثنى للإعلام بأن هارون عليه السلام مع موسى عليه السلام في هذا الدعاء، لأنه معه كالشيء الواحد لا خلاف منه له أصلاً وإن كان غائباً، وذلك
كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان رضي الله عنه في عمرة الحديبية فضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو غائب في حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا ضرب له في غزوة بدر بسهمه وأجره وكان غائباً.
ولما كانت الطاعة وانتظار الفرج وإن طال زمنه أعظم أسباب الإجابة، سبب عن ذلك قوله:{فاستقيما} أي فاثبتا على التعبد والتذلل والخضوع لربكما كما أن نوحاً عليه السلام ثبت على ذلك وطال زمنه جداً واشتد أذاه ولم يضجر؛ ولما كان الصبر شديداً. أكد قوله: {ولا تتبِّعان} بالاستعجال أو الفترة عن الشكر {سبيل الذين لا يعلمون*} ولما أمر بالتأني الذي هو نتيجة العلم، عطف على ذلك الإخبار بالاستجابة قوله:{وجاوزنا} أي فعلنا بعظمتنا في إجازتهم فعل المناظر للآخر المباري له، ودل بإلصاق الباء بهم على مصاحبته سبحانه لهم دلالة على رضاه بفعلهم فقال:{ببني إسراءيل} أي عبدنا المخلص لنا {البحر} إعلاماً بأنه أمرهم بالخروج من مصر وأنجز لهم ما وعد فأهلك فرعون وملأه باتباعهم سبيل من لا يعلم بطيشهم وعدم صبرهم، ونجى بني إسرائيل بصبرهم وخضوعهم؛ والالتفات من الغيبة إلى التكلم لما في هذه المجاوزة ومقدماتها ولواحقها من مظاهر العظمة ونفوذ الأوامر ومضاء الأحكام؛ وبين سبحانه كيفية إظهار استجابة الدعوة بقوله مسبباً عن المجاوزة:
{فأتبعهم} أي بني إسرائيل {فرعون وجنوده} أي أوقعوا تبعهم أي حملوا نفوسهم على تبعهم، وهو السير في أثرهم، واتبعه - إذا سبقه فلحقه، ويقال: تبعه في الخير واتبعه في الشر. ولما أفهم ذلك، صرح به فقال:{بغياً} أي تعدياً للحق واستهانة بهم {وعدواً} أي ظلماً وتجاوزاً للحد.
ولما كان فاعل ذلك جديراً بأن يرجع عما سلكه من الوعورة، عجب منه في تماديه فقال - عاطفاً على ما تقديره: واستمر يتمادى في ذلك -: {حتى} ولما كانت رؤية انفراج البحر عن مواضع سيرهم مظنة تحقق رجوع الماء إلى مواضعه فيغرق، عبر بأداة التحقق فقال:{إذا أدركه} أي قهره وأحاط به {الغرق} أي الموت بالماء كما سأل موسى في أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم {قال آمنت} أي أوقعت إيمان الداعي لي من التكذيب؛ ثم علل إيمانه بقوله مبدلاً من {آمنت} في قراءة حمزة والكسائي بالكسر مؤكداً من شدة الجزع: {أنه} وعلى تقدير الباء تعليلاً في قراءة الجماعة أي معترفاً بأنه {لا إله إلا الذي} ويجوز أن يكون أوقع {آمنت} على {أنه} وما بعدها - أي {آمنت} نفي الإلهية عن كل شيء غير من استثنيه من أن أعبره أو أرجع عنه.
ولما كان قد تحقق الهالك وعلم أنه لا نجاة إلا بالصدق، اراد الإعلام
بغاية صدقه فقال: {آمنت} أي أوقعت التصديق معترفة {به بنو إسراءيل} فعينه تعييناً أزال الاحتمال؛ ثم قال: {وأنا من المسلمين*} فكرر قبول ما كان دعي إليه فأباه استكباراً، وعبر بما دل على ادعاء الرسوخ فيه بياناً لأنه ذل ذلاً لم يبق معه شيء من ذلك الكبر ولم ينفعه ذلك لفوات شرطه، فاتصل ذله ذلك بذل الخزي في البرزخ وما بعده، وقد كانت المرة الواحدة كافية له عند وجود الشرط، وزاده تعالى ذلاً بالإيئاس من الفلاح بقوله على لسان الحال أو جبريل عليه السلام أو ملك الموت أو غيره من الجنود عليهم السلام:{آلآن} أي أتجيب إلى ما دعيت إليه في هذا الحين الذي لا ينفع فيه الإجابة لفوات الإيمان بالغيب الذي لا يصح أن يقع اسم الإيمان إلا عليه {وقد} أي والحال أنك قد {عصيت} أي بالكفر {قبل} أي في جميع زمان الدعوة الذي قبل هذا الوقت، ومعصية الملك توجب الأخذ والغضب كيف كانت، فكيف وهي بالكفر! {وكنت} أي كوناً جبلياً {من المفسدين*} أي العريقين في الفساد والإفساد؛ ثم أكده - بدل شماتة الأعداء به الذين كانوا عنده أقل شيء وأحقره - بقوله مسبباً عما تضمنه ذلك الإنكار من الإذلال بالإهلاك إشارة إلى أن الماء أحاط به وصار يرتفع قليلاً قليلاً حتى امتد زمن التوبيخ:{فاليوم ننجيك} أي تنجية عظيمة.
ولما كان ذلك ساراً وكانت المساءة بما يفهم السرور إنكاء، قال دالاً على أن ذلك يعد نزع روحه:{ببدنك} أي من غير روح وهو كامل لم ينقص منه شيء حتى لا يدخل في معرفتك لبس {لتكون} أي كوناً هو في غاية الثبات {لمن خلفك} أي يتأخر عنك في الحياة من بني إسرائيل وغيرهم {آية} في أنك عبد ضعيف حقير، لست برب فضلاً عن أن تكون أعلى ويعرفوا أن من عصى الملك أخذ وأن كان أقوى الناس وأكثرهم جنوداً، وقد ادعى بعض الملحدين إيمانه بهذه الآية إرادة لما يعيذ الله منه من حل العقد الواجب من أن فرعون من أكفر الكفرة بإجماع أهل الملل ليهون للناس الاجتراء على المعاصي، وادعى أنه لا نص في القرآن على أنه من أهل النار وضل عن الصرائح التي في القرآن في ذلك في غير موضع وعن أن قوله تعالى:
{وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين} [يونس: 83] مع قوله تعالى: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} [غافر: 43] قياس قطعي الدلالة بديهي النص على أنه من أهل النار، والآية - كما ترى - دليل على قوله:{قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً} - الآية، لو كان فرعون مثل قريش، فكيف ولا نسبة لهم منه في شدة الاستكبار التابعة لكثرة الجموع ونفوذ
الكلمة بضخامة الملك وعز السلطان والقوة بالأموال والأعوان، وقد وري أن جبريل عليه السلام كان أتاه بفتيا في عبد نشأ في نعمة سيده فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه، فكتب فرعون جزاء العبد الخارج عن طاعة سيده الكافر نعماءه أن يغرق في البحر، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه فعرفه.
ولما لم يعمل فرعون وآله بمقتضى ما رأوا من الآيات، كان حكمهم حكم الغافلين عنها، فكان التقدير: ولقد غفلوا عما جاءهم من الآيات {وإن كثيراً} أكده لأن مثله ينبغي - لبعده عن الصواب - أن لا يصدق أن أحداً يقع فيه {من الناس} أي وهم من لم يصل إلى حد أول أسنان أهل الإيمان لما عندهم من النوس - وهو الاضطراب - والأنس بأنفسهم {عن آياتنا} أي على ما لها من العظمة {لغافلون} والإصلاح: تقويم العمل على ما ينفع بدلاً مما يضر؛ وإحقاق الحق: إظهاره وتمكينه بالدلائل الواضحة حتى يرجع الطاعن عنه حسيراً والمناصب له مفلولاً؛ والإسراف: الإبعاد في مجاوزة الحق؛ والفتنة: البلية، وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة؛ والنجاة: الخلاص مما فيه المخافة، ونظيرها السلامة، وعلقوا النجاة بالرحمة لأنها إنعام على المحتاج بما تطلع إليه النفوس العباد، فهو على أوكد ما يكون
من الدعاء إلى الصلاح؛ والوحي: إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء، والإيحاء والإيماء والإشارة نظائر، ولا يجوز أن تطلق الصفة بالوحي إلا لنبي؛ وتبوأ: اتخذ، وأصله الرجوع، فالمتبوأ: المنزل، لأنه يرجع إليه للمقام فيه: والطمس: محو الأثر فهو تغير إلى الدثور والدروس؛ والإجابة: موافقة الدعوة فيما طلب بها لوقوعها على تلك الصفة؛ والدعوة: طلب الفعل بصيغة الأمر، وقد تكون بالماضي؛ والمجاوزة: الخروج عن الحد من إحدى الجهات؛ والبحر: مستقر الماء الواسع بحيث لا يدرك طرفيه من كان في وسطه، وهو مأخوذ من الاتساع؛ والاتباع: اللحاق بالأول؛ والبغي: طلب الاستعلاء بغير حق؛ والآن: فصل الزمانين الماضي والمستقبل، ومع أنه إشارة إلى الحاضر، ولهذا بنى كما بنى «ذا» ؛ والبدن: مسكن روح الحيوان على صورته.
ولما ذكر تعالى عاقبة أمر فرعون وقومه وأنهم لم ينتفعوا بما جاءهم من البينات مع ما كان فيها من جلي البيان وفي بعضها من الشدائد والامتحان حتى كان آخرها أنه لما رأى مبدأ الهلاك من انفراق البحر لم يزعه عن لجاجه غفلة منه عن عاقبته. وختمها بالإخبار بكثرة الغفلة إشارة إلى أن هذا الخلق في غير القبط أيضاً، أتبع ذلك ذكر خاتمة أمر بني إسرائيل فيما خولهم فيه بعد الإنجاء من النعم المقتضي للعلم القطعي بأنه لا إله غيره، وأن من خالفه كان على خطر الهلاك،
وأنهم - مع مشاهدتهم الآيات الآتيه بسببهم إلى فرعون - آتاهم من الآيات الخاصة بهم المنجزة لصدق وعده سبحانه لآبائهم ما فيه غاية الإحسان إليهم والإكرام لهم، وأنهم كانوا تحت يد فرعون على طريق واحد، ليس بينهم خلاف، وما اختلفوا فصاروا فرقاً في الاعتقادات وأحزاباً في الديانات حتى جاءهم العلم الموضح من الله، فكان المقتضي لاجتماعهم على الله مفرقاً لهم على سبيل الشيطان لخبث سرائرهم وسوء ضمائرهم وقوفاً مع الشاهد الزائل وجموداً مع المحسوس الفاني ونسياناً للغائب الثابت والمعلوم المتيقن، كل ذلك لأنا قضينا به فالأمر تابع لما نريد، لا لما يأمر به وينهى عنه، فكان أعظم زاجر عن طلب الآيات وظن أنها توجب له الرد على الغوايات، فقال تعالى:{ولقد بوأنا} أي أسكنا بما لنا من العظمة التي تنقطع الأعناق دون عليائها وتتضاءل ثواقب الأفكار عن إحصائها {بني إسراءيل} مسكناً هو أهل لأن يرجع إليه من خرج عنه، وهو المراد بقوله:{مبوأ صدق} أي في الأرض المقدسة لأن وعدنا كان قد تقدم لهم بها وعادة العرب أنها إذا مدحت الشيء أضافته إلى الصدق لأنه مع ثباته حبيب إلى كل نفس ويصدق ما يظن به من الخير.
ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالرزق، وكان التعبير عنه بالمبوإ دالاً على الرزق بدلالة الالتزام، صرح به فقال:{ورزقناهم} أي
بما لنا من العظمة {من الطيبات} أي الحسية حلاء واشتهاء من الفواكة والحبوب والألبان والأعسال وغيرها. والمعنوية من الشريعة والكتاب والمعارف كما تقدم وعدنا لآبائهم بذلك. ولما كانوا كغيرهم إذا كانوا على أمور يتواضعون عليها تقاربوا فيها وتوافقوا، وإذا كانوا على حدود حدها لهم المحسن إليهم وحده لم يلبثوا أن يختلفوا عابهم الله بذلك فقال:{فما} أي فتسبب عن صدقنا لهم في الوعد أنهم ما {اختلفوا} أي أوقعوا الخلف المفضي إلى جعل كل منهم صاحبه خلفه ووراء ظهره. واستهان به {حتى جاءهم العلم} الموجب لاجتماعهم على كلمة واحدة لما له من الضبط حتى يكون أتباعه على قلب واحد. فكأنه قيل: فماذا يفعل بهم؟ لا هم بعقولهم ينتفعون ولا بما جاءهم من الحق يرجعون؟ فقيل مؤكداً لإنكار العرب البعث: {إن ربك} أي المحسن إليك بإصاء الأنبياء بك ووصفك في كتبهم وجعلك صاحب لواء الحمد في القيامة {يقضي بينهم} .
ولما كان هذا تهديداً عظيماً، زاده هولاً وعظمة بقوله:{يوم القيامة} أي الذي هو أعظم الأيام {فيما كانوا} أي بأفعالهم الجبلية {فيه يختلفون*} فيميز الحق من الباطل، والصديق من الزنديق، ويسكن كلاًّ داره.
ذكر بعض ما في التوراة من المن عليهم بالأرض المقدسة:
قال قي أثناء السفر الخامس: قد رأت أعينكم جميع أعمال الله العظيمة التي عمل، فاحفظوا جميع الوصايا التي أمركم الله بها اليوم لتدخلوا الأرض التي تجوزون إليها لترثوها وتطول أعماركم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم ويرثها نسلهم الأرض التي تغل السمن والعسل. لأن الأرض التي تدخلونها لترثوها ليست مثل أرض مصر التي خرجتم منها التي كنتم تحتاجون فيها أن تستقوا بأرجلكم وتسقوها مثل بساتين السقي، ولكن الأرض التي تجوزون إليها لترثوها هي أرض الجبال والصحارى، وإنما تشرب من مطر السماء. يتعاهدها الله ربكم في كل حين، وعينا الله ربنا فيها منذ أول السنة إلى آخر السنة. فإن أنتم سمعتم الأحكام التي آمركم بها اليوم وتتقون الله ربكم وتعبدونه من كل قلوبكم وأنفسكم يديم نظره إليكم، ويمطر لكم في الخريف والربيع جميعاً، وتستغلون طعاماً وشراباً وزيتاً، وينبت في حرثكم عشباً لمواشيكم، وتأكلون وتشبعون، احفظوا أن لا تخدع قلوبكم وتروغوا إلى الآلهة الأخرى وتسجدوا لها وتعبدوها فيشتد غضب الرب عليكم، ويمنع السماء من المطر والأرض من غلاتها، وتهلكوا سريعاً من الأرض التي يعطيكم الله ربكم، بل اجعلوا هذه الآيات في قلوبكم، وصيروها ميسماً بين أعينكم، وعلموها بينكم أن يتكلموا بها في حضوركم وفي سفركم، وإذا
رقدتم وإذا قمتم، واكتبوها على معاقم بيوتكم وأبوابكم لتطول أعماركم وأعمار أولادكم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم. وإن أنتم حفظتم هذه الوصايا كلها وعملتم بها وأحببتم الله ربكم وسرتم في طرقه ولحقتم بعبادته يهلك الرب الملوك كلها من بين أيديكم وترثون شعوباً أعظم وأعز منكم، وكل بلاد تطأها أقدامكم تكون لكم بين البرية ولبنان ومن النهر إلى الفرات: النهر الأكبر، وتكون تخومكم عند البحر الآخر، ولا يقدر أحد أن يقاومكم، ويلقي الله ربكم خوفكم وفزعكم على كل الأرض التي تطؤونها كما قال لكم الرب: انظروا! إني أتلوا عليكم دعاء ولعناً، أما الدعاء فتصيرون إليه إن أنتم حفظتم وصايا الله ربكم، وأما اللعن فيدرككم إن أنتم لم تسمعوا وصايا الله ربكم وزغتم عن الطريق الذي أمركم به اليوم وتبعتم آلهة أخرى لم تعرفوها، وإذا أدخلكم الله ربكم إلى الأرض التي تدخلونها لترثوها اتلوا الدعاء على جبل حوريب واللعن على جبل من حيالها في مجاز الأردن خلف الطريق عند مغارب الشمس في أرض الكنعانين الذين يسكنون المغرب بإزاء الجبال وجبال بلوط - وفي نسخة: مرج ممري، لأنكم تجوزون الأردن لتدخلوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله ربكم وتسكنونها وتحفظون وتعملون بجميع الوصايا التي آمركم بها اليوم - انتهى.
وفي سفر يوشع بن نون عليه السلام: ولما كان بعد موسى
عبد الله قال الله ليوشع ابن نون خادم موسى عليهما السلام: موسى عبدي مات، والآن فقم فاعبر هذا الأردن أنت، وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لبني إسرائيل، كل موضع تطؤه أرجلكم لكم أعطيته، كما قلت لموسى عبدي. من البر وهذه للبنان وإلى النهر الكبير نهر الفرات كل أرض الذاعرين، لا يقف أحد قدامك طول ايام حياتك، كما كنت مع موسى أكون معك، لا أدعك ولا أتركك، اشتد وتأيد، فإنك أنت تنحل هذا الشعب الأرض التي قسمت لآبائهم لإعطاء ذلك لهم، لا يزول درس كتاب هذا الشريعة من فيك. وتلهج به نهاراً وليلاً لكي تحفظ للعمل بجميع المكتوب. فحينئذ تنجح طرقك. وحينئذ ترشد، أليس قد أوصيتك؟ اشتد وتأيد، ولا ترهب ولا تنذعر، لأن معك الله ربك في جميع ما تسير فيه، ووصى بوضع يوشع عرفاء القوم قائلاً: جوزوا في وسط العسكر ووصّوا القوم قائلين لهم: أعدوا لكم زاداً فإنكم بعد ثلاثة أيام عابرون هذا الأردن للدخول لإرث الأرض التي الله ربكم معطيها لكم، اذكروا ذكر القول الذي أمركم به موسى عبد الله قائلاً: الله ربكم مريحكم بما أعطاكم هذه الأرض، نساءكم وأطفالكم ومواشيكم تجلسون في مدنكم التي أعطاكم موسى عبد الله في مجاز الأردن وأنتم تجورون محزومي الخواطر إلى أن يريح الله إخوتكم كما أراحكم فترثوا أيضاً الأرض التي ربكم معطيكم، حينئذ ترجعون إلى أرض حوزكم التي أعطاكم موسى عبد الله في مجاز الأردن مشرق الشمس، فأجابوا يوشع قائلين: جميع
ما أوصيتنا به نعمل، كل موضع ترسلنا نمضي كجميع ما قبلنا من موسى كذاك نقبل منك. إذا كان الله معك كما كان مع موسى، كل إنسان يخالف أمرك ولا يقبل كلامك كجميع ما تأمره به يقتل. فاشتد وتأيد، فبعث يوشع بن نون من الكافرين رجلين جاسوسين في خفية قائلاً: امضيا! انظرا الأرض كلها مع أريحا، فمضيا ودخلا إلى بيت امرأة سواقة اسمها راحاب واضطجعا ثمَّ، فقيل لملك أريحا: هو ذا أناس من بني إسرائيل قد جاؤوا إلى هنا الليلة لجس البلد. فأرسل ملك أريحا إلى راحاب قائلاً: أخرجي القوم الجائين إليك الذين دخلوا دارك. فإنهم لجس جميع البلد جاؤوا. فأخذت المرأة الرجلين فأخفت أمرهما وقالت: كذاك كان القوم جاؤوا إليّ ولم أعلم من أين هم؟ وكان عند إغلاق الباب في الظلام.
ثم خرج القوم ولم أعلم أين مضوا؟ اطلبوهم بسرعة فإنكم تلحقونهم؛ ثم أصعدتهما إلى السطح وظهرتهما في فش الكتان. والقوم طلبوهما في طريق الأردن إلى المعابر - وفي نسخة: إلى المخاضات - ولباب أغلقوا بعد ما خرج الطالبون خلفهما. وهما قبل أن يناما صعدت إليهما راحاب إلى السطح فقالت لهما: قد علمت أن الله سلم إليكم البلد، وأنه قد وقعت هيبتكم علينا. وقد ماج جميع سكان البلد من قبلكم. وإنا قد سمعنا أن الله أيبس لكم
بحر القلزم عقب خروجكم من مصر وما عملتم بملكي الأمورانيين الذي في مجاز الأردن: سيحون وعوج اللذين اصطلمتموهما، فعند ما سمعنا ذابت قلوبنا ولم يثبت أيضاً روح في واحد منا من جهتكم، فإن الله ربكم هو إله من في السماوات من فوق ومن على الأرض من تحت، والآن فاحلفوا باسم الله إذ قد عملت معكما فضلاً، فتعملاً أيضاً أنتما مع أهل أبي فضلَا، وتعطياني علامة هي حق. لتستبقوا أبي وأمي وإخوتي وجميع من التصق بهم، وتخلصوا أنفسنا من القتل. فقالا لها: نبذل أنفسنا دونكم للموت إن لم تخبروا بخبرنا هذا. فيكون عند التسليم الله لنا البلد نعمل معك فضلاً وأمانة فأحدرتهما بالحبل من داخل الطاقة إذ منزلها في حائط السور. وفي السور هي ساكنة. وقالت لهما: سيرا إلى الجبل كيلا يلقاكما الطالبون، وبعد ذلك سيرا: لطريقكما، فقالا لها: أبرياء نحن من قسمك هذا الذي استقسمتنا إن لم تفعلي ما نقول لك، هو ذا نحن داخلون إلى البلد فاعقدي خصلة خيط من القرمز في الطاقة التي أخبرتنا منها. وأبوك وأمك وإخوتك وكل بيت أبيك تضمين إليك المنزل، فيكون كل من يخرج من أبواب منزلك إلى خارج دمه في عنقه ونحن أبرياء، وكل من يكون معك في المنزل دمه في أعناقنا إن بطشت به يد. وإن أخبرت بخبرنا
هذا فنحن أبرياء من قسمك الذي استقسمتنا، فقالت: كما قلتما، فأطلقتهما ومضيا، وعقدت خصلة القرمز في الطاقة، فمضيا إلى الجبل وجلسا ثم ثلاثة أيام إلى أن رجع الطالبون ولم يجدوهما. ورجع الرسولان وانحدرا من الجبل وجازا الأردن وجاءا إلى يوشع بن نون وقصا له كل ما وافاهما وقالا ليوشع: إن الله دفع بأيدينا كل الأرض، وقد ماج جميع ساكنها منا؛ وأدلج يوشع بالغداة ورحلوا من الكفرين، وجاؤوا إلى الأردن هو وجميع بني إسرائيل وباتوا ثم قبل أن يجوزوا. فلما كان بعد ثلاثة أيام جاز النقباء في وسط العسكر وأمروا القوم قائلين لهم: عند نظركم صندوق عهد الله ربكم والأئمة اللاويين حاملين له أنتم ترحلون من موضعكم وتمشون خلفه، لكن بينكم وبينه بعد مقدار ألفي ذارع بالمساحة، لا تقربوا منه لأجل أن تعرفوا الطريق التي تمشون فيها إذ لم تمشوا فيها أمس وأول أمس.
وقال يوشع للقوم: استعدوا فإن غداً يعمل الله في وسطكم عجائب، وقال يوشع للأئمة: احملوا صندوق العهد وجوزوا قدام القوم. فحملوا صندوق العهد وساروا قدام القوم، وقال الله ليوشع: هذا اليوم ابتدىء بتعظيم اسمك بحضرة جميع إسرائيل لكي يعلموا أنني كما كنت مع موسى أكون معك؛ وقال يوشع لبني إسرائيل: تقدموا
هاهنا وأسمعوا الله ربكم؛ قال يوشع: بهذه الخلة تعرفون أن قادراً حياً لذاته في وسطكم، وأن قارضاً يقرض من قدامكم قبائل الأمم: الكنعانيين والذاعرين - وفي نسخة: الحاثبين المنسوبين إلى حاث جدهم - والحويين أي الفصحاء البلغاء - وفي نسخة: المجتمعين إلى الحي - والربضيين والفلاحين والأمورانيين - أي الرؤساء - واليبوسيين - أي الجبارين القاهرين، ها هو ذا صندوق العهد، سيد كل الأرض جائز قدامكم في الأردن والآن خذوا لكم اثني عشر رجلاً من أسباط إسرائيل: رجلاً واحداً من كل سبط، ويكون عند قرار أقدام أرجل الأئمة حاملي صندوق العهد سيد كل الأرض في مياه الأردن من الأمر العظيم أنه تنقطع مياه الأردن المنحدرة من فوق وتقف طوداً واحداً كأنها في زق محصورة.
ولما ارتحل الشعب وقطعوا خيمه ليجوزوا الأردن سار الكهنة الذين حملوا التابوت أمام الشعب، فلما انتهوا إلى الأردن وكان ممتلئاً يفيض كل أيام الحصاد انشق الأردن وقام الماء الذي كان ينحدر من فوق كأنه في زق ناحيته، وتباعد عن قرية إدام التي عند صريم
جداً، والذي كان يجري إلى البحر العربي الذي يدعى بحر الملح انشق وحار وانقطع، وجاز الشعب حيال أريحا، وقام الكهنة الذيم حملوا تابوت العهد في الأردن يابساً حتى عبر جميع الشعب بحر الأردن؛ فلما جاز الشعب جميعاً قال الرب ليوشع: اعمد إلى اثني عشر رجلاً من الشعب: من كل سبط رجل واحد، وقل لهم: خذوا من هاهنا من جوف الأردن من تحت أقدام الكهنة اثني عشر حجراً وعبروها معكم وانصبوها في موضع المبيت الذي تبيتون فيه الليلة، فأمرهم يوشع بذلك وأن يحمل كل رجل حجره على عاتقه، فأخذوها إلى موضع مبيتهم ونصبوها هناك، فمكثت الحجارة - التي أخذوها من الأردن من تحت أقدام الكهنة الذين حملوا التابوت - موضوعة هناك إلى اليوم؛ والكهنة الذين حملوا التابوت كانوا قياماً حتى تمت جميع الأقوال التي أمر الرب يشوع أن يقص على الشعب كما أوصى موسى يشوع، وعجل الشعب على المجاز وجازوا، فما جاز جميع الشعب وجاز الكهنة الذين كانوا حاملين التابوت أمام الشعب وجاز بنو روبال وبنو جاد ونصف سبط منسا، وهم متسلخون أمام إخوتهم - كما أمر موسى - أربعون ألفاً ذوو قوة، جازوا أمام الرب إلى قاع أريحا للمحاربة.
في ذلك
اليوم عظم يشوع عند جميع بني إسرائيل وفرقوه كفرقهم من موسى طول أيام حياته، وقال الرب ليشوع: مر الكهنة الذين حملوا تابوت الشهادة يصعدوا من الأردن، فأمرهم، فلما صعدوا رجع ماء الأردن إلى مواضعه أول ما استقرت أقدام الكهنة في الشط وجرى في سواحل الأردن كما كان أولاً، فصعدوا من الأردن في عشر خلت من الشهر الأول - قلت: وهو نيسان على ما قال بعض فضلاء اليهود - ونزلوا الجلجال أقصى مشارق أريحا، فأما الاثنا عشر حجراً التي أخذوها من الأردن فنصبها يشوع في الجلجال، وقال يشوع لبني إسرائيل: إذا سألكم بنوكم غداً وقالوا لكم: ما هذه الحجارة؟ قولوا لهم: إن بني إسرائيل فلق له هذا الأردن فجازوه يابساً، لأن الله ربكم يبَّس ما الأردن أمامهم حتى جازوه كما فعل الله ربكم ببحر سوف الذي يبسه أمامنا حتى جزناه ليعلم جميع شعوب الأرض أن يد الرب قوية، وتتقوا الله ربكم كل الأيام.
فلما سمع جميع ملوك الأمورانيين الذين في جانب الأردن الغربي وجميع ملوك الكنعانيين الذين على شاطىء البحر أن الرب يبس ماء الأردن أمام بني إسرائيل حتى جازوا، فزعت قلوبهم ولم يبق فيهم رمق فزعاً من بني إسرائيل وفي ذلك الزمان قال الرب ليشوع: اتخذ سيفاً من طوران واختن بني إسرائيل ثانية، فختن بني إسرائيل ثانية في أكمة
الغلف، والذي ختن يشوع جميع الذكورة الذين كانوا ولدوا في البرية حين خرجوا من أرض مصر، لأن جميع الرجال الأبطال المقاتلة هلكوا في البرية لأنهم لم يطيعوا الله ربهم وكانوا كلهم مختتنين، فأقسم الرب عليهم أن لا يريهم الأرض التي وعد آباءهم أن يعطيهموها الأرض التي تغل السمن والعسل، فبنوهم الذين كانوا من بعدهم هم الذين ختن يشوع لأنهم كانوا غلفاً. فلما ختن جميع الشعب مكثوا مواضعهم في المعسكر حتى برئوا، وقال الرب ليشوع: اليوم صرفت عنكم عار أهل مصر، ودعا اسم ذلك الموضع جلجالاً، ونزل بنو إسرائيل الجلجال وعلموا فصحاً في أربعة عشر يوماً من الشهر الأول عند المساء في قاع أريحا وأكلوا من بر الأرض بعد الفصح وأكلوا في ذلك اليوم فطيراً وسنبلاً مقلواً. وارتفع المن عن بني إسرائيل منذ ذلك اليوم حيث أكلوا من بر الأرض ولم ينزل المن لبني إسرائيل بعد ذلك اليوم وأكلوا من بر الأرض وغلات أرض كنعان في تلك السنة. وبينا كان يشوع في قاع أريحا قائماً إذ نظر رجلاً قائماً إزاءه مخترطاً سيفه ممسكه بيده، فاقبل يشوع إليه وقال له: أنت منا أم من أعدائنا؟ قال: أنا سيد أجناد الرب، الآن أتيتك، فخر يشوع ساجداً على وجهه على الأرض وقال: ما الذي يقول السيد
لعبده؟ قال: اخلع خفيك عن قدميك، فإن الموضع الذي أنت قائم فيه طاهر، ففعل يشوع ذلك؛ وكان بنو إسرائيل قد حاصروا أريحا، ولم يكن يقدر أحد من أهلها يدخل ولا يخرج، قال الرب ليوشع: انظر! إني قد دفعت في يدك أريحا وملكها وكل أجنادها، فليحط بالمدينة جميع رجال المقاتلة، ودوروا حول المدينة مرة في اليوم، وافعلوا ذلك ستة أيام، ويحمل سبعة من الكهنة سبعة أبواق ويهتفون أمام التابوت، حتى إذا كان اليوم السابع دوروا حول المدينة سبع مرات ويهتف الكهنة بالقرون، فإذا هتفت الأبواق وسمعتهم أصواتها يهتف جميع الشعب بأعلى أصواتهم صوتاً شديداً، فيقع سور المدينة مكانه، ويصعد الشعب كل إنسان حياله، فدعا يشوع الكهنة وقال لهم: احملوا تابوت الرب عهد الرب ويحمل سبعة من الكهنة سبعة قرون وينفخون فيها أمام تابوت الرب، ثم قال للشعب: دوروا حول المدينة، والمتسلخون يجوزون أمام تابوت الرب، فحمل سبعة من الكهنة سبعة قرون وهتفوا أمام تابوت الرب فلم يزالوا ينفخون في القرون، والذين كانوا يحملون التابوت يتبعون أصحاب الأبواق والمتسلخون يسيرون أمام الكهنة الذي يهتفون بالقون ويسيرون أمام التابوت.
وقال يشوع للشعب: لا تهتفوا، ولا تسمعوا أصواتكم، ولا تخرج كلمة من أفواهكم إلى اليوم الذي آمركم أن تهتفوا. فدارت الجماعة بالتابوت كل يوم مرة
كما أمرهم يشوع، فلما كان اليوم السابع أدلجوا سحراً وأحاطوا بالمدينة كسنتهم ولكن في ذلك اليوم السابع داروا حولها سبع مرات، وفي المرة السابعة هتف الكهنة بالقرون وقال يشوع للشعب: اهتفوا لأن الرب قد دفع المدينة في أيديكم، ولكن صيروا هذه المدينة وكل ما فيها حريمة للرب، لا يمسه إنسان منكم، وأبقوا على راحاب الزانية - يعني القندقانية كما أخبرني بعض فضلائهم، ويؤيده التعبير عنها فيما مضى بالسواقة والله أعلم - وعلى كل من معها في بيتها لأنها غيبت الدسيسين اللذين أرسلنا، فأما أنتم فاحتفظوا من الحرام، ولا تنجسوا أنفسكم بأكل الحرام، فتصيروا عسكر بني إسرائيل حراماً، فنفخوا في القرون فلما سمع الشعب صوت الأبواق ضجوا كلهم واحدة شديدة جداً، فوقع سور المدينة فصعد الشعب إلى المدينة كل إنسان حياله، فافتتحوها وقتلوا كل من فيها رجالها ونساءها والمشيخة والصبيان والثيران والحمير والغنم، قتلوها بالسيف، وأما الرجلان اللذان اجتسا الأرض فقال لهم يشوع: ادخلا إلى بيت المرأة الزانية - يعني الفندقانية كما مضى - فأخرجاها وأخرجا كل من معها في البيت كما حلفتما لها، ففعلوا وأنزلوهم خارج عسكر بني إسرائيل وأحرقوا المدينة وكل من فيها بالنار، وأحيى يشوع الزانية ووالديها وكل من معها، وأقسم يشوع في ذلك الزمان ولعن وقال: ملعوناً يكون
أمام الرب الرجل الذي يقوم يبني مدينة أريحا هذه، وكان الرب بعونه مع يشوع ونصره، وشاع خبره في الأرض كلها، وأثم بنو إسرائيل وتناولوا من الحرام، وذلك لأن عاجار ابن كرمي بن زبدي بن زرح من قبيلة يهودا نحر وأخذ من الحرام وغيب في خيمته، فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل، ثم أرسل يشوع رجالاً إلى عاي التي عند بيت آون من مشارق بيت إل ليجتسوها، فقالوا له: إنه يجزىء في أخذها ألفان أو ثلاثة لأن أهلها قليل، فصعدوا فحاربوهم عند باب المدينة فانهزم بنو إسرائيل وجرح منهم جرحى كثير - فذكر القصة في سجود يشوع وانزعاجه وإخبار الله تعالى إياه أن قومه غلّوا، ثم أمره بالقرعة حتى خرج الذي عنده الغلول وهو عاجار، وكان غلوله طنفسة بابلية ومائتي مثقال فضة وسبيكة من ذهب فيها خمسون مثقالاً، فأخرجه يشوع مع كل شيء هو له، وقد مضى ذلك في البقرة عند
{أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} [البقرة: 98] وتقدم في المائدة فتح بعض بلاد بيت المقدس بأعجوبة أخرى واستمروا هكذا يفتحونها بلداً بعد بلد، ويقتلون من جبابرتها عدداً بعد عدد، ويرون في ذلك من عجائب الأمور وبدائع المقدور ما يبقي على كر الآباد ومَر الدهور، وهم في أثناء ذلك كل قليل يكفرون
وينقضون العهود ولا يشكرون كما هو مبين في سفر يوشع بن نون، وقد مضى شيء منه في المائدة عند قوله تعالى {فعموا وصموا} [المائدة: 71]- الآية، كل ذلك بعد أن جاءهم من العلم ما لا تدخله مرية لا يخالطه شك ولا يدنو منه لبس، فتبارك من له الأمر كله، لا مضل لمن هدى ولا هادي لمن يضله.
ولما كان ما مضى - من الآيات هذه السورة المبينة أن من أريدت شقاوته لا ينفعه مشاهدة الآيات - سبباً لنفي الشك عنها وإثبات اليقين بمضامينها بما سلف من الأدلة على تلك المضامين غلى أن ختم ذلك بذم من عمل عمل الشاك بعد أن جاء ما يوجب اليقين من العلم، وكان صلى الله عليه وسلم كما مضى في آخر التي قبلها أشفق الخلق لا سيما على العرب لا سيما على قومه منهم، وكانت الوصية قد برزت من الجناب الإلهي له بما يوافق طبعه من بذل الجهد في ملاطفتهم، كان ذلك جديراً بأن يحرك طبع البشر لتمني الإجابة لما يقترحون، وكان طلب ذلك بعد الفطام عنه من أفعال الشك في الجملة فأريد صرف النفس عنه بالكلية ولو بالخطور في البال فقيل مسبباً عما قبله:{فإن كنت} أي يا أرحم الخلق {في شك} ولم يرد بهذا الكلام حقيقته - والله أعلم - بل تقوية اليقين وتأكيده ورسوخه وتأييده بأن هذا أمر قد عزم عليه وفرغ منه فلا يحتمل مراجعة، وذلك لأن المعنى أن ثباتهم على
الشقاوة أمر لا يعلم إلاّ من قبلنا، وذلك بأحد أمرين: إما بواسطة الأمين جبرئيل بما يأتي به من الوحي عنا غضاً طرياً محفوظاً من الغير فلا تحريف فيه ولا تبديل، وإما بواسطة أهل الكتاب عن أنبيائهم - وفي ذلك نزول درجتين مع تجويز التخويف والتبديل، وهذا ما لا يرضاه ذو همة علية ونفس أبية - فالمعنى: أنا قد أخبرتك بأن الآيات لا تزيد المقضي بشقائه إلاّ ضلالاً وأنا خبير بذلك {ولا ينبئك مثل خبير} فلا تطلب إجابتي إياهم إلى ما يقترحون عليك رجاء إيمانهم فإنهم لا يؤمنون بذلك {فإن كنت} أي في وقت من الأوقات {في شك} أي ولو قل {ممآ أنزلنآ} أي بعظمتنا واصلاً على لسان الواسطة {إليك} في ذلك {فسئل} أي بسبب ذلك الشك {الذين يقرءون} أي متتابعين لذلك {الكتاب} أي السماوي من اليهود والنصارى، فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزلنا إليك على حد عظيم. ومن آمن منهم أو كان منصفاً جدير بأن يزداد من فاوضه في ذلك إيماناً؛ ولما كانوا بعض من أوتي الكتاب في الزمن السالف، أثبت الجار فقال:{من قبلك} وهم عن ذلك الخبر بمراحل، فلا تجنح إلى سؤال غيري، وهذا مضمون قوله تعالى مؤكداً آتياً بحرف التوقع
لأن كلاًّ من الأمرين في أحق مواضعه: {لقد جآءك الحق} أي الثابت الكامل ثباته وهو إمضاء العدل فيهم؛ وزاده تشريفاً وترغيباً فيه بقوله: {من ربك} أي المحسن إليك باصطفائك لذلك، فلذا سيق مساق البيان له من غير واو، فإذا ثبت أنه الحق أي الثابت أعلى الثبات تسبب عنه البعد من تزلزل من جاءه، فناسب اتباعه بقوله:{فلا تكونن} أكده لأنه حقيق بأن لا ينثني عنه أحد بوجه من الوجوه {من الممترين} أي الغافلين عن آيات الله فتطلب الفضل لأهل العدل؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله! ما شك طرفة عين ولا سأل أحداً منهم.
ولما نهى عن ذلك لم يبق مما اقتضته القسمة العقلية إلاّ العناد ممن يمكن منه كما فعل بنو إسرائيل بعد مجيء العلم فأتبعه النهي عن مثل حالهم بقوله: {ولا تكونن} أي بوجه من الوجوه، والمراد بهذا أتباعه {من الذين كذبوا} أي فعلوا فعل المكذب مستهينين {بآيات الله} أي التي لا أعظم منها بإضافتها إلى من لا أعظم منه {فتكون} أي كوناً راسخاً {من الخاسرين} بل اثبت على ما أنت عليه من اليقين والطمأنينة والثقة بالله والسكينة، وهذا ونحوه مما غلظت فيه العبارة دلالة على مزيد قرب المخاطب وإن كان المراد غيره وعظيم منزلته ولطيف خصوصيته كما مضى بيانه عن الإمام أبي الحسن الحرالي رحمه الله في سورة براءة عند قوله تعالى {عفا الله عنك} [براءة: 43]- الآية، وتغليظ
العبارة فيه تأديب عظيم لتابعيه؛ والشك: الوقوف بين النقيضين، وهو من شك العود فيما ينفذ فيه، لأنه يقف بذلك الشك بين جهتيه؛ والإنزال: نقل الشيء من علو إلى سفل؛ والامتراء؛ طلب التشكك مع ظهور الدليل، من مري الضرع وهو مسحه ليدر.
ولما كان ما مضى من هذه الآيات وما كان من طرازها قاضياً بأنه لا تغني الآيات عنهم. صرح به قوله تعالى: {إن الذين حقت} أي وجبت وثبتت {عليهم} أي بأنهم أشقياء، وعبر بالاسم المفهم للإحسان إعلاماً بأنه ما أوجب عليهم العذاب إلاّ إحساناً إليه بما يقاسي من معالجتهم وغير ذلك من الحكمة فقال:{كلمت ربك} أي المحسن إليك في جميع أمرك {لا يؤمنون} أي لا قبول لهم لتجدد الإيمان {ولو جآءتهم كل آية} ونسبتها إلى قوله {لقد جاءك الحق} نسبة {لقد جاءك الحق} إلى {فإن كنت في شك} الآية في البيان المستفاد من حذف العاطف، وإذا كان الكلام في معنى واحد كان بمنزلة الكلمة الواحدة فسمي بها {حتى يروا العذاب الأليم} أي حين لا ينفعهم الإيمان لفوات شرطه كما لم ينفع فرعون لذلك {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تحويلاً} [الأحزاب: 92] .
ولما كان هذا موضع أن يقال: إنما تطلب الآيات لما يرجى من تسبب الإيمان عنها، تسبب عنه أن يجاب بقوله تعالى:{فلولا} أي فهلا {كانت قرية} أي واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها {آمنت} أي آمن قومها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب {فنفعهآ} أي فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها - {إيمانها} ولما كان المعنى «لولا» النفي، كان التقدير: لكن لم تؤمن قرية منهم إلاّ عند صدم العذاب كما فعل فرعون، لو آمن عند رؤية البحر على حال الفلق أو عند توسطه وقبل انسيابه عليه قُبِل، ولكنه ما آمن إلا بعد انهماره ومسه. وذلك حين لا ينفع لفوات شرطه من الإيمان بالغيب {إلاّ قوم يونس} فإنهم آمنوا عند المخايل وقت بقاء التكليف فنفعهم ذلك فإنهم {لمآ آمنوا} ودل على أنه قد كان أظلهم بقوله:{كشفنا} أي بعظمتنا {عنهم} أي حين إيمانهم، روي أنه لم يبق بينهم وبين العذاب إلاّ قدر ميل {عذاب الخزي} أي الذي كان يوجب لهم لو برك عليهم هوان الدارين {في الحياة الدنيا} أي فلم يأخذهم وقت رؤيتهم له {ومتعناهم} أي تمتيعاً عظيماً {إلى حين} وهو انقضاء آجالهم مفرقة كل واحد منهم في وقته المضروب له، وما ذكرته في معنى الآية نقله القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره المسند عن ابن أبي عمر قال: قال سفيان الثوري:
{فلولا كانت قرية آمنت} قال: فلم تكن قرية آمنت، وهذا تفسير معنى الكلام، وأما «لولا» فهو بمعنى هلا، وهي على وجوه تحضيض وتأنيث، أي توبيخ، وهي هنا للتوبيخ. ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى «لولا» ، ويلزم كلا من المعنيين النفي؛ والنفع: إيجاب اللذة بفعلها أو ما يؤدي إليها كالدواء الكريه المؤدي إلى اللذة؛ والخزي هو أن يفضح صاحبه، وهو وضع من القدر للغم الذي يلحق به، وأصله التعب.
ولما كان ما مضى ربما أوجب اعتقاد أن إيمان مثل أولئك محال جاءت هذه الآية في مقام الاحتراس منه مع البيان لأن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيمانهم لا ينفع ومبالغته في إزالة الشبهات وتقرير الدلائل لا تفيد إلاّ بمشيئة الله تعالى لتوفيقهم وهدايتهم، ولو كان ذلك وحده كافياً لآمنوا بهذا السورة فإنها أزالت شبهاتهم وبينت ضلالاتهم وحققت بقصتي نوح وموسى عليهما السلام ضعفهم ووهن مدافعاتهم فقال تعالى:{ولو شآء} أي إيمان الناس {ربك} أي المحسن إليك بإقبال من أقبل لعلمه الخير فيه وإدبار من أدبر لعدم قابليته للخير {لأمن من في الأرض} من الكفار.
ولما كان هذا ظاهراً في الكل، صرح به مؤكداً لأن المقام يقتضيه فقال:
{كلهم جميعاً} أي مجتمعين في آن واحد لا يختلفون في شيء منه، ولكن لم يشأ ذلك وأنت لحرصك على امتثال أوامري ووصيتي لك باللطف بخلقي الموافق لما جبلتك عليه من الخير تريد ذلك {أفأنت تكره الناس} أي الذين لم يرد الله إيمانهم مع ما طبعهم عليه من الاضطراب {حتى يكونوا} أي كوناً جبلياً {مؤمنين} أي راسخين في الإيمان، وإيلاء الاستفهام الاسم مقدماً على الفعل للإعلام بأن الفعل - وهو هنا الإكراه - ممكن من غير ذلك الاسم وهو هنا الله وحده القادر على تحويل الطباع فإن قدرته قاهرة لكل شيء ومشيئته نافذة في كل شيء مع الدلالة على أن وقوع خلاف المشيئة مستحيل لا يمكن لغيره تعالى بإكراه ولا غيره، والمشيئة معنى يكون به الفعل مراداً أخذت من الشيء، والمراد بالآية تخفيف ما يلحق النبي صلى الله عليه وسلم من التحسر للحرص على إيمانهم {وما كان} أي وما ينبغي ولا يتأتى {لنفس} أي واحدة فما فوقها {أن تؤمن} أي يقع منها إيمان في وقت ما {إلاّ بإذن الله} أي بإرادة الملك الأعلى الذي له الخلق والأمر وتمكينه، فيجعل الثبات والطمأنينة - اللازمين للإيمان الذي هو أبعد شيء عن السحر - على الذين ينتفعون بعقولهم فيلزمون معالي الأخلاق التي هي ثمرات للإيمان {ويجعل الرجس} أي الاضطراب والتزلزل الذي يلزمه التكذيب الذي هو أشبه شيء بالسحر لأنه تخييل ما
لا حقيقة له والقذر والقباحة والغضب والعقاب الناشىء عنه.
ولما كان ما في هذه السورة من الدلائل قد وصل في البيان إلى حد لا يحتاج فيه إلى غير مجرد العقل قال: {على الذين لا يعقلون} أي لا يوجد لهم عقل، فهم لذلك لا ينتفعون بالآيات وهم يدعون أنهم أعقل الناس فيتساقطون في مساوىء الأخلاق وهم يدعون أنهم أبعد الناس عنها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ والنفس: خاصة الشيء التي لو بطل ما سواها لم يبطل ذلك الشيء، ونفسه وذاته واحد.
ولما تقرر ما مضى من النهي عن الإصغاء إليهم في طلب الآيات، وختم بتعليق الأمر بمجرد المشيئة، كان كأنه قيل: فماذا يقال لهم إذا طلبوا؟ فقال: {قل} أي يا أشرف الخلق لهم غير مهتم بأمرهم ومنبهاً لهم على إبطال مذهب الجبر المتعلق أصحابه بنحو هذه الآية، لأن المشيئة مغيبة والعبد مأمور ببذل الجهد في الطاعة بما له من القدرة والاختبار.
ولما أمر بهذا الفكر فكان ربما ظن لأجله أن للإنسان قدرة مستقلة، نبه على مذهب أهل السنة القائل بالكسب الذي هو - كما قال الإمام علي رضي الله عنه أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض، فقال معلماً أن من حكم بشقائه لا ينفعه شيء:{انظروا} أي بأبصاركم وبصائركم لتخرجوا بالانتفاع بالعقل عن عداد البهائم؛ قال الإمام: ولو أن الإنسان تفكر في كيفية حكمة الله تعالى في خلق جناح بعوضة لانقطاع
فكره قبل أن يصل إلى أول مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد، فلذلك أبهم في قوله:{ماذا} أي الذي {في السماوات والأرض} أي من الآيات وواضح الدلالات التي أخرجتموها - بإلفكم لها - عن عداد الآيات، وهي عند التأمل من أعظم خوارق العادات، وقال الإمام: فكأنه سبحانه نبه على القاعدة الكليه حتى ينتبه لأقسامها، وقال أبو حيان أخذاً من الإمام: السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته، ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب وما يختص بذلك من المنافع والفوائد، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان وخصوصاً حال الإنسان - انتهى.
ولما كان ما فيها من الآيات في غايه الدلالة، نبه سبحانه على أن التوقف عن الإيمان بعد التنبيه على كيفية الاستدلال معاندة فقال:{وما} وهي نافية أو استفهامية {تغني الآيات} أي وإن كانت في غاية الوضوح {والنذر} أي والإنذارات أو الرسل المنذرون {عن قوم} أي وإن كانت فيهم قوة {لا يؤمنون*} أي للحكم بشقائهم، فكان ذلك سبباً لتهديدهم بقوله:{فهل ينتظرون} أي بجميع قواهم في تكذيبهم للرسول وتخلفهم عن الإيمان {إلا}
أي أياماً أي وقائع {مثل أيام} أي وقائع {الذين خلوا} ولما كان أهل الأيام الهائلة بعض من كان قبل، أتى بالجار فقال:{من قبلهم} أي من مكذبي الأمم وهم القبط وقوم نوح ومن طوي بينهما من الأمم، أي من حقوق الكلمة عليهم فنحل بهم بأسنا ثم ننجيكم لإيمانكم كما كنا نحل بأولئك إذا كذبوا رسلنا، ثم ننجي الرسل ومن آمن بهم حقاً علينا ذلك للعدل بين العباد.
ولما تقدمت الإشارة إلى أن الكلمة حقت على الكافرين بعدم الإيمان والرجس الذي هو العقاب، زاد في تهديدهم بالاعتراض بما سببه عن فعلهم فعل من ينتظر العذاب بقوله:{قل فانتظروا} أي بجميع جهدكم ما ترونه واقعاً بكم بسبب ما تقرر عندكم مما كان يقع بالماضين في أيام الله، وزاد التحذير استئنافه قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب:{إني} وأعلمهم بالنصفة بقوله: {معكم من المنتظرين*} .
ولما كان التقدير: فإنا كنا في أيام الذين خلوا نوقع الرجس بالمكذبين، عطف عليه بياناً لم كان يفعل بالرسل وأتباعهم إذا أهلك الظالمين قوله:{ثم ننجي} أي تنجية عظيمة وننجيهم إنجاء عظيماً وجاء به مضارعاً حكاية للأحوال الماضية وتصويراً لها تحذيراً لهم من مثلها وإعلاماً بأنه كذلك يفعل بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه رضي الله عنهم، وأشار بأداة التراخي إلى طول زمان الابتلاء وعظيم رتبة التنجية، وحذف مقابل الإنجاء لأن المقام بعد آية
{ألا إن أولياء الله} ناظر إلى البشارة أكثر من النظر إلى النذارة {رسلنا} أي الذين عظمتهم من عظمتنا {والذين آمنوا} أي بالرسل وهم معهم في زمانهم ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان تشريفاً للرسل فإنهم بصدد الرسوخ بملازمتهم؛ ثم وصل بذلك تشريفاً للراسخين وترغيباً في مثل حالهم قوله: {كذلك} أي كما حق علينا إهلاك الكافرين هذا الإهلاك العظيم {حقاً علينا} أي بما أوجبناه على جنابنا الأعظم {ننج المؤمنين} أي العريقين في الإيمان ولو كانوا بعد موت الرسل تنجية عظيمة وتنجيهم إنجاء عظيماً، فالآية من الاحتباك لما أشارت إليه القراءتان بالتخفيف والتثقيل، أو يكون ذلك بني على سؤال من لعله يقول: هل حقوق النجاة مختص بالرسل ومن معهم؟ فقيل: لا، بل {كذلك} أي الحقوق {حقاً علينا} على ما لنا من العظمة {ننج المؤمنين} في كل زمن وإن لم يكن بين ظهرانيهم رسول، لأن العلة الاتصاف بالإيمان الثابت، فيكون الكاف مبتدأ «وننج» خبره؛ والنظر: طلب المعنى بالقلب من جهة الذكر كما يطلب إدراك المحسوس بالعين؛ والغنى: حصول ما ينافي الضر وصفة النقص، ونقيضه الحاجة؛ والنذر: جمع نذير، من النذارة وهي الإعلام بموضع المخافة ليقع به السلامة؛ والانتظار: الثبات لتوقع ما يكون من الحال؛ والمثل إن كان من الجنس فهو ما سد مسد غيره
في الحس، وإن كان من غيره فالمراد ما كان فيه معنى يقرب به من غيره كقربه من جنسه كتشبيه أعمال الكافر بالسراب؛ والنجاة من النجوة وهي الارتفاع من الهلاك.
ولما تقدم الفطام عن الميل يطلب الآيات، وكان طلبهم لها إنما هو على وجه الشك، وإن لم يكن على ذلك الوجه فإنه فعل الشاك غالباً وتقدمت أجوبة لهم، وختم ذلك بتهديدهم وبشارة المؤمنين الموجبة لثباتهم، ناسبه كل المناسبة أن اتبعت الأمر بجواب آخر دال على ثباته صلى الله عليه وسلم وأنه مظهر دينه رضي من رضي وسخط من سخط، لأن البيان قد وصل إلى غايته في قوله تعالى:{قل يا أيها الناس} أي الذين هم في حيز الاضطراب، لم ترقهم هممهم إلى رتبة الثبات {إن كنتم} أي كوناً هو كالجبلة منغمسين {في شك} كائن {من} جهة {ديني} تطلبون لنزوله - بعد تكفل العقل بالدلالة عليه - إنزال الآيات، فأنا لست على شك من صحة ديني وبطلان دينكم فاعرضوه على عقلوكم وانظروا ما فيه من الحكم مستحضرين ما لدينكم من الوهي الذي تقدم بيانه في قوله تعالى
{قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق} [يونس: 59] ونحوه {فلا أعبد} أي الآن ولا في المستقبل الزمان {الذين تعبدون} أي الآن أو بعد الآن {من دون الله} أي الملك الأعظم لعدم قدرتهم على شيء من ضري، فلا تطمعوا في أنه يحصل لي شك بسبب حصول الشك
لكم، فإذاً لا أعبد غير الله أصلاً.
ولما كان سلب عبادته عن غيره ليس صريحاً في إثباتها له قال: {ولكن أعبد الله} أي الجامع لأوصاف الكمال عبادة مستمرة؛ ثم وصفه بما يوجب الحذر منه ويدل على كمال قدرته {الذي يتوفاكم} بانتزاع أرواحكم التي لا شيء عندكم يعدلها. فلا تطمعون - عند إرادنه لنزعها - في المحاولة لتوجيه دفاع عن ذلك. وفي هذا الوصف - مع ما فيه من الترهيب - إشارة إلى الدلالة على الإبداء والإعادة، فكأنه قيل: الذي أوجدكم من عدم كما أنتم به مقرون بعدمكم بعد هذا الإيجاد وأنتم صاغرون، فثبت قطعاً أنه قادر على إعادتكم بعد هذا الإعدام بطريق الأولي فاحذروه لتعبدوه كما أعبده فإنه قد أمرني بذلك وأنتم تعرفون غائلة الملك إذا خولف، وقال {إن كنتم في شك} مع أنهم يصرحون ببطلان دينه، لأنهم في حكم الشاك لاضطرابهم عند ورود الآيات، أو لأن فيهم الشاك فغلب لأنه أقرب إلى الحيز؛ والشك: وقوف بين المعنى ونقيضه، وضده الاعتقاد فإنه قطع بصحة المعنى دون نقيضه، وعبر ب «من» إشارة إلى أن فعلهم ذلك ابتدأ من الدين، ولو عبر ب «في» لأفهم أنهم دخلوا فيه لأنهم في الشك والشك في الدين، والظرف لظرف الشيء ظرف لذلك الشيء، وترك العطف إشارة إلى أن كل جواب منها كاف على حياله.
ولما قرر ما هو الحقيق بطريق العقل، أتبعه بما رود من النقل بتأييده وإيجابه بقوله:{وأمرت} أي بأمر جازم ماض ممن لا أمر لأحد معه، وعظم المأمور به بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال:{أن أكون} أي دائماً كوناً جبلياً، ولما كان السياق لما يحتمل الشك من الأمر الباطن، عبر بالإيمان الذي هو للقلب فقال:{من المؤمنين} أي الراسخين في هذا الوصف {وأن أقم} أي أيها الرسول {وجهك} أي كليتك على سبيل الإخلاص الذي لا شوب فيه {للدين} فوصل أولاً كلمه «أن» بمعنى الأمر أي {أن أكون} دون «أكن» وثانياً بلفظه وهو {أقم} جمعاً بين الأسلوبين، وكلاهما بمعنى المصدر، وخص الثاني بذلك لطوله لأنه كالتفصيل للأول فالخطاب فيه أوكد وألذ، وقوله:{حنيفاً} حال من فاعل «أقم» ومعناه: مسلماً ميالاً مع الدليل - كما أوضحته في البقرة، أي أجمع بين الإيمان بالقلب والإسلام بالجوارح {ولا تكونن} أي في وقت من الأوقات {من المشركين*} الذين هم على ضد صفة الإسلام من الجفاء والغلظة والجمود والقسوة.
ولما نهاه عن الشرك، أكده بما هو كالتعليل له بما يلزمه من العبث بالخضوع لما لا ضر فيه ولا نفع بقوله تعالى:{ولا تدع} أي في رتبة من الرتب الكائنة {من دون الله} أي الذي
بيده كل شيء {ما لا ينفعك} أي إن فعلت شيئاً من ذلك فأتاك بأسنا {ولا يضرك} أي إن أقمت على طاعتنا مع نصرنا {فإن فعلت} أي شيئاً مما نهيناك عنه {فإنك إذاً} إذا دعوت ذلك الغير بسبب ذلك {من الظالمين*} أي العريقين في وضع الدعوة في غير محلها لأن ما هو كذلك في غاية البعد عن منصب الإلهية؛ ثم قال تعالى عاطفاً على قوله {فإن فعلت} : {وإن يمسسك الله} أي الذي لا راد لأمره {بضر} أي أيّ ضر كان على أي وجه كان وإن كان ظاهراً جداً بما أنبأ عنه الإظهار {فلا كاشف له} أي أصلاً بوجه من الوجوه {إلا هو} لأنه أراده وما أراده لا يكون غيره فلا ترج سواه في أن يبذله بخير، وعبر بالمس لأنه أخوف {وإن يردك} أي مطلق إرادة {بخير فلا} أي أصابك لا محالة فإنه لا {رآد} ونبه على أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بأن وضع مكان الضمير قوله:{لفضله} أي عمن يريده به كما يفعل بعض العاتين من أتباع ملوك الدنيا في رد بعض ما يريدون، بل هو بحيث لا ينطق أحد إلا بإذنه فلا تخش غيره، فالآيه من الاحتباك: ذكر المس أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والإرادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً، ولم يستثن في الإرادة كما استثنى في الكشف لأن دفع المراد محال، وعبر بالإرادة في الخير
وبالمس في الضير تنبيهاً على أنه صلى الله عليه وسلم مراد بالخير بالذات وبالضر بالعرض تطييباً لقلبه لما تكرر في هذه السورة من الإخبار بإحقاق العذاب على الفاسقين والإيئاس من الظالمين، فلما تقرر ذلك حسن موقع قوله مبيناً لحال ذلك الفضل:{يصيب به} أي بذلك الفضل أو بالذي تقدم من الخير والضير {من يشاء} أي كائناً من كان من أدنى وأعلى، وبين العلة في كونهم مقهورين بقوله:{من عباده} وهذا كله إشارة إلى أن ما أوجب الإعراض عن معبوداتهم بانسلاله عنها أوجب الإقبال عليه بثبوته له واختصاصه به، وختم الآية بقوله:{وهو الغفور} أي البليغ الستر للذنوب {الرحيم*} أي البالغ في الإكرام إشارة إلى أن إصابته بالخير لا يمكن أن يكون إلا فضلاً منه بعد الستر للذنوب والرحمة للضعف، فهو الحقيق بأن يعبد؛ والمس: اجتماع التباين من غير نقص، ونظيره المطابقة، والمجامعة نقيضها المباينة؛ والكشف: رفع الستار، جعل الضر كأنه مانع من إدراك الإنسان وساتر له.
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر والنواهي والأجوبة بسبب ما يقترحونه على وجه التعنت، وختم بأن من دعا غيره كان راسخاً في الظلم لا مجير له منه، ختم ذلك بجواب معلم بأن فائدة الطاعة ليست راجعة إلا إليهم، وضرر النفور ليس عائداً إلا عليهم فقال تعالى:{قل يا أيها الناس} أي غاية كل من له قابلية التحرك والاضطراب
{قد جاءكم الحق} أي الكامل بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا الكتاب، وذلكم خير عظيم أصابكم الله به، وزاد الرغبة فيه بقوله:{من ربكم} أي المحسن إليكم {فمن} أي فتسبب عن ذلك أنه من {اهتدى} أي آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعمل بما في الكتاب {فإنما يهتدي لنفسه} أي لأنه تبع الحق الثابت وترك الباطل الزائل فأنقذ نفسه من النار وأوجب لها الجنة {ومن ضل} أي كفر بهما أو بشيء منهما {فإنما يضل عليها} لأنه ترك الباقي وتمسك بما ليس في يده منه شيء لأنه فانٍ فقد غر نفسه {وما أنا} ولما كان السياق لنفي تصرفه فيهم وأن ذلك إنما هو إلى الله تعالى، كان تقديم ضميرهم أهم فقال:{عليكم بوكيل*} فيطلب مني حفظكم مما يؤدي إلى الهلاك ومنعه عنكم كما يطلب من الوكيل.
ولما كان أكثر ذلك وعظاً لهم وتذكيراً ختمه بأمره صلى الله عليه وسلم بما يفعله في خاصة نفسه أجابوا أو لمن يجيبوا، فقال عطفاً على قوله {قل يا أيها الناس} :{واتبع} أي بجميع جهدك {ما يوحى إليك} وبناه للمفعول لأن ذلك كان بعد أن تقررت عصمته صلى الله عليه وسلم وعلم أن كل ما يأتيه من عند الله، فكان ذلك أمكن في أمره باتباع كل ما يأتيه منه سبحانه وفي الإيذان بأنه لا ينطق عن الهوى {واصبر} في تبليغ الرسالة على ما أصابك في ذلك من عظيم الضرر وبليغ الخطر
من ضلال من لم يهتد وإعراضه وجفوته وأذاه {حتى يحكم الله} أي الملك الأعظم بين من ضل من أمتك ومن اهتدى {وهو} أي وحده {خير الحاكمين} لأنه يوقع الحكم في أولى مواقعه وأحقها وأحسنها وأعدلها، وهو المطلع على السرائر فاعمل أنت بما تؤمر به وبشر وأنذر وأخبر وادع إلى الله بجميع ما أمرك به واترك المدعوين حتى يأمرك فيهم بأمره؛ قال الزمخشري: وروى أنها لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار قال: «إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» وتبعه على ذلك أبو حيان وغيره، فإن صح فالسر فيه - والله أعلم - أنه لما أعلمت هذه الآية أن من اتبع الوحي ابتلى بما ينبغي الصبر عليه وأفهمت أن من كان له أشد اتباعاً كان أشد بلاء، وكان الأنصار رضي الله عنهم أجمعين أحق بهذا الوصف من غيرهم من حيث إنهم كانوا أول قبيلة جمعها الإيمان ومن حيث كانوا له أسهل قياداً وألين عريكة مع كونهم لم يتقدم لهم عشرة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا خبرة بأحواله توجب لهم من اتباعه ما يوجب لمن كان من بني عمه قريش يخالطه ويأنس به ويرى منه معالي الأخلاق وكريم الشمائل ما يوفر داعيته على اتباعه، فلما كان ذلك كذلك، خص النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار رضي الله عنهم لهذا الأمر، فتفضيلهم في ذلك من الجهتين المذكورتين فلا يتوهم
تفضيلهم على المهاجرين بل المهاجرون أفضل لأنهم جمعوا إلى النصرة الهجرة مع أن أكثرهم له من قرب النسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم والسبق في الإسلام حظ وافر.
هذا ما ظهر لي من مناسبته على تقدير الصحة. والذي في الصحيح عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقطع للأنصار من البحرين فقالت الأنصار: حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين مثل الذي تقطع لنا، وقال: سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» فهذا فيه أن السبب حرصهم على الإنصاف وهو يدل على أن المنصف يقل إنصاف الناس له وهو أمر مستقرى: والوحي: إلقاء المعنى غلى النفس في خفاء. وهو هنا ما يجيء به الملك إلى النبي عليهما السلام عن الله تعالى فيلقيه إليه على اختصاصه به من غير أن يرى ذلك سواه من الناس؛ والصبر: تجرع مرارة الامتناع من المشتهي إلى الوقت الذي ينبغي فيه تعاطيه ويعين عليه العلم بعاقبته وكثرة الفكر في الخبر الذي ينال به، واعتياد الصبر في خصلة يسهل الصبر في خصلة أخرى لأن الخير يدعو إلى الخير فتمكن الإنسان في خصلة يصير له ملكة تدعوه إلى ماشاكلها، وقد ختم سبحانه السورة بما ابتدأها به من أمر الكتاب والإشارة إلى الإرشاد لما ينفع من ثمرة إنزاله وهو العمل بما دل
عليه أو أشار إليه إلى أن ينجلي الحكيم الذي انزله للحكم في الدنيا أو في الآخرة بما لا مرد له مما برزت به مواعيده الصادقة في كلماته التامة، وهذا لعينه هو أول التي بعدها، فكان ختم هذه السورة وسطاً بين أولها وأول التي تليها، ففيه رد المقطع على المطلع وتتبع لما استتبع والله الموفق.
سورة هود
مقصودها وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل في حالتي البشارة والنذارة المقتضي ذلك لمنزلة سبحانه وضع كل شيء في أتم محاله وإنفاذه مهما أريد الموجب للقدرة على كل شيء، وأنسب ما فيها لهذاالمقصد ما ذكر في سياق قصة هو عليه السلام من أحكام البشارة والنذارة بالعاجل والآجل والتصريح بالجزم بالمعالجة بالمبادرة الناظر إلى أعظم مدارات السورة (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) والعناية بكل دابة والقدرة على كل شيء من البعث وغيره المقتضي للعلم بكل معلوم اللازم منه التفرد بالملك.
وسيأتي في الأحاف وجه اختصاص كل منهما باسمهما (بسم الله) أي الذي له تمام العلم وكمال الحكمة وجميه القدرة) الرحمن (لجميع خلقه بعموم البشارة والنذارة (الرحيم) لأهل ولايته بالحفظ في سلوك سبيله (الر) .
لما ختمت السورة التي قبلها - كما ترى - بالحث على اتباع الكتاب ولزومه والصبر على ما يتعقب ذلك من مرائر الضير المؤدية إلى مفاوز الخير اعتماداً على المتصف بالجلال والكبرياء والكمال. ابتدئت هذه بوصفه بما يرغب فيه، فقال بعد الإشارة إلى إعادة القرع بالتحدي على ما سلف
في البقرة: {كتاب} أي عظيم جامع لكل خير، ثم وصفه بقوله:{أحكمت} بناه للمفعول بياناً لأن إحكامه أمر قد فرغ منه على أيسر وجه عنه سبحانه وأتقن إتقاناً لا مزيد عليه {آياته} أي أتقنت إتقاناً لا نقص معه فلا ينقصها الذي أنزلها بنسخها كلها بكتاب آخر ولا غيره، ولا يستطيع غيره نقص شيء منها ولا الطعن في شيء من بلاغتها أو فصاحتها بشيء يقبل، والمراد ب {محكمات} في آل عمران عدم التشابه.
ولما كان للتفصيل رتبة هي في غاية العظمة، أتي بأداة التراخي فقال:{ثم} أي وبعد هذه الرتبة العالية التي لم يشاركه في مجموعها كتاب جعلت له رتبة أعلى منها جداً بحيث لم يشاركه في شيء منها كتاب وذلك أنه {فصلت} أي جعلت لها - مع كونها مفصلة إلى حلال وحرام وقصص وأمثال - فواصل ونهايات تكون بها مفارقة لما بعدها وما قبلها، يفهم منها علوم جمة ومعارف مهمة وإشارات إلى أحوال عالية، وموارد عذبة صافية، ومقامات من كل علة شافية، كما تفصل القلائد بالفرائد، وهذا التفصيل لم يشاركه في شيء منه شيء من الكتب السالفة، بل هي مدمجة إدماجاً لا فواصل لها كما يعرف ذلك من طالعها، ويكفي في معرفة ذلك ما سقته منها في تضاعيف هذا الكتاب،
وما أنسب ختام هذه الآية للإحكام والتفصيل بقوله: {من لدن} أي نزلت آياته محكمة مفصلة حال كونها مبتدئة من حضرة هي أغرب الحضرات الكائنة من إله {حكيم خبير} منتهية إليك وأنت أعلى الناس في كل وصف فلذلك لا يلحق إحكامها ولا تفصيلها، أرسلناك به قائلاً:{ألا تعبدوا} أي بوجه من الوجوه {إلا الله} أي الإله الأعظم.
ولما كان هذا معظم ما أرسل به صلى الله عليه وسلم ومداره، استأنف الإخبار بأنه أرسله سبحانه مؤكداً له لأجل إنكارهم فقال:{إنني} ولما كان إرساله صلى الله عليه وسلم لأجل رحمة العالمين، قدم ضميرهم فقال:{لكم منه} أي خاصة، ثم أجمل القرآن كله في وصفيه صلى الله عليه مسلم بقوله: مفدماً ما هو أنسب لختام التي قبلها بالصبر: {نذير وبشير} كامل في كل من الوصفين غاية الكمال، وهذا التقدير يرشد إليه قوله تعالى أول التي قبلها {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} [يونس: 2] مع إيضاحه لما عطف عليه قوله تعالى:
{ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه أن} [هود: 25] عطفناه عليه، وإظهاره لفائدة عطفه كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويرجح أن «لا» ناهية جازمة ل {تعبدوا} عطف {أن استغفروا} عليه، فقد ظهر من
تلويح هذا وتصريحه وتصريح ما في بقية السورة أن مقصودها وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل بما يعجز الخلق لأنه من عند من هو شامل العلم كامل القدرة فهو بالغ الحكمة يعيد الخلق للجزاء كما بدأهم للعمل فوجب إفراده بالعبادة وأن يمتثل جميع أمره، ولا يترك شيء منه رجاء إقبال أحد ولا خوف إدباره، ولا يخشى غيره. ولا يركن إلى سواه، على ذلك مضى جميع النبيين ودرج سائر المرسلين صلى الله عليه وسلم أجمعين.
ولما تقدم أنه نذير وبشير. أتبع ذلك بما يشمل الأمرين بقوله عطفاً على {ألا تعبدوا} مشيراً إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره: {وأن استغفروا ربكم} أي اطلبوا مع الإخلاص في العبادة أن يغفر لكم المحسن إليكم ما فرطتم فيه؛ وأشار بأداة التراخي إلى علو رتبة التوبة وأن لا سبيل إلى طلب الغفران إلا بها فقال: {ثم توبوا إليه} أي ارجعوا بالظاهر والباطن رجوعاً لا رجعة فيه وإن كان المراد بها الدوام فجليل رتبته غير خفي {يمتعكم} أي يمد في تلذيذكم بالعيش مداً، من متع النهار: ارتفع، والضحى: بلغ غايته، وأمتعه الله بكذا: أبقاه وأنشأه إلى أن يبلغ شبابه؛ ولما، كان التمتيع - وهو المتاع البالغ فيه حتى لا يكون فيه كدر - لا يكون إلا في الجنة فلذلك جعل المصدر {متاعاً} وأنه وضع موضع «تمتيعاً» ، هذا المصدر
ووصفه بقوله: {حسناً} ليدل على أنه أنهى ما يليق بهذه الدار، ولقد كان ما أوتيه الصحابة رضي الله عنهم في زمن عمر رضي الله عنه من الظفر بالإهداء وسعة الدنيا ورغد العيش كذلك {إلى} أي ممتداً إلى {أجل مسمى} أي في علمه إما بالموت لكل واحد أو بانقضاء ما ضربه من الأجل للنعمة التي أشار إليها {ويؤت كل ذي فضل} أي عمل فاضل {فضله} أي جزاء ما قصد بعمله على وجه التفضيل منه سبحانه فإنه لا يجب لأحد عليه شيء، وهو مع ذلك على حسب التفضيل: الحسنة بعشرة أمثالها؛ قال ابن مسعود: وهلك من غلبت آحاده عشراته.
ولما انقضى التبشير مجزوماً به، أتبعه التحذير مخوفاً منه لطفاً بالعباد واستعطافاً لهم فقال:{وإن تولوا} اي تكلفوا أنفسكم ضد ما طبعها الله عليه من سلامة الفطرة وسهولة الانقياد من الإعراض ولو أدنى درجاته بما اشار إليه حذف التاء {فإني أخاف عليكم} أي والعاقل من أبعد عن المخاوف {عذاب يوم كبير*} أي لكبر ما فيه من العذاب ممن قدر على إثباتكم، وخص اسم الرب تذكيراً بما له من النعم في الإيجاد والإنشاء والتربية؛ ولما كان الاستغفار - وهو طلب الغفران - مطلوباً في نفسه لكنه لا يعتبر إلا إذا قرن بالتوبة، عطف عليه
ب {ثم} إشارة إلى عظيم رتبتها وعلى منزلتها وإن كان المراد بها الدوام عليها فجليل رتبته غير خفي، وفي التعبير عن العمل بالفضل إشارة إلى أنه لم يقع التكليف إلا بما في الوسع مع أنه من معالي الأخلاق، لأن الفضل في الأصل ما فضل عن الإنسان وتعانيه من كريم الشمائل، وما كان كذلك فهو في الذروة من الإحكام، لأنه منع الفعل من الفساد؛ والحكيم من الحكمة وهي العلم بما يجمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد والنقض، وبها يميز الحسن من القبيح والفاسد من الصحيح، وقد أشارت الآية إلى أن الاستغفار والتوبة سبب السعة
{ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} [المائدة: 66] وأن الإعراض سبب الضيق، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» {ويؤت كل ذي فضل فضله} إشارة إلى ثواب الآخرة، فالتوبة سبب طيب العيش في الدنيا والآخرة.
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير في كتابه في مناسبة هذه السورة للتي قبلها. ولما كانت سورة يونس عليه السلام قد تضمنت - من آي التنبيه والتحريك للفطر ومن العظات والتخويف والتهديد والترهيب
والترغيب وتقريع المشركين والجاحدين والقطع بهم والإعلام بالجريان على حكم السوابق ووجوب التفويض والتسليم - ما لم تشمل على مثله سورة لتكرر هذه الأغراض فيها، وسبب تكرر ذلك فيها - والله أعلم - أنها أعقبت بها السبع الطوال، وقد مر التنبيه على أن سورة الأنعام بها وقع استيفاء بيان حال المتنكبين عن الصراط المستقيم على اختلاط أحوالهم، ثم استوفت سورة الأنعام ما وقعت الإحالة عليه من أحوال الأمم السالفة كما تقدم وبسطت ما أجمل من أمرهم، ثم اتبع ذلك بخطاب المستجيبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحذروا وأنذروا، وكشف عن حال من تلبس بهم من عدوهم من المنافقين، وتم المقصود من هذا في سورتي الأنفال وبراءة، ثم عاد الخطاب إلى طريقة الدعاء إلى الله والتحذير من عذابه بعد بسط ما تقدم، فكان مظنة تأكيد التخويف والترهيب لإتيان ذلك بعد بسط حال وإيضاح أدلة، فلهذا كانت سورة يونس مضمنة من هذا ما لم يضمن غيرها، ألا ترى افتتاحها بقوله:{إن ربكم الله} [يونس: 3] الآيات. ومناسبة هذا الافتتاح دعاء الخلق إلى الله في سورة البقرة بقوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] ثم قد نبهوا هنا كما نبهوا هناك فقال تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله}
[يونس: 38] ثم تأكدت المواعظ والزواجر والإشارات إلى أحوال المكذبين والمعاندين،
فمن التنبيه {إن ربكم الله} [يونس: 3] ، {هو الذي جعل الشمس} [سورة يونس، آية: 5] ، {إن في اختلاف الليل والنهار} [سورة يونس، آية: 6]، {قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده} [يونس: 34] ، {قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق} [سورة يونس، آية: 35] ، {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} [سورة يونس، آية: 101]- إلى غير هذا، وعلى هذا السنن تكررت العظات والأغراض المشار إليها في هذه السورة إلى قوله:{يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم} [سورة يونس، آية: 108] فحصل من سورة الأعراف والأنفال وبراءة ويونس تفصيل ما كان أجمل فيما تقدمها كما حصل مما تقدم تفصيل أحوال السالكين والمتنكبين، فلما تقرر هذا كله أتبع المجموع بقوله:{كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} وتأمل مناسبة الإتيان بهذين الاسمين الكريمين وهما {الحكيم الخبير} ثم تأمل تلاؤم صدر السورة بقوله: {يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم} [سورة يونس، آية: 108] وقد كان تقدم قوله تعالى: {قد جاءتكم موعظة من ربكم} [يونس: 57] فأتبع قوله: {قد جاءكم الحق من ربكم} بقوله في صدر سورة هود {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} [هود: 41] فكأنه في معرض بيان الحق والموعظة، وإذا كانت محكمة مفصلة فحق لها أن تكون شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، وحق توبيخهم في قوله تعالى:{بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} [يونس: 39] والعجب في عمههم مع إحكامه وتفصيله ولكن {الذين حقت عليهم
كلمت ربك لا يؤمنون} [يونس: 96] وتأمل قوله سبحانه آخر هذه السورة {وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود: 120]، و {جاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} [هود: 120] فكل الكتاب حق وموعظة وذكرى، وإنما الإشارة - والله أعلم - بما أراد إلى ما تقرر الإيماء إليه من كمال بيان الصراط المستقيم وملتزمات متبعيه أخذاً وتركاً، وذكر أحوال المتنكبين على شتى طرقهم، واختلاف أهوائهم وغاياتهم وشرُّهم إبليس فإنه متبعهم والقائل لجميعهم في إخبار الله تعالى {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم} [إبراهيم: 22] وقد بسط من أمره وقصته في البقرة والأعراف ما يسر على المؤمنين الحذر منه وعرفهم به وذكر اليهود والنصارى والمشركون والصابئون والمنافقون وغيرهم، وفصل مرتكب كل فريق منهم كما استوعب ذكر أهل الصراط المستقيم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وفصل أحوالهم ابتداء وانتهاء والتزاماً وتركاً ما أوضح طريقهم، وعين حزبهم وفريقهم {أولئك الذين هدى الله} [الأنعام: 90] وذكر أحوال الأمم مع أنبيائهم وأخذ كل من الأمم بذنبه مفصلاً، وذكر ابتداء الخلق في قصة آدم عليه السلام وحال الملائكة في التسليم والإذعان وذكر فريق الجن من مؤمن وكافر وأمر الآخرة وانتهاء حال الخلائق واستقرارهم الأخروي وتكرير دعاء الخلق إلى الله تعالى طمعاً فيه ورحمة وإعلام الخلق بما هو علبه سبحانه وما يجب
له من الصفات العلى والأسماء الحسنى، ونبه العباد على الاعتبار وعملوا طرق الاستدلال ورغبوا ورهبوا وبشروا وأنذروا وأعلموا بافتقار المخلوقات بجملتها إليه سبحانه كما هو المتفرد بخلقهم إلى ما تخلل ذلك مما يعجز الخلائق عن حصره والإحاطة به
{والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4] فما تقدم هذا كله في السبع الطوال وما تلاها. أعقب ذلك بقوله: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [هود: 1] ثم أتبع هذا بالإيماء إلى فصول ثلاثة عليها مدار آي كتب، وهي فصل الإلهية، وفصل الرسالة، وفصل التاكليف، أما الأول فأشار إليه قوله:{ألا تعبدوا إلا الله} [هود: 2] وأما فصل الرسالة فأشار إليه قوله سبحانه: {إنني لكم منه نذير وبشير} [هود: 2] وأما فصل التالكيف فأشار إليه قوله سبحانه {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} [هود: 3] . وهذه الفصول الثلاثة هي التي تدور عليها آي القرآن وعليها مدار السورة الكريمة، فلما حصل استيفاء ذلك كله فيما تقدم ولم يبق وجه شبهة للمعاند ولا تعلق للجاحد واتضح الحق وبان قال سبحانه وتعالى:{وجاءك في هذه الحق} [هود: 120] إشارة إلى كمال المقصود وبيان المطلوب واستيفاء التعريف بوضوح الطريق وقد وضح من هذا تلاء السورة الكريمة لما تقدمها، ومما يشهد لهذا - والله أعلم - قوله تعالى:{أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} [هود: 17] وقوله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا} [هود: 112]
فقد وضح طريقك وفاز بالفلاح حزبك وفريقك {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} [هود: 113] فقد عرفتم سبيلهم ومصيرهم فقد بان طريق الحق، وكيف ينكب من جزم سلوكه من الخلق! ونظيره قوله سبحانه {وجاءك في هذه الحق} [هود: 120] عقب ما ذكر سبحانه {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] وقوله: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله} [الانفطار: 19] فتأمل ذلك والله المستعان - انتهى.
ولما خوف المنذرون باليوم الكبير كانوا كأنهم قالوا: ما هذا اليوم؟ فكان الجواب: يوم يرجعون إليه، ولما كانوا ربما حملوا الرجوع على مجرد الموت والصيرورة تراباً، نبههم على أنه بغير المعنى الذي يتوهمه بل بمعنى إعادتهم كما كانوا فقال:{إلى الله} أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحده {مرجعكم} أي رجوعكم ووقته ومكانه لأجل الحساب لا إلى التراب ولا غيره، وهو بكل شيء عليم، ومنه بدؤكم لأخذ الزاد للمعاد، وجعل فاصلة الآية حكماً على المراد فقال:{وهو} أي وحده {على كل شيء} أي ممكن {قدير*} أي بالغ القدرة لأنهم يقرون بقدرته على أشياء هي أعظم من الإعادة، فهو قادر على الإعادة كما قدر على البداءة، فالآية من الاحتباك: ذكر المرجع أولاً دليلاً على المبدأ ثانياً، وتمام القدرة ثانياً دليلاً على تمام العلم أولاً لأنهما متلازمان.
ولما تقدم من التخويف والإطماع ما هو مظنة لإقبالهم ورهبهم
على التولي بخصوصه، فكان موضع أن يقال: هل أقبلوا؟ فقيل: لا قال مبيناً أن التولي باطناً كالتوالي ظاهراً لأن الباطن هو العمدة، مؤكداً لأنه امر لا يكاد أن يصدق، والتأكيد أقعد في تبكيتهم:{ألا إنهم} أي الكفار المعاندين {يثنون صدورهم} أي يطوونها وينحرفون عن الحق على غل من غيرِ إقبال لأن من أقبل على الشيء عليه بصدره {ليستخفوا منه} أي يريدون أن يوجدوا إخفاء سرهم على غاية ما يكون من أمره. فإن كان مرادهم بالثني الاستتار من الله تعالى فالأمر في عود الضمير إليه سبحانه واضح، وإن كان من النبي صلى الله عليه وسلم فالاستخفاء منه استخفاء ممن أرسله، ثم أعلم أن ذلك غير مغن عنهم لأنه يعلم سرهم وعلنهم في أخفى أحوالهم عندهم، وهو حين استغشاهم ثيابهم، فيغطون الوجوه التي تستقر عن بعض ما في القلوب للمتوسمين فقال:{ألا حين يستغشون ثيابهم} أي يوجدون غشيانها أي تغطيتها لرؤوسهم، لاستخفاء كراهية لسماع كلام الله وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم {يعلم ما يسرون} أي يوقعون إسراره في أيّ وقت كان ومن أيّ نوع كان من غير بطء لتدبر أو تأمل، ولما لم يكن بين علم السر والعلن ملازمة لاختصاص العلن بما يكون لغيبة أو اختلاف بأصوات ولفظ أو اختلاف لغة ونحو ذلك قال تصريحاً:{وما يعلنون} أي يوقعون إعلانه لا تفاوت في
علمه بين إسرار وإعلان، فلا وجه لاستخفائهم نفاقاً، فإن سوق نفاقهم غير نافق عنده سبحانه. ثم علله بما هو أدق من ذلك كله مع شموله للنوعين فقال:{إنه عليم} أي بالغ العلم جداً {بذات الصدور*} أي بضمائر قلوبهم التي في دواخل صدورهم التي يثنونها من قبل أن يقع لهم إضمارها، بل من قبل أن يخلقهم؛ وأصل الثني العطف، ومنه الاثنان - لعطف أحدهما على الآخر، والثناء - لعطف المناقب في المدح.
ولهذا لما قال العبد في الفاتحة {الرحمن الرحيم} بعد الحمد قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي - كما في حديث «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» والاستثناء - لعطف الثاني على الأول بالاستخراج منه؛ والاستخفاء: طلب خفاء الشيء: ثم أتبع ذلك بما يدل على شمول العلم والقدرة معاً فقال:
{وما} وأغرق في العموم بقوله: {من دآبة} ودل على أن الانتفاع بالأموال مخصوص بأهل العالم السفلي بقوله: {في الأرض} أي صغرت أو كبرت {إلا على الله} أي الملك الأعلى الذي، له الإحاطة وحده لا على غيره {رزقها} أي قوتها وما تنتفع وتعيش به بمقتضى ما أوجبه على نفسه، تحقيقاً لوصوله وحملاً على التوكل فيه، لأن الإفصال على كل نفس بما لا تعيش إلا به ولا يلائمها إلا هو مدة حياتها أدق مما مضى في العلم مع تضمنه لتمام القدرة، والآية مع ذلك ناظرة إلى ترغيب آية {وأن استغفروا ربكم} فالمراد: أخلصوا العبادة له ولا تفتروا عن عبادته للاشتغال بالرزق فإنه ضمنه لكم وهو عالم بكل نفس فلا تخشوا من أنه ينسى أحداً، وقال:{وفي الأرض} ليعم ما يمشي على وجهها وما في أطباقها من الديدان ونحوها مما لا يعلمه إلا هو، لقد شاهدت داخل حصاة من شاطىء بحر قبرس شديدة الصلابة كأنها العقيق الأبيض دودة عندها ما تأكل، وأخبرني الفاضل عز الدين محمد بن أحمد التكروري الكتبي أنه شاهد غير مرة في دواخل حجارة تقطع من جبل مصر الدود عنده ما يأكل من الحشيش الأخضر وما يشرب من الماء؛ ونبه بقوله:{ويعلم مستقرها} أي مكانها الذي تستقر فيه {ومستودعها} أي موضعها الذي تودع فيه قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة او بعده من قبر أو فلاة أو غير ذلك على ما يحيط به علمه من تفاصيل
السكنات والحركات ما كان منها وما يكون من كل ذلك مما يحير الفكر ويدهش الألباب، ثم جعل فاصلة الآية ما هو في غاية العظمة عند الحق وهو {كل} أي من ذلك {في كتاب مبين*} فإنه ليس كل ما يعلمه العبد يقدر على كتابته ولا كل ما يكتبه يكون مبيناً بحيث إنه كلما أراد الكشف منه وجد ما يريده، وإذا وجده كان مفهماً له؛ والدابة: الحي الذي من شأنه الدبيب؛ والمستقر: الموضع الذي يقر فيه الشيء، وهو قراره ومكانه الذي يأوي إليه؛ والمستودع: المعنى المجعول في قراره كالولد الذي يكون في البطن والنطفة التي في الظهر، وقد جعل سبحانه في كتابه ما ذكر حكماً منها ما للملائكة فيه من العبرة عند المقابلة بما يكون من الأمور المكتوبة قبل وجودها.
ولما كان خلق ما منه الرزق أعظم من خلق الرزق وتوزيعه في شمول العلم والقدرة معاً، تلاه بقوله:{وهو} أي وحده {الذي خلق} أي أوجد وقدر {السماوات والأرض} وحده لم يشركه في ذلك أحد كما أنتم معترفون {في ستة أيام} ولما كان خلق العرش أعظم من ذلك كله فإن جميع السماوات والأرض بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة. وأعظم من ذلك أن يكون محمولاً على الماء الذي لا يمكن حمله في العادة إلا في وعاء ضابط محكم، تلاه بقوله:{وكان} أي قبل خلقه لذلك {عرشه} مستعلياً {على الماء} ولا يلزم من ذلك
الملاصقة كما أن السماء على الأرض من غير ملاصقة. وقد علم من هذا السياق أنه كان قبل الأرض خلق فثبت أنه وما تحته محمولان بمحض القدرة من غير سبب آخر قريب أو بعيد، فثبت بذلك أن قدرته في درجات من العظمة لا تتناهى، وهذا زيادة تفصيل لما ذكر في سورة يونس عليه السلام من أمر العرش لأن هذه السورة التفصيل ونبه بقوله تعالى معلقاً ب «خلق» :{ليبلوكم} أي أنه خلق ذلك كله لكم سكناً كاملاً بمهده وسقفه من أكله وشربه وكل ما تحتاجونه فيه وما يصلحكم وما يفسدكم ومكنكم من جميع ذلك والحكمة في خلق ذلك أنه يعاملكم معاملة المختبر، ودل على شدة الاهتمام بذلك بسوقه مساق الاستفهام في قوله:{أيكم} أي أيها العباد {أحسن عملاً} على أنه فعل هذه الأفعال الهائلة لأجل هذه الأمور التي هم لها مستهينون وبها مستهزئون، وعلق فعل البلوى عن جملة الاستفهام لما فيه من معنى العلم لأنه طريق إليه، روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«قال الله عز وجل: أنفق أنفق عليك» ، وقال: «يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في
يده، وكان عرشه على الماء،. وبيده الميزان يخفض ويرفع» وفي الآية حث على محاسن الأعمال والترقي دائماً في مراتب الكمال من العلم الذي هو عمل القلب والعمل الظاهر الذي هو وظيفة الأركان.
ولما ثبت - بيده الخلق الذي هم به معترفون - القدرة على إعادته، وثبت بالابتلاء أنه لا تتم الحكمة في خلق المكلفين إلا باعادتهم ليجازي كلاًّ من المحسن والمسيء بفعاله وأنهم ما خلقوا إلا لذلك. عجب من إنكارهم له وأكده لذلك فقال:{ولئن قلت} أي لهؤلاء الذين ما خلقت هذا الخلق العظيم إلا لابتلائهم {إنكم مبعوثون} أي موجودون، بعثكم ثابت قطعاً لا بد منه.
ولما كان زمن البعث بعض الزمن قال: {من بعد الموت} الذي هو في غاية الابتداء {ليقولن} أكده دلالة على العلم بالعواقب علماً من أعلام النبوة {الذين كفروا إن} أي ما {هذا} أي القول بالبعث {إلا سحر مبين*} أي شيء مثل السحر تخييل باطل لا حقيقة له أو خداع يصرف الناس عن الانهماك في اللذات للدخول في طاعة الأمر.
ولما كان ما تقدم عنهم من الأفعال ومضى من الأقوال مظنة لمعاجلتهم
بالأخذ، وكان الواقع أنه تعالى يعاملهم بالإمهال فضلاً منه وكرماً، حكى مقالتهم في مقابلة رحمته لهم فقال:{ولئن أخرنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يفوتها شيء {عنهم} أي الكفار {العذاب} أي المتوعد به {إلى أمة} أي مدة من الزمان ليس فيها كدر {معدودة} أي محصورة الأيام أي قصيرة معلومة عندنا حتى تعد الأنفاس {ليقولن} على سبيل التكرار {ما يحبسه} أي العذاب عن الوقوع استعجلاً له تكذيباً واستهزاء، وهو تهديد لهم بأنه آتيهم عن قريب فليعتدوا لذلك.
ولما كان العاقل لا ينبغي أن يسأل عن مثل ذلك إلا بعد قدرته على الدفع، أعرض عن جوابهم وذكر لهم أنهم عاجزون عن دفاعه عند إيقاعه إعلاماً بأنهم عكسوا في السؤال، وتحقيقاً لأن ما استهزؤوا به لا حق بهم لا محالة، فقال مؤكداً لشديد إنكارهم:{ألا يوم} وهو منصوب بخبر «ليس» الدال على جواز تقدم الخبر {يأتيهم ليس} أي العذاب {مصروفاً عنهم} أي بوجه من الوجوه؛ وقدم الماضي موضع المستقبل تحقيقاً ومبالغة في التهديد فقال: {وحاق بهم} أي أدركهم إذ ذاك على سبيل الإحاطة {ما كانوا} أي بجبلاتهم وسيىء طبائعهم، وقدم الظرف إشارة إلى شدة إقبالهم على الهزء به حتى كأنهم لا يهزؤون بغيره فقال:{به} ولما كان استعجالهم استهزاء، وضع موضع يستعجلون قوله:
{يستهزءون} أي يوجدون الهزء به إيجاداً عظيماً حتى كأنهم يطلبون ذلك.
ولما كان قولهم ذلك ناشئاً عن طبع الإنسان على الوقوف مع الحالة الراهنة والعمى عن الاستضاءة بنور العقل فيما يزيلها في العاقبة، بين ذلك ليعلم أن طبعه مناف لما تضمنه مقصود السورة من الإحكام الذي هو ثمرة العلم. وبعلم ذلك يعلم مقدار نعمته على من حفظه على ما فطره عليه من أحسن تقويم بقوله مؤكداً لأن كل أحد ينكر أن يكون طبعه كذلك:{ولئن أذقنا} أي بما لنا من العظمة {الإنسان} أي هذا النوع المستأنس بنفسه؛ ولما كان من أقبح الخلال استملاك المستعار. وكانت النعم عواري من الله يمنحها من شاء من عباده، قدم الصلة دليلاً على العارية فقال:{منا رحمة} أي نعمة فضلاً منا عليه لا بحوله ولا بقوته من جهة لا يرجوها بما دلت عليه أداة الشك ومكناه من التلذذ بها تمكين الذائق من المذوق {ثم نزعناها} أي بما لنا من العظمة وإن كره ذلك {منه} أخذاً لحقنا {إنه ليئوس} أي شديد اليأس من أن يعود له مثلها {كفور*} أي عظيم الستر لما سلفه له من الإكرام لأن شأنه ذلك وخلقه إلا من رحم ربك {ولئن أذقناه نعماء} من فضلنا.
ولما كان استملاكه العارية طبعاً له، لا ينفك عنه إلا بمعونة شديد من الله. دل عليه بما أفهم أنه لو كان طول عمره في الضر ثم نال حالة
يرضاها عقب زمن الضر سواء بادر إلى اعتقاد أنها هي الحالة الأصلية له وأنها لا تفارقه أصلاً ولا يشوبها نوع ضرر ولا يخالط صفوها شيء من كدر. فقال دالاًّ على اتصال زمن الضر بالقول بنزع الخافض من الظرف: {بعد ضراء} أي فقر شديد مضر ببدنه، ولم يسند المس إليه سبحانه كما فعل في النعماء تعليماً للأدب فقال:{مسته} أي بما كسبت يداه {ليقولن} مع قرب عهده بالضراء خفة وطيشاً {ذهب السيِّئات} أي كل ما يسوءني {عني} وقوله {إنه} الضمير فيه للإنسان، المعنى أن الإنسان. فهي كلية مشهورة بمستغرق، أي أن كل إنسان {لفرح فخور} أي خارج عن الحد في فرحه شديد الإفراط في فخره على غيره بكل نعمة تفضل الله عليه بها. لا يملك ضر نفسه ومنعها من ذلك فلذا اتصل بها قوله مستثنياً من الإنسان المراد به اسم الجنس:{إلا الذين صبروا} في وقت الشدائد وزوال النعم رجاء لمولاهم وحسن ظن به بسبب إيمانهم الموجب لتقيدهم بالشرع {وعملوا الصالحات} أي من أقوال الشكر وأفعاله عند حلول النعم، فهم دائماً مشغولون بمولاهم شكراً وصبراً، وهم الذين أتم عليهم سبحانه نعمه، وخلقهم في أحسن تقويم. وهم أقل من القليل لعظيم جهادهم لنفوسهم
فيما جبلت عليه من الحظوظ والشهوات وغيرها وشياطينهم.
ولما كان كأنه قيل: فما لهم لم يكونوا كذلك! أنتج السياق مدحهم فقال: {أولئك} أي العالو المراتب {لهم مغفرة} إذا وقعت منهم هفوة {وأجر كبير*} على صبرهم وشكرهم؛ والذوق: تناول الشيء بالفم لإدراك الطعم كما أن الشم ملابسة الشيء الأنف لإدراك الرائحة؛ والنزع: رفع الشيء عن غيره مما كان مشابكاً له كالقلع والقشط؛ واليأس: القطع بأن الشيء لا يكون، وهو ضد الرجاء، ويؤوس: كثير اليأس، وهو ذم لأنه للجهل بسعة الرحمة الموجبة لقوة الأمل في كل ما يجوز في الحكمة فعله؛ والنعماء: إنعام يظهر أثره على صاحبه، كما أن الضراء مضرة تظهر الحال بها، لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة من حمراء وعوراء مع ما في مفهومها من المبالغة؛ والسيئة: ما يسوء من جهة نفور طبع أو عقل، وهي هنا المرض والفقر ونحوه؛ والفرح: انفتاح القلب بما يلتذ به؛ وعبارة البغوي: هو لذة في القلب بنيل المشتهى وهو أعظم من ملاذ الحواس؛ والفخر: التطاول بتعديد المناقب؛ والصبر: حبس النفس عن المشتهى من المحارم ونحوها، والصبر على مر الحق يؤدي إلى الفوز في الآخرة مع ما فيه من جمال في الدنيا؛ والكبير واحد يقصر مقدار غيره عنه؛ والكثير: جمع يزيد على عدد غيره.
ولما استثنى سبحانه من الجارين مع الطبع الطائشين في الهوى من تحلى برزانة الصبر الناشىء عن وقار العلم المثمر لصالح العمل، وكان صلى الله عليه وسلم رأس الصابرين، وكان ما مضى من أقوالهم وأفعالهم مثل قولهم {ما يحبسه} وتثنيهم صدورهم أسباباً لضيق صدره صلى الله عليه وسلم، فربما كانت مظنة لرجائهم تركه صلى الله عليه وسلم بعض ما يوحى إليه من عيب آلهتهم وتضليل آبائهم وتسفيه أحلامهم، وغير ذلك مما يشق عليهم طمعاً في إقبالهم أو خوفاً من إدبارهم فإنهم كانوا يقولون: ما نراه يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكرنا به من الشر، قال تعالى مسبباً عن ذلك ناهياً في صيغة الخبر:{فلعلك تارك} أي إشفاقاً أو طمعاً {بعض ما} ولما كان الموحى قد صار معلوماً لهم وإن نازعوا فيه بنى للمفعول قوله: {يوحى إليك} كالإنذار وتسفيه أحلام آبائهم {وضآئق به} أي بذلك البعض {صدرك} مخافة ردهم له إذا بلغته لهم؛ ثم علل ذلك بقوله: {أن} أي مخافة أو لأجل أن {يقولوا} تعنتاً ومغالبة إذ لو كانوا مسترشدين لكفتهم آية واحدة {لولا} أي هلا ولم لا {أنزل عليه كنز} يستغني به ويتفرغ لما يريد، وبنوه للمفعول لأن المقصود مطلق حصوله وكانوا يتهاونون بالقرآن لعلمهم أنه الآية العظمى فكانوا لا يعدونه آية عناداً ومكابرة {أو جاء معه ملك} أي ليؤيد كلامه وليشهد له، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بمثل أقوالهم هذه ويثقل عليه أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون
منه فحركه الله بهذا لأداء الرسالة كائناً فيها ما كان، فكان المعنى: فإذا تقرر أن الإنسان مطبوع على نحو هذا من التقلبات، فلا تكن موضع رجائهم في أن تكون تاركاً ما يغيظهم مما نأمرك به، بل كن من الصابرين؛ قال أهل السير: فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه إلا من عصمه الله؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أم المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا.
ولما أفهم هذا السياق الإنكار لما يفتر عن الإنذار، كان كأنه قيل له: هذا الرجاء المرجو منكر، والمقصود الأعظم من الرسالة النذارة لأنها هي الشاقة على النفوس، وأما البشارة فكل من قام يقدر على إبلاغها فلذا قال:{إنما أنت نذير} فبلغهم ما أرسلت به فيقولون لك ما يقدره الله لهم فلا يهمنك فليس عليك إلا البلاغ وما أنت عليهم بوكيل تتوصل إلى ردهم إلى الطاعة بالقهر والغلبة بل الوكيل الله الفاعل لما يشاء {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة.
ولما كان السياق لإحاطته سبحانه، قدم قوله:{على كل شيء} منهم ومن غيرهم ومن قبولهم وردهم ومن حفظك منهم ومن غيره {وكيل*} فهو يدبر الأمور على ما يعلمه من الحكم، فإنشاء جاء
بما سألوا وإن لم يشأ لم يأت به ولا اعتراض عليه فتوكل عليه في كل أمر وإن صعب، ولعله اقتصر على النذارة لأن المقام يقتضيها من أجل أنهم أهل لها وأنها هي التي يطعمون في تركها بإطماعهم في المؤالفة بالإعراض عما يوجب المخالفة؛ والصدر: مسكن القلب، يشبه به رئيس القوم والعالي المجلس لشرف منزلته على غيره من الناس؛ والكنز: المدفون، وقد صار في الدين صفة ذم لكل مال لم يخرج منه الواجب من الزكاة وإن لم يكن مدفوناً، والآية من الاحتباك: نفي أولاً قدرته صلى الله عليه وسلم على الإتيان بما سألوا دليلاً على قدرة مرسله على ذلك وغيره ثانياً. وأثبت الوكالة ثانياً دليلاً على نفيها أولاً.
ولما كانوا ذوو الهمم العوال، لا يصوبون إلى الكنوز والأموال، وكان الملك إنما يراد لتطييب النفس بتثبيت الأمر. وكان فيما يشهد به إعجاز القرآن ببديع نظمه وباهر حكمه وحكمه وزاجر غرائبه ووافر علمه ما يغني عن ذلك، وكان في كل آية منه ما يبين للفهم سفساف قدحهم في الرسالة، كان موضع الإنكار له، فكان كأنه قيل: أيقولون ذلك تعنتاً منهم واقتراحاً وإعراضاً عن معجز القرآن فأعرض عنه فإنه لا يضر في وجه الدليل {أم يقولون} أي مكررين {افتراه} فكان ذلك موضع أن يقال: نعم، إنهم ليقولون ذلك فيقدحون في الدليل فماذا يقال لهم؟ فقيل:{قل} أي لهم على سبيل التنزل {فأتوا} يا معاشر العرب فإنكم مثلي في العربية واللسان
والمولد والزمن وفيكم من يزيد عليَّ بالكتابة والقراءة ومخالطة العلماء والتعلم من الحكماء ونظم الشعر واصطناع الخطب والنثر وتكلف الأمثال وكل ما يكسب الشرف والفخر {بعشر سور} أي قطع، كل قطعة منها تحيط بمعنى تام يستدل فيها عليه {مثله} أي تكون العشر مثل جميع القرآن في طوله وفي مثل احتوائه على أساليب البلاغة وأفانين العذوبة والمتانة والفحولة والرشاقة حال كونها {مفتريات} أي أنكم قد عجزتم عن الإتيان بسورة أي قطعة واحدة آية أو آيات من مثله فيما هو عليه من البلاغة والإخبار بالمغيبات والحكم والأحكام والوعد والوعيد والأمثال وادعيتم مكابرة أنه مفترى فارغ عن الحكم فأتوا بعشر مثله في مجرد البلاغة غير ملزمين بحقائق المعاني وصحة المباني - ذكره البغوي عن المبرد، وقد مضى في البقرة عند {فأتوا بسورة من مثله} عن الجاحظ وغيره ما يؤيده؛ قال أبو حيان: وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولاً بأن يفعل أمثالاً مما يفعل هو، ثم إذا تبين عجزه قال: افعل مثلاً واحداً - انتهى. فكأنهم تحدوا أولاً بجميع القرآن في مثل قوله: {فليأتوا بحديث مثله} [الطور: 34] أي في التحتم والتطبيق على الوقائع وما يحدث ويتجدد شيئاً في إثر شيء ثم قطع بعد عجزهم بدوام عجزهم في قوله تعالى: {قل لو اجتمعت الإنس والجن} [الإسراء: 88] تبكيتاً لهم وإخزاء وبعثاً على ذلك وإغراء، ثم تحدوا
في سورة يونس عليه السلام بسورة واحدة مثل جميع القرآن غير معتنين فيها بالتفصيل إلى السور تخفيفاً عليهم واستهانة بأمرهم، فلما عجزوا تحدوا بعشر مفتراه، ولما خفف عنهم التقيد بصدق المعنى وحقيقة المباني، ألزمهم بما خففه عنهم في يونس من التفصيل ولم يخلهم من التخفيف إشارة إلى هوان أمرهم واحتقار شأنهم بأن جعلها إلى عشر فقط، فلما عجزوا أعيد في المدينة الشريفة لأجل أهل الكتاب تحديهم بسورة، أي قطعة واحدة مقروناً ذلك بالإخبار بدوام عجزهم عن ذلك في قوله تعالى في البقرة
{فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} [البقرة: 24] ، فالمتحدى به في كل سورة غير المتحدى به في الأخرى، وقد مضى في يونس والبقرة ويأتي في سبحان والطور إنشاء الله تعالى ما يتم به فهم هذا المقام، والبلاغة ثلاث طبقات فأعلاها معجز، وأوسطها وأدناها ممكن، والتحدي وقع بالعليا، وليس هذا أمراً بالافتراء لأنه تحدّ فهو للتعجيز وقوله:{وادعوا من استطعتم} أي طلبتم أن يطيعكم ففعل، ولما كانت الرتب كلها تحت رتبته تعالى والعرب مقرة بذلك قال:{من دون الله} أي الملك الأعلى. وأشار إلى عجزهم بقوله: {إن كنتم صادقين*} وفي ذلك زيادة بيان وتثبيت للدليل، فإن كل ظهير من سواهم دونهم في البلاغة، فعجزهم عجز لغيرهم بطريق الأولى.
ولما كان أدنى درجات الافتراء إتيان الإنسان بكلام غيره من
غير علمه، وكان عجزهم عن المعارضة دليلاً قاطعاً على أنهم لم يصلوا إلى شيء من كلامه تعالى بغير علمه ولا وجدوا مكافئاً له يأتيهم بمثله ثبت قطعاً أن هذا القرآن غير مفترى، فقال تعالى مخاطباً للجميع بخلاف ما في القصص إشارة إلى وضوح الأمر لا سيما في الافتراء عند كل أحد وأن المشركين قد وصلوا من ذل التبكيت بالتحدي مرة بعد مرة وزورهم لأنفسهم في ذلك المضمار كرة في أثر كرة إلى حد من العجز لا يقدرون معه على النطق في ذلك ببنت شفة:{فإن لم يستجيبوا لكم} أي يطلبوا إجابتكم ويوجدوها {فاعلموا} أيها الناس كافة {أنما أنزل} أي ما وقع إنزال هذا القرآن خاصة إلا ملتبساً {بعلم الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بمقتضى أن محمداً واحد منهم تمع العادة أن يعثر دون جميع أهل الأرض على ما لم يأذن فيه ربه من كلامه فضلاً عن أن يكون مخترعاً له، ويجوز أن يكون ضمير {يستجيبوا} ل «من» {من استطعتم} و {لكم} للمشركين، وكذا في قوله: فاعلموا و {أنتم} {وأن} أي واعلموا أن {لا إله إلا هو} فإنه لو كان معه إله آخر لكافأة في الإتيان بمثل كلامه وفيه تهديد وإقناط من أن يجيرهم من بأس الله آلهتهم.
ولما كان هذا دليلاً قطعياً على ثبوت القرآن، سبب عنه قوله
مرغباً مرهباً: {فهل أنتم مسلمون*} أي منقادون أتم انقياد.
ولما كان في هذا من الحث على الثبات على الإسلام والدخول فيه والوعيد على التقاعس عنه ما من حق السامع أن يبادر إليه، وكان حق المسلم الإعراض عن الدنيا لسوء عاقبتها، وكان أعظم الموانع للمشركين من التصديق اسستيلاء أحوال الدنيا عليهم، ولذلك تعنتوا بالكنز، أشار إلى عواقب ذلك بقوله:{من كان يريد} أي بقصده وأعماله من الإحسان إلى الناس وغيره {الحياة الدنيا} أي ورضي بها مع دناءتها من الآخرة على علوها وشرفها {وزينتها} فأخلد إليها لحضورها ونسي ما يوجب الإعراض عنها من فنائها وكدرها {نوف} موصلين {إليهم أعمالهم} أي جزاءها {فيها} أي الدنيا بالجاه والمال ونحو ذلك {وهم فيها} أي في الأعمال أو الدنيا {لا يبخسون*} أي لا ينقص شيء من جزائهم فيها، وأما أبدانهم وأرواحهم وأديانهم فكلها بخس في الدارين معاً، وفي الجملتين بيان سبب حبس العذاب عنهم في مدة إمهالهم مع سوء أعمالهم.
ولما بين حالهم في الدنيا، بين حالهم في الأخرى مشيراً بأداة البعد إلى أنهم أهل البعد واللعنة والطرد في قوله نتيجة لما قبله:{أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين ليس لهم} أي شيء من الأشياء {في الآخرة إلا النار} أي لسوء أعمالهم واستيفائهم جزاءها في الدنيا {وحبط} أي بطل وفسد {ما صنعوا فيها}
أي مصنوعهم أو صنعهم أي لبنائه على غير أساس؛ ولما كان تقييد الحبوط بالآخرة ربما أوهم أنه شيء في نفسه قال: {وباطل} أي ثابت البطلان في كل من الدارين {ما كانوا يعملون*} أي معمولهم أو عملهم وإن دأبوا فيه دأب من هو مطبوع عليه لأنه صورة لا معنى لها لبنائه على غير أساس؛ والزينة: تحسين الشيء بغيره من لبسه أو حلية أو هيئة؛ والتوفية: تأدية الحق على تمام؛ وحبوط العمل: بطلانه، من قولهم: حبط بطنه - إذا فسد بالمأكل الرديء.
ولما اتضحت الحجج وانتهضت الدلائل فأغرقتهم عوالي اللجج، كان ذلك موضع الإنكار على من يسوي بين المهتدي والمعتدي، فكيف يفضل إما باعتبار النظر إلى الرئاسة الدنيوية غفلة من حقائق الأمور أو عناداً كمن قال من اليهود للمشركين: أنتم أهدى منهم، فقال:{أفمن كان على بينة} أي برهان وحجة {من ربه} بما آتاه من نور البصيرة وصفاء العقل فهو يريد الآخرة ويبني أفعاله على أساس ثابت {ويتلوه} أي ويتبع هذه البينة {شاهد} هو القرآن {منه} أي من ربه، أو تأيد ذلك البرهان برسالة رسول عربي بكلام معجز وكان {من قبله} أي هذا الشاهد مؤيداً له {كتاب موسى} أي شاهد أيضاً وهو التوارة حال كونه {إماماً} يحق الاقتداء به {ورحمة} أي لكل من اتبعه.
ولما كان الجواب ظاهراً حذفه، وتقديره - والله أعلم: كمن هو على الضلالة فهو يريد الدنيا فهو يفعل من المكارم ما ليس مبنياً على أساس صحيح، فيكون في دار البقاء والسعادة هباء منثوراً؛ ولما كان هذا الذي على البينة عظيماً، ولم يكن يراد به واحداً بعينه، استأنف البيان لعلو مقامه بأداة الجمع بشارة لهذا النبي الكريم بكثرة أمته فقال:{أولئك} أي العالو الرتبة بكونهم على هدى من ربهم وتأيد هداهم بشاهد من قبله وشاهد من بعده مصدق له {يؤمنون به} أي بهذا القرآن الذي هو الشاهد ولا ينسبون الآتي به إلى أنه افتراه {ومن يكفر به} أي بهذا الشاهد {من الأحزاب} من جميع الفرق وأهل الملل سواء، سوى بين الفريقين جهلاً أو عناداً {فالنار موعده} أي وعيده وموضع وعيده يصلى سعيرها ويقاسي زمهريرها.
ولما عم بوعيد النار، اشتد تشوف النفس لما سبب عنه فقرب إزالة ما حملت من ذلك بالإيجاز، فاقتضى الأمر حذف نون «تَكن» فقيل:{فلا تكُ} أي أيها المخاطب الأعظم {في مرية} أي شك عظيم ووهم {منه} أي من القرآن ولا يضيق صدرك عن إبلاغه، أو من الوعد الذي هو النار والخيبة وإن أنعمنا على المتوعد بذلك ونعمناه في الدنيا؛ ثم علل النهي بقوله:{إنه} القرآن
أو الموعد {الحق} أي الكامل، وزاد في الترغيب فيه بقوله:{من ربك} أي المحسن إليك بانزاله عليك.
ولما كان كونه حقاً سبباً يعلق الأمل بإيمان كل من سمعه، قال:{ولكن أكثر الناس} أي الذين هم في حيز الاضطراب {لا يؤمنون} بأنه حق لا لكون الريب يتطرق إليه بل لما على قلوبهم من الرين ويؤولون إليه من العذاب المعد لهم ممن لا يبدل القول لديه ولا ينسب الظلم إليه، والقصد بهذا الاستفهام الحث على ما حث عليه الاستفهام في قوله {فهل أنتم مسلمون} من الإقبال على الدين الحق على وجه مبين لسخافة عقول الممترين وركاكة آرائهم.
ولما كان الكافرون قد كذبوا على الله بما أحدثوه من الدين من غير دليل وما نسبوا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الافتراء، أتبع ذلك سبحانه قوله:{ومن أظلم} أي لا أحد أظلم {ممن افترى} أي تعمد أن اختلق متكبراً {على الله} أي الملك الأعظم {كذباً} الآية، وهو موضع ضمير لو أتى به لقيل: لا يؤمنون ظلماً منهم، ومن أظلم منهم أي هم أظلم الظالمين، فأتى بهذا الظاهر بياناً لما كفروا به لأنه إذا علق الحكم بالوصف دل على أنه علته.
ولما بين أنهم أظلم، أتبعه جزاءهم بقوله استئنافاً:{أولئك} المستحقو البعد؛ ولما كان نفس العرض مخوفاً، بنى للمجهول قوله:
{يعرضون} أي لذلك ولدلالة على أنهم على صفة الهوان ومستسلمون لكل عارض، فعرضهم في غاية السهولة {على ربهم} أي الذي أحسن إليهم فلم يشكروه، العالم بالخفايا فيفتضحون بين يديه بما قابلوا به إحسانه من اللوم {ويقول} على سبيل التكرار {الأشهاد} وهم الذين آمنوا بالكتب الشاهد بعضها لبعض المشار إليه بقوله {ويتلوه شاهد منه} والملائكة الذين شهدوا أعمالهم ومن أعضائهم حين يختم على أفواههم {هؤلاء} إشارة بأداة القرب إلى تحقيرهم {الذين كذبوا} متكبرين {على ربهم} في ادعاء الشريك والولد والتحليل والتحريم وغير ذلك بما عراهم من إحسانه وطول حلمه، وفي الإتيان بصفة الربوبية غاية التشنيع عليهم، فتكررت بهذا القول فضيحتهم عند جنسهم وبعدهم عن كل من سمع هذا الكلام لأنه لا أبعد عن القلوب من الكاذب فكيف بالمجترىء بالكذب على الرؤساء فكيف بملك الملوك الذي رباهم وكل من أهل الموقف مرتقب برّه خائف من انتقامه، وكأنه قيل: فما لهم بعد هذا العذاب العظيم بهذه الفضيحة؟ فقيل: {ألا لعنة الله} وهي طرد الملك الأعظم وإبعاده، وانظر إلى تهويل الأمر باسم الذات ما أشده {على الظالمين} فكيف بأظلم الظالمين، ثم فصل ظلمهم بقوله:{الذين يصدون} أي يعرضون في أنفسهم ويمنعون غيرهم {عن سبيل}
أي دين {الله} أي الملك الذي له الكمال كله مع أنه الولي الحميد {ويبغونها} أي يريدون بطريق الدين الواسعة السهلة {عوجاً} بإلقاء الشبهات والطعن في الدلائل مع كونها في غاية الاستقامة.
ولما كان النظر شديداً إلى بيان كذبهم وتكذيبهم، بولغ في تأكيد قوله:{وهم} أي بضمائرهم وظواهرهم؛ ولما كان تكذيبهم بالآخرة شديداً، قدم قوله:{بالآخرة} وأعاد الضمير تأكيداً لتعيينهم وإثبات غاية الفساد لبواطنهم واختصاصهم بمزيد الكفر فقال: {هم كافرون} أي عريقون في هذا الوصف؛ والعرض: إظهار الشيء بحيث يرى للتوقيف على حالة، والصد: المنع بالإغراء الصارف عن الأمر؛ والبغية: طلب أمر من الأمور، وهي إرادة وجدان المعنى بما يطمه فيه؛ والعوج: العدول عن طريق الصواب، وهو في المعنى كالدين بالكسر، وفي غيره كالعود بالفتح فرقاً بين ما يرى وما لا يرى، جعلوا السهل للسهل والصعب للصعب؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في النجوى:«يدنى المؤمن من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقرره بذنوبه: تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف رب أعرف - مرتين، ويقول: سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم، ثم يطوي صحيفة حسناته، وأما الآخرون أو الكفار فينادي على رؤوس الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} » .
ولما هددهم بأمور الآخرة، أشار إلى بيان قدرته على ذلك في الدارين بقوله:{أولئك} أي البعداء عن حضرة الرحمة {لم يكونوا} أي بوجه من الوجوه {معجزين} وأشار إلى عجزهم بأنهم لا يقدرون على بلوغ العالم العلوي بقوله: {في الأرض} أي ما كان الإعجاز - وهو الامتناع من مراد الله - لهم ولا هو في قدرتهم، لأن قدره على جميع الممكنات على حد سواء.
ولما نفى التعذر بأنفسهم، نفاه من جهة غيرهم فقال:{وما كان لهم} ولما كانت الرتب التي هي دون عظمته سبحانه متكاثرة جداً، بين أنهم معزولون عن كل منها بإثبات الجار فقال:{من دون الله} أي الملك الأعظم، وأغرق في النفي بقوله:{من أوليآء} أي يفعلون معهم ما يفعل القريب من تولي المصالح والحماية من المصائب، ومن لم يقدر على الامتناع وهو حي لم يمتنع بعد موته فكأنه قيل: ماذا يفعل بهم؟ فقيل: {يضاعف} أي يفعل فيه فعل من يناظر آخر في الزيادة، وبناه للمفعول لأن المرجع وجود المضاعفة مطلقاً {لهم العذاب} أي بما كانوا يضاعفون المعاصي؛ ثم علل سبب المضاعفة بأنه خلق لهم سمعاً وبصراً فضيعوهما بتصامّهم عن الحق وتعاميهم عنه، فكأن لا فرق بينهم وبين فاقدهما فقال:{ما كانوا} أي بما لهم من فساد الجبلات
{يستطيعون السمع} أي يقدرون لما غلب على فطرهم الأولى السليمة بانقيادهم للهوى من التخلق بنقائص الشهوات على أن توجد طاعته لهم فما كانوا يسمعون {وما كانوا} يستطيعون، الإبصار فما كانوا {يبصرون} حتى يعرضوا عن الشهوات فتوجد استطاعتهم للسمع والإبصار، وهو كناية عن عدم قبولهم للحق وأن شدة إعراضهم عنه وصلت إلى حد صارت فيه توصف بعدم الاستطاعة كما يقول الإنسان لما تشتد كراهته له: هذا مما لا أستطيع أن أسمعه، وتكون المضاعفة بالكفر والصد، ونفي الاستطاعة أعرق في العيب وأدل على النقص وأنكأ من نفي السمع لأنهم قد يحملونه على الإجابة، وأما نفي البصر فغير منفك عن النقص سواء كان للعين أو للقلب، هذا إن لم تخرج الآية على الاحتباك، وإن خرجت عليه استوى الأمران، وصار نفي الاستطاعة أولاً دالاًّ على نفيها ثانياً، ونفي الإبصار يدل على نفي السمع أولاً.
ولما ثبت أنهم لا سمع ولا بصر، ثبت أنهم لا شيء فقال:{أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين خسروآ أنفسهم} أي بتضييع الفطرة الأولى التي هي سهولة الانقياد للخير وصعوبة الانقياد للشر؛ ولما كان العاجز ربما نفعه من كان يخدمه فيكسبه قوة بعد الضعف ونشاطاً بعد العجز، نفى ذلك بقوله عائداً إلى نفي النفع ممن عذرهم أولاً
على أحسن وجه: {وضل عنهم ما كانوا} أي كوناً جبلوا عليه فصاروا لا ينفكون عنه {يفترون} أي يتعمدون كذبه مما ادعوا كونهم آلهة، ولا شك أن من خسر نفسه ومن خسرها من أجله بادعاء أنه شريك لخالقه ونحو ذلك كان أخسر الناس، فلذلك قال:{لا جرم} أي لا شك {أنهم} أي هؤلاء الذي بالغوا في إنكار الآخرة {في الآخرة} ولما كان المقام جديراً بالمبالغة في وصفهم بالخسارة، أعاد الضمير فقال:{هم} أي خاصة {الأخسرون} أي الأكثرون خسراناً من كل من يمكن وصفه بالخسران؛ والإعجاز: الامتناع من المراد بما لا يمكن معه إيقاعه؛ والمضاعفة: الزيادة على المقدار بمثله أو أكثر؛ والاستطاعة: قوة ينطاع بها الجوارح للفعل؛ وأما «لا جرم» فقد اضطرب علماء العربية في تفسيرها، قال الرضي في شرح الحاجبية والبرهان السفاقسي في إعرابه ما حاصله: والغالب بعد {لا جرم} الفتح، أي في {أن} ، ف {لا} إما رد الكلام السابق - على ما هو مذهب الخليل - أو زائدة كما في {لا أقسم} لأن في جرم معنى القسم، وهي فعل ماض عند سيبويه والخليل مركبة مع «لا» ، وجعلها سيبويه فعلاً بمعنى حق، ف «أن» «فاعله» ، وقيل:«جرم» بمعنى حق، وهو اسم لا و «أنهم» خبره؛ وقال الكسائي معناها: لا صد ولا منع؛ وعن الزجاج أنها غير مركبة، ولا نفي لما قيل من أن لهم أصناماً تنفعهم، وجرم - فعل ماض بمعنى كسب وفاعله
مضمر معبر به عن فعلهم، و {أنهم} مفعولة؛ وقال الفراهي: كلمة كانت في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة، لأنه يروي عن العرب «لا جرم» - يعني بضم ثم سكون، والفعل - يعني هكذا، والفعل - يعني محركاً، يشتركان في المصادر كالرشد والرعد والبخل؛ والجرم: القطع، أي لا قطع من هذا كما أنه لا بد بمعنى لا قطع، فكثرت وجرت على ذلك حتى صارت بمعنى القسم، فلذلك يجاب بما يجاب به القسم، فيقال: لا جرم لآتينك، ولا جرم أنك قائم، فمن فتح فللنظر إلى أصل {لا جرم} كما نقول: لا بد أن نفعل كذا وأنك تفعل، أي من أن ومن أنك تفعل، ومن كسر فلمعنى القسم العارض في {لا جرم} - انتهى.
فتفسيره لها بالقطع نظر منه إلى أن مادة «جرم» بخصوصها دائرة على القطع، والأصنع تفسيرها بالظن نظراً إلى ما تدور عليه المادة من حيث هي - بأي ترتيب كان - من جرم وجمر ورجم ورمج ومجر ومرج، وإنما جعلتها كذلك لأنهم قالوا جرم النخل: خرصها، وأجمر النخل أيضاً: خرصها، ورجم - إذا ظن، والمجر: العقل، ويلزم الظن اتقاد الذهن ومنه جمرة النار، والجرم - للأرض الشديدة الجر، ويلزم الظن أيضاً اجتماع الفكر، ومنه الجمرة للقلبية وكل ما شاكلها في الجمع، ومنه الجرم بالكسر وهو الجسد فإنه بالنظر إلى جميعه، والصوت أو جهارته فإنه يجمع فيه الحلق لقطعه، ويلزم الاجتماع أيضاً العظمة، ومنه أجرم - إذا عظم،
والجمير كأمير: مجتمع القوم، ومن الجمع الرياء والعقل، فينشأ منه الصفاء، ومنه {مارج من نار} أي لا دخان فيه، ومنه أجرم لونه: صفا، ومن الاجتماع المجر - بالتحريك، وهو أن يملأ بطنه من الماء ولم يرو، والكسب، جرم لأهله - إذا كسب، ومنه الذنب فإنه كسب خاص، ويمكن أن يكون من القطع لأنه يقطع صاحبه عن الخير، ويلزم الاجتماع أيضاً الاستتار ومنه أجمرت الليلة - استتر فيها الهلال، والمجر لما في بطون الحوامل من الإبل والغنم، أو يجعل هذا مما يلزم نفس الظن من الخفاء، ومن الاجتماع الضمور، أجمر الخيل: أضمرها، وشاة مجمرة: مهزولة، ويلزم الاجتماع الصلابة والتمام، ومنه حول مجرم كمعظم: تام، فينشأ الافتراق، ومنه تجرم الليل: ذهب، وابنا جمير كأمير: الليل والنهار، أو يكون ذلك من لوازم القطع كما يأتي؛ ومن الاجتماع الرجم الذي هو الخليل والنديم، ويلزم الظن الفصل بين الأشياء، ومنه جرام النخل لصرامها؛ والجمرة: الحصاة، فيلزم مطلق الرمي فينشأ الرمي بالجمار، وهي الحجارة فينشأ القتل للمرجوم، وهو يرجع أيضاً إلى نفس القطع، فإنه قطع النفس عما كانت عليه، ويلزم الفصل القذف والعيب؛ والرماج كسحاب: كعوب الرمح لانفصال بعضها عن بعض، والرمج بالفتح وهو إلقاء الطير ذرقه، ويلزم الظن المبالغة في النظر فتأتي المبالغة في الكلام والعزيمة، ومنه المرجام للماد
عنقه في السير من الإبل، وأجمر: أسرع في السير، وقد يلزم الظن الحيرة، ومنه حديث مرجم كمعظم: لا يوقف على حقيقته، فيلزم حينئذٍ الذنب والفساد والقلق والاضطراب، ومنه أمرج العهد: لم يف به، أي جعله مارجاً مزلزلاً، وعلى الاضطراب تدور مادة «مرج» بخصوص هذا الترتيب، أو الترميج: إفساد سطور بعد كتبتها، ويلزم الظن الاختلاط، ومنه الجرم للون لأنه لا يخلو عن شوب، وأجرم الدم به: لصق، والإجرام: متاع الراعي، أو هي من الكسب، والجرام كرمان: السمك؛ والمرج: موضع الرعي، وقد علم من هذا أن جميع تصاريف المادة تدور على الاضطراب وهو بين في غير العقل، وأما فيه فإنه يقدر العقل يكون اضطراب الرأي لأن العاقل كلما أنعم النظر انفتح له ما كان مغلقاً فيعدل إليه، فإذا ظهر هذا ظهر أن معنى «لا جرم» أنهم لا ظن ولا اضطراب في أنهم، ويكون نفي الظن في مثل هذا السياق نفياً لجميع ما يقابله إلاّ العلم الذي هو بمعنى القطع كما إذا قيل: لا شك في كذا ولا ريب، فاتضح أن تفسيرهم لها ب «حقاً» تفسير معنى لمجموع الكلمتين لأنه إذا نفي في مثل هذا السياق الظن ثبت اليقين والقطع، وإليه يرجع تفسير سيبويه لا حق لأنه يريد - والله أعلم - أن لا صلة، وموضوعها في الأصل النفي، فهي نافية لضد ما دخلت عليه، فكأنه
قيل: حق وثبت أنهم كذا وانتفى كل ما يضاده، فهذا وجه كونها صلة مؤكدة، وقريب من ذلك ما قيل في «إنما» نحو إنما زيد قائم، أي أن زيداً قائم، ما هو إلاّ كذلك، فقد بان أن النافي مثل ذلك مؤكد - والله الموفق.
ولما توعد الكافرين وأخبر عن مآلهم بسببه، كان موضع أن يسأل عن حال المؤمنين فقال:{إن الذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة {وعملوا الصالحات} ولما كان الحاصل ما مضى من وصف الكافرين بعد مطلق الأعمال السيئة الإعراض عن ربهم والنفرة عن المحسن إليهم جلافة وغلظة، وصف المؤمنين بالإقبال عليه والطمأنينة إليه فقال:{وأخبتوا} أي خشعوا متوجهين منقطعين {إلى ربهم} أي المحسن إليهم فشكروه فوفقهم لاستطاعة السمع والأبصار.
ولما ذكر وصفهم ذكر جزاءهم عليه بقوله: {أولئك} أي العالو الرتبة {أصحاب الجنة} ولما كانوا مختصين بها أول أو بالخلود من أول الأمر، أعاد الضمير فقال:{هم فيها} أي خاصة لا في غيرها {خالدون} .
ولما استوفى أوصاف الحزبين وجزاءهم، ضرب للكل مثلاً بقوله:{مثل الفريقين} أي الكافرين والمؤمنين، وهو من باب اللف
والنشر المرتب، فإن الكافر ذكر فيما قبل أولاً {كالأعمى} أي العام العمى في بصره وبصيرته {والأصم} في سمعه كذلك، فهذا للكافرين {والبصير} بعينه وقلبه {والسميع} على أتم أحوالهما، وهذا للمؤمنين، وفي أفراد المثل طباق أيضاً {هل يستويان} أي الفريقان {مثلاً} أي من جهة المثل. ولما كان الجواب قطعاً لمن له أدنى تأمل: لا يستويان مثلاً فلا يستويان ممثولاً، حسن تسبب الإنكار عنه في قوله:{أفلا تذكرون} أي يحصل لكم أدنى تذكر بما أشار إليه الإدغام فتعلموا صدق ما وصفوا به بما ترونه من أحوالهم، وذلك ما قدم في حق الكفار من قوله:{ما كانوا يستطيعون السمع} الآية؛ والإخبات: الخشوع المستمر على استواء فيه، وأصله الاستواء من الخبت، وهو الأرص المستوية الواسعة، ولعله وصله بإلى في موضع اللام إشارة إلى الإخلاص أي إخباتاً ينتهي إلى ربهم من غير أن يحجب عنه؛ والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بحال الأول، والأمثال لا تغير عن صورتها.
ولما تم ذلك على أوضح المسالك، وختم بالحث على التذكر، وكان تقديم ذكر كتاب موسى محركاً لتوقع ذكر نبئه ونبأ غيره من الرسل، عطف - مقروناً بحرف التوقع على العامل الذي قدرته في قوله: {ألا تعبدوا
إلا الله} أو على قوله: {إنما أنت نذير} وهو أحسن وأقرب - قوله: {ولقد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة {نوحاً إلى قومه} أي الذين هم على لسانه؛ وما بعد ذلك من القصص تقريراً لمضمون هذا المثل وتثبيتاً وتسلية وتأييداً وتعزية لهذا النبي الكريم لئلا يضيق صدره بشيء مما أمر بإبلاغه حرصاً على إيمان أحد وإن كان أقرب الخلائق إليه وأعزهم عليه كما تقدمت الإشارة إليه في قوله تعالى: {فلا يكن في صدرك حرج منه} وقوله: {وضائق به صدرك} ويأتي في قوله: {وكُلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} فوضح أن هذه القصص لهذا المعنى سيقت، وأن سياقها في الأعراف وغيرها كان لغير ذلك كما تقدم وأن تضمن هذا الغرض بيان إهلاك من كانوا أشد من العرب قوة وأكثر جمعاً وأمكن أمراً وأقوى عناداً وأعظم فساداً وأحدّ شوكة وما اتفق في ديارهم من الطامات والأهوال المفظعات تحذيراً من مثل حالهم بارتكاب أفعالهم، ففرق بين ما يساق للشيء وما يلزم منه الشيء، ولهذا الغرض المقصود هنا طولت قصة نوح في هذه السورة ما لم يطوله في غيرها، وصدرت بقوله:{إني} أي قائلاً على قراءة الجمهور بالكسر، والتقدير عند ابن كثير وأبي عمرو والكسائي: ملتبساً بأني {لكم} أي خاصة {نذير مبين} أي مخوف بليغ التحذير، أبين ما أرسلت به غاية البيان، وذكر فيها أنه طالت مجادلته لهم وأنه لما أوضح له أمر الله تعوذ من السؤال فيه وفي كل ما يشبهه، وخللت
قصته بقوله: {أم يقولون افتراه} خطاباً لهذا النبي الكريم وختمت بقوله: {فاصبر إن العاقبة للمتقين} وذكرت قصة إبراهيم عليه السلام لما ضمنته من أنه بشر الولد بما لم يجر بمثله عادة فلم يتردد فيه، وأنه جادل الرسل في قوم ابن أخيه لوط، وأنه لما تحقق حتم الأمر وبت الحكم سلم لربه مع كونه حليماً أواهاً منيباً إلى غير ذلك مما يؤمىء إليه سياق القصص، فكأنه قيل: إنما أنت نذير أرسلناك لتبلغ ما أرسلت به من الإنذار وإن شق عليهم وعزتنا لقد أرسلنا من قبلك رسلاً منذرين فدعوا إلى ما أمرت بالدعوة إليه وأنذروهم ما يشق عليهم من بأسنا امتثالاً لأمرنا وما تركوا شيئاً منه خوفاً من إعراض ولا رجاء في إقبال على أن أممهم قالوا لهم ما قالت لك أمتك كما يشير إليه قوله تعالى عن نوح: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله} - الآية، وقد كان في المخالفين من أممهم القريب منهم نسبه والعزيز عليهم أمره من ابن وصاحبة وغيرهما، هذا مع أن قصصهم دليل على قوله تعالى:{ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم} وزجر لهم عن مثل قولهم: {ما يحبسه} وتأييد لقوله: {ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة} - وغير ذلك مما تقدم، فقد علم من هذا الوجهُ في تكرير هذه القصص، وأنه في كل سورة لمقصد يخالف المقصد في غيرها وإن كان يستفاد
من ذلك فوائد أخر: منها إظهار القدرة في بيان الإعجاز بتصريف المعنى في الوجوه المختلفة لما في ذلك من علو الطبقة في البلاغة لأنه ربما قال متعنت عند التحدي: قد استوفى اللفظ البليغ على الأسلوب الأكمل البديع في هذه القصص فلم تبق لنا ألفاظ نعبر بها عن هذه المعاني حتى نأتي بمثل هذه القصة؛ فأتى بها ثانياً إظهاراً لعجزه وقطعاً لحجته، وربما كررت ثالثاً ورابعاً توكيداً لذلك وتمكيناً للاعتبار بضروب البيان وتصبيراً للنبي صلى الله عليه وسلم على أذى قومه حالاً فحالاً، فإن قيل: فما بالها تأتي تارة في غاية البسط وتارة في غاية الإيجاز وتارة على الوسط؟ قيل: هذا من أعلى درجات البلاغة وأجل مراتب الفصاحة والبراعة، فإن قبل: فإنا نرى القصة تبسط في بعض السور غاية البسط ثم توجز في غيرها غاية الإيجاز ويؤتي فيها ما لم يؤت في المبسوطة كما في العنكبوت فإنه عين فيها مقدار لبثه وأنه كان ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلم لا استوعبت جميع المعاني في الموضع المبسوط كما هو الأليق بمقام البسط لا سيما لمن لا يخفى عليه شيء ولا ينسى، وإذا وقع حذف كان في الموجزة، قيل: قال شيخنا حافظ العصر أبو الفضل بن حجر: إن الإمام أبا حاتم بن حبان البستي ذكر في كتابه التقاسيم والأنواع: إنما لم يرتبه ليحفظ إذ لو رتبه ترتيباً سهلاً لاتكل من يكون عنده على سهولة الكشف منه فلا يتحفظه، وإذا وعر طريق الكشف
كان أدعى إلى حفظه ليكون على ذكر من جميعه، وذكر أنه فعل ذلك اقتداء بالكتاب العزيز فإنه ربما أتى بالقصص غير مرتبة، قال شيخنا: ومن هنا يظهر أن من أسرار تخصيص بعض الموجزات بما ليس في المبسوط الحث على حفظ الجميع - انتهى.
وهذه فوائد ينبغي إهمالها بل تستعمل حيث أمكن، والعمدة في المناسبة الوجه الأول وهو أنها في كل سورة لمناسبة تخص تلك السورة، ثم يراعي في البسط وغيره المعاني المناسبة للمقصد الذي سيقت له القصة - والله الموفق. واللام في «لقد» للقسم: قال الإمام أبو الحسن على بن عيسى الرماني: لأنها تدخل على الفعل والحرف الذي يختص بالفعل مما يصح معناه معه. ولام الابتداء للاسم خاصة، ومعنى (قد) توقع الخبر للتقريب من الحال، يقال: قد ركب الأمير - لقوم يتوقعون ركوبه فعلى هذا القول جرى {ولقد أرسلنا} والإبانة: إظهار المعنى للنفس بما يمكن إدراكه. وأصله القطع، فالإبانة قطع المعنى من غيره ليظهر في نفسه - انتهى. والمقصود من الرسالة قوله سبحانه:{أن} أي نذير لأجل أن {لا تعبدوا} أي شيئاً أصلاً {إلا الله} أي الملك الأعظم - ومعنى النذارة قوله: {إني أخاف عليكم} وعظم العذاب المحذر منه بقوله: {عذاب يوم أليم*} وإذا كان اليوم مؤلماً فما الظن بما فيه من العذاب! فهو إسناد مجازي مثل نهاره صائم، ولم يذكر بشارة
كما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إنني لكم منه نذير وبشير} [هود: 2] إرشاداً إلى ما سيقت له القصة من تقرير معنى {إنما أنت نذير} [هود: 12] ولذلك صرح بالألم بخلاف الأعراف، وكذا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أول هذه من عذاب يوم كبير، وهما متقاربان؛ ثم ساق سبحانه جواب قومه على وجه هو في غاية التسلية والمناسبة للسياق بقوله:{فقال} أي فتسبب عن هذا النصح العظيم أن قال؛ ولما كان هذا بعد أن تبعه بعضهم قال: {الملأ} وبين أن الجدال مع الضلال بعد أن بين أنهم هم الأشراف زيادة في التسلية بقوله: {الذين كفروا} وبين أنهم اقارب أعزة بقوله: {من قومه} أي الذين هم في غاية القوة لما يريدون محاولة القيام به {ما نراك} أي شيئاً من الأشياء {إلا بشراً} اي آدمياً {مثلنا} أي في مطلق البشرية، لست بملك تصلح لما لا تصلح له من الرسالة، وهذا قول البراهمة، وهو منع نبوة البشر على الإطلاق، وهو قول من يحسد على فضل الله ويعمى عن جلي حكمته فيمنع أن يكون النبي بشراً ويجعل الإله حجراً.
ولما كانت العظمة عندهم منحصرة في عظمة الأتباع قالوا: {وما نراك} ولما انفوا الرؤية عنه فتشوف السامع إلى ما يقع عليه من المعاني، بينوا أن مرادهم رؤية من اتبعه فقالوا:{اتبعك} أي
تكلف اتباعك {إلا الذين هم} أي خاصة {أراذلنا} أي كالحائك ونحوه، وليس منا رذل غيرهم، وهو جمع أرذل كأكلب جمع رذل ككلب، والرذل: الخسيس الدنيء، وهذا ينتج أنه لم يتبعك أحد له قدر؛ قالوا: و {اتبعك} عامل في قوله: {بادي الرأي} وهو ظرف أي اتبعوك بديهة من غير تأمل، فاتباعهم لا يدل على سداد لما اتبعوه من وجهين: رذالتهم في أنفسهم، وأنهم لم يفكروا فيه، لكن يضعفه إيراد الاتباع بصيغة الافتعال التي تدل على علاج ومجاذبة، فالأحسن إسناده - كما قالوه أيضاً - إلى أراذل. أي أنهم بحيث لا يتوقف ناظرهم عند أول وقوع بصره عليهم أنهم سفلة أسقاط، ويجوز أن يكون المراد «بادي رأيك» أي أنك تظن أنهم اتبعوك، ولم يتبعوك.
ولما كانوا لا يعظون إلا بالتوسع في الدنيا، قالوا:{وما نرى لكم} أي لك ولمن تبعك {علينا} وأغرقوا في النفي بقولهم: {من فضل} أي شرف ولا مال، وهذا - مع مامضى من قولهم - قول من يعرف الحق بالرجال ولا يعرف الرجال بالحق، وذلك أنه يستدل على كون الشيء حقاً بعظمة متبعه في الدنيا، وعلى كونه باطلاً بحقارته فيها، ومجموع قولهم يدل على أنهم يريدون: لو صح كون النبوة في البشر لكانت في واحد ممن أقروا له بالعلو في الأرض، وعمل {اتبعك} في {بادي} يمنعه تمادي
الاتباع على الإيمان، فانتفى الطعن بعدم التأمل {بل نظنكم كاذبين*} أي لكم هذا الوصف لازماً دائماً لأنكم لم تتصفوا بما جعلناه مظنة الاتباع مما يوجب العظمة في القلوب والانقياد للنفوس بالتقدم في الدنيا بالمال والجاه؛ فكان داؤهم بطر الحق وغمط الناس، وهو احتقارهم، وهذا قد سرى إلى أكثر أهل الإسلام، فصاروا لا يعظمون إلا بذلك، وهو أجهل الجهل لأن الرسل أتت للتزهيد في الدنيا وانظر إلى رضاهم لأنفسهم بالعدول عن البينة إلى اتباع الظن ما أردأه! وهذا افظع مما حكى هنا من قوله قريش {لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك} وأبشع؛ والبشر: الإنسان لظهور بشرته أي ظاهر جلده لأن الغالب على غيره من الحيوان سترها بالصوف أو الشعر أو الوبر أو الريش؛ والمثل: الساد مسد غيره في الحس بمعنى أنه لو ظهر للمشاهدة لسد مسده؛ والرذل: الحقير بما عليه من صفات النقص وجمعه؛ والفضل: الزيادة من الخير، والإفضال: مضاعفة الخير التي توجب الشكر.
ولما كان ختام جوابهم أشده، بدأ في جوابه برده مبيناً لضلالاتهم مغضياً عن شناعاتهم شفقة عليهم ومحبة لنجاتهم، فقال تعالى
حكاية عنه: {قال يا قوم} وشرع يكرر هذه اللفظة كل قليل تذكيراً لهم أنه منهم لتعطفهم الأرحام وتردهم القرابات عن حسد أو اتهامه إلى قبول ما يلقي إليهم من الكلام، وأشار بأداة البعد - مع قربهم - إلى مباعدتهم فيما يقتضي غاية القرب {أرأيتم} أي أخبروني {إن كنت} على سبيل الفرض منكم والتقدير {على بينة} أي برهان ساطع، وزاد ترغيباً فيه بقوله:{من ربي} أي الذي أوجدني وأحسن إليّ بالرسالة وغيرها يشهد بصحة دعواي شهادة لا يتطرق إليها عند المنصف شبهة فكيف بالظن! {وآتاني} فضلاً منه عليّ لا لمعنى فيّ أزيد عليكم به، بل {رحمة} أي إكراماً بالرسالة بعد النبوة، وعظمها بقوله:{من عنده} فيها فضل عظيم النور واضح الظهور.
ولما كانت البينة من الرحمة، وحد الضمير فقال:{فعميت} أي فتسبب عن تخصيصي بها أن أظلمت، ووقع ظلامها {عليكم} أي فعميتم انتم عنها لضعف عقولكم ولم يقع عليكم شيء من نورها، وذلك أن الدليل إذا كان أعمى عاد ضرره على التابع بالحيرة والضلال، وهو معنى قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالبناء للمفعول مشددة {أنلزمكموها} وقوله:{وأنتم لها كارهون} مع تسميته لها بينة - إشاره إلى أنها لم تعم ولا خفيت عليهم لقوة نورها وشدة ظهورها، وإنما هم معاندون في نفيهم لفضله وفضل من تبعه، والتعبير عن ذلك بالجملة الاسمية
واسم الفاعل إشارة إلى أن أفعالهم أفعال من كراهته لها ثابتة مستحكمة، وكأنه لم يكن مأموراً بالقتال كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، والآية ناظرة إلى قوله تعالى:{أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99] ويجوز أن يكون ذلك كناية عن أنهم معاندون مع قطع النظر عن الجهاد وغيره فإن الأنبياء عليهم السلام مأمرون بالمجادلة للمعاندين إلى أن يلزموهم الحجة، وهي لا تفيد إلا الإلزام في الظاهر مع الإنكار والكراهة في الباطن، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة للكاملين، وبالموعظة والخطابة للمنافقين الذي لا يعاندون ويحسنون الظن في الداعي، فيكون المعنى أن البينة لم تنفعكم لشكاسة وإعوجاج في طباعكم، فلم يبق إلا الموعظة وهي لا تفيد إلا مع حسن الظن، وأما مع الكراهة فلا ينفعكم النصح، فلا فائدة في المجادلة إلا الإلزام، وهو مع الكراهة غير نافع لكم.
ولما كان نفي ذلك عاماً للفضل الدنيوي، وكان الاتصاف بقلة ما في اليد إنما يكون ضاراً إذا كان صاحبه يسأل غيره، نفى عنه هذا اللازم العائب فقال مجيباً عن نفيهم الفضل عنه وعن أتباعه بأنه قد يرد منهم على ذلك ثواباً دنيوياً:{ويا قوم} استعطافاً لهم {لا أسئلكم} أي في وقت من الأوقات {عليه} أي الإنذار كما يأخذ منكم من ينذركم أمر من يريد منكم من ينذركم أمر من يريد بكم بعض ما تكرهون
في أمور دنياكم حتى تكون عاقبة ذلك أن تتهموني {مالاً إن} أي ما {أجري إلا على الله} أي الذي له الجلال والإكرام فبيده الخزائن كلها، ونبه بهذا على أنه لا غرض له من عرض دنيوي ينفر المدعو عنه فوجب تصديقه، وفيه تلقين للجواب عن قول قريش: لولا ألقي إليه كنز - كما سيأتي بأبين من ذلك عقب قصة يوسف عليه السلام في قوله: {وما تسئلهم عليه من أجر} لأن هذه القصص كالشيء الواحد متتابعة في بيان حقية هذا القرآن والتأسية في الاقتداء بالرسل في الصبر على أداء جميع الرسالة مع ما يلزم ذلك من جليل العبر وبديع الحكم، فلما اتحد الغرض منها مع تواليها اتحدت متفرقاتها.
ولما كان التعبير برذالة المتبع مما ينفر أهل الدنيا عن ذلك التابع، بين لهم أن شأنه غير شأنهم وأنه رقيق على من آمن به رفيق به رحيم له وإن كان متأخراً في الدنيا محروماً منها خوفاً من الله الذي اتبعوه فيه فقال:{وما أنا} وأغرق في النفي بقوله: {بطارد الذين آمنوا} أي أقروا بألسنتهم بالإيمان؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم {إنهم ملاقوا ربهم} أي المحسن إليهم بعد إيجادهم وترتيبهم لهدايتهم، فلو طردتهم لشكوني إليه فلا أرى لكم وجهاً في الإشارة إلى طردهم ولا في شيء مما أجبتموني به {ولكني أراكم} أي أعلمكم علماً هو كالرؤية {قوماً تجهلون*} أي تفعلون أفعال أهل الجهل فتكذبون
الصادق وتعيرون المؤمنين بما لا يعنيهم وتنسون لقاء الله وتوقعون الأشياء في غير مواقعها، وفي تعبيره ب {تجهلون} دون {جاهلين} إشارة إلى أن الجهل متجدد لهم وهو غير عادتهم استعطافاً لهم إلى الحلم، ثم عطف إلى صريح الاستعطاف في سياق محذر من سطوات الله فقال:{ويا قوم} أي الذين هم أعز الناس عليّ {من ينصرني من الله} أي الذي له جميع العظمة {إن طردتهم} ولو لم يشكوني إليه لاطلاعه على ما دق وجل: ولما تم الجواب عن ازدرائهم، سبب عنه الإنكار لعدم تذكرهم ما قاله لهم بما يجدونه في أنفسهم فقال:{أفلا تذكرون*} أي ولو أدنى تذكر - بما يشير إليه الإدغام - فتعلموا أن من طرد صديقاً لكم عاديتموه وقصدتموه بالأذى، فترجعوا عما طرأ لكم من جهل إلى عادتكم مِنَ الحلم الباعث على التأمل الموقف على الحق؛ والطرد: إبعاد الشيء على جهة الهوان؛ والقوم: الجماعة الذين يقومون بالأمر، اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ والتذكير: طلب معنى قد كان حاضراً للنفس، والتفكر طلبه وإن لم يكن حاضراً.
ولما كان نفيهم للفضل شاملاً للأموال وعلم الغيب، أقرهم على ذلك منبهاً على خطئهم فيه بأنه لم يقل بينهم قط ما يكون سبباً له، فقال عاطفاً على قوله {لا أسئلكم عليه أجراً} ؛ {ولا أقول لكم} أي في وقت من الأوقات {عندي خزائن الله} أي الملك الأعظم فأتفضل عليكم بها؛
ولما كان من الجائز أن يمكن الله من يشاء من خزائن الأرزاق ونحوها فيسوغ له أن يطلق ملك ذلك مجازاً، ولا يجوز أن يمكنه من علم الغيب، وهو ما غاب عن الخلق كلهم، لأنه خاصته سبحانه، قال عاطفاً على {أقول} لا على المقول:{ولا أعلم الغيب} لا حقيقة ولا مجازاً فأعلم وقت ما توعدون به أو ما في قلوب المؤمنين مما قد يتوهم به من السوء، وأعلمهم أنه لا مانع من إرسال البشر بقوله:{ولا أقول إني ملك} فتكون قوتي أفضل من قوتكم أو خلقي أعظم قدراً من خلقكم ونحو ذلك من الفضل الصوري الذي جعلتموه هو الفضل، فلا تكون الآية دليلاً على أفضلية الملائكة، وتقدم في الأنعام سر إسقاطه {لكم} .
ولما كان تعريضهم بنفي الملكية عنه من باب الإزراء، أتبعه تأكيد قبوله لمن آمن كائناً من كان وإن ازدروه بقوله:{ولا أقول للذين} أي لأجل الذين {تزدري} أي تحتقر {أعينكم} أي تقصرون به عن الفضل عند نظركم له وتعيبونه {لن يؤتيهم الله} أي الذي له الكمال كله {خيراً} ولما كان كأنه قيل: ما لك لا تقول ذلك؟ أجاب بما تقديره: لأني أعلم ضمائرهم ولا أحكم إلا على الظاهر: {الله} أي المحيط بكل شيء {أعلم} أي حتى منهم {بما في أنفسهم} ومن المعلوم أنه لا يظلم أحداً، فمن كان في نفسه خير جازاه عليه، ويجوز
أن يكون هذا راجعاً إلى {بادي الرأي} بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم كما تقدم؛ ثم علل كفه عن ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم ظلمه على ذلك التقدير: {إني إذاً} أي إذا قلت لهم ذلك {لمن الظالمين} اي العريقين في وضع الشيء في غير موضعه؛ والخزائن: أخبية المتاع الفاخرة، وخزائن الله مقدوراته لأنه يوجد منها ما يشاء، وفي وصفها بذلك بلاغة؛ والغيب: ذهاب الشيء عن الإدراك، ومنه الشاهد خلاف الغائب، وإذا قيل: علم غيب، كان معناه: علم من غير تعليم؛ والازدراء: الاحتقار، وهو افتعال من الزراية، زريت عليه - إذا عبته، وأزريت عليه - إذا قصرت به؛ والملك أصله مألك من الألوكة وهي الرسالة.
فلما استوفى نقض ما أبرموه في زعمهم من جوابهم على غاية الإنصاف واللين والاستعطاف، استأنف الحكاية عنهم بقوله:{قالوا} أي قول من لم يجد في رده شبهة يبديها ولا مدفعاً يغير به: {يا نوح قد جادلتنا} أي اردت فتلنا وصرفنا عن آرائنا بالحجاج وأردنا صرفك عن رأيك بمثل ذلك {فأكثرت} أي فتسبب عن ذلك وعن تضجرنا أنك أكثرت {جدالنا} أي كلامنا على صورة الجدال {فأتنا} أي فتسبب عن ذلك وعن تضجرنا أن نقول لك: لم يصح
عندنا دعواك، ائتنا {بما تعدنا} من العذاب {إن كنت} أي كوناً هو جبلة لك {من الصادقين*} أي العريقين في الصدق في أنه يأتينا فصرحوا بالعناد المبعد من الإنصاف والاتصاف بالسداد وسموه باسمه ولم يسمحوا بأن يقولوا له: يا ابن عمنا، مرة واحدة كما كرر لهم: يا قوم، فكان المعنى أنا غير قابلين لشيء مما تقول وإن أكثرت وأطلت - بغير حجة منهم بل عناداً وكبراً فلا تتعب، بل قصر الأمر مما تتوعدنا به، وسموه وعداً سخرية به، أي أن هذا الذي جعلته وعيداً هو عندنا وعد حسن سار باعتبار أنا نحب حلوله، المعنى أنك لست قادراً على ذلك ولا أنت صادق فيه، فإن كان حقاً فائتنا به، فكأنه قيل: ماذا قال لهم؟ فقيل: {قال} جرياً على سنن قوله {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} : {إنما يأتيكم به الله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء فتبرأ من الحول والقوة ورد ذلك إلى من هو له، وأشار بقوله:{إن شاء} إلى أنه مخير في إيقاعه وإن كان قد تقدم قوله به إرشاداً إلى أنه سبحانه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء، بل ولا يسأل عما يفعل وإن كان لا يقع إلا ما أخبر به؛ ثم بين لهم عجزهم وخطأهم في تعرضهم للهلاك فقال:{وما أنتم بمعجزين*} أي في شيء من الأوقات لشيء مما يريده بكم سبحانه؛ والإكثار: الزيادة على مقدار الكفاية؛ والمجادلة: المقابلة بما يفتل الخصم عن مذهبه بحجة أو شبهة، وهو من الجدل وهو شدة الفتل والمطلوب به الرجوع عن المذهب، والمطلوب
بالحجاج ظهور الحجة، فهو قد يكون مذموماً كالمراء، وذلك حيث يكون للتشكيك في الحق بعد ظهوره، وحيث قيد الجدال ب
{التي هي أحسن} [العنكبوت: 46] فالمراد به إظهار الحق.
ولما بين أنهم إنما هم في قبضته سبحانه، زاد في بيان عظمته وأن إرادته تضمحل معها كل إرادة في سياق دال على أنه بذلك ناصح لهم وأن نصحه خاص بهم، فقال جواباً لما وهموا من أن جداله لهم كلام بلا طائل:{ولا ينفعكم نصحي} وذكر إرادته لما يريد أن يذكره من إرادة الله فقال: {إن أردت} أي جمعت إلى فعل النصح إرادة {أن أنصح لكم} بإعلام موضع الغي ليتقى والرشد ليتبع، وجزاءه محذوف تقديره: لا ينفعكم نصحي {إن كان الله} أي الذي له الأمر كله {يريد أن يغويكم} أي يضلكم ويركبكم غير الصواب فإنه إرادته سبحانه تغلب إرادتي وفعلي معاً لا ينفعكم شيء إشارة إلى أنكم لا تقدرون على دفع العذاب بقوة فتكونوا غالبين، ولا بطاعة فتكونوا محبوبين مقربين إن كان الله يريد إهلاككم بالإغواء، وأن أردت أنا نجاتكم، ولم يقل: ولا ينفعكم نصحي إن نصحت لكم، إشارة إلى أني لا أملك إلا إرادتي لنصحكم، فإذا أردته فغاية ما يترتب عليه من فعلي وقوع النصح وإخلاصه لكم، وأما النفع به فلا شيء منه إليّ، بل هو تابع لمراد الله، فإن أراد غوايتكم حصلت
لا محالة، ولم يقع ما قد يترتب على النصح من عمل المنصوح بمقتضاه المستجلب لنفع المستدفع للضر؛ ثم رغبهم في إحسانه ورهبهم من انتقامه معللاً لعدم ما لا يريده:{هو ربكم} أي الموجد لكم المدبر لأموركم فهو يتصرف وحده لما يريد.
ولما كان التقدير: فمنه مبدؤكم، عطف عليه قوله:{وإليه} أي لا إلى غيره {ترجعون*} أي بأيسر أمر وأهونه بالموت ثم البعث فيجازيكم على أعمالكم كما هي عادة الملوك مع عمالهم.
ولما كان مضمون هذه الآية نحو مضمون قوله: {إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} فإن النذير من ينصح المنذر، والوكيل هو المرجوع إليه في أمر الشيء الموكول إليه، وما قبلها تعريض بنسبة نوح عليه السلام إلى الافتراء، تلاه بما تلا به ذاك من النسبة إلى الافتراء وإشارة إلى أن هذه القصص كلها للتسلية في أمر النذارة والتأسية فكأنه قيل: أيقولون لك مثل هذه الأقوال فقد قالوها لنوح كما ترى، ثم والى عليهم من الإنذار ما لم يطعموا معه في ترك شيء مما أمرناه به أعجبهم أو أغضبهم، فلك به أسوة وحسبك به قدوة في أن تعد كلامهم عدماً وتقبل على ما أرسلناك به من بذل النصيحة بالنذارة:{أم يقولون} في القرآن {افتراه} إصراراً على ما تقولوه فدمغه الدليل وأدحضته الحجة فكأنه قيل: نعم، إنهم يقولون ذلك،
فقيل: لا عليك فإنه قول يقصدون به مجرد العناد وهم يعلمون خلافه بعد ما قام عليهم من الحجج التي وصلوا معها إلى عين اليقين فلا يهمنك قولهم هذا، فإنهم يجعلونه وسيلة إلى تركك بعض ما يوحى إليك فلا تفعل، بل {قل} في جواب قولهم هذا {إن افتريته} أي قطعت كذبه {فعليَّ} أي خاصاً بي {إجرامي} أي وباله وعقابه دونكم وإذا استعلى عليَّ الإجرام عرف ذلك لأرباب العقول وظهر ظهوراً أفتضح به وأنتم أعرف الناس بأني أبعد من ذلك مما بين اجتماع الضدين وارتفاع النقيضين لما تعلمون مني من طهارة الشيم وعلو الهمم وطيب الذكر وشريف القدر وكريم الأمر، هذا لو كنت قادراً على ذلك فكيف وأنا وأنتم في العجز عنه سواء {وأنا بريء} أي غاية البراءة {مما تجرمون*} أي توجدون إجرامه، ليس عليَّ من إجرامكم عائد ضرر بعد أن أوضحته لكم وكشقت عنكم غطاء الشبه، إنما ضرره عليكم فاعملوا على تذكر هذا المعنى فإن سوق جوابهم على هذا الوجه أنكى لهم من إقامة حجة أخرى لأنهم يعلمون منه أنه إلزام لهم بالفضيحة لانقطاعهم لدى من له وعي، ويمكن أن يكون التقدير: هل انتبه قومك يا محمد فعلموا قبح مثل هذه الحال وأنها حال المعاندين، فرجعوا تكرماً عن ركوب مثلها واستحياء {أم يقولون افتراه} أي كذبه متعمداً استمراراً على العناد وتمادياً في البعاد كما تمادى قوم نوح فيحل
بهم ما حل بهم، أي هل رجعوا بهذا المقدار من قصة قوم نوح أم هم مستمرون على ما نسبوك إليه في أوائل السورة من افترائه فيحتاجون إلى تكميل القصة بما وقع من عذابهم ليخافوا مثل مصابهم؛ وافتراء الكذب: افتعاله من قبل النفس فهو أخص من مطلق الكذب لأنه قد يكون تقليداً للغير.
ولما فرغ من هذه الجملة التي هي المقصود بهذا السياق كله وإن كانت اعتراضية في هذه القصة، رجع إلى إكمالها بياناً لأن نوحاً عليه السلام كان يكاشف قومه بجميع ما أمر به وإن عظمت مشقته عليهم بحيث لم يكن قط موضع رجاء لهم في أن يترك شيئاً منه وتحذيراً لكل من سمع قصتهم من أن يحل به ما حل بهم فقال:{وأوحي} أي من الذي لاموحي إلا هو وهو ملك الملوك {إلى نوح} بعد تلك الخطوب {أنه لن يؤمن} بما جئت به {من قومك إلا من} ولما كان الذي يجيب الإنسان إلى ما يسأله فيه يلوح عليه مخايل قبل الإجابة يتوقع السائل بها الإجابة، قال:{قد آمن فلا} أي فتسبب عن علمك بأنه قد تم شقاءهم أنا نقول لك: لا {تبتئس} أي يحصل لك بؤس، أي شدة يعظم عليك خطبها بكثرة تأملك في عواقبها {بما كانوا} أي بما جبلوا عليه {يفعلون*} فإنا نأخذ لك بحقك منهم قريباً، وكأنه كان أعلمه أنهم إن لم يجيبوه أغرقهم وأنجاه ومن معه في فلك يحملهم فيه على متن الماء فقال:{واصنع الفلك} حال
كونك محفوظاً {بأعيننا} نحفظك أن تزيغ في عملها، وجمع مبالغة في الحفظ والرعاية على طريق التمثيل {ووحينا} فنحن نلهمك أصلح ما يكون من عملها وأنت تعلم ما لنا من العظمة التي تغلب كل شيء ولا يتعاظمها شيء، فلا تهتم بكونك لا تعرف صنعتها؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله أوحى إليه أن يصنعه مثل جؤجؤ الطائر - أي صدره. وأشار إلى شفقته على قومه وحبه لنجاتهم كما هو حال هذا النبي الكريم مع أمته فقال:{ولا تخاطبني} أي بنوع مخاطبة وإن قلت {في الذين ظلموا} أي أوجدوا الظلم واستمروا عليه في أن أنجيهم؛ ثم علل النهي بأن الحكم فيهم قد انبرم فقال: {إنهم مغرقون*} قد انبرم الأمر بذلك؛ والابتئاس: حزن في استكانة، لأن أصل البؤس الفقر والمسكنة؛ والوحي: إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء، وقد يكون إفهاماً من غير كلام بإشارة ونحوها، وقد يكون بكلام خفي؛ والفلك: السفينة، يؤنث ويذكر، واحده وجمعه سواء، وأصله الإدارة من الفلكة.
ولما أمره تعالى ونهاه، أخبر أنه امتثل ذلك بقوله عاطفاً على ما تقديره: فأيس من إيمان أحد منهم فترك دعاءهم وشرع يسلي نفسه: {ويصنع} أي صنعة ماهر جداً، له ملكة عظيمة بذلك الصنع {الفلك} فحلى فعله حالُ علمه بأنه سبحانه بت الأمر بأنه كان يعمل ما أمره به
سبحانه ولم يخاطبه فيهم ولا أسف عليهم، وأشار إلى أنهم ازدادوا بغياً بقوله:{وكلما} أي والحال أنه كلما {مرَّ عليه ملأ} أي أشراف {من قومه} وأجاب «كلما» بقوله: {سخروا منه} أي ولم يمنعهم شرفهم من ذلك، وذلك أنهم رأوه يعاني ما لم يروا قبله مثله ليجري على الماء وهو في البر وهو على صفة من الهول عظيمة فعن الحسن أن طوالها ألف ذراع ومائتا ذراع وعرضها ستمائة، فقالوا: يانوح! ما تصنع؟ قال: أبني بيتاً على الماء، ويجوز أن يكون {سخروا} : صفة لملإ، وجواب {كلما} {قال} ، ولما أيأسه الله من خيرهم، ترك ما كان من لينه لهم واستعطافهم فعلم أن ذلك ما كان إلا له سبحانه، فقال حاكياً عنه استئنافاً:{قال إن تسخروا منا} ولما كانوا يظنون أنه غائب في عمله كان عندهم موضعاً لخزي والسخرية، وكان هو صلى الله عليه وسلم عالماً بأن عملهم سبب لخزيهم بالعذاب المستأصل، فكان المعنى: إن تسخروا منا - أي مني وممن يساعدني - لظن أن عملنا غير مثمر {فإنا نسخر} أي نوجد السخرية {منكم} جزاء لكم {كما تسخرون} منا الآن لأن عملنا منج وعملكم ليس مقتصراً على الضياع بل هو موجب لما توعدون من العذاب فأنتم المخزيون دوني.
ولما كان قوله {نسخر منكم} واقعاً موقع هذا الإخبار، حسن الإتيان بالفاء المؤذنة بتسبب العلم المذكور عنه في قوله:{فسوف تعلمون} أي بوعد لا خلف فيه
{من يأتيه عذاب يخزيه} أي يفضحه فيذله، وكأن المراد به عذاب الدنيا {ويحل عليه} أي حلول الدين الذي لا محيد عنه {عذاب مقيم*} وهو عذاب الآخرة، وقد مضى نحوه في الأنعام عند قوله {فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار} ؛ والسخرية: إظهار ما يخالف الإبطان على جهة تفهم استضعاف العقل، من التسخير وهو التذليل استضعافاً بالقهر، وهي تفارق اللعب بأن فيها خدعة استنفاض، فلا تكون إلا بحيوان، واللعب قد يكون بجماد لأنه مطلق طلب الفرح؛ والخزي: العيب الذي تظهر فضيحته والعار به، ونظيره الذل والهوان؛ واستمر ذلك دأبه ودأبهم {حتى إذا جاء أمرنا} أي وقت إرادتنا لإهلاكم {وفار} أي غلا وطفح {التنور} وعن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد أنه الحقيقي الذي يخبز فيه، وهذا هو الظاهر فلا يعدل عنه إلا بدليل، لأن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل عبث كما قاله أهل الأصول {قلنا} بعظمتنا {احمل} ولما كان الله تعالى قد أمره أن يجعل لها غطاء - كما قاله أهل التفسير - لئلا تمتلىء من شدة الأمطار، كانت الظرفية فيها بخلاف غيرها من السفن واضحة فلذلك قال:{فيها} أي السفينة {من كل زوجين} من الحيوانات، والزوج فرد يكون معه آخر لا يكمل نفعه إلا به {اثنين} ذكراً وأنثى {وأهلك} أي احملهم، والأهل:
العيال {إلا من سبق} غالباً {عليه القول} بأني أغرقه وهو امرأته وابنه كنعان {ومن} أي واحمل فيها من {آمن} قال أبو حيان: وكانت السفينة ثلاث طبقات: السفلى للوحوش، والوسطى للطعام والشراب، والعليا له ولمن آمن معه؛ ثم سلى المخاطب بهذه القصص صلى الله عليه وسلم وذكره نعمته بكثرة من اتبعه مع صدعهم بمؤلم الإنذار على قصر الزمان دون نوح عليهم السلام مع تطاول الزمن فقال:{وما} أي والحال أنه ما {آمن} كائناً {معه} أي بإنذاره {إلا قليل*} بسبب تقديرنا لا باغضائهم بما كوفحوا به من الإنذار؛ والتنور - قال أبو حيان: وزنه فعول عند أبي علي وهو أعجمي، وقال ثعلب: وزنه تفعول من النور، وأصله تنوور، همزت الواو ثم خففت وشدد الحرف الذي قبلها، والزوج قد كثر على الرجل الذي له امرأة؛ قال الرماني: وقال الحسن في
{ومن كل شيء خلقنا زوجين} [الذاريات: 49] : السماء زوج والأرض زوج، والشتاء زوج، والصيف زوج، والليل زوج، والنهار زوج، حتى يصير الأمر إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء، ومعنى ذلك في صحيح البخاري وأقل ما قيل فيمن كان في السفينة ثمانية: نوح وامرأة له، وثلالة بنين: سام وحام ويافث، ونساؤهم؛ وأكثر ما قيل أنهم ثمانون - روي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ولما أتاه الأمر بذلك، بادر الامتثال فجمع من أمره الله به إلى السفينة بعد أن هيأها لهم {وقال} أي لمن أمر بحمله {اركبوا} ولما كانت الظرفية أغلب على السفينة قال:{فيها} أي السفينة؛ ولما أمرهم بالركوب فركبوا، استأنف قوله، أو أمرهم بالركوب قائلين:{بسم الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {مجراها ومرساها} أي إجرائها وإرساءها ومحلهما ووقتهما، وقرأ الحسن وقتادة وحميد العرج وإسماعيل بن مجالد عن عاصم بكسر الراء والسين كسراً خالصاً بعده ياءان خالصتان على أن الاسمين صفتان للجلالة؛ ثم علل نجاتهم بالإجراء والإرساء اعترافاً بأنه لا نجاة إلا بعفوه بقوله:{إن ربي} أي المحسن إلي بما دبر مني هذا الأمر وغيره، وزاد في التأكيد تطبيقاً لقلوب من معه معرفاً لهم بأن أحداً لن يقدر الله حق قدره وأن العبد لا يسعه إلا الغفران فقال:{لغفور} أي بالغ الستر للزلات والهفوات {رحيم*} أي بالغ الإكرام لم يريد، فركبوها واستمروا سائرين فيها يقولون: بسم الله {وهي} أي والحال أنها {تجري بهم} .
ولما كان الماء مهيئاً للإغراق، فكان السير على ظهره من الخوارق، وأشار إلى ذلك بالظرف فقال:{في موج} ونبه على علوه بقوله: {كالجبال} أي في عظمه وتراكمه وارتفاعه، فالجملة حال من فركبوها، المقدر لأنه لظهوره في قوة الملفوظ، وكان هذه الحال مع
أن استدامة الركوب ركوب إشارة إلى شرعة امتلاء الأرض من الماء وصيرورته فيها أمثال الجبال عقب ركوبهم السفينة من غير كبير تراخ، قالوا: وكان أول ما ركب معه الذرة، وآخر ما ركب معه الحمار، وتعلق إبليس بذنبه فلم يستطع الدخول حتى قال له نوح عليه السلام: ادخل ولو كان الشيطان معك - كذا قالوا، وقيل: إنه منع الحية والعقرب وقال: إنكما سبب الضر، فقالا: احملنا ولك أن لا نضر أحداً ذكرك، فمن قال {سلام على نوح في العالمين * إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين} [الصافات: 79-80] لم تضراه. ولما كان ابتداء الحال في تفجر الأرض كلها عيوناً وانهمار السماء انهماراً - مرشداً إلى أن الحال سيصير إلى ما أخبر الله به من كون الموج كالجبال لا ينجي منه إلا السبب الذي أقامه سبحانه، تلا ذلك بأمر ابن نوح فقال عاطفاً على قوله {وقال اركبوا} {ونادى نوح ابنه} أي كنعان وهو لصلبه - نقله الرماني عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك {وكان} أي الابن {في معزل} أي عن أبيه في مكانه وفي دينه لأنه كان كافراً، وبين أن ذلك المعزل كان على بعض البعد بقوله:{يا بني} صغَّره تحنناً وتعطفاً {اركب} كائناً {معنا} أي في السفينة لتكون من الناجين {ولا تكن} أي بوجه من الوجوه {مع الكافرين*} أي في دين ولا مكان إشارة إلى أن حرص الرسل عليهم السلام
وشفقتهم - وإن كانت مع رؤية الآيات العظام والأمور الهائلة - ليست سبباً للين القلوب وخضوع النفوس ما لم يأذن الله، انظر إلى استعطاف نوح عليه السلام بقوله {يا بني} مذكراً له بالنبوة مع تصغير التحنن والتراؤف وفظاظة الابن مع عدم سماحه بأن يقول: يا أبت، ولم يلن مع ما رأى من الآيات العظام ولا تناهى لشيء منها عن تقحم الجهل بدلاً من العلم وتعسف الشبهة بدلاً من الحجة.
ولما كان الحال حال دهش واختلال. كان السامع جديراً بأن لا يصبر بل يبادر إلى السؤال فيقول: فما قال؟ فقيل: {قال} قول من ليس له عقل تبعاً لمراد الله {سآوي إلى جبل يعصمني} أي بعلوه {من الماء} أي فلا أغرق {قال} أي نوح عليه السلام {لا عاصم} أي لا مانع من جبل ولا غير موجود {اليوم} أي لأحد {من أمر الله} أي الملك الأعظم المحيط أمره وقدرته وعلمه، وهو حكمه بالغرق على كل ذي روح لا يعيش في الماء {إلا من رحم} أي إلا مكان من رحمة الله فإنه مانع من ذلك وهو السفينة، أو لكن من رحمه الله فإن الله يعصمه.
ولما ركب نوح ومن أمره الله به وأراده. ولم تبق حاجة في تدرج ارتفاع الماء، فعلاً وطماً وغلب وعتاً فهال الأمر وزاد على الحد والقدر، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره: فلم يسمع ابنه ذلك
منه بل عصى أباه كما عصى الله فأوى إلى الجبل الذي أراده فعلاً الماء عليه ولم يمكنه بعد ذلك اللحاق بأبيه ولا الوصول إليه: {وحال بينهما} أي بين الابن والجبل أو بينه وبين أبيه {الموج} المذكور في قوله {في موج كالجبال} {فكان} أي الابن بأهون أمر {من المغرقين*} وهم كل من لم يركب مع نوح عليه السلام من جميع أهل الأرض؛ قال أبو حيان: قل كانا يتراجعان الكلام فما استتمت لمراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه وحيل بينه وبين نوح عليه السلام فغرق - انتهى. والركوب: العلو على ظهر الشيء، ركب الدابة والسفينة والبر والبحر؛ والجري: مر سريع؛ يقال: هذه العلة تجري في أحكامها، أي تمر من غير مانع، والموج جمع موجة - لقطعة عظيمة من الماء الكثير ترتفع عن حملته، وأعظم ما يكون ذلك إذا اشتدت الريح؛ والجبل: جسم عظيم الغلظ شاخص من الأرض هو لها كالوتد؛ والعصمة: المنع من الآفة {وقيل} أي بأدنى إشارة بعد هلاك أهل الأرض وخلوها من الكافرين وتدمير من في السهول والجبال من الخاسرين، وهو من إطلاق المسبب - وهو القول - على السبب - وهو لإرادة - لتصوير أمر ومأمور هو في غاية الطاعة فإنه أوقع في النفس.
ولما كان كل شيء دون مقام الجلال والكبرياء والعزة بأمر لا يعلمه إلا الله، دل على ذلك بأداة البعد فقال {يا أرض ابلعي} أي اجذبي من غير مضغ إلى مكان خفي بالتدريج، وعين المبلوع لئلا يعم فتبتلع كل شيء على ظهرها من جبل وغيره، ولذلك أفرد ولم يجمع فقال:{ماءك} أي الذي تجدد على ظهرك للإغراق ليكون كالغذاء للآكل الذي يقوي بدنه فيقوى به على الإنبات وسائر المنافع وجعله ماءها لاتصاله بها اتصال الملك بالمالك {ويا سماء أقلعي} أي أمسكي عن الإمطار، ففعلتا مبادرتين لأمر الملك الذي لا يخرج عن مراده شيء {وغيض الماء} أي المعهود، حكم عليه بالدبوب في أعماق الأرض، من المتعدي فإنه يقال: غاض الماء وغاضه الله، كما يقال: نقض الشيء ونقضته أنا {وقضي الأمر} أي فرغ وانبتّ وانبرم في إهلاك من هلك ونجاة من نجا كما أراد الجليل على ما تقدم به وعده نوحاً عليه السلام، لم يقدر أحد أن يحبسه عنهم ولا أن يصرفه ولا أن يؤخره دقيقة ولا أصغر منها. فليحمد الله من أخر عنه العذاب ولا يقل ما «يحبسه» لئلا يأتيه مثل ما أتى هؤلاء أو من بعدهم {واستوت} أي استقرت واعتدلت السفينة {على الجودي} إشارة باسمه إلى أن الانتقام العام قد مضى، وما بقي إلا الجود بالماء والخير والخصب والرحمة العامة، وهو الجبل بالموصل بعد خمسة أشهر؛ قال قتادة: استقلت بهم
لعشر خلون من رجب وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت بهم على الجودي شهراً، وهبط بهم يوم عاشوراء {وقيل} أي إعلاماً بهوان المهلكين والراحة منهم {بعداً} هو من بعد - بالكسر مراداً به البعد من حيث الهلاك، فإن حقيقته بعدُ بعيد لا يرجى منه عود، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء، وعبر بالمصدر لتعليقه باللام الدالة على الاستحقاق والختصاص {للقوم} أي المعهودين في هذه القصة التي كان فيها من شدة القيام فيما يحاولونه ما لا يعلمه أحد إلا الله {الظالمين*} أي العريقين في الظلم، وهذه الآية تسع عشرة لفظة فيها أحد وعشرون نوعاً من البديع - عدها أبو حيان وقال: وروي أن أعرابياً سمعها فقال: هذا كلام القادرين. وذكر الرماني عدة من معانيها، منها إخراج الأمر على جهة التعظيم لفاعله من غير معاناة ولا لغوب، ومنا حسن تقابل المعاني، ومنها حسن ائتلاف الألفاظ، ومنها حسن البيان في تصوير الحال، ومنها الإيجاز من غير إخلال، ومنها تقبل الفهم على أتم الكمال؛ والبلع: إجراء الشيء في الحلق إلى الجوف؛ والإقلاع: إذهاب الشيء من أصله حتى لا يبقى له أثر؛ والغيض: غيبة الماء في ألأرض على جهة النشف وإبراز الكلام على البناء للمفعول أدل على الكبرياء والعظمة للفاعل للإشارة إلى أنه معلوم لأنه لا يقدر على مثل هذه الأفعال غيره، ونقل
الأصبهاني عن صاحب المفتاح فيها كلاماً أغلى من الجوهر.
ولما كان الاستثناء من أهله في قوله: {إلا من سبق عليه القول} يجوز أن يراد به امرأته فقط، فتكون نجاة ابنه جائزة، وكان ما عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من فرط الشفقة على الخلق لا سيما الأقارب يحملهم على السعي في صلاحهم ما كان لذلك وجه كما تقدم مثل ذلك في قوله تعالى {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] لأن أجنحة الخلق كسيرة وأيديهم قصيرة وأمرهم ضعيف وحالهم رث، فأدنى هوان يورثهم الخسران، وأما جناب الحق ففسيح وشأنه عظيم وأمره عليّ، فلا يلحقه نقص بوجه ولا يدانيه ضرر ولا يعتري أمره وهن، لما كان ذلك كذلك، سأل نوح عليه السلام نجاة ولده كما أخبر عنه تعالى في قوله:{ونادى نوح ربه} أي الذي عوده بالإحسان الجزيل، ودل سبحانه بالعطف بالفاء دون أن يأتي بالاستئناف المفسر للنداء على أن ما ذكر هنا من نداء نوح عليه السلام بعض ندائه وأن هذا المذكور مرتب معقب على شيء منه سابق عليه أقربه أن يكون ما أرشده إليه سبحانه في سورة المؤمنين ويشعر به قوله تعالى بعد هذا جواباً له {يا نوح اهبط بسلام منا} فيكون
تقدير الكلام قال: رب أنزلني منزلاً مباركاً - وما قدر له من الكلام {فقال} أي عقبة لما حمله على ذلك من رحمة النبوة وشفقة الأبوة وسجية البشر متعرضاً لنفحات الرحمة وعواطف العفو؛ أو الفاء تفصيل لمجمل «نادى» مثل ما في: توضأ فغسل {رب إن ابني} أي الذي غرق {من أهلي} أي وقد أمرتني بحمل أهلي، وذلك الأمر محتمل للإشارة إلى إرادة نجاتهم {وإن وعدك الحق} أي الكامل في نجاتهم إلا من سبق عليه القول، وقد علمت ذلك في المرأة الكافرة {وأنت أحكم الحاكمين*} لأنك أعلمهم، ومن كان أعلم كان أحكم فتعلم أن قولك {إلا من سبق عليه القول} يصح باستثنائها وحدها، فإن كان ابني ممن نجا فأتني به؛ وإن كان هذا الدعاء عند حيلولة الموج بينهما فالمعنى: فلا تهلكه {قال يا نوح} وأكد في نفي ما تقدم منه إثباته فقال: {إنه ليس من أهلك} أي المحكوم بنجاتهم لإيمانهم وكفره، ولهذا علل بقوله:{إنه عمل} أي ذو عمل، ولكنه جعله نفس العمل في قراءة الجماعة مبالغة في ذمه، وذلك لأن الجواهر متساوية الأقدام في نفس الوجود لا تشرف إلا بآثارها، فبين أنه ليس فيه أثر صالح أصلاً، ويثبت قراءة يعقوب والكسائي بالفعل أن من باشر السوء مطلق مباشرة وجبت البراءة منه، ولا سيما للأمر فلا يواصل إلا بإذن، وعبر بالعمل دون الفعل لزعمه أن أعماله مبنية على العلم، وأكده لما لا يخص من سؤال نوح عليه السلام هذا
{غير صالح} بعلمي، وقد حكمت في هذا الأمر أني لا أنجي منه إلا من اتصف بالصلاح وأنا عليم بذات الصدور، وأنت يخفي عليك كثير من الأمور فربما ظننت الإيمان بمن ليس بؤمن لبنائك الأمر على ما نراه من ظاهره؛ وقد نقل الرماني عن الحسن أنه كان ينافق بإظهار الإيمان، وهذا يدل على أن الموافق في الدين ألصق ما يكون وإن كان في غاية البعد في النسب، والمخالف فيه أبعد ما يكون وإن كان في غاية القرب في النسب.
ولما تسبب عن هذا الجواب أن ترك السؤال كان أولى، ذكر أمراً كلياً يندرج فيه فقال:{فلا تسألن} أي بنوع من أنواع السؤال {ما ليس لك به علم} فلا تعلم أصواب السؤال فيه أم لا، لأن اللائق بأمثالك من أولى القرب بناء أمورهم على التحقيق وانتظار الإعلام منا، انظر إلى قول موسى عليه السلام في حديث الشفاعة في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها» ومن المعلوم أن تلك النفس كانت كافرة من آل فرعون {إني أعظك} بمواعظي كراهية {أن تكون} أي كوناً تتخلق به {من الجاهلين*} أي في عداد الذين يعملون بالظن لأنهم لا سبيل لهم إلى الوقوف على حقائق الأمور من قبلنا فتسأل مثل ما يسألون.
ولما انجلى للسامع ما هو فيه صلى الله عليه وسلم من علو المقام وعظيم
الشأن الموجب للعتاب على كثير من الصواب فتشوف للجواب، استأنف بيانه بقوله:{قال} أي مبادراً على ما يقتضيه له من كمال الصفات {رب} أي أيها المحسن إليّ، وأكد دلالة للسامعين على عظيم رغبته فقال:{إني أعوذ بك أن} أي من أن {أسألك} أي في شيء من الأشياء {ما ليس لي به علم} تأدباً بإذنك واتعاظاً بموعظتك وارتقاء لما رقيتني إليه من علو الدرجة ورفيع المنزلة {وإلا تغفر لي} أي الآن وفي المستقبل {وترحمني} أي تستر زلاتي وتمحها وتكرمني {أكن من الخاسرين*} أي العريقين في الخسارة فكأنه قيل: ماذا أجيب عن ذلك؟ فقيل: {قيل} بالبناء للمفعول دلالة على العظمة والجلال الذي تكون الأمور العظيمة لأجله بأدنى إشارة {يا نوح اهبط} أي من السفينة {بسلام} أي عظيم {منا} أي ومن سلمنا عليه فلا هلك يلحقه {وبركات} أي خيرات نامية عظيمة صالحة {عليك} أي خاصة بك {وعلى أمم} ناشئة {ممن معك} لكونهم على ما يرضينا ولا نمتعهم بالدنيا إلا قليلاً، ولهم إذا رجعوا إلينا نعيم مقيم، وقد دخل في هذا الكلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة {وأمم} أي منهم {سنمتعهم} في الدنيا بالسعة في الرزق والخفض في العيش على وفق علمنا وإرادتنا ولا بركات عليهم منا ولا سلام، فالآية من الاحتباك:
ذكر البركات والسلام أولاً دليلاً على نفيهما ثانياً، والمتاع ثانياً، دليلاً على حذفه أولاً {ثم يمسهم منا} أي في الدارين أو في الآخرة أو فيهما {عذاب أليم*} لجريهم على غير هدينا وجرأتهم على ما يسخطنا، ويجوز أن يكون {وأمم} مبتدأ من غير تقدير صفة محذوفة، فيكون المسوغ للابتداء كون المقام مقام التفضيل؛ والعياذ: طلب النجاة بما يمنع من الشر؛ والبركة: ثبوت الخير بنمائه حالاً بعد حال، وأصله الثبوت، ومنه البروك والبركة لثبوت الماء فيها.
ذكر قصة نوح عليه السلام من التوراة وهو نوح بن لمك بن متوشلح بن خنوخ بن يارد بن مهلاليل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام، وذلك لأنه في أوائل السفر الأول منها: وإن آدم طاف نحو حليلته فحبلت وولدت ابناً فسماه شيث وقال: الآن أخلف الله عليّ نسلاً آخر بدل هابيل الذي قتله قابيل، وذلك بعد أن عاش آدم مائة وثلاثين سنة، وكان جميع حياة آدم تسعمائة وثلاثين سنة، وعاش شيث مائة وخمس سنين فولد له أنوش، وكان
جميع حياة شيث تسعمائة واثنتي عشرة سنة، فعاش أتوش تسعين سنة فولد له قينان وكان جيمع حياة أنوش تسعمائة وخمس سنة، وعاش قينان سبعين سنة فولد له مهلاليل وكان جميع حياة قينان تسعمائة وعشرين سنة، وعاش مهلاليل خمساً وستين سنة فولد له يارد وكانت مائة واثنتين وستين سنة فولد به خنوخ فكانت جميع حياة يارد تسعمائة واثنتين وستين سنة، وعاش خنوخ خمساً وستين سنة فولد له متوشلح وكانت جميع حياة خنوخ ثلاثمائة وخمساً وستين سنة، وعاش متوشلح مائة وسبعاً وثمانين سنة فولد له لمك وكانت جميع حياة متوشلح تسعمائة وتسعاً وستين سنة، وعاش لمك مائة واثنتين وثمانين سنة فولد له ابن فسماه نوحاً، ثم قال: هذا يريحنا من أعمالنا، وكد أيدينا في الأرض التي قد لعنها الله، وكانت جميع أيام حياة لمك سبعمائة وسبعاً وسبعين سنة، وتوفي ونوح ابن خمسمائة سنة. فولد لنوح بنون: سام وحام ويافث، فلما بدأ الناس أن يكثروا على وجه الأرض وولد لهم البنات نظر بنو الأشارف منهم بنات العامة حساناً جداً فأخذوا منهم النساء على ما اختاروا وأحبوا، فقال الله عند ذلك: لا تحل عنايتي وشفتي على هؤلاء الناس لأنهم يتبعون أهواء الجسد واللحم وكانت على الأرض جبابرة في تلك الأيام ومن بعدها، لأن بني الأشراف دخلوا على بنات العامة فولد لهم جبابرة مذكورون، فرأى الرب أن شر الناس قد كثر
على الأرض هوىء فكرهم وحقدهم ردىء في جميع الأيام، فقال الرب: أمحق الذين خلقت وأبيدهم عن جديد الأرض من الناس والبهائم حتى الهوام وطير السماء؛ وظفر نوح من الله برحمة ورأفة، وكان نوح رجلاً باراً تقياً في حقبه فأرضى الله، وفسدت الأرض بين يدي الله وامتلأت إثماً وفجوراً، فرأى الرب الإله أن الأرض قد فسدت وقال الله لنوح: قد وصل إلى أمر جميع الناس وسوء أعمالهم لأن الأرض قد امتلأت إثماً وفجوراً بسوء سيرتهم.
فهأنذا مفسدهم مع الأرض فاتخذ لك أنت تابوتاً مربعاً من خشب الساج - وفي نسخة: الشمشار - وأجعل في التابوت علالي. واطلها بالقار من داخلها وخارجها، وليكن طول الفلك ثلاثمائة ذراع. وعرضه خمسين ذراعاً، وسمكه ثلاثين ذراعاً، واجعل في التابوت كوى وليكن عرضها من أعلاها ذراعاً واحداً، واجعل باب الفلك في جانبه، واجعل فيه منازل أسفل وأوساط وعلالي. وها أنذا محدر ماء الطوفان على الأرض لأفسد به كل ذي لحم فيه نسمة الحياة من تحت السماء، ويبيد كل ما على الأرض، وأثبت عهدي بيني وبينك. وتدخل التابوت أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك، ومن كل حي من ذوي اللحوم من كل صنف اثنان لتحيى معك، ولتكن ذكوراً وإناثاً، من كل الطيور كأجناسها.
ومن الأنعام لأصنافها، ومن كل الهوام التي تدب على الأرض لجواهرها، اثنين اثنين أدخل معك من كلها لتستحييها ذكراً وانثى، واجعل من كل ما يؤكل فاخزنه معك، وليكن مأكلك ومأكلها؛ فصنع نوح كل شيء كما أمر الله ثم قال الله لنوح: ادخل أنت وكل أهل بيتك إلى التابوت لأني إياك وجدت باراً تقياً في هذا الحقب، ومن كل الأنعام الزكية أدخل معك سبعة سبعة من الذكور والإناث، ومن الأنعام التي ليست بزكية أدخل معك اثنين ذكوراً وإناثاً. ومن الطير الزكي سبعة سبعة ذكوراً وإناثاً، ومن الطير الذي ليس بزكي اثنين اثنين ذكوراً وإناثاً، ليحي منها نسل على وجه الأرض، لأني من الآن إلى سبعة أيام أهبط القطر على وجه الأرض أربعين يوماً ولياليها، وأبيد كل ما خلقت على وجه الأرض؛ فصنع نوح كما أمره الرب الإله. فلما كان بعد بعد ذلك بسبعة ايام نزلت مياه الطوفان، تفجرت مياه الغمر وتفتحت مثاعب السماء. وأقبلت الأمطار على وجه الأرض أربعين نهاراً وأربعين ليلة، وفي هذا اليوم دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح ونساء بنيه الثلاث معه الفلك هم وجميع السباع لأجناسها وجميع الدواب لأصنافها وكل حشرة تدب على الأرض بجواهرها وجميع الطيور لأجناسها، ودخل مع نوح التابوت منكل عصفور ومن كل ذي جناحين اثنان اثنان، ومن كل ذي لحم فيه
روح الحياة وكل شيء دخل من ذوي اللحوم دخلوا ذكوراً وإناثاً كما أمر الله نوحاً، ثم أغلق الله الرب الباب عليه، وكان الطوفان على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة، وكثرت المياه حتى احتملت التابوت فارتفع عن الأرض، وعزرت المياه وكثرت على الأرض جداً وجعل التابوت يسير على وجه الماء واشتدت المياه على وجه الأرض جداً جداً.
وتوارت جميع الجبال العالية الشاهقة التي تحت السماء، وارتفعت المياة من فوق كل جبل خمسة عشر ذراعاً، وباد كل ذي لحم على الأرض من الطيور أجمع والسباع والدواب وجميع الحشرة التي تدب على الأرض وجميع الناس والبهائم، ومات كل شيء كان فيه نسمة الحياة مما في اليبس. وبقي نوح ومن معه في الفلك، واشتدت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً؛ وإن الله ذكر نوحاً وكل السباع والدواب وجميع الطيور التي معه في التابوت. فأهاج الله ريحاً على وجه الأرض فسكنت المياه والأمطار. واشتدت ينابيع الغمر وميازيب وغاضت المياه بعد مائة وخمسين يوماً، وسكن التابوت ووقف في الشهر السابع لثلاث عشرة ليلة بقيت من الشهر على جبال قودي وجعلت المياه تنصرف وتنتقص إلى الشهر العاشر، وظهرت رؤوس الجبال في أول يوم الشهر العاشر، فلما كان بعد ذلك بأربعين
يوماً فتح نوح الكوة التي عملها في التابوت فأرسل الغراب، فخرج الغراب من عنده فلم يعد إليه حتى يبست المياه عن وجه الأرض، ثم أرسل الحمامة من بعده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد الحمامة موضعاً لموطىء رجليها فرجعت إلى التابوت لأن المياه كانت بعد على وجه الأرض، فمد يده فأخذها وأدخلها إليه وانتظر سبعة أيام أخرى، ثم عاد فأرسل الحمامة فعادت عند المساء وفي منقارها ورقة زيتون، فعلم أن الماء قد غاض عن وجه الأرض فصبر أيضاً سبعة أيام أخر، ثم أرسل الحمامة فلم تعد إليه أيضاً، ففتح نوح باب الفلك فرأى فإذا وجه الأرض قد ظهر وجفت الأرض. فكلم الرب الإله نوحاً وقال له: اخرج من التابوت أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وكل السباع التي معك من كل ذي لحم والطيور والدواب، وأخرج كل الهوام التي تدب على الأرض معك، ولتتولد وتنمو في الأرض وتكثر وتزداد على الأرض. فخرج نوح ومن ذكر وبنى للرب مذبحاً وأخذ من جميع الدواب والطيور الزكية فأصعد منها على المذبح قرباناً للرب الإله، فقال الرب الإله: لا أعود ألعن الأرض أبداً من أجل أعمال الناس لأن هوى قلب الإنسان وحقده رديء منذ صباه ولا أعود أيضاً أبيد كل حي كما فعلت، ومن الآن جميع أيام الأرض
يكون فيها الزرع والحصاد والبرد والحر والقيظ والشتاء، فبارك الله على نوح وبنيه وقال لهم: انموا واكثروا واملؤوا الأرض، وليغش رعبكم وخوفكم جميع السباع وبهائم الأرض وكل طيور السماء وكل دابة تدب على الأرض، وجميع حيتان البحور تكون تحت أيديكم، وكل الدواب الطاهرة الحية تكون لأكلكم، وقد جعلت الأشياء كلها حلالاً لكم مثل عشب البرية خضرها، وأما المخنوق الذي دمه فيه فلا تأكلوه فإن دمع نفسه، وأما دماؤكم من أنفسكم فأطلبها بالنهي من يد جميع الحيوان ومن يد جميع الناس، أي إنسان قتل أخاه طالبته بدمه، ومن سفك دم الإنسان سفك دمه لأن الله خلق آدم بصورته، وأنتم فانموا واكثروا وولدوا في الأرض وأكثروا فيها؛ وقال الله لنوح ولبنيه معه: هأنذا مثبت عهدي بيني وبينكم ومع أنسالكم من بعدهم ومع كل نفس حية منكم، ومع الطيور والدواب ومع كل سباع الأرض جميع الذين خرجوا من الفلك.
وأثبت عهدي بيني وبينكم فلا يبيد كل ذي لحم أيضاً بماء الطوفان ولا يهبط الطوفان أيضاً ليفسد جميع الأرض، قال الله لنوح: هذه علامة لعهدي الذي أجعله بيني وبينكم وبين كل نفس حية معكم في جميع أحقاب العالم، قد أظهرت قوسي في السحاب فهي أمارة ذكر العهد الذي
بيني وبينك وبين أهل الأرض، فإذا أنشأت السحاب في الأرض وأظهرت قوس السحاب فاذكروا العهد الذي بيني وبينكم، وكان بنو نوح الذين خرجوا معه من التابوت سام وحام ويافث، وحاتم يكنى أبا كنعان، هؤلاء الثلاثة ثم بنو نوح، وتفرق الناس من هؤلاء في الأرض كلها؛ ثم ذكر أن نوحاً عليه السلام نام فرأى حام عريه فأظهر ذلك لأخويه، فتناول سام ويافث رداء فألقياه على أكتافهما ثم سعيا على أعقابهما مدبرين فواريا عرى أبيهما، فلما علم نوح ما صنع ابنه الأصغر دعا عليه أن يكون عبداً لأخويه، وكانت جميع أيام حياة نوح تسعمائة سنة وخمسين سنة، ثم توفي عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام؛ ثم ذكر أن الناس بعده أرادوا أن يبنوا صرحاً لاحقاً بالسماء، واجتمع جميعهم على ذلك لأن لغتهم كانت واحدة ورأيهم واحد ففرق الله ألسنتهم وفرقهم من هنالك على وجه الأرض ولم يبنوا القرية التي هموا بها، ولذلك سميت بابل وبوبال معناه بالعبراني: الشتات، وما في تفسير البغوي وغيره من أن عوج ابن عوق - بضمهما كما في القاموس - كان في زمن نوح وسلم من الطوفان، وأن الماء لم يجاوز ركبتيه ونحو هذا كذب بحت منابذ لقوله تعالى:{ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} [هود: 27] وقوله: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} وقوله: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} [نوح: 26] ونحوها، فإن
كل من ذكر ذلك ذكر أن موسى عليه السلام قتله كافراً.
ولما تمت هذه القصة علىلنحو الوافي ببيان اجتهاد نوح علبه السلام في إبلاغ الإنذار من غير مراعاة إقبال ولا إدبار، وكانت مع ذلك دالة على علم تام واطلاع على دقائق لا سبيل إليها إلا من جهة الملك العلام، فهي على إزالة اللبس عن أمره صلى الله عليه وسلم أوضح من الشمس، قال تعالى منبهاً على ذلك:{تلك} أي هذه الأنباء البديعة الشأن الغريبة الأمر البعيدة عن طوق المعارض، العلية الرتب عن يد المتناول {من أنباء الغيب} أي أخباره العظيمة، ثم أشار إلى أنه لا يزال يجدد له أمثالها بالمضارع في قوله:{نوحيها إليك} فكأنه قيل: إن بعض أهل الكتاب يعلم بعض تفاصيلها، فأشار إلى أن ذلك مجموعة غيب وبما يعلمونه غيب نسبي بقوله:{ما كنت تعلمها} أي على هذا التفصيل {أنت} ولما كان خفاءها عن قومه دليلاً على خفائها عنه لأنه لم يخالط غيرهم قال: {ولا قومك} أي وإن كانوا أهل قوة في القيام على ما يحاولونه وعدداً كثيراً، ومنهم من يكتب ويخالط العلماء.
ولما كان زمان خفاء ذلك عنهم - وإن كان عاماً لهم - بعض الزمان الماضي، أدخل الجار فقال:{من قبل هذا} أي من إيحائي إليك حتى يطرق الوهم حينئذ أنك تعلمتها من أحد منهم وإن كان يعلم
كثيراً منها أهل الكتاب كما رأيت عن نص التوراة فبان أن لا عرض لقومك إلا العناد {فاصبر} على ذلك ولا تفتر عن الإنذار فستكون لك العاقبة كما كانت لنوح لأجل تقواه {إن العاقبة} أي آخر الأمر من الفوز والنصر والسعادة {للمتقين*} أي العريقين في مخافة الله في كل زمن، وقد تضمنت القصة البيان عما يوجبه حال أهل الخير والإيمان وأهل الشر والطغيان من الاعتبار بالنبأ عن الفريقين ليجتبي حال هؤلاء ويتقي حال أولئك لسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
ولما تم من ذلك ما هو كفيل بغرض السورة، وختم بأن العاقبة دائماً للمتقين، أتبع بالدليل على ذلك من قصص الأنبياء مع الوفاء بما سيقت له قصة نوح - على جميعهم السلام - من الحث على المجاهرة بالإنذار فقال تعالى:{وإلى} أي ولقد ارسلنا إلى {عاد أخاهم} وبينه فقال: {هوداً} ولما تقدم أمر نوح مع قومه، استشرف السامع إلى معرفة ما قال هود عليه السلام هل هو مثل قوله أو لا؟ فاستأنف الجواب بقوله:{قال يا قوم} الذين هم أعز الناس لدي {اعبدوا الله} أي ذا الجلال والإكرام وحده؛ ثم صرح وعلل فقال: {ما لكم} وأغرق في النفي فقال: {من إله} أي معبود بحق {غيره} فدعا إلى أصل الدين كما هو دأب سائر النبين والمرسلين؛ ثم ختم ذلك بمواجهتهم
بما يسوءهم من الحق وما ثناه عن ذلك رجاء ولا خوف فقال: {إن} أي ما {أنتم إلا مفترون*} أي متعمدون الكذب على الله في إشراككم به سبحانه لأن ما على التوحيد من أدلة العقل غير خاف على عاقل فكيف مع تنبيه النقل! وذلك مكذب لمن أشرك، أي فاحذروا عقوبة المفتري؛ ثم نفى أن يكون له في ذلك غرض غير نصحهم بقوله موضع «إني ناصح لكم بهذا الأمر فلا يسوءكم مواجهتي لكم فيه بما تكرهون» {يا قوم} مكرراً لاستعطاف {لا أسألكم} أي في المستقبل كما لم أسالكم في الماضي {عليه} أي على هذا الإنذار {أجراً} أي فلست موضع تهمة {إن} أي ما؛ {أجري} ثم وصف من توكل عليه سبحانه بما يدل على الكفاية فعليّ وجوب شكره فقال:{إلا على الذي فطرني} أي أبتدأ خلقي ولم يشاركه فيّ أحد فهو الغني المطلق لا أوجه رغبتي إلى غيره كما يجب على كل أحد لكونه فطرة.
ولما كان الخلاف الذي لا حظ فيه جهة الدنيا لا يحتاج الإنسان في الدلالة على أن صاحبه ملجأ إليه من جهة الله، وأنه لا نجاة إلا به إلى غير العقل، سبب عن قوله هذا الإنكار عليهم في قوله:{أفلا تعقلون*} .
ولما دعاهم مشيراً إلى ترهيبهم مستدلاً على الصدق بنفي الغرض، رغبهم في إدامة الخوف مما مضى بقوله:{ويا قوم} ومن هم
أعز الناس عليّ ولهم قدرة على ما طلب منهم {استغفروا ربكم} أي اطلبوا غفرانه بطاعتكم له لما يجب له بإحسانه إليكم. وأشار إلى علو رتبة التوبة بأداة التراخي فقال: {ثم توبوا إليه} أي تسموا عالي هذه الرتبة بأن تطلبوا ستر الله لذنوبكم ثم ترجعوا إلى طاعته بالندم والإقلاع والاستمرار {يرسل السماء} أي الماء النازل منها أو السحاب بالماء {عليكم مدراراً} أي هاطلة بمطر غزير متتابع {ويزدكم قوة} أي عظيمة مجموعة {إلى قوتكم} ثم عطف على قوله {استغفروا} قوله: {ولا تتولوا} أي تكلفوا أنفسكم غير ما جبلت عليه من سلامة الانقياد فتبالغوا في الإعراض - بما أشار إليه إثبات التاء {مجرمين*} أي قاطعين لأنفسكم - ببناء أمركم على الظنون الفاسدة عن خيرات الدنيا والآخرة.
ولما محّض لهم النصح على غاية البيان، ما كان جوابهم إلا أن {قالوا} أي عاد بعد أن أظهر لهم هود عليه السلام من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر {يا هود} نادوه باسمه غلظة وجفاء {ما جئتنا ببينة} فأوضحوا لكل ذي لب أنهم مكابرون لقويم العقل وصريح النقل، فهم مفترون كما كان العرب يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أتاهم من الآيات على يده ما يفوت الحصر {لولا أنزل عليه
آية من ربه} {وما نحن} وأغرقوا في النفي فقالوا: {بتاركي آلهتنا} مجاوزين لها أو صادرين {عن قولك} وتركهم للعطف بالفاء - المؤذنة بأن الأول سبب الثاني أي الواو في قولهم: {وما نحن لك} أي خاصة، وأغرقوا في التفي فقالوا:{بمؤمنين*} - دليل على أنهم تركوا إتباعه عناداً، لا أنهم يعتقدون أنه لم يأت ببينة؛ وإلى ذلك يرشد أيضاً تعبيرهم بالاسمية التي تدل على الثبات فإذا نفي لم ينتف الأصل؛ والبينة: الحجة الواضحة في الفصل بين الحق والباطل، والبيان: فصل المعنى من غيره حتى يظهر للنفس محرراً مما سواه، والحامل على ترك البينة بعد ظهورها صد الشبهة عنها أو تقليد الرؤساء في دفعها واتهام موردها أو اعتقاد أصول فاسدة تدعو إلى جحدها أو العناد للحسد ونحوه، والجامع له كله وجود الشبهة.
ولما قالوا هذا الكلام البين الفساد من غير تعرض لنقض ما قال لهم بنوع شبهة، كان كأنه قيل لهم: هذا الذي قلته لكم وهو لا أبين منه ولا أعدل، افرضوا أنه ما ظهر لكم صحته فما تقولون إنه حملني عليه مع أن فيه منابذتكم وأنتم أولاد عمي وأعز الناس عليّ؟ فقالوا:{إن نقول إلا اعتراك} أي أصابك وغشيك غشياناً التصق بك التصاق العروة بما هي فيه مع التعمد والقوة {بعض آلهتنا بسوء} من نحو الجنون والخبال فذاك الحامل لك على النهي عن عبادتها.
ولما كان الطبع البشري قاضياً بأن الإنسان يخشى ممن مسه بسوء وهو يتوهم أنه قادر على ضرره فلا يواجهه بما يكره، وكان قولهم محركاً للسامع إلى الاستعلام عن حوابه لهم، استأنف سبحانه الإخبار عنه بقوله:{قال} نافياً لما قالوا مبيناً أن آلهتهم لا شيء ضاماً لهم معها، وأكد لأنهم بحيث لا يظنون أن أحداً لا يقول ما قاله {إني أشهد الله} أي الملك الأعظم ليقوم عذري عنده وعدل أدباً مع الله عن أن يقول: وأشهدكم - لئلا يتوهم تسوية - إلى صيغة الأمر تهاوناً بهم فقال: {واشهدوا} أي أنتم لتقويم الحجة عليكم لأيكم ويبين عجزكم ويعرف كل أحد أنكم بحيث يتهاون بكم وبدينكم ولا يبالي بكم ولا به {أني بريء مما تشركون*} وبين سفولها بقوله: {من دونه} كائناً ما كان ومن كان، فكيف إذا لم يكن إلا جماداً {فكيدوني} حال كونكم {جميعاً} أي فرادى إن شئتم أو مجتمعين أنتم وآلهتكم.
ولما كانت المعاجلة في الحرب أهول، وكان شأنها أصعب وأخطر، بين عظمها بأداة التراخي فقال:{ثم لا تنظرون*} والكيد: طلب الغيظ بالسر في مكر، وهذه الآية من أعلام النبوة الواضحة لهود عليه السلام، فكأنه قيل: هب أن آلهتنا لا شيء، فما حملك على الاجتراء
على مخالفتنا نحن وأنت كثرتنا وقوتنا وأنت لا تزيد على أن تكون واحداً منا فقال: {إني} أي جسرت على ذلك لأني {توكلت} معتمداً {على الله} الملك المرهوب عقابه الذي لا ملك سواه ولا رب غيره؛ وبين إحاطة ملكه بقوله: {ربي وربكم} أي الذي أوجدنا ودبر أمورنا قبل أن يخلقنا فعلم ما يعمل كل منا في حق الآخرة لأنه {ما من دابة} أي صغرت أو كبرت {إلا هو آخذ} أي أخذ قهر وغلبة {بناصيتها} أي قادر عليها، وقد صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة، لأن الكل جارون مع مراده لا مع مرادهم بل لا ينفك أحد عن كراهة لبعض ما هو فيه فدل ذلك قطعاً على أنه بغير مراده وإنما هو بمراد قاهر قهره على ذلك وهو الملك الأعلى سبحانه؛ والناصية: شعر مقدم الرأس، ومن أخذ بناصيته فقد انقاد لأخذه لا يستطيع ميلاً {إن} أي لأن {ربي} أي المحسن إليّ بما أقامني فيه {على صراط} أي طريق واسع بين {مستقيم*} ظاهر أمره لكل أحد لا لبس فيه أصلاً ولا خلل ولا اضطراب ولا اعوجاج بوجه، فلذلك كان كل من في الكون يتألهه ويدعو ويخافه ويرجوه وإن اتخذ بعضهم من دونه شركاء، وأما ما يعبد من دونه فلا يعظمه إلا عابده، وأما غير عابده فإنه لا يقيم له وزناً؛ فصح بهذا غالب
على كل شيء غلبة يعلمها كل موجود من غير خفاء أصلاً، فهو مرجو مرهوب بإجماع العقلاء بخلاف معبوداتكم، والحاصل أنه يلزم الصراط المستقيم الظهور، فيلزم عدم الاختلاف لانتفاء اللبس، فمن كان عليه كان عليّ القدر شهير الأمر، بصيراً بما يريد، مع الثبات والتمكن، مرهوب العاقبة، مقصوداً بالاتباع والمحبة، من لم يقبل إليه ضل، ومن أعرض عنه أخذ لكثرة أعوانه وعز سلطانه، فظهرت قدرته على عصمة من يتوكل عليه وعجز معبوداتهم معهم، لأن نواصي الكل بيده وهو ربها وربهم ورب كل شيء، فقد انطبق ختام الآية على قولهم {ما جئتنا ببينة} رداً له لأن من كان على صراط مستقيم لم يكن شيء أبين من أمره، وعلى جوابه في توكله وما في حيزه أتم انطباق؛ والناصية: مقدم الشعر من الرأس، وأصلها الاتصال من قولهم: مفازة تناصي مفازة - إذا كانت متصلة بها.
ولما استوفى تشييده أمره وهدم قولهم، أخذ يحذرهم فقال مبيناً أن العدول عما جاء به لا يكون إلا بمعالجة الطبع السليم:{فإن تولوا} ولو أدنى تولية - بما يشير إليه حذف التاء، فعليكم اللوم دوني، لأني فعلت ما عليّ {فقد} أي بسبب أني قد {أبلغتكم ما} أي كل شيء
{أرسلت} أي تقدم إرسالي من عند من لا مرسل في الحقيقة غيره {به إليكم} كاملاً لم أدع منه شيئاً رجاء لإقبالكم ولا خوفاً من إعراضكم، فأبيتم إلا التكذيب لي والاستكبار عما جئت به، فالذي أرسلني ينتقم منكم فيهلككم {ويستخلف ربي} أي يوجد المحسن إليّ بإقامتي فيما يرضيه {قوماً غيركم} يخلفونكم في دياركم وأموالكم، فتكونون أعداءه، ويكون المستخلفون متعرضين لأن يكونوا أولياء مع كونهم ذوي بأس وقوة فيختص الضرر بكم {ولا تضرونه} أي الله بإعراضكم {شيئاً} ثم علل وعيده لهم بقوله مؤكداً لأن العاصي فاعل بعصيانه فعل من يظن أن الله غافل عنه:{إن ربي} أي المحسن إليّ المدبر لمصالحي.
ولما كان الأهم في هذا السياق بيان استعلائه وقدرته، قدم قوله:{على كل شيء} صغيراً أو كبيراً جليل أو حقير {حفيظ*} أي عالم بكل شيء وقادر على كل شيء وبالغ الحفظ له، فيعلم ما يعمل محفوظه فيجازيه بما يستحق من نعمه ونقمه، فهو تعليل لاستخلاف غيرهم وتنزهه عن لحوق ضرر، لأن الحفظ: الحراسة، ويلزمها العلم والقدرة، فمن القدرة حافظ العين، أي لا يغلبه نوم، والحفيظة - للحمية والغضب، ومنهما معاً المحافظة - للمواظبة على الشيء؛ والتوالي عن الشيء: الذهاب إلى غير جهته إعراضاً عنه؛ والإبلاغ: إلحاق الشيء نهايته؛
والاستخلاف: جعل الثاني بدلاً من الأول يقوم مقامه؛ والضر: إيجاب الألم بفعله أو التسبب له.
ولما تم ذلك كان كأنه قيل: فلم يرجعوا ولم يرعووا لبينة ولا رغبة ولا رهبة فأنزلنا بهم أمرنا {ولما جاء أمرنا} أي وقت إرادتنا لإهلاك عاد {نجينا} أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة {هوداً والذين آمنوا} كائنين {معه} في الإيمان والنجاة من قومهم فلم يقدروا أن يصلوا إليهم بسوء مع اجتهادهم في ذلك وإعجابهم بقواهم ويقال: إن الذين آمنوا كانوا أربعة آلاف.
ولما كان سبحانه بحيث لا يجب عليه لأحد شيء لأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق وإن اجتهد في طاعته، فإن طاعته نعمة منه عليه، أشار إلى ذلك بقوله:{برحمة منا} تحقيقاً لتوكل عبدناً؛ ولما بين إنجاءهم من قومهم بين إنجاءهم مما أهلكهم به فقال مكرراً ذكر التنجية دلالة على أن عذابهم كان في غاية الفظاعة: {ونجيناهم} أي بما لنا من العظمة، وبين فظاعة ما أهلك به أعداءهم بقوله:{من عذاب غليظ*} أي أهلكنا به مخالفيهم وهو الريح الصرصر، وهذا أولى من حمله على عذاب الآخرة لما يأتي من قوله {ومن خزي يومئذ} كأنهم كانوا إذا رأوا مخايل العذاب قصدوا نبيهم ومن آمن به ليهلكوهم قبلهم كما
صرح به في قصة صالح؛ والنجاة: السلامة من الهلاك؛ وحقيقة الغلظة عظم الجثة، فاستعير للعذاب لثقله على النفس وطول مكثه.
ولما تمت قصتهم على هذا الوجه لابديع والأسلوب المطرب، قال تعالى عاطفاً على قوله {تلك من أنباء الغيب} :{وتلك عاد} أي قصة القوم البعداء البغضاء، ما كنت تعلمها على هذا التفصيل أنت ولا قومك ولا أهل الكتاب، وإنما نفيت عن أهل الكتاب لأنهم لا يعلمون إلا ما له أصل عن أنبيائهم، وهذه وقصة ثمود ليستا في التوراة ولا شيء من أسفار أنبيائهم، وسألت بعض علمائهم فلم أجد عنده شيئاً من علمها ولا حرفاً واحداً ولا سمع بعاد ولا هود، وتلخيص قصتهم أنهم {جحدوا} أي كذبوا عناداً واستهانة {بآيات ربهم} المحسن إليهم {وعصوا رسله} فإن من عصى واحداً منهم فقد عصى الكل لاتفاقهم على أمر واحد مع التساوي في مطلق المعجزة {واتبعوا} أي بغاية جهدهم {أمر كل جبار} أي قاهر بليغ القهر يجبر غيره على ما يريد، وهذا يدل على أنه لا عذر في أصل الدين بوجه فإن الضمائر لا يعلمها إلا الله فيمكن كل أحد مخالفة الجبار فيه {عنيد*} أي طاغ باغ لا يقبل الحق بوجه، فأهلكوا ولم يمنعهم تجبرهم ولا أغنى عنهم عنادهم وتكبرهم {وأُتبعوا} جميعاً بعد
إهلاكهم بأيسر وجه لعظيم قدرة المتبع {في هذه الدنيا} حقرها في هذه العبارة بما أشارت إليه الإشارة مع التصغير، وبما دل على الدنو وبأن من اغتر بها فهو ممن وقف مع الشاهد لما له من الجمود {لعنة} أي طرداً وبعداً وإهلاكاً {ويوم القيامة} أي كذلك بل أشد، فكأنه قيل: أفما لمصيبتهم من تلاف؟ فقيل: لا، {ألا} مفتتحاً للإخبار عنهم بهذه الأداة التي لا تذكر إلا بين يدي كلام يعظم موقعه ويجل خطبه، والتأكيد في الإخبار بكفرهم تحقيق لحالهم، وفيه من أدلة النبوة وأعلام الرسالة الرد على طائفة قد حدثت بالقرب من زماننا يصوّبون جيمع الملل وخصوا عاداً هذه لكونها أغناهم بأن قالوا: إنهم من المقربين إلى الله وإنهم بعين الرضى منه، فالله المسؤول في الإدالة عليهم وشفاء الصدور منهم، وهم أتباع ابن عربي الكافر العنيد أهل الاتحاد، المجاهرون بعظيم الإلحاد، المستخفون برب العباد، فلذلك قال تعالى مبيناً لحالهم بياناً لا خفاء معه:{إن عاداً كفروا} ولم يقصر الفعل، بل عداه إعظاماً لطغيانهم فقال:{ربهم} أي غطوا جميع أنوار الظاهر الذي لا يصح أصلاً خفاءه لأنه لا نعمة على مخلوق إلا منه، فكان كفرهم أغلظ الكفر، ومع ذلك فلم ينثن هود عليه السلام عن إبلاغهم جميع ما أمر به ولا ترك شيئاً مما أوحي إليه فلك به أسوة حسنة وفيهم قدوة، ومن كفر من
أحسن إليه بعد بعداً لا قرب معه.
ولما كان الأمر عظيماً والخطب جليلاً، كرر الأداة التي تقال عند الأمور الجليلة فقال:{ألا بعداً لعاد} هو من بعد - بكسر العين إذا كان بعده بالهلاك، وبينهم بقوله:{قوم هود} تحقيقاً لهم لأنهم عادان: الأولى والآخرة، وإيماء إلى أن استحقاقهم للإبعاد بما جرى لهو عليه السلام معهم من الإنكار والدعاء عليهم بعد الهلاك كناية عن الإخبار بأنهم كانوا مستحقين للهلاك؛ والجحد: الخبر عما يعلم صحته أنه لا يعلمها، وهو ضد الاعتراف كما أن النفي ضد الإثبات، فهو خبر بمجرد العدم فهو أعم؛ والعصيان خلاف ما أمر به الداعي على طريق الإيجاب؛ واللعنة: الدعاء بالإبعاد، وأصلها الإبعاد من الخير؛ والإتباع: جعل الثاني على أثر الأول، والإبلاغ أخص منه، والمراد هنا بلوغها لهم لأن الذي قضى بذلك قادر وقد ألحق بهم عذاب الدنيا المبعد لهم من مظان الرحمة.
ولما انقضت قصة عاد على ما أراد سبحانه، أتبعها قصة من كانوا عقبهم في الزمن ومثلهم في سكنى أرض العرب وعبادة الأوثان والمناسبة في الأمر المعذب به لأن الموصل للصيحة إلى الأسماع هو الريح
وفي خفاء أمرهم، مفصلاً على أهل ذلك الزمان فقال:{*وإلى} أي ولقد أرسلنا إلى {ثمود أخاهم} وبينه بقوله: {صالحاً} ثم أخرج قوله صلى الله عليه وسلم على تقدير سؤال فقال: {قال يا قوم} أي يا من يعز عليّ أن يحصل لهم سوء {اعبدوا الله} أي الملك الأعظم وحده لأن عبادتكم له مع غيره ليست بشيء؛ ثم استأنف تفسير ذلك فقال: {ما لكم} أغرق في النفي فقال: {من إله غيره} جرياً على منهاج الدعاة إلى الله في أصل الدين، وهو إفراد المنعم بالعبادة.
ولما أمرهم بذلك، ذكرهم قدرته ونعمته مرغباً مرهباً فقال:{هو} أي وحده {أنشأكم} أي ابتدأ خلقكم {من الأرض} بخلق آدم عليه السلام منها بغير واسطة وبخلقكم من المني من الدم وهو من الغذاء وهو من النبات وهو من الأرض كما أنشأ أوثانكم منها {و} وفع مقداركم عليه بأن {استعمركم} أي أهلكم لما لم يؤهل له الأوثان من أن تكونا عماراً {فيها} فلا تنسوا حق إلهكم وما فضلكم به من حق أنفسكم بخضوعكم لما لا يساويكم فكيف بمن أنشأكم وإياها؛ والإنشاء: الابتداء بالإيجاد من غير استعانة بشيء من الأسباب.
ولما بين لهم سبحانه عظمته، وكان الشيطان قد شبه عليهم لأنه لعظمته لا يوصل إليه بوسيلة كما هو حال الملوك وألقى إليهم أن الأوثان
وسائل، نفى ذلك مبيناً طريق الرجوع إليه بقوله:{فاستغفروه} أي فأقبلوا بكل قلوبكم عليه طالبين أن يستر ذنوبكم؛ وذكر شرط المغفرة بقوله مشيراً بأداة البعد إلى عظيم المنزلة: {ثم توبوا} أي ارجعوا بجميع قلوبكم {إليه} ثم علل ذلك بلطفه وعطفه ترغيباً في الإقبال إليه فقال مؤكداً لأن من يرى إمهاله للعصاة يظن الظنون ومن عصاه كان عمله عمل من ينكر قربه وإجابته: {إن ربي} الذي أخلصت له العبادة لإحسانه إليّ وأدعوكم إلى الإخلاص له لإحسانه إليكم {قريب} من كل من أقبل إليه من غير حاجة إلى معاناة مشي ولا حركة جارحة {مجيب*} لكل من ناداه لا كمعبوداتكم في الأمرين معاً.
ولما دعاهم إلى الحق ونصب لهم عليه من الأدلة ما هم به معترفون وذكرهم نعمه مومئاً إلى التحذير من نقمه، وسهل لهم طريق الوصول إليه، ما كان جوابهم إلا أن سلخوه من طور البشرية لمحض التقليد، فلذلك استأنف الإخبار عن جوابهم بقوله:{قالوا} أي ثمود {يا صالح} نادوه باسمه قلة أدب منهم وجفاء {قد كنت فينا} أي فيما بينا إذا تذاكرنا أمرك {مرجواً} أي في حيز من يصح أن يرجى أن يكون فيه خير وسؤدد ورشد وصلاح، واستغرقوا الزمان فحذفوا الجار وقالوا:{قبل هذا} أي الذي دعوتنا إليه فأما بعد هذا فانسلخت من هذا العداد؛ ثم بينوا ما أوجب سقوطه عندهم بقولهم منكرين إنكار
محترق {أتنهانا} أي مطلق نهي {أن نعبد} أي دائماً {ما يعبد آباؤنا} وعبروا بصيغة المضارع تصويراً للحال كأن آباءهم موجودون فلا تمكن مخالفتهم إجلالاً لهم، فأجلوا من يرونه سبباً قريباً في وجودهم ولم يهابوا من أوجدهم وآباءهم أولاً من الأرض وثانياً من النطف، ثم خولهم فيما هم فيه، ثم فزعوا - في أصل الدين بعد ذكر الحامل لهم على الكفر المانع لهم من تركه - إلى البهت بأن ما يوجب القطع لكل عاقل من آيته الباهرة لم يؤثر عندهم إلا ما هو دون الظن في ترك إجابته، فقالوا مؤكدين لأن شكهم حقيق بأن ينكر لأنه في أمر واضح جداً لا يحتمل الشك أصلاً:{وإننا لفي شك} وزادوا التأكيد بالنون واللام وبالإشارة بالظرف إلى إحاطة الشك بهم {مما} ولما كان الداعي واحداً وهو صالح عليه السلام لم يلحق بالفعل غير نون واحدة هي ضميرهم بخلاف ما في سورة إبراهيم عليه السلام فلذلك قالوا: {تدعونا إليه} من عبادة الله وحده {مريب*} أي موقع في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين؛ والرجاء: تعلق النفس لمجيء الخير على جهة الظن، ونظيره الأمل والطمع؛ والنهي: المنع من الفعل بصيغة لا تفعل.
ولما أبرزوا له أمرهم في قالب الشك على سبيل الجزم، قابلهم بمثله على سبيل الفرض إنصافاً لهم لئلا يلائم الخطاب حال المخاطبين، فاستأنف سبحانه الإخبار عنه بذلك في قوله:{قال} أي صالح نادياً لهم إلى النظر في أمره برفق {يا قوم أرءيتم} أي أخبروني {إن كنت} أورده بصيغة الشك لأن خطابه للجاحدين {على بينة من ربي} أي المحسن إليّ، لا شك عندي فيها {وآتاني منه رحمة} أي أوامر هي سبب الرحمة {فمن ينصرني} وأظهر موضع الإضمار وعبر بالاسم الأعظم لاقتضاء المقام التهويل فقال:{من الله} أي الملك الأعظم {إن عصيته} أي إن وقوعكم في الشك على زعمكم حملكم على هيئة الإباء في التلبس بأعمالهم مع زوالهم واضمحلالهم لو كانوا موجودين وعصيتموهم لم تبالوا بهم، وأما أنا فالذي أمرني بعبادته حي قادر على جزاء من يطيعه أو يعصيه، وأقل ما يحمل على طاعته الشك في عقوبته، وهو كاف للعاقل في ترك الخطر {فما} أي فتسبب عن نهيكم لي عن الدعاء إليه سبحانه أنكم ما {تزيدونني} بذلك شيئاً في عملي بما ترمونه مني من عطفي عنه باتباعكم في عملكم أو الكف عنكم لأصير في عداد من يرجى عندكم ممن له عقل {غير تخسير*} أي إيقاعي في الخسارة على هذا التقدير: فلا تطمعوا في تركي لشيء من مخالفتكم ما دمتم
على ما أنتم عليه، والآية كما ترى ناظرة إلى قوله تعالى {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} .
ولما أخبرهم أن معصية الله خسران، ذكرهم أمر الناقة التي أخرجها سبحانه لهم من الأرض شاهداً على كونهم مساوين للأوثان في كونهم منها مفضلين عليها بالحياة محذراً لهم من شديد انتقامه فقال:{ويا قوم هذه} إشارة إلى حاضر، وذلكم بعد أن أخرجها لهم سبحانه عندما دعاه صالح عليه السلام؛ وبين الإشارة بقوله:{ناقة الله} أي الملك الأعلى، ثم بني حالاً من {آية} مقدماً عليها لئلا يكون صفة لها فقال:{لكم} أي خاصة لنظركم إياها عندما خرجت ولكل من سمع بها بعدكم، وليس الخبر كالمعاينة، أشير إليها حال كونها {آية} بكون الله تعالى أخرجها لكم من صخرة، وهي عشراء على حسب ما اقترحتم وأنتم تشاهدون وبكونها تنفرد بشرب يوم، وتنفردون كلكم بشرب يوم وتنفرد برعي يوم، وتنفرد جميع الحيوانات من دوابكم ووحوش بلادكم برعي يوم إلى غير ذلك مما أنتم له مبصرون وبه عارفون {فذروها} أي اتركوها على أيّ حالة كان ترككم لها {تأكل} أي مما أرادت {في أرض الله} أي الملك الذي له الأمر كله التي خلقها منها {ولا تمسوها بسوء} والأكل: مضغ يقع عند بلع؛ والمس مطلق الإصابة ويكون بين الحيوان وغيره، واللمس أخص منه لما فيه من الإدراك
{فيأخذكم} أي فيتسبب عن ذلك أن يأخذكم {عذاب قريب*} أي من زمن إصابتكم لها بالسوء؛ ثم اشار إلى قرب مخالفتهم لأمره فيها بقوله مسبباً عن أوامره ونواهيه ومعقباً: {فعقروها} أي الناقة {فقال} أي عند بلوغه الخبر {تمتعوا} أي أنتم تعيشون {في داركم} أي داركم هذه، وهي بلدة الحجر {ثلاثة أيام} أي بغير زيادة عليها، فانظروا ماذا يغني عنكم تلذذكم وترفهكم وإن اجتهدتم فيه.
ولما كان كأنه قيل: هل في هذا الوعيد مثنوية، قال مجيباً:{ذلك} أي الوعد العالي الرتبة في الصدق والغضب {وعد غير مكذوب*} أي فيه؛ والتمتع: التلذذ بالمدركات الحسان من المناظر والأصوات وغيرها مما يدرك بالحواس، وسميت البلاد داراً لأنها جامعة لأهلها - كما تجمع الدار - ويدار فيها، وأشار إلى تعقب العذاب للأيام وتسببه عن الوعيد المعين بقوله:{فلما جاء أمرنا} بالفاء بخلاف ما في قصة هود وشعيب عليهما السلام، أي مع مضي الأيام كان أول ما فعالنا أن {نجينا} بنا لنا من العظمة أولياءنا {صالحاً والذين آمنوا معه} من كيد قومهم، وبين أن إحسانه سبحانه لا يكون إلا فضلاً منه بقوله:{برحمة منا} وذلك أنه عليه السلام قال لهم: تصبحون
غداً يوم مؤنس - يعني الخميس - ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم عروبة - يعني الجمعة - ووجوهكم محمرة، ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب يوم أول - أي الأحد - فقال التسعة رهط الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحاً، فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا، وإن كان كاذباً قد كنا ألحقناه بناقته، فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت قتلتهم! ثم هموا به فقامت عشيرته دونهم ولبسوا السلاح وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبداً فقد وعدكم أن العذاب يكون بكم بعد ثلاث، فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضباً، وإن كان كاذباً فأنتم وراء ما تريدون، فانصرفوا فلما أصبحت وجوههم مصفرة عرفوا أنه قد صدقهم، فطلبوه ليقتلوه فجاء إلى بطن منهم يقال له (بنو غنم) فنزل على سيدهم رجل فغيبه عنده، فعدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه فقالوا: يا نبي الله! إنهم يعذبوننا لندلهم عليك، أفندلهم؟ قال:
نعم، فدلوهم عليه فأتوه فقال الغنمي: نعم عندي ولا سبيل إليه، فتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم كذا ذكر ذلك البغوي عن ابن اسحاق ووهب وغيرهما مطولاً.
ولما ذكر نجاتهم من كل هلكة، ذكر نجاتهم من خصوص ما عذب به قومهم فقال:{ومن} أي ونجيناهم من {خزي} أي ذل وفضيحة {يومئذ} أي يوم إذ جاء أمرنا بإهلاكهم بالصيحة وحل بهم دونهم فرقاً بين أوليائنا وأعدائنا، وحذف «نجينا» هنا يدل على أن عذابهم دون عذاب عاد؛ ثم عقب ذلك بتعليله إهلاكاً وإنجاء باختصاصه بصفات القهر والغلبة والانتقام فقال:{إن ربك} أي المحسن إليك كما أحسن إلى الأنبياء من قبلك {هو} أي وحده {القوي} فهو يغلب كل شيء {العزيز*} أي القادر على منع غيره من غير أن يقدر أحد عليه أو على الامتناع منه، من عز الشيء أي امتنع، ومنه العزاز - للأرض الصلبة الممتنعة بذلك عن التصرف فيها؛ والخزي: العيب الذي تظهر فضيحته ويستحي من مثله؛ ثم بين إيقاعه بأعدائه بعد إنجائه لأوليائه فقال معظماً للأخذ بتذكير الفعل: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} وأشار إلى عظمة هذه الصيحة
بإسقاط علامة التأنيث وسبب عنها قوله: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين*} أي ساقطين على وجوههم، وقيل: جاثين على الركب موتى لا حراك بهم، وتقدم سر التعبير بالديار مع الصيحة والدار مع الرجفة في الأعراف، وخصت هود بما ذكر فيها لأن مقصودها أعظم نظر إلى التفصيل، وكل من الديار والصيحة أقرب إلى ذلك.
ولما كان الجثوم كناية عن الموت أوضحه بقوله: {كأن} أي كأنهم {لم يغنوا} أي يقيموا أغنياء لاهين بالغناء {فيها} ثم نبه - على ما استحقوا به ذلك لمن لعله يغفل فيسأل - بقوله مفتتحاً بالأداة التي لا تقال إلا عند الأمور الهائلة: {ألا إن ثموداً} قراءة الصرف دالة على الاستخفاف بهم لطيشهم في المعصية {كفروا ربهم} أي أوقعوا التغطية والستر على المحسن إليهم بالخلق والرزق والإرسال وهو الظاهر وبصفاته وأفعاله، فلا يخفى على أحد أصلاً، فإيصال الفعل دون قصره كما في أكثر أضرابه بيان لغلظة كفرهم؛ ثم كرر ذلك تأكيداً له وإعلاماً بتأبيد هلاكهم بقوله:{ألا بعداً لثمود*} ترك صرفهم في قراءة غير الكسائي إيذاناً بدوام لبثهم في الطرد والبعد؛ والصيحة: صوت عظيم من فم حي، والجثوم لدوام مكان واحد أو السقوط على الوجه، وقيل: القعود على الركب؛ وقال {أصبحوا} زيادة في التخويف والتأسيف
بما وقع لهم من التحسير لو أدركه أحد منهم لأن الإنسان يفرح إذا أصبح بقيامه من نومه مستريحاً قادراً على ما يريد من الحركات للاستمتاع بما يشتهي من التصرفات، فأصبح هؤلاء - بعد هذه الصفة على ما قص الله - خفوتا أجمعين كنفس واحدة رجالاً ونساء صغاراً وكباراً كأنهم بم يكونوا أصلاً، ولا أصدروا فصلاً ولا وصلاً كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة كأن لم يغنوا أي يقيموا لانقطاع آثارهم إلا ما بقي من أجسادهم الدالة على الخزي؛ والمغاني: المنازل، وأصل الغناء الاكتفاء؛ ومعنى «ألا» التنبيه؛ قال الرماني: وهي ألف الاستفهام دخلت على «لا» فالألف تقتضي معنى، و «لا» تنفي معنى، فاقتضى الكلام بهما معنى التنبيه مع نفي الغفلة - انتهى.
وكان حقيقته - والله أعلم - أن «لا» دخلت على ما بعدها فنفته، ثم دخلت عليها همزة الإنكار فنفتها، ومن المعلوم أن نفي النفي إثبات فرجع المعنى كما كان على أتم وجوه التنبيه والتأكيد، لأن إثبات المعنى بعد نفيه آكد من إثباته عرياً عن النفي ولا سيما إذا كان المفيد لذلك الإنكار، وهذا المعنى مطرد في ألا العرضية وهلا التخصيصية ونحوهما، ويمشي في كل صلة بأن تردها إلى أصل مدلولها في اللغة ثم تتصرف بما يقتضيه الحال -
والله الهادي! ولما جاز الصرف في ثمود باعتبار أنه اسم أبي القبيلة وعدمه باعتبار إطلاقه على القبيلة اختير الصرف في النصب فقط لخفته.
ولما انقضت القصة على هذا الوجه الرائع، أتبعها قصة لوط عليه السلام إذ كانت أشهر الوقائع بعدها وهي أفظع منها وأروع، وقدم عليها ما يتعلق بها من أمر إبراهيم عليها لسلام ذكر بشراه لما في ذلك كله من التنبيه لمن تعنت بطلب إنزال الملائكة في قولهم {أو جاء معه ملك} على أن ذلك ليس عزيزاً عليه. وقد أكثر من فعله ولكن نزولهم مرهب، وأمرهم عند المكاشفة مرعب، وأما مع الستر فلا يقطع تعنتهم، هذا مع ما في ذلك من مناسبة أمر هذا الولد لأمر الناقة في تكوين كل منهما بخارق للعادة إشارة إلى تمام القدرة وكمال العلم المبني عليه أمر السورة في إحكام الكتاب وتفصيله وتناسب جدالي نوح وإبراهيم عليهما السلام في أن كلاً منهما شفقة على الكافرين ورجاء لنجاتهم من العذاب بحسن المثاب، ولعله سبحانه كرر «لقد» في صدرها عطفاً على ما في قصة نوح للتنبيه على مثل الأغراض، لأن «قد» للتوقع فجاءت لتؤذن بأن السامع في حال توقع لذلك لأنه إذا انقضت قصة الخبر عما بعدها فقال تعالى:{ولقد} قال الرماني: ودخلت اللام لتأكيد الخبر كما يؤكد
القسم {جاءت رسلنا} أي الذين عظمتهم من عظمتنا، قيل: كانوا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام {إبراهيم} هو خليل الله عليه السلام {بالبشرى} أي التي هي من أعظم البشائر وهي إكرامه بإسحاق عليه السلام ولداً له من زوجته سارة رضي الله عنها، جاءوه في الصفة التي يحبها وهي صفة الأضياف، فلم يعرفهم مع أنه الخليل بل إنكارهم كما قال تعالى في الذاريات {قال سلام قوم منكرون} [الذاريات: 25] فيحمل إنكاره أولاً على الاستغراب بمعنى أنه لم ير عليهم زيّ أهل تلك البلاد ولا أثر سفر، فكأنه قيل: ما كان من أمرهم؟ فقيل: {قالوا سلاماً} أي سلمنا عليك سلاماً عظيماً {قال سلام} أي ثابت دائم عليكم لا زوال له أبداً، فللرفع مزية على النصب لأنه إخبار عن ثابت، والنصب تجديد ما لم يكن، فصار مندرجاً في {فحيوا بأحسن منها} [النساء: 86] ثم أكرم نزلهم وذهب يفعل ما طبعه الله عليه من سجايا الكرم وأفعال الكرام في أدب الضيافة من التعجيل مع الإتقان {فما لبث} أي فتسبب عن مجيئهم وتعقبه أنه ما تأخر {أن جاء بعجل حنيذ*} أي مشوي على حجارة محماة في أخدود وفوقه حجارة محماة ليشتد نضجه، فكان بعد الشيّ يقطر دسمه لأنه سمين، كل ذلك وهو لا يعرف أنهم ملائكة، بل هو قاطع بأنهم ممن يأكل، وهذا ناظر إلى قول قوم نوح
{وما نرى لكم علينا من فضل} وقوله {ولا أقول للذين تزدري أعينكم} الآية، أي إن الله جعل المعاني في القلوب وناط بها السعادة والشقاوة، وقد تخفي تلك المعاني كما خفي على أكمل أهل ذلك الزمان أن ضيفه ملائكة حتى خاف منهم وقد أتوه بالبشرى، فلا ينبغي لأحد أن يحتقر أحداً إلا بما أذن الله فيه.
ولما وضع الطعام بين أيديهم لم يلموا به {فلما رأى أيديهم} أي الرسل عقب الوضع سواء {لا تصل إليه} أي إلى العجل الذي وضعه ليأكلوه {نكِرهم} أي اشتدت نكارته لهم وانفعل لذلك، وهذا يدل على ما قال بعض العلماء: إن نكر أبلغ من أنكر {وأوجس} أي أضمر مخفياً في قلبه {منهم خيفة} أي عظيمة لما رأى من أحوالهم وشاهد من جلالهم، وأصل الوجوس: الدخول، والدليل - على أن خوفه كان لعلمه بالتوسم أنهم ملائكة نزلوا لأمر يكرهه من تعذيب من يعز عليه أو نحو هذا - أنهم {قالوا لا تخف} ثم عللوا ذلك بقولهم {إنآ أرسلنآ} أي ممن لا يرد أمره {إلى قوم لوط} فإنهم نفوا الخوف عنه بالإعلام بمن أرسلوا إليه، لا بكونهم ملائكة، قالوا ذلك وبشروه بالولد {وامرأته} أي جاءته الرسل بالبشرى أي ذكروها له والحال أن زوجة إبراهيم التي هي كاملة المروءة وهي سارة {قآئمة} قيل: على باب الخيمة لأجل ما لعلها
تفوز به من المعاونة على خدمتهم، فسمعت البشارة بالولد التي دل عليها فيما مضى قوله {بالبشرى} {فضحكت} أي تعجبت من تلك البشرى لزوجها مع كبره، وربما طنته من غيرها لأنها - مع أنها كانت عقيماً - عجوز، فهو من إطلاق المسبب على السبب إشارة إلى أنه تعجب عظيم {فبشرناها} أي فتسبب عن تعجبها أنا أعدنا لها البشرى مشافهة بلسان الملائكة تشريفاً لها وتحقيقاً أنه منها {بإسحاق} تلده {ومن وراء إسحاق يعقوب} أي يكون يعقوب ابناً لإسحاق، والذي يدل على ما قدّرته - من أنهم بشروه بالولد قبل امرأته فسمعت فعجبت - ما يأتي عن نص التوراة، والحكم العدل على ذلك كله قوله تعالى في الذاريات {قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها} [الذاريات: 28-29]- الآية.
ولما شافهوها بذلك، صرحت بوجه العجب من أنه جامع بين عجبين في كونه منه ومنها بأن {قالت يا ويلتي} وهي كلمة تؤذن بأمر فظيع تخف على أفواه النساء ويستعملنها إلى اليوم، لكنهن غيرن في لفظها كما غير كثير من الكلام؛ والويل: حلول الشر؛ والألف في آخره بدل عن ياء الإضافة، كنى بها هنا عن العجب الشديد لما فيه من الشهرة ومراجمة الظنون؛ وقال الرماني: إن
معناها الإيذان بورود الأمر الفظيع كما تقول العرب: يا للدواهي! أي تعالين فإنه من أحيانك فحضور ما حضر من أشكالك.
ولما كان ما بشرت به منكراً في نفسه بحسب العادة قالت: {ءَألد وأنا} أي والحال أني {عجوز وهذا} أي من هو حاضري {بعلي شيخاً} ثم ترجمت ذلك بما هو نتيجته فقالت مؤكدة لأنه - لما له من خرق العوائد - في حيز المنكر عند الناس: {إن هذا} أي الأمر المبشر به {لشيء عجيب} فكأنه قيل: فماذا قيل لها؟ فقيل: {قالوا} أي الملائكة متعجبين من تعجبها {أتعجبين من أمر الله} أي الذي له الكمال كله، وهو لا ينبغي لك لأنك معتادة من الله بما ليس لغيركم من الخوارق، والعجب إنما يكون مما خرج عن أشكاله وخفي سببه، وأنت - لثبات علمك بالسبب الذي هو قدرة الله على كل شيء وحضوره لديك مع اصطفاء الله لكم وتكرر خرقه للعوائد في شؤونكم - لست كغيرك ممن ليس كذلك؛ ثم عللوا إنكارهم لتعجبها بقولهم:{رحمت الله} أي كرامة الذي له الإحاطة بصفات الجلال والإكرام {وبركاته} أي خيراته النامية الثابتة {عليكم} وبينوا خصوصيتهم بإسقاط أداة النداء مدحة لهم فقال: {أهل البيت} قد تمرنتم على مشاهدة العجائب لكثرة ما ترون من آثاره بمثل ذلك
وغيره؛ ثم علل إحسانه إليهم مؤكداً تثبيتاً لأصل الكلام الذي أنكرته فقال: {إنه} أي بخصوص هذا الإحسان {حميد مجيد} أي كثير التعرف إلى من يشاء من جلائل التعمم وعظيم المقدور بما يعرف أنه مستحق الحمد على المجد، وهو الكرم الذي ينشأ عنه الجود، فلما سمعوا ذلك واطمأنوا، أخذ في قص ما كان بعده، فقال مشيراً بالفاء إلى قلة زمن الإنكار الذي هو سبب الفزع:{فلما ذهب} بانكشاف الأمر {عن إبراهيم الروعُ} أي الخوف والفزع الشديد {وجآءته البشرى} فامتلأ سروراً {يجادلنا} أي أخذ يفعل معنا بمجادلة رسلنا فعل المجادل الذي يكثر كلامه إرادة الفتل مخاطبه عما يقوله {في قوم لوط} أي يسألنا في نجاتهم سؤالاً يحرص فيه حرص المجادل في صرف الشيء، من الجدل وهو الفتل، ووضع المضارع موضع الماضي إشارة إلى تكرر المجادلة مع تصوير الحال، أي جادلنا فيهم جدالاً كثيراً؛ ثم علل مجادلته بقوله:{إن إبراهيم لحليم} أي بليغ الحلم، وهو إمهال صاحب الذنب على ما يقتضيه العقل {أواه} أي رجاع للتأوه خوفاً من التقصير {منيب} أي رجاع إلى الله بالسبق في ارتقاء درج القرب، فهو - لما عنده هذه المحاسن - لا يزال يتوقع الإقلاع من العصاة.
ولما كان أكثر المجادلة لما عنده من الشفقة على عباد الله لما له
من هذه الصفات الجليلة، أعلمه الله أن الأمر قد ختم بقوله حكاية أن الرسل قالت له بعد طول المجادلة منادين بالأداة التي هي أم الباب إعلاماً بأن ما بعدها عظيم الشأن عالي المنزلة:{يا إبراهيم أعرض} أي بكليتك {عن هذا} أي السؤال في نجاتهم؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأنه بمجادلته في حيز من ينكر بتّ الأمر: {إنه قد} افتتحه بحرف التوقع لأنه موضعه {جآء أمر ربك} أي الذي عودك بإحسانه الجم، فلولا أنه حتم الأمر بعذابهم لأمهلهم لأجلك، ولذا عطف على العلة قوله مؤكداً إعلاماً بأنه أمر قد انبرم ومضى:{وإنهم آتيهم} أي إتياناً ثابتاً {عذاب غير مردود} أي بوجه من الوجوه من أحد كائناً من كان؛ الإعراض: الانصراف، وحقيقته الذهاب عن الشيء في جهة العرض؛ والرد: إذهاب الشيء إلى ما جاء منه كالرجع؛ والدفع أعم لأنه قد يكون إلى جهة القدام؛ فلما علم مراد الله فيهم، قدمه على مراده ولم ينطق بعده ببنت شفة.
ذكر هذه القصة من التوراة: قال في السفر الأول: واستعلن الله لإبراهيم في مرج - وفي نسخة: بين بلوط ممرى الأموراني - وكان جالساً على باب خيمته إذ اشتد النهار، فرفع عينيه فنظر فإذا هو بثلاثة رجال وقوف على رأسه، فلما رآهم أحضر إليهم من باب الخيمة
وسجد على الأرضِ وقال: يا رب - وفي نسخة: يا ولي الله - إن كان لي عندك مودة فلا تبعد عن عبدك حتى آتي بما أغسل به أرجلكم، واتكئوا تحت الشجرة وأصيبوا شيئاً من الطعام تقرون به أنفسكم، ثم حينئذٍ تجوزون لأنكم مررتم بعبدكم بغتة فقالوا له: اصنع كما قلت، فاستعجل إبراهيم فأحضر إلى الخيمة إلى سارة وقال: عجلي بثلاثة آصع من درمك - وفي نسخة: دقيق سميد - فاعجنيه واخبزي منه مليلاً، وسعى إلى قطيع البقر فأخذ عجلاً سميناً شاباً فدفعه إل الغلام وأمر بتعجيل صنعته وأخذ سمناً ولبناً والعجل الذي صنع له أيضاً فقربه إليهم، وكان هو واقفاً بين أيديهم تحت الشجرة وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: في الخيمة، فقال له: إني أرجع إليك في مثل هذا الحين من قابل وهي في الحياة ولها منك ابن، فسمعت سارة وهي على باب الخيمة مستترة وكان هو خلفها، وكان إبراهيم وسارة قد شاخا وقدم سنهما وانقطع عن سارة سبيل النساء، فضحكت سارة في قلبها وقالت: أمن بعد ما بليت أرجع شابة وسيدي قد شاخ؟ فقال الله لإبراهيم: لم ضحكت سارة وقالت: أني لي بالولد وقد شخت؟ أيعسر هذا على الله؟ إني أرجع إليك في مثل هذا الحين من قابل وهي حية ولها ابن، فجحدت سارة وقالت: كلا ما ضحكت، لأنها فزعت، فقال: كلا! ولكنك قد ضحكت، ثم قام
الرجال وتعمدوا طريق سدوم وعامورا، وانطلق معهم إبراهيم ليشيعهم. وقال الله: أأكتم عبدي إبراهيم شيئاً مما أصنع؟ وإبراهيم يكون رئيساً لشعب عظيم كبير، وتتبارك به شعوب الأرض، لأني عالم أنه يوصي بنيه وأهل بيته من بعده أن يحفظوا طرق الرب ليعملوا بالبر والعدل، لأن الرب يكمل لإبراهيم جميع ما وعده به.
فقال الرب لإبراهيم: لقد وصل إليّ حديث سدوم وعاموراً وقد كثرت خطاياهم جداً، ثم ولى القوم ومضوا إلى سدوم، وكان إبراهيم بعد واقفاً قدام الرب، فدنا إبراهيم وقال: يا رب! تهلك الأبرار مع الفجار بغضب واحد؟ إن كان في القرية خمسون باراً أتهلكهم بغضب واحد؟ حاشاك يا رب أن تصنع هذا الصنيع وتهلك البريء مع السقيم، ويكون البريء بحال السقيم، حاشا لك يا حاكم الأرض كلها! لا يكون هذا من صنيعك! فقال الرب: إن وجدت بسدوم خمسين باراً في القرية عفوت عن جميع البلد من أجلهم، فأجاب إبراهيم وقال: إني قد بدأت بالكلام بين يدي الرب، وإنما أنا تراب ورماد، فإن نقص من الخمسين باراً خمسة تخرب القرية كلها من أجل الخمسة؟ فقال: لا أخربها إن وجدت بها خمسة وأربعين باراً، فعاد إبراهيم وقال له: فإن وجد فيها أربعون؟
فقال: لا أخربها إن وجدت فيها أربعين، فقال: لا يمكن الرب كلامي فأتكلم، فإن كان هناك ثلاثون؟ فقال: لا أخربها إن وجدت فيها ثلاثين، فقال: إني قد أمعنت في الكلام بين يدي الرب، فإن وجد بها عشرون؟ فقال: لا أخربها من أجل العشرين، فقال لانشقن على الرب، فأتكلم هذه المرة يارب فقط، فإن وجد بها عشرة رهط؟ فقال: لا أفسدها من أجل العشرة؛ فارتفع استعلان الرب عن إبراهيم لما فرغ إبراهيم من كلامه ورجع إبراهيم إلى موضعه - انتهى. وقد مضى أمر حبل سارة وولادها في البقرة.
ولما انقضى أمر إنبائهم ببشارة الأولياء وهلاك الأعداء، وعلم من ذلك أنهم لا ينزلون إلاّ للأمور الهائلة والأحوال المعجبة، أخذ يقص أمرهم مع لوط عليه السلام، فقال عاطفاً على ما تقديره: فعلوا مع إبراهيم انفصالهم عن إبراهيم عليه السلام ما ذكر، ثم فارقوه نحو لوط، ولم يذكر الحرف المصدري لأن سياقه ومقصود السورة لا يقتضي ذلك كما نشير إليه في العنكبوت:{ولما جآءت رسلنا} على ما قارنهم من عظمتنا {لوطاً} بعد انفصالهم عن إبراهيم عليه السلام، وبين البلدين ثمانية أميال، وقيل: أربعة فراسخ، استضافوه فلم يجد بداً
من قبولهم على ما أوصى الله بالضيف مطابقاً لعوائد أهل المكارم، فقبلهم وأزمع المقاتلة عنهم لما رأى من حسن أشكالهم ورونق جمالهم مع ما يعلم من قبح أفعال قومه وخبث سرائرهم، ولما جاؤوه على هذه الصفة {سيء بهم} أي حصلت له المساءة بسبب مجيئهم إلى قريته لما يعلم من لؤم أهلها، والتعبير عن هذا المعنى بالمبني للمفعول أحضر وأوقع في النفس وأرشق {وضاق بهم ذرعاً} أي ذرعه أي اتساعه في كل وقت قوة أوتيها، وهو مثل يقال لمن لم يجد من المكروه مخلصاً، ومادة ذرع - بأيّ ترتيب كان - تدور على الاتساع لأنه لا يذرع إلاّ الكثير، وذرع الرمل: اتسع، وموت ذريع: فاش، والمذرع: الذي أمه عربية وأبوه غير عربي، فهو أكثر أنتشاراً ممن انحصر في أحدهما؛ والذريعة: ما يختلي به الصيد، فهو يوسع له من الأمل ما يحمله على الإقدام، وحلقة يتعلم عليها الرمي، لأنها تسع السهم، أو لأن مصيبها واسع الأمر في صناعة الرمي، والوسيلة لأنها توصل المتوسل؛ والذعر: الخوف، لاتساع الفكر فيه وتجويز أدنى احتمال؛ والعذر: إيساع الحيلة في وجه يزيل ما ظهر من التقصير، من العذوّر - للحمار الواسع الجوف، وهو أيضاً الملك لسعته، والعذار: أوسع ما في الوجه، وأعذرت الغلام: ختنته، أي أوسعت
أكرته، والإعذار - لطعام الختان ونحوه منه، وعذرة الجارية موجبة لعذرها في النفرة للخوف على نفسها، والعذرة: وجع في الحلق، وهو سقوطه حتى يغمز، كأنه شبه بعذرة البكر في سده الحلق بما يوجب الغمز، وكذا العذرة - للناصية لبذل الجهد في المدافعة عنها، والعذراء: نجم إذا طلع اشتد الحر فاتسع بساط الأرض، والعذرة - بفتح ثم كسر: فناء الدار، وبه سمي الحدث، والعذراء: شيء من حديد يعذب به الإنسان، كأنه سمي لأنه يوسع الخوف بما يجنب ما يوجب الاعتذار، فلا تزال تلك الحديدة بكراً لا يوجد من يعذب بها، وأما عذر - بالتشديد - إذا قصر فهو للسلب، أي فعل ما لا يوجد له عذر، وكذا تعذر الأمر أي صعب، يعني أنه تحنّب العذر فلم يبق لسهولته وجه، وأعذر - إذا كثرت عيوبه، أي دخل فيما يطلب له العذر كأنجد.
ولما ذكر حاله، ذكر قاله بقوله:{وقال} أي لوط {هذا} أي اليوم {يوم عصيب*} أي شديد جداً لما أعلم من جهالة مَن أنا بين ظهرانيهم، وهو مشتق من العصب وهو أطناب المفاصل وروابطها، ومدراه على الشدة {وجاءه قومه} أي الذين فيهم قوة المحاولة {يهرعون} أي كأنهم يحملهم على ذلك حامل لا يستطيعون دفعه {إليه} أي في غاية الإسراع فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه،
فهو يضطرب لذلك، أو لأجل الرعب من لوط عليه السلام أو من الملائكة عليهم السلام.
ولما كان وجدانهم - فكيف عصيانهم - لم يستغرق زمن القبل، أدخل الجار فقال:{ومن قبل} أي قبل هذا المجيء {كانوا} أي جبلة وطبعاً {يعملون} أي مع الاستمرار {السيئات} أي الفواحش التي تسوء غاية المساءة فضربوا بها ومرنوا عليها حتى زال عندهم استقباحها، فهو يعرف ما يريدون، وكأنهم كانوا لا يدعون مليحاً ولا غيره من الغرباء، فلذلك لم يذكر أن الرسل عليهم السلام كانوا على هيئة المرد الحسان، ولا قيد الذكران في قصتهم في موضع من المواضع بالمرودية. فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل: {قال يا قوم} مستعطفاً لهم {هؤلاء بناتي} حادياً لهم إلى الحياء والكرم.
ولما كان كأنه قيل: ما نفعل بهن؟ قال: {هن} ولما كان في مقام المدافعة باللين، قال إرخاء للعنان في تسليم طهارة ما يفعلونه على زعمهم مشيراً بلطافة إلى خبث ما يريدونه:{أطهر لكم} وليس المراد من هذا حقيقته، بل تنبيه القوم على أنهم لا يصلون إليهم إلا إن وصلوا إلى بناته لأن الخزي فيهما على حد سواء أو في الضيف أعظم، ومثل
هذا أن يشفع الإنسان فيمن يضرب، فإذا عظم الأمر ألقى نفسه عليه فصورته أنه فعله ليقيه الضرب بنفسه، ومعناه احترامه باحترامه، وعلى هذا يدل قوله في الآية الأخرى {إن كنتم فاعلين} وهنا قوله:{فاتقوا الله} أي الملك الأعظم في هذا الأمر الذي تريدونه {ولا تخزون} أي توقعوا بي الفضيحة التي فيها الذل والهوان والعار {في ضيفي} إذ لا يشك ذو مسكة من أمره في أن التقوى إذا حصلت منعت من الأمرين، وأن الخزي على تقدير عدمها في البنات أعظم لأنه عار لازم للزوم البنات للأب، وكل هذا دليل على أنه لا يشك أنهم آدميون ولم يلم بخاطر أنهم ملائكة، فهو تنبيه للكفار على أنه لا ينتفع بإنزال الملائكة إلا البار الراشد التابع للحق؛ ثم أنكر أشد الإنكار حالهم في أنهم لا يكون منهم رشيد حثاً على الإقلاع عن الغي ولزوم سبيل الرشد فقال:{أليس منكم رجل} أي كامل الرجولية {رشيد*} كامل الرشد ليكفكم عن هذا القبيح، فلم يكن منهم ذلك، بل {قالوا لقد علمت} أي يا لوط مجرين الكلام على حقيقته غير معرجين على ما كني به عنه {ما لنا في بناتك} وأغرقوا في النفي فقالوا:{من حق} أي حاجة ثابتة، ولم يريدوا به ضد الباطل لأن البنات والضيف في نفي حقهم عنهم سواء، وأكدوا معلمين بما لهم
من الرغبة في الفجور وقاحة وجرأة فقالوا: {وإنك لتعلم} أي علماً لا تشك فيه {ما نريد*} وهو إتيان الذكور للتطرق والتطرف، فحملوا عرضه لبناته على الحقيقة خبثاً منهم وشرعوا يبنون على ذلك بوقاحة وعدم مبالاة بالعظائم، فأخبر تعالى عن قوله لهم على طريق الاستئناف بقوله:{قال} أي متمنياً أن يكون له بهم طاقة ليروا ما يصنع من الإيقاع بهم متفجعاً على فوات ذلك {لو أن لي بكم} أي في دفعكم {قوة} بنفسي {أو} لو أني {آوي} من الأعوان والأنصار {إلى ركن شديد*} أي جماعة هم كالركن الموصوف بالشدة لحلت بينكم وبين ما جئتم له، وحذفه أبلغ لذهاب النفس فيه كل مذهب؛ والسوء: ما يظهر مكروهه لصاحبه؛ والعصيب: الشديد في الشر خاصة كأنه التف شره؛ والقوة خاصة يمكن أن يقع بها الفعل وأن لا يقع؛ والركن: معتمد البناء بعد الأساس، والركن هنا من هو مثله؛ والشدة: مجمع يصعب معه الإمكان، ووصفه الركن بالشدة وهو يتضمنها تأكيد يدل على أن قومه كانوا في غاية القوة والجلادة، وأنه كان يود معاجلتهم لو قدر.
وذلك أن مادة (ركن) بكل ترتيب تدور على الرزانة، من ركن - بالضم بمعنى رزن، ويلزمهما القوة، ومنه الركن للجانب الأقوى والأمر العظيم وما يتقوى به من ملك وجند وغيره والعز
والمنعة، ومن ذلك النكر بالضم للدهاء والفطنة، والنكر للمنكر والأمر الشديد وما يخرج من الزحير من دم أو قيح، ونكر الأمر: صعب وطريق ينكور: على غير قصد، والمنكر ضد المعروف لأن الشيء إذا جهل صعب أمره، وتناكر القوم: تعادوا، والتنكر: التغير من حال يسر إلى حال يكره، والمكنر - كمحدث: الضخم السمج، ويلزم الرزانة أيضاً الميل والسكون، ومنه ركن إليه - بالفتح: مال وسكن، وركن بالمنزل - بالكسر: أقام؛ والكنارة - بالكسر والتشديد: الشقة من ثياب الكتان، لأنه يمال إليه لبهجته، وكذا الكنارات للعيدان والطبول، والكران ككتاب للعود أو الصنج، أو يكون ذلك من الشدة لقوة أصواتها - والله أعلم.
فلما عظم الشقاق وضاق الخناق كان كأنه قيل: فما قال له الرسل؟ فقيل: {قالوا} ودلوا بحرف النداء الموضوع للبعد على أنه كان قد خرج عن الدار وأجاف بابها وأن الصياح كان شديداً {يا لوط} إنك لتأوي إلى ركن شديد؛ ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنا رسل ربك} أي المحسن إليك بإحسانك وكل ما ترى مما يسوءك ويسرك؛ ثم لما ثبت له ذلك كان من المحقق أنه سبب في ألا يدانيه معه سوء فأوضحوه بقولهم: {لن يصلوا إليك} من غير احتياج
إلى الربط بالفاء، أي ونحن مهلكوهم وقالبوا مدنهم بهم {فأسر} أي سر بالليل ماضياً {بأهلك} موقعاً ذلك السير والإسراء {بقطع} أي بطائفة، أي والحال أنه قد بقي عند خروجك جانب {من الَّيل ولا يلتفت} أي ينظر إلى ورائه ولا يتخلف {منكم أحد} أي لا تلتفت أنت ولا تدع أحداً من أهلك يلتفت {إلا امرأتك} استثناء من «أحد» بالرفع والنصب لأن المنهي كالمنفي في جواز الوجهين، والنهي له صلى الله عليه وسلم، فالفعل بالنسبة إليه منهي، وبالنسبة إليهم منفي. ويمكن أن يكون أخرجها معه لأن معنى الاستثناء أنه غير مأمور بالإسراء بها إلا أنه منهي عنه، واستثناءها من الالتفات معهم مفهم أنه لا حجر عليه في الإسراء بها، أو أنه خلفها فتبعتهم والتفتت، فيكون قراءة النصب من {أهلك} ، وقراءة الرفع من {أحد} ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل مخالفتها للمستثنى منه في عدم النهي، ولذلك عللوا ما أفهمه إهمالها من الإسراء والنهي من أنها تلتفت بقولهم مؤكدين لأن تعلق الأمل بنجاتها شديد رحمة لها:{إنه} أي الشأن {مصيبها}
لا محالة {ما أصابهم} سواء التفت أو لا، تخلفت أو لا، ثم ظهر لي من التعبير في حقها باسم الفاعل وفي حقهم بالماضي أنه حكم بإصابة العذاب لهم عند هذا القول للوط عليه السلام لأن ذنوبهم تمت، وأما هي قإنما يبرم الحكم بذلك في حقها عند تمام ذنوبها التي رتبت عليها الإصابة وذلك عند الالتفات.
ولما عبروا بالماضي تحقيقاً للوقوع وتنبيهاً على أنه تقدم دخولها معهم في أسباب العذاب، كان منبهاً لأن يقال: كان الإيقاع بهم قد دنا بهم جداً؟ فقيل: نعم، وأكد تحقيقاً للوقوع تلذيذاً به ولأنه - لقرب الوقت - بحيث ينكر:{إن موعدهم} أي لابتداء الأخذ {الصبح} وكأن لوطاً عليه السلام أبطأ في جميع أهله وما يصلحهم، فكان فعله فعل من يستبعد الصبح، فأنكروا ذلك بقولهم:{أليس الصبح بقريب*} أي فأسرع الخروج بمن أمرت بهم؛ والإسراء: سير الليل كالسرى.
ولما انقضى تسكين لوط عليه السلام والتقدم إليه فيما يفعل، أخبر تعالى عن حال قومه فقال:{فلما جاء أمرنا} بالفاء لما مضى في قصة صالح عليه السلام من التسبيب والتعقيب، أي فلما خرج منها لوط بأهله جاءنا أمرنا، ولما جاء أمرنا الذي هو عذابنا والأمر به {جعلنا} بما لنا من العظمة {عاليها} أي عالي مدنهم وهم فيها
{سافلها وأمطرنا عليها} أي على مدنهم بعد قلبها من أجلهم وسيأتي في سورة الحجر سر الإتيان هنا بضمير «ها» دون ضمير «هم» {حجارة من سجيل} أي مرسلة من مكان هو في غاية العلو {منضود} بالحجارة هي فيه متراكبة بعضها على بعض حال كونها {مسومة} أي معلمة بعلامات تدل على أنها معدة للعذاب من السيما والسومة وهي العلامة تجعل للإبل السائمة لتتميز إذا اختلطت في المرعى، وفي الذاريات
{حجارة من طين} [الذاريات: 33] وذلك أن الحجارة أصلها تراب يجعل الله فيه بواسطة الماء قابلية للاستحجار كما جعل فيه قابلية التحول إلى المعدن من الذهب والفضة والحديد وغيرها، فباعتبار أصله هو طين، وباعتبار أوله حجر وكبريت ونار، ولعل حجر الكبريت أثقل الحجارة مع ما فيه من قوة النار وقبح الريح؛ ثم فخمها بقوله:{عند ربك} وعبر بالرب إشارة إلى كثرة إحسانه وإليه وأنه إنما أمره صلى الله عليه وسلم بالإنذار وحمة لأمته التي جعلها خير الأمم وسيجعلها أكثر الأمم، ولا يهلكها كما أهلكهم؛ ومادة سجل - بأي ترتيب كان - تدور على العلو، من الجلس لما ارتفع عن الغور وهو النجد، ويلزم منه الغلظ والعلو، ومن الغلظ الجلس للغليظ من الأرض والجمل الوثيق، ويلزم العلو التصويب ومن جلس - إذا قعد؛ والسجل للدلو العظيمة، ويكون غالباً في مقابلتها أخرى، كلما نزلت واحدة طلعت الأخرى، فتاتي المساجلة بمعنى المباراة والمفاخرة،
والسجل: الضرع العظيم، والسجل - بالكسر وشد اللام: الكتاب لأنه يذكر فيه ما يكون به المفاخرة والمغالبة؛ وسلج الطعام: بلعه، والسلجان: نبات رخو، كأنه سمي بذلك لأن أغصانه تأخذ إلى أسفل لرخاوتها، وقد دل على هذا المعنى في هذه الآية بثلاثة أشياء: الإمطار، ولفظ «على» ، وسجيل.
ولما كان المعنى أنها من مكان هو في غاية العلو ليعظم وقعها، حسن كل الحسن اتباع ذلك قوله:{وما هي} على شدة بعد مكانها {من الظالمين} أي من أحد من العريقين في الظلم في ذلك الزمان ولا هذا ولا زمن من الأزمان {ببعيد} لئلا يتوهم الاحتياج في وصولها إلى المرمى بها إلى زمن طويل.
ذكر هذه القصة من التوراة: قال في السفر الأول بعد ما مضى في قصة بشرى إبراهيم عليه السلام: فأتى الملكان إلى سدوم عشاء، وكان لوط جالساً على باب سدوم، فنظر إليهما لوط فتلقاهما، ثم خرّ على وجهه ساجداً على الأرض وقال: إني طالب إليكما يا سيدي، اعدلا إلى منزل عبدكما فبيتا فيه واغسلا أقدامكما وبكرا فانطلقا في طريقكما، فقالا: كلا! ولكنا نبيت في السوق، فألح عليهما لوط إلحاحاً شديداً فانصرفا معه ودخلا منزله فأعد لهما طعاماً، ومن قبل وقت الهجوع إذا أهل القرية أهل سدوم قد أحاطوا بالباب من الشبان إلى المشايخ جميع الشعب بأسره،
فدعوا بلوط وقالوا له: أين الرجلان اللذان أتياك ممسيين أخرجهما إلينا فنعرفهما - وفي نسخة: حتى نواقعهما - فخرج لوط إليهم وأغلق الباب خلفه، فقال لهم لوط: لا تسيئوا بي يا إخوة! هذا لي بنتان لم يمسهما رجل، أخرجهما إليكم فاصنعوا بهما ما حسن في أعينكم، ولا ترتكبوا من هذين الرجلين شيئاً لأنهما ولجا ظلال بيتي، فقالوا له: تنح عنا، إن واحداً أتى ليسكن بيتنا فصار يحكم فينا، فالآن نسيء إليك أكثر منهما، فجاهد لوط القوم جداً فدنوا ليكسروا الباب فمد الرجلان أيديهما فأدخلا لوطاً إليهما إلى منزله، ثم إن القوم الذين كانوا بالباب ضربوا بالعشى من كبيرهم حتى صغيرهم فأعيوا في طلب الباب، فقال الملكان للوط: ماتصنع هاهنا؟ اعمد إلى أختانك وبينك وبناتك وجميع ما لك في هذه القرية فأخرجهم من هذه البلدة لأنا نريد الخسف بالبلدة لأن فعالهم وخبث صنيعهم قد بلغ الرب، فأرسلنا الرب لنفسدها، فخرج لوط وكلم أختانه وأزواج بناته وقال لهم: قوموا فاخرجوا من هذه القرية فإن الرب مزمع لخرابها، وكان عند أختانه كالمستهزىء بهم، فلما كان عند طلوع الصبح ألح الملكان على لوط وقالا له: قم فأخرج امرأتك وابنتيك اللتين معك لكيلا تبتلي بخطايا أهل هذه القرية، فابطأ لوط فأخذ الملكان بيده وبيد امرأته وابنتيه لأن الله رحمه فأخرجاه وصيراه خارجاً عن القرية، فلما أخرجاهم خارجاً
قالا له: انج بنفسك ولا تلتفتن إلى خلفك ولا تقف في شيء من جميع القاع، والتجىء إلى جبل وخلص نفسك، فقال لهما لوط: أطلب إليكما يا سيدي أن أظفر الآن لأن عبدكما برحمة ورأفة وكثرت نعماكما إليّ لتحيي نفسي، لست أقدر أن أنجو إلى الجبل، لعل الشر يرهقني فأموت، وهذه القرية هي قريبة للهرب إليها وهي صغيرة، أتأذنان لي بالهرب إليها لأنها حقيرة، فلتحييا نفسي، فقال له: قد شفعتك في هذا أيضاً فلا أقلب هذه القرية التي سألت، أسرع فانج نفسك إلى هناك، لأنا لسنا نقدر أن نعمل شيئاً حتى تدخلها، ولذلك سميت تلك القرية صاغار - وفي نسخة: زغر - فشرقت الشمس على الأرض وقد دخل لوط صاغار، وفي نسخة: زغر - فأهبط الرب على سدوم وعامورا ناراً وكبريتاً من بين يدي الرب من السماء فقلب هذه القرى والقاع بأسره، وأهلك جميع سكانها وجميع من فيها وجمع نبت الأرض، فالتفتت امرأته إلى خلفها لتنظر فصارت نصبة ملح، فأدلج إبراهيم باكراً إلى الموضع الذي كان يقف فيه بين يدي الرب؛ فمد بصره نحو سدوم وعامورا وإلى جميع أرض القاع فنظر فإذا دخان القرية يرتفع كدخان الأخدود، فلما خسف الله قرى القاع ذكر الله إبراهيم فأرسل لوطاً من المأفوكة إذ قلب الله القرى التي كان ينزلها لوط فطلع لوط من
صاغار - وفي نسخة: زغر - فسكن الجبل هو وابنتاه معه لأنه تخوف أن يسكن صاغار، فجلس في مغارة.
ولما انتهت القصة معلمة لما قام به لوط عليه السلام من أمر الله غير وانٍ لرغبة ولا رهبة وبما في إنزال الملائكة من الخطر، أتبعت أقرب القصص الشهيرة إليها في الزمن فقال تعالى:{*وإلى} أي ولقد أرسلنا إلى {مدين} وهم قبيلة أبيهم مدين بن إبراهيم عليه السلام {أخاهم شعيباً} فكأن قائلاً قال: ما قال لهم؟ فقيل: {قال} ما قال إخوانه من الأنبياء في البداءة بأصل الدين: {يا قوم} مستعطفاً لهم مظهراً غاية الشفقة {اعبدوا الله} أي الملك الأعلى غير مشركين به شيئاً لأنه واحد {ما لكم} وأغرق في النفي فقال: {من إله غيره} فلقد اتفقت - كما ترى - كلمتهم واتحدت إلى الله وحده دعوتهم، وهذا وحده قطعي الدلالة على صدق كل منهم لما علم قطعاً من تباعد أعصارهم وتنائي ديارهم وأن بعضهم لم يلم بالعلوم ولا عرف أخبار الناس إلا من الحي القيوم؛ قال الإمام شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في كتابه «رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية» في ذكر الأنبياء: اتحدت مصادرهم كأنهم بنيان مرصوص، عبروا
بألسنة مختلفة تنتهي إلى بحر متصل بالقلوب متحد بها يستمد من البحر المحيط بعالمي الشهادة والغيب، واختلفت الموارد من الشرائع بحسب ما اقتضت الحكمة الإلهية من مصلحة أهل كل زمان وكل ملة، فما ضر اختلافهم في الفروع مع اتحادهم في الأصول، وقال قبل ذلك: إن الفلاسفة لما لم يغترفوا من بحار الأنبياء وقفت بهم أفراس أفكارهم في عالم الشهادة، فلما حاولوا الخوض في الإلهيات انكشفت عورة جهلهم وافتضحوا باضطرابهم واختلافهم {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى} [الحشر: 14] القطع بهم سير الفكر في منتهى عالم الملك والشهادة، ولم يدخل إسكندر نظرهم ظلمات عالم الغيوب حتى يظفروا بعين الحياة التي من شرب منها لا يموت - انتهى.
ولما دعا إلى العدل فيما بينهم وبين الله، دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين عبيده في أقبح ما كانوا قد اتخذوه بعد الشرك ديدناً فقال:{ولا تنقصوا} أي بوجه من الوجوه {المكيال والميزان} لا الكيل ولا آلته ولا الوزن ولا آلته؛ والكيل: تعديل الشيء بالآلة في القلة والكثرة؛ والوزن: تعديله في الخفة والثقل، فالكيل للعدل في الكمية والوزن للعدل في الكيفية؛ ثم علل ذلك بقوله:{إني أراكم بخير} أي بسعة تغنيكم عن البخس - مرهباً ومرغباً بالإشارة
إلى أن الكفر موجب للنقمة كما أن الشكر موجب للنعمة.
ولما كان كأنه قيل: فإني أخاف عليكم الفقر بالنقص، عطف عليه مؤكداً لإنكارهم:{وإني أخاف عليكم} به وبالشرك {عذاب يوم محيط*} بكم صغاراً وكباراً وبأموالهم طيباً وخبيثاً، أي مهلك كقوله {وأحيط بثمره} [الكهف: 42] وأصله من إحاطة العدو، ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ لأنه محيط بما فيه من عذاب وغيره، والعذاب محيط بالمعذب فذكر المحيط بالمحيط أهول، وهو الدائر بالشيء من كل جانب، وذلك يكون بالتقاء طرفيه؛ والنقصان: أخذ شيء من المقدار كما أن الزيادة ضم شيء إليه، وكلاهما خروج عن المقدار؛ والوزن، تعديل الشيء بالميزان، كما أن الكيل تعديله بالمكيال، ومن الإحاطة ما رواه ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
ولما كان عدم النقص قد يفهم منه التقريب، أتبعه بما ينفي هذا الاحتمال وللتنبيه على أنه لا يكفي الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها، ولأن التصريح
بالأمر بالشيء بعد النهي عن ضده أوكد، فقال مستعطفاً لهم بالتذكير بأنه منهم يسوءه ما يسوءهم وبأنهم لما أعطاهم الله من القوة جديرون بأن يعرضوا عن تعاطي سفساف الأخلاق ورذائلها:{ويا قوم} أي أيها الذين لهم قوة في القيام فيما ينوبهم {أوفوا} أي أتموا إتماماً حسناً {المكيال والميزان} أي، المكيل والموزون وآلتهما؛ وأكده بقوله:{بالقسط} أي العدل السوي، فصار الوفاء مأموراً به في هاتين الجملتين مراراً تأكيداً له وحرصاً عليه وإظهاراً لعموم نفعه وشمول بركته، فزال بالمجموع توهم المجاز على أبلغ وجه، وقد مضى في الأنعام ويأتي في هذه السورة عند {غير منقوص} أن الشيء يطلق مجازاً على ما قاربه؛ ثم أكده أيضاً بتعميم النهي عن كل نقص بذلك وغيره في جميع الأموال فقال:{ولا تبخسوا} أي تنقصوا على وجه الجحد والإهانة {الناس أشياءهم} ثم بين أن أفعالهم ثمرة الهجوم عن غير فكر لأنها ليست ناشئة عن شرع فأولها سفه وآخرها فساد فقال: {ولا تعثوا في الأرض} أي تتصرفوا وتضطربوا فيها عن غير بصيرة ولا تأمل حال كونكم {مفسدين*} أي فاعلين ما يكون فساداً في المعنى كما كان فساداً في الصورة، فهو دعاء إلى تقديم التأمل والتروي على كل فعل وذلك لأن مادة «عثى» بكل ترتيب دائرة على الطلب عن غير بصيرة، من العيث - للأرض السهلة، فإنها لسهولتها
يغتر بها فيسلكها الغبي بلا دليل فيأتي الخفاء والجهل، ومنه التعييث - لطلب الأعمى الشيء؛ والأعثى: الأحمق الثقيل، واللون إلى السواد، والكثير الشعر، ويلزم ذلك اتباع الهوى فيأتي الإفساد والمسارعة فيه، وذلك هو معنى العثى؛ قال أئمة اللغة: عثى وعاث: أفسد، وفي مختصر العين للزبيدي: عثى في الأرض بمعنى عاث يعيث عيثاً، وهو الإسراع في الفساد، فالمعنى على ما قال الجمهور: ولا تفعلوا الفساد عمداً وهو واضح، وعلى ما قدّرته من أصل المعنى الذي هو للمدار أوضح، وعلى ما قال الزبيدي: ولا تسرعوا فيه، فلا يظن أنه يكون الإسراع حينئذ قيداً حتى ينصب النهي إليه، بل هو إشارة إلى أنه لا يكون الإقدام بلا تأمل إلا كذلك لملاءمته للشهوة - والله أعلم؛ والوفاء: تمام الحق؛ والبخس: النقص، فهو أخص من الظلم لأنه وضع الشيء في غير موضعه.
ولما كان نظرهم بعد الشرك مقصوراً على الأموال، وكان نهيه عما نهى عنه موجباً لمحقها في زعمهم، كانوا كأنهم قالوا: إنا إذا اتبعناك فيما قلت فنيت أموالنا أو قلت فتضعضعت أحوالنا، فلا يبقى لنا شيء؟ فقال:{بقيت الله} أي فضل الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال، وبركته في أموالكم وجميع أحوالكم وإبقائه عليكم نظره إليكم الموجب
لعفوه الذي هو ثمرة اتباع أمره {خير لكم} مما تظنونه زيادة بالنقص والظلم، وذلك أن بقية الشيء ما فضل منه، وتكون أيضاً بمعنى البقيا، من أبقى عليه يبقي إبقاء، واستبقيت فلاناً - إذا عفوت عن ذنبه، كأن ذلك الذنب أوجب فناء وده أو فناه عندك، فإذا استبقيته فقد تركت ما كان وجب، ويقولون: أراك تبقي هذا ببصرك - إذا كان ينظر إليه - قاله الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع، وسيأتي في آخر السورة بيان ما تدور عليه المادة.
ولما كانت خيرية ما يبقيه العدل من الظهور بمحل لا يخفى على ذي لب، تركها وبين شرطها بقوله:{إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {مؤمنين} أي راسخين في الإيمان إشارة إلى أن خيريتها لغير المؤمن مبنية على غير أساس، فهي غير مجدية إلا في الدنيا، فهي عدم لسرعة الزوال والنزوح عنها والارتحال، ودلت الواو العاطفة على غير مذكور أن المعنى: فآمنوا فاعلين ما أمرتكم به لتظفروا بالخير فإنما أنا نذير {وما أنا} وقدم ما يتوهمونه من قصده للاستعلاء نافياً له فقال: {عليكم} وأعرق في النفي فقال: {بحفيظ*} أعلم جميع أعمالكم وأحوالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فساداً؛ وأصل البقية ترك شيء من شيء قد مضى.
ولما كان الحاصل ما دعاهم إليه ترك ما كان عليه آباؤهم من السفه في حق الخالق بالشرك والخلائق بالخيانة، وكان ذلك الترك عندهم قطيعة وسفهاً، كان ذلك محكاً للعقول ومحزاً للآراء يعرف به نافذها من جامدها، فكان كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا يا شعيب} سموه باسمه جفاء وغلظة وانكروا عليه مستهزئين بصلاته {أصلواتك تأمرك} أي تفعل معك فعل من كان يأمر دائماً بتكليفنا {أن نترك ما يعبد} أي على سبيل المواظبة {آباؤنا أو} نترك {أن نفعل} أي دائماً {في أموالنا ما نشاء} من قطع الدرهم والدينار وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفساداً للمال، يعنون أن ما تأمرنا به لا يمشي على منهاج العقل، فما يأمرك به إلا ما نراك تفعله من هذا الشيء الذي تسميه صلاة، أي أنه من وداي: فعلك للصلاة؛ ومادة صلا - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بجميع تقاليبها - تدور على الوصلة، فالصلاة لصلة العبد بربه، وكذا الدعاء والاستغفار، وصلوات اليهود: كنائسهم اللاتي تجمعهم، والصلا: وسط الظهر ومجمعه وما حول الذنب أيضاً، والمصلى من الخيل: التابع للسابق، وصال الفحل - إذا حمل على العانة، ولصوت الرجل ولَصَيته: عبته، كأنك ألصقت به العيب، والواصلة واضحة في ذلك، وكأنها الحقيقة التي تفرعت منها جميع معاني المادة، وسيأتي شرح ذلك عند قوله تعالى {بالغدو والآصال}
في سورة الرعد إن شاء الله، فمعنى الآية حينئذ: أما تعانيه من الصلوات: الحقيقية ذات الأركان، والمعنوية من الدعاء والاستغفار وجميع أفعال البر الحاملة على أنواع الوصل الناهية عن كل قطيعة تأمرك بمجاهرتنا لآبائنا بالقطيعة مع تقدير حضورهم ومشاهدتهم لما نفعل مما يخالف أغراضهم وبترك التنمية لأموالنا بالنقص وهو مع مخالفة أفعال الآباء تبذير فهو سفه - فدارت شبهتهم في الأمرين على تلقيد الآباء وتنزيههم عن الغلط لاحتمال أن يكون لأفعالهم وجه من الصواب خفي عنهم، وزادت في ألأموال بظن التبذير - فقد صرت بدعائنا إلى كل من الأمرين حينئذ داعياً إلى ضد ما أنت متلبس به {إنك} إذاً {لأنت} وحدك {الحليم} في رضاك بما يغضب منه ذوو الأرحام {الرشيد*} في تضييع الأموال، يريدون بهذا كما زعموا - سلخه من كل ما هو متصف به دونهم من هاتين الصفتين الفائقتين بما خيل إليهم سفههم أنه دليل عليه قاطع، وعنوا بذلك نسبته إلى السفه والغي على طريق التهكم.
ولما اتهموه بالقطيعة والسفه، شرع في إبطال ما قالوا ونفي التهمة فيهن وأخرج مخرج الجواب لمن كأنه قال: ما أجابهم به؟ فقيل:
{قال يا قوم} مستعطفاً لهم بما بينهم من عواطف القرابة منبهاً لهم على حسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض والتقدير ليكون أدعى إلى الوفاق والإنصاف {أرءيتم} أي أخبروني {إن كنت} أي كوناً هو في غاية الثبات {على بينة} أي برهان {من ربي} الذي أحسن إليّ بما هو إحسان إليكم، وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه قوله:{و} قد {رزقني} وعظم الرزق بقوله: {منه رزقاً حسناً} جليلاً ومالاً جماً حلالاً لم أظلم فيه أحداً، والجواب محذوف لتذهب النفس فيه كل مذهب، ويمكن أن يقال فيه: هل يسع عاقلاً أن ينسبني إلى السفه بتبذير المال بترك الظلم، أو يسعني أن أحلم عمن عبد غيره وأترك دعاءكم إلى الله، فقد بان بهذا أني ما أمرتكم بما يسوءكم من ترك ما ألفتم وتعرضت لغضبكم كلكم، وتركت مثل أفعالكم إلا خوفاً من غضبه ورجاء لرضاه، فظهر أن لا تهمة في شيء من أمري ولا خطأ، ما فعلت قط ما نهيتكم عنه فيما مضى {وما أريد} أي في وقت من الأوقات {أن أخالفكم} أي بأن أذهب وحدي {إلى ما أنهاكم عنه} في المستقبل، وما نقص مال بترك مثل أفعالكم، فهو إرشاد إلى النظر في باب:
لا تنه عن خلق وتأتي بمثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها
…
فإذا انتهيت عنه فأنت حكيم
وقد نبهت هذه الأجوبة الثلاثة على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتي ويذر أحد حقوق ثلاثه أهمها وأعلاها حق الله وثانيها حق النفس وثالثها حق العباد على وجه الإخلاص في الكل فثبت ببعده عن التهمة مع سداد الأفعال وحسن المقاصد - حلمه صلى الله عليه وسلم ورشده، فلذلك أتبعه بما تضمن معناه مصرحاً به فقال:{إن} أي ما {أريد} أي شيئاً من الأشياء {إلا الإصلاح} وأقر بالعجز فقال: {ما استطعت} أي مدة استطاعتي للاصلاح وهو كما أردت فإن مالي - مع اجتنابي ما أنتم عليه - صالح، ليس بدون مال أحد منكم، فعلم، مشاهدة أن لا تبذير في العدل، وأما التوحيد فهو - مع انتفاء التهمة عنى فيه - دعاء إلى القادر على كل شيء الذي لا خير إلى منه ولا محيص عن الرجوع إلأيه؛ ثم تبرأ من الحول والقوة، وأسند الأمر إلى من هو له فقال:{وما توفيقي} إي فيما استطعت من فعل الإصلاح {إلا بالله} أي الذي له الكمال كله؛ ثم بين أنه الأهل لأن يرجى فقال مشيراً إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مرتب العلم بالمبدأ {عليه} أي وحده {توكلت} ولما طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتي ويذر من الله والاستعانة به في مجامع أمره وأقبل عليه بكليته وحسم أطماع الكفار عنه وأظهر الفراغ عنهم وعدم المبالاة بهم، وكان في قوله {ما استطعت}
إقرار بأنه محل التقصير، أخبر بأنه لا يزال يجدد التوبة لعظم الأمر، وعبر عن ذلك بعبارة صالحة للتحذير من يوم البعث تهديداً لهم فقال منبهاً على معرفة المعاد ليكمل الإيمان بالله واليوم الآخر:{وإليه} أي خاصة {أنيب*} أي أرجع معنى سبقي للتوبة وحساً تيقني بالبعث بعد الموت؛ والوفيق: خلق قدرة ما هو وفق الأمر من الطاعة، من الموافقة للمطابقة؛ والتوكل على الله: تفويض الأمر إليه على الرضاء بتدبيره مع التمسك بطاعته.
ولما بين لهم عذره بما انتفت به تهمته، أتبعه بما يدلهم على أن الحق وضح لهم وضوحاً لم يبق معه إلا المعاندة، فحذرهم عواقبها وذكرهم أمر من ارتكابها فقال:{ويا قوم} وأعز الناس عليّ {لا يجرمنكم} أي يحملنكم {شقاقي} أي شقاقكم لي على {أن يصيبكم} من العذاب {مثل ما} أي العذاب الذي {أصاب قوم نوح} بعد طول أعمارهم وتنائي أقطارهم {أو قوم هود} على شدة أبدانهم وتمادي أمانهم {أو قوم صالح} مع نحتهم البيوت من الصخور وتشييدهم عوالي القصور.
ولما كان للمقاربة أثر المشاكلة والمناسبة، غير الأسلوب تعظيماً للتهويل فقال:{وما قوم لوط} أي على قبح أعمالهم وسوء
حالهم وقوة أخذهم ووبالهم {منكم ببعيد*} أي لا في الزمان ولا في المكان فأنتم أجدر الناس بذكر حالهم للاتعاظ بها، وإنما فسرت جرم بحمل لأن ابن القطاع نقل أنه يقال: جرمت الرجل: حملته على الشيء، وقد عزا الرماني تفسيرها بذلك للحسن وقتادة، ويجوز أن تفسر بما تدور عليه المادة من القطع، أي لا يقطعنكم شقاقي عن اتباع ما أدعوكم إليه خوف أن يصيبكم، وقد جوزه الرماني.
ولما رهبهم، أتبعه الترغيب في سياق مؤذن بأنهم إن لم يبادروا إلى المتاب بادرهم العذاب، بقوله عاطفاً لهذا الأمر على ذلك النهي المتقدم:{واستغفروا ربكم} أي اطلبوا ستر المحسن إليكم، ونبه على مقدار التوبة بأداة التراخي فقال:{ثم توبوا إليه} ثم علل ذلك مرغباً في الاقبال عليه بقوله: {إن ربي} أي المختص لي بما ترون من الإحسان ديناً ودنيا {رحيم ودود*} أي بليغ الإكرام لمن يرجع إليه بأن يحفظه على ما يرضاه بليغ التحبب إليه، ولم يبدأه بالاستعطاف على عادته بقوله: يا قوم، إشارة إلى أنه لم يبق لي وقت آمن فيه وقوع العذاب حتى أشتغل فيه بالاستعطاف، فربما كان الأمر أعجل من ذلك فاطلبوا مغفرته بأن بأن تجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليها بالتوبة؛ فثم على بابها في الترتيب، وأما التراخي فباعتبار عظم مقدار التوبة وعلو رتبتها
لأن الغفران لا يحصل بالطلب إلا إن اقترن بها، هذا الشأن في كل كبيرة من أنها لا تكفر إلا بالتوبة، وذلك لأن الطاعة المفعولة بعدها يكون مثلها كبيرة في جنس الطاعات كما أن تلك كبيرة في جنس المعاصي فلا تقوى الطاعة على محوها وتكرر الطاعات يقابله تكرر المعاصي بالإصرار الذي هو بمنزلة تكرير المعصية في كل حال، فلما رأوه لا ينزع عنهم ولم يقدروا لكلامه على جواب، أيأسوه من الرجوع إليه بأن أنزلوا أنفسهم عناداً في الفهم لهذا الكلام الواضح جداً إلى عداد البهائم، وهددوه فأخبر تعالى عنهم بذلك استئنافاً في جواب من يقول: ما قالوا بعد هذا الدعاء الحسن؟ بقوله: {قالوا يا شعيب} منادين له باسمه جفاء وغلظة {ما نفقه} أي الآن لأن «ما» تخص بالحال {كثيراً مما تقول} وإذا لم يفهم الكثير من الكلام لم يفهم مقصوده، يعنون: خفض عليك واترك كلامك فإنا لا نفهمه تهاوناً به كما يقول الإنسان لخصمه إذا نسبه إلى الهذيان: أنا لا أدري ما تقول، ولما كان غرضهم مع العناد قطع الأمر، خصواً عدم الفهم بالكثير ليكون أقرب إلى الإمكان، وكأنهم - والله أعلم - أشاروا إلى أنه كلام غير منتظم فلا حاصل له ولا لمضمونه وجود في الخارج.
ولما كان في ذلك إشارة إلى أنه ضعيف العقل لأن كلامة مثل كلام المجانين،
أتبعوه قولهم: {وإنا لنراك} أي رؤية مجددة مستمرة {فينا ضعيفاً} أي في البدن وغيره، فلا تتعرض لسخطنا فإنك لا تقدر على الامتناع من مكروه نحله بك بقوة عقل ولا جسم ولا عشيرة، وأشاروا إلى ضعف العشيرة بتعبيرهم بالرهط في قولهم:{ولولا رهطك لرجمناك} أي قتلناك شر قتلة - فإن الرهط من ثلاثة إلى عشرة وأكثر ما قيل: إن فخذه أربعون - فما أنت علينا بممتنع لضعفك وقلة قومك {وما أنت} أي خاصة، لأن «ما» لنفي الحال اختصاص بالزمان، والقياس أن يكون مدخولها فعلاً أو شبهه، وحيث أوليت الاسم لا سيما الضمير دل على أن التقديم للاهتمام والاختصاص {علينا بعزيز*} بكريم مودود، تقول: أعززت فلاناً - إذا كان له عندك ود، بل قومك هم الأعزة عندنا لموافقتهم لنا، ولو كان المراد: ما عززت علينا، لكان الجواب: لم لا أعز وقد شرفني الله - أو نحو هذا، ويصح أن يراد بالعزيز القوي الممتنع، ويصير إفهامه لامتناع رهطه محمولاً على أن المانع لهم موافقتهم لهم لا قوتهم؛ والفقه: فهم الكلام على ما تضمن من المعنى، وقد صار اسماً لضرب من علوم الدين، وأصل الرهط: الشدة، من الترهيط لشدة الأكل، ومنه الراهطاء: حجر اليربوع لشدته وتوثقه ليخبأ فيه ولد.
ولما كان تخصيصهم نفي العزة به يفهم أن رهطه عليهم أعزة، أنكر عليهم ذلك في سياق مهدد لهم فقال تعالى حاكياً عنه استئنافاً:{قال}
أي شعيب {يا قوم} ولم يخل الأمر من جذب واستعطاف بذكر الرحم العاطفة {أرهطي} أي أقاربي الأقربون منكم {أعز عليكم من الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرةً حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم ولم تنظروا إلى الله في قربي منه بما ظهر عليّ من كرامته {واتخذتموه} أي بما كلفتم به أنفسكم مما هو خلاف الفطرة الأولى {وراءكم} أي أعرضتم عنه إعراض من جعل الشيء وراءه؛ وحقق معنى الوراء بقوله: {ظهرياً} أي جعلتموه كالشيء الغائب عنكم المنسي عندكم الذي لا يعبأ به، ولم تراقبوه فيّ لنسبتي إليه بالرسالة والعبودية.
ولما كان معنى الكلام لأجل الإنكار: إنكم عكستم في الفعل فلم تعرفوا الحق لأهله إذ كان ينبغي لكم أن لا تنسوا الله بل تراقبوه في كل أموركم، حسن تعليل هذا المفهوم بقوله:{إن ربي} أي المحسن إليّ؛ ولما كان المراد المبالغة في إحاطة علمه تعالى بأعمالهم قدم قوله: {بما تعملون محيط*} من جليل وحقير، فهو مقتدر في كل فعل من أفعالكم على إنفاذه وإبطاله، فهو محيط بكم لا يرده عن نصرتي منكم والإيقاع بكم مراعاة أحد لعزة ولا قوة، بل لكم عنده أجل هو مؤخركم إليه لأنه لا يخشى الفوت؛ والاتخاذ: أخذ الشيء لأمر يستمر في المستأنف كاتخاذ البيت؛ والمحيط: المدير على الشيء كالحائط يحصره بحيث
لا يفوته منه شيء.
ولما ختم الآية بتهديدهم بما بين أن تهديدهم له عدم لا يبالي به، أتبعه ما يصدقه من أنه ليس بتارك شيئاً من عمله مما جبلوا به، وزاد في التهديد فقال:{ويا قوم اعملوا} أي أوقعوا العمل لكل ما تريدون قارين مستعلين {على مكانتكم} أي حالكم الذي تتمكنون به من العمل {إني عامل} على ما صار لي مكانة، أي حالاً أتمكن به من العمل لا أنفك عنه ما أنا عامل من تحذيري لمن كفر وتبشيري لمن آمن وقيامي بكل ما أوجب عليّ الملك غير هائب لكم ولا خائف منكم ولا طامع في مؤالفتكم ولا معتمد على سواه.
ولما كانت ملازمتهم لأعمالهم سبباً لوقوع العذاب المتوعد به ووقوعه سبباً للعلم بمن يخزي لمن يعلم أي هذين الأمرين يراد، ذكره بعد هذا التهديد فحسن حذف الفاء من قوله:{سوف تعلمون*} أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر زمانه، وسوقه مساق الجواب لمن كأنه قال: ما المراد بهذا الأمر بالعمل المبالغ قبل في النهي عنه؟ وقد تقدم في قصة نوح عليه السلام ما يوضحه.
وأحسن منه أنهم لما قالوا {ما نفقه كثيراً مما تقول} كذبهم - في إخراج الكلام على تقدير سؤال من هو منصب الفكر كله إلى كلامه - قائل: ماذا يكون إذا عملنا وعملت؟ فهذا وصل خفي مشير إلى تقدير السؤال ولو ذكر الفاء لكان
وصلاً ظاهراً، وقد ظهر الفرق بين كلام الله العالم بالإسباب وما يتصل بها من المسبباب المأمور بها أشرف خلقه صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام والزمر والكلام المحكي عن نبيه شعيب عليه السلام في هذه السورة {من} أي أينا أو الذي {يأتيه عذاب يخزيه} ولما كان من مضمون قولهم {ما نفقه كثيراً مما تقول} النسبة إلى الكذب لأنه التكلم بما ليس له نسبة في الواقع تطابقه، قال:{ومن هو كاذب} أي مني ومنكم، فالتقدير إن كانت «من» موصولة: ستعلمون المخزي بالعذاب والكذب أنا وأنتم، وإن كانت استفهامية: أينا يأتيه عذاب يخزيه وأينا هو كاذب، فالزموا مكانتكم لا تتقدموا عنها {وارتقبوا} أي انتظروا ما يكون من عواقبها.
ولما كانوا يكذبونه وينكرون قوله، أكد فقال:{إني معكم رقيب*} لمثل ذلك، وإنما قدرت هذا المعطوف عليه لفصل الكلام في قوله {سوف} ويجوز عطفه على {اعملوا} وجرد ولم يقل: مرتقب، إشارة إلى أن همه الاجتهاد في العمل بما أمره الله لأنه مبالغ في ارتقاب عاقبته معهم استهانة بهم.
ولما كان كأنه قيل: فأخذوا الكلام على ظاهره ولم ينتفعوا بصادع وعيده وباهره، فاستمروا على ما هم عليه من القبيح إلى أن جاء أمرنا في الأجل المضروب له، قال عاطفاً عليه، وكان العطف بالواو
لأنه لم يتقدم وعيد بوقت معين - كما في قصتي صالح ولوط عليهما السلام يتسبب عنه المجيء ويتعقبه: {ولما جاء أمرنا} أي تعلق إرادتنا بالعذاب {نجينا} بما لنا من العظمة {شعيباً} أي تنجية عظيمة {والذين آمنوا} كائنين {معه} منهم ومما عذبناهم به، وكان إنجاءنا لهم {برحمة منا} ولما ذكر نجاة المؤمنين، أتبعه هلاك الكافرين فقال:{وأخذت الذين ظلموا} أي أوقعوا الظلم ولم يتوبوا {الصيحة} وكأنها كانت دون صيحة ثمود لأنهم كانوا أضعف منهم فلذلك أبرز علامة التأنيث في هذه دون تلك.
ولما ذكر الصيحة ذكر ما تسبب عنها فقال: {فأصبحوا} أي في الوقت الذي يتوقع الإنسان فيه السرور وكل خير {في ديارهم جاثمين*} أي ساقطين لازمين لمكانهم.
ولما كان الجثوم قد لا يكون بالموت، أوضح المراد بقوله:{كأن لم يغنوا فيها} أي لم يقيموا في ديارهم أغنياء متصرفين مترددين مع الغواني لاهين بالغناء؛ ولما كان مضمون ذلك الإبعاد أكده بقوله: {ألا بعداً لمدين} بعداً مع أنه بمعنى ضد القرب معه هلاك، فهو من بعد بالكسر وأيد ما فهمته من أن أمرهم كان أخف من أمر ثمود بقوله:{كما بعدت ثمود} .
ولما كان شعيب ختن موسى عليهما السلام، كان ذكر قصته هنا
متوقعاً مع ما حرك إلى توقعها من ذكر كتابه أول السورة وما في عصا موسى من مناسبة ناقة من ختم بالتشبيه بحالهم، فذكرها بعدها مفتتحاً لها بحرف التوقع فقال مؤكداً تنبيهاً على أن فرعون فعل فعل قريش في الإدبار عن الآيات العظيمة ولم يترك موسى عليه السلام شيئاً مما أوحي إليه من إنذاره:{ولقد أرسلنا} أعاد الفعل وأبرزه في مظهر العظمة إشارة إلى باهر معجزاته {موسى بآياتنا} أي المعجزات التي أظهرها {وسلطان} أي أمر قاهر للقبط، والظاهر أنه حكاية موسى عليه السلام منه على ما كان له من السطوة والتحرق عليه {مبين*} أي بين بنفسه، وهو في قوة بيانه كأنه مبين لغيره ما فيه من الأسرار، والآية تعم الأمارة والدليل القاطع، والسلطان يخص القاطع، والمبين يخص ما فيه جلاء {إلى فرعون} طاغية القبط {وملئه} أي أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب، لأن القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني إسرائيل.
ولما كان الناصح لنفسه من لا يتبع أحداً إلا فيما يعلم أنه صواب، قال معجباً من الملأ مشيراً إلى سرعة تكذيبهم بالبينات وإتباعهم فيما ضلاله لا يخفى على من له مسكة:{فاتبعوا} أي فتسبب عن هذا الأمر الباهر أن عصى فرعون وحمل ملؤه أنفسهم على أن تبعوا لإرادتنا ذلك
منهم {أمر فرعون} أي كل ما يفهمون عنه أنه يهواه ويأمره به وتبعهم السفلة فأطبقوا على المنابذة إلا من شاء الله منهم {وما} أي والحال أنه ما {أمر فرعون برشيد*} أي سديد، مع أن في هذا التعقيب بعد ذكر ثمود من التذكير بآيتي الناقة والعصا إشارة إلى القدرة على البعث المذكور أول السورة الموجب خوفه لكل خير كما أن ذلك أيضاً كان من فوائد تعقيب قصة إبراهيم لقصة صالح عليهما السلام، واقتصر هنا على ذكر فرعون وقومه لأن المقصود من هذه القصص - كما تقدم - التثبيت في المكافحة بإبلاغ الإنذار وإن اشتدت كراهية المبلغين وقل المتبع منهم، وأن لا يترك شيء منه خوف إصرارهم أو إدبارهم ولا رجاء إقبالهم وكثرة مؤمنيهم، وهذه حال آل فرعون، وأما بنو إسرائيل فإنهم لم يتوقفوا إلا خوفاً من فرعون في أول الأمر، ثم أطبق كلهم على الإتباع، ثم صاروا بعد ذلك كل قليل يبدلون لا كراهية للإنذار بل لغير ذلك من الأمور وعجائب المقدور كما بين في قصصهم؛ والملأ: الأشراف الذين تملأ الصدور هيبتهم عند رؤيتهم؛ والإتباع، طلب، طلب الثاني للتصرف بتصرف الأول في أي جهة أخذ، وقد يكون عن كره بخلاف الطاعة؛ والأمر: الإيجاب بصيغة «أفعل» وهو يتضمن إرادة المأمور به في الجملة، وقد لا يراد امتثال عين
المأمور؛ والرشيد: القائد إلى الخير الهادي إليه؛ ثم أوضح عدم رشد أمر فرعون بقوله: {يقدم قومه} أي الذين كان لهم قوة المدافعة {يوم القيامة} ويكونون له تبعاً كما كانوا في الدنيا، وأشار بإيراد ما حقه المضارع ماضياً إلى تحقق وقوعه تحقق ما وقع ومضى فقال:{فأوردهم النار} أي كما أوردهم في الدنيا غطاءها وهو البحر.
ولما كان التقدير: فبئس الواردون، عطف عليه بيان الفعل والمفعول فقال:{وبئس الورد المورود*} كما كان البحر إذ وردوه أقبح ورد ورده إنسان، لأن الورد يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، وهذا يفيد ضد ذاك.
ولما كان فرعون موصوفاً بعظم الحال وكثرة الجنود والأموال وضخامة المملكة، حقر تعالى دنياه بتحقير جميع الدنيا التي هي منها بإسقاطها في الذكر اكتفاء بالإشارة إليها ولم يثبتها كما في قصة عاد فقال:{وأتبعوا} ببنائه للمفعول لأن المنكي الفعل لا كونه من معين {في هذه} أي الحياة الخسيسة {لعنة} فهم يلعنون فيها من كل لاعن من المسلمين وغيرهم من أهل الملل فلعنة الله على من حسَّن حالهم وارتضى ضلالهم لإضلال العباد من أهل الإلحاد بفتنة الاتحاد {ويوم القيامة} أيضاً يلعنهم اللاعنون، حتى أهل الاتحاد الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين؛ ثم بين ما يحق أن يقوله سامع ذلك بقوله:{بئس الرفد المرفود*} أي التبع المتبوع والعون
المعان، فإن اللعنة تابعة لعذابهم في الدنيا ومتبوعة باللعنة في الآخرة والعذاب رفد لها وهي رفد له، ومادة «رفد» تدور على التبع، أو يكون المراد أن لعنهم لا يزال مترادفاً تابعاً بعضه لبعض، فكل لعنة تابعة لشيء من الخزي: عذاب أو لعن، متبوعة بلعنة مضافة إليها، وسمي ذلك رفداً وهو حقيقة العون من باب قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع ومعنى {يقدم} أنه يكون قدامهم غير سائق لهم، بل هم على أثره متلاحقين، فيكون دخولهم إلى النار معاً؛ والقيامة: القومة من الموت للحساب؛ والإتباع: طلب الثاني للحاق بالأول كيف تصرف؛ واللعن من الله: الإبعاد من الرحمة بالحكم بذلك، ومن العباد: الدعاء به.
ولما كانت هذه الأخبار على غاية منا التحذير، لا يعرفه إلا بالغ في العلم، كان من المعلوم قطعاً أنه صلى الله عليه وسلم لم يأت بها إلا من عند الله للعلم المشاهد بأنه لم يعان علماً ولا ألم بعالم يوماً، هذا مع ما اشتملت عليه من أنواع البلاغة وتضمنته من أنحاء الفصاحة وأومأت إليه بحسن سياقاتها من صروف الحكم وإفادة تفصيلها من فنون المعارف، فلذلك استحقت أن يشار إليها بأداة البعد إيماء إلى بعد المرتبة وعلو الأمر فقال تعالى:{ذلك} أي النبأ العظيم والخطب الجسيم {من أنباء القرى}
وأكد هذا المعنى بلفظ النبأ لأنه الخبر فيه عظيم الشأن، ومنه النبي، وأشار بالتعبير بالمضارع في قوله:{نقصه عليك} إلى أنا كما قصصناها عليك في هذا الحال للمقصد المتقدم سنقصها عليك لغير ذلك من الأغراض في فنون البلاغة وتصاريف الحكم كما سترى عند قصه؛ ثم أشار - بما أخبر من حلها بقوله: {منها} أي القرى {قائم وحصيد*} إلى أنك مثل ما سمعت ما قصصنا عليك من أمرها بأذنك ووعيته بقلبك تحسها بعينك بمشاهدة أبنيتها وآثارها قائمة ومستحصدة، أي متهدمة لم يبق من بنيانها إلا بعض جدرانها.
ولما كان فيما تقدم في هذه السورة من القصص أشد تهديد وأعظم وعيد لمن له تبصرة، صرح لغليظي الأكباد بأن الموجب للايقاع بهم إنما هو الظلم، فقال تعالى عاطفاً على نحو أن يقال: فعلنا بهم وأنبأناك به: {وما ظلمناهم} في شي منه {ولكن ظلموا أنفسهم} واعتمدوا على أندادهم معرضين عن جنابنا آمنين من عذابنا فأخذناهم {فما} أي فتسبب عن اعتمادهم على غيرنا أنه ما {أغنت عنهم} أي بوجه من الوجوه {آلهتهم التي} وصور حالهم الماضية فقال: {يدعون} أي دعوها واستمروا على دعائهم لها إلى حين الأخذ، وين خسة رتبتها فقال:{من دون الله} أي الذي له جميع
صفات الكمال؛ وذكر مفعول «اغنت» معرقاً في النفي فقال: {من شيء} أي وإن قل {لما جاء أمر} أي عذاب {ربك} أي المحسن إليك بتأخير العذاب المستأصل عن أمتك وجعلك نبي الرحمة {وما زادوهم} في أحوالهم التي كانت لهم قبل عبادتهم إياها {غير تتبيب*} أي إهلاك وتخسير، فإنهم كانوا في عداد من يرجى فلاحه، فلما تورطوا في عبادتها ونشبوا في غوايتها وبعدوا عن الاستقامة بضلالتها خسروا أنفسهم التي هي رأس المال فكيف لهم بعد ذلك بالأرباح؛ والقص: إتباع الأثر، فهو هنا الإخبار بالأمور التي يتلو بعضها بعضاً؛ والدعاء: طلب الطالب الفعل من غيره، ونداء الشيء باسمه بحرف النداء، وكلا الأمرين مرادان؛ و {من دون الله} : من منزلة أدنى من منزلة عبادة الله لأنه من الأدون، وهو الأقرب إلى جهة السفل؛ والتب: الهلك والخسر.
ولما كان المقصود من ذلك رمي قلوب العرب بما فيه من سهام التهديد ليقلعوا عما تمكنوا فيه من عمى التقليد، قال تعالى معلماً بأن الذي أوقع بأولئك لظلمهم وهو لكل ظالم بالمرصاد سواء ظلم نفسه أو غيره:{وكذلك} أي ومثل ذلك الأخذ العظيم {أخذ ربك}
ذكّره بوصف الإحسان ما له إليه من البر لئلا يخاف على قومه من مثل هذا الأخذ {إذا أخذ القرى} أي أهلها وإن كانوا غير من تقدم الإخبار عنهم وإن عظموا وكثروا، ولكن الإخبار عنها أهول لأنه يفهم أنه ربما يعمها الهلاك لأجلهم بشدة الغضب من فعلهم كقرى قوم لوط عليه السلام {وهي ظالمة} روى البخاري في التفسير عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ {وكذلك أخذ ربك} الآية.
ولما كان مثل هذا الآخذ لا يداينه مخلوق ولا يقدر عليه ملك، حسن كل الحسن إتباع ذلك قوله:{إن أخذه أليم} أي مؤلم قاطع للآمال مالىء البدن والروح والنفس بالنكال {شديد*} أي صعب مفتت للقوى، ولعله عبر هنا باسم الرب مضيفاً له إلى المنبأ بهذه الأنباء مكرراً لذلك في هذا المقام الذي ربما سبق فيه الوهم إلى أنه باسم الجبار والمنتقم مثلاً أليق، إشارة إلى أنه سبحانه يربيك أحسن تربية في إظهارك على الدين كله وانقياد العظماء لأمرك وذل الأعزة لسطوتك وخفض الرؤوس لعلو شأنك، فلا تتكلف أنت شيئاً من قصد إجابتهم إلى إنزال آية أو ترك ما يغيظ من إنذار ونحو ذلك - والله الموفق.
ولما كان مما جر هذه القصص وهذه المواعظ تكذيبهم لما يوعدون
من العذاب الناشىء عن إنكار البعث المذكور في قوله تعالى: {ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت} ، أشار تعالى إلى تحقق أمر الآخرة وأنه مما ينبغي الاهتمام به رداً للمقطع على المطلع، وإعلاماً بأنه لا فرق بينه وبين ما تحقق إيقاعه من عذاب هذه الأمم في القدرة عليه بقوله مؤكداً لأجل جحودهم أن يكون في شيء مما مضى دلالة عليه بوجه من الوجوه:{إن في ذلك} أي النبأ العظيم والقصص والوعظ بما يذكر {لآية} أي لعلامة عظيمة ودلالة بتة ولما كان وجود الشيء عدماً بالنسبة إلى ما لا نفع له به، قال:{لمن خاف عذاب} يوم الحياة {الآخرة} لأنه نفع خاص به، وإنما كان آية له لأنه إذا نظر إلى إهلاكه للظالمين إهلاكاً عاماً بسبب ظلمهم وإنجائه للمؤمنين، علم أنه قادر على ما يريد، وأنه لا بد أن يجازي كلاًّ بما فعل، فإذا رأى أن ظلمه كثيرين يموتون بغير انتقام، علم أنه لا بد من يوم يجازيهم فيه، وهو اليوم الذي أخبرت به عنه رسله، وزاد في الإشارة إلى تهويله بإعادة اسم الإشارة في قوله:{ذلك} أي اليوم العظيم الذي يكون فيه عذاب الآخرة {يوم} وأشار - إلى يسر البعث وسهولته عليه وأنه أمر ثابت لا بد منه - باسم المفعول من قوله: {مجموع له} أي لإظهار العدل فيه
والفضل {الناس} أي كل من فيه أهلية التحرك والاضطراب وما ثمّ يوم غيره يكون بهذه الصفة أصلاً.
ولما لم يسبقه يوم اجتمع فيه جميع الخلق من الجن والإنس والملائكة وجميع الحيوانات أحياء، وكان ذلك مسوغاً لأن تعد شهادة غيره عدماً فقال تعالى:{وذلك} أي اليوم العظيم {يوم مشهود*} أي هو نفسه لهم ولغيرهم من جميع الخلق، فيكون تنوينه للتعظيم بدلالة المقام، أو يكون المعنى أنه أهل لأن يشهد، وتتوفر الدواعي على حضوره لما فيه من عجائب الأمور والأهوال العظام والمواقف الصعبة، فلا يكون ثم شغل إلا نظر ما فيه والإحاطة بحوادثه خوف التلاف ورجاء الخلاص؛ والآية: العلامة العظيمة لما فيها من البيان عن الأمر الكبير؛ والخوف: انزعاج النفس بتوقع الشر، وضده الأمن وهو سكون النفس بتوقع الخير؛ والعذاب: استمرار الألم.
ولما تقدم قولهم {ما يحبسه} كان كأنه قيل في الرد عليهم: نحن قادرون على تعجيله، وهو - كما أشرنا إليه في هذه الآية - عندنا متى شئنا في غاية السهولة:{وما نؤخره} أي اليوم أو الجزاء مع ما لنا من العظمة والقدرة التامة على إيجاده لشيء من الأشياء {إلا لأجل} أي لأجل انتهاء أجل {معدود*} سبق في الأزل تقديره ممن لا يبدل القول لديه وكل شيء في حكمه، فهو لا يخشى الفوت؛ ومادة «أجل» بتراكيبها الأربعة: أجل وجأل وجلأ ولجأ تدور على المدة المضروبة للشيء، فالأجل - محركة: مدة الشيء وغاية الوقت في الموت وحلول الدين
من تسمية الجزء باسم الكل، والتأجيل: تحديد الأجل، ويلزمه التأخير، ومنه أجل الشيء كفرح - إذا تأخر، والآجلة: الآخرة، وأجل الشيء - بالفتح: حبسه ومنعه، لأن الأجل حابس ومانع للمؤجل، ومنه أجلى كجمزى، وهو مرعى لهم معروف كأنه لحسنه يحبس الراعي فيه، وأجل الشر عليهم: حناه وأثاره وهيجه، ولأهله: كسب وجمع واحتال، لأن ذلك كله من لوازم ذي الأجل، أو المعنى أنه أوجد أجل ذلك، وكمقعد ومعظم: مستنفع الماء، لأنه محيط به إحاطة الأجل بالمؤجل، وأجله فيه تأجيلاً: جمعه فتأجل، والمأجل: الحوض يحبس فيه الماء، وأجلوا ما لهم: حبسوه في المرعى، والاجل - بالكسر: قطيع من بقر الوحش، تشبيهاً له في اجتماعه من حيث إنه أحصن له بالأجل لأنه - كما قيل - حصن حصين، والاجل - بالكسر أيضاً: وجع في العنق، لأنه من أسباب حلول الأجل، وأجله: داواه منه، وبالضم جمع أجيل للمتأخر وللمجتمع من الطين يجعل حول النخلة، لإحاطته بها إحاطة الأجل وتحصينه لها، وتأجل القوم: تجمعوا، لأن التجمع أحصن لهم، وأجل - بفتحتين ثم سكون: جواب كنعم وزناً ومعنى إلا أنه أحسن منه في التصديق، ونعم منه في الاستفهام، وحقيقة ذلك الإخبار بأن أجل - أي وقت - ذلك الفعل الموجب أو المستفهم
عنه قد حضر، وفعلت ذلك من أجلك - من غير «من» - ومن أجلك، ومن أجلاك ومن أجلالك ويكسر في الكل، أي من جللك - قاله في القاموس، وقال في فصل الجيم: وفعلته من جلك - بالضم - وجلالك وجللك - محركة - وتجلتك وإجلالك - بالكسر، ومن أجل إجلالك ومن أجلك بمعنى - انتهى. وحقيقته أن فعلي مبتدىء من أجلك - بالتحريك، أو تكون «من» سببية، اي أجلك سبب فيه، ولولا وجودك ما فعلته فهو لتعظيمك؛ والملجأ واللجأ - محركة: المعقل والملاذ، كأنه شبه بالأجل، ومنه لجأ إليه - كمنع وفرح: لاذ، وألجأ أمره إلى الله: أسنده، وألجأ فلاناً إلى كذا: اضطره، والتلجئة: الإكراه، واللجأ - محركاً: الضفدع، لالتجائها إلى الماء؛ ومن ذلك الجيأل - كصقيل، وجيأل وجيألة ممنوعين، وجيل بلا همز كله اسم الضبع لكثرة لجائها إلى وجارها، ومنه جئل - كفرح - جألاناً: عرج، كأنه تشبيه بمشيتها، لأن من أسمائها العرجاء، أو تشبيه بمشية الراقي في درج الملجأ، أي الحصن، وكذا الأجل - كقنب وقبر - وهو ذكر الأوعال، لأن قرونه كالحصن له، وجيألة الجرح: غثيثه، وهو مرية، لأنه من أسباب قرب الأجل، وكذا الاجئلال - أي الفزع - ربما كان سبباً
لذلك، وربما كان سبباً للمبادرة إلى الحصن، وجأل - كمنع: ذهب وجاء، والصوف: جمعه واجتمع - لازم متعد، كله من لوازم الأجل بمعنى المدة، وجلأ بالرجل - كمنع: صرعته، وبثوبه: رماه، كأنه جعله في قوة من حضر أجله، وإن شئت قلت في ضبط ذلك: إن المادة - مع دورانها على المدة - تارة تنظر إلى نفس المدة، وتارة إلى آخرها، وتارة إلى امتدادها وتأخرها، وتارة إلى ما يدني منه، وتارة إلى منفعتها، وتارة إلى ما يلزم فيها، فمن النظر إلى نفس المدة: التأجيل بمعنى تحديد الأجل، وهو مدة الشيء، وفعلت هذا من أجلك، أي لولا وجودك ما فعلته، وأجل بمعنى نعم، أي حضرت مدة الفعل، ومن النظر إلى الآخر: دنا الأجل - في الموت والدّين، ومن النظر إلى التأخر: أجل الشيء - إذا تأخر، والآجلة: الآخرة، ومن النظر إلى السبب المدني: الأجل - بالكسر - لوجع في العنق، وجيألة الجرح - لغثيثه أي مريه، وجلأ بالرجل: صرعه وبثوبه: رماه، وأجل الشر عليهم: جناه، أو أثاره وهيجه، والاجئلال: الفزع، ومن النظر إلى المنفعة وهي أن التأجيل الذي هو تحديد الأجل للشيء مانع من أخذه دون ما ضرب له من المدة: الاجل - بالكسر - للقطيع من بقر الوحش، وأجل الشيء: حبسه ومنعه، وأجلى كجمزي: مرعي
لهم معروف، وتأجل القوم: تجمعوا، وجأل الصوف جمعه، واللجأ والملجأ: المعقل والملاذ، والضفدع للزومها ملجأها من الماء، والجيأل للضبع للزومها وجارها، ولذلك تسمى أم عامر، وجئل - كفرح: عرج، كأنه شبه بمشيتها لأنها تسمى العرجاء، والأجل كقنب وقبر - لذكر الأوعال، لتحصنه بقرونه، والأجل - بالضم: المجتمع من الطين يجعل حول النخلة، والمآجل: الحوض يحبس فيه الماء، ومستنقع الماء مطلقاً، وأجله تأجيلاً: جمعه، ومن النظر إلى ما يلزم في المدة: أجل لأهله: كسب وجمع وجلب واحتال، وجأل - كمنع: جاء وذهب؛ فقد تبين أن المراد بالأجل هنا الحين.
ولما كان كأنه قيل: يا ليت شعري ماذا يكون حال الناس إذا أتى ذلك الأجل وفيها الجبابرة والرؤساء وذوو العظمة والكبراء! أجيب بقوله: {يوم يأت} أي ذلك الأجل لا يقدرون على الامتناع بل ولا على مطلق الكلام، وحذف ابن عامر وعاصم وحمزة الياء اجتزاء عنها بالكسرة كما هو فاشٍ في لغة هذيل، وكان ذلك إشارة إلى أن شدة هوله تمنع أهل الموقف الكلام أصلاً في مقدار ثلثية، ثم يؤذن لهم في الكلام في الثلث الآخر بدلالة المحذوف وقرينة الاستثناء، فإن العادة أني يكون المستثنى أقل من المستثنى منه {لا تكلم} ولو أقل كلام بدلالة حذف التاء {نفس} من جميع الخلق في ذلك اليوم
الذي هو يوم الآخرة، وهو ظرف هذا الأجل وهو يوم طويل جداً ذو ألوان وفنون وأهوال وشؤون، تارة يؤذن فيه في الكلام، وتارة يكون على الأفواه الختام، وتارة يسكتهم الخوف والحسرة والآلام، وتارة ينطقهم الجدال والخصام {إلا بإذنه} أي بإذن ربك المكرر ذكره في هذه الآيات إشارة إلى حسن التربية وإحكام التدبير.
ولما علم من هذا أنه يوم عظمة وقهر، سبب عن تلك العظمة تقسيم الحاضرين فقال:{فمنهم} أي الخلائق الحاضرين لأمره {شقي} ثبتت له الشقاوة فيسر في الدنيا لأعمالها {وسعيد*} ثبتت له السعادة فمشى على منوالها؛ والتأخير: الإذهاب عن جهة الشيء بالإبعاد منه، وضده التقديم؛ والأجل: الوقت المضروب لوقوع أمر من الأمور؛ واللام تدل على العلة والغرض والحكمة بخلاف «إلى» ؛ والشقاء: قوة أسباب البلاء.
ولما كان أكثر الخلق هالكاً مع أن المقام مقام تهديد وتهويل، بدأ تعالى بالأشقياء ترتيباً للنشر على ترتيب اللف فقال:{فأما الذين شقوا} أي أدركهم العسر والشدة {ففي النار} أي محكوم لهم بأنهم يدخلون الناء التي هي النار لو علمتم {لهم فيها زفير} أي عظيم جداً {وشهيق*} من زفر - إذا أخرج نفسه بعد مدِّه إياه، وشهيق - إذ تردد البكاء في صدره - قاله في القاموس؛ وقال ابن كثير في تفسير
سورة الأنبياء: الزفير خروج أنفاسهم، والشهيق: ولوج أنفسهم؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الزفير: الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف، وعن الضحاك ومقاتل: الزفير أول نهيق الحمار، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا رده في جوفه، وسيأتي كلام الزماني في ذلك {خالدين فيها} أي بلا انقطاع، وعبر عنه بقوله جرياً على أساليب العرب:{ما دامت السماوات والأرض} .
ولما كان له شيء لا يقبح منه شيء وهو قادر على كل شيء، دل على ذلك بقوله:{إلا ما شاء} أي مدة شاءها فإنه لا يحكم لهم بذلك فيها فلا يدخلونها.
ولما كان الحال في هذه السورة مقتضياً - كما تقدم - لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما أخبر به سبحانه في قوله {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} - الآية، من ضيق صدره، ولذلك أتى بهذه القصص كما مضى بيان ذلك، عبر باسم الرب إشارة إلى أنه يحسن إليه بكل ما يسر قلبه ويشرح صدره فقال:{ربك} وقد جرى الناس في هذا الاستثناء على ظاهره ثم أطالوا الاختلاف في تعيين المدة المستثناة، والذي ظهر لي - والله أعلم - أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين وأن الشرك لا يغفر والإيمان موجب للجنة فكان ربما ظن أنه لا يمكن غير ذلك كما ظنه المعتزلة لا سيما إذا تؤمل القطع في مثل قوله {أن الله لا يغفر أن يشرك به} مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}
جاء هذا الاستثناء معلماً أن الأمر فيه إلى الله تعالى كغيره من الأمور، له أن يفعل في كلها ما يشاء وإن جزم القول فيه، لكنه لا يقع غير ما أخبر به، وهذا كما تقول: اسكن هذه الدار عمرك إلاّ ما شاء زيد، وقد لا يشاء زيد شيئاً، فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر كذلك الاستثناء لا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة، ثم رأيت الإمام أباً أحمد البغوي قد ذكر معنى هذا آخر ما أورده في تفسيره من الأقوال في الآية وحكي نحوه عن الفراء، ومثله بأن تقول: والله لأضربنك إلاّ إن أرى، وعزيمتك أن تضربه، وعزاه الطحاوي في بيان المشكل إلى أهل اللغة منهم الفراء.
ولما كان تخليد الكفار من الحكم بالقسط بين الفريقين لأنه من أكبر تنعيم المؤمنين الذين عادوهم في الله كما تقدم التنبيه عليه أول سورة يونس عليه السلام عند قوله {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} كان ربما توهم أن الاستثناء لو أُخذ على ظاهره لم يكن إخراجهم من النار حيناً، نفى هذا التوهم بقوله:{إن ربك} أي المحسن إليك {فعال لما يريد} أي لا يجوز عليه البدء بالرجوع عما أراد ولا المنع عن مراده ولا يتعذر عليه شيء منه مع كثرة المرادات فلا اعتراض عليه ولا يلزمه لأحد شيء، بل له أن يخلد العاصين في الجنة ويخلد
الطائعين في النار، ولكنه كما ثبت ذلك ليعتقد لكونه من صفة الكمال ثبت أنه لا يفعل ذلك سبحانه ولا يبدل القول لديه لأن ذلك من صفات الكمال أيضاً مع أن في ختم الآية بذلك ترجية لأهل النار في إخراجهم منها زيادة في عذابهم.
ولما تم أمر الأشقياء، عطف عليه قسيمهم فقال:{وأما الذين سعدوا} أي فازوا بمطالبهم وتيسر أمرهم {ففي الجنة} أي التي صارت معلومة من الدين بالضرورة {خالدين فيها} دائماً أبداً {ما دامت السماوات والأرض} على ما جرت به عادة العرب في إرادة التأبيد بلا آخر بمثل هذا {إلاّ ما شآء ربك} وأدل دليل على ما قلت في الاستثناء قوله: {عطاء} هو نصب على المصدر {غير مجذوذ} أي مقطوع ولا مكسور ولا مفصول - لعطاء من الأعطية ولا مفرق ولا مستهان به: لأنهم لو انفكوا من النعيم حقيقة أو معنى ولو لحظة لكان مقطوعاً أو منقوصاً؛ وفي الختم بذلك من الجزم بالدوام طمأنينة لأهل الجنة زيادة في نعيمهم عكس ما كان لأهل النار؛ قال أبو الحسن الرماني: والزفير: ترديد النفس مع الصوت حتى تنتفخ الضلوع، وأصله الشدة من المزفور الخلق، والزفر: الحمل على الظهر، لشدته، والزفر: السيد لأنه يطيق حمل الشدائد، وزفرت النار - إذا سمعت لها صوتاً في شدة توقدها، والشهيق: صوت فظيع يخرج من الجوف بمد النفس، وأصله الطول المفرط من قولهم: جبل شاهق
أي ممتنع طولاً؛ والخالد: الكائن في الشيء أبداً، والدائم: الباقي أبداً، ولهذا يوصف الله تعالى بالدائم دون الخالد.
ولما أخبره تعالى بوقوع القضاء بتمييز الناس في اليوم المشهود إلى القسمين المذكورين على الحكم المشروح مرهباً ومرغباً، كان ذلك كافياً في الثبات على أمر الله والمضيّ لإنفاذ جميع ما أرسل به وإن شق اعتماداً على النصرة في ذلك اليوم بحضرة تلك الجموع، فكان ذلك سبباً للنهي عن القلق في شيء من الأشياء وإن جل وقعه وتعاظم خطبه، فقال تعالى:{فلا} ولما كان ما تضمنه هذا التقسيم أمراً عظيماً وخطباً جسيماً، اقتضى عظيم تشوف النفس وشديد شوقها لعلم ما سبب عنه، فاقتضى ذلك حذف النون من «كان» إيجازاً في الكلام للإسراع بالإيقاف على المراد والإبلاغ في نفي الكون على أعلى الوجوه فقال:{تك} أي في حالة من الأحوال {في مرية} والمرية: الشك مع ظهور الدلالة للتهمة - قاله الرماني {مما يعبد هؤلآء} أي لا تفعل فعل من هو في مرية بأن تضطرب من أجل ما يعبدون مواظبين على عبادتهم مجددين ذلك في كل حي فتنجع نفسك في إرادة مبادرتهم إلى امتثال الأوامر في النزوع عن ذلك بالكف عن مكاشفتهم بغائظ الإنذار
والطلب لإجابة مقترحاتهم رجاء الأزدجار كما مضى في قوله تعالى {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} - الآية، وذلك أن مادة مرى - بأيّ ترتيب كان - تدور على الاضطراب، وقد يلزمه الطرح والفصل: رمى يرمي رمياً، والمرماة: ظلف الشاة لأنه يطرح، والرمي: قطع من السحاب رقاق؛ والريم: البراح، ما يريم يفعل كذا: ما يزال، والريم: الدرج للاضطراب فيها، والقبر لنبذه في جانب من الأرض وطرح الميت فيه، وريم فلان بالمكان: أقام به مجاوزاً لغيره منفصلاً عنه كأنه رمى بنفسه فيه، وريمت السحابة - إذا دامت فلم تقلع، لأن من شأنها رمي القطر، ومرى الضرع: مسحه للحلب، والريح تمري السحاب، والمري: المعدة لقذفها ما فيها، والمرية: الشك، أي تزلزل الاعتقاد، والميرة: جلب الطعام؛ ثم استأنف تعالى خبراً هو بمنزلة العلة لذلك فقال: {ما يعبدون} أي يوقعون العبادة على وجه الاستمرار {إلاّ كما يعبد آباؤهم} ولما كانت عبادتهم في قليل من الزمن الماضي أدخل الجار فقال: {من قبل} أي أنهم لم يفعلوا ذلك لشبهة إذا كشف عنها القناع رجعوا، بل لمحض تقليد الآباء مع استحضارهم لتلبسهم بالعبادة كأنهم حاضرون لديهم يشاهدونهم مع العمى عن النظر في الدلائل والحجج كما كان من قصصنا عليك أخبارهم من الأمم في تقليد الآباء سواء بسواء مع عظيم شكيمتهم وشدة عصبتهم للأجانب
فكيف بالأقارب فكيف بالآباء! فأقم عليهم الحجة بإبلاغ جميع ما نأمرك به كما فعل من قصصنا عليك أنباءهم من إخوانك من الرسل غير مخطر في البال شيئاً مما قد يترتب عليه إلى أن ينفذ ما نريد من أوامرنا كما سبق في العلم فلا تستعجل فإنا ندبر الأمر في سفول شأنهم وعلو شأنك كما نريد {وإنا} بما لنا من العظمة {لموفوهم نصيبهم} من الخير والشر من الآجال وغيرها وما هو ثابت ثباتاً لا يفارق أصلاً؛ ولما كانت التوفية قد تطلق على مجرد الإعطاء وقد يكون ذلك على التقريب، نفى هذا الاحتمال بقوله:{غير منقوص} والنصيب: القسم المجعول لصاحبه كالحظ؛ والمنقوص: المقدار المأخوذ جزء منه؛ والنقص: أخذ جزء من المقدار.
ولما ذكر في هذه الآية إعراضهم عن الإتباع مع ما أتى به من المعجزات وأنزل عليه من الكتاب، سلاه بأخيه عليهما السلام لأن الحال إذا عم خف، وابتدأ ذكره بحرف التوقع بما دعا إلى توقعه من قرب ذكره مع فرعون مع ذكر كتابه أول السورة فقال تعالى:{ولقد آتينا} أي بما لنا من العظمة {موسى الكتاب} أي التوراة الجامعة للخير.
ولما كان الضار والمسلي نفس الاختلاف، بني للمفعول قوله:{فاختلف فيه} فآمن به قوم وكفر به آخرون مع أنه إمام ورحمة
وكتب سبحانه له فيه من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء، وكان معجباً لأهل ذلك الزمان كما اختلف في كتابك مع إعجابه لأهل هذا الزمان وبيانه للهدى أتم بيان، إشارة إلى أن الخلق مهما جاءهم عن الله، وهو لا يكون إلاّ مصحوباً بالأدلة القاطعة نأوا عنه واختلفوا فيه، ومهما تلقفوه عن آبائهم تلقوه بالقبول وناضلوا عنه وسمحوا فيه بالمهج وإن كان منابذاً للعقول، فكان قوم موسى باختلافهم في الكتاب كل قليل يأبى فريق منهم بعض أحكامه ويريدون نقض إبرامه كما سلف بيانه غير مرة عن نص التوراة وسفر يوشع إلى أن آل أمرهم الآن إلى أن صاروا ثلاث فرق: ربانيين، وقرابين، وسامرة؛ يضلل بعضهم بعضاً، ومع ذلك فلم يعاجلهم بالأخذ مع قدرته على ذلك كما فعل بمن قص أمره من الأمم لما سبق من حكمه بتأخيرهم إلى الأجل المعدود، وفصل بين هذا وبين قصة موسى عليه السلام مع فرعون ليكون مع ما دعا إلى تقديم ما تقدم من الآيات أوقع في التسلية وأبلغ في التعزية والتأسية كما هو شأن كل ما ألقي إلى المحتاج شيئاً فشيئاً {ولولا كلمة} أي عظيمة لا يمكن تغييرها لأنها من كلام الملك الأعظم {سبقت من ربك} أي المحسن إليك وإليهم بإرسالك رحمة للعالمين {لقُضي} أي لوقع القضاء {بينهم} أي بين من اختلف في
كتاب موسى عاجلاً، ولكن سبقت الكلمة أن القضاء الكامل إنما يكون يوم القيامة كما قال في سورة يونس {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} - الآية.
ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين أنه به، فقال مؤكداً لأن كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك:{وإنهم لفي شك} أي عظيم محيط بهم {منه} أي من القضاء أو الكتاب {مريب} أي موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من الجلال ويتبدى لهم في قبة الزمان من خارق الأحوال {وإن كلاًّ} من المختلفين في الحق من قوم موسى وغيرهم ممن هو على الحق وممن هو على الباطل؛ و {إن} عند نافع وابن كثير وأبي بكر عن عاصم عاملة مع تخفيفها من الثقيلة في قراءة غيرهم اعتباراً بأصلها {لما} هي في قراءة ابن عامر وحمزة وعاصم بالتشديد الجازمة حذف فعلها - قال ابن الحاجب: وهو شائع فصيح، وفي قراءة غيرهم بالتخفيف مركبة من لام الابتداء و {ما} المؤكدة بنفي نقيض ما أثبته الكلام ليكون ثبوته مع نفي نقيضه على أبلغ وجه.
ولما كان الشرط في حذف الفعل بعد «لما» الجازمة أن يكون مما يتوقع بوقوع فعل قبلها يدل عليه، كان التقدير: يقض بينهم، وسيقضي
وهو معنى ما قرن بعدها بلام القسم من قوله: {ليوفينهم ربك} أي المحسن إليك بإقامتك على المنهاج الأعدل والفضل من العباد {أعمالهم} لا يدع منها شيئاً لأنه لا يخفى عليه منها شيء، والسياق يقتضي أن يكون {ما} في {لما} في قراءة التخفيف للتأكيد على النحو الذي مر غير مرة أن النافي إذا زيد في سياق الإثبات كان كأنه نفي النقيض تأكيداً لمثبت {إنه بما يعملون} قدم الظرف لتأكيد الخبر {خبير} فإذا علمت أن شأنك في أمتك شأن الرسل في أممهم وأنه لا بد من الاختلاف في شأن الرسول والكتاب كما جرت بذلك السنة الإلهية وأن الجزاء بالأعمال كلها لا يد منه {فاستقم} أي أوجد القوم بغاية جهدك بسبب أنك لا تكلف إلاّ نفسك وأن الذي أرسلك لا يغفل عن شيء، ومن استقام استقيم له.
ولما كان من المقطوع به أن الآمر له صلى الله عليه وسلم مَن له الأمر كله، بني للمفعول قوله:{كمآ أمرت} أي كما استقام إخوانك من الأنبياء في جميع الأصول والفروع سواء كان في نفسك أو في تبليغ غيرك معتدلاً بين الإفراط والتفريط ولا يضيق صدرك من استهزائهم وتعنتهم واقتراحهم للآيات وإرادتهم أن تترك بعض ما يوحى إليك من التشنيع عليهم والعيب لدينهم بل صارحهم بالأمر واتركهم وأهواءهم، نحن ندبر الأمر كما نريد على حسب ما نعلم.
ولما كان الفاصل بين المعطوف والمعطوف عليه يقوم مقام تأكيد الضمير المستتر، عطف عليه قوله:{ومن} أي وليستقم أيضاً من {تاب} عن الكفر مؤمناً {معك} على ما أمروا تاركين القلق من استبطائهم للنصرة كما روى البخاري وابو داود والنسائي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا: ألا تدعو الله لنا، فقعد وهو محمر وجهه فقال: كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع فوق رأسه فيشق باثنين، وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد ولا أشق من هذه الآية. والاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة.
ولما كانت وسطاً بين إفراط وتفريط وكان التفريط لا يكاد يسلم منه إلا الفرد النادر، وهو في الأغلب يورث انكسار النفس واحتقارها والخوف من الله، وكان الإفراط يورث إعجاباً، وربما
أفضى بالإنسان إلى ظن أنه شارع فينسلخ لذلك من الدين، طوى التفريط ونهى عن الإفراط فقال:{ولا تطغوا} أي تتجاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطاً، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهاكم لتهذيب نفوسكم لا لحاجته إلى ذلك ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره، والدين متين لن يشاده أحد إلا غلبه، فقد رضي منكم سبحانه الاقتصاد في العمل مع حسن المقاصد، ويجوز أن يكون المعنى: ولا تبطركم النعمة فتخرجكم عن طريق الاستقامة يمنة أو يسرة.
ولما نهي عن الإفراط وهو الزيادة تصريحاً، فأفهم النهي عن التفريط، وهو النقص عن المأمور تلويحاً من باب الأولى، على ذلك مؤكداً تنزيلاً لمن يفرط أو يفرط منزلة المنكر فقال:{إنه بما تعملون} قدم الظرف لما تقدم من تأكيد الإبصار {بصير*} ومادة «طغى» واوية ويائية بكل ترتيب تدور على مجاوزة الحد مع العلو، فالغطاء: ما ستر به الشيء عالياً عليه، ولا يكون ساتراً لجميعه إلا إذا فضل عنه فتجاوز حده، وغطى الليل - إذا غشي، وكل شي ارتفع فهو غاط. وطغى السيل - إذا جاء بماء كثير، والبحر: هاجت أمواجه،
والطغيان: مجاوزة الحد في العصيان، والغائط والغيط: المطمئن من الأرض، لأن ما كان كذلك وكانت أرضه طيبة كانت لا تزال ريّاً فيعلو ما نبت فيها ويخصب فيتجاوز الحد في ذلك، ومنه الغوطة - لموضع بالشام كثير الماء والشجر.
ولما نهي عن الإفراط في الدين، أتبعه النهي عن التفريط بالتقصير فيه بسفول الهمم على وجه عام، وكان الحب في الله والبغض منه أوثق عرى الإيمان، إشارة إلى ضده الذي هو أوثق عرى الشيطان فقال:{ولا تركنوا} أي شيئاً من ركون، وقال:{إلى الذين ظلموا} أي وجد منهم الظلم ولم يقل الظالمين، أي بالميل إليهم بأن تثاقل أنفسكم نحوهم للميل إلى أعمالهم ولو بالرضى به والتشبه بهم والتزيّي بزيهم، وحاصل الآيتين: لا تظلموا بأنفسكم ولا تستحسنوا أفعال الظالمين، وفسر الزمخشري الركون بالميل اليسير، وهو حسن من جهة المعنى لكني لن أره لغيره من أهل اللغة، وقال الرماني - وهو أقرب: الركون: السكون إلى الشيء بالمحبة والانصباب إليه، ونقيضه النفور عنه. وهو على التفسير الثاني في {تطغوا} من عطف الخاص على العام، والآية ملتفتة إلى قوله تعالى {فلعلك تارك
بعض ما يُوحى إليك} {فتمسكم النار} أي فتسبب عن ركونكم إليهم مسُّها لكم فلا تقدروا على التخلص منها بنوع حيلة من أنفسكم؛ ومن إجلال النبي صلى الله عليه وسلم إفراده بالخطاب في الأمر بأفعال الخير، والإتيان بضمير الجمع في النهي عن أفعال الشر - نبه على ذلك الإمام أبو حيان.
ولما كان كل موجود سوى الله في قهره وتحت أمره، قال تعالى:{وما لكم} ولما كان دون رتبته تعالى من الرتب والذوات ما لا يحصيه غيره سبحانه، أدخل الجار تبعيضاً فقال:{من دون الله} أي الملك لأعظم، وأعرق في النفي فقال:{من أولياء} أي يخلصونكم من عذابه لما تقرر أن {دون} من الأدون وهو الأقرب إلى جهة السفل؛ والولي: المختص بأن من شأنه تولي المعونة عند الحاجة، وأشار إلى أن نصر مَنْ لا ناصر له من الله محال بأداة البعد وبناء للمفعول فقال:{ثم لا تنصرون*} أي ثم إذاً فإنكم هذا وذاك فما أبعدكم من النصرة!
ولما كان العلم حاصلاً بما سبق من الحكم من أن الآدمي محل العجز والتقصير، أتبع ذلك بأعلى مكفر لما يوجبه العجز ويقضي به الفتور والوهن من الصغائر وأعمه وأجلبه للاستقامة، وذلك يدل على أنها بعد الإيمان أفضل العبادات، فقال تعالى:{وأقم الصلاة}
أي اعملها على استواء {طرفي النهار} بالصبح والعصر كما كان مفروضاً بمكة في أول الأمر قبل الإسراء، ويمكن أن يراد مع ذلك الظهر لأنها من الطرف الثاني {وزُلفاً} أي طوائف ودرجات وأوقات، جمع زلفة {من الَّيل} يمكن أن يكون المراد به التهجد، فقد كان مفروضاً في أول الإسلام، ويمكن أن يراد المغرب والعشاء مع الوتر أو التهجد؛ ثم علل ذلك بقوله:{إن الحسنات} أي الطاعات كلها الصلاة وغيرها المبنية على أساس الإيمان {يذهبن السيئات} أي الصغائر، وأما الكبائر التي يعبر عنها بالفواحش ونحوه فقد تقدم في قصة شعيب عليه السلام عند قوله {ثم توبوا إليه} أنه لا يكفرها إلا التوبة لما فيها من الإشعار بالتهاون بالدين، واجتنابها لا يكفر إلا إذا كان عن نية صالحة كما أفهمه صيغة الافتعال من قوله
{إن تجتنبوا} [النساء: 30] ؛ روى البخاري في التفسير عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله عليه {أقم الصلاة طرفي النهار} - الآية، قال الرجل: ألي هذه؟ قال: لمن عمل بها من أمتي» وهذا الحديث يؤيد قول ابن عباس رضي الله عنهما: إن هذه الآية من هذه السورة المكية المدنية.
ولما تم هذا على هذا الوجه الأعلى والترتيب الأولى، قال تعالى
مادحاً له ليعرف مقداره فيلزم: {ذلك} أي الأمر العالي الرتبة الذي تقدم من الترغيب والترهيب والتسلية وتعليم الداء والدواء للخلاص من الشقاء {ذكرى} أي ذكر عظيم {للذاكرين*} أي لمن فيه أهلية الذكر والانتباه به بحضور القلب وصفاء الفكر ونفوذ الفهم.
ولما كان الصبر لله على المكاره أعلى الطاعة، أتبع ذلك قوله:{واصبر} أي ليكن منك صبر على الطاعات وعن المعاصي ولا تترك إنذارهم بما أمرت به مهما كان ولا تخفهم، فإن العاقبة لك إذا فعلت؛ ولما كان المقام الصبر صعباً والاستقامة على المحمود منه خاصة خطراً، وكانت النفس - لما لها من الجزع في كثير من الأحوال - كالمنكرة، أكدَّ قوله:{فإن} الصبر هو الإحسان كل الإحسان وإن {الله} أي المحيط بصفات الكمال {لا يضيع} أي بوجه من الوجوه {أجر المحسنين*} أي العريقين في وصف الإحسان بحيث إنهم يعبدون الله كأنهم يرونه، فلذلك يهون عليهم الصبر، ولذلك لأن الطاعة كلفة فلا تكون إلا بالصبر، وكل ما عداها فهو هوى النفس لا صبر فيه، فالدين كله صبر «حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات» ولذا فضل ثواب الصابر {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10] والصبر المحمود: حبس النفس عن
الخروج إلى ما لا يجوز من ترك الحق، ونقيضه الجزع، قال الشاعر:
إن تصبر فالصبر خير مغبةً
…
وإن تجزعا فالأمر ما تريان
وهو من الصبر الذي هو المر المعروف لأنه تجرع مرارة الحق بحبس النفس عن الخروج إلى المشتهى مع الزاجر المعتبر من الشرع والعقل، فهو أكره شيء إلى النفس، والمعين عليه ما في استشعار لزوم الحق من العز والأجر بالطاعة والعلم بما يعقب من الخير في كل وجه وعادة النفس له، وقد غلب إطلاقه على الحق حتى لا يجوز إطلاقه إلا فيه - قاله الرماني.
ولما كان ما تقدم كله مشيراً إلى استبعاد إيمان المعاندين بشيء من تدبير آدمي كما تكاد القصص تنطق به، وكذا الإعلام بأن عبادتهم إنما هي للتقليد وباختلاف قوم موسى في كتابه الذي هو هدى ورحمة، وكل ذلك فطماً عن طلب ما قد يهجس في الخاطر من تمني إجابتهم إلى ما يقترحون أو الكف عن بعض ما يغيظ من الإنذار، وكان من طبع البشر البعد عن الانتهاء عن الخواطر إلا بعد التجربة، كان ذلك ربما أوجب أن يقال: لو أجيبوا إلى سؤالهم لربما رجعوا عن كثير مما هم فيه، فدعاهم ذلك إلى الرشاد، فتسبب عنه أن يقال دفعاً له:{فلولا كان} ويجوز أن يكون مناسبتها أنه لما ذكر إهلاك القرون الماضية والأمم السالفة
بما مضى إلى أن ختم بالأمر بالصبر على الإحسان من الأمر بالمعروف والنهي عن النمكر، كان من الجائز أن يقع في فكر الاعتراض بأن يقال: ما الموجب لذلك؟ فبين أن سبب الهلاك الإعراض عن نهي منتهك الحرمات والمجترىء على هتك الأستار الجليلة والرتع في الحمى مع تمكنهم بما أودع فيهم سبحانه من القوى والقدرة على اختيار جانب الخير والإعراض عن جانب الشر فقال تعالى: {فلولا} بصيغة تحتمل التخصيص، وفيها معنى التفجع والتأسف لاعتبار كل من كان على مثل حالهم {من القرون} أي المهلكين الأشداء الكائنين في زمان ما.
ولما كان المراد القرون التي تقدم ذكر إهلاكها، وكانت أزمنتهم بعض الزمان الماضي، أتى بالجار فقال:{من قبلكم أولوا} أي أصحاب {بقية} أي حفظ وخير ومراقبة لما يصلحهم، لأن مادة «بقي» تدور على الجمع، ويلزمه القوة والثبات والحفظ، من قولهم: ابقه بقوتك مالك - وزن ادعه - أي احفظه حفظك مالك، ويلزمه النظر والمراقبة: بقيت الشيء - إذا نظرت إليه ورصدته، ويلزمه الثبات: بقي بقاء - إذا دام، والخير والجودة؛ قال الزمخشري: لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، ويقال: فلان من بقية قوم، أي
من خيارهم، وسيأتي شرح ذلك مستوفى عند قوله تعالى {وجعلنا بينهم موبقاً} إن شاء الله تعالى {ينهون} أي يجددون النهي في كل حين إشارة إلى كثرة المفسدين {عن الفساد} الكائن {في الأرض} و «لولا» هنا كالتي في يونس توبيخية أو استفامية كما جوزهما الرماني، ويجوز أن تكون تخصيصية كما قال الزمخشري، ويكون للسامع لا للمهلك، لأن الآية لما تضمنت إهلاك المقر على الفساد كان في ذلك أقوى حث لغيرهم على الأمر والنهي وأوفى تهديد زاجر عن ارتكاب مثل حالهم الموقع في أضعاف نكالهم، وفي تعقيب هذه الآية لآية الصبر إشارة إلى أن الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الذروة العليا، والآية ناظرة إلى قوله تعالى {إنما أنت نذير} .
ولما كانت المعاني الثلاثة متضمنة للنفي، كان المعنى: لم يكن من يفعل ذلك، فاتصل الاستثناء في قوله:{إلا قليلاً} أي صالحين {ممن أنجينا منهم} والظاهر أن «من» بيانية، أي هم الذين أنجينا فإنهم نهوا عن الفساد، عبر بالإنجاء لأنه الدال على الخير الحامل للنهي عن الفساد دون التنجية الدالة على التدريج والإبلاغ في الإنجاء فلو عبر بها فسد المعنى {واتبع} الأكثر وهم {الذين ظلموا}
أي أوقعوا الظلم بترك النهي عن الفساد، وما أحسن إطلاقها عن التقييد ب {منهم} {ما} ولما كان المبطر لهم نفس الترف، بني للمفعول قوله:{أُترفوا فيه} فأبطرتهم النعمة حتى طغوا وتجبروا {وكانوا مجرمين*} أي متصفين على سبيل الرسوخ بالإجرام، وهو قطع حبل الله على الدوام، فأهلكهم ربك لإجرامهم، ولولا ذلك لما فعل، فإن إهلاكهم على تقدير الانفكاك عن الإجرام يكون ظلماً على ما يتعارفون.
ولما لاح بما مضى أن العبرة في الإهلاك والإنجاء للاكثر، قرره وأكده وبينه بقوله:{وما كان ربك} ذكر سبحانه بالوصف المفهم للإحسان تثبيتاً له وتأميناً {ليهلك القرى} أي إهلاكاً عاماً {بظلم} أي أيّ ظلم كان، صغير أو كبير {وأهلها مصلحون*} أي في حال ظلم بأن يوقع إهلاكهم في حال إصلاحهم الذي هم عريقون فيه، فيكون الإهلاك في غير موقعه على ما يتعارف العباد مع العلم بأن له أن يفعل ذلك في نفس الأمر لأنه لا يسأل عما يفعل؛ والإهلاك: إيجاب ما يبطل الإحساس، والهلاك: ضياع الشيء وهو حصوله بحيث لا يدري أين هو؛ والإصلاح: إيجاب ما يستقيم به الأمر على ما يدعو إليه العقل.
ولما كان مثل هذه الآيات ربما أوهم أن إيمان مثل هؤلاء مما لا يدخل تحت المشيئة، نفى ذلك الوهم مبيناً انفكاك المشيئة عن الأمر بقوله:{ولو شاء ربك} أي المحسن إليك بكل إحسان يزيدك رفعة {لجعل الناس} أي كلهم {أمة واحدة} على الإصلاح، فهو قادر على أن يجعلهم كلهم مصلحين متفقين على الإيمان فلا يهلكهم، ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء اختلافهم والأمر تابع لمشيئته فاختلفوا {ولا يزالون مختلفين} أي ثابتاً اختلافهم لكونهم على أديان شتى {إلا من رحم ربك} أي المحسن إليك بالتأليف بينهم في جعلهم من أهل طاعتك فإنهم لا يختلفون في أصول الحق. ولما كان ما تقدم ربما أوجب أن يقال: لمَ لم يُقبل بقلوبهم إلى الهدى ويصرفهم عن موجبات الردى إذا كان قادراً؟ قال تعالى مجيباً عن ذلك: {ولذلك} أي الاختلاف {خلقهم} أي اخترعهم وأوجدهم من العدم وقدرهم، وذلك أنه لما طبعهم سبحانه على خلائق من الخير والشر تقتضي الاختلاف لتفاوتهم فيها، جعلوا كأنهم خُلقوا له فجروا مع القضاء والقدر، ولم يمكنهم الجري على ما تدعو إليه العقول في أن الاتفاق رحمة والاختلاف نقمة، فاستحق فريق منهم النار وفريق جنة، وليس ذلك مخالفاً لقوله تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]
بل هو من شكله، أي أنه تعالى لما ركبهم على العجز ومنحهم العقول مع نصب الأدلة، كان ذلك مهيئاً للعبادة فكانوا كأنهم ما خلقوا إلا لها أي ما خلقتهم إلا ليعرفون بنفوذ أقضيتي وتصاريفي فيهم فيعبدون، أي يخضعوا لي فمن كان منهم طائعاً فهو عابد حقيقة، ومن كان عاصياً كان عابداً مجازاً، أي خاضعاً للأمر لنفوذه فيه وعجزه عن الامتناع كما قال تعالى {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} [الرعد: 15] ، فقد بان أن خلقهم للعبادة فقط ينافي خلقهم للاختلاف، لأن جريهم في قضائه بالاختلاف عبادة وسجود لغة، وذلك أن مادتي عبد وسجد تدوران على الخضوع والذل والانقياد، وبذلك كان الكل عبيد الله، أو الإشارة إلى مجمع الاتفاق والاختلاف ليظهر فضله على من ثبتهم ويظهر عدله فيمن خذلهم.
ولما كان هذا الاختلاف سبب الكفر الذي أرسل رسله بالقتال عليه، كان ربما ظن أنه بغير مشيئته، فبين أنه إنما هو بمراده ولا اعتراض عليه فقال:{وتمت} أي فبادروا إلى ما خلقهم لهم معرضين عن أوامره ولم تغن عنهم عقولهم، وتمت حينئذ {كلمة ربك} أي المحسن إليك بقهر أعدائك التي سبقت في الأزل وهي وعزتي {لأملأن جهنم}
أي التي تلقى المعذب فيها بالتجهم والعبوسة {من الجنة} أي قبيل الجن، قدمهم لأنهم أصل في الشر، ثم عم فقال:{والناس أجمعين*} فمشوا على ما أراد ولم يمكنهم مع عقولهم الجيدة الاستعدد وقواهم الشداد غير إلقاء القياد، فمن قال: إنه يخلق فعله أو له قدرة على شيء فليفعل غير ذلك بأن يخبر باتفاقهم ثم يفعله ليتم قوله.
وإلا فليعلم أنه مربوب مقهور فيسمع رسالات ربه إليه بقالبه وقلبه.
ولما أخبر سبحانه بما فعل بالقرى الظالمة، وحذر كل من فعل أفعالهم بسطواته في الدنيا والآخرة، وأمر باتباع أمره والاعراض عن اختلافهم الذي حكم به وأراده، عطف على قوله {نقصه عليك} قوله:{وكلاًّ نقص} أي ونقص {عليك} كل نبأ أي خبر عظيم جداً {من أنباء الرسل} مع أممهم: صالحيهم وفاسديهم، فعم تفخيماً للأمر، ولما كان الذي جرّ هذه القصص ما مضى من قوله:{فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك} ، وكان ساكن الصدر القلب، وهو الفؤاد الذي به قوام الإنسان بل الحيوان، وهو أحرّ ما فيه، ولذا عبر عنه بما اشتق من الفأد وهو
الحرق، وكان من لازم الحرارة الاضطراب والتقلب الذي اشتق منه القلب فيضيق به الصدر، أبدل من {كلاًّ} قوله:{ما نثبت} أي تثبيتاً عظيماً {به فؤادك} أي فيسكن في موضعه ويطمئن أو يزداد يقينه فلا يضيق الصدر من قولهم {لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك} ونحوه، وبهذا تبين أن المراد بذلك العام خاص لحصوله المقصود له، وهو التسلية نظراً إلى قوله تعالى {وضائق به صدرك} لأن المشاركة في الأمور الصعبة تهون على الإنسان ما يلقى من الأذى، والإعلام بعقوبات المكذبين فيها تأنيس للمكروب؛ والتثبيت: تمكين إقامة الشيء؛ والفؤاد: العضو الذي من شأنه أن يحمى بالغضب الحال فيه، من المفتأد وهو المستوي.
ولما بين أن كل ما قص عليه من أخبارهم يستلزم هذا المقصود، بين أنه ليس كما يعلل به غالباً من الأخبار الفارغة والأحاديث المزخرفة الباطلة ولا مما ينقله المؤرخون مشوباً بالتحريف فقال:{وجاءك في هذه} أي الأخبار {الحق} أي الكامل في الثبات الذي لا مرية فيه، وفائدة الظرف التأكيد لعظم المقصود من آية {فلعلك} وصعوبته.
ولما كان الحق حقاً بالنسبة إلى كل أحد عرفه ونكر ما هو خاص بقوم دون قوم فقال: {وموعظة} أي مرقق للقلوب {وذكرى} أي تذكير عظيم جداً {للمؤمنين*} أي الراسخين في الإيمان، وقد
تضمنت الآية الاعتبار من قصص الرسل بما فيها من حسن صبرهم على أممهم واجتهادهم على دعائهم إلى عبادة الله بالحق وتذكير الخير والشر وما يدعو إليه كل منهما من عاقبة النفع والضر للثبات على ذلك جميعه اقتداء بهم.
ولما ذكر نفع هذا الحق، كان كأنه قيل: فعظهم بذلك وذكرهم به، فعطف عليه قوله:{وقل} ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله {واصبر} أي اصبر على ما أمرناك به من تبليغ وحينا وامتثاله، وقل {للذين} أي لم تؤثر فيهم هذه الموعظة فهم {لا يؤمنون} أي لا يتجدد لهم إيمان منذراً لهم {اعملوا} متمكنين {على مكانتكم} أي طريقتكم التي تتمكنون من العمل عليها.
ولما كان العمل واجباً عليه صلى الله عليه وسلم وعلى كل من تبعه فهم عاملون لا محالة سواء عمل الكفار أو لا، قال مؤكداً لأجل إنكار الكفار أن يدوموا على العمل المخالف لهم مع ما يصل إليهم لأجله من الضر، معرياً له عن فاء السبب لذلك والاستئناف:{إنا} أي أنا ومن معي {عاملون*} أي ثابت عملنا لا نحول عنه لأن ما كان لله فهو دائم بدوامه سبحانه، وحذف النون
الثانية اكتفاء بمطلق التأكيد لأنه كافٍ في الإعلام بالجزم في النية، وفيه تأدب بالإشارة إلى أن المستقبل أمر لا اطلاع عليه لغير الله فينبغي أن لا يبلغ في التأكيد فيه غيره، وهذا بخلاف ما في سورة فصلت مما هو جارٍ على ألسنة الكفرة {وانتظروا} أي ما أنتم منتظرون له من قهرنا {إنا منتظرون*} أي ما وعدنا الله في أمركم، فإن الله مهلكهم ومنجيك لأنه عالم بغيب حالك وحالهم وقادر عليكم؛ والانتظار: طلب الإدراك لما يأتي من الأمر الذي يقدر النظر إليه؛ والتوقع: طلب ما يقدر أنه يقع، وهما يكونان في الخير والشر ومع العلم والشك، والترجي لا يكون إلا مع الخير والشك.
ولما تضمن هذا التهديد العلم والقدرة، قال عاطفاً على ما تقديره: فلله كل ما شوهد من أمرنا وأمركم وأمر عالم الغيب والشهادة كله ما كان من ابتداء أمورنا {ولله} أي المحيط وحده بكل شيء مع ذلك {غيب السماوات والأرض} أي جميع ما غاب علمه عن العباد فهو تام العلم، ومنه ما ينهى عنه وإن ظن الجهلة أنه خارج عن قدرته لما أظهر من الزجر عنه ومن كراهيته.
ولما كان السياق هنا لأنه سبحانه خلق الخلق ذواتهم ومعانيهم للاختلاف، وكان تهديدهم على المعاصي ربما أوهم أنه بغير إرادته، فكان ربما قال جاهل: أنا بريء من المخالفين لأوليائه كثيراً جداً، وعادة الخلق أن من خالفهم خارج عن أمرهم، كان الجواب على تقدير التسليم لهذا الأمر
الظاهر: فله كان الأمر كله ظاهراً وباطناً {وإليه} أي وحده {يرجع} بعد أن كان ظهر للجاهل أن خرج عنه؛ والرجوع: ذهاب الشيء إلى حيث ابتدأ منه {الأمر كله} في الحال على لبس وخفاء، وفي المال على ظهور واتضاح وجلاء، فهو شامل القدرة كما هو شامل العلم، فلا بد من أن يرجع إليه أمرك وأمر أعدائك، أي يعمل فيه عمل من يرجع إليه الأمر فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذلك سبب عن إسناد الأمور كلها إليه قوله:{فاعبده} أي وحده عبادة لا شوب فيها {وتوكل} معتمداً في أمورك كلها {عليه} فإنه القوي المتين، وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع العابد.
ولما كانت العادة جارية بأن العالم قد يغفل، نزه عن ذلك سبحانه نفسه فقال مرغباً مرهباً:{وما ربك} أي المحسن إليك بما يعمله بإحاطة عمله إحساناً، وأغرق في النفي فقال:{بغافل عما تعملون*} ولا تهديد أبلغ من العلم، وهذا بعينه مضمون قوله تعالى {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير الا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} [هود 1 - 2] .