الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: الخطط الحربية
المبحث الأول: خطة الجيش
المبحث الثاني: خطة الأسطول
خطة الجيش
بعد أن أتم المسلمون فتح الأندلس، عُرف العرب الداخلون مع القائدين موسى بن نصير وطارق بن زياد "بالبلديين"، وأما من وصل فيما بعد مع بلج بن بشر القشيري
(1)
سنة (123) هـ (741 م) فقد عرفوا "بالشاميين"
(2)
، ومن أجل ضمان استقرار البلديين والشاميين بالأندلس، وللحيلولة ماأمكن دون حدوث اصطدام بينهما، قام أبو الخطار الكلبي 125 - (127) هـ (742 - (744) م) والي الأندلس، بإبعاد الشاميين عن قرطبة التي استقر بها البلديون، ففرق الشاميين على عدة كور
(3)
، وقد راعى عند إنزاله لهم بالكور، أن يكون كل جند
(4)
في منطقة شبيهة
(1)
- بلج بن بشر القشيري كان مع عمه كلثوم بن عياض القشيري، وقد قتل الأخير في معركة الأشراف، ونجا بلج بن بشر من المعركة ولجأ إلى سبته، فتحصن بها من البربر، وعندما تمكن من دخول الأندلس، استطاع الإستيلاء على الزعامة فيها، فتولى ولاية الأندلس سنة 124 هـ وتمادى في الولاية مدة أحد عشر شهراً أو أقل. انظر: ابن القوطية، ص 14 - 18. البيان المغرب، 2/ 31.
(2)
- ابن القوطية، ص 16، لسان الدين بن الخطيب، اللمحة البدرية في الدولة النصرية، (تصحيح، محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1347 هـ) ص 16 - 17.
(3)
- الحلة السيراء، 1/ 61 - 62. الإحاطة، 1/ 103.
(4)
- كلمة جند: تعني جماعة مسلحة، وهذا المصطلح يطلق على الحاميات العسكرية التي استقر فيها المحاربون العرب، الذين بالإمكان تعبئتهم وتحريكهم في العمليات العسكرية. انظر: د. يونس شنوان، جند الشام في الأندلس والتأثيرات الشامية "زمن الأمير عبدالرحمن الداخل". (مجلة المؤرخ العربي، العددان 41، 42، السنة 16، بغداد 1410 هـ/1990 م) ص 169.
بأراضيه الأولى بالشام، فأنزل جند دمشق في إلبيره، وجند الأردن في ريه، وجند فلسطين في شذونه، وجند حمص في إشبيليه، وجند قنسرين في جيان، وأما جند مصر فأنزل جزء منهم ببجانه وجزء في تدمير "مرسيه
(1)
" وبذلك عُرفت هذه الكور باسم "الكور المجنَّدة
(2)
".
هذه القبائل العربية أنزلها أبو الخطار على "أموال العجم من أرض ونَعمَ
(3)
" وجعل لها "ثلث أموال أهل الذمة من العجم طعمة
(4)
" وبذلك أصبح العرب هم أسياد المناطق التي نزلوها، وبمقابل عدم تدخل الإدارة المحلية في قرطبة بشئونهم، فإن على زعماء تلك الكور المجندة تقديم ثلثي
(1)
- ابن القوطية، ص 20. البيان المغرب، 2/ 33. تدمير " Tudmir" الاسم القديم لكورة مُرسيه، كانت قاعدتها بلدة أوريولة Orihuela وعندما اختطت مرسيه سنة 216 هـ على يد جابر بن مالك بن لبيد عامل تدمير، انتقلت القاعدة إليها وعرفت الكورة باسم كورة مرسية " Murcie" انظر: وصف الأندلس للرازي، ص 11. الحلة السيراء، 1/ 63، حاشية رقم 1. الروض المعطار ص 131 - 132.
(2)
- الروض المعطار ص 21.
(3)
- البيان المغرب، 2/ 33.
(4)
- الإحاطة، 1/ 103.
خراج كورهم لقرطبة، في حين أن الثلث الباقي لهم حق التصرف فيه نظير ما يؤدونه من خدمة عسكرية لقرطبة
(1)
.
وقد اعتمد أبو الخطار على العنصر القبلي، عند توزيعه للقبائل، سواء منها العربية أو البربرية، إذ أن جيوش تلك القبائل عندما دخلت الأندلس، كانت عبارة عن مجموعات قبلية تسير تحت ألوية زعمائها وبذلك أصبح لكل قبيلة مكاناً خاصاً يسمى باسمها، مثل جزء البكريين، جزء اللخميين، جزء البربر وغيرها
(2)
.
عناصر الجيش الأموي بالأندلس:
أولاً: العرب
كان الجيش الأموي بالأندلس، يتكون من الجندين: الشامي والبلدي
(3)
، وكانت الألوية الغازية تعقد منهما، فللشاميين لواءان، أحدهما يغزو والآخر يقيم، ويُستبدلان كل ثلاثة أشهر، ومثلهم البلديون، إلا أن اللواء الغازي منهم يُستبدل كل ستة أشهر، والسبب في هذا التمايز بين الجندين عائد إلى أن الجند الشامي مقدم على الجند البلدي
(4)
، إذ أن الديوان والكتبة في الشاميين، كما أنهم أحرار من العشر، لكونهم مُعدَين
(1)
- فجر الأندلس، ص 221.
(2)
- د. عبد الواحد ذنون طه، الفتح الاستقرار، ص 203 - 210.
(3)
- ذكر ابن الخطيب أن هناك طائفة ثالثة تتكون من الشاميين والبلديين معاً، يسمون النظراء، يشتركون في الغزو كما يغزو أهل البلد من الفريقين. انظر: الإحاطة، 1/ 105.
(4)
- هذه سياسة الدولة ككل فهي شامية الأصل.
للغزو، فكل الذي يترتب عليهم هو المقاطعة على أموال أهل الذمة التي في أيديهم
(1)
.
واللواء الغازي من الجند الشامي له الحق في العطاء دون اللواء المقيم، فأصحاب المعاقد يعطى كل واحد منهم مائتي دينار، في حين أن أقاربه الذين يغزون معه مثل إخوته وبنيه أو بني عمه يعطي لكل منهم عشرة دنانير إكراماً له، ومن كان غازياً معه من غير بيوتات العقد يعطى خمسة دنانير، وأما اللواء الغازي من البلديين فيعطى دون اللواء المقيم، ومقدار عطائه مائة دينار، أما غير المعقود لهم فلا يعطون شيئاً، كما أن عليهم أن يؤدوا ضريبة العشر
(2)
.
ولم تنحصر عملية تفضيل الجند الشامي على البلدي في هذا فقط، بل إن الجند الشامي مقدم على البلدي في الدخول على أمراء وخلفاء بني أمية بقرطبة، فمنذ بداية الدولة الأموية بالأندلس كان جند دمشق أهل كورة إلبيرة مقدمين على من سواهم في الترتيب، ولواؤهم يأتي في أول الألوية بالميمنة
(3)
، يليهم جند حمص وهم أهل كورة إشبيلية ولواؤهم في
(1)
- الإحاطة، 1/ 104.
(2)
- المصدر السابق، والصفحة.
(3)
- لا غرابة عندما يقدم بنو أمية بالأندلس الجند الشامي على من سواه، إذ أنهم أقرب المجموع إليهم، وهم موطن ثقتهم حتى أن الأمير عبدالرحمن الداخل عندما أسس مدينة إلبيرة، أسكنها بالإضافة إلى جند دمشق الكثير من مواليه، كما امتاز جند دمشق بصدق الولاء لبني أمية، إذ بمجرد استلام عبد الرحمن الناصر مقاليد الإمارة بقرطبة بادر أهل جند دمشق للاستجابة لأمره، وتقديم فروض الطاعة له، فتخلوا عن حصونهم، وجاءوا إلى باب قصره براياتهم. انظر: المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 58. الروض المعطار، ص 28.
الميمنة بعد لواء جند دمشق، ثم جند قنسرين وهم أهل كورة جيان، وبعدهم يأتي دور جند فلسطين وهم أهل كورة شذونة ولواؤهم في الميسرة وأخيراً جند مصر في باجه ولواؤهم في الميسرة بعد جند فلسطين وكذلك جند الأردن أهل كورة رية
(1)
.
ثانياً: المماليك "الصقالبة"
منذ الأيام الأولى لقيام الإمارة الأموية بالأندلس، بدأ الأمير عبد الرحمن الداخل يفكر جدياً في إجراء تعديلات على التنظيم العسكري القائم بالأندلس، مدفوعاً إلى ذلك برغبته الشديدة في إحلال نظام الدولة بدلاً من النظام القبلي، بالإضافة إلى استرابته بالعرب من جراء تعرضه لمحاولة الاغتيال التي دبرت ضده في الساعات الأولى بعد انتصاره على يوسف الفهري في معركة المصارة
(2)
، وكذلك بسبب كثرة حركات التمرد والعصيان التي هبت في وجهه بعد إعلانه قيام دولته
(3)
.
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 57. الروض المعطار، ص 279 - 280.
(2)
- انظر: أخبار مجموعة، ص 91.
(3)
- المصدر السابق، ص 91 - 108. البيان المغرب، 2/ 48 - 55.
ولذا فبعد أن أسقط لواء جند باجه بسبب تمرد زعيمه العلاء بن مغيث اليحصبي
(1)
قام الأمير عبد الرحمن الداخل بشراء المماليك ليستعين بهم على العرب
(2)
.
ويبدو أن الأمير هشام بن عبد الرحمن الداخل قد سار على خطى والده في استخدام الحرس الخاص المكونَّ من المماليك العجم وهم الخرس أو الصقالبة، يدل على ذلك ما ذكره ابن حيان من أن الأمير الحكم الربضي كانت لديه "فرقة من الحرس الخاص معظمهم من فيء أربونة ورثهم عن والده هشام
(3)
" وبذلك أرسى تقليداً جديداً في الأندلس سار عليه من أتى بعده
(4)
.
ولم يكتف الأمير الحكم الربضي بما ورثه عن والده من أولئك المماليك، فقد أخذ يستكثر منهم ويعمل جاهداً على ضم أكبر عدد ممكن منهم إليه، حتى بلغ عددهم لديه نحو خمسة آلاف رجل، منهم ثلاثة
(1)
- الروض المعطار، ص 36. العلاء بن مغيث اليحصبي الجذامي، زعيم عربي، ثار باسم الخليفة أبي جعفر المنصور ضد عبد الرحمن الداخل، وتمكن من فرض حصار عسكري على الأمير الأموي في قرمونة، لكن الأمر انتهى بقتل العلاء وتمزيق قواته، انظر: ابن القوطية، ص 32 - 33. أخبار محموعة، ص 101 - 103. البيان المغرب، 2/ 51 - 52.
(2)
- المغرب في حلى المغرب، 1/ 60.
(3)
- دولة الإسلام في الأندلس ع 1 ق 1، ص 250.
(4)
- L-Provencal: Op.Cit.III.P: 73.
آلاف فارس وألفا راجل، وكان يطلق على أولئك المماليك لقب "الخرس" لعدم معرفتهم بالعربية
(1)
.
وكل هذه الجموع الغفيرة من المماليك كانت تحرس قصر الأمير الربضي، وتقف على أهبة الاستعداد للطوارئ، ولذا، فبعد أن فعلوا ما سرهَّ في يوم هيج الربض سنة (202) هـ (818 م) كافأهم بالعتق وأغدق عليهم صلاته
(2)
.
وفضلاً عن هذه المجموعة، فقد كان لدى الأمير الحكم الربضي ألفا فرس مرتبطة على شاطئ النهر تجاه القصر "يجمعها داران على كل دار عشرة عرفاء تحت يد كل عريف مائة فرس
(3)
" ودائماً تقف هذه القوة على أهبة الاستعداد لإخماد أي حركة تهب بصورة مفاجئة ضد صاحب السلطة السياسية في البلاد
(4)
.
وقد ذكر ابن حيان أن الأمير عبد الرحمن الأوسط سار على خطى والده في الاحتفاظ بأولئك المماليك الخرس، ولأجل ذلك قام بشراء أنصبة إخوانه منهم، واستخدم تلك القوة في حراسة القصر
(5)
.
(1)
- المغرب، 1/ 39. الكامل، 5/ 466.
(2)
- دولة الإسلام في الأندلس، ع 1 ق 1 ص 250.
(3)
- أخبار مجموعة، ص 129.
(4)
- المصدر السابق، ص 130.
(5)
- انظر: دولة الإسلام في الأندلس، ع 1 ق 1 ص 277.
وهؤلاء المماليك "الخرس" هم الذين يطلق عليه "الصقالبة" القادمون من الأراضي الممتدة من بحر قزوين إلى البحر الأدريائي"
(1)
. ثم توسع لفظ الصقالبة فأصبح يطلق على كل رقيق جلب من الممالك النصرانية وعمل في قصر الخلافة
(2)
.
ولم يقتصر عمل الصقالبة على الحراسة، بل كانت توكل إليهم مهام عديدة مثل إرسالهم للاشتراك مع قوات الحكومة لمواجهة الاضطرابات التي قد تحدث خارج العاصمة
(3)
.
وعندما تعيِّن حكومة قرطبة أحد الولاة في إحدى الكور، فإنها ترسل معه مجموعة من أولئك الصقالبة لمساعدته في استلام منصبه
(4)
، وكان لدى الأمير عبد الله بن محمد مجموعة منهم عرفت باسم "رماة المماليك" مهمتها الذود عن سرادق الأمير عبد الله برشق النبال
(5)
، وبمقابل ذلك وجد من الصقالبة من يعمل في الخفاء مع المتمردين ضد حكومة قرطبة
(6)
.
(1)
- صورة الأرض، ص 106، الصقالبة في إسبانيا، ص 8.
(2)
- المرجع السابق ص 9.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 6.
(4)
- العذري، نصوص عن الأندلس، ص 30.
(5)
- المقتبس، تحقيق: أنطونية، ص 94.
(6)
- نصوص عن الأندلس، 30.
وقد نظر أمراء وخلفاء بني أمية إلى أولئك الصقالبة نظرة ود وثقة، فكان أكابرهم يعرفون بالخلفاء
(1)
أو الفتيان الأكابر
(2)
، كما فتحوا المجال أمامهم للوصول إلى مناصب عسكرية عليا في الدولة، فمثلاً كان أفلح صاحب الخيل
(3)
، وتولى دري بن عبد الرحمن منصب صاحب الشرطة
(4)
، كما كان نجده بن حسين الحيري يتولى أمر العلافة بالجيش
(5)
، ثم أصبح قائداً للجيش
(6)
، وعندما توفي الخليفة عبد الرحمن الناصر كان لديه منهم بالزهراء ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسين رجلاً
(7)
.
وقد سار الخليفة المستنصر على سياسة والده في الاستكثار من الصقالبة وتوليتهم المناصب الرفيعة
(8)
، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه طالب الناس بالتغاضي عن التجاوزات التي تحدث من الصقالبة محتجاً بأنهم مؤتمنون على من في القصر، وأنه لأجل ذلك لا يمكن معاتبتهم أو معاقبتهم في كل وقت خشية إثارة ما كمن في نفوسهم
(9)
.
(1)
- المقتبس تحقيق: د. محمود مكي، ص 341.
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 119.
(3)
- البيان المغرب، 2/ 191.
(4)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 213.
(5)
- المصدر السابق، ص 343.
(6)
- نفسه، ص 420.
(7)
- أعمال الأعلام، 2/ 40 - 41.
(8)
- البيان المغرب، 2/ 259.
(9)
- المصدر السابق، 2/ 259.
وعندما توفي الخليفة الحكم المستنصر كان لصقالبة قصره قوة يحسب حسابها، إذ أن عددهم بلغ أكثر من ألف مجبوب دون من يتبعهم، يتولى رئاستهم فائق صاحب البرد والطراز ويليه في القيادة جؤذر صاحب الصاغة والبيازرة، وقد بلغ من قوة أولئك الصقالبة أنهم كادوا يحولون الخلافة من هشام المؤيد إلى عمه المغيرة بن عبد الرحمن الناصر
(1)
.
وفي عهد الخليفة هشام المؤيد تمكن الحاجب المنصور بن أبي عامر من السيطرة على صقالبة القصر بطرقه الملتوية،
(2)
وفي الوقت نفسه تمكن من كسب ود كثير منهم فولى بعضهم قيادة الجيوش
(3)
وعلى نهجه سار ابنه عبد الملك المظفر
(4)
.
ويرى بعض الباحثين أن الأمويين قد اعتمدوا على الصقالبة في الإدارة والجيش من أجل الحد من نفوذ العرب في الحكم بالإضافة إلى إضعاف الجنود العرب والبربر
(5)
، ولعل من أنصع الأمثلة على ذلك أن الخليفة عبد الرحمن الناصر جعل مملوكه نجدة بن حسين قائداً عاماً للحملة التي سار بها الخليفة لقتال راميرو الثاني Ramiro ملك ليون Leon فقرر بعض كبار قادة العرب أن يتركوا القائد الصقلبي نجدة ومن معه يواجهون
(1)
- نفسه، 2/ 259 - 260.
(2)
- نفسه، 262 - 263.
(3)
- نفسه، 2/ 282.
(4)
- نفسه، 3/ 11.
(5)
- الصقالبة في أسبانيا، ص 12.
مصيرهم في تلك المعركة التي عرفت باسم شنت مانكش Simoncas أو الخندق سنة (327) هـ (939 م) فذهب ضحية ذلك القائد الصقلبي وآلاف المسلمين حتى أن الخليفة عبد الرحمن الناصر لم ينج إلا بأعجوبة حيث لم يعد بعدها إلى الخروج للغزو
(1)
.
ثالثاً: البربر
ضم الجيش الأموي بالأندلس بالإضافة إلى العرب والصقالبة عناصر من البربر، حيث عملوا مرتزقة منذ الفترة الأولى لقيام الدولة الأموية هناك، إذ أن الأمير عبد الرحمن الداخل استقدم الكثير منهم إلى الأندلس بعد أن استراب بالعرب امتثالاً لنصيحة ابن عمه ومستشاره بشر بن عبد الملك بن مروان
(2)
، فأحسن معاملتهم
(3)
، فتوافدوا عليه، حتى أصبح لديه منهم أعداد كبيرة
(4)
، لكن يبدو أن من أتى بعده من الأمراء لم يسلكوا منهجه تجاه البربر، إذ أننا لا نجد ذكراً واضحاً لهم إلا في عهد الأمير عبد الله بن محمد
(5)
، فقد كان يبعث برجاله إلى طنجة لإقناع من يمكن إقناعه من البربر للإنخراط في جيش الإمارة لديه مقابل أجر
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 432 - 447. أعمال الأعلام، 2/ 36 - 37. د. رجب محمد عبد الحليم، العلاقات بين الأندلس الإسلامية وأسبانيا النصرانية، ص 221 - 225.
(2)
- المغرب في حلى المغرب، 10/ 60
(3)
- أخبار مجموعة، ص 108.
(4)
- نفح الطيب 3/ 37.
(5)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 24، 31 - 32. نصوص عن الأندلس، ص 113.
مادي
(1)
، ورغم ذلك فإن الإمارة الأموية جوبهت بثورات متعددة قام بها البربر
(2)
، مما جعلها تحد من عملية نزوح البربر من العدوة إلى الأندلس، واستمر الخليفة عبد الرحمن الناصر في نهج الموقف الحذر تجاه البربر، فكان لا يستنجد بهم ولايستخدم إلا أراذلهم، مطلقاً عليهم اسم الطنجيين، ويكلفهم بأدنى أنواع الخدمة وأشقها مقابل أجور زهيدة
(3)
.
وأما الخليفة الحكم المستنصر فقد اتخذ موقفاً متناقضاً تجاه البربر، ففي بداية حكمه كان متشدداً تجاههم، بل إن الأمر بلغ به إصدار أمر بمعاقبة أحد العبيد لأنه كان راكباً على فرس بسرج عدوي الصنعة وتم إحراق السرج بدار الجند أمام الحضور
(4)
.
ومواقف الخليفة الحكم المستنصر انتقلت بطبيعة الحال إلى أهل قرطبة إذ ما إن حصل نزاع بين بعض طوائف الجند وبين الطنجيين عند اجتماعهم بباب السدة من قصر قرطبة حتى هب سواد أهل قرطبة ووقفوا مع الجند ضد الطنجيين
(5)
.
(1)
- L-Provenca: OP.Cit.lll، p: 76 - 77.
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 330، 342. المقتبس تحقيق: أنطونيه 18، 25، 31 - 32، 69، 117، 127، 129. المقتبس، تحقيق: شالميتا 239. البيان المغرب 2/ 116، 138، 237.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 190.
(4)
- المصدر السابق،، ص 190 - 191.
(5)
- نفسه، ص 87.
وبعد أن عانى الخليفة الحكم المستنصر وقواته كثيراً بسبب شدة صمود البربر ضد جيوشه في العدوة، بدأت نظرته لهم تتغير، فأخذ يرسل الأموال لاستمالتهم فنجح في ذلك
(1)
، واستخدم كثيراً من الوافدين إليه في جيشه
(2)
. ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل إن كراهيته السابقة لهم تحولت إلى إعجاب فقد صار يستمتع بالنظر إلى فرسانهم وهم يستعرضون مهاراتهم في ركوب الخيل، ويكيل المديح لهم أمام سامعيه
(3)
.
هذه الحالة استغلها المنصور بن أبي عامر، حيث أدرك أنه بهم سيحقق أهدافه الخاصة، إذ أنه متى ما فرضهم على بقية الطوائف في الجيش الأموي بالأندلس فإن ذلك سيحدث شحناء بين تلك الطوائف وبين البربر، والبربر بدورهم يرون في المنصور الملاذ الذي يحميهم من سطوة الآخرين، وبذلك ضمن المنصور الولاء الدائم من البربر، من أجل ذلك عمد إلى زيادة أعدادهم في جيشه من خلال استدعائهم من العدوة، فأرسل إلى رؤسائهم وشجعان فرسانهم، فأقبلت عليه قبائل زناتة ومغراوة وإزداجة وصنهاجة، وبنوبرزال وبنو يفرن وغيرهم، فكان ينتقي من تلك الجموع الهائلة من تثبت كفاءته لديه ويلحقه بديوان الجند عنده
(4)
.
(1)
- نفسه، ص 191 - 192.
(2)
- نفسه، 96، 115، 123 - 124، 171 - 173، مفاخر البربر، ص 44.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 193.
(4)
- أعمال الأعلام، 2/ 66. مفاخر البربر، ص 44 - 45.
وقد استخدم المنصور مع هؤلاء سياسة حكيمة تعزز وتقوي محبته عندهم، فقد كان الرجل منهم يأتيه على فرس أعجف بلباس خلق، فيبدل الأعجف بالجواد العتيق، والخز الطرازي عوضاً عن اللباس الخلق، ويسكنه في قصر لا يدور في خياله أن يدخل مثله لا أن يسكنه، ورفعهم على من سواهم من طوائف الجند
(1)
، و"اختصهم باستصناعه واسترقهم بإحسانه"
(2)
.
وبسبب إكرام المنصور للبربر أخذت أعداد هائلة تنزح من العدوة إلى الأندلس، فغدت أعدادهم كبيرة في الجيش الأندلسي ولايمكن تقدير عددهم الكلي خاصة إذا أخذنا بالاعتبار أن قبائل عديدة بأكملها نزحت إلى الأندلس وانخرط الكثير من أبنائها في الجيش تحت قيادة المنصور بن أبي عامر
(3)
.
رابعاً: الحشم
كان للحشم مسئول يتولى الإشراف عليهم يعرف باسم "الناظر في الحشم
(4)
" أو "صاحب الحشم
(5)
" ويكون برتبة وزير
(6)
، ومن بين الذين
(1)
- البيان المغرب، 2/ 279.
(2)
- المصدر السابق، ص 293.
(3)
- البيان المغرب، 2/ 294.
(4)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 47.
(5)
- المصدر السابق، ص 22.
(6)
- نفسه، ص 30.
تولوا هذا المنصب محمد بن قاسم بن طملس
(1)
وتولى من بعده ولده قاسم هذا المنصب مضافاً إليه الشرطة العليا
(2)
ثم تولاها زياد بن أفلح بالإضافة إلى خطة الخيل
(3)
.
ويبدو أن هؤلاء الحشم لا يقتصر تواجدهم على قرطبة فحسب، إذ تذكر المصادر تواجد الكثير منهم في العديد من المدن الأندلسية
(4)
، ومهام الحشم بصفة عامة تختلف عن المهام المنوطة بالخرس، ففي الوقت الذي كانت فيه مهمة الخرس هي حراسة أمراء وخلفاء بني أمية وقصورهم، كان الحشم بالمقابل يتولون مهام عديدة في الجيش، فمثلاً في المعارك كان قسم منهم مسئولاً عن تعبئة العساكر
(5)
، بينما في أوقات السلم كانوا يقومون بالإشراف على ترتيب الجند، وتحديد مراتبهم وذلك عند الاستعراضات العسكرية عندما يكون هناك وفد رسمي زائر
(6)
، وبالإضافة إلى مشاركتهم الفعالة في المعارك
(7)
فإن لهم مهمة خاصة أهلتهم لها
(1)
- نفسه، ص 30.
(2)
- نفسه، ص 119.
(3)
- نفسه، ص 196.
(4)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه ص 53 - 54. المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 5/ 91. البيان المغرب، 2/ 142.
(5)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه ص 165.
(6)
- المقتبس، تحقيق: د. عبدالرحمن الحجي، ص 195 - 196.
(7)
- انظر: المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 81، 322، 468، 486. البيان المغرب، 2/ 205، 210، 232.
الكفاءة العسكرية التي كانوا يتمتعون بها، إذ كانوا دائماً يشكلون طلائع رئيسة للجيش تعمل على تمهيد السبيل أمامه وتقوم بضبط الحصون بعد افتتاحها
(1)
.
وفي بعض الأحيان تسند للحشم مهمة تقصي الحقائق في مسألة معينة ومن ثم رفع الخبر على وجه الصحة للأمير في قرطبة
(2)
، كما أن صاحب الحشم يقوم أحياناً بمهمة إجراء المفاوضات
(3)
.
ومن خلال المعلومات التي وردت في بعض المصادر ندرك أن أعداد الحشم لم تكن قليلة، يدل على ذلك ما ذكره ابن حيان من أن الأمير محمد بن عبد الرحمن أرسل أخاه الحكم بن عبد الرحمن على رأس صائفة، فوصل إلى قلعة رباح فأعاد إعمارها وأتقنها واسترجع أهلها إليها، وجعل عندهم جيشاً كثيفاً من الحشم
(4)
، كما أن الخليفة عبد الرحمن الناصر شحن مدن الأندلس وحصونها وقصابها وفروج ثغورها بالحشم
(5)
، وهناك نص لابن حيان أكد فيه كثرة أعداد أولئك الحشم، فقد ذكر أن صاحب الشرطة محمد بن قاسم بن طملس خرج من قرطبة قائداً ومدداً للوزير القائد
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 71، 72، 86، 155، 232، 247.
(2)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 111.
(3)
- البيان المغرب، 2/ 130.
(4)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 294.
(5)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 455 - 456.
غالب بن عبد الرحمن "فكان خروجه فخماً ظاهراً في عسكر لجب من طبقات الحشم الذين استجاز حملاتهم"
(1)
.
وإلى جانب هذه العناصر التي ذكرناها والتي تشكل في مجملها القوات النظامية في الجيش الأموي بالأندلس، وجد المتطوعه الذين يخرجون للجهاد في سبيل الله تعالى بأموالهم وأنفسهم طلباً لما عند الله تعالى وإعلاءً لكلمته، فقد كان هؤلاء المتطوعة بمجرد أن يسمعوا نداء الأمير أو الخليفة للجهاد يسارعون بتلبية النداء بلاد تردد، وكانت العدوة المغربية مصدراً من مصادر المتطوعة الذين يرون في الأندلس "دار جهاد وموطن رباط
(2)
".
وقد كان المتطوعة موضع ثناء أمراء وخلفاء بني أمية لسرعة استجابتهم وصالح بلائهم
(3)
ورغم أنه كان يسمح لهم بالعودة إلى ديارهم ومنازلهم بعد الغزو، إلا أن بعضهم يرفض العودة إلى أهله، مفضلاً المرابطة في سبيل الله تعالى وحراسة الثغور على كل شيء، فأقاموا الربط
(4)
التي
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 228.
(2)
- جغرافية الأندلس وأوربا، ص 130. وانظر ابن الزبير، صلة الصلة، (تحقيق: ليفي بروفنسال، المطبعة الاقتصادية، الرباط 1937 م). ترجمة رقم 332.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 226.
(4)
- عن الربط انظر: المالكي، رياض النفوس، (تحقيق: د. حسين مؤنس، مكتبة النهضة المصرية ط الأولى 1951 م) ج 1 ص 25 - 27 من مقدمة المحقق.
كان لها بالليل دوي كدوي النحل من تلاوة القرآن وترديد ذكر الله تعالى، وفي النهار كان المرابطون فرساناً أشاوس يرهب جانبهم
(1)
.
ورغم أننا لا نجد بياناً خاصاً برواتب الجند النظاميين، فإننا لا نشك بأنه كانت هناك مرتبات شهرية تدفع لهم، فقد كان الأمويون لا "يزيدون فارساً على خمسة دنانير للشهر شيئاً، مع نفقته وعلف فرسه
(2)
".
وهذا المرتب كان يتأثر بالحالة السياسية للدولة، فإنه نظراً للإضطراب السياسي الذي كانت تعاني منه الدولة الأموية إبان إمارة الأمير عبد الله بن محمد بسبب كثرة الفتن، نجد أنه ضيَّق على جنوده وقلل أعطياتهم
(3)
. وكما أن المرتبات تتأثر بالوضع السياسي للدولة، فكذلك يتأثر عطاء كل جندي وفق بسالته وشجاعته، "فمن ظهرت نجدته وإعانته وشجاعته أكرموه بولاية موضع ينتفع بفوائده
(4)
"، والأمير عبد الرحمن الداخل عندما كان في إحدى معاركه في الثغر الأعلى نظر إلى أحد فرسانه وقد أظهر كفاءة وشجاعة نادرتين، فأمر أحد فتيانه أن يسأل عن الرجل، فإن كان من أشراف الناس أعطاه ألف دينار، وإن كان من أفناء
(1)
- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص 296 - 300.
(2)
- الحلل الموشية، ص 82.
(3)
- أخبار مجموعة، ص 150 - 151.
(4)
- الحلل الموشية، ص 82.
الناس فيعطيه نصفها
(1)
، وأما من استشهد من جند الجيش الأموي فإن عطاؤه وأرزاقه تنتقل إلى ذريته
(2)
.
وأما المتطوعة الذين لا ذكر لهم في الديوان، فهم بالإضافة إلى ما يغنمونه من المعارك فإن لهم صلات من الأمراء والخلفاء
(3)
.
بقي أن نقول إن المنصور بن أبي عامر كان يدرك تماماً أن الكثير من أبناء الشعب الأندلسي غير راضٍ عن السياسة القهرية التي ينهجها، ولذا فقد كان يخشى من حركة تهب في وجهه أو عصيان يدبر ضده فيطيح به، وهو مدرك في الوقت نفسه أن الجيش له الكلمة الفاصلة في هذا الموضوع، لأجل ذلك عمل على إجراء تغييرات جذرية في تركيبة الجيش، فنسخ تنظيمه الداخلي الذي كان سائدا طيلة عهد أمراء وخلفاء بني أمية إلى عصر الخليفة هشام المؤيد
(4)
، وذلك عندما جعل كل تشكيل من
(1)
- أخبار مجموعة ص 119، والمكافأة على الشجاعة والاستبسال أول من أقرها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه بأن يفرض لخارجة بن حذافة رضي الله عنه في شرف العطاء لشجاعته. انظر: البلاذري، فتوح البلدان، (بعناية: رضوان محمد رضوان، المكتبة التجارية الكبرى القاهرة، ط الأولى 1350 هـ)، ص 442.
(2)
- أخبار مجموعة، ص 120. وهو في هذا متبع لفعل الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، انظر: فتوح البلدان، ص 447.
(3)
- البيان المغرب 3/ 4.
(4)
- كان الجيش الأموي قبل عهد المنصور يعتمد في أساسه على تجميع الفئات والقبائل من مختلف الرتب، كل صنف على حدة مع إيجاد عملية التآلف بين الجميع.
تشكيلات الجيش يشتمل على كافة العناصر والفئات، فقد وزع الجند في مجموعات ضمن سرايا دون النظر إلى العصبية القبلية التي ينتمي إليها كل جندي، وكل مجموعة أو سرية لها قائد يرعى شؤونها، كما قرر أرزاقاً شهرية تصرف لكل جندي، وبذلك ضمن المنصور سهولة تجميع القوات في أي وقت، بالإضافة إلى الانضباط الذي أصبح سمة الجيش آنذاك
(1)
وكما ضمن عدم حدوث عملية التفاف ضده.
تعداد الجيش:
إن من العسير إعطاء رقم صحيح لعدد أفراد الجيش الأموي بالأندلس بكافة فئاته وطوائفه، إذ أن المصادر تعنى بالتشكيلات العسكرية المختلفة للجيش المتجه للغزو.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك جيش خاص بالثغور وآخر خاص بالعاصمة، وقد عرف الأخير باسم "جيش الحضرة" الذي أمدنا ابن حيان ببيان تفصيلي عن تقسماته في عهد الخليفة الحكم المستنصر، فذكر منها
(2)
"طبقات الجند من القرطبيين والزهراويين""وبياض الجند الأندلسيون والطنجيون" و "طبقات العبيد الخمسيون" و "الصيديون" و "أكابر الخمس" و "فرسان الرياضة" و "رجالة الأرباض" و "العبيد الجعفريين".
(1)
- سراج الملوك، ص 229، أعمال الأعلام، 2/ 101.
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 30، 40، 48، 50، 51، 78، 91، 120، 136، 137، 156، 174، 190، 195، 196، 197، 199، 223.
وقد كانت الكور المجندة تشكل ركيزة أساسية من ركائز القوة العسكرية بالأندلس، ولدينا بيان أورده ابن حيان
(1)
وضح فيه العدد الذي تؤمنه كور الموسطة للصائفة المتجهة إلى الشمال النصراني، فذكر أن: -
كورة إلبيرة قدمت (2900) فارس، جيان (2200) فارس، قبرة (1800) فارس، باغة (900) فارس، تاكرنا (269) فارس، الجزيرة (290) فارس، إستجه (1200) فارس، قرمونة (185) فارس، شذونه (6790) فارس، رية (2607) فارس، فريش (342) فارس، فحص البلوط (400) فارس، مورور (1403) فارس، تدمير (256) فارس، ربينة (106) فارس، قلعة رباح وأوريط (387) فارس، حصن شندلة (113) فارس، وأما قرطبة التي تركت لهمة أهلها فقد كانت تنفر منها أعداد هائلة
(2)
.
ورغم حرص حكومة قرطبة على أن تلتزم كل كورة بما تقدمه من فرسان، إلا أن الوضع السياسي العام للدولة له أكبر الأثر في أعداد أولئك الفرسان، ففي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن كان عدد الجيش مائة ألف فارس منهم عشرون ألفاً بدروع الفضة
(3)
، وأما في عهد الأمير عبد الله بن محمد فقد كانت الدولة تعيش فترة مضطربة، بسبب كثرة حركات التمرد والعصيان التي اندلعت في أرجاء الأندلس، مما قلص نفوذ الإمارة كثيراً بحيث لم يعد يتجاوز قرطبة وما جاورها، حتى أن الأمير عبد الله عندما
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 271 - 272.
(2)
- المصدر السابق، ص 273.
(3)
- ابن الكردبوس، ص 57. ابن أبي دينار، ص 99.
خرج سنة (278) هـ (891 م) لمواجهة ابن حفصون كان تعداد القوة التي رافقته أربعة عشر ألف رجل بمن فيهم جنده والحشم والموالي والمطوعة والمرتزقة
(1)
. بل إن قائده الشهير أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي عبد هـ كان يخوض معاركة بثلاثمائة فارس انتخبهم من خيرة المدونة
(2)
.
وعلى العكس من عصر الأمير عبد الله نجد أن الجيش أصبح تعداده هائلاً في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، إذ أدرك منذ وصوله للحكم معنى توفر قوة عسكرية ضاربة لدى حكومته، فعمل على إصلاح الجيش وحشد الجند، حتى أنه كان ينفق ثلث خزينة الدولة على جيشه
(3)
، حتى أصبح لديه أفضل جيش في العالم
(4)
ولنا أن نتصور ضخامة الجيش الذي خاض معركة "الخندق" بعد أن حُشر له الناس حشرا
(5)
، وإذا كان عدد قتلى المسلمين في المعركة بلغ أربعين أو خمسين ألف
(6)
، فكم سيكون العدد الكلي للجيش إذن؟
(1)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 104. العرب في إسبانيا، ص 89.
(2)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 129.
(3)
- البيان المغرب، 2/ 231.
(4)
- مختصر تاريخ العرب، ص 420.
(5)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 433.
(6)
- العرب في إسبانيا، ص 108. دولة الإسلام في الأندلس، ع 1 ق 2 ص 414.
ونظراً لاهتمام المنصور بن أبي عامر بجلب المرتزقة من كافة الطوائف، فقد ازداد عدد الجيش في عهده، حتى أن عدد الفرسان في بعض صوائفه بلغ ستة وأربعين ألف فارس
(1)
.
وقد كان على أهل قرطبة وأقاليمها ضريبة تعرف بـ"ضريبة الحشود والبعوث" عليهم إخراجها كل سنة للصوائف الغازية للمالك النصرانية في الشمال، ويتولى الوزير صاحب المدينة مسئولية إخراج الناس لتلك البعوث، ولا يمكن أن يتخلف أحد قادر على حمل السلاح إلا إذا كان لديه عذر شرعي أو أغلق عليه داره، بعلم الوزير صاحب المدينة، شريطة ألا يغادر منزله إلا بعد عودة الجيش من الغزو
(2)
، كما يتولى صاحب المدينة مسئولية حشد فتيان قرطبة القادرين على حمل السلاح، وذلك في المناسبات التي تقام فيها استعراضات عسكرية
(3)
.
ولم تلغ ضريبة الحشود والبعوث عن أهل قرطبة إلا في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن الذي ترك الأمر عائداً لهمة أهلها، إلا في حالة تعرض البلاد لهجوم مفاجئ من أي جهة كانت، ثم أعيدت هذه الضريبة في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر
(4)
، وأصبح المتطوعة يشكلون قوة رئيسة في الجيش لديه، وقد كثرت أعدادهم في جيشه، حتى أن "جموعهم إذا
(1)
- أعمال الأعلام، 2/ 99.
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 44 - 45.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 47 - 48.
(4)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 271.
توافت، وأعدادهم إذا تكاملت تضيق عنهم بلاد العدو ولا تسعهم غلاتها، ولا ترويهم مياهها
(1)
"، وقد توقف العمل بتلك الضريبة بعد معركة الخندق
(2)
، ففي سنة (328) هـ (939 م) اقتصر الخليفة عبد الرحمن الناصر
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 449.
(2)
- وذلك لأن القتلى والأسرى في تلك المعركة كان جلهم من المتطوعة انظر: المقتبس، تحيقيق: شالميتا ص 436. اهتم الأندلسيون بأمر التطوع، ووصل الأمر ببعضهم أن وضع أقوالاً نسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلها تحض على الجهاد في الأندلس، كما أن المرابطة في الثغر إلى نيل الشهادة كانت اولى الحلول لدى الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى بوصفها كفارة للقاتل إذا أبى أهل القتيل القصاص أو الدية. انظر: بغية الملتمس، ص 14. النباهي، تاريخ قضاة الندلس، ص 62. ومن هنا لا نستغرب كثرة المتطوعة الذين يخرجون للجهاد في سبيل الله تعالى. وقد ذكر ليفي بروفنسال L.Provencal: Op.Cit. 3، P: 68 وتابعه هشام أبو رميلة في رسالته عن "نظم الحكم في الأندلس، ص 307" أن الحشاد الذين يتم تكليفهم من قبل حكومة قرطبة، لأجل حشد المتطوعة واستنفارهم، كانوا يلجأون إلى طرق ملتوية في الحشد، ولم يفسر بروفنسال ولا من تابعه تلك الطرق الملتوية. وأود أن أذكر هنا أنه إذا كانت كلمات الحشاد التي تعتمد على إثارة الناس من خلال تذكيرهم بعظيم الأجر والمثوبة لمن جاهد حتى تكون كلمة الله هي العليا وما ادخر للشهيد من ثواب، وكذلك إلهاب حماس المخاطبين بالأشعار والأقوال المؤثرة، إذا كان هذا هو التحايل فقول بروفنسال مردود عليه. وبمقابل جهود الحشاد في استنفار الناس للجهاد، نجد أن الرهبان مع ألفونس الثاني "227 هـ /842 م" ملك جليقية "وليون" قد اخترعوا "سنة 197 هـ/813 م" قصة القديس يعقوب وذلك لإثارة النصارى ودفعهم للاستماتة في القتال ضد المسلمين. انظر العلاقات بين الأندلس الإسلامية وأسبانيا النصرانية، ص 119.
على غلمانه وحشمه وجنده المدونين المدربين عند تجهيز الجيش لغزو جليقية
(1)
.
وفي سنة " (388) هـ (998 م) أصدر المنصور بن أبي عامر قراراً عاماً بإعفاء أهل قرطبة وغيرهم من الإشتراك الإلزامي في الصوائف، بعد أن أصبح ديوان الجند لديه غاصاً بالأعداد الغفيرة منهم، فجعل "من تطوع خيراً فهو خير، ومن خف إليه، فمبرور ومأجور، ومن تثاقل فمعذور
(2)
".
التنظيمات والمناصب العسكرية:
أ- القيادة:
منذ قيام دولة الأمويين في الأندلس وقيادة الجيوش موضع اهتمامهم، فهي أهم المناصب العسكرية على الإطلاق، ولذا فقد كان أمراء بني أمية يقودون الجيوش بأنفسهم
(3)
، وفي حالة تعذر خروجهم كانوا يكلفون أحد اولادهم بالخروج بالجيش شريطة أن يكون معه أحد القادة العسكريين من ذوي الخبرة والمهارة ليتولى إدارة المعركة
(4)
.
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 449.
(2)
- أعمال الأعلام، 2/ 68.
(3)
- انظر: البيان المغرب، 2/ 48، 50، 51، 53، 54، 55، 56، 57، 70، 72، 73، 84، 86، 94، 100، 116، 122، 123.
(4)
- انظر: المصدر السابق، 2/ 63، 86، 98، 102، 105، 106، 124، 138، 140، 142، 143، 144، 145، 147، 149.
وفي عصر الخلافة كان الخليفة عبد الرحمن الناصر يقود الجيوش بنفسه، ولا نجد ذكراً لأولاده، ولم يترك القيادة إلا بعد هزيمته في معركة الخندق، وعندما تولى الخلافة الحكم المستنصر خرج على رأس جيش إلى الشمال النصراني سنة (351) هـ (962 م) ففتح عدة حصون وغنم وعاد سالماً
(1)
. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الخليفة المستنصر لم يكرر الخروج للغزو مرة أخرى، ويبدو أن خروجه على رأس الجيش عندما تولى الخلافة كان رسماً جرى عليه أمراء وخلفاء بني أمية بالأندلس، إذ يكون الغزو في سبيل الله تعالى أول أعمال من يستلم الحكم منهم.
ونظراً لأهمية منصب قيادة الجيش، ولسعي المنصور بن أبي عامر للسيطرة على الجيش، -بعد وفاة الخليفة الحكم المستنصر بالله-، نجد أن ابن أبي عامر يتحين الفرص لتحقيق مراده، وجاءته الفرصة عندما وصلت الأخبار بأن الملك ردمير الثالث راميرو (966 - (985) م)
(2)
355 - (375) هـ ملك ليون، قد أغار على الثغر الأوسط
(3)
، ولما لم يبد أحد من الوزراء استعداده لرد المعتدين، سارع ابن أبي عامر إلى الخروج على رأس الجيش، وذلك لثلاث خلون من شهر رجب سنة (366) هـ (26 فبراير
(1)
- نفسه، 2/ 234.
(2)
- أندلسيات، 2/ 51.
(3)
- تطلق بعض المصادر مسمى الثغر الأدنى على منطقة الثغر الأوسط، وهذا الثغر مواجه لمملكة ليون، وكانت مدينة سالم قاعدة الثغر الأوسط، ثم استبدلت بمدينة طليطلة الواقعة على نهر التاجه. انظر: خليل إبراهيم السامرائي، الثغر الأعلى الأندلسي، ص 40.
977 م) وعاد إلى قرطبة بعد ثلاثة وخمسين يوماً من خروجه وهو محمل بالسبي والغنائم
(1)
.
والشيء المهم في هذه الغزوة، أن ابن أبي عامر تمكن من كسب محبة الجند وتفانيهم في خدمته، وذلك لما رأوه من كرمه وجوده وحسن عشرته وسعة مائدته
(2)
، وهذا هو الذي كان يهم ابن أبي عامر فقد أدى ذلك إلى أن أصدر الخليفة المؤيد أمره بتولية ابن أبي عامر قيادة جيش الحضرة
(3)
.
ولدينا أسماء عديدة لقادة عسكريين أداروا المعارك العسكرية بكل كفاءة واقتدار، منهم: بدر مولى الأمير عبد الرحمن الداخل وتمام بن علقمة الثقفي وعبيد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن الداخل الشهير بصاحب الصوائف
(4)
وعبد الواحد بن يزيد الأسكندراني
(5)
، وهاشم بن عبد العزيز
(6)
(1)
- نصوص عن الأندلس، ص 74. البيان المغرب، 2/ 64.
(2)
- أعمال الأعلام 2/ 60، وقد ذكر ابن عذاري أن ابن أبي عامر عندما رأى إحجام الوزراء عن الخروج بالجيش لصد النصارى، بادر إلى القيام بهذه المهمة، لكنه اشترط أن يختار الرجال الذين سيخرجون معه، وأن يأخذ من بيت المال مبلغ مائة ألف دينار، وعندما استكثر بعض الوزراء المبلغ، قال له ابن أبي عامر "خذ ضعفها وامضي وليحسن غناؤك". انظر: البيان المغرب، 2/ 264. وبواسطة هذا المبلغ، ملك ابن أبي عامر قلوب الجند، إذ بذل لهم منه ما جعلهم يفتدونه بأرواحهم، الأمر الذي سهل له السبيل أمام تحقيق هدفه.
(3)
- البيان المغرب، 2/ 265.
(4)
- المصدر السابق، 2/ 53.
(5)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 2.
(6)
- المصدر السابق، ص 395.
وغالب بن عبد الرحمن الناصري الذي برز ذكره لأول مرة سنة (335) هـ (946 م) عندما كلفه الخليفة عبد الرحمن الناصر بالخروج على رأس جيش كبير لإعادة بناء مدينة سالم
(1)
كما قاد العديد من الحملات العسكرية الناجحة
(2)
، وعندما هاجم النورمانديون السواحل الغربية للأندلس في أوائل رمضان سنة (360) هـ (يونيو (971) م) عهد الخليفة المستنصر إلى قائده غالب الناصري بالإشراف العام على القوات البرية والبحرية" لضلاعته وغنائه وعلمه بثقوب نظره ومحمود اكتفائه
(3)
".
ويلاحظ أن القيادة العسكرية للجيش الأموي في الأندلس كانت تسند إلى أبناء أسر معينة سطروا صفحات ناصعة البياض ليس في المجال العسكري فحسب، بل في كافة المجالات الإدارية في الدولة، من أشهر تلك الأسر، أسرة آل أبي عبد هـ الذين برز دورهم القوي في عهد الأمير عبد الله بن محمد وذلك في قمع الفتن الداخلية التي اندلعت في كافة أنحاء الأندلس، وقد لمعت أسماء عدة وزراء من هذه الأسرة كلهم تولى القيادة العسكرية واجتمع منهم أربعة في وقت واحد عند الأمير عبد الله
(1)
- البيان المغرب، 2/ 213 - 214.
(2)
- المصدر السابق، ص 219، 220، 221، 240.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، 23 - 24.
ابن محمد
(1)
. كذلك اشتهرت أسرة مغيث الرومي، فقد برز اسم عبد الواحد بن مغيث بالإضافة إلى ولديه عبد الكريم وعبد الملك، وعبد الوهاب بن أحمد بن عبد الواحد بن مغيث
(2)
.
(1)
- الوزراء الأربعة الذين كانوا من بين وزراء الأمير عبد الله بن محمد هم: أبو عثمان عبيد الله بن محمد وسلمة بن أبي عبده وعبد الرحمن بن حمدون بن أبي عبده والوزير القائد الشهير أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي عبده، عن هؤلاء وأدوارهم البطولية، انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 319 - 320. المقتبس، تحقيق: أنطونيه، 3/ 25 - 29، 53، 94 - 97، 99 - 105، 117 - 118، 128 - 131، 139 - 143، 145 - 147. المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 53، 82، 92، 107، 127، 135 - 136، 199. البيان المغرب، 2/ 129، 132 - 133، 138 - 139، 142، 148 - 149، 152، 165، 167، 169 - 171.
(2)
- عن جهودهم العسكرية، انظر: المقتبس: تحقيق: د. محمود مكي ص 25. وماورد في التعليقات أرقام 27، 28، 30، 31، 38، 77، 325، 326 وما ورد في التعليق رقم 82. نصوص عن الأندلس، ص 31 - 32، 61 - 62. الحلة السيراء 1/ 135. البيان المغرب 2/ 48، 61، 65، 75، 82، 100، 101. المغرب في حلى المغرب 1/ 44. وأسرة بني مغيث تنتمي لمغيث بن الحويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني، مولى الوليد بن عبد الملك، عربي أزدي، شارك مغيث في فتح الأندلس مع طارق بن زياد، وتولى فتح قرطبة، وإليه ينسب "بلاط مغيث" وبعد حياة حافلة بالأحداث قتل مغيث في معركة بقدوره بالمغرب، ويعتبر مغيث باني بيت آل مغيث بالأندلس، فقد ترك أولاداً أشهرهم عبدالواحد الذي تولى الحجابة للأميرين الداخل والرضا وتوفي في عهد الأمير الربضي سنة 198 هـ وخلفه أولاده الثلاث عبد الكريم وعبد الملك وعبد الحميد الذين كانوا من كبار رجال الدولة الأموية سياسة وقيادة وكياسة وعلماً، واستمرت هذه الأسرة عالية المقام مهيبة الجانب إلى أن تم إسقاطها نهائياً في القرن الرابع الهجري تقريباً (العاشر الميلادي) والسبب في ذلك هو إقدام أحمد بن مغيث على التغزل بإحدى بنات الأسرة الأموية، فقد صدر الأمر باستئصال آل مغيث والتسجيل عليهم ألا يستخدم أي منهم أبداً، حتى كان سبباً في هلاكهم وانقراض بيتهم، فلم يبق منهم في أوائل القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) إلا الشريد الضال. انظر: جمهرة أنساب العرب، ص 372. طوق الحمامة، ص 38. أخبار مجموعة، ص 10، 11، 12، 19، البيان المغرب 2/ 9 - 10.
ولهؤلاء القادة الوزراء مكانة سامية لدى أمراء وخلفاء بني أمية، ففي الاحتفالات الرسمية التي تقام سواء في الأعياد أو عند استقبال السفراء والوفود الرسمية الزائرة تكون مجالس أولئك القادة الوزراء بالقرب من الأمير أو الخليفة ففي الاحتفال الذي أقامه الخليفة الحكم المستنصر بالله في الزهراء يوم السبت لأربع خلون من شهر رمضان سنة (360) هـ (1 يوليو (971) م) عند استقباله للسفير "بون فليو Enneco Bonfill" المبعوث من قبل حاكم برشلونة بريل بن شنير Borrell Sunier، جلس الخليفة في محراب المجلس الشرقي، وأحاط به رجال دولته كل وفق مرتبته، فقد جلس الوزير القائد غالب بن عبد الرحمن عن يمين الخليفة وتحته الوزير صاحب الحشم قاسم بن محمد بن طلمس، وعن يسار الخليفة جلس الوزير صاحب المدينة بقرطبة جعفر بن عثمان وتحته صاحب المدينة بالزهراء محمد ابن أفلح
(1)
.
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 20 - 21 والحاشية رقم 1.
ولم يقتصر إكرام الدولة لأولئك القادة على تشريفهم في الاحتفالات، بل إنها كانت تضع الثقة الكاملة بهم، فعند تعرض البلاد لأي خطر عسكري فإن أمراء وخلفاء بني أمية يضعون موارد الدولة وإمكاناتها تحت تصرف أولئك القادة
(1)
، كما يتم إرسال المنح السنية والمكافآت المالية إليهم وهم في مواقعهم العسكرية من أجل شد عزائهم، وبث الحماسة في جنودهم، وبالذات عندما تصل من القائد أخبار تسر الأمير أو الخليفة
(2)
.
وعند عودة القائد مع قواته منتصراً، كانت الاحتفالات تقام بقرطبة ابتهاجاً بهذه المناسبة، وتكريماً له ولمن معه، فالوزير القائد غالب بن عبد الرحمن عندما عاد من أرض العدوة المغربية محققاً انتصاراً قوياً على مناوئي الدولة، أمر الخليفة الحكم المستنصر بإقامة احتفال كبير بهذه المناسبة واستُقبل القائد استقبالاً رسمياً كان الخليفة في مقدمة الحضور وذلك في شهر المحرم سنة (364) هـ (سبتمبر (974) م)
(3)
.
ونظراً إلى انقسام الجيش إلى فرسان "خيالة" ورجالة "مشاة" فإن لكل قسم منهما قائد خاص
(4)
، وعندما تريد حكومة قرطبة تكريم أحد القادة العسكريين يتم منحه مظلاً يستظل به عن الشمس، ويقف تحته عند
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 191.
(2)
- المصدر السابق، ص 135. البيان المغرب، 2/ 247.
(3)
- انظر: المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 194 - 202.
(4)
- أخبار مجموعة، ص 87.
إدارته للمعركة
(1)
، وقبل أن يغادر القائد العاصمة بقواته، تصدر إليه الأوامر من قبل الأمير أو الخليفة، بتحديد المنطقة التي عليه مهاجمتها
(2)
وإن قصر في عمله كتب إليه الأمير رسالة يعنفه فيها على تقصيره.
فعندما ثار هاشم الضراب بطليطلة في عهد الأمير عبد الرحمن بن الحكم سنة (214) هـ (829 م) تم تكليف القائد محمد بن رستم عامل الثغر بالقضاء على ثورة الضراب، ويبدو أن القائد ابن رستم لم يحسم المسألة بسرعة، فأرسل إليه الأمير مدداً عسكرياً وكتب إليه كتاباً يعنفه فيه على تقصيره وذلك سنة (216) هـ
(3)
(831 م).
وكما أن القائد إذا قصر في عمله يتعرض للمساءلة الرسمية، فكذلك نجد أن هناك مواقف على المستوى الشعبي العام - ربما كانت أشد إيلاماً من المواقف الرسمية، هذه المواقف الشعبية يتعرض لها القائد العسكري إذا حدث أن فر من أرض المعركة، إذ يقابل القائد بالسخرية ويشنع عليه فراره حتى من أقرب الناس إليه، وهذا ما حدث في شوال سنة (239) هـ (مارس (854) م) عندما أخرج الأمير محمد ابن عبد الرحمن قائديه قاسم بن العباس وتمام بن أبي العطاف على رأس قوة عسكرية من الحشم، لتأديب أهل طليطلة، وعندما التحم جيش الإمارة بأهل طليطلة، تمكن الطليطليون من تحقيق نصر قوي فر على إثره القائدان ابن العباس وابن أبي العطاف،
(1)
- المصدر السابق، ص 112. المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 115.
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 318. المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 281.
(3)
- البيان المغرب 2/ 83.
تاركين ما في المعسكر لأهالي طليطلة فانهالت قصائد الشماتة على ذينك القائدين
(1)
.
والعامة دوماً لا تنظر إلا إلى مصالحها الآنية، ولا تلتمس عذراً لمن يمنع عنها تلك المصالح، فقد اعتاد العامة في قرطبة على كثرة السبي الذي كان يحضره المنصور بن أبي عامر من الإمارات والممالك النصرانية الشمالية، وبعد وفاته تولى قيادة العمليات الحربية من بعده ابنه عبد الملك المظفر، وفي غزوته الرابعة التي خرج بها إلى بنبلونة سنة (396) هـ (1006 م) لم يحضر معه إلى قرطبة السبي المعتاد، فأخذ نخاس الرقيق يرددون عبارة "مات الجلاب، مات الجلاب
(2)
"
ب- خطة الخيل:
يتضح لنا من اسم هذه الخطة أن الأمر متعلق بالخيول وما يتصل بها، ونظراً لضخامة الجيش الأموي بالأندلس، فإنه لابد من وجود أماكن معدة لرعاية هذه الخيول والعناية بها وقد عرفت هذه الأماكن باسم "دار الخيل
(3)
"، وهي دار تمتاز بالسعة والضخامة، لذا فالأمر يتطلب وجود جهاز إداري متكامل يتولى عملية الإشراف عليها، وهذا الجهاز الإداري له مشرف مسئول عنه وعن الدار ومحتوياتها أمام الأمير أو الخليفة الأموي،
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 294. البيان المغرب 2/ 94.
(2)
- البيان المغرب، 3/ 13.
(3)
- أخبار مجموعة، ص 144.
ويعرف هذا المشرف باسم "صاحب الخيل
(1)
"، وعلى هذا فإن صاحب الخيل هو المشرف على شئون الخيل اللازمة للجيش وما يلزم كل جواد من سرج ونحوه
(2)
، وأحيانا نرى أنه يجمع مع خطة الخيل الحشم
(3)
.
ومن واجبات صاحب هذه الخطة ترتيب الجند، وفض المنازعات التي تحدث بينهم
(4)
، وقيادة الحملات العسكرية
(5)
، في حين تناط بمساعديه مهمة حمل الأموال والمنح المرسلة لمن يثبت حسن صنيعه وغناه في الحروب
(6)
.
وقد شهدت "خطة الخيل" بعض التغيرات شأنها في ذلك شأن بعض الخطط، فبعد أن كانت مرتبطة بالقيادة كما هو الحال في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن
(7)
نجدها في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر تصبح منفصلة تماماً عن القيادة
(8)
، رغم أنها جمعت معها في بعض الفترات
(9)
.
(1)
- البيان المغرب، 2/ 94.
(2)
- الحلة السيراء، 1/ 223.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 25.
(4)
- المصدر السابق، ص 78.
(5)
- نفس المصدر والصفحة. البيان المغرب، 2/ 94، 153.
(6)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 24، 151.
(7)
- انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 294. البيان المغرب 2/ 94.
(8)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 172، 186، 204.
(9)
- المصدر السابق، ص 330.
جـ- خطة العرض
العرض وظيفة من وظائف التنظيم العسكري، وهي خاصة باستعراض الجنود المدونين في أوقات منتظمة للتأكد من وجودهم وسلامة استعدادهم
(1)
ويسمى من يتولى هذه الخطة بـ"العارض
(2)
"، وإذا حان موعد استعراض الجند، جلس الأمير أو الخليفة على سطح باب السدة وبجواره ولي عهده، فإذا أعطى إشارة البدء للقائد، تبدأ عملية الاستعراض التي تقوم بها طائفة من الجند، قد تم اختيارها مسبقاً، وفي الاستعراض يعمل أفراد تلك الطائفة، على إبراز مهاراتهم الحربية، فتكون هناك عملية مبارزة ومطاردة بين المتبارزين، شريطة أن يكون كل منهما حريصاً على عدم إلحاق الأذى بزميله، ومن خالف ذلك تعرض للعقوبة والسجن، في حين أن المصاب يؤمر له بجائزة، وقبيل الظهر تنتهي عملية الاستعراض
(3)
.
وبالنظر لأهمية هذه الخطة، والازدياد في أعداد الجنود المدونين، فإننا نجدها تسند أحياناً إلى شخص واحد
(4)
، وفي بعض الأحيان تسند إلى أربعة
(5)
يتولون معاً مهمة الإشراف على هذه الخطة النبيلة، على أن تكون الاختصاصات مقسمة فيما بينهم.
(1)
- الحلة السيراء، 1/ 145، حاشية رقم 3.
(2)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 97. البيان المغرب، 2/ 158.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 223.
(4)
- البيان المغرب، 2/ 159.
(5)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 97.
د- خطة خازن السفر:
إن الإعلان عن قيام الخلافة الأموية بالأندلس، وازدهار البلاد بعد أن فرض الخليفة عبد الرحمن الناصر نفوذه على معظم شبه الجزيرة الأيبرية وبعض أراضي العدوة بالمغرب، كل هذا، أوجد تعقيداً إدارياً في كافة أجهزة الدولة، وذلك بسبب الحال التي أصبحت عليها الدولة الأموية من قوة وثراء ومكانة عالمية بين الدول آنذاك.
وللدلالة على التعقيد الإداري نشوء هذه الوظيفة رغم أنها لم تكن معروفة في عهد الإمارة، ولم تكن لتوجد فيما بعد لولا الضخامة التي أصبح عليها الجيش الأموي هناك، والمهام العديدة التي عليه تأديتها.
وخازن السفر هو الذي يأخذ الأموال من بيوت المال ويذهب بها إلى الجيش ويوصلها بنفسه، سواء كان شمالاً في جهة الممالك النصرانية أو جنوباً ناحية العدوة المغربية
(1)
وإذا لزم الأمر إرسال مزيداً من الأموال فيما بعد إلى الجيش، فإن الخليفة يكلف شخصاً آخر لأخذ الأموال اللازمة ويتوجه بها إلى الجيش ويوصلها إلى قائد الجيش والخازن المتواجد معه
(2)
.
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 149.
(2)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 210.
هـ- خطة خزانة السلاح:
الجيش الأموي بالأندلس لا يعرف الهدوء والسكينة، فهو إن لم يكن في صائفة في جهاد ضد نصارى الشمال، نجده يتولى قمع اضطراب في إحدى أرجاء البلاد، كما أصبحت أراضي العدوة المغربية مسرحاً لعملياته في عصر الخلافة.
لأجل ذلك، كان لزاماً على القائمين على الجيش توفير الأسلحة لأفراده، ونظراً لضخامة الأسلحة المعدة فهي تودع في مخازن خاصة عرفت بـ"خزانة السلاح" ومتوليها يشغل منصباً عالياً في الدولة
(1)
.
والأسلحة لأي جيش تكون على نوعين، أسلحة هجومية، وأخرى دفاعية، وكل نوع من هذين النوعين ينقسم إلى قسمين آخرين، فالهجومية منها تكون خفيفة وثقيلة، وكذلك الدفاعية وهذه الأسلحة بأنواعها تكون أيضاً على قسمين: فردية وجماعية. أي أن منها ما يكون صالحاً للاستخدام الفردي وآخر للاستخدام الجماعي.
وليس بدعاً أن يكون الجيش الأموي بالأندلس قد استخدم كافة أنواع الأسلحة المعروفة آنذاك، الهجومية منها والدفاعية الفردية والجماعية، فالأسلحة الفردية كالسيوف والرماح والقسي والسهام والطبرزينات
(2)
كلها أسلحة هجومية فردية. في حين أن هناك عدة
(1)
- المصدر السابق، ص 97. البيان المغرب، 2/ 159، 164، 169.
(2)
- الطبرزينات: جمع طبرزينة وهي عبارة عن نصل حديد مركب في قائم من الخشب كالفأس بحيث يكون النصل مدبباً من ناحية، ومن الناحية الأخرى رقيقاً مشحوذاً كالسكين، وتستخدم في القتال مع السيوف. انظر: المعجم الوسيط، مادة "طبر". الفن الحربي في صدر الإسلام ص 129 - 155. وعن الأسلحة الفردية الهجومية واستخداماتها انظر: كتاب السلاح، ص 17 - 28.
أسلحة دفاعية خفيفة، منها: الترس وهي آلة يتقي بها المقاتل ضربات خصمه، ويأتي على أنواع وأصناف شتى كل منها صالح لشيء معين
(1)
وكذلك الدرق التي هي من أنواع التروس
(2)
، والبيضة أو الخوذة التي يلبسها المقاتل على رأسه
(3)
، والمغفر
(4)
والدرع
(5)
.
هذه هي الأسلحة الهجومية والدفاعية الخفيفة الفردية، فالجنود المشهود لهم بشدة البأس والرجولة في الجيش الأموي بالأندلس، تميزوا بتقلد السيوف الأفرنجية وبحمل التراس والرماح المستوية الأسنه، ومن كان
(1)
- انظر: كتاب السلاح، ص 30. تبصرة أرباب الألباب، ص 12 - 13. نهاية الآرب، 6/ 239 - 240. تاريخ التمدن الإسلامي، 1/ 139 - 140. الفن الحربي في صدر الإسلام، ص 186 - 189.
(2)
- انظر: لسان العرب، مادة "درق". كتاب السلاح، ص 30.
(3)
- البيضة أو الخوذة: تصنع من الحديد أو الفولاذ ومبطنة ببعض المواد اللينة كالقطن وغيره يلبسها المقاتل على رأسه يتقي بها ضربات خصومه. انظر: عبدالرحمن زكي، السلاح في الإسلام، ص 23. الفن الحربي في صدر الإسلام، ص 184.
(4)
- كتاب السلاح، ص 29. تبصرة أرباب الألباب، ص 14. السلاح في الإسلام، ص 27.
(5)
- نهاية الأرب، 6/ 241 - 246. الفن الحربي في صدر الإسلام، ص 175 - 183 ومصادره.
منهم على فرس ارتدى الدرع وحمل القناة ولبس الجوشن الذي يغطي به الصدر، ووضع على فرسه تجفاف يحميه أثناء القتال
(1)
، في حين أن المشاة كانوا يتنكبون القسي الكبار وبأيدهم الطبرزينات والدماغات والأعمدة
(2)
.
أما الأسلحة الهجومية والدفاعية الثقيلة التي تستخدم بشكل جماعي، فيأتي المنجنيق
(3)
في مقدمتها، وتليه في الأهمية "العرادة" وهي آلة شديدة الشبه بالمنجنيق ولكنها أصغر منه
(4)
، والمنجنيق والعرادة يصلحان في الاستخدامات الدفاعية الهجومية، وتستعمل العرادة في رمي السهام الكبيرة والحجارة، وتستعمل لهدم الأسوار والحصون أو ضرب المعسكرات أو الجند المهاجمين
(5)
.
(1)
- المقتبس: تحقيق: د. عبدالرحمن الحجي، ص 49.
(2)
- المصدر السابق، ص 50. وعن العمود، انظر: الطرطوسي، تبصرة أرباب الألباب، ص 15 - 16.
(3)
- عن المنجنيق وأنواعه واستخداماته، انظر: أربنغا الزردكاش، الأنيق في المناجيق، (تحقيق: د. إحسان هندي، منشورات معهد التراث العلمي العربي، حلب 1405 هـ 1985 م) ص 16 - 30، 39 - 46، 169 - 221. الفن الحربي في الإسلام ص 156 - 167 ومصادره. الجيش والقتال في صدر الإسلام، ص 396 - 406.
(4)
- عبد الرحمن زكي، السلاح في الإسلام، ص 40.
(5)
- الهرثمي: مختصر سياسة الحروب، (تحقيق: عبد الرؤوف عون، لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1964 م)، ص 58. الجيش والقتال في صدر الإسلام، ص 401 - 402.
ومن الأسلحة المهمة المستخدمة في الحصار "الدبابة" وهي آلة حربية يدخل فيها الرجال، فيدبون إلى الأسوار لنقبها، وهي تسبق المشاة حتى تقترب من حصون الأعداء بصورة كبيرة، وكذلك استخدموا "البرج" الذي هو شديد الشبه بـ"الدبابة" إذ كان يستعمل للاقتراب من حصون الأعداء لاقتحامها ولقذف السهام ونحوها على المدافعين. والبرج يُجر على عجلات خشبية أو حديدية وله عدة أدوار يعلو بعضها بعضا يوصل إليها بدرج أو سلم داخلي، وفي أعلى البرج توجد قنطرة خشبية يمكن إلقاؤها على سور الحصن ليعبر عليها المقاتلون لاقتحام الحصن
(1)
.
وقد كانت معظم الأسلحة التي يستخدمها الجيش الأموي بالأندلس تصنع محلياً، وبالذات التروس والرماح والمغافر
(2)
، ولنا أن نتوقع أنواعاً أخرى من الأسلحة تصنع في اشبيلية وذلك لوفرة الفولاذ الجيد فيها
(3)
، كما أن طليطلة اشتهرت بصناعة السيوف المشهورة بالصلابة واشتهرت المرية واشبيلية ومرسية وغرناطة بصناعة الدروع وآلات الحرب عامة
(4)
.
(1)
- الحسن بن عبد الله العباسي، أثار الأول في تدبير الدول، (مطبوع على هامش تاريخ الخلفاء للسيوطي، القاهرة 1305 هـ). ص 214. تاريخ التمدن الإسلامي، 1/ 143 - 144. الفن الحربي في صدر الإسلام. ص 168 - 169.
(2)
- نفح الطيب 1/ 202.
(3)
- المصدر السابق، ص 1/ 202.
(4)
- قصة العرب في إسبانيا، ص 129.
ويورد لنا ابن حيان
(1)
معلومات دقيقة عن صناعة الأسلحة بالأندلس بصفة عامة، فقد ذكر أن كل عام يصنع من الأخبية على أجناسها للجند ثلاثة آلاف خباء، وهذا غير الأخبية الخاصة بالأمير أو الخليفة وكبار رجالات دولته وغلمانه، ونظراً للتوسع في صناعة التراس فقد كان لصناعها شيخ في ذلك الوقت هو يحيى التراس، وكان يحيى يدير مصنعاً للتراس ينتج كل سنة ثلاثة عشر ألف ترس على أنواعها، وأما القسي فعلى نوعين تركية وعربية فالمصنع الذي بقرطبة خاص بإنتاج القسي العربية ويشرف عليه أبو العباس البغدادي وينتج ستة آلاف قوس في السنة، ومثلها ينتج من القسي التركية في مصنع الزهراء ويشرف على تصنيعها طلحة الصقلبي، وأما النبل فيصنع منه عشرون ألفاً في الشهر
(2)
.
يضاف إلى ما سبق أن خزائن الأسلحة بالزاهرة كانت ملأى بصنوف الأسلحة خاصة التراس والدروع والجواشن التي يوزع الكثير منها أيام الحشود وأيام البروز والزينة
(3)
ومما يدل على ضخامة مخازن الأسلحة لدى الدولة الأموية أن الحاجب عبد الملك المظفر عندما أراد أن يخرج في أول غزوة له في شهر شعبان سنة (392) هـ (يونيو (1002) م) أمر
(1)
- أعمال الأعلام، 2/ 102.
(2)
- المصدر السابق، 2/ 101.
(3)
- نفسه، 2/ 102.
خُزَّان الأسلحة بتوزيع خمسة آلاف درع وخمسة آلاف مغفر على طبقات الأجناد الدارعين في جيشه
(1)
.
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن خزائن الأسلحة لم يقتصر وجودها على قرطبة والزهراء والزاهرة بل إن مدينة سالم، على سبيل المثال كانت مستودع أسلحة تمد المنصور بن أبي عامر بما يحتاج إليه من الأسلحة أثناء غزواته نحو الشمال الأسباني، ففي إحدى هذه الغزوات زودته مخازن الأسلحة بمدينة سالم بستة منجنيقات ومائتي ألف سهم وخمسة آلاف ترس
(2)
.
ومخازن الأسلحة سواء في قرطبة أو غيرها كان لها خُزَّان، وللخُزَّان رئيس هو خازن الأسلحة، وكل موجودات المخازن مقيدة لديه في سجلات خاصة يحتفظ بها في حرز أمين، ومنها نسخة عند جهة إدارية أخرى، حتى إذا أُعفي خازن الأسلحة من منصبه، وُعيِّن آخر بدلاً عنه، يتم تكوين لجنة تقوم بإحصاء ما في المخازن وتطابقها على السجلات الموجودة لديها، وذلك لكي تكون عملية التخزين متقنة لا مجال للتلاعب فيها
(3)
.
(1)
- البيان المغرب، 3/ 4
(2)
- أعمال الأعلام، 2/ 101.
(3)
- المصدر السابق، 2/ 102.
و- صاحب العسكر:
المراد به هو قائد جيش الحضرة، وقد أطلق عليه لقب:"صاحب العسكر" للتفريق بينه وبين القائد الذي يخرج على رأس الجيش لإخضاع العصاة وللجهاد في الثغور.
ومنصب صاحب العسكر، منصب أمني بحت، ينصبُّ اهتمامه على الحراسة المستمرة للجيش عند خروجه للغزو، وكذلك اختيار الأماكن المناسبة لنزوله، بالإضافة إلى تولي أمر العلافة، ولا يكلها إلى غيره، احتياطا منه على من معه من المسلمين، وقبضاً لأيدي المتلصصين من العدو عليهم، وبذلك تكون العلفات متوفرة، والسرايا مثقلة بالغنائم
(1)
.
ز- اللواء:
اللواء رمز الإمارة والقيادة، ولذا فلا عجب أن تهتم به الجيوش أياً كانت، بل إن عدم وجوده يعد غيباً ونقصاً في الجيش وقائده، فهذا الأمير عبد الرحمن بن معاوية - عندما كان في بداية أمره - بعد مغادرته اشبيلية في طريقه إلى قرطبة، لم تكن له راية، بل إن أنصاره كان كل جند منهم يسير تحت راية خاصة
(2)
، هذا الوضع المضطرب دفع بعض رؤساء الأجناد إلى انتقاد هذا الوضع، وعرضوا على الأمير عبد الرحمن اتخاذ راية خاصة له يجتمع الجيش كله تحتها، فوافق الأمير على ذلك، وبمجرد وصول الجيش
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 343 - 344.
(2)
- أخبار مجموعة، ص 84.
إلى قرية "بلة نوبة البحرين
(1)
Villa Nueva" وقيل قرية قلنبيرة
(2)
من إقليم طشانة " Tocina" جيء بقناتين إحداهما لأبي الصباح اليحصبي والأخرى لأبي عكرمة جعفر بن يزيد جد بني سليم الشذونيين، فعقد له في إحداهما
(3)
، وتولى عقد الراية رجل تفاءلوا باسمه بعد أن أقاموا القناة بين شجرتي زيتون لأنهم كرهوا إمالتها
(4)
.
وقد ظل هذا اللواء دون تجديد طيلة عهد الأمراء الداخل والرضا والربضي إذ كلما خلقت العمامة المعقودة على القناة، تم ستر فضولها وعقد على العقدة، ولم يتم تجديده إلا في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط حيث طرحت الأسمال البالية وجددت العمامة
(5)
.
وكان اللواء القديم بأسماله البالية محل تقدير وتفاؤل بني أمية والأندلسيين كافة، وبلغ من تفاؤلهم أن الهزائم التي حلت بالجيش الأموي فيما بعد نسبت إلى الخطأ الذي ارتكبه الوزراء عندما طرحوا الأخلاق البالية التي كانت تكوِّن اللواء القديم، وفي ذلك يقول ابن حيان "لم يزل الوهن في ملك بني أمية بالأندلس من ذلك اليوم
(6)
".
(1)
- ابن القوطية، ص 26.
(2)
- أخبار مجموعة، ص 84.
(3)
- ابن القوطية، ص 26. قارن: أخبار مجموعة، ص 84.
(4)
- أخبار مجموعة، ص 84 - 85. نفح الطيب، 3/ 50.
(5)
- أخبار مجموعة، ص 85.
(6)
- نفح الطيب، 3/ 51.
ولاشك أن هذا الاعتقاد أمر لا يقره الشرع ولا المنطق، إذ العزة الحقة مقرونة بالتمسك الصحيح بالأحكام الشرعية، إضافة إلى اتخاذ الأسباب الكفيلة بالنصر.
واللواء عادة لا يحمله إلا من كان أهلاً لحمله، وموضعاً لثقة السلطان، ولذا فإن لواء بني أمية بالأندلس حمله منذ البداية أبو عثمان عبيد الله بن عثمان
(1)
ثم أخذ بتعاقب على حمله مع عبد الله بن خالد بن أبان بن أسلم
(2)
، وإذا كانت معظم الخطط الهامة في دولة بني أمية بتوارثها الأبناء عن الآباء فليس بدعاً أن يكون حمل اللواء قد استمر في ذرية أبي عثمان وعبد الله بن خالد.
ولعقد الراية عند خروج الجيش للغزو رسوم لا يمكن تجاوزها، فعندما أمر الخليفة الحكم المستنصر بالله بعقد الراية للوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن قام إثنان من كبار الوزراء بإحضار الراية ذات القطع الثلاث -العقدة والعلم والشطرنج
(3)
- ثم تولى عريف الخياطين عقد هذه الأعلام، واستدعى محمد بن يوسف القبري إمام قصر الخليفة
(4)
بالإضافة إلى بعض أئمة النافلة ومن معهم من المؤذنين، وبمجرد استلام عريف الخياطين للراية اندفع القاضي يقرأ سورة
(1)
- أخبار مجموعة، ص 87.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 42.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 25.
(4)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1337.
الفتح {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} وكان انتهاؤه منها مع انتهاء عريف الخياطين من عقد الأعلام، وصحب ذلك التكبير والتهليل بصوت مرتفع من كافة الحضور، وهكذا حتى اكتملت المهمة، بعد ذلك خرج عريف الخياطين ومن معه من الوصفاء والمؤذنين ومعهم الرايات الثلاث إلى باب السدة وهم يكبرون ويهللون وسط كوكبة من الفرسان مكتملي الزينة وكان في استقبالهم هناك الوزير صاحب الخيل والحشم ومعه أحد الوزراء ثم واصلوا مسيرهم إلى باب الوزير الأعلى غالب بن عبد الرحمن الذي كانت بانتظار وصولهم ومعهم اللواء فلما وصلوا امتطى صهوة جواده وخرج للغزو من حينه
(1)
.
ح- العرفاء:
هناك نصوص عدة وردت في بعض المصادر الأندلسية، تحدثت عن العرفاء، وأشارت إلى وجود إختصاصات متعددة لهم، فقد كان للأمير الحكم الربضي ألفا فرس في دارين على شاطئ الوادي الكبير مقابل قصر الإمارة بقرطبة معدة للطوارئ، وكل عشرة عرفاء يتولون مسئولية الإشراف على إحدى الدارين
(2)
، وعلى هذا فالعريف مسئول عن مائة فارس، لكن في عهد الأمير المنذر بن محمد نجد نصاً يفيد بأن كل عشرة من العرفاء مسئولين عن مائة وخمسين -أي أن العريف مسئول عن خمسة
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبدالرحمن الحجي، ص 25 - 26.
(2)
- أخبار مجموعة، ص 129 - 130.
عشر فارس- أرسلهم الأمير ومعهم مائة بغل شرط صلح مع الثائر عمر بن حفصون
(1)
، مما يفيد بأن العرفاء مسئولين كذلك عن الجنود، وذكر ابن حيان أن الخليفة عبد الرحمن الناصر عيَّن عبد الملك بن العاصي والياً على مارده سنة (315) هـ (927 م) فوصل إليها "في ألف من العرفاء ومثلهم من الطنجيين وخمسمائة من الرماة وخمسمائة من الملحقين
(2)
" وهذا النص يفيد بأن العرفاء يقاتلون كمجموعة مستقلة وذلك لخبرتهم في القتال
(3)
. فقد وجد منهم فرقة على عهد الخليفة الحكم المستنصر عرفت بـ"العرفاء المدرعين
(4)
" وهناك مجموعة من العرفاء مهمتهم تذليل الصعاب والعقبات التي تعترض طريق الجيش الأندلسي من توسيع طرق، أو توسعة شعاب وما إلى ذلك، وقد ورد في حوادث سنة (244) هـ (858 م) أن الأمير محمد بن عبد الرحمن عندما حاصر طليطلة أمر عرفاء البنائين والمهندسين بنسف القنطرة الموصلة إلى باب المدينة فتم لهم ذلك
(5)
فغرق من كان عليها من أهل طليطلة، كما أن عرفاء البنائين كانوا يعقدون الجسور لتمكين الجيش الأموي من عبور المجاري المائية التي
(1)
- البيان المغرب، 2/ 118.
(2)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 240 - 241.
(3)
- البيان المغرب، 2/ 194.
(4)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 49.
(5)
- انظر: المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 305 - 306. البيان المغرب، 2/ 96.
تعترض سبيله
(1)
وبذلك يمكن القول بأن هؤلاء العرفاء أشبه ما يكون في العصر الحاضر بسلاح المهندسين الذي لاتستغني عنه الجيوش.
ونختتم الحديث عن أولئك العرفاء بالإشارة إلى أن لهم في بعض الأحيان مهام خاصة كأن يكلف الأمير أو الخليفة مجموعة منهم سراً للكشف عن مسألة معينة ورفع الأمر إليه على حقيقته
(2)
.
وهنك فئات مساندة للجيش ليس بوسعه الاستغناء عن خدماتها، وتعتبر الأدوار التي تؤديها تلك الفئات على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لمسيرة الجيش وكذلك سير الأحداث العسكرية.
من هذه الفئات، فئة اختصت بحمل الرسائل بين القيادة المركزية في العاصمة وبين قيادة الجيش المتجه إلى الأعداء، وقد جرت العادة أن يتولى حمل هذه الرسائل مجموعة من الخصيان الذين يتم تكليفهم في بعض الأحيان بنقل الأموال إلى الجيش، ولهم عرفاء يتولون عملية الإشراف عليهم
(3)
.
كما أن هناك فئة تقوم بنقل المعلومات عن الأعداء إلى القيادة العسكرية للجيش الأموي، هذه الفئة هي فئة العيون والجواسيس
(4)
، والتي تبدأ عملها عندما يقترب الجيش من أراضي العدو، وأحياناً يتم تكليف
(1)
- البيان المغرب، 2/ 295.
(2)
- انظر: المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 111.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 91.
(4)
- انظر: سراج الملوك، ص 328. البيان المغرب، 2/ 295.
بعض الجواسيس بنقل المعلومات إلى العاصمة مباشرة، من ذلك مثلاً ما ذكره ابن حيان
(1)
من أنه في أوائل شهر ذي القعدة وصل إلى الزهراء الجواسيس الذين ذهبوا إلى سنتياجو "شنت ياقب Santiago De Campostela" لتقصي أخبار النورمانديين وذلك حسب أوامر الخليفة المستنصر. ولدينا فئة تسمى فئة "الطبالين" تقوم بقرع الطبول في أوقات معينة، ولا يقرع الطبل إلا بإذن من قائد الجيش، واعتاد الجيش الأموي إذا قرب من جبهات القتال أن يقوم الطبالون فيه بقرع طبولهم بشدة، يصاحب ذلك رفع الأصوات بالتكبير لإدخال الهلع في قلوب المناوئين
(2)
، وقد بلغ عدد الطبالين في جيش المنصور بن أبي عامر مائة وثلاثون فارساً
(3)
.
التعبئة والأساليب القتالية:
"التعبئة" تعني التهيؤ وأخذ كافة الاستعدادات اللازمة للحرب، من وضع خطط قتالية متقنة، وترتيب الجيش، وتوزيع الأسلحة
(4)
وبصفة عامة تعني الاستفادة القصوى من كافة الإمكانات المتاحة، مما يكفل بالتالي تحقيق النصر.
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 92 - 93.
(2)
- البيان المغرب، 3/ 6.
(3)
- أعمال الأعلام، 2/ 99.
(4)
- انظر: لسان العرب، مادة "عبأ". وعن التعبئة وأنواعها، انظر: الجيش والقتال في صدر الإسلام، ص 215 - 235 ومصادره.
وقد كان للمعالم الجغرافية في الأندلس الأثر القوي في وضع نظام تعبئة واضح، فقد شكلت أنهار وأودية الأندلس الممتدة بالعرض بين الشرق والغرب، خطوطاً دفاعية، فقد جعل المسلمون وادي إبرة خطاً دفاعياً أول وأطلقوا عليه مسمى: الثغر الأعلى، وأما الخط الدفاعي الثاني فقد شكله وادي نهر التاجه وأسموه: الثغر الأوسط، في حين اتخذوا من الأراضي الغربية الواقعة بين نهري دويره وتاجه خطاً دفاعياً ثالثاً، مطلقين عليه مسمى: الثغر الأدنى.
والمتبع في تعبئة الجيش الأموي وترتيبه هو ما كان سائداً لدى الجيوش الإسلامية عامة، وذلك من حيث تقسيم الجيش إلى مقدمة وساقة وميمنة وميسرة وقلب
(1)
وقد وردت عدة نصوص لدى العذري
(2)
وابن الخطيب
(3)
كلها تفيد استخدام أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس لهذا الترتيب عند تعبئتهم لجيوشهم.
وعرفنا مما سبق أن الكور الأندلسية تشترك في عملية تأمين المقاتلين للجيش، وقد ورد نص لدى الخشني ذكر فيه أن الفرج بن كنانة الكناني "غزا معقوداً له على جند شذونة من الغرب مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى جليقية
…
(4)
وعليه فإن الجيش الأموي في الأندلس، كان قائماً على
(1)
- ابن خلدون، المقدمة، ص 717.
(2)
- نصوص عن الأندلس، ص 68، 101.
(3)
- أعمال الأعلام، 2/ 63.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 41.
مايمكن أن يسمى بالقوى القبلية، بحيث أن كل مجموعة في الجيش تكون تحت إمرة أحد زعمائها، والقائد العام مسئول عن الكل، فكانت كل قبيلة تحرص على أن لا يأتي الوهَنُ من قبلها، لكن المنصور بن أبي عامر قضى على هذا الترتيب، فأدخل على الجيش الأموي عناصر عدة، أهمها العنصر البربري، وعمل على إعلاء هذا العنصر، مما سبب التنافر بينهم وبين الأندلسيين
(1)
، فأصبح القائد يقود جيشاً مكوناً من عناصر شتى، كل هذا لكي يأمن المنصور عدم اضطراب الجيش عليه.
وقد كان شعار الجيش الأموي طيلة عصري الإمارة والخلافة ذكر اسم الأمير أو الخليفة وإتباعه بكلمة "يا منصور"
(2)
لكن هذا الشعار تغير بعد سيطرة المنصور بن أبي عامر على الدولة، إذ أصبح الشعار فقط "يا منصور
(3)
".
ويتعين على قائد الجيش أن تكون قواته دائماً على تعبئة مستمرة سواء أثناء المسير أو عند النزول
(4)
حتى وإن كان العدو غير قريب وذلك خشية المفاجآت، إذ أن التهاون في هذا الأمر يترتب عليه في الغالب الفشل. وهذا ما حصل للوزير القائد هاشم بن عبد العزيز عندما خرج في شعبان سنة (262) هـ (876 م) لمحاربة عبد الرحمن بن مروان الجليقي، فقد
(1)
- أعمال الأعلام، 2/ 66.
(2)
- مفاخر البربر، ص 29.
(3)
- المصدر السابق، والصفحة.
(4)
- مختصر سياسة الحروب، ص 25 - 32.
تهاون في الأمر فكانت النتيجة قتل عدد كبير من أفراد الجيش الأموي ووقوع الوزير القائد هاشم بن عبد العزيز أسيراً بيد أعدائه
(1)
.
ومن الأمور الواجب على القائد الانتباه لها، توفير المياه وحفظها
(2)
، إذ أن إغفال هذا الأمر يترتب عليه تعرض الجند والدواب للعطش، فتذهب أعداد كبيرة منهما ضحية الإهمال، وهذا ما جرى للقائد أحمد بن أبي عبد هـ عندما رحل بقواته في غرة رجب سنة (283) هـ (أغسطس (896) م) إلى حصن البط -بعد أن دوَّخ عدة حصون- فعدم الماء في الطريق فهلك بسبب ذلك أكثر من ثلاثين رجلاً كما نفقت دواب كثيرة
(3)
.
هذه العثرات التي يتعرض لها ولأمثالها الجيش الأموي بالأندلس، سيعمد إلى تجاوزها، بل لا نعدو الحقيقة عندما نقول إنه سيوظفها لصالحه من خلال العمل على سد الثغرات التي يمكن أن يأتي منها الخلل، ولذا فإننا نجد الجيش الأندلسي يصل إلى مرتبة متقدمة من التعبئة عند المعارك وذلك في عصر الطوائف - وما كان له أن يصل إليها لولا أنه ورث ذلك التنظيم عن الجيش الأموي - فقد أورد الطرطوشي نصاً تحدث فيه عن ترتيب الجيش عند لقاء العدو، فقال:
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 360 - 373.
(2)
- مختصر سياسة الحروب، ص 31.
(3)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 117.
"فأما صفة اللقاء وهو أحسن ترتيب رأيناه في بلادنا، وهو أرجى تدبير نفعله في لقاء عدونا، أن نقدم الرجالة بالدرق الكاملة، والرماح الطوال والمزاريق المسنونة النافذة، فيصفوا صفوفهم، ويركزوا مراكزهم، ورماحهم خلف ظهورهم في الأرض، وصدورهم شارعة إلى عدوهم، وهم جاثمون في الأرض، وكل رجل منهم قد ألقم الأرض ركبته اليسرى، وترسه قائم بين يديه، وخلفهم الرماة المختارون التي تمرق سهامهم من الدروع والخيل خلف الرماة، فإذا حملت الروم على المسلمين لم يتزحزح الرجالة عن هيآتها ولا يقوم رجل منهم على قدميه، فإذا قرب العدو رشقهم الرماة بالنشاب والرجالة بالمزاريق، وصدور الرماح تلقاهم، فأخذوا يمنة ويسرة فيخرج خيل المسلمين بين الرماة والرجالة فتنال منهم ما شاء الله"
(1)
.
وأما ما يتعلق بأساليب القتال فقد عرف الجيش الأموي بالأندلس عدداً منها، فهناك أسلوب الزحف، حيث يقاتل الجنود بصفوف منتظمة طويلة متراصة، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}
(2)
وقبل أن تتم عملية الالتحام المباشر بين الجيشين تكون هناك مبارزة بين بعض الأقران من الطرفين
(3)
.
(1)
- سراج الملوك ص 337.
(2)
- سورة الصف آية رقم 4. وعن أنواع الصفوف في اللقاء انظر: مختصر سياسة الحروب، ص 34 - 35.
(3)
- سراج الملوك، ص 331 - 332. أعمال الأعلام، 2/ 72.
وهناك أسلوب الكمائن الذي يعتمد على وضع فئة من الجند في مكان مستتر لاقتناص غفلة الأعداء، ومهاجمتهم لإلحاق أكبر قدر من الخسائر بهم
(1)
، وهذا الأسلوب يستخدم لاستخراج القوة المعادية وبالذات عند مهاجمة المدن إذ تتوجه مجموعات من الجيش ذات عدد قليل نسبياً فتهاجم المدينة، وعندما يرى المدافعون قلة عدد المهاجمين يغريهم ذلك بتتبعهم للقضاء عليهم، فيخرجون من مدينتهم، ويلاحقون المهاجمين، وهنا يظهر الكمناء من مكامنهم فيطبقون عليهم ويشتتون شملهم
(2)
.
واستخدم الجيش الأموي كذلك أسلوب الحصار للمدن أو الحصون أو القلاع، فعند وصول الجيش إلى المنطقة التي يريد فرض الحصار عليها، يقوم الطبالون بقرع طبولهم بشدة، يرافق ذلك صيحات التكبير والتهليل من المقاتلين، وذلك لبث الرعب والرهبة في نفوس المدافعين، فإذا وصل الجيش الأسوار وزع القائد قواته وكلف كل فئة بإنجاز مهمة معينة، وزيادة في الاحتياط يقوم القائد بإرسال جزء من الجيش لفرض السيطرة على الأماكن القريبة من المنطقة المحاصرة، وذلك لمنع وصول الإمدادات العسكرية والمادية، مثلما فعل الوزير القائد هاشم بن عبد العزيز عند محاصرته لعبد الرحمن ابن مروان الجليقي
(3)
، وبعد ذلك تبدأ عملية انتساف
(1)
- عن الكمناء ومايشترط بهم، انظر: مختصر سياسة الحروب، ص 50 - 51.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 84.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 368.
الزروع المحيطة بالمنطقة وحرقها وقطع كافة سبل المعيشة عن المحاصرين لإجبارهم على الاستسلام
(1)
.
وفي بعض الأحيان لا يكتفى بفرض الحصار فقط بل تجرى محاولة نقب الأسوار
(2)
، أو قطع قنطرة إن وجدت
(3)
.
كما يستخدم "المنجنيق" وذلك لرمي المقذوفات من حجارة أو كرات نفط حارقة سواء في حالة الهجوم أو الدفاع.
وقد استخدم الأمويون المنجيق في حروبهم منذ بداية دولتهم في الأندلس، فالأمير عبد الرحمن الداخل استخدم أثناء حصاره لمدينة سرقسطة ستاً وثلاثين منجنيقاً
(4)
، واستخدمها محمد بن الأمير عبد الرحمن الأوسط عندما غزا بالصائفة إلى جليقية وحاصر مدينة ليون سنة (231) هـ (846 م)
(5)
كما استخدمت في صد هجوم النورمانديين سنة (230) هـ (845 م) على اشبيلية
(6)
.
وأما أسلوب بناء المدن العسكرية إزاء المدن التي يراد إسقاطها، فإنه يعتبر من أشد الوسائل فعالية، نظراً لما يوفر للمهاجمين من مساندة مادية
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 283، البيان المغرب، 2/ 84 - 85.
(2)
- البيان المغرب، 3/ 21 - 22.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 305 - 306.
(4)
- أخبار مجموعة، ص 115.
(5)
- البيان المغرب 2/ 88.
(6)
- المصدر السابق، والصفحة.
ومعنوية مما يساعدهم على مواصلة الحصار حتى النهاية، وفي الوقت نفسه فإنه يدخل في نفوس المدافعين اليأس مما يرونه من توطين المهاجمين لأنفسهم على طول الحصار.
وقد أدرك الخليفة عبد الرحمن الناصر أهمية المدن العسكرية أو الحصون التي يقيمها لأجل محاصرة مناوئيه، ولذا نراها تنتشر في عهده ويستخدمها بكثرة، من ذلك أنه بنى في سنة (318) هـ (930 م) مدينة عسكرية بالقرب من طليطلة سماها "مدينة الفتح" بجبل حرنكس
(1)
وفي سنة (323) هـ (934 م) حاصر مدينة سرقسطة فلم تستسلم، ولذا أقام بإزائها مدينة ارتفع بناؤها أعلى من بناء سرقسطة ذاتها فأصبح ما بداخلها مكشوفاً للمهاجمين
(2)
. وهذه المدن العسكرية كانت تشحن بالرجال والقواد والعساكر ويتولى أمرها أحد الوزراء
(3)
.
الحملات العسكرية:
جرت العادة أن تخرج الحملات العسكرية ضد الشمال الأسباني في فصل الصيف
(4)
، ولكن يحدث أن تصبح الصائفة شاتية، وذلك إذا اضطر الجيش للبقاء في جبهة القتال مثلما حدث للقائد أحمد بن محمد بن أبي عبد هـ عندما شتى مضطرا سنة (297) هـ (910 م) بأحد جبال كورة
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 283.
(2)
- المصدر السابق، ص 364.
(3)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 283.
(4)
- انظر: البيان المغرب 2/ 64.
قبره
(1)
، كما يمكن أن تكون الصائفة متجولة من أجل المحافظة على الأمن والاستقرار
(2)
.
ولكن يحدث أن تكون هناك شاتية تخرج للشمال، فهذا الحاجب عبد الملك المظفر بن المنصور خرج في شتاء سنة (398) هـ (1008 م) على "رأس حملة نحو الشمال، وهي الغزوة السادسة من غزواته"
(3)
.
وعندما عزم شنجول على مواصلة المسيرة العسكرية لأبيه وأخيه خرج في أشد أوقات السنة برودة
(4)
، متجهاً إلى جليقية.
والأمر هنا لا يقتصر على صوائف وشواتي، فقد كانت هناك حملات ربيعية وأخرى خريفية
(5)
، ومع توالي الحملات العسكرية ضد الشمال الأسباني، بدأت عملية إعمار الثغور الفاصلة بين الطرفين الإسلامي والنصراني، وذلك في أواخر عهد المنصور بن أبي عامر، ويبدو أن عملية الاستيطان هذه كانت من الضخامة والاتساع إلى الحد الذي جعل
(1)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه ص 146. البيان المغرب 2/ 146.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 139.
(3)
- المصدر السابق، 3/ 21.
(4)
- نفسه، ص 66.
(5)
- العذري، نصوص عن الأندلس، ص 77 - 80.
المنصور يندم على فعلته، ويتمنى لو تمكن من هدم كل ما عَمّره في منطقة الثغور
(1)
.
وقد سار عبد الملك المظفر بن المنصور على نهج أبيه في إعمار الثغور
(2)
، حتى أنه جعل لكل من له رغبة في استيطان الثغور، إثبات اسمه في الديوان، ويتم صرف راتب له مقداره ديناران في الشهر، وله مع ذلك المنزل والمحرث
(3)
.
(1)
- عندما حضرت المنصور الوفاة، أخذ يبكي ولما سأله حاجبه كوثر الفتى عن سبب هذا البكاء أجابه قائلاً: "مما جنيت على المسلمين، فلو قتلوني وحرقوني ما انتصفوا مني،
…
لما فتحت بلاد الروم ومعاقلهم عمرتها بالأقوات من كل مكان وسجنتها بها حتى عادت في غاية الإمكان، ووصلتها ببلاد المسلمين، وحصنتها غاية التحصين، فاتصلت العمارة، وها أنا هالك وليس في بني من يخلفني، وسيشتغلون باللهو والطرب والشرب، فيجيء العدو فيجد بلاداً عامرة وأقواتاً حاضرة فيتقوى بها على محاصرتها، ويستعين بوجدانها على منازلتها، فلا يزال يتغلبها شيئاً فشيئاً ويطويها طياً فطياً حتى يملك أكثر هذه الجزيرة، فلو ألهمني الله إلى تخريب ماتغلبت عليه وإخلاء ماتملكت .. " انظر: ابن الكردبوس، ص 64 - 65.
(2)
- ذكر ابن عذاري أن الحاجب عبد الملك المظفر في غزوته الأولى سنة 393 هـ عهد إلى جنده ألا يحرقوا منزلاً ولا يهدموا بناءاً، وذلك لما ذهب إليه من إسكان المسلمين في المناطق المفتوحة. انظر: البيان المغرب، 3/ 7.
(3)
- المصدر السابق، 3/ 7.
وقد كان بنو أمية شديدي الإهتمام بأخبار الثغور ولهم عيون تأتيهم بأنبائها تباعاً، وإذا حدث أن أبطأت الأخبار عنهم فإنه يتم إرسال أحد الثقات ليقف على حقيقة الأمر.
فالأمير محمد بن عبد الرحمن عندما خفيت عليه أخبار الثغر استدعى رجلاً يدعى مطرف بن نصير فأمره باستطلاع الخبر، وضرب له أجلاً مقداره أربعة عشرة يوماً لا يتجاوزها و إلا ضرب عنقه
(1)
.
وإذا حدث أن هجم العدو على الأراضي الإسلامية، تولى أحد الوزراء مهمة استنفار الناس
(2)
كما أن صاحب المدينة يقوم بحشدهم
(3)
ولا يؤذن لأحد بالتخلف إلا إن كان صاحب عذر شرعي، أو أغلق عليه باب داره شريطة ألا يغادرها إلا بعد عودة الجيش
(4)
.
وقد جرت العادة أن تخرج الصوائف في أواخر الربيع وأوائل الصيف، فالخليفة عبد الرحمن الناصر خرج إلى بنبلونه في يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر المحرم سنة (312) هـ (مايو (924) م) وذلك بسبب اعتداء البشكنس على بني لب وبني ذي النون بحصن بقبره
(5)
.
(1)
- المقتبس: تحقيق: د. محمود مكي ص 132 - 133.
(2)
- المصدر السابق، ص 140.
(3)
- نفسه، 44.
(4)
- نفسه، 45.
(5)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 189.
وبصفة عامة فإن الحملات العسكرية الضخمة لا تخرج إلا بعد إعداد مسبق لها، فالصوائف يبدأ التجهيز لها في شهر يونيه
(1)
، بعد أن تدرس الحالة الإقتصادية في الأقاليم التي سوف يمر عليها الجيش، وبالذات المحصولات، إذ أن الجيش كان يعتمد عليها في تمويله، يدل على ذلك أن السنوات التي يعم فيها القحط لا تكون فيها صائفة
(2)
.
ويبدو أن المنصور بن أبي عامر قد فطن لهذا الوضع، فعمل على تجاوز تلك الحالات الطارئة التي سيحول وقوعها دون قيامه بغزواته، لأجل ذلك قام بإنشاء مستودعات ضخمة خزّن فيها المحاصيل، ولم يكتف بذلك بل كان يستغل سنوات الخصب فيشتري كميات ضخمة منها، ويدخلها في تلك المستودعات بالإضافة إلى ما يأمر بزراعته من الشعير
(3)
.
(1)
- أعمال الأعلام، 2/ 98.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 168.
(3)
- انظر: أعمال الأعلام، 2/ 99، 102، ويبدو أن المنصور كان يخزن في مستودعاته محاصيل ضخمة جداً، حتى داخله العجب بنفسه، ويذكر ابن الخطيب "أعمال الأعلام، 2/ 99. أن المنصور بعد أن علم أن مستودعاته تحوي أكثر من مائتي ألف مدي من الحبوب داخله العجب وقال: "أنا أكثر طعاماً من يوسف صاحب الخزائن" فتوالت بسبب هذه الكلمة سني القحط حتى أتت على جميع مدخراته بل كاد أهل الأندلس أن يذهبوا إلى العدوة المغربية بسببها. وهذا مؤشر على شخصية المنصور الطاغية المغرورة، وصدق الله العظيم، "كلا إن الإنسان ليطغى، آن رآه استغنى".
وبعد أن تؤخذ كافة الاستعدادات، ترسل الوفود إلى جميع كور الأندلس للإستنفار وارتباط الخيل وتهيئتها للمشاركة، وتقرأ كتب الاستنفار على المنابر جمعاً متتالية حتى تثوب نفوس الناس وتتحرك للجهاد
(1)
، وهناك اهتمام خاص بأهل الثغر الأعلى وذلك لقربهم من بلاد الحرب وتعودهم على مصادمة رجالهم، وللطبيعة الجبلية التي خبروها، ولذا، فإن الأمير أو الخليفة يبعث إلى عمال الثغر بضرورة الاستعداد للخروج والاشتراك مع الجيش القادم من قرطبة بمجرد اقترابه من جبهة القتال
(2)
.
ورغم كل هذه الاستعدادات التي دأب الجيش الأموي بالأندلس على الأخذ بها عند تحركه للصائفة، نجد المنصور بن أبي عامر يقوم بجهد خاص لتوفير الخيول لرجاله، ففي الصائفة الأخيرة التي قادها سنة (392) هـ (1002 م) أنفذ كتبه إلى سائر النواحي استدعى فيها جميع المترجلين من فرسان الجند وأمرهم بالوصول إلى بابه ليشرف على إركابهم بنفسه. وبعد أمن لهم ما يلزم من الخيل، خرج بالصائفة وقاد معه سبعمائة رأس من الخيل للطوارئ، واتخذ من عتاق الخيل خمسين رأساً لركابه، وترك في قرطبة ألف رأس من الخيل، ورغم ذلك استمر في عملية ابتياع
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 156.
(2)
- الثغر الأعلى الأندلسي، ص 158.
الخيل، فوصل مدينة سالم ومعه ألف رأس من الخيل زائدة عن حاجة الجيش
(1)
.
مراسم وداع الحملات:
وبعد أن يقرر الأمير أو الخليفة الخروج بالصائفة، يبرز لها في مكان محدد يعرف بفحص شقنده " Seconda" أو صحراء الربض بفج المائدة المطل على باب قرطبة الجنوبي
(2)
، لكن الخليفة عبد الرحمن الناصر ترك البروز في هذا المكان
(3)
، واتخذ عوضاً عنه مكاناً آخر يقع إلى الشمال من نهر الوادي الكبير بالطرف الشرقي من قرطبة، يعرف بمضرب أو مضطرب فحص السرادق
(4)
.
وهذا البروز هو بمثابة الإعلان الرسمي عن الحملة، وقد وصف ابن حيان فترة البروز هذه بالطول
(5)
، فقد تستغرق مدة شهر
(6)
، أو أكثر
(7)
، يقوم الأمير أو الخليفة خلالها باستعراض الجند المتوافدين على الفحص
(1)
- انظر التفاصيل في: أعمال الأعلام، 2/ 100.
(2)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه 94.
(3)
- حدث أن برز الخليفة عبد الرحمن الناصر إلى فحص شقنده سنة 328 هـ انظر، المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 449.
(4)
- المصدر السابق، ص 287. نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 43.
(5)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 159.
(6)
- المصدر السابق، ص 433.
(7)
- نفسه، ص 189.
من كافة أنحاء الأندلس، حتى وإن كان لن يقود الحملة حرصاً منه للوقوف على مدى استعداد الجند للحملة.
وعندما وصف ابن حيان بروز الخليفة عبد الرحمن الناصر، ذكر أنه برز "دارعاً مستلثماً متقلداً سيفه، راكباً لأشقر معروف بالعتق، من جياد المقرنات، قد حفَّته قواده وكتائبه معبأة أحسن تعبئة"
(1)
.
وإن تعذر خروج الخليفة مع الجيش، اكتفى بالجلوس على السطح فوق باب السدة في قصر قرطبة، لمشاهدة مسيرة الجيش، فإذا مر الجيش من أمام الخليفة، رفع يديه إلى السماء يدعو الله تعالى أن ينصرهم ويمنحهم السلامة، ولا ينزل يديه إلا بعد أن يغيب الجيش عن بيوت قرطبة، ويكون إلى جانبه ولي عهده يفعل مثل فعله
(2)
.
وأما الحاجب عبد الملك المظفر فقد برز وهو "شاكي السلاح في درع جديدة سابغة وعلى رأسه بيضة حديد مثمنة الشكل مذهبة شديدة الشعاع وقد اصطفت القواد والموالي والغلمان الخاصة في أحسن تعبئة فساروا أمامه وقد تكنفه الوزراء الغازون معه
(3)
"، وقد جرت العادة أن يتجمع أهل قرطبة كبيرهم وصغيرهم ذكرهم وأنثاهم لمشاهدة بروز الخليفة أو غيره حيث يصبح ذلك البروز مجال حديثهم أياماً عديدة
(4)
.
(1)
- نفسه ص 333 - 334.
(2)
- نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 221.
(3)
- البيان المغرب، 3/ 5.
(4)
- المصدر السابق، 2/ 222.
وبعد أن تكتمل الاستعدادات، ويتم عقد الألوية وفق الرسوم المتعارف عليها، ينطلق الجيش بقيادة الأمير أو الخليفة أو من ينوب عنهما إلى الجهة المتفق عليها، ويكون موعد الخروج بالحملة سراً لا يعرفه إلا كبار المسئولين فقط، وحتى الجهة التي سيتوجه الجيش إليها لا يعرفها إلا القادة، ففي أول غزوة للخليفة عبد الرحمن الناصر وهي مُونش سنة (308) هـ (920 م) والتي كانت بالأصل موجهة إلى ألبة والقلاع، خرج من قرطبة ومر بمدينة الفرج "وادي الحجارة Guadalajara" وبعدها وصل مدينة سالم، وتظاهر بأنه يريد الثغر الأعلى، لكنه فجأة عرَّج على طريق ألبة والقلاع وواصل سيره حتى بلغ هدفه
(1)
.
والصائفة تخرج من قرطبة وتسلك الطريق المارة بطليطلة، ومنها إلى وادي الحجارة ثم إلى مدينة سالم ومنها إلى منطقة الثغر الأعلى، وبعدها تسير إلى محاربة النافار وقاعدتهم ببنبلونه أو تسير إلى ألبة والقلاع ومنها لمحاربة مملكة ليون
(2)
.
ورغم أن هذه الطريق أصبحت المسار المعتاد للصوائف المتجهة إلى الشمال النصراني، إلا أن القائد البراء بن مالك سار سنة (264) هـ (877 م) إلى جليقية من ناحية الغرب أي من باب قلمريه " Golimbra" وقد حالفه التوفيق في حملته هذه
(3)
، وفي سنة (266) هـ (879 م) جرت
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 161 - 163.
(2)
- الثغر الأعلى الأندلسي، ص 157.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 385. البيان المغرب 2/ 103.
محاولة غزو جليقيه من ناحية المحيط الأطلسي، وكان القائد عبد الملك بن عبد الله بن محمد بن عبد الحميد بن مغيث، ورغم الأموال الطائلة التي صرفت على هذه الحملة والبروز الفخم الذي ظهر به القائد إلا أن الحملة فشلت نتيجة لغرق الكثير من المراكب بمن فيها بالمحيط
(1)
.
وفي سنة (312) هـ (924 م) نجد الخليفة عبد الرحمن الناصر عندما خرج بالحملة ضد بنبلونه نراه يسلك طريقاً شرقياً، فقد اتجه أولاً إلى تدمير ومن ثم بلنسيه وبعدهما وصل إلى تطلية، فسيطر على حصن قَلهرة، ثم أمر بهدمه وتوغل في مملكة النافار
(2)
.
وفي المعركة يكون مكان القائد العام للجيش القلب
(3)
، ويكون أثناء المعركة تحت المظل الخاص به، ومعه وجوه أهل الدولة
(4)
، ويكون موقع المظل على تل أو ربوة مرتفعة، حتى يتمكن من الإشراف على المعركة أثناء سيرها، ويوجه قواته وفق محريات أحداثها
(5)
.
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 398. البيان المغرب 2/ 103 - 104، ولكنه يسمي القائد بـ"عبد لحميد الرعيطي".
(2)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 190 - 191. البيان المغرب، 2/ 185 - 186.
(3)
- أعمال الأعلام، 2/ 63.
(4)
- البيان المغرب، 3/ 10.
(5)
- أعمال الأعلام، 2/ 70 - 71.
وقد اعتاد بنو أمية ألا يحاربوا مناوئيهم إلا بعد إنذارهم، وذلك بإخراج الرسل والأمناء إليهم، علهم يفلحوا في إعادتهم إلى الطاعة
(1)
، ولم يكن الأمر يقف عند هذا الحد، بل إن الأوامر تصدر إلى قادة الجيش الأموي بضرورة ملاينة بعض المناوئين وملاطفتهم، والعمل على استمالتهم إلى الطاعة وبذل الوعود الجميلة لهم
(2)
، وذلك على الرغم من قدرة الجيش على الفتك بهم.
وبالمقابل نجد أنه بعد انتهاء المعركة التي تجري بين الجيش الأموي والقوات النصرانية، يتم تجميع رؤوس القتلى من النصارى، والتي تبلغ أحياناً حوالي عشرين أو ثلاثين ألف رأس
(3)
وبعد أن تجمع تلك الرؤوس عند باب المظل، يصعد المؤذن فوقها ويرفع الأذان
(4)
، ويتم بعث جزء من تلك الرؤوس إلى السواحل والثغور ومدينة قرطبة
(5)
، ثم يبعث القائد بخطاب الفتح إلى قرطبة، ويكون الخطاب على نظيرين، أحدهما يرسل إلى
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 280.
(2)
- المصدر السابق، ص 70.
(3)
- ابن القوطية، ص 97. البيان المغرب، 2/ 95، 99.
(4)
- ابن القوطية، ص 97. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 298.
(5)
- ابن القوطية، ص 97. المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 124، 193. البيان المغرب 2/ 95، 200.
الأمير أو الخليفة، والآخر يتلى على المنابر
(1)
كما تبعث عدة نسخ إلى كافة الكور ليتلى نبأ الانتصار على منابرها.
وتكون كتب الفتوح موشحة توشيحاً خاصاً بها، حيت تتحدث عن قدرة المسلمين وسطوتهم بأعداء الدين، واستباحتهم لهم وقدرتهم عليهم
(2)
.
وبعد أن يعود الأمير أو الخليفة من الغزو، تعلق الألوية على جدران المحراب بالمسجد الجامع
(3)
، ويجلس الخليفة للتهنئة، ويتبارى الشعراء في إلقاء قصائدهم بين يديه، وكلها تثني على حسن بلائه، وتبارك له بالنصر، وتدعوا له بدوام العز وطول البقاء
(4)
.
وإن كان الجيش بقيادة أحد القادة، جرى له احتفال كبير عند عودته مظفراً، وأشهر احتفال جرى لقائد، هو الاحتفال الذي أقامه الحكم المستنصر بالله للوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن بعد أن عاد من العدوة المغربية ومعه حسن بن قنون وأنصاره وذلك في أوائل شهر المحرم سنة (364) هـ
(5)
(سبتمبر (974) م).
(1)
- المصدر السابق، 3/ 23.
(2)
- الذخيرة ق 1 م 1 ص 37.
(3)
- أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص 368.
(4)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 423.
(5)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 194 - 202.
وهناك موظف خاص يتولى تلاوة كتب الفتح، وخطته تعتبر من أدنى الخطط، ومن الذين تولوها أبو محمد عبد الله بن محمد الجهني، ت (395) هـ
(1)
(1005 م).
وبمقابل كتب الفتوح نجد أن كتب استنزال العصاة تبعث إلى كافة نواحي الدولة لتتلى على المنابر
(2)
.
والجيش الأموي امتاز بالانضباط التام، ووصل ذروة ذلك الانضباط في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر، فقد ذكر ابن سماك المالقي
(3)
أنه بلغ من شدة المنصور في هذا الأمر أنه إذا استعرض جنده أطرقوا، بل إن خيولهم تمتثلهم، فلا تكثر الصهيل والحمحمه، وحدث في أحد استعراضاته لجنوده، أن أقدم أحد الجنود الذين يقفون في الصفوف الخلفية على سل طرف سيفه عبثاً منه، ظاناً منه أن المنصور لا يراه، فشاء الله تعالى أن وقعت عين المنصور على بريق السيف، فأمر بإحضار الجندي، وبعد أن
(1)
- ترتيب المدارك، 7/ 209 - 210، ومتولي هذه الخطة ليس له رزق ولا صلة. انظر: الصلة، رقم 557.
(2)
- المقتبس تحقيق: شالميتا ص 55.
(3)
- عن ابن سماك انظر: الزهرات المنثورة، مقدمة المحقق ص 5 - 18. ابن الخطيب، الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة، (تحقيق: د. إحسان عباس، دار الثقافة بيروت بدون تاريخ) ص 299 - 301، قارن نفح الطيب، 1/ 417 حاشية رقم 1.
عاتبه قليلاً مذكراً إياه بأنه لا يجوز لأحد في مثل هذه المواقف أن يشهر سيفاً إلا بإذنه أمر بضرب عنقه بسيفه وطيف برأسه ونودي عليه بذنبه
(1)
.
وإذا حل العيد والجيش في جبهة القتال، فإن القائد يقيم لجنده مأدبة في صبيحة يوم العيد، وهذا ما كان يفعله الخليفة عبد الرحمن الناصر سواء حل عليه العيد وهو بقرطبة أو في الغزو
(2)
، كما أن الأطعمة الزائدة في الجيش والتي يتم الاستيلاء عليها من جراء اكتساح أراضي الأعداء، تجمع ومن ثم تحرق
(3)
وذلك لئلا تعيق حركة الجيش، ولمنع الأعداء من الإستفادة منها تحت أي ظرف طارئ.
كذلك يشهد معسكر الجيش في بعض الأحيان إستقبالات رسمية لوفود تطلب الأمان، فالخليفة عبد الرحمن الناصر خرج سنة (322) هـ (934 م) في غزوة "وخشمة" ناحية سرقسطة، ثم رأى أن يقتحم أراضي بنبلونة لمجاورتها لأراضي الثغر الأعلى الأندلسي، فلما علمت الملكة طوطه "تيودا" ابنة شنير ملكة النافار بما عزم عليه الخليفة أرسلت إليه رسلها طالبة الأمان، فاشترط عليها أن تأتي إليه وتظهر خضوعها له، فامتثلت
(1)
- الزهرات المنثورة: الزهرة الثامنة والأربعون، ولعل هذه الحادثة أبلغ دليل على النهج التسلطي الذي كان المنصور يسير عليه، فقد كان يكفي لتأديب الرجل أي نوع من أنواع العقاب، بحيث لا يصل إلى إيذائه جسدياً فضلاً عن إزهاق روحه.
(2)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 401.
(3)
- المصدر السابق، ص 176. البيان المغرب 2/ 180.
لأمره وحضرت لمعسكره، فجرى لها استقبال فاخر، وحقق لها الخليفة مرادها
(1)
.
ولاشك أن الحملات العسكرية بأنواعها، والتي كان الجيش الأموي يقوم بها، كانت تكلف خزينة الدولة الشيء الكثير، ويكفي للدلالة على ذلك أن الخليفة عبد الرحمن الناصر كان يخصص ثلث دخل دولته للصرف على جيشه
(2)
.
وذكرت بعض المصادر دخلاً آخر مخصص للصرف على الجيش مثل "الناض للحشد" وهي ضريبة لا يستثنى منها أحد من الرعية، ويقدم لنا العذري عند حديثه عن قرطبة وأقاليمها معلومات إقتصادية دقيقة، وبالذات ما يتعلق منها بتلك الضرائب، فإقليم المدَّور " Almodovar Del Rio" الذي يقدم من الناض ثلاثة آلاف وتسعمائة وثمانون مثقالاً، ومن الطبل للعام أربعة آلاف ومائة وأربعون دينار
(3)
، وأما إقليم "الهزهاز، فكان يقدم للطبل العام أربعة آلاف وأربعمائة وتسعة وثمانون ديناراً
(4)
.
وهذه الضرائب -لاشك- بأنها كانت تشكل عبئاً إقتصادياً على الرعية، ولذا، فإن من الأساليب التي اتبعها خلفاء وأمراء بني أمية في التحبب إلى رعاياهم هي إسقاط جزء من تلك الضرائب عنهم، فهذا
(1)
- انظر: تفاصيل الاستقبال في المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 335 - 336.
(2)
- المغرب في حلى المغرب، 1/ 183.
(3)
- نصوص عن الأندلس، ص 124 - 125.
(4)
- المصدر السابق، ص 126.
الأمير المنذر بن محمد عندما تولى الإمارة أسقط عشر المغارم عن الرعية
(1)
، كما أن الخليفة الحكم المستنصر اغتنم فرصة شفائه من مرض ألم به سنة (364) هـ (975 م) فأسقط عن رعيته سدس جميع مغرم الحشد
(2)
. وفي عهد المنصور بن أبي عامر ازدادت الحملات العسكرية كثافة، وتبع ذلك زيادة هائلة في النفقات اللازمة لإعداد تلك الحملات، فكان الإنفاق يصل أحياناً إلى خمسمائة ألف دينار
(3)
.
ونختم الحديث عن الجيش بإلقاء الضوء على أهم النتائج، والذي يهمنا في هذه الدراسة الغنائم، فبعد أن تقسم الغنيمة وفق نصوص الشريعة الإسلامية، يقسم الباقي على المقاتلين بطريقة متفاوتة تخضع للرتبة العسكرية والحالة الإجتماعية، وفي سبيل الحصول على سيولة نقدية يسارع الباقي من المقاتلين إلى بيع نصيبه من الغنيمة
(4)
.
ومن الغنائم: السبي الذي يؤتي به من الإمارات والممالك النصرانية الشمالية، وكان قسم من هذا السبي يوزع على أهل الرباط والفرسان والوفود
(5)
.
(1)
- أعمال الأعلام، 2/ 25. البيان المغرب، 2/ 114.
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، 207.
(3)
- أعمال الأعلام، 2/ 98.
(4)
- أبو رميلة، نظام الحكم في الأندلس، ص 380.
(5)
- البيان المغرب، 2/ 23.
أما الأسرى من النصارى فيحدث أحياناً أن يدعوهم الخليفة للإسلام فإذا أسلموا صيرهم في جملة غلمانه
(1)
، وفي أحيان أخرى يتم قتل الأسرى في المعسكر أمام الخليفة
(2)
، كما يتم إعطاء بعضهم لبعض الأسر المسلمة ليفادوا بهم أسراهم الذين وقعوا في أيدي النصارى
(3)
.
وأما الأسرى من المسلمين فهناك عدة أساليب لإطلاق سراحهم فبالإضافة إلى مبادلتهم بالأسرى النصارى، نجد الدولة تعطي أهل الأسير المسلم مبلغاً من المال لفدائه
(4)
، وإن كان الواقع في الأسر أحد الشخصيات المهمة في الدولة، تولت حكومة قرطبة دفع فدائه، فالوزير القائد هاشم بن عبد العزيز عندما وقع أسيراً لدى ألفونسو الثالث بن أردون الأول ملك اشتوريس سنة (262) هـ
(5)
(787 م) مكث سنتين في أسره، دفع الأمير محمد مبلغ مائة وخمسين ألف ديناراً فداءاً له
(6)
، ويبدوا أن فداء الأسير المسلم إذا كان من ذوي الفئة الاجتماعية المتوسطة لا يتجاوز خمسة آلاف دينار، يدل على ذلك ما ورد لدى ابن الفرضي في ترجمته للقاضي عمر بن يوسف الأموى قاضي تطيلة "من سنة 325 -
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 482 - 483.
(2)
- المصدر السابق، ص 398.
(3)
- البيان المغرب 2/ 73.
(4)
- المصدر السابق والصفحة.
(5)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 378.
(6)
- ابن القوطية، ص 89. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 386 - 387.
337 هـ (937 - (948) م) "أنه وقع بالأسر هو وابنه وأخوه فتم دفع خمسة عشر ألف دينار نظير إطلاق سراحهم
(1)
.
وفضلا عما سبق، فإن الأساليب التي يتم بموجبها إطلاق سراح الأسرى المسلمين، أن أمراء وخلفاء بني أمية بالأندلس عرف عنهم أن أعظم هدية يقدمها لهم ملوك نصارى الشمال هي إطلاق مجموعة من الأسرى المسلمين، من ذلك أن القومس بون فلي بن سندريط Sinderedo وصل إلى قرطبة سفيراً من قبل بريل بن شنير حاكم برشلونة، وذلك في نهاية شعبان سنة (360) هـ (971 م) وتقرب إلى الخليفة الحكم المستنصر بتقديم هديته التي هي عبارة عن ثلاثين أسيراً مسلماً مابين ذكر وأنثى وذلك لعلمه أن هذه الهدية هي أفضل مايبتهج به الخليفة ويكافئ عليه
(2)
.
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 954.
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. عبدالرحمن الحجي ص 20 - 21.
خطة الأسطول
(1)
إن المتأمل في جغرافية الأندلس، يدرك أن لامناص لأهلها من توجيه العناية التامة بالبحر وما يتعلق به، سواء تم ذلك بتنظيم رسمي أو شعبي. ورغم وجود كافة الدوافع الضرورية الكفيلة بقيام بحرية قوية في الأندلس إلا أن الدولة الأموية في بداية عهدها لم تلق بالاً لهذه المسألة، فلا نجد أثراً لأسطول بحري منظم، يكون مكملاً للقوة البرية الدولية
(2)
.
إلا أن ذلك لا يعني أن الأندلس كانت في عهد الولاة خالية من مراكب بحرية تجري بين العدوتين، يدل على ذلك أن بلج بن بشر القشيري عندما أراد دخول الأندلس، أنشأ قوارب واستعان ببعض مراكب البحارة وبذلك تمكن من دخول الأندلس
(3)
. كما أن المركب الذي أوصل الأمير عبد الرحمن الداخل الأندلس، كانت تحت قيادة رجل يدعى أبا فريعة، كان له بصر في ركوب البحر
(4)
، وهذا مما يدل على وجود رجال ذوي خبرة في المجال البحري.
(1)
- عن مصطلح كلمة "الأسطول" ومدلولاتها وأصلها. انظر: د. علي محمود فهمي: التنظيم البحري الإسلامي في شرق المتوسط، من القرن 7 حتى القرن 10 م، (ترجمة: د. محمود عبده قاسم، دار الوحدة، بيروت 1402 هـ 1981 م) ص 137 - 140.
(2)
- د. حسين مؤنس: المسلمون في حوض البحر المتوسط ص 12.
(3)
- ابن القوطية ص 16.
(4)
- المصدر السابق ص 24.
ويبدو أن هناك أسباباً حالت دون قيام أمراء قرطبة بإنشاء قوة بحرية تحمي سواحل إماراتهم، فالمتصفح لعهد الأمير عبد الرحمن الداخل، على سبيل المثال، يجد أنه مليء بالفتن الداخلية والحروب الخارجية، وهذه المشاكل استمرت طيلة عهده، ولا يخفى ما لمثل هذه المشاكل من أثر سيء على التنمية الداخلية لأي دولة كانت.
يضاف إلى ذلك أن الممالك والأمارات النصرانية الشمالية المجاورة للدولة الأموية بالأندلس، لم تكن لها سمعة في المجال البحري، حتى يحسب الأمويون حسابها، في حين أن السواحل الجنوبية كانت تطل على بلاد إسلامية، لذا أمن الأمويون من المخاطر التي تأتيهم عن طريق السواحل. هذه الأسباب تضافرت فيما بينها، لتقف حائلاً دون التبكير في قيام قوة أموية بحرية.
لكن هناك خبر أورده شكيب أرسلان ذكر فيه: أن الأمير عبد الرحمن الداخل قد بث الحركة والحيوية في مراسي طركونة
(1)
وطرطوشة وقرطاجنة واشبيلية والمريه وغيرها
(2)
.
(1)
- طركونة " Tarragona" مدينة ساحلية قديمة، على البحر المتوسط، اشتهرت بإنتاج الرخام المحكم الصبغة، ولها أحواز كثيرة وحصون منيعة تتصل بنواحي برشلونة وتبعد عنها بنحو مائة كيلو متر، وقد خرجت طركونة من أيدي المسلمين سنة 472 هـ، انظر، وصف الأندلس للرازي، ص 73. تعليق منتقى، ص 286، ذكر بلاد الأندلس، 1، 72 الروض المعطار، ص 392، الأثار الأندلسية الباقية، ص 117 - 118.
(2)
- تاريخ غزوات العرب ص 139.
ومهما يكن من ملاحظات على هذا الخبر
(1)
، إلا أنه يفيد أن بني أمية بقرطبة كانوا مدركين لأهمية التكامل بين القوتين البرية والبحرية، وأنهم كانوا بانتظار الفرصة المناسبة لايجاد التوازن بينهما من خلال إنشاء أسطول بحري يحمية سواحل بلادهم.
وأما ما ذهب إليه بعض المختصين بالدراسات الأندلسية، من أن التقارب بين أمراء قرطبة وأباطرة بيزنطة، واشتراكهم في معاداة العباسيين، قد طمأن بني أمية بأن سواحلهم في مأمن من أي هجوم طارئ
(2)
، فهي وجهة نظر لا يمكن الأخذ بها، إذ لم تورد المصادر التاريخية ما يدل على قيام أي من الأمويين أو البيزنطيين بعمل عسكري ضد العباسيين لصالح الطرف الآخر.
وإذا كانت دولة بني أمية بالأندلس قد تأخرت في إنشاء أسطول بحري منظم، فإن ذلك لم يحل دون قيام جماعات بحرية، كان لها حضوراً مميزاً في المجال البحري، أثبتت فيه كفاءتها القتالية، وأصبحت حامية
(1)
- ذكر أرسلان في المرجع السابق ص 139، أن الأمير الداخل قام بهذه الأعمال سنة 793 م (176 - 177 هـ) وهذا كما يتضح من التاريخ بعد عهد الأمير الداخل.
(2)
- د. السيد عبد العزيز: د. أحمد العبادي: تاريخ البحرية الإسلامية في المغرب والأندلس 2/ 148.
للسواحل الشرقية للأندلس، بل إنها كانت تقوم بمهاجمة موانئ الإمبراطورية الفرنجية
(1)
.
وبقدر ما كان الساحل الشرقي للأندلس يعج بالحركة وتحميه المراكب، إلا أن الساحل الغربي كان مكشوفاً لا حماية له، بل إن وضع البحرية الأموية في الأندلس ككل انكشف عند هجوم سفن النورمانديين على الأندلس.
ففي يوم الأربعاء أول ذي الحجة سنة (229) هـ
(2)
(20 أغسطس (844) م) ظهرت أمام سواحل اشبونة، مراكب الغزاة النورمانديين، فسارع عاملها وهب الله بن حزم بإرسال كتاب إلى الأمير عبد الرحمن الأوسط ذكر فيه أنه حل بالساحل قبلة أربعة وخمسون مركباً من مراكب المجوس
(3)
، معها أربعة وخمسون قارباً
(4)
، فكتب إليه الأمير عبد الرحمن الأوسط وإلى كافة عمال السواحل يأمرهم بالتحفظ وأخذ الحيطة اتقاء
(1)
- انظر: تاريخ العرب العام، ص 311، القوى البحرية، ص 162 - 164، 229 - 230، تاريخ غزوات العرب، ص 140 - 142، 150. أثر ظهور الإسلام في البحر المتوسط، ص 121. بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته، ص 614. جزر الأندلس المنسية، ص 64، 66، 70.
(2)
- غارات النورمانديين على الأندلس ص 31.
(3)
- المقصود به هم النورمانديين، فقد كان المسلمون يطلقون عليهم اسم المجوس، لأنهم كانوا يشعلون النيران في كل موضع يمرون فيه، لأجل ذلك حسبهم المسلمون مجوساً، انظر المرجع السابق ص 24.
(4)
- البيان المغرب، 2/ 87.
شر المفاجآت، إلا أن النورمنديين هاجموا إشبونه لكنهم اضطروا لمغادرتها نتيجة المقاومة العنيفة من أهلها
(1)
فسارت مراكب النورمانديين إلى الجنوب بمحاذاة الساحل، فدخل بعضها قادش وبعضها شذونه
(2)
، ولكن معظم المراكب تجمعت عند مدخل الوادي الكبير، حيث تقدمت نحو اشبيلية، فاحتلوا جزيرة قبطيل
(3)
" Cabtel" في اليوم الثامن من شهر محرم سنة (230) هـ (سبتمبر (844) م) ونظراً لما تمتاز به هذه الجزيرة من وفرة الخيرات
(4)
فقد تحصن بها النورمانديين، واتخذوا منها مركزاً لانطلاق هجماتهم على اشبيلية، وبعد ثلاثة أيام دخلوا قرية قورية " Coria Del Rio" الواقعة على بعد اثنى عشر ميلاً من اشبيلية، وذلك في يوم الاثنين الثاني عشر من محرم، وفي اليوم الثالث عشر دخلوا قرية طلياطه
(5)
(1)
- نصوص عن الأندلس ص 98.
(2)
- البيان المغرب 2/ 87.
(3)
- نصوص عن الأندلس ص 98. قبطيل، تكتب باللاتينية Capirale وكلمة قبطيل تعني القناة، والقبطيل بالأندلس هو مفرغ وادي طرطوشة في البحر، ويعرف أيضاً بالعسكر لأنه موضع عسكر بن النورمانديون واحتفروا حوله خندقاً. انظر، الروض المعطار، ص 154 والحاشية رقم 2 ص 98.
(4)
- غارات النورمانديين ص 32.
(5)
- نصوص عن الأندلس، ص 99، الروض المعطار ص 395. غارات النورمانديين، ص 37 حاشية رقم 1 طلياطه، قرية كانت على سبع مراحل شمال اشبيلية، وتسمى اليوم Tejada وهي اليوم خرائب مهجورة Despolado على بعد 30 كيلو متراً شمال غربي اشبيلية. انظر الحلة السيراء 2/ 183، حاشية رقم 2. الروض المعطار، ص 395.
" Tliata" فارتج أهلها وأخلوها إلى جبالها وإلى قرمونة
(1)
، وفي يوم الأربعاء الرابع عشر من محرم سنة (230) هـ
(2)
(سبتمبر (844) م) وصل النورمانديون اشبيلية في مراكبهم ذات الأشرعة السود التي "كأنما ملأت البحر طيراً جوناً كما ملأت القلوب شجواً وشجوناً
(3)
" فدخلوا اشبيلية وقتلوا من المسلمين أعداداً كبيرة، وأقاموا فيها بقية يومهم ثم غادروها من الغد
(4)
.
بعد هذه الأحداث وصلت القوات الأموية، قادمة من قرطبة وعلى رأسها أربعة قادة من كبار رجالات الأمير عبد الرحمن الأوسط
(5)
، فنزلوا بمن معهم في موضع يقال له مشدوم، يقع شرقي اشبيلية وجرت معركة بينهم وبين النورمان قتل فيها منهم نحو سبعين رجلاً، ثم انهزموا ولجأوا إلى مراكبهم، فأحجم قادة الجيش الأموي عن مطاردتهم مكتفين بما ألحقوه بهم من هزيمة سريعة
(6)
، فغضب الأمير عبد الرحمن من تصرفهم وأمرهم بالعودة إلى قرطبة وأرسل قوة عسكرية بقيادة محمد بن سعيد بن رستم
(1)
- ابن القوطية ص 63.
(2)
- المغرب في حلى المغرب: 1/ 49.
(3)
- البيان المغرب 2/ 87.
(4)
- نصوص عن الأندلس، ص 99، المغرب في حلى المغرب 1/ 49.
(5)
- هم: عبد الله بن المنذر وعيسى بن شهيد وعبد الواحد بن يزيد الأسكندراني وعبد الرحمن بن كليب بن ثعلبه.
(6)
- نصوص عن الأندلس، ص 99.
ومعه بعض الوزراء ومن توافد على قرطبة من رجال الكور، فنزل الجميع في قرمونة
(1)
، وقدم موسى بن موسى القسوي بمن معه من رجال الثغر الأعلى
(2)
بعد أن استنجد به الأمير عبد الرحمن للمساهمة في دفع أولئك النورمانيين، وقد ذكر ابن القوطية، الذي انفرد بذكر مشاركة موسى في قتال النورمانيين، أن موسى عندما وصل إلى قرمونة لم يختلط بقوات الإمارة، بل انعزل جانباً
(3)
، رغبة منه في عدم الوقوف تحت راية نصر الفني كبير رجال قصر الأمير عبد الرحمن الأوسط
(4)
.
واجتمع موسى بالوزراء قادة الجيش الأموي وعلى ضوء المعلومات المتوفرة وضع خطة عسكرية محكمة، فتمكن المسلمون من طرد النورمانديين من اشبيلية
(5)
، وفرضوا عليهم حصاراً قوياً في طلياطه التي لجأوا إليها، وتم نصب المجانيق على جانبي الوادي الكبير، فقتل من الغزاة نحو خمسمائة
(6)
، بما فيهم قائدهم
(7)
، فلاذ باقيهم بالفرار بعد أن وصلت
(1)
- ابن القوطية ص 63.
(2)
- ذكر ابن سماك العاملي أن قائد الجند بسرقسطة قاعدة الثغر الأعلى كان أحد الثلاثة الذين يعمد الأمير أو الخليفة الأموي بالأندلس إلى استشارتهم في معضلات الأمور التي تهم الدولة. انظر: الزهرات المنثورة: الزهرة الثالثة والثمانون.
(3)
- تاريخ افتتاح الأندلس ص 63.
(4)
- غارات النورمانديين على الأندلس ص 36.
(5)
- المطرب، ص 130. تاريخ البحرية الإسلامية: 2/ 157.
(6)
- نصوص عن الأندلس ص 100.
(7)
- المطرب ص 130، تاريخ البحرية الإسلامية 2/ 157.
قوات إضافية حكومية، حيث واصل من نجا من النورمانديين فرارهم نحو أشبونه، ومنها عادوا أدراجهم إلى مواطنهم الأولى
(1)
.
وهناك مجموعة من الغزاة لم تتمكن من الرحيل إلى بلادها، ولذا فقد تحصنوا في جزيرة قبطيل، فحاصرهم القائد ابن رستم فاستسلموا، ودعاهم إلى الدخول في الإسلام فاستجابوا، واستقروا في جنوب مدينة اشبيلية، واشتغلوا بتربية الماشية، وذاعت شهرتهم بصناعة اللبان وأجود أنواع الجبن
(2)
.
ولقد استوعب الأمير عبد الرحمن الأوسط الدرس الذي لقنه إياه النورمانديون، فأصدر أوامره بتسوير إشبيلية، وكان صدور هذا القرار بمشورة من الفقيه عبد الملك بن حبيب الذي كتب للأمير عبد الرحمن، وكان في ذلك الوقت مشتغلاً بزيارة جامع قرطبة .. " إن بنيان سور اشبيلية وتحصينها أوكد عليه من بنيان الزيادة في المسجد الجامع
(3)
" ثم أصدر قراراً آخر يقضي بتحصين السواحل الغربية والجنوبية الغربية للأندلس فأنشأت الرباطات والمحارس من اشبونة إلى إلى أرقش، وتسابق
(1)
- نصوص عن الأندلس ص 100.
(2)
- تاريخ المسلمين وأثارهم في الأندلس ص 237. L.provoncal Op.Cit v.I p: 244.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 244.
المجاهدون في سبيل الله إلى سكني تلك الأربطه والمحارس حفاظاً على أرواح المسلمين
(1)
.
وذكر ابن القوطية أن الأمير عبد الرحمن الأوسط قد أصدر أوامره بإنشاء دار صناعة بإشبيلية
(2)
وبالرغم من أهمية هذا الخبر، إلا أنه يجب أن نأخذه بحذر، إذ أنه يتعارض مع خبر سابق أورده ابن القوطية نفسه، وذلك عندما ذكر أن سارة القوطية بنت المند قد أنشأت مركباً بإشبيلية، وذهبت به إلى الشام، حيث قابلت الخليفة هشام بن عبد الملك بدمشق ورفعت إليه ظلامتها بسبب اعتداء عمها ارطباس عليها
(3)
، ومن خلال هذا الخبر يمكن القول بأن داراً للصناعة بإشبيلية كانت قائمة قبل بني أمية إلا أنها تعطلت لسبب من الأسباب وظلت كذلك حتى أعاد الأمير عبد الرحمن الأوسط تشغيلها مرة ثانية فنسبت إليه
(4)
. كما وجه الأمير عبد الرحمن الأوسط عنايته لثغر طرطوشة، واتخذ منها قاعدة من قواعد الأسطول التابع لإمارته، ومن أجل ترغيب رجال البحر الأندلسيين المتواجدين بالقرب من ذلك الثغر، فقد أمد عامله على طرطوشة عبيد الله بن يحيى بن خالد بالأموال والجند، وبتشجيع من الأمير قام العامل بإجراء القطائع على المرابطين بالساحل لديه، كما صرف لهم الرواتب والنفقات
(1)
- غارات النورمانديين على الأندلس ص 41.
(2)
- تاريخ افتتاح الأندلس ص 67.
(3)
- المصدر السابق ص 5.
(4)
- تاريخ البحرية الإسلامية 2/ 161.
والعلوفات مما في يده من مال إمارة قرطبة
(1)
، كل هذا ترغيباً من الأمير عبد الرحمن الأوسط لرجال البحر الأندلسيين للعمل بقواته واستعانة منه بخبرتهم البحرية لإدارة أسطوله الناشئ.
ومما يدل على وعي الأمير عبد الرحمن الأوسط في كيفية انتقاء الرجال، أنه استفاد من تجربة أسلافه بالمشرق عند إنشائهم للبحرية هناك
(2)
. فكما أن الأمويين في الشام اعتمدوا على القبائل اليمنية في هذا المجال، نجد الأمير عبد الرحمن الأوسط يعمد إلى جماعة من بني سراج القضاعين نزلوا في بسيط ساحل يعرف ببجانة Pichina يقع بالقرب من مصب وادي أندرش Rio Andarax شرقي المرية فيكلفهم بالمرابطة على الساحل وحراسته ضد أي اعتداء خارجي
(3)
، وقد عُرفت المنطقة التي أصبحت تحت حماية بني سراج بـ"أرش اليمن أي أعطيتهم ونحلتهم
(4)
" فهم يستثمرون المنطقة ويتمتعون بخراجها مقابل حمايتهم للساحل.
وقد شهدت البحرية الأموية في الأندلس تطوراً كبيراً في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط مما مكنها من تحقيق حضور قوي في عدة ميادين
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 6.
(2)
- عن نشأة البحرية لدى الأمويين في الشام، انظر، تاريخ البحرية الإسلامية 1/ 15 - 28.
(3)
- مؤنس المسلمون في حوض البحر المتوسط ص 123.
(4)
- العذري، ترصيع الأخبار ص 92، الروض المعطار ص 79.
ححربية لعل من أهمها ما وقع سنة (234) هـ (848 م) عندما توجه الأسطول البحري الأموي المكون من ثلاثمائة سفينة لتأديب أهل جزيرتي ميورقة ومنورقة وفي ذلك يقول ابن حيان عند حديثه عن أحداث هذه السنة "وفيها أغزى الأمير عبد الرحمن أسطولاً من ثلاثمائة مركب إلى أهل جزيرتي ميورقة ومنورقه لنقضهم العهد وإضرارهم بمن يمر إليهم من مراكب المسلمين ففتح الله للمسلمين عليهم وأظفرهم بهم فأصابوا سباياهم وفتحوا أكبر جزائرهم
(1)
".
وعندما تولى الإمارة الأمير محمد بن عبد الرحمن سار على نهج والده في ضرورة الاستعداد البحري الدائم فأخذ يقوي أساطيله حتى أنه أنشأ سبعمائة غراب
(2)
فأصبحت القطع البحرية تقوم بما يمكن تسميته بوحدات دورية تقوم بمهام خفر السواحل إذ أنها تمسح السواحل المطلة على البحر المتوسط والمحيط إلى سواحل جليقية جيئة وذهاباً ترقباً لوصول أي غزاة.
ولذا عندما قام النورمانديون بهجومهم الثاني على السواحل الأندلسية سنة (245) هـ (859 م) وجدوا البحر محروساً ومراكب الأمير محمد فيه جارية مابين حائط أفرنجية في الشرق إلى أقصى حائط غليسية في الغرب
(3)
وجرت صدامات عسكرية حاول فيها الغزاة تكرار فعلتهم
(1)
- المقتبس تحقيق د. محمود مكي ص 2 - 3.
(2)
- ابن الكردبوس ص 57. المؤنس ص 99.
(3)
- المقتبس تحقيق د. محمود مكي ص 308.
الأولى، لكنهم لم ينجحوا رغم استشهاد بعض المسلمين بسببهم
(1)
، فعاد الغزاة أدراجهم من حيث قدموا بعد أن خسروا بعض مراكبهم وعدد من مقاتليهم
(2)
.
وقد ورد لدى ابن حيان
(3)
والعذري
(4)
أن مراكب النورمانديين ظهرت في سنة (247) هـ (861 م) قبالة الساحل الأندلسي وبالتحديد بالقرب من الجزيرة الخضراء لكنهم وجدوا السواحل تخضع لحراسة مشددة كما أن أمواج البحر حطمت لهم أربعة عشر مركباً، فآيسوا من غزوتهم هذه ولذا سارعوا بالعودة من حيث أتوا.
وبصفة عامة، فقد اشتدت الرقابة على السواحل الأندلسية بحيث يتم رقع كل خبر عنها صغير أو كبير إلى الأمير محمد بن عبد الرحمن، بل لقد بلغ الأمر بعامل بجانه عمر بن أسود الغساني أن رجاله وجدوا بالقرب من الساحل خشبة فأخذوها، فكتب العامل كتاباً بخبرها وطولها وعرضها ورفعه للأمير محمد، الذي شكر لعامله مدى استقصائه في ضبط ثغره
(1)
- انظر نصوص عن الأندلس ص 119 ابن القوطية ص 68. المقتبس تحقيق د. محمود مكي ص 308 - 309. الروض المعطار، ص 223، تاريخ البحرية الإسلامية 2/ 170.
(2)
- انظر التفاصيل في المقتبس، تحقيق د. محمود مكي ص 309، دولة الإسلام في الأندلس ع 1 ق 1 ص 297. غارات النورمانديين على الأندلس ص 72.
(3)
- المقتبس تحقيق: د. محمود مكي ص 311.
(4)
- نصوص عن الأندلس ص 119.
والاهتمام بما يوكل إليه
(1)
، وأورد الحميري في روضه
(2)
تفصيلات مهمة في هذا المجال فقد ذكر أن حكومة بني أمية بقرطبة ماكانت تسمح لأحد بمغادرة الأندلس إلا بسراح أي تصريح رسمي ولا تأذن لأحد بالدخول إلى البلاد إلا بعد أن يعرف من هو ولماذا هو قادم ومن أين أتى وإذا وجد قارب يزيد طوله على اثني عشر ذراعاً ممسوح العجز نقض ورد إلى الطول المسموح به وهو اثني عشر ذراعاً مما يدل على أن هناك شكل مميز للقارب الأندلسي.
هذه الصرامة في ضبط السواحل ضمنت للأندلس الأمان من أي طارق يأتي عن طريق البحر من أي جهة كانت ولم يركن الأمير محمد بن عبد الرحمن الذي امتاز باليقظة وترك الدعه إلى هذه الإحتياطات فقد أقام داراً للصناعة في قرطبة وعقد لواءاً لقائده عبد الملك بن عبد الله بن محمد بن عبد الحميد بن مغيث سنة (266) هـ (879 م) وذلك لغزو جليقية من ناحية المحيط الأطلسي، ورغم الأموال التي بُذلت على هذه الحملة والبروز الفخم الذي برز فيه القائد ابن مغيث والذي يصفه ابن حيان بأنه أفخم
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي 133 - 134، حاشية رقم 4.
(2)
- الروض المعطار ص 80.
خروج خرج به قائد من قرطبة
(1)
إلا أن الحملة فشلت نتيجة لغرق الكثير من المراكب بمن فيها في المحيط ونجا القائد ابن مغيث مع بعض رجاله
(2)
.
ومن الدلائل الأكيدة على قوة البحرية الأموية في الأندلس في عهد الأمير عبد الله بن محمد يقامها بإخضاع جزر البليار لسيطرة حكومة قرطبة، إذ يبدو أن أهل تلك الجزر قد نقضوا عهداً سبق إبرامه بينهم وبين المسلمين
(3)
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن فتح جزر البليار على عهد الأمير عبد الله جاء نتيجة دراسة دقيقة قام بها عصام الخولاني
(4)
الذي نجح بعد عودته إلى الأندلس في إقناع الأمير عبد الله بضرورة فتحها فاقتنع بكلامه "وبعث معه القطائع في البحر ونفَّر الناس معه إلى الجهاد
(5)
"فاتجه عصام سنة "(290) هـ (902 م) " على رأس أسطول معظم أفراده من المتطوعين
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 398.
(2)
- المصدر السابق ص 398 - 399، البيان المغرب 2/ 103 - 104 إلا أنه جعل اسم القائد: عبد الحميد الرعيطي.
(3)
- جزر الأندلس المنسية ص 88.
(4)
- يذكر ابن خلدون أن عصام الخولاني خرج في مركب يريد الحج، فعصفت الريح بمركبه، فنزل هو ومن معه في جزيرة ميورقه، فطال مقامهم فيها، واطلعوا خلال هذه المدة على أحوال الجزيرة وخيراتها، مما أطمعهم في فتحها، انظر: تاريخ ابن خلدون 4/ 164.
(5)
- تاريخ ابن خلدون 4/ 164.
والمرابطين على السواحل الشرقية للأندلس، فحاصرتها هذه القوات عدة أيام وأتمت فتحها حصناً حصناً
(1)
.
ويجدر بنا قبل أن ننهي الحديث عن البحرية في الأندلس في عهد الإمارة أن نشير بصورة سريعة إلى النشاط البحري في بجانة فقد شهدت المدة الأخيرة من عصر الأمير محمد بن عبد الرحمن قيام قوة بحرية في بجانة شرقي وادي أرش اليمن
(2)
فخططوا مدينة بجانه على مثال قرطبة وطردوا منها مشاهير العرب
(3)
، بعد أن استمالوا العناصر المحلية مستغلين في ذلك سوء التفاهم الذي جرى بين أولئك العرب والمحليين
(4)
ويذكر الحميري أن هؤلاء البحريين استأذنوا الأمير محمد بن عبد الرحمن في أن يعقد لرجل منهم يتولى رئاسة بجانة وذلك سنة (276) هـ (889 م)
(5)
فوافق على اقتراحهم والشيء الملاحظ أن التاريخ الذي ورد جاء بعد وفاة الأمير محمد إذ أنه توفي سنة (273) هـ لكن لعل الصواب أن الحادثة جرت سنة
(1)
- نفس المصدر والصفحة.
(2)
- عن أصول هؤلاء البحريين وكيف استقروا في بجانة انظر: إحسان عباس اتحاد البحرين في بجانة بالأندلس، (مجلة الأبحاث عدد كانون الأول السنة 23 ج 1 - 2 بيروت 1970 م) ص 7 - 8،.
(3)
- الروض المعطار ص 80.
(4)
- اتحاد البحرين في بجانة ص 8.
(5)
- الروض المعطار ص 80.
271 هـ
(1)
وأما الموافقة على الاقتراح الذي تقدم به بحريو بجانه والذي يعني تمتعهم بحكم ذاتي يكفل لهم تقدير خضوع اسمي فقط لحكومة قرطبة، فقد جاء نتيجة وقوع حكومة قرطبة تحت ظروف طائلة لا يتيح لها فرصة الاختيار
(2)
، وقد ظلت بجانة متمتعة في ظل رجالها البحريين بحكم ذاتي وتعاقب على رئاستها عدة ولاة لا دور لحكومة قرطبة في تعيينهم سوى العقد لهم
(3)
إلى أن تمكن الخليفة عبد الرحمن الناصر من إخضاعها لسيطرة قرطبة وإنها الحكم الذاتي وذلك عندما عين محمد بن رماحس والياً عليها من قبله دونما اقتراح من أهل بجانة وذلك سنة (328) هـ (939 م)
(4)
.
(1)
- المصدر السابق والصفحة حاشية رقم 1.
(2)
- عن هذه الظروف والأحداث انظر: ابن القوطية، ص 88 - 93، 98 - 100. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 307 - 309، 319 - 320، 321، 324 - 326، 330، 341 - 342، 349 - 355، 358، 393 - 396. نصوص عن الأندلس، ص 32، 34 - 35، 36، 118 - 119. الكامل: 6/ 196، 273، 343. البيان المغرب 2/ 99، 100 - 101، 103، 105، 106. نهاية الأرب 23/ 389، 391.
(3)
- قام بحريو بجانه بدور كبير في صد الهجوم الذي شنه الكونت سنتير Sunier صاحب برشلونة سنة 299 هـ عندما قام بمهاجمة السفن الإسلامية الراسية في خليج المرية وأحرق عدداً كبيراً منها، ثم حاول دخول بجانه بكن تصدي المسلمين له أجبره على الانسحاب بعد أن وقع الصلح مع عبد الرحمن بن مطرف الحاج أحد القادة البحريين في بجانه. انظر المقتبس نسخة انطونيه ص 89.
(4)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 462، اتحاد البحريين في بجانة ص 9.
البحرية الأموية في عصر الخلافة
عندما بويع الأمير عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بالإمارة سنة (300) هـ (912 م) كانت الأندلس تعج بالفتن والاضطرابات في كافة أرجائها، ومما جعل الأمر يزداد سوءاً بالنسبة له، هو قيام الدولة العبيدية في إفريقية على انقاض الدولة الأغلبية سنة (296) هـ
(1)
(909 م)، ومكمن الخطورة هنا يتمثل في أن العبيديين ورثوا الأسطول البحري للأغالبة، وهو أسطول كان له مجده وحضوره المميز في البحر الأبيض المتوسط وجزائره إبان عهد الأغالبة
(2)
.
وقد جرى اتصال بين ابن حفصون المتمرد في الجنوب الأندلسي، وبين عبيد الله المهدي الخليفة العبيدي، تأصلت على إثر ذلك العلاقات بين الطرفين
(3)
، وأصبحت مراكب ابن حفصون تصل إليه قادمة بالميرة من العدوة المغربية، حتى أن الأمير عبد الرحمن بن محمد عندما دخل الجزيرة الخضراء يوم الخميس لأربع خلون من ذي القعدة سنة (301) هـ (يونيو (914) م) وافق دخوله الجزيرة وصول عدة مراكب لعمر بن حفصون قادمة من العدوة المغربية وهي تحمل الميرة إليه، فلما عرفوا بخبر الناصر هربوا
(1)
- المقريزي، إتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، (تحقيق: د. جمال الدين الشيال، منشورات لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1387 هـ 1967 م) 1/ 63.
(2)
ـ د. محمد الطالبي، الدولة الأغلبية، (ترجمة د. المنجي الصيادي، دار الغرب الإسلامي بيروت 1985 م). ص 425 - 580. والمصادر المذكورة لديه.
(3)
- أعمال الأعلام 2/ 32.
بمراكبهم إلى عرض البحر، فأدركهم رجال الناصر وأعادوهم إلى الجزيرة الخضراء، حيث تم إحراق تلك المراكب جميعاً أمامه
(1)
.
هذه الحادثة جعلت الأمير الأموي يدرك أهمية البحر، فاستعد للأمر، وأخذ يعمل بجد على ضبط سواحل دولته وفرض كلمته على المياه المحيطة بها، لأجل ذلك قام باستقدام الكثير من قطع الأسطول الأموي المرابطة بمالقة واشبيلية وغيرهما، فحضرت إليه فجعل بعضها ترابط قبالة ساحل الجزيرة الخضراء وهي مستعدة بالرجال وقوارير النفط والآلات الحربية الخاصة بالبحر، كما أمر القسم الباقي من رجال الأسطول الأموي من عرفاء بحريين ونواتيه بالدخول إلى مراكبهم، والقيام برحلات دورية على طول الساحل الجنوبي الشرقي للأندلس، وذلك من ساحل الجزيرة الخضراء وحتى ساحل تدمير
(2)
، وبهذا الإجراء أصبحت المراكب لا تستطيع أن تسخدم المرافئ البحرية الأندلسية إلا إن كانت تدين بالطاعة لحكومة قرطبة
(3)
.
وقد ذكر الحميري أنه كان في الجزيرة الخضراء "دار صناعة بناها عبد الرحمن بن محمد أمير المؤمنين للأساطيل، وأتقن بناءها وعالي
(1)
- المقتبس تحقيق: شالميتا ص 87.
(2)
- المصدر السابق، ص 87 - 88. قارن تاريخ ابن خلدون 4/ 139. د. السيد عبد العزيز سالم، المغرب الكبير، 2/ 610.
(3)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 88.
أسوارها"
(1)
، ويبدو أن السبب في إقامة هذه الدار في الجزيرة راجع إلى أن مرساها أيسر المراسي للجواز وأقربها من بر العدوة
(2)
، ولتقف بقوة أمام دار الصناعة الضخمة التي أقامها عبيد الله المهدي في المهدية
(3)
.
واجتهد الأمير الأموي بتقوية أساطيله، وبلغ به الأمر أنه كان لا يترك لعمال دور الصناعة فرصة للراحة
(4)
كما اهتم ببجانة وأسطولها البحري
(5)
، وبواسطة القوة البحرية التي طورها سواء في الجزيرة الخضراء أو غيرها، تمكن من الاستيلاء على بعض ثغور ساحل العدوة المغربية المقابل للسواحل الأندلسية، فبسط نفوذه على مليله سنة (314) هـ
(6)
(926 م) وعلى سبته في يوم الجمعة صدر ربيع الأول سنة (319) هـ (مارس (931) م).
وعندا استنجد موسى بن أبي الغفافية بالخليفة عبد الرحمن الناصر، ليمده بقوة عسكرية تمكنه من القبض على الحسن بن عيسى بن أبي العيش، بعث إليه الخليفة بقوة عسكرية غادرت إلى مياه العدوة المغربية بواسطة الأسطول الأندلسي، وذلك في يوم السبت لليلتين خلتا من
(1)
- الروض المعطار ص 223.
(2)
- المصدر السابق والصفحة.
(3)
- اتعاظ الحنفا، 1/ 70.
(4)
- في تاريخ المغرب والأندلس ص 199 - 200.
(5)
- الروض المعطار ص 80.
(6)
- المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب ص 89.
جمادى الأولى سنة (319) هـ
(1)
(مايو (931) م) وقد وصف ذلك الأسطول بأنه أفخم أسطول أجراه ملك من قبل، فقطعه متكاملة وعدده متواترة، انتهى عدد قطعه إلى مائة وعشرين قطعة، مع الحمالة والفتاشة وقوارب الخدمة، وكان عدة من ركبه نحو سبعة آلاف رجل، خمسة آلاف من البحريين، وألف من الحشم، وغزا فيه من وجوه أهل بجانة والمرية تطوعاً في مراكبهم تسعة رجال
(2)
وتولى قيادة الأسطول أحمد بن محمد بن إلياس، وسعيد بن يونس بن سعديل
(3)
.
وبعد ذلك أخذت مرافئ العدوة المغربية تخضع تباعاً لكلمة الخليفة عبد الرحمن الناصر، وذلك بفضل وجود أساطيل قوية تحت سيطرته وقادة أكفاء ورجال بحر مدربين، ففي سنة (322) هـ (934 م) اتجه عبد الملك بن سعيد بن حمامة على رأس الأسطول الأموي فأخضع أصيلة
(4)
، وفي العاشر من شهر رمضان من العام التالي صدر أمر الخليفة الناصر للقائد ابن أبي حمامة بالتوجه إلى سبتة وطنجه، فسارع بتنفيذ الأوامر رغم أنه كان عند صدور الأمر إليه في سواحل برشلونة يؤدي مهمة عسكرية كان قد
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 289. المغرب في ذكر بلاد إفريقة والمغرب ص 104.
(2)
- منهم، محمد بن رماحس، وإبراهيم بن يزيد الرداد، وقاسم بن عبد الرحمن، ومحمد بن سهل أخو هارون وغيرهم، انظر المقتبس تحقيق شالميتا ص 313.
(3)
- المصدر السابق ص 312 - 313.
(4)
- نفسه ص 347.
بدأ بها منذ شهر رجب من تلك السنة
(1)
، فتمكن القائد ابن أبي حمامة من إخضاع طنجه، وظل متردداً بين المرافئ الساحلية للمغربين الأقصر والأوسط إلى أن ضمن خضوعها لحكومة قرطبة ثم عاد إلى الأندلس في شهر صفر سنة (324) هـ (يناير (936) م)
(2)
.
هذه المهام الحربية التي كان الأسطول الأموي يقوم بها في الثغور الساحلية للمغربين الأوسط والأقصى، هي في حقيقتها مجابهة حربية مع الأسطول العبيدي، وسيتواصل الاصطدام بين الأسطولين مرات عديدة أفضل إيرادها وفق التسلسل التاريخي لها.
والأحداث التي شهدتها السنوات الأول من عصر الخليفة الناصر لم تجعله يغفل عن حقيقة البحريين في بجانة، وأنهم يعيشون أشبه ما يكون في ظل حكم ذاتي، ولذا قرر الخليفة إزالة هذه الصفة عنهم، ففي سنة (328) هـ (939 م) أصدر أوامره بتعيين محمد بن رماحس والياً على بجانة
(3)
، وفي العام التالي ضمت إلبيرة والمرية إلى نظر محمد بن رماحس بجانب إشرافه على بجانة
(4)
، وأصبحت منطلقاً للهجمات البحرية التي كان يشنها محمد بن رماحس، ففي سنة (328) هـ (940 م) كانت له
(1)
- نفسه ص 366 - 368.
(2)
- نفسه ص 368 - 369.
(3)
- نفسه ص 462.
(4)
- نصوص عن الأندلس ص 81.
حملة بحرية وصل بها إلى أتيورياس
(1)
، وفي يوم الاثنين (12) شوال من سنة (331) هـ (20 يوليو من سنة (943) م) غادر المرية في ثلاثين مركباً وستة شواني غزا بها بلاد الفرنجة
(2)
، ثم في سنة (332) هـ (945 م) قاد حملة بحرية مكونة من خمس عشرة قطعة حربية وشينين وفتاش ضد بني محمد بالمغرب
(3)
وفي يوم السبت للنصف من ربيع الأول سنة (334) هـ (16 أكتوبر سنة (945) م) توجه - أيضاً - ابن رماحس على رأس أسطوله فهاجم أسطول العبيديين المتواجد على السواحل الإفريقية
(4)
.
وبالنظر إلى هذا الحضور المميز للأسطول الأموي، يمكن القول بأنه قد أصبح لدى الخليفة عبد الرحمن الناصر قوة بحرية مرهوبة الجانب، فقد وصل عدد قطع الأسطول الأموي في عهده نحو مائتي قطعة، يتولى قيادتها محمد بن رماحس
(5)
ومن هنا ذهب بعض الباحثين إلى اعتباره المؤسس الحقيقي للبحرية في الأندلس
(6)
.
وما كان للبحرية الأندلسية أن تصل إلى ما وصلت إليه في عهد الخليفة الناصر لولا توفر عامل معم في هذا المجال، وأعني به إنشاء دور
(1)
- المصدر السابق والصفحة.
(2)
- نفسه والصفحة.
(3)
- نفسه ص 82.
(4)
- نفسه والصفحة.
(5)
- ابن خلدون المقدمة 691.
(6)
- انظر، تاريخ البحرية الإسلامية 2/ 175.
"للصناعة
(1)
" ومن الطبيعي ألا تقام دور الصناعة إلا على شواطئ البحار وضفاف الأنهار، إذ أن هذا يكفل للقطع البحرية ميزة استراتيجية تتمثل بسرعة الحركة، مما يعني وفرة في الوقت والجهد، وقد رأينا أهمية موقع دار الصناعة عند حديثنا عن المرية وكيف أنها قد تغلبت على بجانة بسبب نزوح الأخيرة عن الساحل. وقد نشأت بالأندلس عدة دور للصناعة اعتنى أمراء وخلفاء بني أمية بتنظيمها وإقامتها وفق أسس تكفل لهم الغرض من وجودها. من هذه الدور:
دار صناعة "الجزيرة الخضراء" و "مالقة
(2)
" و"لقنت
(3)
"
(1)
- دور: جمع دار، ودار الصناعة يطلق على المكان الذي أعد لصناعة السفن، وقد أخذ الأوربيون اللفظ عن العرب وذلك عن طريق اتصالهم بالأندلس، فعرفت بالاسبانية " Darcinah" فطرأ على هذا اللفظ عدة تغيرات حتى أصبحت تعرف بالأسبانية " Arsenal""Arsenale" ثم عاد العرب وأخذوها عن الإسبان بلفظ " Tarsanah" معتقدين أنها تركية فعربوها إلى ترس خانة أو ترسانه، وتجدر الإشارة إلى أن لفظ أدميرال " Admiral" مأخوذ عن أمير البحار، انظر جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي: 1/ 161.
(2)
- ابن الخطيب: معيار الإختيار. (تحقيق د. محمد كمال شبانه،) بدون تاريخ، الإمارات- المغرب ص 89 ..
(3)
- يذكر الإدريسي أن لقنت مع صغرها فإنها كانت تصنع بها المراكب السفرية والحراريق، انظر: نزهة المشتاق، ص 558.
و"شلب
(1)
" و"قصر أبي دانس
(2)
"و"دانية
(3)
" و"شنتمريه بالبرتغال
(4)
" و"شلطيش
(5)
" و "المنكب
(6)
".
وأما "طرطوشة" فقد أنشأ فيها الخليفة عبد الرحمن الناصر داراً للصناعة، ومن الملاحظ أنه رغم صمت المصادر الإسلامية عن تدوين
(1)
- انظر، نزهة المشتاق، ص 542. الروض المعطار، ص 342.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 295 قصر أبي دانس، حصن في ناحية الجوف في الأندلس، ينسب لبانيه دانس بن عوسجة المصمودي، ويسمى الموضع حالياً " Alcacer de sal" أي قصر الملح، وهو اليوم مركز إداري في مديرية يابرة في البرتغال، وفي منتصف المسافة بين باجه والاشبونة، ولازالت بقية الحصن العربي قائمة فيه. انظر، جمهرة أنساب العرب، ص 501، المقتبس، نشرة أنطونيه، ص 254، تعليق منتقى، ص 290، الحلة السيراء، 2/ 272 حاشية رقم 1. الروض المعطار ص 475.
(3)
- دانيه دار إنشاء والسفن واردة عليها وصادرة منها، كما أنها مركز من المراكز الرئيسية التي ينطلق منها الأسطول في حملاته. انظر: نزهة المشتاق ص 557. الروض المعطار، ص 232.
(4)
- وهذه أحد المواقع المهمة التي تنشأ بها السفن، ومما ساعد على ذلك أن بالقرب منها توجد عدة جزر تنبت شجر الصنوبر. انظر الروض المعطار، ص 347.
(5)
- شلطيش " Saltes" هي أكبر الجزر الواقعة على مصب النهر الأحمر Rio Tinto ونهر آخر يسمى الأوديل " Odiel" وشلطيش تقع إلى الغرب من إشبيلية، وتبعد عن جزيرة فارس بمائة ميل اشتهرت بصناعة مراسي السفن، ومما ساعد على ذلك وفرة الحديد بها، وقد خرجت من أيدي المسلمين سنة 646 هـ. انظر، نزهة المشتاق. ص 542 الحلة السيراء، 2/ 180 حاشية رقم 4. الروض المعطار، ص 343 - 344.
(6)
- انظر: معيار الاختيار، ص 94 - 96. الروض المعطار، ص 548.
تاريخ إنشائها، إلا أن لوحة تذكارية وجدت مثبتة في الجادر الخلفي للكنيسة العظمى في طرطوشة احتوت على معلومات عن دار الصناعة تلك، فاللوحة المذكورة جاءت مربعة الشكل تقريباً، طول ضلعها خمسين سنتيمتر تقريباً، كتب فيها عشرة أسطر جاء فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بإنشاء هذه الدار عدة الصناعة والمراكب عبد الله عبد الرحمن أمير المؤمنين أيده الله، فتم بناؤها على يد قائده وعبد هـ عبد الرحمن بن محمد بعون الله ونصره في سنة ثلث وثلثين وثلاثمائة وكتب عبد الله بن كليب
(1)
".
ومما ساعد على قيام دار الصناعة بطرطوشة وفرة أخشاب الصنوبر بغاباتها وهي أخشاب وصفت بأنها من أنسب الأخشاب لصناعة السفن وذلك لطولها وغلظها وعدم تأثير السوس فيها
(2)
وبالإضافة إلى هذه الإنشاءات الوفيرة أنشأ الناصر أيضاً دار صناعة ضخمة في المرية إذ ثبت أهمية المرية كمنطلق رسمي لحركة الأساطيل منها ومع توالي الأيام أخذت
(1)
- الحلل السندسية، 3/ 10 حاشية رقم 1. الآثار الأندلسية الباقية ص 121 - 122.
(2)
- نزهة المشتاق ص 555، الروض المعطار ص 391. وقد اتبع الأندلسيون في نقل هذه الأخشاب المهمة في صناعة السفن طريقة فريدة، فقد ذكر الإدريسي أن هناك حصن "قلصة" تتصل به جبال كثيرة ينبت فيها شجر الصنوبر على نطاق واسع، فيتم قطع هذه الأشجار، ويتم إلقاء الأغصان الصالحة للصناعة في النهر حيث يحملها بدوره إلى جزيرة شقر ومنها إلى حصن قلبيره، ثم تحملها المراكب إلى دانية فتصنع منها السفن الكبار والمراكب الصغار، انظر: نزهة المشتاق ص 560.
تسحب البساط رويداً رويداً من بجانة التي لا تقع على الساحل مباشرة
(1)
وهذا مما يحرم الأساطيل سرعة الحركة فتنبه لهذا الأمر الخليفة عبد الرحمن الناصر، فأمر بإنشاء مدينة المرية سنة (343) هـ (954 م)
(2)
، وأنشأ بها داراً لصناعة السفن جاءت على قسمين قسم خاص بالمراكب الحربية وآخر بالمراكب التجارية وأحاطها بسور ضخم منيع
(3)
وبذلك أخذت المرية تزدهر تدريجياً فاتسعت رقعتها ونما عمرانها وأصبحت هي وبجانة كفرسي رهان حيث وصفتا بأنهما "بابي المشرق، منها يركب التجار وفيها تحل مراكب التجار وفيها مرفأ ومرسى للسفن والمراكب
(4)
".
وبعد أن أصبحت المرية قاعدة رئيسة للأساطيل الأموية أصدر الخليفة عبد الرحمن الناصر أوامره سنة (344) هـ (955 م) للهيئة المشرفة على دار الصناعة بالمرية بأن ينشأ مركب بحري لم يُصنع مثله من قبل ثم شحنه بالأمتعة ووجهه للمشرق وفي أثناء رحلته تلك صادف المركب بطريقه مركب بحري فيه رسول موفد من قبل الحسين بن علي حاكم صقلية متجه إلى زعيم العبيديين المعز لدين الله فأوقفه أصحاب المركب الأندلسي وصادروا ما فيه من أمتعة وكتب كانت مرسلة للمعز لدين الله
(1)
- تاريخ مدينة المرية ص 20.
(2)
- نصوص عن الأندلس ص 86، وورد في الروض المعطار ص 537 أنها بنيت سنة 344 هـ.
(3)
- نصوص عن الأندلس 86.
(4)
- معجم البلدان: 5/ 119.
الذي ما أن علم بهذه الحادثة حتى جهَّز أسطولاً كاملاً وولى عليه الحسين بن علي ووجهه إلى الأندلس فهاجم المرية وتمكن رجاله من التوغل في مرسى المرية فوجدوا عدداً من السفن راسية فيه فأحرقوها ووافق هجومهم قدوم المركب الكبير من المشرق محملاً بمختلف أنواع الأمتعة للخليفة عبد الرحمن الناصر بالإضافة إلى الجواري والمغنيات وغيرهن فاستولى عليه المهاجمون ولم يكتفوا بذلك بل دخلوا المرية وقتلوا ونهبوا ثم غادروا إلى المهدية بسلام
(1)
، فجاء رد فعل الخليفة الأموي سريعاً فقد هاجم الأسطول الأندلسي بقيادة أمير البحر غالب بن عبد الرحمن سواحل إفريقية سنة (345) هـ (956 م) في ستين قطعة حربية ركزت هجومها على مرسى الخرز وساحل سوسه
(2)
.
وهكذا أصبح للأسطول الأندلسي الكلمة النهائية في المياه المحيطة بالأندلس من الناحيتين الشرقية والغربية، فالقطع الحربية البحرية المرابطة في قاعدة المرية تقف في مواجهة أي اعتداء قد يأتي من قبل العبيديين في حين أن قاعدة إشبيلة البحرية تذود عن الساحل الغربي ضد أي هجوم يقوم به النورمانديون
(3)
.
(1)
- انظر الكامل 7/ 253 - 254.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 221. تاريخ مدينة المرية ص 39.
(3)
- تجدر الإشارة هنا إلى أن خطر الاعتداءات النورماندية على الأندلس بدأ يأخذ نمطاً آخر غير نمط الهجمات السريعة التي اعتادوا شنها كما في عهد الإمارة والشيء الذي طرأ على وضع النورمانيين يعود سنة 300 هـ/912 م وذلك عندما استقروا في ولاية نورمانديا " Normandia" في غرب فرنسا نتيجة إقطاع ملك فرنسا شارل الثالث الملقب بالساذج Le-Simple زعيم النورماندية رولون Rollon هذه المقاطعة التي عرفت باسم نورمانديا وقد مكنهم في هذه المقاطعة من شن هجمات برية على الثغر الأعلى للأندلس من ذلك أنهم أسروا يحيى بن محمد بن عبد الملك عامل الخليفة عبد الرحمن الناصر على بربشتر والقصر Alquezar، وذلك يوم السبت لثمان مضين من شوال سنة 330 هـ/642 م ففداه رجل من التجار بألف مثقال وقدم يحيى إلى بلاط الخليفة الناصر فأمر للذي فداه بتضعيف ما أداه وصرفه إلى بربشتر فدخلها سنة 331 هـ. انظر، دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص 274 - 276.
وعندما تولى الخلافة الحكم المستنصر ازداد اهتمامه بالأساطيل البحرية وأخذت دور الصناعة تنتج المزيد من القطع البحرية فوصل عددها في عهده إلى ستمائة جفن بين غزوي وغيره
(1)
، والسبب في ذلك هو حرصه على استمرارية السيطرة على مضيق جبل طارق
(2)
لخشيته من أي هجوم مفاجئ قد يشنه الأسطول العبيدي ولذا نراه يقوم بزيارة تفقدية لقاعدة المرية، وذلك في شهر رجب من سنة (353) هـ (964 م) فوقف على ما تم إنجازه من أعمال التحصينات وشاهد حصن القبطة ونظر في الأسطول المرابط هناك وجدده وكانت عدد قطعه في ذلك الوقت ثلاثمائة قطعة
(3)
.
(1)
- أعمال الأعلام: 2/ 42.
(2)
- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص 278.
(3)
- البيان المغرب 2/ 236، الإحاطة 1/ 478 - 479.
وقبل ذلك بعدة أشهر كتب الخليفة الأموي لأهل سبتة سجلاً أسقط فيه عنهم الوظائف المخزنية والمغارم السلطانية، وذلك في شهر صفر من سنة (353) هـ
(1)
(964 م)، كما أنه اتبع سياسة أبيه في التعامل مع أمراء المغرب ورؤساء قبائله، إذ استخدم معهم أسلوبي الترغيب والترهيب، فاستجاب له أولئك الزعماء وبعثوا إليه بوفودهم
(2)
.
وكان الخليفة الأموي يخشى من تكرار هجوم النورمانديين على سواحل بلاده، ولعل أول هجوم نورماندي على السواحل الأندلسية في عهد المستنصر بالله تم في أول رجب سنة (355) هـ (يونيو (966) م) فقد هاجموا الساحل الغربي وركزوا هجومهم على قصر أبي دانس، في ثمانية وعشرين مركباً
(3)
، في كل مركب ثمانون محارباً
(4)
، ثم واصلوا تقدمهم في سهول لشبونة، حيث تصدى لهم المسلمون فسقط عدد من الشهداء والقتلى، وهنا تحرك الأسطول المرابط بإشبيلية المتخصص في الذود عن الساحل الغربي، فأدرك الغزاة النورمانديين بوادي شلب، فتمكن المسلمون من تحطيم معظم مراكب النورمانديين وقتلوا معظم مقاتلتهم واستنقذوا
(1)
- البيان المغرب 1/ 227.
(2)
- انظر، المقتبس، تحقيق: د. عبدالرحمن الحجي، ص 27، 39 - 57، مفاخر البربر، ص 5 - 6 البيان المغرب، 2/ 239 - 244.
(3)
- المصدر السابق 2/ 238 - 239.
(4)
- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص 286.
مَنْ بأيديهم من أسرى المسلمين وهرب من بقي من النورمانديين وعادوا إلى ديارهم
(1)
.
ويبدو أن الخليفة المستنصر لفت انتباهه من جراء التقارير التي ترفع إليه بشكل مفصل عن الهجوم النورماندي الأخير أن مراكبهم البحرية تمتاز بالسرعة الأمر الذي يكفل للمهاجمين سرعة الحركة والمناورة ولذا فقد اتخذ خطوة تدل على متابعة دقيقة لمجريات الأحداث واستيعاب جيد لنتائجها فقد أصدر أوامره لوزير عيسى بن فطيس بإنشاء أسطول بنهر الوادي الكبير تكون المراكب فيه على هيئة مراكب النورمانديين
(2)
ليقاتلهم بنفس سلاحهم إذ أنه كان يتوقع عودتهم لمهاجمة السواحل الأندلسية، ولقد صدق ظنه إذ لم تمض خمس سنوات على هجومهم السابق حتى عاودوا الهجوم مرة أخرى فقد ذكر ابن حيان أنه في صدر شهر رمضان المبارك سنة (360) هـ (يوليو من سنة (970) م) وصلت الأخبار بظهور النورمانديين في مياه خليج الباسك في طريقهم إلى السواحل الغربية للأندلس فاستدعى الخليفة المستنصر قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس وأمره بالتوجه إلى المرية ليقود أسطولها ويتجه إلى الغرب ثم استدعى الوزير القائد غالب بن عبد الرحمن الذي يبدو أنه القائد العام للقوات المسلحة الأندلسية البرية والبحرية وناقش الوضع معه ثم اتفقا
(1)
- البيان المغرب 2/ 238 - 239.
(2)
- المصدر السابق، ص 239.
على خطة معينة يذهب بموجبها الوزير القائد غالب إلى الغرب ليتولى قيادة الجيش براً وبحراً
(1)
ورغم هذا الاستنفار الهائل للأساطيل الأندلسية إلا أنه لم يقع اصطدام بينها وبين المراكب النورماندية وذلك لأن النورماندين نزلوا بساحل جليقية في يوم الأحد الثاني عشر من رمضان سنة (360) هـ (يوليو (971) م) ثم إنهم دخلوا نهر دويره وتقدموا في غارتهم إلى مدينة شنت بريه " Santaver" لكنهم لم يفلحوا فانصرفوا خائبين
(2)
. وقد وصل إلى قرطبة في يوم السبت (25) رمضان سنة (360) هـ (يوليو سنة (971) م) رسول من القومس غند شلب
(3)
يحمل للخليفة الأموي المستنصر أخبار الغزاة النورماندين ويخبره بعودتهم
(4)
وتجد الإشارة هنا إلى أن الخليفة المستنصر لم يعتمد في تحركاته على الأخبار التي تفد إليه من
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 23 - 24.
(2)
- المصدر السابق، ص 27.
(3)
- قد يكون أصل هذا الاسم Gundislavus ثم أصبح بالأسبانية جونثالو Gonzalo انظر: المقتبس، د. عبدالرحمن الحجي ص 254.
(4)
- المصدر السابق، ص 27. ولعل السبب في إرسال هذا الرسول إلى قرطبة لتنبية حكومتها على تحركات النورمانديين، ويعود إلى رغبة "غند شلب" في كسب يد لدى الخليفة المستنصر ليضمن فيما بعد مساعدته إما ضد النورمانديين إذا كرروا غزواتهم أو ضد خصومه من رؤساء وممالك النصرانية. ويرى الدكتور أحمد العبادي أن إرسال الرسول يدل على أن تحالفاً وقع بين الخليفة المستنصر وغندب شلب ليمده الأخير بأخبار النورمانديين الذين تفاقم خطرهم خاصة بعد إقامتهم لقاعدتهم في نورمانديا في فرنسا. انظر: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص 275.
غند شلب، فقد كان يعتمد على شبكة منظمة من العيون لها تحركات دقيقة تكفل وصول الأخبار إليه أولاً بأول ولذا فإن عيونه أوصلت إليه خبر النورمانديين قبل وصول رسول غند شلب.
ورغم كل ذلك نجد أن الخليفة المستنصر لم يركن للدعة بل واصل تحركاته فأصدر أوامره بتكليف الفَتَيين الجعفريين مباركاً ومبشراً بالذهاب إلى كورة رية وشذونه لشحن الأطعمة منها
(1)
وإرسالها للأسطول في إشبيلية المتأهب للذهاب إلى الغرب وعقب شهر رمضان تحرك قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس بأسطول من بجانه إلى اشبيلية حيث تجتمع الأساطيل ويذهب بها جميعاً لمواجهة النورمانديين
(2)
ويبدو أن ابن رماحس قد مكث في اشبيلية عدة أيام ووصلت خلالها أخبار بعودة النورمانديين إلى ديارهم، ولذا فقد عاد بأسطوله إلى المرية وذلك يوم الاثنين (26) ذي القعدة سنة (360) هـ (22 سبتمبر (971) م)
(3)
. وأما الوزير غالب بن عبد الرحمن الذي خرج للغرب لملاقاة النورمانديين فإنه عاد إلى قرطبة حيث وصل فحص السرادق في يوم الخميس ليلة الجمعة الأول من شهر صفر سنة (361) هـ (22 نوفمبر (971) م)
(4)
.
(1)
- هذا يدل على وجود مستودعات غذائية ضخمة في هذه الكورة.
(2)
- انظر، المقتبس: تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 27 - 28. البيان المغرب 2/ 241.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 58.
(4)
- المصدر السابق، ص 66.
وواصل الخليفة المستنصر جهوده في التصدي للنورمانديين، ففي يوم الخميس من شهر رمضان سنة (361) هـ (21 يونيه (972) م) عقد الخليفة في مجلسه اجتماعاً خاصاً مع وزرائه تبودلت فيه الأراء بشأن النورمانديين واتفق الجميع على استدعاء صاحب الخيل الناظر في الحشم زياد بن أفلح وصاحب الشرطة هشام بن محمد بن عثمان فأمرهما الخليفة بالتأهب للخروج على رأس الصائفة المتجهة للغرب، وبعد أن أتما استعدادتهما قابلا الخليفة في يوم الأربعاء (11) رمضان (27 يونيه) فأوصاهما بما شاء وخلع عليهما ثم ودعهما
(1)
، فانطلقا مباشرة إلى غايتهما حيث وصلا إلى شنترين فتأكدا من عودة النورمانديين إلى ديارهم وزاد تأكدهما من ذلك بعد وصول العيون التي سبق وأن بعثها لها الغرض إلى أن شنت ياقب وبذلك لم يعد أمامهما سوى العودة إلى حاضرة الخلافة فوصلا مدينة الزهراء في الخامس من ذي القعدة سنة (361) هـ (أغسطس (972) م)
(2)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تحرشات النورمانديين بالأندلس كانت على عهد الخليفة المستنصر كلها تتم على الساحل الغربي باستثناء غارة واحدة أشار إليها ابن الخطيب فذكر أن حصن القبطة بالمرية على الساحل الشرقي للأندلس تعرض للهجوم من قبل المراكب النورماندية
(3)
.
(1)
- نفسه، ص 78 - 79.
(2)
- نفسه ص 92 - 93.
(3)
- أعمال الأعلام، 2/ 40 - 41.
وبعد وفاة الخليفة المستنصر وتولي ولده هشام المؤيد الخلافة وتسلط المنصور بن أبي عامر عليه واستبداده بجميع أمور الدولة، واصل المنصور الاهتمام بالأساطيل وتطويرها ويبدو أنه حقق في هذا المجال الشيء الكثير وأنشأ من السفن أنواعاً عديدة فأصبح الأسطول بمراكبه حديث المجالس
(1)
، ونظراً لاتباع المنصور سياسة سلفه الناصر والمستنصر تجاه المغرب فقد اتخذ من سبتة قاعدة بحرية حربية تنطلق منها عمليات رجاله في المغرب ولقد اهتم بتحصينها اهتماماً كبيراً وتجلى كل هذا الاهتمام بصورة واضحة عندما زحف الأمير بلقين بن زيري صاحب أفريقية فهزم قبيلة زناتة وأجلاها عن أماكنها فاجتاز أمراؤها البحر إلى المنصور بن أبي عامر مستغيثين به، فشمر للأمر وانتقل بعساكره وأجناده إلى الجزيرة الخضراء، ثم أرسل جيشاً إلى سبتة بقيادة جعفر بن علي بن حمدون الأندلسي، ثم أصبح المدد يأتي بانتظام من الجزيرة الخضراء إلى سبتة حتى أن البحر أصبح أبيضاً من كثرة المراكب الأندلسية التي تعبر المضيق جيئة وذهاباً
(2)
فلما أشرف الأمير بلقين بن زيري بقواته من أعلى جبل النور المطل على سبتة وشاهد عظم تحصينها وكثرة العساكر وتوالي المدد القادم من الجزيرة إلى سبته أدرك ألا طاقة له بها، فقال لمن معه قبل أن ينصرف "إنما سبته حية ولت ذنبها حذاءنا وفغرت فاها نحونا
(3)
" وتكررت
(1)
- نفح الطيب 4/ 87.
(2)
- مفاخر البربر ص 17.
(3)
- نفس المصدر والصفحة.
استعانة المنصور بالأسطول مرة أخرى وذلك عندما ثار الحسن بن جنون ضد الدولة الأموية بالمغرب فعسكر بالجزيرة الخضراء واتخذها قاعدة عسكرية له يدير منها المعارك ويشرف على سيرها ثم أرسل الأساطيل إلى العدوة المغربية تحمل الرجال والأموال والسلاح فتم القضاء على ثورة الحسن وجيء برأسه إليه في جمادى الأولى سنة (375) هـ (سبتمبر (985) م)
(1)
.
وبالإضافة إلى ماسبق نجد المنصور بن أبي عامر يستخدم الأساطيل لنقل قواته إلى العدوة المغربية وذلك للقضاء على حركة الزعيم المغراوي زيري بن عطية عندما أعلن تمرده ضد المنصور سنة (386) هـ (996 م)
(2)
وبعد معارك طاحنة جرت بين الطرفين تمكنت القوات الأندلسية من إخضاع المتمرد وذلك سنة (389) هـ (999 م)
(3)
.
وكما استخدم المنصور الأسطول في نقل قواته ومستلزماتهم إلى العدوة المغربية فكذلك استخدم الأسطول في نقل الأطعمة والأسلحة والعدد في غزوته الثامنة والأربعين التي شنها ضد جليقية في صائفة سنة (387) هـ (988 م) إذ أمر قائد الأسطول بأن يسبقه فيدخل من المحيط
(1)
- انظر، مفاخر البربر ص 19 - 20، أعمال الأعلام: 3/ 222 - 224. البيان المغرب 2/ 281. الاستقصاء: 1/ 203 - 204.
(2)
- مفاخر البربر، ص 28. أعمال الأعلام، 3/ 158، الاستقصاء، 1/ 213.
(3)
- انظر، مفاخر البربر، ص 28 - 34. أعمال الأعلام 3/ 159، الاستقصاء 1/ 214 - 215.
الأطلسي ويستمر في مسيره إلى موضع حدده له على نهر دويره بحيث يتم الالتقاء عند هذه النقطة وقد قام الأسطول بنقل أفراد الجيش إلى الجانب الآخر من النهر حيث انطلق المنصور بقواته حتى بلغ شنت ياقب
(1)
.
أنواع السفن في الأساطيل الأندلسية:
"الشواني"، والشيني سفينة حربية كبيرة، تعتبر من أهم وأقدم قطع الأسطول الإسلامي بصفة عامة
(2)
وهي تمتاز بضخامة الحجم، ولذا فهي تحمل مائة وخمسون مقاتلاً
(3)
وتجدف بمائة وأربعين مجذافاً
(4)
كما أنها مزودة بأهراء "مخازن" لحفظ الأطعمة، وصهاريج لخزن الماء العذب
(5)
.
ويبدو أن هذا النوع من السفن كانت تقام عليه الأبراج والقلاع للدفاع والهجوم ورمي الأعداء بقوارير النفط، يدل على ذلك قول الشاعر ابن حمديس في مدحه لأبي يحيى الحسن بن علي ابن يحيى حيث قال: -
أنشأت شواني طائرة
…
وبنيت علىماء مدنا
ببروج قتال تحسبها
…
في شم شواهقها قننا
ترمي ببروج إن ظهرت
…
لعدو محرقة بطنا
(1)
- البيان المغرب، 2/ 295 - 296.
(2)
- البحرية في مصر الإسلامية وآثارها الباقية ص 352.
(3)
- جمال الدين محمد بن سالم، مفرج المكروب في أخبار بني أيوب، (تحقيق: د. جمال الدين الشيال، المطبعة الأميرية القاهرة، 1975 م)، 2/ 13.
(4)
- الأسعد بن مماتي، قوانين الدواوين، ص 340، عبد الرحمن زكي السلاح في الإسلام، ص 36.
(5)
- د. عبد المنعم ماجد، تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى ص 74.
وبنفط أبيض تحسبه ماء وبه تذكي السكنا
(1)
"الأغربة" جمع غراب وغربان وقد سمي بهذا الاسم لأن مقدمه يشبه رأس الغراب أو الطائر
(2)
، ويبدو أن الشراع المستخدم فيه كان أبيض، يتضح ذلك من قول ابن حمديس:
سواد الغراب في بياض الحمامة
…
تطير به سبحاً على الماء أو تجري
(3)
وقد عبَّر ابن الآبار عن ذلك التشابه القائم بين هذا النوع من المراكب وبين الغربان بقوله:
ياحبذا من بنات الماء سابحة
…
تطفو لما شبَّ أهل النار تطفئهُ
تُطيرُها الريح غرباناً بأجنحة الـ
…
حمائم البيض للإشراك تَرزَؤُه
من كلّ أدهم لا يُلفى به جَربٌ
…
فما لراكبه بالقار يهنئه
يدعى غراباً وللفتخاء سرعته
…
وهو ابن ماء وللشاهين جُؤجُؤه
(4)
وعدد المجاديف في هذا النوع من المراكب مائة وثمانين مجدافاً، ويمتاز الغراب بأنه مزوَّد بجسر من الخشب يمكِّن الجند من الوصول إلى مركب
(1)
- عبد الجبار بن حمديس، الديوان، (تصحيح، د. احسان عباس، دار صادر، بيروت 1379 هـ)، ص 513.
(2)
- السلاح في الإسلام ص 42.
(3)
- ديوان ابن حمديس، ص 226.
(4)
- هذه الأبيات هي من قصيدة طويلة مدح فيها أبا زكريا الحفصي عند احتلاله تلمسان وفرار يغمراسن، وذلك سنة 640 هـ، انظر: - ديوان ابن الأبار القضاعي، (قراءة وتعليق د. عبدالسلام الهراس، تونس، الدار التونسية للنشر ط. 1405 هـ / 1985 م). ص 42.
العدو
(1)
، ويبدو أنه كان مركباً حربياً قوياً بحيث أن له دور فعال في أي معركة يخوضها حتى شبه بأنه أشد فتكاً من الصقر وفيه يقول الشاعر: -
أساطيل ليست في أساطير من مضى
…
فكل غراب راح أقنص من صقر
(2)
"الحراريق" جمع حراقة، ويبدو أنها كانت في البداية من المراكب المعدة للنزهة والنقل
(3)
لكن يظهر أنها تعرضت لبعض التغييرات عليها فيما بعد فأصبحت تصلح للعمليات الحربية، وتتضح مهمتها الحربية من اسمها، إذ أنها تختص بقذف مراكب الأعداء بقوارير النفط ولذا فهي مزودة بالأسلحة النارية
(4)
، وتجدف بمائة مجداف
(5)
، وقد وصفها الشاعر الأندلسي أبو عبد الله بن الحداد بقوله: -
ذات هُدبٍ من المجاذيف حاكٍ
…
هُدبَ باكٍ لدمعه إسعادُ
(1)
- السلاح في الإسلام ص 42.
(2)
- هذا البيت من قصيدة لبهاء الدين زهير بن محمد بن علي القوصي يمدح بها السلطان الملك الكامل، انظر، مفرج الكروب، (تحقيق: د. حسنين ربيع. مراجعة د. سعيد عاشور ط 1، دار الكتب المصرية، القاهرة 1972 م). 4/ 103 - 104.
(3)
- يدل على ذلك أن الخليفة العباسي الأمين كان له خمسة حراقات في نهر دجله صنعت كل واحدة منها على صورة حيوان، فكانت على صورة الأسد والعقاب والحية والفيل والفرس. انظر: تاريخ الطبري 8/ 509.
(4)
- البحرية في مصر الإسلامية، ص 339.
(5)
- قوانين الدواوين، ص 340. نفح الطيب، 4، 58 - 59.
حُمَمٌ فوقها من البيض نارٌ
…
كل من أرسلت عليه رمادُ
(1)
"الطريدة" مركب بحري يبدو من اسمه أنه سريع الحركة كأنه مخصص للمطاردة، ويظهر من خلال الاستعمالات المتعددة له أنه يكون على أنواع، فمنها مالايزيد طوله على سبعة أذرع وعرضه ذراعان ونصف على هيئة برميل هائل بدون مسطح
(2)
، وهناك نوع آخر كبير الحجم مخصص لحمل الخيل إذ باستطاعته أن يحمل أربعين فرساً
(3)
، وهذا النوع له باب في الخلف يفتح ويغلق، ومنها مايكون معداً لحمل الرجال
(4)
.
"البَطْسَة" أو البُطْسة، والجمع بَطسات وبُطس، ويسميها المقريزي "البطشة
(5)
"، والبطسة مركب هائل الحجم إذ يصل عدد أشرعته إلى أربعين شراعاً
(6)
ويمتاز هذا المركب الحربي بأنه متعدد الطبقات، كل طبقة خاصة بفئة من الجيش
(7)
ويتم شحنه بأنواع الأسلحة وسائر آلات الحرب
(1)
- نفح الطيب 4/ 56.
(2)
- مفرج الكروب: 2/ 12 حاشية رقم 3.
(3)
- قوانين الدواوين، ص 340. مفرج الكروب: 2/ 12 - 13.
(4)
- البحرية في مصر الإسلامية ص 354.
(5)
- الخطط المقريزية، (نشر، مكتبة المليجي الكتبي القاهرة 1324 هـ)، 369.
(6)
- السلام في الإسلام ص 13.
(7)
- البحرية في مصر الإسلامية ص 331.
والحصار حتى البروج والمنجنيقات فضلاً عن الأقوات والميرة
(1)
، ونظراً لضخامة حجم هذا المركب فهو يحمل أعداداً كبيرة من المقاتلين يصل عددهم إلى ستمائة وخمسين رجلاً
(2)
، ولكن المقريزي ذكر أن بعضها يحمل ألف وخمسمائة رجلاً
(3)
وألف وسبعمائة رجلاً
(4)
.
"الشلندي" مركب حربي كبير مسطح، كان مخصصاً لنقل المقاتلين والأسلحة، وهو يعادل في اهميته الشيني والحراقة
(5)
، والشلندي "مركب مسقف تقاتل الغزاة على ظهره وجذَّافون يجذَّفون تحتهم
(6)
"وله ساريتان أو ثلاث يبلغ طولها حوالي "(195)" قدماً وعرضها "(32) " قدماً، وحمولته ستمائة رجلاً تقريباً
(7)
.
"المسطح" مركب بحري ضخم يشبه البطسة
(8)
، ولعلنا ندرك من اسمه أنه عبارة عن مركب كبير له سطح شاسع غالباً ما يكون خلف
(1)
- ابن شداد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية سيرة صلاح الدين. (نشر مطبعة الآداب والمؤيد، القاهرة، 1317 هـ)، ص 123.
(2)
- المصدر السابق ص 149.
(3)
- الخطط، 2/ 369.
(4)
- المقريزي، كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، (تصحيح، محمد مصطفى زيادة، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1934 م)، ج 1 ق 1 ص 77.
(5)
- السلاح في الإسلام ص 36.
(6)
- قوانين الدواوين ص 340.
(7)
- أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس ص 401.
(8)
- البحرية في مصر الإسلامية ص 368.
السفن الحربية لنقل الأطعمة والأموال والأسلحة
(1)
، وعلى هذا أشبه ما يكون بناقلة متخصصة بالإمدادت العسكرية، ويمكن من خلال نصوص تاريخية وردت في بعض المصادر الوقوف على حقيقة هذا المركب، فقد ورد لدى ابن واصل أن المسطح يتسع لخمسمائة رجل
(2)
، أما ابن مماتي فقد ذكره بعد أن عرف بالشلندي ثم قال: "إن المسطح هو في معناه
(3)
" وعلى هذا فالمسطح مركب مكون من طابقين يقاتل الغزاة على ظهره والمجذفون يجذفون تحتهم.
"العشاري" أو "العشيري" نوع من المراكب، يجر بعشرين مجدفاً
(4)
، ويستعمل في الأنهار والبحار للرحلات القصيرة
(5)
، وربما سار وراء السفن الكبيرة أشبه ما يكون بقوارب النجاة المعروفة حالياً
(6)
وقد تكون سميت بهذا الاسم لأنها تتسع لعشرة أشخاص
(7)
.
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 191.
(2)
- مفرج الكروب، 2/ 374.
(3)
- قوانين الدواوين ص 340.
(4)
- السلاح في الإسلام ص 42.
(5)
- عن العشاري ووصفه واستخداماته. انظر، عبد اللطيف البغدادي، الإفادة والاعتبار (تحقيق: أحمد غسان سابنو. دار قتيبة، دمشق، ط الأولى 1403 هـ / 1983 م دار قتيبة دمشق. ص 71 - 72.
(6)
- انظر، ابن جبير، الرحلة (تحقيق: د. حسين نصار، مكتبة مصر، 1374 هـ 1955 م) ص 312.
(7)
- الحلة السيراء: 1/ 297 حاشية رقم 1.
"أجفان" جمع "جفن" مركب نهري، يمتاز بأن الجذافين يجدفون فيه وهم قيام في وسط المركب، في حين أن الركاب يكونون في المقدم أو المؤخرة
(1)
.
"القراق" أو "القرقور" والجمع قراقير، والقرقور سفينة كبيرة من مهامها القيام بتموين الأساطيل بالمتاع والذخيرة
(2)
، ويمتاز القرقور بتعدد الأشرعة والصواري، ولذا فهو لا يتأثر كثيراً بالرياح العاصفة، إذ هو قادر على السير تحت كفاة الظروف
(3)
.
"الحمالة" والجمع "الحمالات" وهي كما عرفها ابن مماتي: نوع من السفن المخصصة لنقل مؤونة الجيش وكل ما يحتاج إليه الأسطول
(4)
.
وبالإضافة إلى ما سبق ذكره من أنواع المراكب البحرية الحربية التي كان يستخدمها الأسطول الأموي بالأندلس، هناك قطع بحرية أخرى، ورغم صغر حجمها، إلا أنه لا غناء لأي أسطول كان عن خدمتها. منها: -
"الشباك"" Jabeque" مركب حربي صغير الحجم
(5)
، له ثلاثة أشرعة وأحياناً يسير بالتجديف
(6)
.
(1)
- البحرية في مصر الإسلامية، ص 336.
(2)
- السلاح في الإسلام ص 47.
(3)
- البحرية في مصر الإسلامية ص 363.
(4)
- قوانين الدواوين، ص 339 - 340.
(5)
- السلاح في الإسلام ص 38.
(6)
- تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى ص 75.
"القارب" مركب صغير خفيف الحركة، ويكون دائماً تبعاً للأسطول ولخدمة أصحاب المراكب الكبيرة، ويمكن أن يستخدم لتنقلات عمال الدولة من إقليم لآخر لأداء ما كلفوا به من أعباء وظيفية
(1)
.
"الزورق" له ملامح القارب ومميزاته بالإضافة إلى قيامه بمهام الإنقاذ
(2)
.
وهناك أيضاً "القياسات" و"الفلايك" والملاحظ أن هذه المراكب الأربعة الأخيرة جميعها مراكب بحرية صغيرة سريعة الحركة لا تعتمد على الأشرعة، وهي مخصصة لنقل الأشخاص والأزواد
(3)
.
بقي أن أشير إلى أن قطع الأساطيل الأموية بالأندلس كانت تستخدم الأشرعة البيض، ويتضح ذلك من خلال عبارة وردت في أحد المصادر عند الحديث عن أساطيل حكومة قرطبة عندما عبرت البحر متجهة إلى العدوة المغربية، وذلك لحماية أراضي العدوة من هجوم بلقين بن زيري. إذ أن العبارة تنص على أن بلقين عندما أشرف من أعلى جبل النور المطل على سبتة عاين "اتصال مدد الأندلس وابيضاض بحرهم بانتظام الشرع من تلقائهم
(4)
".
(1)
- قوانين الدواوين ص 297.
(2)
- رحلة ابن جبير ص 312.
(3)
- تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى ص 75.
(4)
- مفاخر البربر ص 17.
إدارة الأسطول:
كل جهاز سواء كان بسيطاً أم معقداً، لابد له من إدارة تتولى شئونه، والأسطول جهاز مهم في أي دولة كانت، ومن البديهي أن تكون الإدارة التي تشرف عليه ذات مناصب متدرجة، وما ينطبق على الأسطول ككل، ينطبق على أي سفينة من سفنه، إلا المراكب الصغيرة منها، فكل سفينة تحتاج إلى "نوتي" وهو "الملاح الذي يدير السفينة في البحر
(1)
" إذ تقع عليه مسئولية الإشراف على ما تحتاج إليه السفينة من أمور الحرب من السلاح والمقاتلة
(2)
، واما الرئيس وهو قبطان السفينة فهو مسئول عن سير السفينة سواء بالريح أو بالمجاذيف واختيار المرسى المناسب
(3)
، مستعيناً بكتاب يعرف بـ"الرهنامج" يعينه على اختيار المسالك البحرية الصحيحة
(4)
. كما يقوم أيضاً الرئيس بعملية التوجيه للملاحين، ولذا فهو بحاجة لمنادي يمتاز بصوت جهوري يبلغ أوامره لهم
(5)
ويذكر ابن خلدون أنه إذا صدرت الأوامر للأسطول بالغزو، يتم تجميع السفن المحاربة بأحد
(1)
- المعجم الوسيط، ص 970.
(2)
- مقدمة ابن خلدون ص 691.
(3)
- المصدر السابق ص 691.
(4)
- محمد ياسين الحموي، تاريخ الأسطول الإسلامي، (مطبعة الشرقي. دمشق 1945 م)، ص 48. وللاستزادة عن كتاب والرهنامج انظر البحرية في مصر الإسلامية ص 274 - 275.
(5)
- تاريخ الأسطول الإسلامي ص 49.
المرافئ، وبعد أن تشحن بالرجال والعتاد والمئونة، يتم تعيين أمير عليهم من بين رجالات الدولة المعدودين، بحيث يتولى الإشراف العام على الأسطول وبالتالي فهو المسئول الأول عنه أمام الخليفة، وله الحق وحده في إصدار أوامر الإبحار والرسو
(1)
، وهذا الأمير هو قائد البحر وقائد الأسطول
(2)
، ويكون مقامه في المرية القاعدة البحرية الرئيسية للأساطيل الأندلسية
(3)
، وكان عبد الرحمن بن محمد بن رماحس هو الذي يتولى قيادة البحرية في الأندلس
(4)
وبذلك فقد كان ابن رماحس يتمتع بمقام سامٍ في الدولة الأموية بالأندلس، يدل على ذلك ما ذكره ابن سماك المالقي في "الزهرات المنثورة" من أن أي قرار يهم الخليفة الأموي لايصدر إلا بعد استشارة شخصيات ثلاثة، منها: قائد الأسطول بالمرية، وذلك لأن المرية كانت تضم دار الصناعة الرئيسية في الأندلس، بل كان قائد أسطول المرية
(1)
- مقدمة ابن خلدون ص 691.
(2)
- عرفت البحرية بالأندلس وبالذات في عصر الخلافة عدة أسماء لامعة كانت لها شهرتها في المجال البحري، من هذه الأسماء: عبد الرحمن بن محمد بن رماحس، غالب بن عبد الرحمن الناصري، سعيد الجزري، رشيق بن عبد الرحمن المعروف بالبرغواطي، وعبد الله بن شعيب، وابن الأزرق البحري، عبد الرحمن ابن أبي جوشن، عبد الله بن مروان المعروف بابن مسلمة، عبد الرحمن بن يوسف الأرمطيل، إسماعيل بن عبد الرحمن بن الشيخ، وعبد الله بن رابحين. انظر، المقتبس، تحقيق: الحجي، ص 21، 24، 81، 87، 105.
(3)
- المصدر السابق، الحجي ص 24.
(4)
- مقدمة ابن خلدون، ص 691.
في العصر الأموي يشارك الخليفة إلى حدّ ما في سلطاته، فإذا كان الخليفة يحكم في البر، فإن قائد الأسطول يحكم في البحر
(1)
.
الأسلحة المستخدمة في المعارك البحرية:
استخدم البحريون الأندلسيون في معاركهم البحرية عدة أنواع من الأسلحة، فبالإضافة إلى السيوف والرماح ونحوها والمنجنيقات والعرادات، عرفوا: اللت والعمود والدبوس: وهي بالجملة عمد حديد، منها ما يكون بأكمله من الحديد، ومنها ما تكون خرزته فقط من الحديد ونصابه من الخشب، وتكون الخرزة إما مضرسة أو مسننة، في حين يكون رأس الدبوس مدوراً، وأما العمود فلا يكون إلا من الحديد
(2)
.
الأقواس والنشاب: استخدم البحريون القسي بنوعيها العربي منها الذي يشد باليد، وكذلك القسي الفرنجية وهي التي توتر وتدفع بالرجل، وأجود أنواع القسي الفرنجية ما صنع من الخشب التخش وبعده خشب الزبَّوج
(3)
، وبهذه القسي يمكن رمي حتى قوارير النفط بدلاً من السهام
(4)
.
الكلاليب: وهي نوع من الخطاطيف مربوطة في نهاية سلاسل قوية، كانت تلقى على مراكب العدو فتوقفها، ثم يشدونها إليهم،
(1)
- الزهرات المنثورة: الزهرة الثالث والثمانون.
(2)
- تبصرة أرباب الألباب ص 15.
(3)
- المصدر السابق ص 8.
(4)
- نفسه، ص 9.
ويقيمون عليها ألواحاً خشبية عريضة يمكن من خلال العبور عليها الوصول إلى المركب العدو، ليقاتلوهم وكأنهم على اليابسة
(1)
.
الباسليقات: وهي سلاسل من حديد يكون في رؤوسها رمانة من حديد، حيث تستخدم في القتال على سطح السفن
(2)
.
كما عرفوا من الآلات الحربية "التوابيت" وهي صناديق مفتوحة من أعلى، توضع في أعلى السفن يصعد عليها المقاتلون ومعهم الحجارة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق، فيرمون بها الأعداء ويستترون منهم داخل تلك التوابيت
(3)
وقد يجعلون بدلاً من الحجارة قوارير من النفط لإشعال النار في مراكبهم
(4)
، ويرمونهم بجرار مملوءة بالنورة المسحوقة غير المطفأة، فيعمى غبارها وقد تلتهب عليهم إذا تبددت، وقد يرمونهم بقدور الصابون الليِّن، إذ أنها تمنع أقدام الأعداء من الثبات على ظهور سفنهم
(5)
، وقد يرمونهم بقدر مليئة بالعقارب والحيات
(6)
.
(1)
- أثار الأول في تدبير الدول، ص 216. تاريخ الأسطول الإسلامي، ص 70. تاريخ التمدن الإسلامي ص 1/ 162.
(2)
- تاريخ التمدن الإسلامي: 1/ 161. البحرية في مصر الإسلامية ص 203.
(3)
- أثار الأول، ص 215 - 216. تاريخ التمدن الإسلامي، ص 1/ 162، تاريخ الأسطول الإسلامي: ص 70. البحرية في مصر الإسلامية، ص 203.
(4)
- أثار الأول، ص 215 - 216. تاريخ التمدن الإسلامي، ص 1/ 162، وعن النفط وأنواعه واستخداماته انظر: الطرطوسي تبصرة أرباب الألباب ص 20 - 23.
(5)
- أثار الأول ص 215 - 216.
(6)
- تاريخ التمدن الإسلامي: 1/ 162. البحرية في مصر الإسلامية ص 203.
"اللجام" وهي أداة حديدية طويلة ذات رأس حاد جداً، وأسفلها مجوَّف، تُجعل هذه الأداة في خشبة كالقناة بارزة في مقدم المركب يقال لها الاسطام، يستخدمها الجنود في طعن مراكب الأعداء بقوة فيخرقونها، مما يجعل المركب عرضة للغرق بسبب امتلائه بالماء، فيضطر أصحابه لطلب الأمان
(1)
.
كما استخدم المقاتلون البحريون في معاركهم البحرية أدوات الحصار، مثل "الأبراج" و"الدبابات" و"الستائر" والأخيرة هي عبارة عن حائط خشبي يستخدمه المهاجمون للوقاية من قذائف العدو
(2)
، و"الحبال
(3)
" و"النار الإغريقية
(4)
".
وكما أن هناك أسلحة للقتال، فهناك أدوات تقاوم تلك الأسلحة، فمثلاً "الكلاليب" يستخدم المدافعون ضدها فؤوساً حادة من الفولاذ بحيث يضرب بها الكلاب المتعلق بالسفينة فينقطع
(5)
، ولعل النفط
(6)
من
(1)
- أثار الأول ص 216. تاريخ التمدن الإسلامي: 1/ 162. تاريخ الأسطول الإسلامي، ص 70. البحرية في مصر الإسلامية ص 203 - 204.
(2)
- التعريف بالمصطلح الشريف، ص 272.
(3)
- صبح الأعشى: 10/ 413.
(4)
- البحرية في مصر الإسلامية ص 232 - 234.
(5)
- أثار الأول، ص 236.
(6)
- عن صفة النفط الذي يمشي على الماء لحرق المراكب انظر: تبصرة أرباب الألباب، ص 21.
أشد الأسلحة فتكاً بالمراكب، ولذا كان المدافعون يبطلون مفعوله بتعليق اللبود المبلل بالخل والماء حول سفنهم، أو يبلوها بالخل الممزوج بالنطرون والشب، وإما بطلاء سفنهم بالطين الممزوج بالنظرون
(1)
، كما أن المقاتلين يدهنون أجسادهم بدهن البلسان
(2)
.
ووسائل التمويه كانت معروفة آنذاك، فقد كان قائد السفينة يأمر بصنع أشرعة زرقاء لسفينته
(3)
لكي تصبح مثل لون الماء او السماء، كما يأمر بعدم إشعال النار بالمركب
(4)
مما يمكنه بالتالي من الاستفادة من عنصر المباغتة.
وقد اعتاد القائمون على الأساطيل الأموية في الأندلس، إجراء تمارين حربية، تجري خلالها اصطدامات أشبه ما تكون بمعارك بحرية حقيقية، والهدف منها رفع الطاقة الاستعدادية لرجال الأساطيل، وبذلك يكونون على أهبة الاستعداد لأي طارئ.
ومن أجل رفع الروح المعنوية، يتم حضور الأمير أو الخليفة وسائر رجالات الدولة لتلك التمارين، مما يمكنهم بالتالي من الوقوف على مدى كفاءة أولئك الرجال، وذلك وسط حضور جماهيري كثيف كما هو في الاستعراضات التي كان يقوم بها الجيش وعرفناها من قبل.
(1)
- أثار الأول ص 236.
(2)
- صبح الأعشى 10/ 413.
(3)
- أصار الأول ص 216.
(4)
- تاريخ التمدن الإسلامي 1/ 162.
ومن أجل إجراء تمارين مكثفة لأفراد الأساطيل الأموية دونما إشعارهم بالضغط والتكليف، كانت الأعياد والمناسبات الاجتماعية الكبرى فرصة تستغل لإجراء مثل هذه التمارين
(1)
.
وأخيراً بقي أن نتحدث عن المرابطة فقد ورد في القرآن الكريم مايحث عليها ويرغب فيها قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
(2)
، والمراد بالمرابطة هنا - كما ورد في بعض المصادر- المدوامة في مكان العبادة والثبات وانتظار الصلاة بعد
(1)
- من ذلك مثل: قول أبي بكر محمد بن عيسى الداني يصف لعب الأسطول في يوم المهرجان:
بشرى بيوم المهرجان فإنه
…
يوم عليه من احتفائك رونقُ
طارت بنات الماء فيه وريشها
…
ريش الغراب وغير ذلك شوذق
وعلى الخليج كتيبة جرارة
…
مثل الخليج كلاهما يتدفق
وبنو الحروب على الجواريِّ التي
…
تجري كما تجري الجيادُ السُّبَّقُ
ملأ الكماة ظهورها وبطونها فأتت
…
كما يأتي السحابُ المغدق
خاضت غدير الماء سابحة به
…
فكأنما هي في سرابٍ أينق
عجبا لها ما خلت قبل عيانها
…
أن يحمل الأسد الضواري زورق
هزت مجاديفاً إليك كأنها
…
أهداب عين للرقيب تحدِّق
وكأنها أقلام كاتب دولةٍ
…
في عرض قرطاس تخط وتمشق
المعجب، ص 215 - 216.
(2)
- سورة آل عمران: الآية رقم 200.
الصلاة، وقيل المراد بالمراطبة هاهنا مرابطة الغزو في نحو الأعداء وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة المسلمين
(1)
"، وعندما تعرض الطرطوشي لمعنى "المرابطة" اختار ما يدل على أن المراد بها "الجهاد
(2)
" وهو ماذهبت إليه المعاجم من أن المرابطة ملازمة الثغور والمخافة، وأن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغرة وكل معد لصاحبه، ولذلك يسمى المقام في الثغر رباطاً
(3)
.
ويقول الفقيه عبد الملك بن حبيب "وليس من سكن الثغر بأهله وولده مرابط، وإنما المرابط من خرج من منزله معتقداً الرباط في موضع الخوف
(4)
".
وقد وردت عدة أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم كلها تحض على المرابطة في سبيل الله وترغب فيه، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله،
(1)
- تفسير ابن كثير 1/ 444.
(2)
- سراج الملوك، ص 179.
(3)
- انظر القاموس المحيط "مادة ربطة". أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد: 1/ 374. المعجم الوسيط "مادة ربط".
(4)
- ابن رشد: المقدمات: (مطبعة السعادة، القاهرة) 2/ 276.
فإنه ينمَّى له عمله، ويُجرى عليه رزقه إلى يوم الحساب
(1)
" وقوله صلى الله عليه وسلم "رباط يوم صيام شهرين، ومن مات مرابطاً أجير من فتنة القبر، وأُجرى له صالح عمله إلى يوم القيامة
(2)
". وبذلك اتخذ المسلمون المرابطة نظاماً حربياً، فاجتهدوا في اتخاذ المحارس والقلاع على طول خطوط المواجهة الأمامية سواء السواحل منها أو الداخلية.
ونظراً لأن السواحل الشمالية الإفريقية كانت عرضة للهجمات البحرية البيزنطية والصقلية أو تلك القادمة من جنوب إيطاليا
(3)
، لأجل هذا اعتبرها ثغوراً لابدّ من القيام على التواجد فيها حماية للمسلمين، ومن هناك نشأت الأربطة بتلك المنطقة
(4)
، فبنيت أربطة عدة كانت تعرف بالقصور والمحاريس
(5)
، ثم انتقل نظام الأربطة إلى المغرب الأقصى، فبنى المغاربة رُبُطاً كثيرة لعل من أقدمها وأشهرها "رباط أصيلا" الذي تم بناؤه في زمن الأمير عبد الرحمن الأوسط وذلك بعد أن طرق النورمانيون أراضي
(1)
- إسناده حسن. انظر: الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن أبي عاصم الشيباني كتاب الجهاد، (تحقيق مساعد بن سليمان الحميد، دار القلم، دمشق، ط الأولى 1409 هـ / 1989 م) ج 2 ص 680.
(2)
- نفس المصدر، ص 689 - 691.
(3)
- أبو محمد عبد الله بن محمد التجاني، رحلة التجاني، (تقديم، حسن حسني عبد الوهاب. الدار العربية للكتاب، ليبيا- تونس 1981 م)، ص 32.
(4)
- نفس المصدر والصفحة.
(5)
- نفسه ص 33، 68، 69، 85، 316، 336.
تلك المنطقة
(1)
ومن خلال هذا التدرج في انتشار الأربطة، أدرك الأندلسيون أهميتها، وتسابق المجاهدون منهم إلى إعمارها والحرص على جعلها عقبة كئودا أمام الأعداء، لكي لا يروعوا المسلمين الآمنين في داخل البلاد، وقد سجل عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط البدايات الأولى للأربطة في الأندلس، إذ بعد أن عاني المسلمون هناك من شدة وطأة الغزوة الأولى للنورمانديين، أخذت الأربطة تظهر تباعاً على طول السواحل الشرقية والجنوبية الشرقية الأندلس، فعرفت في تلك المنطقة الشاسعة أربطة عدة، من أشهرها:
"رباط المرية": وهو أشهر وأهم الأربطة التي عرفها الأندلسيون، واسم هذا الرباط يوضح الهدف منه، إذ أن موقعه اتخذ مرأى لاكتشاف ما يمكن أن يأتي من البحر على حين غرة
(2)
وبالذات بعد الهجوم النورماندي الأول الذي وقع في عصر الأمير عبد الرحمن الأوسط، وبالإضافة إلى هذا فرباط المرية محرس بحري لمدينة بجانه التي هي على بعد ستة أميال شمالاً
(3)
.
(1)
- المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، ص 112.
(2)
- الروض المعطار: 537. ويذكر الدكتور حسيبن مؤنس أن "المرية" لفظ عربي صرف، معناه، الناظور المرتفع الذي يقام على شاطئ البحر ليقيم فيه حراس يراقبون الشاطئ حذراً من غزاة البحر الذين نسميهم القرصان، وهو لغة في "المرئية" التي ترى من بعيد. انظر: رحلة الأندلس ص 270.
(3)
- نزهة المشتاق، ص 563. صبح الأعشى: 5/ 217.
"رابطة القابطة أو القبطة" ويقع إلى الشرق من المرية
(1)
، كما توجد عدة أربطة أخرى بالقرب من المرية، كانت مثوى عدد من المجاهدين -رحمهم الله تعالى- مثل رباط عمروس ورباط الخشني وغيرهما
(2)
.
وهناك "مدينة دانية" التي استفادت كثيراً من جبل يعرف باسم "جبل قاعون" لكونه مشرفاً عليها، وفائدته تتمثل في أن المرابطين فيه يستطيعون اكتشاف العدو القادم عن طريق البحر من مسافة بعيدة
(3)
، كما أن حصانته تتيح لمن حوله فرصة الاختباء به، ولذا نجد أن رباطاً قد أقيم فيه لاتزال أثاره قائمة إلى اليوم ويعرف ذلك الرباط باسم "الآمبروي Alambroy"
(4)
.
وعلى ساحل مدينة مالقة أقيم رباط على جبل "فارَّة
(5)
" ولأهمية الموقع الذي كان يتميز به الجبل، فقد كان اهتمام المسلمين فيه كبيراً، ولذا أقاموا عليه عدة حصون استمر تواجدهم فيها إلى سنة (892) هـ
(1)
- المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، ص 89. دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص 297. ويذكر بروفنسال "أنها تقابل اليوم المكان المعروف باسم " Cabe de Gota" انظر: L.Provencal: Op.Cit T-3 P: III.
(2)
- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص 297 - 298.
(3)
- نزهة المشتاق ص 557.
(4)
- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص 298.
(5)
- نزهة المشتاق ص 570.
(1487 م)
(1)
كما أن تسمية الجبل باسم "فارُّه" لازالت قائمة إلى اليوم إذ لازال يعرف باسم جبل فارو
(2)
Gibralfaro".
وتجدر الإشارة إلى أن الأربطة لم يقتصر تواجدها على السواحل الشرقية أو الجنوبية الشرقية للأندلس، فقد وجدت أربطة عدة متناثرة على الساحل الغربي للأندلس، فهناك -مثلاً- رباط "روطة
(3)
" الذي لايزال حصنه قائماً عند مدخل ميناء قادس ويعرف باسم " Castillo De Rota" ويذكر ابن بشكوال أن أبا محمد الشنتجيالي ت (436) هـ (1044 م) قد رابط ببطليوس ومرجيق Monchique وشلب ورباط الريحانة من عمل شلب، وكان له فرس اسمه "مرزوق" وقد كان كثيراً مايجر يده على ناصيته ويقول له "يامرزوق رزقني الله الشهادة عليك
(4)
".
صورة الرباط:
يتكون الرباط من عدة عناصر هي: - "الخندق": ويتم حفره حول السور ككل، أو في النقطة الضعيفة، وتكون الحراسة حوله مشددة، ومن
(1)
- نفح الطيب 4/ 520.
(2)
- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص 299.
(3)
- يذكر الحميري: أن هذا الحصن كان مقصداً للصالحين وتوجد فيه بئر عجيبة، إذا كثر المرابطون في الحصن زاد الماء حتى يستسقي من رأس البئر باليد، فإذا قل الناس وتفرقوا عنه نضب الماء. انظر: الروض المعطار ص 340.
(4)
- الصلة: ترجمة رقم 597. وانظر الحاشية رقم 1 ص 263.
الضروري وجود ما يمكن تسميته بالجسر المتحرك يوضع على الخندق ويرفع عند اقتراب الأعداء منه لعدم تمكينهم من العبور
(1)
.
"المدخل" عبارة عن سقيفة بعد سقيفة، ومن أجل زيادة التحصين يكون باب السقيفة من حديد متين، ويتم تثبيت الباب بطريقة قوية ومحكمة فيكون خلعه متعذراً بأي صورة كانت
(2)
.
"الحسك": باب فولاذي مكون من جرات كأنها السكاكين، وفيها يد وسلسلة ومتى ماقُبض على اليد وجُذبت السلسلة وانغلقت تلك الجرات على بعضها البعض فأنها تقطع ما وقع بين أجزائها، وهي على نوعين عامودي وأفقي يغرس على الأرض
(3)
.
"صحن الرباط" وهو الفناء الذي تربط فيه دواب المرابطين بالإضافة إلى أنه توجد فيه المرافق في حين أن غرف المرابطين والجامع الكبير المخصص للصلاة لإلقاء الدروس كلها توجد في الطابق الأول
(4)
.
ومن البديهي أن تكون الحراسة متواجدة في أعلى مكان في الرباط أو ملحقة به، وذلك لكشف الأعداء القادمين من مسافة بعيدة، بحيث تكون هناك فرصة جيدة لإعلان الإنذار فيأخذ المدافعون أهبتهم، ويعرف
(1)
- عثمان الكعاك: العلاقات بين تونس وإيران عبر التاريخ، (الشركة التونسية للتوزيع. د. ت) ص 92.
(2)
- نفس المرجع والصفحة.
(3)
- نفس المرجع والصفحة.
(4)
- نفس المرجع والصفحة.
الحراس الليليون باسم "السمَّار
(1)
" والرباط مزود بمنارة أو منار، فإذا كان الوقت ليلاً وأحس أولئك السمَّار باقتراب سفن الأعداء في البحر أو قدوا في تلك المنارة ناراً بكيفية معلومة، فيراها السمَّار والملازمون للمنار بالرباط المجاور فيشعلون النار مثل سابقيهم وهكذا يتم الإعلان عن الخطر القادم بصورة سريعة، وإن كان الوقت نهاراً تم إثارة الدخان
(2)
أو استخدموا المرايا
(3)
إلى جانب استخدام الطبل والنفير
(4)
وهذه الصورة المنظمة في طرق الإنذار المبكر -إن صحت التسمية- نجدها واضحة بصورة جلية فيما بين الإسكندرية وطرابلس الغرب، فقد ذكر المراكشي أن "بين الإسكندرية وطرابلس المغرب حصون متقاربة جداً، فإذا ظهر في البحر عدوِّ نوّر كل حصن للحصن الذي يليه، واتصل التنوير، فينتهي خبر العدو من طرابلس إلى الإسكندرية أو من الإسكندرية إلى طرابلس في ثلاث ساعات أو أربع ساعات من الليل، فيأخذ الناس أهبتهم ويحذرون عدوهم
(5)
".
(1)
- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص 301.
(2)
- أحسن التقاسيم، ص 177. التعريف بالمصطلح الشريف، ص 259.
(3)
- L.Provencal: Op.Cit.T-3.P: III.
(4)
- أحسن التقاسيم ص 177.
(5)
- المعجب ص 432.
حياة المرابطين
وقد كانت حياة المرابطين داخل الأربطة منظمة بدقة، فالمرابطون وطدوا أنفسهم على الوقوف في وجه الأعداء، فكانت الأربطة تتعاون فيما بينها للدفاع عن المسلمين، فإذا لاح الخطر، وأعطيت الإشارات على اقترابه، آوى المرابطون إلى رباطهم يعتصمون به من العدو، وأغلقوا الأبواب في وجهه، وعملوا كل ما في وسعهم لدفعه وإحلال الهزيمة به.
ونظراً للإقبال المتوقع من رجال الجهاد على تلك الأربطة، فمن المحتمل أن تخضع الفئة الجديدة لما يمكن تسميته بالإعداد العسكري، وعلى هذا فالتدريب والتجهيز العسكري سمة لدى المرابطين، ليكون الكل جاهز لصد عادية المعتدين، كما أن المرابطين يحيون حياة جماعية تعاونية، وهذا مطلب ضروري لبعدهم عن حواضر المدن.
ونظراً لوقوع هذه الأربطة على السواحل، فالمرابطون لابد أن تشتغل فئة منهم باصطياد الأسماك، وإن كانت هناك مزارع فهم يفلحون أراضيهم بأنفسهم، فضلاً عن تعاونهم بإعداد احتياجاتهم من الطعام.
وبصفة عامة فإن حياة المرابطين يغلب عليها طابع التقشف، فهي بعيدة كل البعد عن الملذات، وأما اللهو والمجون فلا سبيل إلى تواجدهما بالقرب من الرباط فضلاً من أن يكون فيه شيء من ذلك
(1)
.
(1)
- ورد لدى المالكي أن الأمير إبراهيم بن أحمد الأغلبي، نزل يوماً في قصره بسوسه، فأظهر بعض من كان معه من الحشم وغيرهم شيئاً من اللهو والعزف بالات الطرب، فاحتج على ذلك أهل الرباط المجاور، وسار كبارهم إلى قصر الأمير مطالبين بإبطال تلك الملاهي، ورفضوا مغادرة القصر حتى خرج الحاجب إليهم وأبلغهم على لسان الأمير بأنه لن يحدث شيئاً تكرهونه بعد اليوم. انظر، رياض النفوس، ص 393 - 394.
كما حرص المرابطون على أن تكون قراءة القرآن من أبرز سماتهم، لأجل هذا، كانت تدوي بقراءة القرآن، وتعج بالحفاظ، ويقوم المرابطون بذكر الله تعالى بصوت مرتفع، فقد ذكر ابن أبي زمنين عن الفقيه عبد الملك بن حبيب: قوله: "ورأيت أهل العلم يستحبون التكبير في العساكر والثغور والمرابطات دبر صلاة العشاء وصلاة الصبح تكبيراً عالياً ثلاث تكبيرات، ولم يزل ذلك من شأن الناس قديماً
(1)
".
(1)
- ابن أبي زمنين، كتاب قدوة الغازي:(دراسة وتحقيق د. عائشة السليماني، دار الغرب الإسلامي. بيروت 1986 م)، ص 182 - 183.
الفصل الخامس: الخطط الدينية
المبحث الثامن: خطة المدينة
المبحث السابع: خطة الشرطة
المبحث السادس: خطة السوق "الحسبة"
المبحث الخامس: خطة الشورى
المبحث الرابع: خطة المظالم
المبحث الثالث: خطة الرد
المبحث الثاني: خطة الصلاة والخطبة
المبحث الأول: خطة القضاء
خطة القضاء
القضاء في اللغة يطلق على معان متعددة
(1)
يهمنا منها في هذه الدراسة ما يفيد الحكم والحتم. قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعبدوا إلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}
(2)
أي حكم وحتم.
والقضاء يأتي على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أُحكم عمله، أو أُتم أو خُتم أو أُدي أداء أو أُوجب أو أُعلم أو أُنفذ أو أُمضي فقد قُضي
(3)
، والحكم يأتي بمعنى العلم والفقه والقضاء العدل وهو مصدر حكم يحكم
(4)
.
وأما في الاصطلاح فالقضاء يعني فصل الخصومات وفض المنازعات عن طريق إلزام الخصوم بالأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والاجتهاد بطريقة معينة
(5)
فهو "إخبار على حكم شرعي على طريقة الإلزام"
(6)
.
(1)
- انظر: إبراهيم نجيب محمود عوض، القضاء في الإسلام، تاريخه ونظامه، (مجمع البحوث الإسلامية، القاهرة، 1395 هـ (1975 م) ص 4 - 5.
(2)
- سورة الإسراء الآية رقم 23.
(3)
- ابن منظور، لسان العرب، مادة "قضي".
(4)
- المصدر السابق، مادة قضى.
(5)
- ابن الخصاف، كتاب أدب القاضي، شرح: أبو بكر أحمد بن علي الرازي، (تحقيق: فرحات زياده، الجامعة الأمريكية، القاهرة، 1979 م)، ص 29.
(6)
- كتاب لباب الألباب، ص 253.
وقد نظر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى اختصاصات القاضي نظرة واسعة، فذكر أن "القاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة أو سلطاناً أو نائباً، أو ولياً، أو كان منصوباً ليقضي بالشرع أو نائباً له حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا، هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر
(1)
"، ونظراً لأن القضاء هو الوسيلة التي تتحقق فيها العدالة التي هي مطلب النفوس السوية، مما يكفل السعادة لأي مجتمع توجد فيه، لأجل هذا فقد اهتم الإسلام بالقضاء اهتماماً واسعاً، فلا عجب أن يتبوأ من يشغل منصب "القاضي" أسمى المراتب في المجتمع الإسلامي.
والله جل ثناؤه قد ترك للحكام تصريف أمور الناس فحكموا في الدماء والأبضاع والأموال والحلال والحرام، لأجل هذا فخطة القضاء أشرف الخطط بعد الخلافة
(2)
.
وفي الأندلس كان القاضي يحتل مكانة بارزة، حتى أن لقب "القاضي" كان يطلق على البعض تشريفاً لهم، فهذا أحمد بن محمد
(1)
- ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، (دار الكتاب العربي، القاهرة، 1371 هـ ـ 1952 م) ص، 13 - 14.
(2)
- النباهي، ص 2.
القيسي، المتوفى سنة (345) هـ (956 م)، كان يلقب بالقاضي لوقاره
(1)
، رغم أنه لم يكن قاضياً.
وقد كان الولاة الأوائل في الأندلس هم القضاة أيضاً، ولم يتم الفصل بين منصبي الولاية والقضاء إلا في سنة (116) هـ (734 م) أي في عهد الوالي عقبة بن الحجاج السلولي حيث تم تعيين مهدي بن مسلم قاضياً في قرطبة
(2)
.
وقد كان القضاة في الأندلس على مراتب ودرجات، فقضاة القرى الصغيرة يطلق على الواحد منهم لقب مسدَّد
(3)
أما في قرطبة فقد عرف في عهد الولاة بلقب قاضي الجند أو العسكر
(4)
وبعد أن قامت الدولة الأموية أخذ اللقب يتغير، إذ ظهر مسمى جديد هو "قاضي الجماعة" بدلاً
(1)
- هو أبو عمر أحمد بن محمد بن هاشم بن خلف بن عمرو القيسي، من أهل قرطبة، يُعرف بالأعرج، أتقن علم النحو، وأدب به، كان وقوراً مهيباً، ولأجل ذلك لقب بالقاضي. ابن الفرضي، ترجمة رقم 138.
(2)
- د. محمد عبد الوهاب خلاف: تاريخ القضاء في الأندلس من الفتح إلى نهاية القرن الخامس الهجري، ص 25 - 26، ومن المعلوم أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أول من فصل القضاء عن السلطة التنفيذية فقد أوفد قضاته إلى الأقاليم وضمن لهم الاستقلال الكامل عن الولاة. انظر: مقدمة ابن خلدون، ص 627.
(3)
- نفح الطيب، 1/ 218.
(4)
- النباهي، ص 21.
من "قاضي الجند" وأول من حمل هذا اللقب هو يحيى بن يزيد
(1)
الذي كان يشغل منصب "قاضي الجند" قبل وصول الأمير عبد الرحمن الداخل للحكم وبعد أن قامت الإمارة وتولى الأمير الداخل الحكم أقر القاضي يحيى بن يزيد على منصبه
(2)
وأما من يلي القضاء في إحدى الكور، فقد كان يعرف بلقب "قاضي" منسوباً إلى الكورة التي هو فيها، فيقال قاضي كورة كذا
(3)
.
وتسمية يحيى بن يزيد بقاضي الجماعة ربما يكون السبب فيها عائد إلى كتابته للعهد الذي أبرم بين الأمير عبد الرحمن الداخل وبين آخر ولاة الأندلس الوالي يوسف الفهري الذي اشترط حضور قاضيه لكتابة العهد
(4)
لمبايعة المسلمين للأمير عبد الرحمن الداخل بالإمارة لأجل ذلك أُطلق على يحيى ابن يزيد لقب "قاضي الجماعة" أي أنه أصبح هو قاضي الجماعة الجديد في الأندلس
(5)
.
(1)
- يحيى بن يزيد التجيبي، من عرب الشام الساكنين في إفريقية، قدم الأندلس مع أبي الخطار الكلبي، واستلم قضاء الجند بقرطبة، وكان رحمه الله رجلاً صالحاً، اعتزل الحرب عند دخول الأمير عبد الرحمن بن معاوية الأندلس. انظر: قضاة قرطبة، ص 14 - 15.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 14.
(3)
- ابن الفرضي: رقم 199. التكملة، (طبعة كوديرا) ترجمة رقم 1773.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 14.
(5)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 162. قارن أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص 263.
وأما ما ذهب إليه النباهي من أن لقب "قاضي الجماعة" المقصود منه جماعة القضاة
(1)
، فهو رأي لايمكن التسليم به وبالذات إذا عرفنا أن قاضي الجماعة لا سلطان له على القضاة خارج قرطبة.
وقد ذكر ابن القوطية أن الفقيه عمرو بن عبد الله
(2)
هو أول من تسمى بقرطبة بقاضي الجماعة، وهذا القول يوضحه ما جاء بعده، فقد قال ابن القوطية أن عمرو بن عبد الله "لم يكن من الجند فنسب إليهم، وكان القضاة من أجناد العرب
(3)
" وبذلك يتضح أن ابن القوطية أراد أن يقول أنه أول قاضٍ للجماعة من غير العرب
(4)
، وهذا ما صرح به ابن الفرضي بقوله "وهو أول من استُقضي بقرطبة من الموالي
(5)
".
(1)
- النباهي، ص 21.
(2)
- أبو عبد الله عمرو بن عبد الله بن ليث، قرطبي يعرف بالقُبْعَة، مولى إحدى بنات الأمير عبد الرحمن الداخل، ولاه الأمير محمد خطتي القضاء والصلاة سنة 250 هـ، إلا أنه سرعان ما صرفه عن خطة الصلاة بسبب معارضة العرب له. وكان عمرو بن عبد الله معروفاً بالفضل والعقل والأدب وقوراً حسن السمت مؤثراً للعدل صاحب هيبة شديدة ومروءة ظاهرة، لقب بالقبعه لأنه كان قصيراً دحداحاً إذا قعد يكاد يخف، ولي القضاء مرتين، الأخيرة كانت سنة 260 هـ وعزل عنه سنة 263 هـ وقد أصيب عمرو في عقله آخر عمره وتوفي سنة 273 هـ انظر: قضاة قرطبة، ص 67 - 73، 82 - 83. ابن الفرضي، ترجمة رقم 938.
(3)
- ابن القوطية، 73.
(4)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 163.
(5)
- ابن الفرضي، 1/ 363. وانظر: الخشني قضاة قرطبة، ص 67.
وظهر في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) لقب جديد، وهو "قاضي القضاة" وصاحب هذا اللقب لا شأن له بقرطبة، إذ أن دائرة اختصاصه محصورة في الثغور، وأول من أُطلق عليه هذا اللقب منذر بن سعيد البلوطي وذلك سنة (330) هـ (937 م) فقد ولاه الخليفة عبد الرحمن الناصر "القضاء في جميع الثغور، وصُير قاضي القضاة في جميعها، وجعل إليه الإشراف على جميع القضاة والعمال بها، والنظر في المختلفين من بلاد الإفرنج إليها"
(1)
.
وبهذه الصورة أصبحت الدولة الأموية تضم أربعة أصناف من مراتب القضاة، فهناك "مسدد" وهو قاضي القرية الصغيرة، و"القاضي" وهو من تولى القضاء في الكورة، و"قاضي قضاة" الذي يشرف على عمال الثغور وقضاته، وأخيراً "قاضي الجماعة" بالعاصمة قرطبة.
وقد استمر لقب "قاضي الجماعة" طيلة القرنين الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر الميلاديين) من عمر الدولة الأموية، إلا أنه في عهد الحاجب عبد الرحمن بن المنصور الشهير بشنجول، حل محله لقب "قاضي القضاة" وأول من حمل هذا اللقب أبو العباس أحمد بن عبد الله بن
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 488.
ذكوان
(1)
، ثم حمله من بعده أبو بكر يحيى بن عبد الرحمن بن وافد اليحصبي
(2)
.
والملاحظ أن لقب "قاضي القضاة" عرفته الأندلس من المشرق وبالتحديد من الخلافة العباسية التي اقتبسته بدورها من النظم الفارسية الساسانية
(3)
، والدولة الأموية في الأندلس لم تسمح بهذا اللقب في حاضرتها إلا بعد أن أخذت تسير سريعة نحو الانحلال.
وكما كان القاضي ابن ذكوان أول من لُقِّب بـ"قاضي القضاة" في الأندلس فكذلك هو أول من اجتمع له منصبي الوزارة والقضاء
(4)
، ولقب الوزارة هنا ليس لقباً شرفياً، وإنما للقيام بأعباء الوزارة كاملة إضافة إلى
(1)
- ترتيب المدارك، 7/ 171.
(2)
- أبو بكر يحيى بن عبد الرحمن بن وافد اللخمي، قرطبي كان فقيهاً حافظاً ذاكراً للمسائل بصيراً بالأحكام، مع الورع والفضل والدين والتواضع، ولي القضاء مرتين في عهد الخليفة هشام المؤيد، فحمد الناس سيرته، وكان طيلة مدتي قضائه يؤذن في مسجده ويقيم الصلاة فيه، وصفه ابن حيان بأنه كان آخر كملاء القضاة بالأندلس، وعندما تغلب البرابر على قرطبة نالت ابن وافد منهم محنة شديدة وبلاء عظيم، وحبس بقصر قرطبة إلى أن توفي رحمه الله منتصف شهر ذي الحجة سنة 404 هـ. انظر: ترتيب المدارك، 7/ 176 - 181. الصلة، ترجمة رقم 1457. النباهي، ص 88 - 89.
(3)
- كان يطلق على قاضي القضاة في الدولة الساسانية "موبذان موبذ" وتعريبه: قاضي القضاة، وهو أعلى وظائف الدولة الدينية قدراً ورتبه. انظر: كتاب التاج في أخلاق الملوك، ص 15.
(4)
- ترتيب المدارك، 7/ 170 - 171.
أعباء القضاء
(1)
وفي هذه الحالة كانت رسوم الدولة الأموية تقتضي تقديم لقب الوزارة على القضاء في المكاتبات فابن
(2)
ذكوان "كان يكتب عنه من الوزير قاضي القضاة
(3)
" إلى فلان.
وقبل أن ننهي الحديث عن الألقاب التي حصل عليها قضاة الأندلس، لابد من الإشارة إلى أهمية منصب قاضي الجماعة بقرطبة، ويكفي في هذا الخصوص أن أمراء وخلفاء بني أمية كانوا إذا احتاروا في أمر من الأمور لا يقطعون فيه حتى يستشيروا ثلاثة من أصحاب المناصب العليا، أحدهم قاضي الجماعة بقرطبة
(4)
.
رسوم تعيين قاضي الجماعة:
من الملاحظ أن عدد قضاة الجماعة بقرطبة طيلة العهد الأموي، بلغ واحد وثلاثون قاضياً، منهم سبعة من أهل قرطبة والباقي من خارجها
(5)
.
وإذا بحثنا عن السبب في هذا الوضع نجد أن ابن خلدون يذكر أن خطة القضاء لدى بني أمية بالأندلس لا تسند إلا لأهل العصبية
(6)
، ورغم أنه لم يأت بما يؤيد رأيه، إلا أنه يمكن القول بأنه قد ذهب إلى هذا من
(1)
- تاريخ القضاة في الأندلس، ص 164.
(2)
- النباهي، ص 88.
(3)
- المغرب في حلى المغرب، 1/ 215.
(4)
- الزهرات المنثورة، الزهرة الثالث والثمانون، ص 52 - 53.
(5)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 173 - 176 ومصادره.
(6)
- مقدمة ابن خلدون، ص 623، 630.
خلال اختيار الخليفة عبد الرحمن الناصر قضاة من أبناء البيوتات، ذات المكانة في الكورة نفسها أو غيرها من الكور، من ذلك أنه استقضى محمد بن عبد الخالق الغساني في النصف من ربيع الآخر سنة (300) هـ (نوفمبر (912) م)
(1)
كما أنه اختار الفقيه معن بن محمد بن معن الأنصاري على قضاء سرقسطة سنة (326) هـ (938 م) وظل على خطته بسرقسطه حتى وفاته سنة (330) هـ (943 م) فقد كان الفقيه معن متولياً الأنصار من أهل سرقسطة وأحد رجالاتها وقدوة جماعتها
(2)
.
وبعد أن يقع الاختيار على أحدهم ليتولى قضاء الجماعة، يتم استدعاؤه للأمير أو الخليفة، حيث يعهد إليه بالقضاء ويعظه ويحدد له الحدود ويرسم له الرسوم، وما يقف عليه من أسباب القضاء ووجوه الأحكام.
ومما يلفت الانتباه في هذا الخصوص أن حكام بني أمية كانوا على درجة عالية من الثقافة والإلمام الواسع بمقتضيات الأمور، من ذلك أن الخليفة عبد الرحمن الناصر عندما استدعى الفقيه ابن أبي عيسى ليوليه قضاء الجماعة، خاطبه بما أراد ووعظه ووصاه، وعندما حدَّث ابن أبي عيسى أبا عمر أحمد بن عبادة الرعيني
(3)
(ت (332) هـ) بما جاء في وصايا الخليفة له،
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 58.
(2)
- التكملة، (طبعة كوديرا)، ترجمة رقم 1157.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 105.
قال له الرعيني: "لو أن أباك حياً، واجتهد في عظتك ما بلغ من النصح لك هذا المبلغ
(1)
".
وبعد أن تنتهي المقابلة، يتم إصدار مرسوم في هذا الصدد
(2)
وقد حفظت لنا المصادر ظهيراً أصدره الخليفة الحكم المستنصر يوم الإثنين للنصف من شهر شعبان سنة (353) هـ (أغسطس (964) م) يقضي بتعيين محمد بن السليم قاضياً للجماعة، جاء فيه: إن الخليفة يأمر قاضيه بالاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يصلح سريرته، ويبرأ من الهوى ليكون الناس أمامه سواسية، كما نصحه بعدم الغرور بمنصبه، وأطلعه على خطورة ما يتقلده، وأنه طريقه إلى الجنة أو النار، ثم تعرَّض للشهادات وما يجب عليه في قبولها، وأوصاه بضرورة التفقد الدائم لكاتبه وحاجبه وأهل خدمته، كما نصحه بالتريث في إصدار الأحكام، وأشار عليه بأنه متى ما واجهته معضلة لم يستطع تجاوزها فعليه رفعها إلى الخليفة ليصدر فيها ما يراه
(3)
.
(1)
- قضاة قرطبة، ص 118.
(2)
- هناك ظهير أصدره والي الأندلس عقبة بن الحجاج لقاضيه مهدي بن مسلم حين ولاه القضاء بقرطبة، انظر: قضاة قرطبة، ص 9 - 12. التكملة:(طبعة كوديرا) ترجمة رقم 1162.
(3)
- النباهي، ص 75 - 76.
والشروط الواجبة توفرها فيمن يلي القضاء عامة، هي أن يكون معروفاً بالخير والصلاح والفضل والورع
(1)
، أو سبق أن اشتهر أمره بالأمانة
(2)
، وكذلك معرفة الأمير أو الخليفة بأخلاق ذلك المرشح
(3)
، أو أن يكون ذو شخصية تميزه عن غيره من الفقهاء
(4)
أو أن تجتمع آراء الوزراء على تقديم فقيه بعينه
(5)
.
وكان بعض أولئك المرشحين يشترط شروطاً لتولي ذلك المنصب، والقيام بمهامه الخطيرة، فمحمد بن بشير المعافري عندما استدعاه الأمير
(1)
- الأمير عبد الرحمن الداخل استدعى عبد الرحمن بن طريف اليحصبي من مارده وولاه قضاة الجماعة بعد أن سمع عن صلاحه. قضاة قرطبة، ص 23.
(2)
- كان سعيد بن محمد بن بشير المعافري، قد حفظ وديعة لربيع القومس، ورغم النداء الذي أصدره الأمير الحكم الربضي بأن من عنده وديعة لربيع ولم يسلمها خلال ثلاثة أيام فإن دمه يكون مسفوكاً، إلا أن سعيداً المعافري تجاهل هذا التحذير، محتجاً بأن الأمانة تؤدى للبر والفاجر، فلما وقف الأمير الحكم الربضي على ذلك أدرك مدى أمانة سعيد فأوصى الوزراء بتوليته قضاء الجماعة. انظر: قضاة قرطبة، ص 39.
(3)
- الأمير محمد بن عبد الرحمن ولى سليمان بن أسود قضاء الجماعة، إذ أنه كان على معرفة مسبقة به عندما كان والياً على مارده وسليمان بن أسود قاضياً فيها. انظر: قضاة قرطبة، ص 73.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 67 - 68.
(5)
- الأمير عبد الله بن محمد جمع الوزراء بعد وفاة قاضي الجماعة محمد بن سلمة، واستشارهم فيمن يقدم للقضاء، فاتفقت كلمتهم على: الحبيب أحمد بن محمد بن زياد اللخمي. انظر: قضاة قرطبة، ص 101.
الحكم الربضي ليتولى قضاء الجماعة وافق على الترشيح ولكنه اشترط "نفاذ حكمه على كل أحد من الأمير إلى حارس السوق، وأنه إذا ظهر له العجز من نفسه أُعفي وأن يكون رزقه كفافاً من المال الفيء
(1)
".
علاقة أمراء وخلفاء بني أمية بقضاتهم:
يقول القاضي الباجي: "على الملك أن يشرف منزلة القاضي، ويقوي سلطانه، وينفذ حكمه في نفسه وولده وأهله وفي جميع أهل مملكته، كما فعلت الخلفاء الراشدون والأئمة الهادية والسلف الصالح لأن سلطانه من سلطانه"
(2)
.
ومن هذا المنطلق حرص الأمويون على إيجاد القاضي العدل، ومساندة أحكامه، وإن كانت لا تتفق مع أهوائهم، فقاضي الجماعة عبد الرحمن بن طريف اليحصبي
(3)
، لم يخش هيبة الأمير عبد الرحمن الداخل
(4)
، ولم يجامله، فقد رفض تعليماته بضرورة التريث في قضية
(1)
- النباهي، ص 47 - 48.
(2)
- أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، فصول الأحكام وبيان ما مضى عليه العمل عند الفقهاء والحكام تحقيق: الباتول بن علي، ص 172.
(3)
- عبد الرحمن بن طريف اليحصبي، استقدمه الأمير عبد الرحمن الداخل من ماردة عندما سمع بصلاحه وصلابته وورعه، فسار بالقضاء أجمل سيره، وقد بلغ من زهده وورعه أنه إذا شغل عن القضاء يوماً واحد لم يأخذ لذلك اليوم أجراً. انظر: قضاة قرطبة، ص 23 - 24. ابن الفرضي، ترجمة رقم 774. النباهي، ص 44 إلا أنه سماه "نصر بن ظريف".
(4)
- ابن الفرضي: ترجمة رقم 469.
حبيب القرشي الذي اغتصب ضيعة أحدهم، ولم يكتف بذلك، بل سارع إلى التسجيل على حبيب وإنفاذ الحكم عليه بمحضر الفقهاء والعدول، وعندما عاتبه الأمير على مخالفته أوامره، أجابه قائلاً "أيها الأمير، ما الذي يحملك على أن تتحامل لبعض رعيتك على بعض، وأنت تجد من ذلك وجهاً أن ترضي من تُعنى به من مالك
(1)
".
وأما الأمير هشام الرضا، فيكفي في إظهار موقفه من قضاته، أنه عندما استدعى المصعب بن عمران ليوليه قضاء الجماعة، قال له في معرض حديثه "ونفسي طيبة عليك لصلاح أمور المسلمين، ولو وضعت المنشار على رأسي لم أعترضك
(2)
".
وبطبيعة الحال لن يضع القاضي منشاره على رأس الأمير، ولكن هذه الجملة تعني الخضوع المطلق لأحكام القاضي الشرعية، وفي الوقت نفسه هي دليل على مدى ثقة الأمير بمن اختاره للقضاء.
ولقد كانت أفعال الأمير هشام مؤيدة لقاضيه، حتى أنه عندما اشتكى إليه أحد رجاله من أن القاضي سجل عليه في داره وأخرجه منها،
(1)
- قضاة قرطبة، 23 - 24، وقد ذكر الخشني أن حبيباً القرشي بعد أن اشترى الضيعة من أصحابها بالثمن الذي ارتضوه كان يقول:"جزى الله عني ابن طريف خيرا، كانت بيدي ضيعة حرام فجعلها ابن طريف حلالاً" المصدر السابق، ص 24.
(2)
- ابن القوطية، 44.
رد عليه قائلاً: "وماذا تريد مني؟، والله لو سجل عليَّ القاضي في مقعدي هذا، لخرجت عنه
(1)
".
وأما الأمير الحكم الربضي، الذي اختلفت المصادر في الحديث عن شخصيته
(2)
فقد ذكر الخشني، أنه عندما بلغه أن قاضي الجماعة محمد بن بشير، يحتضر، قام في جوف الليل يصلي في مكان منفرد في القصر، ويبتهل إلى الله تعالى أن يوفقه بقاضٍ يكون عوضاً لقاضيه ابن بشير
(3)
، وذلك على الرغم من أن هذا القاضي كانت له مواقف من الأمير الحكم، فقد أصدر القاضي حكمه في قضية "أرحى القنطرة" ضد رغبة الأمير الحكم، الذي لم يخف استحسانه لفعله، حيث قال "رحم الله محمد ابن بشير فلقد أحسن فيما فعل بنا على كره منا، كان في أيدينا شيء مشتبه فصححه لنا حلالاً طيباً فطاب لنا ملكه
(4)
"، وكانت له كلمة مشهورة تدل على حرصه على العدل، فقد ذكر ابن عذاري أنه كان يقول: "ماتحلى الخلفاء بمثل العدل"
(5)
.
(1)
- البيان المغرب، 2/ 66.
(2)
- انظر: نقط العروس، 73. جذوة المقتبس، ص 10. المعجب، ص 44. البيان المغرب، 2/ 78 - 79. ذكر بلاد الأندلس، ص 125، 127، 128. نفح الطيب، 1/ 342.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 37 - 38.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 29 - 30.
(5)
- البيان المغرب، 2/ 79.
وأما الأمير عبد الرحمن الأوسط، فقد كان يقال لأيامه أيام العروس
(1)
، وذلك لما امتازت به من العدل والهدوء، ومما يدل على حزمه في إقراره العدل قصة التاجر اليهودي الذي شكى لقاضي مارده سليمان بن أسود
(2)
من أن أحد أعوان الأمير محمد بن عبد الرحمن - حاكم كورة ماردة في ذلك الوقت - قد أخذ جاريته منه ولم يسدد ثمنها، أو يردها عليه، وعندما حاول القاضي إقناع الأمير محمد بضرورة إنصاف اليهودي، عمد الأمير إلى الإنكار، فهدده القاضي بأنه سوف يذهب بنفسه إلى والده بقرطبة ويعرض عليه القضية كاملة، فلم يكن أمام الأمير محمد إلا الرضوخ لحكم القاضي، حيث تم تسليم الجارية لليهودي
(3)
.
(1)
- ذكر بلاد الأندلس، 139.
(2)
- أبو أيوب سليمان بن أسود بن يعش ابن جشبيد الغافقي، من سكان مدينة غافق، ولي القضاء في كوره مارده، استدعاه الأمير محمد وولاه قضاة الجماعة بقرطبة، وصف بأنه كان رجلاً صالحاً، متقشفاً، مهيباً، صليباً في حكمه، فيه ذكرة وتحامل على كبار رجالات الدولة وقلة مداراة لهم، تولى القضاء بقرطبة مرتين عزل عن الأولى سنة 260 هـ، وفي سنة 263 هـ أعيد للقضاء وتمادى فيه حتى عزل عنه في عهد الأمير المنذر بن محمد، وقد توفي سليمان بن أسود وهو ابن تسع وتسعين سنة وعشرة أشهر. انظر: قضاة قرطبة، ص 73 - 82، 83 - 89. ابن الفرضي، ترجمة رقم 549. النباهي، المرقبة العليا، ص 56 - 59.
(3)
- النباهي، ص 56 - 57، وانظر: قضاة قرطبة، ص 73. إلا أن الخشني ذكر أن أحد أعوان الأمير محمد انتزع من رجل ابنته، وهذا في الواقع بعيد الحصول لأنه لايمكن في الوسط الإسلامي انتزاع أي بنت كانت أياً كان والدها، فالنباهي كان دقيقاً عندما ذكر أنها جارية لأحد اليهود والجارية كما هو معروف تباع وتشترى.
وفي عصر الخلافة نجد الخليفة عبد الرحمن الناصر يرضخ لحكم قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي، فقد ذكر ابن غالب أن الخليفة أراد شراء دار أيتام زكريا أخي بخدة الحيري، لحظية من نسائه، وكان أولئك الأيتام في حجر القاضي، وكما هو معروف أنه لا يجوز البيع في هذه الحالة إلا عن رأيه ومشورته، ولذا ما إن شعر القاضي أن الخليفة سوف يدفع ثمناً أقل مما يجب في الدار، حتى سارع وأمر الوصي بنقض الدار حيث بيعت الأنقاض بثمن أكثر مما كان الخليفة سيدفعه، وحين اتصل الخبر بالخليفة سأل القاضي عن هذا التصرف، فكان رده {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}
(1)
فما كان من الخليفة إلا أن استحسن رد القاضي وتصرفه، وقال له: نحن أولى من الانقياد إلى الحق، فجزاك الله عنا وعن أمانتك خيراً
(2)
".
وهكذا يتضح مما سبق - والأمثلة كثيرة - أن سياسة بني أمية مع القضاة كانت تتسم بالاحترام والتأييد والمساندة في إنفاذ أحكامهم، وعدم نقضها، بالرغم من أن بعضها كان لا يوافق رغباتهم. كل هذا حرص منهم
(1)
- سورة الكهف الآية رقم 79.
(2)
- فرحة الأنفس، ص 304.
على إتباع الحق، ونشر العدل إذ أن "الظلم مؤذن بخراب العمران
(1)
" ولا ننسى أنهم كانوا شديدي الحرص على سلامة سمعتهم، ليس فقط بين رعاياهم أو الممالك النصرانية المجاورة، وإنما ألا يصل إلى مسامع العباسيين إلا كل جميل عنهم وعن قضاتهم، يدل على ذلك قصة قاضي الجماعة عمرو بن عبد الله، المتوفى سنة (273) هـ (886 م) الذي دارت حوله شكوك في قضية مال لأحد الأيتام، فقد أفتى الفقهاء بتحليف القاضي علناً، إلا أن الأمير محمد بن عبد الرحمن أخذ برأي الفقيه بقي بن مخلد، المتوفى سنة (276) هـ (889 م) الذي قال للأمير: "إن اتصل ببني العباس أنّا نحلف قضاتنا، كان ذلك أعظم ما نعاب به عندهم
(2)
".
وبالمقابل لهذه المساندة التي يقدمها أمراء وخلفاء بني أمية لقضاتهم، نجد الفقهاء يعملون دوماً على تحسين صورة أولئك الحكام أمام رعاياهم، من ذلك مثلاً: العلاقة الوطيدة التي كانت قائمة بين الأمير عبد الرحمن الأوسط والفقيه يحيى بن يحيى الليثي
(3)
ت (234) هـ (848 م) فقد عبر
(1)
- مقدمة ابن خلدون، ص 741.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 84.
(3)
- أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس بن شملل بن منقايار قرطبي، بربري مصمودي، مولى بني ليث، ولد سنة 152 هـ سمع من فقهاء عصره في قرطبة ثم رحل إلى المشرق فسمع من الليث بن سعد ومالك بن أنس وتلاميذه في مصر، ولذلك جمع يحيى فقهه من مدرستي المدينة ومصر المالكيتين، فعاد إلى الأندلس بعلم وفير، وغدا إمام وقته، وعادت الفتيا في الأندلس إليه وتعتبر روايته للموطأ أوسع الروايات انتشارا في المغرب الإسلامي بوجه عام، كان رحمه الله رجلاً عاقلاً، عظيم القدر جليل الذكر، لم ينل أحد من أهل العلم بالأندلس مثل مانال يحيى من الرئاسة والحرمة، وعندما وقع هيج الربض، كان يحيى ممن اتهم فيه، ففر بسبب ذلك إلى طليطلة، فكتب له الأمير الحكم الربضي كتاب أمان، فعاد إلى قرطبة، وعندما تولى الإمارة الأمير عبدالرحمن الأوسط، غدت منزلة يحيى أرفع منزلة رغم رفضه تولي منصب القضاء ومازال في سؤدد حتى وافته المنية، رحمه الله، انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 1556. ترتيب المدارك، 3/ 379 - 394. سير أعلام النبلاء، 10/ 519 - 525. نفح الطيب، 2/ 9.
عنها ابن القوطية بقوله "وكان يلتزم من إعظام يحيى بن يحيى وبره ما لا يلتزم الابن البار للأب الحاني
(1)
" حتى أنه لم يعص له أمراً إلا مرة واحدة
(2)
ومقابل هذا البر كان الفقيه يحيى صاحب مهارة وكياسة في كيفية تزيين اثار الأمير لدى الرعية وحضهم على طاعته واستنهاضهم لتكاليفه
(3)
.
(1)
- ابن القوطية، ص 58.
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 40 - 41.
(3)
- المصدر السابق، ص 42 - 43، ولاشك أنه عندما تكون العلاقة بين الفقهاء وبين ولاة الأمر علاقة طيبة وكلمتهم واحدة للعمل بما فيه صالح الإسلام والمسلمين، فإن ذلك ينعكس بصورة إيجابية على المجتمع، فيتحقق الاستقرار والهدوء الأمر الذي يكفل النماء لكافة مقومات الحياة السعيدة والعكس لا يجلب إلا فتنا لانهاية لها.
وكان الأمير محمد بن عبد الرحمن يجل الفقيهين بقي بن مخلد ومحمد بن عبد السلام الخشني
(1)
ت (268) هـ (882 م) وناصرهما ضد من وقف في وجهيهما من الفقهاء بعد عودتهما من المشرق
(2)
، وبمقابل ذلك كان الفقيه ابن مخلد دائم الدعاء للأمير محمد واصفاً لآثاره معجباً به
(3)
، كما
(1)
- أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن ثعلبة الخشني، من أهل قرطبة، إمام حافظ متقن علامة، طلب العلم على شيوخ عصره، ثم رحل إلى المشرق قبل سنة 240 هـ، فأدى فريضة الحج، وطلب علم الحديث وعلوم اللغة على علماء العراق ومكة ومصر، وأدخل الأندلس علماً كثيراً بعد أن مكث في المشرق خمساً وعشرين سنة. ولم يكن الخشني فقيهاً، بل كان لغوياً راوية للحديث كما كان رحمه الله ثقة مأموناً. وبسبب إدخاله كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد تعرض لإنكار بعض الفقهاء، بل ضيق عليه وسجن حتى أنقذه الله تعالى بسبب الأمير محمد بن عبد الرحمن، وقد وصف الخشني بفصاحة اللسان، وجزالة المنطق، كما كان صارماً أنوفاً منقبضاً عن الأمراء، وعندما أراده الأمير محمد على القضاء رفض بشدة، وقد خلط البعض بينه وبين محمد بن حارث الخشني صاحب كتاب قضاة قرطبة. توفي رحمه الله يوم السبت لأربع بقين من شهر رمضان سنة 286 هـ. انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 1134. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 250 - 261. جذوة المقتبس، ترجمة رقم 100. سير أعلام النبلاء، 13/ 459 - 460.
Francisco pons Boigues: Storiadores y Geografos Arabico- Espanoiles- Madrid، 1898، p: 48>
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 248 - 252.
(3)
- العقد الفريد، 4/ 494 - 495.
أن الفقيه الخشني كان إذا قعد للإسماع ابتدأ القارئ عليه بالدعاء للأمير محمد، وإذا فرغ ختم به
(1)
".
وفي عهد الخليفة هشام المؤيد كان الحاجب المنصور بن أبي عامر لا ينفذ بعض أحكام قضاته
(2)
، فقد تدخل في حكم قضائي صدر ضد قاسم بن محمد المرواني المعروف بالشبانسي، الذي أودع السجن تميهداً لقتله، إلا أنه أفرج عنه لقصيدة مدحه فيها
(3)
.
وقد اقتضت رسوم الدولة الأموية في الأندلس أن تكون مخاطبة القاضي للأمير أو الخليفة الأموي بـ"التسييد
(4)
" وهذا ما كان يلتزمه الفقيه يحيى بن يحيى الليثي مع الأمير عبد الرحمن الأوسط
(5)
، كما أن قاضي
(1)
- المقتبس، تحقيق: محمود مكي، ص 252.
(2)
- عندما وُضعت جنازة الخليفة الحكم المستنصر بالله تقدم ابنه هشام المؤيد للصلاة عليه، فقال القاضي ابن سليم، وما تغني صلاة أمير المؤمنين عنه، ثم برز عن الصف بنية الإمامة، وروى عنه أن قال: لولا إني نويت عقد الصلاة بمقامي هذا لدفن بغير صلاة، انظر: ترتيب المدارك: 6/ 288 - 289. فلما علم المنصور بذلك أخذ يسعى في توهين أمر ابن السليم ويتعرض لأحكامه وينقض قضاياه.
(3)
- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 767. بغية الملتمس، ترجمة رقم 1296. نفح الطيب، 3/ 592.
(4)
- النباهي، ص 78.
(5)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود علي مكي، ص 44.
الجماعة محمد بن يبقى بن زرب
(1)
، المتوفى سنة (381) هـ " (991) م" كان يخاطب الخليفة هشام المؤيد بـ"أصلح الله أمير المؤمنين سيدي وأبقاه وأيده بطاعته
(2)
".
ونظراً لأن الحاجب المنصور بن أبي عامر سبق وأن أصدر أوامره بأن تكون مخاطبته بلفظ "سيدي
(3)
" لأجل هذا فقد كان القاضي ابن زرب يخاطبه بـ"يا سيدي ومن وفقه الله لطاعته وعصمه بتقواه
(4)
".
(1)
- أبو بكر محمد بن يبقى بن محمد بن زرب بن يزيد بن مسلمه، قرطبي ولد يوم الجمعة التاسع من شهر رمضان سنة 317 هـ، وطلب العلم على فقهاء قرطبة، برع في حفظ المسائل على المذهب المالكي حتى عد أحفظ أهل زمانه لها كان أحد المشاورين عند قاضي الجماعة محمد بن إسحاق بن السليم، وبعد وفاته تولى محمد بن يبقى قضاء الجماعة يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة 367 هـ فكان في أحكامه بعيداً عن الحيف، وكان لا يجلس للقضاء حتى يأكل كما كان كثير الصلاة كثير التلاوة للقرآن، بصيراً بالعربية، فيه سلامة تجعله يقبل .... مواجهة، وقد ألف كتاباً في الفقه أجاد فيه، وكان المنصور بن أبي عامر يجله ويعظمه ويتحرك له ويجلسه على فراشه، ومع ذلك لم يقبل له ابن زرب يداً قط، وقد توفي رحمه الله ليلة الأحد الثاني عشر من شهر رمضان سنة 381 هـ ودفن يوم الأحد بعد صلاة العصر في مقبرة قريش، ففقده الناس وأثنوا عليه ثناءً حسناً، وأظهر المنصور لموته غماً شديداً، انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 1363. بغية الملتمس، ترجمة رقم 325، ابن فرحون الديباج المذهب (القاهرة، مكتبة عباس عبد السلام شقرون، ط الأولى 1351 هـ) ص 268 - 269.
(2)
- النباهي، ص 78.
(3)
- البيان المغرب، 2/ 294.
(4)
- النباهي، ص 78.
تعطل منصب قاضي الجماعة:
بالرغم من الاهتمام الكبير الذي أولاه الأمويون في الأندلس للقضاء إلا أن المصادر أوردت ذكر تعطل منصب "قاضي الجماعة" ثلاث مرات طيلة تاريخ الدولة الأموية هناك.
ففي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، وبعد أن توفي قاضي الجماعة يحيى بن معمر الألهاني سنة (209) هـ (824 م) بقي الناس بغير قاضي مدة ستة أشهر
(1)
.
وفي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن تعطل القضاء، فقد خرج قاضي الجماعة عمرو بن عبد الله للغزو مع وليد بن هاشم سنة (263) هـ (877 م) وعند عودته لم يؤمر بالنظر في القضايا، وعدم صدور الأمر للقاضي بالنظر بعد عودته من الغزو علامة على أنه قد عُزل عن منصبه، وبذلك ظل منصب قاضي الجماعة معطلاً طيلة ستة أشهر حتى أعيد إلى القضاء سليمان بن أسود للمرة الثانية
(2)
.
وأما الخليفة المستعين بالله سليمان بن الحكم، فقد عطل خطة القضاء ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر بحجة أنه لم يجد الكفء لهذه الخطة، بعد أن اعتذر عنها وليه أحمد بن ذكوان
(3)
.
(1)
- قضاة قرطبة، 51.
(2)
- المصدر السابق، ص 83.
(3)
- النباهي، ص 89.
وتعطيل منصب القضاء في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط وابنه محمد أمر مثير للتساؤل، خاصة في وسط يعج بالفقهاء الأكفاء، كما هو حال المجتمع الأندلسي آنذاك، وقد كان بمقدور أي منهما تكليف أحد الفقهاء للقيام بهذه المهمة أو أن يدل على من هو أهل لها
(1)
، وبما أن بقاء الناس بدون قاضي مفسد لأحوالهم. إذاً ما هو العذر في تعطيل ذلك المنصب الهام؟
لعل حجة الأمير عبد الرحمن الأوسط وابنه في تعطيل منصب القضاء راجع إلى حرصهما على أن يكون القاضي الجديد لا يقل كفاءة عن سلفه
(2)
. وأما تعطله في عهد المستعين، فالناس كانوا في فتنة عظيمة لا ينال فيها صاحب الحق حقه حتى وإن كان القاضي في مجلسه، بالإضافة إلى هرب معظم الفقهاء من قرطبة بسبب الفتنة.
وبالرغم من المكانة السامية التي يتمتع بها قاضي الجماعة بقرطبة، إلا أن سلطته تبدو محدودة مقارنة بمكانته، فسلطته لا تتجاوز قرطبة، وقضاؤه يتوقف عند حدودها، وليس له على قضاة كور الأندلس أي سلطة.
والسبب في ذلك يوضحه لنا ابن حيان، فقد ذكر أن بني أمية في الأندلس "لم يفوضوا أمر القضاة إلى قاضي في وقت من الأوقات
(3)
" سواء
(1)
- من ذلك فعل الأمير عبد الرحمن الأوسط مع الفقيه يحيى بن يحيى الليثي. انظر: قضاة قرطبة، ص 5. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 58 - 59. النباهي، ص 14 - 15.
(2)
- انظر: قضاة قرطبة، ص 5. قارن: النباهي، ص 14 - 15.
(3)
- المغرب في حلى المغرب، 1/ 215.
في الأحكام أو التعيين والعزل، لكننا نجد لدى الخشني نص يفيد بأن هذه القاعدة يمكن تجاوزها، شريطة أن يصدر تفويض من الأمير بذلك، يتمكن من خلاله قاضي الجماعة من بسط نفوذه حيث يصبح بإمكانه إصدار أوامره لأحد قضاة الكور وتفقد أحواله أو حتى عزله وتعيين سواه، من ذلك أن أهل كورة استجه رفعوا للأمير الحكم الربضي كتاباً يسألونه فيه تعيين قاضٍ يقضي بينهم، فأحال الأمير كتابهم إلى قاضي الجماعة سعيد بن محمد ابن بشير المعافري ليختار لهم من يراه
(1)
.
ثقافة القاضي:
جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً، أنه قال له:"كيف تقضي إن عرض عليك القضاة؟ "قال: "أقضي فيما في كتاب الله" قال: "فإن لم يكن ذلك في كتاب الله؟ " قال: "أقضي بسنة رسول الله" قال: "فإن لم يكن ذلك في سنة رسول الله؟ "قال: "أجتهد رأيي ولا آلو" قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره
(1)
- قضاة قرطبة، ص 38. لقد اخُتلف كثيراً في جواز حكم القاضي في قضية وقعت خارج النظام الإقليمي المحدد لولايته، عن الآراء في هذه المسألة. انظر: أبو إسحاق إبراهيم بن حسن بن عبد الرفيع، معين الحكام على القضايا والأحكام، (تحقيق: د. محمد بن قاسم بن عياد: دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط الأولى 1989 م) 2/ 613 - 614.
بيده، وقال:"الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله"
(1)
.
هذا الحديث الشريف الذي أقر فيه النبي صلى الله عليه وسلم قول معاذ رضي الله عنه قد جمع المصادر التي يمكن بواسطتها استنباط الأحكام. فعندما يكون النص من الكتاب والسنة متعذراً لابد من الاجتهاد، والذي تجدر الإشارة إليه أن الاجتهاد الذي يلجأ إليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم على قيد الحياة، لا يأخذون به إلا في حالة بعد الشقة بينهم وبينه، والأمر يتطلب البت حالاً، أما في حالة كونهم معه فإنهم يرجعون إليه في كل صغيرة وكبيرة ليمتثلوا أوامره عليه الصلاة والسلام
(2)
.
وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزود من يوليهم القضاء بوصاياه وإرشاداته الكريمة
(3)
، وعلى هذا المنوال سار من أتى بعده من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وغيرهم، ولعل أشهر تلك الوصايا كتاب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما
(4)
.
(1)
- أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، الجامع الصحيح "سنن الترمذي، (دار الفكر للنشر والتوزيع. القاهرة، 1400 هـ 1980 م) 2/ 394.
(2)
- محمود محمد عرونس، تاريخ القضاء في الإسلام، (المطبعة المصرية الأهلية الحديثة، القاهرة، 1352 هـ 1934 م) ص 19.
(3)
- سنن الترمذي، 2/ 395.
(4)
- أدب القاضي، ص 45. العقد الفريد، 1/ 101.
هذه الوصايا والإرشادات التي وصلت إلينا منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه رضي الله عنهم، جميعها تشكل القاعدة الرئيسية للثقافة التي يجب أن يتحلى بها من يلي القضاء.
ومن اجتمع فيه الدين والعلم وكان "مطلعاً على أقضية من مضى، غير مستكبر عن مشاورة من معه من أهل العلم، ورعاً، ذكياً فطناً، فهماً غير عجول، نزيهاً عما في أيدي الناس عاقلاً، مرضي الأحوال، غير هيَّاب للأئمة
(1)
" كان هو الأصلح للقضاء.
ولأن من النادر اجتماع هذه الخصال في رجل واحد - باستثناء السلف الصالح - لأجل هذا نجد الإمام مالك بن أنس، المتوفى سنة (179) هـ (795 م) رحمه الله، يقول: "ولا أرى خصال القضاء تجتمع اليوم في أحد، فإن اجتمع منهما خصلتان: العلم والورع، ولي
(2)
"، في حين يرى الفقيه عبد الملك بن حبيب
(3)
، أن صفتي العقل والورع تؤهلان الرجل
(1)
- معين الحكام، 2/ 608.
(2)
- لباب الألباب، ص 254. معين الحكام، 2/ 609.
(3)
- أبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون السلمي، أصله من قرية قورت، ولد بالبيرة سنة 174 هـ، ونشأ بها، ثم تحول إلى قرطبة طلباً للعلم، ومن أجله رحل إلى المشرق سنة 208 هـ، ثم انصرف إلى الأندلس سنة 210 هـ حاملاً معه علماً كثيراً، نشره في بلدته، وعندما ذاعت شهرته وعرفت مكانته أمر الأمير عبد الرحمن الأوسط بنقله إلى قرطبة، وجعله مشاوراً مع يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان، وقد ألف عبد الملك كتباً كثيرة تجاوزت الألف كتاب في فنون شتى كالفقه والحديث والسير والشمائل والتراجم والتاريخ والطب، ويعتبر كتابه "الواضحة" من أشهر مصنفاته. وصف بأنه عالم الأندلس، فقد كان نحوياً عروضياً شاعراً، حافظاً للأخبار والأنساب والأشعار، متصرفاً في فنون العلم، إلا أنه مع غزارة علمه لم يكن له علم بالحديث ولا كان يعرف صحيحه من سقيمه وبعد وفاة يحيى بن يحيى انفرد عبد الملك بن حبيب برئاسة العلم، ومازال رحمه الله، في سؤدد حتى وافته المنية يوم السبت الخامس من شهر رمضان سنة 238 هـ. انظر: قضاة قرطبة، ص 50، 52 - 53، 59 - 60. ابن الفرضي، ترجمة رقم 816. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 45 - 48، 55 - 56،، 59 - 60. ترتيب المدارك 4/ 122 - 142. الإحاطة في أخبار غرناطة، 3/ 548 - 553. الديباج المذهب، ص 154 - 156. Bolgues، op.cit- p: 29 - 37 محمد العربي الخطابي، الطب والأطباء في الأندلس الإسلامية، (دار الغرب الإسلامي بيروت. ط الأولى 1988 م)، 1/ 85 - 89.
للقضاء، لأنه بالعقل يسأل ويشير وبالورع يعف
(1)
، وورد لدى النباهي أن "كثير العقل مع قليل العلم أنفع من كثير العلم مع قليل العقل، وليس العلم بكثرة الرواية والحفظ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، وإنما العلم نور يضعه الله في القلب
(2)
".
وقد ذكر ابن عبد ون الصفات الخلقية التي يجب أن يكون عليها القاضي باعتباره قدوة الجميع فهو يرى أن القاضي يجب "أن يكون جزلاً
(1)
- لباب الألباب، ص 254. النباهي، ص 2. معين الحكام، 2/ 609.
(2)
- النباهي، ص 2.
في قوله، صارماً في أمره، محقاً في حكمه، مصوناً عند الناس وعند الرئيس والجمهور عارفاً بحكم الله
(1)
".
وقد استقصت بعض المصادر
(2)
ذكر تلك الخصال وكلها تدور حول كون القاضي قدوة للخاصة والعامة ولذا فلابد أن تتوافر فيه الشروط التي تؤهله لذلك.
وعندما نقلب صفحات تراجم قضاة قرطبة، نجد أن معظمهم قد توفرت فيهم العديد من الصفات التي اشترطها الفقهاء فيمن يلي القضاء
(3)
.
وبالمقابل لصور هؤلاء القضاة، نجد صوراً أخرى قاتمة لقضاة وجدوا في عصر الفتنة، من سنة (399) هـ-422 هـ (1009 - (1031) م) ويصور لنا ابن حيان حال أحدهم في تلك الفترة، فذكر أن رجلاً كان فلاحاً ثم ناسب أسرة ابن ذكوان، وتولى القضاء آنذاك، فكان ذلك الرجل، مع ثرائه "مضاع الجار، ممطول الغريم، عاتب الصديق، مكرها للأنام
…
ضيق الباع في العلم والفضل، والاتساع في الجهل، فلا يحفظ في الفقه مسألة، ولا يوثق من الشروط عقداً، ولا يتخلص في التلاوة من سورة، ولا يفيض في الأدب ببيت شعر، ثم يأوي بجهله إلى حرج صدر، وغالب نزق، فلا
(1)
- رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة، ص 7.
(2)
- أدب القاضي، ص 108. الأحكام السلطانية، ص 53 - 54، النباهي، ص 3 - 5. المعيار المعرب، ص 10/ 76 - 77.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 14، 61، 74 - 75، 111. ترتيب المدارك، 7/ 168.
تلقاه الخصوم أبداً إلا سريع الغضب، سيء التناول، ينازق الذباب شراسة
(1)
".
صلاحيات القاضي واختصاصاته:
للقاضي صلاحيات وسلطات يمارسها دون غيره من أهل الخطط، فهو ينظر في عشر مسائل، هي: الفصل في المنازعات، والعمل على إيصال الحقوق لمستحقيها، وإلزام الولاية للسفهاء والمجانين والحجر على المفلس حفظاً للأموال، والنظر في الأحباس والوقوف والتفقد لأحوالها وأحوال الناظر فيها، كذلك له تنفيذ الوصايا على شروط الموصي إذا وافقت الشرع، ويتولى تزويج الأيامى من الأكفاء في حالة عدم وجود الأولياء، وله إقامة الحقوق سواء كانت من حقوق الله تعالى أو من حقوق الآدميين، بالإضافة إلى النظر إلى مصالح العامة من كف التعدي في الطرقات والأفنية، وإخراج مالا يستحق من الأجنحة والأقنية، وتفقد أحوال الشهود والأمناء واختبار من يرتضيه لذلك، وأخيراً، وجوب التسوية في الحكم بين القوي والضعيف وتوخي العدل بين الشريف والمشروف
(2)
.
وإذا نظرنا إلى قضاة قرطبة، نجد أنهم كانوا يطبقون تلك الاختصاصات والصلاحيات تطبيقاً عملياً، فقد كانوا يتناولون في
(1)
- الذخيرة ق 1 م 1 ص 592.
(2)
- النباهي، ص 5 - 6.
أحكامهم مسائل متنوعة، وتكون الأحكام الصادرة عنهم مرتكزة على آراء الفقهاء والمشاورين الذين تتم استشارتهم في تلك القضايا، من ذلك "قضية وارث غائب في المشرق وله شرك في دار وطلب الورثة قسمة الدار، وأفتى الفقهاء ببيع الدار، وحفظ حق الوريث الغائب في قيمة ميراثه، وذلك لأن الدار لا تحتمل القسمة
(1)
".
وعندما تقدمت جارية مملوكة للقاضي وادعت أن سيدها غاب عنها ولم يترك لها نفقة، أمر القاضي ببيعها، وحفظ الثمن عند أحد الثقات إلى أن يرجع سيد الجارية فيسلم له
(2)
.
وقاضي الجماعة يركب لحيازة أرض محبسة
(3)
، أو للوقوف على أطوال أرض معينة، مثل ركوب قاضي الجماعة أحمد بن بقي
(4)
بن مخلد
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 204.
(2)
- معين الحكام، ص 2/ 620.
(3)
- مطمح الأنفس، ص 255.
(4)
- أبو عبد الله أحمد بن بقي بن مخلد بن يزيد، ولد في شهر ذي الحجة سنة 260 هـ، فتربى ونشأ في حجر أبيه، وطلب العلم عليه، نبغ مبكراً، وارتفعت منزلته حتى أن الأمير عبد الله بن محمد شاوره وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، رزق هيبة عظيمة، وقد بلغ من عظم مكانته عند الناس، أن الحاجب موسى بن محمد بن حدير قال عنه: عافانا الله من أحمد بن بقي أنه مال إلى الآخرة وطريقها ولو مال إلى الدنيا لشغلنا بأنفسنا، وقد كان رحمه الله زاهداً، فاضلاً، حليماً، عاقلاً، حصيفاً، أديباً، بليغاً، أنيس المجلس، صادق اللهجة، متواضعاً، رقيق القلب، من رآه أحبه، شديد الحفظ للقرآن، كثير التلاوة له، عالم بتفسيره ومعانيه واختلاف العلماء فيه، تولى قضاء الجماعة مقروناً مع الصلاة والخطبة سنة 314 هـ. فحمدت سيرته، وظل في منصبه حتى وافته المنية ليلة الاثنين الأول من جمادى الأولى سنة 364 هـ. انظر: قضاة قرطبة، ص 111 - 117. ابن الفرضي، ترجمة رقم 103. ترتيب المدارك 5/ 200 - 209. سير أعلام النبلاء 15/ 83 - 84.
إلى مقبرة الربض لامتحان الحدود التي سبق وأن أثبتها قاضي الجماعة الأسوار بن عقبة
(1)
، وكذلك معاينة حائط فيها تنازع
(2)
، ومنع الضرر الحادث من دخان فرن ونحوه
(3)
، والتحقيق في قضايا القتل الخطأ
(4)
، والحكم بالعقلة
(5)
، والإشراف على المساجد والميضأة ونظافة أفنيتها وفتح أي باب من أبواب المسجد أغلق منذ مدة طويلة
(6)
.
(1)
- قضاة قرطبة، ص 49. أبو عقبة الأسوار بن عقبة بن حسان بن عبد الله النصري، من أهل جيان، ولاه الأمير عبد الرحمن الأوسط القضاء بعد عزله للقاضي يحيى بن معمر الألهاني سنة 260 هـ، وقد وصف الأسوار بأنه كان من أهل التحري والخير والفضل والتواضع وحسن السيرة، عاقلاً له مسجد يعرف باسمه يقع في الزقاق الكبير بقرطبة، عزله الأمير عبد الرحمن عن القضاء سنة 213 هـ ثم رأى بعد ذلك إعادته إلا أن الأسوار رفض بشدة. انظر: قضاة قرطبة، ص 48 - 49. ابن الفرضي، ترجمة رقم 279. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 40، 57 - 58.
(2)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 205.
(3)
- قضاة قرطبة ص 79.
(4)
- د. محمد عبد الوهاب خلاف، وثائق في أحكام القضاء الجنائي في الأندلس، مستخرجه من مخطوط الأحكام الكبرى للقاضي ابن أبي الأصبع بن سهل ص 47.
(5)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 209.
(6)
- المرجع السابق ص 210.
كما أن له الإشراف على المقصورة المقامة في المسجد الجامع بقرطبة، ولا يؤذن لأحد بالصلاة فيها إلا بأمره
(1)
، والنظر في المشاجرات سواء التي كانت تنشأ بين الزوجين أو بين أي اثنين من أفراد المجتمع بسبب رهن أو بيع فيه عيوب ونحو ذلك
(2)
. ومن الأمور التي يبرز فيها دور القاضي في تهدئة الأحوال في مجتمعه أنه عقب هيج الربض الذي اندلع بقرطبة ضد الأمير الحكم الربضي، أُتهم أحد أقارب قاضي الجماعة الفرج بن كنانة
(3)
بالاشتراك في ذلك الهيج، فتسور الأعوان عليه داره ليقتلوه، فعلت أصوات النساء، وعندما استفسر الفرج بن كنانة عن سبب ذلك الصراخ، وأخبر بحقيقة الأمر خرج مسرعاً إلى رئيس الأعوان وخاطبه في الأمر، فرد عليه رداً جافاً، فغضب الفرج وذهب للأمير الحكم وقال له: "أيها الأمير، أصلحك الله، إن قريشاً حاربت النبي صلى الله عليه وسلم وناصحته
(1)
- قضاة قرطبة، ص 104.
(2)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 213 - 214.
(3)
- أبو القاسم فرج بن كنانة بن نزار بن غسان بن مالك بن كنانة الكناني، من أهل شذونة، كان من أهل العلم والعبادة، رحل إلى المشرق طلباً للعلم، وبعد عودته ولاه الأمير الحكم الربضي قضاء الجماعة بقرطبة وذلك سنة 198 هـ. فمكث في منصبه إلى أن استعفى منه سنة 200 هـ، وكان له الأثر العظيم في الأمان الذي بذله الأمير الحكم الربضي لأهل الربض، وقد كان الفرج فارساً شجاعاً، ولذا فقد قاد الجيوش في أعمالها العسكرية في الثغور، كما تولى الحكم في سرقسطة فأصلح الله به أحوال أهلها. انظر: قضاة قرطبة، ص 40 - 44. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1030. ترتيب المدارك 4/ 144 - 145.
العداوة، ثم أنه صفح عنهم وأحسن إليهم، وأنت أحق الناس بالاقتداء به لقرابتك منه، ثم حكى له القصة وما عرض له، فأمر بضرب الناظر في ذلك الشغب وعفا عن بقية أهل قرطبة، وبسط الأمان لجماعتهم، واستألفهم إلى أوطانهم
(1)
.
ولقاضي الجماعة دور في محاربة الأهواء والبدع، فقاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز
(2)
، المتوفى في أواخر شهر رجب سنة (319) هـ (أغسطس سنة (931) م) أمر بضرب أحد النصارى لأنه ادعى لنفسه
(1)
- قضاة قرطبة، 41.
(2)
- أبو الجعد أسلم بن عبد العزيز بن هاشم بن خالد بن عبد الله، ولد سنة 231 هـ، من ذرية أبان مولى الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه أصله من لوشه بغرناطة، وأسرته معروفة هناك، وفيهم أعلام وفضلاء، كان من خيار أهل إلبيرة، طلب العلم بها، ثم أخذ عن أعلام قرطبة، وبالذات بقي بن مخلد فقد صحبه طويلاً وفي سنة 260 هـ رحل أسلم إلى المشرق، وأخذ العلم عن أعلامه وعاد إلى الأندلس بإسناد عالٍ وعلم جم، فنال الوجاهة العظيمة، وكان الخليفة عبد الرحمن الناصر عارفاً بمروءة أسلم وحسن طويته ولذا فقد ولاه قضاء الجماعة يوم الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة 300 هـ فحمدت سيرته، فقد كان قليل المداراة في الحق، وفي سنة 309 هـ عزل عنه، ثم أعيد إليه سنة 312 هـ، ولم يزل إلى أن مل واستعفى وقد كان الخليفة الناصر يستخلفه في سطح القصر إذا خرج لمغازيه وتوفي أسلم رحمه الله لسبع بقين من رجب سنة 369 هـ. انظر: قضاة قرطبة، ص 106 - 109، 111. ابن الفرضي، ترجمة رقم 280، جذوة المقتبس، ترجمة رقم 322. ترتيب المدارك، 5/ 194 - 200. سير أعلام النبلاء، 14/ 549. الإحاطة 1/ 419 - 422.
الإتيان بمعجزات لم تكن إلا لعيسى عليه السلام
(1)
، كما أن قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي، المتوفى أواخر شهر ذي القعدة سنة (355) هـ (نوفمبر سنة (966) م) أفتى بكفر وإلحاد أبي الخير
(2)
ووجوب قتله دون أن يستتاب لأنه كان يسب الصحابة ويطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ويرمي أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها بالكذب، وكان مادحاً للخمر شارباً له زانياً لواطاً آكلاً للحم الخنزير هازلاً بكتاب الله طاعناً في السنن وأهلها، محتجاً على أهل السنة بالبدع، مؤولاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم على غير مقصده، تاركاً للصلوات الخمس، وحضور الجمعة، مدعياً بأحقية علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنبوة، وأن محاربة بني أمية أحق من محاربة الشرك، وكان يدعو لدعوة أبي تميم معد الملقب بالمعز لدين الله الفاطمي
(3)
، ويرى الخروج على
(1)
- قضاة قرطبة ص 108 - 109.
(2)
- عن أبي الخير وحقيقة اسمه، انظر: د. محمد عبد الوهاب خلاف، ثلاث وثائق في محاربة الأهواء والبدع في الأندلس. (القاهرة، المركز العربي الدولي للإعلام، ط الأولى 1981 م) ص 48 - 49.
(3)
- معد بن إسماعيل بن القائم بن المهدي أحد حكام العبيديين، ولد بالمهدية في المغرب سنة 319 هـ، بويع بالحكم في المنصورية بعد وفاة أبيه سنة 341 هـ، ودخل القاهرة المسماة بـ"القاهرة المعزية" يوم الخامس من رمضان سنة 362 هـ. وقد كان معد عاقلاً لبيباً حازماً ذا أدب وعلم ومعرفة وجلالة وكرم، قال عنه الذهبي "ولولا بدعته ورفضه لكان من خيار الملوك، مات معد في ربيع الآخر سنة 365 هـ بالقاهرة، انظر: ابن سعيد، النجوم الزاهرة في حُلى حضرة القاهرة، تحقيق: د. حسين نصار، (القاهرة وزارة الثقافة، 1970 م) ص 46 - 48. ابن تفري بردي، النجوم الزاهرة، (القاهرة دار الكتب المصرية، ط الأولى، 1352 هـ/1933 م) 4/ 69 - 109. المقريزي، إتعاظ الحنفاء، 1/ 93 - 150، 208 - 235.
الخليفة، الحكم المستنصر بالله بالسلاح، ويطعن على أئمة المسلمين وخلفائهم وفقهائهم، وينكر الشفاعة، ويدعي تخليد المذنبين من الموحدين في النار
(1)
.
وقد أيد الخليفة الحكم المستنصر بالله رأي القاضي ومن معه من الفقهاء، وأصدر في ذلك كتاباً قرئ على منابر الأندلس فيه الوعيد الشديد للزنادقة، ولمن أفتى بغير المذهب المالكي
(2)
.
وبالإضافة إلى ما سبق، فقد كان من مهام القاضي المحافظة على القيم الإسلامية في المجتمع الأندلسي، فقد ذكر أنه كان في تطيلة امرأة "لها لحية كاملة كلحى الرجال، وكانت تتصرف في الأسفار وسائر ما يتصرف فيه الرجال فلا يؤبه لها حتى أمر قاضي الناحية نسوة من القوابل بالنظر إليها، فأخبرنه أنها امرأة فأمر القاضي بحلق لحيتها، وأن تتزيا بزي النساء، وألا تسافر إلا بذي محرم
(3)
".
(1)
- انظر: د. محمد عبد الوهاب خلاف: ثلاث وثائق في محاربة الأهواء والبدع في الأندلس، ص 57 - 82.
(2)
- المعيار المعرب، 2/ 333.
(3)
- فرحة الأنفس، ص 287.
وللقاضي الإشراف على بيت المال، وعليه أن يتفقد أمر العاملين فيه كل عام وإن أمكن كل شهر، ولا يأذن لأحد في التصرف فيه إلا عن رأيه، والقاضي والفقهاء يدبرون أمر بيت المال ويصلحون شأنه بحيث يكون بعضهم على بعض شهيداً
(1)
.
ويتولى القاضي في بعض الأحيان مساءلة العمال إذا كثرت شكاوى الرعية منهم، فقاضي الجماعة سليمان بن أسود حكم على يوسف بن بسيل عامل شذونه، وذلك بسبب دعاوى رفعت ضده، كلها تتهمه باستغلال منصبه واغتصاب أموال بعض الأهالي في شذونه
(2)
.
والقاضي يتولى عملية الإشراف على الوثائق والتدقيق فيها، وإنزال العقوبة في من يثبت تدليسه فيها، فقد ذكر النباهي أن قاضي الجماعة محمد بن بشير المعافري
(3)
قد ثبت لديه أن رجلاً كان يدلس في الوثائق
(1)
- رسالة ابن عبدون، ص 10، 22.
(2)
- قضاة قرطبة، 77 - 78.
(3)
- أبو عبد الله محمد بن بشير بن شراحيل المعافري، أصله من جند باجة من عرب مصر، طلب العلم عند شيوخ قرطبة، ثم رحل إلى المشرق فحج ولقي الإمام مالك بن أنس وجالسه وسمع منه، كما طلب العلم بمصر ثم انصرف إلى الأندلس، فعمل كاتباً للقاضي المصعب بن عمران إلى أن توفي فولاه الأمير الحكم منصب القضاء وفق شروط اشترطها ابن بشير، فظل في منصبه محمود السيرة إلى وفاته رحمه الله سنة 198 هـ، وقد كان ابن بشير محل ثناء علماء الأندلس، وقد قال عنه الأمير الحكم "كنت مستريحاً من أخبار الناس وظلامتهم لما علمت من عدله وثقته" كما اعتبره ابن القوطية بأنه خير القضاة بالأندلس وأفضلهم وأعدلهم. انظر: قضاة قرطبة، ص 28 - 38. ابن القوطية، ص 44، 45، 57. ترتيب المدارك، 3/ 327 - 339. بغية الملتمس، ترجمة رقم 69. النباهي، ص 47 - 53.
وأنه قد عقد وثيقة مدلَّسة على أحد التجار، فأمر القاضي ابن بشير بقطع يد ذلك الرجل فقطعت
(1)
.
كذلك تعرض على القاضي مسائل الحبس الخطأ
(2)
، ويقوم بتعيين إمام مسجد السجن وتكون أجرته من بيت المال
(3)
كما يتولى مراقبة ما يصرف من أجرة أو إنفاق أو إصلاح موضع من الثغور ومدافعة عدو
(4)
.
ومن مهام القاضي ارتقاب شهر رمضان المبارك لإبلاغ الخليفة بذلك، ونشر الخبر بين الناس
(5)
.
وفي أحداث الفتنة البربرية كان لقاضي الجماعة ابن ذكوان موقفاً معتدلاً، فقد كان يرى ضرورة الصلح وإيقاع السلم مع البربر وقائدهم سليمان بن الحكم
(6)
، كما حذر هشام بن سليمان من الفتنة وسوء
(1)
- النباهي، ص 48.
(2)
- وثائق في أحكام القضاء الجنائي، ص 52، 54.
(3)
- ابن عبدون، ص 19.
(4)
- المصدر السابق، ص 11.
(5)
- النباهي، ص 78.
(6)
- ترتيب المدارك: ص 7/ 173.
العاقبة
(1)
، ونصح الخليفة هشام المؤيد بعدم الأخذ بآراء حاجبه واضح الصقلبي
(2)
.
هذه صورة مجملة، للمهام التي أنيطت بالقاضي، الذي هو بدوره ركيزة أساسية يقوم عليها أي مجتمع كان، فهو القدوة، وبيده تحقيق العدالة التي هي سر الاستقرار والأمان، ولذا فعندما عمت الفتنة البربرية وتوارى دور القضاة، نجد ابن عبد ون يحملهم مسئولية ما وقع في قرطبة وغيرها من مدن الأندلس، فبعد أن تحدث عن الفساد الذي أصاب قلوب الناس، وما تبع ذلك من وقوع الهرج، قال "لا يصلح هذه الأمور إلا نبي بإذن الله، فإن لم يكن زمن نبي، فالقاضي مسئول عن ذلك كله، ومن كان في عون المسلمين كان الله في عونه، فعليه أن يصرح بالحق، ويجري إلى الصلاح والعدل والتخلص، وينظر لنفسه فعسى يتخلص، والله بعزته يسدّده ويوفقه للخير ويعينه عليه، إنه منعم بذلك، والقادر على كل شيء
(3)
".
(1)
- البيان المغرب، 3/ 79.
(2)
- ترتيب المدارك، 7/ 173.
(3)
- ابن عبدون ص 60.
مجلس القاضي ورسومه:
كان المسجد النبوي الشريف مكاناً للقضاء، وذلك طيلة عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه تم بناء أول دار للقضاء
(1)
.
وبعد ذلك اتخذ قضاة الأمصار في الدولة الإسلامية الجامع مكاناً لانعقاد مجالس القضاء "لأنه أسهل المجالس، وأرفقه بالناس، وأحرى ألا يخفى على من أراد مجلس القاضي
(2)
" وفي هذا يقول الفقيه ابن العطار، المتوفى سنة (399) هـ (1009 م): "إن للقاضي أن يلتزم النظر في المسجد، فهو كان من فعل المتقدمين بهم السالفين، ليصل إليهم القوي والضعيف، ولا ينبغي أن يحجب عنه أحداً، وهو أقرب إلى التواضع وأحوال النساك والصالحين
(3)
".
وكون المسجد الجامع، هو المكان الرئيسي للقضاء، لا يعني بالضرورة عدم جواز عقده فيما سواه، فللقاضي أن يجلس للقضاء في
(1)
- محمد سلام مدكور، القضاء في الإسلام، ص 26.
(2)
- أدب القاضي، ص 85.
(3)
- كتاب الوثائق والسجلات، ص 492. وانظر ما ورد لدى السقطي عن موقف صاحب الحسبة ببغداد عندما وجد القاضي قد جلس للقضاء في الجامع، أبو عبد الله محمد بن أبي محمد السقطي، آداب الحسبة، (نشر: س. كولان. ليفي بروفنسال، باريس، 1931 م) ص 2 - 3.
المساجد المجاورة لبيته
(1)
، بل ربما كان بيت القاضي مكاناً للقضاء، فقد كان قاضي الجماعة إبراهيم بن العباس القرشي في بعض الأحيان يجلس في بيته يقضي بين الناس وجاريته تنسج في ناحية من نواحيه
(2)
.
ويستحب للقاضي إذا دخل المسجد لعقد الجلسة القضائية، أن يركع ركعتين أو أربعاً، يدعو لنفسه فيهما أن يوفقه الله تعالى للصواب ويعصمه من الزلل
(3)
، وعند جلوسه لابد أن يكون في حالة لا تكدرها أي منغصات من غضب أو جوع أو نحوهما
(4)
، فقد نهى المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم عن الحكم في حال الغضب، فقال:"لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان"
(5)
. ثم يجلس للحكم مستقبلاً القبلة بوجهه
(6)
، ولا حرج عليه أن يكون متربعاً أو محتبياً أو متكئاً
(7)
.
(1)
- قضاة قرطبة، ص 30، 69 - 70.
(2)
- المصدر السابق، ص 51.
(3)
- أدب القاضي، ص 85 - 86.
(4)
- فصول الأحكام، ص 187. ابن فرحون، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، (راجعه وقدم له: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1406 هـ/ 1986 م) 1/ 40.
(5)
- سنن ابن ماجه، 2/ 776.
(6)
- أدب القاضي، ص 86. تبصرة الحكام 1/ 38.
(7)
- تبصرة الحكام، 1/ 40.
وكما ذكرت فإن جلوس القاضي في بيته للقضاء بين الناس لا يكون دائماً، بل وفق ظروف معينة، كجلوسه للقضاء في رحبة المسجد مثلاً، مما يتيح له فرصة الفصل في القضايا التي يكون أحد أطرافها غير مسموح له بدخول المسجد مثل اليهودي والنصراني
(1)
، وأينما عقدت جلسة القضاء فإنها دائماً تكون علنية يشهدها من أحبّ، فذلك أبلغ ما يكون في النزاهة
(2)
.
وقد ورد لدى الخشني أن معظم قضاة قرطبة ما كانوا يقضون أثناء مسيرهم إلى مجلس القضاء أو عند عودتهم إلى دورهم. فقد كان قاضي الجماعة أحمد بن زياد اللخمي لا يقبل أن يخاطب في شيء من أمر الخصوم إلا في مجلس نظره، ومن ألح عليه أمر بسجنه
(3)
، كما أن قاضي الجماعة عمرو ابن عبد الله بن ليث كان يلازمه شيخ يسير دوماً إلى جانبه، فإذا
(1)
- أبو الوليد هشام عبد الله الأزدي القرطبي، مفيد الأحكام في نوازل الأحكام، ورقة 6 مخطوط رقم 103، رقم الفهرست 2/ 217. بتاريخ 1277 هـ مكتبة المسجد النبوي الشريف، المدينة المنورة.
(2)
ـ ومما تجدر الإشارة إليه هنا ما ذكره قاضي الجماعة ابن عبد الرفيع من أن الذي يحضر مجلس القاضي ثلاث مرات من غير حاجة تسقط شهادته. انظر: معين الحكام، 2/ 645. وذكر ابن فرحون أن عدالته تكون مجروحة. انظر: تبصرة الحكام، 1/ 38.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 65.
ذهب أحد ليدنو من القاضي أثناء مسيره إلى المسجد، دفعه ذلك الشيخ وقال له: "اذهب حتى يجلس القاضي في مجلس القضاء
(1)
".
وأما عن طريقة ذهاب القاضي إلى المسجد الجامع للقضاء، فإن الأمر متوقف على بعد أو قرب دار القاضي من المسجد الجامع، وإن كنا نتوقع أنه أثناء ذهابه إلى المسجد يكون ماشياً، بينما يكون عند عودته إلى دراه راكباً، ومما يقوي هذا الرأي أن القاضي عند توجهه لمجلس القضاء في المسجد، يجمع بين قيامه بمصلحة المسلمين وفضيلة جلوسه في المسجد، ولذا يفضل المشي على الركوب لكي تكثر خطاه إلى المسجد فتكثر حسناته، وجلسة القضاء لا تعقد إلا في طرفي النهار وهذا هو وقت النشاط فلا بأس من السير مشياً نحو مجلس القضاء، وقد ذكر الخشني أن قاضي الجماعة بقرطبة سعيد ابن سليمان وعمرو بن عبد الله كانا يذهبان إلى المسجد الجامع مشياً
(2)
.
وقد جرى الرسم في ذهاب القاضي إلى مجلس الحكم وعودته منه أن لا يماشيه ولا يراكبه أحد، فقاضي الجماعة عمرو بن عبد الله "كان إذا ركب لا يصحبه صاحب ولا يصير إلى جانبه راكب
(3)
".
(1)
- المصدر السابق، ص 69.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 64.
(3)
- المصدر السابق، ص 68.
ومما يزيد الأمر توضيحاً في رسم المسير مع القاضي ما ذكره قاسم بن أحمد الجهني من أن قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي "ركب يوماً لحيازة أرض محبسة، في ركب فيهم أبو إبراهيم اللؤلؤي ونظراؤه، قال: فسرنا نقفوه وهو أمامنا وأمامه أمناؤه، ويحملون خرائطه، وذووه عليهم السكينة والوقار، وكانت القضاة حينئذ لا تراكب ولا تماشى
(1)
".
لكن هذه القاعدة تخرم أحياناً، فقد ذكر الفقيه محمد بن أحمد العتبي أنه كان يمشي مع بعض الفقهاء بصحبة قاضي الجماعة سعيد بن سليمان وهو منصرف من مجلس القضاء نحو داره، فمر القاضي بالفرن وأخذ خبزته ووضعها تحت عضده، ثم توجه نحو داره، يقول العتبي:"ونحن نمشي معه، وقد أخرنا دوابنا إجلالاً له، حتى أديناه إلى منزله، فسلم علينا ودخل وانصرفنا عنه"
(2)
.
أما قاضي الجماعة، عمرو بن عبد الله فقد كان متساهلاً، بالذات وهو عائد من مجلس القضاء، فقد ذكر الخشني أنه إذا قام إلى داره قام الناس معه، فإذا بلغ القاضي باب داره "وقف وحول وجهه واتكأ على عصاه، ثم قال من كان له حاجة فليتكلم فيها"
(3)
.
(1)
- مطمح الأنفس، ص 255.
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 53.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 70.
وقد عرف القضاة بمشية خاصة، فهي أقرب ما تكون إلى البطء، فالقاضي يمشي وعليه السكينة والوقار، يدل على ذلك ما حُكي عن عالم المرية القاضي أبي الحسن مختار الرعيني، المتوفى سنة (435) هـ (1043 - (1044) م) أنه عندما استدعاه زهير العامري حاكم المرية المتوفى سنة (429) هـ (1038 م) أتاه وهو يمشي قليلاً قليلاً ووصفت تلك المشية بمشية القاضي
(1)
.
مواعيد مجلس القضاء ولباس القاضي:
كان القاضي يعقد مجلس الحكم في أوقات متعارف عليها، وذلك ليتم الالتزام بتلك الأوقات من قبل الجميع، فالقاضي يجلس للقضاء في أول النهار وآخره، واختيار هذين الوقتين فيه مراعاة لنشاط الحركة بين الناس، إذ أن أغلب المعاملات وأكثر الخصومات تقع في هذين الوقتين، فانتشار الناس للعمل فيهما أكثر بكثير من وقتي الظهيرة والمساء، هذا من ناحية الخصوم، وأما من ناحية القاضي فجلوسه للقضاء في هذين الوقتين أنسب ما يكون، لأن نشاطه الجسدي في قمة طاقته، إذ يسبق كلا منهما وقت كاف للراحة.
وقد تطرق ابن هشام الأزدي للأوقات التي تنعقد بها مجالس الحكم، فذكر أنه لا بأس أن يقضي القاضي في شهر رمضان، ولكن لا يقضي في أيام العيدين، ولا في يوم التروية، ولا في يوم عرفة، ولا بين المغرب
(1)
- نفح الطيب، 3/ 381.
والعشاء، ولا في الأسحار، إلا أن يكون الأمر يتطلب ذلك، فلا يمكنه عندها إلا الجلوس للنظر
(1)
.
وزاد ابن فرحون أن القاضي لا يجلس يوم سفر الحاج ويوم قدومه، وعند شهود المهرجان، وحدوث ما يعم من سرور أو حزن، وكذلك إذا كثر الوحل والمطر
(2)
.
وقد كان قاضي الجماعة بقرطبة محمد بن بشير يقعد لسماع الخصومة من غدوة إلى قبيل الظهر بساعة، ثم يقعد بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر لا يكون نظره غير السماع من البينات ولا يسمع من بينة في غير ذلك الوقت
(3)
وكذلك كان قاضي الجماعة سعيد بن سليمان يجلس للقضاء في الغداة والعشي
(4)
.
ولم تكن هناك رسوم خاصة بالجلسة القضائية فيما يتعلق بلباس القاضي، كأن يلبس مايدل على الشعار الرسمي للدولة الأموية، فقد اعتاد قاضي الجماعة محمد بن بشير لبس قلنسوة خز
(5)
، ورداء معصفراً ويفرق شعره إلى شحمة أذنيه
(6)
، وعندما نوقش عن السبب في اتخاذه هذا الزي،
(1)
- مفيد الحكام، ورقة 4.
(2)
- تبصرة الحكام، 1/ 40.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 30. ترتيب المدارك، 3/ 331.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 64.
(5)
- المصدر السابق، ص 30. ترتيب المدارك، 3/ 328.
(6)
- المصدر السابق، 3/ 335.
أجاب بأنه متبع في إرسال لمته لسيد القراء محمد بن المنكدر، المتوفى سنة (130) هـ (748 م) ولفقيه المدينة هشام بن عروة، المتوفى سنة (146) هـ (763 م) وأما في لبس الخز فاتباع لمحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه
(1)
.
وكان قاضي الجماعة سعيد بن سليمان يجلس "للحكم وعليه جبة صوف بيضاء وفي رأسه أقروف أبيض وغفارة بيضاء من ذلك الجنس
(2)
". كما كان قاضي الجماعة عمرو بن عبد الله يجلس للحكم في المسجد وعليه أحياناً ثوب شركاب
(3)
.
من هنا ندرك أن للقاضي في الأندلس لبس ما شاء عند حضوره لمجلس الحكم.
وبطبيعة الحال كانت اللغة المستخدمة في مجلس الحكم اللغة العربية، لكن يحدث أحياناً استخدام اللغة العجمية، فقد ذكر الخشني أن امرأة تقدمت إلى قاضي الجماعة سليمان بن أسود وقالت له بالعجمية "يا قاضي، انظر لشقيتك هذه، فقال لها بالعجمية: لست أنت شقيتي، إنما شقيتي بغلة ابن عمار التي تلوك لجامها على باب المسجد طول النهار
(4)
.
(1)
- نفسه، 3/ 336.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 62. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 52.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 70.
(4)
- ابن عمار هذا كان أحد العدول، وكان ملازماً لمجلس القاضي لا يغادره إلا بقيام القاضي وانصرافه إلى منزله، وبغلته التي أشار إليها القاضي، كانت هزيلة تلوك لجامها طول النهار على باب المسجد حتى ظهر عليها الجهد والجوع. انظر: قضاة قرطبة، ص 80.
ويكون مجلس القضاء متصفاً بالوقار والهيبة، فلا صخب ولا تداخل أصوات، وإنما هدوء وسكينة، وعلى هذه الصورة كان مجلس القاضي ابن ذكوان، فقد كان "إذا قعد للحكم في المجلس، وهو غاص بأهله، لم يتكلم أحدٌ منهم بكلمة، ولم ينطق بلفظة غيره وغير الخصمين بين يديه، وإنما كان كلام الناس بينهم إيماءً ورمزاً، إلى أن يقوم
(1)
".
سير الخصومة في مجلس الحكم:
كانت المساواة بين الخصوم هي أول الوصايا التي وردت في رسالة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما
(2)
، كما أنها كانت محل اهتمام من أرخ للقضاء وأحكامه
(3)
.
ولذا فقد كانت جلسة القضاء في الأندلس علنية -كما سبق وأن ذكرنا- يحضرها من شاء، ويكون القاضي مقابلاً للحضور، ويجلس الخصوم أمامه، وبقية الخصوم بعيدين نوعاً ما بحيث لا يمكن تلقين الخصوم
(4)
، وأمام القاضي يتساوى الخصوم
(5)
، وحرص القاضي على هذه
(1)
- النباهي، ص 84.
(2)
- أدب القاضي، ص 45. العقد الفريد، 1/ 101.
(3)
- أدب القاضي، ص 96. الوثائق والسجلات، ص 495. مفيد الحكام، ورقة 4. تبصرة الحكام، 1/ 46.
(4)
- أدب القاضي ص 86.
(5)
- فقد ذكر أبو وليد الباجي أن القاضي يقدم خصومه بين يديه الأول فالأول دونما محاباة لأحد دون أحد. انظر: فصول الأحكام، ص 184.
المساواة تكون سبباً في رفعة منزلته عند أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس، وقد وردت لدى الخشني عدة نصوص تدل على ذلك. منها أن قاضي الجماعة إبراهيم بن العباس القرشي ازداد رفعة لدى الأمير عبد الرحمن الأوسط عندما رفض استقبال أحد كبار القرشيين في منزله لسماع شكايته بصورة مفردة، وأخبر الرسول بأن عليه الذهاب إلى المسجد والانتظار لحين عقد مجلس الحكم فيه
(1)
، كما أن القاضي عمرو بن عبد الله أمر أحد كبار رجال الدولة بالحضور إلى مجلس قضائه والمثول أمامه مع خصمه
(2)
.
وتتم مناقشة القضايا المعروضة على القاضي وفق ترتيب يعده فكل من كانت له خصومه عنده عليه أن يكتب اسمه في رقعة، وعندما تجتمع الرقاع عنده يخلطها بين يديه، ومن ثم يبدأ النداء على أصحاب القضايا على ضوء ما يسفر عنه خلط تلك الرقاع
(3)
.
ومن الطبيعي أن القاضي لا يستطيع دائماً إنهاء جميع القضايا التي تصل إليه في يومه، ولذا فقد جرى الرسم أن من تأخر دور رقعته وانتهى
(1)
- قضاة قرطبة: ص 53 - 54.
(2)
- المصدر السابق ص 71 - 72.
(3)
- نفسه، ص 69.
موعد الجلسة، يؤجل النظر في رقعته إلى اليوم التالي، على أن يكون ترتيبها متقدماً، لا علاقة لها بالقضايا الجديدة
(1)
.
وقد كانت هناك رسوم متبعة في استدعاء الخصم إذا كان غير موجود، وتحدثنا المصادر عن أن قاضي الجماعة محمد بن بشير هو الذي ابتكر هذا الرسم في الأندلس، إذ أنه عندما تولى قضاء الجماعة، قام بختم عشرة رقاع بخاتمه، وكل رقعة من هذه الرقاع تعرف باسم "طابع" فإذا جاء أحد يريد من القاضي طابعاً ليستدعي به خصمه، فالقاضي يسأل عن هذا الخصم، فإن كان قريباً بقرطبة، أعطى المدعي الطابع، وأمر كاتبه أن يثبت في السجل لديه اسمه ومسكنه، وفي من أخذ الطابع
(2)
، ومن ثم يخبره القاضي بأن عليه إعادة الطابع بمجرد حضور الخصم
(3)
.
وأما إن كان الخصم غير متواجد بقرطبة ولا بالقرب منها، فإن القاضي في هذه الحالة يؤجل له على مقدار بعده عن قرطبة
(4)
.
وإذا أبلغ شخص بالحضور لخصومة لدى القاضي ورفض الامتثال، فإن القاضي يرسل أعوانه لإحضاره طوعاً أو كرهاً بغض النظر عن منزلته في الدولة
(5)
، وأما إذا تغيب المطلوب للخصومة عن حضور مجلس
(1)
- ترتيب المدارك، 4/ 171.
(2)
- قضاة قرطبة ص 30. وانظر فصول الأحكام ص 200.
(3)
- ترتيب المدارك، 3/ 332.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 31. ترتيب المدارك 3/ 332.
(5)
- قضاة قرطبة ص 77.
الحكم رغم إبلاغه بأمر القاضي، فللقاضي في هذه الحالة أن يطبع على باب مسكنه، أو يسمره إن كان ذلك لا يضر الباب، بعد أن يخرج ما فيه من بني آدم وغيرهم من المخلوقات
(1)
.
فإذا حضر الخصمان بين يدي القاضي ظلا واقفين على أقدامهما
(2)
فيسأل المدعي عن دعواه، فإن كان لا يترتب فيها على المدعى عليه حق أخبره بذلك، دون أن يسأل المدعى عليه وأمرهما بالخروج عنه
(3)
، وإن كانت الدعوى ناقصة أمر المدعي باستكمالها، فإذا استحقت الدعوى النظر أصدر حكمه بعد أن يتضح له الحق، وسجل الشهادات والحكم في السجل الخاص بالقضايا
(4)
.
وللقاضي إذا رأى أثناء سير الخصومة بين يديه أن أحد الخصمين لا يحسن الإدلاء بحجته، فله أن ينصحه بما ينفعه دون أن يلقنه حجة وما شاكلها. ومن ذلك ما فعله قاضي الجماعة أحمد بن بقي بن مخلد عندما اختصم عنده رجلان، فرأى أن أحدهما يحسن ما يقول والآخر بعكسه، لكنه توسم فيه الخير وملازمة الحق، فقال له القاضي "يا هذا، لو قدمت
(1)
- الوثائق والسجلات، ص 494 انظر: فصول الأحكام، ص 200 - 201.
(2)
- ترتيب المدارك 3/ 331.
(3)
- معين الحكام 2/ 616.
(4)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 235.
من يتكلم عنك؟ وأرى صاحبك يدري ما يتكلم، فقال له، أعزك الله إنما هو الحق أقوله كائناً، فقال: ما أكثر من قتله قول الحق
(1)
".
طرق الإثبات:
روى الإمام مسلم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس دعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه
(2)
".
وفي هذا الحديث الجليل بيان لقاعدة شرعية فيما يتعلق بالدعاوى والخصومات، إذ لو ترك الباب مفتوحاً لكل دعوى دونما حاجة إلى بينة تقطع الشك، لوصل الأمر ببعض مرضى النفوس المطالبة بدماء رجال وأموالهم دون وجه حق.
والبينة هي الحجة التي تظهر صدق الدعوى، سواء عقلية كانت أو محسوسة
(3)
، وأما في الاصطلاح فالمراد بها الشهود
(4)
.
فإذا احتاج أحد الخصمين إلى أجل لإثبات بينته، منحه القاضي وقتاً محدداً لتحقيق ذلك، وهذا الوقت محكوم بأيام محدودة، ومقدارها متروك
(1)
- قضاة قرطبة، ص 116.
(2)
- صحيح مسلم، 3/ 1336.
(3)
- المفردات في غريب القرآن، ص 68.
(4)
- أعلام الموقعين، 1/ 66.
للقاضي والحكام واجتهادهم، لكن هذه المدة لاتخرج عن ثلاثين يوماً مجزأة
(1)
.
وقد وضح القاضي ابن سهل الصيغة التي تكتب فيها الآجال المضروبة، فذكر أنه إن كان القاضي هو الذي كتب الأجل بيده، كتب "أجلنا فلان بن فلان في المدفع الذي ادعاه الشاهدان اللذان شهدا عليه بما ذكر في العقد الذي في أعلى الكتاب
…
ثمانية أيام". فإذا انقضت كتب "وأجلاً ثانياً من ستة أيام" فإذا انقضت كتب "وأجلا ثالثاً من أربعة أيام" فإذا انقضت كتب "تلومنا عليه بعد انصرام الآجال المضروبة له فوق هذا ثلاثة أيام كذا وكذا
(2)
".
أما إذا كتب عن القاضي كاتبه فإنه يكتب "أجل القاضي فلان بن فلان قاضي حاضرة كذا وفقه الله، فلان بن فلان فيما ذهب إليه من حمل ما ثبت عنده عليه لفلان بن فلان في العقد الواقع في بطن هذا الكتاب بعد معرفته بما فيه وبما ثبت آجلاً جامعاً للتلوم وغيره من أحد وعشرين يوماً، أولها يوم كذا لعشرة خلون من شهر كذا من سنة كذا، ثم يكتب القاضي بخط يده: هذا صحيح، وإن شاء كتب، هذا الأجل صحيح، أو كتب، الأجل صحيح، وقد يكتب هذا على غير وجه سوى ما ذكرنا
(3)
".
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 246 - 247.
(2)
- المرجع السابق، ص 347 - 348.
(3)
- نفسه، ص 248.
وإذا انقضت الآجال والتلوم، وعجز المؤجل عن إحضار ما وعد به، فإن القاضي في هذه الحالة لا يلتفت إلى ادعاء المؤجل بأن لديه حجة، فيصدر حكمه ويسجل عليه، ثم لا يلتفت بعد ذلك إلى ما يدلي به من حجة
(1)
، واستثنى ابن سهل من ذلك: العتق والطلاق والنسب
(2)
.
شهادة الشهود:
تعتبر الشهادة
(3)
أهم الوسائل التي يعتمد عليها القضاء في معرفة صاحب الحق، ويكفي للدلالة على أهميتها أن الله تعالى قد نص عليها في كتابه العزيز في ستة مواضع، في الدين
(4)
، والوصية
(5)
، والطلاق
(6)
، والرجعة
(7)
، والزنا
(8)
، وفيما يدفع الحد عن القاذف
(9)
.
(1)
- معين الحكام، 2/ 618.
(2)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 248.
(3)
- الشهادة لغة، خبر قاطع، تقول: شهد الرجل على كذا، وشهد الشاهد عند الحاكم أي بين ما يعلمه وأظهره. انظر: لسان العرب، مادة: شهد. وقيل: الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إما بالبصر أو البصيرة. انظر: المفردات في غريب القرآن، ص 267 - 268.
(4)
- سورة البقرة: الآية رقم 82.
(5)
- سورة المائدة: الآية رقم 106.
(6)
- سورة الطلاق: الآية رقم 2.
(7)
- سورة الطلاق: الآية رقم 2.
(8)
- سور النور: الآية رقم 13.
(9)
- سورة النور: الآية رقم 5.
ولأجل ذلك فلا غرابة أن تنال الشهادة الاهتمام الجاد من قبل القضاة، ففي الأندلس نجد أمر الشهادة والشهود يقلق ولاة الأمر هناك، حتى أن الخليفة الحكم المستنصر بالله عندما أصدر ظهيراً بمناسبة تعيينه محمد بن إسحاق بن السليم قاضياً للجماعة، وذلك في يوم الاثنين من شهر شعبان سنة (353) هـ (28 أغسطس (963) م) أمره فيه بعدة أمور، منها "أن يتحفظ في حين وقوع الشهادات عنده، فلا يقضي بين المسلمين منها إلا بما أقامه به التحقيق على السنة العدول، ذوي القبول، وإن استراب في شهادة أحدهم وقتاً ما، أن يبحث عنها، فإن ثبت أنه ارتشى، أو شهد بالهوى، فعليه أن يسقط شهادته، ويخل عدالته، تنكيلاً له، وتشديداً لمن خلفه
(1)
".
فإذا حضر الشهود فعلى القاضي أن يبادر إلى إدخالهم عليه والاستماع لأقوالهم إذ أن التراخي في ذلك، ربما أدى إلى ضجر صاحب الحق فيتخلى عنه أو بعضه بالمصالحة خشية ظهور الملل على الشهود
(2)
.
فإذا شهد الشاهد لدى القاضي، فعليه أن يبادر إلى كتابة شهادته واسم قبيلته ونعته ومسكنه ومسجده
(3)
الذي يصلي فيه، والشهر الذي
(1)
- النباهي، ص 76.
(2)
- فصول الأحكام، ص 180. تبصرة الحكام، 1/ 54.
(3)
- لأنه لا يمكن أن يزكي الشاهد إلا أهل مسجده وسوقه وجيرانه، إلا أن يكون مشهوراً بالعدالة. انظر: معين الحكام، 2/ 644.
شهد فيه وكذلك السنة، ثم يوقع ذلك في صك عنده ويجعله في ديوانه، لئلا تسقط للمشهود له شهادته فيزيد فيها أو ينقص
(1)
.
وقد ذكر ابن العطار في وثائقه أن قاضي الجماعة محمد بن عبد الله بن أبي عيسى قد استن سنة جيدة في كتابة الشهادات في السجل، وأصبحت سنة لمن جاء بعده
(2)
.
وعن قبول القاضي للشاهد ذكر الخشني أن قاضي الجماعة محمد بن بشير كان في بعض الأحيان يقبل الشاهد على التوسم والفراسة، وفي أحيان أخرى يكشف عنه في السر
(3)
، وبعد نصيحة شيخ الفقهاء يحيى بن يحيى الليثي للقاضي ابن بشير بضرورة تعديل الشاهد بين الحين والآخر واتباعه لتلك النصيحة، بدأ الناس يأخذون حذرهم من القاضي
(4)
. ذلك لأن الفراسة ربما لا تصدق دائماً، لسبب أو لآخر، كما أن الناس يمرون بظروف متقلبة تجعلهم عرضة أحياناً للوقوع في أمر فيه شيء من الغموض، مما يجعل قبول شهاداتهم أمر فيه نظر.
(1)
- أدب القاضي، ص 98.
(2)
- الوثائق والسجلات، ص 642. وقد كان القضاة لا يسجلون شهادة الشهود، وأول من استن سنة تسجيل الشهادة قاضي مصر سليم بن عتر التجيبي، المتوفى سنة 75 هـ، انظر: الكندي، كتاب الولاة وكتاب القضاة، ص 309 - 310.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 35.
(4)
- المصدر السابق، ص 35 - 36.
وكان للخصوم آداب لابد من التزامهم بها وهم في مجلس القضاء، فإذا أخل أحدهم بما يجب عليه تجاه هذه الآداب، فإن للقاضي الحق في تأديبه، من ذلك ما ذكره الخشني من أن الفقيه يحيى الليثي شهد في قضية عند قاضي الجماعة إبراهيم بن العباس، فلما خرج من عند القاضي تناوله بعض الخصوم وأساء إليه بالكلام، فرجع الفقيه إلى القاضي وأخبره بما جرى وطلب منه تأديبه، وعندما سأله القاضي عن أدبه طلب أن يبعث به إلى السجن، فسجن القاضي ذلك الرجل، لكنه سرعان ما غادر السجن بطلب من الفقيه الليثي
(1)
.
وإذا استخف أحد الخصوم بمن شهد عليه، فإنه يؤدب وربما يصل الأمر إلى ضربه بالمسجد عدة أسواط، وهذا ما حصل لرجل يدعى غراباً كان جاهلاً عاتياً، فقد شهد شاهد ضده، فقال غراب، ومن شهد عليّ لو كان الشاهد مثل الليث بن سعد. وذلك على سبيل الاستخفاف بالشاهد والشهادة، فأمر قاضي الجماعة محمد بن زياد اللخمي بقمع غراب في المسجد عدة أسواط تأديباً له
(2)
.
ويحدث أن يرجع الشاهد في إحدى القضايا عن شهادته، فإن كانت رجعته قبل إصدار الحكم، لم ينفذ الحكم بشهادته، ثم يتم التدقيق في حال هذا الشاهد، فإن كان عدلاً مأموناً، قُبل رجوعه ولا تسقط
(1)
- نفسه، ص 51 - 52.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 58. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، 72.
شهادته في المستقبل عند القضاة، وإن كان بغير تلك الصفة، يقبل رجوعه ولكن لا تقبل شهادته أبداً
(1)
.
واختلف الفقهاء في تأديب من رجع عن شهادته، فابن القاسم وابن حبيب نصا على ضرورة تأديبه أدباً موجعاً، في حين اعترض على التأديب كل من ابن عبد الحكم وأشهب وسحنون محتجين بأنه إذا جرى تأديب أحد من الناس فإنه لا يرجع عن شهادته. ويبدو أن الرأي الثاني أولى بالقبول من سابقه وبه جرى العمل
(2)
.
وأما إن كان رجوع الشاهد عن شهادته بعد إصدار الحكم، فإنه لا يلتفت إلى كلامه ولا ينتقض الحكم برجوعه
(3)
. فقد حدث أن قاضي الجماعة محمد بن بشير نظر في إحدى القضايا، وأصدر الحكم على ضوء البينة، وبعد فترة استدعاه أحد الشاهدين، وكان ذلك الشاهد على فراش الموت، فلما حضر القاضي عنده، أخبره الشاهد أنه سبق وأن شهد عنده شهادة زور في تلك القضية، وطلب منه فسخ الحكم الذي أصدره بشأنها، يقول الخشني: "فلم يزد محمد بن بشير على أن وضع يديه في ركبتيه ثم قام وجعل يقول: مضى الحكم وأنت إلى النار، مضى الحكم وأنت إلى النار، وخرج عنه
(4)
".
(1)
- لباب الألباب، ص 265. معين الحكام، 2/ 662 - 663.
(2)
- معين الحكام، 2/ 663.
(3)
- المصدر السابق والصفحة.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 33 - 34.
وشاهد الزور إذا أقر بتعمد الزور فإن على القاضي تغريمه ما أتلف بشهادته
(1)
، كما أن له تأديبه
(2)
، وعن جزاء شاهد الزور هناك عدة أقوال للفقهاء، منها أنه يعزر على الملأ دون حلق رأسه أو لحيته، بينما رأى البعض ضرورة تسويد وجهه، وهناك من يرى الطواف به على المجالس والحلَقْ في المسجد الجامع ويشهر أمره بين الناس ليحذروه، وزاد البعض على التشهير والضرب الموجع بالإضافة إلى كتابة وثيقة في ذلك تؤخذ منها عدة نسخ وتوضع عند الثقات ولا تقبل شهادته أبداً
(3)
.
وفي الأندلس نجد أن هذه العقوبات قد طبقت على شاهد الزور، فإبراهيم بن حسين بن خالد بن مرتنيل، المتوفى في شهر رمضان سنة (249) هـ (نوفمبر سنة (863) م) صاحب الشرطة في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، أقام شاهد زور عند الباب الغربي الأوسط للمسجد الجامع "فضربه أربعين سوطاً وحلق لحيته وسخم وجهه وأطافه إحدى عشرة طوفة بين الصلاتين يصاح عليه هذا جزاء شاهد الزور
(4)
".
وللقاضي عيونه التي يستطلع بها أحوال بعض الشهود في بعض القضايا، فقاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز عندما بلغه أن بعض الشهود قد أخذ رشوة مقابل شهادته، وكانت الرشوة بساطا، فلما دخل عليه
(1)
- لباب اللباب، ص 266.
(2)
- أدب القاضي، ص 776 - 777.
(3)
- لباب اللباب، ص 266. المعيار المعرب، 2/ 215.
(4)
- المصدر السابق، 2/ 215.
الشاهد ليؤدي شهادته وأخذ يخلع خفيه ليمشي على بساط القاضي، أخذ يناديه "أيا فلان البساط، البساط، تحفظ من البساط، الله الله"
(1)
ففطن الشاهد لمراد القاضي ولم يجسر على الإدلاء بشهادته.
وإن حدث - وهو نادر - وكان الأمير أو الخليفة الأموي شاهد في قضية، فإن الرسم يقضي أن تُرسل الشهادة مع فقيهين يؤديانها للقاضي، وهذا ما جرى في قضية لسعيد الخير عم الأمير الحكم الربضي، فقد كانت لديه وثيقة شهودها عدول، ولكنهم توفوا جميعاً إلا واحد فقط، فاضطر إلى شاهد آخر، فمال إلى ابن أخيه الأمير الحكم، وأقنعه بأنه في حاجة لشهادته، ورغم اعتراض الأمير على عمه إلا أنه اضطر أمام إلحاحه على موافقته، فأرسل شهادته لقاضي الجماعة محمد بن بشير الناظر في القضية، وتقدم فقيهان أرسلهما الأمير بشهادته فأدياها لدى القاضي
(2)
.
وهناك حالات تم فيها عدم قبول شهادة الشاهد رغم انتفاء ما يقدح في شهادته شرعاً، فمن اشتهر بالهزل أصبح قبول شهادته لدى بعض القضاة أمراً عسيراً، وممن رُدت شهادته لهذا السبب محمد بن عيسى الأعشى المتوفى سنة (221) هـ (836 م) فقد كان مشهوراً بالدعابة
(3)
، وحدث أن تقدم للشهادة لدى قاضي الجماعة الأسوار بن عقبة النصري،
(1)
- ترتيب المدارك، 5/ 197.
(2)
- المصدر السابق، 3/ 338.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1102.
فقال له القاضي "أنت رجل يُكثر الهزل، ولست أدري كانت شهادتك هذه من جدك أو هزلك
(1)
".
وكذلك حدث أن رفض بعض القضاة شهادة من عرف بأنه قد تابع هواه في يوم ما، حتى وإن كان صديقاً للقاضي، وهذا ما فعله قاضي الجماعة محمد بن بشير عندما رد شهادة أحد أصدقائه وكان رفيقاً له في النشأة وطلب العلم وطريق الحج بسبب أنه اشترى جارية بمصر بيدها صنعة وهو لم يكن بحاجة لصناعتها
(2)
.
وإذا كان من حق المدعى عليه معرفة الشهود الذين شهدوا ضده، فإن القاضي يعمد أحياناً إلى عدم تعريفه بمن شهد ضده، وذلك إذا كان المدعي عليه صاحب سلطة وسطوة، وخشي القاضي على الشهود من سطوته، وهذا ما فعله قاضي الجماعة محمد بن بشير مع ابن فطيس
(3)
. وعندما طلب الأمير الحكم الربضي القاضي بتعريف ابن فطيس بالشهود، أجابه القاضي بقوله "ليس ابن فطيس ممن يُعرَّف بمن شهد عليه لأنه إن لم
(1)
- قضاة قرطبة، ص 49.
(2)
- انظر: القصة كاملة لدى الخشني في قضاة قرطبة، ص 31.
(3)
- لعله: حمدون بن فطيس المتوفى سنة 220 هـ، ووالده أبو سليمان فطيس بن سليمان بن عبد الملك بن سليمان تولى الوزارة للأميرين هشام بن الداخل وابنه الحكم الربضي، ومما يقوي ما ذهبت إليه من أن الذي رفض القاضي إخباره بالشهود أنه حمدون بن فطيس ورود قصة أخرى صرح فيها الخشني باسم حمدون بن فطيس عندما تظلم حمدون من القاضي ابن بشير لدى الأمير الحكم الربضي. انظر: قضاة قرطبة، ص 36.
يجد سبيلاً إلى تجريحهم طلب آذاهم في غير ذلك حتى يجليهم عن أموالهم
(1)
".
وأخيراً فإن للقاضي أن يصرف القضية عنه إلى قاضٍ آخر إذا لم يتبين له الحق، إذ أن رُبَّ حق لا يثبت عند قاضٍ ويثبت عند غيره
(2)
.
وقد ذكر صاحب معين الحكام أن من حق القاضي الرجوع عما حكم به إذا تبين له فيه وهم مادام على قضائه، أما إذا عزل أو مات فلا يحل لأحد من بعده فسخ حكمه، إلا أن كان فيه جور أو قضى بخطأ لا اختلاف بين أهل العلم فيه
(3)
، ولكن لابد أن يوضح القاضي السبب الذي من أجله فسخ حكمه الأول، فإذا لم يوضح ذلك لا يعتبر فسخه هذا فسخاً
(4)
.
ونختم الحديث عن هذه الخطة بذكر نصين لابن العطار بين فيهما تسجيل القاضي برجوعه عن قضاء قضى به له الخطأ فيه، جاء في النص:
"أشهد القاضي فلان بن فلان قاضي موضع كذا، أن فلان بن فلان كان قد قام عنده في دار كذا بموضع كذا، وثبت له فيها كذا، أو في أملاك بقرية كذا من إقليم كذا من عمل موضع كذا، صفتها كذا، وحدودها كذا، وقضى له بكذا، وسجل بذلك في كتاب أشهد فيه على
(1)
- المصدر السابق، ص 30.
(2)
- تبصرة الحكام، 1/ 58.
(3)
- معين الحكام، 2/ 638.
(4)
- المصدر السابق، 2/ 639 - 640.
ما ثبت عنده على نسختين أو نسخ تاريخ كذا، ثم تبين له الخطأ في قضائه والوهم في حكومته، وانكشف له من أمر الشهود الذي قضى بهم له أو من باطن قصة الطالب فلان وأمره فيما حكم له به ما أوجب عليه الرجوع عن حكمه والتسجيل بنقض ما تقدمه من حكمه وانكشف فسخه، لقول عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رحمه الله: لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع فيه، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل
(1)
".
ويواصل ابن العطار كلامه: وإن كان القاضي قضى بمذهب أهل العلم في شيء من نظره ثم تبين له الصواب في غيره ورجع عنه، قلت:
"أنه كان قضى لفلان بن فلان بكذا وكذا على مذهب كذا. أو على قول الشافعي أو فلان، ثم تبين له أن الحق فيما قاله فلان أو في مذهب كذا، وأن القول الذي تقدم قضاؤه فيه، والمذهب الذي حكم به باطل، فرجع عن قضيته وخرج عن حكومته، وقضى بفسخ ما تقدم من قضائه لفلان بن فلان في قصة كذا وأبطله، وأشهد على ذلك في تاريخ كذا. لقول عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رحمه الله لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت في لرشدك أن ترجع فيه، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي على الباطل أشهد على إشهاد
(1)
- الوثائق والسجلات، ص 635.
القاضي فلان بن فلان قاضي أهل موضوع كذا لما ذكره عنه في هذا الكتاب، وذلك في شهر كذا من سنة كذا، والكتاب نسختان"
(1)
.
العدالة
(2)
:
يقول ابن خلدون عن طبيعة وظيفة العدالة أنها، القيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم وعليهم، تحملاً عند الإشهاد. وأداءً عند التنازع، كتباً في السجلات
(3)
وذلك محافظة على حقوق الناس وسائر معاملاتهم، وعلى هذا فإن وظيفة العدالة داخلة ضمن ولاية القضاء، فلا يعمل بها إلا عن إذن القاضي، وتكون خاضعة لتصرفه
(4)
.
(1)
- المصدر السابق، ص 636.
(2)
- يقول ابن الحاجب: العدالة "صفة مظنة لمنع موصوفها البدعة وما يشينه عرفاً ومعصية غير قليل الصغائر" انظر: الشيخ قاضي الجماعة محمد الأنصاري، المشهور بالرصاع التونسي، كتاب شرح حدود الإمام أبي عبد الله بن عرفة، (المغرب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1412 هـ/1992 م) ص 638.
وذكر البكري أن العدالة "هيئة راسخة في النفس تحث على ملازمة التقوى باجتناب الكبائر وتوقي الصغائر والتحاشي عن الرذائل المباحة". انظر: لباب اللباب، ص 260.
وأما أبو إسحاق الشاطبي فقال: العدالة لغة تعني الاستواء والاستقامة على الجملة وأما في الشرع فهي الاستقامة في الأحوال الدينية والدينوية. انظر: المعيار المعرب، 10/ 202.
(3)
- المقدمة، ص 635.
(4)
- المصدر السابق، والصفحة.
ولا يتصف بالعدالة إلا من كان مسلماً مكلفاً جارياً على مقتضى السنة، ذو تقوى ومروءة
(1)
، متنزهاً عن الكبائر، والخير أغلب عليه من الشر، متصفاً بالعدالة الشرعية والبراءة من الجروح، فقيهاً، عاقداً للشروط
(2)
.
وللخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قول في تحديد السمات العامة للعدل، فقد جاء في رسالته الشهيرة التي بعث بها إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ما نصه "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة"
(3)
.
(1)
- المعيار المعرب، 10/ 202، والمروءة هي المحافظة على فعل ما تركه من مباح يوجب الذم عرفاً، كترك الانتعال في بلد يستقبح فيه مشي مثله حافياً، وعلى ترك ما فعله من مباح يوجب ذمه عرفاً كالأكل في الأسواق أو في حانوت الطباخ لغير الغريب. انظر: كتاب شرح حدود ابن عرفه، ص 642، ويقول البكري:"المروءة هي التصون والسمت الحسن وحفظ اللسان وتجنب السخف والمجون والارتفاع عن كل خلق رديء يرى أن من تخلق به لا يحافظ معه على دينه وإن لم تكن في نفسه جرحه" انظر: لباب اللباب، ص 260.
(2)
- مقدمة ابن خلدون، ص 635.
(3)
- أدب القاضي، ص 45.
وكل الأقوال التي أدلى بها العلماء للتعريف بالرجل العدل جميعها تتفق على ضرورة اتصاف ذلك الرجل بالتقوى والاستقامة في جميع أحواله الدينية والدنيوية، بمعنى أن يكون مأمونا في السر والعلن.
وينبغي للقاضي إن لم يكن من أهل البلد أن يبدأ بالتعرف على عدول وثقات البلد الذي كلف القيام بأعباء القضاء به، وإن استطاع أن يفعل ذلك قبل أن يصل البلد فهو الأفضل، فإذا عرفهم يكتب اسم كل واحد منهم في ثبت لديه، ثم لا يكتفي بذلك، بل إن عليه أن يعمد إلى السؤال عنهم سراً كل منهم على حده، وذلك بعد استقراره في البلد
(1)
.
وكل أهل بلد وبالذات القرى البعيدة عن الحواضر، إن لم يكن لديهم حكام يقيموا الحدود بينهم، تولى إقامتها فيهم من ارتضوهم عدولاً منهم، كالمؤذنين والأئمة والموسومين بالخير
(2)
. وهؤلاء العدول على القاضي قبول شهادتهم، وأن يداوم على السؤال عنهم سراً، فمن لم يثبت عليه اشتهار في كبيرة فهو عدل حتى يثبت عكس ذلك
(3)
.
وفي الأندلس لا يقدم لمرتبة العدالة إلا من طال اختباره، وتجاوز مجالس المذاكرة التي تعقد لاختباره، ويشهد له الفقهاء بالصلاح واعتدال الطريقة، وتثبت الشهادات لدى صاحب الشرطة الذي يتولى السؤال
(1)
- أدب القاضي، ص 83 - 84.
(2)
- المعيار المعرب، 10/ 143، 145.
(3)
- النباهي، ص 74.
والكشف عن هذا الرجل المعدل وهو بدوره يرفعها إلى الأمير أو الخليفة فيصدر فيه أمره يجعله أحد العدول الذين لهم الحق في الفتيا وكتابة الوثائق وتزكية الشهود.
كما أن كون الرجل المرشح للعدالة صاحب مال، أمر ضروري، إذ يُخشى عليه من الفقر أن يطمع بما في أيدي الناس، وقد ورد في رسالة الشقندي في الدفاع عن الأندلس أن الأمير الحكم الربضي أراد تقديم بعض من يعني به إلى مرتبة العدالة، وطبيعي لابد من أخذ رأي الفقهاء في هذه المسألة. ولذا، فعندما عرض الأمير اقتراحه على الفقهاء، أجابوه بأنه أهل، إلا أنه فقير لا مال له، فاضطر الأمير إلى أعطاء الرجل من المال ما أغناه وبذلك أزال اعتراض الفقهاء
(1)
.
ونظراً لأهمية مكانة العدول، فإن لهم أماكن خاصة بهم، اعتادوا الجلوس بها، فيأتي إليهم كل من كانت له قضية تحتاج للإشهاد والتقييد في الكتاب
(2)
.
وللقاضي التجريح والتعديل بعلمه سواء علم ذلك قبل استلامه القضاء أو بعده
(3)
، وهو مافعله قاضي الجماعة محمد بن سلمة الكلابي
(1)
- نفح الطيب، 3/ 214 ـ 215.
(2)
- مقدمة ابن خلدون، ص 636.
(3)
- معين الحكام، 2/ 643.
عندما حضر عنده الفقيهان ابن لبابه والحبيب بن زياد لتعديل ابن شراحيل المعروف بالعجيزه
(1)
.
والقاضي ابن سلمه عندما رفض تعديل الفقيهين لابن شراحيل ذلك لمعرفته بباطنه أكثر منهما، ولذا قال ابن لبابه للقاضي "نحن قد عدلناه بمبلغ علمنا، ومن عرف الباطن فهو أحق ممن عرف الظاهر"
(2)
.
وكذلك الفقيه محمد بن خميس بن عبد الواحد المعروف بالأعشى رفض تعديل أحد أصدقائه عند القاضي عندما رد شهادته. بعد أن أدرك الفقيه أن صديقه جاهل لا الخير يدري ولا الشر يدري
(3)
، لأجل هذا قال سحنون:"لا يقبل في التزكية إلا العدل المبرز الفطن الذي لا يخدع في عقله، ولا يستنزل في رأيه"
(4)
.
وذكر الخشني أن لقاضي الجماعة محمد بن بشير طريقة خاصة في قبول تعديل من لا يعرفه يقول قاسم بن هلال "دخلنا على محمد بن بشير لنعدل عنده رجلاً، فقال: "احلفوا بالله الذي لا إله إلا هو أنه عدل رضا، فقالوا: بيمين أصلحك الله، فقال: والله لا كتبتها حتى تحلفوا"
(5)
.
(1)
- قضاة قرطبة، ص 97.
(2)
- المصدر السابق والصفحة.
(3)
- ترتيب المدارك، 4/ 116.
(4)
- معين الحكام، 2/ 643 - 644.
(5)
- قضاة قرطبة، ص 35.
ومن الملاحظ أن الأندلسيين لا يغمضوا أعينهم ولا يكفوا ألسنتهم عمن اتخذه القاضي عدلاً وهو غير أهل لذلك، فقد كان يتعرض لسخرية الناس، مما يضطر القاضي في النهاية إلى نزع العدالة عن ذلك الرجل
(1)
.
وقد سبق وان عرفنا قصة العدل ابن عمار وبغلته مع قاضي الجماعة سليمان بن أسود ومنها ندرك أن على العدل ملازمة مجلس القاضي، إذ هو بحاجة مستمرة لأقواله طالما أن هناك قضايا تعرض.
ومن النادر أن نجد بعض العدول يدلي بأقواله مجاملة لأحد كبار رجالات الدولة، مثل من جامل الوزير هاشم بن عبد العزيز في قضية قومس بن أنتينان
(2)
.
ومن الواجب على العدل عدم قبول الهدية لأن في ذلك إثارة للشبهات من حوله، ويقوى المنع إذا كانت الهدية مقدمة ممن له خصومة لدى القاضي، من ذلك أن أحد كبار عدول قرطبة قد أخذ هدية هي عبارة عن جبة خضراء، فشعر بأمرها خصم المهدي، فبلغ قاضي الجماعة سليمان بن أسود بحقيقة الوضع، فأراد القاضي تأديب ذلك العدل، الذي كان من سلامة قلبه يداوم على لبس تلك الجبة في المحافل، ولذا قال القاضي لخصم المهدي: "إذا رأيت الشيخ وعليه الجبة، وأفتى عليك فقل:
(1)
- انظر: ما قاله الشاعر يحيى بن حكم الغزال في عدلين اسم أحدهما أبو حفص والآخر يدعى يحيى بن مالك، كانا من عدول قاضي الجماعة معاذ بن عثمان الشعباني، المقتبس، تحقيق: مكي، ص 70.
(2)
- انظر: القصة في قضاة قرطبة، ص 75 - 77.
يا قاضي: ليس الشيخ يكلمك إنما تكلمك الجبة التي عليه
…
ففعل الخصم ما أمره به القاضي، فاستحيا الشيخ وانقلب خجلاً
(1)
".
وللعدول مهام عدة، منها استلام ديوان القاضي عند عزله، ووضع الديوان في بيت الوزراء حتى يتم تعيين قاضي آخر
(2)
، وإذا وضع القاضي مالاً موقوفاً لديه بيد أحد العدول به عليه، وإذا استرجعه القاضي منه، كتب له بذلك كتاباً، ثم أشهد العدل على القاضي بأنه قد استرد المال الذي كان في حوزته.
هذا وقد أورد الخشني قصة أنكر فيها القاضي عمرو بن عبد الله، البراءة والشهود الذين شهدوا عليه في استرجاع مال موقوف لدى أحد العدول يبلغ عشرة آلاف دينار هي عبارة عن ثلث أوصى تاجر يعرف بابن القصبي بتفرقته
(3)
.
والقاضي يعمل دائماً على الكشف عن عدوله، ويبدو أن له عيوناً تأتيه بأخبارهم، من ذلك أن رجلاً من أصحاب قاضي الجماعة محمد بن عبد الله بن أبي عيسى أتاه في الليل وأنهى إليه أن اثنين من الفقهاء العدول الملازمين له، قد اتفقا فيما بينهما على الإدلاء بشهادة مزوَّرة، وأنهما سيحضران عنده غداً لأجل هذا الغرض، فجلس القاضي في الغد وقد أخذ
(1)
- المصدر السابق، ص 80 - 81.
(2)
- انظر نفسه، ص 81 - 82.
(3)
- نفسه، ص 83 - 84.
حذره، فتقدم إليه أحدهما، فعبس القاضي في وجهه عله يفهم المراد، فينصرف من تلقاء نفسه، لكنه تمادى، فعندها ألقى القاضي في حجره - دون أن يشعر ذلك العدل - بطاقة مطوية، كتب فيها بيتين من الشعر هما:
أتتني عنك أخبار
…
لها في القلب آثار
فدع ما قد أتيت له
…
ففيه العار والنار
فعندما انتبه الرجل لها وقرأ ما فيها، انطلق مسرعاً، ولقي صاحبه في الخارج وطلب منه الانصراف معه، وأخبره أن القاضي قد عرف بأمرهما
(1)
.
ولما كانت كتابة الوثائق من بين المهام الرئيسية للعدول، وطبيعي أن يترتب عليها أحكام قاطعة، لأجل ذلك، فهي مجال واسع لأكل الأموال بالباطل من قبل ضعاف الإيمان، ولذا فقد كان جزاء من يدلس في الوثيقة صارماً، يعمل في بعض الأحيان إلى قطع يد ذلك المدلس، وهذا ما فعله قاضي الجماعة محمد بن بشير برجل اشتهر أمره بالتدليس في الوثائق
(2)
.
ويبدو أن قطع يد المدلس في الوثائق يتوقف على مدى الضرر الذي أحدثه تدليسه يدل على ذلك أن أبا محمد عبد الله بن محمد الأنصاري المعروف بابن واقزان، كان حافظاً للمسائل والرأي ومن المتقدمين في عقد
(1)
- ترتيب المدارك، 6/ 100 - 101.
(2)
- النباهي، ص 48. المعيار المعرب، 2/ 414. وقد اخلتف في جواز أخذ كاتب الوثائق للأجرة، لكن الرأي الراجح أنه يأخذها بدون اشتراط لئلا يكون شبيهة بالحرفة. انظر: تبصرة الحكام، 1/ 286 - 287.
الوثائق، لكنه اشتهر بالتدليس في العقود، ورغم ذلك اكتفى قاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز بأن أمر ابن واقزان بترك كتابة الوثائق، وعدم التعرض لما يتعلق بها والتزام بيته، فظل على هذه الحال إلى أن توفي سنة (320) هـ (938 - (939) م)
(1)
.
من هنا ندرك أن كتابة الوثائق ذات خطورة ملموسة، وعليه فقد حدد ابن عبد ون من المؤهل لكتابتها؟ فقال: "لا يجب أن يكتب الوثائق إلا من شهد له في ذلك بحسن الخط وترتيب اللفظ، واتساع في العلم، من رجل خير عالم ورع، ليكفي القاضي والحاكم عند رؤية خطه ولفظه البحث والتعب فيهما من براءة التدليس والتلبيس
(2)
.
من ما مضى يتضح لنا أن وظيفة العدول قائمة على ركيزتين هما: كتابة العقود بين الناس وفق الشروط الشرعية، بالإضافة إلى تزكية الشهود الذين سيدلون بشهاداتهم عند القاضي.
وبصفة عامة لم يكن أولئك العدول يتمتعون بسمعة طيبة، حتى أن سفيان الثوري يقول "الناس عدول إلا العدول" ويقول عنهم عبد الله بن المبارك "هم السفلة" وأنشد بعضهم في العدول:
قوم إذا غضبوا كانت رماحهم
…
بثَّ الشهادة بين الناس بالزور
هم السلاطين إلا أن حكمهم
…
على السجلات والأملاك والدور
(3)
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 675.
(2)
- رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة، ص 13.
(3)
- معيد النعم ومبيد النقم، ص 63.
لكن لا يمكن أن تكون هذه الصورة عامة لجميع العدول، لأن من التزم منهم بالحق وسار على نهجه ما عليه من سبيل، أما الذين يسارعون في تحمل الشهادات ويؤدونها مقابل أجرة معلومة يتقاسمونها فيما بينهم في حوانيتهم، فهؤلاء الذين في خطر من أمرهم إن لم يقلعوا عنه ويتوبوا إلى الله تعالى منه.
هذا وقد حفظت لنا كتب التراجم أسماء عديدة اشتهرت بالعدالة من هؤلاء: محمد بن عيسى المعافري، الشهير بالأعشى
(1)
، ومحمد بن يوسف بن مطروح، المتوفى يوم عاشوراء سنة (271) هـ (8 يوليو سنة (884) م) وكان أحد الثلاثة الذين تدور عليهم الفتيا أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن
(2)
.
أبو القاسم أصبغ بن خليل، قرطبي، كان حافظاً للرأي على مذهب مالك وأصحابه، فقيهاً في الشروط، بصيراً بالعقود، منسوباً للصلاح والورع، دارت عليه الفتيا بالأندلس طيلة خمسين عاماً، توفي سنة (273) هـ (886 م)
(3)
.
(1)
- ترتيب المدارك، 4/ 116.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1113.
(3)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 247.
أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن هانئ العطار، قرطبي، يعرف بابن اللباد، كان أحد العدول القرطبيين، توفي ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة (375) هـ (ديسمبر (985) م)
(1)
.
أبو عبد الله محمد بن أبي سليمان بن حارث المغيلي القسام، من أهل قرطبة، وهو أحد عدولها، كان حسن الخلق، كثير الدعابة، ذو مكانة سامية لدى حكومة قرطبة، توفي يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة (377) هـ (مارس (988) م)
(2)
.
أبو عبد الله محمد بن فتح اللحام، قرطبي كان أحد العدول عند قاضي الجماعة محمد بن يبقى ابن زرب توفي في شهر رجب سنة (378) هـ (988 م)
(3)
.
أبو الوليد محمد بن محمد بن عبد المؤمن بن يحيى، من أهل قرطبة، وأحد عدولها، كان منسوباً للثقة، توفي يوم الأحد مطلع رجب سنة (389) هـ (18 يونيو (998) م
(4)
).
وكان أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن أبي دليم، المتوفى سنة (392) هـ (1001 م) وعبد الله بن المعيطي أشهر الناس عدالة بقرطبة في وقتهما
(5)
.
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 1347.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 1350.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 1352.
(4)
- نفسه، ترجمة رقم 1379.
(5)
- ترتيب المدارك، 6/ 151.
أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن ضيفون بن مروان اللخمي، الحداد، قرطبي، صالح، عدل، حدث وكتب الناس عنه، توفي ليلة السبت لثمان بقين من شوال سنة (394) هـ (سبتمبر سنة (1004) م)
(1)
.
أبو القاسم خلف بن سليمان بن خميس، قرطبي، كان أحد العدول، قتله البربر يوم دخولهم قرطبة في شهر شوال سنة (403) هـ (إبريل سنة (1013) م)
(2)
.
أبو بكر عبد الرحمن بن أحمد التجيبي، يعرف بابن حوبيل، من أهل قرطبة "كان فقيهاً مشاوراً، بصيراً بعقد الوثائق، مشهور العدالة المبرزة بقرطبة، وممن عُني بالعلم وشهر بالحفظ
(3)
".
وفي عهد الفتنة البربرية، تأثرت العدالة مثل غيرها بأحداث تلك الفتنة، فقد أصبحت الثقة بالعدول مهزوزة بشكل كبير. حتى أن قاضي الجماعة عبد الرحمن بن بشر 407 - (419) هـ (1016 - (1028) م) كان لا يقبل شهادة بعضهم في الباطن، ولا يقضي بها إذا انفردت عن غيرها
(4)
.
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1393.
(2)
- الصلة، ترجمة رقم 363.
(3)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 687.
(4)
- د. محمد عبد الوهاب خلاف: وثائق في شئون الحسبة في الأندلس، مستخرجه من محفوظ الأحكام الكبرى، للقاضي ابن سهل الأندلسي، (القاهرة، المركز الدولي العربي للإعلام، ط الأولى 1985 م) ص 76.
ولم يقتصر اهتمام المصادر الأندلسية على ذكر أهل العدالة من المسلمين فقط، بل امتد اهتمامها لذكر من اشتهر بالعدالة من أهل الذمة، من هؤلاء مثلاً: - ينير الأعجمي فقد كان معروفاً بالخير وحسن المذهب، مقدماً عند القضاة، مقبول الشهادة لديهم، ولذا فقد كانت شهادته سبباً في عزل قاضي الجماعة يخامر بن عثمان الشعباني عن منصبه، وذلك في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط
(1)
.
وكما أن الإنسان يبلغ العدالة وفق شروط متعارف عليها، فبالمقابل فإن الإخلال بتلك الشروط يعني إسقاط العدالة عن ذلك العدل، ففي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط سجل قاضي الجماعة يحيى بن معمر الألهاني بالسخطة على سبعة عشر فقيهاً، وهذا يعني أنه أزال صفة العدالة عنهم
(2)
.
كما أن قاضي الجماعة الحبيب أحمد بن زياد، قد سجل بالسخطة على الفقيه العدل محمد بن يحيى بن لبابه الشهير بالبوجون
(3)
، فقد رفع القاضي للخليفة عبد الرحمن الناصر أشياء قبيحة عن ابن لبابه، فأمر الخليفة بإسقاط ابن لبابه عن منزلته عن العدالة والشورى وكلفه بلزوم بيته
(4)
.
(1)
- قضاة قرطبة، ص 55.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 47.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1231.
(4)
- ترتيب المدارك، 6/ 87 - 91.
من هنا يتضح أن رفع منزلة أحد الفقهاء للعدالة أو إسقاطه منها، لابد أن يصدر به ظهير من الأمير أو الخليفة.
ويبدو أن إزالة العدالة عن أحد العدول، أمر غير متوقف على ارتكاب ذلك العدل لما يقدح بسيرته من جهة الشرع، بل إن للأهواء دور في هذا أحياناً، من ذلك قصة إسقاط الفقيه الموثق ابن العطار عن الشورى والشهادة ثم إعادته إليها
(1)
.
وتكرر نفس العمل مع قاضي الجماعة أبي بكر يحيى بن عبد الرحمن بن وافد اليحصبي، المتوفى سنة (404) هـ (1014 م)، فقد كان مستبحراً في المذهب المالكي، حاذقاً بحفظ المسائل والأجوبة، ولذا فقد تقلد الشورى والشهادة في عهد الدولة العامرية، لكن المنصور بن أبي عامر سخط عليه لأنه خالف رغبته وأفتاه بعدم جواز التجميع في مسجد الزاهرة، ولذا فقد أصدر المنصور أمره بإسقاط ابن وافد عن مرتبتي الشورى والشهادة وفرض عليه الإقامة الجبرية في داره
(2)
. وللسبب ذاته تعرض الفقيه أصبغ بن الفرج بن فارس الطائي، المتوفى سنة (397) هـ (1007 م) قاضي بطليوس وثغورها للأذى من المنصور بن أبي عامر فعزله عن القضاء والفتيا
(3)
.
(1)
- المصدر السابق 7/ 148 - 158.
(2)
- نفسه 7/ 160.
(3)
- المصدر السابق 7/ 159 - 161.
الوكالة
(1)
:
الوكالة لها أوجه عدة
(2)
، يهمنا في هذا المقام ما يتعلق بالخصومات أي التقاضي والمشهور في المذهب المالكي أن التوكيل حق مشروع للطالب والمطلوب، إلا أن سحنون رحمه الله لا يقبل التوكيل من المدعي عليه إلا في حالات خاصة، مثل المرأة الشابة التي تخشى فتنتها
(3)
، أو مريض أو مريد سفر، أو صاحب عذر بيِّن، أو من كان في شغل الأمير، أو كونه يشغل خطة لا يستطيع مفارقتها، كالحاجب مثلاً، وبالمقابل كان يقبل التوكيل من كل مدعي
(4)
.
وحول هذا المعنى جاء رأي الفقيه الموثق ابن العطار، لكنه أضاف أن من دواعي التوكيل الرغبة في التنزه عن التبذل في الخصومة، والجلوس في مجالس الحكام خشية سماع قول خشن أو اعتراض بما لا يصلح
(5)
.
(1)
- الوكالة جمعها الوكالات، والوكالة اسم مصدر بمعنى التوكيل من وكل إليه الأمر وكلاً ووكولاً، سلمه وفوضه إليه واكتفى به. انظر: لسان العرب، مادة وكل. وأما اصطلاحاً فقد عرفها الشيخ ابن عرفه بقوله "هي نيابة ذي حق غير ذي إمرة ولا عبادة لغيره في غير مشروطة بموته" الحدود الكبرى، ص 457.
(2)
- انظر: الحدود الكبرى، ص 461. معين الحكام، 2/ 669 وما بعدها.
(3)
- ابن عبدون يرى ألا يكون هناك وكيل للمرأة، وذلك لأن بعض ضعاف النفوس ربما اتخذ هذه الوكالة سبيلاً للمساس بشرف موكلته. انظر: رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة، ص 12 - 13.
(4)
- معين الحكام، 2/ 683 - 684.
(5)
- الوثائق والسجلات، ص 497.
ومن أراد أن يوكل وكيلاً فلابد أن يحضر جلسة لدى القاضي، ينعقد من خلالها ما يكون من الخصمين من الدعوى والإقرار والإنكار، ثم له الحق في أن يوكل من شاء
(1)
، ولكن إذا جلس الخصمان لدى القاضي ثلاث جلسات فأزيد عندها لا يجوز لأحدهما إقامة وكيل عنه، إلا أن يكون خصمه قد شاتمه فحلف أن لا يخاصمه بنفسه أو اضطر للسفر
(2)
.
وعن اشتراط الإقرار أو الإنكار من قبل المدعي عليه قبل أن يوكل يذكر الخشني أن امرأة من جيران موسى بن حدير - تولى فيما بعد خطة الخزانة الكبرى للأمير عبد الرحمن الأوسط - رفعت عليه دعوى عند قاضي الجماعة إبراهيم بن العباس القرشي، فأرسل إليه القاضي فأحضره وأخبره بما تدعيه عليه المرأة، فطلب موسى من القاضي أن يأذن له في إقامة وكيلاً عنه، لكن القاضي رفض وأصر على موسى أن يقر أو ينكر ثم بعد ذلك يوكل، فلما رأى موسى إصرار القاضي قال له: "جميع ماتدعيه -المرأة - حق وهي المصدقة
(3)
".
ولا يجوز لأحد الخصمين إقامة أكثر من وكيل في قضية واحدة
(4)
، ولا يصح للوكيل أن يوكل غيره إلا بإذن موكله
(5)
، وللموكل عزل الموكل
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 274 - 275.
(2)
- الوثائق والسجلات، ص 497.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 53.
(4)
- معين الحكام، 2/ 685.
(5)
- أدب القاضي، ص 513.
ما لم تبدأ جلسات القاضي، فإذا كان الوكيل قد حضر ثلاث جلسات أو أكثر فليس للموكل عزله
(1)
، إلا إذا ظهر منه غش أو أصيب بمرض
(2)
.
والوكالة لابد أن تكون مكتوبة، ولها صيغة محددة، وقد زودنا الفقيه ابن العطار بنص الوكالة، فذكر تحت عنوان: وثيقة توكيل على الخصام، ما نصه:"بسم الله الرحمن الرحيم وكل فلان بن فلان بن فلان عند القاضي فلان قاضي الجماعة بقرطبة، أو عند صاحب أحكام كذا، أو المدينة أو السوق بقرطبة، على المخاصمة عنه، وله الإقرار عليه والإنكار عنه، بوكالة التفويض التامة التي أقامه فيها مقام نفسه، وقبل فلان من توكيله. شهد".
وإن كانت وكالة جامعة، قلت بعد قولك: والإنكار عنه "وطلب حقوقه واستخراجها، وتقاضي الأيمان إن وجبت له، وقبض حقوقه، والبيع عليه والابتياع له، والمصالحة عنه" وله أن يزيد هذه الزيادة إذا كان توكيلاً جامعاً لغير خصم، إن شاء الله، ثم يقول: شهد على إشهاد الموكل فلان والموكل فلان نفسهما بما ذكر عنهما في هذا الكتاب من عرفهما وسمعه منهما وهما بحال الصحة وجواز الأمر، وذلك شهر كذا من سنة كذا، وإن شئت عقدت الإشهاد على التوكيل خاصة، وقلت قبل التاريخ:
(1)
- معين الحكام، 2/ 685.
(2)
- المصدر السابق، 2/ 686.
ممن أشهده الخصم فلان على قبول التوكيل المذكور وذلك في شهر كذا من سنة كذا
(1)
".
وهناك نموذج آخر وضعه ابن العطار وهو عبارة عن توكيل يجعل للوكيل الحق في توكيل من يراه، جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، وكّل فلان فلاناً على المخاصمة عنه وله الإقرار عليه والإنكار عنه بوكالة التفويض التامة، أقامه بها مقام نفسه
…
وجعل إليه توكيل من رأى توكيله بمثل توكيل المذكور وقبل فلان ذلك من توكيله "ثم يذكر الشهود والتاريخ
(2)
.
هذا، وقد ذم ابن عبد ون الوكلاء، وكان يرى أن منعهم أفضل، إذ أن عملهم يتيح لهم أكل أموال الناس بالباطل، ويتوصلون إلى ذلك بالقدرة على الجدال، وتزيين الكلام والملق والكذب، والتلبيس على من يخاصمون عنده، إذ أن خصال الخير غير موجودة فيهم، وإن كان لابد من وجودهم فقد اشترط ابن عبد ون أن يكون عددهم قليلاً، ومع قلتهم فيجب أن يكون الوكيل ممن اشتهر أمره بالورع والعلم والعفاف والخير،
(1)
- الوثائق والسجلات، ص 498.
(2)
- المصدر السابق، ص 500.
ولا يكون شاباً ولا شريباً، ولا ممن يفجر أو يفسق
(1)
. وقال فيهم البعض: "هم أناس عليهم الفضول فباعوه لغيرهم"
(2)
.
ثم أنه بالرغم من عدم تمتع الوكلاء بنظرة احترام في مجال الخصومات إلا أن القاضي ربما نصح أحد الخصمين بإقامة وكيل يخاصم عنه، خاصة إذا توسم القاضي في أحد الخصمين الخير والصلاح مع عدم القدرة على الإدلاء بحجته، وذلك كما عرفنا من قبل قصة قاضي الجماعة، أحمد بن بقي بن مخلد عندما عمد إلى ذلك في إحدى القضايا
(3)
.
والوكيل يقبل الوكالة لقاء أجر مادي يتفق عليه مع موكله، ويبدو أن أمر الموكلين كان مشهوراً بقرطبة، إلى درجة أصبح معها عملهم شبه رسمي، أو بالأصح صار من يعمل التوكيل محترفاً له، يدل على ذلك ما فعله قاضي الجماعة سعيد بن سليمان القاضي عندما أدب وكلاء أساءوا الأدب عنده ثم منعهم من الحضور عنده لمدة سنة فكاد أن يورثهم الفقر
(4)
.
(1)
- رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة، ص 12. قارن: أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص 274.
(2)
- معيد النعم ومبيد النقم، ص 63.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 116.
(4)
- المصدر السابق، ص 63.
تسجيل الأحكام:
من بين الأعوان الذي يستعين بهم القاضي في مجلسه، الكاتب أو كاتب الجلسة، والعلة في اتخاذ القاضي للكاتب هو تسجيل الأحكام في ديوان القضاء، حفظاً للحقوق وقطعاً للإنكار من قبل البعض، بالإضافة إلى أنه لا يمكن للقاضي أن يتولى تسجيل الأحكام بيده، إذ أن ذلك يشق عليه كثيراً، ولذا فلابد له من اتخاذ كاتب يتولى هذه المهمة عنه.
وقد كان كاتب القاضي محل اهتمام حكام بني أمية، حتى أن الخليفة الحكم المستنصر بالله كشف عن مدى اهتمامه بكاتب القاضي ونص على ذلك في الظهير الذي أصدره لمحمد بن إسحاق ابن السليم عندما ولاه قضاء الجماعة، فقد جاء فيه أنه "أمره أن يختبر كاتبه وحاجبه وخدمته، ويتفقد عليهم أحوالهم إذا غابوا عن بصره"
(1)
.
ونظراً إلى أهمية العمل الذي يؤديه كاتب القاضي، فلابد أن يكون على دراية واسعة بمدلولات الألفاظ العرفية واللغوية
(2)
، "ويكون فقيهاً عدلاً يقظاً
(3)
" فهو بالفقه يتمكن من الحذف والاختصار من الكلام الزائد الذي يدلي به الخصمان، وهذا أمر لا يتقنه إلا من كان لديه إلمام طيب بالفقه، وفي هذا يقول الوليد الباجي: "وينبغي لكاتب القاضي أن
(1)
- النباهي، ص 76.
(2)
- معيد النعم ومبيد النقم، ص 60.
(3)
- الوثائق والسجلات، ص 493.
يتولى عقد المقالات المتصرفة بين يدي القاضي، ويترك التطويل والإكثار ويقصد الإيجاز والاختصار في تقييد المقالات"
(1)
، كما أن العدالة تجعله من أهل المروءة والأمانة فلا يعبث بنصوص الأحكام، فضلاً عن أن عدالته تمكن القاضي من الاستعانة بشهادته إذا احتاج إليها، واليقظة تجعل التغرير به أمراً عسيراً.
وعندما نقلب صفحات تراجم كُتَّاب قضاة الجماعة بالأندلس في عهد الدولة الأموية، نجد أنهم قد توافرت فيهم الشروط التي نص عليها الفقيه ابن العطار وهي: الفقه والعدالة واليقظة، بل إن بعضم وصل إلى منصب قاضي الجماعة، من هؤلاء محمد بن بشير فقد كان يكتب لقاضي الجماعة المصعب بن عمران، ثم رحل إلى المشرق فلقي الإمام مالك بن أنس، وجالسه وسمع منه، وطلب العلم بمصر، ثم انصرف إلى الأندلس، فلزم ضيعته بباجه، وبعد أن توفي المصعب بن عمران، تولى ابن بشير قضاء الجماعة
(2)
.
وكذلك الفقيه عمرو بن عبد الله بن ليث القبعه، تولى الكتابة لقاضي الجماعة أحمد بن زياد، وبعد استعفاء ابن زياد أصدر الأمير محمد بن
(1)
- فصول الأحكام، ص 195.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 28.
عبد الرحمن أمره بتولية عمرو بن عبد الله قضاء الجماعة سنة (250) هـ (864 م)
(1)
.
ومن هؤلاء الكُتَّاب من أصبح فيما بعد قاضياً في إحدى الكور، منهم الفقيه أحمد بن إسحاق ابن مروان الغافقي، قرطبي كتب لقاضي الجماعة محمد بن إسحاق بن السليم ثم تولى القضاء بطليطلة وتوفي سنة (372) هـ (982 م
(2)
).
وهذا الفقيه عبد الملك بن الحسن المعروف بزونان، تولى الكتابة لقاضي الجماعة إبراهيم بن العباس القرشي وذلك بإشارة من الفقيه يحيى بن يحيى الليثي
(3)
، ويذكر ابن حيان أن الفقيه القرطبي أبو بكر عبد الله بن محمد بن معدان كان كاتباً لقاضي الجماعة أبي الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث ومن قبله، وكان أمينهم على تنفيذ الوصايا، وقد توفي الفقيه ابن معدان يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة (426) هـ (21 أكتوبر سنة (1035) م) وصلى عليه القاضي يونس بن عبد الله
(4)
.
ومما استعرضنا ذكره ظهر لنا أن أغلب كتَّاب قضاة الجماعة بقرطبة كانوا من الفقهاء الذين عينوا فيما بعد قضاة في قرطبة أو غيرها من مدن الأندلس، وذلك نتيجة إلمامهم في الفقه، وملازمتهم للقضاة.
(1)
- المصدر السابق، ص 67 - 68.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 170.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 51.
(4)
- الصلة، ترجمة رقم 588.
وننهي الحديث عن كاتب القاضي بأن تسجيل الأحكام القضائية قد شهد تطوراً تدريجياً، ورغم وقوفنا على ما يوضح ذلك التطور بصورة تفصيلية، إلا أن نصاً أورده القاضي عياض يؤكد لنا حدوث عملية التطور تلك، فقد ذكر أن قاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز يقول إن الفقيه بقي بن مخلد قال: إن سجلات القضاء لدى قاضي الجماعة محمد بن بشير كانت دقيقة ولطيفة، والسجل لا يذكر فيه إلا لب القضية فقط في أسطر قليلة، بخلاف ما أصبحت عليه فيما بعد، إذ أخذت تمتاز بكثرة التفاصيل
(1)
.
وعملية التطور هذا حدثت في فترة لا تتجاوز ثلاثة أرباع القرن وهي الفترة الفاصلة بين وفاة قاضي الجماعة بن بشير سنة (198) هـ (814 هـ) ووفاة الفقيه بقي بن مخلد سنة (276) هـ (889 م) ولاشك أنها شهدت فيما بعد مزيداً من الإطالة والتفصيل، وكما يقول أحد المهتمين بدراسة القضاء في الأندلس عن تسجيلات الأحكام أنها "قد أصبحت في القرن الخامس مزيدة ومفصلة لكل جوانب القضية وأحكامها، ولعل نوازل ابن سهل خير مصداق لمنهج تحرير الأحكام وتسبيبها في تلك الفترة
(2)
".
(1)
- ترتيب المدارك، 3/ 332 - 333.
(2)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 284.
تنفيذ الأحكام:
بناء على ما يثبت لدى القاضي من ظهور الحق في القضية المطروحة عنده، فإنه يصدر حكمه فيها، ومتى ما صدر الحكم أصبح من المتعذر إعادة النظر فيه
(1)
إلا ما كان منها ظاهر الجور أو مخالف للشرع أو تبين للقاضي الخطأ في قضائه والوهم في حكمه
(2)
.
وقد جاء في رسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: "ولا يمنعك قضاء قضيته فراجعت فيه نفسك أو هديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطل ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل
(3)
".
كما ورد في العهد الذي أصدره والي الأندلس عقبة بن الحجاج للقاضي مهدي بن مسلم أن "لا يعجل بإمضاء الحكم حتى يستقصي حجج الخصوم وبيناتهم ومزكيهم، ويضرب لهم الآجال ويوسع فيها عليهم، حتى تنجلي له حقائق أمورهم وتتكشف له أغطيتها
(4)
".
ولذا فقد عُرف قاضي الجماعة أحمد بن بقي بن مخلد بلين الجانب والتطويل في الأحكام لأنه كان لا ينفذ منها إلا الظاهر البين، أما ما كان
(1)
- من ذلك أن قاضي الجماعة محمد بن بشير رفض إعادة النظر في قضية الفتى المملوك الذي ادعى أن سيده أعتقه وأنكحه ابنته. انظر: قضاة قرطبة، ص 33 - 34.
(2)
- الوثائق والسجلات، ص 635 - 636. معين الحكام، 2/ 638 - 639.
(3)
- أدب القاضي، ص 45.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 11.
ملتبساً عليه منها، أو لديه شك فيها فإنه كان يستعمل الأناة والتؤدة حتى تنجلي له الحقيقة أو يتصالح الخصمان، وعندما بلغه من يعيب عليه اللين والتطويل، قال: "أعوذ بالله من لين يؤدي إلى ضعف، ومن شدة تبلغ إلى عنف
…
واحتج بفساد أحوال بعض الناس وما يسببه هذا الفساد من التباس الأمور حتى لا يكاد يستبين الحق منها، كما احتج بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما اشتبه عليه الحكم في قضية، فأطال فيها، وكره أن يحكم على الاشتباه وأمر بابتداء الخصومة من أولها
(1)
".
أعوان القاضي:
لابد للقاضي من أعوان يستعين بهم على ضبط هيبة مجلس القضاء، فهم الذين يحفظون نظامه ويدخلون الخصوم إلى القاضي بالترتيب الأول فالأول، كما أنهم يخرجون من يطلب القاضي إخراجه عند إساءته الأدب ونحوه.
وهؤلاء الأعوان يشترط فيهم الصلاح والأمانة، فيؤمن جانبهم بعدم قبول الرشوة، فلا يُقَدَّم أحد في الدخول إلى القاضي، كما أن صلاح الأعوان ضروري لكي يعاملوا أولئك الخصوم المتزاحمين على باب القاضي بالرفق واللين، فضلاً عن دورهم في إحضار الخصوم وتنفيذ الأحكام. وفي هذا يقول ابن العطار "يجب أن يكون أعوان القاضي في زي الصالحين
(1)
- المصدر السابق، ص 116.
أحوال الناسكين مستمسكين بهديه وحاله، فإنه يستدل بأحوال المرء بصاحبه وغلامه
(1)
".
ويقول ابن عبدون: "لا يستعمل القاضي
…
من الأعوان من كان غائظاً ولاشريباً ولا غضوباً ولا مهذاراً كثير الكلام واللدد، فيهذب ذلك منهم
(2)
" كما يجب أن يكون للقاضي رقبة عليهم وهيبة، يخوفهم لئلا يقدموا على أمر فيفعلونه، أو قول فيقولونه، أو أمر فيفسدونه، ولا يمكّن من الدخول عليه أحد منهم حتى يدعى عند الحاجة إليه، فهو موضع رشوة وفساد
(3)
" لأجل هذا نجد أن قاضي الجماعة أحمد بن بقي بن مخلد كان قد اتخذ أعواناً شيوخاً توسم بهم الخير والسداد
(4)
.
وعن عدد الأعوان لدى القاضي ذكر ابن عبد ون -معاصر المرابطين- أن عددهم لدى القاضي في اشبيلية كان لا يتجاوز العشرة، منهم أربعة سودان برابر لأجل المرابطين والبقية من أهل الأندلس
(5)
. وعلل سبب بلوغ عددهم العشرة ما عرف عن أهل اشبيلية في ذلك الوقت من كثرة الخصومات بسبب اشتداد الخلاف بين أهلها
(6)
، وعليه فمن
(1)
- الوثائق والسجلات، ص 493.
(2)
- رسالة ابن عبدون، ص 12.
(3)
- المصدر السابق، ص 10.
(4)
- النباهي، ص 64.
(5)
- رسالة ابن عبدون، ص 9.
(6)
- المصدر السابق، ص 11.
المتوقع ألا يكون عددهم في قرطبة إبان الدولة الأموية أقل من ذلك ويتم صرف أرزاق أولئك الأعوان من بيت مال المسلمين مثلهم في ذلك مثل القاضي الذي يأخذ رزقه من بيت المال
(1)
، يدل على ذلك أن قاضي الجماعة أحمد بن بقي بن مخلد عندما تولى القضاء سنة (314) هـ (926 م) طلب من الأمير عبد الرحمن بن محمد أن يكون رزق أعوانه من بيت المال
(2)
، ولكن ربما صرفت أرزاقهم من موارد أخرى، إما من رزق القاضي أو من المدعى أو المدعي عليه إذا عرف بالمماطلة
(3)
.
مرتب القاضي وموارد دخله:
إن من الحقوق التي ضمنت للقاضي، تقديم الأرزاق له، وذلك مقابل تحمله عبء الجلوس لصالح الناس. وهذا الجلوس يستغرق جل وقته، مما يحول بينه وبين التكسب من طرق أخرى، لأجل هذا كان لابد من صرف مرتب له يغنيه عن الاحتياج للآخرين، ويجعله في مأمن عن التطلع لما في أيديهم.
ويكفي للدلالة على وجوب فرض مرتب للقاضي فعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عندما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن ليتولى
(1)
- الوثائق والسجلات، ص 493 - 494.
(2)
- النباهي، ص 64.
(3)
- معين الحكام، 2/ 614.
القضاء فقد فرض له رزقاً مقابل ذلك وقال له: "لعل الله يجبرك ويؤدي عنك دينك
(1)
".
كذلك فرض الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم لقضاتهم أرزاقاً فقد كتب عمر بن الخطاب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة رضي الله عنهم عندما كانا في الشام "أن انظروا رجالاً من الصالحين قبلكم فاستعملوهم على القضاء ووسعوا عليهم في الرزق
(2)
" كما فرض علي بن أبي طالب رضي الله عنه لشريح خمسمائة درهم في الشهر عندما ولاه القضاء
(3)
، واستمرت عملية صرف المرتبات للقضاة طيلة عهد الدولة الأموية في الشام
(4)
.
وفي الأندلس سار القضاة هناك على مثل ما كان عليه نظرائهم في المشرق، فقد كانت لهم أرزاق تدفع من بيت المال. وقد حدد لنا أبو الوليد الأزدي فيما يرويه عن أصبغ بن الفرج موارد رزق القاضي، فقد قال "وحق على الإمام أن يوسع على القاضي في رزقه، ويجعل له خدمة
(1)
- صحيح البخاري، 9/ 67 - 68.
(2)
- أدب القاضي، ص 110.
(3)
- المصدر السابق، والصفحة.
(4)
- انظر: محمد بن عبد الله الغنام، تاريخ القضاء في عهد الدولة الأموية من 41 - 132 هـ، (رسالة ماجستير مقدمة لكلية العلوم الاجتماعية قسم التاريخ والحضارة جامعة الإمام محمد بن سعود الرياض 1407 هـ. غير منشورة) ص 98 - 110. ومصادره.
يقومون بأمره، ويدفعون الناس عنه، ويجري له ثمناً لوقوف يدون أقضيته فيها، وشهادتهم، وبمصابيح الليل ينظر منها في أمور الناس ويدبرها، ولا ينبغي له أن يأخذ رزقه إلا من الخمس أو من الجزية أو من عشر أهل الذمة
(1)
".
ويبدو أن الرزق المقدم للقاضي كان شهريا
(2)
، وكان واسعاً نوعاً ما. بل إنه كان يمكن البعض من تدبير أموره بفائض من هذا الرزق طيلة العام المقبل حتى وإن كان معزولاً، مثلما حدث لمعاوية بن صالح عندما كان الأمير عبد الرحمن الداخل يداول بينه وبين عمر بن شراحيل في القضاء
(3)
.
والذي تجدر الإشارة إليه أن القاضي معاوية بن صالح بما أنه يدبر شئونه طيلة العام المقبل من خلال الفائض من رزق العام الذي يتولى فيه القضاء بالرغم من أنه لا يمارس أي عمل آخر طيلة العام الذي يتولى فيه صاحبه عمر بن شراحبيل القضاء، لهو دليل أكيد على حياة الزهد التي كان يعيشها، وإن كنا لا نستطيع التغاضي عن ضخامة الرزق الذي تقدمه الدولة للقاضي.
(1)
- مفيد الحكام، ورقه 4.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 22.
(3)
- المصدر السابق، والصفحة.
والأمثلة على حياة الزهد التي كان يحياها قضاة الجماعة بقرطبة كثيرة، فبالإضافة إلى ما سبق كان قاضي الجماعة سعيد بن سليمان إذا انصرف من صلاة الجمعة، ذهب إلى الفران وأخذ خبزته ووضعها تحت عضده ودخل بيته
(1)
. وعندما عُزل قاضي الجماعة يحيى بن معمر الألهاني عن منصبه، بعث إليه أحد خواصه من الوزراء أحد أبنائه ومعه بعض الأعوان والزوامل لحمل أمتعته، لكنهم فوجئوا عند دخولهم بيت القاضي بأنهم لم يجدوا من المتاع إلا حصير وخابية دقيق وصحفة وقلة للماء وقدح وسرير كان يرقد عليه
(2)
.
ومن شدة زهد أولئك القضاة أن أحدهم كان إذا شغل عن القضاء يوماً لا يأخذ لذلك اليوم أجراً
(3)
، بل إن أحدهم إذا كان له دخل من غير منصب القضاء، فإنه يتعفف عن رزق القضاء، وإن كان في الواقع بحاجة إليه، فقاضي الجماعة سعيد بن سليمان كانت له ضيعة في فحص البلوط، وكان وكيله على هذه الضيعة المدعو ناصر بن قيس يُحضر للقاضي نتاج ضيعته من القمح والشعير، وهذا النتاج يبلغ سبعة أمداد من شعير وثلاثة أمداد من قمح، وكان القاضي يقول لمن حوله عن هذا الطعام "وهذا
(1)
- نفسه، ص 64.
(2)
- نفسه، ص 48.
(3)
- نفسه، ص 22، النباهي، ص 44.
مقيتي ومقيت عيالي بحول الله
(1)
" كما كان قاضي الجماعة ابن السليم يتعيش على اصطياد الأسماك من نهر قرطبة ويتعفف عن رزق القضاء
(2)
.
وبمقابل من كان يعيش من قضاة قرطبة عيشة الزهد والتقشف كانت فئة منهم تعيش في سعة وبحبوحة، فمثلاً كان قاضي الجماعة الحبيب أحمد بن محمد بن زياد تاجراً قبل أن يتولى خطة القضاء سنة (291) هـ (904 م)
(3)
".
وأما قاضي الجماعة أحمد بن بقي بن مخلد فيذكر عنه ابنه عبد الرحمن أنه إذا طرق أباه ضيف في الليل لم يذبح له شيئاً من الطير، لأنه يعتبره أماناً لها، ويكتفي بأن يقدم للضيف في ذلك المساء العسل والسمن والبيض وما شاكل ذلك
(4)
.
ويذكر ابن حيان أن قاضي الجماعة محمد بن يبقى بن زرب كان ذا سعة وثراء، فلما تولى القضاء في أوائل عهد الخليفة هشام المؤيد، جاءه أصحابه من الفقهاء والمشاورين لتهنئته بهذا المنصب، فما كان منه إلا أن احتبسهم عنده ثم أطلعهم على ما لديه من الأموال وأخبرهم عما تحويه
(1)
- قضاة قرطبة، ص 63.
(2)
- المغرب في حلى المغرب، 1/ 214.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 102.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 114 - 115.
مخازنه منها، وما قدر عليه تجارته من أرباح، وذلك لكي لا يتعرض لتهمة الخيانة فيما بعد إذا ظهر ثراؤه بصورة كبيرة
(1)
.
وكذلك كان قاضي الجماعة عبد الرحمن بن فطيس ميسور الحال، يدل على ذلك ما ذكره ابن حيان من أن ولده محمد بن عبد الرحمن بن فطيس المتوفى سنة (409) هـ (1018 م) كان سريا
(2)
.
كما كان عبد الرحمن بن بشر الذي تولى للحموديين بقرطبة خطتي القضاء والوزارة من أهل الثراء، يدل على ذلك ما ذكره النباهي عن مجلس لابن بشر كان يقضي فيه أنسه وخلوته، فقد كان ذلك المجلس "عجيب الصفة حسن الآلة، ملبَّس كله بالخضرة، جدرانه وأبوابه، وسقفه وفرشه وستوره ونمارقه، وكل ذلك متشاكل الصفات، قد ملأه بدفاتر العلم ودواوين الكتب التي ينظر فيها ويخرج منها
(3)
".
بعض المهام التي كان يتولاها القاضي أحيانا:
من الملاحظ أن قاضي الجماعة بقرطبة كان في بعض الأحيان يقوم بأداء مهام وظيفية أخرى، وذلك إلى جانب منصبه، فهناك من كان
(1)
- النباهي، ص 77.
(2)
- الصلة، ترجمة رقم 1088. تاريخ القضاء في الأندلس، ص 295.
(3)
- النباهي، ص 88.
يشترك في الغزوات التي كان يقوم بها جيش الدولة
(1)
، بل إن منهم من كان يتولى أحياناً قيادة الجيش
(2)
.
واشتراك القاضي في الغزو قد يكون رغبة منه في الجهاد والمرابطة، وأما إن كان الأمر نتيجة تكليف من ولي الأمر فالهدف من وجوده هو إمامة الجند في الصلاة وبث الحماس في نفوسهم من خلال الخطب التي يلقيها عليهم.
ومن المهام التي أسندت لقاضي الجماعة الإشراف على الثغور وإصلاح ما وهى من حصونها، وقد كان قاضي الجماعة محمد بن عبد الله بن أبي عيسى كثيراً ما يخرج لأجل هذه المهمة، وفي آخر خرجاته إلى هناك، اعتل في قرية نحارس ومات هناك، فنقل جثمانه إلى طليطلة حيث دفن فيها في يوم السبت مستهل ربيع الأول سنة (399) هـ (نوفمبر (1008) م)
(3)
.
وأما لدينا العمالة على الكور، فقد ذكر الخشني أن الأمير الحكم الربضي استقدم الفرج بن كنانة من شذونة فولاه القضاء بقرطبة، وبعد أن أعفى الأمير ابنه عبد الرحمن من ولاية سرقسطة، وولاها عبد الرحمن بن أبي عبد هـ، حدثت بعض الفتن هناك، فأرسل الأمير إليهم قاضي الجماعة
(1)
- قضاة قرطبة، ص 17 - 18، 83.
(2)
- المصدر السابق، ص 41.
(3)
- نفسه، ص 120. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1253.
الفرج ابن كنانة والياً على سرقسطة، فتمكن بحسن معالجته للأمور من إخماد الفتنة
(1)
.
وقبل أن يصل محمد بن عبد الله بن أبي عيسى إلى منصب قاضي الجماعة في ذي الحجة سنة (326) هـ (أكتوبر (938) م) كان قد تقلد القضاء في عدة كور، فقد ولاه الخليفة عبد الرحمن الناصر القضاء ببجانة وطليطلة وجيان، وصرَّفه في عدة أمانات، فاضطلع بها، وكان آخر ما تولاه قضاء إلبيرة، وقلده مع القضاء أمانة الكور والنظر على عمالها، فكانوا لا يصدرون إلا عن أمره، ولا يظلم أحد في أي كورة تحت تصرفه إلا نصره
(2)
.
وبعد أن تولى ابن أبي عيسى قضاء الجماعة كلفه الخليفة عبد الرحمن الناصر في منتصف شهر رجب سنة (328) هـ (إبريل (940) م) بالخروج إلى الثغور الشرقية للنظر في مصالح أهلها، فخرج إليها وحسن أثره فيها
(3)
، وازداد رفعة وقرباً من الخليفة حتى أنه أصبح المؤتمن على أسراره، كما خوله حضور جلسة مجلس الوزراء دون أن يطلق عليه لقب وزير
(4)
.
ومن المهام التي كان يتولاها قاضي الجماعة عرضاً الكتابة، فقد ذكر الخشني أن الأمير عبد الله ابن محمد كان في أحد أيام الجمعة في الساباط،
(1)
- قضاة قرطبة، ص 41 - 43.
(2)
- ترتيب المدارك، 6/ 97.
(3)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 453.
(4)
- ترتيب المدارك، 6/ 96.
فورد عليه كتاب لابد من الإجابة عليه فوراً، فطلب كاتبه عبد الله بن محمد الزجالي فلم يجده، فأراد أن يرسل في استدعائه، لكن القاضي النضر بن سلمة عرض نفسه على الأمير للرد على هذا الكتاب، فأذن له، فجاوب فأحسن وكتب فأبلغ، فأعجب الأمير به وشكر له فضله
(1)
.
ومن المهام الجسيمة التي كان يضطلع بها قاضي الجماعة أحياناً، الاستخلاف في سطح قصر الإمارة، وهذا لم يحدث إلا في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر قبل أن يكبر ولي عهده الحكم، فقد كان كثيراً ما يستخلف قاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز على سطح القصر عند خروجه لمغازيه
(2)
.
والحق إن استخلاف القاضي على سطح القصر لهو أبلغ دلالة على مدى عظم منصب قاضي الجماعة، بالإضافة إلى الثقة القوية التي كانت متبادلة بين أمراء وخلفاء بني أمية وبين قضاتهم.
كذلك كانت تناط بقاضي الجماعة مهمة الإشراف على البنيان، وفي هذا يذكر الخشني أن الخليفة عبد الرحمن الناصر كان كثيراً ما يكلف القاضي ابن أبي عيسى بالإشراف على الثغور وتفقد مصالحها وبنيان
(1)
- قضاة قرطبة، ص 92.
(2)
- المصدر السابق، ص 109.
حصونها، كما أنه هو الذي تولى للخليفة عبد الرحمن الناصر بناء مدينة سالم مع القائد غالب بن عبد الرحمن
(1)
.
والقاضي يتولى الإشراف على أموال الوقف في المسجد الجامع
(2)
كما كان يقوم بمهمام النظر في شئون الأيتام
(3)
، وهو الذي يعيِّن الأوصياء عليهم لاستصلاح أموالهم
(4)
. ولا يتم بيع شيء من ممتلكات الأيتام إلا بإذن القاضي
(5)
حتى وإن كان ذلك ضد رغبة الخليفة
(6)
.
كذلك كانت تسند للقاضي مهمة القيام بالسفارة لأجل الإصلاح، ففي شهر رمضان سنة (328) هـ (يونيو (940) م) انتدب الخليفة عبد الرحمن الناصر قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي للسفر إلى العدوة المغربية للتوسط بين الزعيمين الخير بن محمد بن خزر وبين مدين بن موسى بن أبي
(1)
- ترتيب المدارك، 6/ 99.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 83.
(3)
- المصدر السابق، ص 66.
(4)
- يحدث أحياناً أن القاضي يعين للأيتام أوصياء سوء ومن أولئك الأوصياء الذين عينهم قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي وعندما عاتبه الخليفة عبد الرحمن الناصر على تعيين تلك المجموعة السيئة رد عليه القاضي بأنه لا يجد سواهم فالذي يرجى منهم الصلاح لا يقبلوا الوصاية على الأيتام، ثم طلب من الخليفة أن يحيله على أهل الصلاح وله أن يجبرهم بكل وسيلة وهو يضمن له ألا يسمع بعد ذلك إلا كل خير. انظر: مطمح الأنفس، ص 257.
(5)
- نفح الطيب، 2/ 16.
(6)
- مطمح الأنفس، ص 252 - 254. نفح الطيب، 2/ 16 - 17.
العافية المكناسي لإيقاف الحرب بينهما ومنع سفك الدماء، فنفذ منذر لما ندب له، وعالج الأمر برؤية فوفق في مهمته
(1)
.
وفي عهد الفتنة أرسل الخليفة المهدي قاضي الجماعة أبا العباس بن ذكوان لإقناع هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر ومن معه من العبيد العامريين بالعدول عن إثارة الفتنة وترك الخروج ضد المهدي
(2)
.
وقاضي الجماعة يؤخذ العهد أمامه بالطاعة، فقد ذكر ابن ذكوان أنه في غزوة ربيع الأخر سنة (328) هـ (ديسمبر (939) م) قدم إلى قرطبة موسى بن محمد صاحب مدينة وشقه وحكم بن منذر صاحب قلعة أيوب مستأمنين للخليفة عبد الرحمن الناصر، فأخرج إليهما كتب الأمان، وعقد لهما على أعمالهما، وذلك بعد أن أحلف كل واحد منهما في المسجد الجامع بقرطبة خمسين يميناً على الالتزام بالطاعة والوفاء بشروطها والنصح للخليفة في السر والعلن، كل هذا تم بمحضر قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي ومن معه من الحكام والفقهاء والعدول
(3)
.
وأخيراً، إن القارئ ليقف موقف المتسائل من القدرة التي كان عليها قضاة الجماعة والتي أهلتهم للتصدي بكفاءة لكل ما وكل إليهم من المهام، وربما تسرب إلى الخاطر أن معظم تلك المهام لم تكن إلا تشريفية
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 460.
(2)
- البيان المغرب، 3/ 79 - 80.
(3)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 453.
لا أكثر
(1)
، لكن الصواب هو ما ذهب إليه أحد المختصين بدراسة القضاء في الأندلس حيث يقول "إن مجال التشريف بألقاب القاضي لم يكن معمولاً به في الأندلس، وأن الخطط التي جمعت إلى قضاة الأندلس كان القاضي يمارسها بنفسه، فإذا لم يستطع فبالاستخلاف أو التفويض أو بمعونة مساعديه وتحت مراقبته ومسئوليته"
(2)
.
ويكفي لتأييد هذا الرأي وأن الألقاب لم تكن تشريفية ما ورد على لسان الحاجب المنصور بن أبي عامر عند وصفه لأحد رجال دولته، المدعو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحضرمي الشهير بابن الشرفي، المتوفى في شهر شعبان سنة (396) هـ (مايو سنة (1006) م) فقد قال "في أصحابي رجل بصير بدنياه، يصلح لكل خطة، من مكاني في الحجابة، إلى مكان بوابي فلان، فمن بينهما من ذي منزله، ويستقل بكل أمر، ويصلح لكل خطة فإذا استفسر عنه، قال هو الشرفي
(3)
".
ولتأكيد مقولة المنصور أورد القاضي عياض وصف ابن حيان لابن الشرفي، فذكر أنه قال "كان من أحد رجالات قرطبة المعدودين في الجزالة والرجولة، مع جودة المعرفة وغزارة العلم ومتانة الخطابة، والسداد
(1)
- انظر: الدكتور محمود مكي في مقدمة تحقيقه لكتاب المقتبس، ص 44.
(2)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 302.
(3)
- ترتيب المدارك، 7/ 193.
في الحكومة مع الصلابة والنزاهة، ولي الشرطة والأحكام بقرطبة والصلاة والخطبة بجامعها مع المواريث
(1)
".
مستخلف القاضي:
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}
(2)
فطاعة ولي الأمر واجبة - بغير معصية - والقاضي هو وكيل عن ولي الأمر، ولا يجوز للوكيل إقامة وكيلاً له إلا بتفويض من الموكل، فكذلك لا يجوز للقاضي أن يستخلف قاضياً آخر مكانه مالم يأذن ولي الأمر بذلك
(3)
. وعليه "فليس للقاضي أن يستخلف قاضياً مكانه ينظر بين الناس ويريح نفسه إذا كان حاضراً ولا إن عاقه شغل، إلا بعد استئذان الذي قدمه أو يكون تقديمه انعقد على ذلك
(4)
".
وقد حدد الفقيه ابن العطار في وثائقه المجال العام الذي يمكن للقاضي المستخلف أن يعمل فيه، فقد ذكر أن القاضي إذا استخلف قاضياً آخر مكانه فللمستخلف الاستماع لشهادة الشهود، وقبول عدالة
(1)
- المصدر السابق، 7/ 192 - 193.
(2)
- سورة النساء جزء من الآية 59.
(3)
- أدب القاضي، ص 357 - 358، وقد ورد في تاريخ قضاة الأندلس أن القاضي محمد بن الحسن الجذامي النباهي عندما أمره يحيى المعتلي بتولي القضاء بمالقة، اشترط لقبول الولاية عدة شروط، منها: أن يستخلف عنه من يظهر له متى احتاج إلى ذلك وإن كان مقيماً في قصره. انظر: النباهي، ص 90.
(4)
- معين الحكام، 2/ 611.
من عرف منهم بالعدالة، وأن يعدل من احتاج إلى تعديل. فبعد أن يثبت لديه حيازة ما شهد به الشهود، يرفع ذلك كله إلى القاضي الذي استخلفه، وذلك بحضرة شاهدي عدل، فيلزم القاضي حينئذ إقرار فعل مستخلفه، وتنفيذ ما ثبت عنده من ذلك، ويسجل به للمحكوم وينعقد التسجيل في ذلك والإشهاد على القاضي
(1)
، ثم أضاف أنه إذا كان المخلف غائباً، فإنه يسجل القضية بشهادة الشهود والإثباتات ثم يطبع على الكتاب الذي سجل فيه القضية ويبعثه مع عدلين، يتوجهان به إلى القاضي ويسلمانه الكتاب، ويشهدان عنده أن مخلفه فلان بن فلان قد دفعه إليهما وأشهدهما على ما فيه، وينفذ القاضي قولهما إذا قبلهما بمعرفته بهما أو بتعديل من عدلهما لديه
(2)
.
وقد استخدم بعض قضاة الجماعة بقرطبة حق الاستخلاف، من هؤلاء قاضي الجماعة محمد بن عبد الله بن أبي عيسى الذي كان يستخلف على قضائه عند خروجه من قرطبة قاسم بن محمد صاحب الوثائق، وفي بعض الأحيان يستخلف عبد الرحمن بن علي
(3)
.
وكان قاضي الجماعة ابن ذكوان ملازماً للحاجب المنصور بن أبي عامر لم يتخلف عنه في غزوة من غزواته ولا فارقه في إقامة ولا سفر،
(1)
- الوثائق والسجلات، ص 642.
(2)
- المصدر السابق، ص 642 - 643.
(3)
- ترتيب المدارك، 6/ 99.
وكذلك كانت حالته مع ولديه عبد الملك المظفر وعبد الرحمن شنجول
(1)
ولذا فقد كان القاضي ابن ذكوان يستخلف أخاه أبا حاتم صاحب المظالم طيلة غيابه عن قرطبة
(2)
.
والمستخلف ربما حاول أن يقنع ولي الأمر بأنه أولى بالمنصب ممن استخلفه، وأنه أقدر عليه منه، وقد حدث ذلك في قرطبة مرة واحدة، فقد استخلف قاضي الجماعة محمد بن عبد الله بن أبي عيسى في إحدى خرجاته عن قرطبة الفقيه ابن زونان، فصلى بهم الجمعة ثم استغل غيبة القاضي، فكتب للخليفة عبد الرحمن الناصر كتاباً ذكر فيه "أنه شيخ من شيوخ المسلمين، ومن أهل العلم فيهم، وولاؤه أشرف الولاء، إذ كان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يكون مع هذا مخالفاً لابن أبي عيسى؟ وهو صبي في عدد ولده، يسأل أمير المؤمنين أن يأنف من هذا
(3)
" لكن الخليفة لم يلتفت إلى كتابة ابن زونان، ولم ير بديلاً لابن أبي عيسى الذي ما إن علم بالأمر حتى عاد مسرعاً وصرف ابن زونان ولم يستخلفه بعدها
(4)
.
والاستخلاف في القضاء لم يقتصر العمل به على قضاة الجماعة بقرطبة، فقد كان معمولاً به في الكور، فالفقيه الحافظ أبو الفرج عبد الله
(1)
- المصدر السابق، 7/ 168 - 169.
(2)
- نفسه، 7/ 175.
(3)
- النباهي، ص 60.
(4)
- المصدر السابق، والصفحة.
بن عبد الوارث
(1)
بن منتيل، المتوفى ليلة السبت لسبع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان سنة (373) هـ (فبراير (984) م) كان مستفتياً في الأحكام ببلدة طليطلة، ومن أهل الثقة والورع في جميع أموره، ولذا فقد كان محمد بن يحيى بن عبد العزيز يستخلفه أيام قضائه بطليطلة
(2)
.
وقد نظر ابن عبد ون إلى مسألة الاستخلاف نظرة حذرة، خشية ماقد يطرأ على الحقوق من ظلم بسبب هذا الاستخلاف، فبعد أن ذكر الشروط التي على القاضي التحلي بها، بدأ يعدد الأمور التي يجب عليه أن يأخذ حذره منها "ألا يستخلف في ذلك لأنه باب فساد لحاله، وباب من الهوان كبير قد فتحه على نفسه، فإن الناس يميلون إلى مستخلفه ويبقى هو مهوناً لا يعبأ به، ويحدث المستخلف عليه خلافاً عظيماً، لاسيما إذا ارتشى أو كان ذا غفلة، ولم تكن له حنكة
(3)
".
ثم حدد ابن عبد ون السمات التي على القاضي أن يراعيها في مستخلفه، وحدد له الصلاحيات التي يمنحها المستخلف لكي يضمن السلامة، فقال "أن يجعل حاكماً عالماً خيراً غنياً يجعله للعوام في الأمر القريب من الأحكام لا في رقاب الأموال، ولا حكم على الأيتام، ولا فيما فيه أمر من أمور السلطان والعمال
(4)
".
(1)
- لدى ابن الفرضي، ترجمة رقم 730: عبد الحارث.
(2)
- لدى ابن الفرضي ترجمة رقم 730. ترتيب المدارك، 7/ 30.
(3)
- رسالة ابن عبدون، ص 8 - 9.
(4)
- المصدر السابق، ص 9.
العزوف عن القضاء:
من الملاحظ أنه بالرغم من الأهمية البالغة، والمكانة السامية، للقاضي في المجتمع الإسلامي، إلا أن بعض الفقهاء يرفض بشدة تولي القضاء، ورفض هذا المنصب مدعاة للتساؤل. لكن إذا وضعنا في الاعتبار احتياط ذلك الفقيه لنفسه من الوقوع في المحذور، وخشيته من القضاء لشدة عقوبة من اتبع هواه فيه، فسوف نعذره، فقد وردت أحاديث عديدة كلها تحذر من القضاء، من ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جعل قاضياً بين الناس فقد ذُبح بغير سكين
(1)
".
لكن العزوف عن القضاء لمجرد التحذير أمر فيه نظر، إذ أن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أسوة حسنة، كما أن القاضي الذي يقضي بالحق ويجهد نفسه في مرضاة الله تعالى لاشك أن له من الله تعالى أجر عظيم، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يغلق الباب أمام تولي القضاء، فهو كما أنه حذر منه، تجده في أحاديث أخرى يرغب فيه فقد قال:"إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر"
(2)
.
(1)
- سنن ابن ماجه، 2/ 774. رقم الحديث 2308.
(2)
- المصدر السابق. رقم الحديث 2314.
ويرى الخشني أن قبول بعض الفقهاء للقضاء ناتج عن رغبة منهم في شرف الدنيا والاتكال على عفو الله تعالى ورحمته، وأما من نفر منه فذلك لخشيته من موقف يوم القيامة، وحذراً من وقوع حيف على يديه يستجلب به غضب الله تعالى
(1)
".
وفي الأندلس وجد الكثير من الفقهاء الذين رفضوا منصب القضاء، شأنهم في ذلك شأن من رفضه من المشارقة، وقد علل أحد المهتمين بدراسة القضاء في الأندلس هذا الرفض "بالخوف من عدم القدرة على إقامة العدل على الأقوياء، وتحرجاً من خدمة أمراء لا يرضون عن تصرفاتهم، وخوف الفقهاء من الدسائس التي تحدث بين بعضهم ورجال السلطة وأصحاب النفوذ في الدولة، وخوفهم أيضاً من التنكيل بهم بيد أصحاب السلطة إذا عارضوا ووقفوا أمام ظلمهم
(2)
".
وإذا طبقنا هذا الرأي على الواقع في الأندلس، نجد أنه بحاجة لإعادة نظر، فهو لا ينطبق إلا على عهد الخليفة هشام المؤيد، وهذا أيضاً في حالات معدودة بالإضافة إلى مدة الفتنة وهي مدة لا يمكن اعتبارها صورة لحالة الدولة بأي حال من الأحوال، أما منذ قيام الدولة سنة (138) هـ وحتى وفاة الخليفة الحكم المستنصر سنة (366) هـ (977 م) فإن أغلب
(1)
- قضاة قرطبة، ص 2.
(2)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 308.
الصور عن القضاء ومن تولاه هي صور طيبة تبرز بجلاء موقف أمراء وخلفاء بني أمية من العدل.
هذا ولدينا شخصيات أندلسية كثيرة رفضت منصب القضاء، ولعل الفقيه يحيى بن يحيى الليثي هو خير مثال على ذلك، إذ يمكن اعتباره أبرز شخصية دينية أندلسية على الأقل في عصره.
وعندما نحاول الوصول إلى معرفة الأسباب الحقيقية التي حالت دون تولي الفقيه الليثي للقضاء، نضع في الاعتبار مسألة تأثير الإمام مالك بن أنس على أتباع مذهبه بصفة عامة وتلاميذه بصفة خاصة.
فالمذهب المالكي يمتاز عن بقية المذاهب بالتأثير السلوكي الذي يظهر جلياً على اتباعه، فهو غير مقتصر على كونه مذهباً فقهياً فحسب، بل هو مذهب سلوكي
(1)
وإذا حاولنا التعرف على الأسباب التي أدت إلى أخذ الأندلسيين بالمذهب المالكي، نجد أن من بينها "العامل التربوي" والذي أقصده هو القول بأن تأثيراً تربوياً تمت ممارسته بطريق غير مباشر من قبل الإمام مالك على تلاميذه الأندلسيين، فقد وجد هؤلاء التلاميذ إماماً مهيباً
(2)
، على درجة كبيرة من العلم والوقار وحسن الهيئة، لذا فليس
(1)
- د. حسين مؤنس، شيوخ العصر في الأندلس، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 1986 م) ص 16.
(2)
- عن هيبة الأندلسيين للإمام مالك يقول سعيد بن أبي هند: "ما هبت أحداً هيبتي لعبد الرحمن بن معاوية حتى حججت فدخلت على مالك فهبته هيبة شديدة حتى صغرت عندي هيبة عبد الرحمن لهيبته" انظر: ابن الفرضي، ترجمة رقم 469.
من المستغرب أن يقتدوا به، ويتخلقوا بأخلاقه وحرصوا كل الحرص على أن يسلكوا السبيل الذي اختطه لنفسه
(1)
.
ومن أجل محاولة الوصول إلى الأسباب التي حالت دون تولي الفقيه يحيى الليثي للقضاء يجب أن نتذكر أن رفض الإمام مالك للقضاء جعل العباسيين يرمقونه بنظرة إجلال واحترام، وهي صورة يسعى الكثير من الطلاب لنيلها، ولذا فلا عجب أن يرفض الفقيه يحيى الليثي منصب القضاء، وهو مدرك لمعنى هذا الرفض، إذ أنه نصب نفسه مشرفاً عاماً على القضاء، وذلك عندما قال لرسول الأمير عبد الرحمن بن الحكم عندما ألح عليه في القضاء: "المكان الذي أنا به لما تريدون خير لكم، إنه إذا تظلم الناس من قاض أجلستموني فنظرت عليه، وإن كنت القاضي فتظلم الناس مني، من تجلسون للنظر علي؟ من هو أعلم مني أو من هو دوني في العلم
(2)
" وإذا علمنا أن أكبر عدد من القضاة في قرطبة وجد في عهد الأمير عبد الرحمن بن الحكم 206 - (238) هـ (822 - (852) م) وأن ذلك كان بسبب الفقيه يحيى الليثي، إذ كان مستشاراً للأمير في تعيين القضاة وعزلهم، ولا يولي الأمير أحداً إلا بمشورته
(3)
، كما أن هو الذي يولي مكان القاضي المعزول
(4)
، بل لقد بلغ من سلطانه في مجال تعيين القضاة وعزلهم
(1)
- سالم الخلف، المرجع السابق، ص 285.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 5.
(3)
- ابن القوطية، ص 58.
(4)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 40 - 41.
أنه إذا أنكر من القاضي شيئاً قال له "استعف و إلا رفعت بعزلك
(1)
" إذا عرفنا هذا أدركنا لماذا امتنع الفقيه يحيى عن القضاء.
ولابد من الإشارة هنا إلى أنه ما ينطبق على الفقيه يحيى الليثي لا يمكن تعميمه على كل من رفض القضاء في الأندلس، إذ أن المصادر لم تتطرق لذكر الأسباب الحقيقية وراء الرفض كما أن هناك من رفض القضاء وقبل بتولي خطة أخرى مثل خطة الشورى وخطة الصلاة والخطبة والتعليم في المسجد
(2)
.
وبمقابل الامتناع عن تولي القضاء، هناك من عمل بالقضاء ثم طلب الإعفاء منه، ولدينا أمثلة عدة، فمن هؤلاء: محمد بن إبراهيم بن مزين الأودي، من أهل أكشونبه غربي الأندلس، ولاه الأمير عبد الرحمن الداخل قضاء الجماعة بقرطبة، وذلك في شهر المحرم سنة (170) هـ (يوليو (786) م) فاستمر في منصبه عدة أشهر ثم طلب الاستعفاء فأعفي ورحل للحج وقابل الإمام مالكا ثم عاد إلى الأندلس ومات سنة (183) هـ (799 م)
(3)
.
العزل عن القضاء:
من الملاحظ أن بالرغم من المكانة السامية لخطة القضاء إلا أنه كان عرضه للعزل، ورغم أن ذلك كان أمراً مألوفاً في المجتمع الأندلسي حتى
(1)
- البيان المغرب، 2/ 80.
(2)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 309. ربما أنهم وجدوا أن هذه الخطط أخف وطأة من مسئولية القضاء.
(3)
- نفح الطيب، 2/ 514.
نهاية القرن الخامس الهجري
(1)
(الحادي عشر الميلادي)، إلا أن الأمر غير مرتبط برضى أو سخط حاكم الدولة الأموية، والمصادر الأندلسية تعج بالأمثلة المؤيدة لذلك، فكم من موقف خالف فيه القاضي رغبة الأمير أو الخليفة الأموي ولم يعزله عن منصبه
(2)
.
ومادام الأمر على هذه الصورة، فلابد أن تكون هناك أسباب للعزل، إذ أن العزل بدون سبب مقنع هو نوع من التعسف في استعمال السلطة، وإخلال بالعدالة، فالقاضي متى ما شعر أنه عرضة لهوى الحاكم أصبح غير مطمئن، وبالتالي تأتي أحكامه بعيدة عن العدالة المنشودة
(3)
.
وهناك هيئة من الفقهاء تتولى متابعة القاضي ومؤاخذته إذا دعت الضرورة لذلك، وفي الوقت نفسه تركت للقاضي حق الدفاع عن نفسه، والأمثلة على ذلك متوفرة، فقد ورد لدى الخشني أن الفقيه يحيى بن يحيى الليثي ذكر أن حمدون بن فطيس تظلم من قاضي الجماعة محمد بن بشير في شيء حكم به عليه، ورفع الشكوى للأمير الحكم الربضي، الذي أصدر أوامره بتكوين مجلس من الفقهاء للنظر في حكم القاضي الذي سبب هذا التظلم
(4)
.
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 312.
(2)
- انظر: قضاة قرطبة، ص 25 - 26، 29. النباهي، ص 69 - 72.
(3)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 312.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 36.
وعندما تورط قاضي الجماعة عمرو بن عبد الله بالثلث الذي أوصى ابن القصيبي بتفرقته، وذلك بسبب تواطئ ولد القاضي مع أولاد العدل الذي عنده المال، فأراد الأمير محمد بن عبد الرحمن التثبت من براءة القاضي، فبعث إليه أحد فتيانه، وحلفه في بيته سراً وذلك بمشورة الفقيه بقي بن مخلد
(1)
.
وإذا حاولنا التعرف على الأسباب التي كانت وراء عزل القضاة في الأندلس، نجد أنها متعددة، منها: انتهاء مدة ولاية القاضي، فهو إذا حددت مدته بسنة واحدة مثلاً، فإنه يعتبر معزولاً بانتهائها، ومثال ذلك ما عرفناه في عهد الأمير عبد الرحمن الداخل، فقد كان يداول بين معاوية بن صالح وعمر ابن شراحيل المعافري على قضاء الجماعة، فكان كل واحد منهما يتولى القضاء سنة واحدة ثم يلي صاحبه، وإذا تجاوز أحدهما السنة فإن الآخر ينبه الأمير على ذلك ليعزله
(2)
.
كذلك ما يمكن اعتباره عداوة بين الفقهاء والقاضي، تكون سبباً في عزله، وهذا ما جرى لقاضي الجماعة يحيى بن معمر الألهاني
(3)
وبسبب اتباع قاضي الجماعة محمد بن سعيد لهواه، وحكمه برضى الناس، اضطر الفقيه يحيى الليثي إلى طلب الاستعفاء، بعد أن قال له "
…
فأما إذا صرت
(1)
- المصدر السابق، ص 83 - 85. ابن القوطية، ص 72.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 22.
(3)
- المصدر السابق، ص 46 - 48.
تتبع الهوى وتقضي برضى مخلوق ضعيف فلا خير فيما تجيء به ولا في إن رضيته منك
(1)
".
ومن دواعي عزل القاضي اشتراكه مع الحاكم بالنسب، وقد ظهرت هذه الصورة جلية في حادثة عزل قاضي الجماعة إبراهيم بن عباس القرشي، فقد حدثت شحناء بين هذا القاضي وبين الحاجب موسى بن حدير في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، فأضمر الحاجب في نفسه الانتقام من القاضي، فدس عليه امرأة خاطبت القاضي بمجلس قضائه قائلة له: "يا ابن الخلائف
(2)
" فلم ينكر عليها القاضي ذلك فرفعت الكلمة للأمير، وصور الأمر له بأن هناك مؤامرة ضده يدبرها القاضي مع الفقيه يحيى الليثي، إلا أن الفقيه عبد الملك بن حبيب أقنع الأمير بأن ذلك غير صحيح، ثم أشار عليه بعزل القاضي حيث قال له: "
…
وأما القاضي فلا ينبغي للأمير أن يشركه في عدله من يشركه في نسبه
(3)
" فكان ذلك سبباً لعزل القاضي سنة (220) هـ (835 م).
وكذلك قد تكون الأخلاق الصعبة سبباً في العزل عن القضاء، فالقاضي يخامر بن عثمان الشعباني كان يعامل الناس "بخلق صعب، ومذهب وعر، وصلابة جاوزت المقدار
(4)
" فلم يحتمل الناس من ذلك،
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 63.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 53. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 61.
(3)
- قضاة قرطبة،: 52 - 53.
(4)
- المصدر السابق، ص 54.
وتسلطت عليه الألسن، ورفع أمره للأمير عبد الرحمن، فكلف الوزراء بتولي السؤال عن القاضي وكشف أمره، وبعد أن ظهرت الحقيقة أمر الأمير بعزله
(1)
.
ولقد كانت كثرة القضايا التي ينظرها القاضي في فترة وجيزة مدعاة لعزله، وهذا ما حدث للقاضي معاذ بن عثمان الشعباني، فقد مكث في منصبه مدة سبعة عشر شهراً، أحصى عليه خلالها تنفيذ سبعين قضية، فاستكثرت منه
(2)
وخيف عليه الزلل، فرفع الفقهاء أمره للأمير عبد الرحمن الأوسط فأمر بعزله
(3)
.
وللخشني موقف من مسألة القاضي معاذ بن عثمان، فهو يرى أن القول بأن كثرة القضايا التي نظر بها، والأحكام التي أصدرها في فترة حكمه أنها هي السبب بعزله أمر غير مقبول، ويرى "أنها حكاية مدخولة لأنه لا تذكر تنفيذ الأقضية وكثرتها مع حضور الحق وانكشاف الصدق
(4)
" فإذا صح رأيه فإنها لا تعدو أن تكون من تحامل بعض الفقهاء من مشاورين وعدول وأهل فتيا، إذ أن من مصلحتهم التريث في الأحكام لأنه كلما طالت الخصومات كان ذلك أنفع لهم مادياً
(5)
.
(1)
- نفسه، ص 54 - 55. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 63 - 67.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 55.
(3)
- النباهي، ص 55.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 56.
(5)
- المصدر السابق، ص 56.
وإذا جيء القاضي بمن عرَّض بسب الله تعالى ولم يأمر بقتله، كان مدعاة لعزله، وهذا ما حصل لقاضي الجماعة الحبيب محمد بن زياد، فقد جيء إليه بابن أخي عجب
(1)
، وقد شُهِدَ عليه بأنه عَرَّض بسب الله تعالى، وذلك أنه خرج يوماً فأخذه المطر، فقال: "بدأ الخرَّاز يرش جلوده
(2)
" تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فأفتى القاضي حينئذ بتأديبه فقط، وبه أفتى بعض الفقهاء، في حين أفتى عبد الملك بن حبيب وأصبغ بن خليل بوجوب قتله، وعندما رفعت الآراء للأمير عبد الرحمن الأوسط، أمر بعزل القاضي وتأنيبه ومن تابعه من الفقهاء وعزلهم عن مناصبهم كما أمر بقتل ابن أخي عجب
(3)
.
وإذا أحدث أحد أولاد القاضي حدثاً يمس أمن الدولة، فإن ذلك يكون سبباً في عزله، فقاضي الجماعة أحمد بن زياد أحدث أحد أولاده بشذونه حدثاً أقلق الأمير محمد بن عبد الرحمن فأمر بعزل القاضي عن منصبه
(4)
، وبوشاية الحاقدين أصدر الأمير محمد بن عبد الرحمن أوامره بعزل قاضي الجماعة سليمان بن أسود سنة (260) هـ (874 م) وهي نهاية ولايته الأولى
(5)
.
(1)
- عجب هي محظية الأمير الحكم الربضي.
(2)
- المعيار المعرب، 2/ 362.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 59 - 60.
(4)
- المصدر السابق، ص 66 - 67.
(5)
- نفسه، ص 81 - 82.
ويحدث أن يكون فساد الولد مدعاة لعزل أبيه، وهذا ما ينطبق على قاضي الجماعة عمرو بن عبد الله ففي ولايته الثانية سنة (262) هـ (876 م) تغيرت حالته، وأصبحت الهدايا تدخل بيته وذلك بسبب ولده المكنى بأبي عمرو، والذي نسب إليه التدليس في الديوان في مال قد أوصى به تاجر يدعى ابن القصيبي، فكثر الحديث وتناولته الألسن، وهجاه بعض الشعراء، فلما وصلت هذه الأخبار إلى الأمير قال: قد أكثر الناس في عمرو وفي ولده، فعزله حينئذ وذلك سنة (263) هـ (877 م)
(1)
.
والقاضي يعتبر معزولاً إذا خرج للغزو ثم عاد ولم يُصدر الأمير أو الخليفة ظهيراً يجدد به ولايته، إذ أنه لا يستطيع العودة إلى مجلس قضائه حتى يُعهد إليه بذلك، فقد "كان الرسم حينئذ إذا غزا القاضي ثم قدم لم ينظر حتى يعهد إليه بالنظر"
(2)
.
وبسبب الهرم وكبر السن أصدر الأمير المنذر بن محمد أوامره سنة (273) هـ (886 م) بعزل قاضي الجماعة سليمان بن أسود
(3)
.
وعزل قاضي الجماعة النضر بن سلمة لأنه رفض أن يحكم بصرف المال الموقف بالجامع إلى بيت المال إلا باجتماع آراء الفقهاء، فرفع موقفه
(1)
- نفسه، ص 82 - 83.
(2)
- نفسه، ص 83.
(3)
- نفسه، ص 88 - 89.
ذلك إلى الأمير عبد الله بن محمد بعد أن حُرّف معناه، وصُرف القول إلى أسوأ الوجوه فعزله الأمير حينئذ
(1)
.
كذلك يتم عزل القاضي مباشرة عن منصبه إذا علم فساد حاله، فبعد أن عزل الأمير عبد الله ابن محمد قاضي الجماعة النضر بن سلمة الكلابي عين بدلاً منه موسى بن محمد بن زياد الجذامي، إلا أنه لم يمكث في منصبه سوى أسبوعاً واحداً فقط، ثم عزله الأمير بعد أن وصلت إليه أخبار تفيد بأن ظاهره غير باطنه، كما لم يثن عليه زملاؤه من الفقهاء
(2)
.
ويعزل قاضي الجماعة عن منصبه في حالة استبداله بمن هو أفضل منه، فعندما تولى الأمير عبد الرحمن بن محمد الإمارة أقر قاضيه الحبيب أحمد بن زياد على منصبه فترة وجيزة ثم عزله وجعل مكانه أسلم بن عبد العزيز بعد عودته من رحلته إلى المشرق وما سمعه عنه من اتصافه بالمذهب الحسن والمروءة الكاملة وذلك سنة (300) هـ (913 م)
(3)
.
وقد يعزل القاضي عن منصبه نتيجة موقف سياسي، وهذا لم يحدث طيلة عصر الدولة الأموية إلا عندما تسلط العامريون على الخلافة الأموية، فقد أمر الحاجب المنصور بن أبي عامر بعزل القاضي أصبغ بن الفرج
(1)
- نفسه، ص 93.
(2)
- نفسه ص 94. المغرب في حلى المغرب، 1/ 154.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 105 - 106.
الطائي قاضي بطليوس، المتوفى سنة (397) هـ (1007 م) عن منصبه لأنه عارضه في القول بالتجميع في مسجد الزاهرة
(1)
.
وبسبب وشاية الوزير عيسى بن سعيد أصدر الحاجب عبد الملك المظفر أوامره بعزل قاضي الجماعة ابن ذكوان عن منصبه وذلك يوم الخميس لثلاث خلون من ذي الحجة سنة (394) هـ (21 سبتمبر (1004) م)
(2)
.
وفي الولاية الثانية لابن ذكوان صدرت أوامر الخليفة هشام المؤيد بطرد بني ذكوان من الأندلس قاطبة وذلك سنة (401) هـ (1011 م) كل هذا بسبب تآمر الحاجب واضح الصقلبي ضد القاضي الذي سبق وأن أشار على الخليفة بضرورة مسالمة البربر وعدم الاستماع لآراء حاجبه واضح
(3)
.
وبسبب الموقف الذي اتخذه قاضي الجماعة ابن وافد من البربر وخليفتهم سليمان المستعين، فإنه تعرض بمجرد دخول المستعين لقرطبة في يوم الاثنين لثلاث بقين من شوال سنة (403) هـ (مايو (1013) م) للعزل والتنكيل والإهانة وكاد أن يصلب لولا شفاعات الكثير من الفقهاء والصالحين، حتى أن والد الخليفة المستعين قد شفع به، فاكتفى المستعين
(1)
- ترتيب المدارك، 7/ 159 - 161.
(2)
- المصدر السابق، 7/ 169 - 170. الصلة، ترجمة رقم 65.
(3)
- ترتيب المدارك، 7/ 173 - 174. النباهي، ص 86 - 87.
بسجنه في المطبق وظل كذلك إلى أن مات في منتصف ذي الحجة سنة (404) هـ (يونيو (1014) م)
(1)
.
ونختتم أسباب العزل بقاضي الجماعة عبد الرحمن بن أحمد بن سعيد بن أحمد بن بشر بن غرسيه المشهور بابن الحصّار، تولى القضاء سنة (407) هـ (1016 م) في عهد علي بن حمود، وتمادى في منصبه إلى أن عزله الخليفة هشام المعتد بالله سنة (419) هـ بسبب وشايات بعض الفقهاء وسعيهم ضده
(2)
.
والقاضي إذا عُزل عن منصبه فإن كتاباً يصدر بذلك وتصله نسخة منه
(3)
وعلى القاضي المعزول أن يقوم بتسليم ما لديه من سجلات وهو ما كان يعرف بالديوان، ويتولى مهمة الاستلام أربعة من عدول قرطبة يختارهم صاحب المدينة ويكلفهم باستلام الديوان من القاضي المعزول ووضعه في بيت الوزراء إلى حين يتم اختيار قاضٍ آخر ليستكمل فيه القضايا
(4)
.
لكن هذا الرسم كان يُخرق أحياناً، من ذلك أن قاضي الجماعة أحمد بن زياد عندما عزل عن منصبه وتم تعيين كاتبه عمرو بن عبد الله بدلاً منه، أصر الأخير على ألا يستلم الديوان إلا من يد القاضي ابن زياد
(1)
- النباهي، ص 88 - 89. البيان المغرب، 3/ 113. ترتيب المدارك، 7/ 178 - 181.
(2)
- الصلة، ترجمة رقم 698.
(3)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 686.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 82.
شخصياً، فلم يكن أمام ابن زياد إلا أن حمل الديوان بنفسه وذهب به إلى المسجد الجامع حيث سلمه لعمرو بن عبد الله وقال له:"يا عمرو قد فتحت على القضاء باباً لا يخطئك شره"
(1)
.
بقي أن نشير أخيراً إلى المذهب الذي سار عليه القضاة في إصدار أحكامهم فالمذهب المالكي هو المذهب الرسمي للدولة، وعلى وفقه تصدر أحكام القضاة
(2)
، ولا يسمح للقاضي أن يتجاوز المذهب المالكي إلى ما عداه، حتى ولو كان القاضي غير مالكي، فقد كان قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي ظاهري المذهب، لكنه كان إذا جلس للقضاء سار على مذهب الإمام مالك وأصحابه رحمهم الله تعالى
(3)
.
وأخيراً أود أن أختم الحديث عن القضاء بذكر ما يمكن تسميته بأوليات في القضاء بالأندلس، فأول قاض من الموالي تم تعيينه في منصب "قاضي الجماعة" هو عمرو بن عبد الله بن ليث القبعة، ويذكر الخشني أن العرب قد شق عليهم ذلك، وأخذوا يتحدثون في مجالسهم بما ينبئ عن عدم رضاهم، فلما بلغ الأمير محمد بن عبد الرحمن ذلك، قال: "وجدت فيه مالم أجد فيهم
(4)
".
(1)
- المصدر السابق، ص 68.
(2)
- عن المذهب المالكي ودخوله الأندلس وموقف الدولة الأموية منه، انظر: سالم الخلف، المرجع السابق، ص 276 - 308.
(3)
- النباهي، ص 74 - 75.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 67.
وفي عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر عين مولداً يدعى عبد الله بن الحسن المعروف بابن السندي قاضياً على وشقة وما جاورها، وقد أفاد ابن السندي من ولايته أموالاً عظيمة ونعماً جسيمة، كما أنه كان شديد التعصب للمولدين، عظيم الكراهية للعرب، منتقصاً لهم، حافظاً لمثالبهم، ولأجل ذلك فقد استوزره عبد الملك بن محمد الطويل ومن بعده أخوه فرتون طيلة حياته، حتى أنهما كان لا يصدران إلا عن رأيه
(1)
.
وذكر ابن عبد البر أن قاضي الجماعة موسى بن محمد بن زياد الجذامي الذي ولي القضاء بعد النضر بن سلمة الكلابي في عهد الأمير عبد الله بن محمد، هو أول من أفسد في خطة القضاء، إذ أن ظاهره كان خلاف باطنه، وكان صديقه أسلم بن عبد العزيز يصفه بأشياء قبيحة
(2)
كما أن محمد بن عمر بن لبابه لايحسن الثناء عليه، ولذا فقد عُزل الجذامي عن منصبه بعد أسبوع من ولايته
(3)
.
وركوب القاضي إلى السلاطين والدخول معهم في أمورهم يعتبر إهانة لخطة القضاء، وبسبب هذا الصنيع اعتبر ابن عبد البر أن أبا القاسم أحمد بن محمد بن زياد اللخمي، الذي تولى قضاء الجماعة في عهد الأمير
(1)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 302. ابن الفرضي، ترجمة رقم 687.
(2)
- المغرب في حلى المغرب، 1/ 154.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 94.
عبد الله بن محمد وبعض السني الأولى من عهد الأمير عبد الرحمن بن محمد، أنه قد أهان خطة القضاء بكثرة دخوله على السلاطين وتبذله في ذلك
(1)
.
ويعتبر أبو العباس أحمد بن عبد الله بن ذكوان قاضي الجماعة أول من تولى الوزارة والقضاء معاً، وذلك في عهد الحاجب عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر سنة (399) هـ (1009 م) وكان يكتب عنه "من الوزير قاضي القضاة" وهو أول من كتب عنه بذلك من قضاة الأندلس
(2)
.
(1)
- المغرب في حلى المغرب،: 1/ 155.
(2)
- ترتيب المدارك، 7/ 170 - 171. المغرب في حلى المغرب، 1/ 251. النباهي، ص 88.
خطة الصلاة والخطبة
عندما عدد ابن خلدون الخطط الدينية، جعل خطة الصلاة في أولها، ثم قال:"فهي أرفع هذه الخطط كلها، وأرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة"
(1)
.
وللدلالة على أهميتها نجد أن إمامتها كانت من الأدلة الأكيدة على استخلاف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه
(2)
.
لأجل هذا، كان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم لا يقلدونها غيرهم، وسار الأمويون في الشام على نهجهم استئثاراً بها واستعظاماً لرتبتها، إلا أن الأمر لم يستمر على هذا المنوال، إذ أن الملك قد عظمت مظاهره، وبالذات لدى العباسيين الذين غلظ لديهم الحجاب، لذا نراهم يقيمون نواباً عنهم للإمامة في الصلاة، إلا أنهم تحملوا مهام الإمامة في بعض الأحيان، مثل صلاة العيدين والجمعة للإشادة بهم والتنويه بذكرهم
(3)
.
وامتداداً لاهتمام الخلفاء الأمويين في الشام بالإمامة في الصلاة، نجد أن حفيدهم الأمير عبد الرحمن الداخل كان واعياً لمعنى الإمامة في الصلاة، ولذا نراه منذ بداية الأمر يؤكد على أحقيته في هذا الجانب، فقبل أن يعبر
(1)
- مقدمة ابن خلدون، ص 625.
(2)
- المصدر السابق، ص 625.
(3)
- نفسه، ص 626.
مع وفد الموالي الأندلسيين الذي أتى لاصطحابه من الشاطئ المغربي إلى الشاطئ الأندلسي، نجده عندما حان وقت صلاة العصر، يتقدم ويصلي بهم
(1)
.
ثم إن الأمير عبد الرحمن الداخل ما أن استولى على قرطبة في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة سنة (138) هـ (16 مايو (756) م) حتى خرج إلى الجامع وصلى بالناس صلاة الجمعة
(2)
.
ولكن نظراً لاشتغاله بتثبيت قواعد ملك أسرته، فقد كان كثير الغياب عن قرطبة، ولذا فقد كان لزاماً عليه إقامة إمام يتولى الصلاة بالناس في المسجد الجامع بقرطبة، وممن كان يتولى هذه المهمة صعصعة بن سلام، المتوفى سنة (192) هـ (808 م) وذلك معظم أيام الأمير عبد الرحمن الداخل وصدراً من أيام ابنه الأمير هشام الرضا
(3)
.
ولقد كان الأمير هشام الرضا بن عبد الرحمن الداخل يتولى مسئولية إمامة الناس بالصلاة والخطبة بهم أثناء مقامه بقرطبة، فإذا غاب عن عاصمته، تولى المهمة نيابة عنه قاضي الجماعة المصعب بن عمران الهمداني
(4)
.
(1)
- ذكر بلاد الأندلس، 1/ 112.
(2)
- ابن القوطية، 28 - 29. أخبار مجموعة، ص 90. البيان المغرب، 2/ 47.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 610.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 25.
ويبدو أن من أتى بعد الأمير هشام الرضا من الأمراء والخلفاء قد تنازلوا عن الإمامة في الصلاة فضلاً عن الخطبة إذ لا نسمع لهم ذكراً في المصادر فيما يتعلق بهذه المسألة.
والمساجد تأتي على صنفين، فالمساجد الكبيرة المعدة للصلوات العامة، والتي يغشاها خلق كثير، يكون أمرها راجع إلى الأمير أو الخليفة، أو من يفوض إليه الأمر من سلطان أو زير أو قاضٍ، فعن طريق أحد هؤلاء يتم تعيين إمام لها لأداء الصلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين و الاستقساء، وأما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع إلى الجيران يقدمون من يتفقون عليه، دونما حاجة من نظر أمير أو خليفة أو من يفوضه
(1)
.
هذا، وقد جُعل أمر الصلاة في المسجد الجامع بقرطبة أو الزهراء لقاضي الجماعة، فقد كان معاوية بن صالح يلي القضاء والصلاة في عهد الأمير عبد الرحمن الداخل، وكذلك كان المصعب بن عمران يلي القضاء والصلاة في عهد الأمير هشام الرضا وبعد أن تولى الإمارة ابنه الحكم الربضي أقره عليها
(2)
، وبعد وفاته تولاهما محمد بن بشير المعافري
(3)
.
(1)
- مقدمة ابن خلدون، ص 626.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 25.
(3)
- المصدر السابق، ص 29.
وعندما نستعرض تراجم قضاة الجماعة نجد أن معظمهم قد تولى بالإضافة إلى القضاء مهام الصلاة والخطبة
(1)
.
ويحدث في بعض الأحيان أن تسند مهمة القيام بشئون الصلاة والخطبة لأحد الفقهاء، دون أن يكون للقاضي علاقة بالأمر، فقد كان أحمد بن بقي بن مخلد يتولى الصلاة، ثم ولاه الأمير عبد الرحمن بن محمد قضاء الجماعة سنة (314) هـ (926)
(2)
وفي الوقت الذي كان فيه محمد بن عبد الله بن أبي عيسى يتولى قضاء الجماعة سنة (326) هـ (938) كان الفقيه محمد بن أيمن هو صاحب الصلاة، فلما ضعف ابن أيمن استعفى، فأعفاه الخليفة عبد الرحمن الناصر وأسند الخطبة والصلاة لابن أبي عيسى
(3)
.
ورسوم الدولة الأموية في الأندلس، كانت تقتضي ألا يقدم للإمامة في الصلاة إلا العرب
(4)
ونظراً لتأصل العصبية في المجتمع الأندلسي، فقد كان السبب في اندلاع الفتنة بين المولدين والعرب في استجه زمن الأمير عبد الرحمن الأوسط يعود إلى رفض المولدين الصلاة خلف إمام عربي،
(1)
- النباهي، ص 54، 60، 64، 86، 87، 88.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 111 - 116. النباهي، ص 64.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 118 - 120. النباهي، ص 60.
(4)
- أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين، (تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار المعارف المصرية، ط الثانية 1984 م) ص 254.
ولقد أطفئت تلك الفتنة بعد أن تراضى الطرفان على أن يتولى الفقيه عبد الرحمن بن موسى الهواري إمامة الصلاة
(1)
.
وعندما أسند الأمير محمد بن عبد الرحمن القضاء والصلاة لعمرو بن عبد الله بن ليث القبعة، عارض العرب توليه الصلاة لأنه من الموالي، وقالوا: "أما القضاء فإنا لا نعترض عليه لأنه من سلطانه -أي من سلطان الأمير- وأما الصلاة فإنا لا نصلي وراءه، فولى الأمير - رحمة الله عليه - الصلاة النميري عبد الله بن الفرج
(2)
".
والملاحظ على هاتين الحادثتين، أنهما بقدر ما تدلان على تغلغل العصبية في الوسط الأندلسي، بقدر ما تؤكدان على أن الإمامة في الصلاة هي زعامة ذات مستوى غير عادي، فهي تعبير حقيقي عن القيادة في أسمى الأعمال والأماكن.
وهناك قصة تكفي للدلالة على إحساس أفراد المجتمع الأندلسي عامة والفقهاء بصفة خاصة، بما للإمامة في الصلاة من مكانة يشعر متوليها بالسؤدد والرفعة، ولذا ترى الحرص من بعض الفقهاء على توليها بأية وسيلة.
والقصة التي نحن بصددها رواها محمد بن أيمن، فقد ذكر أن قاضي الجماعة وصاحب الصلاة سليمان بن أسود كان يدرك مدى حرص
(1)
- المصدر السابق، ص 254.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 67.
الفقيه إبراهيم بن قلزم على تولي الصلاة، فأراد أن يتلاعب به، ويكشف ما في نفسه للآخرين، وقد حانت الفرصة للقاضي لتنفيذ مراده عندما أراد الحضور إلى بيته إبراهيم بن قلزم وذلك في أحد أيام الجمعة وقت الضحى، فلما علم القاضي بمقدمه أمر غلامه أن يخرج إلى ابن قلزم وهو يبكي ويخبره أن القاضي يحتضر، واضطجع القاضي وسجى على نفسه، وأخذ يتنفس بطريقة توحي لمن عنده بأنه في سياق الموت، فدخل عليه ابن قلزم، فلما رآه استرجع واستعبر، ثم خرج مسرعاً إلى الوزير هاشم بن عبد العزيز لأنه تربطه به علاقة خاصة، فذكر له أن القاضي يحشرج، وأنه لا يحين وقت صلاة الجمعة إلا وقد مات، ونظراً لكون ابن قلزم مترشحاً للصلاة، فقد طلب من الوزير أن يرسل كتاباً بسرعة للأمير محمد بن عبد الرحمن يخبره فيها عن حالة القاضي، فلما وصل كتاب الوزير للأمير لم يستعجل في إصدار أوامره، بل إنه فكر في الأمر فعلم أن ابن قلزم شديد التطلع للإمامة بالإضافة إلى أن عيون الأمير لم تأتيه بأخبار مرض قاضيه، ولذا فقد أدرك أن في الأمر سراً، فأرسل أحد فتيانه، لينظر حالة القاضي، ويأتيه بالخبر اليقين فلما وصل الفتى إلى القاضي وجده جالساً جلوساً صحيحاً، وبعد أن ذكر له الفتى الغرض من مجيئه إليه، قام القاضي وتوضأ ولبس ثيابه وخرج مع الفتى راجلاً إلى الجامع، فلما رجع الفتى إلى الأمير
أخبره بما جرى، فتعجب الأمير من فعل القاضي وضحك على ذلك ضحكاً عظيماً
(1)
.
ولقد كان قاضي الجماعة وصاحب الصلاة سليمان بن أسود شديد الحرص على أن تقام الصلاة في وقتها، ولذا فقد كان يقول لمؤذني جامع قرطبة "إذا حضر وقت الصلاة فلا تؤخروها عن وقتها وإن أحسستم أني نزلت عند باب الصومعة فلا تنتظروني وأقيموا الصلاة وصلوا
(2)
".
وخطبة الجمعة التي يلقيها صاحب الصلاة هي فرصة للتحدث عن بعض الأمور الهامة وذلك بصورة لا لبس فيها ولا غموض حتى وإن كان في الأمر تقريع للأمير أو الخليفة، من ذلك، أن الخليفة عبد الرحمن الناصر اشتغل ببناء مدينة الزهراء، فأخذت جل وقته، حتى أنه لم يشهد الصلاة ثلاث جمع متتالية، وعندما حضر الجمعة الرابعة أراد قاضي الجماعة وصاحب الصلاة منذر بن سعيد البلوطي تذكير الخليفة وموعظته، فاختار كلمات مناسبة لهذا الموقف وأجاد في الموعظة، فرقت قلوب الحاضرين وضجوا بالبكاء، ورغم أن الخليفة كان على علم تام بأنه هو المقصود، فقد كان أكثرهم بكاءً وتأثراً، لكنه حمل في نفسه على القاضي وأقسم ألا يصلي خلفه، فكان يذهب ويصلي في جامع قرطبة خلف صاحب الصلاة فيها أحمد بن مطرف، وعندما زيَّن له ابنه وولي عهده الحكم المستنصر
(1)
- قضاة قرطبة، ص 87 - 88. النباهي، ص 58 - 59.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 81.
عزل منذر بن سعيد عن الصلاة في الزهراء زجره وانتهره وقال له "أمثل منذر بن سعيد في فضله وعلمه وخيره؟ لا أم لك! يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الحق! هذا مما لا يكون، وإني لأستحي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكنه أحرجني فأقسمت، و لوددت أني أجد سبيلاً إلى كفارة يميني، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله
(1)
".
ولم يقتصر الأمر بالنسبة للخليفة عبد الرحمن الناصر أن يُقَرَّع فقط من قبل قاضي الجماعة منذر ابن سعيد، بل لقد كان على موعد لموقف آخر مع صاحب الصلاة بجامع قرطبة الفقيه أحمد بن مطرف الأزدي الشهير بابن المشاط، المتوفى سنة (352) هـ (963 م) فقد عُرف هذا الفقيه بأنه كان يطيل خطبة الجمعة نوعاً ما، وهذا ما كان على خلاف رغبة الخليفة عبد الرحمن الناصر، ولذا فقد أرسل في أحد أيام الجمعة وزيره عثمان بن إدريس إلى ابن المشاط لإقناعه بضرورة قصر الخطبة، فوعد الفقيه الوزير أنه سيفعل إن تمكن، لكن الذي حصل خلاف ذلك، إذ أن ابن المشاط ألقى خطبة تعمد فيها الإطالة، وركز فيها على الوعظ حتى بكى وأبكى الناس وتحول المسجد إلى شبه مأتم، فما كان من الخليفة بعد
(1)
- النباهي، ص 70.
الصلاة إلا أن دعا ابن المشاط وأثنى عليه وجزاه خيراً، وأعطاه ألف دينار يتصدق بها عنه
(1)
.
هذه القصص ومثيلاتها هي صورة رائعة عن حاكم مسلم، لا يحتاج إلا إلى التذكير بالحسنى بكلام منتقى لا يراد به إلا وجه الله تعالى فالخليفة رغم سلطانه وقدرته إلا أنه لم يمس أحداً من أولئك الفقهاء بسوء، بل الملاحظ أنهم كلما قسوا عليه بالموعظة ازداد لهم إكراماً.
وبالمقابل فإن ذلك العصر ضم نخبة من الفقهاء هم زينة الحياة لما يتوسم فيهم من الصلاح والتقى ولعدم خشيتهم في الله لائم، لا يريدون من نصائحهم للخليفة إلا وجه الله تعالى وابتغاء رضوانه، ولذا كان التأييد لهم من الله تعالى مضموناً.
والمرء أمام هذه الشخصيات سواء الخليفة أو الفقهاء لا يملك إلا أن ينظر إليها بعين الإكبار والتقدير، وباختصار فهي جديرة بالقيادة مؤهلة للنجاح في كل معترك، ومثلها من يبني وينهض بالأمة.
ويحدث أن يستمع الأمير لخطبة فيستحسنها، فيأمر صاحب الصلاة بالتزامها وعدم استبدالها، فالأمير عبد الله بن محمد استمع في بداية دولته لخطبة ألقاها قاضي الجماعة وصاحب الصلاة النضر بن سلمة فأعجب بها، فأمره بتكرارها في كل جمعة، فالتزم بها طيلة ولايته الأولى البالغة نحواً
(1)
- ترتيب المدارك، 6/ 137 - 138.
من عشر سنوات حتى حفظت عنه، بل إن كل قاضٍ أتى بعده كان يعيد نفس الخطبة في مبتدأ ولايته
(1)
.
وفي أوائل القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) حدث ما يمكن أن نطلق عليه رسم جديد في الخطبة، وذلك تمشياً على طريقة قاضي الجماعة وصاحب الصلاة أحمد بن بقي بن مخلد في خطبة الجمعة، فقد استبحر في الدعاء في إحدى خطبة، فلما وصل إلى قوله "واخلصوا لله دعائكم" سكت ملياً إلى أن قدَّر أن الناس دعوا بدعائه، ثم وصل خطبته ودعاءه لهم، وأصبحت هذه الطريقة سنة لمن جاء بعده من الخطباء، وعُمل بها إلى منتصف القرن السادس الهجري وفي هذا يقول القاضي عياض: "وامتثل كثير من الخطباء طريقته في هذه السكتة في آخر الخطبة الثانية أثناء الدعاء إلى يومنا هذا في بلاد الأندلس
(2)
".
وبمناسبة الحديث عن خطبة الجمعة تجدر الإشارة إلى أنها كانت موضع اختبار من الفقهاء لصاحب الخطبة والصلاة، وبالذات صلاة العيد، من ذلك أن قاضي الجماعة يحيى بن معمر الألهاني في ولايته الأولى 209 - (210) هـ (824 - (825) م) عندما جاء إلى مصلى العيد فوجئ بأن كبار الفقهاء وكبار رجالات الدولة قد جلسوا بالقرب من سترة الإمام، ففطن أن السبب في تجمعهم هو حرصهم على اختبار خطبته، فبادر القاضي ابن
(1)
- قضاة قرطبة، ص 92.
(2)
- ترتيب المدراك، 5/ 209.
معمر فأمر قوام المصلى بأن يقدموا السترة محتجاً بازدحام الناس، فلما قدمت السترة تثاقل الفقهاء ورجال الدولة عن القيام من أماكنهم في حين سارع سواد الناس فابتدروها وصار من كان بالأول متقدماً قد تأخر
(1)
.
والصلاة على الجنائز من اختصاصات صاحب الصلاة، فعليه تقع مهمة القيام بها، وهو في الوقت نفسه لا يأذن لأحد بالتقدم عليه في هذا المجال، بل إن الأمر يصل إلى حد تأديب من يتجاهل أحقيته بها، وهذا ما فعله قاضي الجماعة وصاحب الصلاة ابن السليم، فقد حضر مرة جنازة رجل، فلما وضع النعش تقدم ابن الميت فصلى عن غير إذن، وبعد أن انتهت مراسم الدفن وتفرق الناس، أمر ابن السليم بحمل ابن الميت إلى الحبس، فلما سأله عن ذنبه، أجابه "جهلك إذ تقدمت بمحضري ولم تستأذني، ولا رعيت حق الخليفة، إذ الصلاة له وأنا خليفته، فليس لأحد أن يتقدم إلا بإذننا، فلم تفعل فلابد من تأديبك لأشرد بك مثلك من خلفك
(2)
" إلا أن ابن الميت لم يمكث في الحبس إلا الوقت الذي استغرقه القاضي في الوصول إلى داره، فقد أمر بإطلاق سراح الرجل واعتبر ذلك كافياً لتأديبه
(3)
.
وإذا انحبس المطر وعم الجدب، خرجت الكتب من الأمير أو الخليفة إلى جميع العمال بالكور بالأمر بالاستسقاء، والكتب تكون على نسخة
(1)
- قضاة قرطبة، ص 48. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 55.
(2)
- ترتيب المدارك، 6/ 283 - 284.
(3)
- المصدر السابق، 6/ 284.
واحدة، وقد حفظ لنا ابن حيان نصاً احتوى على نسخة من كتاب الخليفة عبد الرحمن الناصر الذي بعثه إلى جميع عماله للاستسقاء وذلك في أواخر سنة (317) هـ (930 م) ذكَّرهم فيه بأن الله تعالى بيده مقاليد الأمور، وأنه يحتبس ما شاء عن عباده ليسألوه ويتضرعوا إليه، ويلحوا في المسألة ويصدقوا في التوبة، ثم ذكر الخليفة أن على صاحب الصلاة في كل جامع الدعاء بنزول الغيث في خطبة الجمعة والجمعة التي تليها إن لم ينزل المطر، ثم يخرج بجماعة المسلمين إلى مصلاهم لأداء صلاة الاستسقاء وذلك يوم الاثنين، وشدد على كل عامل من عماله أن يؤكد على الخطيب قبله بتنفيذ هذه الأوامر
(1)
.
والأمير أو الخليفة إذا لم يخرج للمصلى مع الناس لأداء صلاة الاستسقاء، فإنه يصعد إلى مكان مرتفع في قصره، ويجلس فيه منفرداً بنفسه، لابساً أخشن ثيابه مفترشاً التراب، يبكي ويعترف بذنوبه، مناجياً ربه تعالى ألا يعذب الرعية بسببه
(2)
، وإن خرج معهم فإن لباسه يكون البياض
(3)
، وعلى رأسه أقرف وشيٍ أغبر، والخشوع ظاهر عليه، ودموعه تسيل على لحيته، فإذا وصل إلى جانب المحراب جلس عن يمين الإمام على
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 251 - 252.
(2)
- مطمح الأنفس، ص 251.
(3)
- عرفنا من قبل أن البياض هو لباس الحزن عند الأندلسيين.
غير فراش، فإذا قضيت الصلاة أمر بتفريق الأموال والصدقات على الفقراء والمساكين تقرباً إلى الله تعالى
(1)
.
وقد حفظت لنا المصادر هيئة قاضي الجماعة وصاحب الصلاة منذر بن سعيد البلوطي عند خروجه لأداء صلاة الاستسقاء، فقد ذكرت أنه عندما أجدبت الأرض من جراء احتباس المطر وذلك في أواخر عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، تأهب القاضي للخروج لأداء صلاة الاستسقاء بناء على أوامر الخليفة، فصام قبل اليوم المحدد ثلاثة أيام تقرباً لله تعالى، وفي مصلى الربض برز الناس في جمع عظيم، فلما غصَّ المصلى بالناس، أقبل القاضي نحوهم ماشياً متضرعاً مخبتاً متخشعاً ثم خطبهم ووعظهم فرقت قلوبهم فبكى الناس وضجوا بالدعاء، فما انقضى النهار حتى أرسل الله تعالى برحمته المطر وأزال القحط
(2)
.
وللعامة موقف من صاحب الصلاة إذا استسقى بهم ولم يمطروا، وهذا الموقف يأخذ طابع الشدة التدريجي بعد كل صلاة لا يسقوا عقبها، فهذا قاضي الجماعة وصاحب الصلاة ابن زرب صلى بالناس عشر مرات متتاليات صلاة الاستسقاء ولكن دون أن ينزل المطر، فسلّط العامة عليه ألسنتهم بالذم، وطعنوا بدينه، وعابوا عليه شدة التصاقه الحاجب المنصور بن أبي عامر وركونه إليه وقبوله لهداياه، ولما تكرر بروزه للاستسقاء ولم
(1)
- النباهي، ص 79.
(2)
- مطمح الأنفس، ص 249 - 251. النباهي، ص 70 - 71. أزهار الرياض، 2/ 279 - 280.
ينزل المطر، هاجت العامة وثارت ضده، وخاطبوه بعد الصلاة بقولهم: "بئس الوسيلة أنت إلى الله تعالى والشفيع في إرسال الرحمة، إذ أصبحت إمام الدين، وقيم الشريعة، ثم لا تتورع عن قبول ما يُرسل إليك من الهدية التي لا تليق إلا بالجبابرة
(1)
" ثم هموا أن يبسطوا إليه أيديهم، لكنه هرب من أمامهم ولاذ بالتربة المنسوبة إلى السيدة مرجانة بمقبرة الربض
(2)
فتحصن بها، واستغاث بصاحب المدينة، فسارع إلى نجدته بالفرسان ورجال الشرطة، فتم تفريق العوام عنه وأوصلوه إلى داره سالماً، وفي البروز الآخر أرسل معه المنصور بن أبي عامر خيلاً كثيراً أحاطت بالمصلى، فلم يجسر أحد من العوام والسفهاء التعرض له بشيء
(3)
.
وأما عن مكان الاستسقاء فقد كان مداولة بين مصلى المصارة ومصلى الربض لكن في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط أصبحت الصلاة تؤدي في مصلى الربض بصورة أكثر، وذلك بتأثير نصر الفتى، كبير فتيان الأمير عبد الرحمن الأوسط ومدبر قصره والغالب على أمره، ذلك لأن مصلى الربض قريب من قصر نصر فلما هلك نصر وأمر الأمير عبد الرحمن الأوسط بأداء صلاة الاستسقاء وتم تحديد مصلى الربض لأدائها كما جرت العادة، اعترض الفقيه عبد الملك بن حبيب على أدائها في ذلك المكان، محتجاً بأن نصر الفتى هو الذي أعاق الناس عن مصلى المصارة،
(1)
- النباهي، ص 79.
(2)
- أي أنه اختبأ بالمقبرة المنسوبة لأم الخليفة الحكم المستنصر بالله.
(3)
- النباهي، ص 79.
وذلك على الرغم من حوادث الغرق التي كانت تحصل لبعض الناس بسبب تزاحمهم في القنطرة القائمة على نهر قرطبة والمؤدية إلى مصلى الربض، فضلاً عن ارتكاب الأحداث لبعض الأفعال المشينة بوسط ذلك الازدحام، بينما مصلى المصارة أرفق بالناس وأقرب للبلد، بالإضافة إلى أن الفرصة متاحة لمن أراد أن يجدد طهارته لسهولة استخدام شط النهر وتناثر الأشجار الكثيفة من حوله لتستخدم سترة لصاحب الحاجة، فصوب الأمير رأي الفقيه وأمر بأداء الصلاة في مصلى المصارة
(1)
.
ولكن يبدو أن أداء صلاة الاستسقاء لم يستمر بمصلى المصارة، إذ أن قرطبة اتسعت، وتم إنشاء مدينتي الزهراء والزاهرة، فأصبحت الصلاة تؤدي بمصلى الربض لقربه منهما.
بقى أن نشير إلى أنه كان لقصر الإمارة بقرطبة أو الخلافة بالزهراء إمام خاص، فقد كان الأمير الحكم الربضي يستدعي أبا عمر حفص بن عبد السلام السلمي، من أهل سرقسطة، ليؤم به في الصلاة طيلة شهر رمضان من كل عام
(2)
كما كان أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد الله الشهير بابن الحذَّاء يصلي بالأمير عبد الله بن محمد مدة أربعة عشر عاماً
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 46 - 47. هنا سؤال يطرح نفسه، لماذا لم يحتج الفقيه ابن حبيب على موقع المصلى إلا بعد وفاة نصر الفتى؟ لعل هذا عائد إلى عظم مكانة نصر= =لدى الأمير عبد الرحمن الأوسط وسيطرته عليه بحيث لا يسمع من غيره، وربما أيضاً خشية من سطوة نصر وانتقامه.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 365.
وذلك من سنة 286 - (300) هـ (899 - (913)) ثم صلى بالأمير عبد الرحمن بن محمد من أول إمارته إلى أن توفي ابن الحذّاء يوم الاثنين لثلاث بقين من ذي الحجة سنة (305) هـ (يونيو (918) م
(1)
) ".
وكان نمئ بن علي بن نمئ القاري، المتوفي سنة (322) هـ (934 م) يصلي بالخليفة عبد الرحمن الناصر
(2)
، ثم اتخذ من بعده محمد بن يوسف الجهني، المتوفى يوم السبت للنصف من شهر رمضان سنة (372) هـ (مارس (982) م) ليصلي به في قصره بالزهراء
(3)
وكان أبو عثمان سعيد بن إدريس بن يحيى السلمي إماماً للخليفة هشام المؤيد بقصره في قرطبة، وظل على ذلك مدة طويلة فلما وقعت الفتنة سنة (399) هـ (1009) خرج من قرطبة وتوجه إلى موطنه اشبيلية فسكنها إلى أن توفي بها سنة (429) هـ (1038 م)
(4)
.
وهناك من عُرض عليه منصب "صاحب الصلاة" فرفضه وطلب الاستعفاء، فقد ذكر ابن الفرضي أن أبا الحسن عبد الرحمن بن أحمد بن بقي بن مخلد، المتوفى في شهر ربيع الأول سنة (366) هـ (نوفمبر (976) م)
(1)
- المصدر السابق، رقم 107.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 1504.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 1337.
(4)
- الصلة، ترجمة رقم 499.
أُريد على الصلاة عند علة محمد بن يحيى فاستعفى من ذلك، فجمعت الصلاة والقضاء لمحمد بن إسحاق بن السليم
(1)
.
وصاحب الصلاة إن لم يكن حائزاً على رضى أقارب الأمير ورجالات الدولة فما أسهل أن يعملوا على طرده عن منصبه بأي وسيلة كانت حتى وإن دعت الضرورة إلى الكذب عليه والتلفيق ضده، وهذا ما جرى لأبي الجودي بن محمد بن سلمة، فقد كان أبوه يتولى القضاء والصلاة للأمير عبد الله بن محمد، فحدث أن اعتل ابن سلمة في بعض الجمع فصلى بالناس بدلاً منه ابنه أبو الجودي وذلك بأمر الأمير، إلا أن رجالات الدولة لم يرتضوه، لصلابة أبيه فحاولوا تشويه صورة أبي الجودي لدى الأمير وذلك من خلال بطائق رفعوها إليه تشير بكل قبيحة لأبي الجودي، وبما أن سياسة بني أمية تقوم على عدم الأخذ بالوشايات، لذا فقد فشلت تلك البطائق في تحقيق مراد خصوم أبي الجودي، لأجل هذا فقد لجأوا إلى حيلة أخرى، فقد أرسل الحاجب ابن حدير إلى الفقيه محمد بن وليد بن محمد بن عبد الله، المتوفى في النصف من ذي القعدة سنة (309) هـ (18 مارس سنة (922) م) فلما حضر عنده أخبره بمراده فاستعد الفقيه لتأدية ما طلب منه، وكان الفقيه طويل اللسان كثير الملق يضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
، بالإضافة إلى أنه كان
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 798.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1180.
يكره القاضي ابن سلمة وولده أبا الجودي، وكان الأمير معجباً بهذا الفقيه لأنه كان يخدعه بإظهار الزهد
(1)
، ولذا عندما أعاد الحاجب ابن حدير الحديث مع الأمير حول أبي الجودي ووجد الأمير على رأيه السابق فيه وأنه لن يتغير عن موقفه إلا بدليل لا يقبل الشك، عندها أشار عليه الحاجب أن يستدعي الفقيه محمد بن وليد ويسأله عن رأيه بأبي الجودي، ففعل الأمير وسأل الفقيه عن مراده، فأجابه ذلك الفقيه بكل خبث، "إني - أكرم الله الأمير - ليست بيني وبين ولد القاضي خلطة، ولا أعرفه، غير أني رأيت الناس بعد صلاة الجمعة يعيدون الصلاة، فسألت عن ذلك، فقالوا: لما اعتل القاضي تقدم بالناس ابنه، فلم يرضوه فأعاد أكثر الناس الصلاة، فلما سمع الأمير هذا قال: لا يعيد الناس إلا من أمر عرفوه منه، لا يصلي بعد هذا"
(2)
.
(1)
- عن الطريقة التي اتبعها الفقيه محمد بن وليد في خداع الأمير عبد الله بن محمد، انظر: المغرب في حلى المغرب، 1/ 154 - 155.
(2)
- المصدر السابق: 1/ 155. إن كل من اشترك ضد أبي الجودي يمكن اعتبارهم أصحاب دنيا تهمهم مناصبهم، ولكن الفقيه محمد ابن وليد يمتاز عنهم بأنه ممن يخدع الدنيا بالدين والعياذ بالله، فالأمير عبد الله يرى من ذلك الفقيه ما يدل على نزاهته وصدقه وزهده ولذا فقد ارتضى مقولته، وصنف هذا الفقيه هو صنف هدام لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، وكيف نستغرب منه افتراؤه على أبي الجودي وهو قد تجرأ بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
هذا، وقد وجد في كور الأندلس وثغورها كما في قرطبة والزهراء صاحب الصلاة، ففي إلبيرة أحمد بن عبد الله الأنصاري، يلي الصلاة في أهلها طيلة السنوات الأخيرة من عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، وظل في منصبه حتى توفي في صدر أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن
(1)
.
ومحمد بن أشعب بن قيس، من أهل رية، كان فاضلاً دينا، تولى الصلاة في بلده ريه حتى ضعف عنها، فعزله الأمير محمد بن عبد الرحمن
(2)
وولى عوضاً عنه محمد بن عوف العكي الذي استمر في منصبه حتى وفاته
(3)
.
وفي باجه كان صاحب الصلاة بها أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى بن أصبغ، المتوفى سنة (278) هـ (882 م)
(4)
وفي طليطلة كان حزم بن غالب الرعيني يلي القضاء والصلاة وذلك في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن
(5)
، ثم تولاهما عيسى بن محمد بن دينار بن واقد، وذلك في عهد الأمير عبد الله
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 83.
(2)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1112.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 1111، وقد ذكر الحميدي أنه توفي سنة 320 هـ. انظر: جذوة المقتبس، ترجمة رقم 120.
(4)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 5.
(5)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 361.
بن محمد
(1)
، وأما في قبرة فكان زيد بن شريح هو صاحب الصلاة بها وذلك في عهد الأمير عبد الله بن محمد
(2)
.
وفي لاردة كان عبد الملك بن نمير الفارسي، المتوفى قريباً من سنة (290) هـ (902) يلي الصلاة بها
(3)
، بينما كان معاصره أبو زكريا يحيى بن قطام يتولى القضاء والصلاة معاً في بلده طليطلة، واستمر في منصبه حتى نقم عليه بعض ولاتها فقتله سنة (293) هـ (906 م)
(4)
.
وفي سرقسطة كان صاحب الصلاة بها خطاب بن إسماعيل الغافقي، المتوفى سنة (297) هـ (910 م)
(5)
، وكان محمد بن يوسف يلي الصلاة في بلدة شذونة وذلك على عهد الأمير عبد الله بن محمد
(6)
.
وفي القرن الرابع الهجري كان أبو هاشم خالد بن زكريا صاحب الصلاة ببلدة وادي آش
(7)
، وأما في بطليوس فكان صاحب الصلاة بها أبو الحكم منذر بن حزم بن سليمان، المتوفى سنة (306) هـ (918 م)
(8)
في
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 978.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 462.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 817.
(4)
- نفسه، ترجمة رقم 1569.
(5)
- نفسه، ترجمة رقم 403.
(6)
- نفسه، ترجمة رقم 1154.
(7)
- نفسه، ترجمة رقم 396.
(8)
- نفسه، ترجمة رقم 1451.
حين كان معاصره أبو عثمان عفان بن محمد، المتوفى سنة (307) هـ (919 م) يلي الصلاة في بلدة وشقة
(1)
.
وفي إلبيرة كان صاحب الصلاة بها أبو جعفر أحمد بن عمرو بن منصور، المتوفى سنة (312) هـ (924 م)
(2)
.
وفي رية تولى الصلاة بها سعدان بن إبراهيم الشهير بابن الجرز سنة (316) هـ (928 م)
(3)
. يعاصره في سرقسطة أبو عبد الحميد إسحاق بن عبد الرحمن، المتوفى قريباً من سنة (320) هـ (932 م)
(4)
.
وفي طرطوشة كان صاحب الصلاة بها أحمد بن سعيد بن ميسرة الغفاري، المتوفى سنة (322) هـ (934 م)
(5)
.
أما في الجزيرة فكان الفقيه يوسف بن خطار بن سليمان بن خالد هو صاحب الصلاة فيها، والملاحظ أنه استمر في منصبه أربعين سنة، فقد تولى الصلاة ببلده سنة (282) هـ (895 م) وذلك في عهد الأمير عبد الله بن محمد، وظل في منصبه إلى أن توفي سنة (322) هـ (934 م) في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر
(6)
.
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 913.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 76.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 543.
(4)
- نفسه، ترجمة رقم 233.
(5)
- نفسه، ترجمة رقم 93.
(6)
- نفسه، ترجمة رقم 1626.
وكان أبو الحسن علي بن عبد القادر بن أبي شيبة الكلاعي، المتوفى سنة (325) هـ (937 م) يلي الصلاة ببلدة اشبيلية وقد ذكر ابن الفرضي أن أبا الحسن الكلاعي قد كُتب على قبره أنه كان كذاباً
(1)
.
وكان أبو عبد الله محمد بن حبيب بن كسرى اليحصبي قد تولى الصلاة ببلدة استجه إلى أن توفي ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر المحرم سنة (327) هـ (نوفمبر (938) م)
(2)
.
وفي رية كان إبراهيم بن سليمان بن أبي زكريا، يلي الصلاة بها إلى أن توفي سنة (326) هـ (938 م)
(3)
، فتولاها من بعده الفقيه الزاهد أحمد بن عبد الله القيني
(4)
، وكان الفقيه أبو محمد بن قاسم بن نضير بن رقاص بن عيشون الشهير بأبي الفتح، من أهل شذونه، كان خطيب أهل قلسانه، وصاحب صلاتهم، إلى أن توفي في شهر ذي الحجة سنة (338) هـ (950 م)
(5)
.
وفي إلبيرة كان صاحب الصلاة بحاضرتها أبو سعيد عثمان بن سعيد بن كليب، المتوفى سنة (340) هـ أو (341) هـ (952 م)
(6)
.
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 920.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 1217.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 29.
(4)
- نفسه، ترجمة رقم 130.
(5)
- نفسه، ترجمة رقم 1069.
(6)
- نفسه، ترجمة رقم 900.
وفي قلعة أيوب كان أبو عبد الله محمد بن نصر هو صاحب الصلاة بها إلى أن توفي سنة (345) هـ (956 م)
(1)
.
وكان أبو إسحاق إبراهيم الباجي، المتوفى في أوائل سنة (350) هـ (961 م) يلي الصلاة ببلده باجه
(2)
.
أما في تطيله فكان أبو بكر محمد بن الشبل بن بكر القيسي، المتوفى سنة (353) هـ (964 م) يلي الصلاة بها
(3)
.
وكان أحمد بن مطرف بن محمد بن خلف الأشعري، من أهل رية، تولى الصلاة بحاضرة بلده إلى أن توفي في أيام الخليفة الحكم المستنصر
(4)
.
وأبو القاسم أصبغ بن قاسم بن أصبغ من أهل أستجه، تولى الصلاة والقضاء بإستجه إلى أن توفي سنة (363) هـ (974 م) وكان أهل موضعه لا يثنون عليه
(5)
.
وأبو محمد عبد الله بن محمد إبراهيم بن إسحاق، المتوفى يوم الجمعة لسبع بقين من رجب سنة (369) هـ (فبراير (970) م) من أهل باجه تولي الصلاة ببلدة
(6)
.
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 1273.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 33.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 1281.
(4)
- نفسه، ترجمة رقم 145.
(5)
- نفسه، ترجمة رقم 255.
(6)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 711.
وفي بجانة كان صاحب الصلاة والخطبة بها أبو القاسم أحمد بن خالد بن يزيد الأسدي المعروف بابن أبي هاشم، توفي يوم الثلاثاء لست خلون من شوال سنة (368) هـ (8 مايو (979) م)
(1)
.
وأبو خالد يزيد بن أسباط المخزومي، المتوفى في أواسط القرن الرابع الهجري، من أهل شذونه، سكن شريش وكان صاحب الصلاة بها
(2)
.
وهذا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، المتوفى ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة (387) هـ (أكتوبر (997) م) تولى الصلاة ببلدة استجه
(3)
.
وأبو عبد الله محمد بن سعيد بن سليمان بن أسود الغافقي، المتوفى سنة (389) هـ (999 م) من أهل فحص البلوط، تولى الصلاة بموضعه
(4)
.
وأبو عبد الله محمد بن يزيد، من أهل بطليوس، كان رجلاً صالحاً فاضلاً، تولى الصلاة بموضعه نحو سنة ثم توفي في أواخر سنة (390) هـ (1000 م)
(5)
.
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 153.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 1610.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 1376.
(4)
- نفسه، ترجمة رقم 1381.
(5)
- نفسه، ترجمة رقم 1384.
وأبو يزيد أسباط بن يزيد المخزومي، من أهل شذونة، سكن شريش وأصبح صاحب الصلاة بعد وفاة والده، ولم يزل عليها إلى أن توفي في أواخر سنة (392) هـ (1002 م)
(1)
.
وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد الأنصاري، من أهل رية، كان زاهداً تولى الصلاة بموضعه مدة طويلة إلى أن توفي ليلة الجمعة لثمان بقين من شعبان سنة (394) هـ (يونيو (1003) م)
(2)
.
وأبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عباس بن عبد الله بن النعمان، من أهل شذونه كان صاحب الصلاة ببلده، توفي يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول سنة (413) هـ (4 يونيو (1022) م)
(3)
.
وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن عثمان الشهير بابن القشاوي، من أهل طليطلة كان ديناً ثقة ورعاً شاعراً، تولى الصلاة والخطبة بجامع طليطله، توفي ليلة السبت لليلتين خلتا من شهر شعبان سنة (417) هـ (سبتمبر (1026) م)
(4)
.
وأبو بكر محمد بن عبد الغني بن حبيب، صاحب الصلاة بأستجة، توفي سنة (424) هـ (1033 م)
(5)
.
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 281.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 1392.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 199.
(4)
- الصلة ترجمة رقم 582.
(5)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1067.
ومن خلال التراجم السابقة لمن كان يتولى الصلاة سواء في قرطبة أو غيرها من حواضر الأندلس، نجد أن كل واحد منهم قد تولى الصلاة ببلده، أو في بلد سبق وأن عاش بها فترة طويلة، كما أن الصفة العلمية المشتركة بينهم هي الفقه وإتقان اللغة العربية وآدابها، الأمر الذي يمكن كل منهم من أداء الخطابة بصورة جيدة.
ويظهر لنا أن هذه الخطة متوارثة في بعض الأسر التي اشتهر رجالها بالفقه مع إتقان العربية، ونالت حظاً وافراً من التدين والخلق والسمعة العالية الرفيعة بين فئات المجتمع التي تتوارث الإمامة في الصلاة في هذه الأسر أمراً محبباً إلى نفوسهم، وقد تعرفنا فيما سبق على بعض تلك الأسر.
خطة الرد
هذه الخطة من الخطط التي انفرد بها المغرب والأندلس عن بقية بلاد العالم الإسلامي
(1)
، وكذلك انفرد القاضي ابن سهل بالتعريف بها دون كل من سبق وكتب عن القضاء، إذ أن المصادر لم تحفظ لنا إلا قوله عن هذه الخطة، فقد ذكر ابن سهل أن خطة الرد من بين الخطط الست التي كانت تجري على يد أصحابها الأحكام. وهي القضاء، الشرطة، المظالم، الرد، المدينة السوق
(2)
، ثم تحدث ابن سهل عن اختصاصات صاحب الرد. فقال: "وإنما كان يحكم صاحب الرد فيما استرابه الحكام وردوه عن أنفسهم
(3)
".
ويمكن أن نفهم من كلام ابن سهل أنه كان للقاضي حرية الامتناع عن النظر في أي قضية لم تكن واضحة المعالم لديه، ولكي يتخلص منها يحيلها إلى صاحب الرد كي يبت فيها.
وقد حفظت لنا كتب التراجم أسماء الذين تولوا هذه الخطة في عهد الدولة الأموية بالأندلس، منهم:
الفقيه أبو عمر حارث بن أبي سعد المتوفى سنة (221) هـ (836 م) كان يتولى الشرطة الصغرى والرد في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط
(4)
".
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 519.
(2)
- النباهي، ص 5.
(3)
- المصدر السابق، والصفحة.
(4)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 87. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 38.
كما كان موسى بن محمد الجذامي يتولى خطتي الشرطة والرد في عهد الأمير عبد الله بن محمد
(1)
.
وفي مطلع القرن الرابع الهجري كان أبو الوليد محمد بن محمد بن أبي زيد، المتوفى يوم الخميس لعشر بقين من صفر سنة (333) هـ (أكتوبر (944) م) يتولى خطة الرد، رغم اتصافه بقلة العلم
(2)
، ثم عزل عن منصبه سنة (304) هـ (916 م) وعين بدلاً عنه يحيى بن إسحاق الطبيب مضافة إليه الشرطة الصغرى
(3)
.
وكان الفقيه أبو عيسى يحيى بن عبد الله الليثي، المتوفى ليلة الثلاثاء لثمان خلت من رجب سنة (367) هـ (20 فبراير سنة (978) م)
(4)
يتولى خطة الرد.
وكان أبو عبد الله محمد بن تمليخ التميمي المتوفى في شهر رمضان سنة (361) هـ (يونيو (971) م) يتولى خطتي الرد والشرطة في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، وأنه كان يتمتع بمنزلة رفيعة لديه
(5)
.
ثم تولى خطة الرد بعد ابن تمليخ عبد الملك بن منذر بن سعيد البلوطي، واستمر في منصبه طيلة عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، وأقره
(1)
- قضاة قرطبة، ص 94.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1241.
(3)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا ص 134.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 118 - 120. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1597.
(5)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1301.
على منصبه ابنه الخليفة هشام المؤيد، ثم اتُهم عبد الملك بن منذر أنه يتآمر ضد الخليفة هشام وحاجبه المتسلط عليه المنصور بن أبى عامر، فألقي القبض عليه وصُلب على باب سدة السلطان وذلك يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة سنة (368) هـ (19 يناير (979) م)
(1)
.
ثم أُسندت خطة الرد لأبي بكر عبد الله بن هرثمة بن ذكوان، واستمر عليها إلى أن توفي بكركي في غزوة الصائفة وذلك في صدر شهر رمضان سنة (370) هـ (مارس (981) م)
(2)
. ومن بعده تولاها ابنه أبو العباس أحمد بن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان فلم يزل قائماً بخطة الرد مشاوراً في الأحكام إلى أن قلده المنصور بن أبي عامر قضاء الجماعة وذلك يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر المحرم سنة (392) هـ (ديسمبر (1001) م)
(3)
.
وبعد أحمد بن ذكوان تولى خطة الرد الفقيه يونس بن عبد الله بن محمد، المعروف بابن الصفار المتوفى ليلة الجمعة لليلتين بقيتا لشهر رجب سنة (429) هـ (مايو (1038) م).
ويبدو أن ابن الصفار لم يستمر في منصبه طويلاً، إذ ولي خطة القضاء والصلاة والخطبة بجامع قرطبة مع الوزارة
(4)
فتولى خطة الرد من
(1)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 823.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 724.
(3)
- الصلة، ترجمة رقم 65.
(4)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1512.
بعده أبو عبد الملك راشد بن عبد الله، لكنه لم يلبث فيها إلا أياماً من سنة (401) هـ (1011 م) وهي السنة التي تولى فيها خاله أبو بكر بن وافد قضاء القضاة بقرطبة مع الوزارة وعندما حلت المحنة بابن وافد من جراء دخول المستعين إلى قرطبة
(1)
هرب أبو عبد الملك راشد بن إبراهيم عن قرطبة متوجها إلى الشمال، لكنه قبض عليه في الطريق فُذبح وذلك سنة (404) هـ (1014 م)
(2)
.
ويمكن اعتبار الفقيه عبد الله بن سعيد بن عبد الله الأموي، المعروف بابن الشقاق، آخر من تولى خطة الرد في عهد الدولة الأموية، وظل على مرتبته إلى أن توفي يوم الثلاثاء الثامن عشر من شهر رمضان سنة (426) هـ (يوليو (1035) م)
(3)
.
والملاحظ أن معظم الأسماء التي تولت خطة الرد كانت تلي أيضاً خطة الشرطة أي الجمع بين الخطتين، ولعل الهدف من هذا هو ضمان سرعة تنفيذ الأحكام
(4)
.
ومعظم من تولى خطة الرد، قد وصل إلى منصب قضاء الجماعة مباشرة وهذا يعني أن من يلي خطة الرد لابد وأن يكون متصفاً بالصفات
(1)
- النباهي، ص 88.
(2)
- الصلة، ترجمة رقم 425.
(3)
- ترتيب المدارك، 7/ 295 - 296. الصلة، ترجمة رقم 587.
(4)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 520.
المؤهلة لمنصب قاضي الجماعة، كما يعني أيضاً أن منصب قاضي الجماعة أعلى من منصب صاحب الرد كما أنها خطة قابلة للتوارث.
ولصاحب الرد مهام غير ما ذُكر، فقد كانُ يكلَّف بمطالعة رعايا الكور والوقوف على أحوالهم، ففي جمادى الآخرة من عام (362) هـ (مارس (973) م) كلف الخليفة الحكم المستنصر بالله صاحب الرد عبد الملك بن منذر البلوطي بالخروج إلى الكور الغربية وهي شريش ولقنت واشبيلية ولبله وقرمونه ومورور واستجة وشذونة، وذلك لمطالعة رعاياها والتعرف على أحوالهم والكشف عن سير عمالهم فيهم
(1)
.
وذكر ابن حيان أنه في شهر رجب من سنة (362) هـ (إبريل (972)) خرج صاحب الرد قاضي فحص البلوط
(2)
عبد الملك بن منذر بن سعيد ومعه الخازن أحمد بن محمد الكلبي إلى مدينة الفرج أمينين ليتعرفا حقيقة ما رفعه أهلها على قائدها رشيق بن عبد الرحمن صاحب الركاب فينصفانهم منه
(3)
".
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبدالرحمن الحجي، ص 100.
(2)
- فحص البلوط، El valle de los Pedroches هو سهل منبسط ممتد في شمال غربي قرطبة، ومجاور لأراضي أو ريط، وتتصل بأحواز فحص البلوط بأحوار فريش، ومن هذا الفحص يصدر الزئبق للآفاق، ونظراً لاشتهار المنطقة بشجر البلوط، لذا فقد نسبت إليه. انظر: وصف الأندلس للرازي، ص 83. الروض المعطار، ص 435 - 436.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبدالرحمن الحجي، ص 104 - 105.
ونظراً لأن صاحب الرد يتمتع بأحقية ولاية النظر في الطعن في الأحكام فإنه يملك سلطة رد الحكم وتعديله وتصويبه إذا خالف الشرع، وبذلك فإن صاحب الرد يملك سلطة نقض الحكم ونظر دعوى المخاصمة
(1)
.
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 526.
خطة المظالم
نظام المظالم هو لون من ألوان القضاء، امتزجت فيه سطوة السلطان بنصفة القضاء ولذا فقد عرفه الماوردي بقوله: "ونظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة
(1)
".
والناظر في المظالم يختلف عن القاضي، فهو أوسع صلاحيات وأكثر سلطة. إذ يكفي في هذا المجال أن له النظر فيما تنظر إليه القضاة، وما لا تنظر فيه من الحكومات، وبالجملة فهو يمتاز عن القاضي بأشياء كثيرة منها أن له من الهيبة وقوة اليد ما ليس للقضاة، كما أن الناظر في المظالم أفسح مجالاً وأوسع مقالاً، وأن له من قوة الإرهاب ما ليس للقضاة، وله حرية التعامل مع الخصمين وفق مجريات القضية، وكذلك له الحق في استدعاء الشهود وأطراف الدعوى والعمل على اتخاذ كافة الإجراءات التي تزيل الشك عنده
(2)
وعندما تناول الحديث عنها الكاتب الأعرج ذكر أن لصاحب المظالم" النظر قبل التظلم إليه في الجرائم والظلامات، وله إرهاب المتهوم بالظلم والجريمة قبل الثبوت بالإقرار أو البينة القوية، وله الحمل على الاعتراف بالحق، والحبس في المظالم، وله الضرب للاعتراف عند ظهور الإمارات في الجرائم وله تأديب المدعى عليه
(1)
- الأحكام السلطانية، ص 64.
(2)
- المصدر السابق، ص 70 - 71.
إذا ثبت الحق بالبينة بعد الإنكار، وله حمل المجرمين على التوبة بالإجبار
(1)
".
ومجلس صاحب المظالم لابد وأن يضم خمسة أصناف من أهل الاختصاص هم: الحماة والأعوان، والقضاة والحكام، والفقهاء، والكتاب، والشهود
(2)
فإذا انتظم المجلس بأعضائه، فلصاحب المظالم حينئذ النظر في عدة قضايا، وهذه القضايا عشرة أقسام هي: النظر في تعدي الولاة على الرعية، وجور العمال فيما يجبونه من الأموال، وكُتَّاب الدواوين لأنهم أمناء المسلمين على أموالهم، وتظلم المسترزقة من نقص أرزاقهم أو تأخرها عنهم، والنظر في الغصوب بنوعيها، السلطانية وماتغلب عليه ذوو الأيدي القوية، والنظر في مشارفة الأوقاف العامة والخاصة، وتنفيذ ما وقف القضاة من أحكام لضعفهم عن إنفاذها وعجزهم عن المحكوم عليه لتعزيره وقوة يده أو لعلو قدره وعظم خطره. كما أن له النظر فيما عجز عنه الناظرون في الحسبة من المصالح العامة، وله مراعاة العبادات الظاهرة كالجمع والأعياد والحج والجهاد من تقصير فيها وإخلال بشروطها، وكذلك له النظر بين المتشاجرين والحكم بين المتنازعين
(3)
.
ومن أجل هذه المهام الجسيمة الملقاة على عاتق صاحب المظالم، فإنه لابد وأن يكون متصفاً بصفات تؤهله لتحمل تلك المهام، وعليه فلابد،
(1)
- تحرير السلوك، ص 38.
(2)
- الأحكام السلطانية، ص 67. تحرير السلوك، 39.
(3)
- الأحكام السلطانية، ص 67 - 70. تحرير السلوك، ص 39 - 40.
"أن يكون جليل القدر، نافد الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر الفقه، قليل الطمع كثير الورع، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا تُدنس دينه ولا عرضه الرشوة بالقائم، إذ يحتاج إلى سطوة الولاة وتثبت القضاة، فينبغي أن يكون جامعاً بين صفتي الفريقين، ويكون لجلالة قدره نافذ الأمر من الجهتين"
(1)
.
وخطة المظالم في الأندلس هي إحدى الخطط الدينية الست التي ذكرها ابن سهل وجعل لأصحابها الحق في إصدار الأحكام
(2)
.
والملاحظ أنه في بداية الدولة الأموية بالأندلس لم يكن يوجد صاحب مظالم، إذ أن هذه الخطة لم تنشأ هناك إلا متأخرة، ولكن هذا لا يعني عدم الاهتمام بها، إذ أن الأمير عبد الرحمن الداخل كان "يقعد للعامة، ويسمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم ويتوصل إليه من أراده من الناس فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقة
(3)
".
وذكر ابن حيان أن الأمير عبد الرحمن الداخل بلغ من شدة اهتمامه بالمظالم أنه كان يتصدى لها في أي مكان وزمان، وفي أثناء عودته من حضور جنازة في إحدى الأيام تصدى له أحد العوام وخاطبه بصوت عال طالباً منه أن ينصفه ممن ظلمه، فوقف الأمير ودعا بالقاضي المرافق له وأنصف الرجل
(4)
.
(1)
- تحرير السلوك، ص 38.
(2)
- النباهي، ص 5.
(3)
- نفح الطيب، 1/ 332.
(4)
- المصدر السابق، 3/ 37.
كذلك نجد الأمير عبد الرحمن الداخل يعطي الشاعر أبا المخشي ألفي دينار ويضاعف له دية عينيه
(1)
، رغم أن الرجل لم يتظلم له من مصابه، ولكن شعور الأمير بأن الرجل قد ظلم دفعه لمواساته ومحاولة إنصافه.
وأما الأمير هشام الرضا بن عبد الرحمن الداخل فإنه انتصف لأحد أعوانه المظلومين قبل أن يلي الإمارة
(2)
، وبعد أن تولاها كان أول شيء اهتم به هو تسريح السجون من غير أهل الحدود ورد المظالم
(3)
كما أنه كان يبعث برجال عدول يذهبون إلى الكور يسألون الناس عن سير عمالهم فيهم، ثم ينصرفون إليه ويطلعونه على حقيقة الأوضاع فيصدر على ضوئها أوامره بما يحقق العدالة
(4)
.
ومن شدة حرص الأمير هشام الرضا على العدل أن رجلاً اعترض طريقه وهو يستغيث من ظلم أحد العمال له، فحاول بعض مرافقي الأمير إرضاء ذلك الرجل خشية من سخط الأمير على ذلك العامل، إلا أن الأمير بعث إلى الشاكي وأحضره وقال له: "احلف على كل ما ظلمك فيه، فإن كان ضربك فاضربه، أو هتك لك ستراً فاهتك ستره، أو أخذ لك مالاً فخذ من ماله مثله، إلا أن يكون أصاب منك حداً من حدود
(1)
- ابن القوطية، ص 35.
(2)
- انظر القصة في: أخبار مجموعة، ص 121 - 124. ذكر بلاد الأندلس، 1/ 122 - 124. البيان المغرب، 2/ 67 - 68.
(3)
- ذكر بلاد الأندلس، 1/ 119.
(4)
- البيان المغرب، 2/ 66.
الله، فجعل الرجل لا يحلف على شيء إلا أقيد منه، فكان زجره هكذا لعماله أبلغ فيهم من النكال والأدب
(1)
".
وقد وصُف الأمير هشام بأنه كان عادلاً فاضلاً جواداً كريماً ورعاً
…
متشبهاً بورعه وزهده بعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى "يجري في أحكامه على القريب والبعيد وينصف الصغير من الكبير والفقير من الغني والضعيف من القوي وينصف من نفسه وقرابته
(2)
".
وأما الأمير الحكم الربضي فرغم القسوة التي عرف بها، إلا أنه كان محباً للعدل، وقد حُفظت عنه كلمة كان يداوم على ترديدها تدل على حرصه على الإنصاف، فقد كان يقول: "ما تحلى الخلفاء بمثل العدل
(3)
" وعندما أفضت الإمارة إليه خصص يومين من كل أسبوع يقعد فيهما للعامة بنفسه وينظر في أمورهم
(4)
.
وحدث في عهده أن عاملاً في جيان
(5)
اغتصب جارية من صاحبها، فلما عزل العامل عن الولاية تقرَّب إلى الأمير الحكم بأن أهدى إليه
(1)
- المصدر السابق، 2/ 66.
(2)
- ذكر بلاد الأندلس، 1/ 120.
(3)
- المصدر السابق، 1/ 126. البيان المغرب، 2/ 79.
(4)
- ذكر بلاد الأندلس، 1/ 128.
(5)
- جيان " Jaen" تقع إلى شرق قرطبة وتبعد مسافة مائة كيلو متر، وإلى شمال غرناطة وتبعد عنها بنفس المسافة، وتحدها التلال العالية من الجنوب الشرقي ومن الغرب، وقد كانت جيان من أعظم قواعد الأندلس الوسطى، وأشهرها حصانة ومنعة، وقد خرجت من أيدي المسلمين سنة 643 هـ، وهي اليوم عاصمة إحدى المحافظات التي تتألف منها مقاطعة الأندلس " Andalucia" انظر: الرازي وصف الأندلس، ص 68 - 69. الحميري، الروض المعطار، ص 183 - 184. محمد عنان، الآثار الأندلسية الباقية، ص 221 - 222.
الجارية، فحضر صاحبها عند قاضي الجماعة المصعب بن عمران وشرح له القصة، وأقام البينة على ذلك، فدخل القاضي على الأمير وأنهى إليه خبر الجارية، وطلب منه إبرازها تمهيداً لإصدار الحكم، ورفض عرض الأمير بشراء الجارية بالسعر الذي يبتغيه سيدها فخضع الأمير لرأي القاضي وسُلِّمت الجارية لسيدها، وأمره القاضي ألا يبيعها إلا في بلدة جيان لينتشر ذكر العدل ويقوى من ظلم على رفع ظلامته
(1)
.
وتكرر موقف القاضي المصعب بن عمران مع الأمير الحكم وذلك في مظلمة رفعها أيتام من جيان ضد العباس بن عبد الله القرشي، المتوفى سنة (219) هـ (834 م) الذي اغتصب ضيعة أبيهم، ورغم محاولات الأمير التدخل في القضية لصالح القرشي إلا أنه في النهاية خضع لحكم القاضي، وقال للقرشي "ما أشقاه من لطمه قلم القاضي
(2)
".
(1)
- أخبار مجموعة، ص 125 - 126. وقد ذكر ابن عذاري في البيان المغرب، 2/ 78 أن القاضي كان محمد بن بشير.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 25 - 26.
وبالإضافة إلى ما سبق فقد جرت في عهده عدة قضايا خاصة بالمظالم كانت له فيها مواقف مشرفة.
(1)
ورغم ما يمكن أن نلمسه في بعض مواقف الأمير الحكم مع قضاته بخصوص المظالم من أنه يحاول التحيز نوعاً لمن يعنى به، إلا أننا لا يمكن أن ننكر موقفه من مناصرة الحق في النهاية، وذلك من خلال خضوعه للحكم الذي يصدره القاضي وقد توَّج اهتمامه بالمظالم عندما أحدث خطة خاصة بها، فهو أول من أحدثها بالأندلس، وولى عليها مولاه مسرة الخصي
(2)
.
وأما الأمير عبد الرحمن الأوسط فبعد أن استلم الإمارة كان أول شيء فعله أن سرَّح السجون -من غير أهل الحدود- ورد المظالم
(3)
.
ومن المظالم التي ردها الأمير عبد الرحمن الأوسط مظلمة حسانة التميمية التي وفدت إليه من إلبيرة شاكية واليها جابر بن لبيد عندما لم يمتثل لكتاب معها سبق وأن كتبه لها الأمير الحكم الربضي بيده
(4)
.
وقد تولى عيسى بن شهيد، المتوفى سنة (243) هـ (857 م) خطة المظالم في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط فقد "ولاه النظر في المظالم وتنفيذ الأحكام على طبقات أهل المملكة
(5)
".
(1)
- انظر تاريخ القضاء في الأندلس، ص 542 ومصادره.
(2)
- ذكر بلاد الأندلس، 1/ 128.
(3)
- المصدر السابق، 1/ 139.
(4)
- نفسه، 1/ 142 - 143.
(5)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود علي مكي، ص 26.
وبذلك أصبح من صلاحيات صاحب المظالم مساءلة ذوي المناصب الإدارية العليا في الدولة عن أي تجاوزات تحدث من قبلهم، وممن تعرض لمساءلة صاحب المظالم الشاعر السفير يحيى الغزال، المتوفى سنة (250)(864 م) وقصة ذلك أن الغزال كان قد مدح الأمير عبد الرحمن الأوسط بقصيدة ولاه بسببها قبض الأعشار ببلاط مروان واختزانها في الأهراء
(1)
، وحدث أن عم القحط في ذلك العام، وقل الطعام وارتفعت الأسعار، فأخذ الغزال يبيع ما في مستودعات الدولة لديه حتى نفذ ما بها، وبعد أن نزل الغيث وتوفر الطعام، علم الأمير بما حدث، فغضب و أنكر تصرف الغزال، وأمر باستيفاء الثمن منه، ولكنه أبى فحمل إلى قرطبة مقيداً، حيث سجن هناك ثم أطلق سراحه
(2)
.
(1)
- الأهراء: المستودعات الضخمة المعدة لخزن الأطعمة.
(2)
- المطرب، ص 128. والأستاذ الدكتور إحسان عباس يشك في أن هذه الحادثة وقعت زمن الأمير عبد الرحمن الأوسط، محتجاً بأن قحطاً لم يقع في حياته، ويرجح أنها حدثت زمن الأمير الحكم الربضي سنة 199 هـ، انظر: د. إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي عصر سيادة قرطبة، ص 159. لكن الواقع يشير إلى خلاف ذلك فقد ذكر ابن حيان أنه في سنة 207 هـ، في صدر أيام الأمير عبد الرحمن الأوسط، نالت أهل الأندلس مجاعة شديدة بسبب انتشار الجراد. ولحسه الغلات وتردده في الجهات، وفي سنة 232 هـ قلت الأمطار وعم القحط العام، أما القحط الخاص فقد أصيبت به عدة كور منها مثلاً في سنة 236 هـ كورة تدمير، انظر: المقتبس، ابن حيان، تحقيق: د. محمود مكي، الصفحات: 93، 1، 7 على التوالي.
وفي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط تولى قضاة الجماعة بقرطبة وكذلك قضاة الكور رد المظالم إلى أهلها
(1)
.
وأما الأمير محمد بن عبد الرحمن فقد وصف بأنه كان "مهتبلاً بأمور رعيته مراقباً لمصالحها
(2)
" كما أنه اهتم بالمظالم، وأشرف على الكثير منها، من ذلك قصة الثلث الذي أوصى ابن القصيبي بتفريقه
(3)
، وكذلك اغتصاب وزيره هاشم بن عبد العزيز لأرض بوثيقة مزورة، واللطيف في هذه القصة هي الطريقة التي تمت بها عرض المظلمة، فقد ذكر ابن حيان أن صاحب الأرض عندما فشل في إقناع الوزير بالعدول عن الأرض، تصدى للأمير محمد عند ركوبه إلى بعض منتزهاته، ونظراً لضخامة الموكب وصعوبة الاقتراب من الأمير، فقد ابتكر الرجل حيلة مناسبة، حيث صعد على حائط يمر الأمير بالقرب منه، وكتب مظلمته على منشور وربطها بعصا ورفعها فوق رأسه فلما حاذاه الأمير، أخذ الرجل يستغيث به ويشير بعصاه والكتاب فيها، فأمر الأمير بأخذ الكتاب فلما قرأه أحضر وزيره هاشم الذي حاول عبثاً تكذيب الرجل، لكن الأمير ضيق عليه حتى اعترف وأقر بظلمه له وتعديه عليه فأنصفه الأمير منه
(4)
.
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 543 ومصادره.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 109.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 83 - 85. ابن القوطية، ص 71 - 73.
(4)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 148 - 152.
وهناك عدة قضايا خاصة بالمظالم نظرها قضاة الجماعة في عهد الأمير محمد، منها: قصة إخفاء الأمير أبي إسحاق لرجل استحق الحكم عليه وكذلك اغتصاب أحد المرشحين لخطة المدينة منزلاً لأحد الناس، واغتصاب الفتى بدرون الصقلبي وصيف الأمير منزلاً لامرأة، وتظلم أحدهم من صاحب المدينة، بالإضافة إلى الدعوى التي رفعت ضد يوسف بن بسيل الذي كان عاملاً على شذونة
(1)
.
وأما الأمير المنذر بن محمد فقد كانت مدة إمارته قصيرة لا تتجاوز السنتين 273 - (275) هـ (886 - (888)) كما أن تلك الفترة قضاها في حروب متصلة لإخضاع المتمردين، لأجل هذه فلا يوجد أثر للمظالم في عهده، ونكتفي في هذا المجال بالقول بأنه في اليوم الثاني لبيعته بالإمارة أمر بتفريق "العطاء في الجند، وتحبب إلى أهل قرطبة والرعايا بأن أسقط عنهم عشر العام وما يلزمهم من جميع المغرم
(2)
".
وقد عُرف الأمير عبد الله بن محمد بشدة وطأته على أهل الظلم
(3)
، ومن أجل نصرة المظلوم كان يجلس في الساباط قبل صلاة الجمعة وبعدها، يرى الناس ويشرف على تصرفاتهم ويسمع قول المتظلم منهم
(4)
.
(1)
- انظر تاريخ القضاء في الأندلس، ص 544 - 545 ومصادره.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 114.
(3)
- ذكر بلاد الأندلس، 1/ 153.
(4)
- المقتبس، تحقيق: أنطوينه، ص 34.
ثم ازداد اهتمام الأمير عبد الله بالمظالم، فأمر بفتح باب عند أحد أركان قصره أطلق عليه اسم باب العدل
(1)
، وجعل عليه باب حديد صنع مشرجباً ليلقي كل متظلم رقعته من خلاله
(2)
، وذلك في حال عدم تواجد الأمير في قرطبة، أما إذا كان في القصر فبإمكان أي متظلم مناداته من قبل ذلك الباب دون أن تكون لحاجب سلطة عليه، فتؤخذ الرقعة سريعاً أو يصل المتظلم للأمير فيخاطبه بظلامته ويعمل الأمير على إنصافه، فعظمت المنفعة بهذا الباب
(3)
، وأخذ أهل المكانات وذوو الأقدار يأخذون حذرهم من كل أمر يوجب الشكوى بهم، ويتحاشون ظلم من هم دونهم، مهابة للأمير وخشية من افتضاح أمرهم أمامه
(4)
.
وفي أوائل عهد الأمير عبد الرحمن بن محمد رفع إليه عجم أهل أبطليش دعوى ضد أسماء بنت ابن حيون، فأمر الأمير قاضي الجماعة بالنظر فيها
(5)
.
وقد كان الخليفة عبد الرحمن الناصر يترفع عن النظر في المظالم وبالذات ما كان منها يتعلق بمشاكل العوام، ومن ذلك، أنه كان يسير في موكب فاعترضه أحد العوام وهو يصيح بصوت منكر، فلما وقف
(1)
- المصدر السابق، ص 37.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 153.
(3)
- المقتبس، تحقيق: انطونيه، ص 37.
(4)
- البيان المغرب، 2/ 153.
(5)
- وثائق في أحكام قضاء أهل الذمة في الأندلس، ص 58 - 59.
واستفسر منه، وجد أن قضيته تدور حول حمار اشتراه وظهر فيه عيب، فغضب الخليفة و أنكر عليه تجاوزه للقاضي وأهل السوق ورفع هذا الأمر التافه له، ثم أمر به فُضرب ونودي عليه بذلك مجرَّساً ليكون عبرة لسواه
(1)
.
والخليفة عبد الرحمن الناصر لم يترفع عن النظر في المظالم فحسب، بل إنه عدَّ الجلوس لها مضيعة للوقت وسببا في تدهور الدولة وعاب على جده الأمير عبد الله بن محمد جلوسه لها، وعدَّ اهتمامه بها سبباُ في الاضطراب الذي أصاب الدولة في عهده، فقد خاطب الخليفة عبد الرحمن الناصر وزراءه قائلاً: "أعلمتم أن الأمير عبد الله جدي بنزوله للعامة في الحكم للمرأة في غزلها والحمال في ثمن ما يحمله، والدلال في ثمن ما ينادي عليه، وإضاعة كبار الأمور ومهامتها، والنظر في حروبه، ومداراة المتوثبين عليه، حتى اضطرمت جزيرة الأندلس وكادت الدولة ألا يبقى لها رسم، أي مصلحة في نظر غزل امرأة ينظر فيه أمين سوق الغزل، وإضاعة النظر في قطع الطرق وسفك الدماء وتخريب العمران
(2)
" والذي يمكن قوله في هذا المقام، أن تصرف الخليفة عبد الرحمن الناصر مع صاحب الحمار فيه تأديب له لأمثاله، وفي الوقت نفسه تكريس لهيبة الدولة في نفوس الرعية والمناوئين لها، كما أن فيه تأكيد على التسلسل الوظيفي إذ لا يجوز لأحد
(1)
- المغرب في حلى المغرب، 1/ 185.
(2)
- المصدر السابق، 1/ 185.
عرض قضية على ذي منصب كبير قبل أن تأخذ تدرجها الطبيعي ابتداء من أدنى السلم. وولي الأمر لابد وأن يهتم دائماً وأبداً بالصالح العام للرعية، وعليه أن يكرس جهده فيما يعود بالنفع عليها.
ولاشك أن الاهتمام بقمع المناوئين وقطَّاع الطرق أعظم أهمية من صرف الانتباه لقضايا أقل ما يقال عنها أن بالإمكان حلها بأيسر السبل دون أن يكون لها أي ذكر في المجتمع.
وملامة الخليفة لجده هي في الواقع أمر منطقي، إذ أن الدولة في عهده كانت معرضة للإنهيار، بل إن حكومة قرطبة في بعض الأحيان لم يعد لها سيطرة في الأندلس إلا على قرطبة والأماكن القريبة منها فقط، فأي مصلحة والوضع بهذه الصفة من الخطر في الاستماع لامرأة تدور قضيتها حول الغزل، وترك الفتن تستعر في أرجاء البلاد، الأمر الذي يترتب عليه انعدام الأمن وتدهور الحالة الاقتصادية إلى خلاف ذلك من أمور، المجتمع في غاية الغنى عن خوض تجربتها.
ومن الطرائف التي جرت على يدي الخليفة عبد الرحمن الناصر أن تاجراً زعم أن صرة له قد ضاعت وهي تحوي مائة دينار، وجعل لمن وجدها مكافأة مقدارها عشرة دنانير، فجاء بها رجل عليه سمة أهل الخير، فلما قبضها التاجر ادعى أنه كان بها مائة وعشرة دنانير وأن الرجل أخذ عشرة دنانير وهي المكافأة، وأبى أن يدفع الشرط، فرفع الأمر للخليفة فوقع على الكتاب "صدق التاجر والرجل الذي وجد المال، ولولا صدق
الرجل ما أتى بشيء مجهول، فاردد عليه المائة، وناد على مال التاجر فإنه مائة وعشرة
(1)
".
ويبدو أن الخليفة عبد الرحمن الناصر أخذ يهتم بالمظالم أكثر من ذي قبل، فعزم على تنظيمها وإقامة جهاز إداري خاص بها، فقد ذكر ابن حيان أنه في شهر ربيع الأول من سنة (325) هـ (يناير (937) م) أصدر الخليفة أمره بنقل "محمد بن قاسم بن طملس من خطة العرض إلى خطة المظالم، أفرد بها، وأجرى عليه الرزق لها، فكان أول من ارتزق بهذه الخطة، وصيرها الناصر لدين الله من هذا الوقت خطة بذاتها، وقد كان نظر في المظالم قبله جماعة أضيفت إليهم، منهم الوزير أحمد بن حدير، والوزير عبد الله بن جهور، فأفردت من هذا التاريخ، وجل قدرها وعظمت المنفعة بها
(2)
".
من ما مضى ندرك أن خطة المظالم لم تأخذ تنظيمها النهائي إلا في آخر الربع الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، فرغم أنها كانت موجودة في السابق إلا أنها لم تكن قائمة بذاتها بل كانت مضافة إلى غيرها من الخطط، ومنذ أن أفردت خطة المظالم لوحدها، لم تتم إضافتها إلى غيرها من الخطط طيلة تاريخ الدولة الأموية في الأندلس، باستثناء مرة واحدة وذلك عندما أضافها الخليفة عبد الرحمن الناصر لذي
(1)
- نفسه، 1/ 185 - 186.
(2)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 416.
الوزارتين أحمد بن عبد الملك بن شهيد مجموعة له مع الشرطة العليا بالإضافة إلى قيامه بأعباء الوزارة وذلك سنة (328) هـ (940 م)
(1)
.
والخليفة عبد الرحمن الناصر رجل إداري صاحب تجديدات وإضافات ملموسة ذات تأثير على الجهاز الإداري للدولة ككل. من ذلك أنه في سنة (344) هـ (955 م) قام بتوزيع المهام الإدارية بين وزرائه، منها انه كلف وزيره محمد بن حدير القيام بمهام النظر في مطالب الناس وحوائجهم وتنجيز التوقيعات لهم
(2)
.
وعندما تولى الحكم المستنصر الخلافة، كانت أول أعماله الاهتمام بإصلاح شأن رعيته، فأحسن إليها وحط وظائفها، وأمر بإطلاق سراح من في السجن من غير أهل الحدود، وتصدق من ماله الخاصة بمائة ألف دينار، وفدى الأسرى، وأدى عن أهل الديون ديونهم، وعدل في الرعية
(3)
.
وقد بلغ اهتمامه بالعدل أنه بعث في سنة (353) هـ (964 م) أمناءه إلى سائر الكور والثغور وذلك لتفقد أحوال الرعية ومتابعة سير عمالهم فيهم
(4)
، ورفع تقرير متكامل عن ذلك إليه لتتم محاسبة المسيء ومكافأة المنصف الحريص على تأدية الحق إلى مستحقه.
(1)
- المصدر السابق، ص 461 - 462.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 220.
(3)
- ذكر بلاد الأندلس، 1/ 170.
(4)
- المصدر السابق، 1/ 171.
ووتكرر إرساله لأمنائه، ففي سنة (355) هـ (966 م) بعث عدة من ثقاته وذلك لتفقد أحوال الرعية في سائر بلاد الأندلس، وقبل أن يغادروا قرطبة متجهين حيث أرسلوا، خاطبهم الخليفة قائلاً "إن لم تنصحوا فأنا المباشر لها بنفسي، فإني أنا المسئول عنهم، فما العذر بين يدي السائل
(1)
".
ويبدو أن الخليفة قد وقف على تجاوزات كبيرة لبعض العمال، ولذا ففي سنة (356) هـ، (967 م) أوقع الخليفة بأولئك المتجاوزين الظالمين للرعية ونكل بهم
(2)
، وكتب كتاباً بتعنيفهم قرئ على كافة منابر الأندلس، جاء فيه "أما بعد، فإن الله جل ثناؤه لا يظلم مثقال ذرة ولا يقوي الظالم، وهو الكفيل بنصرة المظلوم وقد أعد للظالمين عذاباً أليماً، وقد علمتم عنايتنا بالمسلمين وحفظهم حفيظتنا بالعباد، فأحفظتموها إلى العنف والاستبداد، وحماكم السخف المركب فيكم، ووصيتنا بالداني والقاصي والمطيع والعاصي ونبذتم بالعراء أمرنا، فلتراجع التوبة عما أنتم بسببه من الجور، وأثبتوا العدل {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (سورة الشعراء من الآية رقم (227)) والسلام
(3)
.
(1)
- نفسه، 1/ 172.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 239. وقد جاء في ذكر بلاد الأندلس، 1/ 172. أن الخليفة أوقع بأولئك العمال في سنة 355 هـ. ولكن الأقرب للصواب هو ماذهب إليه ابن عذري، وذلك لأن الوفد الذي شكل لتفقد أحوال الرعية غادر قرطبة في الربع الأخير من تلك السنة تقريباً فكيف يتم انجاز كل تلك المهام في مدة أربعة أشهر تقريباً؟
(3)
- ذكر بلاد الأندلس، 1/ 172.
وميزان العدالة لدى الخليفة الحكم المستنصر لا يعرف المحاباة لأحد دون أحد، حتى أقاربه لا يمكن استثناؤهم من الخضوع للحق، ولذا ففي يوم الاثنين صدر شهر شوال من سنة (362) هـ (يوليو (973) م) انتدب الخليفة الحكم الوزير صاحب المظالم عبد الرحمن بن موسى بن حدير للنظر في القضية المرفوعة من أهل اشبيلية ضد واليهم ابن الخال سعيد الذي يبدو أنه استغل منصبه فيما يعود عليه بالمنفعة المادية دون تجنب وقوع الحيف على أهل اشبيلية
(1)
.
من ما مضى ندرك أن خطة المظالم أو بالأحرى صاحب المظالم جُعل لتنفيذ الحقوق ضد أولئك الأقوياء سواء كانوا أقارب للأمراء والخلفاء أو من يلوذ بهم، وإنصاف المستضعفين من طغيانهم.
ويبدو أن قاضي الجماعة وبالذات في المدة الأخيرة من عهد الدولة الأموية لم يعد من القوة بحيث ينفذ الحق على من وقع عليه دونما اعتبار لمكانته، ولذا أصبح صاحب المظالم صاحب اليد الطولى في هذا المجال.
فعندما عجز قاضي الجماعة عبد الرحمن بن فطيس عن إنفاذ الحق ضد وصيف مقرَّب من الحاجب المنصور بن أبي عامر، استغاث صاحب الحق بالمنصور ضد وصيفه، فما كان من المنصور إلا أن أمر صاحب
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبدالرحمن الحجي، ص 86.
الشرطة بأخذ ذلك الوصيف وإيقافه مع خصمه عند صاحب المظالم لإنفاذ الحق في قضيتهما
(1)
.
وكان للفتنة أثرها على خطة المظالم، فأصبح يتصدى لها من ليس أهلاً لها، ويدعي حمل مسئوليتها من لا يقوى عليها، وقد وصف ابن حيان رجلاً من أصحاب المظالم الذين تسلطوا على الناس في الفتنة يدعى فزارة، فقال: "من رجل معدن من معادن الجهل والأفن والغباوة وحجة من حجج الله تعالى في الرزق، واستظهر بما رأى الناس فيه من شدة وطأة المجاعة بما شاء من وفور الزاد وكثرة الطعام ونفاسة البر وسعة الثروة، فاغتذى على فرط الزلزلة في المجاعة بكثرة القوت والطعام أرسى من ثهلان وثبير، بما يفوت التقدير وولي المظالم صدر اكتهاله أيام التخليط الواقع بمنبعث الفتنة: ومن المظالم أن وليت على المظالم يا فزاره
(2)
".
وممن تقلد المظالم زمن الفتنة المشاور أبو عبد الله الحسين بن حي بن عبد الملك التميمي، المتوفى يوم الخميس لثمان خلون من ذي العقدة سنة (401) هـ (14 يونيو (1011) م) وكان صدراً في المفتين بقرطبة وتولى خطة الوثائق في عهد الحاجب عبد الملك المظفر، كما تولى القضاء بعدة كور، ولكنه لم يلبث أن وقع في حب الدنيا، فاشترك في الفتنة، وكان أحد دعاة المهدي الذي ماأن تولى الخلافة حتى استوزره ثم ولاه المظالم
(3)
.
(1)
- البيان المغرب، 2/ 289.
(2)
- الذخيرة، ق 1 م 2، ص 598 - 599.
(3)
- ترتيب المدرك، 7/ 199 - 200.
وعندما تولى الخلافة على بن حمود، أخذ الناس بالإرهاب والسطوة، وأخضع البرابر للحق، فبعد أن كانت مطالبتهم من الأمور العسيرة، إن لم تكن مستحيلة، صار أقل الرعية يرفع دعواه ضد أعتاهم وهو مطمئن لنيل حقوقه كاملة، واهتم علي بن حمود بالمظالم، فجلس لها بنفسه، وجعل بابه مفتوحاً للوارد والصادر والكبير والصغير.
ويصف ابن حيان حال الناس بقرطبة في ظل اهتمام علي بن حمود بالمظالم، فبعد أن كان الناس منقبضين قد زهدوا الدنيا وزينتها من شدة وطأة الفتنة عليهم، "انتشروا في الأرض ذات الطول والعرض، وسلكت السبل، ورخا السعر، وأرقوا الأغذية وشاموا النساء، وطلبوا النسل، وكان أكثرهم يقول بالعزلة، واتخذوا الحلواء على طول عهد بها"
(1)
.
وقد باشر علي بن حمود المظالم، فجلس لها وكان يقيم الحدود بنفسه على من وقع عليه الحق دون مراعاة لمكانته، فقد ذكر ابن حيان أنه قُدِّم لعلي بن حمود مجموعة من كبار البربر ارتكبوا من الجرائم ما تجاوز حد النكال، فأمر بضرب أعناقهم وعشائرهم تنظر إليهم لا يستطيع أحد أن يدلي بشفاعته
(2)
.
كما أمر بقتل أحد البربر بسبب حمل عنب قال إنه أخذه كما يأخذ الناس، فضرب عنقه ورفع رأسه في الحمل وطيف به سائر البلد
(3)
.
(1)
- الذخيرة، ق 1 م 1 ص 97 - 98.
(2)
- المصدر السابق، ص 98.
(3)
- نفسه، ص 98.
وأما الخليفة الأموي الأخير المعتد بالله، فقد كان أول شيء فعله بعد دخوله قرطبة هو جلوسه للمظالم بنفسه
(1)
، ونظراً للضعف الذي اتصف به هذا الخليفة فقد عُدَّ جلوسه للمظالم بنفسه نادرة من النوادر، إذ أنه عاجز عن ضبط أي أمر من أمور الدولة، فكيف يمكن أن ينفذ الأحكام على من توجه إليه الحق.
هذا وقد حفظت لنا المصادر أسماء بعض من اشتغل بالمظالم، منهم:
أبو محمد عبد الله بن أصبغ، المعروف بابن الصناع، كان يتصرف في رفع كتب المظالم إلى أن توفي في شهر رجب سنة (373) هـ (ديسمبر (983) م)
(2)
.
أبو محمد موسى بن أحمد بن سعيد اليحصبي، المعروف بالوتد، تصرف في رفع كتب المظالم وأصحاب الحوائج للمنصور بن أبي عامر، ظل كذلك إلى أن توفي ليلة الخميس لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة (377) هـ (21 مايو (987) م)
(3)
.
أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس المتوفى سنة (402) هـ (1011 م) من علماء قرطبة المعدودين، وأبرزهم في جمع
(1)
- نفسه، ق 3 م 1 ص 517.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 728.
(3)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1466. ترتيب المدارك، 7/ 158.
الحديث وتدوينه، اشتهر بالزهد والفقه والصلابة، فقلد المظالم والأحكام للمنصور بن أبي عامر ومن بعده، فقام بها أحسن قيام
(1)
.
أبو حاتم محمد بن عبد الله بن ذكوان كان طلق اللسان، حسن الطبع، ولاه الحاجب عبد الملك المظفر خطة المظالم، فحُمدت سيرته فيها، توفي في منتصف شهر رمضان سنة (414) هـ (نوفمبر (1023) م)
(2)
.
(1)
- ترتيب المدارك، 7/ 181.
(2)
- نفسه، 7/ 175 - 176.
خطة الشورى
عندما تحدث ابن خلدون عن الخطط الدينية الشرعية، ذكر خطة الشورى تحت مسمى: الفتيا. فقال: "اعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة
(1)
".
وبما أن كلمة مفتي تعني كلمة مشاور، فلا حرج علينا هنا من استخدام أي اللفظين لأنهما يؤديان نفس المعنى.
ومن تولى مهمة الإفتاء فقد تصدر لأمر جسيم، لأن المفتي يوضح ماغَمُض على العامة من أمور دينهم ويدلهم على المسلك القويم الذي في انتهاجه الفلاح والنجاح.
ويكفي للدلالة على عظم منصب الإفتاء أن الباري جل وعلا قد تولاه بنفسه، فقد قال تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}
(2)
.
كما أن متوليه نائب عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في رواية العلم الشرعي الذي تركه المصطفى عليه الصلاة والسلام فيبلغه للناس وينشره بينهم، فقد روى البخاري ومسلم بسنديهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بينا أنا نائم إذ أتيت بقدح لبن، فشربت منه حتى لأرى
(1)
- مقدمة ابن خلدون، ص 625.
(2)
- سورة النساء، من الآية رقم 127.
الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلى عمر بن الخطاب"، فقالوا: فما أولتها يا رسول الله؟ قال: "العلم"
(1)
.
من هنا تتضح عظم منزلة المفتي فهو مخبر عن الله تعالى، ونائب عن النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الأحكام الشرعية، وعليه فإن علم الفتوى "علم تروى فيه الأحكام الصادرة عن الفقهاء في الوثائق الجزئية ليسهل الأمر على القاصرين من بعدهم
(2)
".
وبما أن الأمر متعلق بالأحكام، إذاً ربما تساءل البعض عن الفرق بين المفتي والقاضي؟ وقد أجاب ابن فرحون عن هذا، فذكر أنه لا فرق بينهما سوى أن المفتي مخبر بحكم شرعي ولكنه لا يملك صفة الإلزام، بعكس القاضي الذي تكون أحكامه ملزمة
(3)
.
والملاحظ أن كل مجتمع من المجتمعات، وفي أي عصر من العصور، يسير وفق أنظمة محددة دينية أو اقتصادية ونحوها. وفي كل مجتمع تبرز ظواهر ذات أثر ملموس على سلوك أفراد المجتمع وتوجيه طاقاتهم.
والواجب على من اختص بتتبع الظواهر الاجتماعية محاولة توظيف الإيجابي منها لصالح المجتمع والعمل على الحد إن لم يمكن إزالة السلبي منها.
(1)
- محمد حبيب الله بن سيدي عبد الله الجكني الشنقيطي، زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم، (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، 1359 هـ) 1/ 101.
(2)
- مفتاح السعادة، 2/ 601.
(3)
- تبصرة الحكام، 1/ 74.
وبما أن المجال الذي نتحدث فيه هو عن الفتوى أو الإفتاء، فإن من الظواهر الملموسة جهل الكثير من أبناء الأمة الإسلامية بالكثير من أمور دينهم، وهنا يأتي دور المفتي في الإجابة على أسئلة الذين يعانون من نقص في معلوماتهم الشرعية.
والمستفتي يسير في معالجة هذا النقص وفق الإرشاد الذي يقدمه له المفتي، من هنا تتضح عظم المهمة الملقاة على عاتق المفتي تجاه أمته، ولذا فإن من عُرف بالتساهل والتسرع لا يجوز أن يستفتى، لأنه في هذه الحالة عرضة لأن يَضل أو يُضل، بل إن المفتي الذي يتعمد إفتاء العامة بالتشديد والخاص من ولاة الأمور بالتخفيف وذلك في المسائل التي فيها أكثر من قول، هو رجل قد فرغ قلبه من تعظيم الله تعالى، وانصرف بكليته إلى الدنيا وحب الرئاسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق
(1)
. وما أشبه هذا بالمفتي الماجن "الذي لا يبالي أن يُحرم حلالاً أو بالعكس"
(2)
وبمقابل هذا فإن الفتيا لا تجوز إلا بما يرويه العدل عن المجتهد الذي يقلده المفتي
(3)
.
ثقافة المفتي:
اهتم الأندلسيون بشدة في المفتي أو المشاور، حتى أن بني أمية كانوا لا يقدمون لهذا المنصب إلا من كان عالماً، ولا يكتفى بذلك، بل لابد من
(1)
- المصدر السابق، 1/ 74.
(2)
- كشاف اصطلاحات الفنون، 3/ 1156 - 1157.
(3)
- تبصرة الحكام، 1/ 77.
اختباره بواسطة مجالس مذاكرة متعددة تعقد لذلك
(1)
، وعلى هذا فلابد أن يكون المتقدم لهذا المنصب صاحب ثقافة دينية قوية، تمكنه من اجتياز تلك المجالس، والحد الأدنى من هذه المعرفة الفقهية هي أن يكون قد نظر في المدونة والموطأ والمختصر، أو بقول لابن القاسم أو لأحد من نظرائه أو لسحنون أو لابن المواز أو لأصبغ أو لابن عبد وس أو أمثالهم
(2)
.
وإلى جانب هذه الكتب والأقوال؛ هناك مصادر أخرى على من أراد أن يكون راسخ القدم في الإفتاء إتقان تلك المصادر، من ذلك ما ذكره ابن بشكوال عند ترجمته لأبي القاسم خلف مولى يوسف بن بهلول الشهير بالبربلي، المتوفى سنة (443) هـ (1051 م) أن أبا الوليد هشام بن أحمد كان يقول: "من أراد أن يكون فقيهاً من ليلته فعليه بكتاب البربلي
(3)
". ومن أضاف كتاب الأحكام الكبرى للقاضي ابن سهل ومنتخب ابن أبي زمنين وغيرهما من كتب الأحكام إلى الكتب التي سبق ذكرها بالإضافة إلى المداومة على دراسة الأصول، فإنه على حد قول ابن سهل، يحرز علم الأحكام على وجهه، ويدرك معرفة الأقضية على حقائقها، ويتعرف على المسلك الذي سار عليه شيوخ الفتيا في هذا المجال
(4)
.
(1)
- نفح الطيب، 3/ 214.
(2)
- تبصرة الحكام، 1/ 75.
(3)
- الصلة، ترجمة رقم 383.
(4)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 232.
ولكن مهما بلغت ثقافة المفتي الدينية، وتبحره في المسائل، فإنه لا يستغني أبداً عن الدربة التي تمكنه من فهم ما يلقى إليه من أسئلة، وقد اعترف كبار أهل الفتيا بالأندلس أنهم في مجالسهم الأولى عانوا بشدة من قلة الدربة، وفي هذا يقول ابن سهل:"وكثيرا ما سمعت شيخنا أبا عبد الله بن عتاب رضي الله عنه يقول: "الفتيا صنعة"، وقد قاله قبله أبو صالح أيوب بن سليمان بن صالح رحمه الله، قال: "الفتيا دربة، وحضور الشورى في مجالس الحكام منفعة وتجربة، وقد ابتليت بالفتيا فما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني فيه سليمان بن أسود، وأنا أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن والتجربة أصل في كل فن ومعنى مفتقر إليه
(1)
".
وهناك شروط لابد من توافرها في من سيتم اختياره للفتيا، وهي نفس الشروط الواجب توفرها فيمن يلي القضاء، إلا أن سلامة الحواس أمر يمكن تجاوزه عند اختيار المفتي.
ولدينا نماذج متعددة لفقهاء تولوا الفتيا بالأندلس لم يكونوا سليمي الحواس بصورة مكتملة من هؤلاء: -
الفقيه القرطبي محمد بن يوسف بن مطروح، المتوفى يوم عاشوراء سنة (271) هـ (يوليو (884) م) كانت الفتيا دائرة عليه أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن رغم أنه كان أعرجاً
(2)
.
(1)
- المعيار المعرب، 10/ 79.
(2)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 131. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1113.
الفقيه أحمد بن محمد بن زكرياء، الشهير بالرصافي، قرطبي مفتي، كان مكفوفاً، يجتمع حوله أهل الحسبة. توفي في شهر صفر (362) هـ (نوفمبر (972) م)
(1)
.
الفقيه سعيد بن حمدون بن محمد القيسي، المتوفى يوم الخميس لأربع بقين من ذي القعدة سنة (378) هـ (مارس (989) م) فقد كان أعور
(2)
العين اليمنى، ولذا فقد كانت العامة تسميه: دجال الفقهاء
(3)
.
سن المفتي:
ورد لدى القاضي عياض أن الفقيه العدل القرطبي محمد بن محمد بن أبي دليم، المتوفى ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة من شهر رمضان سنة (372) هـ (مارس (983) م) "كان لا يرى أن يسمى طالب العلم فقيهاً حتى يكتهل ويكمل سنه
(4)
".
من هذا النص يتضح لنا أن هناك سناً قانونية لابد من بلوغها لمن أراد أن يتخذ لقب فقيه، والمفتي بطبيعة الحال لابد أن يكون فقيهاً، وعليه فكأن المسألة فيها تحديد عمر المفتي، لكن هذه القاعدة لم تطبق دوماً في الأندلس، إذ وجد من قُدِّم للفتيا وهو دون سن الكهولة بكثير.
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 162.
(2)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 525.
(3)
- ترتيب المدارك، 7/ 12.
(4)
- المصدر السابق، 6/ 151.
فالفقيه أحمد بن بقي بن مخلد قدمه الأمير عبد الله بن محمد للشورى وهو ابن خمس وعشرين سنة، وذلك لأنه "كان في حداثة سنه معظماً، موسوماً بالخير، معروفاً بالفضل، ظاهر السؤدد
(1)
".
وكان الفقيه عبد الملك بن العاص بن محمد بن بكر السعدي، المتوفى يوم السبت لثمان بقين من شهر المحرم (330) هـ (أكتوبر (941) م) قد ظهر فقهه مبكراً، ولذا نرى قاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز يقدمه للشورى حتى قبل أن يرحل للمشرق
(2)
.
وكان قاضي الجماعة أحمد بن بقي بن مخلد يشاور الفقيه محمد بن عبد الله بن أبي عيسى المتوفى سنة (339) هـ (أغسطس (950) م) مع سائر الفقهاء وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره
(3)
.
ولم يقف الأمر عند تقديم من بلغ سن الثلاثين من عمره للشورى، فقد قُدِّم لها من هو دون ذلك بكثير، فالفقيه ابن الباجي أحمد بن عبد الله بن محمد اللخمي، المتوفى ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر
(1)
- قضاة قرطبة، ص 112.
(2)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 330. ابن الفرضي، ترجمة رقم 820. ترتيب المدارك، 6/ 145.
(3)
- ولد ابن أبي عيسى سنة 284 هـ، ورحل إلى المشرق سنة 312 هـ، وعاد سنة 314 هـ، انظر: قضاة قرطبة، ص 119 - 120.
المحرم سنة (396) هـ (أكتوبر (1000) م) شاوره قاضي اشبيلية ابن أبي الفوارس وهو ابن ثماني عشرة سنة فقط
(1)
.
وبصفة عامة فإن مسألة تقديم الشباب للشورى هي مسألة استثنائية يحكمها في الغالب النبوغ الفقهي المبكر لذلك الشاب، أما في الأحوال العادية فلا يقدم لها إلا من اكتهل سنه كما ذكر ذلك الفقيه ابن أبي دليم
(2)
.
معايير التقديم للفتيا "الشورى":
إذا اشتهر أمر أحد طلاب العلم بسعة المعرفة ورسوخ القدم في الفقه، لاشك أنه سيقدم لمرتبة الإفتاء لكفاءته.
لكن يحدث أحياناً أن يُقَّدم أحدهم للشورى ويُستدعى من موطنه إلى قرطبة لتوليها نتيجة لعداوة تنشب بين فقهاء قرطبة، فقد وصل الفقيه عبد الملك بن حبيب إلى خطة الشورى بقرطبة بعد أن طلب قاضي الجماعة يحيى بن معمر من الأمير عبد الرحمن الأوسط استدعاءه من إلبيرة، وذلك ناتج عن تلك العداوة المستحكمة بين القاضي وبقية فقهاء قرطبة
(3)
.
كما أن الفقيه عبد الأعلى بن وهب بن عبد الأعلى، المتوفى سنة (261) هـ (875 م) وصل إلى خطة الشورى بعد أن "شهد يحيى بن يحيى
(1)
- الصلة، ترجمة رقم 15.
(2)
- تاريخ القضاة في الأندلس، ص 337.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 50.
وسعيد بن حسان وقاضي الجماعة آنذاك وبعض الفقهاء عند الأمير عبد الرحمن الأوسط بأنه يستحق التقديم لخطة الشورى، فأمر بتقديمه
(1)
.
ووصل الفقيهان "أبو عمر أحمد بن عبد الملك المعروف بابن المكوي وأبو بكر محمد بن عبد الله المعيطي إلى خطة الشورى بعد أن تمكنا من جميع أقوال الإمام مالك بن أنس رحمه الله من كافة الروايات بمائة جزء وأسمياه "الاستيعاب الكبير" وبعد أن تصفحه الخليفة الحكم المستنصر "سُرَّ به ووصل كل واحد منهما بألف دينار، ومنديل كتب وقدمهما للشورى
(2)
".
لباس المفتي:
جرت العادة في الأندلس على أن لا يقدم للفتوى إلا من توفرت فيه شروط سبق معرفتها فإذا اتفقت الكلمة على تقديم أحدهم لهذا المنصب، جعلوا له لباساً خاصاً يكون دلالة على المرتبة التي وصلها، واللباس الذي يختص به هو "القالس والرداء
(3)
" إذ لا يضع القالس عندهم إلا من حفظ المدونة وحفظ عشرة آلاف حديث بأسانيدها عن النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 333. ابن الفرضي، ترجمة رقم 837.
(2)
- ترتيب المدارك، 7/ 121 - 122.
(3)
- نفح الطيب، 3/ 216.
(4)
- ذكر بلاد الأندلس، 1/ 34.
وقد كان عدد الذين يلبسون القالس والرداء في الأندلس كثيراً، ومن كان منهم سكنه بالقرب من قرطبة حضر للصلاة يوم الجمعة في قرطبة ثم يسلم على الأمير أو الخليفة ويطالعه بأخبار بلده
(1)
، وكان يشهد صلاة الجمعة بجامع الزهراء مع الخليفة عبد الرحمن الناصر من العلماء والفقهاء ثلاثة آلاف وخمسمائة مقلس
(2)
.
وعلى المفتي أن يهتم بهيئته، وذلك فيما يتعلق بجمال المظهر وحسن الزي وفق الوضع الشرعي، لأن في الحرص على ذلك وقع ملموس على نفس المقابل، إذ الخلق مجبولون على تعظيم الصور الظاهرة، واهتمام المفتي بهيئته تجعل له مكانة في قلوب العامة، الأمر الذي يجعل هناك مجالاً واسعاً للإقتداء به.
ويكفي للدلالة على أهمية المظهر أن الذي لديه رغبة أكيدة في التعلم عليه أن يهتم بمظهره، وهذا ما نصح به الفقيه الأندلسي زياد بن عبد الرحمن الفقيه يحيى بن يحيى الليثي في بداية طلبه العلم عند زياد، فقد قال له "يابني إن كنت عازماً على التعلم، فخذ من شعرك وأصلح زيك
(3)
".
ثم لابد أن يلتزم بمظهر الاحتشام والأدب، ويتصف بالسكينة والوقار لأن ذلك مدعاة لأن يرغب المستمع في قبول ما يقوله وينصح به.
(1)
- المصدر السابق، 1/ 34.
(2)
- نفسه، 1/ 166.
(3)
- ترتيب المدارك، 3/ 380.
وعندما سئل الفقيه يحيى بن يحيى الليثي عن عدم انبساطه أمام الناس في المحافل العامة كانبساطه في مجالسه الخاصة، قال: "لو فعلت ذلك لتلوعب بين يدي، وأنا أحب أن يقتدى بي كما اقتديت أنا بغيري
(1)
".
موارد دخل المفتي:
إن ارتفاع المستوى المادي نوعاً ما للمفتي أمر محبب وذلك خشية أن يميل به الفقر إلى الطمع فيما في أيدي الناس فيبيع به حقوق الدين
(2)
.
وقد أورد المقري قصة الأمير الحكم الربضي عندما أراد تقديم أحد الفقهاء للإفتاء، فقد جمع كبار أهل الفيتا أمثال يحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب وغيرهما، وعندما طرح الأمير رغبته عليهم، أجابوه بأنه أهل لذلك إلا أنه فقير لا مال له، وهو في هذه الحالة على خطر عظيم، لأنه سوف يتعرض للمواريث والوصايا وما شابههما واضطر الحكم الربضي أمام صلابة موقف الفقهاء بالإضافة إلى رأي ابنه الأمير عبد الرحمن إلى إعطاء ذلك الفقيه الذي يريد ترشيحه للإفتاء من المال ما أغناه به وأهلَّه لتلك المنزلة، وأعطاه من اصطبله الخاص مركوباً، فكانت هذه الأعطية مكرمة لا خفاء فيها
(3)
.
(1)
- المصدر السابق، 3/ 390.
(2)
- نفح الطيب 3/ 214 هذا ليس على إطلاقه، ولكن للاحتياط فالأولى أن يكون من أهل الثراء لكي لا يلتفت للأموال التي ستجري على يديه، كما أنه لا يمكن إغراؤه بها، وإن كان أمر مخافة الله تعالى ليس له علاقة بالغنى أو الفقر.
(3)
- المصدر السابق، 3/ 214 - 216.
وإذا أتينا للتطبيق الفعلي على أهل الفتيا بالأندلس لنرى أحوالهم المادية، سنجدهم من الموسرين بصفة عامة، فالفقيه العدل محمد بن عيسى بن عبد الواحد المعافري المعروف بالأعشى، المتوفى سنة (222) هـ (837 م) كان من الميسورين حتى أنه عندما غلت الأسعار بقرطبة أمر بتفريق مخازن أطعمته على الناس بطريقة جعلت الكل فيها يأخذ حتى الشريف المحتاج والمتعفف المستور ومن لا ينكشف لأخذ الصدقة
(1)
.
وكان شيخ الفقهاء يحيى بن يحيى الليثي يلبس ملابس غالية الثمن كلها من الوشي الرفيع وذلك في الأعياد والمناسبات الرسمية أو عندما يريد الدخول على الأمراء
(2)
. كما كان نعل زوجته مرصعاً بالدر والياقوت الأمر الذي عرضه لانتقاد بعض زملائه من الفقهاء
(3)
.
وكان الفقيه المشاور عبد الملك بن حبيب المتوفى سنة (238) هـ (853 م) قد حبَّس أملاكه بالبيرة على المسجد الجامع بقرطبة
(4)
، وكان أبوه حبيب يعمل عطاراً، ولذا فقد ذكر أن ابنه عبد الملك كان يعصر الأذهان ويستخرجها
(5)
.
(1)
- ترتيب المدارك، 4/ 115 - 116.
(2)
- المصدر السابق، 3/ 391.
(3)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 371.
(4)
- الإحاطة، 3/ 549.
(5)
- ترتيب المدارك، 4/ 122.
وأما الفقيه عبد الأعلى بن وهب فقد كان موسراً، إذ كانت له جنة بالقرب من مقبرة قريش يعمل بها مع بعض تلاميذه والكل يشاركه في طعامه
(1)
.
وقد بلغ ثراء الفقيه المشاور أبو زيد عبد الرحمن بن سعيد التميمي الشهير بالجزيري المتوفى في شهر شعبان (275) هـ (ديسمبر (888) م) درجة كبيرة، حتى أن الوصفاء كانوا يقفون على رأسه فقد كان متشبهاً بأمراء بني أمية ورجالهم من حجاب ووزراء مخالطاً لهم، حتى كانوا يأتونه ويأتيهم
(2)
.
وأما الفقيه المشاور عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي المتوفى يوم الاثنين لعشر خلون من رمضان سنة (298) هـ (13 مايو (911) م) فقد كان كريماً عظيم المال والجاه، وبجوده تضرب الأمثال حتى قال فيه أحدهم:
وإنك غيث آخر الدهر هامع
…
كما أنت بدر آخر الليل طالع
وقد سرني أن فزت بالحمد والعلا
…
وأنك للدنيا وللدين جامع
(3)
(1)
- المصدر السابق، 4/ 248.
(2)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 316. ترتيب المدارك، 4/ 263.
(3)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 310. ترتيب المدارك، 4/ 421 - 423.
وكان الفقيه المشاور محمد بن إبراهيم بن عيسى الكتاني الشهير بابن حيوه، المتوفى سنة (328) هـ (940 م) عظيم الوجاهة، مشبهاً بأهل الدنيا، خارجاً من طبقة أهل العلم
(1)
.
وأما الفقيه عبد الله بن محمد بن موسى، المتوفى بحاضرة استجة يوم الأربعاء للنصف من جمادى الأولى سنة (379) هـ (23 أغسطس (989) م) فقد كان صدرا فيمن يستفتى ببلده استجة، ويصفه ابن الفرضي بقوله أنه "كان عظيم الجاه والحرمة، كريم النفس، سرياً متصرفاً في أمور الناس، مداخلاً للسلطان
(2)
".
والفقيه المشاور أبو بكر عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي، والد الوزير ابن زيدون، توفي بالبيرة في توجهه إليها لتفقد ضيعته، وذلك لست خلون من ربيع الآخر سنة (405) هـ (أكتوبر (1014) م)
(3)
.
وكان الفقيه أبو بكر بن زهر الإيادي من أهل اشبيلية، توفي بطلبيرة سنة (422) هـ (1031 م) وكان يمتلك باشبيلية الأموال الكثيرة والضياع
(4)
.
(1)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 204. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1221 إلا إنه ذكر أنه اشتهر بابن جُيوية.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 745.
(3)
- ابن الأبار، التكملة، (طبعة الحسيني)، ترجمة رقم 1941.
(4)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 373.
مما سبق نلاحظ أن جل أولئك الفقهاء الذين تصدروا للإفتاء والمشاورة كانوا من المستورين إن لم يكونوا من المياسير. لكن هذه الصورة لا يمكن أن تشمل الكل فقد وجد بين أهل الإفتاء من كان أقرب إلى الفقر منه إلى الغنى، فالفقيه أصبغ بن خليل، المتوفى سنة (273) هـ (886 م) كان يلي رئاسة الإفتاء بالأندلس مدة خمسين عاماً
(1)
. ومع ذلك فقد كان فقيراً لم يكتسب شيئاً، حتى أن أبا عمر ابن عبد البر يذكر أن تركة أصبغ عند وفاته بلغت مائة دينار فقط
(2)
.
ونظراً لأهمية منصب المفتي في الأندلس، فلنا أن نتوقع أن لا يتصدر أحد للإفتاء إلا من بعد صدور ظهير رسمي من قبل الأمير أو الخليفة، ولعل من الأدلة المؤيدة لهذا ما جرى في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط عندما قام قاضي الجماعة آنذاك بمشاورة الفقيه عبد الأعلى بن وهب دون إذن مسبق من الأمير الذي ما إن علم بالأمر حتى عنَّف قاضي الجماعة وأغلظ له، كما لحقت الفقيه ابن وهب غضاضة
(3)
.
ومن الملاحظ أن منصب الإفتاء -الشورى- يمكن أن يكون متوارثاً، حاله في ذلك حال بقية المناصب في دولة بني أمية بالأندلس، فالفقيه المشاور يحيى بن يحيى الليثي ترك ولدين هما: إسحاق المتوفى سنة 261 هـ (875 م) وعبيد الله المتوفى سنة 298 هـ (911 م)، وكلاهما
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 247.
(2)
- تبصرة الحكام، 1/ 70.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 837. ترتيب المدارك، 4/ 246 - 247.
تولى الإفتاء بقرطبة، بل إن عبيد الله كان منفرداً برئاستها
(1)
، كما أن أحمد بن حكم بن محمد العاملي تولى الشورى بقرطبة بعد وفاة أخيه يحيى في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر
(2)
.
رئاسة الإفتاء بقرطبة:
يحتل فقهاء قرطبة المالكيون مكانة رفيعة لدى أهل المغرب والأندلس، حتى أنه إذا وقعت مسألة فقهية في إحدى النواحي، وأفتى فيها فقهاء تلك الناحية، ربما أصرَّ صاحب المسألة على ضرورة الوقوف على رأي فقهاء الحضرة بقرطبة.
وقد ذكر القاضي عياض قصة حادثة وقعت بمدينة سبتة في أواخر القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) أفتى فقهاء سبتة بفتوى لم يقتنع بها صاحب الدعوى، فطلب من القاضي أن يرسل بتفاصيل المسألة إلى فقهاء قرطبة، فأتتهم الفتوى من الفقيه ابن المكوي بخلاف رأي فقهاء سبتة الذين تلقوه بالقبول
(3)
.
ولا يصل لرئاسة فقهاء الفتيا بقرطبة إلا من كان متميزاً عن أقرانه من معاصريه بمزايا علمية تؤهله لذلك المنصب، ويلاحظ أحياناً اشتراك أكثر من فقيه بالرئاسة، ومن خلال تتبع تراجم فقهاء الأندلس حاولت أن أخرج بترتيب زمني لرئاسة الفتيا بقرطبة وهم:
(1)
- المصدر السابق، 4/ 421 - 424.
(2)
- الصلة، ترجمة رقم 25.
(3)
- ترتيب المدارك، 7/ 130 - 131.
الفقيه قاضي الجماعة معاوية بن صالح، المتوفى سنة (168) هـ (785 م) هو رأس أهل الإفتاء في الأندلس طيلة ستة وعشرين عاماً، وذلك على عهد الأمير عبد الرحمن الداخل، فهو "إمام فقيه
(1)
" وكان من طبقة الإمام مالك بن أنس رحمه الله بل إنه شاركه في بعض رجاله
(2)
" وكان ممن يستغني بعقله وعلمه وفهمه عن مشاورة غيره
(3)
".
الفقيه عامر بن أبي جعفر المتوفى في أيام الأمير هشام الرضا، كانت الفتيا بقرطبة تدور عليه مع من عاصره من شيوخ الفتيا بقرطبة
(4)
.
الفقيه أبو عبد الله صعصعة بن سلام الشامي، توفي سنة (192) هـ (827 م) كانت الفتيا دائرة عليه في الأندلس
(5)
.
الفقيه أبو عبد الله عيسى بن دينار بن واقد الغافقي، المتوفى سنة (212) هـ (872 م) كان أفقه من يحيى بن يحيى الليثي، وفي زمانه كانت الفتيا دائرة عليه، وذلك طيلة أيام الأمير الحكم الربضي ومطلع أيام الأمير عبد الرحمن الأوسط
(6)
.
(1)
- تذكرة الحفاظ، م 1 ج 1 س 176.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 15.
(3)
- النباهي، ص 43.
(4)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 370. ابن الفرضي، ترجمة رقم 628.
(5)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 610.
(6)
- نفسه، ترجمة رقم 975.
الفقيه أبو محمد يحيى بن يحيى الليثي، المتوفى سنة (234) هـ (848 م) رحل إلى المشرق وعمره ثمان وعشرون سنة، وبعد عودته إلى الأندلس عادت فتيا الأندلس بعد عيسى بن دينار إلى رأيه
(1)
ورغم مكانة الفقيهين عيسى بن دينار ويحيى بن يحيى إلا أنهما كانا يمتنعان عن الإفتاء إذا قدم إلى قرطبة أبو موسى عبد الرحمن بن موسى الهواري حتى يرحل عنها
(2)
. وذلك إجلالاً لقدره واعترافاً بسعة علمه وفضله.
ورغم هذه المكانة السامية للهواري إلا أنه لم يتولى رئاسة أهل الإفتاء، ولعل السبب في هذا يعود إلى عوامل منها أنه ربما لم يكن أسن نظرائه، إذ أن عامل السن مهم في هذا الأمر، كذلك لم يكن من سكان قرطبة إذ كان يقيم ببلدة استجة، إضافة إلى أن للعلاقة التي بينه وبين إمارة قرطبة أثر في هذه المسألة.
الفقيه أبو مروان عبد الملك بن حبيب، اشتهر بالعلم والرواية في بلده البيرة، وسمع الأمير عبد الرحمن الأوسط به وبفضله، فأمر بنقله إلى قرطبة، فتولى فيها زعامة الإفتاء مع الشيخ الفقيه يحيى ابن يحيى، وبعد وفاته سنة (234) هـ (848 م) انفرد ابن حبيب برئاسة الفتيا من بعده إلى أن أدركته الوفاة في أوائل أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن سنة (238) هـ
(3)
.
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 1556.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 778.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 816. ترتيب المدارك، 4/ 122 - 141.
وفي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن كانت الفتيا في الأندلس دائرة على ثلاثة من فقهاء قرطبة هم: عبد الأعلى بن وهب
(1)
، ومحمد بن يوسف بن مطروح
(2)
، وأصبغ بن خليل
(3)
، ومن بعد هؤلاء الثلاثة برزت شخصية الفقيه أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد، المتوفى ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة (276) هـ (29 أكتوبر (889) م) فقد بلغ رتبة الإمامة والاجتهاد وجمع فتاوى الصحابة والتابعين، وكثيراً ما كان الأمير عبد الله بن محمد يستشيره
(4)
.
وطيلة عهد الأمير عبد الله بن محمد كانت الفتيا دائرة على أبي مروان عبيد الله بن يحيى الليثي المتوفى يوم الاثنين لعشر خلون من شهر رمضان سنة (298) هـ (13 مايو (911) م) فقد كان مقدماً في الفتيا، منفرداً برئاستها غير مدافع
(5)
.
وخلال السنتين الأخيرتين من عهد الأمير عبد الله بن محمد والأربعة عشر عاماً الأولى من عهد الأمير عبد الرحمن بن محمد كانت رئاسة الفتيا
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 837.
(2)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1113.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 247.
(4)
- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 63.
(5)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 764.
بالأندلس للفقيه أبي عبد الله محمد بن عمر بن لبابه، المتوفى ليلة الاثنين لأربع بقين من شعبان سنة (314) هـ (نوفمبر (926) م)
(1)
.
والفقيه أبو بكر أحمد بن عبد الله بن أحمد الأموي، المعروف باللؤلؤي المتوفى يوم الأربعاء لثلاث ليال خلون من جمادى الأولى سنة (348) هـ (13 يوليو (959) م) كان إماماً في حفظ الرأي على مذهب الإمام مالك، ولذا فقد كان مقدماً في الفتيا على أصحابه واستمر على منصبه قرابة ثلاثة عقود
(2)
وانتهت رئاسة الإفتاء في عهد الخليفة الحكم المستنصر إلى عبيد الله بن الوليد، المعروف بالمعيطي، المتوفى في شهر محرم سنة (378) هـ (988 م) فقد كان عالماً بصيراً في المسائل والشروط، ومشاوراً في الأحكام
(3)
.
ومن أواخر عهد الخليفة الحكم المستنصر إلى مطلع القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، كانت رئاسة الإفتاء لأبي عمر أحمد بن عبد الملك المعروف بابن المكوي، فقد كان شيخ فقهاء الأندلس في وقته
(4)
، مقدماً على جميع من إليه الفتوى بقرطبة إذ انتهت إليه الرئاسة في ذلك
(5)
، قلده الخليفة الحكم المستنصر الإفتاء برأي قاضي الجماعة ابن
(1)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1189.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 124.
(3)
- ترتيب المدارك، 6/ 290.
(4)
- المصدر السابق، 7/ 123.
(5)
- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 231.
السليم سنة (365) هـ (976 م)
(1)
ودارت الفتيا بالأندلس على ابن المكوي إلى وفاته في جمادى الأولى سنة (401) هـ (ديسمبر (1010) م)
(2)
.
وبعد الفقيه ابن المكوى، آلت رئاسة الإفتاء للفقيه عبد الله بن سعيد بن عبد الله الأموي، الشهير بابن الشقاق، المتوفى يوم الثلاثاء الثامن عشر من شهر رمضان سنة (426) هـ
(3)
(1035 م) فقد كان أخر العلماء الأندلسيين النحارير المبرزين في الفقه والحفظ والحذق بالفتوى والشروط
(4)
.
وقد كان مشيخة الإفتاء يجتمعون عند قاضي الجماعة في المسجد الجامع أو أحد المساجد الصغيرة وهذه الجلسات لا يحضرها سواهم، يقول الفقيه ابن عتاب: كنا نجتمع مع شيوخ الإفتاء عند قاضي الجماعة ابن بشر، فتطرح مسألة يختلف فيها القاضي مع الشيوخ، فيحاجهم ويناظرهم ويستظهر عليهم بالروايات والكتب حتى ينصرفوا وهو يقولون بقوله
(5)
.
(1)
- ترتيب المدارك، 7/ 124.
(2)
- المصدر السابق، 7/ 127.
(3)
- الصلة، ترجمة رقم 587.
(4)
- ترتيب المدارك، 7/ 295.
(5)
- الصلة، ترجمة رقم 698.
وقد حذر ابن عبد ون من أن المشاور لا يشاور في داره أبداً، إذ أن ذلك مدعاة إلى أكل أموال الناس بالباطل، فضلاً عن أن مقابلته في داره ليس أمراً متيسراً دائماً
(1)
.
والفتيا في الأندلس كانت دائرة في عصر الولاة على رأي السلف الذي وصل إلى هناك بواسطة التابعين ومن أتى بعدهم رحمهم الله تعالى
(2)
، ثم أصبحت الفتيا قائمة على مذهب الإمام الأوزاعي المتوفى سنة (157) هـ (774 م) وذلك عندما عرف الأندلسيون ذلك المذهب في السنوات الأولى من عهد الأمير عبد الرحمن الداخل على يدي الفقيه أسد بن عبد الرحمن السبئي
(3)
وعند مطلع القرن الثالث الهجري أخذ المذهب
(1)
- ابن عبدون، رسالة في القضاة والحسبة، ص 9.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 391، 816 الحميدي، جذوة المقتبس ص 6. وترجمة رقم 444. نفح الطيب، 1/ 278 - 288، 3/ 12. د. محمود مكي، رواد الثقافة الدينية الأولى بالأندلس، (مجلة البينة، الرباط، المغرب ج 6، 7، جمادي الثانية 1382 هـ /1962 م) ص 51.
(3)
- ورد في ترتيب المدارك 1/ 26، ونفح الطيب 3/ 230، أن أهل الأندلس كانوا على مذهب الأوزاعي منذ الفتح، ولكن إذا عرفنا أن الإمام الأوزاعي قد ولد سنة 88 هـ وفتح الأندلس ثم سنة 92 هـ أدركنا عدم صحة ما ذهب إليه القاضي عياض والمقري. ويمكن القول بأن الفقيه الأندلسي أسد بن عبد الرحمن السبئي (كان حياً بعد 150 هـ) هو أول من أدخل مذهب الأوزاعي للأندلس، فقد سبق جميع الأندلسيين في الأخذ عن الأوزاعي. انظر: الخشني، أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 53. ابن الفرضي، ترجمة رقم 239.
المالكي يحل بقوة محل مذهب الأوزاعي، واختص الأندلسيون بآراء عبد الرحمن بن القاسم المتوفى سنة (191) هـ (806 م)
(1)
من بين أراء تلاميذ الإمام مالك حتى أنه أطلق على المغاربة عامة والأندلسيين خاصة أنهم "مالكية قاسميون
(2)
" فقضاة الأندلس يعتبرون ابن القاسم مرجعهم الأول، حتى أن يحيى بن معمر الألهاني قاضي الجماعة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، رفض أن يحكم في إحدى القضايا برأي أشهب بن عبد العزيز، المتوفى سنة (204) هـ (819 م) رغم أنه تلميذه، وعدل عنه إلى رأي ابن القاسم محتجاً بأن هذا ما وجد عليه إجماع أهل قرطبة
(3)
.
وبعد وفاة ابن القاسم كان قضاة الأندلس يستشيرون تلميذه أصبغ بن الفرج، المتوفى سنة (225) هـ (840 م)
(4)
فقد تمسك الأندلسيون بآرائه بنحو لا يقبل التجديد والتعديل أبداً ولعل أكثر من يمثل هذا الاتجاه المتشدد الفقيه المفتي أصبغ بن خليل القرطبي المتوفى سنة (273) هـ (886 م) الذي تتلمذ على ابن الفرج، وقد بلغ من شدة تمسك أصبغ بن خليل بآراء ابن القاسم أنه رغم فقره الشديد فقد كان يرفض الإغراءات
(1)
- عبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي، ولد بمصر سنة 132 هـ، ثم انتقل إلى المدينة ولازم الإمام مالك عشرين عاماً ويعد من أشهر تلاميذه ورواته، انظر: ترتيب المدارك، 3/ 244 - 261.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 50.
(3)
- المصدر السابق، ص 50.
(4)
- نفسه، ص 46 - 47.
المادية على أن يتنازل في الإفتاء عن رأي ابن القاسم، يقول أبو عمر بن عبد البر: سمع أحمد بن خالد يقول "دخلت على أصبغ بن خليل فقال لي: ياأحمد، فقلت نعم، فقال انظر إلى هذه الكوة، لكوة فوق رأسه في حائط بيته، فقلت نعم، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لقد رددت منها ثلاثمائة دينار صحاحاً على أن أفتي في مسألة بغير رأي ابن القاسم مما قاله غيره من أصحاب مالك فما رأيت نفسي في سعة من ذلك
(1)
".
من هنا نخلص إلى أن الإفتاء في الأندلس كان معتمداً على المذهب المالكي وبالذات آراء ابن القاسم.
عرض فقهاء الشورى لآرائهم:
إذا كانت هناك ضرورة لانعقاد مجلس الشورى لمناقشة أمر ما، أو الإفتاء في قضية من القضايا، فالمتوقع أنه لابد أن يتم توزيع نص المشكلة على كل عضو من أعضاء المجلس قبل إنعقاده بوقت كاف، ليتمكن كل منهم من مراجعة أقوال العلماء إن كان ناسياً ويتثبت من معلوماته إن كان غير متيقن.
وكان من المتبع أن يقوم كاتب القاضي بتسجيل أراء أولئك الفقهاء، لكن عندما تولى قضاء الجماعة الحبيب أحمد بن محمد بن زياد اللخمي، سنة (291) هـ (904 م) طلب من الفقهاء المشاورين أن يقوم
(1)
- تبصرة الحكام، 1/ 70.
كل منهم بتسجيل فتواه بيده في السجل، فكان هو أول من وضع هذا الرسم وأصبح معمولاً به من بعده في الأندلس
(1)
.
وطريقة التسجيل بالكتابة لآراء الفقهاء المشاورين هي إحدى طرق وصول رأي المشاور للقاضي، إذ أن هناك طريقة أخرى هي المشافهة وطريقة ثالثة تقوم على المناقشة والمناظرة
(2)
وكذلك تعتمد طريقتي المشافهة
(3)
والكتابة
(4)
لوصول آراء فقهاء الشورى للأمير أو الخليفة.
عدد فقهاء الشورى:
كانت الفتيا في عهد الأمير عبد الرحمن الداخل والأيام الأولى من عهد ابنه الأمير هشام دائرة على ثلاثة فقهاء هم: عامر بن أبي جعفر
(5)
، وصعصعة بن سلام
(6)
، والغازي بن قيس المتوفى سنة (199) هـ (815 م)
(7)
.
وفي عهد الأمير هشام الرضا كان مجلس الشورى لدى قاضي الجماعة المصعب بن عمران يتكون من صعصعة بن سلام، والغازي بن
(1)
- قضاة قرطبة، ص 102.
(2)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 368 - 369.
(3)
- نفح الطيب، 2/ 10 - 11.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 59 - 60.
(5)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 72. ابن الفرضي، ترجمة رقم 628.
(6)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 610.
(7)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1015.
قيس وعبد الرحمن بن موسى الهواري، وعبد الملك بن حسن المعروف بزونان، المتوفى سنة (232) هـ (847 م)(1).
وكان مجلس شورى القاضي محمد بن بشير المعافري يتكون من: الغازي بن قيس وأبو محمد إسماعيل بن البشر التجيبي، المتوفى في أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، وأبو عمرو حارث بن أبي سعد، المتوفى سنة (221) هـ أو (222) هـ (835 م أو (836) م) وعبد الملك بن حسن المعروف بزونان ومحمد بن سعيد السبائي
(2)
.
وقد ذكر ابن عبد البر أن الفتيا في أيام الأمير الحكم الربضي وابنه الأمير عبد الرحمن الأوسط كانت تدور على عيسى بن دينار ومحمد بن خالد الأشج، المتوفى سنة (220) هـ (835 م) وأبو عبد الله محمد بن عيسى بن عبد الواحد المعافري المعروف بالأعشى المتوفى سنة (221) هـ (836 م) وزونان، ويحيى بن يحيى الليثي وسعيد بن حسان، المتوفى سنة (236) هـ (850 م) وعبد الملك بن حبيب
(3)
.
وفي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط كانت الفتيا في الأندلس تدور على الفقيه عيسى بن دينار وبعد وفاته أصبحت الفتيا تدور على الفقيه
1 -
هذه الشخصيات هي مزيج من الأوزاعية والمالكية، وبصفة عامة يعتبر القاضي المصعب بن عمران ومجلس شوراه ممثلين للفترة الانتقالية من المذهب الأوزاعي إلى المذهب المالكي. انظر: سالم الخلف، المرجع
السابق، ص 263 - 264.
(2)
- ترتيب المدارك، 3/ 332.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 42.
يحيى بن يحيى الليثي وحده من سنة (212) هـ (827 م) إلى سنة (218) هـ تقريباً (833 م) إذ شاركه منذ ذلك التاريخ في زعامة الفتيا الفقيه أبو مروان عبد الملك ابن حبيب
(1)
.
وقد ذكر ابن حيان أن خمسة عشر فقيهاً دارت عليهم الفتيا في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن وولديه المنذر وعبد الله، وهؤلاء الفقهاء هم:
بقي بن مخلد، وحسن بن يحيى بن مزين المتوفى في صدر أيام الأمير عبد الله بن محمد، ومحمد بن أسباط المخزومي، المتوفى سنة (286) هـ (899 م) ومحمد بن وضاح المتوفى سنة (287) هـ (900 م) ويحيى بن عبد الله المعروف بابن الخراز المتوفى سنة (295) هـ (907 م) وعبيد الله بن يحيى بن يحيى المتوفى في سنة (298) هـ (911 م) ومطرف بن قيس، وأبو صالح أيوب بن سليمان بن صالح، وسعيد بن خمير، المتوفى سنة (301) هـ (913 م) وخالد بن وهب المعروف بالصغير، المتوفى سنة (302) هـ (914 م) وسعد بن معاذ الشعباني، المتوفى سنة (308) هـ (920 م) ومحمد بن وليد. المتوفى سنة (309) هـ (922 م) ومحمد بن عمر بن لبابه، المتوفى سنة (314) هـ (926 م) وسعيد بن عبد الملك بن السمح
(2)
.
(1)
- قضاة قرطبة، ص 46، 50. ابن الفرضي، ترجمة رقم 975. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 57.
(2)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه ص 8.
ثم ألحق بهم ابن حيان مشيخة الفقهاء في عصر الأمير عبد الله بن محمد، وهم:
محمد بن غالب المعروف بابن الصفار، المتوفى سنة (295) هـ (908 م) وأصبغ بن مالك المتوفى سنة (299) هـ (912 م) وأحمد بن بيطير، المتوفى سنة (303) هـ (915 م) ويحيى بن إسحاق بن يحي بن أبي عيسى، المتوفى سنة (303) هـ (915 م) ومحمد الزراد، وأحمد بن عيسى بن يحيى بن يحيى الملقب بالثائر
(1)
.
وأما في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر فقد بلغ عدد فقهاء الشورى ستة عشر فقيها مشاوراً، وكان المكمل للستة عشر هو الفقيه أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مسرة المتوفى بطليطلة سنة (352) هـ (963 م) وقد تم تقديمه للشورى على يد قاضي الجماعة ابن أبي عيسى، دل عليه ولي العهد الحكم في عدة ارتيدوا لها، فكملت عدتهم إذ ذاك ستة عشر مشاورا
(2)
.
ومن ما مضى نلاحظ أن عدد فقهاء الشورى بقرطبة كان في بداية عهد الدولة الأموية قليلاً إذ لم يتجاوزوا الثلاثة، ثم أخذ عددهم بالازدياد تدريجياً، لكنه لم يتجاوز الستة عشر، وربما تكون الزيادة في العدد، ذات
(1)
- نفس المصدر والصفحة.
(2)
- ترتيب المدارك، 6/ 127.
ارتباط وثيق باتساع قرطبة وكثرة سكانها وأنها أصبحت مركزاً علمياً، وبذلك كثر عدد طلاب العلم فيها، وبسبب ذلك تزايد عدد الفقهاء.
وقد سبق أن عرفنا أن القالس والرداء هما علامة للفقيه المفتي، وقد كان المقلسون المتواجدون في القرى المحيطة بقرطبة، يأتون لأداء صلاة الجمعة مع أمراء وخلفاء بني أمية وبعد الصلاة يلتقون بهم ويسلمون عليهم ويطلعونهم على أحوال أماكنهم التي وفدوا منها
(1)
.
وكان فقهاء الشورى يتم اختيارهم من بين المجموع الكلي للفقهاء لأجل هذا فلا غرابة أن يصل تعداد فقهاء الشورى زمن الخليفة عبد الرحمن الناصر إلى ستة عشر فقيها، خاصة إذا عرفنا أن عدد من يشهد معه صلاة الجمعة من الفقهاء والعلماء كانوا ثلاثة آلاف وخمسمائة مقلس
(2)
.
وبالمناسبة فإن فقهاء الشورى لا يقتصر عملهم على مشاورة القاضي لهم فيما يعرض عليه من قضايا، إذ أن منهم من كان الأمير أو الخليفة يعتمد على رأيه في معالجة مشاكل الرعية وتدبير شئون الحكم، فقد كان الفقيه يحيى بن يحيى الليثي مرجعاً للقضاة، ولكنه في الوقت نفسه كان شديد الصلة بالأمير عبد الرحمن الأوسط حتى أنه غلب على رأيه "وألوى بإيثاره فصار يلزم من إعظامه وتكريمه وتنفيذ أوامره ما يلتزمه الوالد
(1)
- ذكر بلاد الأندلس، 1/ 34.
(2)
- المصدر السابق، 1/ 166.
لأبيه
(1)
، وبالإضافة إلى أن الفقيه المشاور يقوم بعمله تجاه القاضي وأحياناً الأمير أو الخليفة، فإنه يحدث في بعض الأحيان أن تسند إليه مهام جسام في الدولة، من هؤلاء: -
الفقيه حارث بن أبي سعد كان مفتياً في آخر أيام الأمير الحكم الربضي وأحد أعضاء مجلس شورى قاضي الجماعة محمد بن بشير
(2)
، ومع ذلك فقد ولاه الأمير عبد الرحمن الأوسط الشرطة الصغرى، ولم يزل عليها إلى أن توفي سنة (221) هـ أو (222) هـ (835 م)
(3)
.
أبو محمد إسماعيل بن البشر التجيبي، كان أحد فقهاء الشورى في آخر أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الذي ولاه الصلاة
(4)
.
أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطروح كان أحد الذين تدور عليهم الفتيا أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الذي ولاه كذلك الصلاة
(5)
.
الفقيه المشاور أبو عبد الملك حسن بن عبيد الله بن محمد بن عبد الملك، المتوفى سنة (336) هـ (948 م) كان قاضي الجماعة ابن أبي عيسى كثيراً ما يستخلفه على الصلاة بقرطبة
(6)
.
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 42.
(2)
- ترتيب المدارك، 3/ 332.
(3)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 87. ابن الفرضي، ترجمة رقم 326.
(4)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 209.
(5)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1113.
(6)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 72. ابن الفرضي، ترجمة رقم 343.
أبو محمد موسى بن أحمد بن سعيد اليحصبي المعروف بالوتد، المتوفى سنة (377) هـ (987 م) كان كاتباً لقاضي الجماعة محمد بن برطال، ثم قلد الشورى، وتولى رفع كتب المظالم وأصحاب الحوائج إلى المنصور بن أبي عامر
(1)
.
وأبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد الأموي، المعروف بالجالطي، قلده قاضي الجماعة ابن فطيس الشورى سنة (395) هـ (1005 م) وتولى الصلاة بالمسجد الجامع بالزهراء، فكان آخر خطيب قام على منبره كما ولاه الخليفة هشام المؤيد أحكام الشرطة، قتله البربر يوم دخولهم قرطبة، في جوف بيته، يوم الاثنين لست خلون من شوال سنة (403) هـ (21 إبريل (1013) م)
(2)
.
ومن المهام التي كانت تسند أحياناً للفقيه المشاور القيام بالإصلاح بين المتشاكسين، فقد اختار الأمير محمد بن عبد الرحمن الفقيه المشاور عبد الله بن محمد بن خالد بن مرتنيل المتوفى سنة (256) هـ (872 م) ليذهب إلى باجه لإصلاح ما وقع بين قبيلتي مضر واليمن بسبب العصبية
(3)
.
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1466. ترتيب المدارك، 7/ 158 - 159.
(2)
- الصلة، ترجمة رقم 1060.
(3)
- تجدر الإشارة إلى أن الفقيه رفض الذهاب إلى باجه إذ اعتبر أن مهمته قائمة فقط على نقل الكتب من الأمير إلى زعماء القبائل وبسبب رفضه سجن ثلاثة أشهر. ترتيب المدارك، 4/ 239 - 242.
كما كان الفقيه المشاور أبو محمد عبد الله بن محمد الصابوني الشهير بابن بركة المتوفى سنة (387) هـ (988 م) كثيراً ما يستعين به القضاة للإصلاح بين الناس وذلك لما امتاز به من حسن تناوله للمشاكل وصدق نيته في الإصلاح بين المتخاصمين
(1)
.
ومن المهام التي يقوم بها الفقيه المشاور الوصاية على الأيتام، ولكن دون أن يكون ملزماً بالاستجابة للقاضي إن طلب منه القيام بهذه المهمة. يدل على ذلك أن الخليفة الحكم المستنصر عندما عاتب قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي على تقديمه لأوصياء سوء ليكونوا مسئولين عن الأيتام رد عليه القاضي بأن هذا غير مستغرب طالماً أن الفقهاء المشاورين الذين يُتوسم الخير فيهم لا يتم إلزامهم بالقوة لتولي مهام الوصية على الأيتام
(2)
.
وعندما نقرأ تراجم فقهاء خطة الشورى، نجد أن العلاقة بينهم لم تكن على ما يرام بصفة دائمة، بل إنها للتوتر أقرب منها إلى الصفاء، ولعل هذا ناجم عن التنافس في العلم فيما بينهم.
والنماذج على التنافر الموجود بين الفقهاء لا حصر لها، فمن ذلك نجد: أن قاضي الجماعة يحيى بن معمر الألهاني كانت علاقته بالفقيه يحيى بن يحيى الليثي وبقية فقهاء قرطبة غير طيبة لأن القاضي ابن معمر كان
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 743.
(2)
- الفتح بن خاقان، مطمح الأنفس، ص 257.
لا يلين لهم فيما يريدون، ولا يصغي لهم فيما يحبون، لذا كانوا كلهم ضده، وكانت النتيجة عزله عن القضاء
(1)
.
كذلك العلاقة بين الفقيهين المشاورين يحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب لم تكن على ما يرام، ورغم ما كان بينهما من شحناء إلا أن ذلك لم يخرج أي منهما عن جادة الحق، حتى أن الأمير عبد الرحمن الأوسط عندما بلغه أن الفقيه يحيى بن يحيى وقاضي الجماعة إبراهيم بن العباس يتآمران على خلعه، استدعى الفقيه ابن حبيب وسأله عن حقيقة هذه القصة، فأجابه قائلاً: "قد علم الأمير مابيني وبين يحيى ولكني لا أقول عليه إلا الحق ليس يجئ من يحيى إلا ما يجيء مني، وكل ما رفع عليه فباطل
(2)
".
وكان الفقيه عبد الملك بن حبيب محسوداً من قبل بقية الفقهاء لأنه مبرز في علوم هم على غير علم بها
(3)
.
وفي منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) نجد أن الفقيهين ابن المكوي والمعيطي قد جرى بينهما خلاف شديد على من يكتب اسمه أولاً على الكتاب الذي جمعا به أقوال الإمام مالك بمائة جزء وأسمياه كتاب الاستيعاب الكبير
(4)
.
(1)
- قضاة قرطبة، ص 47 - 48.
(2)
- ترتيب المدارك، 4/ 131.
(3)
- المصدر السابق، 4/ 129.
(4)
- نفسه، 7/ 122.
وهذا الفقيه الموثق ابن العطار يُعزل عن خطة الشورى ويُسقط عن الفتيا وذلك بسبب تمالؤ الفقهاء عليه
(1)
.
وهكذا نجد أنفسنا أمام فئة أقل ما يقال عن العلاقة بين أفرادها أنها غير ودية نوعاً ما ولذا فلا عجب عندما نرى أن أحدهم يُسجَّل عليه بالسخطة ويعزل عن منصبه، ثم إن فقهاء الشورى بعلاقاتهم تلك قد فتحوا المجال أمام رجال السلطة من حجاب ووزراء وغيرهم، بالدخول بينهم وزيادة التوتر في علاقاتهم، مما يجعل أحدهم صيداً سهلاً للحكام، حتى أن المنصور بن أبي عامر لم يحتمل أن يصحح له الفقيه ابن العطار كلمة أخطأ فيها المنصور واعتبر ذلك إهانة، فوبخه وأمر بإخراجه واستمال الكثير من الفقهاء للشهادة ضده حتى أُسقط عن رتبته
(2)
.
رفض منصب الشورى:
كان الفقيه المشاور ينظر إلى منصبه نظرة كلها حذر، ويكفي للدلالة على نظرته تلك ومعاناته من ذلك المنصب، ما أورده ابن بشكوال من أن شيخ أهل الشورى في زمانه الفقيه محمد بن عتاب بن محسن الجذامي، المتوفى سنة (462) هـ (1070 م) كان يهاب الفتوى ويخاف عاقبتها بالآخرة، وكان يقول:"من يحسدني فيها جعله الله مفتياً" وإذا
(1)
- نفسه، 7/ 148.
(2)
- نفسه، 7/ 151.
رُغِّب في ثوابها وغُبط بالأجر عليها يقول: "وددت أني أنجو منها كفافاً لا علي ولا ليا
(1)
".
لأجل هذا نجد أن الكثير من الفقهاء يرفضون منصب "الفقيه المشاور" منهم: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن باز، المعروف بابن القزاز، المتوفى ليلة الخميس لثمانية أيام مضين من شهر ربيع الآخر سنة (274) هـ (أغسطس (887) م) فقد عرض عليه الأمير محمد بن عبد الرحمن قضاء الجماعة فرفض، ثم طلب منه الأمير أن يكون أحد الداخلين عليه ليستشيره في أموره، لكنه رفض أيضاً، وعندما حاول الأمير أن يضغط عليه لقبول المشاورة أخبره الفقيه ابن باز بأنه سوف يرحل عن الأندلس إن كرر عليه هذا الطلب، فما كان من الأمير إلا أن أعرض عنه
(2)
.
كذلك رفض منصب الشورى الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد الجبليَّ، المتوفى سنة (313) هـ (925 م)
(3)
والفقيه أبو عمر أحمد بن عبادة بن علكدة الرعيني المتوفى في شهر رجب (332) هـ (944 م)
(4)
. وفي أوائل القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) حاول الخليفة على بن حمود بإشارة من قاضي الجماعة عبد الرحمن بن بشر المتوفى سنة (422) هـ (1031 م) أن يقدم الفقيه عبد الرحمن بن مروان بن عبد الرحمن
(1)
- الصلة، ترجمة رقم 1194.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 106. ابن الفرضي، ترجمة رقم 10.
(3)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 179. ابن الفرضي ترجمة رقم 1185.
(4)
- ترتيب المدارك، 6/ 93 - 94.
الأنصاري المعروف بالقنازعي، المتوفى سنة (413) هـ (1022 م) لخطة الشورى، لكنه رفض، ولم يرهب سطوة الخليفة علي بن حمود التي قدَّر القاضي ابن بشر أن الفقيه القنازعي سيداريها، ثم اعتذر عن ذلك بأنه يحتاج لطلب العلم حتى يكون مؤهلاً لهذا المنصب
(1)
.
وكما أن هناك من رفض منصب الشورى، فإن هناك من تقلده ثم طلب الاستعفاء منه، فهذا الفقيه محمد بن عبيد الله بن الوليد المعيطي، المتوفى سنة (367) هـ (978 م) قد قدم للفتيا وهو في شبابه، وصارت إليه رئاسة قرطبة بالعلم والشرف والقرب من الخليفة، ولكنه سرعان ما زهد في ذلك كله وطلب الإعفاء من الفتيا وانقطع للعبادة حتى وافته المنية
(2)
.
ولا يتم عزل الفقيه المشاور إلا إذا طلب هو الاستعفاء، أو تمت ترقيته إلى منصب أعلى
(3)
، وكما ذكرنا من قبل أن هناك ظهير يصدر عند ترقية أحد الفقهاء للشورى، فإن ظهيراً آخر يصدر عند إعلان السخطة عليه وعزله عن منصبه، وكما أن الشهادات التي من قبل الفقهاء تسجل لصالحه في المرة الأولى، فهي في الثانية تثبت ضده، كلها تجرح في عدالته وتؤكد عدم أهليته لمنصبه. ويحدث أحياناً أن ترفع قضية من القضايا للأمير أو الخليفة فيها فتاوى الفقهاء، وبعد تقليبه لها، وتدقيقه
(1)
- الصلة، ترجمة رقم 694.
(2)
- ترتيب المدارك، 7/ 119 - 123.
(3)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 378.
فيها، يصدر حكمه على ضوئها، فربما تكون تلك الفتاوى سبباً في عزل أحد فقهاء الشورى
(1)
.
وأما إذ كان الفقيه المشاور سيء الذكر فإن العزل مصيره، فالفقيه المشاور محمد بن يحيى بن لبابه لم يكن بالمرضي في نفسه وكان الثناء عليه من أقرانه قليلاً
(2)
، ولذا فقد سجل عليه قاضي الجماعة الحبيب بن زياد سخطته، ثم رفع ذلك إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر الذي أصدر ظهيراً بإسقاط ابن لبابه عن منزلة الشورى، وأمره بلزوم بيته وعدم إفتاء أحد
(3)
.
وللأمور السياسية دور في العزل عن خطة الشورى، وهذا ما فعله المنصور بن أبي عامر مع الفقيهين أصبغ بن الفرج الطائي وأبي بكر بن وافد بسبب عدم إفتائهما بجواز التجميع بمسجد الزاهرة
(4)
.
وقد عرفنا من قبل أنه لا يتم إسقاط الفقيه المفتي عن مرتبته إلا بشهادة الفقهاء ضده بأنه غير أهل للرتبة التي هو فيها، وعلى هذا الأساس يرفع قاضي الجماعة كتاباً للأمير أو الخليفة بهذا الخصوص، فيصدر من لدنه ظهيراً بإسقاط ذلك المفتي من مرتبته.
(1)
- قضاة قرطبة، ص 59 - 60.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1231.
(3)
- ترتيب المدارك، 6/ 87.
(4)
- المصدر السابق، 7/ 159 - 160.
وبالرغم من أن الفقيه المشاور ابن العطار قد أُسقط عن منزلته نتيجة موقف سياسي، إلا أننا وجدنا في قصته أنموذجاً واضحاً لمشاور جُرِّد من منصبه ثم أعيد إليه.
فبعد أن سلَّط عليه الحاجب المنصور بن أبي عامر قاضي الجماعة ابن زرب وبقية الفقهاء، جاءت الشهادات ضده من جميع الفقهاء إلا القلة، وعلى ضوء ذلك تم إسقاط ابن العطار عن منزلته وأوصى إليه المنصور بأن لا يغادر منزله ومنعه من الاختلاط بالناس، وبعد وفاة القاضي ابن زرب الذي كان المنصور يستحي منه كلما أراد إعادة ابن العطار لمنصبه، أصدر المنصور أمره لصاحب الشرطة بالبحث في شأن عدالة ابن العطار فظهرت وثيقة بصلاحه وإقتدائه بالسلف واعتدال طريقته، شهد فيها ثقاتهم وعلماؤهم، ثم رفعت الوثيقة للمنصور، فجمع أهل العلم وأفتوا بسقوط السخطة عنه، فرفع المنصور الوثيقة إلى الخليفة هشام المؤيد، فأصدر ظهيراً أمر به قاضي الجماعة ابن برطال بإعادة ابن العطار إلى منصبه
(1)
.
من هذه القصة - بغض النظر عن ملابساتها - نعرف أن ليس بالإمكان إسقاط فقيه مفتي عن منصبه إلا بإجماع أغلب شهادات الفقهاء ضده، وتُذكر الأشياء المأخوذة عليه، ثم إذا صلحت حاله وشهد الثقات بعدالته، بعد أن يبحث صاحب الشرطة في شأن حال ذلك الفقيه، يرفع
(1)
- نفسه، 7/ 150 - 154.
ذلك كله للحاجب، والذي هو بدوره يوصلها للخليفة فيصدر من قبله ظهيراً يأمر فيه قاضي الجماعة بإعادة ذلك الفقيه إلى منصبه السابق.
نماذج لبعض فقهاء الشورى:
هذه صور لبعض فقهاء الشورى، لأصحابها شخصيات خاصة بهم ميزتهم عن بقية نظرائهم، ولا يعني التميز هنا الأفضلية، بل لتخلقهم بأخلاق نأت بهم على الأقل عما عُرف عن زملائهم من سعة في العلم واتصاف بالورع والقدوة بالسلف الصالح.
فهذا الفقيه عبد الأعلى بن وهب، المتوفى سنة (261) هـ (874 م) تأثر بكتب المعتزلة وأهل الكلام وكان يقول أن الأرواح تموت
(1)
، وذكر القاضي عياض أن عبد الأعلى بن وهب "كان يُزن بالقدر
(2)
" وكانت نظرة الفقهاء المعاصرين له بالذات يحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب وإبراهيم بن حسين بن عاصم لا تنم عن القبول
(3)
، وعندما أفتى ابن وهب بعدم سفك دم ابن أخي عجب الذي تطاول على جناب الله تعالى، أرسل الأمير عبد الرحمن الأوسط فتاه حسان ليوصل رسالته لصاحب المدينة فيبلغها بدوره لابن وهب، وقد جاء في رسالة الأمير "
…
وأما أنت يعني
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 837.
(2)
- ترتيب المدارك، 4/ 245.
(3)
- المصدر السابق، والصفحة.
عبد الأعلى فكان يحيى بن يحيى يشهد عليكم بالزندقة ومن كانت هذه حالة فحري ألا يسمع فتياه
(1)
".
الفقيه أبو عبد الله محمد بن غالب المعروف بابن الصفار، المتوفى سنة (295) هـ (908 م) كانت الفتيا دائرة عليه مع عبد الله بن يحيى ومحمد بن لبابه وأصحابهم، لكنه مالت به الدنيا فكان يتبع الهوى في فتياه ويخلط
(2)
.
الفقيه أبو عبد الله محمد بن وليد بن محمد، المتوفى سنة (309) هـ (922 م) كانت للأمير عبد الله ابن محمد عناية به، وكان طويل اللسان، كثير الملق، وكان يضع الأحاديث وينسبها للرسول صلى الله عليه وسلم، ويرفعها للأمير عبد الله، وقد اشتهر أمره بالكذب حتى أن خالد بن سعد كان يقول "محمد بن وليد كذاب"
(3)
.
الفقيه أبو محمد عبد الله بن محمد الأنصاري المعروف بابن واقزن المتوفى سنة (320) هـ (932 م) ذكر ابن الفرضي عن أبي أيوب سليمان بن أيوب أن ابن واقزن كان "يضرب على الخطوط في الشهادات ويدلس في العقود، شهد بذلك مرة وثانية، فأوصى إليه أسلم بن عبد العزيز القاضي أن يلزم بيته ويترك الوثائق والشهادات والفتيا، فلم يزل كذلك إلى أن توفي
(4)
".
(1)
- قضاة قرطبة، ص 60.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1148.
(3)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1180.
(4)
- نفسه، ترجمة رقم 675.
الفقيه المشاور أبو بكر محمد بن إبراهيم الكتاني، المعروف بابن جيويه، المتوفى سنة (328) هـ (940 م) وصف بأنه كان متشبها بأهل الدنيا، خارجاً من طبقة أهل العلم
(1)
.
الفقيه أبو الأصبع عيسى بن مكرم الغافقي المتوفى سنة (336) هـ (947 م) كان متصرفاً في الفتيا وعقد الشروط، وفي نفسه لم يكن بالمشهور في العلم ولا بالنافذ فيه
(2)
.
الفقيه أبو الأصبغ عيسى بن محمد بن إبراهيم الكتاني، المتوفى سنة (374) هـ (985 م) كان مشاوراً في الأحكام، فلما تولى محمد بن إسحاق بن السليم قضاء الجماعة، ترك مشاورته فقد كان أقرب في العلم إلى الأدب من الفقه والحديث، وهو أشبه بأهل الدنيا من طلبة العلم ولذا لم يؤخذ عنه لأنه لم يكن أهلاً لذلك
(3)
.
الفقيه موسى اليحصبي المعروف بالوتد، المتوفى سنة (377) هـ (978 م) يقول عنه ابن الفرضي بأنه "كان ينُسب إليه تخليط كثير شُهر به وعُرف منه
(4)
".
الفقيه أبو محمد عبد الله بن محمد الصابوني، المعروف بابن بركه، المتوفى سنة (378) هـ (988 م) قدمه قاضي الجماعة ابن زرب للشورى،
(1)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 204. ابن الفرضي ترجمة رقم 1221.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 983.
(3)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 989.
(4)
- نفسه، ترجمة رقم 1466.
فلم يزل يستفتى مع المشاورين إلى وفاته، رغم أنه كان موصوفاً بقلة العلم
(1)
.
الفقيه أبو العاص أمية بن أحمد بن حمزة القرشي الأموي، المتوفى سنة (393) هـ (1003 م) شاوره قاضي الجماعة ابن زرب، وتولى أحكام الشرطة، والذي تجدر ملاحظته أن أبا العاص كان متأخراً في علمه وعقله
(2)
.
أبو الوليد عبد الله بن محمد بن السليم، المتوفى سنة (402) هـ (1012 م) قدمه الخليفة سليمان المستعين لخطة الشورى، وذلك أيام الفتنة تنويها بمكانه، رغم أنه لم يكن أهلاً لذلك
(3)
.
الشورى زمن الفتنة:
عندما اندلعت الفتنة وعمت قرطبة وما جاورها، تركت أثراً قويا على خطة الشورى، فهي من جهة جعلت الكثير من فقهاء الشورى يهربون من قرطبة ينشدون الأمان في بلد غيرها، وهذا لا يعني أنهم سوف يتولون الشورى في البلاد التي هربوا إليها، ذلك أن الخليفة الذي عينهم أساساً هو لا يملك من الأمر شيء، إذ أن البلاد أخذت بالتجزؤ، وأصبح لكل مقاطعة حاكم جديد، وتم تولية من هرب من قرطبة من فقهاء الشورى في وظائف قضائية وتنفيذية في الكور التي لجأوا إليها.
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 743.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 266.
(3)
- ترتيب المدارك، 6/ 289.
ومن جهة أخرى فإن الفتنة فتحت المجال أمام من هم ليسو أكفاء لتولي خطة الشورى، فرغبتهم في المناصب ازدادت، وأصبحت أمامهم فرصة أخذ الأموال دون تمييز طيبها من خبيثها، بل المجاهرة فيها هي ديدنهم، وازدادت أعدادهم فإذا كنا قد عرفنا أن أعلى عدد لهم هو ستة عشر فقيهاً مشاوراً، فإن عددهم في عهد الخليفة المستكفي كان أربعين رجلاً. وقد حفظ لنا ابن بسام نصاً لابن حيان يصف به حال الشورى زمن الفتنة، فبعد أن ذكر تهافت الناس بكافة فئاتهم على الخطط، قال: "
…
فأسهم منهم الفقهاء، فآثر العلية منهم المشاورين أصحاب الفتوى بالإرقاء إلى خطة الوزارة، .. ففتنوا بهذه الخطة وشدوا أيديهم عليها وهجروا من حطهم في خطاب عنها، معرضين بما يعاب من ذلك، إلى أن مضوا بسبيلهم، وارتقى المستكفي أيضاً بكثير ممن يحمل المحابر، ويدرس مسائل الدفاتر، ومن أصاغر الطبقة الفقهية، إلى ما بلغت عليتهم من منزلة الشورى، فوسم كافتهم بوسم الفتوى، فأسرف في ذلك، حتى بلغ عددهم بقرطبة يومئذ إلى الأربعين، وذلك مالم يعهد في الغابرين
(1)
".
وأما عن حال الشورى في عهد الخليفة هشام المعتد بالله، فقد قال ابن حيان: "وزاد في رزق مشيخة الشورى من مال العين، ففرض لكل واحد خمسة عشر ديناراً مشاهرة، فقبلوا ذلك على خبث أصله، وتساهلوا في مأكل لم يستطبه فقيه قبلهم على اختلاف السلف في قبول جوائز
(1)
- الذخيرة، ق 1 م 1 ص 435 - 436.
الأمراء الذين سكبوا خبائث الضرائب والمكوس القبيحة، فاستدر القوم مرية هذه الطعمة الخبيثة، وكنت أحسب فقهاء الشورى بعده أنهم يكتمون شأن ذلك الراتب حتى سمعت أبرهم يُلح في طلبه، وينتظر بلوغ وقته، فانكشف لي شأنه، والقوم أعلم بما يأتونه وهم القدوة لا جعلهم الله لنا فئة وقد حُدثتُ أن هشاماً أطعمهم من قمح ولد القاضي ابن ذكوان أيام فرَّ عنه وأخذ ماله فقبلوه قبول مال الفيء
(1)
".
الفقهاء المشاورون في الكور:
كان عدد الفقهاء المشاورين في كور الأندلس أقل من نظرائهم في قرطبة، فعلى سبيل المثال نجد أن قاضي شذونه يشاور ثلاثة فقهاء سوية هم: أبو مروان حمدان بن سعدون بن بطال التميمي المتوفى سنة (364) هـ (975 م)
(2)
، وأبو عثمان سعيد بن يوسف الخولاني، المعروف بابن البيضاء
(3)
، المتوفى آخر سنة (365) هـ (976 م)
(4)
وأبو عثمان سعيد بن مرشد العكي كان مشاوراً في الأحكام مع أصحابه، ثم رحل حاجاً وعند عودته توفي بمصر سنة (373) هـ (984 م)
(5)
.
(1)
- المصدر السابق، ق 3 م 1 ص 517 - 518
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 380.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 512
(4)
- ترتيب المدارك، 7/ 16.
(5)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 515.
وقد حفظت لنا المصادر أسماء من كان في الكور من فقهاء مشاورين، منهم: الفقيه حفص بن عمر، المتوفى سنة (288) هـ (901 م) من أهل وادي الحجارة، كان مفتياً ببلده
(1)
.
الفقيه أبو عبد الله محمد بن سليمان بن محمد بن تليد المعافري، المتوفى سنة (295) هـ (908 م) من أهل وشقه، كان مفتي موضعه وإليه كانت الرحلة في وقته، وكان شديد العصبية للمولدين
(2)
، كما كان "رأس فقهاء الثغر، المتقدم فيهم، يقر له بذلك الجميع ويقفون عند أمره ولا يعدون فتياه
(3)
".
الفقيه أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن عيسى المرادي، من أهل استجة، وكان له ببلده قدر عظيم في الفتيا والرئاسة، ثم انتقل إلى قرطبة حيث توفي بها أواخر أيام الأمير عبد الله بن محمد
(4)
.
الفقيه أبو علي حسن بن شرحبيل، من أهل بطليوس، كان فقيهاً عالماً في موضعه، وكان مدار الفتيا عليه في وقته إلى أن توفي أخر أيام الأمير عبد الله بن محمد
(5)
.
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 367.
(2)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 196. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1149.
(3)
- ترتيب المدارك، 4/ 472.
(4)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 320.
(5)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 238.
الفقيه عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم، من أهل طليطلة، كان صاحب فتيا ببلده، توفي قريباً من سنة (300) هـ (912 م)
(1)
.
الفقيه محمد بن سعيد بن حكم، من أهل بجانة، تولى الإفتاء بها حتى وفاته سنة (303) هـ (915 م)
(2)
.
الفقيه أبو وهب حزم بن الأحمر، تولى الإفتاء ببلده بطليوس حتى وفاته سنة (305) هـ (917 م)
(3)
.
الفقيه محمد بن ميمون، تولى الإفتاء ببلده طليطلة حتى وفاته سنة (305) هـ (917 م)
(4)
الفقيه محمد بن عبد الله بن محمد بن بدرن الحضرمي، تولى الإفتاء ببلده الجزيرة حتى وفاته سنة (311) هـ (923 م)
(5)
.
الفقيه نابغة بن إبراهيم بن عبد الواحد المتوفى سنة (313) هـ (925 م) من أهل إلبيرة من قلعة يحصب، كان متصرفاً في الفتيا وعقد الشروط
(6)
.
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 863.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 1161.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 362.
(4)
- نفسه، ترجمة رقم 1169.
(5)
- نفسه، ترجمة رقم 1182.
(6)
- نفسه، ترجمة رقم 1495.
الفقيه سعدان بن إبراهيم بن عبد الوارث، يعرف بابن الجرز، من أهل رية، ومن ساكني أرجذونه، كان حافظاً للمسائل مفتياً بموضعه إلى أن توفي سنة (316) هـ (928 م)
(1)
الفقيه محمد بن أحمد بن حزم بن تمام، المتوفى قريباً من سنة (320) هـ (932 م) من أهل طليطلة، كان مفتيا فيها
(2)
.
الفقيه عثمان بن محمد بن أحمد بن مدرك، من أهل قبره، كان معتنياً بالعلم، حافظاً للمسائل، عاقداً للشروط، تولى الإفتاء ببلده حتى وفاته سنة (320) هـ (932 م)
(3)
.
الفقيه عمر بن عبد الخالق من أهل الجزيرة، تولى الإفتاء بها حتى وفاته سنة (320) هـ (932 م)
(4)
.
الفقيه أبو الحسن علي بن عبد الله بن أبي شيبه الكلابي المتوفى سنة (325) هـ (937 م) من أهل اشبيلية، كان مشاوراً في الأحكام مع نظرائه، كما أنه كان بصيراً بالفتيا، لكنه كان مشهوراً بالكذب
(5)
.
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 543.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 1207.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 893.
(4)
- نفسه، ترجمة رقم 948.
(5)
- نفسه، ترجمة رقم 920.
الفقيه سعدان بن معاوية المتوفى سنة (327) هـ (939 م) انتقل من بلده قرطبة وسكن إقليم القصب فكان مفتي أهل ذلك الموضع وعاقد شروطهم
(1)
.
الفقيه جحاف بن يمن، المتوفى سنة (327) هـ (939 م) من أهل بلنسية، وعليه كان مدار الفتيا ببلده
(2)
.
الفقيه محمد بن إبراهيم بن إسحاق، المتوفى سنة (328) هـ (940 م) كان فقيه حاضرة باجه وصاحب فتياهم نحواً من ثلاثين سنة
(3)
.
الفقيه أبو المطرف عريف مولى ليث بن فضيل، المتوفى سنة (328) هـ (940 م) من أهل لورقه كان ضابطاً للفقه، بصيراً بالفتيا، جامعاً للعلم، بلغ مبلغ السؤدد في موضعه وكان معوّل أهل لورقه في وقته عليه
(4)
.
الفقيه أبو رزين هشام بن محمد بن أبي رزين، من أهل شذونه، كان حافظاً للمسائل، مفتي أهل شذونه وما والاها، وكان يرحل إليه للسماع منه، كان معظماً في موضعه حتى أدركته الوفاة بحاضرة شريش سنة (336) هـ (947 م)
(5)
.
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 544.
(2)
- ترتيب المدارك، 6/ 178 - 179.
(3)
- ابن الفرضي ترجمة رقم 1224.
(4)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1005.
(5)
- نفسه، ترجمة رقم 1546.
الفقيه أبو القاسم عيسى بن خلف الخولاني، المتوفى سنة (342) هـ (953 م) من أهل اشبيلية، كان حافظاً للمسائل، عالماً بها، مقدماً في الفتيا بموضعه
(1)
.
الفقيه أبو سعيد فرج بن سلمة بن زهير البلوي، المتوفى سنة (345) هـ (956 م) أصله من باجه، وانتقل إلى فحص البلوط، كان حافظاً للرأي على مذهب مالك، عاقداً للشروط، مشاوراً في الأحكام
(2)
.
الفقيه أبو عثمان سعيد بن أحمد بن رمح الخولاني، المتوفى بعد سنة (350) هـ (961 م) من أهل شذونه، كان معتنياً في موضعه مقدماً في الشورى ببلده
(3)
.
الفقيه محمد بن حصين، المتوفى سنة (351) هـ (962 م) من أهل بلنسية كان عالماً فقيهاً نبيهاً نبيلاً حاد الفهم، وعليه وعلى أبي جعفر جحاف بن يمن كان مدار الفتيا في وقتهما ببلنسيه
(4)
.
الفقيه أبو عبيد قاسم بن خلف بن فتح بن عبد الله، المتوفى سنة (371) هـ (981 م) يعرف بالجبيري، أصله من طرطوشه، كان فقيهاً
(1)
- نفسه، ترجمة رقم 986.
(2)
- ترتيب المدارك، 6/ 126.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 509.
(4)
- ترتيب المدارك، 6/ 178.
عالماً، حسن النظر. وقد عهد الخليفة الحكم المستنصر إلى الحكام بمشاورته، فكان صدراً في أهل الشورى
(1)
.
الفقيه أبو محمد عبد الله بن محمد الحارث بن منتيل، المتوفى سنة (379) هـ (989 م) كان صدراً فيمن يستفتى ببلده استجه
(2)
.
الفقيه أبو الأصبغ عيسى بن أبي العلاء، من أهل تدمير، تولى الفتيا في موضعه حتى توفي سنة (391) هـ (1001 م)
(3)
.
الفقيه أبو محمد قاسم بن حامد الأموي، من أهل ريه، كان مدار الفتيا ببلده عليه وعلى صاحبه محمد بن عوف
(4)
.
الفقيه مهدي بن عمر الجذامي، من أهل استجه، تولى الفتيا ببلده، ثم رحل أيام الفتنة إلى قرطبة فتوفي بها
(5)
.
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1077.
(2)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 745.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 993.
(4)
- نفسه، ترجمة رقم 1061.
(5)
- نفسه، ترجمة رقم 1487.
خطة السوق "الحسبة"
عُرفت هذه الخطة في المشرق باسم "الحسبة"
(1)
لكنها في الأندلس كانت تعرف باسم: خطة السوق ويطلق على من يتولاها: صاحب السوق، وهذا هو الاسم الذي استخدمه القاضي ابن سهل عند تعديده للخطط التي من حق أصحابها إصدار الأحكام
(2)
.
ولعل الأندلسيين استخدموا مصطلح "صاحب السوق" دون "الحسبة" ربما لكون عمل صاحب السوق كان أكثره متعلق بالأسواق و ما يجري فيها، فمن ذلك قد يكون اكتسب التسمية.
إلا أن الأندلسيين لم يتمادوا في استخدام هذا المصطلح، إذ ما إن حل القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) حتى أصبح استخدام مصطلح "المحتسب" شائعاً في الأندلس
(3)
.
لأجل ذلك آثرت استخدام مصطلح "خطة السوق" لأنه هو السائد في الأندلس طيلة فترة الدراسة.
وتجمع المصادر على ما لهذه الخطة من أهمية، وذلك لارتباطها الوثيق بخطط القضاء والشرطة والمظالم.
(1)
- عن الحسبة في المشرق وأشهر المصادر عنها، انظر: الأحكام السلطانية، ص 208 - 224. نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 10 - 216. معالم القربة في أحكام الحسبة، ص 7 - 242. ابن تيمية، الحسبة، ص 79 - 398.
(2)
- النباهي، ص 5.
(3)
- خطة الحسبة في النظر والتطبيق والتدوين، 17 - 18.
فالماوردي يرى أنها "واسطة بين أحكام القضاء وأحكام المظالم
(1)
" وقد وافقه السقطي على ذلك
(2)
، بينما يرى المجيلدي أنها "بين خطة القضاء وخطة الشرطة جامعة بين نظر شرعي ديني وزجر سياسي سلطاني
(3)
".
فهي تهدف إلى العناية بكل ما يكفل السعادة للإنسان من أبواب الدين والدنيا
(4)
، ولأجل هذا كان لابد من وجود سمات معينة، يتحلى بها من يلي هذه الخطة، إذ ينبغي أن يكون فقيهاً نزيه النفس، عالي الهمة، ظاهر العدالة، معروفاً بالأناة والحلم، يقظاً، حاد الفهم، بحيث لا ترتجى لشدة يقظته غفلته، ولا تؤمن على ذي منكر سطوته
(5)
، خبيراً بأحوال المجتمع وسياسة أفراده، لا يستفزه مطمع، قوي الشخصية بحيث لايجرؤ أحد على الاستهانة به، وفي الوقت نفسه لا تأخذه في الله لومة لائم
(6)
.
(1)
- الأحكام السلطانية، ص 209.
(2)
- آداب الحسبة، ص 2.
(3)
- أحمد سعيد المجيلدي، التيسير في أحكام التسعير، (تقديم وتعليق: موسى لقبال، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر 1970 م) ص 42.
(4)
- رسالة ابن عبدون، ص 21.
(5)
- السقطي، ص 20، 24. المجليدي، ص 42.
(6)
- رسالة ابن عبدون، ص 20.
وبالجملة فإن الصفات التي يجب أن يتحلى بها صاحب السوق، هي نفسها التي يجب أن يكون عليها أصحاب الخطط الدينية لأن الأمر مرتبط بأمور شرعية لها وضع خاص.
ويتم تعيين صاحب السوق من قبل الأمير أو الخليفة الأموي، وذلك بعد استشارة قاضي الجماعة بالنسبة لمن يلي السوق بقرطبة، وقضاة الكور لمن يلي الأسواق بها
(1)
.
وأما ابن عبد ون فيرى أن القاضي هو الذي يعين صاحب السوق، شريطة أن يستشير ولي الأمر، وعلل ذلك بقوله: "لتكون للقاضي حجة عليه إن أراد أن يعزله أو يبقيه
(2)
".
ويتسلم صاحب السوق مرتبه الشهري، من بيت المال، ورغم أن المصادر لم توضح مقدار هذا المرتب، إلا أنه لابد أن يكون قد روعي فيه أن يكفي حاجته
(3)
.
وقد ذكر ابن سعيد أثناء حديثه عن عبد الرحمن الأوسط أنه هو الذي ميَّز ولاية السوق عن غيرها من الخطط، وجعل رزق صاحبها ثلاثين ديناراً في كل شهر
(4)
.
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 383.
(2)
- رسالة ابن عبدون، ص 20.
(3)
- المصدر السابق والصفحة.
(4)
- المغرب في حلى المغرب، 1/ 46.
ونظراً لكون أحوال الناس في المجتمع الإسلامي، لا تضبط إلا من خلال أمور الدين، لأجل هذا، نرى اهتماماً كبيراً من بني أمية في الأندلس، بأمر السوق ومن يتولاه، و يتضح هذا الاهتمام بصورة مجملة من خلال بعض الأحداث التي ذكرتها كتب التراجم.
فقد ذكر ابن الفرضي أن العباس بن قرعوس الثقفي كان يلي السوق بقرطبة، في عهد الأمير الحكم الربضي، وقد عُرف العباس بالشدة وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم، فقد التقى في أحد الأيام أثناء خروجه من قرطبة، برسول لسعيد الخير الكبير وهو يحمل وعاءً فيه شراب، فنظر إليه العباس، وأمر بأخذه، فأخبر الرسول بأن مولاه عند الأمير، وأنه أمره بإحضاره، فما كان من العباس إلا أن أمر بكسر الإناء و إهراق ما فيه، ثم ضرب الرسول ضرباً موجعاً، فلما علم سعيد الخير بأمر رسوله، أنهى الخبر للأمير، وحرضه ضد العباس، لكن الأمير لم يلتفت لقول سعيد، بل خاطبه قائلاً: "هذا قوة لملكنا، ألا استتر رسولك؟
(1)
".
وهذا الفقيه محمد بن خالد بن مرتنيل، المعروف بالأشج، المتوفى سنة (224) هـ (839 م) تولى عدة خطط في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، من بينها السوق، وقد كان صلباً لا تأخذه في الله لومة لائم، كان لا يهاب أحداً من جلاس الأمير، وكان ينفذ عليهم من الحقوق ما ينفذه على السوقة والعوام، وقد ضرب رجلاً من أصحاب الأمير يعرف
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1084.
بالتمار أصاب منكراً، أربعمائة سوطاً ثم حبسه، فضج فيه أصحاب الأمير وأكثروا عليه عنده، وزينوا له عزله، لكنه أبى واكتفى بان أمرهم بالتحفظ منه، وحدث أن عزله الأمير عشية، لكنه رده صباحاً لما رأى من سداده
(1)
.
وعندما حدثت المجاعة الشديدة في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وحاول بعض الأشرار الاستفادة من هذا الظرف الطارئ لمصلحتهم، على حساب أمن الآخرين وحرياتهم، وعندما كثرت الشكاوى من ذلك، لجأ الأمير محمد للقضاء على ذلك العبث، إلى تولية إبراهيم بن حسين بن عاصم، المتوفى سنة (256) هـ (870 م) خطة السوق، ومنحه صلاحيات واسعة، بحيث أذن له بالتنفيذ في القطع والصلب بلا مؤامرة منه ولا استئذان
(2)
.
وفي عهد الأمير عبد الله بن محمد: 275 - (300) هـ (888 - (912)) كان سعيد بن محمد السليم يلي خطة السوق، فظهرت منه صرامة في عمله أكسبته مهابة، لما فعله بأحد غلمان المطرف بن الأمير عبد الله، فقد تطاول ذلك الغلام على ابن السليم وهو في مجلس نظره بوسط السوق، فما كان من ابن السليم إلا أن أمر أعوانه بإحضار الغلام عنده، فشق أثوابه، وضربه مائتي سوط، وأرسل به إلى السجن، وخاطب من وقته
(1)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 126.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 103 - 104.
الأمير عبد الله بخبره بما جرى، فما كان من الأمير إلا أن صوَّب فعله واستحسنه، وأدرك عظم كفاءته، ولذا فبعد مدة يسيرة، رفعه إلى الوزارة ثم ولاه الحجابة
(1)
.
وصاحب السوق لا يستطيع أن يقوم بكل شيء بمفرده، فهناك أعوان له يساعدونه في أداء مهامه، وهو بدوره يقوم بمراقبتهم، ويتفقدهم دائماً، فلا يجعل لأحد شغلاً معيناً كوزن الخبز على الخبازين وغيره، لأن ذلك مدعاة لرشوته، كما يجب على صاحب السوق ألا يخبر أعوانه عن وجهته لأمر من أمور الخطة، إذ ربما حدث تواطؤ من أحدهم مع أحد أصحاب المهن، فيرسل إليه يعلمه بمقدم صاحب السوق، فيغير كل فاسد لديه، وبذلك لا يمكن إقامة الحجة عليه، ويتولى صاحب السوق بنفسه إعدام الشيء الفاسد
(2)
.
ولصاحب السوق مجلس في وسط السوق، يجري فيه أحكامه
(3)
فإذا أراد التجول في الأسواق، نهض ومعه أعوانه، وفي يد أحدهم ميزان، يزن به الخبز، لأنه معلوم الوزن لديهم، كما أن اللحم موضح عليه سعره من خلال ورقة تلصق به، لذا لا يمكن التدليس على أحد بقيمتها، لأن الكل يخشى من صاحب السوق الذي كان يعمد إلى إرسال صبي صغير أو جارية فتشتري إما خبزاً أو لحماً، فيزنه بميزانه، فإن وجده ناقصاً، علم أنه
(1)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 5.
(2)
- السقطي، ص 24.
(3)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 5.
غشاش، فيعاقبه بالضرب والتجريس في الأسواق، فإن لم يتب نفاه من البلد
(1)
.
وتحدثنا كتب التراجم الأندلسية، عن مهام صاحب السوق، فهو بالإضافة إلى مراقبته للأسواق، وما يجري فيها من عمليات البيع والشراء، يقوم بمعاقبة من يشهد زوراً، فقد ذكر القاضي عياض أن إبراهيم بن حسين خالد بن مرتنيل، المتوفى سنة (249) هـ (863 م) "ضرب شاهد زور عند باب الجامع أربعين سوطاً وحلق لحيته وسخَّم وجهه
(2)
".
كما يتولى صاحب السوق، أمر من يأتي بشيء من الأمور الدينية غير معروف في البلد، مثلما جرى في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن عندما قام صاحب السوق أبو عبد الله محمد بن الحارث بن أبي سعيد القرطبي، المتوفى سنة (260) هـ (874 م) باستدعاء الفقيه محمد بن عبد السلام الخشني، المتوفى سنة (286) هـ (899 م) بعد عودته من المشرق، وذلك عندما بلغه أنه يقول إن في القرآن ناسخاً ومنسوخاً
(3)
.
ومن بين المهام التي يضطلع بها صاحب السوق، الإشراف على توسعة الشوارع الضيقة، وبالذات ما يمكن أن يطلق عليها الشوارع التجارية، فقد ذكر ابن حيان أنه يوم السبت لثمان خلون من جمادى
(1)
- نفح الطيب، 2/ 218 - 219.
(2)
- ترتيب المدارك، 4/ 244.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1134. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 250 - 256.
الأولى سنة (361) هـ (فبراير (972) م) أصدر الخليفة الحكم المستنصر بالله أمره لصاحب الشرطة والسوق أحمد بن نصر "بتوسيع المحجة العظمى بسوق قرطبة؛ لضيقها عن مخترق الناس وازدحامهم فيها، وهدّ الحوانيت المتحيّفة لعرضها، المضيقة لسبيلها، كيما ينفسح الطريق ولا يضيق بالواردين والصادرين
(1)
".
وقد تولى السوق بقرطبة عدد من الأعلام الأندلسيين، منهم:
العباس بن أبي قرعوس بن عبيد الثقفي، تولى السوق في عهد الأمير الحكم الربضي، وقد كان معروفاً بالشدة والقسوة على أهل الريب، حتى أنه كان يضربهم ضرباً شديداً، الأمر الذي أقلق ابنه قرعوس، فسأل الإمام مالك عن الضرب الذي كان والده يضربه للناس فأجابه الإمام بقوله: "إن كان فعل هذا غضباً لله وذباً عن محارمه فأرجو أن يكون خفيفاً
(2)
".
وقد ورث الفقيه قرعوس بن العباس خطة السوق عن أبيه وسلك سبيله في التشدد على أهل الريب
(3)
، وكان ممن اتُهم بأمر هيج الربض سنة (202) هـ (818 م) فوقاه الله شر سطوة الأمير الربضي، وقد توفي قرعوس سنة (220) هـ (835 م) في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط
(4)
.
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 71.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1084.
(3)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 385.
(4)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1084. ابن حيان، المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 79 - 80. الحميدي، جذوة المقتبس، ترجمة رقم 780.
الفقيه محمد بن مرتنيل، المعروف بالأشج، المتوفى سنة (224) هـ (839 م) ولي السوق بقرطبة، وكان صلباً في أحكامه، ورعاً فاضلاً لا تأخذه في الله لومة لائم
(1)
.
الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن حسين بن خالد بن مرتنيل، المتوفى في شهر رمضان سنة (249) هـ
(2)
(أكتوبر (863) م) كان يلي السوق بقرطبة سنة (232) هـ (847 م) وفي ذلك الوقت هدم ابن مرتنيل حوانيت بني قتيبة، مخالفاً في ذلك علماء عصره، فتظاهروا عليه، وأبانوا خطأه، وأيد قاضي الجماعة معاذ بن عثمان الشعباني رأيهم وفسخ حكم ابن مرتنيل
(3)
.
الفقيه أبو الوليد حسين بن عاصم بن كعب الثقفي، تولى السوق بقرطبة في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وقد اتصف بالشدة على أهل الريب فكان يضرب ضرباً شديداً
(4)
.
الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن حسين بن عاصم، المتوفى شهر رجب سنة (256) هـ
(5)
(يونيو (870) م) ورث خطة السوق عن والده في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن وقد عهد إليه الأمير بالتحفظ، وأذن له
(1)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 126. ترتيب المدارك، 4/ 117 - 118.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 56 - 57.
(4)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 351، المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 77. وأُختلف في تاريخ وفاته وقد ناقش ذلك القاضي عياض، انظر: ترتيب المدارك، 4/ 120 - 121.
(5)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 3.
بالعقوبات بلا مؤامرة ولا استئذان، فبلغ من الشدة مبلغاً حاد فيه عن سنن القضاء
(1)
.
أبو عبد الله محمد بن الحارث بن أبي سعيد، أقره الأمير محمد بن عبد الرحمن على الشرطة، وولاه السوق، فلم يزل في منصبه حتى توفي سنة (260) هـ
(2)
(784 م)، وقد كان ابن الحارث أشد الثلاثة القائمين على الفقيه بقي بن مخلد، المتوفى سنة (276) هـ (889 م) والفقيه محمد بن عبد السلام الخشني، المتوفى سنة (286) هـ (899 م) وذلك بعد عودتهما من المشرق، وقد عُرف ابن الحارث بقلة الفقه
(3)
، و بالأفن والجهالة
(4)
.
عبد الله بن حسين بن عاصم الثقفي، تصرف للأمير محمد في خطط عدة، منها خطة السوق، وقد كان "عسوفاً فيها متمرداً على الغاشين من التجار والصناع له في ذلك أخبار معروفة
(5)
".
وممن تولى خطة السوق في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن أحد رجال البربر، يدعى سليمان بن محمد بن أصبغ بن وانسوس، كان من
(1)
- ترتيب المدارك، 4/ 254 - 255.
(2)
- أخبار الفقهاء، والمحدثين، ترجمة رقم 145.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1107.
(4)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 250 - 256.
(5)
- المصدر السابق، ص 186.
الأدباء والأشراف وقد عزله الأمير محمد عن السوق بسبب كلمة بدرت منه استهجنها الأمير وعابها عليه فعزله
(1)
.
ومن الذين تولوا خطة السوق في عهد الأمير عبد الله بن محمد الفقيه المشاور أبو صالح أيوب بن سليمان المعافري، المتوفى يوم الخميس لسبع بقين من شهر المحرم سنة (203) هـ
(2)
(أغسطس (914) م).
وقد ذكر القاضي عياض أن أبا صالح المعافري تولى السوق "ضرورة وحمية وذلك لذلة نالته من بعض العامة، وقيل بسبب فران رفضه
(3)
" وقد عزل عن السوق كراهية من أهلها كما يقول ابن الفرضي
(4)
لكن هذا القول لا يمكن الاطمئنان إليه متى ما عرفنا أن أبا صالح، كان جواداً سمحاً على قلة ماله، حسن الأخلاق والمعاشرة
(5)
" فمن كانت هذه صفاته، كيف يكون مكروهاً من الآخرين؟ لكن لعل سبب العزل ما ذكره الخشني من أن أبا صالح صاحب السوق "كان له ختن جعل إليه شيئاً من أمور السوق، فكان ذلك سبب عزله
(6)
".
(1)
- نفسه، ص 189 - 191.
(2)
- ترتيب المدارك، 5/ 153.
(3)
- المصدر السابق، 5/ 105.
(4)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 267.
(5)
- ترتيب المدارك، 50/ 150.
(6)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 38.
وذكر ابن عذاري أنه في سنة (295) هـ (908 م) توفي محمد بن يحيى بن أبي غسان صاحب السوق، وتولى الخطة بدلاً منه يحيى بن سعيد بن غسان
(1)
.
ولعل سعيد بن محمد السليم هو أشهر من تولى السوق في عهد الأمير عبد الله، والسبب في شهرته يعود إلى فعلته بغلام المطرف بن الأمير عبد الله مما أهله للوزارة ومن ثم الحجابة
(2)
.
وفي شهر ربيع الآخر من سنة (301) هـ (نوفمبر (913) م) أصدر الأمير عبد الرحمن بن محمد أوامره بعزل عمر بن أحمد بن فرج، المتوفى سنة (305) هـ
(3)
(917 م) عن خطة السوق، وجعل مكانه محمد بن عبد الله الخروبي
(4)
، لكنه لم يلبث إلا أقل من سنة، ثم تولى السوق بدلاً منه أحمد بن حبيب بن بهلول، وذلك سنة (302) هـ
(5)
(914).
ويبدو أن ابن بهلول قد استمر في ولاية السوق فترة طويلة، وهو أمر يخالف ما عُرف عن سياسة الأمير عبد الرحمن بن محمد "الناصر" القائمة على عدم بقاء أحد من رجاله في منصبه أكثر من سنة أو سنتين، وقد ظل ابن بهلول في ولاية السوق حتى شهر شوال من سنة (313) هـ (يناير
(1)
- البيان المغرب، 2/ 144.
(2)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 5.
(3)
- البيان المغرب، 2/ 171.
(4)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 97.
(5)
- المصدر السابق، ص 103.
926 م) حيث أصيب بعلة أبطلت حركته، فتولى السوق بدلاً منه يحيى بن يونس القبري
(1)
.
وهناك خطة أخرى موازنة لخطة السوق، وهي خطة تغيير المنكر، وقد ظهرت هذه الخطة في سنة (326) هـ (938 م) وهي السنة التي عُزل فيها حسين بن أحمد بن عاصم عن خطة السوق، وقدم إلى خطة تغيير المنكر
(2)
.
وقد انحصر وجود خطة تغيير المنكر، في قرطبة فقط، دون بقية كور الأندلس، والسبب في إنشائها يعود إلى حرص الدولة الأموية، بقيادة الخليفة عبد الرحمن الناصر إلى الوقوف في وجه المد الباطني القادم بقوة من الشمال الأفريقي
(3)
، بدعم شديد من العبيديين الذين حاولوا التسلل إلى الأندلس من خلال زحف أفكارهم الباطنية في الوسط الاجتماعي هناك.
وعندما تسلط الحاجب المنصور بن أبي عامر على الخليفة هشام المؤيد، جعل على ولاية السوق وقضاء جيان، أبا المطرف عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الرعيني، المعروف بابن المشاط، المتوفى في شهر جمادى الآخرة من سنة (397) هـ
(4)
(مارس (1007) م).
(1)
- البيان المغرب، 2/ 191.
(2)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 428.
(3)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 388.
(4)
- تريتب المدارك، 7/ 197. الصلة، ترجمة رقم 678.
والملاحظ أن هناك تقارباً شديداً بين خطتي السوق والشرطة، إذ أن كلاً منهما ذات اتصال وثيق الجماهير، وعليهما تقع مسئولية حفظ الأمن والنظام، ومن أجل تحقيق التكامل بين هذين الجهازين يحدث أحياناً الجمع بينهما في يد موظف واحد.
فقد كان محمد بن الحارث المتوفى سنة (260) هـ (874) يلي الشرطة والسوق للأمير محمد بن عبد الرحمن
(1)
، كما كان أحمد بن يونس الجذامي، المعروف بالحراني، يلي خطتي الشرطة والسوق للخليفة هشام المؤيد بالله
(2)
.
وآخر من جمع هاتين الخطتين محمد بن محمد بن إبراهيم القيسي، المتوفى لثلاث عشر ليلة خلت من شهر المحرم سنة (342) هـ (1040 م) فقد كان يلي الشرطة والسوق بقرطبة في عهد الخليفة هشام المعتد بالله، وكان القيسي معروفاً بالصرامة في أحكامه
(3)
.
وهناك وظيفة نشأت داخل ولاية السوق، وهي وظيفة الإفتاء في السوق، وقد نشأت هذه الوظيفة منذ عصر الإمارة
(4)
، فقد كان الفقيه القرطبي علي بن محمد العطار، المتوفى في شهر ربيع الأول سنة (306) هـ
(1)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 145.
(2)
- طبقات الأمم، ص 190 - 191. التكملة (طبعة أبي شنب) ترجمة رقم 22.
(3)
- الصلة، ترجمة رقم 1142.
(4)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 390.
(أغسطس (918) م) يلي منصب المفتي في السوق، وذلك في عهد الأمير عبد الله بن محمد
(1)
.
وفي عصر الخلافة كان الفقيه أبو عبد الله محمد الحداد، فضيل بن هذيل، يتولى الفتيا في السوق وقد استشهد الحداد في موقعة الخندق، وذلك يوم الجمعة لعشر بقين من شهر شوال سنة (327) هـ
(2)
(يوليو (939) م).
يوسف بن سمؤال، كان مفتياً في السوق بقرطبة، توفي في القرن الرابع الهجري
(3)
.
الفقيه أبو عمر أحمد بن هلال بن زيد العطار، كان مفتياً في السوق بقرطبة، توفي في أواخر شهر صفر سنة (364) هـ
(4)
(نوفمبر (974) م).
(1)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 385.
(2)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 217. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1219. وقد ورد فيهما أن أبا عبد الله هذا اسمه محمد بن فيصل، وتابعهما في ذلك الأستاذ عبد الرحمن الفاسي، في خطة الحسبة، ص 71. ولكني اخترت ما أثبته في المتن متابعة لما ذهب إليه الأستاذ محمد خلاف في تاريخ القضاء في الأندلس، ص 391. وذلك؛ لأن اسم فيصل غير شائع إطلاقاً آنذاك، فضلاً عن إمكانية الخلط بينه وبين فضيل، كما أن أبا عبد الله لم يكن نسبه المعروف هو الحداد ولكن لقب بهذا اللقب لملازمته لسوق الحديد.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1630.
(4)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 150.
خطة الشرطة
يقول ابن سعيد الأندلسي: "وأما خطة الشرطة
(1)
بالأندلس فإنها مضبوطة إلى الآن، معروفة بهذه السمة، ويعرف صاحبها في ألسن العامة بصاحبة المدينة وصاحب الليل
(2)
".
وعندما تحدث ابن خلدون عن "الشرطة" ذكر أن صاحبها يعرف بالأندلس بـ"صاحب المدينة
(3)
".
من هذين النصين يتبادر إلى الذهن بأن صاحب الشرطة هو صاحب المدينة، أو أن امتزاجاً حصل بين المنصبين لدرجة أنه يصعب الفصل بينهما، وهذا ما وقع فيه البعض
(4)
، لكن الحقيقة خلاف ذلك، فالمدينة لها موظف خاص كما هو الحال بالنسبة للشرطة، ويكفي للدلالة على ذلك أن القاضي ابن سهل الأندلسي، المتوفى سنة (486) هـ (1093 م) ذكر أن
(1)
- عن كلمة الشرطة ونشأة نظامها: انظر: محمد الشريف الرحموني، نظام الشرطة في الإسلام إلى أواخر القرن الرابع الهجري (الدار العربية للكتاب 1983 م) ص 29 - 61. د. أرسن موسى رشيد، الشرطة في العصر الأموي (ترجمة: د. أحمد مبارك البغدادي، الكويت، مكتبة السندس، ط الأولى 1410 هـ/1990 م) ص 15 - 17.
(2)
- نفح الطيب، 1/ 218.
(3)
- مقدمة ابن خلدون، ص 687.
(4)
- محمد رضا عبد العال، النظام القضائي في الأندلس، في عهد الخلافة الأموية 316 - 447 هـ (رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة القاهرة 1402 هـ (1982 م) لم تطبع) ص 128. L.provencal: Op.Cit، V، III: P: 158.
هناك خططاً ستاً تجري على يد أصحابها الأحكام وهي: القضاء والشرطة والمظالم والرد والمدينة والسوق
(1)
ففصل بذلك خطتي الشرطة والمدينة، ولاشك أن ابن سهل أدرى بأخبار الأندلس من ابن سعيد وابن خلدون.
وعندما نستعرض كتابات المؤرخ ابن حيان عن الاحتفالات التي تقام بمناسبة الأعياد أو الزيارات الدبلوماسية، نجد ان صاحب الشرطة يأتي في الترتيب بالجلوس بعد صاحب المدينة
(2)
.
ومن هنا ندرك أن للشرطة في الأندلس جهازاً قائماً بذاته، كما أن الشرطة بأقسامها وصلاحيات أصحابها تعطي دلالة على ضخامتها وكثرة عدد أفرادها.
ويعرف من يلي خطة الشرطة في الأندلس بصاحب الشرطة أو والي الشرطة أو الشرطة، أو صاحب الأحكام
(3)
.
ويأتي تعيينه عن طريق الأمير
(4)
أو الخليفة
(5)
، ويصدر في هذه المناسبة سجل يحوي أمر التعيين
(6)
.
(1)
- النباهي، ص 5.
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 30 وغيرها.
(3)
- انظر، ابن الفرضي، تراجم رقم 3، 166، 167، 208، 326، 707، 746، 1073، 1101، 1107، 1287، 1301، 1325، 1327.
(4)
- أخبار مجموعة، ص 91.
(5)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 252.
(6)
- البيان المغرب، 2/ 235.
وأول من تولى الشرطة لبني أمية في الأندلس هو عبد الرحمن بن نعيم، فقد ولاه الأمير عبد الرحمن الداخل الشرطة بمجرد أن وضع يده على قصر قرطبة بعد انتهاء معركة المصارة
(1)
. وبعد أن استوثق الأمر للأمير عبد الرحمن الداخل ولى شرطته الحصين بن الدجن بن عبد الله العقيلي، لما عرف عنه الأمير من صالح بلائه وشدة بأسه ونجدته وموقفه من يوسف الفهري ووزيره الصميل
(2)
.
ومن خلال كتاب أرسله الخليفة الأموي بالشام مروان بن محمد إلى ولده عبد الله يمكن الوقوف على السمات التي يجب توافرها فيمن يلي الشرطة فقد جاء في الكتاب: "فول شرطتك وأمر عسكرك أوثق قوادك عندك، وأظهرهم نصيحة لك، وأنفذهم بصيرة في طاعتك، وأقواهم شكيمة في أمرك، وأمضاهم صريمة، وأصدقهم عفافاً، وأجزأهم غناء، وأكفاهم أمانة، وأصحهم ضميراً، وأرضاهم في العامة ديناً، وأحمدهم عند الجماعة خلقاً، وأعطفهم على كآفتهم رأفة، وأحسنهم لهم نظراً، وأشدهم في دين الله وحقه صلابة،
…
مجرباً، ذا رأي وتجربة وحزم في المكيدة، له نباهة في الذكر، وصيت في الولاية، معروف البيت، مشهور الحسب
(3)
".
كما تحدث ابن عبد ون عن تلك السمات فذكر أن صاحب الشرطة -الحاكم- لابد "أن يكون رجلاً خيراً، عفيفاً، غنياً، عالماً، متحنكاً في
(1)
- أخبار مجموعة، ص 91.
(2)
- الحلة السيراء، 2/ 354 - 355.
(3)
- صبح الأعشى، 10/ 215 - 216.
علم الوثائق ووجوه الخصومات، ويكون ورعا، لا يرتشي ولا يميل، ويجري في حكمه وأمره إلى الحق والاعتدال، ولا يخاف في الله لومة لائم، ويكون أكثر جريه في حكمه إلى الإصلاح بين الناس
(1)
".
ولقد كانت تلك السمات متوفرة في معظم أصحاب الشرطة لدى بني أمية في الأندلس، فأبو عبد الله محمد بن خالد الأشج، المعروف بابن مرتنيل، المتوفى سنة (220) هـ (835) كان فقيها فاضلاً، ورعاً صليباً، ولاه الأمير عبد الرحمن الأوسط الشرطة والصلاة معاً
(2)
.
ولكن وجد بالمقابل من تولى الشرطة وهو خالٍ من بعض تلك السمات، فقد وجد من أصحاب الشرطة من كان متأخراً في علمه وعقله
(3)
، وهناك من كان قليل العلم
(4)
، "ولعل سبب اختيار هؤلاء وأمثالهم في خطة الشرطة هو شرف بيوتاتهم ونباهتها
(5)
" فضلاً عن أن الخطط لدى أمويي الأندلس متوارثة، أي أنها محصورة في بيوتات معينة، ولذا فإنه يتم تعيين أحد أبناء تلك الأسرة في تلك الخطة حتى وإن كان يعاني من نقص معرفي وعقلي نوعاً ما، وحفاظاً على عدم خروج أي خطة في الدولة عن أي من الأسر المساندة لبني أمية.
(1)
- رسالة في القضاء والحسبة، ص 11.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1101.
(3)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 266.
(4)
- الصلة، ترجمة رقم 1102.
(5)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 487.
أقسام الشرطة:
عندما وجدت الشرطة في الدولة الأموية في الأندلس، لم تكن خطة قائمة بذاتها، وإنما كانت مضافة إلى غيرها من الخطط، بالذات ولاية السوق؛ ولأجل هذا لم تكن مقسمة إلى أقسام، واستمر الوضع على هذه الصورة حتى أوائل القرن الثالث الهجري، ففي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط تم فصل الشرطة عن ولاية السوق
(1)
، وأصبحت الشرطة منقسمة إلى قسمين: الشرطة الكبرى، والشرطة الصغرى، وإلى هذين القسمين أشار ابن خلدون أثناء حديثه عن الشرطة لدى بني أمية في الأندلس
(2)
.
ولكن ابن سهل الأندلسي ذكر أن الشرطة لدى بني أمية كانت منقسمة إلى ثلاثة أقسام: شرطة كبرى، شرطة صغرى، وشرطة وسطى
(3)
، ولا ريب أن ابن سهل آكد من ابن خلدون في هذا؛ لقربه من الأحداث؛ ولوجود ما يؤيد قوله، وذلك ما ذكره ابن حيان من إنشاء الشرطة الوسطى سنة (317) هـ
(4)
(929).
وهناك فروع للشرطة، منها: فرع مختص بالعسس، وهو الطواف بالليل أو ما يسمى في الأندلس بالدرابين، ومهمة أولئك الدرابين المحافظة على الأمن عند حلول المساء، إذ ينشط الأشرار، فلا "تكاد في الأندلس
(1)
- المغرب في حلى المغرب، 1/ 46.
(2)
- مقدمة ابن خلدون، ص 687.
(3)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 471.
(4)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 252.
تخلو من سماع دار فلان دخلت البارحة، وفلان ذبحه اللصوص على فراشه
(1)
"، وقد سمي هذا الفرع بالدرابين ذلك "لأن بلاد الأندلس لها دروب بأغلاق تغلق بعد العتمة، ولكل زقاق باءت فيه، له سراج معلق وكلب يسهر وسلاح معدّ
(2)
".
وأما الفرع الآخر فهو "شرطة العدو" وهذا الفرع أنشأه الأمير عبد الرحمن الأوسط، وعندما حقق الدكتور محمود مكي كتاب المقتبس لابن حيان، لم يهتد إلى إعطاء تفسير لها، واكتفى بالقول بأن تحريفاً وقع في ألفاظها أو سقط منها شيء،
(3)
وتابعه في ذلك بعض الباحثين
(4)
، إلا أن أحد الأساتذة المهتمين بالدراسات التاريخية الأندلسية وهو الدكتور محمد خلاف ذكر أن شرطة العدو هي فرقة من الشرطة أشبه ما تكون برجال الدرك إذ أن كلا الطرفين يستخدمان الخيل في عملهما، ويكون مكان تواجد شرطة العدو خارج أبواب قرطبة، وذلك لمراقبة الخارجين منها والداخلين إليها، من اللصوص وقطاع الطرق الذين يستخدمون الخيل في تنقلاتهم فتقوم شرطة العدو بمطاردتهم والقبض عليهم؛ لينالوا
(1)
- نفح الطيب، 1/ 219.
(2)
- المصدر السابق، والصفحة.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 38، حاشية رقم 3.
(4)
- النظام القضائي في الأندلس، ص 128.
جزاء أفعالهم المشيئة
(1)
، وهذا هو التفسير المقنع والذي يمكن أن تطمئن إليه النفس.
وهذان الفرعان: الدرابون وشرطة العدو يتبعان الشرطة الصغرى، إذ أنها مختصة بالعامة؟
(2)
.
أما الشرطة الكبرى فهي المختصة بكبار رجالات الدولة، وكل من يشغل وظيفة فيها، بالإضافة إلى أقاربهم ومن إليهم من أهل الجاه والسلطان
(3)
.
ونظرًا للنقلة الكبيرة التي عاشتها الدولة الأموية بتولي الأمير عبدالرحمن بن محمد مقاليد الحكم بها، وفرضه لكلمته على أرجاء البلاد، ومن ثم تسميه بالخلافة وكل هذا جعل قاطبة تستقبل قاطنين جدد، ومع الاستقرار السياسي والأمن الذي أصبحت الأندلس تعيشه فى عهد في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر فقد ازدهرت التجارة، وارتفع المستوى الإقتصادي في البلاد عامة، وفي قرطبة خاصة، الأمر الذي نتج عنه ظهور فئة ثالثة في المجتمع وهي فئة التجار، والتي تشمل أيضا أصحاب المهن الراقية، وهذه الفئة تقع بين فئتي الأثرياء وكبار الشخصيات وبين فئة العامة
(4)
، وبما أن
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 472 - 473.
(2)
- مقدمة ابن خلدون، ص 688.
(3)
- المصدر السابق، ص 687 - 68.
(4)
- 156 - 157 L.Provencal: op. cit. T. III. p قارن: أحمد فكري، قرطبة في العصر الإسلامي ص 299.
الشرطة الكبرى مختصة بشئون الخاصة، والشرطة الصغرى مختصى بالعامة، ونظراً لأن الخليفة عبد الرحمن الناصر كان صاحب تجديدات في الدولة، فإنه لم يشأ أن يزيد تكاليف أي من الشرطتين الكبرى والصغرى، ولأجل هذا فقد أمر بإنشاء الشرطة الوسطى سنة (317) هـ (929 م) لتتولى شئون تلك الفئة الجديدة وأول من تولاها هو سعيد بن جدير
(1)
.
وقد ذكر ابن حيان أن الخليفة عبد الرحمن الناصر جعل الرزق الشهري لصاحب الشرطة الوسطى وسطاً بين الشرطتين الكبرى والصغرى
(2)
وعلى هذا الأساس وبناء على التطور الهائل الذي أصبحت عليه الدولة الأموية في زمن الخليفة عبد الرحمن الناصر يمكن أن نتوقع رزقاً شهرياً لأصحاب الشرطة الثلاثة يتناسب والرخاء الاقتصادي الذي كانت تعيشه الدولة آنذاك
(3)
.
والمصادر لم تحدثنا عن الزي الذي يرتديه صاحب الشرطة، لكننا من خلال قصة رويت عن عالم المرية القاضي أبي الحسن الرعيني، المتوفى سنة (435) هـ (1043 ـ (1044) م) يمكن أن نتصور الشكل العام الذي
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 252.
(2)
- المصدر السابق، والصفحة.
(3)
- تجدر الإشارة إلى أن ابن حيان ذكر أن الخليفة الحكم المستنصر بالله أصدر أوامره في شهر رمضان سنة 361 هـ) بتولية علي بن أبي الحسين الشرطة الصغرى مجموعة له إلى عمل القضاء بالثغر، وجعل مرتبه ثلاثين ديناراً في الشهر. انظر: المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 81.
يظهر به صاحب الشرطة، فهو رجل يمشي مظهراً قوته من خلال سرعة مشيته، بعد أن يشمر ثيابه ويمسك بيده عصا
(1)
، وإن كنّا نتوقع أن الأمير أو الخليفة لابد وأن يمنح صاحب الشرطة زياً خاصاً يعرف به بين الناس.
أهمية منصب صاحب الشرطة:
تتضح أهمية منصب صاحب الشرطة، من خلال المهام المناطة به، وقبل الحديث عن هذه المهام نشير إلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية من أن صاحب الشرطة في المغرب ليس له حكم في شيء وإنما هو منفذ لأحكام القاضي
(2)
، وفي هذا دلالة على تبعية صاحب الشرطة للقضاء، ويبدو أن هذا كله كان في بداية عهد الدولة الأموية في الأندلس، إذ أن ابن خلدون يذكر في حديثه عن الشرطة أنها كانت في البداية تقوم "باستيفاء الحدود
(3)
" أي تنفيذ الأحكام التي يصدرها القاضي، بعد أن تقوم بجمع الأدلة ضد المتهم، وإثباتها عليه، ثم أنهم أرداوا أن ينزهوا القاضي عن النظر في بعض الجرائم التي تتعلق بالحدود كالزنا وشرب الخمر، فاختصروا الوقت الذي يستلزم عرض مثل هذه القضايا على القاضي وجعلوها مناطة بالشرطة؛ لأنها هي التي تستوفي الأدلة، الأمر الذي أدى إلى انفصال الشرطة عن القضاء.
(1)
- نفح الطيب، 3/ 381.
(2)
- شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية، الحسبة في الإسلام، (نشرها، قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة 1387 هـ) ص 8.
(3)
- مقدمة ابن خلدون، ص 687.
وقد سبق أن عرفنا أن في الدولة الأموية بالأندلس
تنقسم الشرطة إلى ثلاثة أقسام:
-
الشرطة الصغرى:
أنشأها الأمير عبد الرحمن الأوسط، وذلك عندما ميَّز الشرطة عن ولاية السوق، ويُذكر أن الفقيه المفتي حارث بن سعيد هو أول من تولى الشرطة الصغرى، ولم يزل عليها إلى أن توفي سنة (221) هـ (836 م)
(1)
ومجلس صاحب الشرطة يكون في مشبَّك يُبنى له خصيصاً في سقيفة المسجد الجامع بقرطبة مع مشبك مجلس القاضي
(2)
وذلك لكي يحضر مجلس القاضي للتشاور معه في الأمور التي تحتاج لابداء المشورة، بالإضافة إلى إيجاد رقابة من القاضي عليه، فيكون دائماً تحت نظره، يراجع أحكامه ويبحث في سيرته
(3)
.
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 80 - 99. ومما تجدر الإشارة إليه أن ابن حيان ذكر أن الأمير الحكم الربضي هو الذي ولى حارث بن أبي سعد الشرطة الصغرى، فكان أول من وليها، وأن الأمير عبد الرحمن الأوسط أقره عليها، انظر: المقتبس، تحقيق: مكي، ص 99.
(2)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 79.
(3)
- ابن عبدون، رسالة في القضاء والحسبة، ص 13.
الشرطة الوسطى:
أنشأها الخليفة عبد الرحمن الناصر سنة (317) هـ (929 م) وأول من تولاها سعيد بن حدير، ولعل مجلس صاحبها يكون مع صاحب الشرطة الصغرى في المسجد الجامع أو أحد مساجد البلد
(1)
.
الشرطة العليا:
وهذه من ابتكارات الأمير عبد الرحمن الأوسط، ولعل محمد بن خالد بن مرتنيل المعروف بالأشج، المتوفى سنة (220) هـ (835 م) هو أول من تولاها
(2)
.
ويذكر ابن خلدون أن صاحب الشرطة الكبرى - العليا - كان ينصب له "كرسي بباب دار السلطان ورجاله يتبوءون المقاعد بين يديه، فلا يبرحون عنها إلا في تصريفه
(3)
".
والشرطة العليا هي أهم أنواع الشرطة وأعلاها مرتبة، ولأجل هذا فقد "كانت ولايتها للأكابر من رجالات الدولة، حتى كانت ترشيحاً للوزارة والحجابة
(4)
".
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 486.
(2)
- ترتيب المدارك، 4/ 117 - 118. وقد اعتبرت محمد الأشج أول من تولى الشرطة العليا رغم عدم تصريح المصادر بذلك، لأني قد وجدت معاصره ابن سعيد كان يلي الشرطة الصغرى، بالإضافة إلى سطوة الأشج بأحد أصحاب الأمير، وهذا لا يكون إلا لصاحب الشرطة العليا.
(3)
- مقدمة ابن خلدون، ص 688.
(4)
- المصدر السابق والصفحة.
ومن خلال تتبع المصادر الأندلسية حاولت أن أخرج بقائمة تحوي أسماء أصحاب الشرطة بأنواعها الثلاث، مسلسلة زمنياً قدر الاستطاعة.
فعندما وصل الأمير عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس واصطدم بواليها يوسف الفهري، جعل عبد الرحمن بن نعيم والياً لشرطته مكافأة له على نصحه إياه وتحذيره ممن أراد الفتك به
(1)
.
وبعد أن استوثق الأمر للأمير عبد الرحمن الداخل جعل على شرطته الحصين بن الدَّجْن بن عبد الله العُقيلي، الذي كان على خيل الداخل يوم المصارة، كما أنه يعتبر فارس أهل الشام بأساً ونجده، وعندما كُتب عقد الأمان بين الأمير عبد الرحمن الداخل وبين يوسف الفهري كان الحصين أحد شهود العقد
(2)
وبعده تولى الشرطة قاسم بن أبي
…
(3)
.
وفي عهد الأمير هشام الرضا بن عبد الرحمن الداخل تولى الشرطة كل من: الحسن بن بسام وعبد الغافر بن أبي عبده
(4)
.
وفي عهد الأمير الحكم الربضي تولى الشرطة كل من جودي بن أسباط السعدي
(5)
ومن بعده محمد بن كليب بن ثعلبة
(6)
وعندما وصل
(1)
- أخبار مجموعة، ص 91.
(2)
- الحلة السيراء، 2/ 354 - 355.
(3)
- ذكر بلاد الأندلس، 1/ 110.
(4)
- البيان المغرب، 2/ 61.
(5)
- المقتبس، تحقيق: انطونيه، ص 123. ذكر بلاد الأندلس، 1/ 126.
(6)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، 38.
عبد الرحمن بن الحكم للإمارة أقر محمد بن كليب بن ثعلبة على الشرطة ثم رقاه إلى الوزارة
(1)
، ثم نظم الشرطة وقسمها قسمين كما عرفنا من قبل، فتولى الشرطة الصغرى شخصيات عدة، منها: -
حارث بن أبي سعد الفقيه المفتي، المتوفى سنة (222) هـ (837 م)
(2)
، ومن بعده تولاها محمد بن الحارث، ورغم أنه اتصف بقلة العلم، إلا أن الأمير عبد الرحمن الأوسط ولاه الشرطة الصغرى؛ لأن من سياسة الأمويين إبقاء الخطط متوارثة في أسر معينة، ولم يزل محمد بن الحارث يلي الشرطة الصغرى طيلة عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط فلما توفي تولى الإمارة ابنه محمد أقر ابن الحارث على الشرطة الصغرى، وولاه السوق، وظل بالولاية حتى وفاته سنة (260) هـ (874 م)
(3)
.
وفي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن تولى الشرطة الصغرى أبو سعيد محمد ابن عبد الرحمن بن إبراهيم، وقد ذكر الخشني قصة وقوف صاحب الشرطة محمد بن عبد الرحمن في وجه قاضي الجماعة أحمد بن زياد اللخمي عندما أراد أن يحبس محمد بن يوسف
(4)
.
(1)
- المصدر السابق، تحقيق: د. محمود مكي، 29، 38.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 326. ترتيب المدارك، 4/ 113.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1107.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 65 - 66.
كما تولاها موسى بن محمد بن زياد الجذامي
(1)
، قبل أن يلي قضاء الجماعة، وكذلك تولاها مسرور المعلم
(2)
.
وفي عهد الأمير عبد الله بن محمد كان الفقيه أبو عبد الله محمد بن سعيد الموثق، المعروف بابن الملون، يلي الشرطة الصغرى بعهد من الأمير لكنه لم يستمر في منصبه إذ مات في صدر أيام الأمير عبد الله
(3)
.
وعندما توفي الأمير عبد الله كان أحمد بن محمد بن حدير يلي الشرطة الصغرى، فأقره عليها الأمير عبد الرحمن بن محمد، ثم نقله منها إلى الوزارة والقيادة وذلك لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة (300) هـ (ديسمبر سنة (912) م) وولي مكانه محمد بن محمد بن أبي زيد، ثم عزله عنها وولاها يحيى بن إسحاق سنة (304) هـ (916)
(4)
ثم أعاد ابن أبي زيد للشرطة الصغرى وذلك يوم السبت لخمس بقين من شوال سنة (310) هـ (فبراير (923) م)
(5)
وفي سنة (311) هـ (924 م) تولى الشرطة الصغرى يحيى بن يونس القبري
(6)
.
(1)
- المصدر السابق، ص 94.
(2)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 170. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1431.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1125. ترتيب المدارك، 4/ 452.
(4)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 134. البيان المغرب، 2/ 167.
(5)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 182. البيان المغرب، 2/ 183.
(6)
- البيان المغرب، 2/ 185. ورد الاسم لدى ابن عذاري "القبرسي" والتصحيح من المقتبس، تحقيق شالميتا، ص 314.
وتولاها مع السوق والسكة يحيى بن عبد الله بن يونس المرادي، المتوفى سنة (326) هـ (938 م)
(1)
ثم تولاها حسين بن أحمد بن عاصم الذي تنازع مع الفقيه ابن لبابه في مجلس قاضي الجماعة محمد بن عبد الله بن أبي عيسى فاحتدم الخصام بين الاثنين مما تسبب في اضطراب جسم بن لبابة ففلج، وحمل إلى داره، وذلك يوم الخميس لثلاث خلون من ذي الحجة، وتوفي يوم الأحد لست خلون من ذي الحجة سنة (330) هـ (أغسطس (942) م)
(2)
.
ومن الذين تولوا خطة الشرطة في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي دليم، المتوفى في شهر جمادى الأولى سنة (351) هـ (يونيو (962)) كان نبيلاً في الحديث، ضابطاً لما روى، بصيراً في الإعراب، تولى قضاء إلبيرة وبجانه وأحكام الشرطة، وكانت له لدى الخليفة المستنصر منزلة خاصة
(3)
.
ونظراً لشدة تعلق الخليفة المستنصر، بالعلم والعلماء، نجده يميل إلى تولية بعض العلماء لمناصب دولته، ومنها الشرطة، فبالإضافة إلى ابن أبي دليم نجد أبا عبد الله محمد بن أبان ابن سيد اللخمي، الذي كان عالماً
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 491.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1231. ترتيب المدارك، 6/ 92.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 707.
بالعربية واللغة، وحافظاً للأخبار والأنساب والأيام والمشاهد والتواريخ، يلي أحكام الشرطة للخليفة الحكم وله مكانة عنده
(1)
.
وكذلك تولى الشرطة الصغرى أبو عبد الله محمد بن تمليخ التميمي، المتوفى في شهر رمضان سنة (361) هـ (يوليو (972) م) تولى خطة الرد والشرطة، وقد كانت له منزلة عند الخليفة الحكم المستنصر، كما كان عالماً بالطب
(2)
.
ويذكر ابن حيان أنه في يوم السبت السادس من شهر شوال سنة (361) هـ (21 يوليو (972)) عُزل خالد بن هشام عن الشرطة الصغرى
(3)
وكان قبل ذلك في شهر رمضان من العام نفسه قد تمت تولية علي بن محمد بن أبي الحسن الشرطة الصغرى مجموعة له إلى القضاء بالثغر، وبلغ رزقه ثلاثين ديناراً، وفي اليوم نفسه قدم أخوه حسن بن علي إلى الشرطة الصغرى أيضاً إلى ما يليه من قضاء الثغر
(4)
، كما تولاها لفترة وجيزة محمد بن يحيى بن عبد العزيز المعروف بابن الخراز، الذي لزم داره طيلة السنوات السبع الأخيرة من عمره، حيث توفي يوم الأحد لسبع خلون من شوال سنة (369) هـ (28 إبريل (980) م)
(5)
.
(1)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1287.
(2)
- نفسه، ترجمة رقم 1301.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. الحجي ص 86.
(4)
- المصدر السابق، ص 81.
(5)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1325.
وفي صدر دولة الخليفة هشام المؤيد بالله، تولى أحكام الشرطة أبو عثمان سعيد بن أحمد بن محمد بن سعيد بن موسى بن حدير، ثم لزم بيته وانقبض عن الخدمة إلى أن توفي غداة يوم الثلاثاء لتسع بقين من ربيع الأول سنة (391) هـ (فبراير (1001) م)
(1)
.
كما تولاها في عهد الخليفة هشام المؤيد عدد من أعلام قرطبة، منهم: -
أبو عبد الله محمد بن يحيى بن الخليل توفي لليلتين خلتا من رجب سنة (370) هـ (8 يناير (981) م)
(2)
، والعالم اللغوي محمد بن حسن الزبيدي، المتوفى يوم الخميس مستهل جمادى الآخرة سنة (379) هـ (5 ديسمبر (989) م)
(3)
، والأديب العالم أحمد بن أبان بن سيد، المتوفى سنة (382) هـ (992 م)
(4)
، أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد الأموي، المعروف بالجالطي، كان من أهل العلم والأدب والدراية والرواية، تولى أحكام الشرطة للخليفة هشام المؤيد بالله، فكان محموداً في حكومته، قتلته البرابرة يوم تغلبهم على قرطبة في جوف بيته مدافعاً عن أهله وولده، وذلك يوم الاثنين لست خلون من شوال سنة (403) هـ (21 إبريل (1013) م)
(5)
.
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 531.
(2)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1328.
(3)
- نفسه، ترجمة رقم 1357.
(4)
- الصلة، ترجمة رقم 6.
(5)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1060.
وهذا الشاعر الطبني أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد بن أسد الحماني، مشرقي، قدم الأندلس سنة (331) هـ (943 م) وكانت له عند العامريين حظوة خاصة، تولى بسببها الشرطة عندهم، وعاش إلى أن علت سنه، توفي غداة يوم الاثنين لثلاث بقين من ذي الحجة سنة (394) هـ (أكتوبر (1004) م)
(1)
.
ومحمد بن يحيى بن زكريا بن برطال، كان يلي الشرطة حتى سنة (381) هـ (991 م)
(2)
. وعبد الرحمن بن محمد بن أحمد الرعيني المعروف بابن المشاط، المتوفى سنة (397) هـ (1007 م) كان يلي للحاجب المنصور بن أبي عامر أحكام الشرطة وخطة الوثائق السلطانية وقضاء إستجه وأشونه وقرمونة ومورور وتاكرنا، جمعهن له، وقد تنقل في وظائف عدة إلى أن توفي سنة (397) هـ (1007 م)
(3)
. وعبد الله بن أحمد بن قند، المتوفى سنة (400) هـ (1010 م)
(4)
. وعبد الله بن حسين بن إبراهيم بن حسين بن عاصم، المتوفى سنة (403) هـ (1013 م)
(5)
وعبد الملك بن
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1406. قارن الصلة، ترجمة رقم 1304.
(2)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1390.
(3)
- الصلة، ترجمة رقم 678.
(4)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 565.
(5)
- التكملة، (طبعة كويرا) ترجمة رقم 1277.
مروان بن أحمد بن شهيد، المتوفى سنة (408) هـ (1017 م)
(1)
ومحمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن حدير، المتوفى سن (414) هـ
(2)
(1024 م).
وأما الشرطة الوسطى فقد تعاقب على ولايتها شخصيات عدة، والأسماء التي سوف أوردها على أنها قد تولت الشرطة الوسطى، لم تصرح المصادر بتولي بعضها لتلك الخطة، وهذا قليل، وقد أدرجتها ضمن القائمة بناء على استقراء لبعض الأحداث التاريخية، وإن كان الأمر لا يمكن القطع به، فعندما أنشأ الخليفة عبد الرحمن الناصر الشرطة الوسطى، كان أول ولاتها هو: سعيد بن سعيد بن حدير، كما تولاها جعفر بن عثمان المصحفي المتوفى سنة (372) هـ (982 م) فقد استخدمه الحكم بن عبد الرحمن الناصر عندما كان وليا للعهد فاستكتبه "ورقاه إلى خطة الشرطة الوسطى والنظر في عدة من الأعمال والكور
(3)
".
وفي سنة (329) هـ (941 م) تولى عبيد الله بن يحيى بن إدريس خطة الشرطة الوسطى
(4)
وقد بلغ من تواضعه رحمه الله، انه رغم توليه الوزارة فيما بعد فقد كان يؤذن في مسجده، ولم تزده الخطط الرفيعة إلا تواضعاً، وقد توفي في أواخر ذي القعدة سنة (352) هـ (نوفمبر (962) م
(5)
).
(1)
- الصلة، ترجمة رقم 761.
(2)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1099.
(3)
- البيان المغرب، 2/ 254.
(4)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 471.
(5)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 767.
كما شغل هذه الخطة في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله أبو محمد قاسم بن محمد بن قاسم بن سيار، المتوفى سنة (353) هـ (964 م
(1)
).
ويذكر ابن حيان أنه في شهر جمادى الأولى من سنة (361) هـ (فبراير (972)
(2)
) قدم الخليفة الحكم المستنصر بالله "محمد بن عبد الله بن أبي عامر إلى خطة الشرطة الوسطى مجموعة له إلى مافي يده من خطة المواريث والقضاء بإشبيلية ووكالة الأمير أبي الوليد هشام
(3)
".
ويذكر ابن حيان أنه في الاحتفال الذي أقامه الخليفة الحكم المستنصر بالله بمناسبة عيد الأضحى لعام (362) هـ (سبتمبر (974) م) كان عبد الرحمن بن يحيى بن هشام التجيبي يلي الشرطة الوسطى حيث كان من بين الذين حجبوا الأمير هشام بن الحكم المستنصر
(4)
.
وحدث أن عتب الخليفة الحكم المستنصر بالله على صاحب الشرطة الوسطى يعلى بن أحمد بن يعلى فأمر بإقصائه عن منصبه وذلك يوم السبت لسبع بقين من شهر رمضان سنة (364) هـ (يونيو (975) م
(5)
).
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 491.
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. الحجي، ص 72. وقد جعل ابن عذاري ذلك في شهر جمادى الآخرة، البيان المغرب، 2/ 251.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. الحجي، ص 72.
(4)
- المصدر السابق، ص 185.
(5)
- نفسه، ص 228.
وفي يوم الثلاثاء لخمس بقين من شعبان سنة (364) هـ قدم عبد العزيز بن حكم التجيبي من الشرطة الوسطى إلى الشرطة العليا
(1)
.
وفي يوم السبت العاشر من شهر صفر سنة (366) هـ (أكتوبر (976)) أصدر الخليفة هشام المؤيد بالله أوامره بترقية محمد بن أبي عامر من الشرطة الوسطى إلى خطة الوزارة
(2)
، وتولى بدلاً منه أبو القاسم نزار بن كوثر، المتوفى قريباً من سنة (380) هـ (990 م
(3)
). وفي عهد تسلط الحاجب المنصور بن أبي عامر على الخليفة هشام المؤيد بالله، تولى الشرطة الوسطى عبد الله بن سعيد بن محمد بن بتري، المتوفى سنة (401) هـ (1011 م) وقد كلفه المنصور في ذلك الوقت بالإشراف على الزيادة التي أجراها على جامع قرطبة سنة (377) هـ (987 م
(4)
).
ويمكن اعتبار الفقيه إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحضرمي، المعروف بابن الشرفي، المتوفى في نصف شهر شعبان سنة (396) هـ (مايو (1006) م) آخر أصحاب الشرطة في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر، فقد تولى خطط الشرطة والمواريث والصلاة والخطبة بالمسجد الجامع بقرطبة ولم يزل يشغلها حتى وفاته
(5)
.
(1)
- نفسه، ص 225.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 254.
(3)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 485.
(4)
- التكملة، (طبعة كوديرا)، ترجمة رقم 1277. البيان المغرب، 2/ 287.
(5)
- ترتيب المدارك، 7/ 192 - 194.
ومجلس صاحب الشرطة الوسطى يكون دائماً بعد صاحب الشرطة العليا ففي عيد الفطر الكائن في سنة (361) هـ (16 يوليو (972) م) جلس الخليفة الحكم المستنصر بالله وجلس كبار رجالات الدولة من حوله بالترتيب، وكان جلوس صاحب الشرطة الوسطى آنذاك محمد بن عبد الله بن أبي عامر تحت صاحب الشرطة العليا محمد بن سعد
(1)
.
وعند استقبال الخليفة رجال دولته يكون ترتيب صاحب الشرطة الوسطى بالتسليم على الخليفة بعد صاحب الشرطة العليا
(2)
.
وأما الشرطة العليا فيمكن اعتبار محمد بن خالد بن مرتنيل، المعروف بالأشج أول من تولاها في الأندلس، وذلك بالنظر إلى سلطته الواسعة، حتى أنه أدب أحد أصحاب الأمير عبد الرحمن الأوسط وحبسه، وعندما عاتبه الأمير على ذلك أجابه ابن مرتنيل بأنه عندما تولى الشرطة لم يوصه الأمير بمراعاة أحد دون أحد
(3)
، ومما يقوي اعتبار أن ابن مرتنيل أول من تولى الشرطة العليا أن معاصره حارث بن أبي سعد كان يلي الشرطة الصغرى، وهذا كانت وفاته سنة (222) هـ (837) وابن مرتنيل توفي سنة (220) هـ (835 م).
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. الحجي، ص 81.
(2)
- المصدر السابق، ص 30.
(3)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 111. ترتيب المدارك، 4/ 117 - 118.
كما تولى الشرطة العليا في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط سعيد بن عياض القيسي
(1)
، وكان حارث بن أبي سعد يلي الشرطة الصغرى في الوقت نفسه.
وفي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن كان على الشرطة العليا إبراهيم بن حسين بن خالد بن مرتنيل، المتوفى في شهر رمضان سنة (249) هـ (نوفمبر (863) م) وكما نلاحظ من نسبه فإنه من أسرة أفرادها هم أول ولاة الشرطة العليا، وقد عرف إبراهيم بن حسين بأنه كان خبيراً فقيهاً عالماً بالتفسير، واتصف بالصلابة في حكمه، والعدالة عندما كان والياً للشرطة وقد ذكر ابن لبابة أن إبراهيم هذا قد عاقب أحد شهود الزور بأن أقامه عند الباب الغربي لجامع قرطبة ثم ضربه أربعين سوطاً وحلق لحيته وسخم وجهه
(2)
.
وممن كان يلي الشرطة العليا في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن الأديب الشاعر عبد الله بن عاصم، فقد كان رجلاً سريع البديهة كثير النوادر، ولذا فقد كان من جلساء الأمير محمد
(3)
.
وكذلك إبراهيم بن حسين بن عاصم، المتوفى في شهر رجب من سنة (256) هـ (يونيو (870) م)
(4)
ويبدو أنه في عهد ولايته للشرطة العليا
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي ص 38.
(2)
- ترتيب المدارك، 4/ 242 - 244. المعيار المعرب، 2/ 215.
(3)
- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 560.
(4)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 3.
قد كثر أهل الشر والفساد ولأجل هذا فقد قال عنه القاضي عياض، أنه قد غلب "على أهل الشر، وقد قتل وصلب كثيراً بلا مشاورة سلطان ولا فقيه
(1)
".
وفي عهد الأمير عبد الله بن محمد كان مروان بن عبد الملك بن عبد الله بن أمية يلي الشرطة العليا، وظل في منصبه حتى عزله الأمير عن سخطه في سنة (283) هـ (896 م
(2)
) ثم أودع مع غيره في سجن المطبق بداخل قصر الإمارة حيث قتل ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة (284) هـ (14 سبتمبر (897) م)
(3)
.
ثم تولى الشرطة من بعده موسى بن محمد بن زياد الجذامي، فقد كان على الشرطة الصغرى والرد ثم نقله الأمير للشرطة العليا
(4)
، واستمر في منصبه حتى تولى قضاء الجماعة بعد النضر بن سلمة الذي عزله الأمير عبد الله عن منصبه سنة (285) هـ (898 م) بعد أن استمر في القضاء مدة عشرة أعوام تقريباً
(5)
.
(1)
- ترتيب المدارك، 4/ 254.
(2)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 118.
(3)
- المصدر السابق، ص 122.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 94.
(5)
- المصدر السابق، ص 92 - 93.
وبعد موسى بن محمد بن زياد تولى الشرطة العليا عمه يحيى بن زياد، فلما توفي بقيت الشرطة دون والٍ مدة سنتين ثم وليها قاسم بن وليد الكلبي فظل عليها حتى توفي الأمير عبد الله بن محمد
(1)
.
فلما تولى الإمارة الأمير عبد الرحمن بن محمد أقر قاسم بن وليد على الشرطة العليا
(2)
، ثم عزله عنها وجعل مكانه عيسى بن أحمد بن أبي عبد هـ
(3)
ولأربع بقين من ربيع الآخر سنة (300) هـ (ديسمبر (912) م) عزل عيسى وجعل مكانه قاسم بن وليد
(4)
، ثم عزله عنها وجعل مكانه أحمد بن محمد بن مسلمة وذلك في شهر رجب من سنة (301) هـ (مارس (914) م
(5)
).
ثم عُزل عنها ابن سلمه وأعيد قاسم بن وليد إلى ولايتها
(6)
، ثم عزل مسخوطاً عليه وذلك أواخر ذي الحجة سنة (301) هـ (يوليو (914) م) وتولاها عباس بن الوزير القائد أبي عباس أحمد بن محمد بن أبي عبد هـ
(7)
فاستمر في منصبه إلى أن قتل يوم الأحد مستهل ذي الحجة سنة (302) هـ
(1)
- البيان المغرب، 2/ 152.
(2)
- المصدر السابق، 2/ 158.
(3)
- نفسه، 2/ 159.
(4)
- نفسه، 2/ 160.
(5)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 81.
(6)
- البيان المغرب، 2/ 164.
(7)
- المصدر السابق، 2/ 165.
(18 يونيو (915) م) أثناء محاصرته مُنت روبي، فولى الأمير مكان عباس أخاه عبد الله بن أحمد إكراماً لأبيه ومواساة له
(1)
.
وفي سنة (303) هـ (915 م) تولى الشرطة العليا محمد بن أبي زيد
(2)
، ثم عزل عنها في أواخر شهر ربيع الآخر من سنة (308) هـ (سبتمبر (920) م) وولاها مولاه دري بن عبد الرحمن
(3)
الذي استمر في ولايته إلى سنة (316) هـ (928 م) فعزله الخليفة عبد الرحمن الناصر وولى مكانه أحمد بن أبي قابوس، وبعد شهر من ذلك أعاد الخليفة مولاه دري إلى الشرطة العليا
(4)
.
ويذكر ابن حيان أنه في سنة (325) هـ (938) كان صاحب الشرطة العليا عبد الله بن بدر أحد شهود عقد الأمان الذي أبرمه الخليفة عبد الرحمن الناصر لمحمد بن هاشم التجيبي
(5)
.
وفي سنة (328) هـ (940 م) عزل عبد الله بن بدر عن الشرطة العليا وأضيفت مع خطة المظالم والوزارة لذي الوزارتين أحمد بن عبد الملك بن شهيد
(6)
. وفي سنة (330) هـ (942 م) أزاح الخليفة الشرطة عن ابن شهيد
(1)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 107. البيان المغرب، 2/ 167.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 168.
(3)
- المصدر السابق، 2/ 180.
(4)
- نفسه، 2/ 199.
(5)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 408.
(6)
- المصدر السابق، ص 461 - 462.
وولاها مولاه نجدة بن حسين الحيري
(1)
. وفي سنة (347) هـ (958 م) كان أحمد بن يعلى هو صاحب الشرطة العليا
(2)
.
هذا، وقد شغل خطة الشرطة العليا في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله عدد من الشخصيات هم بالترتيب:
عبد الله بن بدر بن أحمد، محمد بن جهور
(3)
، هشام بن محمد بن عثمان، أحمد بن سعد الجعفري، أحمد بن نصر، يحيى بن عبيد الله بن يحيى بن إدريس، محمد بن سعد، عبد الرحمن بن رماحس، قاسم بن محمد بن قاسم بن طملس، أحمد بن عيسى بن فطيس، محمد بن عبد الله بن أبي عامر، رائق بن حكم الجعفري، رزق بن الحكم الجعفري، أحمد بن عبد الله بن بسيل وعبد العزيز بن حكم التجيبي
(4)
.
وطيلة عهد الخليفة هشام المؤيد بالله وهي فترة تسلط الحجاب العامريين على الخلافة، تعاقب على الشرطة العليا مجموعة من رجالات الدولة منهم:
(1)
- نفسه، ص 487.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 221.
(3)
- المصدر السابق، 2/ 235.
(4)
- المقتبس، تحقيق: د. الحجي الصفحات: 20، 21، 44، 66، 72، 81، 89، 106، 119، 123، 149، 151، 184، 225.
زياد بن أفلح
(1)
، محمد بن بسيل
(2)
عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الرعيني المعروف بابن المشاط، المتوفى سنة (397) هـ (1007 م
(3)
).
وآخر من تولى الشرطة العليا في عهد الحجاب العامريين هو المدعو: ابن الرسان، كان رجلاً من سفَّال أهل قرطبة، ورغم ذلك ولاه الحاجب عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، ولاه الشرطة العليا، وكان يصطحبه معه في عزواته، ويأمره أن ينادي في المعسكر بأن أمير المؤمنين المأمون -يعني نفسه- يأمركم بكذا وكذا
(4)
.
وعندما تمكن محمد بن عبد الجبار المهدي من الاستيلاء على قرطبة، وصلب شنجول على باب السدة، أمر ابن الرسان صاحب شرطة شنجول أن ينادي عليه هذا شنجول المأبون، ثم يلعنه ويلعن نفسه، وذلك يوم السبت لأربع خلون من شهر رجب سنة (399) هـ (1 مارس (1009) م)
(5)
.
ولصاحب الشرطة دور أساسي في استتاب الأمن، والأمر متوقف على قوة شخصيته، ويعتبر محمد بن عبد الله بن أبي عامر أشهر من تولى خطة الشرطة في الأندلس، خاصة بعد انقضاء عهد الأمراء والخلفاء
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 486.
(2)
- ذكر بلاد الأندلس، 1/ 174.
(3)
- الصلة، ترجمة رقم 678.
(4)
- البيان المغرب، 3/ 49.
(5)
- المصدر السابق، 3/ 73.
الأقوياء، ويمكن أن نتصور قوة ابن أبي عامر في هذا المجال من خلال ما ذكره ابن عذاري من أن أهل قرطبة كانوا، قبل سيطرة ابن أبي عامر على كرسي شرطة المدينة "في بلاء عظيم، يتحارسون الليل كله، ويكابدون من روعة طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو
(1)
" ولأجل القضاء على هذه المشكلة الحساسة قام "بسد باب الشفاعات وقمع أهل الفسق والذراعات، حتى ارتفع البأس، وأمن الناس، وأُمنت عادية المتجرمين من حاشية السلطان، حتى لقد عثر على ابن عم له يعرف بعسقلاجة، فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلداً مبرحاً كان فيه حمامه
(2)
". وبذلك "ضبط المدينة ضبطاً أنسى أهل الحضرة من سلف من أفراد الكفاة وأولي السياسة
(3)
".
وفي الاحتفالات الرسمية التي تقيمها الدولة سواء بمناسبة الأعياد أو الاستقبالات الدبلوماسية يكون ترتيب صاحب الشرطة العليا سواء في السلام على الخليفة أو حجابته بعد الوزير صاحب المدينة
(4)
، ويكون مكان جلوسه في القصر في المجلس القبلي بدار الوزراء مع أصحابه
(5)
.
(1)
- البيان المغرب، 2/ 266.
(2)
- المصدر السابق والصفحة
(3)
- نفسه، والصفحة.
(4)
- المقتبس، تحقيق: د. الحجي، ص 81.
(5)
- المصدر السابق، ص 50.
أما المهام التي يضطلع بها صاحب الشرطة العليا فهي جسيمة ومتعددة، منها:
قيادة الجيش وفرض الحصار
(1)
وحضور عقد الأمان الذي يعقده الخليفة لأحد المناوئين التائبين
(2)
، كما يتم أحياناً تكليفه بقيادة الأساطيل البحرية
(3)
، وكذلك دفع التعويضات المالية للأهالي في إحدى الكور لقاء ما أخذته منهم الدولة من مواد بغية تجهيز السفن الحربية
(4)
وفي بعض الأحيان يخرج صاحب الشرطة العليا على رأس طائفة من الجند؛ ليكون مددا لبعض قادة الجيش
(5)
، وبناءً على أوامر الخليفة يقوم صاحب الشرطة العليا بنفسه بإلقاء القبض على أحد كبار رجالات الدولة ووضعه في السجن
(6)
.
ومن ناحية الأمور المتعلقة بالمسائل الدبلوماسية يتم تكليفه باصطحاب الرسل والوفود من مكان إقامتهم إلى قصر الخليفة لمقابلته
(7)
.
(1)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 200 - 201، 213 - 214. المقتبس، تحقيق: د. الحجي ص 92 - 100.
(2)
- المقتبس، تحقيق شالميتا، ص 408.
(3)
- المقتبس، تحقيق د. الحجي، ص 89 البيان المغرب، 2/ 222.
(4)
- المقتبس، تحقيق: د. الحجي ص 101.
(5)
- المصدر السابق، ص 106.
(6)
- نفسه، ص 153.
(7)
- نفسه، ص 47 - 77.
وعندما يريد الخليفة أن يخرج أموالاً خاصة به، ليتم تفريقها على الفقراء والمساكين، تعبيراً منه على شكره لله تعالى لقاء أمر أدخل السرور على قلبه مثل ما فعل الخليفة الحكم المستنصر بالله عندما عاين إقبال ولده الأمير هشام على التعلم من مؤدبه الفقيه أحمد بن محمد بن يوسف الملقب بالقسطلي، ففي هذه الحالة يتم تكليف صاحب الشرطة العليا بتولي تفريق الأموال على الضعفاء والمساكين وأبناء السبيل
(1)
.
ومن أجل نشر العدل في الرعية يتولى صاحب الشرطة العليا التحقيق في الشكاوى المرفوعة ضد بعض العمال
(2)
كما يقوم بتنفيذ أوامر الخليفة أو الحاجب في الإفراج عن بعض المسجونين
(3)
.
وفيما يتعلق بولي العهد فإن صاحب الشرطة العليا يقوم بأخذ البيعة لولي العهد من الناس على مراتبهم
(4)
كما يقوم بأخذها له بعد استلامه الحكم
(5)
.
وعندما يأمر الخليفة بإقامة بعض المنشآت العمرانية
(6)
أو إجراء توسعة لبعض الشوارع الضيقة
(7)
، فإن صاحب الشرطة العليا يتولى
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. الحجي ص 77.
(2)
- المصدر السابق، ص 100.
(3)
- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 215.
(4)
- البيان المغرب، 2/ 194.
(5)
- المصدر السابق، 2/ 254.
(6)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 167.
(7)
- المقتبس، تحقيق: د. الحجي، ص 71.
مسئولية الإشراف على إنجازها كما يتولى الإشراف على نقل الأشياء الهامة مثل النقل الذي تم لدار البرد من غرب قرطبة إلى دار الزوامل التي بالمصارة في طرف قرطبة
(1)
.
لأجل هذا، فإن منصب الشرطة العليا من أهم مناصب الدولة الأموية في الأندلس، ولذا فلا يليه إلا كبار رجالات الدولة. وقد بلغ من اهتمام بني أمية في صاحب هذا المنصب أن من يليه يصبح ركوبه من على حجر يعرف بـ"حجر الأعزة
(2)
" في داخل القصر ولا يؤذن لأحد بالركوب منه إلا لخواص كبار رجالات الدولة.
وصاحب الشرطة العليا حتى وإن بدا منه أحياناً العنف ضد بعض أصحاب أمراء وخلفاء بني أمية، فإن هذا لا يدفعهم إلى عزله أو تعنيفه، بل يعمدون إلى تحذير خواصهم من الوقوع بيده
(3)
، ويقرونه على منصبه؛ لإدراكهم أن في قوته ضمان للأمن، مما يكفل لهم عدم الاصطدام برعيتهم، وذلك بسبب إعطاء كل ذي حق حقه، دونما اعتبار إلى مكانة من ترتب عليه الحق، الأمر الذي يشعر الجميع بالرضا، وهو ما ينتج عنه بالنهاية استمرار حكم الأسرة الأموية.
(1)
- المصدر السابق، ص 66.
(2)
- نفسه، ص 225.
(3)
- ترتيب المدارك، 4/ 117 - 118.
هذا، وقد أشار الأستاذ محمد خلاف عند دراسته لخطة الشرطة إلى نقطة جديرة بالملاحظة، وهي تكرار ورود لفظ "صاحب الشرطة العليا" عند ابن حيان دونما تحديد منه لمكان شغل هذه الخطة، واستشهد على ذلك بما ورد في المقتبس عن رسوم جلوس الخليفة الحكم المستنصر بالله في عيد الفطر سنة (362) هـ/973 م
(1)
وكذلك في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة عيد الأضحى سنة (363) هـ (974 م
(2)
) بالإضافة إلى ما ورد في أحداث شهر رجب سنة (364) هـ (975 م
(3)
).
ومن ذلك استنتج الأستاذ خلاف أن تكرار لفظ "صاحب الشرطة العليا" المراد به تعدد كراسيها في قرطبة والزهراء وبقية الكور الأندلسية
(4)
، ورغم وجاهة هذا الاستنتاج إلا أنني أميل إلى استنتاجه الآخر الذي قال فيه:
"أو ربما كان يجلس في هذه المقاعد كل من كان يشغل خطة الشرطة العليا الذين ما زالوا على قيد الحياة والحاليين حسب أقدميتهم وسنهم
(5)
".
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. الحجي ص 119.
(2)
- المصدر السابق، ص 184 - 185.
(3)
- نفسه، ص 216.
(4)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 484.
(5)
- المرجع السابق، ص 484.
ومما يرجع هذا الرأي عندي، أن اللقب الذي يحصل عليه أحد رجالات الدولة، لا يسحب منه بمجرد عزله عن ذلك المنصب، كما أن عزله لا يعني إبعاده عن الأمير أو الخليفة الأموي، إذ أن الأمر مرتبط بولاء شديد تقدمه الأسر التي تنحصر فيها الخطط للأسرة الأموية، والأخيرة بدورها تحرص كل الحرص على استمرارية هذا الولاء؛ لأنه يمثل سياج الحماية لها ضد كل المناوئين.
توارث خطة الشرطة:
خطة الشرطة في دولة بني أمية بالأندلس، كانت متوارثة، شأنها في ذلك شأن معظم خطط الدولة، فقد تعاقب على خطط الشرطة بدرجاتها الثلاث أبناء أسر معينة، فقد تولاها: حارث بن أبي سعد، المتوفى سنة (222) هـ (837
(1)
) وخلفه عليها ابنه محمد المتوفى سنة (260) هـ (874 م
(2)
) ومن أسرة آل عاصم تولى الشرطة كل من:
إبراهيم بن حسين بن عاصم، المتوفى سنة (256) هـ (870 م)
(3)
، وعبد الله ابن عاصم الذي كان من جلساء الأمير محمد بن عبد الرحمن
(4)
،
(1)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 79. ابن الفرضي، ترجمة رقم 326. ترتيب المدارك، 4/ 113.
(2)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 145. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1107.
(3)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 3.
(4)
- جذوة المقتبس، ترجمة رقم 560.
وحسين بن أحمد ابن عاصم
(1)
، وأخيراً عبد الله بن حسين بن إبراهيم بن عاصم المتوفى سنة (403) هـ (1013 م
(2)
).
ومن أسرة مرتنيل، تولى خطة الشرطة كل من: محمد بن خالد بن مرتنيل، المعروف بالأشج المتوفى سنة (220) هـ
(3)
(835 م) كما تولاها إبراهيم بن حسين بن خالد بن مرتنيل، المتوفى سنة (249) هـ (863
(4)
).
وهناك ثلاثة من أسرة ابن حدير تولوا خطة الشرطة، هم:
سعيد بن سعيد بن حدير، وهو أول من تولى الشرطة الوسطى في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر سنة (317) هـ (929 م
(5)
) وسعيد بن أحمد بن محمد بن سعيد بن موسى بن حدير، المتوفى سنة (391) هـ
(6)
(1001 م) وأخيراً محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن حدير، المتوفى سنة (414) هـ (1024 م)
(7)
.
(1)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1231.
(2)
- التكملة، (طبعة كوديرا)، ترجمة رقم 1277.
(3)
- أخبار الفقهاء والمحدثين، ترجمة رقم 126. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1101.
(4)
- ترتيب المدارك، 4/ 242 - 244.
(5)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 252.
(6)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 531.
(7)
- الصلة، ترجمة رقم 1099.
ومن أسرة ابن أبي عبده، هناك عيسى بن أحمد بن أبي عبده
(1)
، وعباس بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي عبده
(2)
، وعبد الله بن أحمد بن أبي عبد هـ
(3)
.
السجون:
عندما استولى الأمير عبد الرحمن بن معاوية على قرطبة وقصر إمارتها، كان السجن يقع بالقرب من ذلك القصر الذي اتخذه الأمير الأموي مقراً لإمارته. وعندما تحدث ابن الآبار عن ذلك السجن، ذكر أنه كان ملاصقاً للقصر، ويصل بين السجن وبين نهر الوادي الكبير سرداب اتخذ للمساجين ينتهي بهم إلى الجزء المنخفض من شاطئ النهر ليستخدموه للطهور والوضوء، والرقباء يتابعونهم ولا يغفلوا عنهم لحظة طيلة خروجهم إلى النهر
(4)
.
ومن هذا السجن هرب أبو الأسود محمد بن يوسف الفهري عندما حبسه الأمير عبد الرحمن الداخل، إذ تمكن من التمثيل على الموكل به في السجن أنه أعمى وأجاد التمثيل إلى أن انطلت حيلته عليه فهرب
(5)
.
(1)
- البيان المغرب، 2/ 159.
(2)
- المصدر السابق، 2/ 165.
(3)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 107.
(4)
- الحلة السيراء، 2/ 351.
(5)
- المصدر السابق، 2/ 351. البيان المغرب، 2/ 50.
ولعل هذا الحبس هو الذي أراده ابن حوقل عندما ذكر أثناء حديثه عن قرطبة أن الحبس يقع بالقرب من المسجد الجامع
(1)
، وربما يكون هو الذي أطلق عليه ابن القوطية مسمى "دار الرهائن
(2)
" إذ ذكر أنه مجاور لباب القنطرة المؤدي إلى قنطرة قرطبة المقامة فوق نهر الوادي الكبير، وبما أن السجناء كانوا يستخدمون حافة النهر للطهارة والوضوء، فمن الطبيعي أن يكون المكان عراء، يفتقد إلى شيء يستتر خلفه من أراد قضاء حاجته، وهذا أمر متعمد، لكي تسهل عملية المراقبة.
وقد ذكر ابن حيان أن السجناء كانوا يغشون هذا الموضع من غير سترة
(3)
، الأمر الذي جعل الفقيه محمد بن عبد السلام الخشني، المتوفى سنة (286) هـ (899 م) يأنف من هذه الصورة، وبسببها لم يذق الطعام طيلة ثلاثة أيام، وهي المدة التي قضاها في السجن وبذلك لم يضطر للذهاب إلى هذا المكان
(4)
.
وهناك سجن آخر يسمى "حبس الدويرة" ذكره ابن القوطيه أثناء حديثه عن الأمير الحكم الربضي
(5)
، ويرى الدكتور عبد العزيز سالم أن حبس الدويرة هو نفس الحبس القديم الذي كان أبو الأسود قد سجن به،
(1)
- صورة الأرض، ص 108.
(2)
- ابن القوطية، ص 94.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 255.
(4)
- المصدر السابق، ص 255.
(5)
- ابن القوطية، ص 56.
ويحتج على ذلك بأن الفترة الزمنية الفاصلة بين الأمير عبد الرحمن الداخل وبين حفيده الأمير الحكم الربضي من القصر بحيث لا تسمح باستحداث سجن جديد
(1)
.
ولكني أرى أنه سجن آخر، إذ أن اسمه أولاً يدل على صغر حجمه، وبذلك لا يصلح أن يكون سجناً عاماً، فضلاً عن أن ابن القوطيه عاد وذكر قصة تؤيد ما ذهبت إليه، وهي قصة الوزير صاحب المدينة أمية بن عيسى بن شهيد عندما استخلفه الأمير محمد بن عبد الرحمن عند خروجه إلى بعض مغازيه، وكان على سطح القصر أحد أولاد الأمير، وعندما حاول هذا الولد مغادرة السطح هدده الوزير ابن شهيد بأنه سوف يضع قيود الحديد في رجليه ويلقي به في حبس الدويره حتى يرجع والده
(2)
. وهذه القصة تؤكد على أن حبس الدويره غير الحبس القديم، إذ أنه يقع في القصر، فضلاً عن أنه من المستحيل وضع ولد الأمير مع بقية المساجين في السجن العام.
ويمكن أن يكون حبس الدويره مخصصاً لعلية القوم، إن لم يكن خاصاً بأبناء البيت الأموي، فقد ذكر ابن حيان أن الأمير محمد بن عبد الرحمن عندما تولى الإمارة، كان أول أمر أصدره هو الإفراج عن القاسم وعبد الملك وعبد العزيز أبناء العباس المرواني، إذ كانوا مسجونين في
(1)
- قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس، 1/ 218.
(2)
- ابن القوطية، ص 86 - 87.
سجن الدويره
(1)
، وقبله كان الأمير الحكم الربضي قد سجن به مجموعة خاصة من الفقهاء الذين ثاروا ضده
(2)
.
ويذكر بروفنسال أن هذا الحبس كان يقع تحت الأرض في القصر، وأنه كان مخصصاً لمن حكم عليه بالإعدام
(3)
.
وهناك حبس آخر يحمل نفس المسمى "الدويره" أنشأه الخليفة الحكم المستنصر بالله سنة (361) هـ (972 م) في الدار المنسوبة للسقائين بالقرب من سجن الزهراء
(4)
.
وهناك سجن آخر يدعى "دار البنيقة
(5)
" كان يقع داخل قصر الإمارة بقرطبة، وفيه حبس الأمير عبد الله بن محمد ولده محمد وأخاه القاسم بن محمد
(6)
.
ومن أشهر سجون قرطبة سجن يدعى "المطبق" ويرى بعض المختصين بالدراسات الأندلسية أنه استحدث زمن الدولة الأموية
(7)
، وإذا
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 120.
(2)
- ابن القوطية، ص 56.
(3)
- L.Provencal: op.cit.T.III p: 159
(4)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 88.
(5)
- يسميه الدكتور عبد العزيز سالم، دار النقيقه. انظر: قرطبة حاضرة الخلافة، 1/ 219.
(6)
- البيان المغرب، 2/ 150.
(7)
- قرطبة حاضرة الخلافة، 1/ 219.
كان الأمر كذلك، فيكون إنشاؤه قد تم قبل سنة (210) هـ (825 م) إذ ان ابن حيان ذكر أنه في هذه السنة مات مالك بن القتيل في المطبق
(1)
.
ويقع سجن المطبق داخل قصر قرطبة، ومن أشهر نزلائه الوزير هاشم بن عبد العزيز، عندما سجنه الأمير المنذر بن محمد، ومن هذا السجن كتب الوزير هاشم إلى جاريته "عاج" عدة أبيات، أولها:
وإني عداني أن أزورك مطبق وباب منيع بالحديد مضبب
(2)
كما أن الأمير عبد الله بن محمد قد سجن في المطبق كلاً من: أخيه هشام، ومروان بن عبد الملك بن عبد الله بن أمية وسعيد بن وليد الشامي وأحمد بن هشام بن الأمير عبد الرحمن وموسى بن محمد بن زياد، وذلك يوم الخميس لست خلون من شعبان سنة (284) هـ (9 سبتمبر (897) م
(3)
) ويوجد في سجن المطبق، بيت يعرف "ببيت البراغيث" وفيه كان المنصور بن أبي عامر قد سجن به الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي
(4)
.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الأمير أو الخليفة الأموي إذا سخط من أحد رجالات دولته، بسبب إهماله أو نحو ذلك، ففي هذه الحالة ليس بالضرورة أن يبعث به إلى السجن العام، بل يتم سجنه في أحد الأماكن بالقصر، مثل ما فعل الخليفة الحكم المستنصر بالله عندما سخط على الخازن
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 77.
(2)
- الحلة السيراء، 1/ 140.
(3)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 122.
(4)
- البيان المغرب، 2/ 270.
أحمد بن محمد بن حاجب فأمر بعزله عن الخزانة وحبسه في بيت العمال بفصيل باب الجنان من قصر قرطبة، وذلك في شهر المحرم من سنة (364) هـ (أكتوبر (974) م
(1)
).
وفي السجون رجال اختصوا بتعذيب المساجين، يعرف كل منهم باسم "الضاغط" ولدينا عدة أسماء اشتهرت بالقسوة، فهناك ضاغط يدعى "عمير" كان مسئولاً عن التعذيب في السجن إبان عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وهو الذي عناه الشاعر عبد الله بن حسين بن عاصم عندما خاطب الأمير محمد بن عبد الرحمن مغرياً إياه بابن عمه سعيد بن عبد الملك بن سعيد بن عاصم، صاحب الطراز، وذلك عندما نكبه الأمير، فقد قال عبد الله بن عاصم: -
أحل عليهم عميرا أن يذيقهم
…
طيب العصافير إن القوم قد سمقوا
(2)
وعمير هذا هو الذي عناه الشاعر السفير يحيى الغزال بقوله وهو يخوف أحد الظلماء: -
فكأني بعمير منك
…
قد سل الحشاشة
أنت والله كما حا مت
…
على النار الفراشة
(3)
ويصف ابن حيان عميرا هذا بقوله: "كان ضاغطاً للأمير محمد، وكان يتولى له تعذيب من يسخط عليه، يبدع في ذلك مكاره يستعاذ بالله
(1)
- المقتبس، تحقيق: د عبد الرحمن الحجي، ص 202.
(2)
- المقتبس، تحقيق د. محمود مكي ص 185.
(3)
- المصدر السابق، ص 185 - 186.
منها، وكان شديد القساوة، فظاً لايعرف الرحمة، فله في شأنه أخبار معروفة، وكانت العصافير آلة من آلات تعذيبه
(1)
".
وكان الذي يلي تعذيب الحاجب المصحفي يدعى واثق الضاغط، وهو الذي سلطه المنصور بن أبي عامر على المصحفي، يضيق عليه في سجنه ويحضره مراراً إلى مجلس الوزراء لمحاسبته، وفي كل مرة كانت الشدة والقسوة السمة البارزة لتعامل واثق الضاغط معه
(2)
.
ويذكر ابن حيان أن الخليفة المستظهر بالله عبد الرحمن بن هشام عندما قبض على جماعة من وزرائه لمصادرتهم، ولى مسئولية محاسبتهم وإخراج ما بأيديهم أحد مسئولي التعذيب ويدعى نجاح الضاغط
(3)
، ولا نعرف أنواع التعذيب التي كانت تجري داخل السجون في تلك الفترة، لكن ابن حزم ذكر أن الخليفة عبد الرحمن الناصر كان يعلق أولاد السودان في ناعورة قصره بدلاً من الأقداس الغارقة في الماء
(4)
.
كما كانت لديه دار خاصة بالأسود، اتخذها لإرهاب الناس، وهذه الدار تقع "ظهر قصره فوق القنطرة الماثلة على الخندق، وبجوفه المطبق به ينسب إليها اليوم فتدعى قنطرة الأسود
(5)
".
(1)
- نفسه، ص 185.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 268.
(3)
- الذخيرة، ق 1 م 1 ص 52.
(4)
- نقط العروس، ص 73. المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 37.
(5)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 39.
ويبدو أن المسئولين عن التعذيب قد اختيروا بعناية فائقة، فهم باختصار أجساد بلا قلوب، يدل على ذلك ما ذكره ابن حيان عن كيفية مقتل الشاعر الأديب عبد الملك بن إدريس الجزيري، في سجن المطبق بالزاهرة، حيث خُنق بداخل السجن على أيدي بعض السودان
(1)
وقد نقل لنا ابن حبان كيفية الخنق تلك، فقال: "أخبرني أبي خلف بن حسين، قال: سألت الذي تولى قتل الجزيري في محبسه، فجعل يصف لي سهولة ما عانه منه لقضافته وضعف أسره، ويقول: ما كان الشقي إلا كالفروج في يدي، دققت رقبته بركبتي فما زاد أن نفخ في وجهي، فعجبت من جهل هذا الأسود
(2)
".
وكان التعذيب البدني يجري لبعض السجناء، فقد ذكر ابن بشكوال أن أبا عمر أحمد بن محمد بن فرج، أحد الشعراء، قد نقلت عنه كلمة عامية ضد الدولة، وذلك في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، فسجن بسجن جيان مدة سبعة أعوام أو أكثر، وخلال هذه المدة نيل بمكروه في جسده ولم يخرج إلا بعد وفاة الخليفة الحكم، لكنه لم يلبث إلا يسيراً ثم توفي
(3)
.
والدولة الأموية في الأندلس، كانت تحرص على تثقيف المساجين -من غير الأعلام- ثقافة موجهة، تخدم نظام الحكم في المقام الأول؛ ولأجل
(1)
- الذخيرة، القسم الرابع، 1/ 52.
(2)
- المصدر السابق، 1/ 52.
(3)
- الصلة، ترجمة رقم 2.
تحقيق هذا الغرض يتم تكليف أحد رواة الأخبار بالاختلاف إلى السجن في أوقات محددة، حيث يجتمع بالمساجين، ويسمعهم قصص ذات نهج محدد، وإذا ما انحرف المؤدب عن هذا النهج تتم معاقبته.
ومما يدل على ذلك ما ذكره ابن القوطية من أن الوزير صاحب المدينة في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، أمية بن عيسى بن شهيد "خطر بدار الرهائن المجاورة لباب القنطرة ورهائن بني قسي ينشدون شعر عنترة، فقال لبعض الأعوان: "ايتني بالمؤدب
…
فقال له: لولا أني أعذرك بالجهل لأدبتك، تعمد إلى شياطين قد شجى الخلفاء بهم، فترويهم الشعر الذي يزيدهم بصيرة في الشجاعة، كفّ عن هذا ولا ترويهم إلا خمريات الحسن بن هانئ وشبهها من الأهزال
(1)
".
الشرطة في زمن الفتنة:
اختفت في تلك الفترة التقسيمات التي عرفناها من قبل للشرطة، فلم يعد هناك إلا نوع واحد منها يتمتع بكافة صلاحيات الأنواع الأخرى من الشرطة
(2)
.
ونظراً لأن فترة الفتنة كانت مضطربة، لم تعرف الاستقرار، لذا نرى كثرة الأسماء التي تعاقبت على خطة الشرطة، إذ أن كل من انتزى على كرسي الخلافة، أحضر صاحب شرطته معه
(3)
.
(1)
- ابن القوطية، ص 94.
(2)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 499.
(3)
- أعمال الأعلام، 2/ 110.
وممن تولى خطة الشرطة في تلك الفترة محمد بن المغيرة تولاها لابن عمه الخليفة المهدي في بداية وصوله للخلافة
(1)
كما تولاها اللغوي القرطبي عبد الله بن أحمد بن قند، المتوفى سنة (400) هـ
(2)
(1010 م).
وأما ابن وداعة فقد تولى الشرطة للخليفة هشام المؤيد في بداية خلافته الثانية
(3)
.
وقد ذكر ابن الأبار أن العالم ابن الغربالي عبد الله بن حسين بن إبراهيم بن حسين بن عاصم، قد تولى الشرطة بقرطبة، وقد قتله البربر يوم دخولهم قرطبة سنة (403) هـ
(4)
(1013 م).
وتولى خطة الشرطة الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عفيف، المتوفى سنة (410) هـ
(5)
(1019 م).
ومحمد بن يحيى بن عبد الله بن قاسم القيسي المعروف بابن الخفاريه، المتوفى سنة (411) هـ
(6)
(1021 م).
ومحمد بن يونس بن عبد الله المتوفى سنة (418) هـ
(7)
(1028 م).
(1)
- المصدر السابق، 2/ 110.
(2)
- ترتيب المدارك، 8/ 25 - 26.
(3)
- البيان المغرب، 3/ 150.
(4)
- التكملة، طبعة الحسيني، ترجمة رقم 1940.
(5)
- ترتيب المدارك، 8/ 8 - 9.
(6)
- الصلة، ترجمة رقم 1102.
(7)
- المصدر السابق، ترجمة رقم 1109.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن هشام بن عبد الرؤوف، المتوفى سنة (424) هـ
(1)
(1033 م).
(1)
- ترتيب المدارك، 8/ 11 - 12.
خطة المدينة
ذكر الأستاذ حسين مؤنس أنه كان يوجد في النظام السائد في الأندلس قبل الفتح الإسلامي حاكم خاص للمدينة، يسمى DEFENSOR CIVITATIS أي حامي المدينة أو حارسها، ثم أصبحت في عجمية أهل الأندلس ZAHALMEDINA أو ZAFALMEDINA أو ZALMEDINA أي صاحب المدينة، واستمر هذا المصطلح متداولاً ومعمولاً به في ظل الحكم الإسلامي للأندلس
(1)
.
ولكن رغم أن المسلمين قد ورثوا هذا المصطلح عن القوط والرومان، إلا أن المصادر الإسلامية لم تستخدمه بوضوح إلا في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، ولعل هذا راجع إلى أن هذا الأمير هو المنظم للجهاز الإداري للدولة الأموية في الأندلس، بالإضافة إلى أن منصب "المدينة" كان متداخلاً مع غيره من المناصب، ولم يصبح مستقلاً بذاته إلا في أوائل القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي" وذلك عندما ميز الأمير عبد الرحمن الأوسط "ولاية السوق عن أحكام الشرطة المسماة بولاية المدينة
(2)
".
(1)
- فجر الأندلس، ص 463.
(2)
- المغرب في حلى المغرب، 1/ 46.
وخطة المدينة هي إحدى الخطط الدينية التي تخوّل صاحبها حق إصدار الأحكام، وفي هذا يقول القاضي ابن سهل "وللحكام الذين تجري على أيديهم الأحكام ست خطط: أولها القضاء .. والشرطة .. وصاحب المظالم، وصاحب الرد
…
وصاحب المدينة، وصاحب السوق
(1)
".
ومن هنا يتضح لنا أن خطة المدينة أصبحت قائمة بذاتها، لها كيانها الذي يميزها عن سواها، وإذا كان البعض يرى أن هناك ازدواجية بين عمل صاحب المدينة وأصحاب الشرطة
(2)
، فذلك راجع إلى أن أصحاب الشرطة -العليا والوسطى والصغرى- هم تحت إمرة صاحب المدينة الذي يعتبر المسئول عما يجري داخلها، فهو أشبه ما يكون بوزير داخلية، المسئول الأول عن الأمن.
ومن يشغل هذه الخطة يسمى "حاكم المدينة
(3)
" أو "متقلد المدينة
(4)
" وكذلك "والي المدينة
(5)
" ولكن المصطلح الذي اشتهر استخدامه هو: "صاحب المدينة
(6)
".
(1)
- النباهي، ص 5.
(2)
- أبو رميلة، نظم الحكم في الأندلس، ص 293.
(3)
- البيان المغرب، 3/ 54.
(4)
- المصدر السابق، 3/ 58.
(5)
- قضاة قرطبة، ص 59.
(6)
- المصدر السابق، ص 75، 77، 81، 101.
وصاحب المدينة -كما يرى ابن عبد ون- لابد أن يكون "رجلاً عفيفاً فقيهاً شيخاً؛ لأنه في موضع الرشوة وأخذ أموال الناس، وربما فجر إن كان شاباً شريباً
(1)
".
ولابد له من أعوان ينفذون أوامره ويساعدونه على أداء المهام المناطة به، ونظراً لحساسية منصبه، فعليه أن يكون حذراً في التعامل مع أعوانه، فلا يقبل منهم شيئاً إلا ببينة لا تحتمل الشك، ذلك لأنهم إلى الشر أقرب منهم إلى الخير
(2)
.
ولقاضي الجماعة دور في عمل صاحب المدينة، فهو رقيب عليه، ومن أجل ضبط هذه الرقابة، فمن حق القاضي استخلافه أحياناً من أجل اختبار فقهه وحسن تصرفه
(3)
.
وبأمر القاضي فليس من حق صاحب المدينة أن يرسل أكثر من واحد برسالة خارج البلد، وعلل ابن عبد ون ذلك بقوله "لئلا يكثر الجُعل والأذى والنهب
(4)
".
وبالجملة فليس من حق صاحب المدينة أن يقدم على تنفيذ أي أمر من الأمور الجسيمة، إلا بعد إطلاع الأمير أو الخليفة، وقاضي الجماعة على ذلك
(5)
.
(1)
- ابن عبدون، رسالة في القضاء والحسبة، ص 16.
(2)
- المصدر السابق، ص 16.
(3)
- نفسه، والصفحة.
(4)
- نفسه، والصفحة.
(5)
- نفسه، والصفحة.
ويبدو أن ابن عبد ون قد أدلى بآرائه هذه، وهو متأثر بأحداث عصره "عصر ملوك الطوائف" أما في عهد دولة بني أمية، وبالذات الأقوياء من الأمراء والخلفاء، فليس من الضروري أن تصدق تلك الآراء في تلك المدة أو تطبق
(1)
.
ومهما يكن، فالأمر لم يترك مفتوحاً أمام الأعوان ليمارسوا سلطاتهم، كما تمليه عليهم رغباتهم، بل إن ابن عبد ون، الذي استفاد مما كان سائداً قبله في عهد الأمويين، وضع لأولئك الأعوان ضوابط يسيروا وفقها في أداء مهامهم، لكي لا ينحرف الهدف الذي من أجله تمت الاستعانة بهم، وهذه الضوابط هي بالنهاية سياج يحمي كرامة الآخرين من تسلطهم، فقد ذكر أن الحد يقام على من استحقه منهم، إذ ليس أقبح من أن يكونوا يغيروا المنكر بزعمهم وهم يفعلونه، كما يجب أن يمنعوا من التفتيش ليلاً كان أو نهاراً، فذلك فيه هتك لستر من يتم تفتيشه، كما أن من ألقوا عليه القبض في الليل، وهو ممن لاتأخذه تهمة ولا ظنه، فعليهم أن يوصلوه إلى داره وهو موفور الكرامة، وأما من اشتبه بأمره فعليهم ألا يلحقوا به الأذى سواء مادياً أو معنوياً، بل يحضروه عند صاحب المدينة
(1)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 443.
بالهيئة التي وجدوه عليها، فإن سجنوه، يتم سجنه في أحد الفنادق بكفالة ساكنيه حتى الصباح
(1)
.
ولقاضي الجماعة الحق في إحضار صاحب المدينة إلى مجلسه، وذلك لمساءلته عن تجاوزاته، فقد ذكر الخشني أن قاضي الجماعة سليمان بن أسود، أحضر صاحب المدينة إلى مجلسه، ليقضي بينه وبين من رفع دعوى ضده
(2)
.
وعندما جرى في قرطبة أمر أخل بالأمن، ولم يتخذ صاحب المدينة أمية بن عيسى الحلول اللازمة، قام قاضي الجماعة سليمان بن أسود برفع الأمر للأمير محمد بن عبد الرحمن طالبه فيه بعزل صاحب المدينة عن منصبه لتقصيره
(3)
.
وبمقابل ذلك فإنه عندما يهيج العوام ضد قاضي الجماعة، مثلما فعلوا بالقاضي محمد بن يبقى بن زرب، المتوفى سنة (381) هـ (991 م) بسبب تكراره لصلاة الاستسقاء وعدم نزول المطر، فإن صاحب المدينة هو الذي يتولى حمايته منهم
(4)
، كما أنه إذا تطاول أحدهم على الخطيب
(1)
- رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة، ص 18.
(2)
- قضاة قرطبة، ص 77.
(3)
- المصدر السابق، ص 74 - 75.
(4)
- النباهي، ص 78 - 79.
أثناء خطبة الجمعة، فإن صاحب المدينة يأمر بالقبض على ذلك المتطاول وحمله إلى السجن
(1)
.
مهام صاحب المدينة:
نظراً لفخامة منصب صاحب المدينة، فإن المهام المناطة به، تبدو جسيمة تناسب أهمية المنصب، ولعل من أعظم المهام الملقاة على صاحب المدينة، أن الأمير أو الخليفة الأموي، يستخلفه أحياناً أثناء غيابه عن العاصمة
(2)
.
وقد عرفنا من قبل أن من رسوم بني أمية أنه عند مغادرة الأمير أو الخليفة للعاصمة، فإنه يترك أحد أولاده، سواء كان ولي العهد أو غيره، على سطح القصر، ويجعل صاحب المدينة ملازماً له على الدوام، ويكون من حقه منع الولد من مغادرة السطح حتى وإن اضطر إلى تهديده بوضع قيد الحديد في رجله، وهذا ما كاد أن يفعله صاحب المدينة أمية بن عيسى بن شهيد بأحد أولاد الأمير محمد ابن عبد الرحمن
(3)
، الأمر الذي يعطي دلالة أكيدة على قوة شخصية صاحب المدينة، حتى أنه لم يأبه بولد الأمير مادام في الأمر مصلحة للدولة.
(1)
- البيان المغرب، 3/ 54.
(2)
- ابن القوطية، ص 86.
(3)
- المصدر السابق، ص 87.
ومما يدل على نزاهة صاحب المدينة أمية بن عيسى بن شهيد، وقوة شخصيته أنه وقف أمام رغبة الأمير محمد عندما أمره أن يحبس أحد أهل العلم.
والقصة كما رواه ابن القوطية تدور حول فقيه كان يقطن في إحدى الكور، لكنه فر من عاملها إلى قرطبة، فكتب ذلك العامل للأمير محمد كتاباً يغريه فيه بذلك الفقيه، ويزين له ضمه إلى الحبس، فأصدر الأمير أوامره لابن شهيد بحبس ذلك الفقيه، فرد عليه قائلاً: "لاوالله، ماأحبس رجلاً من أهل العلم والرواية، فرَّ من جور ظالم مشهور بالظلم، ولو كان فيه خير مافرّ مثله عنه
(1)
" فما كان من الأمير إلا أن عدل عن رأيه وكتب إلى ذلك العامل كتاباً يوبخه فيه على فعله
(2)
.
ولم يقتصر الأمر في قوة الشخصية والنزاهة على أمية بن عيسى بن شهيد فقط، فلدينا صاحب المدينة وليد بن عبد الرحمن بن غانم، المتوفى سنة (292) هـ (905 م) ففي أثناء ولايته للمدينة، حدثت مجاعة شديدة سنة (260) هـ
(3)
(874 م) " لم يزرع فيها بالأندلس حبة ولا رفعت
(4)
" "ومات فيها أكثر الخلق
(5)
" فاستشار الأمير محمد الوزراء وأصحاب
(1)
- نفسه، ص 86.
(2)
- نفسه، ص 86.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 343.
(4)
- ابن القوطية، ص 87.
(5)
- البيان المغرب، 2/ 102.
المشورة، وعرض عليهم رأيه في فرض العشور على الغلات، والزام الرعية بذلك لمواجهة تلك الأزمة، فوافقوه على ذلك، ولم يعترض عليه إلا صاحب المدينة وليد بن عبد الرحمن الذي طلب من الأمير أن يرفق بالرعية في ظل هذه المحنة، وأن يخرج مما في مستودعات الدولة وبيت المال، لينفق على الجنود والرعية المتعبة من شدة المجاعة
(1)
، ثم قال له: "فإنه الحق على مثلك من ولاة العدل، فقد بلغنا أن طواغيت الروم فعلته بقسطنطينة ورومه، وأنتم أولى بذلك
(2)
".
إلا أن الأمير لم يقتنع برأي ابن غانم، الذي أصر على موقفه، فكانت فرصة لأحد الطغاة الظلمة، يدعى حمدون بن بسيل المعروف بالأشهب، الذي عرض على الأمير أن يوليه المدينة، وهو يتكفل له بتنفيذ مراده، فوافق ذلك هوى في نفس الأمير، فعزل ابن غانم وولى الأشهب الذي "هتك الستور وضرب الظهور وقتل الأنفس بالتعليق
(3)
" فضج الناس عليه بالدعاء في كل جمعة، حتى أماته الله تعالى، وهنا استدعى الأمير محمد وليد بن غانم وأراده أن يعود إلى المدينة، فأجابه قائلاً: "أما وقد صرت
(1)
- ابن القوطية، ص 87. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 172.
(2)
- المصدر السابق والصفحة.
(3)
- ابن القوطية، ص 88.
عندك في محل من يديله حمدون بن بسيل أو مثله، فلا والله لا خدمتك في المدينة أبداً، فولى غيره"
(1)
.
ومن بين مهام صاحب المدينة، التحقيق في حوادث القتل التي تحدث في البلد، مثل حادثة الرجل الذي وجد مقتولاً في قرطبة، وذلك في يوم الأول لولاية محمد بن السليم للمدينة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط
(2)
.
وإذا احتاج الأمير إلى رأي الفقهاء في أمر ما، فإنه يكلف صاحب المدينة بالقيام في هذه المهمة، مثل ما حدث في قصة ابن أخي عجب، وما نسب إليه من ألفاظ تطاول على الباري جل وعلا
(3)
، فبعد أن اجتمع بهم صاحب المدينة ابن السليم في مجلسه المسمى: مجلس النشمه
(4)
، عرض عليهم القضية وطلب أن يكتب كل واحد منهم رأيه في صك منفرد ليعرضها جميعاً على الأمير، الذي ما أن تصفحها حتى أصدر قراره بعزل
(1)
- المصدر السابق والصفحة. الحق أن ولاة الأمور هم أحوج ما يكون للبطانة الصالحة، فابن غانم لم يجد له من بين أصحابه من الوزراء وبقية رجالات الدولة مناصراً؛ لذا فالأمير لم يتأثر بمقولته، و إلا فإن الوضع العام سيئ إلى درجة خطيرة، إذ أن القحط، قد عم كور الأندلس، وليس لدى الناس قدرة على مواجهة هذا الموقف الخطير، بل إنهم بأمس الحاجة لوقوف الدولة إلى جانبهم فكيف يصبح الوضع عندما تقف الدولة مع المجاعة ضد الرعية؟
(2)
- ابن القوطية، ص 69 - 70.
(3)
- قضاة قرطبة، ص 99 - 60. المعيار المعرب، 2/ 363.
(4)
- قضاة قرطبة، ص 59.
قاضي الجماعة الحبيب محمد بن زياد عن منصبه ومن تابع رأيه من فقهاء الشورى، كما أمر بصلب ابن أخي عجب
(1)
.
من هذه القصة، ندرك أن لدى صاحب المدينة مجلس خاص به، وأنه هو الذي يتولى رفع الآراء التي تتم في هذا المجلس للأمير، كما أنه هو الذي يبلغ قاضي الجماعة وفقهاء الشورى بعزلهم عن مناصبهم.
ومن مهام صاحب المدينة، تفقد السجن العام وما يدور فيه
(2)
وإخراج بعضهم منه بأمر الأمير
(3)
أو الخليفة
(4)
، وإذا مات قاضي الجماعة أو عزل، تولى صاحب المدينة قبض ديوان القاضي، ويتحفظ عليه حتى يعين الأمير قاضٍ آخر
(5)
.
ونظراً لأن من رسوم الدولة أن الأمير أو الخليفة إذ أراد الخروج للصيد والنزهة، فإنه لا يسمح لأحد بعبور قنطرة قرطبة أو الاقتراب من مكان النزهة، فإن صاحب المدينة يقوم بهذه المهمة، ومن وجده مخالفاً للأوامر فإنه يحبسه
(6)
.
(1)
- المصدر السابق، 60.
(2)
- ابن القوطية، ص 94. المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 73 - 74.
(3)
- ابن القوطية، ص 102.
(4)
- البيان المغرب، 2/ 250.
(5)
- قضاة قرطبة، ص 101.
(6)
- البيان المغرب، 2/ 146.
كما أن صاحب المدينة يتولى أخذ البيعة الخاصة والعامة للأمير عند توليه للإمارة
(1)
.
وعندما يكون هناك وفد رفيع المستوى، يقوم بزيارة رسمية للدولة، فإن الخليفة يصدر أوامره لصاحب المدينة، بأن يجمع فتيان قرطبة وأحداثها، ويظهروا قوتهم للوفد الزائر، وذلك من خلال حملهم السلاح، وهذا ما قام به الوزير صاحب المدينة جعفر بن عثمان المصحفي في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة وفود جعفر ويحيى ابني علي بن حمدون على الخليفة الحكم المستنصر بالله، وذلك في أواخر شهر ذي القعدة سنة (360) هـ (سبتمبر (971) م)
(2)
.
كما يتولى تقديم الخلع والهبات للوافدين على الخليفة
(3)
، ويشرف على نقل بعض الأجهزة الإدارية من موقع لآخر
(4)
، ومعاقبة المفسدين ومثيري الفتن بسجنهم وتعقب الفارين منهم
(5)
، وكذلك مطاردة أهل البدع والتضييق عليهم وإخافتهم والزج بمن قبض عليه منهم في السجن
(6)
.
(1)
- المصدر السابق، ص 2/ 158.
(2)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 47 - 48.
(3)
- المصدر السابق، ص 111.
(4)
- نفسه، ص 66.
(5)
- نفسه، ص 73 - 75، 104.
(6)
- نفسه، تحقيق: شالميتا، ص 25.
وبأمر من الخليفة يتولى صاحب المدينة إذلال وتوبيخ من سخط عليه الخليفة، حتى وإن كان من كبار رجالات الدولة
(1)
.
ومن مهام صاحب المدينة تنفيذ أوامر الأمير أو الخليفة باستنفار الناس للجهاد، ولا يأذن لأحد بالتخلف إلا إن كان من أهل الأعذار، أو أن صاحب المدينة تغاضى عنه شريطة ألا يظهر من داره حتى يعود الجيش الغازي
(2)
، ومن فر من أرض المعركة فإن صاحب المدينة يتولى مسئولية القبض عليه بأمر من الأمير أو الخليفة، وإذا صدرت الأوامر بصلبهم تولى الإشراف على تنفيذه
(3)
، كما أنه يتولى مصادرة من نكب من رجالات الدولة ومصادرة المقربين إليه
(4)
.
والأمير أو الخليفة الأموي حريص على صلة رحمة من خلال تفقد أحوالهم، وإن كان الأمر لا يخلو من نظرة أمنية، وصاحب المدينة هو الذي يقوم بهذه المهمة، إذ يعمد إلى تكليف أمناء العطب والنوازل بتحديد يوم من كل أسبوع لا يخلون فيه أبداً، يقومون فيه بتفقد أحوالهم، وإبلاغ صاحب المدينة بكل شيء، ليرفع ذلك بتفاصيله للخليفة ليرى فيه رأيه
(5)
.
(1)
- نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 103 - 104.
(2)
- نفسه، تحقيق: د. محمود مكي، 43 - 45.
(3)
- نفسه، تحقيق: شالميتا، ص 446.
(4)
- ترتيب المدارك، 7/ 215.
(5)
- المقتبس، تحقيق: د. عبدالرحمن الحجي، ص 92.
وصاحب المدينة لا يسير إلا في موكب خاص يرافقه أثناء ذهابه إلى مجلسه الكائن بجوار مجلس الخزَّان
(1)
، في حين أن من جمعت له المدينة مع الشرطة العليا فإنه يستخدم كرسي الشرطة العليا بباب قصر قرطبة أو قصر الزهراء مكاناً له
(2)
.
ومن رسوم الدولة الأموية في الأندلس أن الوزير صاحب المدينة بقرطبة مقدم على نظيره الوزير صاحب المدينة بالزهراء، و يتضح ذلك من خلال ترتيب جلوسهما أثناء الاحتفالات الرسمية التي تقام في قرطبة، سواء عند السلام على الخليفة لتهنئته بأحد العيدين أو بمناسبة زيارة وفد رفيع المستوى.
ففي الاحتفال الذي أقامه الخليفة الحكم المستنصر بالله عند جلوسه لرعيته، لتهنئته بعيد الفطر سنة (362) هـ (يوليو (973) م) كان الوزير صاحب المدينة بقرطبة جعفر بن عثمان المصحفي يحجب الخليفة عن يمينه، وقام عن يساره صاحب المدينة بالزهراء محمد بن أفلح
(3)
.
ولكن إذا تعذر جلوس صاحب المدينة بقرطبة عن يمين الخليفة، فعندها يصبح مكانه عن يسار الخليفة، ويجلس تحته صاحب المدينة بالزهراء، وهذا ما جرى في الاحتفال بمناسبة قدوم الوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن الناصري من العدوة المغربية، ففي هذا الاحتفال
(1)
- قضاة قرطبة، ص 77.
(2)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 457.
(3)
- المقتبس، تحقيق: د. عبدالرحمن الحجي، ص 28 - 30.
الذي أقيم في يوم السبت لسبع خلون من شهر المحرم سنة (364) هـ (سبتمبر (974) م) جلس الخليفة الحكم المستنصر بالله، وقام للحجابة عن يمينه الوزير القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن وعن يساره الوزير صاحب المدينة بقرطبة جعفر بن عثمان المصحفي وتحته محمد بن أفلح صاحب المدينة بالزهراء
(1)
.
وصاحب المدينة إن لم يحمل لقب وزير، ففي هذه الحالة يكون أقل مرتبة من الوزير، دل على ذلك ما ذكره ابن حيان من أن الأمير عبد الرحمن الأوسط ولي عبد الواحد بن يزيد الاسكندراني خطة المدينة، ثم رقاه بعد ذلك إلى الوزارة والقيادة
(2)
.
وممن تولى خطة المدينة بقرطبة، بالإضافة إلى خطة إحدى المدينتين الزهراء أو الزاهرة، فإنه يطلق عليه لقب "صاحب المدينتين" ولم يرد في المصادر طوال فترة الدراسة أن أحداً حمل هذا اللقب إلا عمرو بن عبد الله بن أبي عامر
(3)
الملقب بعسكلاجه، فقد ولاه ابن عمه الحاجب المنصور بن أبي عامر مدينة قرطبة، وعندما أتم المنصور بناء مدينة الزاهرة أقامه عليها، فأصبح يلقب بـ"صاحب المدينتين
(4)
".
(1)
- المصدر السابق، ص 198.
(2)
- نفسه، تحقيق: د. محمود مكي ص 30 - 31.
(3)
- الحلة السيراء، 1/ 277.
(4)
- المصدر السابق، والصفحة، حاشية رقم 2.
وكان مرتب صاحب المدينة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط يبلغ مائة دينار، فهو عندما مّيز ولاية السوق عن أحكام الشرطة المسماة بولاية المدينة، فأفردها وصير لواليها ثلاثين ديناراً في الشهر ولوالي المدينة مائة دينار
(1)
".
ونظراً للوضع الاقتصادي المتميز الذي عاشته الأندلس بالذات في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، فمن المتوقع أن يكون مرتبه الشهري قد تجاوز ما كان عليه أيام الأمير عبد الرحمن الأوسط.
من تولى خطة المدينة:
المصادر الأندلسية لم تورد ذكراً للقب "صاحب المدينة" قبل عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، ولكن هذا لا يعني أبداً أن هذا اللقب أو المصطلح لم يكن مستعملاً.
وبصفة عامة يمكن القول بأن أبا عثمان عبيد الله بن عثمان، كبير موالي بني أمية بالأندلس، هو أول من قام بأعباء "صاحب المدينة" في الدولة الأموية، ونستشف ذلك من خلال ما أورده أحد المؤرخين من أن الأمير عبد الرحمن الداخل عندما بلغه أن يوسف الفهري والصميل بن حاتم قد استوليا على إلبيره، جمع قواته ثم غادر قرطبة وخلف عليها أبا
(1)
- المغرب في حلى المغرب، 1/ 46.
عثمان
(1)
، كما كان الأمير عبد الرحمن الداخل يستخلف أحياناً مولاه بدراً على قرطبة عند مغادرته لها
(2)
.
وغير هذين الخبرين لا نجد ذكراً لصاحب المدينة إلا في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط.
ورغم هذا النقص، فإننا لا نعرف من تولى المدينة منذ بداية عهده، إذ نفاجأ بما ذكره ابن القوطية من أن الأمير عبد الرحمن الأوسط قد سئم من كثرة الشكاوى المقدمة إليه ضد كل من تولى المدينة، وكانوا جميعاً من القرطبيين، فأقسم ألا يوليها رجلاً من أهل قرطبة، ثم أخذ يسأل عَمن يستحقها فاستدل على رجل من أهل إحدى الكور، عُرف بالفطنة وحسن العقل، يدعى محمد بن السليم، فاستدعاه وولاه المدينة
(3)
.
وذكر ابن الفرضي أن ممن تولى المدينة للأمير عبد الرحمن الأوسط، رجلاً يدعى ابن لُبيد، وفي سجنه ختم الفقيه يحيى بن يزيد الأزدي، القرآن أربعين مرة، وفي هذا يقول الفقيه يحيى بن يحيى الليثي، مخاطباً يحيى الأزدي: "ما أشقى من ختمت القرآن في حبسه أربعين مرة
(4)
".
(1)
- أخبار مجموعة، ص 92.
(2)
- المصدر السابق، ص 107.
(3)
- ابن القوطية، ص 69.
(4)
- ابن الفرضي، ترجمة رقم 1554.
وكان الأمير محمد بن عبد الرحمن يداول في ولاية المدينة بين أمية بن عيسى بن شهيد وبين وليد بن عبد الرحمن بن غانم، وذلك لإدراكه رجاحة عقليهما، وأنهما لا يراقبان في أحكامهما إلا الله تعالى
(1)
.
وفي عهد الأمير المنذر بن محمد كان حفص بن بسيل يلي المدينة
(2)
.
وورد لدى ابن حيان أن في سنة (281) هـ (894 م) عزل الأمير عبد الله بن محمد حفص ابن بسيل عن المدينة وجعل مكانه عبد الله بن محمد بن نصر
(3)
، لكنه لم يستمر في منصبه أكثر من سنة، فقد صُرف وولي مكانه مروان بن عبد الملك بن أمية وذلك سنة (282) هـ
(4)
(895 م) ولأمر ما فقد سخط الأمير على ابن أمية فعزله وجعل بدلاً منه أحمد بن محمد بن أبي عبد هـ سنة (283) هـ
(5)
(896 م).
ثم تولى المدينة محمد بن أمية بن عيسى بن شهيد، ولا ندري متى كان ذلك، لكن خبراً ورد لدى الخشني أفاد بأنه في سنة (289) هـ (902 م) كان محمد بن أمية هو صاحب المدينة في ذلك الوقت
(6)
، وقد تمادى في منصبه إلى أن عزل سنة (293) هـ (906 م) ووليها محمد بن
(1)
- ابن القوطية، ص 85 - 86. المقتبس، تحقيق: د. محمود مكي، ص 171.
(2)
- ابن القوطية، ص 102.
(3)
- المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 110.
(4)
- المصدر السابق، ص 114.
(5)
- نفسه، ص 118.
(6)
- قضاة قرطبة، ص 101. ابن الفرضي، ترجمة رقم 1141.
وليد بن غانم، وكانت ولايته ستة أشهر، ووليها مكانه موسى بن محمد بن حدير
(1)
الذي عزل عنها سنة (295) هـ (908 م) ووليها محمد بن عبيد الله بن أبي عثمان، وذلك يوم الخميس، لكنه طلب الإعفاء سريعاً، فعزل ثاني يوم ولايته، وولي مكانه علي بن محمد المعروف باليابسه، الذي لم يستمر أكثر من ثلاثة أيام، إذ سُرعان ما عُزل وأعيد إليها موسى بن محمد بن حدير، فتمادى في ولايتها طيلة ما بقي من عهد الأمير عبد الله
(2)
، وأقره عليها الأمير عبد الرحمن بن محمد إلى سنة (302) هـ (915 م) ثم عزله عنها في شهر شوال من تلك السنة، وجعل مكانه محمد بن عبد الله الخروبي
(3)
، فظل في منصبه إلى أن توفي في أوائل شهر صفر سنة (314) هـ (إبريل (926) م).
ثم تولى المدينة عيسى بن أحمد بن أبي عبد هـ، الذي كان إذا غادر قرطبة بصحبة الأمير عبد الرحمن بن محمد، يخلف عليها ولده أحمد بن عيسى
(4)
.
وفي سنة (316) هـ (928 م) عزل الخليفة عبد الرحمن الناصر أحمد بن عيسى عن المدينة وجعل مكانه أحمد بن عبد الوهاب بن
(1)
- المقتبس، تحقيق: انطونيا، ص 142.
(2)
- البيان المغرب، 2/ 144. قارن: المقتبس، تحقيق: أنطونيه، ص 143.
(3)
- المصدر السابق، ص 103.
(4)
- البيان المغرب، ص 2/ 193، 196.
عبد الرؤوف
(1)
، ثم عزله عنها في غرة جمادى الأولى
(2)
سنة (319) هـ (مايو (931) م) وولاها يحيى بن يونس القبري
(3)
، لكنه لم يستمر أكثر من أربعة أشهر، إذ عزل عنها ووليها عبد الحميد بن بسيل وذلك في شهر شوال من تلك السنة
(4)
واستمر في منصبه إلى أن عزل عنها في شهر شوال من سنة (320) هـ (أكتوبر (932) م) ووليها بدلاً منه فطيس بن أصبغ
(5)
.
وقد ذكر ابن حيان أنه في شهر ربيع الأول من سنة (326) هـ (يناير (938) م) ولي خطة المدينة الوزير جهور بن عبيد الله مكان أحمد بن عيسى بن أبي عبد هـ
(6)
، وفي سنة (327) هـ (939 م) عزل الوزير جهور عن المدينة ووليها الخال سعيد بن أبي القاسم
(7)
.
وفي سنة (328) هـ (940 م) تولى المدينة عبيد الله بن بدر بن أحمد بدلاً من ابن أبي القاسم
(8)
.
(1)
- المصدر السابق، ص 2/ 197.
(2)
- نفسه، 2/ 205.
(3)
- ورد لدى ابن عذاري "البيان المغرب، 2/ 205، لفظ "القبرسي" والتصحيح من المقتبس، تحقيق شالميتا، ص 314.
(4)
- البيان المغرب، 2/ 205.
(5)
- المصدر السابق، 2/ 208.
(6)
- المقتبس، تحقيق: شالميتا، ص 428.
(7)
- المصدر السابق والصفحة.
(8)
- نفسه، ص 461.
وكان جعفر بن عثمان المصحفي يتولى خطة المدينة بقرطبة، بينما كان محمد بن أفلح يشغل خطة المدينة بالزهراء، وذلك في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله
(1)
.
وفي سنة (366) هـ (977 م) صدر أمر الخليفة هشام المؤيد بالله بتولية محمد ابن عبد الله بن أبي عامر خطة المدينة بقرطبة، بدلاً من محمد بن جعفر المصحفي
(2)
.
ثم إن ابن أبي عامر استخلف على المدينة ابن عمه عمرو بن عبد الله بن أبي عامر، الملقب بعسكلاجه
(3)
"فسلك في أهل الشر سبيله، بل أربى عليه في ذلك
(4)
".
(1)
- نفسه، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، ص 22.
(2)
- الذخيرة، ق 4 م 1، ص 64. البيان المغرب، 2، 266. وقد ذكر القاضي عياض أن أحمد بن عبيد الله الموروري الحضرمي قد تحول من طبقته طبقة العلماء، إلى طبقة أهل الدنيا، فصحب ابن أبي عامر، فنال الوزارة، وتقلد المدينة، ثم توفي في شهر رمضان سنة 366 هـ وترك من الأموال مالا كفاء له، مما غله، فحاز ابن أبي عامر أكثره. انظر ترتيب المدارك، 7/ 215 - 216. ولم يتضح لي مما ذكره القاضي عياض متى تولى الموروري المدينة، ومن الذي ولاه؟ وبالذات أن المصحفي كان آنذاك مسيطراً على كل شيء، كما أن ابن أبي عامر لم يلِ المدينة إلا بعد عودته من غزوته الثانية، والتي لم يخرج إليها إلا يوم الفطر سنة 366 هـ، أي بعد وفاة الموروري، ولعل هذا ما يدفعني إلى الشك في وصول الموروري لخطة المدينة.
(3)
- الحلة السيراء، 1/ 277.
(4)
- البيان المغرب، 2/ 276.
ونظراً لكفاءة عمرو بن عبد الله فقد ولاه ابن أبي عامر خطة مدينتي قرطبة والزهراء، فأصبح يعرف بصاحب المدينتين
(1)
.
كما تولى مفرج العامري خطة المدينة في زمن المنصور وابنه عبد الملك المظفر
(2)
، وأما في عهد الحاجب شنجول فقد كان يلي المدينة عبد الله بن عمر الذي قتله الخليفة المهدي عند استيلائه على قرطبة
(3)
.
توارث خطة المدينة:
خطة المدينة خطة متوارثة، شأنها في ذلك شأن بقية الخطط في الدولة الأموية، ولدينا عدة أسر تعاقب أفرادها على خطة المدينة.
فعبيد الله بن عثمان الذي يعتبر أول من تولى خطة المدينة لدى الأمويين، نجد من ذريته محمد بن عبيد الله يلي المدينة في آخر عهد الأمير عبد الله بن محمد، ومن أسرة ابن شهيد تولى المدينة كل من: أمية بن عيسى بن شهيد وولده محمد بن أمية.
ومن أسرة ابن غانم وليد بن عبد الرحمن بن غانم وولده محمد بن وليد، وهناك ثلاثة من أسرة ابن أبي عبد هـ تولوا المدينة، وهم: أحمد بن محمد بن أبي عابده وابنه عيسى ومن بعده أحمد بن عيسى.
والأسرة الأموية تحرص على أن تحصر خطط الدولة في أسر معينة؛ ولذا نجد الخليفة الحكم المستنصر بالله عندما بلغه نبأ وفاة صاحب المدينة
(1)
- الحلة السيراء، 1/ 277.
(2)
- تاريخ القضاء في الأندلس، ص 495.
(3)
- البيان المغرب، 3/ 54.
بالزهراء محمد بن أفلح يوم السبت إحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة (364) هـ (فبراير (975) م) سارع إلى تعيين زياد بن أفلح مكان أخيه المتوفى مجموعة إلى ما بيده من خطتي الخيل والحشم وولاية كورة فريش
(1)
.
(1)
- المقتبس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي ص 210.
النتائج:
وبعد هذه الدراسة التي تعرفنا من خلالها على نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس أود أن أختم ذلك بذكر عدد من النتائج.
نظام الحكم في الدولة الأموية وراثي، يرثه الأبناء عن الآباء، ولم يحدث أن تولى الأخ بعد أخيه إلا مرة واحدة، وذلك عندما تولى الأمير عبد الله بن محمد رئاسة الدولة بعد أخيه المنذر، فولاية العهد كانت تسند للأصلح من الأبناء دونما اعتبار للسن.
الصراع الذي شهدته الدولة الأموية يمكن تقسيمه إلى قسمين، وقعا في فترتين مختلفتين، ففي النصف الأول من ذلك العصر كان الصراع منحصراً في أبناء البيت الأموي، وعندما اختفى هذا النمط من الصراع ظهر نوع آخر، حيث اندلعت حركات التمرد والعصيان في كافة أرجاء الأندلس، وإذا كان هدف النوع الأول من الصراع الوصول إلى السلطة، فإن النوع الثاني كان تعبيراً لزعماء تم تجاهلهم والاستئثار دونهم بكل شيء، وهو نتاج طبيعي للفساد الإداري الذي عاشته الدولة في النصف الثاني من عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن.
عمد الأمير عبد الرحمن الداخل منذ تأسيس دولته إلى اصطناع الموالي والرقيق والصقالبة، فاستعان بهم على تدعيم سلطانه، وسار من أتى بعده من الأمراء والخلفاء على هذه السياسة.
الدولة الأموية قدمت كل من هو شامي على نظيره البلدي، سواء في الإدارة أو الجيش أو رسوم الدخول على الحكام أو ما سوى ذلك، وهذا الرسم وضعه الأمير عبد الرحمن الداخل منذ بداية قيام دولته.
إن ظهور الزعامات القبلية في الأندلس يعود سببه إلى توزيع الأراضي إقطاعاً على القبائل التي شاركت في الفتح، وهذا الإجراء جعل كل قبيلة تحافظ على وحدتها، مما حال دون انصهار طوائف المجتمع، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الحروب بين تلك الفئات فيما بعد.
الدولة الأموية اعتمدت على أسر مساندة حصرت الخطط في أبنائها، فعاشت قوية متماسكة، وصمدت أما الهزات، هذه السياسة حاربها المنصور بن أبي عامر، فأخمل ذكر تلك الأسر، واختار أسوأ الرجال وأقلهم كفاءة، فجعل الخطط في أيديهم، ولذا فقد عاشت الدولة من بعده فراغاً سياسياً كبيراً، أدى إلى انهيارها بسرعة بعد وفاته.
تعيين الولاة في الثغور البرية والبحرية غالباً ما يخضع لاعتبارات خاصة، فالأمير عبد الرحمن الداخل جعل الرماحس والياً على الجزيرة الخضراء لأنه كان من رجال البحر، وأما عمال الثغور البرية فهم في الغالب من أرباب السيف ورجال الحرب
هيمنة الوزراء على الأمير أو الخليفة وتسلطه عليه، هو نذير شؤم على الدولة ككل، إذ أن أهل الطموح يتحركون للتخلص من ذلك المتسلط بأي وسيلة، وهذا ما عاشته الدولة في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن بسبب تسلط الوزير هاشم بن عبد العزيز علي، وتكرر في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله عندما تسلط عليه جعفر المصحفي، مما دفع بقية أبناء البيوتات المساندة للأسرة الأموية أن تسعى جاهدة للتخلص من المصحفي، وعندما تم لهم ذلك كانت النتيجة وصول المنصور بن أبي عامر للسلطة، والقضاء على هيبة بني أمية.
الدولة الأموية دولة رجال، تحرص دائماً على الأكفأ، يدل على ذلك أن قاضي الجماعة منذر بن سعيد البلوطي عندما قرع الخليفة عبد الرحمن الناصر في خطبة الجمعة بسبب تخلفه ثلاث مرات عن شهودها، لم يعزله الخليفة بل ثبته في منصبه.
الخليفة عبد الرحمن الناصر لم يهتم إلا بابنه الحكم، فقد أعده إعداداً سياسياً وإدارياً، وأما بقية أبنائه فلا نصيب لهم من ذلك الاهتمام، وهذا ما كان له أثره القوي في سرعة انهيار الدولة لعدم وجود المؤهل من الأسرة الأموية بعد الحكم المستنصر بالله.
الخليفة الحكم المستنصر بالله لم يستطع التخلص من أزمة السلطة الوراثية التي لا تعترف بالأكفاء، وإنما بالابن المحبب، فجره ذلك
إلى تقديم ولده الصبي هشام لولاية العهد من بعده، دون أن يدرك أنه في تصرفه هذا قد مهد الطريق بقوة لسقوط الدولة.
المنصور بن أبي عامر لم يعمل قط إلا لمصلحة نفسه، ورفعة شأنه، ولأجل هذا فقد وجه سهامه ضد الخلافة الأموية، ناسياً أنها الرمز القوي لوحدة البلاد.
الأمويون عند معالجتهم للأحداث الطارئة، ساروا على منهج يقوم على نبذ العجلة وعدم التسرع، فكل خبر يرفع إليهم، يعملون على كشفه والتأكد من، فإذا ثبتت صحته، عالجوا ما يمكن معالجته، بالصفح والمصالحة أو التأديب الذي لا يتلف الروح، هذه السياسة غيرها المنصور بن أبي عامر، فقد جعل مكان اللين غلظة، والسكون حركة، واستخدم البطش بدلا الأناة، وجعل المحاربة مكان السلم والموادعة.
المنصور بن أبي عامر كان حريصاً على نيل الخلافة، ولكن خشيته من قيام الرعية ضده، حال بينه وبين ما يشتهي، وهذا ما غفل عنه ابنه شنجول عندما تسمى بولاية العهد، مما تسبب في هيجان شعبي أودى به.
منصب الحاجب منذ بداية الدولة الأموية وحتى نهاية عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، لم يختلف عن منصب الوزارة بشيء، إذا استثنيا بعض الرسوم، فهو أشبه ما يكون بوزير تنفيذ، ولكن هذا المنصب بلغ أوج عظمته عندما تسلط العامريون على
الخلافة، فقد أصبح الحاجب العامري بحق رئيساً للوزراء، فبيده عزلهم وتعيينهم، ولذا فقد تحول منصب الحاجب في تلك الفترة إلى وير تفويض.
المنصور بن أبي عامر أخل بتركيبة الجيش الأموي، الذي كان يتميز بالقبائل والعشائر والبطون والأفخاذ، فقدم المنصور القواد على الأجناد، وفي هذه الحالة أصبح في جند القائد فرق من قبائل شتى، وبذلك قضى على الروح القبلية التي كانت كل قبيلة تحرص على حفظ كرامتها من خلال سمعتها في المعارك، كل هذا فعله المنصور ليتحكم في الجيش ويجعله أداة قمع بيده ضد الرعية.
جميع الرسوم التي درجت عليها الدولة الأموية اختفت في الفتنة التي تركت آثارها السلبية على كافة مجالات الحياة.
الصقالبة كان لهم دورهم القوي في الدولة الأموية، فقد بلغوا مكانة أصبحوا معها يمثلون طبقة متميزة في المجتمع، وبلغوا أوج عظمتهم في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، حتى أن أمر دولته كان بيد جعفر الصقلبي، ورغم ضجر الرعية منهم ومن تصرافتهم، إلا أن الخليفة كان لا يوقفهم عند حدهم، بل كان يطالب الرعية باحتمالهم وغض الطرف عنهم، الأمر الذي دفع الناس إلى محاربتهم بمجرد وفاة الخليفة، مما مكن ابن أبي عامر من بلوغ مرامه والانفراد بالسلطة.
وبذلك تم البحث، فلله جل وعلا الحمد والثناء، الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
قائمة المصادر والمراجع
(1)
أولاً المصادر:
ابن الأبار (أبو عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي):
- الحلة السيراء، تحقيق: د. حسين مؤنس، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة (1963) م.
- التكملة لكتاب الصلة: القسم الأول، تحقيق: الفريد بل وابن أبي شنب، طبعة الجزائر سنة (1337) هـ (1919 م) والجزآن التاليان اللذان نشرهما كوديرا، طبعة مدريد 1886 - (1887) م، والقسم الذي نشره عزت العطار الحسيني، طبعة القاهرة، (1375) هـ (1955 م).
ابن الأثير (أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد):
- الكامل في التاريخ، تحقيق: أبي الفداء عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، (1407) هـ (1987 م).
الإدريسي (أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله):
نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، مكتبة الثقافة الدينية القاهرة، بدون تاريخ.
الأزدي (علي بن ظافر):
(1)
- اقتصرت في هذه القائمة على ذكر أهم المصادر والمراجع وأغفلت ذكر ما كانت الفائدة منه محدودة.
- بدائع البدائه، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1970 م.
الأزدي (أبو الوليد هشام بن عبد الله):
- مفيد الحكام في نوازل الأحكام، مخطوط رقم 103، رقم الفهرست 2/ 217، بتاريخ 1277 هـ، مكتبة المسجد النبوي الشريف، المدينة النبوية.
الأصطخري (أبو إسحاق إبراهيم بن محمد):
المسالك والممالك، تحقيق: د. محمد جابر عبد العال، مراجعة: محمد شفيق غربال، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، 1381 هـ (1961 م).
ابن أبي أصيبعة (أبو العباس أحمد بن القاسم):
- عيون الأبناء في طبقات الأطباء، شرح وتحقيق: د. فؤاد رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت.
الأعرج (أبو الفضل محمد):
تحرير السلوك في تدبير الملوك، تحقيق ودراسة: د. فؤاد عبد المنعم أحمد، مكتبة شباب الجامعة الأسكندرية، 1982 م.
ابن بسام (أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني):
- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق: د. إحسان عباس، الدار العربية للكتب، ليبيا - تونس، 1399 هـ (1979 م).
ابن بشكوال (أبو القاسم خلف بن عبد الملك):
- الصلة، لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1966 م.
البكري (أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز)
جغرافية الأندلس وأوربا من كتاب "المسالك والممالك" تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي دار الإرشاد، بيروت، 1387 هـ (1968 م).
- المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، نشر دي سلان De Slane الجزائر، 1858 م.
البكري (أبو عبد الله محمد بن عبد الله):
لباب اللباب، المطبعة التونسية، تونس، 1346 هـ.
التهانوي (محمد علي بن شيخ علي بن قاضي محمد):
- كشاف إصطلاحات الفنون، طبعة كلكته، 1862 م.
الثعالبي (أبو منصور عبد الملك بن محمد)
آداب الملوك، تحقيق: د. جليل العطية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990 م.
الجاحظ (أبو عثمان عمر بن بحر):
-كتاب التاج في أخلاق الملوك، تحقيق: أحمد زكي المطبعة الأميرية، القاهرة، 1332 هـ (1914 م).
ابن حزم (أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد):
- جمهرة أنساب العرب، تحقيق: عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، 1391 هـ (1971 م).
- طوق الحمامة، تحقيق: حسن صيرفي، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، بدون تاريخ.
- نقط العروس في تواريخ الخلفاء، تحقيق: د. شوقي ضيف، مجلة كلية الأداب، جامعة فؤاد الأول، م 13 ج 2 ديسمبر 1951 م.
- الفصل في الملل والأهواء والنحل، وبهامشه الملل والنحل للشهرستاني، المطبعة الأدبية القاهرة، 1317 هـ.
الحضرمي (أبو بكر محمد بن المرادي):
- كتاب السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة، تحقيق: د. سامي النشار، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، 1401 هـ (1981 م).
الحموي (شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت):
- معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1975 م.
الحميدي (أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح الأزدي):
- جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1966 م.
الحميري (أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم):
- الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق: د. إحسان عباس، مكتبة لبنان، بيروت 1984 م.
ابن حوقل (أبو القاسم محمد بن علي):
- صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979 م.
ابن حيان (أبو مروان حيان بن خلف):
- المقتبس في تاريخ رجال الأندلس، نشر ملشور م. انطونيا، باريس، 1937 م.
- المقتبس في أخبار بلد الأندلس، تحقيق: د. عبد الرحمن الحجي، دار الثقافة، بيروت 1983 م.
- المقتبس، تحقيق: د. محمود علي مكي، دار الكتاب العربي، بيروت 1973 م.
- المقتبس الجزء الخامس، نشره: ب. شالميتا، ف. كورنيطي، م. صبح، المعهد الأسباني العربي للثقافة، مدريد 1979 م.
الخشني (أبو عبد الله محمد بن حارث):
- قضاة قرطبة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1966 م.
- أخبار الفقهاء والمحدثين، تحقيق: لويس مولينا، المجلس الأعلى للأبحاث العلمية، مدريد، 1992 م.
ابن الخصاف (أحمد بن عمرو بن مهر الشيباني):
- كتاب أدب القاضي، شرح: أبو بكر أحمد بن علي الرازي، تحقيق: فرحات زياده، الجامعة الأمريكية، القاهرة، 1979 م.
ابن الخطيب (لسان الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله):
- الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق، محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1393 - 1397 هـ (1973 - 1976 م).
- أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام "تاريخ إسبانيا الإسلامية" نشر: ليفي بروفنسال، دار المكشوف، بيروت، 1956 م.
أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام "تاريخ المغرب العربي في العصر الوسيط" تحقيق: د. أحمد مختار العبادي ومحمد إبراهيم الكتاني، دار الكتاب، الدار البيضاء، المغرب، 1964 م.
- معيار الإختيار، تحقيق: د. محمد كمال شبانة، الإمارات -المغرب، بدون تاريخ.
ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد)
- المقدمة، تحقيق: د. علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ.
- تاريخ ابن خلدون، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1391 هـ (1971 م)
ابن دحية (أبو الخطاب عمر بن الحسن):
المطرب في أشعار أهل المغرب، تحقيق: مصطفى عوض، الخرطوم 1954 م.
الرصاع (قاضي الجماعة محمد الأنصاري التونسي):
- كتاب شرح حدود الإمام أبي عبد الله بن عرفة، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، المغرب، 1412 هـ (1992 م).
الرقيق القيرواني (أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم)
- تاريخ إفريقية والمغرب، تحقيق: د. عبد الله العلي الزيدان، د. عز الدين موسى، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990 م.
الزبيدي (أبو بكر محمد بن الحسن):
-طبقات النحويين واللغويين، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1984 م.
السبكي (قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب):
-معيد النعم ومبيد النقم، تحقيق: محمد علي النجار، وغيره، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1367 هـ (1948 م).
ابن سعيد (علي بن موسى المغربي)
- المغرب في حلى المغرب، تحقيق: د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة 1969 م.
السقطي (أبو عبد الله محمد بن أبي محمد):
- آداب الحسبة، نشر: ج. س. كولان، وليفي بروفنسال، باريس، 1931 م.
ابن سلام (أبو عبيد القاسم):
-كتاب السلاح، تحقيق: د. صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405 هـ (1985 م).
ابن سماك (أبو القاسم محمد بن أبي العلاء المالقي):
-الزهرات المنثورة في نكت الأخبار المأثورة، تحقيق: د. محمود علي مكي، مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية، المجلدان 20 - 21، مدريد 1979 - 1980 م/1981 - 1982 م.
الشاطبي (أبو إسحاق إبراهيم بن موسى):
- الفتاوى، تحقيق: محمد أبو الأجفان، تونس، 1406 هـ (1958 م).
صاعد (أبو القاسم صاعد بن أحمد البغدادي):
- طبقات الأمم، تحقيق: حياة العيد أبو علوان، دار الطليعة، بيروت 1985 م.
الضبي (أبو جعفر أحمد بن يحيى):
- بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس: نشر: فرانسيسكو كوديرا " F.CODERA" وخليان ربيرا " J.RIBERA" مطبعة روخس، مجريط 1884 م.
طاش كبرى زاده (أحمد بن مصطفى):
- مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، مراجعة وتحقيق: كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور، دار الكتب الحديثة القاهرة، 1968 م.
الطرطوسي (مرضي بن علي بن مرضي).
- تبصرة أرباب الألباب، تحقيق: ونشر: كلود كاهين، بيروت 1948 م.
الطرطوشي (أبو بكر محمد الوليد):
- سراج الملوك، المكتبة المحمودية، القاهرة، 1354 هـ (1953 م).
العباسي (الحسن بن عبد الله بن محمد):
- آثار الأول في تدبير الدول، مطبوع على هامش تاريخ الخلفاء للسيوطي، القاهرة، 1305 هـ.
ابن عبد ربه (أبو عمر أحمد بن محمد):
- العقد الفريد، تحقيق: أحمد أمين، وغيره، لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1359 هـ (1940 م).
ابن عبد الرفيع (أبو إسحاق إبراهيم بن حسين):
- معين الحكام على القضايا والأحكام، تحقيق: د. محمد بن قاسم بن عباد، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1989 م.
ابن عبدون (محمد بن عبد الله النخعي، أو محمد بن أحمد التجيبي):
- في القضاء والحسبة (ضمن مجموعة ثلاث رسائل في الحسبة) تحقيق: ليفي بروفنسال، القاهرة، 1955 م.
ابن عذاري (أبو العباس أحمد بن محمد):
البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب: تحقيق: ج. س. كولان، وليفي بروفنسال، دار الثقافة، بيروت، 1983 هـ.
العذري (أبو العباس أحمد بن عمر):
نصوص عن الأندلس من كتاب "ترصيع الأخبار وتنويع الآثار والبستان في غرائب البلدان والمسالك إلى جميع الممالك "تحقيق: د. عبد العزيز الأهواني، معهد الدراسات الإسلامية، مدريد، 1965 م.
ابن العطار (محمد بن أحمد الأموي):
كتاب الوثائق والسجلات، تحقيق: ب. شالميتا- ف. كورينطي، المعهد الأسباني العربي للثقافة، مدريد، 1983 م.
عياض (القاضي أبو الفضل بن موسى بن عياض):
- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، تحقيق: سعيد أحمد غراب، وزميليه، وزارة الثقافة والشئون الإسلامية، المغرب، 1402 هـ (1982 م).
ابن غالب (محمد بن أيوب):
- قطعة من كتاب "فرحة الأنفس في أخبار الأندلس" نشر قطعة منه د. لطفي عبد البديع، تحت عنوان "تعليق منتقى من فرحة الأنفس" مجلة معهد المخطوطات العربية، العدد الأول، القسم الثاني، القاهرة 1375 هـ (1955 م)، عن كور الأندلس ومدنها بعد الأربعمائة، تحقيق: د. لطفي عبد البديع، مطبعة مصر، القاهرة 1956 م.
الغساني (محمد بن عبد الوهاب)
-رحلة الوزير في افتكاك الأسير، بعناية، الفريد البستاني، نشر، مؤسسة الجنرال فرانكو 1939 م
ابن فرحون (برهان الدين إبراهيم بن علي):
- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، راجعه وقدم له: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1406 هـ (1986 م).
- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، مكتبة عباس بن عبد السلام بن شقرون، القاهرة، 1351 م.
ابن الفرضي (أبو الوليد عبد الله بن محمد الأزدي):
- تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس، نشر: عزت العطار الحسيني، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1408 هـ (1988 م).
ابن فضل الله العمري (أحمد بن يحيى):
- التعريف بالمصطلح الشريف، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت، 1408 هـ (1988 م).
الفيروزبادي (أبو طاهر محمد بن يعقوب):
- القاموس المحيط، المطبعة المصرية، القاهرة، 1352 هـ (1933 م).
ابن القوطية (أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز):
- تاريخ افتتاح الأندلس، ملحق به "الرسالة الشريفية في الأقطار الأندلسية" نشر: باسكوال دي جايانجوس " P.GAYANGOS" مدريد، 1868 م.
ابن الكردبوس (أبو مروان عبد الملك):
- الأندلس، قطعة من كتاب الإكتفاء في تاريخ الخلفاء "تحقيق: د. أحمد مختار العبادي، معهد الدراسات الإسلامية، مدريد، 1971 م.
الماوردي (أبو الحسن علي بن محمد):
- كتاب الأحكام السلطانية، تصحيح: السيد محمد بدر الدين الحلبي مكتبة الخانجي، القاهرة 1327 هـ (1909 م).
المراكشي (عبد الواحد بن علي):
- المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق: محمد سعيد العريان، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية القاهرة 1383 هـ (1963 م).
المقري (أبو العباس أحمد بن محمد):
- أزهار الرياض في أخبار عياض، تحقيق: مجموعة من الأساتذة، لجنة التراث الإسلامي المشتركة بين دولتي الإمارات العربية والمملكة المغربية، 1398 هـ (1978 م).
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1388 هـ (1968 م).
ابن منظور (جمال الدين محمد بن مكرم):
لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1374 هـ (1955 م).
مؤلف مجهول:
- أخبار مجموعة في فتح الأندلس وذكر أمرائها رحمهم الله والحرب الواقعة فيما بينهم، نشر: لافونتي أي الكنترا LA FUENTE Y ALCANTARA، مع ترجمة إسبانية، مدريد 1867 م.
مؤلف مجهول:
- تاريخ عبد الرحمن الناصر، تقديم: د. عدنان محمد آل طعمه، دار سعد الدين، دمشق 1992 م.
مؤلف مجهول:
- الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، تحقيق: د. سهيل زكار وعبد القادر زمامه، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء المغرب، 1399 هـ (1979 م).
مؤلف مجهول:
- ذكر بلاد الأندلس، تحقيق: لويس مولينا، الجزء الأول، مدريد 1983 م.
مؤلف مجهول:
- كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، تحقيق: د. سعد زغلول، الدار المغربية، المغرب 1985 م.
مؤلف مجهول:
- نبذ تاريخية في أخبار البربر في القرون الوسطى، منتخبة من كتاب مفاخر البربر، نشر: ليفي بروفنسال، مطبوعات معهد العلوم العليا المغربية، المغرب، 1352 هـ (1934 م).
النباهي (أبو الحسن علي بن عبد الله):
- تاريخ قضاة الأندلس، المسمى بكتاب المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، تحقيق: ليفي بروفنسال، بيروت، بدون تاريخ.
النويري (أحمد بن عبد الوهاب):
- نهاية الأرب في فنون الأدب، الجزء الثالث والعشرون، تحقيق: د. أحمد كمال زكي، مراجعة: د. محمد مصطفى زياده، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1980 م.
الونشريسي (أحمد بن يحيى):
- المعيار المعرب والجامع المغرب من فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب، بإشراف: د. محمد حجي، نشر: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية للملكة المغربية، 1401 هـ (1981 م).
أبو يوسف (يعقوب بن إبراهيم):
- كتاب الخراج، نشر المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1352 هـ.
ثانياً المراجع:
أحمد بن خالد الناصري:
- الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر ومحمد أحمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1954 م.
أحمد مختار العبادي:
- دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، الناشر: محمد أحمد بسيوني، مؤسسة شباب الجامعة الأسكندرية 1968 م.
- الصقالبة في أسبانيا، لمحة عن أصلهم ونشأتهم وعلاقتهم بحركة الشعوبية، المعهد المصري للدراسات الإسلامية، مدريد، 1373 هـ (1952 م).
- تاريخ المغرب والأندلس، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1986 م.
- مشاهدات لسان الدين بن الخطيب في بلاد المغرب والأندلس، جامعة الأسكندرية 1958 م.
د. إسماعيل العربي:
- دولة الأدارسة ملوك تلمسان وفاس وقرطبة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1403 هـ (1984 م).
آنخل جنثالث بالنثيا:
- تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة: د. حسين مؤنس، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1955 م.
شكيب أرسلان:
- تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزر البحر المتوسط، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة، 1352 هـ.
د. حسن الباشا:
- الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1957 م.
د. حسين مؤنس:
- أثر ظهور الإسلام في الأوضاع السياسية والاقتصادية في البحر الأبيض المتوسط، المجلة التاريخية المصرية، المجلد السابع، العدد الأول، مايو 1951 م، القاهرة.
- رحلة الأندلس حديث الفردوس المفقود، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، 1963 م.
- غارات النورمانديين على الأندلس بين سنتي 229 - 245 هـ (844 - 859 م) المجلة التاريخية المصرية، المجلد الثاني، العدد الأول، مايو 1949 م القاهرة.
- فجر الأندلس، دراسة في تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي إلى قيام الدولة الأموية، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة 1959 م.
- معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار ومطابع المستقبل، القاهرة، 1980 م.
د. رجب محمد عبد الحليم:
- العلاقات بين الأندلس الإسلامية وأسبانيا النصرانية في عصر بني أمية وملوك الطوائف، منشورات: دار الكتب الإسلامية، القاهرة -بيروت، 1985 م.
ستانلي بول:
- العرب في أسبانيا، ترجمة: علي الجارم، دار المعارف، القاهرة، 1947 م.
د. سعاد ماهر:
- البحرية في مصر الإسلامية وآثارها الباقية، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967 م.
د. سيد عبد العزيز سالم:
- تاريخ البحرية الإسلامية في حوض البحر الأبيض المتوسط، مؤسسة شباب الجامعة، الأسكندرية، 1981 م.
- تاريخ مدينة المرية الإسلامية، قاعدة أسطول الأندلس، مكتبة شباب الجامعة، الأسكندرية، 1984 م.
- تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، من الفتح العربي حتى سقوط الخلافة بقرطبة، دار المعارف، القاهرة، 1962 م.
- قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس، دراسة تاريخية عمرانية أثرية، في العصر الإسلامي، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1984 م.
شكيب أرسلان:
- الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية، المكتبة التجارية الكبرى بفاس، 1355 هـ (1936 م).
د. صلاح الدين المنجد:
- معجم بني أمية، مستخرج من تاريخ دمشق، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1970 م.
د. عبد الرحمن الحجي:
- أندلسيات، المجموعة الثانية، دار الإرشاد، بيروت 1389 هـ (1969 م).
عبد الرحمن زكي:
- السلاح في الإسلام، الجمعية الملكية للدراسات التاريخية، القاهرة، 1901 م.
عبد الرحمن الفاسي:
-خطة الحسبة في النظر والتطبيق والتدوين، مكتبة دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، 1404 هـ (1984 م).
عبد الرؤوف عون:
- الفن الحربي في صدر الإسلام، دار المعارف القاهرة، 1961 م.
عبد الواحد ذنون طه:
- دراسات أندلسية في التاريخ الأندلسي، بيروت 1987 م.
علي بهجت:
- قاموس الأمكنة والبقاع التي يرد ذكرها في كتب الفتوح، شركة طبع الكتب العربية القاهرة، 1324 هـ (1906 م).
كليليا سارنللي تشركوا:
- مجاهد العامري، قائد الأسطول العربي في غربي البحر المتوسط في القرن الخامس الهجري، لجنة البيان العربي، القاهرة 1961 م.
ليفي بروفنسال:
الحموديون سادة مالقة والجزيرة الخضراء، ترجمة: د. عدنان محمد آل طعمه، دار سعد الدين، دمشق 1992 م.
لويس سيكودي لوثينا:
- الإسلام في المغرب والأندلس، ترجمة د. عبد العزيز سالم ومحمد صلاح الدين، مراجعة: لطفي عبد البديع، مكتبة النهضة المصرية، 1956 م.
محمد سالم مدكور:
- القضاء في الإسلام، دار النهضة العربية القاهرة، 1383 هـ (1964 م).
محمد عبد الله عنان:
- الآثار الأندلسية الباقية في أسبانيا، دراسة تاريخية أثرية، مؤسسة الخانجي، القاهرة، 1381 هـ (1961 م).
- دولة الإسلام في الأندلس، الخلافة الأموية والدولة العامرية، العصر الأول، القسم الثاني، مؤسسة الخانجي القاهرة، 1380 هـ (1960 م).
- دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي لجنة التأليف والترجمة القاهرة 1380 هـ.
- دولة الإسلام في الأندلس، العصر الأول، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1382 هـ (1962 م).
محمد عبد الوهاب خلاف:
- تاريخ القضاء في الأندلس، من الفتح إلى نهاية القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة، 1413 هـ (1992 م).
- ثلاث وثائق في محاربة الأهواء والبدع في الأندلس، مستخرجه من مخطوط الأحكام الكبرى للقاضي أبي الأصبغ بن سهل، المركز العربي الدولي للأعلام، القاهرة 1981 م.
- قرطبة الإسلامية في القرن 11 م/5 هـ، الحياة الإقتصادية والإجتماعية، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984 م.
- وثائق في أحكام أهل الذمة في الأندلس، مستخرجة من مخطوط الأحكام الكبرى للقاضي ابن سهل، المركز الدولي العربي للأعلام، القاهرة، 1980 م.
- وثائق في أحكام القضاء الجنائي في الأندلس، مستخرجة من مخطوط الأحكام الكبرى للقاضي أبي الأصبغ بن سهل، المركز العربي الدولي للأعلام، القاهرة، 1980 م.
- وثائق في شئون الحسبة في الأندلس، مستخرجة من الأحكام الكبرى للقاضي ابن سهل الأندلسي، المركز الدولي العربي للأعلام، القاهرة، 1985 م.
محمد مختار باشا:
- التوفيقات الإلهامية، في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الأفرنجية والقبطية، المطبعة الأميرية، بولاق، القاهرة، 1311 هـ.
محمد ياسين الحموي:
- تاريخ الأسطول الإسلامي، مطبعة الترقي، دمشق، 1945 م.
محمود محمد عرنوس:
- تاريخ القضاء في الإسلام، المطبعة المصرية الأهلية الحديثة، القاهرة، 1352 هـ (1934 م).
ناصر النقشبندي:
- نقود أندلسية من أسبانية، مجلة سومر، الجزء الأول، المجلد السابع، مديرية الأثار القديمة العامة، بغداد، 1951 م.
هشام سليم عبد الرحمن أبو رميلة:
- نظم الحكم في الأندلس في عصر الخلافة، (رسالة ماجستير) مقدمة إلى كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1975 م (لم تطبع).
المراجع الأجنبية:
1 -
DE LAGRANJ - FERNANDO:
- Del "Kitab AL-Durr AL-Munazzam Flmawlid Alnabi AL-Muzzam" De AL-Azafi، AL-Andalus، Madrid- Granada، 1969 Vol XXXIV.
2 -
F.SIMONET - AND J.LERCHUNOL:
- Arabico - Espanola - Granada، 1881.
3 -
G.C.MILES:
The Coinage of the umayyade of spain.New York 1950.
4 -
JERRIL:
AL-Andalus، The art of Islamic spain new york 1992.
5 -
PROVENCAL:
- Histoire de L' Espagne Musulmane. 3 vols، paris، 1950.
- La description de I'espagne، de razi، AL-Andaluse، Vol XVIII 1953.