المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ومعلوم أن المقصود بالخطاب الإفهام، وهذا لم يستفد من الخطاب - نقض أصول العقلانيين - جـ ٥

[سليمان الخراشي]

فهرس الكتاب

ومعلوم أن المقصود بالخطاب الإفهام، وهذا لم يستفد من الخطاب الإفهام، فإن الحق لم يستفده من الخطاب بل من عقله، والمعنى الذي دلّ عليه الخطاب الدلالة المعروفة لم يكن المقصود بالخطاب إفهامه، وذلك المعنى البعيد الذي صرف الخطاب إليه، قد كان عالماً بثبوته بدون الخطاب، ولم يدله عليه الخطاب الدلالة المعروفة، بل تعب تعباً عظيماً حتى أمكنه احتمال الخطاب له، مع أنه لا يعلم أن المخاطب أفاده بالخطاب، فلم يكن في خطاب الله ورسوله على قول هؤلاء، لا إفهام ولا بيان، بل قولهم يقتضي أن خطاب الله ورسوله إنما أفاد تضليل الإنسان، وإتعاب الأذهان، والتفريق بين أهل الإيمان، وحصول العداوة بينهم والشنآن، وتمكين أهل الإلحاد والطغيان، من الطعن في القرآن والإيمان.

وأما إن لم يكن عنده ما يعارض النص، مما يسمى رأياً ومعقولاً وبرهاناً ونحو ذلك، فإنه لا يجزم بأنه ليس في عقول جميع الناس ما يناقض ذلك الخبر الذي أخبر الله به ورسوله.

ومن المعلوم أن الدلالات التي تسمى عقليات، ليس لها ضابط، ولا هي منحصرة في نوع معين، بل ما من أمةٍ إلا ولهم ما يسمونه معقولات.

واعتبر ذلك بأمتنا، فإنه ما من مدة إلا وقد يبتدع بعض الناس بدعاً: يزعم أنها معقولات.

ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة حدثوا في آخر خلافة عليّ، والمرجئة والقدرية حدثوا في أواخر عصر الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص ويستدلون بها على قولهم، لا يدّعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص.

ثم أتباع هذه الطوائف يحدثون من الحجج العقلية على قول متبوعهم ما لم تكن عند متبوعهم، فيكون –بزعمهم- قد تبين لهم من العقليات النافية ما لم يتبين لمتبوعهم.

واعتبر ذلك بما تجده من الحجج لأبي الحسين البصري وأمثاله مما لم يسبقه إليها شيوخه، وما تجده لأبي هاشم، ولأبي علي الجبائي، وعبد الجبار بن أحمد مما لم يسبقهم إليها شيوخهم.

ص: 1

بل أبو المعالي الجويني، ونحوه ممن انتسب إلى الأشعري، ذكروا في كتبهم من الحجج العقليات النافية للصفات الخبرية ما لم يذكره ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابهما، كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله، فإن هؤلاء متفقون على إثبات الصفات الخبرية، كالوجه واليد، والاستواء.

فتبين أن من جوز على خبر الله، أو خبر رسوله، أن يناقضه شيء من المعقول الصريح، لم يمكنه أن يصدق بعامة ما أخبر الله به ورسوله من الغيب، لا سيما والأمور الغائبة ليس للمخبرين بها خبرة يمكنهم أن يعلموا بعقولهم ثبوت ما أخبر به، أو انتفاء جميع ما تتخيله النفوس من المعارضات له.

بل إذا كانت الأمور المشاهدة الحسية، وما يبنى عليها من العلوم العقلية، قد وقع فيها شبهات كثيرة عقلية تعارض ما علم بالحس أو العقل، وكثير من هذه الشبه السوفسطائية يعسر على كثير من الناس –أو أكثرهم- حلها، وبيان وجه فسادها، وإنما يعتصمون في ردها بأن هذا قدح فيما علم بالحس أو الضرورة فلا يستحق الجواب، فيكون جوابهم عنها أنها معارضة للأمر المعلوم الذي لا ريب فيه، فيعلم أنها باطلة من حيث الجملة، وإن لم يذكر بطلانها على وجه التفصيل.

ولو قال قائل: هذه الأمور المعلومة لا تثبت إلا بالجواب عما يعارضها من الحجج السوفسطائية، لم يثبت لأحدٍ علم بشيء من الأشياء، إذ لا نهاية لما يقوم بنفوس بعض الناس من الحجج السوفسطائية.

فهكذا تصديق خبر الله ورسوله، قد علم علماً يقينياً أنه صدق مطابق لمخبره، وعلمنا بثبوت جميع ما أخبر به أعظم من علمنا بكل فردٍ من علومنا الحسية والعقلية، وإن كنا جازمين بجنس ذلك، فإن حسنا وعقلنا قد يعرض له من الغلط ما يقدح في بعض إدراكاته كالشبه السوفسطائية.

ص: 2

وأما خبر الله ورسوله فهو صدق، موافق لما الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلاً، ولا مخالفاً لما هو الأمر عليه في نفسه، ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئاً من أخباره وناقضه، فإنه باطل من جنس حجج السوفسطائية، وإن كان العالم بذلك قد لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره.

وهذه حال المؤمنين للرسول، الذي علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به، يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يعارض خبره دليل صحيح: لا عقلي، ولا سمعي، وأن ما عارض أخباره من الأمور التي يحتج بها المعارضون ويسمونها عقليات، أو برهانيات، أو وجديات، أو ذوقيات، أو مخاطبات، أو مكاشفات، أو مشاهدات، أو نحو ذلك من الأمور الدهّاشات، أو يسمون ذلك تحقيقاً، أو توحيداً، أو عرفاناً، أو حكمة حقيقية، أو فلسفة، أو معارف يقينية، ونحو ذلك من الأسماء التي يسميها بها أصحابها، فنحن نعلم علماً يقينياً لا يحتمل النقيض أن تلك جهليات، وضلالات، وخيالات، وشبهات مكذوبات، وحجج سوفسطائية، وأوهام فاسدة، وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسمّاها، بل هي من جنس تسمية الأوثان آلهة وأرباباً، وتسمية مسيلمة الكذاب وأمثاله أنبياء:(إن هي إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) . والمقصود أنه من جوز أن يكون فيما علمه بحسه وعقله حجج صحيحة تعارض ذلك، لم يثق بشيء من علمه، ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من ذلك.

فهكذا من جوّز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من خبر الله ورسوله، ولم يبق له طريق إلى التصديق بشيء من أخبار الله ورسوله.

ص: 3

ولهذا كان هؤلاء المعرضين عن الكتاب، المعارضين له، سوفسطائية منتهاهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات، يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه، وينتهون في أدلتهم إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية.

ثم إن فضلاءهم يتفطّنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب، وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب.

وإذا كان قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن التصديق الجازم بما أخبر به الرسول حق واجب، وطريق هؤلاء تناقضه، علم بالضرورة من دين الإسلام أن طريق هؤلاء فاسدة في دين الإسلام، وهذه هي طريقة أهل الإلحاد في أسماء الله وآياته.

وإذا كان ما أوجب الشك والريب ليس بدليل صحيح، وإنما الدليل ما أفاد العلم واليقين، وطريق هؤلاء لا يفيد العلم واليقين، بل يفيد الشك والحيرة، علم أنها فاسدة في العقل، كما أنها إلحاد ونفاق في الشرع.

الوجه الثاني والثلاثون: أن يقال: العقل ملزوم لعلمنا بالشرع ولازم له. ومعلوم أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين، لزم من وجود الملزوم وجود اللازم، ومن نفي اللازم نفي الملزوم، فكيف إذا كان التلازم من الجانبين؟ .

فإن هذا التلازم يستلزم أربع نتائج: فيلزم من ثبوت هذا اللازم ثبوت هذا، ومن نفيه نفيه، ومن ثبوت الملازم الآخر ثبوت ذلك، ومن نفيه نفيه.

وهذا هو الذي يسميه المنطقيون: الشرطي المتصل، ويقولون: استثناء عين المقدم ينتج عين التالي، واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم، فإذا كان التلازم من الجانبين كان استثناء عين كل من المتلازمين ينتج عين الآخر، واستثناء نقيض كل منهما ينتج نقيض الآخر.

وبيان ذلك هاهنا: أنه إذا كان العقل هو الأصل الذي به عرف صحة الشرع، كما قد ذكروا هم ذلك، وقد تقدم أنه ليس المراد بكونه أصلاً له أنه أصل في ثبوته في نفسه، وصدقه في ذاته، بل هو أصل في علمنا به، أي دليل لنا على صحته.

ص: 4

فإذا كان كذلك، فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده، وهو ملزوم للمدلول عليه، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه، ولا يجب عكسه، فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول عليه.

وهذا كالمخلوقات، فإنها آية للخالق، فيلزم من ثبوتها ثبوت الخالق، ولا يلزم من وجود الخالق وجودها.

وكذلك الآيات الدالات على نبوة النبي، وكذلك كثير من الأخبار والأقيسة الدالة على بعض الأحكام: يلزم من ثبوتها ثبوت الحكم، ولا يلزم من عدمها عدمه، إذ قد يكون الحكم معلوماً بدليل آخر، اللهم إلا أن يكون الدليل لازماً للمدلول عليه، فيلزم من عدم اللازم عدم الملزوم، وإذا كان لازماً له أمكن أن يكون مدلولاً له، إذ المتلازمان، يمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر، مثل الحكم الشرعي الذي لا يثبت إلا بدليل شرعي، فإنه يلزم من عدم دليله عدمه.

وكذلك ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، إذا لم ينقل لزم من عدم نقله عدمه، ونقله دليل عليه، وإذا كان من المعقول ما هو دليل على صحة الشرع، لزم من ثبوت ذلك المعقول ثبوت الشرع، ولم يلزم من ثبوت الشرع ثبوته في نفس الأمر.

لكن نحن إذا لم يكن لنا طريق إلى العلم بصحة الشرع إلا ذلك العقل، لزم من علمنا بالشرع علمنا بدليله العقلي الدال عليه، ولزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا به، فإن العلم بالدليل يستلزم العلم بالمدلول عليه.

وهذا هو معنى كون النظر يفيد العلم. وهذا التلازم فيه قولان: قيل: إنه بطريق العادة التي يمكن خرقها. وقيل: بطريق اللزوم الذاتي الذي لا يمكن انفصاله، كاستلزام العلم للحياة، والصفة لموصوفٍ وكاستلزام جنس العرض لجنس الجوهر، لامتناع ثبوت صفةٍ وعرض، بدون موصوفٍ وجوهر.

المقصود هنا: أنه إذا كان صحة الشرع لا تعلم إلا بدليل عقلي، فإنه يلزم من علمنا بصحة الشرع، علمنا بالدليل العقلي الدال عليه، ويلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي، علمنا بصحة الشرع.

ص: 5

وهكذا الأمر في كل ما لا يعلم إلا بالدليل، ويلزم أيضاً من ثبوت ذلك الدليل المعقول في نفس الأمر ثبوت الشرع، ولا يلزم من ثبوت الشرع ثبوت ذلك الدليل.

وإذا كان العلم بصحة الشرع لازماً للعلم بالمعقول الدال عليه، وملزوماً له، ولازماً لثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر، كما أن ثبوت ذلك المعقول في نفس الأمر، مستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر، فمن الممتنع تناقض اللازم والملزوم، فضلاً عن تعارض المتلازمين، فإن المتعارضين هما المتنافيان اللذان يلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر، كالضدين والنقيضين.

والمتلازمان يلزم من ثبوت كل منهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه، فكيف يمكن أن يكون المتلازمان متعارضين متنافيين متناقضين، أو متضادين؟

وإذا قال القائل: نحن إنما قدحنا في القدر الذي خالف العقل من الشرع، لم نقدح في كل الشرع.

قيل: ومن قدم الشرع إنما قدح في ذلك القدر مما يقال إنه عقل، لم يقدح في كل عقل، ولا في العقل الذي هو أصل يعلم به صحة الشرع. وإنما قلنا:((مما يقال إنه عقل)) لأنه ليس بمعقول صحيح، وإن سمّاه أصحابه معقولاً.

فإن من خالف الرسل عليهم الصلاة والسلام، ليس معه لا عقل صريح ولا نقل صحيح، وإنما غايته أن يتمسك بشبهات عقلية أو نقلية، كما يتمسك المشركون والصابئون من الفلاسفة وغيرهم بشبهات عقلية فاسدة، وكما يتمسك أهل الكتاب المبدل المنسوخ بشبهات نقلية فاسدة.

قال الله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات) وقال تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) .

ولهذا كان من قدم العقل على الشرع لزمه بطلان العقل والشرع، ومن قدّم الشرع لم يلزمه بطلان الشرع، بل سَلِمَ له الشرع. ومعلوم أن سلامة الشرع للإنسان، خير له من أن يبطل عليه العقل والشرع جميعاً. وذلك لأن القائل الذي قال: العقل أصل الشرع، به علمت صحته، فلو قدّمنا عليه الشرع للزم القدح في أصل الشرع.

ص: 6

يقال له: ليس المراد بكونه أصلاً له: أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر، بل هو أصل في علمنا به، لكونه دليلاً لنا على صحة الشرع.

ومعلوم أن الدليل مستلزم لصحة المدلول عليه، فإذا قدر بطلان المدلول عليه لزم بطلان الدليل، فإذا قدر عند التعارض أن يكون العقل راجحاً والشرع مرجوحاً، بحيث لا يكون خبره مطابقاً لمخبره، لزم أن يكون الشرع باطلاً، فيكون العقل الذي دلّ عليه باطلاً، لأن الدليل مستلزم للمدلول عليه، فإذا انتفى المدلول اللازم وجب انتفاء الدليل الملزوم وقطعاً. ولهذا يمتنع أن يقوم دليل صحيح على باطل، بل حيث كان المدلول باطلاً لمن يكن الدليل عليه إلا باطلاً.

إما إذا قدّم الشرع، كان المقدم له قد ظفر بالشرع، ولو قدر مع ذلك بطلان الدليل العقلي، لكان غايته أن يكون الإنسان قد صدق بالشرع بلا دليل عقلي، وهذا مما ينتفع به الإنسان، بخلاف من لم يبق عنده لا عقل ولا شرع، فإن هذا قد خسر الدنيا والآخرة. فكيف والشرع يمتنع أن يناقض العقل المستلزم لصحته؟! وإنما يناقض شيئاً آخر ليس هو دليل صحته، بل ولا يكون صحيحاً في نفس الأمر.

وأيضاً فلو قدر أنه ناقض دليلاً خاصاً عقلياً يدل على صحته، فالأدلة العقلية الدالة على صحة الشرع متنوعة متعددة، فلا يلزم من بطلان واحدٍ منها بطلان غيره، بخلاف الشرع المدلول عليه، فإنه إذا قدر بطلانه لزم بطلان جميع ما يدل عليه من المعقولات.

وأيضاً فإن هؤلاء المعارضين للشرع بالعقل، هم يدعون في معقولات معينة أنه عرفوا بها الشرع، كدعوى الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم أن الشرع إنما تعلم صحته بالدليل الدال على حدوث الأجسام، المبني على أن الأجسام مستلزمة للأعراض، والأعراض حادثة لامتناع حوادث لا أول لها.

ص: 7

وهذا الدليل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العلم بصدق الرسول ليس موقوفاً عليه، لأن الذين آمنوا بالله ورسوله، وشهد لهم القرآن بالإيمان، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، لم يستدلوا على صدق الرسول بهذا الدليل. وحينئذ فلو قُدر أن هذا الدليل صحيح، لم يلزم من عدم الاستدلال به بطلان الإيمان بالرسول، بل يمكن الاستدلال على صدق الرسول بالأدلة الأخرى، كالأدلة التي استدل بها السلف وجماهير الأمة. وحينئذ إذا قدر أن هذا المعقول المعين مناقض لخبر الرسول، لم يلزم من تقديم خبر الرسول عليه، القدح في أصل السمع الذي لا يعلم إلا به، فكيف إذا كان هذا الدليل باطلاً؟!. فإنه حينئذ لا يجوز أن يعتمد عليه في إثبات شيء ولا نفيه، فثبت أنه على كل تقدير لا يجب تقديمه على الشرع.

ومن زعم من أهل الكلام أنه لا طريق إلى معرفة الصانع وصدق رسوله إلا هذا، فإنه من أجهل الناس شرعاً وعقلاً. أما الشرع فقد علم أن السابقين الأولين لم يستدلوا به.

وأما العقل، فإن قول القائل: إنه لا دليل إلا هذا، قضية كلية سالبة، وشهادة على النفي العام، وأنه ليس لأحدٍ من بني آدم علم يعلم به صدق الرسول إلا هذا، وهذا مما لم يقيموا عليه دليلاً، بل لا يمكن أحدٌ العلم بهذا النفي لو كان حقاً، فكيف إذا كان باطلاً؟! .

وكذلك جميع ما يعارضون به الشرع من العقليات، فإنه لا تخلو من أمرين: إن كانت صحيحة فلم تصح الدلالة في المسلك العقلي، ولا يلزم من بطلانه بطلان دليل الشرع، إذ كان للشرع أدلة عقلية تدل عليه غير ذلك المعيّن العقلي، وإن كانت باطلة فهي من العقليات الباطلة، وليست أصلاً للشرع، فجيب أن يعرف معنى كون العقل أصلاً للشرع: أن المراد به أنه دليل.

ونحن قد بيّنا أن كل ما عارض الشرع من العقليات فليس هو دليلاً صحيحاً، فضلاً عن أن يكون هو الدليل على صحة الشرع.

ص: 8

فإن قيل: نحن إذا قدّمنا العقل لم يبطل الشرع، بل نفوضه أو نتأوله.

قيل: إن لم يكن الشرع دالاً على نقيض ما سميتموه معقولاً، فليس هو محل النزاع، وإن كان الشرع دالاً فتفويضه تعطيل لدلالة الشرع، وذلك إبطال له، وإذا دل الشرع على شيء، فالإعراض عن دلالته كالإعراض عن دلالة العقل.

فلو قال القائل: أنا قد علمت مراد الشارع، وأما المعقول فأفوضه، لأني لم أفهم صحته ولا بطلانه، فما أنا جازم بمخالفته لما دل عليه الشرع، وقد رأيت المدعين للمعقولات مختلفين، فما أنا واثق بهذا المعقول المناقض للشرع- كان هذا أقرب من قول من يقول: إن الله ورسوله لم يبين الحق، بل تكلم بباطل يدل على الكفر، ولم يبين مراده، فإن المقدّم للمعقول عند التعارض لابد أن يقول: إن الشرع يدل على خلاف العقل: إما نصاً، وإما ظاهراً.

وإلا فإذا لم يكن له دلالة بحال تخالف العقل امتنعت المعارضة، وحينئذ فحقيقة قوله: إن الله –ورسوله- أظهر ما هو باطل وضلال وكفر ومحال، لم يبين الحق ولا هدى الخلق، وإنما الخلق عرفوا الحق بعقولهم.

والمقدّم للشرع يقول: إن الله – ورسوله- بيّن المراد، وهدى العباد، وأظهر سبيل الرشاد، ولكن هؤلاء المخالفون له ضلُّوا، وهم الذين قال الله فيهم:(وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) فأنا أطعن فيما خالفوا به الرسول، ونبذوا به كتاب الله وراء ظهورهم، وخالفوا به الكتاب والسنة والإجماع، لا أطعن في العقليات الصحيحة الصريحة، الدالة على أن الرسول صادق بلّغ البلاغ المبين، فإن هذه المعقولات يمتنع معها أن يكون الرسول هو الرسول الذي وصفوه.

ص: 9

فهذا القائل قد صدّق بالمعقول الصريح والمنقول الصحيح، وصدّق بموجب الأدلة العقلية والنقلية. وأما ذاك القائل فإنه لم يتقبل بموجب الدليل العقلي الدال صدق الرسول وتبليغه وبيانه وهداه للخلق، ولا قام بموجب الدليل الشرعي الذي دل عليه ما دل عليه نصاً أو ظاهراً، بل طعن في دلالة الشرع، وفي دلالة العقل الذي يدل على صحة الشرع. فتبين أن ذلك المقدم للشرع هو المتبع للشرع وللعقل الصحيح، دون هذا الذي ليس معه لا سمع ولا عقل.

ومما يوضح هذا: أن ما به عرف صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وأنه لا يكون فيه كذب ولا خطأ يدل على ثبوت ذلك كله، لا يميز بين خبر وخبر، بل الدليل الدال على صدقه يقتضي ثبوت جميع ما أخبر به. وإذا كان ذلك الدليل عقلياً، فهذا الدليل العقلي يمنع ثبوت بعض أخباره دون بعض، فمن أقرَّ ببعض ما أخبر به الرسول دون بعض، فقد أبطل الدليل العقلي الدال على صدق الرسول وقد أبطل الشرع، فلم يبق معه لا عقل ولا شرع.

وهذا حال من آمن ببعض الكتاب دون بعض قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مُهيناً) .

ولا ريب أن من قدّم على كلام الله ورسوله ما يعارضه من معقول أو غيره، وترك ما يلزمه من الإيمان به، كما آمن بما يناقضه، فقد آمن ببعضٍ وكفر ببعض.

ص: 10

وهذا حقيقة حال أهل البدع، كما في كتاب ((الرد على الزنادقة والجهمية)) لأحمد بن حنبل وغيره من وصفهم بأنهم:((مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب)) . وقوله: ((مختلفون في الكتاب)) يتضمن الاختلاف المذموم المذكور في قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينان وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) فهذا الاختلاف يحمد فيه المؤمنون، ويذم فيه الكافرون.

وأما الاختلاف في الكتاب الذي يذم فيه المختلفون كلهم، فمثل أن يؤمن هؤلاء ببعض دون بعض، وهؤلاء ببعض دون بعض، كاختلاف اليهود والنصارى، وكاختلاف الثنتين وسبعين فرقة. وهذا هو الاختلاف المذكور في قوله تعالى:(ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك)، وفي قوله تعالى:(ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) فأغرى بينهم العداوة والبغض، بسبب ما تركوه من الإيمان بما أنزل عليهم. وهذا هو الوصف الثاني فيما تقدم من قول أحمد:((مخالفون للكتاب)) فإن كلاً منهم يخالف الكتاب.

وأما قوله بأنهم: ((متفقون على مخالفة الكتاب)) فهذا إشارة إلى تقديم غير الكتاب على الكتاب، كتقديم معقولهم وأذواقهم وآرائهم ونحو ذلك على الكتاب، فإن هذا اتفاق منهم على مخالفة الكتاب.

ص: 11

ومتى تركوا الاعتصام بالكتاب والسنة فلابد أن يختلفوا، فإن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزلٌ من السماء، كما قال تعالى:(كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم) .

وكما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها) .

ص: 12

الوجه الثالث والثلاثون: أن يقال: إن الشرع لا يمكن أن يخالفه العقل الدال على صحته، بل هما متلازمان في الصحة، وهذا القدر لا يمكن مؤمن بالله ورسوله أن ينازع فيه، بل لا ينازع مؤمن بالله ورسوله أن العقل لا يناقض في نفس الأمر، لكن الذي تقوله الجهمية والقدرية وغيرهم من أهل البدع أن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم مبني على الأدلة النافية للصفات والقدر، كما يقولونه من أن صدق الرسول موقوف على قيام المعجزة الدالة على صدقه، وقيام المعجزة موقوف على أن الله لا يؤيد الكذاب بالمعجزة، وذلك موقوف على أن فعل الله قبيح، والله لا يفعل القبيح، وتنزيهه عن فعل القبيح موقوف على أنه غنُّي عنه عالم بقبحه، والغني عن القبيح العالم بقبحه لا يفعله، وغناه عنه موقوف على أن ليس بجسم، وكونه ليس بجسم موقوف على نفي صفاته وأفعاله، لأن الموصوف بالصفات والأفعال جسم، ونفي ذلك موقوف على ما دل على حدوث الجسم، فلو بطل الدال على حدوث الجسم بطل ما دل على صدق الرسول فهذا أصل قولهم، ومن وافقهم في نفي بعض الصفات أو الأفعال قال بما يناسب مطلوبه من هذا الكلام، فحقيقة قولهم إنه لا يمكن التصديق بكل ما في الشرع، بل لا يمكن تصديق البعض إلا بعدم تصديق البعض الآخر. وحينئذ فدليلهم العقلي ليس دالاً على صدق الرسول إلا على هذا الوجه، فلا يمكنهم قبول ما يناقضه من نصوص الكتاب والسنة.

وحينئذ فيقال لهم: لا نسلم أن مثل هذا هو الأصل الذي به علم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هذا معارضة لقول الرسول بما لا يدل على صدقه، فبطل قول من يقول: إنّا إذا قدَّمنا الشرع كان ذلك طعناً في أصله. وهذه المقدمات التي ذكروها عامتها ممنوعة.

وإذا قال أحدهم: نحن لا نعلم صدق الرسول إلا بهذا، أو لا نعلم دليلاً يدل على صدق الرسول إلا هذا.

ص: 13

قيل: لا نسلّم صحة هذا النفي، وعدم العلم ليس علماً بالمعلوم، وأنتم مكذّبون لبعض ما جاء به الشرع، وتدّعون أنه لا دليل على صدق الرسول سوى طريقكم، فقد جمعتم بين تكذيبٍ ببعض الشرع، وبين نفيّ لا دليل عليه، فخالفتم الشرع بغير حجة عقلية أصلاً.

الوجه الرابع والثلاثون: أن يُقال: القول بتقديم غير النصوص النبوية عليها، من عقل أو كشف أو غير ذلك، يوجب أن لا يستدل بكلام الله ورسوله على شيء من المسائل العلمية، ولا يصدق بشيء من أخبار الرسول لكون الرسول أخبر به، ولا يستفاد من أخبار الله ورسوله هدى ولا معرفة بشيء من الحقائق، بل ذلك مستلزم لعدم الإيمان بالله ورسوله، وذلك متضمن للكفر والنفاق والزندقة والإلحاد، وهو معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام، كما أنه في نفسه قول فاسد متناقض في صريح العقل.

ص: 14

وهذا لازم لكل من سلك هذه الطريق، كما يجد ذلك من اعتبره، وذلك لأنه إذا جوّز أن يكون ما أخبر الله به ورسوله، وبلّغه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أمته من القرآن والحديث، وما فيه من ذكر صفات الله تعالى، وصفات ملائكته وعرشه، والجنة والنار، والأنبياء وأممهم، وغير ذلك مما قصّه الله في كتابه، أو أمر به من التوحيد والعبادات والأخلاق، ونهى عنه من الشرك والظلم والفواحش وغير ذلك، إذا جوّز المجوّز أن يكون في الأدلة العقلية القطعية، التي يجب اتباعها وتقديمها عليه عند التعارض، ما يناقض مدلول ذلك ومفهومه ومقتضاه، لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيء مما أخبر به الرسول، إن لم يعلم انتفاء المعارض المذكور، وهو لا يمكنه العلم بانتفاء هذا المعارض، إن لم يعلم بدليل آخر عقلي ثبوت ما أخبر به الرسول، وإلا فإذا لم يعلم بدليل عقلي ثبوته، وليس معه ما يدله على ثبوته إلا إخبار الله ورسوله –وهذا عنده مما يجوز أن يعارضه عقلي تقدم عليه – فلا طريق له إلى العلم بانتفاء المعارضات العقلية، إلا أن يحيط علماً بكل ما يخطر ببال بني آدم، مما يظن أنه دليل عقلي.

وهذا أمر لا ينضبط، وليس له حد، فإنه لا يزال يخطر لبني آدم من الخواطر، ويقع لهم من الآراء والاعتقادات، ما يظنونه دلائل عقلية، وهذه تتولد مع بني آدم كما يتولد الوسواس وحديث النفس، فإذا جوّز أن يكون فيها ما هو قاطع عقلي معارض للنصوص مستحق للتقديم عليها، لم يمكنه الجزم بانتفاء هذا المعارض أبداً، فلا يمكنه الجزم بشيء مما أخبر به الرسول –بمجرد إخباره- أبداً، فلا يؤمن بشيء مما أخبر به الرسول، لكونه الرسول أخبر به أبداً، ولا يستفيد من خبر الله ورسوله علماً ولا هدي، بل ولا يؤمن بشيء من الغيب الذي أخبر به الرسول إذا لم يعلم ثبوته بعقله أبداً.

ص: 15

وحقيقة هذا سلب الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه. ثم إن لم يقم عنده المعارض المقدّم بقي لا مصدقاً بما جاء به الرسول ولا مكذباً به، وهذا كفر باتفاق أهل الملل، وبالاضطرار من دين الإسلام. وإن قام عنده المعارض المقدّم كان مكذباً للرسول، فهذا في الكفر الذي هو جهل مركب، وذلك في الكفر الذي هو جهل بسيط.

ويتناول كلاً منهما قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً. يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً. لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً. وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً. وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً) . وقال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً. ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) وأمثال ذلك.

ولهذا كان هذا الأصل الفاسد مستلزماً للزندقة والإلحاد في آيات الله وأسمائه، فمن طرده أدّاه إلى الكفر والنفاق والإلحاد، ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح، وظهر ما في قوله من التناقض والفساد.

ومن هذا الباب دخلت الملاحدة والقرامطة الباطنية على كل فرقة من الطوائف الذين وافقوهم على بعض هذا الأصل، حتى صار من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى الباقي إن أمكنة الدعوة، وإلا رضوا منه بما أدخلوه فيه من الإلحاد، فإن هذا الأصل مناقض معارض لدين جميع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه.

ص: 16

الوجه الخامس والثلاثون: أن يقال: نحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه أوجب على الخلق تصديقه فيما أخبر به، وقطعهم بثبوت ما أخبرهم به، وأنه من لم يكن كذلك لم يكن مؤمناً به، بل إذا أقر أنه رسول الله، وأنه صادق فيما أخبر، ولم يقر بما أخبر به من أنباء الغيب –لجواز أن يكون ذلك متيقناً في نفس الأمر بدليل لم يعلمه المستمع، ولا يمكن إثبات ما أثبته الرسول بخبره إلا بعد العلم بذلك – فإن هذا ليس مؤمناً بالرسول.

وإذا كان هذا معلوماً بالاضطرار، كان قول هؤلاء المعارضين لخبره بآرائهم معلوم الفساد بالضرورة من دينه، وحينئذ فإما أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله فيصدّقه في كل ما أخبر به، ويعلم أنه يمتنع أن يكون ذلك منتفياً في نفس الأمر، وأنه لا دليل يدل على انتفائه، وإمّا أن يكون الرجل غير مصدّق للرسول في شيء مما أخبر به، إلا أن يعلم ذلك بدليل منفصل غير خبر الرسول، ومن لم يقرّ بما أخبر به الرسول إلا بدليل منفصل لم يكن مؤمناً به، بل كان مع الرسول كالفقهاء بعضهم مع بعض: إن قام دليل على قوله وافقه، وإلا لم يوافقه.

ومعلوم أن هذا حال الكفار بالرسل، لا المؤمنين بهم، ورؤوس هؤلاء الذين قال الله فيهم:(وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتى رسل الله. الله أعلم حيث يجعل رسالته) .

الوجه السادس والثلاثون: أن الذين يعارضون الشرع بالعقل. ويقدمون رأيهم على ما أخبر به الرسول، ويقولون: إن العقل أصل الشرع، فلو قدمناه عليه للزم القدح في أصل الشرع – إنما يصح منهم هذا الكلام إذا أقرُّوا بصحة الشرع بدون المعارض، وذلك بأن يقروا بنبوة الرسول، وبأنه قال هذا الكلام، وبأنه أراد به كذا، وإلا فمع الشك في واحدةٍ من هذه المقدمات، لا يكون معهم عن الرسول من الخبر ما يعلمون به تلك القضية المتنازع فيها بدون معارضة العقل، فيكف مع معارضة العقل؟!.

ص: 17

أما النبوة: فمن لم يعلم أن الرسول عالم بهذه القضية التي أخبر بها، وأنه معصوم أن يقول فيها غير الحق، لم يمكن أن يعلم حكمها بخبره، فمتى جوز أن يكون غير عالم مع خبره بها، يجوز عليه أن يخطئ فيما يخبر به عن الله واليوم الآخر أو أن يكذب، لم يستفد بخبره علماً، ومن كانت النبوة عنده مكتسبة، من جنس نبي الفلاسفة، وأن خاصة النبي قوة ينال بها العلم، وقوة يتصرف بها في العالم، وقوة تجعل المعقولات في نفسه خيالات ترى وتسمع، فتكون تلك الخيالات ملائكة الله وكلامه، كما يقوله ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة – لم يمكنه أن يجزم بأن الرسول عالم بما يقوله، معصوم أن يقول غير الحق، فكيف إذا كان يقول: إن الرسول قد يقول ما يعلم خلافه؟!. فهؤلاء يمتنع أن يستفيدوا بخبر الرسول علماً، فكيف يتكلمون في المعارضة؟ وكذلك من لم يعلم ثبوت الأخبار لم يتكلم في حصول العلم بموجبها، وكذلك من قال: إن الدليل السمعي لا يعلم به مراد المتكلم، كما يقول الرازي ومتبعوه الذين يزعمون أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بمراد المتكلم، فهؤلاء ليس عندهم دليل شرعي يفيد العلم بما أخبر به الرسول، فكيف يعارضون ذلك المعقول؟ .

ص: 18

وكذلك أيضاً من عرف أن معقولاتهم التي يعارضون بها الشرع باطلة، امتنع أن يعارض بها دليلاً ظنياً عنده، فضلاً عن أن يعارض بها دليلاً يقينياً عنده، ولهذا كان الذين صرحوا بتقديم الأدلة العقلية على الشرعية مطلقاً، ليس فيهم من يستفيد من الأنبياء علماً بما أخبروا به، إذا لم يكونوا مقرّين بأن الرسول بلّغ البلاغ المعصوم، بل إيمانهم بالنبوة فيه ريب: إما لتجويز أن يقول خلاف ما يعلم وإما لتجويز أن لا يكون عالماً بذلك، وإما لأنه جائز في النبوة –لم يجزم بعد بأن النبي معصوم فيما يقوله، وأنه بلّغ البلاغ المبين، فلا تجد أحداً ممن يقدّم المعقول مطلقاً على خبر الرسول إلا وفي قلبه مرض في إيمانه بالرسول، فهذا محتاج أولاً إلى أن يعلم أن محمداً رسول الله الصادق المصدوق، الذي لا يقول على الله إلا الحق، وأنه بلّغ البلاغ المبين، وأنه معصوم عن أن يقرّه الله على خطأ فيما بلّغه وأخبر.

الوجه السابع والثلاثون: أن يقال: قول هؤلاء متناقض، والقول المتناقض فاسد. وذلك أن هؤلاء يوجبون التأويل في بعض السمعيات دون بعض، وليس في المنتسبين إلى القبلة، بل ولا في غيرهم، من يمكنه تأويل جميع السمعيات.

وإذا كان كذلك قيل لهم: ما الفرق بين ما جوزتم تأويله، فصرفتموه عن مفهومه الظاهر ومعناه البيّن وبين ما أقررتموه؟ .

فهم بين أمرين: إما أن يقولوا ما يقوله جمهورهم: إن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه، وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه.

فيقال لهم: فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء، فإنه لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية، كما تقدّم بيانه.

ص: 19

وأيضاً فعدم المعارض العقلي القاطع لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي، فإنه –على قولكم-: إذا جوزتم على الشارع أن يقول قولاً له معنى مفهوم، وهو لا يريد ذلك، لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس، أو لا تخطر للخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك- جاز أن يريد بكلامه ما يخالف مقتضاه بدون ذلك، لجواز أن يظهر في الآخرة ما يخالف ذلك، أو لكون ذلك ليس معلوماً بدليل عقلي ونحو ذلك، فإنه إذا جاز أن يكون موقوفاً على أمثاله من الشروط، إذ الجميع يشترك في أن الوقف على مثل هذا الشرط، يوجب أن لا يستدل بشيء من أخباره على العلم بما أخبر به.

وإن قالوا بتأول كل شيء، إلا ما علم بالاضطرار أنه أراده، كان ذلك أبلغ، فإن ما من نص واردٍ، إلا ويمكن الدافع له أن يقول: ما يعلم بالاضطرار أنه أراد هذا. فإن كان للمثبت أن يقول: أنا أعلم بالاضطرار أنه أراده. كان لمن أثبت ما ينازعه فيه هذا المثبت أن يقول أيضاً مثل ذلك.

فعلم أن قولهم باطل، وأن قولهم: لا نتأول إلا ما عارضه القطعي –قول باطل، ومع بطلان قولهم قد يصرحون بلازمه، وأنه لا يستفاد من السمعيات علم، مع أنهم يستفيدون منها علماً، فيتناقضون، ومن لم يتناقض منهم فعليه أن يقول: أخبار الرسول ثلاثة أقسام: ما علم ثبوته بدليل منفصل صدق به، وما علم أنه عارضه العقل القاطع كان مأولاً، وما لا يعلم بدليل منفصل لا يمكن لا ثبوته ولا انتفاؤه، وكان مشكوكاً فيه موقوفاً.

ص: 20

الوجه الثامن والثلاثون: أن يقال: هم إذا أعرضوا عن الأدلة الشرعية لم يبق معهم إلا طريقان: إما طريق النظار: وهي الأدلة القياسية العقلية، وإما طريق الصوفية: وهي الطريقة العبادية الكشفية، وكل من جرب هاتين الطريقين علم أن ما لم يوافق الكتاب والسنة منهما فيه من التناقض والفساد ما لا يحصيه إلا ربّ العباد، ولهذا كان من سلك إحداهما إنما يؤول به الأمر إلى الحيرة والشك، إن كان له نوع عقل وتمييز، وإن كان جاهلاً دخل في الشطح والطامات التي لا يصدّق بها إلا أجهل الخلق.

فغاية هؤلاء الشك، وهو عدم التصديق بالحق، وغاية هؤلاء الشطح، وهو التصديق بالباطل، والأول يشبه حال اليهود، والثاني يشبه حال النصارى، فحذّاق أهل الكلام والنظر يعترفون بالحيرة والشك، كما هو معروف عن غير واحد منهم، كالذي كان يتكلم على المنبر فأخذ ينكر العلو على العرش، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو لم يتحول عما كان عليه: فقال إليه الشيخ أبو الفضل جعفر الهمذاني وقال: دعنا يا أستاذ من ذكر العرش واستواء الله عليه، يعني أن هذا يعلم بالسمع، وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، ما قال عارف قط: يا الله، إلا ويجد قبل أن يتحرك لسانه في نفسه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فهل عندك من جواب على هذا؟ .

ص: 21

الوجه التاسع والثلاثون: أنا نعلم بالاضطرار من دين النبي صلى الله عليه وسلم، ودين أمته المؤمنين به، بطلان لوازم هذا القول، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، بل نعلم باضطرار أن من دينه أن لوازم هذا القول من أعظم الكفر والإلحاد، وذلك لأن لازم هذه المقالة وحقيقتها ومضمونها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون فيما أخبر به عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر: لا علم ولا هدى، ولا كتاب منير، فلا يستفاد منه علمٌ بذلك، ولا هدى يعرف به الحق من الباطل، ولا يكون الرسول قد هدى الناس ولا بلّغهم بلاغاً بيناً، ولا أخرجهم من الظلمات إلى النور، ولا هداهم إلى صراط العزيز الحميد.

ومعلوم أن كثيراً من خطاب القرآن، بل أكثره، متعلق بهذا الباب، فإن الخطاب العلمي في القرآن أشرف من الخطاب العملي قدراً وصفة.

فإذا كان هذا الخطاب لا يستفيدون منه معرفةً، ولم يبيّن لهم الرسول مراده ومقصوده بهذا الخطاب، بل إنما يرجع أحدهم في معرفة الأمور التي ذكرها ووصفها وأخبرهم عنها، إلى مجرد رأيه وذوقه، فإن وافق خبر الرسول ما عنده صدّق بمفهوم ذلك ومقتضاه، وإلا أعرض عنه، كما يعرض المسلم عن الإسرائيليات المنقولة عن أهل الكتاب – كان هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول.

وهذا يعلمه كل من علم ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان مؤمناً أو كافراً، فإن كل من بلغته دعوة الرسول، وعرف ما كان يدعو إليه، علم أنه لم يكن يدعو الناس إلى أن يعتقدوا فيه هذه العقيدة.

فالمقصود أنه يعلم بالاضطرار أن هؤلاء مناقضون لدعوة الرسول، وأن هذا يعرفه كل من عرف حال الرسول من مؤمن وكافر، ولوازم هذا القول أنواع كثيرة من الكفر والإلحاد.

ص: 22

الوجه الأربعون: أن يقال: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ما بيّن للناس أصول إيمانهم، ولا عرّفهم علماً يهتدون به، في أعظم أمور الدين، وأجل مقاصد الدعوة النبوية، وأجل ما خلق الخلق له، وأفضل ما أدركه الخلق وحصّلوه وانتهوا إليه، بل إنما بين لهم الأمور العملية، فإذا كان كذلك فمن المعلوم أن من علّمهم وبيّن لهم أشرف القسمين، وأعظم النوعين، كان ما أتاهم به أفضل مما أتاهم به من لم يبين إلا القسم المفضول والنوع المرجوح.

وحينئذ فمذهب النفاة للصفات ليس من أئمته أحد من خيار هذه الأمة وسابقيها، وإنما أئمتهم الكبار: القرامطة الباطنية من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، ومن يوافق هؤلاء من ملاحدة الفلاسفة، وملاحدة المتصوفة القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد، كابن سينا، والفارابي، وابن عربي، وابن سبعين، وأمثال هؤلاء.

ثم من هو أمثل هؤلاء، كأئمة الجهمية: مثل الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وأبي الهذيل العلاف، وأبي إسحاق النظام وبشر المريسي، وثمامة بن أشرس، وأمثال هؤلاء، فيكون ما أتى به هؤلاء من العلم والهدى والمعرفة، أفضل وأشرف مما أتى به موسى بن عمران، ومحمد بن عبد الله سيد ولد آدم، وأمثالهم من الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، لأن هؤلاء عند النفاة الجهمية لم يبينوا أفضل العلم وأشرف المعرفة، وإنما بينها أولئك على قول النفاة.

ولازم هذا القول أن يكون عند النفاة الجهمية أولئك أفضل من الأنبياء والرسل في العلم بالله وبيان العلم بالله، وقد صرّح أئمة هؤلاء بهذا، فابن عربي وأمثاله يقولون: الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، وأن هذا الخاتم يأخذ العلم من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحي به إلى الرسول.

وابن سبعين يقول: إنه بيّن العلم الذي رمز إليه هرامس الدهور الأولية، ورامت إفادته الهداية النبوية. فعلى قوله: إن الأنبياء راموا إفادته وما أفادوه.

ص: 23

وطائفة من المتفلسفة يقولون: إن الفيلسوف أفضل من النبي وأكمل منه، وهكذا ملاحدة الشيعة من الإسماعيلية ونحوهم، يقولون إن أئمتهم، كمحمد بن إسماعيل بن جعفر ونحوه، أفضل من موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين.

الوجه الحادي والأربعون: أن يقال يلزم من هذا القول أن كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم يمرض ولا يشفي، ويضل ولا يهدي، ويضر ولا ينفع، ويفسد ولا يصلح، ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة، بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة، بل يكون كلام من يسفسط تارةً ويبين أخرى، كما يوجد في كلام كثير من أهل الكلام الفلسفة، كابن الخطيب، وابن سينا، وابن عربي، وأمثالهم خيراً من كلام الله وكلام رسله، فلا يكون خير الكلام كلام الله، ولا أصدق الحديث حديثه، بل يكون بعض قرآن مسيلمة الكذّاب، الذي ليس فيه كذب في نفسه، وإن كانت نسبته إلى الله كذب، ولكنه مما لا يفيد كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا لجليل – عند هؤلاء الملاحدة خيراً من كلام الله، الذي وصف به نفسه، ووصف به ملائكته، واليوم الآخر، وخيراً من كلام رسوله، لأن قرآن مسيلمة وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة، فلا مضرة فيه ولا فساد، بل يضحك المستمع – كما يضحك الناس – من أمثاله.

وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم، وأديانهم، وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان بالله ورسوله، أو يشكوا ويرتابوا في الحق، أو يكونوا – إذا عرفوا بعقلهم- تعبوا تعباً عظيماً في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه، وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه، ومعاداة من يقر بذلك، وهم السواد الأعظم من اتباع الرسل.

ص: 24

الوجه الثاني والأربعون: أن يقال: كل عاقل يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في الطب أو الحساب أو النحو أو السياسة والأخلاق أو الهيئة أو غير ذلك من الأمور، بكلام عظم قدره وكبر أمره، وذكر أنه بيّن لهم به وعلم. وهدى به وأفهم، ولم يكن في ذلك الكلام بيان تلك المعلومات، ولا معرفة لتلك المطلوبات، بل كانت دلالة الكلام على نقيض الحق أكمل، وهي على غير العلم أدلّ –كان هذا: إما مفرطاً في الجهل والضلالة، أو الكذب والشيطنة والنذالة، فكيف إذا كان قد تكلّم في الأمور الإلهية، والحقائق الربانية، التي هي أجل المطالب العالية، وأعظم المقاصد السامية، بكلام فضّله على كل كلامٍ، ونسبه إلى خالق الأنام، وجعل من خالفه شبيهاً بالأنعام، وجعلهم من شر الجهلة الضلال الكفار الطغاة، وذلك الكلام لم يدل على الحق في الأمور الإلهية، ولا أفاد علماً في مثل هذه القضية، بل دلالته ظاهرة في نقيض الحق والعلم والعرفان، مفهمة لضد التوحيد والتحقيق الذي يرجع إليه ذوو الإيقان، فهل يكون مثل هذا المتكلم إلا في غاية الجهل والضلال، أو في غاية الإفك والبهتان والإضلال!؟..

فهذا حقيقة قول هؤلاء الملاحدة في رسل الله، الذين هم أفضل الخلق وأعلمهم بالله، وأعظمهم هدى لخلق الله، لا سيما خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم، الذي هو أعلم الخلق بالله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق في بيان هدى الله، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

ومن المعلوم أن من وصف الأمر على خلاف ما هو عليه، فإما أن يكون قد أُتي من علمه أو قصده أو عجزه، فإنه قد يكون جاهلاً بالحق، وقد لا يكون جاهلاً به، بل ليس مراده تعليم المخاطبين وهداهم وبيان الأمر لهم، كما يقصده أهل الكيد والخداع والنفاق وأمثالهم، وإما أن يكون علمه تاماً وقصده البيان والإيضاح.

ص: 25

فإن الفعل يتعذر لعدم العلم، أو لعدم القدرة، أو لعدم الإرادة، فأما إذا كان الفاعل له مريداً له، وهو قادر عليه وعالم بما يريده، لزم حصول مطلوبه.

ومن المعلوم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته وملائكته ومعاده، وأمثال ذلك من الغيب، وهو أحرص الخلق على تعليم الناس وهدايتهم.

كما قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) .

ولهذا كان من شدة حرصه على هداهم يحصل له ألم عظيم إذا لم يهتدوا، حتى يُسلّيه ربه ويعزيه كقوله تعالى:(إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل) . وقال تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) وقال تعالى: (لعلك باخعٌ نفسك ألا يكونوا مؤمنين) وقال تعالى: (وإن كان كبُر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآيةٍ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين) .

ثم إنه سبحانه وتعالى أمره بالبلاغ المبين، فقال تعالى:(قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حُمل وعليكم ما حُملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغُ المبين) وقال تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) وقال تعالى: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) .

ص: 26

فإذا كان المخاطب أعلم الخلق بما يخبر به عنه، ويصفه ويخبر به، وأحرص الخلق على تفهيم المخاطبين وتعريفهم، وتعليمهم وهداهم، وأقدر الخلق على البيان والتعريف لما يقصده ويريده، كان من الممتنع بالضرورة أن لا يكون كلامه مبيناً للعلم والهدى والحق، فيما خاطب به، وأخبر عنه، وبينه ووصفه، بل وجب أن يكون كلامه أحق الكلام بأن يكون دالاً على العلم والحق والهدى، وأن يكون ما ناقض كلامه من الكلام، أحق الكلام بأن يكون جهلاً وكذباً وباطلاً.

وهذا قول جميع من آمن بالله ورسوله، فتبين أن قول الذين يعرضون عن طلب الهدى والعلم في كلام الله ورسوله، ويطلبونه في كلام غيره، من أصناف أهل الكلام والفلسفة والتصوف وغيرهم، هم من أجهل الناس وأضلهم بطريق العلم، فكيف بمن يعارض كلامه بكلام هؤلاء الذين عارضوه وناقضوه، ويقول: إن الحق الصريح والعلم والهدى إنما هو في كلام هؤلاء المناقضين، المعارضين لكلام رسول رب العالمين، دون ما أنزله الله من الكتاب والحكمة، وبعث به رسوله من العلم والرحمة؟!.

ص: 27

الوجه الثالث والأربعون: أن يقال: كل من سمع القرآن من مسلم وكافر، علم بالضرورة أنه قد ضمن الهدى والفلاح لمن أتّبعه، دون من خالفه، كما قال تعالى:(آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) . وقال تعالى: (آلمص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين. أتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) وقال: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) . وقال تعالى: (وهذا كتابٌ أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) . وقال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم) . وقال تعال: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. الله الذي له ما في السموات وما في الأرض) . وكذلك نعلم أنه ذم من عارضه وخالفه، وجادل بما يناقضه، كقوله تعالى (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) . وقال تعالى:(إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) وأمثال ذلك.

وإذا كان كذلك، فقد علم بالاضطرار أن من جاء بالقرآن، أخبر أن من صدّق بمضمون أخباره فقد علم الحق واهتدى، ومن أعرض عن ذلك كان جاهلاً ضالاً، فكيف بمن عارض ذلك وناقضه؟! وحينئذ فكل من لم يقل بما أخبر به القرآن عن صفات الله واليوم الآخر وغيرها.

كان عند من جاء بالقرآن جاهلاً ضالاً، فكيف بمن قال بنقيض ذلك؟!

فالأول عند من جاء بالقرآن في الجهل البسيط، وهؤلاء في الجهل المركب.

ص: 28

ولهذا ضرب الله تعالى مثلاً لهؤلاء، ومثلاً لهؤلاء، فقال:(والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب)

فهذا مثل أهل الجهل المركب.

وقال تعالى: (أو كظلمات في بحر لُجي يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) ، فهذا مثل أهل الجهل البسيط.

ومن تمام ذلك أن يعرف أن الضلاّل تشابها في شيئين: أحدهما الإعراض عمّا جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني معارضته بما يناقضه، فمن الثاني الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة.

فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر أو غير ذلك فقد ناقضه وعارضه، سواء اعتقد ذلك بقلبه، أو قاله بلسانه.

وهذا حال كل بدعة تخالف الكتاب والسنة، وهؤلاء من أهل الجهل المركب، الذين أعمالهم كسراب بقيعة.

ومن لم يفهم خبر الرسول ويعرفه بقلبه، فهو من أهل الجهل البسيط، وهؤلاء من أهل الظلمات.

وأصل الجهل المركب هو الجهل البسيط، فإن القلب إذا كان خالياً من معرفة الحق، واعتقاده والتصديق به، كان معرضاً لأن يعتقد نقيضه ويصدق به، لا سيما في الأمور الإلهية، التي هي غاية مطالب البرية، وهي أفضل العلوم وأعلاها، وأشرفها وأسماها، والناس الأكابر لهم إليه غاية التشوف والاشتياق، وإلى جهته تمتد الأعناق، فالمهتدون فيه أئمة الهدى، كإبراهيم الخليل وأهل بيته، وأهل الكذب فيه أئمة الضلال، كفرعون وقومه.

قال الله تعالى في أولئك: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) . وقال تعالى في الآخرين: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) . فمن لم يكن على طريق أئمة الهدى كان ثغر قلبه مفتوحاً لأئمة الضلال.

ص: 29

الوجه الرابع والأربعون: أن يقال: المعارضون للكتاب والسنة بآرائهم لا يمكنهم أن يقولوا: إن كل واحد من الدليلين المتعارضين هو يقيني، وقد تناقضا على وجهٍ لا يمكن الجمع بينهما، فإن هذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول، ولكن نهاية ما يقولونه: إن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين، وإن ما ناقضها من الأدلة البدعية – التي يسمونها العقليات- تفيد اليقين، فينفون اليقين عن الأدلة السمعية الشرعية، ويثبتونه لما ناقضها من أدلتهم المبتدعة، التي يدعون أنها براهين قطعية.

ولهذا كان لازم قولهم الإلحاد والنفاق، والإعراض عمّا جاء به الرسول، والإقبال على ما يناقض ذلك، كالذين ذكرهم الله تعالى في كتابه من مجادلي الرسل، كما قال:(وهمت كل أمةٍ برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب) . وقوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد)، وقوله تعالى:(وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدةُ الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) . وأمثال ذلك.

الوجه الخامس والأربعون: أن يقال: العقليات التي يقال أنها أصل للسمع وأنها معارضة له ليست مما يتوقف العلم بصحة السمع عليها فامتنع أن تكون أصلاً له بل هي باطلة وقد اعترف بذلك أئمة أهل النظر من أهل الكلام والفلسفة.

ص: 30

الوجه السادس والأربعون: أنكم إذا اعتقدتم في الدليل السمعي أنه ليس بدليل في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته على مخالف ما زعمتموه من العقل جهل أمكن أتباع الرسل المصدقين بما جاءوا به أن يعتقدوا في أدلتكم العقلية أنها ليست بأدلة في نفس الأمر وأن اعتقاد دلالتها جهل ويرمون أدلتكم بما رميتم به الأدلة السمعية ثم الترجيح من جانبهم من وجوه متعددة وكانوا في هذا الرمي أحسن حالاً منكم وأعذر، فإن معهم من البراهين الدالة على صحة ما أخبر به السمع إجمالاً وتفصيلاً من المعقول أصح مما معكم، ولا تذكرون معقولاً يعارض ما ورد به الوحي إلا ومعهم معقول أصح منه يصدقه.

الوجه السابع والأربعون: أن يقال: إن تقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع؛ لأن العقل قد شهد للوحي بأنه أعلم منه وأنه لا نسبة له إليه، وأن نسبة علومه ومعارضه إلى الوحي، أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل أو تلك التي تَعْلق بالإصبع بالنسبة إلى البحر، فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحاً في شهادته، وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله، فتقديم العقل على الوحي، يتضمن القدح فيه وفي الشرع وهذا ظاهر لا خفاء به يوضحه:

ص: 31

الوجه الثامن والأربعون: وهو أن الشرع مأخوذ عن الله بواسطة الرسولين الملكي والبشري بينه وبين عباده مؤيداً بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارة، ويستحسنه تارة، ويجوزه تارة، ويكع عن دركه تارة، ولا سبيل له إلى الإحاطة به، ولابد له من التسليم والانقياد لحكمه والإذعان والقبول، وهناك يسقط ((لم)) ، ويبطل ((كيف)) ، ويزول ((هلا)) ، ويذهب ((لو)) ((وليت)) في الريح لأن هذه المواد عن الوحي محبوسة، واعتراض المعترض عليه مردود واقتراح المقترح ما يظن أنه أولى منه سفه وجهل، فالشريعة مشتملة على أعلى أنواع الحكمة علماً وعملاً التي لو جمعت حكم جميع الأمم ونسبت إليها لم يكن لها إليها نسبة، وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتم البيان، فهي متكفلة بتعريف الخليقة بها وفاطرها المحسن إليها بأنواع الإحسان بأسمائه وصفاته وأفعاله وتعريف الطريق الموصل إلى رضاه وكرامته والداعي لديه، وتعريف حال السالكين بعد الوصول إليه، ويقابل هذه الثلاثة تعريفهم حال الداعي إلى الباطل، والطرق الموصلة إليه، وحال السالكين تلك الطرق وإلى أين تنتهي بهم، ولهذا تقبلها العقول الكاملة أحسن تقبل وقابلتها بالتسليم والإذعان واستدارت حولها بحماية حوزتها والذب عن سلطانها.

فبين ناصر باللغة السائغة، وحام بالعقل الصريح، وذاب عنه بالبراهين، ومجاهد بالسيف والرمح والسنان، ومتفقه في الحلال والحرام، ومعين بتفسير القرآن، وحافظ لمتون السنة وأسانيدها، ومفتش عن أحوال رواتها، وناقد لصحتها من سقيمها، ومعلولها من سليمها، فهي الشريعة ابتداؤها من الله، وانتهاؤها إليه، فمنه بدأت وإليه تعود.

ص: 32

الوجه التاسع والأربعون: أن الله سبحانه قد تمم الدين بنبيه صلى الله عليه وسلم وأكمله به ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه ولا رأي ولا منام ولا كشوف، قال تعالى:(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) . وأنكر على من لم يكتف بالوحي عن غيره، فقال:(أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقومٍ يؤمنون) . ذكر هذا جواباً لطلبهم آية تدل على صدقه فأخبر أنه يكفيهم من كل آية فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلاً على صدقه فضلاً عن أن يكون كافياً، وسيأتي في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آية وبرهاناً على صحة النبوة، والمقصود أن الله سبحانه تمم الدين وأكمله بنبيه وما بعثه به فلم يحوج أمته إلى سواه، فلو عارضه العقل، وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافياً للأمة ولا كان تاماً في نفسه. في مراسيل أبي داود (1) أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة فيها شيء من التوراة فقال: كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتاباً غير كتابهم. أُنْزل على نبي غير نبيهم، فأنزل الله عز وجل:(أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون) . وقال سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) . فأقسم سبحانه بنفسه أنا لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا، وتتسع صدورنا بحكمه، فلا يبقى منها حرج، ونسلم لحكمه تسليماً فلا نعارضه بعقل ولا رأي ولا هوى ولا غيره، فقد أقسم الرب سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذي يقدمون العقل على ما جاء به الرسول وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن

(1) حسنه الألباني في مشكاة المصابيح (177) لطرقه وشواهده.

ص: 33

آمنوا بلفظه، وقال تعالى:(وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) . وهذا نص صريح في أن حكم جميع ما تنازعنا فيه مردود إلى الله وحده، وهو الحاكم فيه على لسان رسوله فلو قدم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بوحيه وكتابه وقال تعالى:(اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) فأمر باتباع الوحي المنزل وحده ونهى عن اتباع ما خالفه وأخبر سبحانه أن كتابه بينة وشفاء وهدى ورحمة ونور وفضل وبرهان وحجة وبيان، فلو كان للعقل ما يعارضه ويجب تقديمه على القرآن لم يكن فيه شيء من ذلك، بل كانت هذه الصفات للعقل دونه وكان عنها بمعزل فكيف يشفي ويهدي ويبين ويفصل ما يعارضه صريح العقل؟

الوجه الخمسون: أن الأدلة السمعية هي الكتاب والسنة، والإجماع. وهو إنما يصار إليه عند تعذر الوصول إليهما، فهو في المرتبة الأخيرة، ولهذا أخره عمر في كتابه إلى أبي موسى حيث كتب إليه:((اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في السنة فبما قضى به الصالحون قبلك)) (1) . وهذا السلوك هو كان سلوك الصحابة والتابعين، ومن درج على آثارهم الأئمة. أول ما يطلبون النازلة من القرآن، فإن أصابوا حكمها فيه لم يعدوه إلى غيره، وإن لم يصيبوها فيه طلبوها من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أصابوها لم يعدوها إلى غيرها، وإن لم يصيبوها طلبوها من اتفاق العلماء، وقد صان الله الأمة أن تجمع على خطأ أو على ما يعلم بطلانه بصريح العقل، فإذا كان الإجماع معصوماً أن ينعقد على ما يخالف العقل الصريح، بل إذا وجدنا معقولاً يخالفه الإجماع علمنا قطعاً أنه معقول فاسد، فلأن يصان كتاب الله، وسنة رسوله عن مخالفة العقل الصريح أولى وأحرى.

(1) صحيح النسائي (4989) .

ص: 34

الوجه الحادي والخمسون: أنه إذا قدر تعارض العقل والكتاب فرد العقل الذي لم تضمن لنا عصمته إلى الكتاب المعلوم العصمة هو الواجب.

الوجه الثاني والخمسون: أن طالب الهدى في غير القرآن والسنة. قد شهد الله ورسوله له الضلال، فكيف يكون عقل الذي قد أضله الله مقدماً على كتاب الله وسنة رسوله؟ قال تعالى في أرباب العقول التي عارضوا بها وحيه:(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) . وقال: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) .

وقال فيمن قدم عقله على ما جاء به: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جآءهم من ربهم الهدى) ، والقرآن مملوء بوصف من قدم عقله على ما جاء به بالضلال.

وروى الترمذي، وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنها ستكون فتنة)) قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجباً. يهدي إلى الرشد) من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم)) .

الوجه الثالث والخمسون: أن أصحاب القرآن والإيمان قد شهد الله لهم، وكفى به شهيداً بالعلم واليقين والهدى، وأنهم على بصيرة وبينة من ربهم، وأنهم هم أولو العقل والألباب والبصائر، وأن لهم نوراً على نور؛ وأنهم المهتدون المفلحون.

ص: 35

قال تعالى في حق الذين يؤمنون بالغيب، ولا يعارضونه بعقولهم وآرائهم:(آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) . وقال: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) . وهذا دليل ظاهر أن الذي نراه معارضاً للعقل، ويقدم العقل عليه ليس من الذين أوتوا العلم في قبيل ولا دبير، ولا قليل ولا كثير.

وقال: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) وهذه شهادة من الله على عمى هؤلاء وهي موافقة لشهادتهم على أنفسهم بالحيرة والشك، وشهادة المؤمنين عليهم. وقال:(الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجةٍ الزجاجة كأنها كوكبٌ دريٌ يوقد من شجرة مباركة زيتونةٍ لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نارٌ نورٌ على نور. يهدي الله لنوره من يشاء. ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) .

ص: 36

فأخبر سبحانه عن مثل نور الإيمان به، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله وصدق رسله في قلوب عباده، وموافقة ذلك لنور عقولهم وفطرهم التي أبصروا بها نور الإيمان بهذا المثل المتضمن لأعلى أنواع المشهود وأنه نور على نور. نور الوحي ونور العقل. نور الشرعة، ونور الفطرة. نور الأدلة السمعية، ونور الأدلة العقلية. وقال تعالى:(وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا. وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم) . وقال تعالى: (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها. كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) وقال تعالى: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) وقال تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) .

ثم أخبر سبحانه عن حال المعرضين عن النور المعارضين للوحي بالعقل بمثلين يتضمن أحدهما وصفهم بالجهل المركب، والآخر بالجهل البسيط، لأنهم بين ناظر وباحث ومقدر ومفكر، وبين مقلد يحسن الظن بهم. فقال في الطائفتين:(والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه. والله سريع الحساب. أو كظلمات في بحرٍ لجي يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب. ظلماتٌ بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) .

ص: 37

الوجه الرابع والخمسون: أن الآيات والبراهين اليقينية، والأدلة القطعية، قد دلت على صدق الرسل، وأنهم لا يخبرون عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلا بالحق المحض، فهم صادقون فيما يبلغونه عن الله في الطلب والخبر، وهذا أول درجات النقيضين أنه حق، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به، وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي لا عقلي ولا سمعي، فإن كل ما يظن أنه يعارضه من ذلك فهي حجج داحضة، وشبه فاسدة، من جنس شبه السفسطة والقرمطة وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول، قد شهد له بذلك، وأنه ممتنع أن يعارض خبره دليلاً صحيحاً، كان هذا العقل شاهداً بأن كل ما عارض ما أخبر به الرسول فهو باطل، فيكون هذا العقل الصحيح، والسمع قد شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع.

الوجه الخامس والخمسون: وهو أن الله سبحانه اقتضت حكمته وعدله أن يفسد على العبد عقله الذي خالف به رسله، ولم يجعله منقاداً لهم، مسلماً لما جاءوا به، مذعناً له، بحيث يكون مع الرسول كمملوكة المنقاد من جميع الوجوه، فأول ما أفسد سبحانه عقل شيخهم القديم إبليس، حيث لم ينقد به لأمره، وعارض النص بالعقل، وذكر وجه المعارضة، فأفسد عليه عقله غاية الإفساد، حتى آل الأمر إلى أن صار إمام المبطلين، وقدوة الملحدين، وشيخ الكفار والمنافقين. ثم تأمل كيف أفسد عقول من أعرض عن رسله وعارض ما أرسلوا به، فآل بهم فساد تلك العقول إلى ما قصه الله عنهم في كتابه، ومن فساد تلك العقول أنهم لم يرضوا بنبي من النبيين، ورضوا بإلهٍ من الحجر، ومن فساد تلك العقول أنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا عقوبة الدنيا والآخرة على سعادتهما، وبدلوا نعمة الله كفراً، وأحلوا قومهم دار البوار.

ص: 38

وأفسد عقول أهل الكتابين بكفرهم بالرسول حتى آل أمرهم إلى مقالات الفلاسفة، التي قدموها على ما جاءت به الرسل، حتى قالوا ما أضحكوا به كافة العقلاء، وإن كانوا أصحاب صنائع وأفكار، واستنبطوها بعقولهم لعجز غيرهم عنها، لكن أفسد عليهم العقل الذي ينال به سعادة الأبد، حتى قالوا في فرية سلسلة الموجودات عن واجب الوجود، ما هو بسلسلة المجانين أشبه منه بكلام عقلاء الآدميين.

وجعلوا العالم الذي شهدت عليه شواهد الصنعة والاحتياج والافتقار من كون غالبه مسخراً، مدبراً، مقهوراً على حركة لا يمكنه الخروج منها، وعلى مكان لا يمكنه مفارقته، وعلى وضع لا يمكنه أن يزول عنه، وعلى ترتيب شهد العقل والفطرة أن غيره رتبه هذا الترتيب، ووضعه في هذا الموضع، وقهره على هذه الحركة.

وكون سافله منفعلاً غير فاعل، متأثراً غير مؤثر كل وقت في مبدأ ومعاد، وشواهد الفقر والحاجة والحدوث ظاهرة على أجزائه وأنواعه، فجعلوه قديماً غير مخلوق، ولا مصنوع، فعطلوه عن صانعه وخالقه، ثم عطلوا الرب الذي فطر السماوات والأرض عن صفات كماله، ونعوت جلاله، وأفعاله، فلم يثبتوا له ذاتاً ولا صفة، ولا فعلاً، ولا تصرفاً باختياره في ملكه ولا عالماً بشيء مما في العالم العلوي والسفلي، وعاجزاً من إنشاء النشأة الأولى أن يعيدها مرة ثانية.

وفي الحقيقة لم يثبتوا رباً أنشأ شيئاً، ولا ينشئه، ولا أثبتوا لله ملائكة، ولا رسلاً، ولا كلاماً، ولا إلهية، ولا ربوبية.

وأما الاتحادية فأفسد عقولهم فلم يثبتوا رباً، وظنوا أن في الخارج إنساناً كلياً، وحيواناً كلياً، وجعلوا وجود الرب وجوداً مطلقاً، مجرداً عن الماهيات، وقالوا: لا وجود للمطلق في الخارج.

ص: 39

وبالجملة: فلم يصيبوا في الإلهيات في مسألة واحدة، بل قالوا في جميعها ما أضحكوا عليهم العقلاء. وأما متكلمو الجهمية، والمعتزلة، فأفسد عقولهم عليهم حتى قالوا ما يسخر العقلاء من قائله، كما تقدم التنبيه على اليسير منه، وقالوا: يتكلم الرب بغير كلام يقوم به، وخالق بلا خلق يقوم به، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وحي بلا حياة، وقدير بلا قدرة، ومريد بلا إرادة، وفعال لما يريد، ولا فعل له ولا إرادة، وقالوا: الرب موجود قائم بنفسه، ليس في العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به، ولا منفصلاً عنه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، وقالوا: إنه لم يزل معطلاً عن الفعل، والفعل ممتنع، ثم انقلب من الامتناع إلى الإمكان بغير تجدد سبب أصلاً، وقالوا: إن الأعراض لا تبقي زمانين، وأنكروا القوى، والطبائع، والغرائز، والأسباب، والحِكَم، وجعلوا الأجسام كلها متماثلة. وأثبتوا أحوالاً لا موجودة ولا معدومة، وأثبتوا مصنوعاً بلا صانع ومخلوقاً بلا خالق، إلى أضعاف ذلك مما يسخر منه العقلاء.

ص: 40

وكلما كان الرجل عن الرسول أبعد كان عقله أقل وأفسد، فأكمل الناس عقولاً أتباع الرسل، وأفسدهم عقولاً المعرض عنهم، وعما جاءوا به، ولهذا كان أهل السنة والحديث أعقل الأمة وهم في الطوائف كالصحابة في الناس، وهذه القاعدة مطردة في كل شيء عصي الرب –سبحانه- به، فإنه يفسده على صاحبه، فمن عصاه بماله أفسده عليه، ومن عصاه بجاهه أفسده عليه، ومن عصاه بلسانه أو قلبه أو عضو من أعضائه أفسده عليه، وإن لم يشعر بفساده، فأي فساد أعظم من فساد قلب خربٍ من محبة الله، وخوفه، ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والطمأنينة بذكره، والأنس به، والفرح بالإقبال عليه؟ وهل هذا القلب إلا قلب قد استحكم فساده؟ والمصاب لا يشعر، وأي فساد أعظم من فساد لسان تعطل عن ذكره، وما جاء به، وتلاوة كلامه، ونصيحة عباده وإرشادهم، ودعوتهم إلى الله، وأي فساد أعظم من فساد جوارح عطلت عن عبودية فاطرها وخالقها وخدمته، والمبادرة إلى مرضاته؟

وبالجملة فما عُصي الله بشيء إلا أفسده على صاحبه، ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتابه ووحيه الذي هدى به رسوله، وأتباعه، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل؟ وقد أرى الله سبحانه أتباع رسوله من فساد عقل هؤلاء ما هو من أقوى أسباب زيادة إيمانهم بالرسول، وبما جاء به، وموجباً لشدة تمسكهم به، ولقد أحسن القائل:

وإذا نظرت إلى أميري زادني نظري له حباً إلى الأمراء

ص: 41

الوجه السادس والخمسون: أن هؤلاء عكسوا شرعة الله وحكمته، وضادوه في أمره، فإن الله سبحانه جعل الوحي إماماً والعقل مؤتماً به، وجعله حاكماً والعقل محكوماً عليه، ورسولاً والعقل مرسلاً إليه، وميزاناً والعقل موزوناً به، وقائداً والعقل منقاداً له، فصاحب الوحي مبعوث وصاحب العقل مبعوث إليه، والآتي بالشرع مخصوص بوحي من الله وصاحب العقل مخصوص ببحث عن رأي وفكرة، وصاحب الوحي مُلقى وصاحب العقل كادح طالب، هذا يقول أمرت ونهيت وأوحي إليّ، وقيل لي وما أقول شيئاً من تلقاء نفسي ولا من قبل عقلي ولا من جهة فكري ونظري، وذاك المتخلف يقول نظرت ورأيت وفكرت وقدرت واستحسنت واستنتجت، والمتخلف يقول معي آلة المنطق والكليات الخمس والمقولات العشر والمختلطات والموجهات اهتدى بها، والرسول يقول: معي كتاب الله وكلامه ووحيه، والمتخلف يقول معي العقل، والرسول يقول: معي نور خالق العقل به أهدى وأهتدي، والرسول يقول: قال الله كذا، قال جبريل عن الله كذا، والمتخلف يقول: قال أفلاطون قال بقراط، قال أرسطو كذا، قال ابن سينا، قال الفارابي: فيسمع من الرسول ظاهر التنزيل وصحيح التأويل وشرع سنة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وخبر عن السماء والملائكة واليوم الآخر. ويسمع من الآخر الهيولي والصورة والطبيعة والاستقص والذاتي والعرض والجنس والنوع والفصل والخاصة والأيس والليس، وعكس النقيض والعكس المستوي، وما شاكل هذا (1) مما لا يسمع من مسلم ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، إلا من رضي لنفسه بما يرضى به هؤلاء المتخلفون لأنفسهم ورغب فيما رغبوا فيه، وبالجملة فهما طريقان متباينان، فمن أراد أن يتمعقل بعقول هؤلاء، فليعزل نظره عن الوحي ويخلي بينه وبين أهله، ومن أحب أن يكون من أهل العقل والوحي فليعتصم بالوحي ويستمسك بغرز من جاء به، ويسلم إليه أعظم من تسليم

(1) انظر لتعريف هذه الألفاظ: الصواعق المرسلة (3/892) .

ص: 42

الصبي لأستاذه ومعلمه بكثير، فإن التباين الذي بين النبي وبين صاحب المعقول أضعاف أضعاف التباين الذي بين الصبي والأستاذ.

ومن العجب، أن هؤلاء المقدمين عقولهم على الوحي، خاضعون لأئمتهم وسلفهم، مستسلمون لهم في أمور كثيرة، يقولون: هم أعلم بها منا، وعقولهم أكمل من عقولنا، فليس لنا أن نعترض عليهم فكيف يعترض على الوحي بعقله من نسبته إليه أدق وأقل من نسبة عقل الطفل إلى عقله؟ .

وجماع الأمر أن قضايا المعقول، مشتملة على العلم والظن والوهم، وقضايا الوحي كلها حق، فأين قضايا مأخوذة عن عقل قاصر عجز للخطأ، من قضايا مأخوذة عن خالق العقول وواهبها هي كلامه وصفاته؟!.

ص: 43

الوجه السابع والخمسون: أن المعارضة بين العقل ونصوص الوحي، لا تتأتى على قواعد المسلمين، المؤمنين بالنبوة حقاً، ولا على أصول أحد من أهل الملل، المصدقين بحقيقة النبوة، وليست هذه المعارضة من الإيمان بالنبوة في شيء، وإنما تتأتى هذه المعارضة، ممن يقر بالنبوة على قواعد الفلسفة، ويجريها على أوضاعهم وأن الإيمان بالنبوة عندهم، هو الاعتراف بموجود حكيم، له طالع مخصوص يقتضي طالعه أن يكون متبوعاً، فإذا أخبرهم بما لا تدركه عقولهم عارضوا خبره بعقولهم، وقدموها على خبره، فهؤلاء هم الذين عارضوا بين العقل ونصوص الأنبياء فعارضوا نصوص الأنبياء في باب الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، في هذه الأصول الخمس بعقولهم فلم يصدقوا بشيء منها على طريقة الرسل، ثم سرت معارضتهم في المنتسبين إلى الرسل، فتقاسموها تقاسم الوارث لتركه مورثهم، فكل طائفة كان الوحي على خلاف مذهبهم وقول من قلدوه لجأوا إلى هذه المعارضة، واعتصموا بها دون نصوص الوحي، ومعلوم أن هذا يناقض الإيمان بالنبوة، وإن تناقض القائل به فغايته أن يثبت كون النبي رسولاً للعمليات دون العلميات أو في بعض العلميات التي أخبر به دون البعض وهذا أسوأ حالاً ممن جعله رسولاً إلى بعض الناس دون بعض، فإن القائل بهذا يجعله رسولاً في العلميات والعمليات، ولا يعارض بين خبره وبين العقل، وإن تناقض في جحده عموم رسالته بالنسبة إلى كل مكلف، فهذا جحد عموم رسالته إلى المدعوين وذاك جحد عموم رسالته في المدعو إليه المخبر به ولم يؤمن في الحقيقة برسالته لا هذا ولا هذا، فإنه يقال لهذا: إن كان رسول الله إلى هؤلاء حقاً فهو رسوله إلى الآخرين قطعاً لأنه أخبر بذلك، ومن ضرورة تصديقه الإيمان بعموم رسالته، ويقال للآخر: إن كان رسول الله في العمليات وإنها حق من عند الله فهو رسوله في العلميات فإنه أخبر عنه بهذا.

ص: 44

الوجه الثامن والخمسون: وهو أنك إذا جعلت العقل ميزاناً ووضعت في أحد كفتيه كثيراً من الأمور المشاهدة المحسوسة التي ينالها العيان ووضعت في الكفة الأخرى الأمور التي أخبرت بها الرسل عن الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجدت ترجيحه لهذه الكفة وتصديقه بها فوق ترجيحه للتي قبلها وتصديقه بها أقوى، ولولا الحس والمشاهد تمنعه من إنكار ذلك لأنكره، وهذه دعوى نعلم أنك تتعجب ممن يدعيها وتنسبه إلى المجازفة، وقلة التحصيل، والخطابة التي تليق بالعامة ولعمر الله إن مدعيها ليعجب من إنكارك لها وتوقفك فيها بعد البيان.

ص: 45

فنقول وبالله التوفيق: أنسب إلى العقل حيواناً يرى ويسمع ويحس ويتكلم ويعمل فغشيه أمر ألقي له كأنه خشبة لا روح فيها وزال إحساسه وإدراكه وتوارى عنه سمعه وبصره وعقله بحيث لا يعلم شيئاً، فأدرك في هذه الحال من العلوم العجيبة والأمور الغائبة ما لم يدركه حال حضور ذهنه واجتماع حواسه ووفور عقله، وعلم من أمور الغيب المستقبلة ما لم يكن له دليل ولا طريق إلى العلم به، وانسب إليه أيضاً حيواناً خرج من إحليلة مجة ماء مستحيلة عن حصول الطعام والشراب كالمخطة فامتزجت بمثلها في مكان ضيق فأقامت هناك برهة من الدهر فانقلبت دماً قد تغير لونها وشكلها وصفاتها فأقامت كذلك مدة ثم انقلبت قطعة لحم فأقامت كذلك مدة ثم انقلبت عظاماً وأعصاباً وعروقاً وأظفاراً مختلفة الأشكال والأوضاع وهي جماد لا إحساس لها ثم عادت حيواناً يتحرك ويتغذى وينقلب ثم أقام ذلك الحيوان مدة طويلة في مكان لا يجد فيه متنفساً وهو داخل أوعية بعضها فوق بعض، ثم انفتح له باب ضيق عن مسلك الذكر فلا يسلكه إلا بضغطة وعصره، فوسع له ذلك الباب حتى خرج منه، وانسب إليه أيضاً شيئاً بقدر الحبة ترسله في مدينة عظيمة من أعظم المدن فيأكل المدينة وكل من فيها ثم يقبل على نفسه فيأكلها وهو النار، وانسب إليه أيضاً شيئاً بقدر بزر الخشخاش (1)

(1) بزر الخشخاش: البزر هو كل حب يبذر، والخشخاش نبت ثمرته حمراء وهو ضربان: أسود وأبيض واحدته خشخاشة.

انظر: المصباح المنير 1/60، مادة بزر، لسان العرب 2/164، مادة خشش.

ص: 46

يحمله الإنسان بين ثيابه مدة فينقلب حيواناً يتغذى بورق الشجر برهة ثم إنه يبني على نفسه قباباً مختلفة الألوان من أبيض وأصفر وأحمر بناء محكماً متقناً فيقيم في ذلك البناء مدة من الزمان لا يتغذى بشيء البتة، فينقلب في القبة طائراً له أجنحة يطير بها بعد أن كان دوداً يمشي على بطنه فيفتح على نفسه باب القبة ويطير، وذلك دود القز إلى أضعاف ما ذكرنا مما يشاهد بالعيان مما لو جلي لمن لم يره لعجب من عقل من حكاه له، وقال: وهل يصدّق بهذا عاقل، وضرورة العقل تدفع هذا، وأقام الأدلة العقلية على استحالته، فقام في النائم مثلاً القوى الحساسة أسباب لإدراك الأمور الوجودية وآلة لها، فمن لا يدرك الشيء مع وجودها واستجماعها ووفورها، فأن يتعذر عليه إدراكه مع وجودها وبطلان أفعالها أولى وأحرى وهذا قياس أنت تجده أقوى من الأقيسة التي يعارض بها خبر الأنبياء والحس والعيان يدفعه ومن له خبرة بمواد الأدلة، وترتيب مقدماتها، وله أدنى بيان يمكن أن ينظم أدلة عقلية على استحالة كثير من الأمور المشاهدة المحسوسة، وتكون مقدمات تلك الأدلة من جنس مقدمات الأدلة التي تعارض بها النصوص أو أصح منها، وانسب إلى العقل وجود ما أخبرت به الرسل عن الله وصفاته وأفعاله وملائكته وعن اليوم الآخر، وثبوت هذه الأمور التي ذكرنا اليسير منها، وما لم نذكره، ولم يخطر لنا ببال أعجب من ذلك بكثير نجد تصديق العقل بما أخبرت به الرسل أقرب إليه من تصديقه بهذه الأمور ولولا المشاهدة لكذب بها.

فيالله العجب! كيف يستجيز العقل إنكار ما أخبرت به الرسل بعد أن رأى وعاين وسمع ما لولا الحس لأنكره غاية الإنكار، ومن ها هنا قال من صح عقله وإيمانه: إن نسبة العقل إلى الوحي أدق، وأقل بكثير من نسبة منادي سن التمييز إلى العقل.

الوجه التاسع والخمسون: إن هؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم ارتكبوا أربع عظائم: إحداها: ردهم لنصوص الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم-

ص: 47

الثانية: إساءة الظن به، وجعله منافياً للعقل، مناقضاً له.

الثالثة: جنايتهم على العقل بردهم ما يوافق النصوص من المعقول؛ فإن موافقة العقل للنصوص التي زعموا أن العقل يردها أظهر للعقل من معارضته لها،

الرابعة: تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم لمن خالفهم في أصولهم، التي اخترعوها، وأقوالهم التي ابتدعوها، مع أنها مخالفة للعقل والنقل، فصوبوا رأي من تمسك بالقول المخالف للعقل والنقل، وخطئوا من تمسك بما يوافقهما، وراج ذلك على من لم يجعل الله له نوراً، ولم يشرق على قلبه نور النبوة.

الوجه الستون: أن من عارض بين الوحي والعقل فقد قال بتكافؤ الأدلة، لأن العقل الصحيح لا يكذب، والوحي أصدق منه، وهما دليلان صادقان، فإذا تعارضا تكافئا، فإن لم يقدم أحدهما بقي في الحيرة والشك وإن قدم أحدهما على الآخر أبطل موجب الدليل الصحيح، وأخرجه عن كونه دليلاً، فيبقى حائراً بين أمرين لابد له من أحدهما، إما أن يسيء الظن بالوحي، أو بالعقل، والعقل عنده أصل الوحي، فلا يمكنه أن يسيء الظن به، فيسطو على الوحي تارة بالتحريف، والتأويل، وتارة بالتخييل، وتارة بالدفع والتكذيب، إن أمكن، وذلك في نصوص السنة، وتارة يدعي ذلك في نصوص القرآن، كما يدعيه غلاة الرافضة وكثير من القرامطة وأشباههم، وهذا كله إنما نشأ من ظنونهم الفاسدة، أن العقل الصحيح يعارض الوحي الصريح، وأما أهل العلم والإيمان، أهل السمع والنقل، فعندهم أن فرض هذه المسألة محال، وأن فرضها كفرض مسألة إذا تعارض العقل وأدلة ثبوت النبوة والرسالة، وإذا تعارض العقل وأدلة ثبوت الخالق وتوحيده، ومعارضة هؤلاء ومن وافقهم على بعضها، تُبَين له أن القوم لا عقل ولا نقل.

ص: 48

الوجه الحادي والستون: أن الله سبحانه نهى المؤمنين أن يتقدموا بين يدي رسوله وأن يرفعوا أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض وحذرهم من حبوط أعمالهم بذلك؛ فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه، فأي تقديم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به؟ قال غير واحد من السلف: ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر، ومعلوم قطعاً أن من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به، فهو أعصى الناس لهذا النبي صلى الله عليه وسلم، وأشدهم تقدماً بين يديه، وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه، وما جاء به؟ ومن المعلوم قطعاً أنه لم يكن يفعل هذا في عهده إلا الكفار والمنافقون، فهم الذين حكى الله سبحانه عنهم معارضة ما جاء به بعقولهم وآرائهم، وصارت تلك المعارضة ميراثاً في أشباههم، كما حكى الله عن المشركين معارضة شرعه وأمره، بقضائه وقدره.

الوجه الثاني والستون: أن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة (1) ، فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه، فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي مركب من مقدمتين حمليتين:

إحداهما: قوله: (أنا خيرٌ منه) فهذه هي الصغرى، والكبرى محذوفة، تقديرها و ((الفاضل لا يسجد للمفضول)) ، وذكر مستند المقدمة الأولى وهو أيضاً قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه فقال:(خلقتني من نار وخلقته من طين) .

والمقدمة الثانية كأنها معلومة، أي: ومن خلق من نار أفضل ممن خلق من طين، فهما قياسان متداخلان، وهذه يسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة، فالقياس الأول هكذا: أنا خير منه، وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه، وهذا من الشكل الأول.

(1) هو الشيطان! .

ص: 49

والقياس الثاني هكذا: خلقتني من نار وخلقته من طين والمخلوق من النار خير من المخلوق من الطين فنتيجة هذا القياس العقلي: أنا خير منه، ونتيجة الأول ولا ينبغي لي أن أسجد له.

وأنت إذا تأملت مادة هذا القياس وصورته رأيته أقوى من كثير من قياساتهم، التي عارضوا بها الوحي، وقدموها عليه، ولكل باطل، وقد اعتذر أتباع الشيخ له بأعذار: ومنها أنه لما تعارض عنده العقل والنقل قدم العقل. ومنها أن الخطاب بصيغة الضمير في قوله اسجدوا لا عموم له، فإن الضمائر ليست من صيغ العموم. ومنها: أنه وإن كان اللفظ عاماً، فإنه خصه بالقياس المذكور، ومنها أنه لم يعتقد أن الأمر للوجوب، بل حمله على الاستحباب، لأنه المتيقن، أو على الرجحان دفعاً للاشتراك والمجاز. ومنها: أنه حمله على التراخي، ولم يحمله على الفور، ومنها: أنه صان جناب الرب أن يسجد لغيره، ورأى أنه لا يليق به السجود لسواه، فبالله تأمل هذه التأويلات، التي يذكرها كثير من الناس،

ص: 50