المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة المعتني بالكتاب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله - نهج الوصول الي حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

[محمد بن خليفة التميمي]

فهرس الكتاب

‌مقدمة المعتني بالكتاب

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد:

[فقد كان الناس قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم في جاهلية جهلاء يعيشون في ظلمات من الشرك والجهل، وتسيطر عليهم الخرافات، ويتطاحنون في نزاعات وصراعات قبلية، يسبي بعضهم بعضًا، ويقتل بعضهم بعضًا، يعيشون في تخلف وهمجية وفرقة، شعارهم:

ص: 5

ومَن لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بسلاحِهِ

يُهدَّمْ ومَنْ لا يَظلمِ النَّاسَ يُظْلَمِ

حتى إذا أذن الله لشمس الإسلام أن تشرق، بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ليعلن للبشرية أنه:"لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه".

لقد جاء بالتوحيد الذي هو حق الله على العبيد، والغاية العظمى من الخلق، كما قال جل ثناؤه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات]، به بُعث الرسل وأنزلت الكتب، ورفع من أجله علم الجهاد.

ثلاث عشرة سنةً في مكة والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو إليه، ويغرس جذوره في أعماق النفوس، ويبني أسسه ودعائمه في سويداء القلوب، ويثبت أركانه في الوجدان؛ حتى اتضحت سبيله للسالكين، وبانت معالمه للراغبين، فأظهر الله الحق وأزهق الباطل، وأضاءت القلوب أنوار التوحيد الخالص، فجلته من أوضار الشرك، وصقلته من أدران التنديد.

لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم والقلوب أرض جرداء، فسقاها من نمير التوحيد، وأرواها من سلسبيل الإخلاص، وساقها إلى الله دليل المتابعة، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فعزت الأمة بعد ذلتها، واجتمعت بعد فرقتها، وصارت غالبة بعد أن كانت مغلوبة.

بقيت العقيدة على صفائها ونقائها وطهرها؛ حتى إذا قضى الله أمرًا كان مفعولا، ودخل في دين الله من لم يتشرب قلبه التوحيد الخالص، حدث في الناس الخلل، وتفرقت بهم السبل، وراجت المذاهب المنحرفة، والأفكار الهدامة، وأطلت الفتن برأسها، وفشت البدع ببؤسها، حتى إذا زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا؛ قيض الله من أئمة الهدى، وأعلام الدجى من يعيد الناس إلى مشكاة النبوة وقلعة الإيمان، ويكشف لهم زيوف الباطل، ويدحض شبه المبطلين، ويردهم إلى منهج السلف الصَّالح.

ص: 6

إن المتبصر في تاريخ الأمة الإسلامية؛ ليرى أن عزتها وعلوها وغلبتها ودينونة الأمم لها مرتبطة بصفاء عقيدتها، وصدق توجهها إلى الله، واتباعها لأثر النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرها على منهج السلف الصالح، واجتماعها على أئمتها، وعدم منازعتهم في ذلك، وأن ذلها وضعفها وانخذالها، وتسلط الأمم عليها مرتبط بانتشار البدع والمحدثات في الدين، واتخاذ الأنداد والشركاء مع الله، وظهور الفرق الضالة، ونزع يد الطاعة، والخروج على الأئمة.

إن الانحرافات العقدية، والحيدة عن منهج السلف الصالح، والانخداع بزخرف قول أرباب المذاهب المنحرفة هو الذي فرق الأمة، وأضعف قوتها، وكسر شوكتها، والواقع شاهد على ذلك، ولا مخرج لها من ذلك إلا بالرجوع إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة الهدى، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وإن النكوص عن جادة التوحيد، والرغبة عن منهج السلف الصالح، منافاة للعدل، ومجافاة للعقل. قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 20].

وإن أعظم القسط التوحيد، وهو رأس العدل وبه قوامه، وإن أظلم الظلم الشرك، قال تعالى حكاية عن لقمان في وصيته لابنه:

{يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، وإن أعظم الفرية أن تشرك بالله وقد خلقك.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمر بالإصلاح، ونهى عن الفساد والإفساد، كما قال جلت عظمته:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف].

ص: 7

فإن أعظم الإفساد أن تفسد عقائد الناس، وتصوراتهم، وأفكارهم، ويقطع عليهم الطريق في مسيرهم إلى الله، ويحاد بهم عن الفطرة التي فطرهم الله عليها.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"

(1)

.

ويعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، ما علمني يومي هذا: كل ما نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا .... "

(2)

.

ولا شك أن هذا أعظم الظلم وأشنعه، كيف لا، وقد صار عاقبة ذلك خسران الدنيا والآخرة.

وفي هذه الأزمنة المتأخرة التي حدثت فيها الغير، وتزينت الدنيا لخُطَّابها، كشف أهل الأهواء عن أقنعتهم، وانتشرت بدعهم، وأحييت مذاهب أسلافهم بعد أن كانت بائدة، ونبشت كتب لهم كانت منسية، وظهرت أفكار جديدة، وبرزت جماعات معاصرة متباينة في مقاصدها، مختلفة في توجهاتها، متناقضة في غاياتها ووسائلها، كلما خرجت جماعة أو فرقة لعنت أختها، وتطاول أناس على قامة التوحيد والسنة، ولوثوا أفكار الناس، وأفسدوا عليهم عقائدهم، وهونوا عليهم أمر الشرك، ورفعوا أعلام الفتن، ونازعوا ذوي السلطان في سلطانهم، وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، واتبعوا غير سبيل المؤمنين. مما يوجب على الغيورين من علماء الأمة ودعاة السنة المقتفين للأثر؛ القيام بواجب الإبانة عن أصول الدِّيانة، وتبيين معالم منهج

(1)

رواه مسلم.

(2)

رواه مسلم.

ص: 8

السَّلف، وإيضاح سبيله، وتقريب كتب أئمة الهدى، وإبرازها بالتحقيق وشرح عبارات الأئمة، وبيان مقاصدهم والعناية بأمر التوحيد والمنهج في دروسهم وخطبهم ومحاضراتهم ومؤلفاتهم، وإرشاد العباد إلى اتباع خطى النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم سنته، والسير على أثر أصحابه امتثالا لقوله تعالى:

{قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران].

وقول النبي: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرة؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"

(1)

، فهذا هو الصراط المستقيم، الموصل إلى رضا رب العالمين.

قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْوَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام]. وهو السبيل الذي دعا إليه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف].

وهو عقيدة الفرقة الناجية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:

"لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم؛ حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك"

(2)

.

وهي التي بقيت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ ففي

(1)

رواه أبو داود.

(2)

رواه البخاري، باب (28) حديث (3991).

ص: 9

الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "

وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة؛ كلهم في النار إلا ملة واحدة قال - أي: عبد الله بن عمرو راوي الحديث: من هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي"

(1)

.

ومن هنا تأتي أهمية العناية بهذا الأمر، وتربية الناشئة عليه، وتصحيح مسيرة الصحوة إليه؛ حتى لا تتشعب بها السبل، فتضل في متاهات الأهواء والفتن]

(2)

.

وقد وفَّق الله تعالى عددا من مشايخنا وعلمائنا ونفرًا من طلبة العلم المخلصين إلى الاهتمام بهذا الموضوع العظيم تدريسًا وتحقيقا وتأليفا، وكان منهم:

صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور محمد بن خليفة بن علي التميمي حفظه الله في كتابه الكبير الماتع: "حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة".

وقد انتقيت من هذا الكتاب النفيس البحث الذي يتعلق بمحبة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، رغبة إفراده بالنشر لما حواه من فوائد عظيمة وتحقيق بديع، وسميته:"نهج الوصول إلى حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم" رجاء أن ينفع الله به عموم المسلمين؛ لأن من حقه على أمته أن تكون الألسنة رطبة بالثناء على كل ما يتعلق به مع الحذر من الغلو الذي لا يرضاه الله ولا رسوله، وبيان ضرورة الثناء على سنته وإيضاح محاسنها والتمسك بها، لأن التعظيم الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا وفق ما أمر به الشارع الحكيم.

(1)

رواه الترمذي.

(2)

إستفدته من مقدمة معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ حفظه الله لكتاب الوجيز في عقيدة السلف الصالح.

ص: 10

وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزي صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور محمد بن خليفة التميمي حفظه الله خير الجزاء. وأن يمتعه بالصحة والعافية ويبارك له في عمره وعلمه وعمله.

كما أسأله جل ثناؤه أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم مقربًا إليه مباركًا نافعًا لعباده، إنه سبحانه سميع مجيب.

كتبه

الفقير إلى عفو ربه

عبد الجبار بن عبد العظيم بن محمد آل ماجد

غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين

a.J.majid.hotmail.com

ص: 11

‌تمهيد (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)

[ينبغي الحذر والتحرُّز من الاشتباه الذي قد يحصل ما بين حق الله تعالى وما للرسول من حق؛ إذ قد يقع التداخل بين الحقين على وجه لا يشعر العبد فيه بالفرق، وقد يتعمد الخلط بين المفهومين ظانًا أنه بذلك يؤدي واجب تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو قد يكون مدفوعا بفرط محبة النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في تعظيمه؛ فيتجاوز بذلك حدود حق الله تعالى الخالص فيجعله - ظلمًا - من حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فيصرف - بذلك - العبادة إليه، فيقع في الشرك المنهي عنه بهذه الأسباب أو بغيرها، فلا يحقق - بالتالي - ركن الشهادة ولا شرطها.

والمعلوم أن لله حقًّا خالصًا لا يشرك فيه معه غيره، وهو ما يختص به من الربوبية والألوهية، والأسماء والصفات؛ فإن كل ما دعا إليه الشرع الحكيم من أنواع الطاعات وأعمال الخير والإحسان ما أمر به وحثَّ على فعله ورغَّب فيه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة داخل في مفهوم العبادة وعمومها، لا يجوز صرفه - بحال - لغير الله تعالى، بل حق الله المؤكد على العبيد وجوب صرف كل العبادات له دون غيره؛ لأنه هو المعبود المطاع، ولا معبود بحق سواه، وهي الغاية التي خلق الله الخلق لأجلها، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات]، والمعلوم أن لا نصيب لأحد في الجنة بدون القيام بحق الله تعالى، كما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ، أتدري

ص: 13

ما حق الله على العباد؟ " قال: "الله ورسوله أعلم"، قال: "أن يُعْبَدَ اللهُ ولا يشرك به شيئا"، قال: "أتدري ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟ " فقال: الله ورسوله أعلم"، قال: "أن لا يعذبهم

(1)

.

قال السعدي رحمه الله: "وهذا النوع - يعني: توحيد الألوهية والعبادة - زبدة رسالة الله لرسله؛ فكل نبي يبعثه الله يدعو قومه يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وهو الذي خلق الله الخلق لأجله، وشرع الجهاد لإقامته، وجعل الثواب الدنيوي والأخروي لمن قام به وحققه، والعقاب لمن تركه، وبه يحصل الفرق بين أهل السعادة القائمين به، وأهل الشقاوة التاركين له"

(2)

، وقال رحمه الله في موضع آخر:"فجميع الكتب السماوية وجميع الرسل دعوا إلى هذا التوحيد، ونهوا عن ضده من الشرك والتنديد، وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا القرآن الكريم؛ فإنه أمر به وفرضه وقرره أعظم تقرير، وبينه أعظم بيان، وأخبر أنه لا نجاة ولا فلاح ولا سعادة إلا بهذا التوحيد، وأن جميع الأدلة العقلية والنقلية والأفقية والنفسية أدلة وبراهين على هذا الأمر بهذا التوحيد ووجوبه؛ فالتوحيد هو حق الله الواجب على العبيد، وهو أعظم أوامر الدين وأصل الأصول كلها وأساس الأعمال"

(3)

.

وأن للرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم - من جهة أخرى -

(1)

أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى برقم (7373)، ومسلم في كتاب الإيمان برقم (30)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(2)

"الحق الواضح المبين" للسعدي (ص 111).

(3)

"القول السديد" للسعدي (ص 13).

ص: 14

حقا خاصا: هو توقيرهم وتبجيلهم وإعانتهم ونصرتهم وتقديرهم بما يستحقون؛ لقوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]، وهذا الحق الخاص للرسل والأنبياء عليهم السلام يندرج في النصيحة لرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور:"الدين النصيحة" قلنا: لمن؟ " قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))

(1)

، قال الخطابي رحمه الله:"وأما النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم فإنما هي في تصديقه على الرسالة، وقبول ما جاء به ودعا إليه، وطاعته فيما سن وشرع وبين من أمر الدين وشرح، والانقياد له فيما أمر ونهى وحكم وأمضى، وترك التقديم بين يديه، وإعظام حقه وتعزيره وتوقيره ومؤازرته ونصرته، وإحياء طريقته في بث الدعوة وإشاعة السنة، ونفي التهمة في جميع ما قاله ونطق به؛ فإنه لكما وصفه ربه وباعثه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم]، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء] "

(2)

.

وأما قوله تعالى في سورة الفتح: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} فإن التسبيح من حقوق الله الخاصة به؛ فلا يجوز تسبيح الرسول صلى الله عليه وسلم كما يسبح الله تعالى فإن ذلك يعد - بلا شك - شركًا بخلاف الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما؛ فإنهما من الحقوق المشتركة بين الله ورسوله؛ لقوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}

[الفتح: 9]؛ ولقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92؛ التغابن: 12]، والإيمان بالله والرسول وطاعته هو - في حقيقة الأمر - إيمان بالله وطاعة له؛ لقوله تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، "فذكر الله - في هذه الآية - الحق

(1)

. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة برقم (55) من حديث تميم بن أوسٍ الداريِّ رضي الله عنه.

(2)

"أعلام الحديث" للخطابي (1/ 192)

ص: 15

المشترك بين الله وبين رسوله وهو: الإيمان بهما، والمختص بالرسول وهو: التعزير والتوقير، والمختص بالله وهو: التسبيح له والتقديس بصلاة أو غيرها"

(1)

.

لذلك يحرم مجاوزة الحد المشروع في الأنبياء والرسل عليهم السلام والغلو فيهم؛ خشية رفعهم من درجة النبوة إلى حيز صفات الربوبية والألوهية: كنسبة علم اللوح والقلم للرسول صلى الله عليه وسلم، أو اعتقاد القدرة فيه على كشف الضر أو جلب النفع والخير، وما ينجر عنه من دعائه والاستغاثة به فيما لا يقدر على تحصيله إلا الله تعالى، والتوكل عليه، ونحو ذلك مما ينافي التوحيد؛ لكونها من الحقوق الخاصة بالله عز وجل، سواء وقع التداخل والخلط بين هذه الحقوق من غير تميز بينها - جهلًا - أو بدعوى مزيد محبة النبي صلى الله عليه وسلم المفرطة، علما أن محبة الرسول الحقيقية إنما هي متابعته والمسارعة في طاعته فيما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه من الكفر والفسوق والعصيان؛ فالمحبة لها علامتان: فهي لا تتم إلا بتجريد المتابعة لشرع الله الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه.

أولا: لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران]، ومما جاء به عن ربه: إفراد الله بالعبادة بجميع أنواعها ومراتبها وصورها من غير صرف أي شيء منها لأحد كائنا من كان، وهذا معنى كلمة التوحيد.

ثانيا: ولا تتم محبة الله - إلا بموالاته تعالى وموافقته فيما يحب ويكره؛ فيحب العبد ما يحبه ربه ويبغض ما يبغضه؛ عملا بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 34]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

"تفسير السعدي"(ص 934)

ص: 16

" [فوالذي نفسي بيده]، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده [والناس أجمعين] "

(1)

.

ولتثبيت هذه الحقائق والمعاني في نفوس المسلمين وترسيخها أفصح القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى إقامة دينه مقيدا بما جاء به من سنته، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْإِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف]، وقد بين ابن القيم رحمه الله هذا المعنى - بجلاء - بقوله:"والأعمال أربعة: واحد مقبول، وثلاثة مردودة؛ فالمقبول ما كان الله خالصا وللسنة موافقة، والمردود ما فقد منه الوصفان أو أحدهما، وذلك أن العمل المقبول هو ما أحبه الله ورضيه، وهو - سبحانه - إنما يحب ما أمر به وما عمل لوجهه، وما عدا ذلك من الأعمال فإنه لا يحبها، بل يمقتها ويمقت أهلها"

(2)

.

وفصَّل ابن رجب رحمه الله مسألة العمل - من حيث ظاهره وباطنه - بما نصه: " .. وإنما يتم ذلك بأمرين: أحدهما: أن يكون العمل - في ظاهره - على موافقة السنة، وهذا هو الذي تضمنه حديث عائشة رضي الله عنها: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"

(3)

، والثاني: أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله عز وجل، كما تضمنه حديث عمر:"الأعمال بالنيات"

(4)

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (14) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه البخاري (15)، ومسلم في "الإيمان"(44)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

"إعلام الموقعين" لابن القيم (2/ 181)

(3)

أخرجه البخاري في "الصلح" باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (2697)، ومسلم في "الأقضية"(1718)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

. أخرجه البخاري في "بدء الوحي" باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (1)، ومسلم في (الإمارة)(1907)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: 17

وقال الفضيل رحمه الله في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ، قال:"أخلصه وأصوبه"، وقال:"إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصًا وصوابًا"، قال:"والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة"

(1)

ولهذا كان الدعاء لجلب الخير والنفع أو لكشف الضر أو دفع السوء والأذى إنما هو موجه للمعبود الحق دون غيره لقوله تعالى في سورة الإسراء: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} ، وقد فسر ابن باديس رحمه الله هذه الآية بقوله:"فمن دعا غير الله فقد عبده، ومن دعا مخلوقا مع الخالق فقد أشرك، فإذا دعوت فادع ربك ولا تدع معه أحدًا، وكيف تدعو من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا؟! وإذا توسلت فتوسل بأعمالك: بإيمانك وتوحيدك، وباتباعك لمحمد، ومحبتك له، واعتقادك ما له عند الله من عظيم المنزلة وسمو المقام عليه وعلى آله الصلاة والسلام"

(2)

، ولقوله تعالى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ الله} [يونس: 49].

قال الشيخ محمد صديق حسن خان رحمه الله في حكم التوجه إلى الرسول بالدعاء والاستغاثة به ما نصه: "وفي هذا أعظم واعظ وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه، وذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه؛ فإن هذا مقام رب العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين: رزقهم وأحياهم ويميتهم؛ فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من

(1)

جامع العلوم والحِكَم" لابن رجب (ص 10).

(2)

"مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير" لابن باديس (ص 468).

ص: 18

الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه، ويترك الطلب لرب الأرباب، القادر على كل شيء، الخالق الرازق المعطي المانع؟ وحسبك - في هذه الآية - موعظة؛ فإن هذا سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [يونس: 49]؛ فكيف يملكه لغيره؟ وكيف يملكه غيره - ممن رتبته دون رتبته، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته - لنفسه فضلا عن أن يملكه لغيره؟ فيا عجبا القوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، كيف لا يتيقظون لما وقعوا به من الشرك، ولا ينتبهون إما حل بهم من المخالفة لمعنى:(لا إله إلا الله)، ومدلول:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ؟! وأعجب من هذا اطلاع بعض أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو أشد منها؛ فإن أولئك يعترفون بأن الله - سبحانه هو الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ومقربين إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع، وينادونهم - تارة - على الاستقلال وتارة مع ذي الجلال، وكفاك من شر سماعه، والله ناصر دينه ومظهر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر، ولقد تول الشيطان - أخزاه الله - بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه وينثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، إنا لله وإنا إليه راجعون"

(1)

.

هذا، والقرآن الكريم تضمن العديد من الآيات الناهية عن الدعاء بجلب الخير، والسؤال لكشف الضر أو تحويله، إلا من الله تعالى الذي دعانا إلى طلبه منه والتوجه إليه مباشرة دون واسطة، قال تعالى: {ادْعُونِي

(1)

(فتح البيان) للقنوجي (4/ 225).

ص: 19

أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

وعليه، فلا وساطة للرسل والأنبياء عليهم السلام في شيء بين الله تعالى وعباده من طلب الحوائج من الله تعالى، وإنما وساطتهم تتجلى في تبليغ شرع الله ودينه لعباده.

وفي بيان هذه الوساطة وإثباتها قال الشيخ عبد العزيز المحمد السلمان رحمه الله ما يلي: "إنها على قسمين:

- واسطةٌ من تمام الدين والإيمان إثباتها: وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل وسائط بين الله وبين عباده في تبليغ دينه وشرعه.

* وواسطةٌ شركيةٌ: وهي التقرب إلى أحد من الخلق ليقربه إلى الله، وليجلب له المنافع التي لا يقدر عليها إلا الله، أو يدفع عنه المضار؛ فهذا النوع من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله.

فالخلق مضطرون إلى وساطة الرسل في تبليغ الدين، وليس بهم حاجة إلى وساطة أحد في طلب الحوائج من الله؛ فليس بين العبد وبين الله حجاب ولا واسطة"

(1)

.

ومنه يعلم أن الله تعالى لم يجعل وساطة الرسل والأنبياء عليهم السلام ولا مكانتهم وجاههم - فضلا عن الصالحين - طريقة للتقرب منه أو وسيلة موصلة إليه ولا سبأ للزلفى لديه، وإنما جعل القرب منه والوسيلة إليه في تصديقهم فيما أخبروا به، واتباع النور الذي جاءوا به من عبادته وطاعته وامتثال أوامره ونواهيه، والتزام محابه واجتناب مكارهه، والعمل على تقرير شرعه ونشره وتثبيته وإقامته بين الخلق.

ولا يخفى أن الأنبياء والرسل عليهم السلام التي لم يدعوا أن بأيديهم مفاتيح

(1)

"الكواشف الجلية" للسلمان (ص 73).

ص: 20

رزق الله ورحمته، ولا أنهم يملكون التصرف في خزائن الله، ولا أنهم يعلمون الغيب، ولا أنهم ملائكة، وإنما هم بشر ممن خلق، يوحى إليهم منن الله تعالى، شرفهم الله بالوحي الذي يتبعونه ولا يخرجون عنه، وأنعم عليهم بالمكارم والفضائل والكمالات، وعصمهم من الرذائل والنقائص والمعايب، وأكرمهم بالرسالة أو النبوة لهداية الخلق إلى الحق وإقامة الحجة عليهم، وأيدهم بالآيات البينات والمعجزات الباهرات وخوارق العادات الدالة على صدقهم؛ حتى لا يبقى عذر لأحد في تكذيبهم والخروج عن طاعتهم؛ وليس للرسل والأنبياء عليهم السلام أي تصرف مع الله في الكون؛ لذلك كانوا إذا سئلوا الآيات المعجزات الخارقة للعادة؛ ردوا الأمر إلى الله، ونفوا أن تكون لهم قدرة على الإتيان بها إلا بإذن الله، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [إبراهيم: 11]؛ فيظهر الله - على أيديهم - الآيات تأييد لهم وتخويفا لأقوامهم وقطعة لمشاغبتهم؛ فيخضع لها بعضهم ويستمر الأكثرون على العناد، فما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطاه الله من الآيات والمعجزات ما يمثله - في وضوحه وظهوره والعجز عن معارضته - ما يؤمن عليه العباد ويتفقون عليه لولا ما يصدهم عنه من العناد، وهو معنى قوله:"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر"

(1)

(2)

؛ ولهذا أمر الله تعالى نبيه أن يبرأ من دعوى هذه المحاور الثلاثة من العلم والقدرة والغني، التي ترجع إليها المعجزان بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا

(1)

أخرجه البخاري في كتاب "فضائل القرآن" باب: كيف نزل الوحي، وأول ما نزل برقم (4981)، ومسلم في "الإيمان" باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته برقم (152)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

"مجالس التذكير من حديث البشير النذير" لابن باديس (33 - 34).

ص: 21

يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50]. قال ابن تيمية رحمه الله و ما نصه: "فأمره أن يخبر أنه لا يعلم الغيب، ولا يملك خزائن الله، ولا هو ملك غني عن الأكل والمال، إن هو إلا متبع لما أوحي إليه، واتباع ما أوحي إليه هو الدين، وهو طاعة الله وعباده علما وعملا بالباطن والظاهر، وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله تعالى: فيعلم منه ما علمه إياه، ويقدر منه على ما أقدره الله عليه، ويستغني عما أغناه الله عنه من الأمور المخالفة للعادة المطردة أو لعادة غالب الناس"

(1)

.

ومن هنا يظهر - جليا - أن حياة أنبياء الله ورسله - صلوات الله وسلامه عليهم - لم تكن مبنية على تغييب حقيقتهم البشرية، أو رفع أنفسهم إلى مقام الربوبية، أو ادعاء خصائص الألوهية، أو إرادة تلبيس بين حق الله الخالص وحق أنبيائه الكرام عليهم السلام، كلا، إنما كانت حياتهم مليئة بالصلة بالله، وعامرة بالعلم النافع، والعمل الصالح، والقوة في العبادة، والمسارعة في الخيرات، والبصيرة النافذة في الدين؛ حتى بلغوا الغاية في العبودية والسمو الروحي، يهدون الناس إلى الله، ويبلغون دينه وشرعه، ويدعون إلى الهدى ودين الحق، ويتنافسون في القرب من ربهم، ويبذلون ما في وسعهم من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله بجد واجتهاد، يرجون - بأعمالهم الصالحة ومحبتهم الصادقة - رحمته، ويخافون - بمخالفتهم لأمره - عذابه، ويخشون - بقصورهم عن أداء حقه - عقوبته وانتقامه؛ لعلمهم بقوة الله وعظيم سلطانه، وأن عذابه أليم شديد، شأنه أن يتقى ويُحذر، قال الله تعالى عن أهل اصطفائه واجتبائه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء]، وقال تعالى:

(1)

"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (11/ 313)، وانظر:"شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (558).

ص: 22

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء]، وقال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء].

فتلك هي العبودية الحقه التي كان الرسل والأنبياء عليهم السلام، والمعلوم أن العبد كلما ازداد في تحقيق العبودية الخالصة ازداد كماله وسمت روحه وعلت درجته، وكلما نقصت عبوديته ازداد بعدا وهبوطا وانحدارًا، والرسل والأنبياء عليهم السلام وإن تفاوتوا في الفضل والدرجة - إلا أنهم كانوا يتنافسون في القرب من ربهم، ويتسابقون في تحقيق العبودية، ويسارعون في الخيرات كما تقدمت به الآيات؛ ولهذا وصفهم الله تعالى في كتابه بوصف العبودية التي أساسها المحبة والخوف والرجاء فقال تعالى:{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ} [ص]، وقال:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} [ص: 41]، وذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية في أسمى أحواله وأشرف مقاماته: كالإسراء في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]، وفي مقام الإيحاء والتحدي بالذي أنزل عليه، كما في قوله تعالى:{فَأَوْحَاإِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، وقوله تعالى:{إِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، وفي مقام القيام بالدعوة، كما في قوله تعالى:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19]، وغيرها من الآيات المخبرة عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين، المجتهدين في تحقيق العبودية الخالصة لله رب العالمين.

وعلينا - أخيرًا - أن نقتدي بهم في تحقيق هذه العبودية الخالصة لله تعالى ونهتدي بهديهم، مع احترام حقهم ومنزلتهم في التوقير والتبجيل

ص: 23

والمحبة والنصرة، من غير غُلُوٍّ في تعظيمهم ولا إطراءٍ مُفْضٍ بمحبتهم إلى امتزاج حقهم بما لله تعالى من حق خالص في العبودية]

(1)

.

‌كيف كان الغلو أول سبب لوقوع الشرك في العالم؟

[ .. كان الناس أمة واحدة على الإسلام، موحدين متفقين على الحق والتوحيد في زمن أبينا آدم عليه السلام، إلى قبيل زمن نوح عليهم السلام.

ثم اختلفوا بسبب مكر الشيطان وحيله الخفية، قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19].

وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم

(2)

عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا"

(3)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"

(4)

.

(1)

من الكلمات الشهرية لسماحة الشيخ محمد علي فركوس حفظه الله برقم (106)

(2)

من الجلاء؛ أي: ترك الإنسان موطنه ومكانه، وهنا بمعنى: ترك الدين والابتعاد عنه. انظر: "لسان العرب"(2/ 337)، مادة:(جلل).

(3)

"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (11/ 313)، وانظر:"شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (558) جزء من حديث رواه مسلم، في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار برقم (2865).

(4)

"جامع البيان" للطبري (29/ 99)، و "المستدرك" للحاكم (2/ 546) وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "تحذير الساجد"(ص 147).

ص: 24

وبهذا يتضح لنا أن الأمة كانت على شريعة واحدة؛ التي هي التوحيد الخالص، ثم طرأ الشرك عليها

(1)

.

وإليك التدرج الذي فعله الشيطان مع بني الإنسان لإخراج الناس من عبادة الله وحده إلى الشرك به وعبادة غيره، وهو مأخوذ من تفسير قوله تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح]، حيث إن هؤلاء الخمسة كانوا عبادًا صالحين، فلما ماتوا، أوحى الشيطان إلى قومهم؛ أن انجبوا لهم أنصابًا، وسموها بأسمائهم، واعكفوا عليها لتتذكروهم، وتقتدوا بأعمالهم الصالحة، فلما ذهب هذا الجيل، وأتي من بعدهم، أوحي إليهم الشيطان: إن أسلافكم كانوا يعبدونهم، فافعلوا كما كانوا يفعلون، ففعلوا؛ فوقع الشرك في بني آدم من طريق الغلو في الصالحين، ومن ثم أرسل الله جل وعلا نوح عليه السلام ليدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك الشرك، فلم يستجيبوا له إلا قليل منهم.

ويتضح هذا المعنى بذكر الآثار الواردة في تفسير الآية المتقدم ذكرها من سورة نوح عليه السلام، وإليك بعضا منها:

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:"هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم، أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم، عُبدت"

(2)

.

وما روى ابن جرير بإسناده عن محمد بن قيس، قال: كانوا قوم صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدرون بهم، فلما ماتوا

(1)

انظر: "مجموع الفتاوى"(2/ 437، 8/ 285، 20/ 106، 107) بتصرف.

(2)

"صحيح البخاري"، كتاب التفسير، تفسير سورة نوح، باب ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق. "الفتح"(8/ 535)، حديث رقم (4920).

ص: 25

قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم؛ كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون، دب إليهم إبليس، فقال: إنما كان يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم"

(1)

.

فهنا قولان:

الأول: أنها كانت في قوم نوح.

الثاني: أنها كانت أسماء رجال صالحين.

ولا فرق بين القولين، فإن كونها أسماء أصنام لا ينافي كون تلك الأصنام لرجال صالحين في الأصل.

قال ابن حجر رحمه الله بعد حكايته للقولين -: "بل مرجع ذلك إلى قول واحد، وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام، ثم تبعهم من بعدهم على ذلك"

(2)

.

إذا علم ذلك كله، ظهر أن أعظم أسباب الشرك وعبادة الأصنام الغلو في المخلوقين، ورفعهم فوق منازلهم

(3)

، فلذلك نهى الله عن الغلو ومشابهة أهل الكتاب الذين غلوا في أنبيائهم وصالحيهم حتى عبدوهم من دون الله؛ فقال تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171]، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود].

(1)

"جامع البيان" للطبري (29/ 98، 99).

(2)

"فتح الباري"(8/ 137).

(3)

"مجموع الفتاوى"(14/ 362)، وقاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق لابن تيمية (ص 42، 43) بتصرف.

ص: 26

وكذلك اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الباب، فحذر أشد التحذير من الغلو، وسد ذرائعه وأبوابه، وحاربه في جميع ميادين ونواحي العبادة

(1)

.

ومما ورد عنه في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"

(2)

.

قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله بعد إيراده لهذا الحديث ما نصه: "أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي، كما غالت النصارى في عيسى؛ فادعوا فيه الربوبية، وإنما أنا عبد الله، فصفوني بذلك كما وصفني به ربي، وقولوا: عبد الله ورسوله"

(3)

.

* منها ما جاء عن عائشة رضي الله عنها: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة - رأينها بالحبشة فيها تصاوير - لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"

(4)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي التي أوقعت كثيرًا من الأمم؛ إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم

(1)

"مجموع الفتاوى"(2/ 404، 405) بتصرف

(2)

رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} . [الفتح](6/ 551)، حديث رقم (3445).

(3)

(تيسير العزيز الحميد)(ص 314).

(4)

رواه البخاري في كتاب الجنائز، باب بناء المسجد على القبر برقم (1341)؛ ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد برقم (528).

ص: 27

الصالحين

فهذه المفسدة - التي هي مفسدة الشرك كبيره وصغيره - هي التي حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها؛ حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا

(1)

(2)

.

* منها ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته -: "هات القط لي" فلقط له حصيات هن حصى الخذف

(3)

، فلما وضعتهن في يده قال:"بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"

(4)

.

قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد إيراده لهذا الحديث -: "إن هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال"

(5)

.

(1)

يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"، رواه ابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات، باب المواضع التي تكره فيها الصلاة (1/ 246)، حديث رقم (745) واللفظ له؛ وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة (1/ 330)، حديث رقم (492)؛ والترمذي، كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (1/ 131)، حديث رقم (317)، وقال: فيه اضطراب. وصححه الألباني في (صحيح ابن ماجه)(1/ 231) حديث رقم (612).

(2)

"اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 674)

(3)

هو: الحصى الصغير الذي يمكن حمله بأطراف الأصابع لصغره. انظر: "لسان العرب"(4/ 44)، مادة:(خذف).

(4)

رواه النسائي في "سننه"، كتاب المناسك، باب التقاط الحصى (5/ 296)، حديث رقم (3057)؛ وابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي (2/ 1008)، حديث رقم (3029). وصححه الألباني في (صحيح ابن ماجه)(3/ 49)، حديث رقم (2473).

(5)

"اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 289).

ص: 28

* ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصَّص القبرُ، وأن يُقعَد عليه، وأن يبنى عليه

(1)

.

* ومنها: أمره صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمس التماثيل؛ فعن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفا إلا سويته"

(2)

* ومنها: ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال:"ما هذا الحبل؟ "، قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر، فليقعد"

(3)

.

قال ابن حجر رحمه الله تحت هذا الحديث: "وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق فيها"

(4)

.

وغيرها كثير من أقواله صلى الله عليه وسلم في النهي عن التشدد، والأخذ بالأيسر، والرفق في الأمر كله

(5)

؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدينَ

(1)

رواه مسلم في كتاب الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه (2/ 667)، حديث رقم (970).

(2)

رواه مسلم في كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر (2/ 666)، حديث رقم (969)

(3)

رواه البخاري في كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة. "الفتح"(3/ 43)، حديث رقم (1150)؛ ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك (1/ 541، 542)، حديث رقم (784).

(4)

"فتح الباري"(3/ 45).

(5)

"قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق"(ص 42 - 45).

ص: 29

أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغَدْوَةِ

(1)

والرَّوْحَةِ

(2)

وشيءٍ من الدُّلْجَةِ

(3)

(4)

، والله تعالى أعلم]

(5)

.

* * *

(1)

الغَدْوة: السير في أول النهار.

(2)

الرَّوحة: السير بعد الزوال.

(3)

الدُّلْجة: السير آخر الليل، والمراد هنا، قال ابن حجر:"أي: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة". انظر في هذا كله: فتح الباري لابن حجر (1/ 118).

(4)

رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر. "الفتح"(1/ 116) حديث رقم (39).

(5)

انظر: "الجواب الباهر في زوار المقابر" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، دراسة وتحقيق د. إبراهيم بن خالد المخيف حفظه الله (ص 85 - 91).

ص: 30

‌الباب الأول: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

-

وفيه فصلان

ص: 31

‌الفصل الأول: بيان المعنى الصحيح لمحبته صلى الله عليه وسلم والأدلة على وجوبها

وفيه مبحثان

ص: 33

‌المبحث الأول: المعنى الصحيح لمحبته صلى الله عليه وسلم

-

‌المطلب الأول: تعريف المحبة:

أحببت قبل الشروع في بيان المعنى الصحيح لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم أن أتطرق للمعنى اللغوي والاصطلاحي لكلمة المحبة، وذلك بهدف التعريف بهذه الكلمة وبيان مدلولها:

‌أ - أصل اشتقاق المحبة:

قال صاحب لسان العرب: "المحبة: اسم للحب"

(1)

.

ويرى ابن القيم أن مادة كلمة "حب" تدور في اللغة على خمسة أشياء:

أحدها: الصفاء والبياض، ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها "حبب الأسنان".

الثاني: العلو والظهور، ومنه "حبب الماء وحبابه" وهو ما يعلوه عند المطر الشديد، وحبب الكأس منه.

الثالث: اللزوم والثبات، ومنه: "حبَّ البعير وأحب، إذا برك ولم يقم.

(1)

(1/ 290).

ص: 35

قال الشاعر:

حلت عليه بالفلاة ضربًا

ضرب بعير السوء إذ أحبَّا

الرابع: اللب، ومنه: حبة القلب، للبُّه وداخله.

ومنه: الحبة لواحدة الحبوب، إذ هي أصل الشيء ومادته وقوامه.

الخامس: الحفظ والإمساك، ومنه حب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه وفيه معنى الثبوت أيضًا.

ثم قال رحمه الله: ولا ريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة:

1 -

فإنها صفاء المودة، وهيجان إرادات القلب للمحبوب.

2 -

وعلوها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد.

3 -

وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزوما لا تفارقه.

4 -

ولإعطاء المحب محبوبه لبه وأشرف ما عنده، وهو قلبه.

5 -

ولاجتماع عزماته وإراداته وهمومه على محبوبه.

فاجتمعت فيها المعاني الخمسة

(1)

.

ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة: "الحاء" التي هي من أقصى الحلق.

و "الباء" الشفوية التي هي نهايته.

(1)

زاد ابن القيم في كتابه روضة المحبين (ص 17، 18) على هذه المعاني الخمسة ما يلي: "وقيل: بل هي مأخوذة من القلق والاضطراب، ومنه سمي القرط حبا لقلقه في الأذن واضطرابه. وقيل بل هي مأخوذة من الحب الذي هو إناء واسع فيمتلئ به بحيث لا يسع لغيره، وكذلك قلب المحب ليس فيه سعة لغير محبوبه، وقيل: مأخوذة من الحب وهو الخشبات الأربع التي يستقر عليها ما يوضع من جرة أو غيرها فسمي الحب بذلك لأن المحب يتحمل لأجل محبوبه الأثقال، كما تتحمل الخشبات ثقل ما يوضع عليها.

ص: 36

فللحاء الابتداء، وللباء الانتهاء، وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منه وانتهاءها إليه.

وقالوا في فعلها: حَبْهُ وأحَبَّهُ.

ثم اقتصروا على اسم الفاعل من "أحب" فقالوا: "مُحِبٌّ" ولم يقولوا "حاب". واقتصروا على اسم المفعول من "حب" فقالوا: "محبوب" ولم يقولوا "مُحَب" إلا قليلا كما قال الشاعر:

ولقد نزلت فلا تظني غيره

مني بمنزلة المُحَب المكرم

(1)

وأعطوا "الحب" حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها، مطابقة لشدة حركة مسماه وقوتها.

وأعطوا "الحِب" وهو المحبوب: حركة الكسر لخفتها عن الضمة وخفة المحبوب، وخفة ذكره على قلوبهم وألسنتهم

فتأمل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني تطلعك على قدر هذه اللغة، وأن لها شأنا ليس لسائر اللغات

(2)

.

‌ب - الحد الاصطلاحي للمحبة:

قال ابن حجر

(3)

: "وحقيقة المحبة عند أهل المعرفة من المعلومات التي لا تحد، وإنما يعرفها من قامت به وجدانا ولا يمكن التعبير عنها"

(4)

.

(1)

البيت لعنترة بن شداد.

(2)

مدارج السالكين (3/ 9 - 11).

(3)

أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - صاحب كتاب فتح الباري - من أئمة العلم والتاريخ، ولد بالقاهرة سنة (773 هـ)، وتوفي بها سنة (852 هـ)، وله مؤلفات كثيرة. الأعلام (1/ 178).

(4)

فتح الباري (10/ 463).

ص: 37

وقال ابن القيم: "لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها. ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها، وموجباتها، وعلاماتها، وشواهدها، وثمراتها، وأحكامها فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات وكثرت الإشارات، بحسب إدراك الشخص ومقامه وحاله وملكه للعبارة"

(1)

قلت: وهذا الذي ذكره ابن القيم وابن حجر هو الذي تطمئن له النفس فالمحبة أمر شعوري وجداني يتعرف عليه بواسطة الأمور الستة التي أشار إليها ابن القيم، وذلك لكون هذه الأمور هي العناصر التي يمكن أن يعبر عن المحبة من طريقها.

ولذلك فلا داعي لذكر تعريفات العلماء لها فحدها وجودها، والحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى

(1)

مدارج السالكين (3/ 9).

ص: 38

‌المطلب الثاني: أقسام المحبة:

‌أ - أقسام المحبة من حيث العموم:

تنقسم المحبة من حيث العموم إلى قسمين:

1 -

مشتركة، 2 - خاصة.

‌القسم الأول: المحبة المشتركة.

وهي ثلاثة أنواع:

أحدها: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء ونحو ذلك، وهذه لا تستلزم التعظيم.

الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم.

الثالث: محبة أنس وألف، وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر، لبعضهم بعضا، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضا. فهذه الأنواع الثلاثة، التي تصلح للخلق، بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان يحب نساءه، وعائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق رضي الله عنه.

‌القسم الثاني: المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله.

ومتى أحب العبد بها غيره، كان شركًا لا يغفره الله، وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره.

ص: 39

فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلًا

(1)

بل يجب إفراد الله بهذه المحبة الخاصة التي هي توحيد الإلهية، بل الخلق والأمر والثواب والعقاب، إنما نشأ عن المحبة ولأجلها، فهي الحق الذي خلقت به السموات والأرض، وهي الحق الذي تضمنه الأمر والنهي وهي سر التأله، وتوحيدها هو شهادة أن لا إله إلا الله، وليس كما يزعم المنكرون، أن الإله هو الرب الخالق، فإن المشركين كانوا مقرِّين بأنه لا رب إلا الله ولا خالق سواه، ولم يكونوا مقرين بتوحيد الإلهية الذي هو حقيقة لا إله إلا الله، فإن الإله الذي تألهه القلوب حبا وذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة.

وإله بمعنى مألوه؛ أي: محبوب معبود، وأصله من التأله وهو التعبد الذي هو آخر مراتب المحبة، فالمحبة حقيقة العبودية

(2)

وسيأتي مزيد تفصيل لهذا القسم.

‌ب - أقسام المحبة باعتبار متعلقها ومحبوبها:

تنقسم المحبة باعتبار متعلقها ومحبوبها إلى قسمين:

1 -

نافعة محمودة، 2 - مذمومة ضارة.

‌القسم الأول: المحبة النافعة:

وهي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه وهو السعادة وهي ثلاثة أنواع:

أ - محبة الله.

ب - محبة في الله.

ج - محبة ما يعين على طاعة الله واجتناب معصيته.

(1)

تيسير العزيز الحميد (ص 411).

(2)

تيسير العزيز الحميد (ص 412).

ص: 40

فيحب الله تعالى حبًّا لا يشاركه فيه أحد، ويكون الله عز وجل هو المحبوب المراد الذي لا يحب لذاته ولا يراد لذاته إلا هو، وهو المحبوب الأعلى الذي لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون هو محبوبه ومراده وغاية مطلوبه. وتكون هذه المحبة مستلزمة لما يتبعها من عبادته تعالى وخضوعه له، وتعظيمه عز وجل.

والمحبة في الله: بأن يحب المؤمنين لا يحبهم إلا لله ويكون هواه تبعا لحب الله تعالى ورضاه، فلا يحب إلا ما يحب الله تعالى.

ومحبة ما يعين على طاعة الله أنواع كثيرة تندرج فيها جميع العبادات.

‌القسم الثاني: المحبة الضارة:

وهي المحبة المذمومة التي تجلب لصاحبها ما يضره وهو الشقاء. وهي ثلاثة أنواع أيضا:

1 -

المحبة مع الله.

2 -

محبة ما يبغضه الله.

3 -

محبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها.

فمن النوع الأول: محبة المشركين آلهتهم كحب الله.

ومن النوع الثاني: محبة الفواحش والمنكرات التي يبغضها الله.

ومن النوع الثالث: عشق النساء الذي يزيد عن حده حتى يضيع الأوامر ويدخل في النواهي، وفي مقدمة ذلك عشق الفاسقات والعاهرات والولدان.

فهذه ستة أنواع عليها مدار كتاب الخلق.

فأصل المحاب المحمودة محبة الله تعالى؛ وأصل الإيمان والتوحيد والنوعان الآخران تبع لها.

ص: 41

كما أن المحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها

(1)

.

فأصل الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك في هذه المحبة، فإن المشركين لم يزعموا أن آلهتهم وأوثانهم شاركت الرب سبحانه في خلق السموات والأرض وإنما كان شركهم بها من جهة محبتها مع الله فوالوا عليها وعادوا عليها وتألهوها وقالوا: هذه آلهة صغار تقربنا إلى الإله الأعظم، قال تعالى:{ومِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّه} .

ففرق بين محبة الله أصلًا، والمحبة له تبعًا، والمحبة معه شركًا، وعليك بتحقيق هذا الموضع فإنه مفرق الطرق بين أهل التوحيد وأهل الشرك

(2)

.

(1)

إغاثة اللهفان (2/ 140، 141)، وجامع الرسائل (2/ 202).

(2)

روضة المحبين (293).

ص: 42

‌المطلب الثالث: حقيقة المحبة الشرعية:

المقصود بالمحبة الشرعية: محبة الله سبحانه وتعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وكل ما يدخل في فلكها ويدور مع محورها.

فهذه المحبة من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله، بل ومن أوجب العبادات المناطة بقلب المؤمن، ذلك لأنه لابد في إيمان القلب من حب الله ورسوله، وأن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إليه مما سواهما.

فهي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة: إما محبة محمودة، أو عن محبة مذمومة.

فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة، وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله سبحانه وتعالى، إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة لا يكون عملا صالحا عند الله، بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة الله، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه. كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"

(1)

.

فإخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله سواه وهو الذي

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كناب الزهد: باب من أشرك في عمله غير الله (8/ 223).

ص: 43

بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب واتفق عليه أهل الإيمان.

وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه

(1)

. فأصل الدين وقاعدته يتضمن أن يكون الله هو المعبود الذي تحبه القلوب وتخشاه ولا يكون لها إله سواه، والإله ما تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والإجلال والإعظام ونحو ذلك.

والله سبحانه أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو فتخلو القلوب عن محبة ما سواه بمحبته، وعن رجاء ما سواه برجائه، وعن سؤال ما سواه بسؤاله، وعن العمل لما سواه بالعمل له، وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به

(2)

.

فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلاص الدين لله، وهو إرادة الله وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته، وهذا كمال المحبة، ولكن أكثر ما جاء المطلوب باسم العبادة كقوله تعالى:{وما خَلَقْتُ الجِنَّ والأِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذرايات]، وقوله:{يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21]، وأمثال هذا والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته، وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودا، والمعظم الذي لا يحب لا يكون معبودا، ولهذا قال تعالى {ومِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].

فبين سبحانه أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادا، وإن كانوا يحبونهم كما يحبون الله، فالذين آمنوا أشد حبا لله منهم لله ولأوثانهم، لأن المؤمنين أعلم بالله، والحب يتبع العلم، ولأن المؤمنين

(1)

مجموع الفتاوى (12/ 48، 49).

(2)

مجموع الفتاوى (11/ 523، 524).

ص: 44

جعلوا جميع حبهم لله وحده، وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل، قال تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ورَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر].

واسم المحبة فيه إطلاق وعموم فإن المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين، وإن كان ذلك من محبة الله، وإن كانا المحبة التي لله لا يستحقها غيره. ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مقرونة بما يختص به سبحانه من العبادة والإنابة إليه والتبتل له، ونحو ذلك. فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى.

وكما أن محبته هي أصل الدين، فكذلك كمال الدين يكون بكمالها ونقصه بنقصها

(1)

وكمال هذه المحبة هو بالعبودية والذل والخضوع والطاعة للمحبوب سبحانه وتعالى فالحق الذي خلق به ولأجله الخلق هو عبادة الله وحده التي هي كمال محبته والخضوع والذل له، ولوازم عبوديته من الأمر والنهي والثواب والعقاب، ولأجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وخلق الجنة والنار

(2)

.

قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلًا}

وقال تعالى: {إنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أيُّهُمْ أحْسَنُ عَمَلًا} ، وقال تعالى:{وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ فِي سِتَّةِ أيّامٍ وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].

فأخبر سبحانه في هذه الآيات أن خلق العالم والموت والحياة وتزين الأرض بما عليها أنه للابتلاء والامتحان ليختبر خلقه أيهم أحسن عملا، فيكون عمله موافقًا لمحاب الرب تعالى، فيوافق الغاية التي خلق

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 56، 57).

(2)

روضة المحبين (ص 59).

ص: 45

هو لها وخُلق لأجلها العالم، وهي عبوديته المتضمنة لمحبته وطاعته، وهي العمل الأحسن وهو مواقع محبته ورضاه، وقدر سبحانه مقادير تخالفها بحكمته في تقديرها، وامتحن خلقه بين أمره وقدره ليبلوهم أيهم أحسن عملا.

فانقسم الخلق في هذا الابتلاء فريقين:

فريقًا داروا مع أوامره ومحابه، ووقفوا حيث وقف بهم الأمر، وتحركوا حيث حركهم الأمر، واستعملوا الأمر في القدر، وركبوا سفينة الأمر في بحر القدر، وحكموا الأمر على القدر، ونازعوا القدر بالقدر امتثالا لأمره واتباعا لمرضاته فهؤلاء هم الناجون.

والفريق الثاني: عارضوا بين الأمر والقدر، وبين ما يحبه ويرضاه وبين ما قدره وقضاه، فهؤلاء هم المفرطون

(1)

.

وحقيقة المحبة: حركة نفس المحب إلى محبوبه، فالمحبة حركة بلا سكون

(2)

فالحب يوجب حركة النفس وشدة طلبها، والنفس خلقت متحركة بالطبع كحركة النار، فالحب حركتها الطبيعية، فكل من أجل شيئا من الأشياء وجد في حبه لذة وروحا، فإذا خلا عن الحب مطلقا تعطلت النفس عن حركتها وثقلت وكسلت وفارقها خفة النشاط، ولهذا تجد الكسالى أكثر الناس هما وغما وحزنا، ليس لهم فرح ولا سرور، بخلاف أرباب النشاط والجد في العمل أي عمل كان، فإن كان النشاط في عمل هم عالمون بحسن عواقبه وحلاوة غايته كان التذاذهم بحبه ونشاطهم فيه أقوى.

وإنه ليس للقلب والروح ألذ ولا أطيب ولا أحلى ولا أنعم من محبة الله والإقبال عليه وعبادته وحده وقرة العين به، والأنس بقربه،

(1)

روضة المحبين (60، 61).

(2)

روضة المحبين (ص 59).

ص: 46

والشوق إلى لقائه ورؤيته، وإن مثقال ذرة من هذه اللذة لا يعدل بأمثال الجبال من لذات الدنيا ولذلك كان مثقال ذرة من إيمان بالله ورسوله يخلِّص من الخلود في دار الآلام فكيف بالإيمان الذي يمنع من دخولها

(1)

.

ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبه كلها لله تعالى وحده بحيث يحب الله بكل قلبه وروحه وجوارحه فليس لقلب العبد صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله، فلا يحب إلا لله.

كما في الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"

(2)

، فأخبر أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه، ومحبة الرسول هي من محبته، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبة الله، وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها، وتصدق هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه - وهو الكفر - بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد.

ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئا، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر كان الله

(1)

روضة المحبين (ص 165، 166، 168) بتصرف.

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار من الإيمان برقم (21)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب خال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان برقم (43).

ص: 47

أحب إليه من نفسه فالحديث دل على أن حلاوة الإيمان تتبع كمال محبة العبد لله، وهذه الحلاوة لا تحصل إلا بثلاثة أمور:

أ - تكميل هذه المحبة، 2 - تفريعها، 3 - دفع ضدها.

1 -

"فتكميلها": أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لابد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

2 -

و "تفريعها": أن يحب المرء لا يحبه إلا لله.

3 -

و "دفع ضدها" أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار

(1)

وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم، بل لا نظير لهذه المحبة كما لا مثيل لمن تعلقت به.

وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا وهذا لا نظير له في محبة المخلوق كائنا من كان.

ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركا شركا لا يغفره الله كما قال الله تعالى: {ومِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. والصحيح أن معنى الآية: والذين آمنوا أشد حبا لله من أهل الأنداد لأندادهم كما تقدم بيانه أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا، كما لا يماثل محبوبهم غيره. وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته، وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته

(2)

.

وكثير من الناس يدعي محبة الله تعالى من غير تحقيق لموجباتها قال بعض السلف: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 206).

(2)

روضة المحبين (199، 200).

ص: 48

فأنزل الله هذه الآية

(1)

{قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، وهذا لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله، وليس شيء يحبه الله إلا والرسول يدعو إليه، وليس شيء يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه، فصار محبوب الرب ومدعو الرسول متلازمين بل هذا هو هذا في ذاته، وإن تنوعت الصفات.

فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب، وليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه كدعوى اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين.

وهكذا أهل البدع فمن قال إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد اتباع الرسول والعمل بما أمر به، وترك ما نهى عنه، فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى بحسب ما فيه من البدع، فإن البدع ليست مما دعا إليه الرسول ولا يحبها الله، فإن الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله، فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر

(2)

.

فمحبة الله ورسوله وعباده المتقين تقتضي فعل محبوباته وترك مكروهاته والناس يتفاضلون في هذا تفاضلا عظيما، فمن كان أعظم نصيبا من ذلك كان أعظم درجة عند الله.

ومن كان أقل نصيبا كان ذلك سببا في نزول درجته ومنزلته، وأما من كان غير متبع لسبيل النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يكون محبا لله سبحانه وتعالى

(3)

؟، ومعلوم أنه لا يتم الإيمان والمحبة لله إلا بتصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر

(4)

.

(1)

مجموع الفتاوى (18/ 315).

(2)

مجموع الفتاوى (8/ 360).

(3)

مجموع الفتاوى (18/ 316).

(4)

مجموع الفتاوى (8/ 366).

ص: 49

فلابد لمحب الله من متابعة الرسول والمجاهدة في سبيل الله بل هذا لازم لكل مؤمن قال تعالى: {إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وجاهَدُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} [الحجرات] فهذا حب المؤمن لله.

وفد قال تعالى: {قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزْواجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ} [التوبة] فأخبر أن من كانت محبوباته أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله فهو من أهل الوعيد.

وقال في الذين يحبهم ويحبونه {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أذِلَّةٍ عَلى المُؤْمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلى الكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة: 54]

فمن تمام محبة الله ورسوله بغض من حاد الله ورسوله، والجهاد في سبيله لقوله تعالى:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهُمْ أوْ أبْناءَهُمْ أوْ إخْوانَهُمْ أوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمانَ وأيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنهُ} [المجادلة: 22].

وقال تعالى: {تَرى كَثِيرًا مِنهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْأنْفُسُهُمْ أنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وفِي العَذابِ هُمْ خالِدُونَ، ولَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ وما أُنْزِلَ إلَيْهِ ما اتَّخَذُوهُمْ أوْلِياءَ ولَكِنَّ كَثِيرًا مِنهُمْ فاسِقُونَ} [المائدة]، وقال تعالى:{قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إنّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وبَدا بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ العَداوَةُ والبَغْضاءُ أبَدًا حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ} .

فأمر المؤمنين أن يتأسوا بإبراهيم ومن معه حيث أبدوا العداوة

ص: 50

والبغضاء لمن أشرك حتى يؤمنوا بالله وحده

(1)

.

وثبات المحبة إنما يكون بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أعماله وأقواله وأخلاقه، فبحسب هذا الاتباع يكون منشأ هذه المحبة وثباتها وقوتها، وبحسب نقصانه يكون نقصانها.

وهذا الاتباع يوجب المحبة والمحبوبية معا، ولا يتم الأمر إلا بهما فليس الشأن في أن تحب الله، بل الشأن في أن يحبك الله، ولا يحبك الله إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرا وباطنا، وصدقته خبرا، وأطعته أمرا، وأجبته دعوة، وآثرته طوعا وفنيت عن حكم غيره بحكمه، وعن محبة غيره من الخلق بمحبته، وعن طاعة غيره بطاعته، وإن لم يكن ذلك فلا تتعن، وارجع من حيث شئت فالتمس نورا فلست على شيء

(2)

.

ومحبة الله ورسوله على درجتين:

واجبة، وهي درجة المقتصدين. ومستحبة، وهي درجة السابقين.

فالأولى: تقتضي أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، بحيث لا يحب شيئا يبغضه، كما قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ} وذلك يقتضي محبة جميع ما أوجبه الله تعالى، وبغض ما حرمه الله تعالى، وذلك واجب، فإن إرادة الواجبات إرادة تامة تقتضي وجود ما أوجبه الله، كما تقتضي عدم الأشياء التي نهى الله عنها وذلك مستلزم لبغضها التام.

فيجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله قال تعالى:{ذَلِكَ بِأنَّهُمْ كَرِهُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ فَأحْبَطَ أعْمالَهُمْ} [محمد]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 361).

(2)

مدارج السالكين (3/ 37).

ص: 51

مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة]، وقال تعالى:{والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ ومِنَ الأحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَه} [الرعد: 36].

وأما محبة السابقين بأن يحب ما أحبه الله من النوافل والفضائل محبة تامة، وهذه حال المقربين الذين قربهم الله إليه. فإذا كانت محبة الله ورسوله الواجبة تقتضي بغض ما أبغضه الله ورسوله، كما في سائر أنواع المحبة، فإنها توجب بغض الضد

"

(1)

(1)

قاعدة في المحبة لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 91، 92).

ص: 52

‌المطلب الرابع: المعنى الصحيح لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وانقسام الناس فيها:

اعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم على القلب واللسان والجوارح حقوقًا زائدة على مجرد التصديق بنبوته، كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أمورا زائدة على مجرد التصديق به سبحانه. وحرم سبحانه لحرمة رسوله - مما يباح أن يفعل مع غيره - أمورا زائدة على مجرد التكذيب بنبوته.

فمن تلك الحقوق حقه صلى الله عليه وسلم بأن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق كما دلت على ذلك الأدلة من القرآن والسنة

(1)

والتي سيأتي ذكرها. "فحب النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم واجبات الدين"

(2)

.

فهذه المحبة الواجبة له صلى الله عليه وسلم هي من محبة الله، فهي حب لله وفي الله، ذلك لأن محبة الله توجب محبة ما يحبه الله، والله يحب نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم، فوجب بذلك محبته حقا، فهي متفرعة عن محبة الله وتابعة لها واقتران ذكرها مع محبة الله في القرآن والسنة إنما هو للتنبيه على أهميتها وعظم منزلتها.

وبمقتضى هذه المحبة يجب موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم في حب ما يحبه وكره ما يكرهه، أي بتحقيق المتابعة له فيحب بقلبه ما أحب الرسول، ويكره ما كرهه الرسول، ويرضى بما يرضى الرسول، ويسخط ما يسخط الرسول، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض

(1)

الصارم المسلول (ص 420، 421) بتصرف يسير.

(2)

الرد على الأخنائي (ص 231).

ص: 53

وقد انقسم الناس في فهمهم لهذه المحبة إلى ثلاثة أقسام هي:

القسم الأول: أهل الإفراط.

القسم الثاني: أهل التفريط.

القسم الثالث: الذين توسطوا بين الإفراط والتفريط.

أما أصحاب القسم الأول: فهم الذين بالغوا في محبته بابتداعهم أمورًا لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ظنا منهم أن فعل هذه الأمور هو علامة المحبة وبرهانها.

ومن تلك الأمور احتفالهم بمولده، ومبالغتهم في مدحه وإيصاله إلى أمور لا تنبغي إلا لله تعالى ومن ذلك قول قائلهم:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي

فضلا وإلا فقل يا زلَّة القدم

(1)

وقوله:

فإن من جودك الدنيا وضرَّتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بعض علومه علم اللوح والقلم لأن "من" للتبعيض، فماذا للخالق جل وعلا؟

إضافة إلى صرف بعض أنواع العبادة له كالدعاء والتوسل والاستشفاع والحلف به والطواف والتمسح بالحجرة التي فيها قبره صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من البدعيّات والشركيّات التي تفعل بدعوى المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أمور لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها الصحابة رضوان الله عليهم الذين عُرفوا بإجلالهم وتقديرهم ومحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإضافة إلى ذلك فإن ما يقوم به هؤلاء هي أمور مخالفة

(1)

ديوان البوصيري (ص 238).

ص: 54

لما جاء به الشارع، بل هي أمور قد حذر الشارع من فعلها، ولقد صار حظ أكثر أصحاب هذا القسم منه صلى الله عليه وسلم مدحه بالأشعار والقصائد المقترنة بالغلو والإطراء الزائد الذي حذر منه الشارع الكريم، مع عصيانهم له في كثير من أمره ونهيه، فتجد هذا النوع من أعصى الخلق له صلوات الله عليه وسلامه

(1)

.

فيا ترى أي محبة هذه التي يخالف أصحابها شرع نبيهم، فيحلُّوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله، فكرهوا ما أحب الله ورسوله، وأحبوا ما كرهه الله ورسوله. فكيف تكون لهؤلاء محبة وهم قد ابتدعوا ما ابتدعوه من أمور لم تشرع في الدين، ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبرأ ممن ابتدع في هذا الدين فقال:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

والذي يجب على أمثال هؤلاء أن يعلموا أن محبة الرسول وتعظيمه إنما تكون بتصديقه فيما أخبر به عن الله، وطاعته فيما أمر به، ومتابعته، ومحبته وموالاته، لا بالتكذيب بما أرسل به، والإشراك به والغلو فيه، فهذا لا يعدو كونه كفرا به، وطعنا فيما جاء به ومعاداة له

(2)

.

كما يجب عليهم أن يفرقوا بين الحقوق التي يختص بها الله وحده ويبين الحقوق التي له ولرسله، والحقوق التي يختص بها الرسول، فقد ميز سبحانه بين ذلك في مثل قوله {وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا} [الفتح]، فالتعزير والتوقير للرسولوالتسبيح بكرة وأصيلا لله، وكما قال:{ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَخْشَ اللَّهَ ويَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفائِزُونَ} [النور]، فالطاعة لله ولرسوله، والخشية والتقوى لله وحده وكما يقول المرسلون:{أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ وأطِيعُونِ} [نوح].

فعلى هؤلاء أن يعلموا أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تنال بدعائه

(1)

تيسير العزيز الحميد (ص 186).

(2)

الرد على الأخنائي (ص 24، 25) بتصرف.

ص: 55

والاستغاثة به، فتلك أمور صَرْفُها لغير الله يعد شركا مع الله فالله وحده هو الذي يدعى ويستغاث به فهو رب العالمين، وخالق كل شيء، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهو القريب الذي يجيب الداع إذا دعاه وهو سميع الدعاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وسيأتي بإذن الله مزيد تفصيل لما وقع فيه أصحاب هذا القسم من الغلو في حقه، وذلك في الباب الثالث الذي عقدته للكلام عن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم.

أما أصحاب القسم الثاني: فهم أهل التفريط الذين قصروا في تحقيق هذا المقام فلم يراعوا حقه صلى الله عليه وسلم في وجوب تقديم محبته على محبة النفس والأهل والمال. كما لم يراعوا ماله من حقوق أخرى كتعزيره وتوقيره وإجلاله وطاعته واتباع سنته والصلاة والسلام عليه إلى غير ذلك من الحقوق العظيمة الواجبة له. والسبب في ذلك يعود إلى إحدى الأمور التالية أو إليها جميعا وهي:

أولا: إعراض هؤلاء عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وعن اتباع شرعه بسبب ما هم عليه من المعاصي، وإسرافهم في تقديم شهوات أنفسهم وأهوائهم على ما جاء في الشرع من الأوامر والنواهي.

ثانيا: اعتقاد الكثير أن مجرد التصديق يكفي في تحقيق الإيمان، وأن هذا هو القدر الواجب عليهم، ولذا تراهم يكتفون بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، دون تحقيق المتابعة له، وهذا هو حال أهل الإرجاء الذين يؤخرون العمل عن مسمى الإيمان ويقولون إن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، أو تصديق القلب وإقرار اللسان وما أكثرهم في زماننا هذا.

ثالثا: جهل الكثير منهم بأمور دينهم بما فيها الحقوق الواجبة له صلى الله عليه وسلم، والتي من ضمنها محبته صلى الله عليه وسلم فكثير من الناس - ولا حول ولا قوة إلا بالله - ليس لهم من الإسلام إلا اسمه وليس لهم من الدين إلا رسمه.

فالواجب على هؤلاء أن يعودوا إلى رشدهم وأن يقلعوا عن غيهم،

ص: 56

وما هم عليه من المعاصي والذنوب التي هي سبب نقصان إيمانهم وضعف محبتهم وبعدهم عما يقربهم إلى الله تعالى.

كما يجب عليهم أن يعلموا أن مجرد التصديق لا يسمى إيمانا بل الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان، فليس لأحد أن يخرج العمل عن مسمى الإيمان فلذلك يجب على كل من يؤمن بالله ورسوله أن يطيع الله ورسوله ويتبع ما أنزل الله من الشرع على رسوله صلى الله عليه وسلم، فبذلك يحصل الإيمان، فإن الاتباع هو ميزان الإيمان فبحسب اتباع المرء يكون إيمانه، فمتى ما قوي اتباعه قوي إيمانه والعكس بالعكس.

كما يجب عليهم معرفة أمور دينهم وبخاصة الواجب منها والتي من ضمنها معرفة ما للمصطفى صلى الله عليه وسلم من الحقوق الواجبة فلقد ذم الله تبارك وتعالى أولئك النفر الذين لم يعرفوا ما للنبي صلى الله عليه وسلم من حق في عدم رفع الصوت عند مخاطبته أو مناداته ووصفهم الله بأنهم لا يعقلون قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وراءِ الحُجُراتِ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات]، وفي السورة نفسها أثنى على الذينعرفوا حق المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال تعالى:{إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات]، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر]. وليعلم هؤلاء أنه لا يتحقق لهم إيمان ولا محبة إلا باتباعهم للمصطفى صلى الله عليه وسلم واقتدائهم بسنته والسير على نهجه وهداه.

أما القسم الثالث: فهم الذين توسطوا بين الطرفين السابقين أهل الإفراط وأهل التفريط. فأصحاب هذا القسم هم السلف من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم الذين آمنوا بوجوب هذه المحبة حكما وقاموا بمقتضاها اعتقادا وقولا وعملا. فأحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فوق محبة النفس والولد والأهل وجميع الخلق امتثالا لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم

ص: 57

فجعلوه أولى بهم من أنفسهم تصديقًا لقوله تعالى {النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ} [الأحزاب]، وأيقنوا بوجوب أن يوقى بالأنفس والأموال طاعة لقوله تعالى {ما كانَ لأهْلِ المَدِينَةِ ومَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرابِ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ولا يَرْغَبُوا بِأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120]. وقاموا بمقتضى هذه المحبة اعتقادا وقولا وعملا بحسب ما أو جب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من حقوق على القلب واللسان والجوارح من غير إفراط ولا تفريط. فآمنوا وصدقوا بنبوته ورسالته وما جاء به من ربه عز وجل. وقاموا - بحسب استطاعتهم - بما يلزم من طاعته والانقياد لأمره والتأسي بفعله والاقتداء بسنته إلى غير ذلك مما يعد من لوازم الإيمان برسالته.

قال تعالى: {وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا} [الحشر: 7] وامتثلوا لما أمر به سبحانه وتعالى من حقوق زائدة على مجرد التصديق بنبوَّته وما يدخل في لوازم رسالته.

فمن ذلك امتثالهم لأمره سبحانه بالصلاة عليه والتسليم قال تعالى: {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب]. وما أمر به سبحانه من تعزيره وتوقيره قال تعالى: {وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ} [الفتح: 9].

فتعزيره يكون بنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه صلى الله عليه وسلم.

وتوقيره: يكون بإجلاله وإكرامه وأن يعامل بالتشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار

(1)

.

ويدخل في ذلك مخاطبته بما يليق قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63].

وحرمة التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، وحرمة رفع الصوت

(1)

الصارم المسلول (ص 422).

ص: 58

فوق صوته وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل قال تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِبَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات].

فقاموا بهذه الأمور امتثالًا وطاعة لأمر الله تبارك وتعالى وأدوا ما فرض عليهم من الحقوق الأخرى التي يطول ذكرها والتي هي مذكورة في ثنايا هذا البحث. وهم مع قيامهم بهذه الأمور لم يتجاوزوا ما أمروا به فلم يغالوا ولم يبالغوا كما فعل أهل الإفراط الذين وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأمور لا تنبغي لغير الله كعلم الغيب، وصرفوا له أمورا لا يجوز صرفها لغير الله كدعائه والسجود له والاستغاثة به والطواف بقبره.

بل هم مؤمنون بأن ما أكرم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من النبوة والرسالة والرفعة وعظم القدر وشرف المنزلة، كل ذلك لا يوجب خروجه عن بشريته وعبوديته لله قال تعالى:{قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلّا بَشَرًا رَسُولًا} .

واعتقدوا أنه ليس من المحبة في شيء الغلو في حقه وقدره ووصفه بأمور قد اختص الله بها وحده، بل علموا أن في هذا مخالفة ومضادة لتلك المحبة ومناقضة لما أمر به سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لأمته:{قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًّا إلّا ما شاءَ اللَّهُ ولَوْ كُنْتُ أعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وما مَسَّنِيَ السُّوءُ إنْ أنا إلّا نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف].

وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلَّا اللَّهُ ومايَشْعُرُونَ أيّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل].

فكل غلو في حقه صلى الله عليه وسلم ليس من محبته في شيء بل يعد مخالفة لما

ص: 59

أمر به فيجب الابتعاد عن ذلك والحذر من عقوبته قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ} [النور] كما يعد مشاقة للرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {ومَن يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءَتْ مَصِيرًا} [النساء]، ولذا فإنه يجب الحذر من حال الغلاة الذين غلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم بما ابتدعوه من الأمور التي لم يشرعها الله في كتابه أو على لسان رسوله، بل حذر الله ورسوله منها.

وقد يظن البعض بأن السير على منهج أهل التوسط فيه انتقاص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم وغمط لحقه، والأمر على عكس ما يظنون فالذي يعتقده السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين أن الحق الواجب أن يثنى على النبي صلى الله عليه وسلم بما هو أهل له من الخصائص الثابتة له التي خصه الله بها والفضائل العظيمة التي شرفه بها والصفات الحقيقية والخلقية التي كان عليها وذلك للتعرف وتعريف الناس بفضله ومكانته وعظيم قدره عند الله وعند خلقه حتى يتأسى ويقتدى به في أقواله وأفعاله فهو الأسوة والقدوة عليه أفضل الصلاة والتسليم قال تعالى:{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللَّهَ واليَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب].

فمن صميم المحبة له صلى الله عليه وسلم الاشتغال بمعرفة سيرته بقصد التأسي والاقتداء بما كان عليه من كريم الخصال ومحاسن الأفعال والأقوال. وكذا معرفة شمائله ودلائل نبوته التي تعمق إيمان المسلم بصدق نبوته وتزيد في محبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم. ولقد اهتم السلف بهذه الجوانب وأولوها رعايتهم واهتمامهم فاعتنوا بتأليف المؤلفات التي أوضحت هذه الجوانب وأبرزتها.

فقد ألِّفت لهذا الغرض كتب الشمائل التي اعتنت بذكر صفاته وأحواله في عباداته وخلقه وهديه ومعاملاته

(1)

، كما ألفت كتب الدلائل

(1)

من تلك الكتب: كتاب الشمائل للترمذي، كتاب الشمائل لابن كثير.

ص: 60

التي اعتنت بدلائل وعلامات نبوته صلى الله عليه وسلم

(1)

.

هذا بالإضافة إلى ما كتب في الفضائل والخصائص التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم. كما اعتنوا بأصل هذه الجوانب جميعها ألا وهو سيرته الشريفة صلى الله عليه وسلم فقد ألفت لهذا الغرض المؤلفات التي اعتنت بحياته منذ ولادته إلى وفاته وضمت في جوانب ذلك الحديث عن نشأته وبعثته وما حدث له من الأمور قبل الهجرة وبعدها وما كان من أمر دعوته وغزواته وسراياه وما يتعلق بهذه الجوانب وغيرها مما هو داخل في سيرته

(2)

.

فقد دوِّنت هذه الجوانب جميعها وخدمت بقصد أن يتأسى الناس به صلى الله عليه وسلم وأن يتعرفوا على كمال ذاته صلى الله عليه وسلم وما تميز به من صفات، وتفرد به من أخلاق لتزيد تلك المعرفة من محبتهم له وتنميتها في قلوبهم ولتبعث في نفوسهم تعظيمه وإجلاله.

وبهذا يعلم أن أهل التوسط لم ينتقصوا من قدره صلى الله عليه وسلم بل حفظوا وحافظوا على كل ما من شأنه أن يضمن استمرارية محبة الأمة وتعظيمها له.

فهذه حال أهل التوسط وهذا هو منهجهم فمن أراد أن يسير على النهج القويم ويسلك الصراط المستقيم فعليه بسبيل أهل الإيمان وطريقهم ألا وهو الكتاب والسنة فذاك طريق الحق، والحق أحق أن يتبع.

وهذا منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، فقد كانت محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم تحكمها قواعد الكتاب والسنة، فما أمر به الشارع ائتمروا به وما نهى عنه الشارع انتهوا عنه، ولم يحكموا في هذه المحبة عواطفهم وأهواءهم كما

(1)

منها: كتاب دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، وكتاب دلائل النبوة للبيهقي.

(2)

ومن أشمل الكتب التي تحدثت عن سيرته صلى الله عليه وسلم كتاب السيرة لابن كثير.

ص: 61

فعل أهل الإفراط الذين زلت بهم أقدامهم بسبب غلوهم في حقه ذاك الغلو الذي دفعهم إليه تحكيم أهوائهم، وهو غلو ما أنزل الله به من سلطان بل إن نصوص الشرع تنص على تحريمه، وإنه ليصدق وصف أهل الإفراط بقوله تعالى:{ومَن أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ} .

فخلاصة القول في هذا الجانب أن المفهوم الصحيح لمحبته صلى الله عليه وسلم يتمثل في ذلك المفهوم الذي كان عليه سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن سار على نهجهم وسلك سبيلهم. ذلك المفهوم المستمد من آيات القرآن ونصوص السنة والذي لم يخرج عنهما قيد أنملة.

وما ذكرته ههنا عن هذا المفهوم الصحيح على سبيل الإجمال، وتفصيل ذلك مستوفى بين دفتي هذا البحث فمنه ما سبق بيانه ومنه ما سيأتي تفصيله ونسأل الله الإعانة على ذلك.

* * *

ص: 62

‌المبحث الثاني: الأدلة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

-

وفيه ثلاثة مطالب

‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

-.

لما كانت محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين كما أن التصديق أصل كل قول من أقوال الإيمان

(1)

.

ولما كانت هذه المحبة من الإيمان الواجب الذي لا يتم إيمان العبد إلا به. ولما كانت هذه المحبة هي إحدى الحقوق الواجبة للنبي صلى الله عليه وسلم على أمته، فقد جعل الله هذه المحبة فوق محبة الإنسان لنفسه وأهله وماله والناس أجمعين. كما نص على ذلك في كتابه الله العزيز:

أولا: قال تعالى: {قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزْواجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ} [التوبة].

فالآية نصَّت على وجوب محبة الله ورسوله وأن تلك المحبة يجب أن تكون مقدمة على كل محبوب، ولا خلاف في ذلك بين الأمة

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 48، 49).

(2)

تفسير القرطبي (8/ 95) بتصرف.

ص: 63

قال القاضي عياض: "كفى بهذه الآية حضًّا وتنبيهًا ودلالة وحجة على لزوم محبته، ووجوب فرضها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ} ثم فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله"

(1)

.

والمتأمل لهذه الآية يجد أن الأمر فيها لم يقتصر على وجود أصل المحبة لله ورسوله، بل لابد مع ذلك أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. وهذه المحبة لله تقتضي تحقيق العبودية له لأن العبادة هي الغاية التي خلق الله لها العباد من جهة أمره ومحبته ورضاه كما قال تعالى:{وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات] وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب، وهي اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته وكمال الذل لله ونهايته فالحب الخالي عن الذل والذل الخالي عن الحب لا يكون عبادة، وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين ولهذا كانت العبادة لا تصلح إلا لله، وهي وإن كانت منفعتها للعبد والله غني عنها فهي له من جهة محبته لها ورضاه بها

(2)

.

وأما محبة الرسول فتقتضي تحقيق المتابعة له صلى الله عليه وسلم وموافقته في حب المحبوبات وبغض المكروهات. ومحبته صلى الله عليه وسلم متفرعة عن محبة الله تعالى وتابعة لها. فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، ويرضى ما يرضى الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئًا

(1)

الشفا (2/ 563).

(2)

التحفة العراقية لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 12، 13) مطبوعة ضمن الرسائل المنيرية (بتصرف يسير).

ص: 64

يخالف ذلك، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة.

فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه فقال تعالى:{فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فاعْلَمْ أنَّما يَتَّبِعُونَ أهْواءَهُمْ ومَن أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]، وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمى أهلها "أهل الأهواء"

(1)

.

والذنوب تنقص من محبة الله تعالى بقدر ذلك، ولكن لا تزيل المحبة لله ورسوله إذا كانت ثابتة في القلب، ولم تكن الذنوب عن نفاق كما في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث حمار

(2)

الذي كان يشرب الخمر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقيم عليه الحد فلما كثر ذلك منه لعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"

(3)

وفيه دلالة على أنا منهيون عن لعنة أحد بعينه، وإن كان مذنبا، إذا كان يحب الله ورسوله

(4)

.

ثانيا: ومن الآيات التي يستدل بها على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]، فالآية دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين، وهذه الأولوية تتضمن أمورًا:

(1)

جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص 366) بتصرف يسير.

(2)

هذا لقبه، واسمه: النعيمان بن عمرو بن رفاعة الأنصاري، وقيل إن القصة وقعت لابنه عبد الله. فتح الباري (12/ 77)، والإصابة (3/ 540، 541).

(3)

أخرجه في كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة. انظر: فتح الباري (12/ 75).

(4)

كتاب قاعدة في المحبة لشيخ الإسلام ابن تيمية (72، 73) بتحقيق محمد رشاد سالم.

ص: 65

منها: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إلى العبد من نفسه، لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا يجب أن يكون الرسول أولى به منها، فبذلك يحصل له اسم الإيمان.

ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره، وإيثاره على ما سواه.

ومنها: أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلا، بل الحكم على نفسه للرسول صلى الله عليه وسلم يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.

ومن العجب أن يدعي حصول هذه الأولوية والمحبة التامة من كان سعيه واجتهاده ونصيبه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها والغضب والمحبة لها والرضا بها والتحاكم إليها، وعرض ما قاله الرسول عليها، فإن وافقها قبله، وإن خالفها التمس وجوه الحيل وبالغ في رده ليًّا وإعراضًا

(1)

.

ولذلك فإنه ينبغي على كل مسلم أن يعلم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست مجرد دعوى تتحقق بتلفظ اللسان فقط - كما يظن كثير من الناس - بل لابد لهذه الدعوى من البرهان الذي يثبت صدقها، وبرهان المحبة تحقيق الأولوية في شتى صورها وأشكالها فبحسب ذلك التحقيق تتحدد درجة المحبة وتتعين. وليعلم أنه لا يتم للعبد مقام الإيمان حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أجل إليه من نفسه فضلا عن ابنه وأبيه. فإذا كان هذا شأن محبة عبده ورسوله فكيف بمحبته سبحانه؟

(1)

الرسالة التبوكية (ص 29، 30) بتصرف يسير.

ص: 66

ثالثا: ومما يستدل به كذلك على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن الآية قد تضمنت وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مما يدخل في محبة الله محبة ما يحبه الله، والله يحب نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم فمن أجل ذلك وجبت علينا محبته. ومن المعلوم أن أصل حب أهل الإيمان هو حب الله، ومن أحب الله أحب من يحبه الله، وكل ما يحب سواه فمحبته تكون تبعا لمحبة الله، إذ ليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى.

فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما يُحَب لأجل الله ويطاع لأجل الله ويُتبع لأجل الله، وكذا الأنبياء والصالحون وسائر الأعمال الصالحة تحب جميعا لأنها مما يحب الله.

وبهذا يعلم تعين محبة النبي صلى الله عليه وسلم ووجوبها ولزومها.

هذا وقد جاء ذكر محبة الرسول مقترنًا بمحبة الله في قوله تعالى: {أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ} وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .. ".

وفي مواطن أخرى متعددة من السُّنَّة كما سيأتي.

وهذا الاقتران يدلل على مدى الصلة الوثيقة بين محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت محبة الرسول داخلة ضمن محبة الله تعالى أصلا، لكن إفرادها بالذكر مع أنها ضمن محبة الله فيه إشارة إلى عظم قدرها وإشعار بأهميتها ومكانتها.

رابعًا: ومن الأدلة قوله تعالى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران].

ففي هذه الآية إشارة ضمنية إلى وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله

ص: 67

تبارك وتعالى قد جعل برهان محبته تعالى ودليل صدقها هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الاتباع لا يتحقق ولا يكون إلا بعد الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان به لابد فيه من تحقق شروطه التي منها محبة النبي صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده"

(1)

.

فمحبته صلى الله عليه وسلم شرط في الإيمان الذي لا يتحقق الاتباع إلا بوجوده. ومن جهة أخرى فإن محبة الله مستلزمة لمحبة ما يحبه من الواجبات، واتباع رسوله هو من أعظم ما أوجبه الله تعالى على عباده وأحبه. وهو سبحانه أعظم شيء بغضًا لمن لم يتبع رسوله. فمن كان صادقا في دعوى محبة الله اتبع رسوله لا محالة، وكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

فتأمل هذا التلازم بين محبة الله تعالى ومحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان: باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان. انظر: فتح الباري (1/ 58) ح 14.

ص: 68

‌المطلب الثاني: الأدلة من السُّنَّة على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم

-.

تضافرت الأدلة من السنة على تأكيد وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار هذه المحبة من صميم الدين فلا يتم لأحد إيمان إلا بتحقيقها. بل إنه لا يكتفي بوجود أصلها فقط، إذ لابد مع ذلك من تقديم محبته بعد محبة الله على محبة النفس والوالد والولد والناس أجمعين.

ومما يدل على وجوب تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على محبة النفس.

أولا: ما جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"

(1)

.

فالحديث نص على وجوب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة النفس.

وأما الدليل على وجوب تقديم محبته على محبة الوالد والولد والناس أجمعين:

ثانيا: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده".

ثالثا: وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور: باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (11/ 523) ح 6632.

ص: 69

أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"

(1)

"فالمراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم" أي: لا يحصل له الإيمان الذي تبرأ به ذمته، ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب حتى يكون الرسول أحب إليه من أهله وولده والناس أجمعين، بل لا يحصل له ذلك حتى يكون الرسول أحب إليه من نفسه أيضا، كما تقدم في حديث عمر رضي الله عنه. فمن لم يكن كذلك، فهو من أصحاب الكبائر إذا لم يكن كافرا، فإنه لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، فأما إذا كان الفعل مستحبا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، ولو صح هذا لنفي عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج وحب الله ورسوله، لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أبو بكر ولا عمر، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه، لجاز أن ينفي عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل.

وعلى هذا فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وأكثر الناس يدعي أن الرسول أحب إليه مما ذكر، فلا بد حينئذ من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له، وإلا فالمدعي كاذب.

فإن القرآن بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان: باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، واللفظ له. انظر: فتح الباري (1/ 58) ح 15، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب بيان خصال من اتصف بها وجد حلاوة الإيمان (1/ 48).

ص: 70

بحبها كما قال تعالى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقال تعالى:{ويَقُولُونَ آمَنّا بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ وأطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وما أُولَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {إنَّما كانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [النور]، فنفي الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله سمعوا وأطاعوا.

فتبين أن هذا من لوازم الإيمان والمحبة، ولكن كل مسلم لابد أن يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام، كما أن كل مؤمن لابد أن يكون مسلما وكل مسلم لابد أن يكون مؤمنا، وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق، لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين، فإن الاستسلام لله ومحبته لا يتوقف على هذا الإيمان الخاص.

وهذا الفرق يجده الإنسان من نفسه ويعرفه من غيره، فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا في الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، وهم مسلمون ومعهم مطلق الإيمان، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين، ولا إلى الجهاد ولو شككوا لشكوا ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحق لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال.

وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق"

(1)

.

(1)

تيسير العزيز الحميد (415، 417).

ص: 71

رابعًا: وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله. وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". وفي هذا الحديث أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان. والمتأمل في هذه الأمور الثلاثة يرى أنها تتبع كمال محبة العبد لله

(1)

لأن محبة الله تكمل بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ذلك لأن محبة الله ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لابد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله.

ودفع ضدها: بأن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهة الإلقاء في النار

(2)

. والشاهد من الحديث معنا قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".

فمن المعلوم أن كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة، غير أن الناس يتفاوتون فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى وهم الذين جعلوا محبة الله ورسوله مقدمة على ما سواهما. ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى كمن كان مستغرقا في الشهوات محجوبا في الغفلات في أكثر الأوقات. ومنهم من هو بين هذين الأمرين.

فالحظ الأوفى هو بتحقيق هذه المرتبة من المحبة وهي أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما". وذلك بأن يتوجه بكليته نحو هذه الغاية

(1)

المقصود كمال المحبة الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة وليس المراد الكمال المستحب.

(2)

مجموع الفتاوى (10/ 206).

ص: 72

فيحب ما أحب الله ورسوله ويكره ما كرهه الله ورسوله، فيمتثل للأوامر ويجتنب النواهي ولا يتلقى شيئا من المأمورات والمنهيات إلا من مشكاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يسلك إلا طريقته، ويرضى بما شرعه حتى لا يجد في نفسه حرجًا مما قضاه، ويتخلَّق بأخلاقه، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان.

وأما قوله: "وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله" ففيه دلالة واضحة على أن حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب على المؤمن محبة الله ومحبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عمومًا.

وفي الحديث "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان"

(1)

.

ومتى كان حبُّ المرء وبغضُه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصا في إيمانه الواجب فيجب عليه التوبة من ذلك والرجوع إلى اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفس ومراداتها كلها

(2)

.

خامسًا: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة؟، قال: " وما أعددت للساعة؟ "، قال: حب الله ورسوله. قال: " فإنك مع من أحببت".

قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحًا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " فإنك مع من أحببت ". قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر

(1)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (5/ 60) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5/ 229).

(2)

جامع العلوم والحكم (ص 366، 367) بتصرف.

ص: 73

وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم"

(1)

.

سادسا: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أشد أمتي لي حبًّا ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله"

(2)

.

سابعا: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه، وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي"

(3)

.

ثامنًا: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه".

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ. قال: فتساورت لها

(4)

رجاء أن أُدعى لها. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأعطاه إياها

" الحديث

(5)

.

وعن سهل بن سعد

(6)

رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر:

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب: باب المرء مع من أحب، انظر: فتح الباري (10/ 557) ح 6171، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصله: باب المرء مع من أحب (8/ 42) واللفظ له.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب فيمن يود رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بأهله وماله. انظر: (8/ 148).

(3)

أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب: باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم (5/ 664) ح 3789، وقال الترمذي حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه. وأخرجه الحاكم في مستدركه (3/ 149، 150) وصححه، ووافقه الذهبي. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 211). والخطيب في تاريخ بغداد (4/ 160)، والطبراني في الكبير (10/ 341) ح 10664.

(4)

"تساورت لها": أي رفعت لها شخصي. النهاية (2/ 420).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (7/ 121).

(6)

سهل بن سعد الساعدي الأنصاري من مشاهير الصحابة، مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس عشرة سنة. وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، مات سنة إحدى وتسعين وقيل قبل ذلك. الإصابة (2/ 87).

ص: 74

"لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله". قال: فبات الناس يدوكون

(1)

ليلتهم: أيهم يُعطاها؟، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها. فقال:"أين علي بن أبي طالب؟ " فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال: "فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية .... " الحديث

(2)

.

(1)

أي يخوضون ويموجون فيمن يدفعها إليه. النهاية (2/ 145).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي: باب غزوة خيبر انظر: فتح الباري (7/ 476) ح 4210، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة: باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (7/ 121).

ص: 75

‌المطلب الثالث: ما جاء عن الصحابة في شأن محبته صلى الله عليه وسلم

-.

إن مما لا ريب فيه أن حظ الصحابة من حبه صلى الله عليه وسلم كان أتم وأوفر، ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة، وهم بقدره صلى الله عليه وسلم ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم فبالتالي كان حبهم له صلى الله عليه وسلم أشد وأكبر.

وإن المتأمل لما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم من كلام في هذا الخصوص يلمس صدق تلك المحبة وعظمها في نفوسهم.

فعن عمرو بن العاص

(1)

رضي الله عنه قال: "وما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه"

(2)

.

وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال:"كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ"

(3)

.

(1)

هو عمرو بن العاص بن وائل القرشي السهمي أسلم قبل الفتح، أحد دهاة العرب في الإسلام، وأحد القادة الفاتحين، فتح مصر وكان أميرا عليها، توفي سنة 43 هـ. الإصابة (3/ 2 - 3).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان: باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجره (1/ 8).

(3)

الشفا (2/ 568).

ص: 76

وقد سأل أبو سفيان بن حرب - وهو على الشرك حينذاك - زيد بن الدثنة

(1)

رضي الله عنه حينما أخرجه أهل مكة من الحرم ليقلتوه - وكان قد أسر يوم الرجيع -

(2)

أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك؟، قال:"والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي".

فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا

(3)

.

وعن الشعبي قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي ولولا أني آتيك فأراك لظننت أني سأموت وبكى الأنصاري. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبكاك؟ "، قال: ذكرت أنك ستموت ونموت فترفع مع النبيين ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك.

فلم يخبره النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء]، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أبشر"

(4)

(1)

زيد بن الدثنة - بفتح الدال وكسر المثلثة بعدها نون - ابن معاوية الأنصاري البياضي، شهد بدرا وأُحدًا، وكان في غزوة بئر معونة فأسره المشركون وقتلته قريش بالتنعيم. الإصابة (1/ 548).

(2)

الرجيع: - بفتح الراء وكسر الجيم - هو في الأصل اسم للروث، وسمي بذلك لاستحالته، والمراد هنا: اسم موضع من بلاد هذيل كانت الوقعة بالقرب منه. فتح الباري (7/ 379).

(3)

البداية لابن كثير (4/ 65)، وأخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 326) في أمر خبيب.

(4)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (ص 13) بتحقيق محمد بن عبد الوهاب العقيل، رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية. وأورده السيوطي في الدر المنثور وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر. انظر (2/ 182). والحديث له شاهد آخر من حديث عائشة مرفوعا بنحوه، أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (1/ 26). وأبو نعيم في الحلية (8/ 125)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 7): "رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة، وله شاهد آخر من حديث ابن عباس مرفوعا بنحوه، أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 86) ح رقم (12559)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 7) وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط. وله شاهد من طريق آخر عن سعيد بن جبير مرسلا. أخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 163). وطرق هذا الحديث يقوي بعضها بعضا. والله أعلم.

ص: 77

وقال سعد بن معاذ

(1)

رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "يا نبي الله ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كان الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك"، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير

(2)

.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد جاض

(3)

أهل المدينة جيضة وقالوا: قتل محمد، حتى كثرت الصوارخ

(4)

في ناحية

(1)

سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري الأشهلي، سيد الأوس، صحابي جليل، شهد بدرا، ورمي بسهم يوم الخندق فعاش بعد ذلك شهرا ثم مات، وذلك سنة خمس من الهجرة. الإصابة (2/ 35).

(2)

أورده ابن هشام في السيرة (2/ 192) وعزاه لابن إسحاق، وأورده ابن كثير في البداية (3/ 268).

(3)

يقال: جاض في القتال: إذا فر. وجاض عن الحق: عدل.

وأصل الجيض: الميل عن الشيء، ويروى بالحاء والصاد المهملتين النهاية (1/ 324).

(4)

جمع صارخ: وهو المصوت يعلمه بأمر حادث يستعين به عليه أو ينعي له ميتا. النهاية (3/ 21).

ص: 78

المدينة. فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاستقبلت

(1)

بأبيها وابنها وزوجها وأخيها لا أدري أيهم استقبلت به أولا فلما مرت على أحدهم قالت: من هذا؟، قالوا: أبوك أخوك زوجك ابنك. تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، يقولون: أمامك حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا أبالي إذا سلمت من عطب

(2)

.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نُعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك

(3)

جلل"

(4)

.

ولقد حكَّم الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفسهم وأموالهم فقالوا: "هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بما شئت وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه، نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك"

(5)

.

وما هذا الإيثار الذي تضمنته هذه الكلمات إلا تعبيرا عما تكنه نفوسهم من المحبة له صلى الله عليه وسلم واسمع إلى قول قيس بن صرمة

(1)

أي أخبرت بمقتل أبيها، وابنها، وزوجها، وأخيها.

(2)

أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 115) وقال: رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه محمد بن شعيب ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.

(3)

جلل؛ أي: هينة ويسيره، والكلمة من الأضداد تكون للحقير والعظيم النهاية (1/ 289).

(4)

رواه ابن هشام في السيرة (3/ 43). وعنه أورده ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 47) وأخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 302) بنحوه.

(5)

روضة المحبين (ص 277).

ص: 79

الأنصاري

(1)

إذ يقول:

ثوى في قريش بضع عشرة حجة

يذكر لو يلقى حبيبا مؤاتيا

ويعرض في أهل المواسم نفسه

فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا

فلما أتانا واستقرت به النوى

وأصبح مسرورا بطيبة راضيا

بذلنا له الأموال من حِلِّ مالنا

وأنفسنا عند الوغى والتأسيا

نعادي الذي عادى من الناس كلهم

جميعا وإن كان الحبيب المصافيا

ونعلم أن الله لا رب غيره

وأن رسول الله أصبح هاديا

(2)

(1)

قيس بن صرمة، وقيل صرمة بن قيس، وقيل قيس بن مالك بن صرمة وقيل غير ذلك، الأوسي الأنصاري، أدرك الإسلام شيخا كبيرا فأسلم، وقد قال هذه الأبيات حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة. الإصابة (2/ 176 - 177)

(2)

روضة المحبين (ص 277).

ص: 80

‌الفصل الثاني: علامات محبته صلى الله عليه وسلم والثواب المترتب عليها

وفيه مبحثان

ص: 81

‌المبحث الأول: علامات محبته صلى الله عليه وسلم

-

ويشتمل على تمهيد وستة مطالب

‌تمهيد:

سَنَّ الشارع الكريم علامات ودلائل لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، شرعت ليتسنى من خلالها معرفة من يصدق في دعوى محبته للمصطفى صلى الله عليه وسلم، فكل دعوى لابد لها من برهان، يدل على صدقها قال تعالى:{قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [البقرة].

ومن أجل ذلك فإن على كل مسلم أن يكون على علم بتلك الدلائل والعلامات، وأن يعمل بها ويحققها، وأن لا يرغب عنها أو يستبدل بها أمورا أخرى مبتدعة لم يرد فيها دليل من الشرع.

فبتلك العلامات والدلائل تظهر حقيقة المحبة، فمتى ما كان التحقيق لتلك العلامات أكبر كانت درجة المحبة أرفع وأعظم والعكس بالعكس.

ولذلك تجد أن الصادق في محبته للنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تظهر عليه تلك العلامات والدلائل وتراه يسعى جاهدا إلى تحقيقها حتى ينال بذلك منزلة عظيمة من منازل الإيمان.

ومن أهم تلك العلامات ما يلي:

ص: 83

‌المطلب الأول: من علامات محبته اتباعه والأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم

-.

فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به والسير على نهجه والتمسك بسنته واقتفاء آثاره واتباع أقواله وأفعاله وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في العسر واليسر والمنشط والمكره، هو أول علامات محبته صلى الله عليه وسلم، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم هو من تظهر عليه هذه العلامة فيكون متبعا للرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا ومؤثرا لموافقته في مراده بحيث يكون فعله وقوله تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غِشٌّ لأحد فافعل"، ثم قال لي:"يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة"

(1)

.

فالمحب للرسول صلى الله عليه وسلم هو من حرص على التمسك بسنته وإحيائها وذلك باستعمال السنة وامتثال الأوامر واجتناب النواهي في الأقوال والأفعال، وتقديم ذلك على هوى النفس وملذاتها كما قال تعالى:{قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزْواجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} .

فإحياء السنة واتباع المصطفى دليل محبته كما هو دليل محبة الله عز وجل، قال تعالى:{قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله}

(1)

أخرجه الترمذي في سننه، كتاب العلم: باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (5/ 46) ح 2678 وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه.

ص: 84

فهذه الآية نزلت عندما ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية.

وعلى هذا فإن محبة الله ورسوله تقتضي فعل المحبوبات وترك المكروهات، ولا يتصور أن يكون الشخص محبا لله ورسوله وهو معرض عن اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ومن أجل ذلك فإن الناس يتفاضلون في درجات محبتهم تفاضلا عظيما، فمن كان منهم أعظم نصيبا في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته فهو أعظم درجة عند الله، ومن نقصت درجة اتباعه فلا شك أن ذلك سيؤثر على المحبة ويضعف درجتها.

وهذا لا يعني أن المخالفة لشيء من السنة ينافي المحبة منافاة كلية، فالمخالفة إذا لم تصل إلى درجة الكفر فهي تنقص من المحبة ولكن لا تخرج صاحبها عن دائرتها والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي لعن شارب الخمر وقال ما أكثر ما يؤتى به، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"

(1)

. فدل الحديث على أن وقوع المخالفة حتى وإن كانت كبيرة من الكبائر لا يعني ذلك انتفاء وجود محبة الله ورسوله في ذلك الشخص المخالف. والواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم محبة توجب له الإتيان بما وجب عليه منه.

فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلا.

والواجب عليه كذلك أن يكره ما كرهه الله ورسوله كراهة توجب الكف عما حرم عليه منه.

فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كره تنزيها كان ذلك فضلا

(2)

.

(1)

تقدم تخريجه (65).

(2)

جامع العلوم والحكم (ص 365).

ص: 85

"فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ويرضى ما يرضي الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض.

فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله، أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة"

(1)

.

(1)

جامع العلوم والحكم (ص 366).

ص: 86

‌المطلب الثاني: من علامات محبته الإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم

-.

ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم الإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم، فمن أحب شيئا أكثر من ذكره، ودوام الذكر سبب لدوام المحبة وزيادتها ونمائها.

وفي هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه الله في ضمن تعداده للفوائد والثمرات الحاصلة من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: "أنها سبب لدوام محبته للرسول صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به، لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه تضاعف حبه له وتزايد شوقه إليه واستولى على جميع قلبه. وإذا أعرض عن ذكره وإحضاره وإحضار محاسنه بقلبه نقص حبه من قلبه ولا شيء أقر لعين العبد المحب من رؤية محبوبه ولا أقر لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه، فإذا قوي هذا في قلبه جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه"

(1)

.

والمقصود بالذكر هنا الذكر المشروع وعلى رأسه الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر الله تعالى الوارد في قوله {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .

وامتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا" الحديث

(2)

.

(1)

جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام (ص 248).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل له الوسيلة (2/ 4).

ص: 87

وعن أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟، قال:"ما شئت". قلت: الربع؟، قال:"ما شئت، وإن زدت فهو خير". قلت: النصف؟، قال:"ما شئت، وإن زدت فهو خير". قلت: الثلثين؟، قال:"ما شئت، وإن زدت فهو خير". قال: أجعل لك صلاتي كلها. قال: "إذا تكفى همك، ويغفر لك ذنبك"

(1)

.

قال ابن القيم: "سئل شيخنا أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى عن تفسير هذا الحديث فقال: كان لأبي بن كعب دعاء يدعو به لنفسه فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: " هل يجعل له منه ربعه صلاة عليه فقال: إن زدت فهو خير لك، فقال له: النصف، فقال إن زدت فهو خير لك، إلى أن قال: أجعل لك صلاتي كلها: أي أجعل دعائي كله صلاة عليك، قال: إذا تكفى همك ويغفر ذنبك، لأن من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة صلى الله بها عشرا، ومن صلى الله عليه كفاه همه وكفر له ذنبه هذا معنى كلامه"

(2)

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 136). وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب صفة يوم القيامة، باب (23)، (4/ 636، 637) ح (2457) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والحاكم في المستدرك (2/ 421) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وأخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 8)(ح 14)، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 256). والحديث في إسناده" عبد الله بن محمد بن عقيل "قال ابن القيم: عبد الله بن محمد بن عقيل احتج به الأئمة الكبار كالحميدي وأحمد، وإسحاق، وعلي بن المديني، والترمذي وغيرهم، والترمذي يصحح هذه الترجمة تارة ويحسنها تارة. جلاء الأفهام (ص 66) وقال الألباني في الصحيحة (954):"إسناده حسن من أجل الخلاف المعروف في ابن عقيل".

(2)

جلاء الأفهام (ص 32).

ص: 88

والشاهد من الحديث أن من محبته صلى الله عليه وسلم مداومة الصلاة والسلام عليه والثناء عليه بما هو أهل له من الأوصاف والخصال الحميدة التي وصف بها صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث الآخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي"

(1)

.

فذكره شُرع لإظهار محبته واحترامه وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم وهذا من علامات محبته، ولقد ورد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرت جلودهم وبكوا، وكذلك كان كثير من التابعين من يفعل ذلك محبة له وشوقا إليه

(2)

.

ويدخل ضمن الذكر المشروع تعداد فضائله وخصائصه وما وهبه الله من الصفات والأخلاق والخلال الفاضلة، وما أكرمه به من المعجزات والدلائل، وذلك من أجل التعرف على مكانته ومنزلته والتأسي بصفاته وأخلاقه، وتعريف الناس وتذكيرهم بذلك، ليزدادوا إيمانا ومحبة له صلى الله عليه وسلم ولكي يتأسوا به. ولا محظور في التمدح بذلك نثرًا وشعرًا ما دام أن ذلك في حدود المشروع الذي أمر به الشارع الكريم.

ولا يتجاوز نصوص القرآن والسنة، كأن يتجاوز به حدود بشريته فيصرف له شيء من الأمور الخاصة بالله عز وجل كما فعل بعض الغلاة في أشعارهم ومدائحهم للنبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 201). وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"رغم أنف رجل" وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب (5/ 551)(ح 3546)، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 163). وأخرجه ابن حبان في صحيحه انظر موارد الظمآن رقم (388) وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 549) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، أخرجه الطبراني في الكبير (1/ 139/ 2) وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 177) حديث صحيح.

(2)

الشفا (2/ 573).

ص: 89

وكذلك فإن من الأمور المنهي عنها الذكر المقترن بالغناء وأدوات اللهو والطرب والرقص، وهذا الذكر البدعي هو الذي عليه حال أرباب الطرق والتصوف، وقد وافقهم على ذلك كثير من عوام الناس ظنا منهم أن فعل مثل هذه الأمور هو الطريق إلى تحقيق محبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حقيقة فعله يعد محادة لله ورسوله فقد تبرأ صلى الله عليه وسلم ممن أحدث في الدين حيث قال:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".

وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الموضوع في الباب الثالث بإذن الله.

ص: 90

‌المطلب الثالث: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم تمني رؤيته والشوق إلى لقائه.

ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم محبة رؤيته والشوق إلى لقائه وتمني ذلك ولو كان ذلك مقابل بذل المال والأهل. وهذه العلامة نص عليها قوله صلى الله عليه وسلم: "من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله"

(1)

. فهو صلى الله عليه وسلم وصف أهل هذه العلامة من أمته التي ستأتي من بعده بأنهم من أشد الناس محبة له صلى الله عليه وسلم، وهذه الأمنية قدرها حق قدرها أهل الإيمان الذين ترسخت في قلوبهم محبة النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنهم من شدة محبتهم له صلى الله عليه وسلم أن جالت في خواطرهم وأحاسيسهم هذه الأمنية العظيمة حتى إن الواحد منهم لا يبالي أن يدفع ثمنا لهذه الأمنية العزيزة على نفسه ما عنده من الأهل والمال ليرى النبي صلى الله عليه وسلم، ولسان حالهم ومقالهم يقول مع ذلك كله ما أعظم الأمنية وما أرخص الثمن.

فهذه علامة من علامات محبته يتصف بها أهل الإيمان الصادق الراسخ الذين آمنوا بوجوب تقديم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبة الولد والوالد والناس أجمعين بل على كل أمر من أمور الدنيا ومظاهرها فيا لها من نفوس سمت وسما بها إيمانها لمثل هذا المطلب وهذه الأمنية العزيزة على قلب كل مؤمن عرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم وحقه وعظيم منزلته.

فجدير بهذه النفوس أن تنال شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لها بأنها أشد القلوب محبة له.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب فيمن يود رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بأهله وماله (8/ 145).

ص: 91

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد في يده ليأتين على أحدكم يوم لا يراني، ثم لأن يراني معهم أحب إليه من أهله وماله"

(1)

.

ولقد كانت هذه السمة وهي الشوق إلى لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته موجودة في الصحابة رضوان الله عليهم ويشهد لذلك ما جاء في حديث الأشعريين أنهم عند قدومهم إلى المدينة كانوا يرتجزون فيقولون:

غدا نلقى الأحبة محمد وحزبه

(2)

وروي أن بلالا رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، نادت امرأته واحزناه. فقال: واطرباه، غدا ألقى الأحبة محمد وحزبه

(3)

.

وقد روي مثل ذلك عن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل: باب فضل النظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتمنيه (7/ 96).

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (3/ 105، 155) والبيهقي في الدلائل (5/ 351).

(3)

الشفا (2/ 569).

(4)

المصدر السابق (2/ 569، 573).

ص: 92

‌المطلب الرابع: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم محبة من أحبهم النبي صلى الله عليه وسلم

-

إن من علامات محبته صلى الله عليه وسلم والتي يجب على المؤمن الأخذ بها، محبته لمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هو بسببه من آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم أجمعين فمن أحب شيئًا أحب من يحبه

(1)

.

فإن من محبة الله وطاعته: محبة رسوله وطاعته.

ومن محبة رسوله وطاعته: محبة من حب الرسول، وطاعة من أمر الرسول بطاعته

(2)

.

أ - قال البيهقي: "ودخل في جملة محبته صلى الله عليه وسلم حب آله

(3)

.

وإن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول صلى الله عليه وسلم

(4)

.

فعن زيد بن أرقم

(5)

رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى "خما" بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: "أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين:

(1)

الشفا (2/ 573).

(2)

حقوق آل البيت (ص 19).

(3)

شعب الإيمان للبيهقي (1/ 282).

(4)

مجموع الفتاوى (3/ 407).

(5)

زيد بن أرقم بن زيد، صحابي جليل، لم يشهد بدرًا ولا أحدًا لصغر سنه، وأول مشاهده الخندق وقيل المريسيع، مات بالكوفة سنة ست وستين، وقيل ثمان وستين. الإصابة (1/ 542).

ص: 93

أوليهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال:"وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي".

فقيل لزيد: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قيل: ومن هم؟ قال: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قيل: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم

(1)

.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لما أنزل عليه {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم كيف يصلون عليه فقال:"قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"

(2)

. فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حق له ولآله دون سائر الأمة

(3)

.

وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "أرقبوا

(4)

محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته"

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (/ 122، 123).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. فتح الباري (1/ 152)(ح 6357). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (2/ 16).

(3)

جلاء الأفهام (ص 174).

(4)

أرقبوا: المراقبة للشيء المحافظة عليه، يقول: احفظوه فيهم فلا تسيئوا إليهم. فتح الباري (7/ 79).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصحابة، باب مناقب قرابة الرسول كله صلى الله عليه وسلم.

فتح الباري (7/ 78)(ح 3713).

ص: 94

وعنه أيضا أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي"

(1)

.

"فآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها، فإن الله جعل لهم حقا في الخمس والفيء وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم "

(2)

.

"فالصلاة على آله هي من تمام الصلاة عليه وتوابعها، لأن ذلك مما تقر به عينه، ويزيده الله به شرفا وعلوًا، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا"

(3)

.

"وكذلك علينا احترامهم وإكرامهم والإحسان إليهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرًا وحسبًا ونسبًا.

ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعليّ وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين"

(4)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية

(5)

"وآل محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين حرمت عليهم الصدقة

(6)

هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما من العلماء".

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم. فتح الباري (7/ 77، 78)(ح 3712)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نورث وما تركناه صدقة"(5/ 155، 156).

(2)

مجموع الفتاوى (3/ 407).

(3)

جلاء الأفهام (ص 175).

(4)

تفسير ابن كثير (4/ 113).

(5)

مجموع الفتاوى (3/ 407).

(6)

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال:

القول الأول: هم الذين حرمت عليهم الصدقة. وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء:

أحدها: أنهم بنو هاشم، وبنو المطلب، وهذا مذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه.

والثاني: أنهم بنو هاشم خاصة وهذا مذهب أبى حنيفة، والرواية عن أحمد، واختيار ابن القاسم صاحب مالك.

والثالث: أنهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى بني غالب، ويدخل فيهم بنو المطلب، وبنو أمية، وبنو نوفل ومن فوقهم إلى بني غالب، وهذا اختيار أشهب من أصحاب مالك حكاه صاحب "الجواهر" عنه، وحكاه اللخمي في "التبصرة" عن أصبغ، ولم يحكه عن أشهب.

وهذا القول في الآل أعني - أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة هو منصوص الشافعي وأحمد والأكثرين، وهو اختيار جمهور أصحاب أحمد والشافعي.

القول الثاني: أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة، حكاه ابن عبد البر في التمهيد.

القول الثالث: أن آله صلى الله عليه وسلم أتباعه إلى يوم القيامة حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم، وأقدم من روى عنه هذا القول جابر بن عبد الله، ذكره البيهقي عنه، ورواه عن سفيان الثوري وغيره، واختاره بعض أصحاب الشافعي. حكاه عنه أبو الطيب الطبري في تعليقه، ورجحه الشيخ محي الدين النووي في شرح مسلم واختاره الأزهري.

القول الرابع: أن آله صلى الله عليه وسلم هم الأتقياء من أمته حكاه حسين والراغب وجماعة". ثم ذكر رحمه الله حجج هذه الأقوال وبين ما فيها من الصحيح والضعيف إلى أن قال: "والصحيح هو القول الأول، ويليه القول الثاني. أما القول الثالث والرابع فضعيفان". جلاء الأفهام (ص 164 - 177).

ص: 95

والأحاديث في فضائلهم ومناقبهم كثيرة جدًّا، وهي مبسوطة في الصحيحين والمسند والسنن وغيرها من كتب الحديث.

ب - وكذلك فإن من أصول أهل السنة أنهم يتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويحفظون لهن فضلهن، وحقوقهن.

فقد أبانهن الله من نساء العالمين في الفضيلة فقال تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ} [الأحزاب: 32]. وجعلهن أمهات المؤمنين فقال تعالى: {النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ وأزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]

(1)

.

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 154) وتفسير القرطبي (1/ 123، 177).

ص: 96

وجعل حرمة الزوجية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم باقية ما بقين فقال تعالى: {وما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ولا أنْ تَنْكِحُوا أزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدًا} فعلينا من حفظ حقوقهن بعد ذهابهن الصلاة عليهن مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

فعن أبي حميد الساعدي

(1)

رضي الله عنه أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلى عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"

(2)

.

فالصلاة على أزواجه تابعة لاحترامهن

(3)

. وكذلك الاستغفار لهن، وذكر مدائحهن، وفضائلهن وحسن الثناء عليهن، وما على الأولاد في أمهاتهم اللاتي ولدنهم وأكثر، وذلك لمكانتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزيادة فضلهن على غيرهن من نساء هذه الأمة

(4)

.

وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم هن من دخل بهن من النساء وهن إحدى عشرة:

1 -

خديجة بنت خويلد رضي الله عنها

(5)

.

(1)

أبو حميد الساعدي، اختلف في اسمه فقيل عبد الرحمن بن سعد وقيل غير ذلك، صحابي مشهور، شهد أُحدًا وما بعدها، وتوفي في آخر خلافة معاوية أو أول خلافة يزيد. الإصابة (41/ 47).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم. فتح الباري (1/ 169)(ح 6360) وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (2/ 17).

(3)

جلاء الأفهام (ص 200)

(4)

شعب الإيمان للبيهقي (1/ 282 - 284).

(5)

وهي أولهن، وقد تزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وبقيت معه إلى أن أكرمه الله برسالته فآمنت به ونصرته فكانت له وزير صدق وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين في الأصح ومن خصائصها رضي الله عنها:

1 -

أنه لم يتزوج عليها غيرها.

2 -

أن أولاده كلهم منها إلا إبراهيم فإنه من سريته مارية.

3 -

أنها خير نساء الأمة. جلاء الأفهام (ص 180).

ص: 97

2 -

عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن أبيها

(1)

.

3 -

سودة بنت زمعة رضي الله عنها

(2)

.

4 -

حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أبيها

(3)

.

5 -

أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما

(4)

.

(1)

تزوجها وهي بنت ست سنين قبل الهجرة بسنتين وقيل لثلاث وبنى بها بالمدينة أول مقدمه في السنة الأولى، وهي بنت تسع سنين، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة.

ومن خصائصها رضي الله عنها:

1 -

أنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قيل ومن الرجال؟ قال: "أبوها" متفق عليه (خ/ 4358)(م/ 2384).

2 -

أنه لم يتزوج بكرا غيرها. جلاء الأفهام (ص 182 - 185).

(2)

سودة بنت زمعة بن قيس. تزوجها بعد خديجة، وكبرت عنده وأراد أن يطلقها فوهبت يومها لعائشة رضي الله عنها فأمسكها وهذا من خواصها: أنها آثرت حرمها لعائشة تقربًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحبًا له. جلاء الأفهام (ص 182).

(3)

حفصة بنت عمر بن الحطاب، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد عائشة، وقيل إنها ولدت قبل المبعث بخمسة سنين، وكانت قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم عند حصن بن حذافة وكان ممن شهد بدرًا ومات بالمدينة. وكانت رضي الله عنها صوامة قوامة.

الإصابة (4/ 362، 360) وجلاء الأفهام (ص 185).

(4)

واسمها رملة بنت صخر بن حرب، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة، فتنصر بالحبشة، وأتم الله لها الإسلام، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة، وأصدقها عنه النجاشي. وهي التي أكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس عليه أبوها لما قدم المدينة، وقالت: إنك مشرك، ومنعته من الجلوس عليه. الإصابة (4/ 298 - 300).

ص: 98

6 -

أم سلمة رضي الله عنها

(1)

.

7 -

زينب بنت جحش رضي الله عنها

(2)

.

8 -

زينب بنت خزيمة الهلالية رضي الله عنها

(3)

.

9 -

جويرية بنت الحارث رضي الله عنها

(4)

.

10 -

صفية بنت حيي رضي الله عنها

(5)

.

(1)

واسمها هند بنت أبي أمية، وكانت قبله عند أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وتوفيت سنة اثنتين وستين ودفنت بالبقيع، وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم موتا، وقيل: بل ميمونة.

الإصابة (4/ 407 - 408) وجلاء الأفهام (ص 195 - 197).

(2)

زينب بنت جحش: وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب، وكانت قبل عند مولاه زيد بن حارثة، فطلقها فزوجها الله إياه من فوق سبع سموات وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقول:"زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماواته" توفيت بالمدينة ودفنت بالبقيع. الإصابة (4/ 307 - 308).

(3)

زينب بنت خزيمة الهلالية، تزوجها سنة ثلاث من الهجرة، وكانت قبله عند عبد الله بن جحش فاستشهد بأحد، وكانت تسمى أم المساكين، لكثرة إطعامها المساكين، ولم تلبث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا شهرين أو ثلاثة ثم توفيت رضي الله عنها. الإصابة (4/ 309 - 310) وجلاء الأفهام (ص 198).

(4)

جويرية بنت الحارث المصطلقية، وكانت سبيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها سنة ست من الهجرة وتوفيت سنة ست وخمسين، وهي التي أعتق المسلمون بسببها مائة أهل بيت من الرقيق، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك من بركتها على قومها. الإصابة (4/ 257 - 258) وجلاء الأفهام (ص 198).

(5)

صفية بنت حيي: من ذرية هارون بن عمران، أخي موسى، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع، فإنها سبيت من خيبر، وكانت قبله تحت كنانة بن أبي الحقيق، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفيت سنة ست وثلاثين، وقيل سنة خمسين.

من خصائصها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك تحت نبي". الإصابة (4/ 337 - 338) وجلاء الأفهام (ص 198 - 199).

ص: 99

11 -

ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها

(1)

.

فهؤلاء جملة من دخل لهن من النساء وهن إحدى عشرة.

ج - ومن محبته صلى الله عليه وسلم محبة أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين:

قال البيهقي: "ويدخل في جملة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب أصحابه؟ لأن الله عز وجل أثنى عليهم ومدحهم فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ومَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فَآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنهُمْ مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا} [الفتح].

وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأثابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح].

وقال تعالى: {والسّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإحْسانٍ رضي الله عنهم ورَضُوا عَنْهُ} [التوبة].

وقال تعالى: {والَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال].

فإذا أنزلوا هذه المنزلة استحقوا من جماعة المسلمين أن يحبوهم ويتقربوا إلى الله عز وجل بمحبتهم لأن الله تعالى إذا رضي عن أحد أحبه

(1)

ميمونة بنت الحارث الهلالية: تزوجها بسرف، وبنى بها بسرف، وماتت بسرف، وهي علي سبعة أميال من مكة، وهي آخر من تزوج من أمهات المؤمنين، وتوفيت سنة ثلاث وستين، وهي خالة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهي خالة خالد بن الوليد أيضا. الإصابة (4/ 397 - 399) وجلاء الأفهام (ص 199).

ص: 100

وواجب على العبد أن يحب من يحب مولاه

(1)

.

فمن واجب الأمة نحو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتهم والترضي عنهم والدعاء لهم كما أمرنا الله تعالى بقوله: {والَّذِينَ جاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخْوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالأِيمانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر].

فهم قوم اختارهم الله وشرفهم بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وخصهم في الحياة الدنيا بالنظر إليه وسماع حديثه من فمه الشريف ونصرته والذب عنه والجهاد معه في سبيل الله ونشر دين الإسلام.

وبعد وفاته كانوا هم الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الأمة، فقد بلغوا عن رسول الله ما بعثه الله به من النور والهدى على أكمل الوجوه وأتمها ونشروا هذا الدين في شتى بقاع الأرض: وجاهدوا في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم، وذبوا عن هذا الدين بسنانهم ولسانهم فكان لهم بذلك الأجر العظيم والمنزلة العالية عند ربهم وعند نبيهم وعند المسلمين الموحدين جميعًا.

وكيف لا يكونون كذلك وهم خير قرون هذه الأمة كشهادة النبي صلى الله عليه وسلم.

فعن عمران بن حصين

(2)

رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" قآل عمران: لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنين أو ثلاثة

الحديث

(3)

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن

(1)

شعب الإيمان للبيهقي (1/ 287).

(2)

عمران بن حصين بن عبيد الخزاعي، صحابي جليل، أسلم عام خيبر وغزا عدة غزوات وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح مات سنة اثنتين وخمسين وقيل سنة ثلاث وخمسين من الهجرة. الإصابة (/ 27).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كناب الشهادات، باب لا يشهد على جور إذا أشهد.

فتح الباري (/ 258 - 259)(ح 2651)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين بلونهم (7/ 183 - 184).

ص: 101

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم

" الحديث

(1)

.

ومما يدل على عظم فضل الصحبة وجلالة شأنها ما جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه"

(2)

فهذا الحديث يدل على أن شأن الصحبة لا يعدله شيء.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغضهم"

(3)

ولقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يدل على فضل الصحابة رضوان الله عليهم ووجوب تعظيمهم وإكرامهم وكونهم خير قرون هذه

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على جور إذا أشهد.

فتح الباري (5/ 259)(ح 2652)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (7/ 184 - 185).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذا خليلًا". فتح الباري (7/ 21)(ح 3673)، وأخرجه مسلم في صحيحه من حدث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم (7/ 188).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار من الإيمان. انظر: فتح الباري (7/ 113) ح 3784 واللفظ له. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته

(1/ 65).

ص: 102

الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد عقد البخاري ومسلم في صحيحيهما وكذا أهل السنن وغيرهم، كل منهم كتابًا لفضائل الصحابة أوردوا فيه الكثير من الأحاديث الواردة في فضل الصحابة رضوان الله عليهم.

وعن معتقد السلف نحو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أبو زرعة الرازي

(1)

: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق. وذلك أن الرسول حق والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة. وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة"

(2)

.

وقال الخطيب البغدادي

(3)

: "عدالة الصحابة ثابتة ومعلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن، فمن ذلك:

قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ} [آل عمران: 110].

وقوله تعالى: {وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

وهذا اللفظ وإن كان عامًا فالمراد به الخاص وقيل: هو وارد في الصحابة دون غيرهم.

وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأثابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح].

(1)

هو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد الرازي، أبو زرعة من أئمة حفاظ الحديث، ذكر أنه يحفظ مائة ألف حديث، توفي سنة (64 هـ). تهذيب التهذيب (7/ 30 - 34).

(2)

الكفاية في علم الرواية (ص 97).

(3)

أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، أحد الحفاظ المؤرخين المقدمين وصاحب مصنفات من أشهرها تاريخ بغداد، توفي سنة (463 هـ). الأعلام (1/ 172).

ص: 103

وقوله تعالى: {والسّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإحْسانٍ رضي الله عنهم ورَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100].

وقوله تعالى: {والسّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة].

وقوله تعالى: {يا أيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الأنفال].

وقوله تعالى: {لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورِضْوانًا ويَنْصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ والَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدّارَ والأِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ ولَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر].

في آيات يكثر إيرادها، ويطول تعدادها.

ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة مثل ذلك،، وأطنب في تعظيمهم وأحسن الثناء عليهم ....

وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له

على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين.

وهذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء

(1)

.

(1)

الكفاية في علم الرواية (ص 93 - 96).

ص: 104

وقال ابن حجر: "اتفق أهل السنة على أن جميع الصحابة عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة"

(1)

.

وقال صاحب "العقيدة الطحاوية": "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من بغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإحسان، وبغضهم كفر وطغيان"

(2)

وقال البيهقي: "وإذا ظهر أن حب الصحابة من الإيمان فحبهم أن يعتقد فضائلهم ويعترف لهم بها ويعرف لكل ذي حق منهم حقه، ولكل ذي عنا في الإسلام عناه ولكل ذي منزلة عند الرسول صلى الله عليه وسلم مزلته، وينشر محاسنهم ويدعو بالخير لهم ويقتدي بما جاء في أبواب الدين عنهم ولا يتتبع زلاتهم وهفواتهم ولا يتعمد تهجين أحد منهم ببث ما لا يحسن عنه، ويسكت عما لا يقع ضرورة إلى الخوض فيه فيما كان بينهم وبالله التوفيق"

(3)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى:{والَّذِينَ جاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخْوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالأِيمانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر].

وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".

ويقبلون ما جاء به الكتاب والسُّنَّة والإجماع: من فضائلهم ومراتبهم فيفضلون من أنفق من قبل الفتح - وهو صلح الحديبية - وقاتل،

(1)

الإصابة (1/ 17).

(2)

شرح العقيدة الطحاوية (ص 528).

(3)

شعب الإيمان للبيهقي (ص 297).

ص: 105

على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر - وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر -:"اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"

(1)

وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة

(2)

كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، بل قد رضي الله عنه ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.

ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة كالعشرة وغيرهم من الصحابة.

ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن غيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنهم، كما دلت، عليه الآثار وكما أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تقديم عثمان في البيعة

ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم"

(3)

.

وبعد: فهذه نماذج من أقوال السلف ومعتقدهم تجاه الصحابة رضوان الله عليهم تبين مدى اعترافهم بفضلهم ومراتبهم ومنازلهم التي وردت بها نصوص القرآن والسنة، فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، نحبهم ونحفظ لهم فضلهم ونحترم لهم تلك المنزلة التي أنزلوا إياها، ونرجوا أن يحشرنا الله معهم وأن يجمعنا بهم في الجنة على سرر متقابلين.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدرا. فتح الباري (7/ 304 - 305)(ح 3983)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أهل بدر ( .. / 168 - 169).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب الشجرة أهل بيعة الرضوان (7/ 169).

(3)

مجموع الفتاوى (3/ 152 - 153).

ص: 106

‌المطلب الخامس: من علامات محبته صلى الله عليه وسلم بغض من أبغض الله ورسوله

ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته، وابتدع في دينه واستثقاله كل أمر يخالف شريعته

(1)

.

قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهُمْ أوْ أبْناءَهُمْ أوْ إخْوانَهُمْ أوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمانَ وأيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنهُ ويُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها رضي الله عنهم ورَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ألا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} [المجادلة].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "على المؤمن أن يعادي في الله، ويوالي في الله. فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه - وإن ظلمه - فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية.

قال تعالى: {وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ فَإنْ فاءَتْ فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ وأقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات].

فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم.

فالمؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك.

والكافر تحب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك.

(1)

الشفا (2/ 575).

ص: 107

فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب والإكرام والثواب لأوليائه. ويكون البغي والإهانة والعقاب لأعدائه. وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة. استحق الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير. واستحق المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر. فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والخيانة، فيجتمع له من هذا وهذا: كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة

(1)

.

فالناس باعتبار الحب والبغض والولاء والبراء ينقسمون إلى ثلاثة أصناف:

‌الصنف الأول: من يحب جملة:

وهو من آمن بالله ورسوله، وقام بوظائف الإسلام ومبانيه العظام علما وعملا واعتقادا، وأخلص أعماله وأفعاله وأقواله لله، وانقاد لأوامره وانتهي عما نهي الله عنه ورسوله، وأحب في الله، ووالى في الله وأبغض في الله، وعادى في الله وقدم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد كائنا من كان.

‌الصنف الثاني: من يحب من وجه ويبغض من وجه.

وهو المسلم الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا.

فيحب ويوالي على قدر ما معه من الخير، ولا يبغض أكثر مما يصلح وإذا أردت الدليل على ذلك: فهو في قصة ذلك الرجل من الصحابة والذي كان يشرب الخمر، فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه

(1)

مجموع الفتاوى (28/ 208 - 209).

ص: 108

رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"

(1)

.

‌الصنف الثالث: من يبغض جملة.

وهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره وأنه كله بقضاء الله وقدره، وأنكر البعث بعد الموت، أو أنكر أحد أركان الإسلام الخمسة، أو أشرك الله في عبادته أحدا من الأنبياء والأولياء والصالحين، وصرف لهم نوعا من أنواع العبادة: كالحب والدعاء والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر والإنابة والذل والخضوع والخشية والرغبة والرهبة والتعلق.

أو ألحد في أسمائه وصفاته واتبع غير سبيل المؤمنين، وانتحل ما كان عليه أهل البدع والأهواء المضلة، وكذلك من قامت به نواقض الإسلام العشرة أو أحدها"

(2)

.

فعلى هذا التقسيم تتضح صورة الحب والبغض، والولاء والبراء.

فيوالي ويحب المؤمن المستقيم على دينه ولاء وحبا كاملين.

ويتبرأ ويعادي الكفرة والملحدين والمشركين، والمرتدين ويعادون عداوة وبغضًا كاملين.

وأما من خلط عملا صالحا وآخر سيئا فيوالي بحسب ما عنده من الإيمان، ويعادى بحسب ما هو عليه من الشر.

(1)

تقدم تخريجه (ص 65).

(2)

إرشاد الطالب لابن سحمان (ص 19).

ص: 109

‌المطلب السادس: التحذير من علامات المحبة البدعية

يظن البعض من الناس أن له الحق في التعبير عن محبته للنبي صلى الله عليه وسلم بما يراه ويستحسنه من الأمور، من غير أن يراعي في ذلك قواعد الشرع وأصوله وهذا الصنف من الناس تراه منساقا مع عواطفه جاعلا لها حق التشريع في هذا الدين. فتراه يغلو في حق النبي صلى الله عليه وسلم حتى كمل به إلى بعض مراتب الألوهية. وتراه يبتدع في دين الله أمورا تصل إلى حد العظائم. وتراه يقدم على الشركيات والكفريات. وكل ذلك بدعوى، محبة النبي صلى الله عليه وسلم ولقد حكم الله عز وجل بالضلال على هذا الصنف فقال تعالى:{ومَن أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50].

فالمتبعون لعواطفهم وأهوائهم المحكمون لها، لابد وأن يكونوا نابذين لهدي الله المتمثل في الكتاب والسنة، واللذين يشتملان على قواعد هذا الدين وأصوله والتي من ضمنها تحريم الابتداع في الدين والإحداث فيه، وتحريم الغلو بشتى مظاهره وأشكاله، وتحريم الشرك بمختلف صوره وألوانه.

ولذلك حكم الله بضلالهم وغوايتهم وبعداهم عن الصراط المستقيم. فحري بأمثال هؤلاء أن يقلعوا عن غيهم، وأن يتحكموا في عواطفهم كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.

فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، وتحقيقها يكون عن طريق ما شرع في هذا الدين، لا عن طريق البدع وما تهواه النفوس فالبدع قد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم منها

بقوله: "إياكم ومحدثات الأمور" وهذا الحديث يعني في هذا المقام أن ليس لأحد الحق في التعبير عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بما

ص: 110

جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلم أن يدرك هذا الأمر وليحذر من سبل أهل الضلال والانحراف.

قال تعالى: {وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

وإن الناظر في أحوال أولئك المفتونين بالبدع تحت دعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنهم قد رغبوا في تلك الأمور المبتدعة لأنها أمور لا مشقة فيها على النفس فجعلوها بدلا مما يجب عليهم من الأعمال والطاعات التي تشق على نفوسهم الضعيفة المريضة، فالمحبة عند هؤلاء تنحصر في مظاهر التعظيم اللساني المليء بالغلو والشرك والمقترن بالاجتماع على موائد الطعام والذي لا يخلو في بعض الأحيان من المنكرات والمحرمات.

ويحق للمرء أن يتساءل أي محبة هذه التي تجيز لهؤلاء أن يبتدعوا في دين الله بزيادة أو نقص أو تغيير أو تبديل؟ لا شك أن فعل هذه الأمور يناقض المحبة ويضادها جملة وتفصيلا، ولا عذر لفاعلها فيما أقدم عليه وإن كان فعل ذلك بحسن نية، فحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين، فلقد كان جل ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية، فمازالوا على حالهم تلك حتى صارت أديانهم على غير ما جاءت به رسلهم.

ومما يؤسف له أن كثيرا من الناس يتمسك بتلك البدع تقليدا لمشائخه أو عشيرته أو أهل بلده. إلى غير ذلك من العصبيات الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي أعمت بصائر الكثير منهم وأضلتهم عن سبيل الله.

ولقد كان من الحري بهؤلاء أن يقتدوا بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا أشد الأمة محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأشدهم تعظيما له وكانوا

ص: 111

أحرص الناس على الخير ممن جاء بعدهم، والذين بذلوا أنفسهم وأموالهم في هذا السبيل. فلقد كان من سنن الصحابة رضوان الله عليهم حرصهم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم يؤمنون بأن منشأ محبته وثباتها قوتها إنما يكون بمتابعته صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وسلوكه وتصرفاته.

كما أنهم يؤمنون بأن الابتداع في الدين يضاد تلك المحبة وينافيها ولذلك لم يعهد عنهم أنهم ابتدعوا أشياء من عند أنفسهم لإظهار محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم كما ابتدع المتأخرون ما ابتدعوه من البدع تحت ستار المحبة والتعظيم له صلى الله عليه وسلم. فإذا كان هذا هو شأن الصحابة فيما أثر عنهم من الآثار وهم المشهود لهم بأنهم أشد الأمة وأفضلها محبة وتعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم، أفلا يسع من جاء بعدهم ما وسعهم، فيتركوا تلك الأمور المبتدعة التي أحدثت من بعدهم، والتي لم يأذن بها الله ولم تكن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن لم يتسع له ما اتسع للصحابة رضي الله عنهم، فلا وسع الله عليه في الدنيا ولا في الآخرة.

فعن قتادة قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"

(1)

.

* * *

(1)

جامع بيان العلم وفضله (2/ 119).

ص: 112

‌المبحث الثاني: ثواب محبته صلى الله عليه وسلم

-

ويشتمل على تمهيد ومطلبين:

‌تمهيد

يؤمن المسلم أنه بفعله للطاعات وسائر العبادات يفعل ذلك كله ابتغاء مرضاة الله ورجاء ما عنده من الثواب العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة.

ذلك لأن كل عمل صالح مشروع له ثمرة، فالله سبحانه كريم يجود على أهل طاعته وعبادته، ويمن عليهم بفضله في فيضاعف لهم درجات أعمالهم. قال تعالى:{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحْسَنَ ما عَمِلُوا ويَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ واللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} [النور].

وقال تعالى: {مَنْ جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها} [الأنعام: 160].

وقال تعالى: {مَنْ جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنها} [القصص: 84].

والمحبة من أفضل أعمال العباد وأحبها إلى الله عز وجل، فبها يذوق العبد حلاوة الإيمان كما في الحديث "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"

(1)

.

(1)

تقدم تخريجه (ص 47).

ص: 113

وبها يستكمل الإيمان كما في الحديث: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان"

(1)

.

وهي من أفضل الإيمان كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان؟ قال: "أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله في الله وتعمل لسانك في ذكر الله

"

(2)

.

فهذه الأحاديث تبين اكتساب المحبة لهذه الدرجة الرفيعة من الدين فمن أعظم الواجبات على المؤمن محبة الله ومحبة ما يحبه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وما يحبه من الأشخاص كالأنبياء والملائكة وصالحي بني آدم وموالاتهم، وبغض ما يبغضه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. مع وجوب تقديم محبة الله تعالى على جميع المحاب وإيثار مرضاته على حظوظ النفس.

ولقد دلت النصوص على عظم ثواب المحبة ومدى نفع ثمرتها.

والحديث هنا عن ثمرة المحبة يتناول محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك لما بين الأمرين من التلازم.

فمحبة الله لا تتم إلا بمحبة ما يحبه الله وكراهة ما يكرهه.

ولا طريق إلى معرفة ما يحبه وما يكرهه إلا بإتباع ما أمر به واجتناب ما نهي عنه، فصار من لوازم محبته سبحانه وتعالى محبة رسوله صلى الله عليه وسلم وتصديقه ومتابعته، ولهذا قرن الله محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزْواجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ} [التوبة].

وورد مثل ذلك في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث: "ثلاث من كن

(1)

أخرجه أبو داود في كتاب السنة: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه (4681) وصححه الألباني في صحيح الجامع (5/ 229).

(2)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 247).

ص: 114

فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما

" الحديث

(1)

. ومما تجدر الإشارة إليه كذلك أن كلا من الحب، والإيمان والتصديق هي حقوق مشتركة بين الله ورسوله. فالله سبحانه وتعالى كما أوجب الإيمان به على خلقه أوجب كذلك عليهم الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ} [النور: 62].

قال تعالى: {

أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ} [التوبة: 24].

وكذا الحال بالنسبة للتصديق قال تعالى: {قالُوا هَذا ما وعَدَنا اللَّهُ ورَسُولُهُ} [الأحزاب: 22].

وقد نظم ابن القيم رحمه الله تعالى هذا في نونيته حيث قال:

والحب والإيمان والتصديق

لا يختص بل حقان مشتركان

(2)

وثمار محبة الله ورسوله منها ما هو دنيوي، ومنها ما هو أخروي. وسنعرض لكلا النوعين ليعلم المسلم عظم فضل الله على عباده المحبين له ولرسوله.

(1)

سبق تخريجه (ص 47).

(2)

شرح النونية لابن عيسى (2/ 347) وتكميلا للفائدة: فإن الحق الذي يختص الله به على عباده دون سواه هو: عبادته بأمره لا بهوى النفس، وذلك كالحج والصلاة والذبح والنذر واليمين والتوبة والتوكل والإنابة والرجاء ونحوها من العبادات فهي حق لله لا يشاركه فيه غيره.

وأما الحق الذي يختص بالرسول صلى الله عليه وسلم فهو التعزير والتوقير كما في قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9].

انظر: شرح النونية لابن عيسى (2/ 348).

ص: 115

‌المطلب الأول: ثمار المحبة في الحياة الدنيا

من أعظم ثمار المحبة في هذه الحياة الدنيا هو ما تورثه في الجوارح من فعل للطاعات والقربات مما يرضي الله عز وجل ويكسب محبته.

فمتى ما تمكَّنت المحبة من القلب واستغرق بها واستولت عليه لم تنبعث الجوارح إلا إلى رضا الرب وطاعته، وصارت النفس مطمئنة حينئذ بإيرادة مولاها عن مرادها وهواها، فمن أحب الله لم يكن شيء عنده آثر من رضاه.

وهذا هو معنى الحديث الإلهي "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها" الحديث

(1)

.

فالمحبة الصادقة شجرة في القلب عروقها الذل للمحبوب، وساقها معرفته، وأغصانها خشيته، وورقها الحياء منه، وثمرتها طاعته، ومادتها التي تسقيها ذكره

(2)

.

فالمحبة تملأ القلب ذلًّا لله وتكسبه معرفة وخشية وخوفا وحياء من الله تبارك وتعالى، لتثمر بذلك طاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وخشيته في السر والعلانية، وثمار الطاعة لا تعد ولا تحصى وأعظمها: محبة الله للعبد وهذا أشرف مقصود وأرفع درجة وأعظم مقام يناله العبد. ثوابا وثمرة لمحبته لله عز وجل

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب التواضع. فتح الباري (11/ 340 - 341)(ح 6502).

(2)

روضة المحبين (ص 409).

ص: 116

وقد يظن البعض أن الغاية هي أن تحب لله، ولكن الأمر خلاف ذلك، فالغاية أن يحبك الله عز وجل وليست الغاية أن تحب الله عز وجل، فالمؤمن يسعى لهذه الغاية ويتمنى تحققها والفوز بها قال تعالى:{قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].

فالآية هنا إشارة إلى ثمرة المحبة {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} قال ابن القيم عند هذه الآية "فجعل سبحانه متابعة رسوله سببا لمحبتهم له، وكون العبد محبوبا لله أعلى من كونه محبا لله، فليس الشأن أن تحب الله ولكن الشأن أن يحبك الله"

(1)

.

وقد وصف الله سبحانه نفسه في كتابه العزيز بأنه يحب عباده المؤمنين، ويحبونه، وأخبر أنهم أشد حبا لله {والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. ووصف نفسه بأنه الودود {وهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ} [البروج]، والودود هو الحبيب، والود خالص الحب، فهو يود عباده المؤمنين ويودونه

(2)

.

وقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم] قال بعض السلف في تفسيرها يحبهم ويحببهم إلى عباده

(3)

.

فالفوز بمحبة الله فيه الخير كله فعن أنس بين مالك رضي الله عنه قال: قالرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترقا عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشى، ولئن سألني لأعطنه

(1)

روضة المحبين ص (266).

(2)

روضة المحبين (409).

(3)

روضة المحبين ص (412).

ص: 117

ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه"

(1)

.

فتأمل كمال الموافقة في الكراهة كيف اقتضى كراهة الرب تعالى لمساءة عبده بالموت لما كره العبد مساخط ربه، وكمال الموافقة كيف اقتضى موافقته في قضاء حوائجه وإجابة طلباته وإعاذته مما استعاذ به، كما قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم:"ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"

(2)

.

وتأمل "الباء" في قوله "فبي يسمع وبي، يبصر وبي يبطش وبي يمشي" كيف تجدها مبينة لمعنى قوله "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به

الخ" فإن سمع سمع بالله، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به، وهذا تحقيق قوله تعالى:{إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل] وقوله تعالى: {وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} [العنكبوت] وقوله تعالى: {وأنَّ اللَّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ} [الأنفال].

وتأمل كذلك كيف جعل محبته لعبده متعلقة بأداء فرائضه، والتقرب إليه بالنوافل بعدها لا غير، وفي هذا تعزية لمدعي محبته بدون ذلك أنه ليس من أهلها، وإنما معه الأماني الباطلة والدعاوي الكاذبة

(3)

.

ومما يناله العبد كذلك من محبة الله له محبة من في السماء له ووضع القبول له في أهل الأرض.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله العبد

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع برقم (6502).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب باب (7). فتح الباري (8/ 524 - 525)(ح 4788)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الرضاع، باب القسم بين الزوجات (4/ 174).

(3)

روضة المحبين (ص 411).

ص: 118

نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض"

(1)

.

وفي لفظ لمسلم: "إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه" قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء. قال: ثم يوضع له القبول في الأرض

" الحديث

(2)

.

وفي لفظ آخر لمسلم عن سهيل بن أبي صالح قال: كنا بعرفة فمر عمر بن عبد العزيز وهو على الموسم فقام الناس ينظرون إليه. فقلت لأبي: يا أبت إني أرى الله يحب عمر بن عبد العزيز.

قال: وما ذاك؟

قلت: لما له من الحب في قلوب الناس.

فقال: إني سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الحديث

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب المحبة من الله تعالى.

انظر: فتح الباري (10/ 461)(ح 6040).

(2)

أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده (8/ 40، 41).

(3)

أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده (8/ 41).

ص: 119

‌المطلب الثاني: ثواب المحبة في الآخرة

أما على صعيد الثواب الأخروي فمن أعظم ما ورد في ذلك تلك البشارة التي وردت على لسان النبي كلها والتي استبشر لها الصحابة رضوان الله عليهم ولم يفرحوا بشيء بعد الإسلام أشد من فرحهم بها.

فعن أنس بن مالك ? قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: "وما أعددت للساعة؟ "

قال: حب الله ورسوله. قال: "فإنك مع من أحببت".

قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم "فإنك مع من أحببت".

قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم

(1)

.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحب قوما ولما يلحق بهم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المرء مع من أحب"

(2)

.

ولا شك أن هذه البشرى عامة للأمة جميعها بمعنى أن من تحققت فيه محبة الله ورسوله فهو مستحق لتلك البشرى، ولكن مما يجدر

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب: باب المرء مع من أحب، برقم (6171)، ومسلم في كتاب البر والصلة: باب المرء مع من أحب برقم (2639) واللفظ له.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله.

انظر: فتح الباري (10/ 557)(ح 6169)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب المرء مع من أحب (8/ 43) واللفظ له.

ص: 120

التنبيه عليه ههنا مرة أخرى أنه لا يكفي مجرد دعوى محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم باللسان فقط بل لابد من تحقيق المتابعة له، وكل ما يوصل إلى تحقيق المحبة، فمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة لابد أن يصاحبها اجتهاد ممن يطلبها، وإن كان ليس من شرط ذلك الاجتهاد في الطاعة أن يصل إلى درجة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ومما يشهد لهذا ويؤكده ما ورد في حديث ربيعة بن كعب الأسلمي

(1)

أنه قال: كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: "سل".

فقلت: يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: "أو غير ذلك؟ ". قلت: هو ذاك. قال: "فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود"

(2)

.

فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابي الذي سأل مرافقته في الجنة أن يكثر من صلاة النافلة، وفي هذا دليل على أن العمل مطلوب ممن أراد أن يصل إلى هذه الأمنية العظيمة وأن مجرد تمني القلب وقول اللسان لا يكفي لتحقيق ذلك.

ومما يؤكد أن نوال شرف مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة متعلق باتباع شريعته وطاعته، قوله تعالى:{ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء]. ومن الثواب الأخروي الذي يناله المحب لله ولرسوله هو غفران الذنوب وهذا ما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].

فأخبر سبحانه في هذه الآية عن مغفرته لذنوب الذين حققوا محبته ومحبة نبيه على الوجه المطلوب منهم، وهذه منة امتن الله بها على أهل

(1)

رببعة بن كعب بن مالك الأسلمي، صحابي، كان من أهل الصفة مات سنة ثلاث وستين من الهجرة. الإصابة (1/ 498)

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه (2/ 52).

ص: 121

محبته، إذ وعدهم إن هم اتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم وأطاعوه أنه يجزيهم على فعلهم ذلك، ويكرمهم بشرف محبته لهم ويتوج ذلك الشرف العظيم والمنزلة العالية بأن يمحو عنهم خطاياهم ويكفر عنهم سيئاتهم التي اكتسبوها.

ولا شك أن حصول هذين الأمرين أي "المحبة" و "المغفرة" هما غاية ما يتمنى المؤمن الفوز به، فأي فوز أعظم وأكبر من الفوز برضى الله وغفرانه.

فرضى الله هو سبيل كل نعيم دائم مقيم، وغفرانه هو الأمان من كل عذاب أليم. ومن ثمرات محبته صلى الله عليه وسلم ما ورد في ثواب ذكره الذي هو أحد علامات ودلائل محبته فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرًا"

(1)

والصلاة معناها هنا الثناء، فهي ثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم وإرادة من الله أن يعلي ذكره ويزيده تعظيما وتشريفا والجزاء من جنس العمل، فمن أثنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم جزاه الله من جنس عمله بأن يثني عليه ويزيد تشريفه وتكريمه

(2)

. فهذه ثمرة من ثمرات الذكر الذي هو علامة من علامات المحبة.

ومما ورد كذلك حديث أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟

قال: "ما شئت". قلت: الربع؟

قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير". قلت: النصف؟

قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير". قلت: الثلثين؟

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (2/ 17).

(2)

جلاء الأفهام (ص 79).

ص: 122

قال: "ما شئت وإن زدت فهو خير".

قال: أجعل لك صلاتي كلها.

قال: "إذا تُكفى همَّك، ويغفر لك ذنبك"

(1)

.

والعبارة الأخيرة هي موطن الشاهد ههنا، فهذا من الثواب الحاصل من المحبة لأن من أحب شيئا أكثر من ذكره، "وكما أن الذكر من نتائج الحب، فالحب أيضا من نتائج الذكر، فكل منهما وشمر الآخر، وزرع المحبة إنما يسقى بماء الذكر، وأفضل الذكر ما صدر عن المحبة

(2)

.

وقد سبق بيان معنى الحديث

(3)

.

وعلى العموم فإن ثواب كل طاعة من الطاعات إنما هو في الحقيقة ثمرة للمحبة وذلك لأن المحبة أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين.

(1)

أخرجه الترمذي في كتاب صفة يوم القيامة برقم (2457)، والإمام أحمد في مسند (5/ 136) والحاكم (2/ 421)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 256) وحسنه الألباني في الصحيح برقم (954).

(2)

روضة المحبين (ص 265).

(3)

انظر (ص 327).

ص: 123

‌الباب الثاني: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم

-

وفيه: ثلاثة فصول

ص: 125

‌الفصل الأول بيان عظيم قدره صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند ربه عز وجل

ويشتمل على: تمهيد، وثلاث مباحث

ص: 127

‌تمهيد:

إن من الأهمية بمكان - قبل الشروع في توضيح الحق الواجب للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن تعظيمه وتوقيره - عقد هذا الفصل في بيان عظيم قدره صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند ربه عز وجل وذلك لاستعراض - جملة طيبة من المكارم والخصائص التي امتن الله بها على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والتي تدلل على تشريف الله عز وجل وتكريمه لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتظهر تفضيل الله له على العالمين من الجن والناس أجمعين، بل والملائكة المقربين.

فلابد لكل مسلم صادق في إسلامه من أن يتعرف على تلك الخصائص والفضائل، إذ إن هذه المعرفه تنير القلوب وتبصرها وتزيدها إيمانا وحبا وتعظيما للنبي المصطفي صلى الله عليه وسلم.

ولهذه الزيادة - بلا شك - ثمرتها في شحذ الهمم ودفعها لاتباعه والإقتداء به والسير على نهجه والتمسك بسنته واقتفاء أثره، ولزوم هديه.

والمتأمل في آيات الكتاب العزيز ونصوص السنة النبوية الصحيحة يجد الكثير من الأدلة التي تبين مكانة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعظم قدره عند ربه عز وجل، فقد حباه الله وامتن عليه وأكرمه بخصائص في الدنيا والآخرة دلت على علو قدره، ورفعة مكانته، وسمو منزلته عند الخالق تبارك وتعالى.

فقد قال تعالى في محكم التنزيل {وأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء].

ص: 129

ففي هذه الآية يمتن الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بما أسبغ عليه من الفضائل التي هي المناقب والمراتب التي أعطاه الله إياها وميزه بها عن بقية أنبيائه ورسله وسائر خلقه.

فالله سبحانه فضَّل بعض الرسل على بعض فقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ورَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ} [البقرة: 253].

فكان لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم النصيب الأوفر من هذا الفضل فقد خصه الله وميزه بخصائص ومناقب دنيوية وأخروية فضل بها على سائر الأنبياء ومن سواهم من البشر.

وسأتعرض لبعض هذه الخصائص على وجه الاختصار وذلك حتى يتبين للقارئ عظم قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه عز وجل.

* * *

ص: 130

‌المبحث الأول: بيان بعض الخصائص التي خص الله، بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا

‌1 - أخذ العهد له صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.

من الأمور التي تدل على عظيم قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه ما أخذه الله من العهد له صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام على أنه لو بعث صلى الله عليه وسلم وهم أحياء أو أحد منهم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به ويتبعوه وينصروه. قال تعالى {وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أأقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكُمْ إصْرِي قالُوا أقْرَرْنا قالَ فاشْهَدُوا وأنا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ} [آل عمران].

وقد روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم في تفسير هذه الآية قولهما: "ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه"

(1)

.

فهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء

(1)

أخرجهما ابن جرير في تفسيره (3/ 332) وأوردهما ابن كثير في تفسيره (1/ 378).

ص: 131

لما اجتمعوا ببيت المقدس

(1)

.

ولهذا فقد كان عند أهل الكتاب علم تام به صلى الله عليه وسلم وبمبعثه ومكان بعثته ومهاجره، كما ورد وصفه في كتبهم حتى إنهم ليعرفونه كما يعرفون أبناءهم قال تعالى {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ وإنَّ فَرِيقًا مِنهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة].

وقال تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ والإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157].

وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حينما سئل عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، فأنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح، به أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا

"

(2)

‌2 - أنه صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تبعا.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"

(3)

.

(1)

تفسير ابن كثير (1/ 378).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق. انظر: فتح الباري (4/ 342)(ح 2125).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت بجوامع الكلم برقم (7274) واللفظ له، ومسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس

برقم (152).

ص: 132

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة"

(1)

.

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد"

(2)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرضت علي الأم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فطنت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى صلى الله عليه وسلم وقومه، ولكن أنظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، ولا عذاب

" الحديث

(3)

.

وفي هذا الأمر فضل عظيم وخصيصة كبيرة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فالله تعالى يكتب لكل نبي من الأنبياء من الأجر بقدر أعمال أمته وأحوالها وأقوالها فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا" الحديث

(4)

.

فما من معرفة ولا حالة ولا عبادة ولا مقالة ولا شيء مما يتقرب به إلى الله عز وجل مما دل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إليه إلا وله أجر من عمل به إلى يوم القيامة، ولا يبلغ أحد من الأنبياء إلى هذه المرتبة ذلك

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا أول الناس يشفع في الجنة"(1/ 130).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا"(/ 130).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره فتح الباري (10/ 155)(ح 5705)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب (1/ 138).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب من سنَّ سُنَّة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة. انظر (8/ 62).

ص: 133

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نفع شطر أهل الجنة فقد ثبت في الحديث أن أمته شطر أهل الجنة قال صلى الله عليه وسلم: "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" الحديث

(1)

.

فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد نفع شطر أهل الجنة، وغيره من الأنبياء إنما نفع جزءا من أجزاء الشطر، كانت منزلته في القرب على قدر منزلته في النفع، فما من عارف من أمته إلا وله مثل أجر معرفته مضافا إلى معارفه صلى الله عليه وسلم، وما من ذي حال من أمته إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجره على حاله مضموما إلى أحواله صلى الله عليه وسلم، وما من ذى مقال يتقرب به إلى الله عز وجل إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجر ذلك القول مضموما إلى مقالته وتبليغ رسالته، وما من عمل من الأعمال المقربة إلى الله عز وجل من صلاة وزكاة وعتق وجهاد وبر ومعروف وذكر وصبر وعفو وصفح إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجر عامله مضموما إلى أجره على أعماله، وما من درجة علية، ومرتبة سنية، نالها أحد من أمته بإرشاده ودلالته إلا وله مثل أجرها مضموما إلى درجته صلى الله عليه وسلم مرتبته، ويتضاعف ذلك بأن من دعا من أمته إلى هدى أو سن سنة حسنة كان له أجر من عمل بذلك على عدد العاملين، ثم يكون هذا المضاعف لنبينا صلى الله عليه وسلم لأنه دل عليه، وأرشد إليه. ولأجل هذا بكى موسى عليه السلام ليلة الإسراء بكاء غبطة غبط بها النبي صلى الله عليه وسلم إذ يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمة موسى عليه السلام، ولم يبك حسدا كما يتوهمه بعض الجهال، وإنما بكا أسفا على ما فاته من مثل مرتبته

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب الحشر. فتح الباري (11/ 378)(ح 6528)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة (1/ 138 - 139).

(2)

بداية السول في تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم (ص 44، 46).

ص: 134

ففي قصة المعراج من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا وفيه: "

ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة

فلما خلصت فإذا موسى، قال (جبريل) هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى. قيل له: ما يبكيك؟ قال أبكى لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي

" الحديث

(1)

.

‌3 - أن قرنه صلى الله عليه وسلم خير قرون بني آدم كما أنه خير قرون أمته والقرون التي تلي قرنه صلى الله عليه وسلم

-.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت منه"

(2)

.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم

" الحديث

(3)

.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير قال: "القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث"

(4)

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج، انظر: فنح الباري (7/ 201 - 202). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات (11/ 104)

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (6/ 566) ح (3557).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد. انظر: فتح الباري (6/ 259)(ح 2652)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كثاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (7/ 184).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (7/ 186).

ص: 135

والأحاديث في هذا الأمر كثيرة:

‌4 - أن الله تعالى أخبره بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو حي صحيح يمشي على الأرض.

قال الله تعالى {إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ ويُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقِيمًا ويَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح].

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في الشفاعة - وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "

فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك

"

(1)

.

وفي حديث أنس رضي الله عنه الذي في الشفاعة أيضا وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن ائتوا محمدا عبدا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

"

(2)

.

قال العز بن عبد السلام

(3)

: "ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك بل الظاهر أنه لم يخبرهم، لأن كل واحد. منهم إذا طلبت منهم الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصابها وقال: "نفسي نفسي" ولو علم كل واحد منهم بغفران خطيئته لم يَوْجل منها في ذلك المقام وإذا استشفعت الخلائق بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قول الله عز وجل:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إنَّهُ كانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء]. انظر: فتح الباري (8/ 395)(ح 4712)، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة (1/ 127، 128).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة (1/ 133 - 134).

(3)

عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي الملقب بسلطان العلماء فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد وله مؤلفات توفي سنة (660) هـ. الأعلام (4/ 21).

ص: 136

قال: "أنا لها"

(1)

.

‌5 - أن الله رفع له ذكره، قال تعالى:{ورَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح]:

فلا يذكر الله سبحانه إلا ذكر معه، ولا تصح للأمة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده ورسوله، وأوجب ذكره في كل خطبة، وفي الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام وفي الصلاة التي هي عماد الدين إلى غير ذلك من المواضع.

‌6 - أن الله أقسم بحياته صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر]:

والإقسام بحياة المُقْسِم بحياته يدل على شرف حياته وعزتها عند المقسم بها، وأن حياته صلى الله عليه وسلم لجديرة أن يقسم بها لما فيها من البركة العامة والخاصة ولم يثبت هذا لغيره صلى الله عليه وسلم

(2)

.

‌7 - أن الله وقَّره في ندائه، فناداه بأحب أسمائه وأسنى أوصافه:

فقال: {يا أيُّها النَّبِيّ

} [الأنفال: 64، 65، 70] و {يا أيُّها الرَّسُولُ} [المائدة: 41، 67] وهذه الخصيصة لم تثبت لغيره، بل ثبت أن كلا منهم نودي باسمه فقال تعالى:{يا آدَمُ اسْكُنْ} [البقرة: 35]، {إذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} [المائدة: 440] {يا مُوسى إنِّي أنا اللَّهُ} [القصص: 26]، {قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ} [هود: 48] {يا داوُدُ إنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ} [ص: 26]{يا إبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات]{يا لُوطُ إنّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود: 81]{يا زَكَرِيّا إنّا نُبَشِّرُكَ} [مريم: 7]{يا يَحْيى خُذِ الكِتابَ} [مريم: 12].

(1)

بداية السول (ص 35 - 36).

(2)

بداية السول (ص 37).

ص: 137

ولا يخفي على أحد أن السيد إذا دعي أحد عبيده بأفضل ما وجد فيه من الأوصاف العلية والأخلاق السنية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التي لا تشعر بوصف من الأوصاف ولا بخلق من الأخلاق، دل ذلك على أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم. وهذا معلوم بالعرف أن من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه"

(1)

‌8 - أن الله أمر الأمة بأن لا ينادونه باسمه بل ينادونه: يا رسول الله يا نبي الله:

فقال الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِواذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْتُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ} [النور]:

قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير

(2)

عند تفسيرها، كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم؟ فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاما لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يقولوا يا نبي الله يا رسول الله"

(3)

.

‌9 - أن الله نهي الأمة أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وسلم ولا يجهروا له بالقول - كما هو الحال بين الناس - حتى لا تحبط أعمالهم:

فقال الله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ

(1)

بداية السول (ص 35 - 36).

(2)

سعيد بن جبير الأسدي، بالولاء، الكوفي، تابعي، أخذ العلم من ابن عباس وابن عمر، ثقة، ثبت، فقيه، إمام حجة، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين. تهذيب التهذيب (4/ 11 - 14).

(3)

تفسير ابن كثير (3/ 306).

ص: 138

ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} الآيات [الحجرات].

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس

(1)

فقال رجل يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسًا في بيته منكسا رأسه فقال له ما شأنك؟ فقال: شر. كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل، النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا فقال موسى

(2)

: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه فقل له: إنك ليست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة"

(3)

.

وقال ابن الزبير

(4)

: "ما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه"

(5)

‌10 - أن الله أمر الأمة بأنهم إذا أرادوا أن يناجوه صلى الله عليه وسلم بأن يقدموا بين يدى نجواهم صدقة، ثم نسخ ذلك، وأمرهم بالطاعة:

فقال تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ

(1)

هو ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري الخزرجي: خطيب الأنصار شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، شهد أحدا وما بعدها، قتل يوم اليمامة. الإصابة (1/ 197).

(2)

موسى بن أنس بن مالك الأنصاري، قاضي البصرة، تابعي، ثقة قليل الحديث.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير، باب "لا ترفعوا أصواتهم فوق صوت النبي". انظر فتح الباري (8/ 590)4846.

(4)

هو: عبد الله بن الزبير بن العوام، ولد عام الهجرة، وحنكه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، وكان أول مولود في الإسلام بالمدينة وكان شهمًا فصيحًا، وقد بويع له بالخلافة بعد موت - يزيد بن معاوية فبقى ثمان سنوات حتى قتل في أيام عبد الملك سنة ثلاث وسبعين للهجرة. الإصابة (2/ 301 - - 303).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي". فتح الباري (8/ 590)(ح 4845)

ص: 139

صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وأطْهَرُ فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أأشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ واللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} [المجادلة].

‌11 - ما وهبه الله له من المعجزات التي تميزت، على معجزات من قبله من الأنبياء:

فمعجزة سيد الأولين والآخرين وهي القرآن العظيم الباقي إلى يوم الدين، الذي لا تنضب معانيه، ولا تفنى عجائبه، ولا تنقطع فوائده، وهو المحفوظ بحفظ الله له - من التغيير والتبديل والتحريف - فيه دواء وشفاء، ومواعظ وأحكام، فيه خبر من سبقنا، وأحوال من بعدنا، وهو حبل الله المتين، من آمن به واتبعه رشد ومن تركه وضل عنه غوى وهلك، وخاب وخسر. فهو المعجزة الخالده الباقية ما بقى الإنسان في هذه الدنيا، بينما تصرمت وانقرضت معجزات من قبله من الأنبياء.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"

(1)

.

وكذلك فقد وجد في معجزاته ما هو أظهر في الإعجاز من معجزات غيره كتفجير الماء بين أصابعه

(2)

فهو أبلغ في خرق العادة من تفجيره من الحجر، لأن جنس الأحجار مما يتفجر منه الماء، وكانت معجزته بانفجار الماء من بين أصابعه أبلغ من انفجار الحجر لموسى عليه السلام

(3)

.

(1)

تقدم تخريجه (ص 132)

(2)

أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامة النبوة برقم (3572).

(3)

بداية السول في تفضيل الرسول (ص 41).

ص: 140

وعيسى عليه السلام أبرأ الأكمه مع بقاء عينه في مقرها ورسول الله صلى الله عليه وسلم رد العين بعد أن سالت على الخد ففيه معجزة من وجهين:

إحداهما: التئامها بعد سيلانها والأخرى: رد البصر إليها بعد فقده منها

(1)

. فعن عاصم بن عمر بن قتادة عن أبيه

(2)

عن جده قتادة

(3)

أنه أصيبت عينه يوم أحد فسالت حدقته على وجنته فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"لا" فدعا به فغمز عينه براحته فكان لا يدرى أي عينيه أصيبت"

(4)

.

والأمثلة في هذا الباب كثيرة وقد تطرق إليها من كتب في الدلائل والخصائص

(5)

.

(1)

المصدر السابق (ص 41 - 42).

(2)

عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري: روى عن أبيه وله صحبة. تهذيب التهذيب (7/ 489).

(3)

قتادة بن النعمان بن زيد الأوسي ثم الظفري الأنصاري: صحابي جليل شهد بدرًا وما بعدها، ومات في خلافة عمر، فصلى عليه ونزل في قبره، وعاش خمسًا وستين سنة. الإصابة (31/ 217 - 218).

(4)

أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 418) وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة أيضا (3/ 251 - 252). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 297، 298) وعزاه لأبى يعلى وقال في إسناده يحيى بن عبد الحميد الحماني وهو ضعيف وقال الألباني في حاشية كتاب بداية السول (ص 42) ولكنه عند أبي نعيم من طريقين آخرين فهو يتقوى بهما". والحديث أورده ابن كثير في البداية (4/ 33، 34). والسيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 359) وعزاه لابن سعد والبيهقي وأبي نعيم.

(5)

انظر: دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (ص 512 - 550) ودلائل النبوة للبيهقي الجزء السادس، والخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 304 - 314).

ص: 141

قال الشافعي رحمه الله تعال اتعالى: "ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم "

(1)

وقال السيوطي: "قال العلماء ما أوتى نبي معجزة ولا فضيلة إلا ولنبينا صلى الله عليه وسلم نظيرها أو أعظم منها"

(2)

.

(1)

آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص 83).

(2)

الخصائص الكبرى (2/ 304).

ص: 142

‌المبحث الثاني: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الآخرة

‌1 - أنه سيد ولد آدم يوم القيامة:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع"

(1)

.

قال العز بن عبد السلام: "السيد من اتصف بالصفات العلية والأخلاق السنية، وهذا مشعر بأنه أفضل منهم في الدارين، أما في الدنيا فلما اتصف به من الأخلاق العظيمة.

وأما في الآخرة فلأن الجزاء مرتب على الأخلاق والأوصاف، فإذا فضلهم في الدنيا في المناقب والصفات، فضلهم في الآخرة في المراتب والدرجات. وإنما قال صلى الله عليه وسلم " أنا سيد ولد آدم "لتعرف أمته منزلته من ربه عز وجل"

(2)

وسيادة النبي صلى الله عليه وسلم للناس يوم القيامة تظهر واضحة جلية بما سيناله من الشرف العظيم يوم القيامة وعلى رأس ذلك الشرف شفاعته في أهل الموقف واختصاصه بذلك من بين الأنبياء والرسل.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرفعت إليه

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق (7/ 59)

(2)

بداية السول في تفضيل الرسول (ص 34).

ص: 143

الذراع وكانت تعجبه - فنهس منا نهسة وقال: " أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون بمن يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيقول بعض الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه إلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس: أبوكم آدم. فيأتونه فيقولون يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول: ربي غضب غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله ونهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدا شكورا، أما ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضبه بعده مثله، نفسي نفسي، ائتوا النبي صلى الله عليه وسلم فيأتوني، فأسجد تحت العرش، فيقال: يا محمد ارفع رأسك واشفع تشفع، وسل تعطه"

(1)

.

‌2 - واشتمل الحديث كذلك على خصيصة أخرى:

تدل على تخصيصه وتفضيله صلى الله عليه وسلم وهي كونه أول شافع وأول مشفع فهذا أمر خص الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم إذ جعله الشفيع يوم المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصوص به صلوات الله وسلامه عليه.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب، قول الله عز وجل:{ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} انظر فتح الباري (6/ 371)(ح 3340) واللفظ له. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1/ 127، 128).

ص: 144

قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاها عند الله، ولا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته"

(1)

.

كما أنه أول من يشفع في دخول الجنة فعن، أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا"

(2)

.

‌3 - أن الله جعل لواء الحمد بيد النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة:

فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، ما من أحد إلا هو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد، أنا أمشى ويمشى الناس معي، حتى آتي باب الجنة، فأستفتح فيقال من هذا فأقول محمد، فيقال مرحبا بمحمد فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا أنظر إليه"

(3)

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه، إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر"

(4)

.

فهذه الخصيصة وغيرها من الخصائص تدل على علوِّ مرتبته خاص وعلوِّ

(1)

مجموع الفتاوى (1/ 145).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان، باب في أول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا أول الناس يشفع في الحنة وأنا أكثر الأنبياء تبعًا"(1/ 130).

(3)

أخرجه الحاكم في مستدركه (1/ 30) وصححه وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

(4)

أخرجه أحمد في مسنده (3/ 2). وأخرجه الترمذى في سننه، كتاب المناقب، باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم (5/ 587) (ح 3615) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الزهد، باب في الشفاعة (2/ 1440)(ح 4308).

ص: 145

منزلته إذ لا معنى للتفضيل إلا التخصيص بالمناقب والمراتب

(1)

.

‌4 - أنه أول من يجيز على الصراط وأول من يقرع باب الجنة وأول من يدخلها:

وهذه الأمور مما خص به النبي صلى الله عليه وسلم عن باقي الأنبياء السابقين. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل قال: "أن ناسا قالوا يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟

" الحديث.

وفيه "ويُضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته؟ "

(2)

الحديث.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة"

(3)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول محمد، فيقول بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك"

(4)

.

(1)

غاية السول (ص 35).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، واللفظ له، كتاب الآذان، باب فضل السجود، انظر فتح الباري (2/ 292، 293)(ح 806)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية (1/ 113).

(3)

أخرجهما مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا أول الناس يشفع في الجنة"(1/ 130)

(4)

أخرجهما مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا أول الناس يشفع في الجنة"(1/ 130).

ص: 146

‌المبحث الثالث: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم

-

اختصت هذه الأمة بخصائص وفضائل، فلقد أكرم الله هذه الأمة بنعم جليلة ومنح عظيمة، هي في أصلها إكرام من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولو لم تتبعه لما أُعطيت هذه الكرامات وتلك الميزات.

فلقد جعل الله تعالى هذه الأمة خير الأمم، واصطفاها من جميع الخلق لتكون أمة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واجتباها لتكون الأمة الوسط الشاهدة على جميع الأمم السابقة.

قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

وقال تعالى: {وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة].

وقال تعالى: {هُوَ اجْتَباكُمْ وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

وعن معاوية بن حيدة القشيري

(1)

رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ} قال: "إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" وفي لفظ "أنتم أفخرها وأكرمها

(1)

معاوية بن حيدة بن معاوية القشيري، له وفادة وصحبة، وقال البخاري: سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي بخرسان. الإصابة (3/ 412).

ص: 147

على الله عز وجل"

(1)

.

وروى الإمام أحمد نحوه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

(2)

.

ومن فضل الله على هذه الأمة أنهم مع كونهم أقل عملا ممن قبلهم، فهم أكثر أجرا كما جاء في الحديث الصحيح.

فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا له نصف النهار، فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا، فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا، حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال لهم: أكملوا بقية عملكم فإن ما بقي من النهار شيء يسير، فأبوا، فاستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور"

(3)

.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "والمراد من هذا التشبيه بالعمال

(1)

أخرجه أحمد في المسند (4/ 446، 447، 448)(5/ 3 - 5) والترمذي في سننه، كتاب التفسير، تفسير سورة آل عمران (5/ 226) (ح 3501) وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه ابن ماجة في السنن كتاب الزهد، باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم انظر (2/ 1433) والحاكم في المستدرك (4/ 84) وصححه ووافقه الذهبي. والدارمي في السنن (2/ 221)(ح 2763)، وحسنه الألباني في المشكاة (6285).

(2)

المسند (3/ 61).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإجارة باب الإجارة من العصر إلى الليل. انظر فتح الباري (4/ 447، 448)(ح 2271).

ص: 148

تفاوت أجورهم، وأن ذلك ليس منوطا بكثرة العمل وقلته، بل بأمور أخر معتبرة عند الله تعالى.

وكم من عمل قليل أجدى ما لا يجديه العمل الكثير، هذه ليلة القدر العمل فيها أفضل من عبادة ألف شهر سواها، وهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنفقوا في أوقات لو أنفق غيرهم من الذهب مثل أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه من تمر، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره وقبضه وهو ابن ثلاث وستين على المشهور وقد برز في هذه المدة التي هي ثلاث وعشرون سنة في العلوم النافعة والأعمال الصالحة على سائر الأنبياء قبله حتى على نوح الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ويعمل بطاعة الله ليلا ونهارا صباحا ومساء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء أجمعين.

فهذه الأمة إنما شرفت وتضاعف ثوابها ببركة سيادة نبيها وشرفه وعظمته كما قال الله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ويَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وأنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحديد].

ومما أكرمت به هذه الأمة كذلك أنهم مع كونهم آخر الأم زمانا فهم الأولون يوم القيامة.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أتوا الكتاب من قبلنا"

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإجارة باب الإجارة من العصر إلى الليل. انظر: فتح الباري (4/ 447، 448)(ح 2271).

ص: 149

فهذه الأمة هم أول من يقضى لهم يوم القيامة كما جاء في الحديث الصحيح "

نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق"

(1)

.

ومما خص الله تعالى به هذه الأمة يوم القيامة أنها تكون مع نبيها صلى الله عليه وسلم أول من يجتاز الصراط من الأم، كما في الحديث الطويل عن أبي هريرة ? عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه "

ويُضرب الصراط بين ظَهْرَي جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز"

(2)

.

وكذلك فإن هذه الأمة هم أول من يدخل الجنة من الأمم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة"

(3)

.

ومما خص الله به هذه الأمة أن جعل الزمرة الأولى منها - وهي التي تدخل الجنة من غير حساب ولا عذاب - تدخل الجنة من الباب الأيمن من أبواب الجنة.

فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه حديث الشفاعة الطويل وفيه "فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لاحساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب

"

(4)

الحديث.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة واللفظ له. انظر: فتح الباري (2/ 354)(ح 876) وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (3/ 6).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (3/ 7).

(3)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية. انظر (1/ 113)

(4)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (3/ 6).

ص: 150

فهذه الخصائص والفضائل وغيرها كثير إنما هي شواهد وبراهين على تفضيل الله تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ما له من منزلة عظيمة ودرجة رفيعة عنده تبارك وتعالى.

ومن هذه الخصائص يعلم المسلم عظيم قد نبينا صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند الله عز وجل، ومما لا شك فيه أن هذا العلم وهذه المعرفة ستثمر بإذن الله في القلب المؤمن بالله ورسوله، فيزداد تعظيما وتوقيرا للنبي صلى الله عليه وسلم، وحرصا على اتباعه واقتفاء أثره والسير على سنته.

فحري بالمسلم الذي تتوق نفسه وتتطلع لأن يكون في عداد أمة المصطفى الذين يقودهم صلى الله عليه وسلم إلى الجنة بعد أن يجتاز بهم الصراط، أن يحقق الأمور التي يستحق بها هذا الفضل العظيم والمرتبة العالية.

فبالإيمان والاتباع والمحبة والتعظيم والبعد عما يضاد هذه الأمور يستحق الإنسان أن يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

أما من لم يتبع ويسلك سبيل النبي صلى الله عليه وسلم بل غير بدل فهو محروم من هذا الفضل وذاك الشرف الذي تحدثت عنه تلك النصوص.

فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا فرطكم على الحوض وليختلجن رجال دوني فأقول يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم غيروا وبدلوا فيقول النبي صلى الله عليه وسلم سحقا سحقا لمن غير وبدل"

(1)

.

* * *

(1)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1/ 127 - 129).

ص: 151

‌الفصل الثاني: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم على أمته في حياته وبعد مماته

ص: 153

‌المبحث الأول: معنى التعزير والتوقير والتعظيم.

قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9].

وقال تعالى: {فالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف].

‌أ - أما التعزير في اللغة:

فيقول صاحب معجم مقاييس اللغة عن أصل هذه الكلمة: "عزر" العين والزاء. والراء: كلمتان:

أحدهما: التعظيم والنصر. والكلمة الأخرى: جنس من الضرب. فالأولى: النصر والتوقير كقوله تعالى: {وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ} .

والأصل الآخر: التعزير وهو الضرب دون الحد"

(1)

.

وفي النهاية في غريب الحديث "أصل التعزير: المنع والرد. فكأن من نصرته قد رددت عنه أعداءه ومنعتهم من أذاه. ولهذا قيل للتأديب الذي هو دون الحد تعزير، لأنه يمنع الجاني أن يعاود الذنب، يقال عزرته، وعزرته. فهو من الأضداد"

(2)

.

وجاء في تهذيب اللغة: "عزر" قال الله عز وجل: {وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ} .

جاء في التفسير في قوله تعالى {وتُعَزِّرُوهُ} ؛ أي لتنصروه بالسيف {وعَزَّرْتُمُوهُمْ} عظمتموهم. وقيل: نصرتموهم.

(1)

مقاييس اللغة (4/ 311).

(2)

النهاية (3/ 228).

ص: 155

واللفظة تستعمل لعدة معان هي:

1 -

التعزير: النصر باللسان والسيف.

2 -

التعزير: التوقير.

3 -

التعزير: التأديب دون الحد.

4 -

التعزير: التوقيف على الفرائض والأحكام"

(1)

.

وأما عن المعنى الشرعي المراد هنا:

فعن ابن عباس رضي الله عنهما: {وعَزَّرُوهُ} يقول: "حموه ووقَّروه"

(2)

.

وعن مجاهد قال: "عزروه: سددوا أمره، وأعانوا رسوله ونصروه"

(3)

.

وعن قتادة في قوله: {وتُعَزِّرُوهُ} قال: "ينصروه"

(4)

.

وقال ابن جرير الطبري: {وعَزَّرُوهُ} "وقَّروه وعظَّموه وحموه من الناس"

(5)

.

وقال أيضا بعد أن نقل قول ابن عباس ومجاهد وقتادة "وهذه الأقوال متقاربات المعنى، وإن اختلفت ألفاظ أهلها بها ومعنى التعزير في هذا الموضع: التقوية بالنصر والمعونة، ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال"

(6)

.

وقال شيخ الإسلام: "التعزير: اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه"

(7)

.

‌ب - وأما عن التوقير في اللغة:

ففي "معجم مقاييس اللغة": "وقر" الواو. والقاف والراء: أصل

(1)

تهذيب اللغة (2/ 129 - 130) بتصرف.

(2)

تفسير الطبري (9/ 85).

(3)

تفسير الطبري (9/ 85).

(4)

تفسير الطبري (26/ 75).

(5)

تفسير الطبري (9/ 85).

(6)

تفسير الطبري (26/ 75)

(7)

الصارم المسلول (ص 422).

ص: 156

يدل على ثقل في الشيء

ومنه الوقار: الحلم والرزانة"

(1)

.

وجاء في "تهذيب اللغة" وقر الرجل من الوقار، يقر، فهو وقور. ووقَّرت الرجل: إذا عظمته ومنه قوله عز وجل {وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ}

(2)

.

وفي لسان العرب: "وقر الرجل: بجله، والتوقير: التعظيم والترزين"

(3)

.

وأما المعنى الشرعي المراد هنا:

فقال ابن عباس: {وتُوَقِّرُوهُ} يعني التعظيم"

(4)

.

وقال قتادة: " {وتُوَقِّرُوهُ} أمر الله بتسويده وتفخيمه"

(5)

.

وقال أيضا: " {وتُوَقِّرُوهُ} أي ليعظموه"

(6)

.

وقال ابن جرير الطبري: "فأما التوقير فهو التعظيم والإجلال والتفخيم"

(7)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "التوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار"

(8)

.

قال ابن كثير: "التوقير: هو الإحترام والإجلال والإعظام"

(9)

.

‌ج - وأما التعظيم في اللغة:

ففي "لسان العرب": التعظيم: التبجيل: يقال لفلان عظمة عند الناس: أي حرمة يعظم لها"

(10)

.

(1)

معجم مقاييس اللغة (6/ 132)

(2)

تهذيب اللغة (9/ 280)

(3)

لسان العرب (5/ 291).

(4)

تفسير الطبري (26/ 74).

(5)

تفسير الطبري (26/ 74).

(6)

تفسير الطبري (26/ 75).

(7)

تفسير الطبري (26/ 75).

(8)

الصارم المسلول (ص 422)

(9)

تفسير ابن كثير (4/ 185)

(10)

لسان العرب (12/ 410 - 411).

ص: 157

ولفظ "التعظيم" لا يرد في خطاب الشارع كما ورد لفظ "التعزير" و "التوقير" لكن العلماء استعملوه في كلامهم عند هذه المسألة وذلك لقربه في المعنى إلى ذهن السامع، ولتأديته للمعنى المراد من لفظتي "التعزير" و "التوقير".

* * *

ص: 158

‌المبحث الثاني: وجوب توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم والأدلة على ذلك.

إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وإجلاله، وتوقيره، شعبة عظيمة من شعب الإيمان، وهذه الشعبة غير شعبة المحبة

(1)

بل إن منزلتها ورتبتها فوق منزلة ورتبة المحبة. ذلك لأنه ليس كل محب معظمًا، ألا ترى أن الوالد يحب ولده ولكن حبه إياه يدعوه إلى تكريمه ولا يدعوه إلى تعظيمه.

والولد يحب والده فيجمع له بين التكريم والتعظيم. والسيد قد يحب مماليكه ولكنه لا يعظمهم. والمماليك يحبون ساداتهم ويعظمونهم.

فعلمنا بذلك أن التعظيم رتبته فوق رتبة المحبة

(2)

.

فمن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أن يهاب ويعظم ويوقر ويجل أكثر من كل ولد لوالده ومن كل عبد لسيده، فهذا حق من حقوقه الواجبة له مما يزيد على لوازم الرسالة

(3)

وهو ما أمر الله به في كتابه العزيز قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9].

وقال تعالى: {فالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف].

فأبان أن حق الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته أن يكون معزرا موقرا مهيبا.

(1)

انظر المنهاج في شعب الإيمان للحليمي (2/ 124) الشعبة الخامسة عشرة. وكذلك الجامع في شعب الإيمان للبيهقي (1/ 300) الشعبة الخامسة عشرة.

(2)

المنهاج في شعب الإيمان للحليمي (2/ 124).

(3)

المعنى المقصود هنا: أنه يجوز أن يبعث الله رسولا ولا يوجب له هذا الحق بخلاف الإيمان والاتباع فإنهما من لوازم الرسالة.

ص: 159

وأخبر سبحانه أن الفلاح إنما يكون لمن جمع بين الإيمان به وتعزيره ولا خلاف في أن التعزير هاهنا التعظيم

(1)

.

وفي الجمع الحاصل في الآيتين بين الإيمان به وتعظيمه، تنبيه وإرشاد إلى أن القيام بحقوقه صلى الله عليه وسلم يعد من الإيمان الواجب الذي لا يتم إيمان العبد إلا به. قال الحليمي

(2)

: "فمعلوم أن حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم وأكرم وألزم لنا وأوجب علينا من حقوق السادات على مماليكهم والآباء على أولادهم لأن الله تعالى أنقذنا به من النار في الآخرة، وعصم به لنا أرواحنا وأبداننا وأعراضنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا في العاجلة، فهدانا به لما إذا أطعناه فيه أدانا إلى جنات النعيم. فأية نعمة توازي هذه النعم وأية معنة تداني هذه المنن؟.

ثم إنه جل ثناؤه ألزمنا طاعته، وتوعدنا على معصيته بالنار. ووعدنا باتباعه الجنة. فأي رتبة تضاهي هذه الرتبة، وأي درجة تساوي في العلا هذه الدرجة؟. فحق علينا أن نحبه ونجله ونعظمه ونهابه أكثر من إجلال كل عبد سيده وكل ولد والده. وبمثل هذا نطق القرآن ووردت أوامر الله جل ثناؤه"

(3)

.

ففي القرآن الكريم آيات كثيرة جاء فيها التأكيد على هذا الحق من حقوقه صلى الله عليه وسلم وبخاصة في جوانب معينة من جوانب تعظيمه ومن تلك الآيات ما يلي:

(1)

المنهاج في شعب الإيمان (2/ 125)"بتصرف".

(2)

الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الجرجاني، فقيه شافعي، قاضي، كان رئيس أهل الحديث في ما وراء النهر، توفي في بخارى سنة 403 هـ وله كتاب المنهاج في شعب الإيمان.

الأعلام (2/ 235).

(3)

المنهاج في شعب الإيمان (124 - 125) والجامع لشعب الإيمان (302 - 303).

ص: 160

1 -

قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]"ففي هذه الآية نهي من الله أن يدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلظ وجفاء، وأمر لهم أن يدعوه بلين وتواضع"

(1)

.

وروى الطبري بسنده عن مجاهد في تفسيرها فقال: "أمرهم أن يدعوه: يا رسول الله، في لين وتواضع، ولا يقولوا: يا محمد، في تجهم"

(2)

. وعن قتادة قال: "أمرهم أن يفخموه ويشرفوه"

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تفسيرها: "خص الله نبيه في هذه الآية بالمخاطبة بما يليق به، فنهى أن يقولوا: يا محمد أو يا أحمد، أو يا أبا القاسم، ولكن يقولوا: يا رسول الله، يا نبي الله وكيف لا يخاطبونه بذلك، والله سبحانه أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحدا من الأنبياء، فلم يدعه باسمه في القرآن قط، بل يقول {يا أيُّها النَّبِيُّ قُلْ لأزْواجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها} [الأحزاب: 28] {يا أيُّها النَّبِيُّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْواجَكَ} [الأحزاب: 50]{يا أيُّها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1]{يا أيُّها النَّبِيُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا} [الأحزاب]{يا أيُّها النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ} [الطلاق: 1]{يا أيُّها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ماأحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]{يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]{يا أيُّها المُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل]{يا أيُّها المُدَّثِّرُ قُمْ فَأنْذِرْ} [المدثر]{يا أيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال: 64].

مع أنه سبحانه قال: {وقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ} [البقرة: 35]{قالَ يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأسْمائِهِمْ} [البقرة: 33]{يا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ} [هود" 46]{يا إبْراهِيمُ أعْرِضْ عَنْ هَذا} [هود: 76]{يا مُوسى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلى النّاسِ} [الأعراف: 144]{يا داوُدُ إنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ} [ص: 26]

(1)

تفسير الطبري (18/ 177).

(2)

تفسير الطبري (18/ 177).

(3)

تفسير الطبري (18/ 177).

ص: 161

{يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعَلى والِدَتِكَ} [المائدة: 110]

(1)

.

وقال رحمه الله: "وإذا كنا في باب العبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نفرق بين مخاطبته والإخبار عنه. فإذا خاطبناه كان علينا أن نتأدب بآداب الله تعالى حيث قال: {لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] فلا تقول يا محمد يا أحمد، كما يدعو بعضنا بعضا بل نقول: يا رسول الله، يانبي الله. والله سبحانه وتعالى خاطب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم فقال:{يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [البقرة: 35]{يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 48]{يا مُوسى إنِّي أنا رَبُّكَ} [طه: 11، 12]{يا عِيسى إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورافِعُكَ إلَيَّ} [آل عمران: 55].

ولما خاطبه صلى الله عليه وسلم قال {يا أيُّها النَّبِيُّ} [الأنفال: 1]، {يا أيُّها الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفْرِ} [المائدة: 41] {يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]{يا أيُّها المُزَّمِّلُ} [المزمل]{يا أيُّها المُدَّثِّرُ} [المدثر] فنحن أحق أن نتأدب في دعائه وخطابه.

وأما إذا كنا في مقام الإخبار عنه قلنا: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" وقلنا محمد رسول الله وخاتم النبيين، فنخبر عنه باسمه كما أخبر الله سبحانه لما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم {ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ولَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وخاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وقال {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] وقال {وما مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] وقال {والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ} [محمد: 2].

فالفرق بين مقام المخاطبة ومقام الإخبار فرق ثابت بالشرع والعقل"

(2)

.

(1)

الصارم المسلول (ص 422 - 423)

(2)

درء تعارض العقل والنقل (1/ 297، 298).

ص: 162

2 -

وقال تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وراءِ الحُجُراتِ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ولَوْ أنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات].

فهذه الآيات اشتملت على جملة من الآداب التي أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يجب أن يعاملوا به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام وهذه الآداب هي:

أولا: أنه حرَّم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، فقال تعالى:{يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ} .

قال ابن كثير في معناها: "أي لا تسارعوا في الأشياء بين يديه أي قبله بل كونوا تبعا له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم " فإن لم تجد؟ " قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: " فإن لم تجد؟ " قال ?: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم "

(1)

.

فالغرض منه أنه أخَّر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب

(1)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 230، 236، 242). وأبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء (4/ 18)(ح 3592)؛ والترمذي في سننه، كتاب الأحكام، باب القاضي كيف يقضي (3/ 616)(ح 1327). وابن ماجة في سننه، المقدمة، باب اجتناب الرأي والقياس بنحوه (1/ 21).

ص: 163

والسنة ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقدم بين يدي الله ورسوله"

(1)

.

وقال الحليمي عند تعليقه على هذه الآية: "والمعنى لا تقدموا قولا أو فعلا بين يدي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر دين أو دنيا، بل أخروا أقوالكم وأفعالكم إلى أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بما يراه فإنكم إذا قدمتم بين يديه كنتم مقدمين بين يدي الله ? إذ كان رسوله لا يقضي إلا عنه، {واتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات: 10]! أي احذروا عقابه بتقديمكم بين يدي رسول الله ومعاملته بما يوهم الاستخفاف به ومخالفة شيء مما يأمركم به عنالله بوحي متلو أو بوحي غير متلو {إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 10] أي سميع لما تقدمونه بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم، أو تأتونه اقتداء به واتباعا له، عليم بما يكون منكم من إجلاله أو خلاف ذلك فهو يجزيكم بما سمعه ويعلمه منكم"

(2)

.

ولقد تأدب الصحابة مع ربهم ومع رسولهم، فما عاد بعد نزول هذه الآية مقترح منهم يقترح على الله ورسوله، وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدلي به، وما عاد أحد يقضي برأيه في أمر أو حكم إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم.

حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسألهم عن اليوم الذي هم فيه والمكان الذي هم فيه وهم يعلمونه حق العلم، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم. خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله. ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل في حجة الوداع "أي شهر هذا؟ " .. قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أن سيسمِّيه بغير اسمه، قال: "أليس ذو

(1)

تفسير ابن كثير (4/ 205).

(2)

المنهاج في شعب الإيمان (2/ 127)

ص: 164

الحجة؟ " قلنا: بلى. قال: "فأي بلد هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير أسمه، قال: "أليس البلدة؟ " قلنا بلى. قال "فأي يوم هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: "أليس يوم النحر؟ " قلنا بلى

" الحديث

(1)

.

فهذه صورة من الأدب، ومن التحرج، ومن التقوى التي انتهى إليها الصحابة بعد سماعهم ذلك النداء، وذلك التوجيه، وتلك الإشارة إلى التقوى تقوى الله السميع العليم.

ثانيا: أنه حرم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل، وهذا من باب الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث والخطاب ومن التوقير الذي يجب له، ذلك التوقير الذي ينعكس على نبرات أصوات الصحابة ليتميز بذلك شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم ويميز مجلسه فيهم فقال تعالى {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات].

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "هذا أدب ثان أدَّب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته، وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما".

فعن ابن أبي مليكة

(2)

قال: " كاد الخيِّران أن يهلكا أبو بكر

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب حجة الوداع واللفظ له. انظر فتح الباري (8/ 108)(ح 4406).

(2)

عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي المكي، تابعي ثقة، كان قاضيًا لابن الزبير ومؤذنًا له. مات سنة (17 هـ) وقيل (18 هـ) تهذيب التهذيب (5/ 306 - 307).

ص: 165

وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس

(1)

رضي الله عنه أخي بن مجاشع وأشار الآخر برجل آخر، قال نافع

(2)

لا أحفظ اسمه فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: ما أردت إلا خلافي، قال: مما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ} الآية.

قال ابن الزبير

(3)

رضي الله عنه: "فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر"

(4)

.

فقد نهي الله عز وجل عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما فجاء فقال: أتدريان أين أنتما؟ ثم قال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، فقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربًا

(5)

.

وقال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في

(1)

الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان التميمي المجاشعي الدارمي: وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وشهد فتح مكة وحنينا والطائف، وهو من المؤلفة قلوبهم، وقد حسن إسلامه، وكان شريفا في الجاهلية والإسلام وشارك في الفتوحات، وقيل إنه قتل في اليرموك في عشرة من بنيه. الإصابة (1/ 72 - 73).

(2)

نافع بن عمر بن عبد الله الجمحي الحافظ المكي، كان من أثبت الناس، روى عن ابن أبي مليكة وغيره، مات سنة تسع وستين ومائة. تهذيب التهذيب (10/ 401).

(3)

هو: عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وقد تقدم ترجمته

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، تفسير سورة الحجرات.

انظر: فتح الباري (8/ 590)(ح 4845).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد.

انظر: فتح الباري (1/ 560)(ح 470).

ص: 166

حياته عليه الصلاة والسلام لأنه محترم حيًّا وفي قبره صلى الله عليه وسلم دائما.

ثم نهي عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبة ممن عداه، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم، ولهذا قال تبارك وتعالى:{ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] كما قال {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 2].

وقوله تعالى {أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]؛ أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري كما جاء في الصحيح "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض"

(1)

.

ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك وأرشد إليه ورغب فيه فقال {إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى} [الحجرات: 3]؛ أي أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9]

(2)

.

وجاء في "الكشاف" عند تفسير هذه الآيات قوله: "أعاد النداء عليهم - أي في قوله {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتطرية الإنصات لكل حكم نازل، وتحريك هممهم لئلا يفتروا ويغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به عند حضور مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان. فتح الباري (11/ 308)(ح 6478).

(2)

تفسير ابن كثير (4/ 205 - 206).

ص: 167

الأدب الذي المحافظة عليه تعود عليهم بعظيم الجدوى في دينهم.

وذلك لأن في إعظام صاحب الشرع إعظام ما ورد به، ومستعظم الحق لا يدعه استعظامه أن يألو عملا بما يحدوه عليه، وارتداعًا بما يصده عنه، وانتهاء إلى كل خير.

والمراد بقوله: {لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم، وجهره باهرًا لجهركم، حتى تكون ميزته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق غير خاف، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبهروا منطقه بصخبكم.

وبقوله {ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ} أنكم إذا كلَّمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت، بل عليهم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول البين المقرب من الهمس الذي لا يضاهي الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم، عاملين بقوله عز شأنه {وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ} وليس الغرض من رفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأن ذلك كفر، والمخاطبون مؤمنون وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء، ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه، ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير.

ولم يتناول النهي أيضًا رفع الصوت الذي لا يتأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما كان منهم في حرب، أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدو أو ما أشبهه، فلم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مقيد بصفة أعلى الجهر المنعوت

ص: 168

بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم، وهو الخلو عن مراعاة أبهة النبوة، وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها"

(1)

.

"ومن البداهة أن هذه الآيات وأمثالها في تأديب الأمة وتعليمها إنما جاءت بأسلوبها المعجز لتفخيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار رفعة قدره المنيف، وسمو منزلته صلى الله عليه وسلم فوق كل منزلة أحد من الخلق، وهي مسوقة في مواضعها من القرآن الكريم لتعليم الأمة أفرادا وجماعات الأدب الأكمل مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يتصل بمخاطبته والتحدث إليه، والإصغاء إلى حديثه، ومجالسته حتى يستشعر المؤمن بقلبه وروحه وكافة إحساساته ومشاعره ما أوجبه الله تعالى من توقيره صلى الله عليه وسلم توقيرا يجلي رفيع قدره، وعظيم مقامه، ويظهر تشريف الله تعالى له بما ميزه به على سائر الخلق، وقد اتفق أهل العلم من أئمة أعلام الأمة على أن حرمته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في حياته".

ثالثا: أن الله تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه فقال {أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك فقال {ولَوْ أنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات: 5]؛ أي لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة

(2)

فكره إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لهم ما يجب عليهم وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم وحبب إليهم التوبة والإنابة، ورغبهم في المغفرة والرحمة

(3)

.

(1)

الكشاف (3/ 554، 555)

(2)

كتاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج ورسالة تأليف محمد الصادق إبراهيم عرجون (4/ 333).

(3)

تفسير ابن كثير (4/ 208).

ص: 169

قال الحليمي: "في هذه الآية يسلى الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما أخبره من أن الذين يصيحون خارج منزله ولا يصبرون حتى يخرج إليهم إنما حملهم على ذاك جهلهم وقلة عقلهم وأكثرهم لا يهتدون إلى ما يلزمهم من تعظيمك في حال مخاطبتك"

(1)

.

3 -

وقال تعالى: {ما كانَ لِأهْلِ المَدِينَةِ ومَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرابِ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ولا يَرْغَبُوا بِأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120].

قال الحليمي: "فأعلمهم أن نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أكرم وأشرف وأزكى وأجمل من أنفسهم، فلا يسعهم من ذلك أن يصرفوا أنفسهم عما لا يصرف نفسه عنه فيتخلفوا عنه إذا خرج لجهاد أعداء الله معتذرين من شدة حر، أو طول طريق، أو عوز ماء، أو قلة زاد، بل يلزمهم متابعته ومشايعته على أي حال رضيها لنفسه، وفي هذا أعظم البيان لمن عقل، وأبين الدلالة على وجوب تعظيمه وإجلاله وتوقيره

(2)

.

4 -

وقال تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلّا أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ ولَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فادْخُلُوا فَإذا طَعِمْتُمْ فانْتَشِرُوا ولا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ واللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ وإذا سَألْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فاسْألوهُنَّ مِنْ وراءِ حِجابٍ} [الحجرات: 53].

فنهاهم سبحانه وتعالى عن أن يعاملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوسع في الانبساط والاسترسال كما يعامل من لا يهاب ولا يتقى، فيدخل بيته بغير إذنه إذا دعاهم إلى طعام لم ينضج، وأحاطوا به منتظرين إدراكه وإذا حضر الطعام ودخلوا وطعموا لزموا مجالسهم مستأنسين بالمحادثة، وأخبرهم أن ذلك منهي عنه، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تأذى منه ويستحى أن يكلمهم،

(1)

المنهاج في شعب الإيمان (2/ 128)

(2)

المنهاج في شعب الإيمان (2/ 126)

ص: 170

كما أدبهم فيما ينبغي عليهم تجاه معاملتهم مع أزواجه صلى الله عليه وسلم وهذا كله مما يدل على ماله صلى الله عليه وسلم من التعظيم والاحترام.

5 -

وقد جاء بعد هذه الآيات الأمر بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الحجرات]

(1)

.

ووجه إيصال هذه الآية بما قبلها هو أنه لما كان من الواجب على المكلفين تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم برفع الأذى عنه وإظهار شرفه وكرامته فذكر الله تعالى القسم الأول - أي رفع الأذى - في قوله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الحجرات: 35] إلى آخرها وذكر القسم الثاني - أي إظهار شرفه وكرامته - في هذه الآية الثانية، وبدأ بالأول لأن دفع المفاسد أهم.

وأيضا لما أرشد الله تعالى المؤمنين إلى تعظيمه صلى الله عليه وسلم بتعلم سلوك طريق الأدب معه في أشياء كثيرة تتعلق بحياته وموته إظهارا لشرفه وتعظيما له، عقبه بما يدل على أنه تعالى أيضا معظم لشأنه أيضا، وكذلك ملائكته المقربون حملة العرش وحفظته الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

وفيه بيان لمنقبة عظيمة له صلى الله عليه وسلم فإن الملك قد يأمر بإكرام شخص ولا يكون عنده بمكان فأزيل هذا التوهم وبيَّن أنه أكرم الخلق على ربه تعالى.

وأيضا لما أرشد الله المؤمنين إلى الحال التي يجب أن يكونوا عليها مع نبيه صلى الله عليه وسلم من التعظيم والتوقير - ولهم معه حالتان:

1 -

حالة الخلوة: والواجب هناك عدم إزعاجه - بين ذلك بقوله تعالى {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيّ} [الحجرات: 53].

2 -

وحالة الملأ: والواجب هناك إظهار التعظيم، بين ذلك بقوله {صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الحجرات].

(1)

الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر (ص 19 - 20)

ص: 171

وأيضا لما أمر الله سبحانه وتعالى بالاستئذان في بيوته، وعدم النظر إلى وجوه زوجاته، وغير ذلك من الآداب إكراما وتبجيلا، كمَّل سبحانه بيان حرمته بقوله {صَلُّوا عَلَيْهِ} .

وأيضا لما بين الأدب معه في حال الخلوة، وكان حاله في الملأ نوعين، لأنه يكون أعلى وأسفل، فبين أنه في الأعلى محترم في غاية الاحترام ثم بين ما يجب على الملأ الأسفل من ذلك التعظيم بقوله {صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .

6 -

وقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ وأعَدَّ لَهُمْ عَذابًا مُهِينًا والَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ ما اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتانًا وإثْمًا مُبِينًا} [الحجرات].

فالله تعالى من تعظيمه لنبيه صلى الله عليه وسلم حفظ له كرامته وصان له حقه ففرق بين

أذاه وأذى المؤمنين، فأوجب على من آذى النبي صلى الله عليه وسلم اللعن والطرد من رحمته وهذا حكم على من آذاه بالكفر وفي الآخرة له العذاب المهين ومصيره إلى جهنم وبئس المصير. بينما حكم على من آذى المؤمنين بالبهتان والإثم والفرق بين الحكمين ناتج عن الفرق بين حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق غيره.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في استدلاله بهذه الآية على وجوب قتل من أذى النبي صلى الله عليه وسلم "ودلالتها من وجوه:

أحدها: أنه قرن أذاه بأذاه كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصا عنه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم. بين ذلك أن الله تعالى جعل محبة الله ورسوله، وإرضاء الله ورسوله وطاعة الله ورسوله شيئا واحدا فقال تعالى: {قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ

ص: 172

وأبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزْواجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ} [التوبة: 24] وقال تعالى: {وأطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ} [آل عمران: 132] في مواضع متعددة، وقال تعالى:{واللَّهُ ورَسُولُهُ أحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] فوحد الضمير، وفي ذلك إشارة إلى أن إرضاء الله إرضاء للرسول وإرضاء الرسول فيه إرضاء لله، وقال أيضا {إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] وقال أيضا: {يَسْألونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُول} [الأنفال: 1].

وجعل شقاق الله ورسوله ومحادة الله ورسوله وأذى الله ورسوله ومعصية الله ورسوله شيئا واحدا، فقال:{ذَلِكَ بِأنَّهُمْ شاقُّوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ومَن يُشاقِقِ اللَّهَ ورَسُولَهُ} [الأنفال: 13] وقال: {إنَّ الَّذِينَ يُحادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ} [المجادلة: 20] وقال تعالى: {ألَمْ يَعْلَمُوا أنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ ورَسُولَهُ} [التوبة: 63] وقال: {ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ} [النساء].

وفي هذا وغيره بيان لتلازم الحقَّين، وأن جهة حرمة الله تعالى ورسوله جهة واحدة، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة الرسول، ليس لأحد منهم طريق غيره، ولا سبب سواه وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن يفرق بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور.

وثانيها: أنه فرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتانا وإثما مبينا وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة وأعد له العذاب المهين، ومعلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجلد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل.

الثالث: أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا

ص: 173

مهينًا، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافرا فإن المؤمن يقرب إليها بعض الأوقات ولا يكون مباح الدم، لأن حقن الدم رحمة عظيمة من الله، فلا تثبت في حقه

"

(1)

ومما يوضح ذلك أن سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلق به عدة حقوق:

أ - حق الله سبحانه من حيث كفر برسوله وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته، فإن الطعن في الرسول طعن في المرسِل، وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته.

ب - وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأم، فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصا أمته فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته، فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسب جميعهم، كما أنه أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين.

ج - وتعلق به حق رسول الله كلها من حيث خصوص نفسه فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصا من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة

(2)

.

7 -

وقال تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وقُولُوا انْظُرْنا واسْمَعُوا ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ ألِيمٌ} [البقرة].

(1)

الصارم المسلول (ص 40 - 41)

(2)

الصارم المسلول (ص 393 - 394)

ص: 174

قال بعض المفسرين: هي لغة كانت في الأنصار، نهوا عن قولها تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم وتبجيلا له، لأن معناها ارعنا نرعك، فنهوا عن قولها، إذ مقتضاها كأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم، بل حقه أن يرعى على كل حال.

وقيل: كانت اليهود تعرض بها للنبي صلى الله عليه وسلم بالرعونة

(1)

فنهي المسلمون عن قولها قطعًا للذريعة، ومنعا للتشبه بهم في قولها لمشاركة اللفظة وقيل غير هذا

(2)

.

8 -

وقال تعالى: {وما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ولا أنْ تَنْكِحُوا أزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب].

ففي هذه الآية حرَّم الله على الأمة أن تنكح أزواجه من بعده لأن ذلك يؤذيه وجعله عظيما عند الله تعظيما لحرمته صلى الله عليه وسلم، فحرم تعالى على الأمة ما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضا، وذلك تمييزا لنبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيما لشأنه. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة

(3)

.

ولو أن أحدا أقدم على هذا الأمر فنكح أزواجه أو سراريه لكانت عقوبته في الشرع هي القتل جزاء له بما انتهك من حرمته والدليل على ذلك ما رواه مسلم بسنده عن أنسى بن مالك رضي الله عنه "أن رجلا كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي اذهب فاضرب عنقه فأتاه علي فإذا هو في ركي

(4)

يتبرَّد فيها، فقال له علي أخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي عنه، ثم أتى

(1)

الخفة والحماقة.

(2)

الشفا (2/ 591).

(3)

الصارم المسلول (ص 59).

(4)

الركي: جنس للركية، وهي البئر، وجمعها ركايا. النهاية (2/ 261)

ص: 175

النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر"

(1)

.

قال ابن تيمية رحمه الله: "فهذا الرجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه لما قد استحل من حرمته، ولم يأمر بإقامة حد الزنا، لأن إقامة حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة، بل إن كان محصنًا رجم، وإن كان غير محصن جلد، ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه من غير تفصيل بين أن يكون محصنا أو غير محصن علم أن قتله لما انتهكه من حرمته

فلما تبين أنه كان مجبوبا علم أن المفسدة مأمونة منه

"

(2)

وبالإضافة إلى ما تقدم، فقد أوجب الله على الأمة احترام أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وجعلهن أمهات في التحريم والاحترام

(3)

.

فقال تعالى: {النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ وأزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} [الحجرات: 6] ففي هذه الآية رفع الله مقام أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبوأهن منزلة عالية، وهي منزلة الأمومة لجميع المؤمنين، وفي ذلك من الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام ما يوجب على كل مسلم أن يحفظ لهن هذا الحق ويؤديه على الوجه المطلوب منه شرعا.

وهذه المنزلة لأمهات المؤمنين هي من التشريف والتعظيم الذي أعطاه الله للنبي صلى الله عليه وسلم.

9 -

وقال تعالى: {إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وإذا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ فَإذا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنهُمْ واسْتَغْفِرْلَهُمُ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِواذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ} [النور].

(1)

صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة (8/ 119)

(2)

الصارم المسلول (ص 59 - 60)

(3)

المصدر السابق (ص 433)

ص: 176

ففي هاتين الآيتين الكريمتين منهج تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان ما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمنين في جميع أمورهم التي تربطهم به صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، وخلع عليه جلابيب حرصه عليهم، وعزة عنتهم عليه، وخصه باسمين من أسمائه الحسنى، فجعله رؤوفا رحيما بالمؤمنين، وهذا تعظيم لم يكن قط لغيره صلى الله عليه وسلم لأنه تعظيم يرتبط بأصل الإيمان برسالته وهدايته.

وجاء في الكشاف عند تفسير هذه الآيات: "أراد الله عز وجل أن يريهم عظيم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه، إذا كانوا معه على أمر جامع فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله {إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ} [النور: 62] وضمنه شيئا آخر، وهو أنه جعل الاستئذان كالمصدق بصحة الإيمان وعرض بالمنافقين وتسلُّلهم لواذا"

(1)

.

وبهذه النصوص يتبين للمسلم أن حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم وأكرم وألزم لنا وأوجب علينا من حقوق السادات على مماليكهم والآباء على أولادهم لأن الله تعالى أنقذنا به من النار في الآخرة، وعصم به لنا أرواحنا وأبداننا وأعراضنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا في العاجلة، فهدانا به لأمر إذا أطعناه فيه أدانا إلى جنات النعيم، فأية نعمة توازي هذه النعم وأية منَّة تداني هذه المنن. ثم إنه جل ثناؤه ألزمنا طاعته وتوعدنا على معصيته بالنار، ووعدنا باتباعه الجنة فأي رتبة تضاهي هذه الرتبة، وأي درجة تساوي في العلا هذه الدرجة؟

(1)

الكشاف (3/ 78)(بتصرف يسير).

ص: 177

فحق علينا إذًا أن نحبه ونجلَّه ونعظِّمه ونهابه، فبهذا نكون من المفلحين:{فالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف] فالآية بينت أن الفلاح إنما يكون لمن جمع إلى الإيمان به تعزيره ولا خلاف أن التعزير هنا التعظيم

(1)

فلقد سجل الله في هذه الآية الفلاح بأسلوب الحصر للذين تأدبوا بهذا الأدب القرآني الرفيع.

وكما قال تعالى في الإنافة بمقامه الأشرف، وبيان حقه على كل مؤمن ومؤمنة {إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ} [الفتح].

وقد ذهب علماء السلف إلى أن الضمير في قوله جل شأنه {وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ} راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه: تعظموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفخموه في أدب المخاطبة والتحدث إليه ومجالسته.

قال ابن تيمية: "فالتسبيح لله وحده، والتعزير والتوقير للرسول، والإيمان بالله ورسوله"

(2)

.

فهذه الآيات وغيرها نزلت لتبين مقام شرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم منزلته عند ربه، مما يوجب على المؤمنين برسالته أن يكونوا في مخاطباتهم معه على سنن الإجلال والتعظيم.

(1)

شعب الإيمان للبيهقي، شعبة التعظيم (1/ 302، 303)

(2)

بغية المرتاد (ص 504)

ص: 178

‌المبحث الثالث: تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته

من المعلوم المتقرر أن الصحابة رضوان الله عليهم هم أعرف الأمة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فقد كانوا بقدره ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم.

وبناء على هذا العلم وهذه المعرفة، فقد كان تعظيمهم وتوقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم أشد وأكبر من غيرهم.

وقد أوردت كتب السنة والتفسير وغيرها صورا متعددة من ذلك التعظيم والتوقير الذي كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن أبلغ ما قيل في وصف هذا التعظيم ما قاله عروة بن مسعود

(1)

حين وجهته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى من تعظيم أصحابه له ما رأى، وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقا، ولا ينتخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له.

فلما رجع إلى قريش قال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت مليكا قط

(1)

عروة بن مسعود الثقفي، كان أحد الأكابر في قومه، وكانت له اليد البيضاء في تقرير صلح الحديبية، اتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف فأسلم، واستأذنه أن يرجع إلى قومه، فأذن له فرجع فدعاهم، فرماه أحدهم بسهم وهو يؤذن في السحر فقتله. الإصابة (2/ 470 - 471).

ص: 179

يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، والله إن انتخم نخامة إلا وقعت فيكف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له

"

(1)

فهذه صورة لما كان عليه حال الصحابة وما كان من شأنهم في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره ومراعاة أموره والتبرك بآثاره.

ولما نزل قوله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكُمْ وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات].

ما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستفهمه

(2)

وقال البيهقي: إن هذه الآية "نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري كان إذا جالس النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته إذا تكلم، فلما نزلت هذه الآية انطلق مهموما حزينا فمكث في بيته أياما مخافة أن يكون قد حبط عمله.

وكان سعد بن عبادة

(3)

جاره، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "اذهب فأخبر ثابت بن قيس أنك لم تُعْنَ بهذه الآية ولست من أهل النار بل أنت من أهل الجنة فاخرج إلينا فتعاهدنا" ففرح ثابت بذلك ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصره النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مرحبا

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط. انظر: فتح الباري (5/ 329، 331)

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي برقم (4845).

(3)

سعد بن عبادة الأنصاري، شهد الخزرج، شهد العقبة، وكان أحد النقباء، وكان مشهورا بالجود وكان معه راية الأنصار، توفي سنة خمسة عشرة وقيل سنة ست عشرة من الهجرة بالشام. الإصابة (2/ 27 - 28).

ص: 180

برجل يزعم أنه من أهل النار بل غيرك من أهل النار وأنت من أهل الجنة". فكان بعد ذلك إذا جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخفض صوته حتى ما يكاد أن يسمع الذي يليه فنزلت: {إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات] فقتل يوم اليمامة"

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت {لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ} قال أبو بكر رضي الله عنه لا أكلت إلا كأخي السرار حتى ألقي الله ?"

(2)

.

وعن أسامة بن شريك

(3)

رضي الله عنه قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير" الحديث

(4)

.

وعن البراء بن عازب

(5)

رضي الله عنهما قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير

"الحديث

(6)

.

(1)

شعب الإيمان للبيهقي (1/ 313)

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 462) وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي على شرط مسلم، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان، شعبة تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 317). وأخرجه كذلك في المدخل إلى السنن الكبرى، باب توقير العالم والعلم ص (379)(ح 653). وأورده السيوطي في الدر المنثور (7/ 548) وعزاه لعبد بن حميد والحاكم والبيهقي في الشعب.

(3)

أسامة بن شريك الثعلبي من بني ثعلبة، له صحبة، وروى حديثه أصحاب السنن وأحمد وابن خزيمة، وابن حبان والحاكم. الإصابة (1/ 46 - 47)

(4)

أخرجه بهذا اللفظ أبو داود في سننه كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى (4/ 192 - 193)(ح 3855)، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 278).

(5)

البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري الأوسي، له ولأبيه محبة استصغره النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وشهد أحدا وما بعدها توفي سنة اثنتين وسبعين. الإصابة (1/ 146 - 147)

(6)

أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في مسنده (4/ 287). وأخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الجلوس في المقابر (1/ 494)(ح 1549).

ص: 181

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فقال: " إنما أخشى عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من بركات الأرض "ثم ذكر زهرة الدنيا فبدأ إحداهما وثنى بالأخرى، فقام رجل فقال: يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا يوحى إليه، وسكت الناس كأن على رؤوسهم الطير" الحديث

(1)

.

فالشاهد من الآثار الثلاثة المتقدمة قولهم "كأن على رؤوسهم الطير" فهذه العبارة هي كناية عن التعظيم الذي كانوا يظهرونه في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم توقيرا وإجلالا له صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن من عادة الصحابة رضوان الله عليهم أن يتجادلوا في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أو يعلوا أصواتهم بنقاش أو حوار بل يعطون لهذا المجلس حقه من التشريف والاحترام وعن بريدة بن الحصيب

(2)

? قال: "كنا إذا قعدنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نرفع رؤوسنا إليه إعظاما له"

(3)

.

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: "وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منة إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله. انظر فتح الباري (6/ 48، 49)(ح 2842).

(2)

بريدة بن الحصيب بن عبد الله الأسلمي، قيل إنه أسلم حين مر به النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا، وقيل: أسلم بعد منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من بدر، وفي الصحيحين عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة، وأخباره كثيرة ومناقبه مشهورة، مات سنة ثلاث وستين. الإصابة (1/ 150)

(3)

أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى، باب توقير العالم والعلم (ص 381)(ح 658)

ص: 182

عيني منه"

(1)

.

وعن أنس رضي الله عنه: "أن رسول الله كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر فلا يرفع إليه أحد منهم بصره إلا أبو بكر وعمر فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ويبتسمان إليه ويبتسم إليهما

(2)

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، قال: فقمت وتوضأت أصلي خلفه فأخذ بيده فجعلني حذاءه فخنست

(3)

فقمت خلفه فأخذ بيدي فجعلني حذاءه فخنست فقمت خلفه، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ما لي كلما جعلتك حذائي خنست؟ ".

قال: فقلت له: لا ينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله.

قال: فدعا الله أن يزيدني فهما وعلما"

(4)

.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير"

(5)

.

وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (1/ 78)

(2)

أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (5/ 612)(ح 3668)، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث الحكم بن عطية، وقد تكلم بعضهم في الحكم بن عطية.

(3)

خنست: أي انقبضت وتأخرت. النهاية (2/ 83)

(4)

أخرجه أحمد في المسند (1/ 330). وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 534) وقال: حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان، باب شعبة تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 320، 321)(ح 129).

(5)

رواه البزار كما في كشف الأستار (2/ 421). والبيهقي في شعب الإيمان، باب شعبة تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 338)(ح 134)

ص: 183

ليقرعون بابه بالأظافير"

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا في المسجد يحدثنا فإذا قام، قمنا حتى نراه، وقد دخل بعض بيوت أزواجه

" الحديث

(2)

.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لما كان يوم بدر فذكر الحديث في الأسارى وذكر قول عمر في قتلهم فقال ابن مسعود قلت: يا رسول الله إلا سهل بن بيضاء

(3)

فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم بدر أخوف أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرب الحاكم في معرفة علوم الحديث النوع الخامس (ص 19). وأخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (ص 381).

وقال السخاوي في فتح المغيث (1/ 117) الحديث أخرجه الحاكم في علومه وكذا في الأمالي كما عزاه إليهما البيهقي في المدخل حيث أخرجه عن راو.

ورواه أبو نعيم في المستخرج على علوم الحديث له (أي الحاكم) عن راو آخر كلاهما عن أحمد ابن عمرو (كذا) الزيبقي عن زكريا بن يحبس المنقري، عن الأصمعي، عن كيسان مولى هشام بن حسان، وفي رواية أبي نعيم عن هشام بن حسان.

وفي رواية الآخرين عن محمد بن حسان زاد البيهقي: "وهو أخو هشام بن حسان وهو حسن الحديث" انتهي قول السخاوي.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم (5/ 133، 134)(ح 4773)، وأخرجه النسائي في سننه، في القسامة، باب القود، من الجندة (8/ 33، 34). وأخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (ص 401)(ح 717)

(3)

سهل بن بيضاء القرشي، وبيضاء أمه واسمها دعد واسم أبيه وهب بن ربيعة بن هلال القرشي، كان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم، أسلم بمكة فكتم إسلامه فأخرجته قريشا إلى بدر فأسر يومئذ فشهد له ابن مسعود أنه رآه يصلى بمكة فأطلق ومات بالمدينة. الإصابة (2/ 84)

ص: 184

إلا سهل بن بيضاء "

(1)

.

وعن أبي رمثة

(2)

قال: قدمت المدينة ولم أكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج وعليه ثوبان أخضران فقلت لابني هذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ابني يرتعد هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم "

(3)

.

وعن أبي جري جابر بن سليم

(4)

قال: "رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث

(5)

.

(1)

أخرجه أحمد في مسنده (1/ 383). وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب التفسير، تفسير سورة الأنفال (4/ 335) (ح 5080) وقال: حديث حسن وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. وأخرجه الطبراني في الكبير (10/ 177)(ح 10258) بنحوه. وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 21 - 22) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1/ 325)(ح 130)

(2)

أبو رمثة -بكسر أوله وسكون الميم ثم مثلثة- التيمي اختلف في اسمه فقيل: رفاعة بن يثربي، ويقال عكسه، ويقال عمارة بن يثربي، وقيل غير ذلك، له صحبة، ومات بأفريقية. الإصابة:(4/ 71) وتقريب التهذيب (406).

(3)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 226 - 227 - 228) بعدة طرق عن لقيط بن إياد عن أبي رمثة به. وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب اللباس، باب في الخضرة (4/ 334)(ح 4065)، وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب الأدب، باب ما جاء عن الثوب الأخضر (5/ 119)(ح 2812). وأخرجه النسائي في سننه، كتاب الزينة، باب لبس الخضر من الثياب (8/ 204)، وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1/ 342) وفي دلائل النبوة (1/ 237)

(4)

أبو جري -بالتصغير- الهجيمي واسمه جابر بن سليم وقيل سليم بن جابر، وقال البخاري الأول أصح، له صحبة، وهو من بني أنمار بن الهجيم بن عمرو بن تميم. تهذيب التهذيب (12/ 54)

(5)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب اللباس، باب ما جاء في إسبال الإزار (4/ 344)(ح 4084) واللفظ له. وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب الاستئذان، باب كراهية أن يقول عليك السلام مبتدئا وقال حسن صحيح (5/ 71، 72)(ح 2721)

ص: 185

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل"

(1)

.

وعن أنسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه كان أبو طلحة

(2)

أول من أخذ من شعره"

(3)

.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى إناء إلا غمس يده فيها فربما جاؤوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها"

(4)

.

ولما بعثت قريش أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد في عقد صلح الحديبية ويزيد في المدة، فلما قدم المدينة دخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته، فقال: يا بنية ما أدري أرغبت لي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراشة

"

(5)

فأكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجل عليه رجل مشرك.

ولما قدم أبو سفيان مكة بعد ذلك قالت له قريش ما وراءك هل

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب قرب النبي عليه السلام من الناس وتبركهم به (7/ 79)

(2)

اسمه زيد بن سهل وقد تقدم ترجمته

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان. انظر: فتح الباري (3/ 237)(ح 171).

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس وتبركهم به (7/ 79).

(5)

أورده ابن كثير في البداية (4/ 280) من طريق ابن إسحاق، وابن حجر في الإصابة (4/ 299، 300).

ص: 186

جئت بكتاب من محمد أو عهد؟ قال": لا والله قد أبي علي، وقد تتبعت أصحابه فما رأيت قوما لملك عليهم أطوع منهم له

"

(1)

".

ولما قال رأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول

(2)

لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال رسول الله لا: "ادعوا لي عبد الله بن أبي

(3)

فدعاه، فقال: ألا ترى ما يقول أبوك؟ قال: وما يقول بأبي أنت وأمي؟ قال: يقول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

فقال: فقد صدق والله يا رسول الله، أنت والله الأعز وهو الأذل أما والله قد قدمت المدينة يا رسول الله، وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبر مني، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لأتينهما به.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا". فلما قدموا المدينة، قام عبد الله بن عبد الله بن أبي على بابها بالسيف لأبيه، ثم قال: أنت القائل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله، والله لا يأويك ظله، ولا تأويه أبدا إلا بإذن من الله ورسوله.

فقال: يا للخزرج ابني يمنعني بيتي، يا للخزرج ابني يمنعني بيتى

(1)

البداية لابن كثير (4/ 282).

(2)

عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن عبيد الخزرجى، أبو الحباب المشهور بابن سلول، وسلول جدته لأبيه رأس المنافقين في الإسلام أظهر الإسلام بعد وقعة بدر، تقية، مات بالمدينة سنة تسع من الهجرة، طبقات ابن سعد (2/ 3/ 90).

(3)

عبد الله بن عبد الله بن أبي بن مالك: وهو ابن عبد الله بن أبي رأس المنافقين الذي تقدمت ترجمته. وكان اسم عبد الله بن عبد الله" الحباب" فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله وهو صحابي جليل، شهد بدرا وما بعدها، واستشهد باليمامة في قتال الردة سنة اثنتي عشرة. الإصابة (2/ 327، 328).

ص: 187

فقال: والله لا تأويه أبدا إلا بإذن منه.

فاجتمع إليه رجال فكلموه، فقال: والله لا يدخله إلا يإذن من الله ورسوله فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. فقال: "اذهبوا إليه، فقولوا له خله ومسكنه، فأتوه فقال: أما إذا جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم"

(1)

.

وفي رواية عند الترمذي: "فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز، ففعل"

(2)

.

وبعد، فهذا غيض من فيض مما ورد في تعظيم الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وفي الحقيقة فإن كل مواقفهم تشهد لهم بتعظيمه واحترامه وتوقيره.

فلقد كانوا يعظمونه في ذاته فيتبركون بآثاره كفضل وضوئه، والأخذ من شعره، ودلك أجسامهم بنخامته، وغير ذلك مما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

، وهذا خاص في حقه صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه الطبري في تفسيره (28/ 114، 115) تفسير سورة المنافقون الآية (8)

(2)

سنن الترمذي (5/ 418)(ح 3315) كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المنافقين. وأورده ابن كثير في تفسيره (4/ 372) وعزاه للحميدي في مسنده وأورده ابن حجر في فتح الباري (8/ 652).

(3)

قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتابه تيسير العزيز الحميد (ص 153، 154): ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشرب سؤرهم، والتمسح بهم أو بثيابهم، وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين، والتبرك بعرقهم ونحر ذلك، وقد أكثر في ذلك أبو زكريا النوري في

"شرح مسلم" في الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا شيئا مع النبي صلى الله عليه وسلم وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا خطأ صريح لوجوه منها:

1 -

عدم المقاربة فضلا عن المساواة للنبي صلى الله عليه وسلم في الفضل والبركة.

2 -

ومنها عدم تحقق الصلاح، فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص، كالصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله، أو أئمة التابعين، أو من شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأمة بالصلاح وقد عدم أولئك، أما غيرهم فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم.

3 -

ومنها أنا لو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء، والأعمال بالخواتيم، فلا يكون أهلا للتبرك بآثاره.

4 -

ومنها أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، فهلا فعلوه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وكذلك التابعون هل فعلوه مع سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وأويس القرني والحسن البصري ونحوهم ممن يقطع بصلاحهم، فدل أن ذلك مخصوص للنبي صلى الله عليه وسلم.

5 -

ومنها أن فعل هذا مع غيره شيء لا يؤمن أن يفتنه وتعجبه نفسه، فيورثه العجب والكبر والرياء، فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم" انتهي.

ص: 188

كما كانوا يعظمونه في سلوكهم وتصرفاتهم معه صلى الله عليه وسلم فما كانوا ينادونه إلا بـ "يانبي الله، يا رسول الله" كما كانوا يسارعون في إجابته ويعاجلون في طاعته، تحقيقا لقوله تعالى {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63].

وكان صلى الله عليه وسلم عندهم معزَّزا موقرا مهابا، ولم يكونوا يعاملونه بالاسترسال والمباسطة كما يعامل الأكفاء بعضهم بعضا. وكانوا يخفضون أصواتهم عنده صلى الله عليه وسلم حتى ما يكاد أحدهم يسمع الذي يليه امتثالا لقوله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ

} الآية.

فقد أدبهم الله مع نبيهم في الحدي والخطاب حتى يميز شخص رسول الله بينهم، ويميز مجلسه فيهم.

وبذلك امتدحهم سبحانه وتعالى بقوله: {إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ} .

كما أنهم لم يكونوا ليتقدموا بين يديه بالكلام حتى يأذن لهم

ص: 189

وذلك طاعة لقوله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} - حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يسألهم عن اليوم الذي هم فيه والمكان الذي هم فيه، وهم يعلمونه حق العلم، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم الله ورسوله أعلم خشية أن يكون قولهم تقدما بين يدي الله ورسوله.

وإذا جلسوا بين يديه صلى الله عليه وسلم أعطوا هذا المجلس الشريف حقه من التعظيم والإجلال والتكريم حتى لكأنما على رؤوسهم الطير وذلك لماهم عليه من السكينة والأدب الشرعي الذي أدبهم الله به ورسوله صلوات الله وسلامه عليه. وكانوا لا يحدون إليه النظر تعظيما ومهابة له صلى الله عليه وسلم وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره فلا يقول شيئا إلا صدروا عنه وأطاعوه فيه وبادروا إلى امتثاله وتنفيذه والعمل به.

وكيف لا يكون الأمر كذلك؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان كل شيء في حياتهم، فقدكان معلمهم ومربيهم وقائدهم وقدوتهم، ومصلحهم في الدنيا والشهيد عليهم في الآخرة، وكان يعنى بهم أكثر من عنايتهم بأنفسهم، يهتم بما يصلحهم أكثر من اهتمامهم بمصالحهم، ويرى أنه بما حمله الله من أمانة تكوينهم ورعاية شؤونهم والسهر على مصالحهم، أولى بهم من أنفسهم، وهذا ما أكده القرآن الكريم بقوله عز وجل:{النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ} الآية [الأحزاب: 6].

ولذلك فقد كان من البداهة بمكان أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة في حياة الصحابة رضوان الله عليهم، وأن يكون هو الآمر الناهي، والسيد المطاع الذي لا رد له أمر ولا يخالف له رأي {وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا} [الحشر: 7].

ولقد توالت الآيات الكريمة التي تعلم الصحابة رضوان الله عليهم آداب السلوك معه، وتبين مكانة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي اختاره لحمل الرسالة، وما ينبغي أن يعطى من الإجلال والتكريم.

ص: 190

وكلما حدث إخلال وتقصير في جانب توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم فإن آيات القرآن تنزل مبينة لذلك الخلل والتقصير الذي وقع ومنبهة على خطورته ومحذرة من عواقب التمادي فيه كما في قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} الآية. وقوله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ

} الآية.

وقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وراءِ الحُجُراتِ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات].

وغير ذلك من الآيات التي نزلت في هذا الشأن، وإن شئت فاقرأ أسباب نزول تلك الآيات في كتب التفسير والحديث.

ومن ثَمَّ، فإن المخاطبين بهذه الآيات من الصحابة انتهوا إلى العمل بها وذلك طاعة لأمر الله وتعظيما لحق رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قررته تلك الآيات وأرشدت إليه. وكما كان هذا هو الحال في جانب الطاعة، فكذلك الحال في جانب الحذر من مخالفته ومعصيته.

فالصحابة الذين عرفوا واشتهر عنهم طاعته صلى الله عليه وسلم هم الذين اشتهر عنهم بعدهم عن معصيته ومخالفته وذلك لعلمهم بما في ذلك من المحادة والمحاربة له ولشرعه صلى الله عليه وسلم وما يترتب على ذلك من العقوبة الشديدة قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُحادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ} [المجادلة]، وقال تعالى:{ألَمْ يَعْلَمُوا أنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَأنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدًا فِيها} [التوبة: 63]، وقال تعالى:{إنَّ الَّذِينَ يُحادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5].

ولقد كانت منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه أغلى وأعز عليهم من كل شيء حتى من نفوسهم وأهليهم وما سوى ذلك، فقد كانوا يفتدونه بأرواحهم ويبذلون في سبيل نصرته كل ما يملكون من غالي ورخيص،

ص: 191

فقد حثَّهم الله على ذلك بقوله {ما كانَ لأهْلِ المَدِينَةِ ومَن حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرابِ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ولا يَرْغَبُوا بِأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120].

كما أنهم يعادون من يحارب الله ورسوله مهما كانت صلتهم وثيقة به حتى وإن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم، ومواقفهم في ذلك كثيرة ومشتهرة.

وقد تقدم ذكر موقف أم حبيبة رضي الله عنهما مع أبيها أبو سفيان وموقف عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول مع أبيه عبد الله بن أبي.

وبالجملة فإن مجتمع الصحابة كان مجتمع الأمة المثالية التي تمثلت حقيقة واقعة في فترة من فترات التاريخ، ولقد كان الصحابة قبل الإسلام يعيشون في مجتمع اشتهر بغلظته وقساوة طبعه وبعده عن كثير من الآداب والسلوكيات فمن الله عليهم بالإسلام وهداهم له، واختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتوالت توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة عليهم، فهذبت وشذبت ووجهت ودفعت حتى ظهر ذلك المجتمع الذي له أدبه مع الله وأدبه مع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأدبه مع نفسه، وأدبه مع غيره أدبه، في هواجس ضميره، وفي حركات جوارحه، وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله نظمه التي تكفل صيانته، وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب، وتنبثق منه، وتتسق معه.

فما ظنك في مجتمع اختاره الله لصحبة نبيه وتولاه بعنايته ورعايته، وتعاهدهم رسوله بتوجيهاته ونصائحه وإرشاداته حتى سما وعلا وبلغ تلك الدرجة الرفيعة عند الله سبحانه وتعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم.

* * *

ص: 192

‌المبحث الرابع: تعظيم الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته

ويشتمل على تمهيد وأربعة مطالب

‌تمهيد:

سبق وأن تقرر - بما تقدم من أدلة وبراهين - وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيره وتوقيره.

وعلمنا كذلك ما كان من حال الصحابة رضوان الله عليهم تجاه هذا الواجب الذي فرضه الله على الأمة في حق نبيه صلى الله عليه وسلم، وما كان منهم من تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، حينما كان بين ظهرانيهم يعايشمهم ويعايشونه.

والسؤال الذي يفرض نفسه في مثل هذا المقام هو: كيف يتحقق لهذه الأمة تعظيم نبيها صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وما هي الأمور التي يشرع فعلها والقيام بها لتحقيق ما أمر الله به في هذا الجانب من جوانب الإيمان والدين؟

وقبل أن أشرع في تفاصيل جواب هذا السؤال وإيضاح جوانبه أود أن أذكر بأن هذا التعظيم والتوقير الواجب للنبي صلى الله عليه وسلم هو من أمور الدين المشروعة بأدلة القرآن والسنة، وبذلك فلا يحق لكائن من كان أن يعظم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من عنده لم يشرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ليس له أول فيهما.

فالقاعدة الشرعية المبنية على قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا

ص: 193

هذا ما ليس منه فهو رد" تقول إن أي أمر محدث في هذا الدين مما لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم هو أمر مردود على فاعله كائنا من كان، وهو بدعة، وكل بدعة ضلالة. وهذه القاعدة الشرعية هي الميزان الذي يعرض عليه ما يقوم به الناس من أقوال وأفعال في هذا الجانب - أي جانب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بل وفي كل جانب من جوانب الدين.

وإذا كانت العبادة هي الاسم الجامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فمما لا شك فيه أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور التي يحبها الله، وقد ارتضاها لعباده حين أمرهم بذلك.

فإذا كان تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور التعبدية التي تعبَّد الله بها عباده، فالعبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فالعبادة مبنية على أصلين هما:

الأصل الأول: إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، قال تعالى:{وما أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ} [البينة: 5].

الأصل الثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا نعبده بالأهواء والبدع، قال الله تعالى {ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فاتَّبِعْها ولا تَتَّبِعْ أهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية] وقال تعالى {أمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] فليس لأحد أن يعبد الله إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم من واجب أو مستحب، وليس لنا أن نعبده بالأمور المبتدعة

(1)

.

وهذان الأصلان هما حقيقة قولنا "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله".

(1)

مجموع الفتاوى (1/ 80) بتصرف.

ص: 194

وعلى هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله تعالى أمره ونهيه وتحليله،

وتحريمه، بالحلال مما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، فليس لأحد كائنا من كان أن يشرع في هذا الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد قدمت لكلامي بهذه العبارات نظرا لما أحدثه الناس في هذا الجانب من بدع تحت دعوى تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم، مما ليس له أصل في الدين وما أنزل الله به من سلطان.

ومن العجيب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين لابد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق.

ولقد كان حري بهؤلاء الذين ابتدعوا تلك البدع، وكذلك الذين أخذوا بها من بعدهم، أن يلتزموا بما ورد به أمر الشارع من أمور في جانب تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، ففيها الغنية والنجاة، وبالتمسك بها والسير عليها يحصل الأجر العظيم بإذن الله تعالى.

ص: 195

‌المطلب الأول: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم محله القلب واللسان والجوارح

لقد أرسل الله سبحانه وتعالى نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الإنس والجن، على حين فترة من الرسل، فهدى به لأقوم طريق وأوضح سبيل، وبعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فإن رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، فإنهم كانوا بين عباد أوثان، وعباد صلبان، وعباد نيران، وعباد كواكب، ومغضوب عليهم قد باؤوا بغضب من الله، وحيران لا يعرف ربا يعبده، ولا بماذا يعبده، والناس يهل بعضهم بعضا من استحسن شيئا دعا إليه وقاتل من خالفه، وليس في الأرض موضح قدم مشرق بنور الرسالة، "وقد نظر الله سبحانه إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا على آثار دين صحيح"

(1)

فأغاث الله به البلاد والعباد وكشف به تلك الظلم وأحيا به الخليقة بعد الموت.

فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه حتى أتاه اليقين.

ففرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي،

(1)

هذه العبارة جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (8/ 159) ولفظها في مسلم "وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب

" الحديث.

ص: 196

وطريق أهل الجنة وطريق أهل النار، وبين أوليائه وأعدائه، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله.

فعرف الناس ربهم ومعبودهم غاية ما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، وأبدأ وأعاد، واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، حتى تجلَّت معرفته سبحانه في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشك والريب عنها كما ينجاب السحاب عن القمر ليلة إبداره، ولم يدع لأمته حاجة في هذا التعريف لا إلى من قبله ولا إلى من بعده، بل كفاهم وشفاهم وأغناهم عن كل من تكلم في هذا الباب قال تعالى:{أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت].

وعرَّف الأمة الطريق الموصل لهم إلى ربهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدع حسنا إلا أمرهم به، ولا قبيحا إلا نهى عنه كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم"

(1)

.

وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد تركنا محمدا وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علما"

(2)

.

وعرفهم حالهم بعد القدوم على ربهم أتم تعريف، فكشف الأمر وأوضحه ولم يدع بابا من العلم النافع للعباد المقرب لهم إلى ربهم إلا فتحه ولا مشكلا إلا بينه وشرحه، حتى هدى الله به القلوب من ضلالها، وشفاها به من أسقامها، وأغاثها به من جهلها، فهو الرحمة المهداة

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (6/ 18).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الطهارة، باب الاستطابة برقم (262).

ص: 197

للعالمين قال تعالى: {وما أرْسَلْناكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [الأنبياء] فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء.

ولقد جبله الله على مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فإن من نظر في أخلاقه وشيمه صلى الله عليه وسلم علم أنها خير أخلاق، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أعلم الخلق، وأعظمهم أمانة وأصدقهم حديثا وأجودهم وأسخاهم وأشدهم احتمالا، وأعظمهم عفوا ومغفرة، وكان لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، كما روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو أنه قال في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة "محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء وأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، حتى يقولوا لا إله إلا الله"

(1)

.

وأرحم الخلق وأرأفهم بهم وأعظم الخلق نفعا لهم في دينهم ودنياهم وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبيرا عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد وأصبرهم في مواطن الصبر، وأصدقهم في مواطن اللقاء، وأوفاهم بالعهد والذمة، وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه، وأشدهم تواضعا، وأعظمهم إيثارا على نفسه، وأشد الخلق ذبا عن أصحابه وحماية لهم ودفاعا عنهم، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهي عنه، وأوصل الخلق لرحمه.

وكان أجود الناس صدرا، وأصدقهم لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته لم ير قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.

وقد خصه الله بصفتين خص بهما أهل الصدق والإخلاص وهما

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق. برقم (2125).

ص: 198

الإجلال والمحبة، فقد ألقى عليه هيبة منه ومحبة، فكان كل من يراه يهابه ويجله ويملأ قلبه تعظيما وإجلالا، وإن كان عدوا له، فإذا خالطه وعاشره كان أحب إليه من كل مخلوق، فهو المجل المعظم المحبوب المكرم، وهذا غاية كمال المحبة أن تقرن بالتعظيم والهيبة، فالمحبة بلا تعظيم ولا هيبة ناقصة، والهيبة والتعظيم من غير محبة - كما يكون الظالم القادر - نقص أيضا، والكمال أن تجتمع المحبة والود والتعظيم والإجلال، وهذا لا يوجد إلا إذا كان في المحبوب صفات الكمال التي يستحق أن يعظم لأجلها ويحب لأجلها

(1)

.

ولقد جمع الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم من الصفات والخصائص ما لم يجمعه لبشر وافترض على العباد طاعته وتعزيره وتوقيره ورعايته والقيام بحقوقه، وامتثال ما قرره في مفهومه ومنطوقه، والصلاة عليه والتسليم ونشر شريعته بالعلم والتعليم، وجعل الطرق مسدودة عن جنته، إلا من سلك طريقه واعترف بمحبته، وشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، فيا سعد من وفق لذلك ويا ويح من قصر عن هذه المسالك

(2)

.

وما هذه المحبة والمهابة التي جعلها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا تبع لمحبته سبحانه وإجلاله.

ذلك لأن كل محبة وتعظيم للبشر إنما هي تبع لمحبة الله وتعظيمه فمحبة الرسول وتعظيمه إنما هي من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فأمته يحبونه لمحبة الله له، ويعظمونه ويبجلونه لإجلال الله له فهي من موجبات محبة الله وتعظيمه، ولهذا لم يكن بشر أحب إلى بشر ولا أهيب ولا أجل في صدره من رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر أصحابه رضي الله عنهم.

(1)

جلاء الأفهام (ص 89، 94) بتصرف.

(2)

القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع للسخاوي (ص 11)(بتصرف).

ص: 199

فإذا كان هذا شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه مكانته التي بوأه الله إياها، فحرى بهذه الأمة أن تعرف له قدره وتعظم من شأنه وذلك بموجب ما شرعه الله وأمر به، فذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به.

وهذا التعظيم والتوقير الواجب له صلى الله عليه وسلم على كل فرد من أفراد هذه الأمة محله القلب واللسان والجوارح.

أما تعظيم القلب: فهو ما يتبع اعتقاد كونه عبدا رسولا، من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين، والتي من لوازمها الإكثار من ذكره الذي هو سبب لدوام محبته صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها.

وكذلك فإن من تعظيم القلب استشعاره لهيبة النبي صلى الله عليه وسلم وجلالة قدره وعظيم شأنه، واستحضاره لمحاسنه ومكانته ومنزلته، والمعاني الجالبة لحبه وإجلاله وكل ما من شأنه أن يجعل القلب ذاكرا لحقه من التوقير والتعزير، ومعترفا به ومذعنا له.

فالقلب ملك الأعضاء وهي له جند وتبع، فمتى ما كان تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم مستقرا في القلب مسطورا فيه على تعاقب الأحوال فإن آثار ذلك ستظهر على الجوارح حتما لا محالة، وحينئذ سترى اللسان يجري بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وترى باقي الجوارح ممتثلة لما جاء به ومتبعة لشرعه وأوامره، ومؤدية لما له من الحق والتكريم.

أما تعظيم اللسان: فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأثنى على نفسه من غير غلو ولا تقصير. ومن أعظم ذلك الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، فقد أمر الله عباده المؤمنين بأن يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعال:{إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وهذا من تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتوقيره.

قال الحليمي: "معنى الصلاة على النبي علمًا تعظيمه، فمعنى قولنا: "اللهم صل على محمد" عظم محمدا، والمراد تعظيمه في الدنيا

ص: 200

بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته وإبداء فضيلته بالمقام المحمود، وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى {صَلُّوا عَلَيْهِ} أدعوا ربكم بالصلاة عليه"

(1)

.

فالصلاة منا عليه صلى الله عليه وسلم تتضمن ثناء المصلي عليه والإشارة بذكر شرفه وفضله

(2)

وإرادة من الله تعالى أن يعلي ذكره ويزيده تعظيما وتشريفا

(3)

وسيأتي مزيد تفصيل لهذا الموضوع في الفصل الثالث من هذا الباب بإذن الله تعالى.

ومن تعظيم اللسان كذلك أن نتأدب عند ذكره بألسنتنا وذلك بأن نقرن ذكر اسمه بلفظ النبوة أو الرسالة مع الرسالة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} فأمر سبحانه أن لا يدعى رسوله بما يدعو الناس بعضهم بعضا بل يقال: يا رسول الله يا نبي الله ولا يقال يا محمد وقد كان الصحابة لا يخاطبونه إلا بـ "يا رسول الله، يا نبي الله".

وإذا كان هذا في حياته فهكذا في مغيبه لا ينبغي أن يجعل ذكره من جنس ما يذكر به غيره، بل يجب أن يقرن ذكره بالنبوة أو الرسالة وأن يدعى له بأشرف دعاء وهو الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم

(4)

. فهذا من التعظيم الواجب له صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: "رغم أنف رجل ذُكرت عنده فلم يصل عليّ"

(5)

.

(1)

المنهاج في شعب الإيمان (2/ 134)(بتصرف يسير).

(2)

جلاء الأفهام (ص 78).

(3)

جلاء الأفهام (ص 79).

(4)

جلاء الأفهام (ص 80)(بتصرف).

(5)

أخرجه الترمذي في السنن، كتاب الدعوات، باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رغم أنف رجل"(5/ 550)(ح 3545) وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2387). وأخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 8 - 9 - 10)(ح 15 - 16 - 17 - 18 - 19)، وقال الألباني في تعليقه عليه:"حديث صحيح بشواهده". وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 549).

ص: 201

وفي الحديث الآخر "البخيل من ذُكرت عنده فلم يصل عليّ"

(1)

.

ومن تعظيم اللسان تعداد فضائله وخصائصه ومعجزاته ودلائل نبوته وتعريف الناس بسنته وتعليمهم إياها وتذكيرهم بمكانته ومنزلته وحقوقه، وذكر صفاته وأخلاقه وخلاله، وما كان من أمر دعوته وسيرته وغزواته والتمدح بذلك شعرًا ونثرًا، بشرط أن يكون ذلك في حدود ما أمر به الشارع الكريم، مع الابتعاد عن مظاهر الغلو والإطراء المحظور.

وأما وتعظيم الجوارح له صلى الله عليه وسلم: فهو العمل بشريعته، والتأسي بسنته، والأخذ بأوامره ظاهرا وباطنا، والتمسك بها والحرص عليها، وتحكيم ما جاء به في الأمور كلها، والرضا بحكمه والتسليم له، والسعي في إظهار دينه، ونصر ما جاء به، وتبليغ رسالته للناس ودعوتهم للإيمان به والذب عن سنته والدفاع عنها وتعلمها وتعليمها وخدمتها، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله، وجهاد من خالفه.

والاجتناب عما نهي عنه وزجر، والبعد عن معصيته ومخالفته والحذر من ذلك، والتوبة والاستغفار عما وقع فيه الزلل والتقصير.

فالله سبحانه وتعالى هو الذي جعل لنبيه صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة في حياة المسلمين، فقد أوجب علينا طاعته وحرم علينا معصيته وجعله الآمر الناهي والسيد المطاع الذي لا يرد له أمر، ولا يخالف له رأي فمن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يصلون ما بينهم وبين ربهم إلا بواسطة الرسول، فليس لأحد منهم طريق غيره ولا سبب سواه، وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه وإخباره وبيانه. قال تعالى:{وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا} [الحشر: 7].

(1)

أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"رغم أنف رجل"(3546)، والإمام أحمد في مسنده (1/ 201)، والحاكم في المستدرك (1/ 549) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/ 177).

ص: 202

وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

وقال تعالى: {وأطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران].

وقال تعالى: {فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء].

وقال تعالى: {إنَّما كانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [النور].

فهذه الآيات وغيرها تبيِّن عظم أمر اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في حياة المؤمنين، وأنه هو البرهان العملي على صدق الإيمان والمحبة والتعظيم لله تعالى ولنبيه صلى الله عليه وسلم فالطاعة والاتباع هما سمة المؤمنين الصادقين وسبيلهم الدائم، ذلك لأن الإيمان هو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علما، والتصديق به عقدا والإقرار به نطقا، والإنقياد له محبة وخضوعا، والعمل به ظاهرا وباطنا وتنفيذه والدعوة إليه حسب الإمكان.

وكماله الحب في الله، والبغض في الله، والعطاء لله والمنع لله، وأن يكون الله وحده معبوده.

والطريق إليه تجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى غير الله"

(1)

.

وبالجملة فإن التعظيم النافع هو تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر وطاعته فيما أمر والانتهاء عما نهي عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع.

(1)

منزلة السُّنَّة في التشريع الإسلامي (ص 4 - 5) وعزاه لابن القيم ولم أقف عليه في كتبه.

ص: 203

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإنما تعظيم الرسل بتصديقهم فيما أخبروا به عن الله وطاعتهم فيما أمروا به ومتابعتهم ومحبتهم وموالاتهم"

(1)

فالاتباع هو المحك الذي يميز من خلاله مدى صدق مدعي التعظيم في دعواه تلك. إذ كيف يعقل أو يتخيل أن يدعي شخص تعظيم النبي وتوقيره وهو لا يلتزم بما جاء به من أمر أو نهي، ولا يقيم وزنا ولا اعتبارا لما جاء به.

ولقد جعل الله الإتباع هو برهان محبته سبحانه حيث قال: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران].

وجعله كذلك شرطا للإيمان الذي يعد تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم جزءا منه، قال تعالى:{فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء].

فالاتباع صفة من صفات أهل الإيمان كما قال تعالى: {إنَّما كانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [النور]، وقال تعالى:{وما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللَّهُ ورَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ} [الحجرات: 36].

فهل الموقر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من تمسَّك بسُنَّته واعتصم بها وسار على نهجه واقتفى أثره.

فأتباع كل نبي ومحبُّوه ومعظِّموه هم الذين أخذوا بسنته واقتدوا بأمره كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما

(1)

كتاب الرد على الأخنائي (ص 24، 25).

ص: 204

لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"

(1)

.

فالنبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لنا صفة أتباع الأنبياء بأنهم هم الذين عظموا أمرهم وأخذوا بسنتهم وعملوا بأوامرهم.

وأما من عداهم فهم ليسوا بأتباع لهم وإنما هم أناس يستحقون المجاهدة ويستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: "يقولون ما لا يفعلون"؟ أن مجرد الدعوى القولية المجردة عن الفعل الذي أمر به الشارع لا تغني صاحبها شيئا.

ويستفاد من قوله "ويفعلون ما لا يؤمرون" أن الأفعال المبتدعة التي لم يأمر بها الشارع هي كذلك لا تنفع صاحبها ولا تغني عنه من الله شيئا.

وهذا الوصف ينطق تماما على أصحاب البدع المقيمين للموالد وغيرها من البدع، زاعمين أنهم ما فعلوا تلك الأمور إلا محبة للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيما لشأنه، فهم فعلوا ما لم يؤمروا به، وأفعالهم وأحوالهم لا تطابق أقوالهم، ولو بحثنا عن وصف نصف به هؤلاء لم نجد أبلغ من هذا الوصف "يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون".

وليتهم قاموا بما أوجب الله عليهم وشرعه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لكان خيرا لهم وأجدى. ولكنهم أناس أوقعوا أنفسهم في محاذير متعددة منها:

1 -

أنهم فعلوا ما لم يؤمروا به وهم معترفون بأن تلك الموالد

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم (49).

ص: 205

والأمور التي تفعل فيها لم يشرعها الله في كتابه ولم يشرعها رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها أحد من أصحابه رضوان الله عليهم.

2 -

أنهم خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أمرهم بالاتباع وترك الابتداع فقد

قال صلى الله عليه وسلم "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"

(1)

والله تعالى يقول: {وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا} [الحشر: 7].

3 -

أنهم رغبوا عن سنن المصطفى ورضوا بما أملته عليهم أهواؤهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فمن رغب عن سنتي فليس مني"

(2)

.

فالإحداث في شريعته صلى الله عليه وسلم يعد رغبة عن سنته وهذا ما دلت عليه القصة الواردة في الحديث السابق.

4 -

أنهم بفعلهم للمولد وغيره من البدع لم يعظموا الرسول صلى الله عليه وسلم إنما اتهموه بأنه لم يدلهم على هذا الخير الذي جاؤوا به، وفي هذا يقول الإمام مالك:"من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة، لأن الله يقول: {اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا".

والأمر الذي ينبغي معرفته أن النصوص قد دلت على أنه بقدر ما يكون المرء متبعا لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومتمسكا بها بقدر ما يكون معظما وموقرا له والعكس بالعكس.

"هذا وإن كثيرا من الناس يعظمون الرسول ويعتقدون أنه من أفضل الناس، ولكن يقولون إنه لا يجب عليهم اتباعه وطاعته بل لهم طريق

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اطلحوا على جور برقم (2697)، ومسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة برقم (1718).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح برقم (563) واللفظ له، ومسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه

برقم (1400).

ص: 206

إلى الله تغنيهم عنه. وقد يقولون إن طريقهم أفضل من طريقه كما يعتقد كثير من اليهود والنصارى أنه كان مبعوثا إلى الأميين لا إليهم فهم يعظمونه ظاهرا وباطنا لكن يقولون لا يجب علينا اتباعه وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين.

وكذلك كثير ممن يظهر الإسلام يثبتون نبوته على رأي الفلاسفة، وأنه كان صاحب قوة قدسية، وقد يفضلونه على جميع الخلق، ومع هذا لا يقرون بما جاء به ولا يوجبون على أنفسهم اتباعه ظاهرا وباطنا، ويقولون هو رسول إلى العامة أو إلى الجميع في الشرائع الظاهرة دون الحقائق الباطنة والحقائق العقلية كما يقول مثل هذا كثير ممن يظهر الإسلام"

(1)

.

فمثل هذا الصنف لا ينفعه هذا التعظيم لافتقاره للاتباع الذي هو لب التعظيم وجوهره.

(1)

الرد على الأخنائي (ص 37).

ص: 207

‌المطلب الثاني: توقير النبي صلى الله عليه وسلم في آله وأزواجه أمهات المؤمنين

إن من توقير النبي صلى الله عليه وسلم ورعاية جنابه وتبجيله وتعظيمه توقير آله وذريته وأزواجه، كما حض عليه صلى الله عليه وسلم وسلكه السلف الصالح رضوان الله عليهم.

1 -

فآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها فإن الله جعل لهم حقا في الخمس والفيء قال تعالى: {واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وما أنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال].

وقال تعالى: {ما أفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أهْلِ القُرى فَلِلَّهِ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7].

وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

ففي الحديث عن كعب بن عجرة

(1)

رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"

(2)

.

(1)

كعب بن عجرة بن أمية البلوي: ويقال القضاعي، حليف الأنصار، صحابي مشهور، مات بعد الخمسين وله نيف وسبعون سنة. الإصابة (3/ 281، 282).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الحجرات: 56]. انظر: فتح الباري (8/ 532). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد. انظر:(2/ 16).

ص: 208

فالصلاة على آل محمد حق لهم عند المسلمين، وذلك سبب لرحمة الله تعالى لهم بهذا النسب.

كما تجب محبتهم لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، ولأن محبتهم من محبة رسول الله، كما. وأن نتولاهم ونحفظ فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال في يوم غدير خم: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي

" الحديث

(1)

.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "ولا تنكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على ظهر الأرض فخرا وحسبا ونسبا ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين"

(2)

.

وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولا ريب أن لآل محمد صلى الله عليه وسلم حقا على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش، كما أن قريشا يستحقون من المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش من القبائل، كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم، وهذا على مذهب الجمهور الذين يرون فضل العرب على غيرهم، وفضل قريش على سائر العرب وفضل بني هاشم على سائر قريش، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم (2408).

(2)

تفسير ابن كثير (4/ 113).

(3)

هذا من تفضيل الجملة على الجملة وهو لا يقتضى تفضيل كل فرد على كل فرد فالعرب في الأجناس، وقريش فيها ثم هاشم في قريش، مظنة أن يكون فيهم من الخير أعظم مما يوجد في، غيرهم، ولهذا كان في بنى هاشم النبي صلى الله عليهم وسلم الذي لا يماثله أحد في قريش فضلا عن وجوده في سائر العرب وغير العرب، وكان في قريش الخلفاء الراشدون وسائر العشرة وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب، وكان في العرب من السابقين الأولين من لا يوجد له نظير في سائر الأجناس. فلابد أن يوجد في الصنف الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول. وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل كما أن الأنبياء الذين ليسوا من العرب أفضل من العرب الذين ليسوا بأنبياء، والمؤمنون المتقون من غير قريش أفضل من القرشيين الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك المؤمنون المتقون من قريش وغيرهم أفضل ممن ليس مثلهم في الإيمان والتقوى من بني هاشم. فهذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب دون من ألغى فضيلة الأنساب مطلقا ودون من ظن أن الله تعالى يفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في الإيمان والتقوى، فضلا عمن هو أعظم إيمانا وتقوى، فكلا القولين خطأ وهما متقابلان، بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة وفضيلة لأجل المظنة والسبب.

والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية.

فالأول: يفضل به لأنه سبب وعلامة، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد.

والثاني: يفضل به لأنه الحقيقة والغاية، ولأن كل من كان أتقى لله كان أكرم عند الله، والثواب من الله يقع على هذا، لأن الحقيقة قد وجدت، فلم يعلق الحكم بالمظنة، ولأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، فلا يستدل بالأسباب والعلامات.

فالاعتبار العام هو التقوى كما قال تعالى: {إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ} [الحجرات: 13] الآية (13) من سورة الحجرات. فكل من كان أتقى كان أفضل مطلقا، وإذا تساوى اثنان في التقوى استويا في الفضل سواء كانا أو أحدهما عربيين أو أعجميين، أو قرشيين أو هاشميين أو كان أحدهما من صنف والآخر من صنف، وإن قدر أن أحدهما له من سبب الفضيلة ومظنتها ما ليس للآخر، فإذا كان ذلك قد أتى بحقيقة الفضيلة كان أفضل ممن لم يأت بحقيقتها، وإن كان أقدر على الإتيان بها، فالعالم خير من الجاهل، وإن كان الجاهل أقدر على تحصيل العلم.

انظر: منهاج السنة (4/ 602 - 603 - 604 - 608) بتصرف.

ص: 209

والنصوص دلت على هذا القول، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة

ص: 210

من ولد إسماعيل، واصطفى قريش من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم"

(1)

.

وكقوله في الحديث الصحيح: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"

(2)

وأمثال ذلك

(3)

. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "أرقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته"

(4)

فأهل البيت يتولاهم جميع المؤمنين ويحبونهم لا كما يزعم الروافض أنهم المخصوصون بحب أهل البيت وحدهم أن غيرهم هم الذين ظلموهم، فالحقيقة أن الروافض هم الذين ظلموا أهل البيت ظلما لا نظير له فهم الذين خذلوهم وغروهم، وتسببوا في رد كثير من روايات أهل البيت بسبب ما اشتهر عن أولئك الروافض من الكذب على آل البيت.

وإضافة إلى ذلك فإن الروافض يحصرون محبتهم في نفر قليل من أهل البيت مع أن الصالحين من أهل البيت الذين تبغضهم الروافض وتذمهم أكثر عددا من الذين يتظاهرون بحبهم.

2 -

أما زوجات النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهن أجمعين فيجب علينا أن نحفظ لهن حقهن في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام، والإعظام، والمكانة التي جعل الله لهن. فلقد رفع الله مقامهن وبوأهن أعلى منزلة عند جميع المؤمنين وهي منزلة الأمومة، فجعلهن أمهات في التحريم

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم (7/ 58).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى:{واتَّخَذَ اللَّهُ إبْراهِيمَ خَلِيلًا} فتح الباري (6/ 387) ح 3353، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب باب الأرواح جنود مجندة (8/ 41، 42) واللفظ له.

(3)

منهاج السنة النبوية (4/ 599).

(4)

أخرجه البخاري في كتاب الصحابة، باب مناقب قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم برقم (3713).

ص: 211

والاحترام فقد قال تعالى: {النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ وأزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} [الحجرات: 6].

قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: "شرَّف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين، أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن، بخلاف الأمهات"

(1)

.

وكيف لا تكون لهن هذه المنزلة وتلك المكانة وهن اللآتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عندما نزلت آيتا التخيير قال تعالى: {يا أيُّها النَّبِيُّ قُلْ لأزْواجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا وإنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أجْرًا عَظِيمًا} [الحجرات].

وبعد اختيارهن رضي الله تعالى عنهن الله ورسوله والدار الآخرة كرمهن الله تبارك وتعالى وكافأهن على اختيارهن أحسن تكريم وأعظم مكافأة. فكان لهن ما أعد الله لهن من الأجر العظيم، ثم ميزهن عن نساء العالمين في العذاب والأجر، ثم أبانهن منهن فقال:{يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ} [الحجرات: 32] يعني في الفضل والشرف، وذلك لما منحهن الله من صحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وعظيم المحل منه ونزول القرآن في حقهن

(2)

.

ولقد تضمنت سورة الأحزاب كثيرا من الأمور التي أكرم الله بها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مجازاة لهن على حسن صنيعهن في اختيارهن لله ورسوله والدار الآخرة والمقام هنا لا يسمح بالتوسع في ذكر هذه الأمور، وإنما المقصود تبيين مالهن من مكانة عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن حقهن

(1)

تفسير القرطبي (14/ 123).

(2)

تفسير القرطبي (14/ 177) بتصرف.

ص: 212

علينا أن نحفظ لهن هذه المكانة، وذلك بأن نتولاهن، وأن نثني عليهن بما ورد من فضائلهن وما كان لهن من دور في مؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته، وما كان لهن من دور بعد وفاته في حفظ مسائل الدين ونشرها بين الأمة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصا خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره وكان له منها المنزلة العالية. والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"

(1)

"

(2)

.

فمن الواجب أن ننشر هذه الفضائل ونعلِّمها، وبخاصة لنسائنا حتى يكون لهن في ذلك الأسوة والقدوة.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضل عائشة رضي الله عنها. فتح الباري (7/ 106) ح 3770، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها (7/ 138).

(2)

مجموع الفتاوى (3/ 154).

ص: 213

‌المطلب الثالث: توقيره صلى الله عليه وسلم في أصحابه رضوان الله عليهم

ومن توقيره وبرِّه صلى الله عليه وسلم توقير أصحابه وبرهم ومعرفة حقهم والاقتداء بهم، وحسن الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والإمساك عما شجر بينهم، ومعاداة من عاداهم، والإضراب عن أخبار المؤرخين، وجهلة الرواة، وضلال الشيعة والمبتدعين، القادحة في أحد منهم، وأن نلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان دينهم من الفتن أحسن التأويلات ويخرج لهم أصوب الخارج، إذ هم أهل لذلك، ولا يذكر أحد منهم بسوء ولا يغمص

(1)

عليه أمر، بل تذكر حسناتهم وفضائلهم، وحميد سيرتهم، ويسكت عما وراء ذلك

(2)

.

فهم أناس قد اختارهم الله وشرفهم بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وخصهم في الحياة الدنيا بالنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسماع حديثه من فمه الشريف وتلقي الشريعة وأمور الدين عنه وتبليغ ما بعث الله به رسوله من النور والهدى على أكمل الوجوه وأتمها. فكان لهم الأجر العظيم لصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه في سبيل الله وأعمالهم الجليلة في نشر الإسلام والدعوة إليه، ولهم من الأجر مثل أجور من بعدهم لأنهم الواسطة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.

ولقد أوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة

(1)

لا يغمص: لا يعاب ولا ينقص في أمر من أموره. النهاية (3/ 386).

(2)

الشفا (2/ 611، 612).

ص: 214

وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيؤون بعدهم أبد الآبدين.

ولقد أثنى ربهم عليهم أحسن الثناء ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن ووعدههم المغفرة والأجر العظيم فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ومَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فَآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنهُمْ مَغْفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا} [الفتح] وأخبر في آية أخرى برضاه عنهم، ورضاهم عنه فقال:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] ثم بشرهم بما أعدلهم فقال: {وأعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة].

وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو عنهم والاستغفار لهم فقال: {فاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وأمره بمشاورتهم تطيبا لقلوبهم، وتنبيها لمن بعدهم من الحكام على المشاورة في الأحكام فقال:{وشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ} [آل عمران: 19].

وندب من جاء بعدهم إلى الاستغفار لهم، وأن لا يجعلوا في قلوبهم غل للذين آمنوا فقال:{والَّذِينَ جاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخْوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالأِيمانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر].

وأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ونهى عن النيل منهم فقد قال صلى الله عليه وسلم:

ص: 215

"لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"

(1)

كما شهدها بكونهم خير أمته التي هي خير الأمم فقال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني"

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم"

(3)

فهذه بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على فضل أولئك الأخيار الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وشرَّفهم بحمل رسالته من بعده والدعوة إلى سبيله ونصرة دينه. فالصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم وثنائه عليهم وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم قال النووي: "الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به"

(4)

.

وقال ابن حجر: "اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة"

(5)

.

وعن أبي زرعة قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُّنَّة والجرح بهم

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد. برقم (2652). ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم

برقم (2532).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد. انظر: فتح الباري (5/ 259)(ح 2652)؛ وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم. انظر (7/ 158).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (7/ 3) ح 3650، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم (7/ 185).

(4)

تدريب الراوي (2/ 214)

(5)

الإصابة (1/ 17).

ص: 216

أولى وهم زنادقة"

(1)

.

ومذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة وسط بين الإفراط والتفريط فليسوا من المفرطين الغالين الذين يرفعون من يعظمون منهم إلى ما لا يليق إلا بالله أو برسله. وليسوا من المفرطين الجافين الذين ينتقصونهم ويسبونهم فهم وسط بين الغلاة والجفاة.

ويحبونهم جميعًا وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف فلا يرفعونهم إلى ما لا يستحقون، ولا يقصرون بهم عما يليق بهم، فألسنتهم رطبة بذكرهم بالجميل اللائق بهم، وقلوبهم عامرة بحبهم، وما صح فيما جرى بينهم من خلاف فهم فيه مجتهدون إما مصيبون ولهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون ولهم أجر الاجتهاد وخطؤهم مغفور، وليسوا معصومين، بل هم بشر يصيبون ويخطون، ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم، وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم ولهم من الله المغفرة والرضوان.

وكتب أهل السنة مليئة ببيان هذه العقيدة الصافية النقية في حق هؤلاء الصفوة المختارة من البشر لصحبة خير البشر صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين

(2)

.

(1)

كتاب الكفاية (ص 97) للخطب البغدادي.

(2)

عقيدة أهل السنة والأثر في الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم (ص 24 - 25) تأليف الشيخ عبد المحسن العباد، مقالة طبعت في مجلة الجامعة الإسلامية، العدد الثاني، السنة الرابعة.

ص: 217

‌المطلب الرابع: حفظ حرمة المدينة النبوية

إن من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم المدينة النبوية

(1)

التي هي دار المصطفى ومهاجره، فقد اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قرارا، وجعل أهلها شيعة له وأنصارا. وهي التي، انتشر منها دين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى وصل مشارق الأرض ومغاربها.

وهي التي ورد في فضلها وتعظيم شأنها وتحريمها وفضل بعض البقاع فيها الكثير من الأحاديث الثابتة الصحيحة والتي أورد بعضا منها ههنا على سبيل المثال لا الحصر.

فعن سفيان بن أبي زهير

(2)

رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تفتح اليمن فيأتي قوم يبسُّون

(3)

فيتحملون بأملهم ومن أطاعهم والمدينة

خير لهم لو كانوا يعلمون.

وتفتح الشام، فيأتي قوم يبسُّون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.

وتفتح العراق، فيأتي قوم يبسُّون، فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"

(4)

.

(1)

ذكر ذلك: البيهقي في الجامع لشعب الإيمان (2/ 130)، والقاضي عياض في الشفا (2/ 619).

(2)

سفيان بن أبي زهير الأزدي: من أزد شنوءة -بفتح المعجمة وبضم النون وبعد الواو همزة- من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. يعد في أهل المدينة. الإصابة (2/ 52).

(3)

يقال: بسست الناقة وأبسستها: إذا سقتها وزجرتها وقلت لها بس بس -بكسر الباء وفتحها- النهاية (1/ 127).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب من رغب عن المدينة" واللفظ له ". انظر: فتح الباري (4/ 90)(ح 1875)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب الترغيب في المدينة عند فتح الأمصار (4/ 122).

ص: 218

وعن عبد الله بن زيد بن عاصم

(1)

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة"

(2)

.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها" وقال: "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كانت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة"

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاؤا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه قال ثم يدعو أصغر وليد له فيعطه ذلك الثمر"

(4)

.

(1)

عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب الأنصاري المازني، صحابي شهير اختلف في شهوده بدرا، وشهد أحدا وغيرها، وشارك مع وحشي في قتل مسيلمة، يقال قتل يوم الحرة سنة ثلاث وستين. الإصابة (2/ 305).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده. فتح الباري (4/ 346)(ح 2129)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل المدينة" واللفظ له"(4/ 112).

(3)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل المدينة (4/ 113).

(4)

أخرجه بهذا اللفظ، مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل المدينة (4/ 116، 117).

ص: 219

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المدينة حرم فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف"

(1)

.

وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها"

(2)

.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء"

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام"

(4)

. وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي"

(5)

.

(1)

أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل المدينة (4/ 116).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب الإيمان يأرز إلى المدينة. انظر: فتح الباري (4/ 93)(ح 1876)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا (1/ 90 - 91).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب إثم من كاد أهل المدينة، انظر: فتح الباري (4/ 94)(ح 1877)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله (4/ 122).

(4)

أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. انظر: فتح الباري (3/ 63)(ح 1190)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (4/ 124).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل المدينة، باب 12. انظر: فتح الباري (4/ 99)(ح 1888)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة (4/ 123).

ص: 220

والأحاديث في فضل المدينة كثيرة ومتنوعة، ولقد أفرد البخاري في صحيحه كتابًا لفضائل المدينة، وكذا مسلم في صحيحه قد أورد في آخر كتاب الحج العديد من الأحاديث الواردة في شأن المدينة، وكذا الحال عند أصحاب السنن والمسانيد.

والمقصود من تعظيم المدينة هو تعظيم حرمها وهذا أمر واجب في حق من سكن بها أو دخل فيها، مع ما يجب على ساكنيها من مراعاة حق المجاورة وحسن التأدب فيها وذلك لما لها من المنزلة والمكانة عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم. فإنها من المواطن التي عمرت بالوحي والتنزيل، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر وانتشر عنها من دين الله وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتشر، فهي مشاهد الفضائل والخيرات ومعاهد البراهين والمعجزات.

فحريٌّ بمن أكرمه الله بالإقامة فيها أن يتزود فيها من الأعمال الصالحة التي تنفعه بعد الموت، وأن يحذر من الوقوع فيها بما يسخط الله عز وجل. وفيما سبق ذكره من الأحاديث خير شاهد على فضل سكناها والترغيب في الإكثار من العمل الصالح فيها، والتحذير من الإساءة والمعصية والإفساد فيها.

ص: 221

‌الباب الثالث: النهي عن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم

-

وفيه فصلان

ص: 223

‌الفصل الأول تعريف الغُلو وسدِّ الشارع لِطرق الغُلوِّ في حقِّهِ صلى الله عليه وسلم

-

ص: 225

‌المبحث الأول تعريف الغلو وموقف الشرع منه

وفيه مطلبان

‌المطلب الأول المعنى اللغوي

أما المعنى اللغوي للغلو: فجاء في مقاييس اللغة: الغين - واللام - والحرف المعتل - أصل صحيح يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر. يقال: غلا السعر يغلو غلاء، وذلك ارتفاعه. وغلا الرجل في الأمر غلوا، إذا جاوز حده. وغلا بسهمه غلوا، إذا رمى به سهما أقصى غايته. وتغالى النبت ارتفع وطال. وتغالى لحم الدابة: إذا انحسر عنه وبره، وذلك لا يكون إلا عن قوة وسمن وعلو

الخ

(1)

.

وفي "التهذيب"

غلا السعر غلاء ممدود. وغلا في الدين يغلو غلوا: إذا جاوز الحد

"

(2)

.

وفي "اللسان": "

أصل الغلاء: الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء. وغلا في الدين والأمر يغلو غلوًّا: جاوز حده.

وفي التنزيل: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]

(3)

.

(1)

معجم مقاييس اللغة (4/ 387، 388).

(2)

تهذيب اللغة (8/ 195، 192).

(3)

لسان العرب (15/ 131، 132) مادة (غلا).

ص: 227

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الغلو: هو مجاوزة الحد بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك"

(1)

.

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 106).

ص: 228

‌المطلب الثاني التعريف الشرعي للغلو وموقف الشرع منه

الغلو في الشرع: هو مجاوزة حدود ما شرع الله سواء كان ذلك التجاوز في جانب الاعتقاد أو القول أو العمل.

وقد جاء ذكر لفظ الغلو في القرآن الكريم في موضعين وكان الخطاب فيهما للنصارى باعتبارهم أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف وأما الموضعان:

فأحدهما: في قوله تعالى {يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلى اللَّهِ إلَّا الحَقَّ إنَّما المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّما اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأرْضِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا} [النساء].

وللوضع الثاني: قوله تعالى: {قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وأضَلُّوا كَثِيرًا وضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ} [المائدة].

قال ابن جرير الطري:

"يعني جل ثناؤه بقوله {يا أهْلَ الكِتابِ}: يا أهل الإنجيل من النصارى {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} يقول: "لا تتجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه، ولا تقولوا في عيسى غير الحق فإن قيلكم في عيسى إنه ابن الله قول منكم على الله غير الحق، لأن الله لم يتخذ ولدًا، فيكون عيسى أو غيره من خلقه ابنا {ولا تَقُولُوا عَلى اللَّهِ إلَّا الحَقَّ} .

ص: 229

وأصل الغلو في كل شيء: مجاوزة حدِّه الذي حده، ويقال منه في الدين قد غلا فهو يغلو غلوا"

(1)

.

وقال في تفسير آية المائدة: وهذا خطاب من الله تعالى ذكره، لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح {يا أهْلَ الكِتابِ} يعني بالكتاب الإنجيل {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} يقول لا تفرطوا في القول فيما تدينون به في أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل فتقولوا فيه: هو الله أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه {ولا تَتَّبِعُوا أهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وأضَلُّوا كَثِيرًا} يقول لا تتبعوا أيضا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدى في القول فيه كما قالوا وتبهتوا أمه كما يبهتونها بالفرية

"

(2)

.

وقال ابن كثير في تفسيره للآية الواردة في سورة النساء:

"ينهي تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، أو صحيحا أو كذبا ولهذا قال الله تعالى {اتَّخَذُوا أحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]

(3)

.

وقال عند تفسير آية سورة المائدة: أي لا تتجاوزوا الحد في إتباع الحق ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية كما صنعتم في المسيح وهو نبي من

(1)

تفسير الطبري (6/ 34).

(2)

تفسير الطبري (6/ 316).

(3)

تفسير ابن كثير (1/ 589).

ص: 230

الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديما

"

(1)

.

والمتأمل للنصوص القرآنية يجد أن النصارى لم يكتفوا بالغلو في المسيح ورفعه إلى درجة الألوهية بل غلوا أيضا في حق أحبارهم ورهبانهم فأعطوهم حق التشريع والطاعة المطلقة والإتباع حتى فيما يخالف شرع الله وأحكامه. فكان الأحبار والرهبان يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله ويقررون شرائع وأحكامًا ما أنزل الله بها من سلطان فتلقى النصارى ذلك كله بالقبول والطاعة.

قال تعالى: {اتَّخَذُوا أحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وما أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا لا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ} [التوبة] فهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا، ولهذا قال تعالى:{وما أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا واحِدًا} أي الذي إذا حرم شيئا فهو الحرام وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ {لا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ} [التوبة] أي تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأنداد والأولاد لا إله إلا هو ولا رب سواه"

(2)

.

ولم يقتصر غلو النصارى عند الحد، بل قدسوهم أمواتًا كما قدسوهم أحياءً فأقاموا على قبورهم الأضرحة وقدموا لهم القرابين فكان ذلك سببا في لعنهم قال صلى الله عليه وسلم "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"

(3)

.

(1)

تفسير ابن كثير (2/ 82).

(2)

تفسير ابن كثير (2/ 349).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور برقم (1330)، ومسلم في كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور

برقم (529).

ص: 231

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والنصارى أشد غلوا في ذلك من اليهود كما في الصحيحين: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما كنيسة بأرض الحبشة، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها. فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنو على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"

(1)

.

والنصارى كثيرا ما يعظمون آثار القديسين منهم، فلا يستبعد أنهم ألقوا إلى بعض جهال المسلمين أن هذا قبر بعض من يعظمه المسلمون ليوافقوهم على تعظيمه.

فالذين يعظمون القبور والمشاهد لهم شبه شديد بالنصارى

(2)

.

فالنصارى أمة ضلت وهلكت وكان سبب ضلالها وهلاكها غلوها وقد تجلى غلوها في عدة أمور منها:

1 -

غلوهم في نبي الله عيسى ورفعه إلى مكانة الألوهية.

2 -

غلوهم في رهبانهم وصالحيهم وذلك بإعطائهم حق التشريع في التحليل والتحريم، والعكوف على قبورهم وتقديسها بعد موتهم.

3 -

ابتداعهم الرهبانية.

والله سبحانه وتعالى بذكره لأحوالهم في كتابه العزيز يحذرنا من الوقوع فيما وقعوا فيه، وفي هذا دعوة للاعتبار بالأم السابقة ومعرفة سبب هلاكها وضرورة اجتنابه قال تعالى:{لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْباب} والغلو عند النصارى هدم أصلَي الدين: 1 - التوحيد، 2 - الإتباع.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور برقم (1341)، ومسلم في كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور

برقم (528) واللفظ للبخاري.

(2)

مجموع الفتاوى (27/ 460، 461).

ص: 232

فهم هدموا الأصل الأول بجعلهم عيسى في مقام الألوهية. وهدموا الأصل الثاني بأن جعلوا لرهبانهم حق التشريع والتحليل والتحريم.

فانظر كيف كان الغلو سببًا لهدم الدين.

فإن المسيح قال لهم {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُم} [المائدة: 72] وقال {إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ} [الصف: 6] فلو امتثلوا أمره كانوا مطعين لرسول الله موحدين لله، ونالوا بذلك السعادة من الله في الدنيا والآخرة، ولكنهم غلوا فيه واتخذوه وأمه إلهين من دون الله، يستغيثون به وبغيره من الأنبياء والصالحين ويطلبون منهم ويشركون بهم، وكذبوا بالرسول الذي بشر به، وحرفوا التوراة التي صدق بها وظنوا في ذلك أنهم معظمون للمسيح وكان هذا من جهلهم وضلالهم، فإنهم لو أطاعوه فيما دعاهم إليه لكان له مثل أجورهم، وكانت طاعتهم له والإقرار بعبوديته وبما بشر به فيه له ولهم من الأجر ما لا يحصيه إلا الله،

ففوتوا هذا الأجر والثواب عليهم وعليه وله ولهم فيه الخير المستطاب واعتاضوا عن ذلك بما ضرهم في الدنيا والآخرة.

وإذا بين لهم قدر المسيح فقيل لهم: {ما المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ} [المائدة: 75].

قالوا: إن هذا تنقُّص بالمسيح، وسبٌّ له واستخفاف بدرجته وسوء أدب معه، بل قالوا هذا كفر وجحد لحقه، وسلب لصفات الكمال الثابتة له.

وهذا في الحقيقة إنما هو نقص لما في نفوسهم من الغلو فيه لا نقص لنفس المسيح الموجود في نفس الأمر.

ص: 233

وفي ذلك من الحمد له والمدح وإعظامه والإيمان به وإعطائه الدرجة العلية ما ليس في الغلو فيه.

لأن في تقرير كمال عبوديته التي هي كمال الخلوق، وهذا هو الكمال فأما الغلو فيه إلى حد الربوبية فذاك خيال باطل لا كمال حاصل وفي إثبات العبودية له، إيمان به وموافقة لخبره وأمره، فيحصل له بذلك من الخير والرحمة ما لا يحصل له بالغلو فيه، الذي هو كذب فيه مكذوب عليه ومعصية له وإشراك بالله، وليس في ذلك ما ينفعه ولا ما يرفعه بل في ذلك ضرر على المشركين المفترين"

(1)

.

ولم يقتصر الغلو على النصارى وحدهم بل كان واقعًا في الأمم قبلهم فالغلو كان أول خطوات الإنحراف عن الدين القويم والوقوع في الشرك.

فقد روى الطبري بسنده عن عكرمة قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام"

(2)

.

فكان مبدأ الشرك في قوم نوح، وكان سببه غلوهم في الصالحين فقد روى البخاري في كتاب التفسير من صحيحه باب قوله تعالى {ودًّا ولا سُواعًا ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا} عن ابن عباس أنه قال:"أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت"

(3)

.

فالغلو في الصالحين هو الطامة الكبرى والبلية العظمى التي جنحت بالبشرية عن جادة الحق والصواب إلى ظلمات الشرك والضلال باتخاذ أنداد لله من خلقه واعتقاد أنها تملك شيئا من خصائص الإلهية.

(1)

الرد على البكري (ص 104 - 105).

(2)

تفسير الطبري (29/ 99).

(3)

انظر فتح الباري (8/ 667).

ص: 234

قال الإمام ابن القيم: "ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في الخلوق وإعطائه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه.

وهذا التشبيه الواقع في الأمم هو الذي أبطله الله سبحانه وبحث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله"

(1)

.

ولهذا نهي الشارع الحكيم عن الغلو بشتى صوره وأشكاله وحذر منه وذلك لما له من آثار سيئة على الدين ولما فيه من منافاة لعقيدة التوحيد وهدم لأصليّ الدين: التوحيد، والإتباع.

ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو في الدين وأخبر أنه سببا لهلاك من قبلنا

من الأمم.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"

(2)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقوله "إياكم والغلو في الدين عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال"

(3)

.

(1)

إغاثة اللهفان (2/ 226).

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 215، 347). والنسائي في السنن (5/ 8102) كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى. وابن ماجه في سننه، أبواب المناسك، باب قدر حصى الرمي (2/ 183) ح 3064.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: رواه أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عوف بن أبي جميلة عن زيادة بن حصين عن أبي العالية عنه وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. اقتضاء الصراط المستقيم (ص 106). وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 278) ح 1283 وقال في تخريج السنة لابن أبي عاصم (1/ 46) إسناده صحيح. وقد صححه ابن خزيمة والحاكم (1/ 466) والذهبي والنووي وابن تيمية.

(3)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 156).

ص: 235

وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم لهذه العبارة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس غداة العقبة وهو على ناقته "القط لي حصى"، فلقطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا، ثم قال: أيها الناس إياكم والغلو في الدين

" الحديث.

فسبب ورود الحديث ينبهنا إلى أمر هام جدا وهو أن الغلو قد يبدأ بشيء صغير ثم تتسع دائرته فتهلك بذلك أمم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه فالغلو فيه: مثل رمي الحجارة ونحو ذلك، بناء على أنه بالغ في الحصى الصغار، ثم علل ذلك بأن ما أهلك من كان قبلنا إلا الغلو في الدين كما تراه في النصارى

(1)

.

ولو لم يرد في السنة إلا هذا الحديث لكفى به زاجرا ورادعا للأمة عن الوقوع في الغلو، كيف والسنة مليئة بالأحاديث التي تحذر من الغلو وتبين خطره وهلاكه.

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون": قالها ثلاثًا

(2)

.

قال النووي: ["هلك المتنطعون": أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم]

(3)

.

وقال أيضا: "المتنطعون: المتعمِّقون المشدِّدون في غير موضع التشديد"

(4)

، فهذا الحديث موافق لما جاء في الحديث السابق من الإخبار بهلاك أصحاب الغلو. وهناك أحاديث كثيرة نهي فيها النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 106).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون (8/ 58).

(3)

شرح النووي (16/ 220).

(4)

رياض الصالحين باب الاقتصاد في الطاعة (ص 88).

ص: 236

أصحابه رضوان الله عليهم عن الغلو في جوانب معينة من الدين نذكر اثنين منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر.

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها. فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"

(1)

.

فسمَّى النبي صلى الله عليه وسلم الغلو في جانب العبادات والسنن التي سنها لهم رغبة عن الشرع الذي جاء به، وتبرأ ممن هذه حاله، حتى وإن كان الدافع لذلك التقرب إلى الله تعالى ذلك لأن هذا الغلو فيه هدم للأصل الثاني من أصول هذا الدين ألا وهو الإتباع فنحن مأمورون بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم والأخذ بسنته. والغلو في هذا الجانب مناقض تماما لهذا الأصل، ولذلك فلا غرابة أن يتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن غلا في جانب ما سنه وشرعه للأمة.

لأنه لو فتح هذا الباب وولجته الأمة لأصبحت عبادة الله مجالا لأهواء الناس وعقولهم وبذلك يتلاشى دينها وتنطمس معالمه فتستحق بذلك غضب الله ومقته فتهلك كما هلكت الأم السابقة.

وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود

(1)

أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح برقم (5063)، واللفظ له، ومسلم في كتاب النكاح، باب استحباب لمن تاقت له نفسه إليه برقم (1401).

ص: 237

بين الساريتين فقال "ما هذا الحبل؟ " قالوا: هذا حبل زينب فإذا فترت تعلقت به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حلُّوه ليصلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد"

(1)

وعند مسلم "حبل لزينب تصلي".

قال ابن حجر: "وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق فيها

"

(2)

.

وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته كذلك من الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم.

وذلك لما ينطوي عليه الغلو من الشر العظيم، ولما يعلمه صلى الله عليه وسلم من منزلته في قلوب المؤمنين.

فقد خشي صلى الله عليه وسلم أن يدفعهم حبهم وتعظيمهم له إلى رفعه فوق منزلته التي جعلها الله له وتشريكه مع الله في بعض ما هو حق لله.

فحذرهم من الغلو في شخصه بأساليب مختلفة وذلك حماية منه لجناب التوحيد وقطعا لذريعة الشرك.

وقد جاء تحذره تارة بأسلوب النهي الصريح.

وتارة بالتجائه إلى ربه ودعائه بأن لا يتحول قبره إلى وثن يعبد.

وتارة بلعنة الغلاة الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.

فمما ورد عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله"

(3)

.

قال ابن حجر: "الإطراء: المدح بالباطل تقول أطريت فلانًا: مدحته فأفرطت في مدحه"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة. انظر: فتح الباري (3613) ح 1150. وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أمر من نعس في صلاته

(2/ 189).

(2)

فتح الباري (3/ 37).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء برقم (3445).

(4)

فتح الباري (6/ 490).

ص: 238

فمعنى الحديث: "أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية، وإنما أنا عبد الله فصفوني بذلك كما وصفني به ربي، وقولوا عبد الله ورسوله.

فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره، وارتكابا لنهيه، وناقضوه أعظم المناقضة وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله، وأنه لا يدعى ولا يستغاث به، ولا ينذر له، ولا يطاف بحجرته، وأنه ليس له من الأمر شيء، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، أن في ذلك هضما لجنابه وغضا من قدره، فرفعوه فوق منزلته، وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبا منه، فسألوه مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب وغير ذلك من الأمور

(1)

.

وقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب تلخيص الاستغاثة

(2)

عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف فيه مصنفا. وكان يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وحكي عن آخر من جنسه يباشر التدريس وينسب إلى الفتيا أنه كان يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر الله عليه.

ومن هؤلاء من يقول في قول الله تعالى {وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا} [الأحزاب]: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يسبح بكرة وأصيلا.

ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله فيجعلون الرسول معبودًا ويقول قائلهم:

فإن من جودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

(1)

تيسير العزيز الحميد (272 - 273).

(2)

الرد على البكري (ص 218).

ص: 239

فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ

(1)

.

فانظر إلى ما أدى إليه هذا الإطراء من صرف أمور قد اختص بها الرب عز وجل فصرفت للنبي صلى الله عليه وسلم.

ولكن ما على الرسول إلا البلاغ فقد سد النبي صلى الله عليه وسلم كل ذريعة مؤدية إلى الغلو والشرك حتى يبقى هذا الدين وسطًا صافيًا لا كدر فيه، وتبقى عقيدة التوحيد نقية قوية خالدة.

فلقد نهي الرسول الكريم عن المبالغة في مدحه لعلمه بأن هذه المبالغة بريد إلى الغلو ومدعاة للشرك والانحراف عن الطريق السوي.

وهذا من الحرص الكامل للرسول صلى الله عليه وسلم على حماية التوحيد، فبهذا النهي الشديد سد الرسول صلى الله عليه وسلم طريق الغلو.

والنهي عن المبالغة في الإطراء لا يعني التقليل من قدره وتوقيره فإن للتوقير والتعظيم وسائله المشروعة والتي سبق ذكرها.

ولكن هناك أناس شق عليهم التوقير المشروع فلجأوا إلى التوقير الممنوع فنسجوا قصائد مطولة أغرقوا فيها بالمديح المجاوز للحد والمنافي لقواعد التوحيد والذي لا يرضى به الله ورسوله بل جاء التحذير منه بنص القرآن والسنة المطهرة.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الخلق على تجريد التوحيد حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال:" أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده"

(2)

.

(1)

تيسير العزيز الحميد (273).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 214، 224، 283، 347)، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة ص 545 (ح 987).

ص: 240

ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك.

ونهي أن يصلى إلى القبر أو يتخذ مسجدا أو عيدا أو يوقد عليه سراج، بل مدار دينه على هذا الأصل - أي تجريد التوحيد - الذي هو قطب رحا النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا مناقضته فيه

(1)

.

والغلو بشتى صوره وأشكاله مناف لأصلي التوحيد ويكفيك أن تعلم أن سبب عبادة الأصنام هو الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله سبحانه، وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله. فهو سبحانه ينفي، وينهي، أن يجعل غيره مثلا له، وندا له وشبها له. لا أن يشبه هو بغيره إذ ليس في الأمم المعروفة أمة جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته، فجعلت المخلوق أصلا وشبهت به الخالق، فهذا لا يعرف في طائفة من طوائف بني آدم.

وإنما الأول هو المعروف في طوائف أهل الشرك، غلوا فيمن يعظمونه، ويحبونه، حتى شبهوه بالخالق وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الآلهة إلها واحدا وقالوا:{واصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6] وصرحوا بأنه إله معبود، يرجى، ويخاف، ويعظم، ويسجد له ويحلف باسمه، وتقرب له القرابين إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى. فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبه من كل وجه

(2)

.

فحقيقة الشرك هو التشبه بالخالق أو التشبيه للمخلوق به فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية.

(1)

تيسير العزيز الحميد ص 274.

(2)

إغاثة اللهفان (2/ 226).

ص: 241

فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده.

فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا - فضلًا عن غيره - شبيها لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد.

فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه.

وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده، ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله.

ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة.

ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب، مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين.

فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه في خالص حقه وهذا من المحال أن تجئ به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل

ص: 242

فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها. ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوفق فطرهم وعقولهم فازدادوا بذلك نورًا على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ} [النور: 35].

إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.

ومنها المتوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به.

ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به.

ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا له، فمن حلف بغيره فقد شبهه به. هذا في جانب التشبيه.

وأما في جانب التشبه به: فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفا ورجاء والتجاء واستعانة فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه الله غاية الهوان، ويذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته"

(1)

.

وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذابا يوم القيامة لتشبهه بالله في مجرد الصنعة، فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية؟ ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة"

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، باب تحريم الكبر برقم (260).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {واللَّهُ خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ} برقم 7559. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (2111).

ص: 243

فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منها وأكبر وقال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذابا يوم القيامة المصوِّرون يقال لهم أحيوا ما خلقتم"

(1)

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب عذاب المصوِّرين يوم القيامة برقم (4950 - 4951)؛ وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة برقم (2108).

(2)

الجواب الكافي (ص 159 - 161).

ص: 244

‌المبحث الثاني: الفرق بين ما هو حق لله وحده لا يشركه فيه غيره وبين ما هو حق للرسول

بعث الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن دعاء ما سواه - لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة -. قال تعالى:{وما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلَّا أنا فاعْبُدُونِ} [الأنبياء].

وقال تعالى: {ولَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ} [النحل: 36].

وقال تعالى: {واسْألْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف].

وقال تعالى: {ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ولَكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتابَ وبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ولا يَأْمُرَكُمْ أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أرْبابًا أيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إذْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران].

فدين الحق دين الإسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسله كما يدل عليه قولنا: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

فهذان الأصلان:

1 -

توحيد الرب بالعبادة، 2 - الإيمان برسله.

ص: 245

لابد منهما، ولهذا لا يدخل أحد في الإسلام حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

ذلك لأن دين الإسلام مبني على هذين الأصلين ومن خرج عن واحد منهما فلا عمل له ولا دين.

فلا إله إلا الله معناها أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئًا.

فإن الإله: هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيمًا وخوفًا ورجاءً وإجلالًا وإكرامًا.

وهو سبحانه له حق لا يشركه فيه غيره، فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله ولا يخاف إلا الله ولا يطاع إلا الله.

وأما شهادة أن محمدًا رسول الله فهي تعني ألا نعبد الله إلا بما شرعه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المبلِّغ عن الله طاعته وأمره ونهيه وتحليله وتحريمه، فهو الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده.

وليس للرسول واسطة في إجابة الدعاء، وكشف البلاء، والهداية، والإغناء ونحو ذلك.

فالله تعالى هو المتفرد بذلك فهو سبحانه الذي يسمع ويرى ويعلم السر والنجوى وهو القادر على إنزال النعم وإزالة الضر من غير احتياج منه إلى أن يعرِّفه أحد أحوال عباده أو يعينه على قضاء حوائجهم.

والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خلقها ويسرها، فهو مسبب الأسباب التي يحصل بها ذلك ولهذا فرض سبحانه على المصلى أن يقول في صلاته {إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة].

فالله سبحانه أجل وأعظم وأغني وأعلى من أن يفتقر إلى شيء، بل هو الأحد الصمد وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو مستغن عن كل ما

ص: 246

سواه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول وعظم أمره قال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له ركاء، يقول يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك" الحديث

(1)

.

فهؤلاء الذين بلغهم أخبر أنهم إذا استغاثوا به يوم القيامة وسألوه الشفاعة يقول لهم لا أملك لكم من الله شيئا قد أبلغتكم

(2)

.

فعلى المسلم أن يفرق لأن ما هو حق لله وحده وبين ما هو حق لرسله.

فالله أمرنا أن نؤمن بالأنبياء وما جاؤا به وفرض علينا طاعة الرسول الذي بعث إلينا ومحبته وتعزيره وتوقيره والتسليم لحكمه.

وأمرنا أيضا أن لا نعبد إلا الله وحده لا نشرك به شيئا ولا نتخذ الملائكة والنبيين أربابًا.

وفرق بين حقه الذي يختص به الذي لا يشركه فيه لا ملك ولا نبي.

وبين الحق الذي أوجبه علينا لملائكته وأنبيائه عمومًا ولمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وخير مرسل الذي جاءه بالوحي خصوصا، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، فاصطفي من الملائكة جبريل لرسالته واصطفي من البشر محمدا صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن هذا القرآن الذي نزل به هذا الرسول إلى هذا الرسول مبلغا له عن الله قال تعالى {قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]، وقال تعالى

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب الغلول برقم (3073).

وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب غلظ تحريم الغلول (1831).

(2)

انظر: الرد على البكري (ص 52 - 54) بتصرف.

ص: 247

{وإنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء].

فالله أوجب علينا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم خصوصا وبالملك الذي جاءه بالقرآن. وأمرنا بالإيمان بالأنبياء كلهم وبجميع ما أوتوا كما قال تعالى {قُولُوا آمَنّا بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ إلَيْنا وما أُنْزِلَ إلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطِ وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى وما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة].

وقال تعالى: {ولَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ والمَلائِكَةِ والكِتابِ والنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177].

وقال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ والمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ} [البقرة].

وقال تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ والكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ والكِتابِ الَّذِي أنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ومَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء].

فالأنبياء وسائط بين الله عز وجل وبين عباده في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، وما أخبر به عن نفسه وملائكته وغير ذلك مما كان وسيكون. وسائر الأنبياء علينا أن نؤمن بهم، مجملا وذلك بأن كل ما أخبروا به عن الله فهو حق وأن طاعتهم فرض على من أرسلوا إليهم.

أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي أرسل إلينا وإلى جميع الخلق وقد ختم الله به الأنبياء وآتاه من الفضائل ما فضله به على غيره وجعله سيد ولد آدم وخصائصه وفضائله كثيرة وعظيمة لا يسعها هذا الموضع.

وقد أوجب الله علينا أن نطيعه في كل ما أوجبه وأمر به وأن نصدقه في كل ما أخبر به، كما سبق ذكر ذلك في الباب الأول من هذه الرسالة.

ص: 248

وهو سبحانه مع هذا كله نهانا عن الشرك بهم والغلو فيهم، وميز بين حقه تعالى وحقهم.

فقال تعالى: {ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ولَكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتابَ وبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ولا يَأْمُرَكُمْ أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أرْبابًا أيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إذْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران].

فهذا بيانٌ أن اتخاذ الملائكة والنبيِّين أربابا كفر مع وجوب الإيمان بهم ما لم يحصل بعبادة الأوثان، فإن الأوثان تستحق الإهانة وأن تكسر كما كسر إبراهيم الأصنام وكما حرق موسى العجل ونسفه وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يكسر الأصنام ويهدم صوتها وقد قال تعالى:{إنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَها وارِدُونَ} [الأنبياء] فإهانتها من تمام التوحيد والإيمان.

والملائكة والأنبياء بل الصالحون يستحقون المحبة والموالاة والتكريم والثناء. مع أنه يحرم الغلو فيهم والشرك بهم، فلهذا صار بعض الناس يزيد في التعظيم على ما يستحقونه فيصير شركا، وبعضهم يقصر عما يجب لهم من الحق فيصير فيه نوع من الكفر.

والصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهو القيام بما أمر الله به ورسله في هذا وهذا.

والله تعالى يميز حقه من حق غيره ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا معاذ أتدرى ما حق الله على العباد؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "أن يعبدوه ولا شركوا به شيئا، أتدرى يا معاذ ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "أن لا يعذبهم"

(1)

. وقد قال تعالى: {ويَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب من جاهد نفسه في طاعة الله برقم (6500)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب في لقي الله بالإيمان

برقم (30).

ص: 249

كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ونَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أن الحَقَّ لِلَّهِ وضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص].

فالرسل كلهم نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم يبينون أن العبادة والتقوى حق لله وحده، وحق الرسل طاعتهم.

قال نوح عليه السلام {يا قَوْمِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ وأطِيعُونِ} [نوح].

وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65، 73، 85].

وقال تعالى {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ إذْ قالَ لَهُمْ أخُوهُمْ نُوحٌ ألا تَتَّقُونَ إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أمِينٌ فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ} [الشعراء].

وكذلك قال سائر الرسل هود وصالح وشعيب كل يقول {فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ} [الشعراء: 126، 131، 144، 163، 179].

وكذلك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَخْشَ اللَّهَ ويَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفائِزُونَ} [النور].

فجعل الطاعة لله والرسول. وجعل الخشية والتقوى لله وحده.

وقال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا} [الفتح].

فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، وتعزيره، نصره ومنعه.

والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده، فإن ذلك من العبادة لله وحده والعبادة هي لله وحده.

ص: 250

وقال تعالى: {وقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّما هُوَ إلَهٌ واحِدٌ فَإيّايَ فارْهَبُونِ ولَهُ ما فِي السَّماواتِ والأرْضِ ولَهُ الدِّينُ واصِبًا أفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} فأنكر سبحانه أن يتقى غيره كما أمر أن لا يرهب إلا إياه.

وقال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ واخْشَوْنِي} [البقرة: 150].

وقال تعالى: {إنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وأقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ ولَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولَئِكَ أنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} [التوبة]. فقد أمر الله تعالى في غير موضع بأن يخشى ويخاف ولا يخشى ويخاف غيره.

وقال تعالى {ولَوْ أنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ سَيُؤْتِينا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ورَسُولُهُ إنّا إلى اللَّهِ راغِبُونَ} .

ففي الإيتاء قال {ما آتاهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ} كما قال: {وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا} لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.

فما أعطاه الرسول للناس فهو حقهم بالقول والعمل كالفرائض التي قسمها الله وأعطى كل ذي حق حقه وكذلك من الفيء والصدقات ما أعطى فهو حقه، وما أباحه له فهو مباح، وما نهاه عنه فهو حرام عليه فلهذا قال تعالى {ولَوْ أنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ} ولم يقل هنا ورسوله لأن الله تعالى وحده حسب عبده أي كافيه. لا يحتاج الرب في كفايته إلى أحد لا رسول ولا نبي، ولهذا لا تجئ هذه الكلمة إلا الله وحده كقوله:{الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيمانًا وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ} [آل عمران].

ص: 251

وقال تعالى: {فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ} [التوبة].

وقال تعالى {وإنْ يُرِيدُوا أنْ يَخْدَعُوكَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالمُؤْمِنِينَ} [الأنفال] إلى قوله {يا أيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الأنفال]؛ أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين كما قاله جمهور أهل العلم. ومن قال إن الله ومن اتبعك حسبك فقد غلط، ولم يجعل الله وحده حسبه بل جعله وبعض المخلوقين حسبه، وهذا مخالف لسائر آيات القرآن.

وقال تعالى {ألَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] فهو وحده كاف عبده، وقال تعالى {ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

فلهذا قال تعالى {وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ} ولم يقل ورسوله ثم قال {إنّا إلى اللَّهِ راغِبُونَ} ولم يقل ورسوله بل جعل الرغبة إلى الله وحده كما قال {فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ وإلى رَبِّكَ فارْغَبْ} .

فالرغبة تتضمن التوكل وقد أمر أن لا نتوكل إلا عليه كقوله {وعَلى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23] وقوله {إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل].

فالتوكل على الله وحده، والرغبة إليه وحده، والرهبة منه وحده.

ليس لمخلوق لا الملائكة ولا الأنبياء في هذا حق كما ليس لهم حق في العبادة ولا يجوز أن نعبد إلا الله وحده ولا نخشى ولا نتقى إلا الله وحده كما قال تعالى: {إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيمانًا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .

فإذا قال القائل لا يجوز التوكل إلا على الله وحده، ولا العبادة

ص: 252

إلا لله وحده ولا يتقى ولا يخشى إلا الله وحده لا الملائك ولا الأنبياء ولا غيرهم كان هذا تحقيقا للتوحيد.

ولم يكن هذا سبًا لهم ولا تنقصًا بهم ولا عيبًا لهم وإن كان فيه بيان نقص درجتهم عن درجة الربوبية فنقص المخلوق عن الخالق من لوازم كل مخلوق. ويمتنع أن يكون المخلوق مثل الخالق.

والملائكة والأنبياء كلهم عباد الله يعبدونه كما قال تعالى {لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ} [النساء].

وقال تعالى {وقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وهُمْ بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ ولا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضى وهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ومَن يَقُلْ مِنهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ} .

فإذا نفي عن مخلوق ملك أو نبي أو غيرهما ما كان من خصائص الربوبية وبين أنه عبد الله كان هذا حقا واجب القبول، وكان إثباته إطراء للمخلوق فإن دفعه عن ذلك كان عاصيا بل مشركا.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله"

(1)

.

فالله تعالى قد وصفه بالعبودية حين أرسله، وحين تحدى، وحين أسرى به فقال تعالى {وأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن: 19].

وقال تعالى {وإنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا} [البقرة: 23].

وقال تعالى {سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء].

وأهل الباطل يقولون لمن وصفهم بالعبودية إنه عابهم وسبهم ونحو ذلك.

(1)

تقدم تخريجه (ص 238).

ص: 253

ولهذا لما سأل النجاشي

(1)

جعفر بن أبي طالب

(2)

رضي لله عنه ما تقول في المسيح عيسى؟ فقال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه رفع النجاشي عودًا وقال: ما زاد المسيح على ما قلت هذا العود فنخرت بطارقته

(3)

. فقال: وإن نخرتم"

(4)

.

فهم يجعلون قول الحق في المخلوق سبًا له، وهم يسبون الله ويصفونه بالنقائص والعيوب كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. أما تكذبه إياي أن يقول: إني لن أعيده كما بدأته، وأما شتمه إياي أن يقول: اتخذ الله ولدًا، وأنا الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن له كفوًا أحد"

(5)

.

(1)

أصحمة بن أبحر النجاشي - ملك الحبشة - واسمه بالعربية عطية والنجاشى لقب، أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهاجر إليه، وكان ردءا للمسلمين نافعا، وقصته مشهورة في المغازى في إحسانه للمسلمين الذين هاجروا إليه في صدر الإسلام، توفي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصلى عليه صلاة الغائب. الإصابة (1/ 117).

(2)

جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأحد السابقين للإسلام، هاجر إلى الحبشة، فأسلم النجاشى ومن تبعه على يديه، ثم قدم المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، واستشهد في مؤتة سنة ثمان من الهجرة. الإصابة (1/ 239 - 240).

(3)

أي تكلمت، وكأنه كلام مع غضب ونفور. النهاية (5/ 32).

(4)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 201 - 203)(5/ 290 - 292).

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 24 - 27) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 293 - 295).

وهو في سيرة ابن هشام (1/ 289 - 291).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى {وهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ

} (3193) وكذلك في كتاب التفسير، تفسير سورة الإخلاص برقم (4974، 4975).

ص: 254

فقد أخبر سبحانه أن هؤلاء يسبونه، وقد كان معاذ بن جبل يقول عن النصارى: لا ترحموهم فقد سبوا الله سبة ما سبه إياها أحد من البشر. وهذا نظير ما ذكره الله تعالى عن المشركين بقوله {وإذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلَّا هُزُوًا أهَذا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كافِرُونَ} [الأنبياء].

فكانوا ينكرون على محمد عليه السلام أن يذكر آلهتهم بما تستحقه وهم يكفرون بذكر الرحمن ولا ينكرون ذلك كما قال تعالى {ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام].

وهكذا من فيه شبهه من اليهود والنصارى والمشركين تجده يغلو في بعض المخلوقين من المشايخ والأئمة والأنبياء وغيرهم وإذا ذكروا بما يستحقونه أنكر ذلك ونفر منه وعادى من فعل ذلك وهو وأصحابه يستخفون بعبادة الله وحده وبحقه وبحرماته وشعائره ولا ينكر ذلك. ويحلف أحدهم بالله ويكذب ويحلف بمن يعظمه ويصدق ولا يستجيز الكذب إذا حلف به. وهؤلاء من جنس النصارى والمشركين وكذلك قد يعيبون من نهي عن شركهم كالحج إلى القبور التي يحجون إليها عادة وهم يستخفون بحرمة الحج إلى بيت الله ويجعلون الحج إلى القبور أفضل منه. وقد ينهون عن الحج اعتياضًا إلى القبور ويقولون هذا الحج الأكبر.

ويرون النهي عن الحج إلى قبور الأنبياء والصالحين إخلالا بحقهم ومعاداة لهم ونحو ذلك.

وهم لا يرون الشرك بالله ودعاء غيره واتخاذ عباده من دونه أولياء إخلالا بحقه ومعاداة له.

ومعلوم أن المشركين من أعظم أعداء الله عز وجل قال الله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أوْلِياءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وإيّاكُمْ أنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ

ص: 255

جِهادًا فِي سَبِيلِي وابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وأنا أعْلَمُ بِما أخْفَيْتُمْ وما أعْلَنْتُمْ ومَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ إنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أعْداءً ويَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ وألْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أرْحامُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْراهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إنّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وبَدا بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ العَداوَةُ والبَغْضاءُ أبَدًا حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ} [الممتحنة] فأمر بالتأسي بإبراهيم ومن معه لما تبرءوا من المشركين وما يعبده المشركون، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده. فالمشرك والآمر بالشرك والراضي به معاد لله، ومن عادى الله فقد عادى أنبياءه وأولياءه.

وأما من أمر بما جاءت به الرسل فلم يعادهم ولم يعاندهم قال تعالى {قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ} [الكافرون].

وهنا موضع يشكل على بعض الناس وذلك أنه قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "أصدق كلمة قد قالها شاعر كلمة لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

(1)

.

وذلك مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وأنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الباطِل} [الحج: 62].

فالمراد بالباطل: ما لا ينفع، وكل ما سوى الله لا تنفع عبادته، وهذا يدخل فيه كل ما عبد من دون الله من الملائكة والأنبياء وهؤلاء قد سبقت لهم من الله الحسني فكيف يدخلون في الباطل؟

(1)

أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب أيام الجاهلية برقم (3841). وأخرجه في كتاب الشعر (2256).

ص: 256

وكذلك قوله: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَماذا بَعْدَ الحَقِّ إلَّا الضَّلالُ فَأنّى تُصْرَفُونَ} [يونس].

فيقال: إن المراد عبادتهم والعمل لهم باطل، وقد يقال عن الشيء أنه لا شيء لانتفاء المقصود منه ليس بشيء وكما قال صلى الله عليه وسلم عن الكهان لما سئل عنهم فقال:"ليسوا بشيء" فقالوا إنهم يحدثون أحيانًا الشيء يكون حقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرُّها في أذن وليه قرَّ الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة"

(1)

. فهم ليسوا بشيء: أي لا ينتفع بهم فيما يقصد منهم، وهو الاستخبار عن الأمور الغائبة لأنهم يكذبون كثيرًا فلا يدرى ما قالوه أهو صدق أم كذب. وهم مع ذلك موجودون يضلون ويضلون.

فقوله: "ليس بشيء" مثل قوله: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل" وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وأنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الباطِل} فهو من جهة كونه معبودًا باطل لا ينتفع به ولا يحصل لعابده مقصود العبادة وإن كان من جهة أخرى هو شمس وقمر ينتفع بضيائه ونوره وهو يسجد لله ويسبحه. وكذلك الملائكة والأنبياء إذا نفي عنهم كونهم آلهة معبودين وتبين أن عبادتهم عمل باطل لا ينتفع به، لم ينف ذلك ما يستحقونه من الإجلال والإكرام وعلو قدرهم عند الله تعالى.

والتبري من عبادتهم وكونهم معبودين، لا من موالاتهم والإيمان بهم وقولهم {إنّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ومن عبادتهم ومن كونهم معبودين كما قال الخليل عليه السلام:{يا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام] فهو بريء من كل شريك لله من جهة كونه جعل شريكا وندًا لله ولم يبرأ منه من جهات أخرى.

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كناب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان برقم (2228).

ص: 257

فإبراهيم لم يبرأ من الشمس والقمر والكواكب من جهة كونها مسخرة لمنافع العباد وكونها تسجد لله وتسبحه وكونها من آياته العظيمة بل من جهة كونهاشركاء لله. أما الأوثان ونحوها فتعادى مطلقا. والشمس والقمر والملائكة والكواكب تعادى عبادتها وكونها آلهة معبودة فتبغض من هذه الجهات وتعادى، مع وجوب الإيمان بالملائكة وإذا قيل للنصارى نحن براء من شرككم ومما تعبدون من دون الله. وقد قال تعالى:{قُلْ أتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولا نَفْعًا واللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [المائدة] هذا بعد قوله: {ما المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ} .

فالبراءة من كل معبود سوى الله كالبراءة من كل إله سوى الله، وذلك براءة من الشرك ومن كل ما سوى الله معبودا، وليس هو براءة من المسيح من جهة كونه رسولًا كريما وجيها عند الله، بل براءة مما قيل فيه من الباطل لا من الحق. والمسيح والملائكة وغيرهم يتبرؤن ممن عبدوهم ويعادونهم ولا يوالونهم قال الله تعالى {ويَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أهَؤُلاءِ إيّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أنْتَ ولِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ].

وقال تعالى: {ويَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أأنْتُمْ أضْلَلْتُمْ عِبادِي هَؤُلاءِ أمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِياءَ ولَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وآباءَهُمْ حَتّى نَسُوا الذِّكْرَ وكانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان].

وقال تعالى {أفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي} [الكهف: 102] وقال تعالى {أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِياءَ فاللَّهُ هُوَ الوَلِيُّ وهُوَ يُحْيِي المَوْتى وهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى].

ص: 258

وقال تعالى {قُلْ أغَيْرَ اللَّهِ أتَّخِذُ ولِيًّا} [الأنعام: 14].

وهو سبحانه لم ينه عن موالاتهم فمن أحبهم ووالاهم فهو موحد ومن جعلهم أندادًا أحبهم كما يحب الله ورسوله.

فالحب لله توحيد وإيمان. والحب للأنداد مع الله شرك وكفر.

وكذلك الشفاعة قال تعالى: {ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ ولِيٍّ ولا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]. وقال تعالى {مَنْ ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإذْنِهِ} [البقرة: 255].

فتبين أنه لا تنفع شفاعة الملائكة والأنبياء ولا غيرهم إلا لمن أذن له حتى "إذا قضى بالأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعازا لقوله تعالى كأنه سلسلة على صفوان"

(1)

وصعقوا فلا يعلمون ما قال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ].

فحينئذ يعلمون ما قضى به، فكيف يشفعون بدون إذنه؟

قال الله تعالى: {بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وهُمْ بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء] وقال تعالى {أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا ولا يَعْقِلُونَ} [الزمر].

وأوجه الشفعاء وأول شافع يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أحاديث الشفاعة أن الناس يوم القيامة إذا ذهبوا إلى آدم ليشفع لهم يردهم إلى نوح ونوح إلى إبراهيم وإبراهيم إلى موسى وموسى إلى المسيح والمسيح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين فيقول اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال صلى الله عليه وسلم: "فيأتوني فأذهب إلى ربي فإذا رأيت ربي خررت ساجدا وأحمد ربي بمحامد يفتحها عليَّ لا أحسنها الآن وحينئذ فيقول الله تعالى "أي محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه واشفع تشفع" قال

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، تفسير سورة سبأ، باب (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير) برقم (4800).

ص: 259

"فأقول: أي رب أمتى فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة"، وكذلك ذكر في الثانية والثالثة

(1)

.

وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة رضي الله عنه قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ " الحديث إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتى من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه"

(2)

.

فقد بين أوجه الشفعاء أنه إذا أتى يبدأ بالسجود لله والحمد لله لا يبدأ بالشفاعة حتى يؤذن له فإن أذن له فحينئذ يشفع، فإذا شفع حد له حدًا فيدخلهم الجنة، وبين أن أولى الناس بشفاعته من كان أعظم إخلاصا وتوحيدًا لا من كان سائلا وطالبا منه أو من غيره. فالأمر كله لله وحده لا شريك له هو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبل شفاعة الشفيع فيمن يختار قال تعالى {ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ} [القصص].

فالذين يخالفون شريعة الأنبياء ويغلون فيهم ويقولون إنهم يحبونهم ويوالونهم ويعظمونهم بذلك، فالأنبياء يتبرأون منهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم بريء من عمل يخالف أمره وسنته قال الله تعالى {فَإنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء].

ولا ينفع من عصى الرسول أن يقول قصدي تعظيمهم فإنه إنما أمر بطاعتهم ولم يأمر أن يعبد الله بالظن وما تهوى الأنفس، قال الله تعالى {وإذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب، قول الله عز وجل {ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} برقم (3340). ومسلم في كتاب الأيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها برقم (193).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار برقم (6570).

ص: 260

ما قُلْتُ لَهُمْ إلَّا ما أمَرْتَنِي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ} [المائدة].

فقد أخبر أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به أن يعبدوا الله وحده وكذلك سائر الانبياء قال الله تعالى {وما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلَّا أنا فاعْبُدُونِ} [الأنبياء].

وهو سبحانه إنما يعبد بما شرع من الدين، لا يعبد بما شرع من الدين بغير إذنه فإن ذلك شرك قال الله تعالى {أمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].

وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ وما وصَّيْنا بِهِ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ} [الشورى: 13] والدين الذي شرعه إما واجب أو مستحب فكل من عبد عبادة ليست واجبة في شرع الرسول ولا مستحبة كانت من الشرك والبدع، وكلما تدبر الإنسان ما أمر به وشرعه تبين له أنه جمع في شرعه بين كمال توحيد الرب وإخلاص العبادة له.

وبيَّن كمال طاعة الرسل وتعزيرهم ومحبتهم وموالاتهم ومتابعتهم فأسعد الناس في الدنيا والآخرة أتبعهم للرسول باطنا وظاهرًا صلى الله عليه وسلم تسليما

(1)

.

فهذا هو صراط الله المستقيم قال تعالى {وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام].

ولما أمرنا الله أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين. كان ذلك مما لحين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين

(2)

. والمغضوب عليهم هم

(1)

الرد على الأخنائي (333 - 388) بتصرف.

(2)

مجموع الفتاوى (1/ 65).

ص: 261

اليهود والضالون هم النصارى

(1)

.

وقد افترق اليهود والنصارى في شأن الأنبياء، فاليهود جفوا عنهم فكذبوهم وقتلوهم كما أخبر الله عنهم بقوله {أفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة]، والنصارى غلوا فيهم فأشركوا بهم حتى كفروا بالله تعالى قال تعالى {يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ولا تَقُولُوا عَلى اللَّهِ إلَّا الحَقَّ إنَّما المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّما اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأرْضِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا} [النساء].

فبالإيمان بهم وتصديقهم وطاعتهم يخرج المسلم عن مشابهة اليهود وبعبادة الله وحده والاعتراف بأنهم عباد الله لا يجوز اتخاذهم أربابا إلا اك ك بهم والغلو فيهم يخرج عن مشابهة النصارى.

فإن اتخاذهم أربابا كفر قال الله تعالى {ولا يَأْمُرَكُمْ أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أرْبابًا أيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إذْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران] والنصارى يشركون بمن دون المسيح من الأحبار والرهبان قال تعالى {اتَّخَذُوا أحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] فمن غلا فيهم واتخذهم أربابا فهو كافر.

ومن كذب شيئا مما جاؤوا به أو سبهم أو عابهم أو عاداهم فهو كافر.

ص: 262

فلابد من رعاية هذا الأصل

(1)

.

وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم ففيه شبه من اليهود كما ترى في أحوال منحرفة أهل العلم من تحريف الكلم عن مواضعه، وقسوة القلوب، والبخل بالعلم وغير ذلك.

ومن انحرف من العباد ففيه شبه من النصارى كما ترى في منحرفة أهل العبادة من الغلو في الأنبياء والصالحين وغير ذلك

(2)

.

والغلو في هذه الأمة وقع في طائفتين:

الطائفة الأولى: طائفة من ضلال الشيعة الذين يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية.

الطائفة الثانية: طائفة من جهال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين

(3)

.

فمن توهَّم في نبينا أو غيره من الأنبياء شيئا من الألوهية والربوبية فهو من جنس النصارى.

وإنما حقوق الأنبياء ما جاء به الكتاب والسنة عنهم قال تعالى في خطابه لبني إسرائيل {وآمَنتُمْ بِرُسُلِي وعَزَّرْتُمُوهُمْ وأقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ولأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهارُ} [12]. والتعزير: النصر والتوقير والتأييد.

وقال تعالى {إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ} [الفتح] فهذا في حق الرسول، ثم قال في حق الله تعالى {وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا} [الفتح].

(1)

الرد على الأخنائي (324 - 325).

(2)

مجموع الفتاوى (1/ 65) بتصرف.

(3)

انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/ 92) والرد على البكري (ص 105، 106)

ص: 263

وقال تعالى {فالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف].

وقال تعالى {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].

وقال تعالى {قُلْ أطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ} [آل عمران: 32] وذكر طاعة الرسول في أكثر من ثلاثين موضعا.

وقال تعالى {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب].

وقال تعالى {قُلْ إنْ كانَ آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزْواجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَاللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة: 24] فقد بين الله في كتابه حقوق الرسول من الطاعة له، ومحبته، وتعزيره، وتوقيره، ونصره، وتحكيمه، والرضى بحكمه، والتسليم له واتباعه والصلاة والتسليم عليه، وتقديمه على النفس والأهل والمال، ورد ما يتنازع فيه إليه وغير ذلك من الحقوق.

وأخبر أن طاعته طاعته فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ} ومبايعته مبايعته فقال {إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10].

وقرن بين اسمه واسمه في المحبة فقال {أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ} [التوبة: 24] وفي الأذى فقال {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] وفي الطاعة والمعصية فقال {ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ} [النساء: 13]{ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ} [النساء: 14]. وفي الرضا فقال {واللَّهُ ورَسُولُهُ أحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62].

فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.

ص: 264

فأما العبادة والاستعانة فلله وحده لا شريك له كما قال {واعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]. {إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ} . {وما أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ} [البينة: 5].

وقد جمع منهما في مواضع كقوله {فاعْبُدْهُ وتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]. وقوله {وتَوَكَّلْ عَلى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 5].

والدعاء لله وحده سواء كان دعاء عبادة أو دعاء المسألة والاستعانة كما قال تعالى {وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أحَدًا وأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إنَّما أدْعُو رَبِّي ولا أُشْرِكُ بِهِ أحَدًا} [الجن].

وتوحيد الله وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته في القرآن كثير جدًّا، بل هو قلب الإيمان، وأول الإسلام وآخره.

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم "من كان آخر كلامه لا إلى إلا الله دخل الجنة"

(2)

.

وهو قلب الدين والإيمان، وسائر الأعمال كالجوارح له.

فالعبادة والإستعانة وما يدخل في ذلك من الدعاء والاستغاثة

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة

) برقم 25، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله برقم (21).

(2)

وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجنائز، باب في التلقين (3116) والإمام أحمد في المسند (5/ 233) وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 351) وحسنه الحافظ ابن حجر رحمه لله في تخريج الأذكار - كما في الفتوحات الربانية (4/ 109 - 110) وذكر له شواهد.

ص: 265

والخشية والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستغفار كل، هذا لله وحده لا شريك له. فالعبادة متعلقة بألوهيته، والاستعانة متعلقة بربوبيته، والله رب العالمين لا إله إلا هو، ولا رب لنا غيره، لا ملك ولا نبي ولا غيره، بل أكبر الكبائر الإشراك بالله وأن تجعل له ندا وهو خلقك، والشرك أن تجعل لغيره شركا نصيبًا في عبادتك، وتوكلك، واستعانتك كما قال من قال {ما نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى} [الزمر: 3].

وأصناف العبادات: الصلاة بأجزائها مجتمعة، وكذلك أجزاؤها التي هي عبادة بنفسها من السجود والركوع والتسبيح والدعاء والقراءة والقيام لا يصلح إلا لله وحده.

ولا يجوز أن يتنفل عن طريق العبادة إلا لله وحده، لا الشمس ولا القمر ولا الملك ولا لنبي ولا صالح ولا قبر نبي ولا صالح، وهذا في جميع ملل الأنبياء وقد ذكر في شريعتنا حتى نهي أن يتنفل على وجه التحية والإكرام للمخلوقات، ولهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا أن يسجد له وقال:"لو كنت آمرًا أن يُسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها"

(1)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/ 381) من حديث عبد الله بن أبي أوفى (5/ 227 - 228) من حديث معاذ (6/ 76) من حديث عائشة؛ وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة (2/ 604 - 605) ح 2140 من حديث قيس بن سعد وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة (46513) ح 1159 من حديث أبى هريرة وقال: وفي الباب عن معاذ بن جبل وسراقة بن مالك وعائشة وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى وطلق بن علي وأم سلمة وأنس وابن عمر. انتهي كلامه. وأخرجه ابن ماجه في السنن كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة (1/ 341 - 342) ح 1857 من حديث عائشة، و 1858 من حديث عبد الله بن أبي أوفى. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (ح 1290) من حديث عبد الله بن أبي أوفى.

ص: 266

وكذلك الزكاة العامة من الصدقات كلها والخاصة لا يتصدق إلا لله كما قال تعالى {وما لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إلَّا ابْتِغاءَ وجْهِ رَبِّهِ الأعْلى} [الليل].

فلا يجوز فعل ذلك عن طريق الدين لا لملك ولا لشمس ولا لقمر ولا لنبي ولا لصالح، كما يفعل بعض السوال والمعظمين كرامة لفلان وفلان، يقسمون بأشياء إما من الأنبياء وإما من الصحابة وإما من الصالحين.

وكذلك الحج لا يحج إلا إلى بيت الله، فلا يطاف إلا به، ولا يحلق الرأس إلا به، ولا يوقف إلا بفنائه، ولا يفعل ذلك بنبي ولا صالح ولا بقبر نبي ولا صالح، ولا بوثن.

وكذلك الصيام لا يصام إلا عبادة لله، فلا يصام لأجل الكواكب والشمس والقمر، ولا لقبور الأنبياء والصالحين ونحو ذلك.

وهذا كله تفصيل الشهادتين: اللتين هما أصل الدين "شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله".

والإله: من يستحق أن يألهه العباد ويدخل فيه حبه وخوفه.

فما كان من توابع الألوهية فهو حق محض لله.

وما كان من أمور الرسالة فهو حق الرسول

(1)

.

ونصوص القرآن والسنة مليئة بتقرير هذا الأمر {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].

* * *

(1)

مجموع الفتاوى (1/ 66، 76) بتصرف يسير.

ص: 267

‌المبحث الثالث: بيان توسط السلف في حق النبي صلى الله عليه وسلم

-

إن مما امتاز به اتباع هذا الدين: الوسطية في كل شيء فلا إفراط ولا تفريط قال تعالى: {وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ} قال ابن كثير: "والوسط هنا المراد به الخيار والأجود كما يقال قريش أوسط العرب نسبًا؛ أي: خيرها.

ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب"

(1)

.

ومن الأمور التي توسطت بها هذه الأمة توسطها في شأن الأنبياء بين اليهود والنصارى.

فقد افترق اليهود والنصارى في الأنبياء: فاليهود جفوا عنهم فكذبوهم وقتلوهم. والنصارى غلوا فيهم فأشركوا بهم حتى كفروا بالله.

أما هذه الأمة فقد توسطت بين الطائفتين فأمنت وصدقت بأنبياء الله ولم يتخذهم أربابا من دون الله.

فالسلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ساروا في هذا الشأن وفق نصوص القرآن والسنة الصحيحة شأنهم في ذلك شأنهم في سائر أمور هذا الدين الاتباع وترك الابتداع.

فما نصَّ عليه القرآن يجب الأخذ به والعمل به والحال نفسه ينطق على ما نصت عليه السنة.

(1)

تفسير ابن كثير (1/ 190).

ص: 269

فقد نصت النصوص على أمور متعددة فيما يتعلق بشأن نبينا صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

فمن أخذ بهذه الأمور جميعها وأمن بها فقط توسط ومن أخلَّ بشيء منها فهو لا محالة واقع في أحد حالين إما الغلو أو التنقص.

ولما كان حال الغلو هو الأكثر خطرا على اتباع الرسل، فقد جاء التنبيه والتأكيد على بشريتهم في مواطن متعددة في كتاب الله العزيز منها:

‌1 - التأكيد على بشرية الرسول وعبوديته لله تعالى:

قال تعالى {ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 79].

وقال تعالى {قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إلَيَّ} [الكهف: 110].

وقال تعالى {قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء].

وقال تعالى {سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].

وقال تعالى {وإنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا} [البقرة: 23].

وقال تعالى {إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وما أنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا} [الأنفال: 41].

وقال تعالى {الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ ولَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا} [الكهف].

وقال تعالى {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان].

وقال تعالى {فَأوْحى إلى عَبْدِهِ ما أوْحى} [النجم].

وقال تعالى {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ} [الحديد: 9].

وقال تعالى {وما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلَّا إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ ويَمْشُونَ فِي الأسْواقِ} [الفرقان: 20].

ص: 270

‌2 - التأكيد على أن الرسل لا يملكون شيئا من خصائص الإلهية والربوبية

قال تعالى {قُلْ لا أقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ولا أعْلَمُ الغَيْبَ ولا أقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ إنْ أتَّبِعُ إلَّا ما يُوحى إلَيَّ} [الأنعام: 50].

وقال تعالى {قُلْ لَوْ أن عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ واللَّهُ أعْلَمُ بِالظّالِمِينَ وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلَّا هُوَ} [الأنعام].

وقال تعالى {يَسْألونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ والأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إلَّا بَغْتَةً يَسْألونَكَ كَأنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًّا إلَّا ما شاءَ اللَّهُ ولَوْ كُنْتُ أعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُمِنَ الخَيْرِ وما مَسَّنِيَ السُّوءُ إنْ أنا إلَّا نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف].

وقال تعالى {ويَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إنَّما الغَيْبُ لِلَّهِ فانْتَظِرُوا إنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ} [يونس].

وقال تعالى: {ولا أقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ولا أعْلَمُ الغَيْبَ ولا أقُولُ إنِّي مَلَكٌ} [هود: 31].

وقال تعالى {قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولا رَشَدًا} [الجن].

وقال تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128].

وقال تعالى {قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا ولا نَفْعًا إلَّا ما شاءَ اللَّهُ} [يونس: 49].

وقال تعالى {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ} [الأحقاف: 90].

ص: 271

‌3 - التنبيه على ما كان من حال النصارى مع عيسى عليه السلام وبيان كفرهم في ذلك:

قال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إنْ أرادَ أنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ ومَن فِي الأرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17].

وقال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة].

‌4 - بيان كفر من رفعهم إلى درجة الربوبية:

قال تعالى: {ولا يَأْمُرَكُمْ أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أرْبابًا أيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إذْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران].

وبجانب هذا التأكيد على بشرية الرسل والتحذر من رفعهم فوق مكانتهم التي أعطاهم الله إياها ووصفهم بما ليس لهم حق فيه.

أكد الإسلام وجوب الإيمان بهم وإكرامهم ورفع درجتهم وجعلهم في مكانة ومنزلة سامية. فأوجب الإيمان بهم.

ص: 272

قال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ والمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ} [البقرة].

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد، فرد صمد، لا إله غيره ولا رب سواه.

ويصدِّقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين"

(1)

.

وفي مقابل ذلك فقد عدَّ تكذيب واحد منهم كفرًا ولو ادعى الإيمان بالله ورسله جميعا إلا ذلك، فإيمان من هذا حاله إيمان زائف لا وزن له ولا خير فيه وصاحبه موسوم بالكفر.

قال تعالى {إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ويُرِيدُونَ أنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ ويَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ ويُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقًّا وأعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا} .

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: "والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن

(1)

تفسير ابن كثير (1/ 342).

ص: 273

إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًا إنما هو عن غرض وهوى وعصبية"

(1)

.

وبهذه الوسطية تمسك السلف الصالح ومن سار على نهجهم فالأنبياء وعلى رأسهم نبينا صلوات الله عليهم أجمعين بشر مثلنا فضلهم الله واصطفاهم واختارهم وشرفهم بحمل الرسالة وتبليغها إلى الناس، وأوجب علينا لهم من الحقوق ما سبق ذكره، وكذلك جعل لنا عليهم من الأمور والحقوق التي تطلب منهم، "فالأمور نوعان:

النوع الأول: نوع يطلب لنبينا منا ويجب له علينا.

والنوع الثاني: نوع يطلب لنا منه سواء أوجب عليه أو لم يجب.

فالواجب له علينا من الحقوق بعد الموت الإيمان به ومحبته ونصره وتعزيره وتوقيره وطاعة أمره واتباع سنته وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه.

هذا بالنسبه لما يتعلق بالنوع الأول.

أما ما يتعلق بالنوع الثاني: فتحقيق ذلك أن الله أمره بأشياء منها ما هو حق لله. ومنها ما هو حق للناس.

والأمر تارة يكون أمر إيجاب، وتارة أمر استحباب.

وكل ما أمر به مما فيه نفع للخلق ففيه حق لهم عليه كتبليغهم وتعليمهم والبيان لهم وأمرهم بكل معروف ونهيهم عن كل منكر، وحضهم على كل ما يقربهم إلى الجنة ونهيهم عن كل ما يبعدهم عنها وتبيين كل ما يحتاجون إليه وأمثال ذلك.

وقد فعل ذلك وتركهم على البيضاء ليلها كنهارها، وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لهم منه علمًا بأخباره وأوامره ونواهيه.

وكذلك كان يقوم بأخذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم،

(1)

تفسير ابن كثير (1/ 572).

ص: 274

وإنصاف مظلومهم من ظالمهم، وإطعام جائعهم، وعيادة مريضهم، والصلاة على ميتهم، وأمثال ذلك من أنواع إحسانه إليهم في جميع مصالح الدنيا والآخرة.

فاجتمعت له صفات الكمال المتفرقة في غيره من الرسل والأنبياء وولاة الأمر وغيرهم.

وكان له من خصائص النبوة والرسالة ما لم يشركه فيه أحد بعده، وكان يقوم بالإمامة في الصلاة والإمارة في الغزو وإرسال البعوث وعقد الألوية والشعائر في الحروب وإقامة الحدود وايصال الحقوق وقسم المواريث والمغانم والفيء والصدقات، وتعليمهم ما يؤمرون به مما في القلوب من المعارف والأحوال، أو ما يقوم بالأبدان من الأقوال والأعمال، وأفتاهم فيما ينوبهم من المسائل، والحكم بينهم فيما يتنازعون فيه من القضايا، وتعبير الرؤيا وما كان وما يكون من أمر الدنيا والآخرة، وصفات الرب، وملائكته، وأمر الآخرة والجنة والنار إلى غير ذلك. فهذه الأمور التي كان مأمورًا بها أمر إيجاب أو أمر استحباب وكانت حقا عليه للخلق انتهت بموته فلم يبق عليه منها شيء.

كما أدّى حق الله الذي أمره به، فلم يبق عليه منه شيء، فجاهد في الله ونصح الأمة، وعبد ربه حتى أتاه اليقين.

وأما ما كان حقا له على الأمة ومنفعته في الحقيقة تعود عليهم، والله تعالى يثيبه بما يعملون به من طاعته مثل ثوابهم، يستجيب فيه صالح دعواهم فهو في الحقيقة حق الله وإن كان فيه حق للرسول فإن الله هو الذي أمرهم به الرسول، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله.

فكل ما أمرهم به الرسول من واجب ومستحب، فالله أمرهم به.

وإذا أطاعوا الله ورسوله فأجرهم على الله.

وإذا عصوا الله ورسوله فحسابهم على الله.

ص: 275

قال تعالى {فَإنَّما عَلَيْكَ البَلاغُ وعَلَيْنا الحِسابُ} [الرعد].

وقال تعالى {فَذَكِّرْ إنَّما أنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إلَّا مَنْ تَوَلّى وكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذابَ الأكْبَر إنَّ إلَيْنا إيابَهُمْ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ} [الغاشية]، وقال تعالى {وأطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ فَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإنَّما عَلى رَسُولِنا البَلاغُ المُبِينُ} ثم قال {اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هُوَ وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [التغابن] فأمر بطاعته وطاعة رسوله لأن طاعته طاعة لله.

وأمرهم بالتوكل عليه وحده، وطاعة الرسول هي عبادة لله وحده والأمر والمعنى المتقدم من أن الرسول ليس عليه إلا ما أمر به من البلاغ والبيان والجهاد وليس عليه جزاء العباد ولا حسابهم ولا هدايتهم قد كرر في القرآن في مواضع. والحق الذي لله وللرسول باق بعد موت الرسول، وكذلك ما كان من حقوقه التي يمكن بقاؤها كالصلاة عليه والتسليم والتعزر والتوقير والمحبة وغيرها فهي لم تنقص بعد موته بل توكدت وقويت، بل حقوقه عليها بعد موته أكمل منها في حياته.

فمن ذلك أن من تنقَّصه في حياته أو سبَّه فإنه كان له صلى الله عليه وسلم يعفو عن حقه.

فأما بعد موته فليس لأحد أن يعفو عن حقه ولا يسقط وكذلك في مغيبه. فعلينا أن نقوم بحقوقه الواجبة علينا في حال مماته ومغيبه أكثر مما علينا أن نقوم بها في محياه وحضوره.

وتلك الحقوق علينا له، وإذا فعلناها كانت عبادة منا لله، أجرنا فيها على الله وهي مما يزيده الله بها من فضله من جهة امتثالنا لما أمرنا به، وهو داعينا، وكلما أطعنا كان له مثل أجورنا، ومن جهة ما يصل إليه من الرحمة باستجابة الله دعاء الأمة، مع ما يزيده الله إياه من فضله. وهذه الحقوق الثابتة بعد موته هي تبع لرسالته فإنه هو السفير والواسطة

ص: 276

بيننا ولون الله تعالى في تعليمنا وانتفاعنا بما علمنا من علم الله وخبره، وفي أمرنا وإرشادنا إلى ما أمر الله به وأحبه ورضيه وبذلك حصل لمن آمن به واتبعه سعادة الدنيا والآخرة.

بل أعظم نعمة أنعم الله بها على المؤمنين أن أرسله إليهم وأنزل عليه الكتاب، ومنَّ عليهم باتباعه. فليس في الدنيا خير أعظم من هذا

(1)

.

وبعد فهذا أنموذج من فهم السلفي لنوع العلاقة التي تربط الأمة بنبيها وهو فهم أوجبته النصوص الشرعية وأكدته وأوا فمحته ورسمته، فليس لنا أن نحيد عنه أو نبدل فيه.

وهو فهم أعطى لكل ذى حق حقه كما أوجب ربنا وشرع في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فحق الله هو توحيده، تجريد العبادة له تبارك وتعالى.

وحق الرسول الإيمان به وطاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والصلاة والسلام عليه إلى غير ذلك مما سبق ذكره.

وعن هذا التوازن في وضع الأمور في نصابها الذي أوجبه الله تعالى علينا يقول ابن القيم: "والفرق بين تجريد التوحيد وبين هضم أرباب المراتب أن تجريد التوحيد أن لا يعطى الخلوق شيئا من حق الخالق وخصائصه، فلا يعبد، ولا يصلى له، ولا يسجد ولا يحلف باسمه، ولا ينذر له، ولا يتوكل عليه، ولا يؤله ولا يقسم به على الله، ولا يعبد ليقرب إلى الله زلفى، ولا يساوى برب العالمين في قول قائل: ما شاء الله وشئت، وهذا منك ومن الله، وأنا بالله وبك، وأنا متوكل على الله وعليك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، وهذا من صدقاتك وصدقات الله، وأنا تائب إلى الله وإليك، وأنا في حسب الله

(1)

الرد على البكري (ص 108 - 112) بتصرف يسير.

ص: 277

وحسبك، فيسجد للمخلوق كما يسجد المشركون لشيوخهم يحلق رأسه له، ويحلف باسمه، وينذر له، ويسجد لقبره بعد موته، ويستغيث به في حوائجه ومهماته، ويرضيه بسخط الله، ولا يسخطه في رضا الله، ويتقرب إليه أعظم مما يتقرب إلى الله ويحبه ويخافه ويرجوه أكثر مما يحب الله ويخافه ويرجوه أو يساويه.

فإذا هضم الخلوق خصائص الربوبية، وأنزله منزلة العبد المحض الذي لا يملك لنفسه فضلًا عن غيره ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا لم يكن هذا تنقصًا له ولا حطًا من مرتبته ولو رغم المشركون.

وقد صح عن سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله"

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبرى عيدا"

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد"

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان"

(4)

.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (7626)، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي برقم (30)، وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص 141).

(3)

أخرجه الإمام مالك في الموطأ برقم (414) وعبد الرزاق في المصنف برقم (1587).

(4)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 384، 394، 398). وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب لا يقال خبثت نفس (15/ 259) ح 4980. وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب لا يقال خبثت نفس (5/ 259) ح 4980. وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، باب النهي أن لا يقال خبثت نفس (5/ 259) ح 4980. وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، باب النهي أن يقال ما شاء الله وشاء فلان (ص 544) ح 985. وقال النووي: رواه أبو داود بإسناد صحيح. رياض الصالحين (ص 611).

ص: 278

وعن عدى بن حاتم أن رجلًا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بئس الخطيب أنت قل ومن يعص الله ورسوله"

(1)

.

وقال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: "أجعلتني لله ندا؟ "

(2)

.

وقال له رجل قد أذنب: الله إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. فقال: "عرف الحق لأهله"

(3)

.

وقد قال الله له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128].

وقال: {قُلْ إنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154].

وقال: {قُلْ لا أمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا ولا نَفْعًا إلَّا ما شاءَ اللَّهُ} [يونس: 49].

وقال: {قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولا رَشَدًا واتْلُ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ولَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن] أي لن أجد من دونه من ألتجئ إليه وأعتمد عليه. وقال لابنته فاطمة وعمه العباس وعمته صفية

(4)

: "لا أملك لكم من الله شيئا"

(5)

وفي لفظ:

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (3/ 12 - 13).

(2)

أخرجه الإمام أحمد (1/ 214، 224، 283، 347)، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة ص 545 (ح 987).

(3)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 435).

(4)

صفية بنت عبد المطلب بن هاشم القرشية الهاشمية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدة الزبير بن العوام، وهي شقيقة حمزة، أسلمت وهاجرت مع ولدها الزبير وروت وعاشت إلى خلافة عمر. الإصابة (4/ 339 - 340).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب من انتسب لآبائه في الإسلام والجاهلية. برقم (3527)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} برقم (204).

ص: 279

"لا أغني عنكم من الله شيئا"

(1)

.

فعظم ذلك على المشركين بشيوخهم وآلهتهم، وأبوا ذلك كله، وادعوا لشيوخهم ومعبوديهم خلاف هذا كله، وزعموا أن من سلبهم ذلك فقد هضمهم مراتبهم وتنقصهم، وقد هضموا جانب الإلهية غاية الهضم وتنقصوه فلهم نصيب وافر من قوله تعالى {وإذا ذُكِرَ اللَّهُ وحْدَهُ اشْمَأزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وإذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر]

(2)

.

وقال أيضا رحمه الله في قصيدته النونية المسمَّاة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية:

يا من له عقل ونور قد غدا

يمشي به في الناس كل زمان

لكننا قلنا مقالة صارخٍ

في كل وقت بينكم بأذان

الرب رب والرسول فعبده

حقا وليس لنا إله ثان

فلذاك لم نعبده مثل عبادة الرحـ

ـمن فعل المشرك النصراني

كلا ولم نغلُ الغلو كما نهى

عنه الرسول مخافة الكفران

لله حق لا يكون لغيره

ولعبده حق هما حقان

لا تجعلوا الحقين حقا واحدا

من غير تمييز ولا فرقان

فالحج للرحمن دون رسوله

وكذا الصلاة وذبح ذي القربان

وكذا السجود ونذرنا ويمينُنا

وكذا متَابُ العبد من عصيانِ

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب. برقم (2753)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} (204).

(2)

الروح لابن القيم (2/ 766، 767).

ص: 280

وكذا التوكل والإنابة والتقى

وكذا الرجاء وخشية الرحمن

وكذا العبادة واستعانتنا به

إياك نعبد ذاك توحيدان

وعليهما قام الوجود بأسره

دنيا وأخرى حبذا الركنان

وكذلك التسبيح والتكبير والتهليل

حق آلهنا الديان

لكنما التعزير والتوقير

حق للرسول بمقتضى القرآن

والحب والإيمان والتصديق لا

يختص بل حقان مشتركان

هذى تفاصيل الحقوق ثلاثة

لا تجهلوها يا أولى العدوان

حق الإله عبادة بالأمر لا

بهوى النفوس فذاك للشيطان

من غير إشراك به شيئا هما

سببا النجاة فحبذا السببان

ورسوله فهو المطاع وقوله المقبول

إذ هو صاحب البرهان

والأمر منه الحتم لا تخيير فيه

عند ذي عقل وذي إيمان

من قال قولا غيره قمنا على

أقواله بالسَّبْرِ والميزان

إن وافَقَتْ قول الرسول وحُكمه

فعلى الرؤوس تشال كالتيجان

أو خالفت هذا رددناها على

من قالها من كان من إنسان

أو أشكلت عنا توقفنا ولم

نجزم بلا علم ولا برهان

هذا الذي أدى إليه علمنا

وبه ندين الله كل أوان

فهو المطاع وأمره العالى على

أمر الورى وأمر ذى السلطان

وهم المقدم في محبتنا على

الأهلين والأزواج والولدان

وعلى العباد جميعهم حتى على

النفس التي قد ضمها الجنبان

ونظير هذا قول أعداء المسيح

من النصارى عابدى الصلبان

إنا تنقَّصنا المسيح بقولنا

عبدٌ وذلك غاية النقصان

لو قلتم ولد إله خالق

وفَّيتموه حقه بوزان

ص: 281

وكذاك أشباه النصارى مُذْ غَلَوْا

في دينهم بالجهل والطغيان

صاروا معادين الرسول ودينه

في صورة الأحباب والإخوان

فانظر إلى تبديلهم توحيده

بالشرك والإيمان بالكفران

وانظر إلى تجريده التوحيد من

أسباب كل الشرك بالرحمن

واجمع مقالتهم وما قد قاله

واستدع بالنَّقَّاد والوزَّان

عقلٍ وفطرتك السليمة ثم زن

هذا وذا لا تطغ في الميزان

فهناك تعلم أي حزبينا هو

المتنقص المنقوص ذو العدوان

رامي البريء بدائه ومصابه

فعل المباهت أوقح الحيوان

كمعير للناس بالزغل الذي

هو ضربه فاعجب لذا البهتان

يا فرقة التنقيص بل يا أمة الدعوى

بلا علم ولا عرفان

والله ما قدمتم يوما مقالته

على التقليد للإنسان

والله ما قال الشيخ وقال

إلا كنتم معهم بلا كتمان

والله أغلاط الشيوخ لديكم

عين الصواب ومقتضى البرهان

ولذا قضيتم بالذي حكمت به

جهلا على الأخبار والقرآن

والله إنهم لديكم مثل معصوم

وهذا غاية الطغيان

تبا لكم ماذا التنقص بعد ذا

لو تعرفون العدل من نقصان

والله ما يرضيه جعلكم له

تُرْسًا لشرككم وللعدوان

وكذاك جعلكم المشايخ جنة

لخلافه يشهده أولو الايمان

والله ما عظمتموه طاعة

ومحبة يا فرقة العصيان

أنَّى وجهلكم به وبدينه

وخلافكم للوحي معلومان

أوصاكم أشياخكم بخلافهم

لوفاقه في سالف الأزمان

خالفتم قول الشيوخ وقوله

فغدا لكم خلفان متفقان

ص: 282

والله أمركم عجيب مُعْجِبٌ

ضدان فيكم ليس يتفقان

تقديم آراء الرجال عليه مع

هذا الغلو فكيف يجتمعان؟

كفرتم من جرد التوحيد جهلا

منكم بحقائق الإيمان

لكن تجردتم لنصر الشرك والبدع

المضلة في رضى الشيطان

والله لم نقصد سوى التجريد للتوحـ

ـيد ذاك وصية الرحمن

ورضى رسول الله منا لا غلـ

ـو الشرك أصل عبادة الأوثان

والله لو يرضى الرسول دعاءنا

إياه بادرنا إلى الإذعان

والله لو يرضى الرسول سجودنا

كنا نَخِرُّ له على الأذقان

والله ما يرضيه منا غير إخـ

ـلاص وتحكيم لذا القرآن

ولقد نهي ذا الخلق عن إطرائه

فعل النصارى عابدي الصلبان

ولقد نهانا أن نصيِّر قبره

عيدا حذار الشرك بالرحمن

ودعا بأن لا يجعل القبر الذي

قد ضمه وثنا من الأوثان

فأجاب رب العالمين دعاءه

وأحاطه بثلاثة الجدران

حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه

في عزة وحماية وصيان

ولقد غدا عند الوفاة مصرحا

باللعن يصرخ فيهم بأذان

وعنى الأُلى جعلوا القبور مساجدا

وهم اليهود وعابدوا للصلبان

والله لولا ذاك أبرز قبره

لكنهم حجبوه بالحيطان

قصدوا إلى تسنيم حجرته ليمتنـ

ـع السجود له على الأذقان

قصدوا موافقة الرسول وقصده

التجريد للتوحيد للرحمن

(1)

.

(1)

انظر: توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة ابن القيم (2/ 346 - 354).

ص: 283

‌الفصل الثاني بيان الأمور التي حصل فيها غلوٌّ في حقه صلى الله عليه وسلم وحكم الشرع فيها

وفيه: تمهيد، وستة مباحث

ص: 285

‌تمهيد:

قال الله تعالى: {فَإنَّما عَلَيْكَ البَلاغُ وعَلَيْنا الحِسابُ} [الرعد].

وقال تعالى: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ} [الأحقاف].

وقال تعالى: {قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا} [الكهف].

وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128].

وقال تعالى: {ولا أقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ولا أعْلَمُ الغَيْبَ ولا أقُولُ إنِّي مَلَكٌ} [هود: 31].

وقال تعالى: {ولَوْ كُنْتُ أعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وما مَسَّنِيَ السُّوءُ إنْ أنا إلَّا نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف].

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} [الجن].

برغم هذه الآيات البينات والبراهين الواضحات التي تبين وتفصل بين ما هو حق للرسول وما ليس له بحق، وما يملكه الرسول وما لا يملكه وأمثالها في القرآن الكريم كثير جدا.

يأبى أناس إلا معصية الله ورسوله ومخالفة ما جاءت به النصوص؛ إتباعا لأهوائهم وسلوكا لسبيل الشيطان، فقد غلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 287

وتنوع غلوهم وتفاوت حتى وصل في كثير من أنواعه إلى درجة الإشراك بالله تعالى.

وسأذكر في هذا الفصل نماذج من هذا الغلو الحاصل مع الإشارة إلى وجه مخالفتها للنصوص الشرعية والرد عليها.

* * *

ص: 288

‌المبحث الأول نماذج من الغلو الحاصل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم

-

‌أ - ما يسمَّى بـ (الحقيقة المحمدية):

وهي أسطورة من أساطير الصوفية، نسجها خيالهم المريض، وأوهامهم الفاسدة، فهي كذبة ليس لها رصيد من الواقع، بل هي مناقضة تمامًا لما أخبر به الله تعالى وقرره في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

أما عن فحوى هذه الأسطورة فيقول قائلهم: "اعلم أنه لما تعلقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من أنواره ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها

ثم انبخست منه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح فهو الجنس العالي على جميع الأجناس والأب الأكبر لجميع الموجودات"

(1)

.

ويقول آخر: "اعلم أن أنوار المكونات كلها من عرش وفرش وسماوات وأراضين وجنات وحجبا وما فوقها وما تحتها إذا اجتمعت كلها وجدت بعضا من نور النبي، وأن مجموع نوره لو وضع على العرش لذاب، ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت، ولو جمعت المخلوقات كلها ووضع ذلك النور العظيم عليها لتهافتت وتساقطت"

(2)

.

وفي هذا يقول شاعرهم:

أنشاك نورًا ساطعًا قبل الورى

فردًا لفرد، والبرية في عدم

(1)

الأنوار المحمدية (ص 9).

(2)

هذه هي الصوفية (ص 87).

ص: 289

ثم استمد جميع مخلوقاته

من نورك السامي، فيا عظم الكرم

فلذا إليك الخلق تفزع كلهم

في هذه الدنيا، وفي اليوم الأهم

وإذا دعتهم كربة فرجتها

حتى سوى العقلاء في ذاك انتظم

(1)

وهذا الزعم الباطل تضمن ثلاث دعاوى كلها كذب وافتراء.

الدعوى الأولى: دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور رب العالمين.

الدعوى الثانية: أنه وجد قبل خلق آدم.

الدعوى الثالثة: أن الأشياء خلقت منه.

وكل دعوى من هذه الدعاوى هي أكذب من أختها، وقد قال بها جميعًا بعض الغلاة المنتسبين إلى الإسلام مضاهاة لقول النصارى في عيسى، ويروون في ذلك أحاديث، وكلها كذب، فمن هؤلاء الغلاة من يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من قال إني كلي بشر فقد كفر، ومن قال لست ببشر فقد كفر" وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم بالحديث

(2)

.

ومنهم من يروى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي، فلما أراد أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حملة

(1)

الأبيات لأحمد بن عبد المنعم الحلواني من قصيدته المستجيرة (نقلا عن كتاب هذه الصوفية)(ص 87).

(2)

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 200 - 201)(بتصرف).

ص: 290

العرش، ومن الثاني: الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السموات، ومن الثاني الأراضين ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربع أجزاء فخلق من الأول أبصار المؤمنين ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله تعالى ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله"

(1)

.

وهذا الحديث باطل قال عنه السيوطي: "ليس له إسناد يعتمد عليه"

(2)

.

ولا يخفي على من له أدني معرفة بنصوص القرآن والسنة ما في هذا الخبر المكذوب من المخالفات والمغالطات، ولا يشك طالب علم في وضعه واختلاقه. وكذلك مما يرونه "كنت نبيًا ولا آدم ولا ماء ولا طين".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا مما لا أصل له لا من نقل ولا من عقل فإن أحدًا من المحدثين لم يذكره، ومعناه باطل فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط فإن الطين ماء وتراب، وإنما كان بين الروح والجسد.

ثم هؤلاء الضلال يتوهمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حينئذ موجودًا وأن ذاته خلقت قبل الذوات، ويستشهدون على ذلك بأحاديث مفتراة مثل حديث فيه" أنه كان نورًا حول العرش، فقال: يا جبريل أنا كنت ذلك النور"

(3)

.

ومن العجيب أن كثيرا من الناس صاروا يتناقلون مثل هذه الأخبار المفتراة حتى أصبحت عندهم عقيدة راسخة في قلوبهم.

ومما يبين كذب هذه الدعاوى ويظهر زيفها مخالفتها لنصوص الكتاب والسنة.

(1)

الأنوار المحمدية (ص 13).

(2)

الحاوي للفتاوى (1/ 325).

(3)

الرد على البكري (ص 8 - 9).

ص: 291

فقد أخبرنا عز وجل عن أصل ما خلق منه الإنس والجن فقال تعالى {خَلَقَ الأِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كالفَخّارِ وخَلَقَ الجانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ} [الرحمن].

والنبي صلى الله عليه وسلم بشر خلق مما خلق منه باقي البشر فلا ميزة له في هذا الشأن عن باقي البشر قال تعالى {سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء] وقال تعالى {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف].

والآيات في هذا الشأن، وفي شأن خلق السموات والأرض وكذا الأحاديث الثابتة كثيرة وكلها تخالف هذا الخبر المذكور وتبين زيفه وبطلانه

(1)

.

‌ب - دعوى أن الدنيا خُلقت من أجل النبي صلى الله عليه وسلم

-:

وفي هذا يقول قائلهم:

وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من

لولاه لم تخرج الدنيا من العدم

(2)

وقول الآخر ممن هو من نقطة وشكله:

لولاه ما خلقت شمس ولا قمر

ولا نجوم ولا لوح ولا قلم

(3)

ويستند هؤلاء على أحاديث موضوعة وأخبار مكذوبة منها حديث: "لولاك ما خلقت الأفلاك "وهو موضوع

(4)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أوحى الله إلى عيسى يا عيسى آمن

(1)

انظر في هذا الشأن رسالة تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق.

(2)

ديوان البوصيري (ص 240)، تنبيه الحذاق (ص 27).

(3)

تنبيه الحذاق (ص 27).

(4)

قاله الصغاني في الأحاديث الموضوعة (ص 7)، وانظر الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني (ص 326) وسلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني رقم 282.

ص: 292

بمحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت جنة ولا نار

"

(1)

.

وهذه الأحاديث الموضوعة وأمثالها لا يمكن أن يعول عليها في إثبات أمر شرعي كهذا.

أضف إلى ذلك مخالفتها للشرع فالذي تدل عليه النصوص الشرعية أن الله عز وجل إنما خلق الجن والإنس لغاية ذكرها في القرآن الكريم حيث قال عز وجل {وما خَلَقْتُ الجِنَّ والأِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات].

قال ابن كثير: "ومعني الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ومن عصاه عذبه أشد العذاب"

(2)

. وقال تعالى {وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ فِي سِتَّةِ أيّامٍ وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].

وقال تعالى {الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].

وقال تعالى {إنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أيُّهُمْ أحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف].

فصرح جل وعلا في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق

(1)

لا أصل له مرفوعًا إنما أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 614، 615) من طريق عمرو بن أوس الأنصاري ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: فذكره موقوفا وقال: "صحيح الإسناد" وتعقبه الذهبي بقوله "أظنه موضوعًا على سعيد".

وقد قال الذهبي في الميزان (3/ 246) عند ترجمته لعمرو بن أوس الذي روى هذا الحديث عن سعيد ما نصه: "عمرو بن أوس يجهل حاله أتى بخبر منكر، أخرجه الحاكم في مستدركه، وأظنه موضوعًا من طريق جندل بن والق" ثم ذكر نص هذا الحديث. ووافقه ابن حجر في اللسان (4/ 354).

(2)

تفسير ابن كثير (4/ 238).

ص: 293

هي اختبارهم وابتلاؤهم ليجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

فهذه هي الحكمة من خلقهم أولًا وبعثهم ثانيًا

(1)

.

والنصوص من آيات وأحاديث كلها تؤكد هذا الأمر وتدل عليه، وفي الوقت نفسه تبطل ما زعمه الغلاة من أن الغاية من خلق الخلق هي من أجل محمد صلى الله عليه وسلم.

فهذه الدعاوى يعرف بطلانها من له أدني بصيرة في نصوص الشرع والنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه الله خصائص وفضائل كثيرة تدل على فضله ومكانته، فليس هو بحاجة إلى أن ترفع مكانته ويبين شرفة بمثل هذه الأخبار الباطلة الموضوعة.

‌ج - دعوى الغلاة: جواز صرف بعض جوانب العبادة له صلى الله عليه وسلم

-:

وقد تفنن الغلاة في هذا.

"فمن قائل يقول إنه يستغاث به في كل يستغاث فيه بالخالق بمعنى أنه يطلب منه كما يطلب من الخالق.

فهؤلاء جعلوا الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه الناس ما يطلبونه من الله تعالى.

فآذوا الرسول وأساؤا في حقه إذ سألوه ما لا يقدر عليه مخلوق، وسوَّوه برب العالمين وسلطوا عليه العامة، فهذا يطلب منه إنزال المطر، وهذا يطلب منه غفران الذنوب، وهذا يطب منه النصر على الأعداء، وهذا يطلب منه أن يتزوج، وهذا يطلب منه الولد.

وهذا يطلب منه المعيشة وهذا يطلب منه الملك، وهذا يطلب منه الولاية، وهذا يطلب منه قضاء دينه، وهذا يطلب منه شفاء مريضه إلى غير ذلك من الأمور فنزلوا المخلوق منزلة الإله وطلبوا منه من جلب

(1)

انظر أضواء البيان (7/ 673 - 677).

ص: 294

المنافع ودفع المضار ما لا يقدر عليه إلا الله"

(1)

.

ومن نظم بعضهم في هذا قوله:

يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

ولن يضيق رسول الله جاهك بي

إذا الكريم تجلى باسم منتقم

فإن لي ذمة منه بتسميتي

محمدًا وهو أوفى الخلق بالذم

إن لم يكن في معادى آخذا بيدي

فضلًا وإلا فقل يا زلة القدم

(2)

فنفى أن يكون له ملاذ إذا حلَّت به الحوادث، إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا إياه سبحانه وتعالى.

ودعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك الشرك في الإلهية

(3)

.

ومن شعر بعضهم قوله:

ماذا تعامل يا شمس النبوة من

أضحى إليك من الأشواق في كبدي

فامنع جناب صريع لا صريخ له

نائي المزار غريب الدار مبتعدي

حليف ودك واه الصبر منتظر

لغارة منك يا ركني ويا عضدي

أسير ذنبي وزلَّاتي ولا عمل

أرجو النجاة به إن أما لم تجد

وجرى في شركه وإلى أن قال:

وحل عقدة كربي يا محمد من

هم على خطرات القلب مطرد

أرجوك في سكرات الموت تشهدني

كيما يهون إذ الأنفاس في صعد

وإن نزلت ضريحًا لا أنيس به

فكن أنيس وحيد فيه منفرد

وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن

يليه من أجله وانعشه وافتقد

(1)

الرد على البكري (ص 335، 336) بتصرف.

(2)

ديوان البوصيري (ص 248).

(3)

تيسير العزيز الحميد (ص 187).

ص: 295

وإن دعا فأجبه واحم جانبه

من حاسد شامتٍ أو ظالم نكد

وقوله من أخرى:

يا رسول الله يا ذا الفضل يا

بهجة الحشر جاهًا ومقاما

عد على عبد الرحيم الملتجى

بحمى عزك يا غوث اليتامى

وأقِلني عثرتي يا سيدي

في اكتساب الذنب في خمسين عاما

وقوله:

يا سيدي يا رسول الله يا أملي

ويا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني

هبني بجاهك ما قدت من زلل

جودا أو رجح بفضل منك ميزاني

واسمع دعائي واكشف ما يساورني

من الخطوب ونفسه كل أحزاني

فأنت أقرب من ترجى عواطفه

عندي وإن بُعدت داري وأوطاني

إني دعوتك من نيابتي برع

وأنت اسمع من يدعوه ذو شأن

فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبى

برحمة وكرامات وغفران

لقد أنسانا هذا ما قبله، وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى عليه السلام، إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله، وهذا لم يطلقه ولكن أتى بلباب دعواهم وخلاصتها، وترك الاسم، إذ في الاسم نوع تمييز، فرأى الشيطان أن الإتيان بالمعني دون الاسم أقرب إلى ترويج الباطل، وقبوله عند ذوى العقول السخيفة، إذ كان من المتقرر عند الأمة المحمدية أن دعوى النصارى في عيسى عليه السلام كفر، فلو أتاهم بدعوى النصارى اسما ومعنى لردوه وأنكروه، فأخذ المعنى وأعطاه البرعى وإضرابه، وترك الاسم للنصارى وإلا فما ندرى ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال مطلب أو تحصيل مأرب، فالله المستعان

(1)

.

(1)

تيسير العزيز الحميد (189، 190).

ص: 296

ويقول صاحب المواهب اللدنية: وينبغي للزائر - لقبره - أن يكثر من الدعاء والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل والتوجه به لا فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه فإن كلا من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه للنبي صلى الله عليه وسلم واقع في كل حال كل خلقه وبعده في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة

(1)

.

ومن هؤلاء من يرى أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الحج إلى الكعبة وأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به أفضل من الاستغاثة بالله تعالى ودعائه

(2)

.

ومنهم من يظن أن الرسول يعلم ذنوبه وحوائجه وإن لم يذكرها وأنه يقدر على غفرانها وقضاء حوائجه ويقدر على ما يقدر عليه الله ويعلم ما يعلمه الله"

(3)

.

* ومنهم من يقول "إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان ولا مكان" يريدون بذلك أنه ما من زمان إلا وهو فيه موجود، ولا من مكان إلا هو فيه موجود

(4)

.

* ومنهم من يقول: "إنه يحضر في كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه وأنه يتصرف حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته"

(5)

.

* ومنهم من يقول في قوله تعالى {إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا} [الفتح].

(1)

انظر الأنوار المحمدية (ص 604).

(2)

الرد على البكري (ص 349).

(3)

الرد على البكري (ص 30).

(4)

غاية الأماني (1/ 48).

(5)

هذه هي الصوفية (ص 81).

ص: 297

يقول: إن الرسول هو الذي يصبح بكرة وأصيلا.

* ومنهم من يقول: أسقط الربوبية وقل في الرسول ما شئت.

دع ما ادَّعته النصارى في نبيهم

واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم

وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف

وانسب إلى قدره ما شئت من عظم

فإن فضل رسول الله ليس له

حد فيُعرب عنه ناطق بفم

لو ناسبت قدره آياته عظما

أحيا اسمه حين يدعى دارس الرم

(1)

.

* ومنهم من يقول نحن نعبد لله ورسوله فيجعلون الرسول معبودا

(2)

.

بل لم يكتف غلاة الصوفية بهذا القدر حتى اعتقدوا أنه هو الله سبحانه ذاتًا وصفة

(3)

.

وكُتُب أصحاب البدع وعبَّاد القبور مملؤة بالكثير من أنواع هذا الغلو وألوانه والذي لا يشك الموحد بكذبه وبطلانه.

وسأتطرق في المباحث القادمة للرد على أشهر تلك الأنواع، فنسأل الله الإعانة على ذلك.

(1)

ديوان البوصيري (ص 241).

(2)

الرد على البكري (ص 219).

(3)

هذه هي الصوفية (ص 74 - 75).

ص: 298

‌المبحث الثاني حكم التوسل والاستغاثة والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم

-

وفيه تمهيد وثلاثة مطالب

‌تمهيد:

قبل التعرض لبيان حكم الشرع في هذه المسائل يجدر التنبيه على نقطة هامة جدا تتعلق بالمعاني التي استعملت فيها هذه الألفاظ في هذه المواضع. ذلك أن كل من لفظ "التوسل" و "الشفاعة" و "الاستغاثة" قد ورد ذكرها في القرآن والسنة وكلام الصحابة واستعملت لمعاني معينة.

ولكن الذي حدث بعد ذلك أن أهل البدع والأهواء أحدثوا اصطلاحات ومعاني لهذه الألفاظ خلافا لما كانت تستعمل فيه من معان في خطاب الشرع وعرف الصحابة آنذاك، قاصدين بذلك استعمال الأدلة الشرعية بما يوافق أهوائهم وأغراضهم، ومن ثم لبسوا على الناس وأفهموهم أن تلك الألفاظ لم ترد إلا لتلك المعاني التي أحدثوها هم، وهذا التلاعب بمعاني تلك الألفاظ هو الذي سهل على أهل البدع استعمال تلك النصوص في حججهم وسهل على عامة الناس تقبل تلك البدع لظنهم أن تلك النصوص دالة على تلك المعاني الباطلة.

ولذا كان من الواجب عند بيان الحق في هذه المسائل أن نبين المعني الشرعي لتلك الألفاظ ونحذر من المعاني المبتدعة المحدثة (فالألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد الشارع

ص: 299

بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني)

(1)

ويجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما نفاه الله ورسوله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن لم يعرف لغة الصحابة التي يتكلمون بها ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم وعادتهم في الكلام وإلا حرف الكلم عن مواضعه.

فإن كثيرا من الناس ينشأ على اصطلاح قوم وعادتهم في الألفاظ ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك.

وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام والفقه والنحو والعامة وغيرهم.

وآخرون يتعمدون وضع ألفاظ الأنبياء وأتباعهم على معان أخر مخالفة لمعانيهم، ثم ينطقون بتلك الألفاظ مريدين بها ما يعنونه هم، ويقولون إنا موافقون للأنبياء"

(2)

.

ولفظ "التوسل" و "الاستشفاع" ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه، ما أوجب غلط من غلط عليهم في دينهم ولغتهم

(3)

.

وبناء على ما تقدم فإني أجد لزامًا عليَّ في هذا المقام أن أبين مراد الشارع بألفاظ التوسل والشفاعة والاستغاثة ليتضح ما أثبته الشارع من المعاني ومما نفاه وذلك حتى يستنير الحق لطالبه.

(1)

مجموع الفتاوى (12/ 114).

(2)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 152 - 153).

(3)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 158).

ص: 300

فهذه النقطة هي موضع اللبس عند كثير من الناس، فمتى ما وضحت زالت الغشاوة عن الأفهام، وأمكن بالتالي فهم النصوص وفق مراد الشارع وأمره فهنا مكمن الداء والدواء. وأول ما نشرع به من هذه الألفاظ لفظ "التوسل".

ص: 301

‌المطلب الأول الكلام على مسألة التوسل

التوسل في اللغة: التقرب.

والوسيلة: هي ما يتقرب به إلى الشيء

(1)

وتطلق على غير ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لفظ الوسيلة" و "التوسل" فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه ويعطى كل ذي حق حقه.

فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه.

وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك.

ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه.

فإن كثيرًا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب.

فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ} [المائدة: 35].

وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ ولا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ إنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُورًا} [الإسراء].

فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات.

فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب

(1)

لسان العرب (11/ 724) مادة "وسل".

ص: 302

ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا.

فالواجب والمستحب: هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول.

فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك.

والثاني: لفظ "الوسيلة" في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة"

(1)

.

وقوله "من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وبعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة"

(2)

.

فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله وهو يرجو أن يكون ذلك العبد. وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول وأخبر أن من سأل له هذه الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة لأن الجزاء من جنس العمل، فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم، فإن الشفاعة نوع من الدعاء كما قال:"إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا"

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه برقم (383).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأذان، باب الدعاء عند الأذان برقم (614)

(3)

أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة برقم (61)، والبخاري في الأدب المفرد برقم (643).

ص: 303

وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته "والتوسل به" في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به كما يقسمون ويسألون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح. وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به ثلاث معان.

يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ويراد معنى ثالث لم ترد به السنة. فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء.

فأحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام والدين وهو التوسل بالإيمان به وطاعته وهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به، ولا ينكره أحد من المسلمين.

وهو المراد بقوله تعالى {وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ} أي القربة إليه بطاعته، وطاعة رسوله طاعته قال تعالى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].

والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. ومن هذا قول عمر بن الخطاب:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"

(1)

. أي بدعائه وشفاعته.

فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس علم أن ما يفعل

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا حديث (1010) وكتاب فضائل الصحابة باب ذكر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهم حديث (3715).

ص: 304

في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائمًا.

وأما المعنى الثالث الذي لم ترد به سنة فهو: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم.

وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عمن ليس قول حجة

(1)

.

وليس في الأحاديث المرفوعة في ذلك حديث في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها في الأحاديث - لا في الصحيحين ولا كتب السنن ولا المسانيد المعتمدة كمسند الإمام أحمد وغيره - وإنما يوجد في الكتب التى عرف أن فيها كثيرا من الأحاديث الموضوعة المكذوبة التي يختلقها الكذابون

(2)

.

والأحاديث التي تروى في هذا الباب - وهو السؤال بنفس المخلوقين - هي من الأحاديث الضعيفة الواهية بل الموضوعة ولا يوجد في أئمة الإسلام من احتج بها ولا اعتمد عليها

(3)

.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة

(4)

عددا من الأحاديث والآثار التي استدل بها من أجاز التوسل بالذوات وبين ضعف حججهم وقال: "ليس في هذا الباب حديث واحد مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه في مسألة شرعية، باتفاق أهل المعرفة

(1)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 79، 80) بتصرف يسير.

(2)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 160).

(3)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (164).

(4)

انظر (ص 164 إلى 230).

ص: 305

بحديثه، بل المروى في ذلك إنما يعرفه أهل المعرفة بالحديث أنه من الموضوعات، إما تعمدًا من واضعه وإما غلطًا منه"

(1)

.

ويتضح من النقول السابقة أن التوسل ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: التوسل الشرعي الذي دلت عليه النصوص الشرعية.

القسم الثاني: التوسل البدعي الذي لم يثبت به نص شرعي.

والتوسل الشرعي الذي جاءت به النصوص على نوعين:

النوع الأول: التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة، أو بتعبير آخر التقرب إلى الله بطاعته.

النوع الثاني: التوسل بدعاء الأحياء الصالحين للغير.

فالتوسل الشرعي في النوع الأول: "هي الوسيلة التي أمرنا الله أن نبتغيها إليه قال تعالى {وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] وهي التقرب إلى الله بطاعته وهذا النوع يدخل فيه كل ما أمرنا الله به ورسوله، وهذه الوسيلة لا طريق لنا إليها إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته.

وهذا النوع من التوسل فرض على كل أحد

(2)

، ويكون مراد التوسل به أحد أمرين:

1 -

أن يتوسل بذلك إلى إجابة الدعاء وإعطاء السؤال، كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب دعاءهم ويفرج كربتهم، وسيأتي بيان ذلك.

2 -

التوسل بذلك إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه، فإن الأعمال الصالحة التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم هي الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة

(3)

.

(1)

قاعدة جليلة (ص 180).

(2)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 159).

(3)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 240، 241).

ص: 306

والأعمال التي يتوسل ويتقرب بها إلى الله أنواع منها:

‌1 - التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما أمر به:

مثال ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المؤمنين في قوله تعالى {إنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ} [المؤمنون]. وقوله تعالى {رَبَّنا إنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلإيمانِ أنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وتَوَفَّنا مَعَ الأبْرارِ} [آل عمران] فهم قدموا ذكر الإيمان قبل الدعاء.

وكذا التوسل بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم كأن يقول العبد اللهم إني أسألك بإيماني برسولك محمد صلى الله عليه وسلم أن تعطني كذا، أو تدفع عني كذا.

وكذا التوسل باتباعه وطاعته صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من ربه عز وجل.

وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد في كل حال باطنًا وظاهرًا، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته، في مشهده ومغيبة، ولا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق في حال من الأحوال - بعد قيام الحجة عليه - ولا بعذر من الأعذار، ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا التوسل بالإيمان به وبطاعته

(1)

.

فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبينا ومحبته ومولاته واتباع سنته فهو من أعظم الوسائل.

فالأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا، فإذا توسلنا إلى الله بالأعمال الصالحة كنا متوسلين إليه بوسيلة كما قال تعالى {يَا أيُّهَا

(1)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 3 - 4).

ص: 307

الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] فالوسيلة هي الأعمال الصالحة.

أما سؤال الله بمجرد ذات النبي فغير مشروع، لأننا إذا توسلنا إلى الله بنفس ذاته لم يكن في نفس ذاته سبب يقتضى إجابة دعائنا ولهذا لم يكن هذا منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا صحيحًا ولا متواترًا ولا مشهورًا عن السلف. فنحن إنما ننتفع باتباعنا له ومحبتنا له، وهو له عند الله من الدرجة والمنزلة أمر يعود نفعه إليه، فالتوسل به من غير متابعة له في الأعمال لا يجوز أن يكون وسيلة

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا يتوسل إلى الله بمجرد ذات أحد من خلقه من غير دعاء من المتوسل به ولا طاعة من المتوسل".

والداعي إنما ينتفع من وجهين:

إما بدعاء الرسول له، أو بإيمان الداعي به وطاعته ومحبته.

فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع له، وهو لم يؤمن به، لم ينتفع بالرسول صلى الله عليه وسلم. فأبو طالب مع كفره لمَّا كان يحوط الرسول ويمنعه شفع فيه حتى خفف عنه العذاب، وقد كان في غمرة من النار، فلما شفع فيه صار في ضحضاح من النار، وفي رجليه نعلان من النار يغلي منهما دماغه، ولولاه لكان في الدرك الأسفل من النار هكذا رواه مسلم في صحيحه

(2)

فانتفع به مع كفره في تخفيفه عذابه بأن شفع فيه.

والإيمان به نافع لمن آمن وإن لم تحصل معه شفاعة.

فهذان السببان هما اللذان ينفعان العبد من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

وأما مجرد توسل العبد بذاته أو إقسامه به بدون هذين السببين

(1)

الرد على البكري (ص 40) بتصرف.

(2)

صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (209).

ص: 308

فلا ينفعه أصلا"

(1)

.

فالوسيلة لون العباد وبين ربهم عز وجل هي الإيمان بالرسل وطاعتهم قال تعالى: {ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] وقال تعالى {ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبَدًا} [الجن] فالله تعالى يحب أن نتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته وموالاته.

‌2 - التوسل إلى الله بعبادته وطاعته:

فالتوسل إلى الله بعبادته وطاعته من أعظم القربات التي يحبها الله ويرضاها من عبده ويثيبه عليها.

ففي الحديث القدسي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يرال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه". الحديث

(2)

.

فيستفاد منه: أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله، وأن العبد إذا أدى الفرائض وداوم على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى ولا يكون التقرب بالنوافل إلا بعد أداء الفرائض.

فالتوسل إلى الله بعمل صالح يفعله العبد خالصًا لله تعالى، من أنواع التوسل المشروع. وذلك كما في قصة أصحاب الغار كما يرويها

(1)

الرد على البكري (ص 61).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق، باب التواضع برقم (6502).

ص: 309

عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل، فانطبقت عليهم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله، فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم. فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالديّ فسقيتهما قبل بني، وأنه نأى لي ذات يوم الشجر، فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب فقمت عند رؤسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج لنا منها فرجة نرى منها السماء. ففرج الله منها فرجة فرأوا السماء. وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم. وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرًا بفرق أرز فلما قضى عمله، قال أعطني حقي فعرضت عليه فرقه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعتُ منه بقرًا ورعاءها، فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني حقي فقلت اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها، فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك خذ ذلك البقر ورعائها فأخذه فذهب به، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرج الله ما بقى"

(1)

فهؤلاء الثلاثة سألوا الله وتوسلوا إليه بأعمال البر.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب إجابة دعاء من بر والديه برقم =

ص: 310

‌3 - التوسل بالاستغفار والتسبيح والدعاء:

وهذا من أفضل ما يتوسل به العبد إلى ربه فقد أثنى الله على المستغفرين من ذنوبهم التائبين إليه كما في قوله تعالى: {والَّذِينَ إذا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135].

وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار وحث أمته عليه، وأرشدهم إلى ملازمته لما فيه من إظهار العبودية لله والافتقار إليه والذل والخشوع له ولا شك أن حاجة الأمة إلى الاستغفار والتوبة أشد من احتياجه صلى الله عليه وسلم لذلك.

فقد قال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة"

(1)

.

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه ليغان على قلبي وإني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة"

(2)

. والغين هو ما يتغشى القلب

(3)

.

وأما الدعاء فإنه أقوى وسائل التقرب إلى الله وأفضل ما يتقرب به العبد إلى مولاه فالدعاء مخ العبادة.

قال تعالى: {وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} [غافر].

= (5974)، وأخرجه مسلم في كتاب الرقاق، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال برقم (2743) واللفظ له.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه برقم (2702).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه برقم (2702).

(3)

شرح النووي (17/ 23).

ص: 311

وقال تعالى {وإذا سَألَكَ عِبادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إذادَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ولْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة].

والآيات القرآنية التي فيها الأمر بالتوجه إلى الله وحده بالدعاء كثيرة جدًّا.

ويدخل في هذا النوع التوسل إلى الله بدعائه باسم من أسمائه الحسنى أو بصفة من صفاته العليا: كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطف الخبير أن تعافيني.

أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي.

ومثله قول القائل: اللهم إني أسألك بحبك لمحمد صلى الله عليه وسلم .. فإن الحب من صفاته تعالى.

قال الله تعالى {ولِلَّهِ الأسْماءُ الحُسْنى فادْعُوهُ بِها} [الأعراف: 180] والمعني ادعوا الله متوسلين إليه بأسمائه الحسني، ولا شك أن صفاته العليا داخلة في هذا الطلب لأن أسمائه الحسني صفات له، خصت به تبارك وتعالى

(1)

.

ومن ذلك ما ذكره تعالى من دعاء سليمان عليه السلام حيث قال {وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ} [النمل].

وأما النوع الثاني: من أنواع التوسل المشروع فهو: التوسل بدعاء الأحياء الصالحين للغير.

كأن يطلب العبد ممن يظن فيه الصلاح والتقوى والعلم بالكتاب والسنة أن يدعو له لما يريده من أمور الدنيا والآخرة.

(1)

كتاب التوسل أنواعه وأحكامه (29، 30).

ص: 312

فهذا النوع من أنواع التوسل إجازته الشريعة المطهرة وأرشدت إليه.

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا.

قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: "اللهم اسقنا، اللهم اسقنا".

قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع

(1)

من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال والله ما رأينا الشمس سبتًا.

ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب والأودية ومنابت الشجر قال: فانقطعت، وخرجنا نمشى في الشمس"

(2)

.

وعن أنس رضي الله عنه "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون"

(3)

.

(1)

سلع -بالفتح ثم السكون آخره عين مهملة-: جبل معروف بالمدينة. وفاء الوفاء (ص 1235).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في المسجد الجامع برقم (1013)، انظر: فتح الباري (2/ 501).

(3)

أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام

برقم (1010).

ص: 313

وهكذا يتضح لنا جليا أن التوسل المشروع الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وجرى عليه عمل السلف الصالح وأجمع عليه المسلمون هو:

‌1 - التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة وعلى رأسها:

أ - التوسل بالإيمان بالله وبرسوله وبكل ما أمر به.

ب - التوسل إلى الله بعبادته وطاعته.

ج - التوسل إلى الله بالاستغفار والتسبيح والدعاء.

‌2 - التوسل بدعاء الأحياء الصالحين للغير.

وأما ما عدا هذه الأنواع فهي توسلات بدعية، وذلك كالتوسل بذوات المخلوقين، أو جاههم فيما لا يقدر عليه إلا الله، وسواء كانوا أحياء أم أمواتًا، وسواء كانوا أنبياء أم صالحين أم كانوا من عامة المؤمنين والذي نعتقده وندين الله به أن هذا غير جائز ولا مشروع، لأنه لم يرد فيه دليل تقوم به الحجة.

ولا يجوز للمسلم أن يتقرب إلى الله ويتوسل إليه بغير ما شرعه في كتابه أو على لسان رسوله.

وفيما شرعه الله ورسوله الغنية عن غيره من التوسلات البدعية والشركية.

ص: 314

‌المطلب الثاني: الكلام على مسألة الشفاعة

‌أ - أما الشفاعة فمعناها في اللغة:

قال صاحب اللسان: "شفع لي يشفع، شفاعة، وتشفع: طلب.

وروي عن المبرد وثعلب

(1)

أنهما قالا في قوله تعالى {مَنْ ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإذْنِهِ} [البقرة: 255] قالا: الشفاعة الدعاء ههنا.

والشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره.

وشفع إليه: في معنى طلب إليه.

والشافع: الطالب لغيره يتشفع به إلى المطلوب.

يقال: تشفعت بفلان إلى فلان فشفعني فيه.

واسم الطالب: شفيع.

واستضفعته إلى فلان: أي سألته أن يشفع لي إليه.

وتشفعت إليه في فلان: فشفعني فيه تشفيعًا"

(2)

.

ويتضح من النقل السابق ما يلي:

* أن معنى الشفاعة في اللغة: الدعاء والطلب.

* أن الشفاعة لها أركان أربعة:

(1)

واسمه أحمد بن يحيى بن زيد الشيباني بالولاء، أبو العباس المعروف بثعلب: إمام الكوفيين في النحو واللغة، كان راوية للشعر، ثقة حجة، مات ببغداد سنة 291 هـ. الأعلام (1/ 267).

(2)

لسان العرب (8/ 184) مادة شفع.

ص: 315

1 -

الطلب 2 - المشفع فيه أي صاحب الحاجة، 3 - الشافع أو الشفيع، 4 - المشفوع إليه.

وهذه الأركان الأربعة مذكورة في كلام صاحب اللسان حيث قال:

"الشفاعة، كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها للغير" فهناك:

1 -

شفيع، 2 - ملك، 3 - حاجة، 4 - وغير.

* أن الشفاعة في لغة العرب لابد فيها من طلب الشافع للسائل، فيطلب له ما يطلب من المسؤول المدعو المشفوع إليه.

قال صاحب اللسان: "الشافع الطالب لغيره، واسم الطالب: شفيع. وهذا لا يكون إلا بوجود الشافع وحضوره. وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة ليس هذا استشفاعا في اللغة".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كثير من العامة يقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: قد تشفع به. من غير أن يكون المتشفع به شفع له ولا دعا له، بل قد يكون غائبا لم يسمع كلام ولا شفع له. وهذا ليس هو لغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء الأمة بل ولا هو لغة العرب. فإن الاستشفاع: طلب الشفاعة. والشافع: هو الذي يشفع للسائل فيطلب له ما يطلب من المسؤول المدعو المشفوع إليه. وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة، بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعا لا في اللغة ولا في كلام من يدري ما يقول. نعم هذا سؤال به، ودعاؤه، ليس هو استشفاعا به"

(1)

.

فالشفاعة في لغة العرب ولغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، لابد فيها من "طلب الشافع" وهذا لا يكون إلا بوجوده وحضوره.

(1)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 151 - 152).

ص: 316

وأما توسل الشخص في دعائه بنبي أو غيره، وتسمية بعض المبتدعة لهذا استشفاعا أي سؤالا بالشافع، وصاروا يقولون: استشفع به فيشفعك، أي يجيب سؤالك به، فهذا من تغيير معني الشفاعة في اللغة والشرع، وأصحابه أرادوا أن يغيروا اللغة كما غيروا الشريعة.

‌ب - معنى الشفاعة في خطاب الشارع:

معنى الشفاعة في استعمال الشارع هو الدعاء كما ورد في وضع اللغة فمما ورد في ذلك مما رواه أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته على الجنازة: "اللهم أنت ربها وأنت خالقها وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء فاغفر لها"

(1)

.

وعن أنس وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه"

(2)

.

هذا وقد جاءت النصوص الشرعية بذكر نوعين من الشفاعة:

النوع الأول: الشفاعة المنفية.

النوع الثاني: الشفاعة المثبتة.

‌أما النوع الأول: أي الشفاعة المنفية.

فإنه لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة كما قال تعالى {ويَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنْفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 345، 363).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه برقم (947).

ص: 317

وقال تعالى: {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى} [الزمر: 3].

فقد نفي الله هذه الشفاعة ونزه نفسه عنها، ونفي أن يكون للخلق من دونه من ولى أو شفيع كما قال تعالى {أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا ولا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر].

وقال تعالى في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ ولِيٍّ ولا شَفِيعٍ أفَلا تَتَذَكَّرُونَ} .

وهذه الشفاعة المنفية هي الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق وهي أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته"

(1)

.

وأصحاب هذه الشفاعة المنفية جعلوا وسائط بين الله وبين خلقه - كالحجاب الذي بين الملك ورعيته - بحيث يكون أولئك الوسائط هم الذين يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فهم يعتقدون أن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك: يسألون الملوك حوائج الناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبًا منهم أن يباشروا سؤال الملك أو لأن طلبه من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج.

فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه: فهو مشرك، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل.

(1)

مجموع الفتاوى (1/ 118).

ص: 318

وهؤلاء مشبهون لله، شبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أندادًا وفي القرآن الكريم من الرد على هؤلاء ما لا يتسع المجال لذكره ههنا.

ومعلوم أن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس، يكونون على أحد وجوه ثلاثة:

1 -

إما لإخبارهم من أحوال الناس مما لا يعرفونه.

أو أن يكون الملك عاجزا عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان يعينونه، فلابد له من أنصار وأعوان لذله وعجزه.

2 -

وإما أن يكون الملك ليس مريدا لنفع رعيته، والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج.

فإذا خاطب الملك من ينصحه، ويعظمه، أو من يدل عليه، بحيث يكون يرجوه أو يخافه: تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته إما لما حصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير، وإما لما يحصل من الرغبة أو الرهبة من كلام المدل عليه.

وكل هذه الأمور ممتنعة في حق الله تعالى.

فمن قال إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بذلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر.

بل هو سبحانه يعلم السر وأخفي، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير.

قال تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ ولا فِي السَّماءِ} [آل عمران] وقال تعالى: {وما يَخْفى عَلى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ ولا فِي السَّماءِ} [إبراهيم]. والله سبحانه ليس له ظهير، ولا ولى من الذل.

قال تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ ولا فِي الأرْضِ وما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وما لَهُ مِنهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ].

ص: 319

وقال تعالى {وقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ولَدًا ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ ولَمْ يَكُنْ لَهُ ولِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء].

وكل ما في الوجود من الأسباب فهو خالقه، وربه ومليكه، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم في الملك.

والله تعالى ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

وهو سبحانه لا يرجو أحدًا ولا يخافه، ولا يحتاج إلى أحد بل هو الغني قال تعالى:{ألا إنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَن فِي الأرْضِ وما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَمِن دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وإنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ} [يونس].

فالمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة عند ملوكهم.

قال تعالى {ويَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنْفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ ولا فِي الأرْضِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ} [يونس].

وقال تعالى {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وذَلِكَ إفْكُهُمْ وما كانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف].

وأخبر عن المشركين أنهم قالوا {ما نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى} [الزمر: 3]

(1)

المشرك يقصد فيما يشرك به:

(1)

مجموع الفتاوى (1/ 126 - 129) بتصرف.

ص: 320

1 -

أن يشفع له عند الله.

2 -

أن يتقرب بعبادته إلى الله.

وهذا بعينه هو ما يوجد عند عباد القبور نعوذ بالله من حالهم.

وأما الشفاعة المثبتة: فهي الشفاعة الشرعية المخالفة لما عليه المشركون.

وهي التي أخبر الله تعالى أنها لا تنفع إلا بشرطين:

الأول: إذنه سبحانه للشافع أن يشفع.

الثاني: رضاه سبحانه عن المشفوع له.

قال تعالى: {مَنْ ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ} [البقرة: 255].

وقال تعالى: {لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ ويَرْضى} [النجم].

وقال تعالى: {ولا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضى} [الأنبياء: 28].

وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إلَّا مَنْ أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ورَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه].

وهذه الشفاعة منها ما هو في الدنيا. ومنها ما هو في يوم القيامة. والشفاعة كما سبق وأن ذكرنا هي: الدعاء.

ولا يرب أن دعاء الخلق بعضهم لبعض نافع والله قد أمر بذلك.

فمشروع أن يدعو الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى.

ولقد كان الصحابة يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ويطلبون منه الدعاء، بل وكذلك بعده استسقى عمر والمسلمون بالعباس عمه، وهذا من الشفاعة في الدنيا.

وفي يوم القيامة يطلب الناس الشفاعة من الأنبياء ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وله شفاعات يختص بها.

ص: 321

ولكن لابد في هذه الشفاعة من الشرطين السابقين أي إذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع له.

فالداعي الشافع ليس له أن يدعو ويشفع إلا بإذن الله في ذلك، فلا يشفع شفاعة نهي عنها: كالشفاعة للمشركين والدعاء لهم بالمغفرة قال تعالى {ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُمْ أصْحابُ الجَحِيمِ} [التوبة].

وقال تعالى في حق المنافقين {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6].

وقال تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ} [التوبة: 80].

وشرط الرضي غير متحقق في المشفوع له مع أن الشافع هنا هو خير الخلق وأعظمهم قدرا عند الله تعالى. وقد قال تعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [الأعراف] أي المعتدين في الدعاء.

ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله مثل: أن يسأله منازل الأنبياء وليس منهم، أو مغفرة المشركين ونحو ذلك، أو يسأله ما فيه معصية الله كإعانته على الكفر والفسوق والعصيان.

فالشفيع الذي أذن الله له في الشفاعة: شفاعته في الدعاء الذي ليس فيه عدوان.

والأنبياء لو سأل أحدهم دعاء لا يصلح له لا يقر عليه، فإنهم معصومون أن يقروا على ذلك. كما قال سبحانه حاكيا عن نوح عليه السلام {إنَّ ابْنِي مِنْ أهْلِي وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ وأنْتَ أحْكَمُ الحاكِمِينَ} [هود]. قال تعالى {قالَ يا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْألْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ} [هود].

ص: 322

{قالَ رَبِّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلَّا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ} [هود].

وكل داع شافع، دعا الله سبحانه وشفع: فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته، فهو الذي يجيب الدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى.

وإذا كان كذلك: فالالتفات إلى الأسباب بالكلية شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل.

والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغيرهم ما شاء.

فالدعاء للغير، ينتفع به الداعي، والمدعو له، وإن كان الداعي دون المدعو في الدرجة والمنزلة.

فدعاء المؤمن لأخيه ينتفع به الداعي والمدعو له.

فمن قال لغيره أدع لي وقصد انتفاعهما جميعا بذلك كان هو وأخوه متعاونين على البر والتقوى. فهو نبه المسئول وأشار عليه بما ينفعهما، بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى، فيثاب المأمور على فعله، والآمر أيضا يثاب مثل ثوابه لكونه دعا إليه. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل"

(1)

.

وعند النظر في نصوص الشرع الواردة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أن هناك شفاعة أخروية له في يوم القيامة، وشفاعة دنيوية في حياته.

(1)

أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب برقم (2722).

ص: 323

أما الشفاعة الأخروية: فقد أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة.

ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واستفاضت به السنن من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته ويشفع لعموم الخلق.

فله صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات فيها وغيره من الأنبياء والصالحين سواء، ولكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميزه الله بها على سائر النبيين ومن ذلك المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة منها في الصحيح أحاديث متعددة، وفي السنن والمسانيد مما يكثر عدده.

أما الشفاعة الدنيوية (التي كانت في حياته)، فقد أجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به في حياته بحضرته. كما ثبت في أحاديث الاستسقاء، وهذا الاستشفاع هو طلب للدعاء منه، فإنه كان يدعو للمستشفع والناس يدعون معه، كما جاء في الحديث الثابت في الاستسقاء أن المسلمين لما أجدبوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا.

فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا"

(1)

.

فهذا يبين أن معنى الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم هو استشفاع بدعائه وشفاعته. وهذا ما فهمه الصحابة وعملوا به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فعمر بن الخطاب استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال "اللهم إنا كنا إذا

(1)

تقدم تخريجه ص 313.

ص: 324

أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"

(1)

. وكذلك معاوية بن أبي سفيان - لما أجدب الناس بالشام - استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي

(2)

فقال: "اللهم إنا نستشفع ونتوسل بخيارنا"، يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى سقوا

(3)

.

فهم لم يستسقوا ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا في هذه الحال بالنبي صلى الله عليه وسلم لا

عند قبره ولا غير قبره، بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد.

فجعلوا هذا بدلا عن ذلك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه.

وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا ويستشفعوا به ويقولوا في دعائهم في الصحراء بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بالمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به، فيقولون نسألك أو نقسم عليك أو نستشفع عليك أو نستشفع بنبيك أو جاه نبيك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس.

ولكنهم لم ينقل عنهم أنهم توسلوا أو استشفعوا بمثل هذه العبارات فهذا يؤكد ويبرهن على أن التوسل بالذات في حضور الشخص أو مغيبة أو بعد موته أمر لم يشرعه لهم الشارع ولم يكن معروفا عندهم.

(1)

تقدم تخريجه ص 313

(2)

يزيد بن الأسود الجرشي أبو الأسود، من سادة التابعين أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من العباد الخشن وقصته مع معاوية تدل على فضله وصلاحه، توفي سنة 71 هـ.

الإصابة (3/ 634) وسبر أعلام النبلاء (4/ 136 - 137).

(3)

أورده ابن حجر في الإصابة (3/ 634) وقال: " أخرجه أبو زرعة الدمشقي ويعقوب بن سفيان في تاريخيهما بسند صحيح" وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 137) وابن كثير في البداية (8/ 324).

ص: 325

‌المطلب الثالث: الكلام على مسألة الاستغاثة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الاستغاثة: طلب الإغاثة والتخليص من الكربة والشدة. والنبي صلى الله عليه وسلم في حياته يجوز أن يستغاث به، فيطلب منه أن ينصر المظلوم، ويطعم الجائع، ويسقى الظمآن، ويخلص الأسرى، ويقضي الدين عن المدين، ويبين الدين، ويزيح شبهات المعارضين ويجب السائلين ونحو ذلك.

ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الناس عملًا، وأعظمهم حرصًا على البر والتقوى، بل كل خير في الوجود فهو معين عليه بل له مثل أجر كل عامل خير من أمته فإنه هو الذي دعا إلى ذلك "من دعا إلى الهدى كان له مثل أجور من تبعه من غير أن يتقص من أجورهم شيئا"

(1)

(2)

.

واستغاثة الصحابة به في القحط، إنما به استغاثوا به ليدعو لهم كما يستغيث الناس به يوم القيامة ليشفع لهم.

والاستغاثة بالمخلوق ليدعو للعبد أو ليعينه بما يقدر عليه ليس بممنوع منه. وإنما الممنوع أن يستغاث به فيما لا يقدر عليه، وأن يقسم على الله به ولا سيما إذا كان المخلوق ميتًا أو غائبًا فلا يجوز أن يستغاث به فيما يقدر عليه حيًا، ولا فيما لا يقدر عليه.

"وأما قول من يقول إن الاستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته فهو كلام باطل قطعا لأنه يلزم من ذلك أن يطلب منه أن يخرج

(1)

أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة

برقم (2674).

(2)

الرد على البكري (ص 88) بتصرف.

ص: 326

إلى الغزوات ويقيم الحدود ويعود المريض فاعلًا ذلك ببدنه كما كان يفعل ذلك في حياته فهل يقول هذا إنسان؟ أو يحتاج رد هذا إلى برهان "

(1)

.

فليس عليه بعد الموت فعل من الأفعال لا واجبًا ولا مستحب كما ليس ذلك على غيره من الناس، بل الموت ينتهي به التكليف الثابت في الحياة بإجماع الخلق، فليس على نبي ولا غيره بعد موته أن يفعل ما كان يؤمر به في حال الحياة من واجب ومستحب.

ولا يستطع أحد أن ينقل عن أحد من الصحابة ولا من السلف أنهم بعد موته طلبوا منه إغاثةً ولا نصرًا ولا إعانة ولا استسقوا بقبره ولا استنصروا به كما كانوا يطلبون ذلك منه في حياته"

(2)

.

ويفهم من كلام شيخ الإسلام المتقدم أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها تفصيل. فهناك استغاثة جائزة مشروعة وهي:

1 -

إما بالطلب منه في حياته فيما يقدر عليه وهذه لم ينازع فيها أحد.

2 -

وإما بالطلب منه في عرصات يوم القيامة أن يشفع لهم وهذه ما دلت عليه النصوص الثابتة.

وهناك استغاثة غير مشروعة بل هي شركية وهي عائدة إلى شيئين:

1 -

الاستغاثة به بعد موته.

2 -

أن يطلب منه ما لا يقدر عليه.

وكلا الأمرين يجتمعان فيمن استغاث به بعد موته.

ومن تلفظ بهذه العبارة من المبتدعة فهو يريد بها أحد أمرين إما

(1)

الرد على البكري (ص 90).

(2)

الرد على البكري (90، 91) بتصرف.

ص: 327

أن يطلب الإغاثة من الرسول نفسه لاعتقاده أن له تصرفًا في هذه الأمور وقدرة على تحصيلها وهذا هو اعتقاد كثير من العوام وهو ما يدل عليه استعمال الكلمة في لغة العرب.

وإما أن يكون مراده بهذه العبارة الطلب من الله بواسطة الرسول أي أنه متوسل به إلى الله تعالى وهذا المعني يأباه استعمال العرب لهذه اللفظة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن ظن أن الباب في التوسل كالباب في الاستغاثة فقد أخطأ فالمستغاث به هو المسئول.

وأما المتوسل به فهو الذي يتسبب به إلى المسؤول

(1)

.

"والفرق واضح بين السؤال بالشخص والاسغاثة به.

وأريد أن أُعرف من أين دخل اللبس على هؤلاء الجهال، فإن معرفة المرض وسببه يعين على مداواته وعلاجه، ومن لم يعرف أسباب المقالات وإن كانت باطلة، لم يتمكن من مداواة أصحابها، وإزالة شبهاتهم، فوقع لي أن سبب هذا الضلال والاشتباه عليهم أنهم عرفوا أين يقال سألت الله بكذا كما في الحديث "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان"

(2)

.

ورأى أن الاستغاثة تتعدى بنفسها كما يتعد السؤال كقوله {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9].

وقوله {فاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15].

فظنوا أن قول القائل استغثت بفلان كقوله، سألت بفلان.

(1)

الرد على البكري (261، 262).

(2)

أخرجه النسائي في سننه، كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر (3/ 52).

ص: 328

والمتوسل إلى الله بغائب أو ميت تارة يقول: أتوسل إليك بفلان، وتارة يقول أسألك بفلان.

فإذا قيل ذلك بلفظ الاستغاثة فإما أن يقول أستغيثك بفلان، أو أستغيث إليك بفلان. ومعلوم أن كلا هذين القولين ليس من كلام العرب.

وأصل الشبهة على هذا التقدير، أنهم لم يفرقوا بين الباء في (استغثت به) التي يكون المضاف بها مستغاثا مدعوًا مسؤولًا مطلوبًا منه.

فإذا قيل توسلت به، أو سألت به، أو توجهت به فهي الاستغاثة كما تقول كتبت بالقلم. وهم يقولون استغيثه به من الإغاثة كما يقولون استغثت الله واستغثت به من الغوث، فالله في كلا الموضعين مسؤول مطلوب منه.

وإذا قالوا لمخلوق استغثته واستغثت به من الغوث كان المخلوق مسؤولا مطلوبًا منه.

وأما إذا قالوا استغثت به من الإغاثة فقد يكون مسؤولا وقد لا يكون مسؤولا.

وكذلك استنصرته، واستنصرت به، فإن المستنصر يكون مسؤولا مطلوبًا.

وأما المستنصر به فقد يكون مسؤولا وقد لا يكون مسؤولا. فلفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما هو مستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به.

وقول القائل: استغثت فلانا واستغثت به بمعنى طلبت منه الإغاثة لا بمعنى توسلت به.

فلا يجوز للإنسان الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله"

(1)

.

(1)

الرد على البكري (ص 80 - 82).

ص: 329

فإذا كان معنى الاستغاثة هو الطلب منه، فما الدليل على أن الطلب منه ميتًا كالطلب منه حيًا.

ولا يمكن لأحد أن يذكر دليلا شرعيًا على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع. بل الأدلة على تحريم ذلك كثيرة جدًّا، فهذه الاستغاثة وتوجه القلب إلى المسؤول بالسؤال والإنابة محظورة على المسلمين لم يشرعها لأحد من أمته رسول رب العالمين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "سؤال الميت والغائب نبيًا كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، لا استحبه أحد من أئمة المسلمين.

وهذا مما يعلم بالاضطرار من المسلمين أن أحدا منهم ما كان يقول إذا نزلت به نازلة أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان أنا في حسبك أو اقضي حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم من الموتى والغائبين.

ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال ويشتد البأس بهم ويظنون الظنون ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبي ولا غيره من المخلوقين ولا أقسموا بمخلوق على الله أصلا ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا قبور غير الأنبياء ولا الصلاة عندها.

وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف.

وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر فلان الترياق المجرَّب، وقول بعضهم فلان يدعى عند قبره، وقول بعض الشيوخ لمريده: إذا

ص: 330

كانت لك حاجة فاستغث بي، أو قال: استغث عند قبري، ونحو ذلك فإن هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم.

وكثير من هؤلاء إذا استغاث بالشيخ رأى صورته، وربما قضى بعض حاجته فيظن أنه الشيخ نفسه، أو أنه ملك تصور على صورته، وأن هذا من كراماته فيزداد به شركا وفيه مغالاة، ولا يعلم أنا هذا من جنس ما تفعله الشياطين بعباد الأوثان، حيث تتراءى أحيانا لمن تعبدها وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة وتقضي لهم بعض الطلبات.

لكن هذه الأمور كلها محدثة في الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة، وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثة في الإسلام والسفر إليها محدث في الإسلام لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة، بل ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعالوا قالت عائشة رضي الله عنها: "لولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدًا"

(1)

.

وثبت في الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"

(2)

. ولما أجدبوا في خلافة عمر رضي الله عنه استسقى عمر بالعباس وقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك نبينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"

(3)

.

فلم يذهبوا إلى القبور، ولا توسلوا بميت ولا غائب، بل توسلوا

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور برقم (1330)، ومسلم في كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور

برقم (529).

(2)

أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور

برقم (532).

(3)

تقدم تخريجه (ص 313).

ص: 331

بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان توسلهم به توسلهم بدعائه كالإمام مع المأموم، وهذا تعذر بموته.

فأما قول القائل عند ميت من الأنبياء والصالحين: اللهم إني أسألك بفلان أو بجاه فلان أو بحرمة فلان، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز.

فكيف يقول القائل للميت أنا أستغيث بك، وأستجير بك وأنا في حسبك وسل لي الله ونحو ذلك، فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة ولو قدر أنّ لما يفعلونه تأثيرا، فليس هو من الأسباب المشروعة، ولا له تأثير صالح بل مفسدته راجحة على مصلحته كأمثاله من دعاء غير الله تعالى، وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب ميت من تتمثل له الشياطين، وربما كانت على صورة ذلك الغائب، وربما كلمته، وربما قضت له أحيانا بعض حوائجه كما تفعل شياطين الأصنام بعبادها، وهذا مما قد جرى لغير واحد فينبغي أن يعرف هذا"

(1)

.

وقال أيضا: "وسؤال الخلق هو في الأصل محرم لأن فيه أنواع الظلم الثلاثة:

1 -

الظلم في حق الله بالشرك.

2 -

الظلم للمسؤول، فإن فيه إيذاء له.

3 -

وظلم الإنسان نفسه لما فيه من تعبيدها لغير الله.

وقد ألح من ذلك من سؤال الحي ما دل الشرع على إباحته وأما سؤال الميت والغائب فلم يأذن الله به قط.

ومن عدل عما أمر به الرسول من عبادة الله وحده والتوكل عليه

(1)

الرد على البكري (ص 231 - 233) بتصرف يسير.

ص: 332

والرغبة إليه وطاعته فيما أمر به من الإحسان والخير الذي ينتفع به هو وهم وغيره من المخلوقين، فإن العبد كلما عمل بما أمرت به الرسل كان لهم مثل أجره وحصل له هو من الخير من إجابة دعائه ونفعه وغير ذلك.

فمن عدل عن هذه الرحمة والخير وسعادة الدنيا والآخرة إلى أن يفعل ما لم تأمر به الرسل بل اتخذهم أربابًا يسألهم ويستغيث بهم في مماتهم ومغيبهم وغير ذلك كان مثله مثل النصارى فإن المسيح قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ} [المائدة: 72] وقال {إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ} [الصف: 6].

فلو امتثلوا أمره كانوا مطعين لرسل الله موحِّدين لله، ونالوا بذلك السعادة من الله تعالى في الدنيا والآخرة.

ولكنهم غلوا فيه واتخذوه وأمه إلهين من دون الله، يستغيثون بهم، وكذبوا بالرسول الذي بشر به، وحرفوا التوراة التي صدق بها، فظنوا في ذلك أنهم معظمون للمسيح، وكان هذا من جهلهم وضلالهم"

(1)

.

فخلاصة القول: إن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وسؤاله والاستغاثة به وغير ذلك مما يفعل عند قبره أو بعيدًا عنه هو من الدين الذي لم يشرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين

(2)

.

وأما ما يحتج به أهل البدع الذين يفعلون مثل هذه الأمور ويدعون الناس إليها فشبههم لا تخرج عن أحد الأمور التالية:

1 -

إما آيات وأحاديث صحيحة يتأولونها ويتعسفون في تفسيرها حتى توافق ما جاءوا به من الباطل مع أنه ليس فيهات دلالة على ما يزعمون ويدعون.

(1)

الرد على البكري (ص 103).

(2)

مجموع الفتاوى (11/ 159) بتصرف.

ص: 333

2 -

وإما أحاديث واهية أو موضوعة لا يحتج بها ولا يعتمد عليها بل هي مخالفة لأهم قواعد هذا الدين المبنية على الآيات والأحاديث الثابتة الصحيحة.

وهذا الصنف هو أغلب بضاعتهم، بل وأكثر ما يستدلون به عند عرض بدعههم، إما جهلا منهم بحكم هذه الأحاديث، أو لعلمهم بأن هذا النوع من الأدلة هو مما يسهل ترويج باطلهم عند العوام الذين لا يستطيعون أن يميزوا لون الصحيح والضعيف من الأحاديث.

3 -

وإما بحكايات مكذوبة منسوبة لبعض أئمة هذا الدين الذين لهم في نفوس الناس منزلة ومكانة.

وتلك الحكايات مروية بأسانيد مظلمة عن رجال مجهولين وهي مردودة بما اشتهر عن أولئك الأئمة من أقوال ذكرت في كتبهم أو رويت عن طريق تلاميذهم بأسانيد صحيحة تؤكد زيف تلك، الحكايات المنسوبة إليهم وتبرهن على بطلانها.

4 -

أو بمنامات لا تخلو من أحد أمرين إما كذب صاحبها أو تلبيس الشياطين عليه، ويشهد لهذا ويؤكده مخالفتها لقواعد هذا الدين وأصوله.

ويا سبحان الله كيف يتصور أن يترك شرع الله من أجل أحلام ومنامات.

5 -

أو أقوال من تكلم في الدين بلا علم، وليس معه فيما يقول ويدعى دليل شرعي، ويجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

6 -

أو بحجج هي من جهة الرأي والذوق هي أوهن من بيوت العنكبوت ولا يخفى ضعفها وفسادها ومخالفتها لقواعد هذا الدين وأصوله إلا على الجهلة وأصحاب الهوى أتباع كل ناعق الذين لم يستضيئوا بنور العلم.

ص: 334

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما أولئك الضلال أشباه المشركين والنصارى فعمدتهم: إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو منقولات عمن لا يحتج بقوله إما أن يكون كذبا عليه وإما أن يكون غلطا منه إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حرفوا الكلم عن مواضعه وتمسكوا بمتشابهه وتركوا محكمه كما يفعل النصارى"

(1)

.

والمقام هنا لا يتسع لعرض تلك الشبه والرد عليها، فمن أراد الاستزادة في هذا الشأن فعليه بمظان ذلك في كتب علماء السلف

(2)

.

(1)

الرد على البكري (ص 352).

(2)

انظر:

أ - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية.

ب - الرد على الأخنائي لشيخ الإسلام ابن تيمية.

ج - الرد على البكري لشيخ الإسلام ابن تيمية.

د - صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان للشيخ محمد بشير السهسواني.

هـ - الصواعق المرسلة الشهابية للشبح سليمان بن سحمان.

و - غاية الأماني في الرد على النبهاني للشيخ محمود شكري الألوسي.

ص: 335

‌المبحث الثالث حكم ما يفعل عند حجرته التي دفن فيها من الأمور المبتدعة

ومن ذلك سؤاله الاستغفار والشفاعة والتوسل والاستغاثة والسجود إلى حجرته والطواف بها والتمسح بالجدران المحيطة بها وإلصاق البطن بها.

وجميع هذه الأمور وما شاكلها هي أمور مبتدعة أحدثها بعض المتأخرين ولم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هي منهي عنها.

وقد سبق بيان حكم دعائه واستغاثته والاستشفاع والتوسل به وأما السجود للحجرة والطواف بها فهو محرم أو كفر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وزاد بعض جهال العامة ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك"

(1)

.

"فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم شيء يطاف به، ولا فيه ما يتمسح به، ولا ما يقبَّل.

بل ليس في الأرض مكان يطاف به إلا الكعبة، ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة"

(2)

.

(1)

الرد على البكري (ص 215).

(2)

مجموع الفتاوى (27/ 10).

ص: 337

وقال أيضا: "وقد اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الطواف إلا بالبيت المعمور، فلا يجوز الطواف بصخرة بيت المقدس ولا بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا غير ذلك. وكذلك اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الاستسلام ولا التقبيل إلا للركنين اليمانيين، فالحجر الأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم. وقد قيل إنه: يقبَّل وهو ضعيف. وأما غير ذلك فلا يشرع استلامه ولا تقبيله، كجوانب البيت، والركنين الشاميين، ومقام إبراهيم، والصخرة والحجرة النبوية وسائر قبور الأنبياء والصالحين

(1)

.

فالطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال

(2)

ولا يفعل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما يفعل في سائر المساجد

(3)

. وكذا الحال بالنسبة للسجود للحجرة، فلقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له في حياته.

فعن عبد الله بن أبي أوفى قال: قدم معاذ اليمن أو قال الشام فرأى النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها فرأى في نفسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم فلما قدم قال يا رسول الله رأيت النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها فرأيت في نفسي أنك أحق أن تعظم. فقال: "لو كنت آمرا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها

" الحديث. وفي رواية: "فقلت لأي شيء تصنعون هذا؟ قالوا هذا كان تحية الأنبياء قبلنا. فقلت: نحن أحق أن نصنع هذا بنبينا. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "إنهم كذبوا على أنبيائهم كما حرفوا كتابهم إن الله عز وجل أبدلنا خيرًا من ذلك السلام تحية أهل الجنة"

(4)

.

(1)

مجموع الفتاوى (4/ 521).

(2)

مجموع الفتاوى (27/ 11).

(3)

مجموع الفتاوى (26/ 150).

(4)

أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة برقم (2140)، أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/ 381) و (5/ 227)، والترمذي في كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة برقم (1159).

ص: 338

وعن قيس بن سعد

(1)

قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم.

فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك.

قال: "أرأيت لو مررت بقبري أكنت نسجد له؟ " قال: قلت: لا. قال: "فلا تفعلوا، لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من الحق"

(2)

.

فتأمل وجوب الصحابي عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ فقال: لا فالسجود حق لله تعالى، وما كان حقا خالصا لله لم يكن لغيره فيه نصيب"

(3)

.

ونبينا صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرك دقِّه وجلِّه وحقيرة وكبيره فالسجود حق للواحد المعبود خالق السماوات والأرض سبحانه وتعالى.

وكذا الحال بالنسبة للتمسح بالجدران المحيطة بالحجرة وإلصاق البطن بها فليس شيء من هذا من الدين الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين.

ومن اعتقد أن هذا من الدين وفعله وجب أن ينهى عنه، ولم يستحب هذا أحد من الأئمة الأربعة، ولا فعله أحد من

(1)

قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري، صحابي جليل، شهد المشاهد مع رسول صلى الله عليه وسلم وكان أحد الفضلاء الجلة من دهاة العرب، مات في آخر خلافة معاوية بالمدينة. الإصابة (3/ 239).

(2)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب في حق الزوج على المرأة (2/ 604، 605)(ح 2140).

(3)

مجموع الفتاوى (27/ 93).

ص: 339

الصحابة والتابعين لهم بإحسان. والأجر والثواب إنما يكون على الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي ما أوجبه الشارع أو استحبه، وهذه الأمور من جملة ما نهي عنه من أسباب الشرك ودواعيه وأجزائه

(1)

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"

(2)

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا"

(3)

.

فالتمسح بالقبر - أي قبر كان - وتقبيله وتمريغ الخد عليه منهي عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء؛ ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها بل هذا شرك"

(4)

.

فإن كان هذا حكم من تمسح بالقبر فمن تمسح بالجدران المحيطة من باب أولى.

(1)

مجموع الفتاوى (158، 101) بتصرف.

(2)

تقدم تخريجه ص 278.

(3)

تقدم تخريجه ص 278.

(4)

الجامع الفريد (ص 444).

ص: 340

‌المبحث الرابع حكم الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم

-

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " تنازع الناس هل يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ مع اتفاقهم بأنه لا يحلف بشيء من المخلوقات المعظمة كالعرش والكرسي والكعبة والملائكة. فذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه إلى أنه لا يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا تنعقد اليمين، كما لا يحلف بشيء من المخلوقات، ولا تجب الكفارة على من حلف بشيء من ذلك وحنث. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"

(1)

.

وفي رواية: "ألا من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله"

(2)

. وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"

(3)

. وفي رواية: "فقد كفر".

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم برقم (66646)، وأخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى برقم (1646).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية برقم (3836) واللفظ له. أخرجه مسلم في كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى برقم (1646).

(3)

أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 34، 86، 251). وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله وقال: حديث حسن (4/ 110) ح 1535، وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهة الحلف بالآباء (3/ 570) ح 1325 وأخرجه ابن حبان كما في الموارد (ص 286) ح 1177. =

ص: 341

وعن أحمد بن حنبل رواية: أنه يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه يجب الإيمان به خصوصًا، ويجب ذكره في الشهادتين والأذان فالإيمان به اختصاص لا يشركه فيه غيره، واختار هذا طائفة من أصحاب الإمام أحمد كالقاضي أبي يعلى

(1)

وغيره خصوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن عقيل

(2)

: بل هذا كونه نبيًا وطرد ذلك في سائر الأنبياء.

والصواب: قول الجمهور وأنه لا تنعقد اليمين بمخلوق لا بنبي ولا غيره، بل ينهى عن الحلف به. وإيجاب الكفارة بالحف بمخلوق وإن كان نبيًا قول ضعيف في الغاية مخالف للأصول والنصوص. فالذي عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أنه لا يحلف بمخلوق، لا نبي ولا غير نبي، ولا ملك من الملائكة، ولا ملك من الملوك، ولا شيخ من الشيوخ. والنهي عن ذلك نهي تحريم عند أكثرهم. وروي عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر: لئن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أحلف بغير الله صادقًا

(3)

وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أظلم من الكذب

(4)

.

= والحاكم في المستدرك (1/ 18) كتاب الأيمان (4/ 279) كتاب الأيمان والنذور وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافق الذهبي".

(1)

هو: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء، أبو يعلى عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون، ومن كبار الحنابلة ولد سنة 380 هـ، وتوفي سنة 458 هـ. الأعلام (6/ 99 - 100).

(2)

هو: على بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته، ولد سنة 431 هـ وتوفي سنة 513 هـ. الأعلام (4/ 313).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 469).

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 177) وقال رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح وهو في الطبراني (9/ 205) ح 8902.

(4)

انظر قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 84 - 86) ومجموع الفتاوى (27/ 349) والرد على الأخنائي (106، 107).

ص: 342

‌المبحث الخامس حكم الاحتفال بمولده

وفيه مطلبان:

‌المطلب الأول حكم فعل المولد

إن من جملة ما نهي النبي صلى الله عليه وسلم أمته عنه، وحذرهم منه:

1 -

الابتداع في الدين.

2 -

التشبه باليهود والنصارى.

والمقيم للمولد والمشارك فيه واقع في المحظورين معًا.

فإقامة المولد من الأمور المحدثة المبتدعة التي لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ولم يفعله أصحابه من بعده، بل ولا أهل القرون المفضلة.

فما ظنك بعمل لم يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، ولا حث عليه ولا رغب فيه، وهو المشهود له بأنه ما ترك أمر خير إلا وحث الأمة عليه ورغبهم فيه.

وما ظنك بعمل لم يفعله سلف الأمة، "ولو كان خيرًا محضًا، أو راجحًا لكانوا رضوان الله عليهم أحق منا به، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعطشا له منا، وهم على الخير أحرص"

(1)

.

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 295).

ص: 343

وما أحسن أن يستشهد المرء هنا بقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول {اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا"

(1)

.

وقال أيضا: "قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتبع الرأي"

(2)

.

هذا وإن أصل الاحتفال بالمولد يرجع إلى العُبيدين

(3)

الذين يتسمون (بالفاطميين) فهم أول من أحدث هذه البدعة في الأمة وما كانت الموالد تعرف في دولة سلام قبل هؤلاء.

فقد جاء في كتاب "الخطط" المسمى كتاب "المواعظ والاعتبار والآثار" تحت عنوان (ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادًا ومواسم

).

قال: "كان للخلفاء في طول السنة أعيادًا ومواسم:

رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم "

(4)

.

فكانت الموالد من الآثار التي خلفها هؤلاء العبيديون الباطنيون مع غيرها من البدع والمنكرات التي ما أنزل الله بها من سلطان.

قد حمل راية هذه البدعة من بعدهم المتصوفة، الذين وجدوا في

(1)

أخرجه الشاطبي في الاعتصام (1/ 49).

(2)

أخرجه الشاطبي في الاعتصام (1/ 105).

(3)

العبيديون: هم أبناء عبيد الله بن ميمون بن ديصان المشهور بالقداح اليهودي قامت دولتهم في مصر (362 - 564 هـ) وكانوا من أجرأ الناس على استحداث البدع والمنكر لا كتاب ولا سنة. انظر كتاب قصة نسب الفاطميين للدكتور عبد الحليم عويس، والبداية والنهاية لابن كثير (12/ 267).

(4)

المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (1/ 490).

ص: 344

إحياء هذه البدعة متنفسًا لنشر باطلهم وبدعهم، وما الطقوس التي تعمل أثناء إقامة المولد إلا أكبر شاهد على حمل الصوفية لراية هذه البدعة.

فقد وجدوا في هذه البدعة مرتعًا خصبًا لنشر غلوهم ورقصهم وطقوسهم وشطحهم وذلك تحت ستار ما يدعونه من محبة النبي صلى الله عليه وسلم {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ ووَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ} [البقرة].

وقد كان أول تأكد رسمي ناله المتصوفة لإحياء هذه البدعة على يد الملك المظفر ملك إربل، الذي كان يحتفل بالمولد احتفالا هائلًا ينفق فيه ثلاثمائة ألف دينار، ويعمل فيه للصوفية سماعًا من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم

(1)

.

وفد استمرت هذه الاحتفالات بهذه البدعة إلى زماننا هذا وحسبك ببدعة أنشأها ملاحدة باطنيون معروفون بالبدع والمنكرات، وتولاها من بعدهم متصوفة ضالون مضلون لم يتركوا شيئا من باطلهم وبدعهم إلا وأدخلوه فيما يسمى بالمولد النبوي.

ولا عجب في اتفاق الطائفتين على هذا الأمر فهم يجمعهم مشرب واحد إذ الكل يزعم أن الشريعة لها ظاهر وباطن.

فمما لا شك فيه أن فعل ما يسمى بالمولد بدعة من البدع التي لا أساس لها في القرآن ولا في السنة ولا في عمل السلف الصالح وهي بالإضافة إلى ذلك لا تحقق المراد من حب الرسول صلى الله عليه وسلم فتحقيق محبته وتعظيمه كما سبق وأن بيَّنَّا، هو في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد في ذلك بالقلب واليد واللسان، فهذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.

(1)

البداية لابن كثير (13/ 137).

ص: 345

ويضاف إلى كون فعل هذا الأمر من البدع التي نهى الشارع عنها: ما فيه كذلك من مضاهاة ومشابهة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام فإن النصارى تحتفل بيوم مولد عيسى ويتخذونه عيدا وذلك بإيقاد الشموع وصنع الطعام وارتكاب المحرمات وفعل الموبقات من شرب للخمور وفعل الفواحش وغير ذلك من المهازل والقبائح، وفي هذا يقول بعضهم معللا مشروعية الاحتفال بفعل المولد "إذا كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيدًا أكبر فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر"

(1)

.

ونسى هذا القائل أو تناسى تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من مشابهة اليهود والنصارى فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا حتى لو دخلوا حجر ضب تبعتموهم". قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن"

(2)

أي فمن هم غير أولئك.

(1)

التبر المسبوك للسخاوي (ص 14).

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم". برقم (7320)، وأخرجه مسلم في كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى (2669).

ص: 346

‌المطلب الثاني بيان ما يفعل في الموالد من الغلو والمنكرات

لقد اتخذ أصحاب الطرق الصوفية من المولد ستارًا لترويج باطلهم ونشر بدعتهم عند الجهلة من عوام الناس.

فهم باسم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم يقيمون مثل هذه الاحتفلات، وبذكر شيء من سيرته يفتتحونها، ولكن سرعان ما يظهر الباطل وتنجلي الغشاوة فيرى صاحب البصيرة ألوانًا وأشكالًا من الغلو والبدع المنكرة تظهر من خلال ما يتلفظ به من أقوال، وما ينشد فيه من أشعار، وما يقام من حركات وأفعال، مبدية بذلك الوجه الحقيقي والهدف الرئيسي من إقامة مثل هذه الموالد.

ومن عجيب حال هؤلاء أنهم سموا كل اجتماعاتهم التي تقام فيها هذه الأباطيل مولدا مع أن التسمية لا تساعدهم على هذا الإطلاق، وما ذاك إلا أنهم عرفوا أن رواج باطلهم لا يتحقق إلا تحت هذا الستار ليروج أمرهم على خفافيش الأبصار أتباع كل ناعق.

فمن البدع والمنكرات التي تقام في هذه الموالد - وما أكثرها - ما يحصل من الغلو في حق النبي صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال القصائد التي يطلقون عليها اسم المدائح النبوية، والتي لا تخلوا من ألفاظ الغلو في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم والتجاوز عما حدده الشارع مما يليق بمقامه الكريم من الإجلال والتقدير.

فالمتأمل لتلك القصائد يجدها مرصوفة بعبارات التوسل والاستشفاع والاستغاثة، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم هو المتصرف في هذا الكون وجعله أول الموجودات والقطب الذي تدور عليه الأفلاك، وجعله

ص: 347

الغاية التي من أجلها هذا الكون، إلى غير ذلك الافتراءات والأباطيل التي شحنت بها تلك القصائد.

وهذه مقتطفات من بُردة البوصيري

(1)

تمثل جانبا من مظاهر الغلو التي يتردد في عبارات ما يسمونه بالمدائح النبوية:

وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من

لولاه لم تخرج الدنيا إلى العدم

دع ما ادعته النصارى في نبيهم

واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم

لو ناسبت قدره آياته عظمًا

أحيا اسمه حين يدعى دارس الرم

وكل آي أتى الرسل الكرام بها

فإنما اتصلت من نوره بهم

وكلهم من رسول الله ملتمس

غَرفًا من البحر أو رشفًا من الدِّيم

لا طيب يعدل تُربًا ضم أعظمه

طوبى لمنتشق منه وملتئم

أقسمت بالقمر المنشق أن له

من قلبه نسبة مبرورة القسم

ما سامني الدهر ضيمًا واستجرت به

إلا ونلت جوارا منه لم يُضم

ولا التمست غني الدارين من يده

إلا استلمت الندى من خير مستلم

يا خير من يمَّم العافون ساحته

سعيًا وفوق متون الأينق الرسم

خدمته بمديح استقيل به

ذنوب عمر مضى في الشعر والخدم

إن آت ذنبا فما عهدي بمنتقض

من النبي ولا حبلي بمنصرم

فإن لي ذمة منه بتسميتي

محمدًا وهو أوفى الخلق بالذم

إن لم تكن في معادى آخذا بيدي

فضلًا وإلا فقل يا زلة القدم

(1)

هو: محمد بن سعيد بن حماد البوصيري، شاعر صوفي غال، له عدد من القصائد في المدائح النبوية، وقد عرف عنه قلة علمه، وسلاطة لسانه، وتكففه للناس وقد ذكر محقق ديوانه عددا من الخصال التي تدل على حقيقة الرجل وقدره.

انظر: مقدمة ديوان البوصيري بتحقيق محمد سيد كيلاني.

ص: 348

حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه

أو يرجع الجار منه غير محترم

ومنذ ألزمت أفكاري مدائحه

وجدته لخلاصي خير ملتزم

ولن يفوت الغني منه يدًا تربت

إن الحيا ينبت الأزهار في الأكم

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به

سواك عند حدوث الحادث العمم

ولن يضيق رسول الله جاهك بي

إذا الكريم تجلَّى باسم منتقم

فإن من جودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

(1)

.

فتأمل هذه الأبيات وما فيها من غلو وإطراء ومظاهر شركية تجاوز فيها الشاعر كل الحدود.

حيث جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هو الغاية في خلق الدنيا وعلة وجودها "وجعله بمنزلة الإله فهو يغني ويفقر ويغفر الذنوب ويقيل العثرات وهو الملاذ والملجأ في الدنيا والآخر بل انتهى به الأمر إلى أن جعل تصريف الكون كله بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم "

(2)

.

فماذا أبقى للخالق عز وجل وخاصة عند قوله:

فإن من جودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

"فإذا كانت الدنيا وضرتها من جود الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعض علومه علم اللوح والقلم؛ لأن "من" للتبغيض، فماذا للخالق جل وعلا"

(3)

.

فهذا هو بعينه الغلو والإطراء الذي حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه.

وبالإضافة إلى ألفاظ الشرك وعبارات الغلو التي تحملها جل القصائد والمدائح، "فإن الاحتفال عادة ما يختم بدعوات تحمل ألفاظ

(1)

ديوان البوصيري (ص 240 - 248) وهذه الأبيات منتقاة من قصيدته المعروفة بالبردة.

(2)

تنبيه أولي الأبصار (ص 249).

(3)

منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان (ص 163).

ص: 349

التوسلات المنكرة والكلمات الشركية المحرمة، لأن جل الحاضرين عوام أو غلاة في حب التوسلات الباطلة التي نهى عنها الشارع"

(1)

.

أضف إلى ذلك ما يدعونه من أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر هذه الموالد إما بجسده كما يدعيه بعضهم أو بروحه كما يدعيه البعض الآخر منهم، وسوف أتعرض لهذه النقطة في المبحث القادم بإذن الله.

هذا فيما يتعلق بما يحصل في هذه الموالد من غلو في حق صلى الله عليه وسلم.

ويضاف إلى هذا الأمر ما قد يحصل في بعض الموالد من منكرات وبدع أخرى كالرقص الصوفي، والذكر البدعي، وضرب الدفوف، والتزمير بالمزامير

(2)

.

وقد يحصل فيها اختلاط الرجال بالنساء وشيء من الفجور وشرب الخمور ولكن لا يطَّرد لا في كل البلاد ولا في كل الموالد

(3)

.

فنعوذ بالله من حال أهل الزيغ والضلال.

* * *

(1)

الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإحجاف (ص 31).

(2)

الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإحجاف (ص 28).

(3)

الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإحجاف (ص 28).

ص: 350

‌المبحث السادس حكم القول بحضوره في مجالس المحتفلين ورؤيته بالعين الباصرة

إن من يتأمل في كلام الصوفية فيما يتعلق بشأن غلوهم في حق النبي صلى الله عليه وسلم بما في ذلك التوسل والاستشفاع والاستغاثة وطلب تفريج الكروب ومغفرة الذنوب وغير ذلك مما تقدم الإشارة إليه يجد أن محور دعواهم يقوم على دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم حي بجسده وروحه

(1)

وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما في بيت الملائكة - مع كونهم أحياء بأجسادهم - فإذا أراد الله تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليها، لا مانع من ذلك

(2)

.

والصوفية ليسوا على رأي واحد في هذا الأمر بل هم مختلفون مضطربون وفي حالهم هذا يتذكر المرء قول الله تعالى: {ولَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء].

فهم مختلفون في حقيقة المرئي:

(1)

لا يقصد هؤلاء بالحياة هنا الحياة البرزخية وهذا يتضح من سياق العبارات التالية لهذه العبارة، فهم يرون أن النبي صلى إله عليه وسلم يخرج من قبره وله التصرف الملكوت العلوي والسفلي.

(2)

غاية الأماني في الرد على النبهاني (1/ 52).

ص: 351

فقال بعضهم المرئي ذات المصطفى بجسمه وروحه كما تقدم في النقل السابق.

وبعضهم يقول ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه، بل مثالا له، وصار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه.

وقالوا: والآلة تارة تكون حقيقة، وتارة تكون خيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه في الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا شخصه، بل هو مثال له على التحقيق.

وفصل بعضهم فقال: رؤية

(1)

النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك له على الحقيقة. ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال

(2)

.

وقال بعضهم: ومنهم من يرى روحه في اليقظة متشكلة بصورته الشريفة.

ومنهم من يرى حقيقة ذاته الشريفة وكأنه معه في حياته صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم أهل المقام الأعلى في رؤيته صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وأعجب من ذلك كله ما ذُكر عن بعضهم من أنه رأى السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وزعم من زعم أن السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه والسلام في زمن واحد في أقطار متباعدة ينحل به، ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم وقد سئل عن ذلك فأنشد:

كالشمس في كبد السماء وضوؤها

يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا

(4)

(1)

لا يقصدون هنا الرؤيا المنامية، وإنما يقصدون رؤية اليقظة، فهم يقولون: إن رؤيته أكثر ما تقع بالقلب ثم يترقى الحال إلى أن يُرى بالبصر على ما زعموا.

(2)

غاية الأماني (1/ 51).

(3)

التيجانية (ص 127).

(4)

غاية الأماني (1/ 52).

ص: 352

فانظر إلى هذا الغلو عندهم، نعوذ بالله من حال أهل الزيغ والضلال.

ويحسن قبل الشروع في تفنيد هذا الباطل وكان فساده أن أشير إلى الوجه الآخر لهذه الدعوى.

فهذه الطائفة لم تكن لتدَّعي هذه الدعوى إلا لما فيها من المكاسب والأهداف والغايات التي يتحصلون عليها كل من وراء ذلك.

فمنهم من يستغل هذه الدعوى ليحصل على إجازة من الرسول صلى الله عليه وسلم للطريقة التي ابتدعها والأذكار والأوراد التي اخترعها لتصبح بعد ذلك شرعا لأتباعه.

ومنهم من يستغل ذلك لإيهام الناس بأن ذلك من كراماته ليحظى لديهم بالمنزلة والمكانة إلى غير ذلك من الغايات والمأرب.

هذا وإن لموضوع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم جوانب متعددة يخصُّنا منها ما يتعلق بعنوان المبحث وهو دعوى رؤيته يقظة بعيني الرأس.

فهذه الدعوى مخالفة للشرع والعقل.

أما من جهة الشرع فليس هناك دليل شرعي يثبت حصول ذلك وغاية ما دلت عليه النصوص إمكانية الرؤيا المنامية، فحملها أهل الباطل على الرؤية البصرية، ومما يؤكد فساد هذا التأويل للرؤيا واقع القرون المفضلة المشهود لهم بالخيرية من المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلم ينقل عن أحد من أهل هذه القرون الثلاثة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته.

مع أنه قد حدثت في أزمانهم حوادث كان الحاجة إلى ظهوره شديدة جدا لو كان ذلك ممكنًا.

فالصحابة قد وقع بينهم اختلاف في عدد من المسائل الدينية والدنيوية وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم يبلغنا أنا أحدا منهم ادعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم

ص: 353

يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره.

"وقد قال ابن عبد البر لمن ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كلم بعض الناس بعد وفاته عند حجرته.

فقال له ابن عبد البر: ويحك هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ فهل من هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه؟

وقد تنازع الصحابة في أشياء، فهلَّا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم، وهذه بنته فاطمة تنازع في ميراثه فهلَّا سألته فأجابها؟

(1)

.

وأما من جهة العقل: فلما يترتب على هذه الدعوى من اللوازم الباطلة فليزم منها:

1 -

أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى في قبره منه شيء فيكون من يزوره في ذلك الوقت يزور مجرد القبر ويسلم على الغائب.

2 -

أن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه.

3 -

أن يكون الشخص الذي رأه يقظة له حكم الصحابة رضوان الله عليهم.

4 -

أن يكون الكلام الذي تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم تشريعًا جديدًا لهذه الأمة وهذا لا شك فيه، طعن في كمال هذا الدين وكونه عرضة للتبديل والتغيير.

وهذه الجهالات لا يلتزم بها من كان له أدنى مسكة عقل.

ومن ظن أن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم المودع في المدينة خرج من القبر وحضر في المكان الذي رآه فيه فهذا جهل لا جهل يشبهه.

(1)

مجموع الفتاوى (10/ 407).

ص: 354

فقد يراه في وقت واحد ألف شخص في ألف مكان على صور مختلفة. فكيف يتصور هذا في شخص واحد؟ "

(1)

.

هذا وأن الذي يعتقده علماء السلف هو أن الأنبياء أحياء في قبورهم حياة برزخية الله أعلم بكيفيتها، وقد حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم، وأن هذه الأجساد لا تخرج من القبور حتى يبعث الله الخلائق كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم "فإن الناس يصعقون فأكون أول من تنشق عنه الأرض"

(2)

.

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر" الحديث

(3)

.

فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ولا يتصل بأحد من الناس. بل هو منعَّم في قبره وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة.

والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

* * *

(1)

صيد الخاطر (ص 429).

(2)

أخرجه بهذا اللفظ البخاري في كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي برقم (2412).

(3)

أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق برقم (2278).

ص: 355