الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
الأَصْل الأول
-
فِي بَيَان التحصين من لدغ الْعَقْرَب وَكلمَة الِاسْتِعَاذَة بالكلمات
حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد عَن مَالك بن أنس عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله مَا نمت البارحة قَالَ من أَي شَيْء قَالَ لدغتني عقرب فَقَالَ أما انك لَو قلت حِين أمسيت أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة كلهَا من شَرّ مَا خلق لم يَضرك شَيْء إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَفِي رِوَايَة لم يَضرك شَيْء حَتَّى تصبح
وَعَن خَوْلَة بنت حَكِيم السلمِيَّة عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ من نزل منزلا فَقَالَ أعوذ بِكَلِمَات الله التامات من شَرّ مَا خلق لم يضرّهُ شَيْء حَتَّى يرتحل من منزله ذَلِك
وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا فزع أحدكُم فِي النّوم فَلْيقل أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة من غَضَبه وعقابه وَمن شَرّ عباده وَمن همزات الشَّيَاطِين وَأَن يحْضرُون فَإِنَّهَا لن تضره فَكَانَ عبد الله بن عَمْرو يعلمهَا من بلغ من وَلَده وَمن لم يبلغ كتبهَا فِي صك ثمَّ علقها فِي عُنُقه
وَعَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الْحسن وَالْحُسَيْن يَقُول أُعِيذكُمَا بِكَلِمَات الله التَّامَّة من كل شَيْطَان وَهَامة وَمن كل عين لَامة
وَيَقُول كَانَ أبي إِبْرَاهِيم يعوذ بِهن إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق عليهما السلام
قَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن بشير الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ الْمُؤَذّن كلمة الله التَّامَّة وكلمات الله التامات يؤديان إِلَى معنى وَاحِد فَمن قَالَ كلمة الله التَّامَّة فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْجُمْلَة وَمن قَالَ كَلِمَات الله التامات فَإِنَّمَا أَرَادَ الْكَلِمَة الْوَاحِدَة الَّتِي تَفَرَّقت فِي الْأُمُور فِي الْأَوْقَات فَصَارَت كَلِمَات ومرجعهن إِلَى كلمة وَاحِدَة فكلمته التَّامَّة هِيَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون}
وَقَالَ الله تَعَالَى {إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون}
وَإِنَّمَا قيل تَامَّة لِأَن أقل الْكَلَام عِنْد أهل اللُّغَة على ثَلَاثَة أحرف حرف يبتدأ بِهِ وحرف يحشى بِهِ الْكَلِمَة وحرف يسكت عَلَيْهِ فَإِذا كَانَ على حرفين فَهُوَ عِنْدهم مَنْقُوص وَإِنَّمَا نقصت لعِلَّة مثل قَوْله يَد وَدم وغد وفم هَذِه كلهَا منقوصات لِأَنَّهَا على حرفين وَكَذَلِكَ كن هِيَ من الْآدَمِيّين من المنقوصات لِأَنَّهَا على حرفين وَلِأَنَّهَا كلمة ملفوظة
بالأدوات وَمن رَبنَا جل جلاله كلمة تَامَّة لِأَنَّهَا بغيرالأدوات ومنفي عَنهُ شبه المخلوقين وَقَالَ الله تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك}
ثمَّ وصفهَا فَقَالَ {صدقا وعدلا}
أَي قدسا واستواء ثمَّ قَالَ {لَا مبدل لكلماته} أَي لَيْسَ لأحد أَن يعجزه إِذا قَالَ لشَيْء كن وَإِنَّمَا قَالَ بكلماته لتفرق هَذِه الْكَلِمَة فِي الْأُمُور كلهَا فَلِكُل قَضِيَّة وَلكُل إِرَادَة من الْأُمُور من رَبنَا فِي كل أَمر كَلَام بقوله كن وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن أبي ذَر رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا يحْكى عَن الله عز وجل إِنَّمَا عطائي كَلَام وعذابي كَلَام
فَأَما قَوْله كن فالكاف من كينونته وَالنُّون من نوره وَهِي كلمة تَامَّة بهَا أحدث الْأَشْيَاء وَخلق الْخلق فَإِذا استعاذ العَبْد بِتِلْكَ الْكَلِمَة صَارَت لَهُ معَاذًا وَوقى شَرّ مَا استعاذ بهَا مِنْهُ لِأَن العَبْد الْمُؤمن لما عرف أَن لَا يكون شَيْء إِلَّا مَا جرى بِهِ الْقَضَاء وَالْقدر وَإِنَّمَا يمْضِي الْقَضَاء بقوله كن عظمت هَذِه الْكَلِمَة عِنْده فَصَارَت مُتَعَلق قلبه فَإِنَّمَا
تَأْخُذهُ الرَّغْبَة فِي الْأَشْيَاء والرهبة من الْأَشْيَاء وَقَلبه نَازع إِلَى مَشِيئَته وفؤاده مراقب لإرادته وَأذنه مصيغة إِلَى كلمة كن وعينه شاخصة إِلَى تَدْبيره
فَإِذا قَالَ أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة من شَرّ مَا خلق وقِي شَرّ مَا خلق وَصَارَ فِي حصنه وارتتع فِي عياذه آمنا مطمئنا هَذَا لمن قَالَهَا بيقظة وعقل مَا يَقُول وَهَذَا القَوْل مِنْهُ تَحْقِيق الايمان لِأَنَّهُ آمن بِرَبّ لَا يملك أحد سواهُ شَيْئا وَلَا شريك لَهُ فِي شَيْء وَهَذَا لأهل الْيَقِين الَّذين إِذا قَالَ أحدهم هَذَا القَوْل اسْتَقر قلبه بعد القَوْل على مقَالَته واطمأنت نَفسه
فَأَما أهل الْغَفْلَة فَإِنَّهُم يعاذون على أقدارهم لحُرْمَة الْكَلِمَة وَهُوَ مثل مَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِذا قَالَ العَبْد حسبي الله سبع مَرَّات قَالَ الله تَعَالَى وَعِزَّتِي لأكفينه صَادِقا أَو كَاذِبًا
فَإِنَّمَا قَالَ صَادِقا أَو كَاذِبًا لِأَن السَّابِق المقرب وَهُوَ الموقن إِذا قَالَ حسبي الله صدقه بِفِعْلِهِ فَهُوَ صَادِق لِأَنَّهُ لَا يتَعَلَّق بعد ذَلِك قلبه بالأسباب وَذَلِكَ مثل قَول إِبْرَاهِيم عليه السلام حِين وضع فِي المنجنيق من الْجَبَل ليرمى بِهِ فِي النَّار وعري من الْكسْوَة وكتف بِالْوَثَاقِ فَقَالَ حسبي الله فعارضه جِبْرِيل عليه السلام فِي الْهَوَاء امتحانا
وابتلاء وَقَالَ هَل من حَاجَة يَا إِبْرَاهِيم وَهُوَ يهوى فِي الجو فَقَالَ إِبْرَاهِيم عليه السلام أما إِلَيْك فَلَا وَقد بَكت السَّمَوَات وَالْمَلَائِكَة وخزان الْمَطَر عليهم السلام لما حل بِهِ وجأرت إِلَى الله تَعَالَى فَأمر الله تَعَالَى بنصرته من حِين اسْتَغَاثَ بِهِ عَبده فَلم يلْتَفت إِلَى أحد من خلقه وَلَا إِلَى جِبْرِيل مستغيثا حَتَّى تفرد الله تَعَالَى بنصرته فَقَالَ تَعَالَى {قُلْنَا يَا نَار كوني بردا وَسلَامًا على إِبْرَاهِيم}
وَإِنَّمَا عَارضه جِبْرِيل عليه السلام فِي الْهَوَاء بِمَا عَارضه ليبرز صدق مقَالَة إِبْرَاهِيم عليه السلام فِي قَوْله حسبي الله عَن مَكْنُون قلبه وليعلم الصادقون من بعده غَايَة الصدْق فِي المقالات فاتخذه خَلِيلًا ونوه باسمه فِي الْعَالمين وَهُوَ أول من يكسى يَوْم الْقِيَامَة لِأَنَّهُ عري فِي دَار الدِّينَا فِي ذَات الله تَعَالَى فبدىء بِهِ من بَين الْأَنْبِيَاء وَالرسل عليهم السلام فَهَكَذَا يكون قَول أهل الْيَقِين فِي حسبي الله والمخلط كذبه بِفِعْلِهِ حَيْثُ تعلق بالأسباب وبالمخلوقين حَتَّى صَارُوا فتْنَة عَلَيْهِ
فَقَوله حسبي الله قَول الْمُوَحِّدين قَول أهل الْإِيمَان لَا قَول الْمُحَقِّقين قَول أهل النزاهة وَالْيَقِين فَكَذَلِك قَوْله أعوذ بِكَلِمَة الله التَّامَّة المقرب عينه وَأذنه إِلَى تَدْبيره وقضائه وَقَوله كن والمخلط عينه وَأذنه إِلَى الْأَسْبَاب والحيل والحرز والحصون والوقايات فيعاذ على قدره لحُرْمَة قَوْله واعترافه بِأَنَّهَا كلمة إِيمَان فالاستعاذة بِاللَّه تعلق بِهِ مَحْضا والاستعاذة بكلمته تعلق بتدبيره لِأَنَّهُ كَذَا دبر أَن تكون الْأَشْيَاء بِالْكَلِمَةِ وَقَالَ فِي تَنْزِيله عز من قَائِل {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه}
وَقَالَ الله تَعَالَى {وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين}
فهما يدلان على أَن مَا كَانَ من أَمر الْبَاطِن فالاستعاذة بِهِ وَمَا كَانَ من أَمر الظَّاهِر فالاستعاذة بكلمته لِأَن مَا هُوَ فِي الظَّاهِر هُوَ بقوله كن وَمَا فِي الْبَاطِن صنعه وَقَالَ {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس}
ثمَّ قَالَ {ملك النَّاس}
ثمَّ قَالَ {إِلَه النَّاس} أمره أَن يستعيذ بِثَلَاثَة من أَسْمَائِهِ {من شَرّ الوسواس} وَهُوَ بَاطِن
فَقَوله رب أَي مَالك ربني فلَان يربنِي فَهُوَ راب ثمَّ قَالُوا رب فحذفوا الْألف كَمَا قَالُوا بار ثمَّ قَالُوا بر فَقَوله رب يُؤَدِّي إِلَى الْملك وَملك يُؤَدِّي إِلَى الْملك وإله يُؤَدِّي إِلَى وَله الْقُلُوب فالوسواس آفَة على الْقلب أمره أَن يستعيذ بِمَالك وَملك وإله لِأَن الْمَالِك الَّذِي أحَاط بهم فملكهم وَالْملك الَّذِي نفذ أمره فيهم والاله الَّذِي أَوله الْقُلُوب إِلَى نَفسه
من شر الوسواس الخناس وسوس عِنْد الْغَفْلَة وخنس عِنْد الذّكر فاشتق لَهُ اسمان من فَعَلَيهِ
ثمَّ بَين أَيْن مَوْضِعه من الْجَسَد فَقَالَ {الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس} والصدر ساحة الْقلب وَفِيه الْفِكر وَمِنْه تصدر الْأُمُور
ثمَّ بَين أَن الوسوسة جِنْسَانِ فَقَالَ من الْجنَّة وَالنَّاس وَسْوَسَة جنية وَهِي الشَّيْطَان ووسوسة إنسية وَهِي النَّفس
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَنه قَالَ هما وسواسان وَإِنَّمَا قَالَ وسوس لِأَنَّهُ يزعج وَقَوله أز يؤز أَي أزعج يزعج وَقَالَ فِي تَنْزِيله {تؤزهم أزا} وَالْهَاء والهمزة وَالْوَاو اخوات تجزىء الْوَاحِدَة عَن صاحبتيها فَقَوله أز وهز ووز بِمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَن كل وَاحِدَة تسْتَعْمل فِي نوع والزاء وَالسِّين أختَان تجزىء إِحْدَاهمَا عَن الْأُخْرَى كَمَا قَالُوا صقر وزقر وسقر فَقَوله وز وَقَوله وس يوس بِمَعْنى وسوس وَقَوله وسوس فِي قالب الْعَرَبيَّة فع فع لِأَنَّهُ فِي الأَصْل وس ثمَّ كرر فَقيل وسوس لِأَن فعله على الْقلب مردد مُكَرر فَأمره أَن يستعيذ بالأسماء الثَّلَاثَة مِنْهُ
ثمَّ قَالَ {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} وكل مَا انْفَلق شَيْء عَن شَيْء فَهُوَ فلق قَالَ أهل التَّفْسِير الفلق وَاد فِي جَهَنَّم إِذا فتح وانفلق هر أهل النَّار من شدَّة حره وَقَالَ بَعضهم الفلق الصُّبْح لِأَنَّهُ انْفَلق عَن اللَّيْل وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فالق الإصباح}
وَقَالَ الله تَعَالَى {فالق الْحبّ والنوى}
فالحبة تنفلق فتنبت والنوى كَذَلِك أَيْضا وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُم اخْتِلَاف لِأَن الْكَلِمَة تُؤدِّي إِلَى كل شَيْء انْفَلق واعظم فلق فِي الدُّنْيَا فلق قلب الْمُؤمن بِنور الله تَعَالَى فَقَالَ {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} وَهُوَ فلق الْقلب إِذا انْفَلق بنوره
وَرُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ للقلب أذنان وعينان فَإِذا أَرَادَ الله تَعَالَى بِعَبْد خيرا فتح عَيْنَيْهِ اللَّتَيْنِ فِي قلبه
{من شَرّ مَا خلق} وَهُوَ ظلمَة الْكفْر {من شَرّ غَاسِق إِذا وَقب} والغسق الظلمَة وَهِي ظلمَة الْمعاصِي وَقَوله وَقب أَي دخل {وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد} وَهُوَ السحر يعْقد السَّاحر الَّذِي قد بَاعَ آخرته بدنياه فاعطى مَا تمنى وَاخْتَارَ وربنا عز وجل وَاسع كريم طلب آدم التَّوْبَة وَالطَّاعَة فَأعْطِي وَطلب إِبْلِيس تضليل ولد
آدم وغوايتهم وَأَن يعْطى سُلْطَان ذَلِك لَهُ فَأعْطِي وَطلب السَّاحر منى الدُّنْيَا وَأَن يعْطى كل شَيْء يتمناه برفض الْآخِرَة وَأَن لَا خلاق لَهُ فِيهَا فَأعْطِي فَهُوَ يعْقد خيطا أَو وترا على منيته وينفث فِيهِ من نَفسه الخبيثة فيصل ضَرَره الى من يتَمَنَّى ذَلِك عَلَيْهِ {وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله}
وَلما سحر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى عجز عَن نِسَائِهِ وَأخذ بِقَلْبِه لبث فِي ذَلِك سِتَّة أشهر فِيمَا رُوِيَ فِي الْخَبَر ثمَّ نزلت المعوذتان إِحْدَى عشرَة آيَة واستخرج الْوتر فِيهِ العقد من ذَلِك الْبِئْر فَكَانَ كلما قَرَأَ آيَة من المعوذتين انْحَلَّت عقدَة حَتَّى حل العقد كلهَا وبرىء {وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد} وَهُوَ الْعين والحاسد والحاصد بِمَعْنى فَهُوَ يحصده بِعَيْنِه أَي يقطعهُ من الأَصْل هَلَاكًا ودمارا وَهُوَ أَن يعجب بالشَّيْء فَلَا يذكر خالقه فَإِذا هُوَ قد حصده ودمره والحسد إرادتك الَّتِي تُرِيدُ بهَا إبِْطَال
ذَلِك الشَّيْء فنوره فلق الظُّلُمَات وَهُوَ فِي دَعْوَة إِدْرِيس عليه السلام أَنْت الَّذِي فلق الظُّلُمَات نوره فاذا أورد على الْقلب نوره فلق الظُّلُمَات فَجَمِيع مَا ذكر فِي التَّنْزِيل من الِاسْتِعَاذَة بِهِ وَجَدْنَاهُ يؤول الى الْبَاطِن من الْأُمُور وَمَا جَاءَ عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ أَمرنِي جِبْرِيل عليه السلام أَن أكررهن فِي السُّجُود
وَأَعُوذ بعفوك من عقابك فاستعاذ بِالْعَفو من الْعقَاب لِأَنَّهُ ضِدّه وَأَعُوذ برضاك من سخطك فالرضى ضد السخط
ثمَّ قَالَ وَأَعُوذ بك مِنْك فاستعاذ بِهِ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا ضد لَهُ وَهُوَ كَقَوْلِه لَا مفر مِنْك إِلَّا إِلَيْك وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَفرُّوا إِلَى الله} أَي فروا مِنْهُ إِلَيْهِ
-
الأَصْل الثَّانِي
-
فِي كلمة النَّجْوَى
عَن نَافِع عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يجلس الرجل إِلَى الرجلَيْن إِلَّا على إِذن مِنْهُمَا إِذا كَانَا يتناجيان
رُوِيَ عَن النَّضر فِيمَا يحْكى عَن أهل اللُّغَة أَن الْجَمَاعَة إِذا لم يكن فيهم
غَرِيب فحديثهم نجوى وَإِن جهروا فِيمَا بَينهم وَإِذا كَانُوا ثَلَاثَة وَفِيهِمْ غَرِيب فَلَيْسَ حَدِيثهمْ بنجوى وَإِن أسروه قَالَ الله تَعَالَى فَلَمَّا استيئسوا مِنْهُ خلصوا نجيا
وَأهل النَّجْوَى إِذا اجْتَمعُوا نجيا فكأنهم فِي ستر أَو وَطن فَكَمَا يجب الاسْتِئْذَان فِي الدُّخُول عَلَيْهِم فِي أوطانهم فَكَذَلِك يجب الاسْتِئْذَان فِي الْجُلُوس إِلَيْهِم فَإِن ذَلِك أَذَى لَهُم وَقطع عَلَيْهِم وهتك لسترهم وَهَذَا كُله لعظم حُرْمَة الْمُؤمن وتجنب أَذَاهُ وَإِذا كَانَ وَحده فَفِيهِ سَعَة لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ سر يطلع عَلَيْهِ وَلَكِن يحِق على الْوَرع أَن يتحين الْوَقْت وَالْحَال وَأَن يتَجَنَّب التثقيل
قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ رحمه الله من أَمن الثّقل ثقل
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رحمه الله عَن حَمَّاد من خَافَ أَن يكون ثقيلا فَلَيْسَ بثقيل
قَالَ مُغيرَة لقد نهى الله تَعَالَى عَن التثقيل فِي قَوْله الْكَرِيم {فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشرُوا وَلَا مستأنسين لحَدِيث}
إِلَى قَوْله وَالله لَا يستحي من الْحق
وَهَذِه الْآيَة نزلت فِي بعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عليه وسلم أحسبها زَيْنَب رضي الله عنها تزوج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بهَا وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا فَلَمَّا أطْعمهُم أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن يَخْلُو بأَهْله فقعدوا بعد الطَّعَام
يتحدثون فِي بَيته وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم مرّة يخرج وَمرَّة يدْخل وهم فِي الْبَيْت قعُود لَا يبرحون فَنزلت هَذِه الْآيَة
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه إِذا استثقل رجلا قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لنا وَله وَأَرِحْنَا مِنْهُ
وَقَالَ حَاتِم بن عبد الله الأشجي انْتَهَيْت مَعَ سُفْيَان الثَّوْريّ إِلَى أبي حنيفَة اليمامي رحمه الله وَإِذا هُوَ جَالس فِي تُرَاب فَدَنَوْنَا مِنْهُ وَسلمنَا عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ سُفْيَان رَحِمك الله تَأذن فنجلس إِلَيْك قَالَ لَا فرجعنا فَقَالَ سُفْيَان إِن الرجل فِي كل حالاته يحب أَن يجلس إِلَيْهِ
-
الأَصْل الثَّالِث
-
فِي تَأْثِير الْغَضَب فِي الْإِيمَان
عَن بهز بن حَكِيم بن مُعَاوِيَة بن حيدة الْقشيرِي عَن أَبِيه عَن جده رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ قَالَ قلت يَا رَسُول الله أَخْبرنِي بِوَصِيَّة قَصِيرَة فألزمها قَالَ لَا تغْضب يَا مُعَاوِيَة بن حيدة إِن الْغَضَب يفْسد الْإِيمَان كَمَا يفْسد الصَّبْر الْعَسَل
وَعَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِن الْغَضَب ميسم من نَار جَهَنَّم يَضَعهُ الله تَعَالَى على نِيَاط أحدهم أَلا ترى أَنه إِذا غضب احْمَرَّتْ عينه واربد وَجهه وَانْتَفَخَتْ أوداجه
وَقَالَ فِي حَدِيث آخر إِن الْغَضَب جَمْرَة توقد فِي قلب ابْن آدم أَلا ترى إِلَى انتفاخ أوداجه وَحُمرَة عَيْنَيْهِ وَذَلِكَ أَن الشَّيْطَان ينْفخ فِي تِلْكَ الْجَمْرَة
فَشبه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذَلِك بالعسل وَالصَّبْر فَكَمَا يفْسد الصَّبْر الْعَسَل فَكَذَلِك الْغَضَب يدنس الْإِيمَان ومرارته تذْهب حلاوته ونزاهته فالإيمان حُلْو نزه وَالْغَضَب مر دنس
وَرُوِيَ عَن عِيسَى عليه السلام أَنه سَأَلَهُ يحيى بن زَكَرِيَّا عليه السلام عَن الْغَضَب مَا بدؤه قَالَ الْكبر أَلا ترى أَنَّك تغْضب على من هُوَ دُونك وَلَا تغْضب على من هُوَ فَوْقك بِمثلِهِ
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر قيل فَمَا الْكبر يَا رَسُول الله قَالَ أَن تسفه الْحق وَتغمضُ النَّاس أَي تحقرهم
وَعَن أنس رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ يَقُول الله عز وجل لي العظمة والكبرياء وَالْفَخْر وَالْقدر سري فَمن نَازَعَنِي فِي وَاحِدَة مِنْهُنَّ كببته فِي النَّار وَالْإِيمَان هُوَ خضوع العَبْد والقاؤه بِيَدِهِ لَهُ سلما وَالْكبر ضِدّه وَالْغَضَب مِنْهُ يَبْدُو وَينْزع الشَّيْطَان بنفثه ونفخه حَتَّى يتوقد ويهتاج فَلذَلِك قَالَ يفْسد الْإِيمَان
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِنِّي لأعْلم كلمة لَو قَالَهَا لذهب عَنهُ أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم وَذَلِكَ عِنْدَمَا رأى رجلا يتمرغ أَنفه من الْغَضَب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم
وَإِنَّمَا وضع هَذَا الميسم من النَّار فِي هَذَا الْموضع من الْآدَمِيّ لكَي يغْضب لله تَعَالَى فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يَنْبَغِي فَإِن فِي الْغَضَب قُوَّة للآدمي على أَمر الله تَعَالَى وَهُوَ مُحْتَاج إِلَى أَن يعادي اعداءه ويحاربهم فبالغضب
يتقوى حَتَّى يحاربهم ويغير الْمُنكر وَيُقِيم حُقُوق الله تَعَالَى وحدوده فللحق نفخة فِي تِلْكَ الْجَمْرَة وللشيطان نفخة فِي وقته فنفخة الشَّيْطَان لَهَا رجاسة تفْسد الْإِيمَان وطهارته وطيبه وَإِذا كَانَت نفخة الْحق فَإِنَّهُ يتقوى ويحمر وَجهه ويمتلىء من نور الْحق وَلَا يفْسد الْإِيمَان وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا غضب غضب لله تَعَالَى وَلَا يغْضب لنَفسِهِ وَلَا لدنياه وَكَانَ إِذا غضب رُؤِيَ ذَلِك الْعرق بَين عَيْنَيْهِ يرد من الْغَضَب وَيظْهر نتوؤه وانتفاخه وتحمر وجنتاه
وَكَانَ مُوسَى عليه السلام إِذا غضب اشتعلت قلنسوته نَارا
-
الأَصْل الرَّابِع
-
فِي أدب الانتعال
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا انْتقل أحدكُم فليبدأ بِالْيَمِينِ فَإِذا نَزغ فليبدأ بالشمال وَليكن بِالْيَمِينِ أَولهمَا يلبس وآخرهما ينْزع
الْيَمين مَحْبُوب الله ومختاره من الْأَشْيَاء فَأهل الْجنَّة عَن يَمِين الْعَرْش يَوْم الْقِيَامَة وَأهل السَّعَادَة يُعْطون كتبهمْ بأيمانهم وكفة الْحَسَنَات من الْمِيزَان عَن الْيَمين والكرام الكاتبون وَكَاتب الْحَسَنَات مِنْهُم عَن الْيَمين
وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يتوخى فِي كل فعل من مثل هَذَا الْيَمين
توخيا لمختار الله تَعَالَى وَكَانَ إِذا شرب أعْطى الْأَيْمن فالأيمن جرعته حَتَّى أَنه شرب يَوْمًا وَأَبُو بكر رضي الله عنه عَن يسَاره وَغُلَام إعرابي عَن يَمِينه فَقَالَ للغلام أتأذن لي فَأعْطِي الْأَشْيَاخ فَقَالَ مَا كنت لأوثر بِفَضْلِك على نَفسِي أحدا فَأعْطَاهُ الْغُلَام وَكَانَ يبْدَأ باليمنى إِذا دخل الْمَسْجِد ثمَّ إِذا خرج أَو نزع نَعله بَدَأَ باليسرى كي يكون الْيَمين آخر الْعَهْد بِمَسْجِد الله تَعَالَى وَبِمَا هُوَ خير للقدم ورفق لَهُ وَكَانَ يسْتَعْمل تَدْبِير الله تَعَالَى ويفتقده فِي كل شَيْء حَتَّى فِي ترجله وتنعله وَطهُوره
وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ لما رمى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَة وَنحر نُسكه ناول رَأسه الحلاق فَقَالَ ابدأ بالشق الْأَيْمن فحلقه فَأعْطَاهُ أَبَا طَلْحَة ثمَّ نَاوَلَهُ الْأَيْسَر فحلقه فَقَالَ اقسمه بَين النَّاس
وَعَن ابْن عمر رضي الله عنهما عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِذا أكل أحدكُم فَليَأْكُل بِيَمِينِهِ وَإِذا شرب أحدكُم فليشرب بيمنه
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ يَمِين الله ملأى سحاء لَا يغيضها شَيْء بِاللَّيْلِ وَلَا بِالنَّهَارِ
وَعَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى خلق آدم فَمسح ظَهره بِيَمِينِهِ فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ خلقت هَؤُلَاءِ للجنة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ ثمَّ مسح ظَهره بيساره فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ
وَعَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ خلق الله الْخلق وَقضى الْقَضِيَّة فَأخذ مِيثَاق النَّبِيين وعرشه على المَاء فَأخذ أهل الْيَمين بِيَمِينِهِ وَأخذ أهل الشمَال بِالْأُخْرَى وكلتا يَدي الرَّحْمَن يَمِين ثمَّ قَالَ يَا أَصْحَاب الْيَمين قَالُوا لبيْك رَبنَا وَسَعْديك قَالَ أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى ثمَّ قَالَ أَصْحَاب الشمَال قَالُوا لبيْك
وَسَعْديك قَالَ أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى فخلط بَعضهم بِبَعْض فَقَالَ قَائِل مِنْهُم رب لم خلطت بَيْننَا فَقَالَ لَهُم أَعمال من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون فَقَالَ قَائِل فَمَا الْأَعْمَال قَالَ يعْمل كل قوم لمنزلتهم فَقَالَ عمر رضي الله عنه إِذا نجتهد
وَسُئِلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن الْأَعْمَال أَهِي مؤتنف أم قد فرغ مِنْهَا قَالَ بل فرغ مِنْهَا
عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لما خلق الله تَعَالَى آدم ضرب بِيَدِهِ على شقّ آدم الْأَيْمن فَأخْرج ذُرِّيَّة كالذر ثمَّ قَالَ يَا آدم هَؤُلَاءِ ذريتك من أهل الْجنَّة ثمَّ ضرب بِيَدِهِ على شقّ آدم الْأَيْسَر فَأخْرج ذُرِّيَّة كالحمم ثمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ ذريتك من أهل النَّار
وَقَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله {وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} وَجَاء فِي الْخَبَر أَن الْجنَّة يُؤْتى بهَا فتوضع عَن يَمِين الْعَرْش يَوْم الْقِيَامَة وَالنَّار عَن يسَار الْعَرْش وَيُؤْتى بالميزان فينصب بَين يَدي الله وكفة الْحَسَنَات عَن يَمِين الْعَرْش مُقَابل الْجنَّة وكفة السَّيِّئَات عَن يسَار الْعَرْش مُقَابل النَّار وَقَالَ تَعَالَى وَأَصْحَاب الْيَمين مَا أَصْحَاب الْيَمين وَأَصْحَاب الشمَال مَا أَصْحَاب الشمَال
حدث جَعْفَر بن كثير من آل عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْن ثَمَانِينَ سنة قَالَ حَدثنِي أبي أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ
إِذا صلى الْفَرِيضَة تياسر فصلى مَا بدا لَهُ وَأمر أَصْحَابه أَن يتياسروا وَلَا يتيامنوا
وَعَن ضبيعة بنت الْمِقْدَاد بن معدي كرب عَن أَبِيهَا أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا صلى إِلَى عَمُود أَو خَشَبَة أَو شبه ذَلِك لم يَجعله نصب عَيْنَيْهِ وَلَكِن يَجعله على حَاجِبه الْأَيْسَر
قَالَ كَأَنَّهُ يدل بِهَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ من هذَيْن الْحَدِيثين على أَنه يتوخى الْيَمين فَإِن العَبْد إِذا أَقَامَ فَإِنَّمَا هُوَ قبالة الله عز وجل
بذلك جَاءَت الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالْيَمِين دلّ اسْمه على مَعْنَاهُ فالأمن وَالْإِيمَان وَالْيَمِين كُله مَوْجُود فِي هَذَا الِاسْم
وَوجه آخر أَنه كَانَ يتياسر بِصَلَاة التَّطَوُّع عَن مَوْضِعه الَّذِي أدّى فِيهِ الْفَرِيضَة كَأَنَّهُ لَا يجب أَن يقدم على الْفَرِيضَة شَيْئا وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا رُوِيَ عَن أبي صَالح الْحَنَفِيّ قَالَ كَانَ عَليّ كرم الله وَجهه يسلم تسليمتي الصَّلَاة إِحْدَاهمَا اخْفِضْ من الْأُخْرَى قيل لأبي صَالح أَيهمَا أَخفض من الْأُخْرَى قَالَ الْيُسْرَى وَإِنَّمَا توخى ذَلِك أَن يكون فرقا بَين التسليمتين بالخفض وَرفع الصَّوْت ليؤدي حق كَاتب الْحَسَنَات بِرَفْع الصَّوْت وَكَذَلِكَ حق من عَن يَمِينه ليؤديه بِرَفْع ذَلِك الصَّوْت وبخفضه عَن الْيُسْرَى ليتبين فضل الْيُمْنَى عَن الْيُسْرَى
-
الأَصْل الْخَامِس
-
فِي النَّهْي عَن القزع
عَن نَافِع عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ نهى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن القزع والقزع أَن يحلق وسط رَأس الصَّبِي وَيتْرك مَا حوله وَكَانَ هَذَا فعل القسين وهم ضرب من النَّصَارَى وَفِي الْقُرْآن {ذَلِك بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} والقسيس فِي النَّصَارَى كالصديق فِي الْإِسْلَام وهومن قس أَي قصّ أثر الرَّسُول الَّذِي دَعَاهُ على لِسَانه
قَالَ سلمَان رضي الله عنه قَرَأت على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم {ذَلِك بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} فأقرأني ذَلِك بِأَن مِنْهُم صديقين وَرُهْبَانًا
وَأما حلق أوساط الرؤوس فَذَلِك عَلامَة لضرب مِنْهُم أحدثوه فِيمَا بَينهم
وَلما بعث أَبُو بكر الصّديق رضي الله عنه الْجنُود إِلَى الشَّام قَالَ إِنَّكُم سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا حبسوا أنفسهم فِي الصوامع فدعوهم وَمَا حبسوا أنفسهم لله تَعَالَى وستجدون آخَرين اتخذ الشَّيْطَان فِي أوساط رؤوسهم أفحاصا فَإِذا أوجدتم أُولَئِكَ فاضربوا أَعْنَاقهم فالذنن تركُوا الدُّنْيَا وحبسوا أنفسهم فِي الصوامع واعتزلوا أَمر بترك التَّعَرُّض لَهُم وَلم يطالبوا بجزية لأَنهم تركُوا فتركوا لأَنهم كَانُوا صَادِقين فِي سبيلهم وَإِن كَانُوا على ضَلَالَة وَالَّذين خَرجُوا من الصوامع فَلم يصبروا على الْعُزْلَة وفحصوا عَن أواسط رؤوسهم فقد أخبر أَبُو بكر رضي الله عنه أَن الشَّيْطَان دلهم على ذَلِك عَلامَة لأَنْفُسِهِمْ وتشهيرا وإظهارا لما هم عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يدل على أَن ذَلِك الصِّنْف مِنْهُم بِمَنْزِلَة من تزهد فِي هَذَا الْعَصْر وَهُوَ غير صَادِق فِي ذَلِك يُرِيد بترك الدُّنْيَا وَقصد بِلبْس الصُّوف والخلقان وحف الشَّارِب وتشمير الثِّيَاب والعمة المطوقة تَحت الحنك وَالِاسْتِقْصَاء فِي الْكحل إِلَى اللحاظ المراياة فَهَذِهِ عَلَامَات الطَّبَقَة الكاذبة المتزهدة المتأكلة حطام الدُّنْيَا بِمَا أظهرُوا من زيهم وشكلهم وتماوتهم وخشوع نفاقهم فَكَذَلِك كَانَ أُولَئِكَ غير صَادِقين فِي عزلتهم فِي الصوامع فَلم يصبروا عَلَيْهَا فَخَرجُوا وَقد حَلقُوا أوساط رؤوسهم ترائيا وتشهيرا لأمرهم فَأمر أَبُو بكر رضي الله عنه بِضَرْب أَعْنَاقهم لأَنهم مَعَ كفرهم لغيرالله عمِلُوا فِي دينهم وَالَّذين تركُوا وحبسوا أنفسهم تركُوا وَمَا حبسوا
لأَنْفُسِهِمْ لأَنهم صَادِقُونَ فِي سبيلهم قَالَ الله تَعَالَى ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله ثمَّ ذمهم فَقَالَ {فَمَا رعوها حق رعايتها}
فَإِنَّمَا نهى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي شَأْن الصَّبِي أَن يحلق وسط رَأسه للتشبه بهؤلاء الَّذين وصفناهم وَأما قصَّة هَؤُلَاءِ الَّذين ابتدعوا الرهبانية فقد روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما فِي قَوْله عز وجل {ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم}
قَالَ كَانَت مُلُوك بعد عِيسَى بن مَرْيَم عليه السلام بدلُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَقَالَ نَاس لملوكهم مَا نجد شتما أَشد مِمَّا يشتموننا بِهِ إِنَّهُم يقرأون وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ {فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} مَعَ مَا يعيبوننا بِهِ من أَعمالنَا فِي قراءتهم فادعهم فليقرأوا مَا نَقْرَأ وليؤمنوا بِمَا آمنا بِهِ فَدَعَاهُمْ فَجَمعهُمْ فَعرض عَلَيْهِم الْقَتْل وَأَن يتْركُوا قِرَاءَة التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إِلَّا مَا بدلُوا مِنْهَا فَقَالُوا وَمَا
تَصْنَعُونَ بقتلنا دَعونَا وَابْنُوا لنا أساطينا ادفعونا فِيهَا واتركوا لنا شَيْئا يدلى فِيهِ طعامنا وَلَا نؤذيكم وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى مِنْهُم دَعونَا نهيم فِي الأَرْض ونسيح وَنَأْكُل مِمَّا تَأْكُل مِنْهُ الْوَحْش وَنَشْرَب مِمَّا تشرب مِنْهُ الْوَحْش فَإِن قدرتم علينا فِي أَرْضكُم فاقتلونا
وَقَالَت طَائِفَة أُخْرَى مِنْهُم ابْنُوا لنا ديورا فِي الفيافي فنحتفر الْآبَار ونحترث الْبُقُول وَلَا نؤذيكم وَلَا نمر بكم وَلَيْسَ أحد من الْقَبَائِل إِلَّا لَهُ حميم فيهم فَفَعَلُوا ذَلِك فيهم وَقَالَ الْآخرُونَ مِمَّن تعبد من أهل الشّرك نتعبد كَمَا تعبد فلَان ونتخذ ديورا كَمَا اتخذ فلَان ونسيح كَمَا ساح فلَان وهم فِي شركهم لَا علم لَهُم بِإِيمَان الَّذين اقتدوا بهم وَقد فني من فني مِنْهُم فَلَمَّا بعث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلم يبْق مِنْهُم إِلَّا قَلِيل انحط صَاحب الصومعة من صومعته وَصَاحب الدَّيْر من ديره وَصَاحب السياحة من سياحته فآمنوا بِهِ وَصَدقُوهُ
قَالَ الله تَعَالَى {فآتينا الَّذين آمنُوا مِنْهُم أجرهم وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ} وَقَالَ يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّفقُوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته أَي أَجْرَيْنِ بايمانهم بِعِيسَى عليه السلام وبالتوراة وَالْإِنْجِيل وَإِيمَانهمْ بِمُحَمد صلى الله عليه وسلم {وَيجْعَل لكم نورا تمشون بِهِ} وَقَالَ لِئَلَّا يعلم أهل الْكتاب أَلا يقدرُونَ على شَيْء من فضل الله وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء
قَالَ أَبُو عبد الله فعلى هَذَا الْمِثَال عاملت متزهدة زَمَاننَا سَمِعت أَنه مضى فِي السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ قوم اجتزوا بالدون من الْحَال فلبسوا الصُّوف والخلقان وأكلوا النخالة وامتنعوا من الشَّهَوَات وشمروا الثِّيَاب وامتنعوا من المخالطة صدقا وتورعا واحتياطا لدينهم كل ذَلِك خوفًا من الله تَعَالَى أَن يقدموا عَلَيْهِ متدنسين بحطام الدُّنْيَا مفتونين فِيهَا وَإِنَّمَا فعل الْقَوْم ذَلِك لضعف يقينهم بِمَنْزِلَة من امْتنع من دُخُول الْبَحْر سباحة مَخَافَة الْغَرق لعَجزه عَن السباحة فَلم يكْتب الله تَعَالَى هَذَا عَلَيْهِم بل احل لَهُم الطَّيِّبَات والزينة ووسع عَلَيْهِم فابتدعوا تَركهَا رهبة من الله تَعَالَى وَكَانُوا فِيهَا صَادِقين فَلم يعابوا وَلم يذموا لأَنهم رعوا مَا ابتدعوا حَتَّى خَرجُوا من الدُّنْيَا مَعَ صدق مَا ابتدعوا ابْتِغَاء رضوَان الله تَعَالَى فخلف من بعدهمْ خلف اتَّبَعُوهُمْ فِيمَا ابتدعوه وهم غير صَادِقين فِيهَا فَأَقْبَلُوا على لبس الصُّوف والخلقان وَأكل النخالة وَالْخبْز المتكرج يُرِيدُونَ بذلك إِظْهَار الزّهْد وَقُلُوبهمْ مشحونة بشهوات الدُّنْيَا تَأْكُل دنياهم بدينهم فَمَا رعوها حق رعايتها كَمَا فعل أَصْحَاب الصوامع والديور وَاتبعُوا الْقَوْم فِي فعلهم وأس أَمرهم على ضَلَالَة
عَن عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا عبد الله بن مَسْعُود قلت لبيْك يَا رَسُول الله ثَلَاث مَرَّات قَالَ هَل تَدْرِي أَي عرى الْإِيمَان أوثق قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ فَإِن أوثق عرى الْإِيمَان الْولَايَة فِي الله وَالْحب فِيهِ والبغض فِيهِ يَا عبد الله ابْن مَسْعُود قلت لبيْك يَا رَسُول الله ثَلَاث مَرَّات قَالَ هَل تَدْرِي أَي النَّاس أفضل قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ فَإِن أفضل النَّاس أفضلهم عملا إِذا فقهوا فِي دينهم يَا عبد الله بن مَسْعُود قلت لبيْك يَا رَسُول الله ثَلَاث مَرَّات قَالَ هَل تَدْرِي أَي النَّاس أعلم قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ فَإِن أعلم النَّاس أبصرهم بِالْحَقِّ إِذا اخْتلف النَّاس وَإِن كَانَ مقصرا فِي الْعَمَل وَإِن كَانَ يزحف على أسته وَاخْتلف من كَانَ قبلنَا على
ثِنْتَيْنِ وَسَبْعَة فرقة نجا مِنْهُم ثَلَاث وَهلك سائرها فرقة آذت الْمُلُوك وقاتلتهم على دين الله وَدين عِيسَى بن مَرْيَم حَتَّى قتلوا وَفرْقَة مِنْهُم لم يكن لَهُم بموازاة الْمُلُوك طَاقَة فأقاموا بَين ظهراني قَومهمْ يَدعُونَهُمْ إِلَى دين الله وَدين عِيسَى بن مَرْيَم فَأَخَذتهم الْمُلُوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وَفرْقَة لم يكن لَهُم طَاقَة بموازاة الْمُلُوك وَلَا أَن يقيموا بَين ظهراني قَومهمْ يَدعُونَهُمْ إِلَى دين الله وَدين عِيسَى بن مَرْيَم عليه السلام فساحوا فِي الْجبَال وتزهدوا فِيهَا فهم الَّذين قَالَ الله تَعَالَى ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله فَمَا رعوها حق رعايتها فآتينا الَّذين آمنُوا مِنْهُم أجرهم وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ فالمؤمنون الَّذين آمنُوا بِي وصدقوني والفاسقون الَّذين كَذَّبُونِي وجحدوني
فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يخبر فِي هَذَا الحَدِيث أَن الَّذين ساحوا وترهبوا هم الْفرْقَة الثَّالِثَة الَّتِي قد نجت وان الَّذين أخبر أَنهم مَا رعوها حق رعايتها قوم جَاءُوا من بعدهمْ يقتدون بهم فِي ذَلِك وَلَيْسوا على صدق من أَمرهم أخذُوا بِظَاهِر أَمرهم وفعلهم فساحوا ولزموا الديور والصوامع وَتركُوا سَبِيل أَصْحَابهم الَّذين مضوا على ذَلِك
-
الأَصْل الثَّالِث عشر
-
فِي الْعين المؤمنة إِذا رَأَتْ مُنْكرا
عَن الْحُسَيْن بن عَليّ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يَنْبَغِي لعين مُؤمنَة ترى أَن يعْصى الله تَعَالَى فَلَا تنكر عَلَيْهِ
فالإيمان قد اشْتَمَل على الْجَوَارِح السَّبع اللائي أَخذ عَلَيْهِنَّ الْعَهْد والميثاق وائتمن العَبْد عَلَيْهِنَّ ووكل برعايتهن ومستقره فِي الْقلب والشهوة فِي النَّفس وسلطانها فِي الصَّدْر ثمَّ يتَأَدَّى الى هَذِه الْجَوَارِح السَّبع فَمن صدق الْإِيمَان أَن يكون سُلْطَان كل حارجة منطفئا بِمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من سُلْطَان الْإِيمَان فَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد ملك نَفسه فَلَا يسْتَعْمل شَهْوَة بجارحة من الْجَوَارِح السَّبع إِلَّا فِيمَا أذن الله لَهُ فِيهِ وَإِذا رأى غَيره يستعملها فِيمَا لم يَأْذَن بِهِ الله أنكرهُ وَالْإِنْكَار على ثَلَاثَة منَازِل فمنكر بِقَلْبِه وَلسَانه وَيَده ومنكر بِقَلْبِه وَلسَانه ومنكر بِقَلْبِه
وَرُوِيَ ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الْجِهَاد ثَلَاثَة جِهَاد بِالْيَدِ وَاللِّسَان وَالْقلب وَجِهَاد بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان وَجِهَاد بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ
يسْتَوْجب بذلك القَوْل الْمَغْفِرَة وَلِهَذَا مَا رُوِيَ فِي حَدِيث آخر عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَا يَقُولهَا عبد عِنْد الْمَوْت إِلَّا هدمت ذنُوبه قيل فَكيف يَا رَسُول الله لمن قَالَهَا فِي الصِّحَّة قَالَ هِيَ أهدم وأهدم
وَإِنَّمَا هدمت ذنُوبه لِأَنَّهُ قَالَهَا وَقد مَاتَت مِنْهُ شهواته وَنَدم على مَا فرط مِنْهُ ندما صَحِيحا فَهُوَ تائب صَادِق والتائب الصَّادِق على مَوْعُود الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله أَن {يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات} وَيكفر عَنهُ ويدخله الْجنَّة قيل فَكيف من قَالَهَا فِي الصِّحَّة فَإِنَّمَا يَقُولهَا فِي الصِّحَّة على تِلْكَ الصّفة الَّتِي هِيَ عِنْد مَوته بعد رياضة نَفسه وَمَوْت شهواته وحرصه ورغبته وَبعد زهادته فِيهَا وصفائه عَن التَّخْلِيط فَهِيَ أهدم وأهدم فَأَما المخلط عبد نهماته وشهواته عبد دُنْيَاهُ عبد درهمه وديناره فَلَا نعلم أَن قَوْله هَذَا يهدم ذنُوبه حَتَّى يصير مغفورا لَهُ بِهَذِهِ الْكَلِمَة لِأَنَّهُ لَا ترجع هَذِه الْكَلِمَة مِنْهُ إِلَى قلب موقن كَمَا اشْترط الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثه بل ترجع هَذِه الْكَلِمَة مِنْهُ إِلَى قلب مفتون بدنياه مأسور بشهوات نَفسه سَكرَان عَن الْآخِرَة حيران عَن الله تَعَالَى فقلبه ميال الى الْهوى وَالْقلب الموقن الَّذِي وَصفه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هُوَ الْقلب الَّذِي اسْتَقر لرَبه وَاطْمَأَنَّ بِحكمِهِ وقنع بقسمه وانقاد لأَمره وشخصت عَيناهُ إِلَى رَحمته قد أيس من كل شَيْء إِلَّا من رَحمته فَهُوَ الَّذِي إِذا قَالَهَا هدمت ذنُوبه لِأَنَّهُ صَادِق فِي قَوْله وَإِنَّمَا سمي الْيَقِين يَقِينا لاستقراره
فِي الْقلب وَهُوَ النُّور يُقَال فِي اللُّغَة يقن المَاء فِي الحفرة أَي اسْتَقر فَإِذا اسْتَقر النُّور دَامَ وَإِذا دَامَ صَارَت النَّفس ذَات بَصِيرَة فاطمأنت فتخلص الْقلب من اشْتِغَاله ودوائره
وَإِنَّمَا اسْتَقر الْيَقِين فِي الْقلب لِأَن العَبْد جَاهد نَفسه فِي الله حق جهاده على الصدْق واليقظة من خدعها والتحرز من آفاتها حَتَّى بلغ بهَا غَايَة الرياضة وَانْقطع عَاجِزا فاستغاث بِاللَّه تَعَالَى صَارِخًا مُضْطَرّا فَأَجَابَهُ فَإِنَّهُ يُجيب الْمُضْطَر ويكشف السوء ويجعله من خلفاء الأَرْض كَذَلِك وعد فِي تَنْزِيله فقذف النُّور فِي قلبه ففلق تِلْكَ الظُّلُمَات الَّتِي ركدت فِي صَدره على قلبه فانكشف الغطاء وَصَارَ أَمر الملكوت لَهُ مُعَاينَة بِقَلْبِه وَهُوَ قَول حَارِثَة لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ كَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عبد نور الله عز وجل الْإِيمَان فِي قلبه وَهَذِه كلمة جَارِيَة فِيمَا جَاءَ فِي الْخَبَر من دَعْوَة إِدْرِيس عليه السلام وَأَن مُوسَى عليه السلام علم ذَلِك فِي زَمَانه وَأَن نَبينَا صلى الله عليه وسلم أعْطى ذَلِك فِي زَمَانه فَكَانَ يَدْعُو بِهن وَهِي قَوْله يَا نور كل شَيْء وهداه أَنْت الَّذِي فلق الظُّلُمَات نوره
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيى وَيُمِيت وَهُوَ على كل شَيْء قدير مخلصا بهَا روحه مُصدقا بهَا لِسَانه وَقَلبه فتقت لَهُ السَّمَاء فتقا حَتَّى ينظر الرب إِلَى قَائِلهَا من أهل الدُّنْيَا وَحقّ لعبد إِذا نظر الله اليه أَن يُعْطِيهِ سؤله
فالروح يخلص من شهوات النَّفس وأسرها وَكَذَلِكَ الْقلب فَإِذا نطق اللِّسَان بِالْكَلِمَةِ لم تنازعه النَّفس وَلَا الْقلب وَلَا الرّوح فَكَانَ ذَلِك صدقا
عَن زيد بن الأرقم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من قَالَ لَا إِلَه
إِلَّا الله مخلصا دخل الْجنَّة قيل يَا رَسُول الله وَمَا إخلاصها قَالَ أَن يحجره عَن الْمَحَارِم وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لِمعَاذ يَا معَاذ أخْلص يَكْفِيك الْقَلِيل من الْعَمَل
وَعَن زيد بن أَرقم أَيْضا رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله عهد إِلَيّ أَن لَا يأتيني أحد من أمتِي بِلَا إِلَه إِلَّا الله لَا يخلط بهَا شَيْئا إِلَّا وَجَبت لَهُ الْجنَّة قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا الَّذِي يخلط بهَا قَالَ حرصا على الدُّنْيَا وجمعا لَهَا ومنعا لَهَا يَقُول بقول الْأَنْبِيَاء وَيعْمل عمل الجبايرة
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا يذكر عَن ربه عز وجل ان الْمُؤمن مني بِعرْض كل خير اني أنزع نَفسه من بَين جَنْبَيْهِ وَهُوَ يحمدني وَالْعَبْد إِنَّمَا يحمد الله وَهُوَ يقبض أعز شَيْء عَلَيْهِ بِمَوْت شهواته وَلِهَذَا إِذا رد إِلَى أرذل الْعُمر وتبرم بِالْحَيَاةِ وَإِذا انْقَطَعت علايقه من الدُّنْيَا وتخلص الْقلب من آفَات النَّفس فَنَطَقَ بِالْكَلِمَةِ الْعَظِيمَة استنار بهَا قلبه واطمأنت بهَا نَفسه وأخلص بهَا روحه فاستوجب الْمَغْفِرَة وَلِهَذَا كَانَ السّلف رحمهم الله يستحبون أَن يلقنوا المحتضر هَذِه الْكَلِمَة ويتعاهدونه بهَا وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لقنوا مَوْتَاكُم شَهَادَة أَن لَا إِلَه إلاالله
فَهَذَا عبد ركبته أهوال الْآخِرَة فرضيت نَفسه بهَا عِنْد الْمَوْت فَنَطَقَ بهَا فغفر لَهُ وَمن رَاض نَفسه أَيَّام حَيَاته فتح لَهُ إِلَى الْغَيْب فركبته أهوال سُلْطَان الله الْكَرِيم وعظيم جَلَاله فَنَطَقَ بهَا عَن مثل ذَلِك الْقلب فَهُوَ للمغفرة أقمن وأخلق
-
الأَصْل السَّابِع
-
فِي تَرْجِيح الرَّجَاء على الْقنُوط
عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْفَاجِر الراجي لرحمة الله تَعَالَى أقرب مِنْهَا من العابد
المقنط لجهله بِاللَّه بعد من رَحْمَة الله وَإِنَّمَا رَجَاء العَبْد بِاللَّه على قدر مَعْرفَته بِاللَّه وَعلمه بجوده وَكَرمه والقنوط من الْجَهْل أَلا يرى إِلَى قَوْله تَعَالَى وَمن يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا الضالون
والمقنط إِنَّمَا يقنط غَيره لقنوطه فَهُوَ ضال عَن ربه وَمَا تغني الْعِبَادَة مَعَ الضَّلَالَة وَقَالَ تَعَالَى إِنَّه لَا ييئس من روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ
واليأس من روح الله فِي الدُّنْيَا عِنْد النوائب والكربات من سوء الظَّن
بِاللَّه تَعَالَى وَمن سَاءَ ظَنّه بِاللَّه انْقَطع عَن الله تَعَالَى وَتعلق بخلقه واستعاذ بالحيل وَلَا يلجأ إِلَى ربه وَكَذَلِكَ القانط من رَحمته قلبه مُتَعَلق بالجهد من الْأَعْمَال طَالبا للنجاة بهَا وَإِذا فكر فِي ذنُوبه ألْقى بيدَيْهِ نَفسه الى التَّهْلُكَة ورفض الْعَمَل
وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ رحمه الله أَنه سُئِلَ عَن الْقنُوط فَقَالَ ترك فَرَائض الله فِي السِّرّ مَعْنَاهُ إِذا تراكمت عَلَيْهِ الذُّنُوب أيس من نَفسه فرفض الْكل وَقَالَ قد اسْتَوْجَبت النَّار وَقد كَانَ وَقع عِنْدِي بعض من رزقة الله الْإِنَابَة فَجعل يَصُوم فَقلت لَهُ مَا هَذَا قَالَ صَوْم شهر رَمَضَان قلت أَو لم تكن تصومه قَالَ لَا قلت لم قَالَ كَانَ أَصْحَابِي لَا يصومونه قلت وهم فِي الكورة مَعنا قَالَ نعم قلت وَمَا حملهمْ على ذَلِك قَالَ كَانُوا يَقُولُونَ عَملنَا هَذِه الْأَعْمَال من سفك الدِّمَاء وَأخذ الْأَمْوَال وَسَائِر الْمعاصِي فَمَا يُغني عَنَّا الصَّوْم وَالصَّلَاة وَكَانُوا لَا يَصُومُونَ رَمَضَان وَلَا يصلونَ المكتوبات إِلَّا على أعين النَّاس يَقُولُونَ قد استوجبنا النَّار فَقلت هَؤُلَاءِ قوم أدركهم سخط الله فقنطوا من رَحمته
عَن جَابر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ خرج علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ خرج من عِنْدِي خليلي جِبْرَائِيل عليه السلام آنِفا فَقَالَ لي يَا مُحَمَّد وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ إِن لله تَعَالَى لعبدا من عباده عبد الله خَمْسمِائَة سنة على رَأس جبل فِي الْبَحْر عرضه وَطوله ثَلَاثُونَ ذِرَاعا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعا وَالْبَحْر مُحِيط بِهِ أَرْبَعَة آلَاف فَرسَخ من كل نَاحيَة وَأخرج الله تَعَالَى لَهُ عينا بِعرْض الإصبع تبض بِمَاء عذب فيستنقع
فِي أَسْفَل ذَلِك الْجَبَل وشجرة رمانة تخرج كل لَيْلَة رمانة فتغذيه يَوْمًا فَإِذا أَمْسَى نزل فَأصَاب من الْوضُوء وَأخذ تِلْكَ الرمانة وأكلها ثمَّ قَامَ لصلاته فَسَالَ ربه عز وجل عِنْد وَقت الْأَجَل أَن يقبضهُ سَاجِدا وَأَن لَا يَجْعَل للْأَرْض وَلَا شَيْء لشَيْء عَلَيْهِ يُفْسِدهُ عَلَيْهِ سَبِيلا حَتَّى يَبْعَثهُ سَاجِدا فَفعل ذَلِك فَنحْن نمر بِهِ إِذا هبطنا وَإِذا عرجنا ونجد فِي الْعلم أَنه يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة فَيُوقف بَين يَدي الله تَعَالَى فَيَقُول الرب عز وجل أدخلُوا عَبدِي الْجنَّة برحمتي فَيَقُول بل بعملي يَا رب فَيَقُول أدخلُوا عَبدِي الْجنَّة برحمتي فَيَقُول بل بعملي يَا رب فَيَقُول للْمَلَائكَة قايسو عمل عَبدِي بنعمي عَلَيْهِ وبعمله فتوجد نعْمَة الْبَصَر قد أحاطت بِعبَادة خَمْسمِائَة سنة وَبقيت نعم الْجَسَد فضلا عَلَيْهِ فَيَقُول أدخلُوا عَبدِي النَّار فينادي يَا رب بِرَحْمَتك أدخلني الْجنَّة فَيَقُول ردُّوهُ فَيُوقف بَين يَدَيْهِ فَيَقُول يَا عَبدِي من خلقك وَلم تَكُ شَيْئا فَيَقُول أَنْت يَا رب فَيَقُول أَفَكَانَ ذَلِك من قبلك أم برحمتي فَيَقُول بل بِرَحْمَتك فَيَقُول من قواك لعبادتي خَمْسمِائَة سنة فَيَقُول أَنْت يَا رب فَيَقُول من أنزلك فِي جبل وسط الْبَحْر وَأخرج لَك المَاء العذب من المَاء المالح وَأخرج لَك كل لَيْلَة رمانة وإنمات تخرج الشَّجَرَة فِي السّنة مرّة وَسَأَلتنِي أَن أقبضك سَاجِدا فَفعلت ذَلِك بك فَيَقُول أَنْت يَا رب فَيَقُول فَذَلِك رَحْمَتي وبرحمتي أدْخلك الْجنَّة أدخلُوا عَبدِي الْجنَّة برحمتي فَنعم العَبْد كنت يَا عَبدِي فَأدْخلهُ الله الْجنَّة قَالَ جِبْرَائِيل عليه السلام إنماالأشياء برحمة الله تَعَالَى يَا مُحَمَّد
عَن زيد بن أسلم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم انه لَيْسَ أحد مِنْكُم ينجيه عمله قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمته
وَهَذَا الَّذِي سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ وَلَا أَنْت كَانَ أَيْضا فِي عمى من هَذَا الْأَمر فَإِن الله تَعَالَى من عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ وَشرح الصَّدْر وكل ذَلِك رَحْمَة مِنْهُ قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا كنت ترجو أَن يلقى إِلَيْك الْكتاب إِلَّا رَحْمَة من رَبك}
-
الأَصْل الثَّامِن
-
فِي بَيَان أَن التَّعَلُّق بالأسباب مَعَ التَّوْحِيد لَا يضر
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا أشْفق من الْحَاجة أَن ينساها جعل فِي يَده خيطا ليذكرها أَو يذكرهُ
الذّكر وَالنِّسْيَان من الله تَعَالَى إِذا شَاءَ ذكر وَإِذا شَاءَ أنسى وربط الْخَيط سَبَب من الْأَسْبَاب لِأَنَّهُ نصب الْعين فَإِذا رَآهُ ذكر مَا نسي فَهَذَا سَبَب مَوْضُوع دبره رب الْعَالمين لِعِبَادِهِ كَسَائِر الْأَسْبَاب تحرز الْأَشْيَاء بالأبواب والأقفال والحراس ويستشفى من الأسقام بالأدوية وتقبض الأرزاق والأقوات بِالطَّلَبِ وكل أَمر بحيلة وَسبب وَالْأَرْض تخرج نباتها بِالْمَاءِ وَهَذَا تَدْبيره فِي عباده وَالْخَيْط وَالذكر والشفاء وإيصال الأرزاق كل ذَلِك
بِيَدِهِ يجريها على الْأَسْبَاب فَأهل الْيَقِين لَا تَضُرهُمْ الْأَسْبَاب وهم الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام يمضون عَلَيْهَا فيحترزون ويتداوون ويحترفون ويحتالون لِأَنَّهُ تَدْبِير الله تَعَالَى كَذَا دبر لِعِبَادِهِ أَن يجْرِي أُمُورهم على الْأَسْبَاب امتحانا مِنْهُ لَهُم لينْظر من يتَعَلَّق قلبه بالأسباب فَتَصِير فتْنَة عَلَيْهِ وَمن يتخلى عَنْهَا فَيكون مَعَ ولي الْأَسْبَاب وخالقها فَيسلم من فتْنَة الْأَسْبَاب لِأَن الْأَسْبَاب لَا تملكه فَإِنَّهُم فِي الْجُمْلَة كلهم آمنُوا واعترفوا بِأَن الْأَشْيَاء كلهَا من الله تَعَالَى ثمَّ صَارُوا على ضَرْبَيْنِ فَضرب مِنْهُم توالت على قُلُوبهم الغفلات وركدت أشغال الشَّهَوَات وظلمتها على قُلُوبهم فحجتهم عَن الانتباه فصاروا كالنيام والسكارى عَن رُؤْيَة هَذَا وَذكره فَإِذا ذكرُوا ذكرُوا فاذا انبهوا انتبهوا ثمَّ عَادوا إِلَى رقدتهم وغفلتهم فَصَارَ ذَلِك لَهُم كالخبر
وَالْآخرُونَ هم أهل الْيَقِين قد خَرجُوا بيقينهم من الْغَفْلَة فالذكر على قُلُوبهم دَائِم والأمور لَهُم مُعَاينَة كَيفَ يجريها وَكَيف يدبرها فَلَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة فَإِن استعملوا الْأَسْبَاب لم تَضُرهُمْ فَكَذَلِك هَذَا الْخَيط لما ربطه صَار نصب عينه عَلامَة إِذا وَقع بَصَره عَلَيْهِ ذكر مَا نسي ثمَّ لَا يَحْجُبهُ ذَلِك الْخَيط عَن صنع الله تَعَالَى انه هُوَ الَّذِي ذكره بِهَذَا الْخَيط وَحين ربطه لم يطمئن إِلَى الْخَيط وَلم يركن ركون أهل الْغَفْلَة بل ربطه ابْتِغَاء مُوَافقَة تَدْبِير الله تَعَالَى الَّذِي وَضعه لِعِبَادِهِ وَكَذَلِكَ تداويه من اسقامه وَطَلَبه لمعاشه وَأَخذه الْجنَّة فِي الْحَرْب وحفره الخَنْدَق من أجل الْعَدو وَظَاهر يَوْم أحد بَين درعين وَلَا يظنّ بِرَسُولِهِ الله صلى الله عليه وسلم انه مَال إِلَى الشَّيْء من الْأَسْبَاب غَفلَة مِقْدَار طرفَة عين
-
الأَصْل التَّاسِع
-
فِي مرتبَة روح الْمُؤمن
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اهتز الْعَرْش لمَوْت سعد بن معَاذ رضي الله عنه وَذكر يَوْمًا عِنْده أَن الْعَرْش اهتز لحب الله لِقَاء سعد فَقَالَ ابْن عمر إِن الْعَرْش لَيْسَ يَهْتَز لمَوْت أحد وَلَكِن سَرِيره الَّذِي حمل عَلَيْهِ
وأحسب أَن ابْن عمر قصد بِمَا دفع من ذَلِك تَعْظِيمًا للعرش فهاب هَذِه الْكَلِمَة إِذْ كَانَ الْعَرْش أَعلَى شَيْء من خلقه وَصفته ومنظره الْأَعْلَى وَمَوْضِع تسبيحه ومظهر ملكه ومبدأ وحيه وَمحل قربه وَلم ينْسب شَيْئا من خلقه كنسبته فَقَالَ ذُو الْعَرْش كَمَا قَالَ ذُو الْجلَال وَذُو الْعِزّ وَذُو الْكِبْرِيَاء وَذُو الْقُدْرَة وَذُو العظمة وَذُو الْبَهَاء وَذُو الرَّحْمَة وَذُو الْملك وَلم يجز أَن يُقَال ذُو السَّمَوَات وَذُو الأَرْض وَذُو
الْكُرْسِيّ وَذُو اللَّوْح فَلم يُعْط كلمة ذُو من خلقه إِلَّا للعرش فَقَط للقرب وَذُو كلمة لحق واتصال وَظُهُور ومبدأ فَكَأَن ابْن عمر رضي الله عنه لحظ إِلَى هَذِه النَّاحِيَة فَدفع أَن يكون يَهْتَز لمَوْت أحد وَأما سَائِر الْعلمَاء فَلَا نعلمهُمْ دفعُوا هَذَا القَوْل فَإِن لِلْمُؤمنِ عِنْد الله تَعَالَى مَرَاتِب علية قد أَتَت بهَا الْأَنْبِيَاء من عِنْد الله تَعَالَى تَنْزِيلا مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَالله ولي الْمُؤمنِينَ}
وَقَول تَعَالَى {ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا}
وَقَوله تَعَالَى {هُوَ مولاكم فَنعم الْمولى وَنعم النصير}
وَقَوله تَعَالَى وَبشر الْمُؤمنِينَ بِأَن لَهُم من الله فضلا كَبِير
وَقَوله تَعَالَى {للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة}
وَقَوله تَعَالَى ولدينا مزِيد
وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عليه وسلم إِن الْمُؤمن أكْرم على الله عز وجل من الْمَلَائِكَة المقربين
وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عليه وسلم الْمُؤمن أعظم حُرْمَة عِنْد الله من الْكَعْبَة
وَمِنْهَا قَول معَاذ بن جبل إِن الْمُتَّقِينَ فِي الْجنَّة لَا يسْتَتر الرب مِنْهُم وَلَا يحتجب
وَمِنْهَا مَا جَاءَ فِي شَأْن الزِّيَارَة فِي الْأَخْبَار وَوضع المنابر والأسرة والكراسي لَهُم على مَرَاتِبهمْ فِي مجْلِس الْجَبَّار جل جلاله فَروِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَا يبْقى أحد يَوْمئِذٍ فِي ذَلِك الْمجْلس إِلَّا حاضره الله تَعَالَى محاضرة حَتَّى أَنه ليقول يَا فلَان أَتَذكر غدرتك يَوْم كَذَا فَيَقُول أَو لم تغفرها لي فَيَقُول بلَى
عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي الدَّرْدَاء رضي الله عنهما قَالَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن فِي بيُوت الْمُؤمنِينَ لمصابيح إِلَى الْعَرْش يعرفهَا مقربو الْمَلَائِكَة من السَّمَوَات السَّبع يَقُولُونَ هَذَا النُّور من بيوتات الْمُؤمنِينَ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا الْقُرْآن وَأعظم بِنور يكون هُنَاكَ فِي نور الْعَرْش مستبينا حَتَّى يعرفهُ مقربوا الْمَلَائِكَة وَاعْتبر فِي الدُّنْيَا بِنور الشَّمْس أَي نور يستبين فِي جنبه فَكيف بِالنورِ الَّذِي يستبين فِي نور الْعَرْش هُنَاكَ
عَن النُّعْمَان بن بشير رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن مَا تذكرُونَ من جلال الله تَعَالَى من تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله يتعاطفن حول الْعَرْش لَهُنَّ دوِي كَدَوِيِّ النَّحْل يذكرن
لصاحبهن أَفلا يحب أحدكُم ان لَا يزَال لَهُ عِنْد الرَّحْمَن جل جلاله شَيْء يذكر بِهِ
وَقد جَاءَت أَحَادِيث فِي وَفَاة سعد بن معَاذ رضي الله عنه تكشف عَن التَّأْوِيل عَن جَابر رضي الله عنه قَالَ اهتز عرش الرَّحْمَن لمَوْت سعد بن معَاذ
وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ افتخر الْحَيَّانِ من الْأَنْصَار الْأَوْس والخزرج فَقَالَت الْأَوْس منا غسيل الْمَلَائِكَة حَنْظَلَة ابْن الراهب وَمنا من اهتز لمَوْته عرش الرَّحْمَن سعد بن معَاذ وَمنا من حمته الدبر عَاصِم بن ثَابت بن الْأَفْلَح وَمنا من اجيزت شَهَادَته بِشَهَادَة رجلَيْنِ خُزَيْمَة بن ثَابت فَقَالَت الْخَزْرَج منا أَرْبَعَة جمعُوا الْقُرْآن لم يجمعه أحد غَيرهم زيد بن ثَابت وَأَبُو زيد وَأبي بن كَعْب ومعاذ بن جبل رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لقد اهتز عرش الرَّحْمَن لوفاة سعد بن معَاذ فَرحا بِهِ فَرحا بِهِ فَرحا بِهِ وَإِذا كَانَ العَبْد يفرح خَالق الْعَرْش بلقائه ففرح الْعَرْش يدق
-
الأَصْل الْعَاشِر
-
فِي أَن الْحِرْص والاعتراض والعجلة شُؤْم
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله أم إِسْمَاعِيل لَو تركت زَمْزَم أَو قَالَ لَو لم تغترف المَاء لكَانَتْ زَمْزَم عينا معينا
أنبأ أَن الْحِرْص دَاخل بِالْفَسَادِ على الْأَشْيَاء لِأَن الْحِرْص من النهمة والآدمي خلق مُحْتَاجا عجولا فَهُوَ ينْتَظر الْأَسْبَاب ويحرص عَلَيْهَا وَإِن كَانَ معترفا على حد الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى أَنه مسبب الْأَسْبَاب وَهَذَا لأهل الْيَقِين أما أهل الْغَفْلَة فهم مفتونون مشغولون بالأسباب عَن خَالق الْأَسْبَاب وَأم اسماعيل أدركتها الضَّرُورَة مَعَ كربَة الغربة فَأخذت تعدو فِي طلب المَاء هَكَذَا وَهَكَذَا وتستغيث فَلَمَّا جاءها الغياث أدركتها العجلة فاغترفت وأحرزته فِي وعائها فَانْقَطع المدد فَأخْبر
رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا لَو اطمأنت فِي ذَلِك الْوَقْت إِلَى من أجْرى لَهَا ذَلِك لجرت وَبقيت جَارِيَة لَكِنَّهَا شغلت بالموجود عَن الَّذِي أوجده وحملتها النَّفس على الْإِحْرَاز لتطمئن بِهِ وَهُوَ قَول سلمَان رضي الله عنه حَيْثُ رُؤِيَ يحمل جرابا فَقيل لَهُ مَا هَذَا يَا أَبَا عبد الله قَالَ إِن النَّفس إِذا أحرزت قوتها اطمأنت فَهَذَا عمل النَّفس وَلَيْسَ عمل الْقلب لِأَن الْقلب موقن أَن الرزق هُوَ الَّذِي يوصله الله تَعَالَى إِلَيْهِ فِي وقته وَالنَّفس فِي عماها وظلمتها تزْعم ان الرزق هُوَ الَّذِي توعيه فِي جرابها فصاحبه فِي بلَاء من وسوسته وتقاضيه فَإِذا أَرَادَ صَاحبه أَن يتَخَلَّص من وسوسته أسعفها بذلك كَمَا فعل سلمَان رضي الله عنه فيطمئن إِلَى ذَلِك
وَقد يهيء الله تَعَالَى لَهُ الرزق الْمَكْتُوب من غير ذَلِك الَّذِي هيأه فِي جرابه وَالَّذِي أوعاه يُسَلط عَلَيْهِ غَيره فَيصير رزق غَيره حَتَّى يتَبَيَّن كذبهَا وجهلها فَمن أحرز ذَلِك فلطمأنينة نَفسه والخلاص من وسواسها وَهَذَا فعل يدْخل فِيهِ نقص على أهل التَّوَكُّل والأنبياء والأولياء عليهم السلام
والعارفون فِي خلو من هَذَا لِأَن الشَّهَوَات مِنْهُم قد مَاتَت وَالنَّفس قد اطمأنت بخالقها والقلوب مِنْهُم قد حييت بِاللَّه تَعَالَى والصدور مِنْهُم قد أشرقت بِنور الله تَعَالَى والأركان مِنْهُم قد خَشَعت لله تَعَالَى فَسَوَاء عَلَيْهِم أحرزوا أَو لم يحرزوا فَإِن أحرزوا فَلَيْسَ ذَلِك مِنْهُم إحرازا إِنَّمَا هُوَ شَيْء قد ائتمنوا عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ من الله تَعَالَى بأمانة وقفوها على نَوَائِب الْحق سبحانه وتعالى قد امْتَلَأت قُلُوبهم من عَظمَة الله تَعَالَى فَلم يبْق للدنيا بِمَا فِيهَا مَوضِع إبرة تُوجد حلاوتها ولذتها وشهوتها هُنَالك فقد ارْتَفَعت فكر شَأْن الأرزاق والمعاش عَن قُلُوبهم وتعلقت نُفُوسهم بقلوبهم وتعلقت قُلُوبهم بخالق الأرزاق وعالم التَّدْبِير فَقَالُوا حَسبنَا الله فَخرجت هَذِه الْكَلِمَة مِنْهُم من قلب حَيّ بِاللَّه تَعَالَى على سُكُون من النَّفس فَلم يبْق فِي صُدُورهمْ اخْتِلَاج وَلَا تنَازع وَلَا ريب فاستقرت الْأَركان فَمَتَى مَا وَقع
بِأَيْدِيهِم شَيْء من الدُّنْيَا لم يحبسوها لأَنْفُسِهِمْ وعدوها أَمَانَة قد ائتمنهم الله عَلَيْهَا كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَنا خَازِن أقسم وَالله يُعْطي فَأَنا أَبُو الْقَاسِم أقسم وَالله يُعْطي
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يدّخر شَيْئا لغد وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ كنت خَادِم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عشر سِنِين فأهدي لَهُ طيران فتعشى بِأَحَدِهِمَا وخبأت لَهُ أم أَيمن الآخر فَلَمَّا أصبح قَالَ يَا أم أَيمن هَل عنْدك من غداء قَالَت أحد الطيرين قَالَ يَا أم أَيمن أما علمت أَن أخي عِيسَى عليه السلام كَانَ لَا يخبأ عشَاء لغداء وَلَا غداء لعشاء يَأْكُل من ورق الشّجر وَيشْرب من مَاء الْمَطَر يلبس المسوح ويبيت حَيْثُ يُمْسِي وَيَقُول يَأْتِي كل يَوْم برزقه قَالَت يَا رَسُول الله لَا اخبأ لَك شَيْئا بعْدهَا
عَن عَائِشَة رضي الله عنها أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ أطعمنَا يَا بِلَال قَالَ مَا عِنْدِي إِلَّا صَبر من تمر خبأته لَك فَقَالَ أما تخشى أَن يخسف الله بِهِ نَار جَهَنَّم أنْفق يَا بِلَال وَلَا تخش من ذِي الْعَرْش إقلالا وخبأت أم سَلمَة قدرَة من لحم لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَوَضَعته
فِي كوَّة فَلَمَّا دخل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قربته إِلَيْهِ فَإِذا هِيَ قِطْعَة كدانة أَو حجر فَلَمَّا رَآهُ قَالَ هَل سَأَلَ بِالْبَابِ سَائل قَالَت نعم قَالَ فَمن أجل ذَلِك أَو كَمَا قَالَ
عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَو توكلتم على الله عز وجل حق توكله لرزقكم كَمَا يرْزق الطير تَغْدُو خماصا وَتَروح بطانا قَالَ فِي تَنْزِيله {وكأين من دَابَّة لَا تحمل رزقها الله يرزقها}
ثمَّ قَالَ وَإِيَّاكُم أخبر أَن المتَوَكل يرْزق كَمَا يرْزق الطير قَالَ لَهُ قَائِل فَإِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَدخل قوت سنة لِعِيَالِهِ وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بذلك من فعله أجَاب وَقَالَ لَيْسَ الإدخال من الادخار فِي شَيْء إِنَّمَا قسم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَال خَبِير مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْهِ فَأدْخل لِعِيَالِهِ من الْخمس قوتهم وَكَذَلِكَ من فَيْء قُرَيْظَة وَالنضير وَتلك أَمَانَة ائتمنه الله عَلَيْهَا وسلطه على ذَلِك وصرفها فِي نَوَائِب الْحق وَالْقلب مِنْهَا خَال ملك
من الْمُلُوك غَنِي بِاللَّه حر من الْأَحْرَار فَمَاذَا ضره وَهل كَانَ سَبِيل ذَلِك المَال الَّذِي أُوتِيَ إِلَّا هَكَذَا أَن يصرفهُ فِي نَوَائِب الْحق فَصَرفهُ فِي الكراع وَالسِّلَاح وَفِي ذَوي الْحَاجَات من الأباعد فَمَا باله يحرم عِيَاله فَلم يجئك فِي الْخَبَر أَنه أَدخل قوت سنة لنَفسِهِ إِنَّمَا ذَلِك لِعِيَالِهِ وَعِيَاله كَسَائِر النَّاس وَلَا يحمل عِيَاله مَا لَا يطيقُونَهُ وَإِنَّمَا يُطيق هَذَا الْأَنْبِيَاء والأولياء وَأهل الْيَقِين الَّذين بهم تقوم الأَرْض قد طهرت قُلُوبهم وتنزهت نُفُوسهم من تُهْمَة الله تَعَالَى أَلا ترى إِلَى قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ لَهُ ذَلِك الرجل أوصني بِوَصِيَّة قَصِيرَة قَالَ اذْهَبْ فَلَا تتهم الله فِي نَفسك
وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يخزن مَا يَقع بِيَدِهِ من المَال لنوائب الْحق لَا لنَفسِهِ وَقد كَانَ يصرفهَا فِي السِّلَاح والكراع لحاجتهم فِي ذَلِك الْوَقْت إِلَى ذَلِك فَكَانَ يرفع مِقْدَار قوت نِسَائِهِ ليعلم مَا يبْقى هُنَالك فيصرفه فِي هَذِه الْوُجُوه
وَقد أَمر الله تَعَالَى بخزن الْأَمْوَال وحفطها فَقَالَ تَعَالَى وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم الَّتِي جعل قيَاما فَإِذا أحرزه فَإِنَّمَا يحرزه لما يَنُوب من حُقُوق الله تَعَالَى حَتَّى يصرفهُ فِيهِ فَهُوَ مأجور فِيهِ وخازن من خزانه وَمن أحرزه ليتخذه عدَّة لنوائب نَفسه ودنياه وَهُوَ فِي نقص وإدبار وخذلان من الله تَعَالَى وَمَسْئُول غَدا عَن كل دِرْهَم من أَيْن وَلم وَفِي أَيْن فَمَا قسم لِعِيَالِهِ كَانَ مثل مَا قسم لغيره فَإِنَّهُ إِحْدَى نَوَائِب الْحق وَلِأَن نفوس أَزوَاجه كَانَت لَا تطمئِن إِلَّا على الْإِحْرَاز فَلم يكلفهن مَا لَيْسَ ذَلِك لَهُنَّ مقَام وَإِنَّمَا زجر بِلَالًا فِي حَدِيثه لِأَنَّهُ قَالَ خبأته لَك وَكَذَلِكَ أم أَيمن وَأم سَلمَة فَإِنَّهَا قَالَت خبأته لَك
فَأَما عِيَاله فقد كَانَ يبْعَث إِلَيْهِم بِمَا يبْقى عِنْدهم أَيَّامًا فَأَما أم اسماعيل فَإِن فعلهَا كَانَ فِي حَال الضَّرُورَة فَلَمَّا زَالَت الضَّرُورَة أَخَذتهَا عجلة النَّفس فَجَعَلته فِي الْوِعَاء فَامْتنعَ مَا ظهر فَانْقَطع المدد وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك بدؤه من الْكِرَام فَلَو تَلقاهُ كرم الْآدَمِيَّة لَكَانَ شكرا والشاكر يسْتَحق الْمَزِيد ولكان يجْرِي وَلَا يَنْقَطِع المدد وَلكنهَا تَلَقَّتْهُ بلؤم النَّفس فَإِن النَّفس لئيمة فتراجع الْكَرم وَأعْرض موليا لما لم يجد لَهُ قَابلا يحسن قبُوله وَكَانَت تِلْكَ عين سوغ الله عز وجل لَهَا مخرجها من الْجنَّة إِلَى تِلْكَ الْبقْعَة من دَار الدُّنْيَا وَبعث جِبْرَائِيل عليه السلام فَكَانَت مِنْهُ هزمة بعقبه فانبعث المَاء فَكَانَ ذَلِك من كرم رَبنَا عاملها على بغيتها فَكَانَ اللَّائِق بِهَذَا الْفِعْل أَن تَأْخُذ مِنْهَا حَاجَتهَا على تؤدة وإناءة وسعة صدر وحياء وتكرم وتعفف وَتَذَر مَا بَقِي بَين يَدي من أجراه حَتَّى تنظر مَا يدبر فِيهِ فَلَمَّا عجلت وَأخذت تدبر لنَفسهَا فعلت فعلا غير لَائِق بكرم رَبنَا عز اسْمه وجلت قدرته وَرَحمته
وَمِثَال ذَلِك فِي الْآدَمِيّين مَوْجُود فِيمَا بَينهم فَلَو أَن ملكا من مُلُوك الدُّنْيَا نظر إِلَيْك فِي وَقت حَاجَتك إِلَى شَيْء فرحمك كَأَنَّهُ رآك جائعا فَهَيَّأَ لَك مائدة عَلَيْهَا ألوان الطَّعَام لتأْخذ مِنْهَا حَاجَتك فَجعلت تَأْكُل لقْمَة وتضع لقْمَة تَحت الْمَائِدَة تخزنها لنَفسك أَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يضعك عِنْده وَلَو نظر إِلَيْك وَقت حَاجَتك إِلَى كسْوَة فَفتح عَلَيْك بَاب خزانته لتكتسي مِنْهَا كسوتك فَرفعت مِنْهَا كسوتك ثمَّ مددت يدك بالعجلة والحرص إِلَى أَثوَاب لتخزنها فَرفعت مِنْهَا فِي بَيْتك وعندك أَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يضعك عِنْده وأريته من نَفسك أَنَّك اتهمته على نَفسك فَأَنت إِذا نطقت وَقلت أَنْت خير لي من نَفسِي ألم يكن يضع ذَلِك القَوْل مِنْك على الهذيان وَيَقُول فِي نَفسه فَإِن كنت أَنا خيرا لَك من نَفسك فَمَا الَّذِي حملك على أَن مددت يدك إِلَى مَا لَا تحْتَاج إِلَيْهِ من الفضول تُرِيدُ أَن تخزنه لنَفسك دوني فَإِذا كَانَ هَذَا سمجا قبيجا عِنْد مُلُوك الدُّنْيَا فَكيف بِمن يُعَامل رب الْعَالمين بِمثل هَذَا فَكلما أَعْطَاك من الدُّنْيَا شَيْئا فتناولته
على غير حد الْأَمَانَة فَأَنت فِي هَذَا اللؤم من الْفرق الى الْقدَم حَتَّى تَأْخُذهُ على سَبِيل أَنه مَاله ائتمنك عَلَيْهِ لتصرفه فِي نَوَائِب حُقُوقه
فَأول حُقُوقه نَفسك وَعِيَالك ثمَّ أرحامك وجيرتك ثمَّ نَوَائِب الْحق الَّتِي تنوبك وَاحِد على اثر وَاحِد وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيْثُ سُئِلَ فَقيل يَا رَسُول الله إِنِّي أصبت دِينَارا قَالَ أنفقهُ على نَفسك قَالَ أصبت آخر فَلم يزل يَقُول أصبت آخر وَهُوَ يَأْمُرهُ بصرفه فِي وَجه حَتَّى كَانَ فِي السَّابِعَة قَالَ أصبت آخر قَالَ أنفقهُ فِي سَبِيل الله وَذَلِكَ أخسهن وأدناهن أجرا فَإِذا تناولته على حرص وشره تناولته لغير الله فاحرازك لؤم ودناءة وظلمة يعود على الْقلب ودنس على الْفُؤَاد وسقم فِي الْإِيمَان وسم فِي الطَّاعَات وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا سلمَان قل اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك صِحَة فِي إِيمَان
فَهَل يَأْمُرهُ بسؤال الصِّحَّة فِي الْإِيمَان إِلَّا من سقم لِأَنَّهُ رأى فِي سلمَان مَا قَالَ إِن النَّفس إِذا أحرزت قوتها اطمأنت فَمن كَانَت نَفسه مطمئنة بالأحوال فَهَذَا سَبيله وَمن كَانَت نَفسه مطمئنة بربه فَلَو أعْطى الدُّنْيَا إِلَيْهَا كلهَا لم يلْتَفت إِلَيْهَا وَكَانَ عَيناهُ إِلَى ربه وسكونه إِلَيْهِ وَكَانَ فعل أبي بكر رضي الله عنه يدل على أَنه مِمَّن هُوَ بِهَذَا مَوْصُوف وَرُوِيَ لنا أَن أَبَا بكر رضي الله عنه تَلا هَذِه الْآيَة بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية}
فَقَالَ مَا أحسن هَذَا يَا رَسُول الله فَقَالَ يَا أَبَا بكر أما أَن الْملك سيقولها لَك عِنْد الْمَوْت
فَهَذِهِ نفس رضيت عَن الله تَعَالَى بِجَمِيعِ مَا دبر لَهَا من المحبوب وَالْمَكْرُوه لِأَنَّهَا لذت بجوار الله تَعَالَى وقربه فَلَهَتْ عَن لذاتها الدنياوية فَرضِي الله عَنْهَا وبشرت عِنْد الْمَوْت بذلك
فَأَما قَوْله لكَانَتْ زَمْزَم عينا معينا أَي مرئيا ظَاهرا تجْرِي والمعين أَن يعاين بالعيون مَعْنَاهُ أَنه لَا يركد وَلَكِن يجْرِي حَتَّى يعاينوه فَبَقيَ عينا وَلبس بِمعين لفعل أم إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام
-
الأَصْل الْحَادِي عشر
-
فِي حد التَّأْدِيب فِي المماليك
عَن ابْن عمر رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول لَا تضربوا الرَّقِيق فانكم لَا تَدْرُونَ مَا توافقون
قد ندب الله تَعَالَى الْعباد إِلَى تَأْدِيب أَهْليهمْ فَقَالَ {قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة}
فوقايتك نَفسك وَأهْلك أَن تعظها وتزجرها عَن عمل يوردها النَّار وتقيم أودهم بأنواع الْأَدَب فَمن الْأَدَب الْوَعيد وَمِنْه الضَّرْب وَحبس الْمَنَافِع وَمِنْه الرِّفْق والعطية والنوال وَالْبر فَإِن ذَلِك رُبمَا كَانَ ادّعى لَهُم من الْوَعيد وَالضَّرْب وَبَين النُّفُوس تفَاوت فَنَفْس تضرع وتخضع بِالْبرِّ والعطية وَنَفس تضرع وتخضع بالغلظة والشدة وَلَو اسْتعْملت مَعهَا الرِّفْق وَالْبر لأفسدتها وَنَفس بِالْعَكْسِ من ذَلِك وَقد جعل الله تَعَالَى الْحُدُود أدبا
لِعِبَادِهِ ومزجرة للآخرين وَمن دون الْحُدُود التَّعْزِير على قدر مَا يأْتونَ من الْمُنكر وَقد جعل الله تَعَالَى ممر الْمُوَحِّدين إِلَى الْجنَّة على النَّار فَقَالَ تَعَالَى {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها} الْآيَتَيْنِ فأدب الْأَحْرَار إِلَى السُّلْطَان وأدب العبيد والمماليك وَالْأَوْلَاد إِلَى السادات والآباء
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لِأَن يُؤَدب أحدكُم وَلَده خير لَهُ من أَن يتَصَدَّق كل يَوْم بِنصْف صَاع وَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا نحل وَالِد وَلَده أفضل من أدب حسن وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِذا زنت أمة أحدكُم فليجلدها
فَأَما قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لاتضربوا الرَّقِيق فخليق أَن يكون إِنَّمَا نهى عَن ضَربهمْ على غضب الْمولى لنَفسِهِ فِي نفع أَو ضرّ لَا لله تَعَالَى وَأما إِذا ضربه تأديبا ليقومه لِئَلَّا يَعْصِي الله تَعَالَى فِي أُمُوره وَلِئَلَّا يعْصى الْمولى فِي أُمُوره اللَّازِمَة لَهُ فَإِن عصيانه وتضييع أُمُوره مَعْصِيّة لله تَعَالَى فَذَاك مِمَّا يجب عَلَيْهِ وَهُوَ دَاخل فِي قَوْله تَعَالَى {قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا}
عَن زيد بن أسلم رضي الله عنه قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله مَا تَقول فِي ضرب المماليك قَالَ إِن كَانَ ذَلِك فِي كنهه وَإِلَّا قيد مِنْكُم يَوْم الْقِيَامَة قيل يَا رَسُول الله مَا تَقول فِي سبهم قَالَ مثل ذَلِك قيل يَا رَسُول الله فَإنَّا نعاقب أَوْلَادنَا ونسبهم قَالَ إِنَّهُم لَيْسُوا مثل أَوْلَادكُم إِنَّكُم لَا تتهمون على أَوْلَادكُم
عَن عبيد الله بن رِفَاعَة بن رَافع الزرقي عَن أَبِيه رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله كَيفَ ترى فِي رقيقنا أَقوام مُسلمُونَ يصلونَ صَلَاتنَا وَيَصُومُونَ صيامنا نضربهم فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُوزن ذنبهم وعقوبتكم إيَّاهُم فَإِن كَانَت عقوبتكم أَكثر من ذنبهم أخذُوا مِنْكُم قَالَ أَفَرَأَيْت سبنا إيَّاهُم قَالَ يُوزن ذنبهم وأذاكم إيَّاهُم فَإِن كَانَ أذاكم أَكثر اعطوا مِنْكُم قَالَ الرجل مَا اسْمَع عدوا أقرب إِلَى مِنْهُم
فَتلا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وجعنا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبك بَصيرًا فَقَالَ الرجل أَرَأَيْت يَا رَسُول الله وَلَدي أضربه قَالَ إِنَّك لَا تتهم فِي ولدك لَا تطيب نفسا تشبع وتجوع وتكتسى وتعرى
عَن زِيَاد بن أبي زِيَاد رضي الله عنه قَالَ جَاءَ رجل فَقَالَ يارسول الله إِن لي مَالا وَإِن لي خدما وَإِنِّي أغضب فأعزم وأشتم وأضرب فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم توزن ذنُوبه بعقوبتك فَإِن كَانَت سَوَاء فَلَا لَك وَلَا عَلَيْك وَإِن كَانَت الْعقُوبَة أَكثر فَإِنَّمَا هُوَ شَيْء يُؤْخَذ من حَسَنَاتك يَوْم الْقِيَامَة فَقَالَ الرجل أوه أوه يُؤْخَذ من حسناتي قَالَ فحسبت مَاذَا ألم تسمع إِلَى قَول الله عز وجل {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة}
فَحَدِيث ابْن عمر رضي الله عنهما لَا تضربوا الرَّقِيق مَحْمُول على أَنه لَا يضْربهُ للتشفي من غيظه فَإِنَّهُ لَا يدرى مَا يُوَافق الضَّرْبَة من أَعْضَائِهِ فَرُبمَا وَقعت على عين ففقأها وَرُبمَا وَقعت على عُضْو فَكَسرهُ وَرُبمَا وَقعت على صدر أَو خاصرة فَقتل أما التَّأْدِيب لله تَعَالَى فَهُوَ تَقْوِيم للملوك وَهُوَ مأجور عَلَيْهِ وَقد قَالَ صلى الله عليه وسلم كلكُمْ رَاع وكلكم مسئول عَن رَعيته
وَمن أدب لله تَعَالَى فَمَاتَ فِي ذَلِك الْأَدَب لم يؤاحذ بِهِ إِذا كَانَ ذَلِك حدا مَعْلُوما فَضَربهُ وَلم يُجَاوز وَلم يَتَعَدَّ فِيهِ
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ من لاءمكم من رقيقكم فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تطْعمُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تكتسون وَمن لَا فبيعوهم وَلَا تعذبوا خلق الله
فالضرب الْمَحْمُود مَا كَانَ لله تَعَالَى وَالضَّرْب الْمَحْجُور مَا كَانَ للنَّفس وَالنَّاس فِي هَذَا على طَبَقَات فَمن كَانَ قلبه لله تَعَالَى أمكنه أَن يؤدبه فِي أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لله تَعَالَى وَمن لم يكن قلبه لله تَعَالَى وَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ هَوَاهُ وَنَفسه لم يُمكنهُ أَن يضْربهُ إِلَّا فِي أَمر الدّين فَقَط حَتَّى يكون لله تَعَالَى
وَأما فِي أَمر الدُّنْيَا من ضرّ أَو نفع فَلَا قوام لَهُ فِي تأديبه لِأَنَّهُ إِنَّمَا يغْضب لنَفسِهِ أَلا ترى أَنه لما ارْتَفَعت التُّهْمَة فِي شَأْن الْوَلَد ذهب الْقصاص لِأَن ذَلِك لله تَعَالَى وَذهب نصيب النَّفس وَكَذَا الْيَتِيم
وَعَن بِلَال رضي الله عنه قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله إِن فِي حجري يَتِيما أَفَأَضْرِبهُ قَالَ نعم مِمَّا تضرب مِنْهُ ولدك
-
الأَصْل الثَّانِي عشر
-
فِي تَعْجِيل إِعْطَاء اجرة الْأَجِير
عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أعْط الْأَجِير أجره من قبل أَن يجِف عرقه وَذَلِكَ أَن أجرته عمالة جسده
وَجَاء عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَمَا يحْكى عَن الله عز وجل أَنه قَالَ ثَلَاثَة أَنا خصمهم وَمن كنت خَصمه خصمته من بَاعَ حرا وَأكل ثمنه أَو ظلم أَجِيرا أجره أَو ظلم امْرَأَة مهرهَا
فَهَؤُلَاءِ كلهم أَحْرَار وَهِي أَثمَان نُفُوسهم فخصمهم مالكهم فَلذَلِك أَمر بتعجيل أجره لِأَنَّهُ عجل منفعَته وَمن شَأْن الباعة إِذا سلمُوا الْمَبِيع قبضوا الثّمن عِنْد التَّسْلِيم فَهَذَا أَحَق وَأولى إِذا كَانَ ثمن مهجته لَا ثمن سلْعَته
-
الأَصْل الثَّالِث عشر
-
فِي الْعين المؤمنة إِذا رَأَتْ مُنْكرا
عَن الْحُسَيْن بن عَليّ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يَنْبَغِي لعين مُؤمنَة ترى أَن يعْصى الله تَعَالَى فَلَا تنكر عَلَيْهِ
فالإيمان قد اشْتَمَل على الْجَوَارِح السَّبع اللائي أَخذ عَلَيْهِنَّ الْعَهْد والميثاق وائتمن العَبْد عَلَيْهِنَّ ووكل برعايتهن ومستقره فِي الْقلب والشهوة فِي النَّفس وسلطانها فِي الصَّدْر ثمَّ يتَأَدَّى الى هَذِه الْجَوَارِح السَّبع فَمن صدق الْإِيمَان أَن يكون سُلْطَان كل حارجة منطفئا بِمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من سُلْطَان الْإِيمَان فَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد ملك نَفسه فَلَا يسْتَعْمل شَهْوَة بجارحة من الْجَوَارِح السَّبع إِلَّا فِيمَا أذن الله لَهُ فِيهِ وَإِذا رأى غَيره يستعملها فِيمَا لم يَأْذَن بِهِ الله أنكرهُ وَالْإِنْكَار على ثَلَاثَة منَازِل فمنكر بِقَلْبِه وَلسَانه وَيَده ومنكر بِقَلْبِه وَلسَانه ومنكر بِقَلْبِه
وَرُوِيَ ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الْجِهَاد ثَلَاثَة جِهَاد بِالْيَدِ وَاللِّسَان وَالْقلب وَجِهَاد بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان وَجِهَاد بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ
أَضْعَف الْإِيمَان فَأول مَا يكل جِهَاد الْيَد ثمَّ جِهَاد اللِّسَان ثمَّ جِهَاد الْقلب حَتَّى لَا يُنكر مُنكر
عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ لله نَبِي إِلَّا وَله حواريون يهْدُونَ بهديه ويستنون بسنته ثمَّ يكون من بعده خلوف يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ويعملون مَا يُنكرُونَ فَمن جاهدهم بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤمن وَمن جاهدهم بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤمن وَمن جاهدهم بِقَلْبِه فَهُوَ مُؤمن وَلَيْسَ وَرَاء ذَلِك مِثْقَال حَبَّة من الْإِيمَان
وَهُوَ كَمَا وصف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن شَأْن بني إِسْرَائِيل حِين أحدثت الْمُلُوك فِي دينهم الْأَحْدَاث وَأَن أهل الْهدى صَارُوا ثَلَاث فرق وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي الأَصْل الْخَامِس فِي الحَدِيث الَّذِي نهى عَن القزع فِيهِ
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَيْسَ لمُؤْمِن أَن يذل نَفسه قَالُوا وَكَيف يذل نَفسه قَالَ يتَكَلَّف من الْبلَاء مَا لَا يُطيق
مَعْنَاهُ إِذا علم أَنه إِن غيرالمنكر على الْقوي ابتلى بِهِ كف عَنهُ وَأنكر بِقَلْبِه لِأَن مَا يفْسد أَكثر مِمَّا يصلح
عَن أبي أُميَّة الشَّعْبَانِي رضي الله عنه قَالَ سَأَلت أَبَا ثَعْلَبَة الْخُشَنِي عَن هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم} فَقَالَ لي لقد سَأَلت عَنْهَا خَبِيرا سَأَلت عَنْهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا أَبَا ثَعْلَبَة ائْتَمرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهوا عَن الْمُنكر فَإِذا رَأَيْت دنيا مُؤثرَة وشحا مُطَاعًا وَإِعْجَاب كل ذِي رَأْي بِرَأْيهِ فَعَلَيْك نَفسك فَإِن من بعدكم أَيَّام الصَّبْر المتمسك يَوْمئِذٍ بِمثل الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ لَهُ كَأَجر خمسين عَاملا قَالُوا يَا رَسُول الله كأجرخمسين عَاملا مِنْهُم قَالَ لَا بل مِنْكُم
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم المتمسك بِسنتي عِنْد اخْتِلَاف أمتِي كالقابض على الْجَمْر
-
الأَصْل الرَّابِع عشر
-
فِي سر قَوْله صلى الله عليه وسلم لَا تأمنن على أحد بعدِي
عَن أبي عُبَيْدَة بن الْجراح رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا أَبَا عُبَيْدَة لَا تأمنن على أحد بعدِي
كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مأمن الْخلق ومفزعهم لَهُ عطف الْآبَاء وشفقة الْأُمَّهَات وَرَحْمَة الوالدات وَشهد الله لَهُ فِي تَنْزِيله أعظم شَهَادَة فَقَالَ عز من قَائِل عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيم قد حشي بالرأفة وَالرَّحْمَة والنصيحة لله تَعَالَى فِي خلقه واسنتار قلبه بِنور الله تَعَالَى فدقت الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا فِي عينه وَصغر عِنْده بذل نَفسه لله فِي جنب الله فَكَانَ مفزعا وَكَانَ مأمنا وَكَانَ غياثا وَكَانَ رَحْمَة وَكَانَ أَمَانًا فَأَما المفزع فَقَالَ فِي تَنْزِيله عز من قَائِل وَلَو أَنهم إِذْ ظلمُوا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لَهُم الرَّسُول لوجدوا الله تَوَّابًا رحِيما
وَفِي المأمن قَوْله عز وجل {مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى وَمَا ينْطق عَن الْهوى}
وَفِي الغياث قَوْله تَعَالَى {وكنتم على شفا حُفْرَة من النَّار فأنقذكم مِنْهَا} وَفِي الرَّحْمَة قَوْله تَعَالَى وَمَا أرسناك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين وَفِي الْأمان قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم
وَلَيْسَ لأحد بعد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم هَذَا الْمقَام صديقا كَانَ أَو فاروقا أَو أَمينا فَلذَلِك قَالَ لَا تأمنن على أحد بعدِي أَي كأمنك عَليّ فَلَيْسَ لمن بعده عصمَة الرُّسُل عليهم السلام أَلا ترى أَن أَبَا بكر رضي الله عنه خطب النَّاس فَقَالَ إِن لي شَيْطَانا يَعْتَرِينِي فاجتنبوني إِذا غضِبت لَا أوثر فِي أَشْعَاركُم وَأَبْشَاركُمْ وَإِذا زِغْت فقوموني
وَقيل لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد وكل بِهِ قرينه من الشَّيْطَان قَالُوا ومعك يَا رَسُول الله قَالَ وَمَعِي وَلَكِن الله أعانني عَلَيْهِ فَأسلم وَكَانَ الله عصمه وأقامه على أدب الْقُرْآن وَقَالَ {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم}
وَرُوِيَ عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه أَرَادَ قتل بعض الْمُشْركين العتاة وَكَانَ أَمرهم أَن يقتلوه وَإِن وجدوه مُتَعَلقا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة فجَاء بِهِ عُثْمَان رضي الله عنه يسْأَل لَهُ الْأمان فَسكت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ سَأَلَهُ فَسكت ثمَّ سَأَلَهُ ثَالِثَة فَأعْطَاهُ الْأمان وَقَالَ انتظرت أَن يقوم أحدكُم فَيضْرب عُنُقه قَالُوا فَهَلا أَو مأت يَا رَسُول الله قَالَ إِنَّه لَا يَنْبَغِي لنَبِيّ أَن يكون لَهُ خَائِنَة عين
وَعَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يلْتَفت وَرَاءه إِذا مَشى وَرُبمَا تعلق رِدَاؤُهُ بالشَّيْء أَو بِالشَّجَرِ فَلَا يلْتَفت حَتَّى يضعوه عَلَيْهِ لأَنهم كَانُوا يمزحون وَيضْحَكُونَ فَكَانُوا قد أمنُوا التفاته
عَن هِنْد بن أبي هَالة قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا الْتفت التفتوا جَمِيعًا
-
الأَصْل الْخَامِس عشر
-
فِي تَحْقِيق التهديد على زوارات الْقُبُور
عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ قبرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَلَمَّا انْصَرف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم انصرفنا مَعَه فَلَمَّا حَاذَى بَابه وقف وتوسط الطَّرِيق فَإِذا هُوَ بِامْرَأَة مقبلة لَا نظنه عرفهَا فَلَمَّا دنت إِذا هِيَ فَاطِمَة فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا أخرجك يَا فَاطِمَة من بَيْتك قَالَت أتيت أهل هَذَا الْمَيِّت فرحمت إِلَيْهِم ميتهم أَو عزيتهم لَا يحفظ ربيعَة أَي ذَلِك قَالَ فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فلعلك بلغت مَعَهم الكدا قَالَت معَاذ الله وَقد سَمِعتك تذكر فيهم مَا تذكر قَالَ لَو بلغت مَعَهم الكدا مَا رَأَيْت الْجنَّة حَتَّى يَرَاهَا جدك أَبُو أَبِيك
قَالَ قُتَيْبَة الكدا الْمقْبرَة بعث الله مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بمحو آثَار الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ من شَأْنهمْ إِذا مَاتَ لَهُم ميت أَن يخمشوا الْوُجُوه وينتفوا
الشُّعُور ويشقوا الْجُيُوب ويخرقوا الْبيُوت فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ منا من حلق أَو خرق أَو سلق
وَلمن فِي حَدِيث آخر ناشرات الشُّعُور واللاتي ينعون بِأَصْوَات الْحمير ونهاهم عَن زِيَارَة الْقُبُور لحداثة عَهدهم بالْكفْر لما فِي زِيَارَة الْقُبُور من الْفِتْنَة حَتَّى استحكم إسْلَامهمْ وصاروا أهل يَقِين وبر وتقوى وَصَارَت الْقُبُور لَهُم مُعْتَبرا بعد أَن كَانَ مفتتنا خلى عَنْهُم وَقَالَ صلى الله عليه وسلم كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها فَإِن لكم فِيهَا مُعْتَبرا
وَسكت عَن ذكر النِّسَاء لضعفهن ورقتهن وَسُرْعَة افتتانهن وَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا رَأَيْت من نواقص عقول وَدين أغلب للرِّجَال مِنْهُنَّ فَقيل مَا نُقْصَان عقولهن ودينهن يَا رَسُول الله قَالَ أما نُقْصَان عقولهن فشهادة امْرَأتَيْنِ بِشَهَادَة رجل وَأما نُقْصَان دينهن فَترك الصَّلَاة وَالصَّوْم فِي الْحيض
وبايعهن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْم فتح مَكَّة على مَا نطق بِهِ التَّنْزِيل من قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف فبايعهن}
وَأخذ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْبيعَة أَن لَا يَنحن عَن أم عَطِيَّة رضي الله عنها قَالَت أَخذ علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْبيعَة أَن لَا ننوح فَمَا وفت منا امْرَأَة إِلَّا سبع نسْوَة مِنْهُنَّ أم سليم وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يمنعهن عَن حُضُور الْجَنَائِز وَفِي حَدِيث بكار بن عبد الْعَزِيز بن أبي بكرَة عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رأى نسْوَة فِي جَنَازَة فَقَالَ لَهُنَّ ارْجِعْنَ مَأْزُورَات غير مَأْجُورَات
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَة فَرَأى نسْوَة فَقَالَ أتحملنه قُلْنَ لَا قَالَ أتدفنه قُلْنَ لَا قَالَ فارجعن مَأْزُورَات غير مَأْجُورَات
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ لعن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم زوارات الْقُبُور والمتخذين عَلَيْهَا الْمَسَاجِد والسرج فَبَقيَ الْخطر عَلَيْهِنَّ إِلَى آخر الدَّهْر فَإِن تخلت امْرَأَة عَن هَذِه الْأُمُور فَأَتَت قبرا لترمه أَو تسلم أَو تَدْعُو أَو تعْتَبر وَقد أمنت نَاحيَة نَفسهَا ذَلِك وَمَاتَتْ شهوتها وإنقطعت فتنتها فَهِيَ خَارِجَة من النَّهْي
وَرُوِيَ عَن فَاطِمَة رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَت تَأتي قبر حَمْزَة رضي الله عنه فِي كل عَام فترمه وتصلحه
وَرُوِيَ عَن غير وَاحِدَة من النِّسَاء أَنَّهَا كَانَت تَأتي قُبُور الشُّهَدَاء فتسلم عَلَيْهِم فَأَما مرمة الْقَبْر فلئلا يدرس أَثَره فينبش عَنهُ لِأَنَّهُ إِذا ذهب أَثَره حفر عَنهُ لمَيت آخر وَلِأَن الْمُسلم على الْأَمْوَات وزائرهم يخفى عَلَيْهِ إِذا ذهب رسمه فَتبْطل الزِّيَارَة وَهِي حق من الْحُقُوق لَيْسَ كَالَّذي يسلم من بعد
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من زار قبر أَبَوَيْهِ أَو أَحدهمَا فِي كل جُمُعَة مرّة غفر لَهُ وَكتب برا
عَن ابْن عمر رضي الله عنه قَالَ من زار قبر أَبَوَيْهِ أَو أَحدهمَا احتسابا كَانَ كَعدْل حجَّة مبرورة وَمن كَانَ زوارا لَهما زارت الْمَلَائِكَة قَبره
وَالتَّشْدِيد الَّذِي جَاءَ فِي حَدِيث فَاطِمَة نرَاهُ فِي بَدْء الْأَمر وَلَا نعلم ذَلِك يحرم الْجنَّة لَكِن مَعْنَاهُ أَن من فعل ذَلِك كَانَ يخَاف عَلَيْهِ أَن يسلبه الله الْإِسْلَام فَإِذا سلبه لم ير الْجنَّة أبدا وَأعظم نعْمَة لله تَعَالَى على عَبده الْإِسْلَام وللإسلام سنَن ومنار كمنار الطَّرِيق فَإِذا عمل عملا يكون فِيهِ إحْيَاء سنَن الْجَاهِلِيَّة الَّتِي أطفأها الله تَعَالَى بِسيف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر منَّة الْإِسْلَام والكفور ممقوت غير مَأْمُون عَلَيْهِ السَّلب فَكَانَ إتْيَان الْمَقَابِر من سنَن الْجَاهِلِيَّة فغلظ الزّجر لتَمُوت تِلْكَ السّنَن
-
الأَصْل السَّادِس عشر
-
فِي أَن الْوُرُود فِي النارالدخول
عَن جَابر بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الْوُرُود الدُّخُول لَا يبْقى بر وَلَا فَاجر إِلَّا دَخلهَا فَتكون على الْمُؤمنِينَ بردا وَسلَامًا كَمَا كَانَت على إِبْرَاهِيم عليه السلام حَتَّى ان للنار ضَجِيجًا من بردهمْ ثمَّ يُنجي الله الَّذين اتَّقوا ويذر الظَّالِمين فِيهَا جثيا
كَأَن الله تَعَالَى أحب أَن يَجْعَل ممر الْمُؤمنِينَ فِيهَا كي إِذا نَجوا مِنْهَا علمُوا من أَيْن نَجوا وَلَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة وَإِذا وردوا دَار السَّلَام علمُوا أَيْن حلوا فالشيء إِنَّمَا يعرف بضده ويعظم قدره وَلذَلِك قَالُوا عِنْد دُخُول الْجنَّة الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن أَي حزن قطع النيرَان الَّتِي خلص مِنْهَا وَجعلهَا بردا وَسلَامًا وَعَلمُوا أَنهم لم يحلوا دَار المقامة إِلَّا من فَضله وانهم لم يستوجبوا ذَلِك مِنْهُ وَكَأَنَّهُ عز وجل أحب أَن يبرز فضل الصَّادِقين وبذلهم أنفسهم لَهُ وليأخذ بِحقِّهِ من الطَّبَقَة الَّتِي آثرت شهوات نفوسها بتضييع الْحق وهم أهل لَا إِلَه إِلَّا الله حَتَّى تنتقم النَّار
مِنْهُم مُدَّة ثمَّ تُدْرِكهُمْ رَحْمَة الله وَقد محصوا ونقوا وصلحوا لدار السَّلَام وليجوز الصادقون وهم لَا يَشْعُرُونَ بالنَّار قَالَ الله تَعَالَى {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون}
وَإِنَّمَا بعدوا عَنْهَا لِأَن نور الْإِيمَان وَبرد الْيَقِين احتملهم واحتواهم فهم يمضون فِي النَّار حَتَّى إِذا خَرجُوا مِنْهَا قَالَ بَعضهم لبَعض أَلَيْسَ قد وعدنا رَبنَا أَن نرد النَّار قَالُوا بلَى وَلَكِن مررتم بهَا وَهِي خامدة لِأَن الرَّحْمَة أظلتهم حَتَّى أشرف نور الْإِيمَان فِي قُلُوبهم فخمدت النَّار من برد يقينهم وَلذَلِك نسب الْبرد إِلَى الْمُؤمنِينَ وَأما ضجة النَّار فَمن أجل أَنَّهَا خلقت منتقمة من أهل الْغَفْلَة وحشيت بغضب الله فَإِذا جَاءَ الْمُؤمن بنوره وبرده ضجت النَّار مَخَافَة أَن تبرد فتضعف عَن الانتقام
عَن يعلى بن مُنَبّه رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن النَّار لتنادي جز يَا مُؤمن فقد أطفأ نورك لهبي
والنجاة من الله تَعَالَى للْعَبد فِي هَذَا الموطن على قدر مَحَله عِنْده وَمحله على قدر مَا من الله عَلَيْهِ من الْمعرفَة بِهِ وَهُوَ الْيَقِين الَّذِي جعل لَهُ من ذَلِك حظا
عَن السّديّ عَن عبد الله رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَنه قَالَ يرد النَّاس النَّار ثمَّ يصدرون عَنْهَا بأعمالهم فأولهم كلمح الْبَرْق ثمَّ كَالرِّيحِ ثمَّ كحضر الْفرس ثمَّ كالراكب فِي رحْلَة ثمَّ كشد الرجل ثمَّ كمشيه ثمَّ كحبوه
وَإِنَّمَا ذكر الْأَعْمَال لِأَنَّهَا ظَاهِرَة وَالظَّاهِرَة محنة الْبَاطِن وَمَا فِي الْقُلُوب غيب إِلَّا عَن خَالق الْغَيْب وَالظَّاهِر شَاهد ينبىء عَمَّا فِي الْبَاطِن
-
الأَصْل السَّابِع عشر
-
فِي أَن الدُّنْيَا أَسحر من هاروت وماروت
عَن عبد الله بن بسر الْمَازِني رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اتَّقوا الدُّنْيَا فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ أَنَّهَا لأسحر من هاروت وماروت
هاروت وماروت ليسَا من جنس الْآدَمِيّين وَالشَّيْء إِنَّمَا يألف جنسه والآدمي خلق من الدُّنْيَا فَهُوَ يألفها وينخدع لَهَا وهاروت وماروت لَا يعلمَانِ أحدا السحر حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفر
فَهَذَا يعلمك سحره وينبئك فتنته وَالدُّنْيَا تعلمك سحرها وتكتمك فتنتها وتدعوك إِلَى التحارص عَلَيْهَا وَالْجمع لَهَا وَالْمَنْع مِنْهَا فيتعلم مِنْهَا مَا يفرق بَينه وَبَين طَاعَة الله وَبَينه وَبَين رُؤْيَة الْحق ورعايته ومحبتها
تلذذك بشهواتها وتمنيك بأمانيها الكاذبة حَتَّى تَأْخُذ بقلبك وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حبك الشَّيْء يعمي ويصم
فَمن أحب الدُّنْيَا أعمته وأصمته عَن آخرته وَمن أحب الْآخِرَة أعمته وأصمته عَن دُنْيَاهُ وَمن أحب نَفسه أعمته وأصمته عَن الله وَمن أحب الله أعماه وأصمه عَن نَفسه فَإِن الدُّنْيَا تحجب عَن الْآخِرَة وَالنَّفس تحجب عَن الله ودنياه إِنَّمَا هِيَ نَفسه وشهواتها فسحرها أقرب إِلَيْهِ من سحر هاروت وماروت فسحر نَفسه ودنياه أُصَلِّي وسحر هاروت وماروت دخيل وَلَيْسَ الدخيل كالأصلي
-
الأَصْل الثَّامِن عشر
-
فِي كَيْفيَّة الِاحْتِرَاز عَن الشَّيْطَان
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن الْمُؤمن ينضى شَيْطَانه كَمَا ينضى أحدكُم بعيره فِي السّفر
فالمؤمن قد وكل بِهِ قرينه من الشَّيْطَان وَإِنَّمَا يحْتَرز مِنْهُ بِاللَّه تَعَالَى فَإِذا اعْترض لِقَلْبِهِ احْتَرز بمعرفته وَإِذا اعْترض لنَفسِهِ وهيأ شهواته احْتَرز بِذكر الله عز وجل وَإِذا اعْترض لاموره وأحواله احْتَرز باسمه فَهُوَ أبدا نضو وَقيد زجر بِهِ فالبعير يتجشم فِي سَفَره أثقال حمولته وَمَعَ ذَلِك النصب يجوع ويظمأ وَمَعَ ذَلِك مرَاعِي مُخْتَلفَة ومياه رنقة غير عذبة فَإِنَّمَا صَار نضوا بِهَذِهِ الْأَحْوَال فَكَذَلِك شَيْطَان الْمُؤمن يتجشم
أثقال غيظه من الْمُؤمن لما يرى من الطَّاعَة وَالْوَفَاء لله تَعَالَى وَإِذا أَرَادَ أَن يشركهُ فِي طَعَامه وَشَرَابه ولباسه ومنامه ومجلسه ومتصرف أَحْوَاله زَجره وطرده عَنهُ بِالتَّسْمِيَةِ فَوقف مِنْهُ بمزجر الْكَلْب نَاحيَة فَإِذا أَرَادَ أَن ينفره عَنهُ نطق بالوحدانية وَهِي الْكَلِمَة الْعليا الَّتِي يَهْتَز الْعَرْش لَهَا فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِذا سَمعهَا انتكس فَصَارَ أَعْلَاهُ أَسْفَله وَولى على وَجهه هَارِبا إِلَى رسه وَذَلِكَ قَوْله عز وجل {وَإِذا ذكرت رَبك فِي الْقُرْآن وَحده ولوا على أدبارهم نفور}
رُوِيَ عَن أبي الجوزاء أَنه قَالَ لَيْسَ شَيْء أطْرد لَهُ من الْقلب من قَول لَا إِلَه إِلَّا الله ثمَّ تَلا {وَإِذا ذكرت رَبك فِي الْقُرْآن} الْآيَة
عَن عَمْرو بن مَالك رضي الله عنه قَالَ قَرَأت فِي التَّوْرَاة إِن سرك أَن تحيي وتبلغ علم الْيَقِين فاحتل فِي كل حِين أَن تغلب شهوات الدُّنْيَا فَإِنَّهُ من يغلب شهوات الدُّنْيَا يفزع الشَّيْطَان من ظله
عَن سديسة مولاة حَفْصَة رَضِي عَنْهُمَا قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول مَا لَقِي الشَّيْطَان عمر قطّ إِلَّا خر لوجه
عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ مَا لَقِي الشَّيْطَان عمر فِي فج فَيسمع صَوته إِلَّا أَخذ فِي غَيره
وَمثل عمر رضي الله عنه فِي هَذَا الْبَاب مثل أَمِير ذِي سُلْطَان وهيبة استقبله مريب قد رفع إِلَيْهِ من ريبته أمورا شنيعة وعرفه بالعداوة لَهُ فَانْظُر مَاذَا يحل بِهَذَا الْمُرِيب إِذا لقِيه فَإِن ذهبت رِجْلَاهُ فَخر لوجهه فَغير مستنكر
-
الأَصْل التَّاسِع عشر
-
فِي حَقِيقَة الْفِقْه وفضيلته
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الْعِبَادَة الْفِقْه وَأفضل الدّين الْوَرع
وَعَن ابْن عمر رضي الله عنهما عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ مَا عبد الله بِشَيْء أفضل من فقه فِي دين
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ مَا عبد الله بِشَيْء أفضل من فقه فِي دين ولفقيه وَاحِد أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد وَلكُل شَيْء عماد وعماد هَذَا الدّين الْفِقْه
وَالْفِقْه هُوَ انكشاف الغطاء عَن الْأُمُور فَإِذا عبد الله بِمَا أَمر وَنهى بعد أَن فهمه وعقله وانكشف لَهُ الغطاء عَن تَدْبيره فِيمَا أَمر وَنهى فَهِيَ الْعِبَادَة الْخَالِصَة الْمَحْضَة وَذَلِكَ أَن الَّذِي يُؤمر بالشَّيْء فَلَا يرى زين ذَلِك الْأَمر وَينْهى عَن الشَّيْء فَلَا يرى شينه هُوَ فِي عمى من أمره فَإِذا رأى زين مَا أَمر بِهِ وشين مَا نهى عَنهُ عمل على بصيره وَكَانَ قلبه عَلَيْهِ أقوى وَنَفسه بِهِ أسخى وَحمد على ذَلِك وشكر وَالَّذِي يعمى عَن ذَلِك فَهُوَ جامد الْقلب كسلان الْجَوَارِح ثقيل النَّفس بطيء التَّصَرُّف وَالْفِقْه مُشْتَقّ من تفقؤ الشَّيْء يُقَال فِي اللُّغَة فَقَأَ الشَّيْء إِذا انْفَتح وفقأ الْجرْح إِذا انفرج عَمَّا اندمل وَالِاسْم فقيء وَالْهَاء والهمزة تبدلان تجزي إِحْدَاهمَا عَن الْأُخْرَى فَقيل فقيء وفقيه والفهم هُوَ الْعَارِض الَّذِي يعرض فِي الْقلب من النُّور فَإِذا عرض انْفَتح بصر الْقلب فَرَأى صُورَة ذَلِك الشَّيْء فالانفتاح هُوَ الْفِقْه والعارض هُوَ الْفَهم وَقد ذكر الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْفِقْه فَقَالَ {لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا}
فَاعْلَم أَن الْفِقْه من عمل الْقلب وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم للإعرابي حِين قَرَأَ عَلَيْهِ {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} فولى وَقَالَ حسبي حسبي فَقَالَ صلى الله عليه وسلم فقه الرجل
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رضي الله عنه إِنَّك لن تفقه حَتَّى ترى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثِيرَة وان الله عز وجل كلف الْعباد أَن يعرفوه ثمَّ اقتضاهم بعد الْمعرفَة أَن يدينوا لَهُ فشرع لَهُم شَرِيعَة الْحَلَال وَالْحرَام وَالدّين هُوَ
الخضوع
والدون مُشْتَقّ من ذَلِك وكل شَيْء اتضع فَهُوَ دون فَأمرت بِأُمُور لتَضَع نَفسك لمن اعْترفت بِهِ رَبًّا فَسُمي ذَلِك الْفِعْل وَتلك الْأُمُور دينا فَمن فقه أَسبَاب هَذِه الْأُمُور الَّتِي أَمر وَنهى بِمَاذَا أَمر وَنهى وَرَأى زين مَا أَمر وبهاءه وشين مَا نهى تعاظم ذَلِك عِنْده وَكبر فِي صَدره شَأْنه فَكَانَ أَشد تسارعا فِيمَا أَمر وَأَشد هربا وامتناعا مِمَّا نهى فالفقه فِي الدّين جند عَظِيم يُؤَيّد الله تَعَالَى بِهِ أهل الْيَقِين الَّذِي عاينوا محَاسِن الْأُمُور ومشاينها وَمِقْدَار الْأَشْيَاء وَحسن تَدْبِير الله عز وجل لَهُم فِي ذَلِك بِنور يقينهم ليعبدوه على يسر وَمن حرم ذَلِك عَبده على مكابدة وعسر لِأَن الْقلب وَإِن أطَاع وانقاد لأمر الله عز وجل فَالنَّفْس إِنَّمَا تخف وتنقاد إِذا رأى نفع شَيْء أَو ضَرَر شَيْء وَالنَّفس جندها الشَّهَوَات وصاحبها مُحْتَاج إِلَى أضدادها من الْجنُود حَتَّى يقهرها وَهِي الْفِقْه
قَالَ لَهُ قَائِل صف لنا وَاحِدَة من هَذِه الْأُمُور نفهم بهَا غَيرهَا قَالَ نعم أحل الله عز وجل النِّكَاح وَحرم الزِّنَا وَإِنَّمَا هُوَ إتْيَان وَاحِد لامْرَأَة وَاحِدَة إِلَّا أَن هَذَا بِنِكَاح وَذَاكَ بزنى فَإِذا كَانَ من نِكَاح فَمن شَأْنه الْعِفَّة والتحصين لِلْفَرجِ فَإِذا جَاءَت بِولد ثَبت النّسَب وَجَاء الْعَطف من الْوَالِد بِالنَّفَقَةِ والتربية وَالْمِيرَاث وَإِذا كَانَ من زنا ضَاعَ الْوَلَد لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أحد من الواطئين لمن هَذَا الْوَلَد فَهَذَا يحيله على ذَلِك وَذَاكَ يحيله على هَذَا وَحرم الله عز وجل الدِّمَاء وَأمر بِالْقصاصِ ليتحاجزوا وليحيوا وَقَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} إِلَى غير ذَلِك
عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا يفقهه
وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين
عَن يُوسُف بن مَاهك قَالَ كَانَ مُعَاوِيَة رضي الله عنه قَلِيل الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقل مَا قَامَ خَطِيبًا إِلَّا قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين يَا أَيهَا النَّاس تفقهوا
-
الأَصْل الْعشْرُونَ
-
فِي حِكْمَة قصر أَعمار هَذِه الْأمة
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عمر أمتِي من سِتِّينَ سنة إِلَى سبعين
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم معترك المنايا مَا بَين السِّتين إِلَى السّبْعين
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم أقل أمتِي أَبنَاء السّبْعين
قَالَ أَبُو عبد الله من رَحْمَة الله على هَذِه الْأمة وَعطفه عَلَيْهِم أخرهم فِي الأصلاب حَتَّى أخرجهم إِلَى الْأَرْحَام بعد أَن نفدت الدُّنْيَا ثمَّ قصر أعمارهم لِئَلَّا يتلبسوا بالدنيا إِلَّا قَلِيلا وَلَا يتدنسوا فَإِن الْقُرُون الْمَاضِيَة كَانَت أعمارهم وأجسادهم وأرزاقهم على الضعْف كَانَ أحدهم يعمر ألف سنة وجسمه ثَمَانُون باعا بالباع الأول والحبة من الْقَمْح مثل كلوة الْبَقر والرمانة الْوَاحِدَة يجْتَمع عَلَيْهَا عشرَة نفر والعنقود مثله فَكَانُوا مَا يتناولونه من هَذِه الدُّنْيَا بِهَذِهِ الصّفة على مثل تِلْكَ الأجساد فِي مثل تِلْكَ الْأَعْمَار فَمِنْهَا أشروا وبطروا واستكبروا وأعرضوا عَن الله عز وجل فصب الله عَلَيْهِم سَوط عَذَاب على مَا نطق بِهِ كتاب الله الْعَزِيز ثمَّ لم يزل النَّاس ينقصُونَ فِي الْخلق والخلق وَالْأَجَل والرزق إِلَى أَن صَارَت هَذِه الآمة آخر الْأُمَم حَتَّى يَأْخُذُوا من الدُّنْيَا أرزاقا قَليلَة بأجساد ضَعِيفَة فِي مُدَّة قَصِيرَة حَتَّى لَا يأشروا وَلَا يبطروا فَهَذَا تَدْبِير من الله عز وجل رَحْمَة لهَذِهِ الْأمة ثمَّ ضوعف لَهُم الْحَسَنَات فَجعلت الْحَسَنَة الْوَاحِدَة بِعشْرَة إِلَى سَبْعمِائة إِلَى مَا لَا يُعلمهُ من التَّضْعِيف إِلَّا الله تَعَالَى وأيدوا بِالْيَقِينِ واعطوا لَيْلَة الْقدر فَجعلت حسناتهم على ثَلَاث منَازِل لأَنهم ثَلَاثَة أَصْنَاف ظَالِمُونَ ومقتصدون وسابقون فالصنف الأول هم أهل تَخْلِيط قوم موحدون لَا يرعوون عَن الْحَرَام وَلَا يحفظون حُدُود الله تَعَالَى {خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا} فهم الظَّالِمُونَ فالحسنة مِنْهُم بِعشر أَمْثَالهَا
والصنف الثَّانِي قوم متقون قائمون على الْحُدُود وعَلى سَبِيل الاسْتقَامَة وهم المقتصدون فالحسنة مِنْهُم بسبعمائة لِأَن جوارحهم صَارَت مسبلة لله تَعَالَى قد استقامت على سَبِيل الله تَعَالَى فَإِذا أَنْفقُوا من جوارحهم عملا كَانَ بسبعمائة كَالَّذي ينْفق مَاله فِي سَبِيل الله فَهُوَ
بسبعمائة وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك قَوْله صلى الله عليه وسلم إِذا حسن إِسْلَام العَبْد تمم الله لَهُ عمله بسبعمائة ضعف
فَقَوله حسن إِسْلَامه هُوَ أَن يَسْتَقِيم وَيكون مُسْتَقِيم الطَّرِيق إِلَى ربه لَا يعرج يَمِينا وَشمَالًا أَي لَا يعْصى فَهَذَا ترفع أَعماله من جوارح طَاهِرَة وَالْأول من جوارح دنسة
والصنف الثَّالِث قوم أهل يَقِين انتبهوا وحييت قُلُوبهم بِاللَّه عز وجل وَمَاتَتْ مِنْهَا الشَّهَوَات وهم السَّابِقُونَ المقربون قَالَ الله تَعَالَى فِي السَّابِقين {وَمِنْهُم سَابق بالخيرات بِإِذن الله ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير} فأعمالهم مضاعفة لَا يعلم تضعيفها إِلَّا الله عز وجل وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الرجل من أمتِي ليبلغ وزن الْحَرْف الْوَاحِد من تسبيحه زنة أحد
وَمَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه أَنه قَالَ إِن الرجل من هَذِه الْأمة يعدل عمل يَوْمه سبع سموات وَسبع أَرضين
وَمَا رُوِيَ عَن كَعْب رضي الله عنه أَن الرجل من هَذِه الْأمة ليخر سَاجِدا فَيغْفر لمن خَلفه فَكَانَ كَعْب رضي الله عنه يتوخى الصَّفّ الْأَخير من الْمَسْجِد رَجَاء ذَلِك وَيذكر أَنه وجده كَذَلِك
-
الأَصْل الْحَادِي وَالْعشْرُونَ
-
فِي خُصُوصِيَّة هَذِه الْأمة
عَن ام الدَّرْدَاء رضي الله عنها تَقول سَمِعت أَبَا الدَّرْدَاء يَقُول سَمِعت أَبَا الْقَاسِم صلى الله عليه وسلم يكنيه قبلهَا وَلَا بعْدهَا يَقُول إِن الله عز وجل قَالَ يَا عِيسَى إِنِّي باعث من بعْدك أمة إِن أَصَابَهُم مَا يحبونَ حمدوا وشكروا وَإِن أَصَابَهُم مَا يكْرهُونَ احتسبوا وصبروا وَلَا حلم وَلَا علم قَالَ يَا رب وَكَيف يكون هَذَا لَهُم وَلَا حلم وَلَا علم قَالَ أَعطيتهم من حلمي وَعلمِي
فَهَذِهِ أمة مُخْتَصَّة بالوسائل من بَين الْأُمَم محبوة بالكرامات مقربة بالهدايات محظوظة من الولايات تولى الله هدايتهم وتأديبهم وتقريبهم مسمون فِي التَّوْرَاة صفوة الرَّحْمَن وَفِي الْإِنْجِيل حكماء عُلَمَاء أبرار أتقياء كَأَنَّهُمْ من الْفِقْه أَنْبيَاء وَفِي الْقُرْآن أمة وسطا أَي عدلا وشهداء الله فِي الْموقف للأنبياء عليهم السلام على الْأُمَم وَخير أمة أخرجت للنَّاس والمنادون بِجَانِب طور سيناء يَا أمة أَحْمد سبقت لكم رَحْمَتي غَضَبي
أَعطيتكُم قبل أَن تَسْأَلُونِي وغفرت لكم قبل أَن تستغفروني وأجبتكم قبل أَن تَدعُونِي وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كنت بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا} {أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} {وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل كزرع أخرج شطأه} الْآيَة غر محجلون غر من السُّجُود محجلون من الْوضُوء وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود}
وَعَن عبد الله بن بشر الْمَازِني رضي الله عنه قَالَ قيل يَا رَسُول الله كَيفَ تعرف أمتك يَوْمئِذٍ قَالَ أَرَأَيْت لَو كَانَ لأحدكم خيل دهم وفيهَا أغر محجل أما كَانَ يعرفهُ قَالُوا بلَى يَا رَسُول الله قَالَ فَإِن أمتِي يَوْمئِذٍ غر من السُّجُود محجلون من أثر الْوضُوء سماهم الله مُهَاجِرين وأنصارا هَاجرُوا فِي ذَاته الوطن والأهل وَالْمَال وَالْولد ونصروا الله تَعَالَى ثمَّ من سَار على منهاجهم بعدهمْ سماهم تابعين بِإِحْسَان ثمَّ جمعهم بالرضى عَنْهُم فَقَالَ {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} وجمعهم فِي اسْتِحْقَاق الْفَيْء فَقَالَ {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين} إِلَى أَن قَالَ وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ
وَإِنَّمَا نالوا هَذِه الكرامات بخطة وَاحِدَة وَهُوَ أَن الله تَعَالَى هدَاهُم
لسبيله وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله وَأُولَئِكَ هم أولو الْأَلْبَاب
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم أَعْطَيْت أمتِي من الْيَقِين مَا لم يُعْط أمة
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا من نَبِي إِلَّا وَقد أعطي من الْآيَات مَا على مثله آمن الْبشر وَإِنِّي لم أبْعث بِآيَة وَإِنَّمَا أُوحِي إِلَيّ وَحيا ثمَّ أَنا أَكثر الْأُمَم تبعا قَالَ لَهُ قَائِل وَمَا تِلْكَ الْهِدَايَة قَالَ الْهدى على ثَلَاثَة منَازِل هدى على أَلْسِنَة الرُّسُل وَهُوَ الْبَيَان يَدعُوهُم وَيبين لَهُم فَتلك هِدَايَة الظَّاهِر وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فَأَما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى فَإِنَّمَا هدَاهُم بالرسول عليه السلام
وَهدى بِالْقَلْبِ يَجْعَل فِيهِ نورا فيعرفه رَبًّا وَاحِدًا وَهُوَ هدى التَّوْحِيد وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا} فَتلك هِدَايَة الْبَاطِن وَهُوَ الْإِيمَان قَالَ الله تَعَالَى {وَيهْدِي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم}
أعطَاهُ نورا لمعرفته بِأَنَّهُ وَاحِد ثمَّ تَركه مَعَ مجاهدة نَفسه فِي أمره وَنَهْيه على سَبِيل الاسْتقَامَة ليثيبه الْجنَّة وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِأَن الشَّهَوَات
أحاطت بِقَلْبِه فَلم تتركه على سَبِيل أهل الْوَفَاء حَتَّى يكون لَهُ عبدا بِجَمِيعِ جوارحه فِي جَمِيع منقلبه كَمَا عرفه رَبًّا فَيكون وَاقِفًا عِنْد أمره وَنَهْيه مراقبا لحدوده فَهَذِهِ هِدَايَة الْعَامَّة وَلَا ينَال بِهَذَا تِلْكَ الصّفة الَّتِي ذكرت فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْفرْقَان لِأَن النَّفس بِمَا فِيهَا من الْهوى غلبت على الْقلب وَلَا تتركه على الاسْتقَامَة حَتَّى تميل بِهِ يَمِينا وَشمَالًا
وَهدى على الْقلب وَهُوَ هدى الْولَايَة والعصمة وَهِي أَن يقذف الله فِي قلب العَبْد نورا وَهُوَ الْيَقِين حَتَّى يهتك حجب الشَّهَوَات الَّتِي تراكمت فِي صَدره فَتَصِير الْآخِرَة لَهُ كالمعاينة وَهُوَ المُرَاد بقوله تَعَالَى {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن وهم مهتدون} كَمَا قَالَ حَارِثَة رضي الله عنه كَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزا وَإِلَى أهل الْجنَّة كَيفَ يتزاورون وَإِلَى أهل النَّار كَيفَ يتعاوون فِيهَا وعزفت نَفسِي عَن الدُّنْيَا واستوى عِنْدِي حجرها ومدرها وذهبها وفضتها فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عرفت فَالْزَمْ عبد نور الله الْإِيمَان فِي قلبه فَهَذَا نور على نور وَذَهَبت ظلمات الشَّهَوَات من الصَّدْر وَهِي الَّتِي كَانَت تحجبه عَن الله تَعَالَى ووعده ووعيده وتزين لَهُ فِي صَدره شهوات الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا وَإِن الله لمع الْمُحْسِنِينَ}
هدى التَّوْحِيد شَرط المجاهدة وَهِي مُتَقَدّمَة عَلَيْهَا وَهدى الْولَايَة حكم المجاهدة فَهِيَ مُتَأَخِّرَة عَنْهَا وَهَذَا الْهدى نور يقذفه الله تَعَالَى فِي الْقلب بعد المجاهدة يسْتَقرّ فِيهِ وَهُوَ الْيَقِين فَإِنَّمَا سمي يَقِينا لِأَنَّهُ اسْتَقر فيمتلىء قلبه نورا ويشرق صَدره بِهِ فيتصور لَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وشأن
الملكوت فِي صَدره وَيتَصَوَّر لَهُ أُمُور الْإِسْلَام حَتَّى تذل النَّفس وتنقاد وتلقي بِيَدَيْهَا السّلم من الخشية والهيبة وَالسُّلْطَان الَّذِي حل بِقَلْبِه وَفِي صَدره وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه}
فشرح الصَّدْر إِنَّمَا يكون من النُّور الَّذِي يسْتَقرّ فَيُقَال لَهُ نور الْيَقِين وَأما نور التَّوْحِيد فِي الْقلب والصدر بتراكم دُخان الشَّهَوَات مظلم كالليل وكالغيم وكالغبرة وكالدخان وكالقتار
وَهدى رَابِع على الْقُلُوب وَهُوَ هدى النُّبُوَّة وَهُوَ نور وَجهه الْكَرِيم يُوصل قُلُوبهم إِلَى وحدانيته ويشرق صُدُورهمْ بنوره ويجعلهم فِي قَبضته ويرعاهم بِعَيْنِه ويؤيدهم بِنور قدسه قَالَ الله تَعَالَى اجتبيناهم وهديناهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَقَالَ {أُولَئِكَ الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب وَالْحكم والنبوة} ثمَّ قَالَ {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده}
وَقَالَ الله تَعَالَى {قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى}
أَي إِن ذَلِك الَّذِي على أَلْسِنَة الرُّسُل غير نَافِع وَلَا مغيث وَإِنَّمَا الْهدى هُدَايَ الَّذِي أهدي على الْقُلُوب وَإِن كَانَ ذَاك أَيْضا يُسمى هدى فَهَذَا أَحَق الْهدى وَهُوَ كَمَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض وَلَكِن الْغنى غنى النَّفس
وهدي الرُّسُل عليهم السلام حجَّة الله على خلقه بِأَن يبين لَهُم على ألسنتهم ضَلَالَة سبيلهم ثمَّ ذكر هدى هَذِه الْأمة فَقَالَ {وَقَالَت طَائِفَة من أهل الْكتاب آمنُوا بِالَّذِي أنزل على الَّذين آمنُوا وَجه النَّهَار واكفروا آخِره لَعَلَّهُم يرجعُونَ} الْآيَة إِلَى أَن قَالَ {قل إِن الْهدى هدى الله}
أَي هَذَا الْهدى الَّذِي آتيناكم يَا أمة مُحَمَّد هدى الله فَقَوله إِن الْهدى معرفَة وَلَيْسَت بنكرة كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى شَيْء مَنْصُوص يَعْنِي الْهدى الَّذِي أَتَى هَذِه الْأمة هُوَ هدى الله أَي هُوَ الَّذِي تولاكم بالهداية
ثمَّ قَالَ {أَن يُؤْتى أحد مثل مَا أُوتِيتُمْ} أَي من الْهدى وَهُوَ الْيَقِين وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَيْت أمة من الْيَقِين مَا أَعْطَيْت هَذِه الْأمة
ثمَّ قَالَ {أَو يحاجوكم عِنْد ربكُم} وَهِي المحاجة الَّتِي ذكر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث يَوْم الْقِيَامَة
أما الحَدِيث فَعَن نَافِع عَن ابْن عمر رضي الله عنهما عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ مثلكُمْ وَمثل الْيَهُود وَالنَّصَارَى كَمثل رجل اسْتعْمل عمالا فَقَالَ من يعْمل لي من صَلَاة الصُّبْح إِلَى نصف النَّهَار على قِيرَاط قِيرَاط أَلا فَعمِلت الْيَهُود ثمَّ قَالَ من يعْمل لي من نصف النَّهَار إِلَى صَلَاة الْعَصْر على قِيرَاط قِيرَاط أَلا فَعمِلت النَّصَارَى ثمَّ قَالَ من يعْمل لي من صَلَاة الْعَصْر إِلَى صَلَاة الْمغرب على قيراطين قيراطين أَلا فَأنْتم فَغَضب الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَقَالُوا نَحن أَكثر عملا وَأَقل عَطاء فَقَالَ أظلمتكم من حقكم شَيْئا قَالُوا لَا قَالَ إِنَّمَا هُوَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء فَقَوله نَحن أَكثر عملا وَأَقل عَطاء فَقَالَ أظلمتكم من حقكم شَيْئا قَالُوا لَا قَالَ إِنَّمَا هُوَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء فَقَوله نَحن أَكثر عملا وَأَقل عَطاء هُوَ المحاجة عِنْد رَبهم قَوْله تَعَالَى {أَو يحاجوكم عِنْد ربكُم قل إِن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء}
فَذكر فِي الْآيَة أَن هَذِه الْأمة مُخْتَصَّة بِالرَّحْمَةِ مفضلة بالكرامة فالفضل الَّذِي آتَاهُم على الْأُمَم أَن أَعْطَاهُم الْيَقِين فِيهِ انْكَشَفَ الغطاء عَن قُلُوبهم حَتَّى صَارَت الْأُمُور لَهُم مُعَاينَة
عَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ رضي الله عنه قَالَ لم يفضل أَبُو بكر
رَضِي الله عَنهُ النَّاس بِكَثْرَة صَوْم وَلَا صَلَاة إِنَّمَا فَضلهمْ بِشَيْء كَانَ فِي قلبه
عَن عبد الرَّحْمَن بن زيد قَالَ قَالَ عبد الله أَنْتُم الْيَوْم أَكثر صياما وجهادا وَصَلَاة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهم كَانُوا خيرا مِنْكُم قَالُوا فمم ذَاك يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن قَالَ كَانُوا أزهد فِي الدُّنْيَا وأرغب فِي الْآخِرَة
وَقَالَ طَلْحَة بن عبيد الله رضي الله عنه مَا كَانَ عمر رضي الله عنه أولنا إسلاما وَلَا أقدمنا هِجْرَة وَلَكِن أزهدنا فِي الدُّنْيَا وأرغبنا فِي الْآخِرَة
وَأما قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث عِيسَى عليه السلام فَإِن أَصَابَهُم مَا يحبونَ حمدوا وشكروا فَالْحَمْد هُوَ التَّكَلُّم بِكَلِمَة الْحَمد وَأما الشُّكْر فَهُوَ رُؤْيَة النِّعْمَة من الله تَعَالَى وَمن رأى النعم من الله تَعَالَى ذللته أثقال النعم وإنقاد لله تَعَالَى فَإِن الْآدَمِيّ مطبوع هَكَذَا ان من أحسن إِلَيْهِ فقد سبى قلبه وَصَارَ لَهُ كالآخذ بِالْيَدِ يذهب بِهِ حَيْثُ يَشَاء وَالنَّفس يهيمها الْبر واللطف والرفق وَالْإِحْسَان فَإِذا رأى العَبْد من الله تَعَالَى إحسانه وبره تذلل لَهُ واستحيى مِنْهُ أَن يُخَالف أمره
وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه أَنه قَالَ جبلت الْقُلُوب على حب من أكرمها وبغض من أهانها
وَعَن عبد الله بن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَحبُّوا الله لما يغزوكم بِهِ من نعمه وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بَيْتِي بحبي
وَعَن الْحُسَيْن رضي الله عنه قَالَ قَالَ مُوسَى عليه السلام يَا رب كَيفَ شكرك آدم عليه السلام قَالَ علم أَن ذَلِك مني وَكَانَ ذَلِك شكره
فَأَما قَوْله احتسبوا وصبروا فالاحتساب أَن يرى ذَلِك الشَّيْء الَّذِي أَخذه لله وَإِن كَانَ قد صيره باسمه فَالْأَصْل هُوَ لله تَعَالَى فيحتسبه لله تَعَالَى كَمَا فِي الأَصْل وصبر أَي ثَبت فَلم يزل عَن مقَامه لله عز وجل بِزَوَال ذَلِك الشَّيْء عَنهُ فَإِن العَبْد الْمُؤمن يَقُول انا لله وَهَا أناذا بَين يَدَيْهِ مُقيم فِي طَاعَته وَنعم الله عَلَيْهِ سابغة فَإِذا امتحنه وأزال عَنهُ نعمه زَالَ عَن مقَامه ذَلِك طَالبا لتِلْك النِّعْمَة الَّتِي زَالَت فَلَيْسَ هَذَا ثباتا وَالصَّبْر هُوَ الثَّبَات على الْمقَام بَين يَدَيْهِ وان لَا يعصيه
وَأما قَوْله وَلَا حلم وَلَا علم فَكَأَنَّهُ يخبر أَن الله عز وجل قدر علما وحلما لخلقه يتحالمون فِيمَا بَينهم ويتعالمون فبذلك الْحلم يتخلقون بأخلاقهم كَمَا قدر فيهم رَحْمَة وَاحِدَة فَقَسمهَا بَينهم فبها يتراحمون فِيمَا بَينهم وَبهَا يتلاطفون وَمِنْه قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ان الله عز وجل قسم بَيْنكُم أخلاقكم كَمَا قسم بَيْنكُم أرزاقكم
وَكَانَت هَذِه الْأمة آخر الْأُمَم فرق ذَلِك ودق فَلَو تَركهم على دقة تِلْكَ الْأَخْلَاق ورقة تِلْكَ الأحلام وَقلة الْعلم لم ينالوا من الْخَيْر إِلَّا قَلِيلا يَسِيرا وَهُوَ قَول عبد الله بن عمر وَلم يزل النَّاس ينقصُونَ فِي الْخلق والخلق والرزق وَالْأَجَل من زمن نوح عليه السلام وَقد كَانَ أحدهم يعمر ألف سنة
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَن الْبرة فيهم كَانَت ككلوة الْبَقر والرمانة الْوَاحِدَة يقْعد فِي قشرها عشر نفر وَالرجل فِي خلقه ثَمَانُون باعا فَصَارَت الْأَعْمَار مَا بَين السِّتين إِلَى السّبْعين والبرة هَكَذَا والخلقة هَكَذَا
فَانْظُر كم التَّفَاوُت بَين العمرين وَبَين الخلقتين وَبَين الرزقين فَكَذَلِك بَين الخلقين فَكَأَنَّهُ على نَحْو مَا ذكر لم يبْق لنا من الْحلم وَالْعلم من الْحَظ إِلَّا يسير كَانَ مَا يفْسد أَكثر مِمَّا يصلح وكأنا فِي الْمِثَال كيأجوج وَمَأْجُوج إِذْ كَانَ لَا حلم وَلَا علم فصرنا بمنة الله تَعَالَى علينا بِهَذِهِ الصّفة الَّتِي وصف إِن أَصَابَهُم مَا يحبونَ حمدوا وشكروا وَإِن أَصَابَهُم مَا يكْرهُونَ احتسبوا وصبروا حَتَّى برزت هَذِه الْأمة على الْأُمَم وصاروا صفوة الرَّحْمَن والمقدمين يَوْم الْقِيَامَة والمبدوء بهم وَحرَام على الْأُمَم دُخُول الْجنَّة حَتَّى تدْخلهَا هَذِه الْأمة فَسَأَلَ عِيسَى عليه السلام ربه وَقَالَ كَيفَ يكون هَذَا الْفضل لَهُم وَلَا حلم وَلَا علم قَالَ أعطيهم من حلمي وَعلمِي وَهُوَ الْيَقِين الَّذِي أعطي هَذِه الْأمة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أعطي أمتِي مَا لم يُعْط أحد وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَن يُؤْتى أحد مثل مَا أُوتِيتُمْ}
ثمَّ قَالَ {قل إِن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم يخْتَص برحمته من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} وَقَوله وألزمهم كلمة التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما
فَقَوله أعطيهم من حلمي وَعلمِي أَي أعطيهم النُّور فِي قُلُوبهم فتنشرح لَهُ صُدُورهمْ وتتسع فَهُوَ حلمه وأصل الْحلم إتساع الْقلب والصدر بالأمور فَكلما دخل الصَّدْر فكرة أَمر ذاب فِيهِ وانهضم كَمَا ينهضم الطَّعَام فِي الْمعدة فاتسع الصَّدْر للأمور وصلحت وَطَابَتْ فَكل طَعَام لَا ملح فِيهِ فَلَا طعم لَهُ وكل أَمر لَا حلم لَهُ فِي الْقلب فَلَا يَتَّسِع لَهُ وَلَا تَجِد النَّفس طعم ذَلِك الْأَمر فتلفظه فَإِذا لفظته ضَاقَ الصَّدْر فَإِذا ورد النُّور على الْقلب اتَّسع الصَّدْر لذَلِك الْأَمر فَمِنْهُ تخرج محَاسِن الْأَخْلَاق وَالْأَفْعَال وَهُوَ قَوْله عز من قَائِل {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه}
والحلم وَالْملح يرجعان إِلَى معنى وَاحِد وكل وَاحِد مِنْهُمَا ثَلَاثَة أحرف تسْتَعْمل كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي نَوعه
وَأما قَوْله وَمن علمي فَإِنَّهُ لما ورد النُّور على قُلُوبهم صَارُوا فِي الْعلم بِاللَّه تَعَالَى وبأسمائه الْحسنى بِحَيْثُ سبى قُلُوبهم وَصَارَت قُلُوبهم مُتَعَلقَة بِذكرِهِ فاحتشت صُدُورهمْ من الْحِكْمَة وفهموا عَن الله تَعَالَى فصاروا أبرارا أتقياء فُقَهَاء وَلَو تَركهم على قسمهم وحظهم فِي آخر الْأُمَم من الَّذِي قدر لجَمِيع الْأُمَم من الْحلم وَالْعلم وَالرَّحْمَة لكَانَتْ
هَذِه الْأمة أدنى الْأُمَم وأخسها فَلَمَّا من عَلَيْهِم بعطائه الْوَاسِع الْكَرِيم برزوا على الْأُمَم
فَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنْتُم توفون سبعين أمة أَنْتُم خَيرهَا وَأَكْرمهَا على الله تَعَالَى فَإِنَّمَا قووا على أَن صَارُوا مُهَاجِرين وأنصارا هجروا أوطانهم وَأَمْوَالهمْ وَأَوْلَادهمْ ونصروا الله تَعَالَى وَرَسُوله عليه السلام وصاروا من بعدهمْ تابعين لَهُم بِإِحْسَان بِمثل هَذَا الْعَطاء الْوَاسِع وَالْيَقِين النَّافِذ أَي النَّافِذ من الْأَسْبَاب إِلَى ولي الْأَسْبَاب لِأَن النَّفس من شَأْنهَا أَنَّهَا لَا تتْرك شَيْئا قبضت عَلَيْهِ حَتَّى تطمع فِي شَيْء خير مِنْهُ وَإِلَّا فمخالبها أحد من أَن يقدر على الانتزاع مِنْهَا فَإِذا كَانَ فِي كفها دِرْهَم فأطمعت فِي دِينَار فرأت الدِّينَار رمت بالدرهم فَأَعْرَضت عَنهُ ثمَّ هِيَ مقبلة على الدِّينَار فَإِذا أطمت فِي جَوْهَر فَنَظَرت الى الْجَوْهَر الَّذِي يعدل ملْء بَيت دِينَارا لهت عَن الدِّينَار وَصَارَت خدرة ذبلة وضعفت قُوَّة مخالبها فَصَارَت سلسة فَأَقْبَلت على الْجَوْهَر معرضة عَن الدِّينَار وَالدِّرْهَم مشتغلة بالجوهر وتعنى بِهِ فلولا أَن من الله على هَذِه الْأمة بِهَذَا الْيَقِين حَتَّى طالعوا الملكوت وَعظم جلال الله فِي صُدُورهمْ مَتى كَانُوا مِمَّن يؤبه لَهُم ويعبأ بهم وهم آخر الْأُمَم وَأَقلهمْ حظا من الْحلم وَالْعلم الَّذِي قدر لهَذِهِ الْأُمَم
وَرُوِيَ عَن كَعْب رضي الله عنه أَنه قَالَ لما نظر مُوسَى عليه السلام فِي الألواح قَالَ يَا رب إِنِّي أجد فِي الألواح صفة قوم على قُلُوبهم من النُّور أَمْثَال الْجبَال تكَاد الْبَهَائِم تَخِر لَهُم سجدا إِذا رَأَوْهُمْ من النُّور الَّذِي فِي صُدُورهمْ قَالَ تِلْكَ أمة أَحْمد يذمون أنفسهم وَلَا يعْجبُونَ بهَا فَمن سَعَة أَخْلَاقهم وَنور قُلُوبهم أمكنهم أَن يهاجروا وينصروا
الله وَرَسُوله وَقَالَت بَنو إِسْرَائِيل لمُوسَى عليه السلام {اذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ}
وَعَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ أجد فِي الْكتب أَن هَذِه الْأمة تحب ذكر الله تَعَالَى كَمَا تحب الْحَمَامَة وَكرها وهم أسْرع إِلَى ذكر الله من الْإِبِل إِلَى وردهَا يَوْم ظمأها
-
الأَصْل الثَّانِي وَالْعشْرُونَ
-
فِي النَّهْي عَن الْأكل على الخوان وَفِي السكرجة والمرقق
عَن قَتَادَة عَن أنس رضي الله عنه قَالَ مَا أكل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قطّ وَلَا فِي سكرجة وَلَا خبز لَهُ مرقق قلت لأنس فعلى مَا كَانُوا يَأْكُلُون قَالَ على السّفر
فالخوان هُوَ شَيْء مُحدث فعلته الْأَعَاجِم وَالْعرب لم تكن لتمتهنها وَكَانُوا يَأْكُلُون على السّفر واحدتها سفرة وَهِي الَّتِي تتَّخذ من الْجُلُود لَهَا معاليق تنضم وتنفرج فبالانفراج سميت سفرة لِأَنَّهَا إِذا حلت معاليقها انفرجت فأسفرت عَمَّا فِيهَا وَإِنَّمَا سمي السّفر لأسفار الرجل بِنَفسِهِ عَن الْبيُوت والعمران
وَقَوله وَلَا فِي سكرجة لِأَنَّهَا أوعية الأصباغ وَلم يكن من شَأْنهمْ
الألوان إِنَّمَا كَانَ طعامهم الثَّرِيد عَلَيْهَا مقطعات اللَّحْم وَقَالَ صلى الله عليه وسلم انهس اللَّحْم نهسا فَإِنَّهُ أشهى وأمرأ
قَوْله وَلَا خبز لَهُ مرقق فَكَانَ عَامَّة خبزهم الشّعير وَإِنَّمَا يتَّخذ الرقَاق من دَقِيق الْبر وَقل مَا يتَّخذ وَيُمكن اتِّخَاذه من الشّعير وَإِنَّمَا الرقَاق لمن اتخذ الميسر وَالْميسر من فعل الْعَجم وَالْعرب تنهس اللَّحْم عَن وَكِيع مَا درينا مَا ورد طَعَام الْمَرِيض حَتَّى جَاءَنَا ابْن الْمُبَارك وَالْميسر من تيسير اللَّحْم وَهُوَ تَفْرِيق اللَّحْم الْيَسِير على النَّفر الْكثير
فَإِن قَالَ قَائِل فقد جَاءَ فِي الْأَخْبَار ذكر الْمَائِدَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تصلي الْمَلَائِكَة على الرجل مَا دَامَت مائدته مَوْضُوعَة عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ لَو كَانَ الضَّب حَرَامًا مَا أكل على مائدة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فرقد رَأَيْت مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وطعمت على مائدته الطَّعَام
فالمائدة كل شَيْء يمد ويبسط مثل المنديل وَالثَّوْب والسفرة لنسب إِلَى فعله وَكَانَ حَقه أَن يكون مَادَّة الدَّال مضاعفة فَجعلُوا إِحْدَى الدالين يَاء فَقيل مائدة وَالْفِعْل وَاقع بِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يكون ممدودا وَلَكِن خرجت فِي اللُّغَة مخرج فَاعل كَمَا قَالُوا سر كاتم وَهُوَ مَكْتُوم
وعيشه راضية وَهِي مرضية وَكَذَلِكَ قد خرجت فِي اللُّغَة مَا هُوَ فَاعل مخرج مفعول فَقَالُوا رجل مشؤوم وَإِنَّمَا هُوَ شائم وحجاب مَسْتُور وَإِنَّمَا هُوَ سَاتِر فالخوان هُوَ الْمُرْتَفع عَن الأَرْض بقوائمه والمائدة مَا مد وَبسط والسفرة مَا أَسْفر عَمَّا فِي جَوْفه وَذَلِكَ أَنَّهَا مَضْمُونَة بمعاليقها
عَن الْحسن رضي الله عنه قَالَ الْأكل على الخوان فعل الْمُلُوك وعَلى المنديل فعل الْعَجم وعَلى السفرة فعل الْعَرَب وَهُوَ السّنة
وَلما غلب الْعَجم على هَذَا الْفِعْل قيل للخوان مائدة وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا جَاءَ فِي التَّنْزِيل من ذكر الْمَائِدَة وَإِنَّمَا نزلت سفرة حَمْرَاء مُدَوَّرَة
-
الأَصْل الثَّالِث وَالْعشْرُونَ
-
فِي الْأَمر بِقطع المراجيح
عَن عَائِشَة رضي الله عنها أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَمر بِقطع المراجيح
مُرَجّح ومرجاح لُغَتَانِ فمرجح جمعه مراجح ومرجاح جمعه مراجيح كمفتح ومفاتح ومفتاح ومفاتيح وَهُوَ لَهو وَلعب إِنَّمَا كَانَ يَفْعَله الْعَجم فِي أَيَّام النيروز تفرجا وتلهيا عَن الغموم الَّتِي تراكمت على قُلُوبهم من رين الذُّنُوب وَقد تأدت الى الْعَرَب سنتها وَالْمُؤمن قد تعتوره الأحزان والغموم لَا محَالة فمحال أَن يَنْفَكّ عَنهُ غموم الذُّنُوب وأحزان مَشِيئَة الله تَعَالَى فِيهِ هَذَا حَال المقتصدة
فَأَما أهل الْمعرفَة وهم المقربون فغمومهم من الْبَقَاء فِي الدُّنْيَا فَإِن الدُّنْيَا مطبق المقربين ينتظرون مَتى الرَّاحَة مِنْهَا وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الدُّنْيَا سجن الْمُؤمن
وَأما أحزانهم فَمن ظماء الشوق إِلَى الله عز وجل فهذان الصنفان لم ينفكوا من الغموم وَالْأَحْزَان وسائرهم مخلطون بطالون لعمرهم غافلون عَن الْآخِرَة سكارى حيارى سكارى عَن وعده ووعيده حيارى فِي سيرهم إِلَيْهِ وركض اللَّيْل وَالنَّهَار بهم إِلَى الله تَعَالَى فهم الَّذين يفزعون من غموم الدُّنْيَا ورين الذُّنُوب المعذبة لقُلُوبِهِمْ فِي ظلمات سجون الْمعاصِي إِلَى المرجاح تلهيا وتلعبا يتفرجون ويتنشطون ويتلبسون ويلتمسون النزهة ونسيمها وَلَا يعلمُونَ أَن النزهة فِي نزاهة الْقُلُوب وتطهيرها من آفَات النَّفس وخدعها ورين الذُّنُوب حَتَّى يَجدوا نسيم الملكوت وروح قرب الله تَعَالَى على قُلُوبهم فِي عَاجل دنياهم
رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الْإِيمَان حُلْو نزه فنزهوا
فَإِذا التمس العَبْد هَذِه النزهة فَهُوَ نور على نور وَالْقلب مشحون بِالنورِ والصدر مشرق بِالنورِ يعلم من ربه وَيعلم مَا من بِهِ عَلَيْهِ ربه وَهُوَ عَنهُ غنى وَلكنه رَحمَه فَمن عَلَيْهِ مِمَّا يرى عِنْده فَأَي فَرح يَتَّسِع مَعَ هَذَا الْفَرح فِي قلب وَكَيف يبْقى فِي قلب فِيهِ هَذَا الْفَرح بِاللَّه متسع للفرح بالدنيا وَأَحْوَالهَا فالقلوب الَّتِي تعتورها غموم الْآخِرَة هِيَ نورانية تنفرج بِتِلْكَ الْأَنْوَار الَّتِي يطالع بهَا الْآخِرَة وعظيم الرَّجَاء من عِنْد الْمَاجِد الْكَرِيم وَأما الْقُلُوب الَّتِي تعتورها ظلمات الْمعاصِي فَهِيَ قُلُوب معذبة ونفوس لقسة وجوارح كسلة يُرِيدُونَ أَن يستروحوا إِلَى مثل هَذِه الْأَشْيَاء من الملاهي ويتنفسوا فِي فسيح النزهات وَقد أخذت غموم النَّفس بِأَنْفَاسِهِمْ وجرعتهم الغيظ فِي أَنهم لَا يصلونَ إِلَى مُنَاهُمْ على الصفاء فالملوك تخوف الْغدر والبيات مَعَهم والأمراء خوف الْعَزْل مَعَهم
والأغنياء خوف السَّلب مَعَهم وَالْأَصْحَاب خوف السقم مَعَهم فَهَذِهِ مخاوف مظْلمَة تورد على الْقلب مغمات كسحائب متراكمات تغور فِي جوفها من الْحر وَمَعَ تِلْكَ السحائب حر مؤذ وذباب كلما ذب آب وبراغيث يمنعن بَعضهنَّ عَن الرقاد
فَهَذِهِ صفة قلب المتنزهة بنزهة الدُّنْيَا فالسحائب مَعَاصيه وَالَّذِي يغور فِي جوفها إصراره على الْمعاصِي وَالْحر المؤذي شهواته الَّتِي تغلي فِي صَدره والذباب مناه كلما قضى نهمته من شَيْء عَادَتْ الْأُخْرَى والبراغيث تنافسه فِي دُنْيَاهُ وَفِي أَحْوَال دُنْيَاهُ وثاب إِلَيْهَا فَإِذا لم يصل إِلَيْهَا رجعت عَلَيْهِ بحزازة فعضته وَهُوَ الْحَسَد والغيرة والبغضة وَالْبخل وَالشح فَأَي قلب هَذِه صفته يتهنى بِنِعْمَة من نعم الدُّنْيَا فَلَا يغرن عَاقِلا ظَاهر فَرَحهمْ
كَمَا رُوِيَ عَن الفضيل بن عِيَاض أَنه قَالَ ذل الْمعْصِيَة وَالله فِي قُلُوبهم وَإِن دقدقت بهم الهمالج أَبى الله إِلَّا أَن يذل أهل مَعْصِيَته فَأمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِقطع تِلْكَ المراجيح وَكره لَهُم أَن يتزيوا بزِي من اشْترى الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة فَلَا خلاق لَهُ هُنَاكَ مَعَ أَن الْخطر فِي ذَلِك غير قَلِيل فَرُبمَا انْقَطع الْحَبل فاندق الْعُنُق فَصَارَ معينا على نَفسه فَأَما الَّذِي يرخص فِيهِ للتداوي لمريض ضَاقَ بعلته صَدره أَو للصبيان يعللون بِهِ فَذَاك لَهُم كالمهد يرج فِيهِ حَتَّى يذهب بِهِ النّوم لِأَن الطِّفْل لَا يعقل مَا يصلح لَهُ وَلَا يصبر على الضجعة حَتَّى يَأْخُذهُ النّوم كَمَا يصبر الْكَبِير
فيعلل بِتِلْكَ الأرجوحة فَيهْوِي بجسده تلقفا ودفعا حَتَّى ينَام فَلَيْسَ هَذَا بداخل عندنَا فِي النَّهْي لِأَن هَذَا يَأْخُذهُ على الِانْتِفَاع بِهِ لَا على الأشر والبطر وعَلى سَبِيل الملاهي فِي يَوْم أهل البطالات عَن دَاوُد بن أبي هِنْد رضي الله عنه قَالَ رَأَيْت الشّعبِيّ يتَرَجَّح فَنَظَرت إِلَيْهِ فَقَالَ إِنَّه نعت لي من وجع ظَهْري ومحتاجه هَذِه النَّفس إِلَى تَعْلِيل فِي كل مَكَان وَأَن تداوى ويرفق بهَا وَالله تَعَالَى رَفِيق يحب الرِّفْق فِي الْأُمُور كلهَا
عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله يحب الرِّفْق فِي الْأَمر كُله
وَعَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد رضي الله عنه قَالَ سَمِعت عَائِشَة رضي الله عنها تَقول قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من حرم حَظه من الرِّفْق
فقد حرم حَظه من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن أعطي حَظه من الرِّفْق فقد أعطي حَظه من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَمن الرِّفْق وَالتَّعْلِيل بِالنَّفسِ مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لما انْتَهَيْت إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى فَتَدَلَّى النُّور الْأَكْبَر فغشى السِّدْرَة فحار بَصرِي فحال دونه فرَاش من ذهب يعلله بذلك حَتَّى يقوى بَصَره على رُؤْيَة النُّور لِأَن الْفراش إِذا طَار هَكَذَا وَهَكَذَا حجبه مرّة وانكشف لَهُ مرّة
وَمَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عليه وسلم فِي قصَّة الْمِعْرَاج أَنه قَالَ لما انْتَهَيْت إِلَى قرب الْعَرْش تدلى رَفْرَف فأخذني من جِبْرَائِيل عليه السلام تناولا إِلَى سَنَد الْعَرْش فَجعل يهوي بِي يخفضني مرّة ويرفعني مرّة
فَذَاك تَعْلِيل النَّفس وَذَلِكَ أَنَّهَا لَا تقوى على مُبَاشرَة الْأُمُور فِي دفْعَة وَاحِدَة إِلَّا قَلِيلا قَلِيلا فقربه الرفرف فِي رَفعه الْعَرْش ثمَّ خفضه ثمَّ رَفعه لكَي تتمالك النَّفس وَلَو كَانَت دفْعَة وَاحِدَة لَكَانَ قمنا أَن لَا يَتَمَالَك فَكَانَ الرفرف سَببا لتداريه والرفق بِهِ وَإِنَّمَا قيل رَفْرَف لِأَنَّهُ يرفرف حول الْمُشَاهدَة والقربة وَيُقَال هُوَ أَخْضَر من الدّرّ والياقوت فِيمَا جَاءَ بِهِ الْخَبَر وَإِن أردنَا بِمَا ذكرنَا من هَذِه الْأَشْيَاء أَن المرجاح الَّذِي يوضع فِيهِ الصَّبِي أَو الْمَرِيض ليرجح بِنَفسِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا حَتَّى يجد الصَّبْر على الإستقرار فِي موطن وَاحِد خَارج من النَّهْي وَإِنَّمَا وَقع النَّهْي على من تشبه بِأَهْل البطالة فِي ذَلِك الْيَوْم وبالملوك الفراعنة الَّذين تلذذوا بِهِ فَإِن ذَلِك فعل ملهى مطرب مَعَ الْغناء والجواري وَالسَّمَاع على شاطىء الْأَنْهَار فِي تِلْكَ الْخضر وَنور الرّبيع وَأخذت الأَرْض زينتها وزخرفها فِي أَيَّام
النيروز مَعَ طيب الْهَوَاء وسجسجة الجو تنزهوا فِي نزهة الدُّنْيَا وتنعموا بالألوان وقضوا المنى والشهوات وحف بهم المعازف وركبوا المراجيح فتعجلوا طَيِّبَاتهمْ فِي حياتهم الدِّينَا
فَبَلغنَا أَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه كلم فِي امْتِنَاعه من التَّوَسُّع فِي النَّعيم فَتلا هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فَقيل لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَلَيْسَ هَذَا للْكفَّار فَقَالَ ثكلتك أمك الْكفَّار أَهْون على الله تَعَالَى من أَن يعاتبهم وَنظرت فِي هَذِه الْآيَة فَوجدت مبتدأها ذكر الْكفَّار وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَيَوْم يعرض الَّذين كفرُوا على النَّار} ثمَّ قَالَ فِي آخرهَا {فاليوم تُجْزونَ عَذَاب الْهون بِمَا كُنْتُم تستكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَبِمَا كُنْتُم تفسقون}
فَأخْبر أَنه إِنَّمَا جزاؤهم عَذَاب الْهون بالاستكبار بِغَيْر الْحق وبالفسق ليحذر الْمُؤمن أَن يستكبر فِي أرضه بِغَيْر الْحق وَأَن يفسق فَإِن دُخُول النَّار بالْكفْر وتضاعف الْعَذَاب وَقِسْمَة الدركات بِالْأَعْمَالِ السَّيئَة والأخلاق السَّيئَة وَدخُول الْجنَّة بِالْإِيمَان وتضاعف النَّعيم وَقِسْمَة الدَّرَجَات بِالْأَعْمَالِ والأخلاق الْحَسَنَة وَلما عير الْكفَّار بِالْكبرِ وَالْفِسْق فزع عمر رضي الله عنه من ذَلِك وَحقّ لَهُ أَن يفزع من التَّعْجِيل بِبَعْض الطَّيِّبَات فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا والاستمتاع بهَا
وَمن هَهُنَا مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه أُتِي بِعَسَل قد خيض بِمَاء فَرده وَقَالَ أما إِنِّي لَا أحرمهُ وَلَكِنِّي أتركه تواضعا لله تَعَالَى
كَأَنَّهُ رأى أَن النَّفس إِذا أَعْطَيْت شهواتها فَذَاك من الاستكبار وَإِذا منعت فَذَاك من التَّوَاضُع لله تَعَالَى هَذَا فِيمَا حل وَأطلق لَهُ فَكيف بِمَا حرم عَلَيْهِ وان الله تَعَالَى خلق الْجنَّة فحشاها بالنعيم ثَوابًا لأَهْلهَا وَخلق النَّار فحشاها بِالْعَذَابِ عقَابا لأَهْلهَا وَخلق الدُّنْيَا فحشاها بالآفات وَالنَّعِيم محنة وابتلاء ثمَّ خلق الْخلق وَالْجنَّة وَالنَّار فِي غيب مِنْهُم لم يعاينوه فالنعيم والآفات الَّتِي فِي الدُّنْيَا من أنموذج الْآخِرَة ومذاقه فِيهَا وَخلق فِي الأَرْض من عبيده ملوكا أَعْطَاهُم سُلْطَانا أرعب بِهِ الْقُلُوب وَملك بِهِ النُّفُوس قهرا أنموذجا ومثالا لتدبيره وَملكه ونفاذ أمره وَوصف الدَّاريْنِ وَضرب الْأَمْثَال ثمَّ قَالَ {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ}
وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَهْوَة وَلَا نعْمَة إِلَّا وَهِي أنموذج الْجنَّة وذوقها ثمَّ من وَرَاء ذَلِك فِيهَا مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر وَلَا سمي للعباد مِنْهَا لم ينتفعوا بِتِلْكَ الْأَسْمَاء لأَنهم لم يعقلوه هَهُنَا وَلَا رَأَوْهُ وَلَا أنموذج لَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْجنَّة مائَة دَرَجَة وَإِنَّمَا وصف مِنْهَا ثَلَاث دَرَجَات الذَّهَب وَالْفِضَّة والنور ثمَّ مَا وَرَاء ذَلِك لَا تحتمله الْعُقُول وَلأَهل الْجنَّة تلاق وزيارات ومتحدث من مَوَاطِن الألفة ومجتمع فِي ظلّ طُوبَى ويركبون رفارف والرفرف شَيْء إِذا اسْتَوَى عَلَيْهِ رَفْرَف بِهِ وأهوى بِهِ كالمرجاح يَمِينا وَشمَالًا ورفعا وخفضا يتلذذ مَعَ أنيسه فَإِذا ركبُوا الرفارف أَخذ إسْرَافيل عليه السلام فِي السماع
وَقَالَ طَلْحَة بن مطرف رضي الله عنه يُعجبنِي أَن يمر بِي يَوْم النيروز وَأَنا لَا أشعر بِهِ وَمن ذهب يَصُوم فِي ذَلِك الْيَوْم وَيزِيد فِي أَعمال الْبر يتوخى بذلك خلافًا لَهُم فَهَذَا مَذْهَب أَيْضا وَلَكِن الْمَذْهَب الأول وَهُوَ مَا ذكره طَلْحَة بن مصرف أسلم لَهُ فَإِن هَؤُلَاءِ اتخذوه عيدا لنزهتهم وسرورهم وَهَذَا قد اتَّخذهُ عيدا لعبادته والإتخاذ يشبه الاتخاذ وَإِن كَانَ العملان متباينين أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نهى عَن صَوْم يَوْم الْجُمُعَة وَقَالَ لَا تتخذوه عيدا
وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه أَنه أُتِي بفالوذج
فَقَالَ مَا هَذَا قَالُوا إِنَّه يَوْم نيروز وَذَلِكَ بِأَرْض الْعرَاق
قَالَ نورزوا كل يَوْم كَأَنَّهُ أَرَادَ ان لَا يعبأ بِهِ
-
الأَصْل الرَّابِع وَالْعشْرُونَ
-
فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم احشر أَنا وَأَبُو بكر وَعمر
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أحْشر أَنا وَأَبُو بكر وَعمر هَكَذَا وَأخرج السبابَة وَالْوُسْطَى والبنصر وَأرَاهُ قَالَ وَنحن مشرفون على النَّاس
السبابَة من الْأَصَابِع الَّتِي تلِي الابهام وَكَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة تدعى السبابَة لأَنهم كَانُوا يسبون بهَا فَلَمَّا جَاءَ الله تَعَالَى بالاسلام سَموهَا المشيرة وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يشيرون بهَا إِلَى الله عز وجل بِالتَّوْحِيدِ وَفِي حَدِيث وَائِل بن حجر سَمَّاهَا السباحة وَلَكِن اللُّغَة سَارَتْ بِمَا كَانَت تعرف فِي الْجَاهِلِيَّة فَغلبَتْ
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا تَأْكُلُوا بِهَاتَيْنِ وَأَشَارَ بالابهام والمشيرة وَقَالَ كلوا بِثَلَاث فَإِنَّهَا سنة وَلَا تَأْكُلُوا بِخمْس فَإِنَّهَا أَكلَة الْأَعْرَاب
فالأكل بالخمس عَلامَة الْحِرْص والاقتحام فِي الطَّعَام وَذَلِكَ مِمَّا يمحق الْبركَة وَيفْسد على أَصْحَابه حَتَّى يعافوه وَالْأكل بإصبعين مِمَّا لَا
يَسْتَوْفِي وَهِي أَكلَة الْمُلُوك وزي أهل النخوة الَّذين يَسْتَكْبِرُونَ ويمتنعون عَن الْأكل عتوا وتجبرا وصلفا وَإِذا نظرُوا فبلحاظ أَعينهم وَإِذا تكلمُوا فبأشداق أَفْوَاههم وَإِذا سمعُوا فبأصعار خدودهم وَإِذا تناولوا فبأطراف أناملهم وَإِذا مَشوا فبأجنحة صُدُورهمْ وتمطي خواصرهم متبخترين مشْيَة مطيطا بِضَم الْمِيم مدودا بطرا وعلوا وَالْأكل بِثَلَاثَة أَصَابِع تواضع عَن النخوة وعفة عَن الْحِرْص فَالْأول غلو وَالْآخر تَفْرِيط وَمَا بَينهمَا وسط
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رحمه الله ان دين الله وضع على الْقَصْد فَدخل الشَّيْطَان فِيهِ بالإفراط وَالتَّقْصِير فهما سبيلان إِلَى نَار جَهَنَّم وَعنهُ أَن دين الله تَعَالَى وضع دون الغلو وَفَوق التَّقْصِير
عَن كَعْب بن عجْرَة رضي الله عنه قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَأْكُل بِثَلَاث أَصَابِع بالإبهام وَالَّتِي تَلِيهَا وَالْوُسْطَى ثمَّ رَأَيْته لحق أَصَابِعه الثَّلَاث حِين أَرَادَ أَن يمسحها فلعق الْوُسْطَى ثمَّ الَّتِي تَلِيهَا ثمَّ الْإِبْهَام
فَأَما قَوْله صلى الله عليه وسلم أحْشر أَنا وَأَبُو بكر وَعمر يَوْم الْقِيَامَة هَكَذَا فَهَذَا على درجاتهم فَكَانَت إِشَارَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعه الثَّلَاث
وَرُوِيَ لنا عَن أَصَابِع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن المشيرة مِنْهَا كَانَت أطول
من الْوُسْطَى والبنصر أقصر من الْوُسْطَى وَذكر الْمنَازل والإشراف على الْخلق وَأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أعلاهم اشرافا ثمَّ من بعده أَبُو بكر دون رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَوق عمر ثمَّ من بعده عمر دون أبي بكر رضي الله عنهما فَمن لم يعرف شَأْن أَصَابِع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حمل تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث على الانضمام والاقتراب بَعضهم من بعض وَهَذَا معنى بعيد لِأَن حشر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حشر الرُّسُل عليهم السلام وَحشر أبي بكر وَعمر حشر الصديقين رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَكَذَلِكَ مقَامه فِي العرصات هُوَ فِي مقَام النَّبِيين ومقامهما من العرصات مقَام الصديقين
عَن مَيْمُونَة بنت كروم رضي الله عنها قَالَت خرجت فِي حجَّة حَجهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَقَد رَأَيْتنِي أتعجب وَأَنا جَارِيَة من طول إصبعه الَّتِي تلِي الْإِبْهَام على سَائِر أَصَابِعه
-
الأَصْل الْخَامِس وَالْعشْرُونَ
-
فِي أَن الْكِتَابَة قيد للْعلم وَحفظ لَهُ من النسْيَان
عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قيدوا الْعلم بِالْكِتَابَةِ
وَفِي الْمَأْثُور من الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن الله تَعَالَى لما خلق آدم خلق لِقَلْبِهِ غاشية تنطبق مرّة وترتفع مرّة فَمَا سمع والغاشية مُرْتَفعَة حفظه وَمَا سمع والغاشية منطبقة نَسيَه
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَنه قَالَ لعمر بن الْخطاب رضي الله عنه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مِم يذكر الرجل ومم ينسى فَقَالَ إِن على الْقلب طخاءة كطخاءة الْقَمَر فَإِذا تغشت الْقلب نسي بن آدم مَا كَانَ يذكر وَإِذا تجلت ذكر مَا كَانَ نسي
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن أول من خطّ بالقلم بعد آدم إِدْرِيس عليهما السلام وَسمي بذلك لِأَنَّهُ كَانَ يدرس الْكتب وَكتب نوح
عَلَيْهِ السَّلَام ديوَان السَّفِينَة وَكتب الله تَعَالَى التَّوْرَاة لعَبْدِهِ مُوسَى عليه السلام قَالَ تَعَالَى وكتبنا لَهُ فِي الألواح من كل شَيْء وَكتب الزبُور من زبر الرجل أَي كتب وَقَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله وكل شَيْء فَعَلُوهُ فِي الزبر أَي فِي اللَّوْح وَأول مَا بَدَأَ شَأْن الْكِتَابَة بَدَأَ الْقَلَم واللوح فَكتب مَا هُوَ كَائِن
وَالْكتاب حق وتدبير من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ والكتب الْجمع بَين الْحُرُوف وَمِنْه سميت الكتيبة لِأَنَّهَا جمعت فَإِذا قيدت الْمعَانِي بِهَذِهِ الْحُرُوف المخطوطة الَّتِي هِيَ دَلَائِل على الْمعَانِي فَإِن كَانَت مَحْفُوظَة فالكتاب مُسْتَغْنى عَنهُ وَإِن نسيت صَار الْكتاب نعم الْمُسْتَوْدع وَإِن دخل الْقلب ريب فِي ذَلِك نفى الريب واطمأنت النَّفس وَقد أدب الله عز وجل الْعباد وحثهم على مصالحهم فَقَالَ عز من قَائِل فِي شَأْن المداينة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم} الْآيَة
فَاعْلَم أَن الْكِتَابَة قسط عِنْد الله تَعَالَى وَهُوَ الْعدْل يُؤَدِّي مَا ائْتمن واستودع وأقوم للشَّهَادَة أَي أَحْرَى أَن يقوم بهَا وَأبْعد من الشَّك والريبة وَمن هَهُنَا أَخذ طَاوُوس فَقَالَ يَسعهُ أَن يشْهد على خطه وَهُوَ لَا يذكر فَإِذا كَانَ تجار الدُّنْيَا فِي المداينة فِيمَا بَينهم يقيدون الْأَمَانَات المؤجلة لِئَلَّا تدرس ليؤدوها فِي مَوَاقِيت حلهَا ندبهم الله تَعَالَى إِلَيْهِ ودلهم عَلَيْهِ كَانَ تجار الْآخِرَة فِي تَقْيِيد الْأَمَانَات الَّتِي أَخذ الله تَعَالَى الْمِيثَاق فِيهَا أَن يؤدوه وَلَا يكتموه أَحْرَى أَن يحافظوا عَلَيْهَا ويداوموا على إِثْبَاتهَا وَتَقْيِيد رسومها لِئَلَّا تدرس ليؤدوها فِي مواقيتها عِنْد حَاجَة الْخلق إِلَيْهَا فِي نوازلهم فَإِن أَمَانَة الدّين أعظم شَأْنًا من أَمَانَة الدُّنْيَا وَقد ائْتمن الله تَعَالَى
أهل الْأَمْوَال ليحرزوها ويحفظوها ويراقبوا أَمر الله تَعَالَى فِيهَا من صرفهَا فِي وجوهها وَإِخْرَاج حُقُوقهَا وإنفاقها فِي السبل الَّتِي أذن الله تَعَالَى فِيهَا
وائتمن الله تَعَالَى أهل الْعلم على مَا أودعهم من نوره وبراهينه وَكتبه وحججه ليحرزوها ويحفظوها ويراقبوا أَمر الله تَعَالَى فِيهَا من صرفهَا فِي وجوهها وَوضع كل شَيْء مِنْهَا موَاضعهَا وَإِخْرَاج حُقُوقهَا لأهل الْحَاجة إِلَيْهَا وإنفاقها فِي السَّبِيل الَّتِي سبلها الله تَعَالَى لَهُم وَلِهَذَا مَا جَاءَ فِي الْخَبَر ان الله تَعَالَى يخْتَص هذَيْن الصِّنْفَيْنِ من جَمِيع الْخلق لِلْحسابِ فَيَقُول للْعُلَمَاء كُنْتُم رُعَاة غنمي وَلأَهل الْأَمْوَال كُنْتُم خزان أرضي فقبلكم الْيَوْم طلبني
فالمراعي بيد الْخزَّان والمرعى بيد الرُّعَاة إِذا أرعى الخازن الْغنم رعاه الرَّاعِي وَذَلِكَ أَن مرعى الْغنم دنياهم وَالدُّنْيَا بأيدي الْخزَّان وَالرِّعَايَة بأيدي الرُّعَاة يسوقهم إِلَيْهَا فيرعيهم ويوردهم المَاء حَتَّى يعيشوا وَهُوَ الْعلم الَّذِي بَين لَهُم مِنْهُ وَإِن تردي مترد جبر كسيرته وَإِن عدى الذِّئْب طردهم عَنهُ بالكلاب وَإِن مَال إِلَى منابت السوء من السمُوم القاتلة صرف وُجُوههم عَنْهَا فَهَؤُلَاءِ الرُّعَاة فَهَذَا شَأْن عَظِيم قد قلدوا من أُمُور الْخلق فَوَقَعت شدَّة الْحساب عَلَيْهِم وَإِذا منع الخازن هَلَكت الْغنم وَإِذا ضيع الرَّاعِي هَلَكت وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْخَبَر أَنه يُنَادى يَوْم الْقِيَامَة يَا راعي السوء أكلت اللَّحْم وشربت اللَّبن ولبست الصُّوف وَلم تأو لي الضَّالة وَلم تجبر الكسيرة وَلم ترعسها فِي مرعاها الْيَوْم أنتقم مِنْك
فَأَما قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن تُوضَع الأخيار وترفع الأشرار وَأَن تقْرَأ الْمُثَنَّاة على رُؤُوس النَّاس وَمَا
شددت الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم فِي ذَلِك فَقَالُوا كتاب مَعَ كتاب الله فَإِن ذَلِك مِمَّا كَانَت الْيَهُود فعلته وَقد وصف الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم فَقَالَ فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا
وَذَلِكَ أَنه لما درس الْأَمر فيهم وَسَاءَتْ رَغْبَة عُلَمَائهمْ أَقبلُوا على الدُّنْيَا حرصا وجمعا فطلبوا شَيْئا يصرف وُجُوه النَّاس إِلَيْهِم فأحدثوا فِي شريعتهم وبدلوا وألحقوا ذَلِك بِالتَّوْرَاةِ وَقَالُوا لسفهائهم هَذَا من عِنْد الله ليقبلوها عَنْهُم فتتأكد رياستهم وينالوا بِهِ حطام الدُّنْيَا وَكَانَ مِمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ أَن قَالُوا لَيْسَ علينا فِي الْأُمِّيين سَبِيل وهم الْعَرَب أَي مَا أَخذنَا من أَمْوَالهم فَهُوَ حل لنا وَكَانَ مِمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ أَن قَالُوا لَا يضرنا ذَنْب فَنحْن أحباؤه وأبناؤه تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا وَإِنَّمَا كَانَ فِي التَّوْرَاة يَا أحباري وَيَا أَبنَاء رُسُلِي فغيروه وَكَتَبُوا يَا أحبائي وَيَا أبنائي فَأنْزل الله تَعَالَى تكذيبهم
{وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه قل فَلم يعذبكم بذنوبكم} فَقَالَت لن يعذبنا وَإِن عذبنا فأربعين يَوْمًا مِقْدَار أَيَّام الْعجل فَأنْزل الله تَعَالَى وَقَالُوا لن تمسنا النارإلا أَيَّامًا مَعْدُودَة قل أتخذتم عِنْد الله عهدا فَلَنْ يخلف الله عَهده أم تَقولُونَ على الله مَالا تعلمُونَ بلَى من كسب سَيِّئَة الأية
فحذر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم هَذِه الْأمة لما قد علم مَا يكون فِي آخرالزمان فَحَذَّرَهُمْ أَن يحدثوا من تِلْقَاء أنفسهم مُعَارضا لكتاب الله تَعَالَى
فيضلوا بِهِ النَّاس والمثناة مَا ثني من الْكتاب ليصرف وُجُوه النَّاس عَن كتاب الله تَعَالَى فَأَما إِثْبَات الْكتاب وَمَا سمعُوا من الرَّسُول صلى الله عليه وسلم من تَفْسِيره وَبَيَانه وَشَرحه فمحمود قَالَ صلى الله عليه وسلم أَلا وَإِنِّي أُوتيت الْكتاب وَمثله فَلَا يتكئن أحدكُم على أَن يَقُول مَا وجدنَا فِي كتاب الله عز وجل أَخذنَا بِهِ وَمَا لم نجد تَرَكْنَاهُ فِي كَلَام نَحْو هَذَا
وَكَانَ الَّذين يَأْخُذُونَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أهل بصائر ويقين وتجلية قُلُوب ويحفظون عَنهُ فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الْقرن الَّذِي يَلِيهِ وَظَهَرت الْفِتَن احْتِيجَ الى إثْبَاته فِي الْكتب
فَمنهمْ من هاب ذَلِك لِأَنَّهُ رَآهُ حَدثا وأمرا لم يكن على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فهاب أَن يكون بِدعَة وَمِنْهُم من تجاسر عَلَيْهِ لما رأى فِيهِ من النَّفْع كَمَا تجاسر أَبُو بكر رضي الله عنه على جمع الْقُرْآن وهابه عمر رضي الله عنه وَقَالَ أنفعل مَا لم يفعل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ عمر رضي الله عنه فَلم يزل يرادني فِي ذَلِك حَتَّى شرح الله صَدْرِي لذَلِك كَمَا شرح صَدره فَجمعُوا على تأليفه أبي بن كَعْب وقراء الْقُرْآن رضي الله عنهم فَكَذَلِك هَذِه الْكتب لم يزل النَّاس كلما مضى قرن احوج إِلَى تَقْيِيده وَبَيَانه وَشَرحه لِأَن الْعلم فِي إدبار وَالْجهل فِي إقبال حَتَّى غلب الْجَهْل وأحاط بالخلق الْبلَاء ونجمت قُرُون الْبدع فأحوج مَا كَانُوا إِلَى شَرحه وَبَيَانه فِي هَذَا الْوَقْت وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَقد أذن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لغير وَاحِد من أَصْحَابه فِي ذَلِك رضوَان الله عَلَيْهِم
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَن رجلا شكى إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سوء الْحِفْظ فَقَالَ اسْتَعِنْ بيمينك
عَن عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنه أَنه اسْتَأْذن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي صحيفَة يكْتب فِيهَا مَا سمع مِنْهُ فَأذن لَهُ
عَن عبد الله بن عَمْرو أَنه قَالَ يَا رَسُول الله أكتب مَا أسمع مِنْك قَالَ نعم قَالَ عِنْد الْغَضَب والرضى قَالَ نعم فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَن أَقُول إِلَّا حَقًا
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خطب حَيْثُ افْتتح مَكَّة شرفها الله فَقَامَ رجل من أهل الْيمن يُقَال لَهُ أَبُو شاه فَقَالَ اكْتُبْ هَذَا لي يَا رَسُول الله فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اكتبوه لأبي شاه يَعْنِي تِلْكَ الْخطْبَة
عَن عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه قَالَ قيدوا الْعلم قُلْنَا وَمَا تَقْيِيده قَالَ علمُوا وتعلموا واستنسخوه فَإِنَّهُ يُوشك أَن يذهب الْعلمَاء وَيبقى الْقُرَّاء لَا يُجَاوز قِرَاءَة أحدهم تراقيه
-
الأَصْل السَّادِس وَالْعشْرُونَ
-
فِي ذكر فتاني الْقَبْر
عَن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يَوْمًا فتاني الْقَبْر فَقَالَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه أترد إِلَيْنَا عقولنا يَا رَسُول الله قَالَ نعم كهيئتكم الْيَوْم فَقَالَ عمر رضي الله عنه فَفِي فِيهِ الْحجر
الْمُؤمن كريم على ربه يدل بزلفاه على خلقه فَمن عرض لَهُ بِسوء عَارضه بِإِذن الله معتزا بِاللَّه وَكَيف لَا يكون هَكَذَا وَقد أوصى الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يعلمُونَ}
اعْلَم أَن الْمُنَافِقين لَا يعلمُونَ هَذَا فَأَما الْمُؤْمِنُونَ فقد بَان لَهُم أَن الله تَعَالَى قد أعزهم وَبَان لَهُم عِنْد أنفسهم أَنهم إِنَّمَا يعتزون بِاللَّه تَعَالَى فعمر
رَضِي الله عَنهُ حِين ذكر لَهُ فتاني الْقَبْر كَأَنَّهُ غاظه ذَلِك من فعل الفتانين فَفَزعَ إِلَى الله تَعَالَى وَسَأَلَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فَإِنَّمَا كَانَ يجد الْخَبَر من الْغَيْب على لِسَانه أترد إِلَيْنَا عقولنا فَلَمَّا قَالَ نعم كهيئتكم الْيَوْم أنطقته الجرأة الدَّالَّة لَا جرْأَة الحماقة وجرأة الدَّالَّة من الْيَقَظَة والمعرفة وجرأة الحماقة من الْجَهْل والغفلة فَقَالَ فَفِي فِيهِ الْحجر أَي أَنه إِذا كَانَ عَقْلِي الَّذِي معي الْيَوْم يرد عَليّ كَهَيْئَته الْيَوْم معي أسكته بِحسن الْجَواب فَكَأَنِّي ألقمته الْحجر أَي بجوابي وَبِمَا أعطي من سُلْطَان الْحق ونفاذ بَصِيرَة الْعقل لِأَنَّهُ نظر فَوَجَدَهُ كَأَنَّهُ أعطي سُلْطَان الامتحان وَنظر إِلَى نَفسه فَوَجَدَهُ قد أعطي سُلْطَان الْحق ونوره فَلم يبال بِهِ وَخلق خلقَة مُنكرَة وَسمي مُنْكرا لذَلِك وسمى صَاحبه نكيرا وَقد وصفهما رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالرعد القاصف وشعورهما تَحت أقدامهما يحفران الأَرْض بأنيابهما فَإِذا كَانَ فِي الْقلب من سُلْطَان الْمعرفَة مَا لَا يهاب مُلُوك الدُّنْيَا وسائرها مَا ينفر مِنْهُ الْقُلُوب فَإِنَّهُ لَا يهاب مُنْكرا ونكيرا وَقَالَ عمر رضي الله عنه فِي رِوَايَة إِذا أكفيهما يَا رَسُول الله
وَعَن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَنه خرج فِي سفر لَهُ فَإِذا الْجَمَاعَة على طَرِيق فَقَالَ مَا هَذِه الْجَمَاعَة قَالُوا أَسد قطع الطَّرِيق قَالَ فَنزل وَمَشى إِلَيْهِ حَتَّى قفده بِيَدِهِ ونحاه عَن الطَّرِيق ثمَّ قَالَ مَا كذب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّمَا يُسَلط على ابْن آدم من خافه ابْن آدم وَلَو أَن ابْن آدم لم يرج إِلَّا الله لم يكله الله إِلَى أحد غَيره
وَحَدِيث ابْن عمر رضي الله عنهما يدل على أَن كلا إِنَّمَا يرد إِلَيْهِ عقله الَّذِي خرج بِهِ من الدُّنْيَا على تِلْكَ الْهَيْئَة وَبَين الْعُقُول تفَاوت فَإِذا كَانَ عقل الرجل وافرا فَاسْتَقْبلهُ هول من أهوال الدُّنْيَا من ذِي سُلْطَان أَو
غَيره فاستقام وَلم يدهش وَلم تصبه الْحيرَة فِي أمره كَانَ يَوْمئِذٍ مردودا عَلَيْهِ ذَلِك الْعقل فَإِذا استقبله هول فتاني الْقَبْر لم يدهش وَلم يتحير وَمن كَانَ عقله الْيَوْم مَا إِذا حل بِهِ شَيْء من ذَلِك الْوَجْه دهش وتحير وَلم يثبت على الإستقامة حَتَّى مَال كَانَ إِذا إستقبله هول فتاني الْقَبْر هُنَاكَ مثل ذَلِك وان الله تَعَالَى يلطف لعَبْدِهِ الْمُؤمن وينصره ويثبته فِي الْأَحَايِين كلهَا قَالَ عز من قَائِل {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} فعلى قدر ثباته فِي الدُّنْيَا يكون ثباته فِي الْقَبْر
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه ذكر حَدِيث الصُّور فَقَالَ فِي آخر ذَلِك بقول الله تَعَالَى لملك الْمَوْت عليه السلام من بَقِي فَيَقُول بقيت أَنْت الْحَيّ القيوم الَّذِي لَا يَمُوت وَبَقِي عَبدك ملك الْمَوْت فَيَقُول يَا ملك الْمَوْت أَنْت خلق من خلقي خلقتك لما ترى فقد مَاتَ الْخلق كلهم فمت ثمَّ لَا تحيى أبدا
وَقد امتننع كثير من الروَاة من رِوَايَة هَذَا الْحَرْف ثمَّ لَا تحيى أبدا وهاب هَذِه الْكَلِمَة وَذَلِكَ مبلغ علمه فَنَظَرْنَا فِي هَذَا الْحَرْف فَوَجَدنَا أَن الله تَعَالَى يحب الْمُؤمن وَمن حبه إِيَّاه رزقه الْإِيمَان والمعرفة فقمن أَن يتْرك إحْيَاء ملك الْمَوْت عليه السلام كَرَامَة للْمُؤْمِنين فَإِن كل من لَقِي من أحد شدَّة ثقل عَلَيْهِ النّظر إِلَيْهِ فَكيف بِمن قَتله وَقطع روحه من كل مفصل حَتَّى نَزعه أَلا ترى أَنه كَانَ يَأْتِيهم عيَانًا فَشَتَمُوهُ وآذوه فَشَكا إِلَى الله عز وجل فصير أَمر فِي خَفَاء وهيأ لَهُم الْأَسْبَاب من
الْأَمْرَاض والعلل لكَي يدرس ذكر ملك الْمَوْت عليه السلام عَن قُلُوبهم وألسنتهم وَيَقُولُونَ مَاتَ فلَان بعلة كَذَا
أَلا ترى أَنه لطمه مُوسَى عليه السلام ففقأ عينه فَرجع يشكو إِلَى الله عز وجل وَإِنَّمَا فَقَأَ عين الصُّورَة الَّتِي كَانَ أَتَاهُ فِيهَا وَهَذَا عِنْد من يجهل مَعْنَاهُ مُنكر مَرْفُوع مُتَّهم رُوَاته وَكَيف يتهم رُوَاته وَقد روته الْأَئِمَّة من غير وَجه
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ كَانَ ملك الْمَوْت يَأْتِي النَّاس عيَانًا حَتَّى أَتَى مُوسَى عليه السلام فَلَطَمَهُ ففقأ عينه فَرجع ملك الْمَوْت إِلَى ربه عز وجل فَقَالَ يَا رب إِن عَبدك مُوسَى فعل بِي مَا ترى وَلَوْلَا كرامته عَلَيْك لشققت عَلَيْهِ قَالَ إرجع إِلَى عَبدِي مُوسَى فَقل لَهُ فليضع يَده على متن ثَوْر فخيره بِكُل شَعْرَة توازي كَفه أَن يعِيش سنة فَقَالَ مُوسَى عليه السلام يَا ملك الْمَوْت فَمَا بعد ذَلِك فَقَالَ الْمَوْت قَالَ فَمن الْآن قَالَ فشمه شمة فَقبض روحه فَرد عَلَيْهِ بَصَره فَكَانَ يَأْتِي النَّاس بعد ذَلِك فِي خُفْيَة
وَإِنَّمَا استجاز ذَلِك مُوسَى عليه السلام لِأَنَّهُ كليم الله تَعَالَى كَأَنَّهُ رأى أَن من اجترأ عَلَيْهِ وَمد يدا بالأذى إِلَيْهِ فقد عظم الْخطب فِيهِ وَإِنَّمَا اعتز بِاللَّه تَعَالَى وَرغب فِي عِبَادَته ودعوة الْخلق إِلَيْهِ لَا شحا على الْحَيَاة وحرصا على الدُّنْيَا وتلذذا بهَا
-
الأَصْل السَّابِع وَالْعشْرُونَ
-
فِي أَن من السّنة مُشَاركَة الجليس فِي الْهَدِيَّة
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أَتَى أحدكُم بهدية فجلساؤه شركاؤه فِيهَا
فالجلساء هم الَّذين داموا على مجالستهم مَعَك وفاوضوك فِي أمورك فَلَيْسَ كل من جلس إِلَيْك فَهُوَ جليسك كَمَا يُقَال أكيلك وشريبك وحريفك ووزيرك وَلَيْسَ كل من أكل مَعَك مرّة أَو وازرك على أَمر مرّة بأكيل أَو وَزِير فَإِذا أهْدى لَك فَلهُ من الْحق أَن تحذي لَهُ مِنْهَا لِأَن
كرامتك كرامته وَهُوَ من أهل وَصِيَّة الله تَعَالَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ فَقَالَ {والصاحب بالجنب}
قيل فِي التَّفْسِير رفيقك فِي السّفر وجليسك فِي الْحَضَر وامرأتك الَّتِي تضاجعك
عَن مَالك بن دِينَار رضي الله عنه قَالَ يَقُول الله تَعَالَى إِنِّي لأهم بِعَذَاب أهل الأَرْض فَإِذا نظرت إِلَى جلساء الْقُرْآن وعمار الْمَسَاجِد وولدان الْإِسْلَام يسكن غَضَبي
فَلَيْسَ كل من قَرَأَ الْقُرْآن فَهُوَ جليس الْقُرْآن إِنَّمَا الجليس من جالسه الْقُرْآن وفاوضه وأبدا لَهُ عَن أسراره وعجائبه وبواطنه وَإِنَّمَا يكون هَذَا لمن انْتَفَى عَنهُ جور قلبه وَذَهَبت خِيَانَة نَفسه فَأَمنهُ الْقُرْآن فارتبع فِي صَدره وَتكشف لَهُ عَن زينته وبهائه وَكَذَلِكَ عمار الْمَسَاجِد لَيْسَ كل من أنْفق فِي مَسْجِد أَو رمه فَهُوَ من الْعمار إِنَّمَا عمار الْمَسَاجِد من عمرها بِذكرِهِ قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} الْآيَة فجليس الْقُرْآن من جالسه الْقُرْآن فَإِذا وجدالقلب طَاهِرا جالسه الْقُرْآن وكشف عَن وَجهه فَإِن وَجهه بَاطِنه وَهَذَا ظَهره الَّذِي يعقله النَّاس
وَمِنْه مَا قيل لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّا لنجد لقراءتك لَذَّة يَا رَسُول الله مَا لَا نجد لقِرَاءَة أحد قَالَ لأنكم تقرأونه لظهر وَأَنا أقرأه لبطن فَلَا يكْشف عَن وَجهه إِلَّا الْأمين الَّذِي لَا يخونه
وَمثله كَمثل عروس مزين مد يَده إِلَيْهَا دنس متلوث فِي الْمَزَابِل متلطخ بالأقذار وَهِي تعرض عَنهُ أَنَفَة وتعافه وتقذره فَإِذا تطهر ثمَّ تزين فقد أدّى حَقّهَا أَقبلت إِلَيْهِ بوجهها ففاوضته وَصَارَت لَهُ جليسة فَكَذَلِك الْقُرْآن لَهُ ظهر وبطن فوجهه مِمَّا يَلِي بَطْنه والزينة والبهاء وَالْحسن فِي الْوَجْه فَلَا يكون جَلِيسا إِلَّا من تطهر من الذُّنُوب ظَاهرا وَبَاطنا وتزين بِالطَّاعَةِ ظَاهرا وَبَاطنا فَعندهَا يأمنه الْقُرْآن فيتحلى لَهُ بزينته وبهائه ومواعظه وَحكمه وَمَا حشى الله تَعَالَى فِيهِ من الْمَنّ واللطف لِعِبَادِهِ وَحرَام على من لَيْسَ هَذِه صفته أَن ينَال ذَلِك وَكَيف ينَال الْبر واللطف عبد آبق من مَوْلَاهُ هارب على وَجهه لَا يزْدَاد على تجدّد الْأَيَّام إِلَّا هربا بِنَفسِهِ إِنَّمَا ينَال الْبر إِذا أقبل إِلَيْهِ من إباقه تَائِبًا نَادِما فيمكث فِي التَّوْبَة مُدَّة يظْهر لَهُ نصحه فهناك فليتوقع بره ولطفه فَكَذَلِك هَذَا كَيفَ ينَال الْبر واللطف من الله تَعَالَى من قلبه مكب على حطام الدُّنْيَا وَقَضَاء الشَّهَوَات وَإِنَّمَا الْبر واللطف لِلْمُتقين والمحسنين وَقَالَ تَعَالَى {سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق}
وَعَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ من تواضع لله دَرَجَة رَفعه الله دَرَجَة وَمن تواضع لله دَرَجَات رَفعه الله دَرَجَات حَتَّى يَجعله فِي أعلا عليين وَمن تكبر على الله دَرَجَة وَضعه الله دَرَجَة وَمن تكبر على الله دَرَجَات وَضعه الله دَرَجَات حَتَّى يَجعله فِي أَسْفَل سافلين
فالمتكبر بِغَيْر الْحق هُوَ الَّذِي يقْضِي نهمته وشهوته وَلَا يُبَالِي أذن الله لَهُ فِيهَا أَو لم يَأْذَن فَهُوَ من الله تَعَالَى على عُقُوبَة أَن يضيعه فَكيف ينيله الْبر واللطف الَّذِي يرِيه أحباءه فِي تَنْزِيله الْكَرِيم بل إِذا تلاه صرف قلبه عَنْهَا فَلَا يعيه وَلَا يفهمهُ كَمَا صرف هَذَا بِقَلْبِه عَن الله تَعَالَى إِلَى نَفسه ودنياه وَرُوِيَ فِي التَّفْسِير فِي قَوْله تَعَالَى {سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض} قَالَ أنزع عَنْهُم فهم الْقُرْآن فَلَا يفهمونه وَلَا يحدون لَهُ حلاوة وَلَا لذاذة وَذَلِكَ أَن الْفَهم نور إِذا ورد على الْقلب دنس الْمعاصِي ارتحل النُّور فتحير عَن فهمه وَرُوِيَ فِي الحَدِيث أَنه قَالَ يَأْتِي على النَّاس زمَان يخلق الْقُرْآن فِي صُدُورهمْ حَتَّى يتهافت مثل الثَّوْب الْخلق الْبَالِي
-
الأَصْل الثَّامِن وَالْعشْرُونَ
-
فِي سر إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ بَيْنَمَا رجل يمشي فِي الطَّرِيق إِذا أبْصر بِغُصْن شوك فَقَالَ وَالله لأرفعهن هَذَا لَا يُصِيب أحدا من الْمُسلمين فرفعه فغفر لَهُ
قَالَ أَبُو عبد الله لَيْسَ بِرَفْع الْغُصْن نَالَ الْمَغْفِرَة فِيمَا نعلمهُ وَلَكِن بِتِلْكَ الرَّحْمَة الَّتِي عَم بهَا الْمُسلمين فَشكر الله لَهُ عطفه ورأفته بهم
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا عبد لم يعْمل لله خيرا قطّ مر على بِئْر فَشرب فَإِذا هُوَ بكلب يَلْهَث عطشا فغرف لَهُ بخفه فَسَقَاهُ فَشكر الله لَهُ ذَلِك فغفر لَهُ وبينما عبد لم يعْمل لله
تَعَالَى خيرا قطّ فَمر على غُصْن شوك فأماطه عَن الطَّرِيق فغفر الله لَهُ وبينما عبد لم يعْمل لله تَعَالَى خيرا قطّ فَفرق فَخرج هَارِبا فَجعل يُنَادي يَا أَرض اشفعي لي وَيَا سَمَاء اشفعي لي وَيَا كَذَا اشفعي لي حَتَّى أَصَابَهُ الْعَطش فَوَقع فَلَمَّا أَفَاق قيل لَهُ قُم فقد شفع لَك من قبل فرقك من الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو عبد الله فَإِنَّمَا غفر لَهُ من أجل الرَّحْمَة الَّتِي رحم بهَا الْكَلْب وَإِنَّمَا غفر لَهُ من أجل الْفرق الَّذِي حل بِقَلْبِه لِأَنَّهُ عمل فِيهِ حَتَّى فَارق الْمعاصِي أصلا فَتَركه بالجوارح فعلا وَتَركه قلبا ونفسا فطهر الظَّاهِر وَالْبَاطِن واماتت مِنْهُ شَهْوَة كل مَعْصِيّة وَالَّذِي يتْرك الْمعاصِي بجوارحه وشهوتها فِي قلبه وَنَفسه تنازعه إِلَى ذَلِك فَإِنَّهُ طهر ظَاهره فَلم يطهر بَاطِنه فَلم يستكمل التَّوْبَة بحقيقتها وَلما أنزل الله تَعَالَى على نبيه صلى الله عليه وسلم {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} قَالَ فَلَمَّا تَلَاهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على أَصْحَابه رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ خر فَتى مغشيا عَلَيْهِ فَوضع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَده على فُؤَاده فَإِذا هُوَ يَتَحَرَّك قَالَ يَا فَتى قل لَا إِلَه إِلَّا الله فأفاق الْفَتى وَهُوَ يَقُولهَا فبشره رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِالْجنَّةِ فَقَالَ أَصْحَابه يَا رَسُول الله أَمن بَيْننَا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم أما سَمِعْتُمْ الله يَقُول {ذَلِك لمن خَافَ مقَامي وَخَافَ وَعِيد}
والرهب هرب الْقلب من هول سُلْطَان الله وَهُوَ أكبر من الْخَوْف وَالْخَوْف خيفته وانزعاجه والرغب التهاب الْقلب حرصا على الشَّيْء وَهُوَ أَعلَى من الطمع
-
الأَصْل التَّاسِع وَالْعشْرُونَ
-
فِي النَّظَافَة
عَن عبد الله بن بشر الْمَازِني رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قصوا أظافيركم وادفنوا قلاماتكم ونقوا براجمكم ونظفوا لثاتكم من الطَّعَام وتسننوا وَلَا تدْخلُوا عَليّ قخرا بخرا
أما قصّ الْأَظْفَار فَلِأَنَّهَا تخدش وتضر وَهُوَ مجمع الْوَسخ وَرُبمَا أجنب وَلَا يصل المَاء إِلَى الْبشرَة من الْوَسخ فَلَا يزَال جنبا والأظافير جمع الأظفور والأظفار جمع الظفر وَفِي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه سَهَا فِي صلَاته فَقَالَ وَمَا لي لَا أوهم وَرفع أحدكُم بَين ظفره وأنملته ويسألني أحدكُم عَن خبر السَّمَاء وَفِي أظافيره الْجَنَابَة والتفث
وَأما دفن القلامة فَإِن جَسَد الْمُؤمن ذُو حُرْمَة فَمَا سقط مِنْهُ فحظه من
الْحُرْمَة قَائِم وَقد أَمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بدفن دَمه حَيْثُ احْتجم كَيْلا يبْحَث عَنهُ الْكلاب
وَعَن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أَنه أَتَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يحتجم فَلَمَّا فرغ قَالَ يَا عبد الله بن الزبير اذْهَبْ ببهذا الدَّم فاهرقه حَيْثُ لَا يراك أحد فَلَمَّا برز عمد إِلَى الدَّم فشربه فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ يَا عبد الله مَا صنعت بِهِ قَالَ جعلته فِي أخْفى مَكَان ظَنَنْت أَنه خَافَ على النَّاس قَالَ لَعَلَّك شربته قَالَ نعم قَالَ لم شربت الدَّم ويل للنَّاس مِنْك وويل لَك من النَّاس
عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمر بدفن سَبْعَة أَشْيَاء من الْإِنْسَان الشّعْر وَالظفر وَالدَّم والحيضة وَالسّن والقلفة والمشيمة
والبرجمة ظهر عقدَة كل مفصل وَهُوَ مجمع الدَّرن والراجبة قصب الإصبع مَا بَين العقدتين فَلِكُل إِصْبَع برجمتان وَثَلَاث رواجب إِلَّا الْإِبْهَام فَإِن لَهَا برجمة وراجبتين أَمر بتنقيتها لِئَلَّا تدرن فيحول درن تِلْكَ الْفُصُول بَين المَاء والبشرة وَتبقى الْجَنَابَة واللثة هِيَ اللحمة فَوق الْأَسْنَان وَدون الْأَسْنَان وَهِي منابتها والعمور اللحمة القليلة بَين السنين وَاحِدهَا عمر أَمر بتنظيفها لِئَلَّا يبْقى فِيهَا وضر الطَّعَام فتتغير النكهة وتنكر الرَّائِحَة
وَقَوله تسننوا أَي استاكوا مَأْخُوذ من السن أَي نظفوا السن وَقَوله لَا تدْخلُوا عَليّ قخرا بخرا الْمَحْفُوظ عِنْدِي قلحا وقحلا والأقلح الَّذِي اصْفَرَّتْ أَسْنَانه حَتَّى بخرت من بَاطِنهَا وَلَا نَعْرِف القخر والبخر إِلَّا الَّذِي نجد لَهُ رَائِحَة مُنكرَة يُقَال رجل أبخر وَرِجَال بخر
-
الأَصْل الثَّلَاثُونَ
-
فِي أدب الصُّحْبَة
عَن عبَادَة بن الصَّامِت رضي الله عنهما أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَيْسَ من أمتِي من لم يجل كَبِيرنَا وَيرْحَم صَغِيرنَا وَيعرف لعالمنا حَقه
فالإجلال للكبير هُوَ حق سنه الله تَعَالَى أَنه تقلب فِي العبودة لله تَعَالَى فِي مُدَّة طَوِيلَة وَالرَّحْمَة للصَّغِير هُوَ مُوَافقَة لله تَعَالَى بِأَنَّهُ رَحمَه وَرفع عَنهُ العبودة فَلم يؤاخذه بِحِفْظ حد وَلَا حكم وَمَعْرِفَة حق الْعَالم هُوَ حق الْعلم أَن يعرف قدره بِمَا رفع الله من قدره وآتاه الْعلم قَالَ تَعَالَى {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} فَيعرف درجاته الَّتِي رفع رفع الله لَهُ بِمَا آتَاهُ من الْعلم
-
الأَصْل الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي حَقِيقَة الاستيداع وسره
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أردْت سفرا أَو تخرج مَكَانا فَقل لأهْلك أستودعكم الله الَّذِي لَا يخيب ودائعه
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لعمر إِن الله إِذا استودع شَيْئا حفظه أصل الْوَدِيعَة هُوَ التّرْك والتخلي عَن الشَّيْء وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} أَي مَا تَركك
وَإِن الله تَعَالَى جعل الْأُمُور إِنَّمَا تقوم بالأسباب محنة وبلوى لينْظر من ينفذ قلبه من الْأَسْبَاب إِلَى ولي الْأَسْبَاب وَمن يتَعَلَّق بهَا فَيكون قلبه سبيا من سبي الْأَسْبَاب فَيكون مثله كَمَا ذكر الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله فَقَالَ
{ضرب الله مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل}
فَهَذَا فِي الظَّاهِر تَجِد رجلا يعبد أصناما ورجلا سلما للْوَاحِد القهار وَفِي الْبَاطِن رجلا فِي قلبه شُرَكَاء متشاكسون وَهِي شهواته الَّتِي تغلي فِي صَدره فقد سبى قلبه أَسبَاب تِلْكَ الشَّهَوَات ورجلا قد انْفَرد قلبه للْوَاحِد وخلا من جَمِيع الْأَسْبَاب وَمَاتَتْ نَفسه من الشَّهَوَات {هَل يستويان مثلا} ثمَّ قَالَ {الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ}
ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ}
فَأهل الظَّاهِر لم يعبروا عَن الْأَسْبَاب إِلَى وَليهَا فضيعوا حُقُوقه وركبوا مساخظه وَأهل الْيَقِين يعلمُونَ ربوبيته قَائِمَة فِي الْأَسْبَاب فَلَا تطرف عين وَلَا ينبض عرق وَلَا تحس حاسة إِلَّا بِإِذْنِهِ وقوام الْأَشْيَاء ودوامها بِهِ فاحتدت أبصار قُلُوبهم بِنور الْيَقِين فنفذت إِلَى تَدْبِير ولي الْأَسْبَاب فاستوطنت على الْقرْبَة عاكفة على رَبهَا عز وجل وَوَلَّتْ الْأَسْبَاب ظهرا فَهُوَ يمْضِي فِي الْأَسْبَاب كَسَائِر الْخلق والأسباب لَا تَأْخُذهُ وَلَا تفتن قلبه لِأَن قلبه بَين يَدي الْخَالِق مبهوت فِي جَلَاله وعظمته والأسباب من وَرَاء ظَهره فَهُوَ يمْضِي فِيهَا وَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا
وَإِنَّمَا تأخذالأسباب من استنزلته نَفسه وَصَارَ قلبه سبيا لنَفسِهِ وأسيرا من أسرائه فَإِذا خلف شَيْئا فِي مَكَان أَرَادَ أَن يغيب عَنهُ واستودع الله ذَلِك الشَّيْء فَهد امنه فِي ذَلِك الْوَقْت تخل وتبرؤ من حفظه ومراقبته لِأَنَّهُ
مَا دَامَ مَعَه فَهُوَ فِي نَفسه يحْسب أَنه هُوَ الَّذِي يحفظه ويكلؤه ويرعاه وَهُوَ يَقُول مَعَ هَذَا {الله خير حَافِظًا}
وَلَكِن هَذَا القَوْل مِنْهُ قَول الْمُوَحِّدين لَا قَول الموقنين ثمَّ اذا خَلفه فِي حرز أَو فِي حراسة غَيره أَو أخفاه فِي مَوضِع فقد وَكله إِلَى ذَلِك الْحِرْز والحراسة وَإِذا جعله هَكَذَا ثمَّ مَعَ هَذَا أودعهُ ربه سبحانه وتعالى فقد وَكله إِلَى الله وتبرأ من حفظه وَحفظ حرزه وحارسه وتخلى مِنْهُ مضى فِي تَدْبِير الْآدَمِيّين أَن يحرزوا أَو يحرسوا ثمَّ وَكله إِلَى الله تَعَالَى فَوَجَدَهُ مَلِيًّا وفيا كَرِيمًا
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ من توكل على الله كَفاهُ
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم من سره أَن يكون أقوى النَّاس فَليَتَوَكَّل على الله فَإِنَّهُ إِذا توكل قوي قلبه وَلم يبال بِأحد وَذَهَبت مخاوفه
وَقَالَ عز وجل {وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه}
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم من انْقَطع إِلَى الله كَفاهُ
وان الله أعْطى الْخلق علم الْأُمُور وَعلم أَسبَابهَا وَعلم حيلها وَأَعْطَاهَا الْقُوَّة وَمَعْرِفَة التَّصَرُّف فِي ذَلِك وَلم يُغْنِهِم عَن نَفسه بِمَا أَعْطَاهُم فالغافل الأحمق يرى أَن مَا أعطي من هَذِه الْأَشْيَاء يقتدر بهَا فِي الْأُمُور ويتملك
فيريه الله تَعَالَى ضعفه وَفَقره وعجزه ويعرفه أَنه لَا يقوم لَهُ شَيْء إِلَّا بِهِ وان الْأَسْبَاب الَّتِي أَعْطَاهَا كلهَا لَهُ عجزة ضعفاء مثله وَإِذا قَالَ العَبْد لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه تَبرأ من الْأَسْبَاب وتخلى من وبالها فَجَاءَتْهُ الْقُوَّة والعصمة والغياث والتأييد وَالرَّحْمَة
قَالَ المُصَنّف رحمه الله حَدثنَا عبيد بن إِسْحَاق الْعَطَّار الْكُوفِي قَالَ حَدثنَا عَاصِم بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب رضي الله عنهم قَالَ حَدثنِي زيد بن أسلم عَن أَبِيه قَالَ بَيْنَمَا عمر رضي الله عنه يعرض النَّاس إِذا هُوَ بِرَجُل مَعَه ابْنه فَقَالَ لَهُ عمر وَيحك حَدثنِي مَا رَأَيْت غرابا بغراب أشبه بِهَذَا مِنْك قَالَ أما وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا وَلدته أمه إِلَّا ميتَة فَاسْتَوَى لَهُ عمر رضي الله عنه فَقَالَ وَيحك حَدثنِي
قَالَ خرجت فِي غزَاة وَأمه حَامِل بِهِ فَقَالَت تخرج وتدعني على هَذَا الْحَال حَامِلا مُثقلًا قلت أستودع الله مَا فِي بَطْنك قَالَ فغبت ثمَّ قدمت فَإِذا بَابي مغلق قلت فُلَانَة قَالُوا مَاتَت فَذَهَبت الى قبرها أبْكِي فَلَمَّا كَانَ من اللَّيْل قعدت مَعَ بني عمي أتحدث وَلَيْسَ يسترنا من البقيع شَيْء فَرفعت لي نَار بَين الْقُبُور فَقلت لبني عمي مَا هَذِه النَّار فَتَفَرَّقُوا عني فَأتيت أقربهم مني فَسَأَلته فَقَالَ نرى على قبر فُلَانَة كل لَيْلَة نَارا فَقلت إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون أما وَالله إِن كَانَت لصوامة قَوَّامَة
عفيفة مسلمة انْطلق بِنَا فَأخذت فأسا فَإِذا الْقَبْر منفرج وَهِي جالسة وَهَذَا يدب حولهَا وناداني مُنَاد من السَّمَاء أَيهَا الْمُسْتَوْدع ربه وديعته خُذ وديعتك أما لَو اسْتوْدعت أمه لوجدتها فَأَخَذته وَعَاد الْقَبْر كَمَا كَانَ فَهُوَ وَالله هَذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
قَالَ عبيد فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْعمريّ فَقَالَ هَذَا وَالله الْحق وَقد سَمِعت عَم أبي عَاصِم يذكرهُ وَقَالَ وَرَأَيْت ابْن ابْن هَذَا الرجل بِالْكُوفَةِ وَقَالَ لي موالينا هُوَ هَذَا
-
الأَصْل الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي بطاقة الْبُهْتَان وَبَيَان الِاحْتِرَاز مِنْهُ
عَن ابْن عَمْرو رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بِالْعَبدِ يَوْم الْقِيَامَة فتوضع حَسَنَاته فِي كفة وسيئآته فِي كفة فترجح السَّيِّئَات فتجيء بطاقة فَتَقَع فِي كفة الْحَسَنَات فترجح بهَا فَيَقُول يَا رب مَا هَذِه البطاقة فَمَا من عمل عملته فِي ليلِي ونهاري إِلَّا وَقد اسْتقْبلت بِهِ قَالَ هَذَا مَا قيل فِيك وَأَنت مِنْهُ بَرِيء قَالَ فينجو بذلك
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَن دَاوُد عليه السلام سَأَلَ سُلَيْمَان عليه السلام مَا أثقل شَيْء فَقَالَ الْبُهْتَان على البريء
عَن عَليّ كرم الله وَجهه الْبُهْتَان على البريء أثقل من السَّمَوَات
وَإِنَّمَا صَار هَكَذَا لِأَن الْآدَمِيّ ائْتمن على جوارحه السَّبع ووكل برعايتهن أَيَّام الْحَيَاة لِئَلَّا تدنس حَتَّى يقدم على الله تَعَالَى وَهُوَ مقدس يصلح لدار الْقُدس وَأَن يكون مجاورا للقدوس وزائرا لَهُ فَإِذا رعاهن هَذَا الْمُؤمن ثمَّ ضيع مِنْهُ مَا ضيع من غَفلَة أَو زلَّة أَو فتْنَة فَمن وَرَائه النَّدَم والإقلاع وَالِاسْتِغْفَار وَبَاب التَّوْبَة مَفْتُوح فَإِذا رعى العَبْد هَذِه الْجَوَارِح فَقَالَ هَذَا فِي عرضه مَا هُوَ بري مِنْهُ فقد خونه فِي أَمَانَة الله تَعَالَى عِنْده وَلم يخن ورماه بداهية هُوَ فِيهَا ساع بِهِ إِلَى الله تَعَالَى وَغير مَقْبُولَة سعايته لِأَن علام الغيوب مطلع على كذبه وَكتب فِي شُهَدَاء الزُّور وَقد نهى الله تَعَالَى عَنهُ وقرنه بالشرك فَقَالَ تَعَالَى {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور}
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم الْبُهْتَان عدل بالشرك بِاللَّه
وَسمي بهتانا لِأَنَّهُ يبهت الْقلب ويحيره من ظلمته فَإِن الظُّلم ظلمات وَإِذا بهت الْقلب وتحير فِي الظلمَة ذهبت الْهِدَايَة والبصيرة وَهُوَ بِمَنْزِلَة الشَّمْس إِذا انكسفت فتهافت نورها فَيصير الَّذِي نيل من عرضه بِهَذَا الْبُهْتَان عِنْد الله تَعَالَى بِحَال رَحْمَة حَيْثُ أُصِيب من عرضه وخلص الْأَلَم إِلَى قلبه وَإِذا كَانَ بَرِيئًا فَهُوَ أوجع لِقَلْبِهِ
-
الأَصْل الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي سر الاحتجاب وَبَيَان حكمه
عَن نَبهَان مولى أم سَلمَة رضي الله عنهما أَنه حدث أَن أم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عليه وسلم حدثته أَنَّهَا كَانَت عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ومَيْمُونَة قَالَت بَينا نَحن عِنْده إِذا أقبل إِبْنِ أم مَكْتُوم فَدخل عَلَيْهِ وَذَلِكَ بعد أَن أَمر بالحجاب فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم احتجبا مِنْهُ فَقُلْنَا يَا رَسُول الله أَلَيْسَ هُوَ الْأَعْمَى لَا يُبصرنَا وَلَا يعرفنا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أفعمياوان أَنْتُمَا ألستما تبصرانه
قَالَ أَبُو عبد الله إِنَّمَا ضرب الْحجاب عَلَيْهِنَّ كَرَامَة لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالا لَهُ وصير الله تَعَالَى أَزوَاجه أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ ليحرمن على من بعده وَقد تكلم بَعضهم فِي حَيَاته بِشَيْء من تزويجهن فَنزلت
{مَا كَانَ لكم أَن تُؤْذُوا رَسُول الله وَلَا أَن تنْكِحُوا أَزوَاجه من بعده أبدا إِن ذَلِكُم كَانَ عِنْد الله عَظِيما} وَنزلت {النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}
فَانْقَطع الْخطاب الَّذِي كَانَ فِيمَا بَينهم والطمع فِي شأنهن فصرن أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَلَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ بِمحرم لَهُنَّ وَذَلِكَ ليعلم أَنه إِنَّمَا صرن إمهات الْمُؤمنِينَ ليحرمن على الرِّجَال من بعده وَلَيْسَ الرِّجَال بِمحرم لَهُنَّ فَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب ذَلِكُم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}
فَكَمَا حظر على الرِّجَال النّظر إلَيْهِنَّ فَكَذَلِك حظر عَلَيْهِنَّ النّظر إِلَى الرِّجَال فَبين عِلّة الْحجاب أَنه إِنَّمَا أُرِيد بذلك طَهَارَة قُلُوب الصِّنْفَيْنِ جَمِيعًا قُلُوب الرِّجَال مِنْهُنَّ وقلوبهن من الرِّجَال
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الْحسن وَالْحُسَيْن رضي الله عنهما كَانَا لَا يريان أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَإِنَّمَا كَانَ يدْخل عَلَيْهِنَّ محارمهن من النّسَب وَالرّضَاع ومماليكهن
-
الأَصْل الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي حَقِيقَة النظرتين
عَن أبي امامة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ مَا من مُسلم ينظر إِلَى محَاسِن امْرَأَة أول مرّة ثمَّ يغض بَصَره إِلَّا أحدث الله لَهُ عبَادَة يجد حلاوتها
فالنظرة الأولى نظرة الرّوح والنظرة الثَّانِيَة نظرة النَّفس لِأَن الْإِنْسَان خلق مَفْتُوح الْعين عمول ناظراه لحاظ هَكَذَا وَهَكَذَا فَهُوَ مَأْذُون لَهُ فِي ذَلِك لِأَن من شَأْن الْعين أَن تطرف وتفتح فَإِذا وَقع بَصَره على شَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء لِأَن قلبه لم يعْمل شَيْئا فَإِذا عمل بَصَره فَإِنَّمَا يُعلمهُ والابتداء من الْقلب حَتَّى تعْمل الْعين فَذَاك نظر تكلّف فَهُوَ مسئول عَنهُ وَالْأول مَرْفُوع عَنهُ فَلذَلِك قَالَ ينظر إِلَى محَاسِن امْرَأَة أول مرّة ثمَّ يغض بَصَره لِأَنَّهُ لما وَقع بَصَره على المحاسن أول مرّة وَجب عَلَيْهِ أَن يغض فالغض فعل الْعين فَعَلَيهِ يُثَاب وَالْفَتْح وَالنَّظَر بعد ذَلِك فعل الْعين فَعَلَيهِ يُعَاقب يُقَال إِن بصر الْعين مُتَّصِل ببصر الرّوح من دَاخل فَلذَلِك
قيل الْحيَاء فِي الْعَينَيْنِ لِأَن الْحيَاء من فعل الرّوح وَلذَلِك قيل لَا تَطْلُبن إِلَى أعمى حَاجَة
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ لَا تَطْلُبن إِلَى أعمى حَاجَة وَإِذا طلبت الْحَاجة فَاسْتقْبل الرجل بِوَجْهِك فَإِن الْحيَاء فِي الْعَينَيْنِ وَلَا تطلبنها لَيْلًا وباكر فِي حَاجَتك فَإِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُمَّ بَارك لأمتي فِي بكورها
فَلَمَّا غض بَصَره عَمَّا لَا يخل فانما صان روحه أَن تتدنس وقمع نَفسه عَن أَن تلذ بِشَهْوَة فَأعْطِي نورا ثَوابًا عَاجلا فَوجدَ حلاوة الْعِبَادَة
عَن أبي امامة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم النّظر إِلَى محَاسِن الْمَرْأَة سهم مَسْمُوم من سِهَام الشَّيْطَان فَمن صرف بَصَره عَنْهَا أبدله الله تَعَالَى عبَادَة يجد حلاوتها
-
الأَصْل الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي أَن الْحَسَنَة بِعشْرَة
عَن أبي أَيُّوب رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ من صَامَ رَمَضَان ثمَّ أتبعه سِتا من شَوَّال فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْر
فَمن أجل أَن الله تَعَالَى جعل الْحَسَنَة لَهُم بِعشر أَمْثَالهَا فصوم رَمَضَان بثلثمائة يَوْم كل كل يَوْم بِعشْرَة وَبَقِي من السّنة سِتُّونَ يَوْمًا فَعدل كل يَوْم بِعشْرَة فيحتسب لَهُ على حِسَاب تَضْعِيف الْحَسَنَات كَأَنَّهُ صَامَ الدَّهْر كُله
عَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أَبِيه رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من صَامَ ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر فقد صَامَ الشَّهْر كُله لِأَن كل يَوْم يحْتَسب لَهُ فِي التَّضْعِيف بِعشْرَة أَيَّام
-
الأَصْل السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي الشُّكْر وَالصَّبْر
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الطاعم الشاكر بِمَنْزِلَة الصَّائِم الصابر
فالطعم فعل وَالصَّوْم كف عَن فعل فالطاعم بطعمه يَأْتِي ربه بالشكر والصائم بكفه عَن الطّعْم يَأْتِي ربه بِالصبرِ
وَقد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الْإِيمَان نِصْفَانِ نصف للشكر وَنصف للصبر
وَفِي حَدِيث آخر عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه الصَّبْر نصف الْإِيمَان وَإِنَّمَا قَالَ نصف الْإِيمَان لِأَن نصفه للشكر
ثمَّ قَالَ وَالْيَقِين الْإِيمَان كُله ثمَّ تَلا {إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور} وَقَالَ {وَفِي الأَرْض آيَات للموقنين}
فَجمع الْيَقِين الصَّبْر وَالشُّكْر وَإِنَّمَا هُوَ صنفان معطي فَعَلَيهِ الشُّكْر وممنوع مِنْهُ فَعَلَيهِ الصَّبْر فَإِذا شكر هَذَا فقد أَتَى من حَقِيقَة الْإِيمَان بِنصفِهِ وَإِذا صَبر هَذَا فقد أَتَى من حَقِيقَة الْإِيمَان بِنصفِهِ
-
الأَصْل السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي سر قتل الْحَيَّات وَالنَّهْي عَنهُ
عَن سري بنت نَبهَان العنوية قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول اقْتُلُوا الْحَيَّات صغيرها وكبيرها وأسودها وأبيضها فَإِن من قَتلهَا كَانَت لَهُ فدَاء من النَّار وَمن قتلته كَانَ شَهِيدا
فالحية عَدو قد أظهرت الْعَدَاوَة وَقد كَانَت وكلت بِخِدْمَة آدم عليه السلام فِي الْجنَّة فخانته وأمكنت عَدو الله من نَفسهَا حَتَّى صيرته سَببا لدُخُوله الْجنَّة فِي إغوائه فَلَمَّا ألقاهم إِلَى الأَرْض تأكدت الْعَدَاوَة من عَدو الله وَمن الْحَيَّة لآدَم عليه السلام وَأَوْلَاده
قَالَ وهب بن مُنَبّه لما أسكن الله عز وجل آدم عليه السلام الْجنَّة وَزَوجته كَانَت الشَّجَرَة وغصونها منشعبة بَعْضهَا فِي بعض وَكَانَ لَهَا ثَمَر تَأْكُله الْمَلَائِكَة تخلدهم وَهِي الثَّمَرَة الَّتِي نهى الله تَعَالَى آدم وَزَوجته عليهما السلام عَنْهَا فَلَمَّا أَرَادَ إِبْلِيس أَن يستنزلها دخل فِي
جَوف الْحَيَّة وَكَانَت الْحَيَّة لَهَا أَربع قَوَائِم تحتية من أحسن دَابَّة خلقهَا الله تَعَالَى فَلَمَّا دخلت الْحَيَّة الْجنَّة خرج من جوفها إِبْلِيس وَأخذ من الشَّجَرَة الَّتِي نهى الله آدم وَزَوجته عليهما السلام عَنْهَا فجَاء بهَا إِلَى حوء فَقَالَ لَهَا انظري الى هَذِه الشَّجَرَة مَا أطيب رِيحهَا وَأطيب طعمها وَأحسن لَوْنهَا فأخذتها حَوَّاء فَأَكَلتهَا ثمَّ ذهبت بهَا إِلَى آدم عليه السلام فَقَالَت انْظُر الى هَذِه الشَّجَرَة مَا أطيب رِيحهَا وَأطيب طعمها وَأحسن لَوْنهَا فَأكل مِنْهَا آدم عليه السلام فبدت لَهما سوآتهما فَدخل آدم فِي جَوف الشَّجَرَة فناداه ربه أَيْن أَنْت قَالَ أَنا هُنَا يَا رب قَالَ أَلا تخرج قَالَ أستحيي مِنْك يَا رب قَالَ اهبط إِلَى الأَرْض الَّتِي خلقتك مِنْهَا قَالَ ملعونة الأَرْض الَّتِي مِنْهَا خلقت لعنة تتحول ثمارها شوكا ثمَّ قَالَ يَا حَوَّاء غررت عَبدِي فَإنَّك لَا تحميلن حملا إِلَّا حملت كرها فَإِذا أردْت أَن تضعبي مَا فِي بَطْنك أشرفت على الْمَوْت مرَارًا وَقَالَ للحية أَنْت الَّتِي دخل الملعون فِي جوفك حَتَّى غر عَبدِي ملعونة أَنْت لعنة تتحول قوائمك فِي بَطْنك وَلَا يكون لَك رزق إِلَّا التُّرَاب أَنْت عدوة بني آدم وهم أعداؤك أَيْن لقِيت أحدا مِنْهُم أخذت بعقبه وَحَيْثُ لقيك شدخ رَأسك
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اقْتُلُوا الْحَيَّة وَالْعَقْرَب وَإِن كُنْتُم فِي الصَّلَاة
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ خمس يقتلهن الْمحرم فَذكر الْحَيَّة فِيهِنَّ
عَن عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فمرت حَيَّة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوها فسبقتنا إِلَى جُحر فدخلته فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هاتوا بسعفة ونار فاضرمها عَلَيْهِ نَارا وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ينْهَى عَن الْمثلَة وَعَن أَن يعذب بِعَذَاب الله
فَلم يبْق لهَذَا الْعَدو حُرْمَة حَيْثُ فَاتَتْهُ حَتَّى اوصل إِلَيْهِ الْهَلَاك من حَيْثُ قدر
وَكَانَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما يَقُول اخفروا ذمَّة إِبْلِيس عَدو الله فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن عَدو الله إِبْلِيس قَالَ للحية أدخليني الْجنَّة وَأَنت فِي ذِمَّتِي
فَأَما مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من النَّهْي عَن قتل الجان فَإِن تِلْكَ فِي صُورَة الْحَيَّات هن من الْجِنّ وَهن سكان الْبيُوت فَإِذا قتلتها ضرت بك
عَن زيد بن الْخطاب رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نهى عَن قتل دَوَاب الْبيُوت يَعْنِي الجان
عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله عز وجل الجان ثَلَاثَة أَثلَاث فثلث كلاب وحيات
وخشاش الأَرْض وَثلث ريح هفافة وَثلث كبني آدم لَهُم الثَّوَاب وَعَلَيْهِم الْعقَاب)
وَفِي رِوَايَة أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي صنف لَهُم أَجْنِحَة يطيرون يطيرون فِي الْهَوَاء يدل قَوْله وَثلث ريح هفافة وَخلق الله تَعَالَى الْإِنْس ثَلَاثَة أَثلَاث فثلث لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وأعين لَا يبصرون بهَا وآذان لَا يسمعُونَ بهَا إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا وَثلث أَجْسَادهم كأجساد بني آدم وَقُلُوبهمْ قُلُوب الشَّيَاطِين وَثلث فِي ظلّ الله تَعَالَى يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن بِالْمَدِينَةِ نَفرا من الْجِنّ أَسْلمُوا فَمن رأى شَيْئا من هَذِه العوامر فليؤذنه ثَلَاثًا فَإِن لَهُ بعد ذَلِك فليقتله فَإِنَّهُ شَيْطَان
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه قَالَ خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى أحد فَخرج مَعَه فَتى منا من بني خدرة وَهُوَ حَدِيث عهد بعرس فَاسْتَأْذن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن يطلع على أَهله فَأذن لَهُ فَخرج الْفَتى وَفِي يَده الرمْح حَتَّى دخل الدَّار فَوجدَ زَوجته بِبَاب حجرته جالسة
فأفزعه ذَلِك فَقَالَ مَا أخرجك من بَيْتك قَالَت حَيَّة منطوية عل فراشك هِيَ الَّتِي ذعرتني فَدخل الْفَتى فوكزها برمحه وَخرج بهَا الى صحن الدَّار تضطرب فِيهِ فَمَاتَتْ وَمَات الْفَتى من سَاعَته فَذكر ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا تقتلُوا شَيْئا تجدونه فِي الْبيُوت مِنْهُنَّ حَتَّى تقدمُوا
عَن ابْن أبي ملكية قَالَ قتلت عَائِشَة رضي الله عنها جانا فَأتيت فِي الْمَنَام فَقيل أما وَالله لقد قتلتيه مُسلما فَقَالَت لَو كَانَ مُسلما مَا دخل على أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ فَقيل مَا دخل عَلَيْك إِلَّا وَأَنت مستترة فتصدقت وأعتقت رقابا
عَن ثَابت بن قُطْبَة الثَّقَفِيّ قَالَ جَاءَ رجل الى عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه فَقَالَ إِنَّا كُنَّا فِي سفر فمررنا بحية مقتولة مشعرة فِي دَمهَا فواريناها فَلَمَّا نزلُوا أَتَتْهُم نسْوَة وأناس فَقَالُوا أَيّكُم صَاحب عَمْرو قُلْنَا من عَمْرو قَالُوا الْحَيَّة الَّتِي دفنتموها أمس أما أَنه من النَّفر الَّذين اسْتَمعُوا من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قُلْنَا مَا شَأْنه قَالَ كَانَ حَيَّان من الْجِنّ مُسلمُونَ ومشركون بَينهم قتال فَقتل
عَن الرّبيع بن بدر قَالَ الجان من الْحَيَّات الَّتِي نهى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن قَتلهَا هِيَ الَّتِي تمشي وَلَا تلتوي
عَن عَلْقَمَة قَالَ اقْتُلُوا الْحَيَّات كلهَا إِلَّا الجان الَّذِي كانه ميل فَإِنَّهُ جنها
-
الأَصْل الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي أكل القثاء بالرطب وسره
عَن عبد الله بن جَعْفَر رضي الله عنه قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَأْكُل القثاء بالرطب
قَالَ أَبُو عبد الله فَهَذَا جمع بَين لونين فقد يجوز أَن يكون قد اشتهاه فَقضى شَهْوَته لله تَعَالَى لتسكين النَّفس فَإِن النَّفس نازعة إِلَى مَا فِيهِ اللَّذَّة لَهَا وَلها حق إِذا استقامت لمولاها فَأدى حَقّهَا وَحمد الله وشكره عَلَيْهَا فَلَا يكون على صَاحبهَا وبال فِي مثل هَذَا وَإِنَّمَا الوبال على من قضى شَهْوَته بنهمة غافلا عَن ربه سبحانه وتعالى منهوما بلذته لَا يلْتَمس فِيهَا حق النَّفس وَلَا يَبْتَغِي بهَا وَجه الله فالحساب أَمَامه وَهُوَ مسئول عَن شكرها وَقد يجوز أَن يكون على غير هَذَا السَّبِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ
وَيحْتَمل أَن يكون لمَكَان عِيَاله أَو ضَيفه فعل ذَلِك فتوسع من أَجلهم فِي ذَلِك وَلم يحمل قوته على ضعفهم فَرُبمَا ينغص على الضَّيْف أَو الْعِيَال إِمْسَاكه عَنهُ واستوحشوا من فعله وتكدرت تِلْكَ النِّعْمَة عَلَيْهِم فَفِيهِ تَضْييع حق الضَّيْف وَحقّ الْعِيَال فيخالطهم فِي ذَلِك ويشركهم فِيهِ وَوجه آخر مُحْتَمل أَيْضا وَذَلِكَ أَن القثاء بَارِد رطب وَالرّطب حَار فَأحب أَن يصيره مزاجا فَيجمع بَين الْحَار والبارد كَيْلا يضْربهُ وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد
وَعَن عَائِشَة رضي الله عنها أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يجمع بَين الْبِطِّيخ وَالرّطب
وَعَن أنس رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَأَن يَأْكُل الْبِطِّيخ بالرطب
-
الأَصْل التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي مَرَاتِب الْأَخْلَاق وَفضل الْعلم
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ كنت ذَات يَوْم رَدِيف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ أَلا أعلمك خصلات ينفعك الله بِهن قلت بلَى يَا نَبِي الله قَالَ عَلَيْك بِالْعلمِ فَإِن الْعلم خَلِيل الْمُؤمن والحلم وزيره وَالْعقل دَلِيله وَالْعَمَل قيمه والرفق أَبوهُ واللين أَخُوهُ وَالصَّبْر أَمِير جنده
قَالَ أَبُو عبد الله الْإِيمَان مستقره فِي الْقلب ويشرق نوره فِي الصَّدْر فَإِذا اعْترض فكر فِي الْأُمُور تصور كل شَيْء على هَيئته فَيرى الْخَيْر فِي بهائه وَحسنه وَالشَّر فِي قبحه وشينه وَإِنَّمَا قيل علم لِأَنَّهُ علائم الْإِيمَان وَقد أظهر فِي الصَّدْر بَاطِن مَا فِي الْقلب فَهُوَ خَلِيله لِأَنَّهُ قد خله إِلَى الْإِيمَان أَي ضمه لما ظهر الْعلم اهْتَدَى فَمَال إِلَى من آمن بِهِ ليأتمر بأَمْره وَيَنْتَهِي عَن نواهيه والخلة الضمة فِي اللُّغَة يُقَال هَذَا ثوب خَلِيل
وَهُوَ الَّذِي شكه بالخلال فضمه إِلَى نَفسه فَكَذَلِك لما ظهر فِي صدر الْمُؤمن شكه وَجمعه حَتَّى لَا تَنْتَشِر جوارحه فِي شهواته وهواه
والحلم وزيره فالحلم هُوَ سَعَة الصَّدْر وَطيب النَّفس فَإِذا وسع الصَّدْر وانشرح بِالنورِ أَبْصرت النَّفس رشدها من غيها وعواقب الْخَيْر وَالشَّر فطابت وَإِنَّمَا تطيب النَّفس لسعة الصدروإنما يَتَّسِع الصَّدْر بولوج النُّور الْوَارِد من عِنْد الله وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه} وَإِذا دخل النُّور سهل تَسْلِيم النَّفس وَذَهَبت عسرتها وكزازتها وَالْملح يطيب الطَّعَام والحلم يطيب النَّفس
عَن عبد الله بن جَراد رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ الْأَعْمَى من يعمى بَصَره إِنَّمَا الْأَعْمَى من تعمى بصيرته
قَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} فطيب النَّفس من روح الْيَقِين وَهُوَ من أعظم النعم
وَعَن عمر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا بَأْس من غَنِي لمن إتقى وَالصِّحَّة لمن إتقى خير من الْغَنِيّ وَطيب النَّفس من النَّعيم
فالغني بِغَيْر التَّقْوَى هلكة يجمعه من غير حَقه ويضعه فِي غير حَقه فَإِذا كَانَ مَعَ صَاحبه تقوى فقد ذهب الْبَأْس وَجَاء بِالْخَيرِ
عَن مُحَمَّد بن كَعْب أَن الْغَنِيّ إِذا كَانَ تقيا آتَاهُ الله تَعَالَى أجره مرَّتَيْنِ ثمَّ تَلا {وَمَا أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم بِالَّتِي تقربكم عندنَا زلفى إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا فَأُولَئِك لَهُم جَزَاء الضعْف بِمَا عمِلُوا وهم فِي الغرفات آمنون}
فَلَيْسَ من امتحن كمن لم يمْتَحن فَقَالَ فِي مؤمني أهل الْكتاب {أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا}
فَصَبر الْغَنِيّ أَشد من صَبر الْفَقِير كَمَا أَن محاربتك أسدا خلي عَنهُ أَشد من محاربتك أسدا قد ربط بوثاق
قَالَ مَالك بن دِينَار رحمه الله يَقُول النَّاس مَالك زاهدا وَكَيف لَا يزهد وَهُوَ مقبز عَلَيْهِ إِنَّمَا الزَّاهِد عمر بن عبد الْعَزِيز نَالَ الْخلَافَة فَلبس المسوح
وَأما قَوْله وَالصِّحَّة لمن اتَّقى خير من الْغنى فَإِن صِحَة الْجَسَد عون على الْعِبَادَة والسقيم عَاجز فالصحة خير من الْغنى مَعَ الْعَجز
وَأما قَوْله وَطيب النَّفس من النَّعيم فقد ذكرنَا أَنه من روح الْيَقِين على الْقلب وهوالنور الْوَارِد الَّذِي قد أشرق فِي الصَّدْر وأراح الْقلب
وَالنَّفس من الظلمَة والضيق لِأَن النَّفس بشهواتها فِي ظلمَة وَالْقلب فِي تِلْكَ الظُّلُمَات قد أحاطت بِهِ فالسائر إِلَى مدعاة فِي ظلمَة يشْتَد عَلَيْهِ السّير ويضيق صَدره لما يتخوف فِي الطَّرِيق من المهاوي والمخاوف فَإِذا أَضَاء لَهُ الصُّبْح انفقأت الظلمَة ووضح الطَّرِيق وزالت المخاوف فَكَذَلِك السائر بِقَلْبِه فِي شَرِيعَة الْإِسْلَام إِلَى الله تَعَالَى إِذا كَانَ قلبه فِي ظلمَة شهواته وهواه هُوَ بِهَذِهِ الصّفة وَإِذا أشرق نور الْيَقِين فِي صَدره استراح الْقلب فَهَذِهِ صفة الْحلم فَهُوَ وَزِير الْمُؤمن يوازره على أَمر الله تَعَالَى وَإِذا لم يكن حلم ضَاقَتْ النَّفس وَانْفَرَدَ الْقلب بِلَا وَزِير
وَالْعقل دَلِيله يدله على مراشد الْأُمُور ويبصره غيها ويهديه لمحاسنها ويزجره عَن مساوئها وَخلق الله عز وجل الْعقل فَقَالَ وَعِزَّتِي مَا خلقت خلقا أحب إِلَيّ مِنْك فبك آخذ وَبِك أعطي وَإِيَّاك أعاتب وَلَك الثَّوَاب وَعَلَيْك الْعقَاب
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الله تَعَالَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّمَا أجزي النَّاس على قدر عُقُولهمْ
وَالْعَمَل قيمَة الْقيمَة من شَأْنه أَن يتوكل لَك حَتَّى يَكْفِيك مهماتك وَالْعلم الصَّالح يهئ لَهُ فِي معاشه طيب الْحَيَاة قَالَ الله تَعَالَى {من عمل صَالحا من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فلنحيينه حَيَاة طيبَة ولنجزينهم أجرهم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ} فالحياة الطّيبَة فِي الدُّنْيَا وَالْجَزَاء فِي الْآخِرَة وَقَالَ تَعَالَى {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ}
والرفق أَبوهُ الْأَب لَهُ التربية مَعَ الْعَطف والشفقة وَهُوَ يَشْمَل أَحْوَال الْوَلَد بالعناية وَيجمع لَهُ وُجُوه المكاسب والرفق كشفير الْأُمُور بِهِ يَتَأَتَّى الْأُمُور وَبِه يتَّصل بَعْضهَا بِبَعْض وَبِه يجمع مَا تشَتت مِنْهُ ويأتلف مَا تنافر وتبدد مِنْهُ وَيرجع إِلَى المأوى مَا شَذَّ وَهُوَ يَشْمَل أَحْوَال الْمُؤمن بالصلاح وَيجمع لَهُ الْخيرَات والطاعات من وُجُوه الْبر
واللين أَخُوهُ فالأخ آخية الْمَرْء ومعتمده من المخلوقين فَهُوَ مستراحه إِذا أعيى وَنصب اسْتندَ إِلَيْهِ واستراح فَكَذَلِك اللين هُوَ مستراح الْمُؤمن بِهِ تهدأ نَفسه ويطمئن قلبه وتجد أَرْكَانه رَاحَة ذَلِك وحدته وشدته وغضبه تَعب بدنه وَعَذَاب نَفسه وَنصب قلبه وَإِنَّمَا يلين قلبه بهدو نَفسه وَإِنَّمَا تهدو نَفسه بِمَوْت شهواتها وَإِنَّمَا تَمُوت شهواتها بِمَا أَصْبِر قلبه بِنور الْيَقِين من جلال الله تَعَالَى وعظمته وَصَارَ كالدهن فِي اللين وَمن غلظ قلبه وفظ وَاشْتَدَّ فَمن الْقَسْوَة وَإِنَّمَا يقسو قلبه من الْغَفْلَة عَن الله تَعَالَى وَإِنَّمَا يلين الْقلب لما يرطب بِذكر الله تَعَالَى وَفِي اللُّغَة عَسى وعتا وقسا قريبَة الْمَعْنى وَيرجع الْمَعْنى إِلَى أَنه يبس فكز وضد
ذَاك رطب فلَان قَالَ الله تَعَالَى {فبمَا رَحْمَة من الله لنت لَهُم وَلَو كنت فظا غليظ الْقلب لانفضوا من حولك}
فالفظاظة وَغلط الْقلب تفرق الْمَجْمُوع وتبدد المؤتلف واللطافة ورقة الْقلب تجمع المتفرق وتؤلف المتبدد وان الْقلب يلطف ويرق من النُّور وَسَببه الرَّحْمَة ويفظ ويغلظ من حرارة الشَّهَوَات وَقُوَّة الْغذَاء وَالدَّم وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من شَأْنه المداومة على الْحجامَة إِلَى أَن قبض وَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا مَرَرْت بملأ من الْمَلَائِكَة إِلَّا أمروني بالحجامة وَقَالُوا لي مرأمتك بالحجامة
مَعْنَاهُ عندنَا لأَنهم من بَين الْأُمَم أهل يَقِين فَإِذا اشتعل نور الْيَقِين فِي الْقلب وَمَعَهُ حرارة الدَّم أضرّ بِالْقَلْبِ وبالطبع أَيْضا وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يسْتَعْمل الْحِنَّاء فِي رَأسه مَعَ أَنه لم يشنه الشيب وَمَا خضب وَإِنَّمَا كَانَ سَبَب الْحِنَّاء أَنه كَانَ يَأْتِيهِ الْوَحْي فيصدع فَمن أجل الصداع كَانَ يعالج بِالْحِنَّاءِ فِي رَأسه حَتَّى تخف حرارة رَأسه
وَالصَّبْر أَمِير جنده وَالصَّبْر هُوَ ثبات الْقلب على عزمه فَإِذا ثَبت الْأَمِير ثَبت الْجند لمحاربة الْعَدو وَإِذا جَاءَت النَّفس بشهواتها فَغلبَتْ
الْقلب حَتَّى اسْتعْملت الْجَوَارِح بِمَا نهى عَنهُ فقد ذهب الصَّبْر وَهُوَ ذهَاب الْعَزْم فَبَقيَ الْقلب أَسِيرًا للنَّفس واستولت عَلَيْهِ فَانْهَزَمَ الْعقل والحلم وَالْعلم والرفق واللين وَجَمِيع جُنُوده
-
الأَصْل الْأَرْبَعُونَ
-
فِي تَكْثِير التَّوْبَة
عَن خبيب بن الْحَارِث رضي الله عنه قَالَ أتيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقلت يَا رَسُول الله إِنِّي رجل مقراف الذُّنُوب قَالَ يَا خبيب فَكلما أذنبت فتب إِلَى الله تَعَالَى قلت ثمَّ أَعُود يَا رَسُول الله قَالَ ثمَّ تب قلت إِذا يكثر يَا رَسُول الله قَالَ عَفْو الله أَكثر من ذنوبك يَا خبيب
التَّوْبَة للْعَبد مبسوطة حَتَّى يعاين قَابض الْأَرْوَاح وَهُوَ عِنْد غرغرته بِالروحِ وَإِنَّمَا يُغَرْغر بِهِ إِذا قطع الوتين فشخص من الصَّدْر إِلَى الْحلق فَعِنْدَ ذَلِك حُضُور الْمَوْت ومعاينة ملك الْمَوْت الَّذِي وكل بِهِ فَهُوَ الَّذِي يذيقه وَمن قبل ذَلِك كَانَ أعوانه ليستوفون الرّوح وينزعونه من الْجَوَارِح وَالْعُرُوق قَالَ الله تَعَالَى {وَلَيْسَت التَّوْبَة للَّذين يعْملُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذا حضر أحدهم الْمَوْت قَالَ إِنِّي تبت الْآن} فباب التَّوْبَة مَفْتُوح إِلَى
طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا ودواء الذَّنب التَّوْبَة وشفاء العَبْد مِنْهُ إِذا مَاتَت شَهْوَة ذَلِك الذَّنب مِنْهُ
قَوْله عَفْو الله أَكثر من ذنوبك أَي فضل الله على العَبْد أَكثر من نُقْصَان العَبْد وَأَنه كلما أذْنب أبق من ربه عز وجل وَكلما أبق ازْدَادَ عَيْبا وَكلما ازْدَادَ عَيْبا ازْدَادَ نقصا فِي الْقدر والجاه قَالَ ففضل الله على العَبْد أَكثر من نقصانه لِأَنَّهُ يتفضل من كرمه ومجده فقبول التَّوْبَة من فضل الله ورجوعه بِالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ أَيْضا من فَضله فَرب عبد لَا يوفق للتَّوْبَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه من ذَلِك
-
الأَصْل الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي الْخَوَارِج
عَن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْخَوَارِج كلاب أهل النَّار
الْخَوَارِج قوم ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدّين وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا فهم الأخسرون أعمالا حبطت أَعْمَالهم فَلَا يُقَام لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزن ذَلِك بِأَنَّهُم قد اجتهدوا ودأبوا فِي الْعِبَادَة وَفِي قُلُوبهم زيغ ومرقوا من الدّين
وَقد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه وَصفهم فَقَالَ يقراون الْقُرْآن يقيمونه إِقَامَة الْقدح لَا يُجَاوز تراقيهم يَمْرُقُونَ من الدّين كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية
مَا زَالَ بهم التنطع والتعمق حَتَّى كفرُوا الْمُوَحِّدين بذنب وَاحِد حَتَّى صَارُوا بذلك إِلَى الْأَنْبِيَاء عليهم السلام للزيغ الَّذِي فِي قُلُوبهم دخلُوا فِيمَا لم يَأْذَن بِهِ الله تَعَالَى فقاسوا برأيهم وتأولوا التَّنْزِيل على غير وَجهه هم الَّذين وَصفهم الله تَعَالَى فَقَالَ فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله
وَرُبمَا تمسكوا بآخر الْآيَة ونهوا عَن أَولهَا حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ لجَابِر بن عبد الله أَنْت الَّذِي تَقول يخرج الله من النَّار قوما بَعْدَمَا أدخلهم فِيهَا قَالَ نعم سمعته من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ فَأَيْنَ قَول الله تَعَالَى وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُم عَذَاب مُقيم قَالَ جَابر انْظُر لمن هَذَا من مُبْتَدأ الْآيَة إِن الَّذين كفرُوا لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه الْآيَة
فالمؤمن يستر وَيرْحَم ويعطف ويتوقى أَن يلوم ويعير ويرجو من الله الرَّحْمَة ويرجيه وَهَذَا الْمفْتُون يهتك ويعير ويؤيس ويقنط وَيكفر فَهَذِهِ أَخْلَاق الْكلاب وتقولهم كلبوا على عباد الله ونظروا إِلَيْهِم بِعَين البغضة والعداوة والملامة فَلَمَّا دخلُوا النَّار صَارُوا فِي هَيْئَة أَعْمَالهم كلابا كَمَا كَانُوا على الْمُوَحِّدين فِي الدُّنْيَا كلابا
قَالَ أَبُو الْعَالِيَة مَا أَدْرِي أَي النعمتين أفضل أَن هَدَانِي للْإيمَان ثمَّ لم يَجْعَلنِي حروريا وَالله أعلم
عَن أبي عاكف قَالَ كنت بِدِمَشْق فجيء برؤوس الْخَوَارِج من الْعرَاق فَنصبت على دَرَجَة الْمَسْجِد فَبينا أَنا قَائِم إِذْ أَنا بشيخ على حمَار قصير ينظر إِلَيْهِم ويبكي وَيَقُول كلاب النَّار كلاب النَّار كلاب النَّار فَسَأَلت عَنهُ فَقَالُوا أَبُو أُمَامَة صَاحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فدنوت مِنْهُ فَقلت يَا أَبَا أُمَامَة أَرَاك تبْكي وَتقول كلاب النَّار قَالَ رَحْمَة لَهُم لأَنهم قد صلوا وصاموا وحجوا واعتمروا ثمَّ صَارُوا كلاب النَّار قلت هَذَا شَيْء تَقوله أم سمعته من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَو لم أسمعهُ إِلَّا مرّة أَو مرَّتَيْنِ أوثلاثة أَو أَرْبَعَة حَتَّى بلغ عشر مَرَّات مَا قلت وَلَكِن سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول إِنَّه سَيكون من امتي قوم يقرأون الْقُرْآن لاتجاوز قراءتهم تراقيهم يعْبدُونَ الله تَعَالَى عبَادَة يحتقرون عبَادَة النَّاس فِي عِبَادَتهم يَمْرُقُونَ من الدّين كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية لَا يعود فِيهِ حَتَّى يعود أَعْلَاهُ فَوْقه هم شَرّ الْخلق والخليقة هم شَرّ قَتْلَى تَحت أَدِيم السَّمَاء طُوبَى لمن قَتلهمْ أَو قَتَلُوهُ
والأزارقة صنف من الْخَوَارِج كَانَ رئيسهم نَافِع بن الْأَزْرَق
وَكَانَ من شَأْنه أَن يُخَاصم يتَأَوَّل الْقُرْآن فِي زمن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما فنسب تبعه إِلَيْهِ فَقيل الْأزَارِقَة وَفِي زمن عَليّ كرم الله وَجهه كَانَ رئيسهم ابْن الْكواء وَفِي زمن التَّابِعين رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ نجدة الحراوري وَهُوَ من بَقِيَّة أهل حروراء الَّذين خَرجُوا على عَليّ كرم الله وَجهه وحروراء قَرْيَة من قرى السوَاد
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لجنهم سَبْعَة أَبْوَاب بَاب مِنْهَا لمن سل سَيْفه على أمتِي أَو قَالَ أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم
عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ كَانَ فِي عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رجل يعجبنا تعبده واجتهاده فذكرناه لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلم يعرفهُ ووصفناه بِصفتِهِ فَلم يعرفهُ فَبَيْنَمَا نخن نذكرهُ إِذْ طلع الرجل فَقُلْنَا هُوَ هَذَا يَا رَسُول الله قَالَ إِنَّكُم تخبروني عَن رجل وعَلى وَجهه لسفعة من الشَّيْطَان قَالَ فَأقبل حَتَّى وقف على الْمجْلس فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أنْشدك الله هَل قلت حِين وقفت على الْمجْلس مَا فِي الْمجْلس أحد أفضل مني أَو خير من ي قَالَ اللَّهُمَّ نعم ثمَّ دخل يُصَلِّي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من يقتل الرجل قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه أَنا فَدخل فَوَجَدَهُ يُصَلِّي فَقَالَ سُبْحَانَ الله أقتل رجلا يُصَلِّي وَقد نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن ضرب الْمُصَلِّين فَخرج فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَه قَالَ وجدته بِأبي أَنْت وَأمي يُصَلِّي وَقد نَهَيْتنَا عَن ضرب الْمُصَلِّين فَقَالَ صلى الله عليه وسلم من يقتل الرجل فَقَالَ عمر أَنا فَوَجَدَهُ سَاجِدا فَقَالَ أقتل رجلا وَاضِعا وَجهه لله تَعَالَى وَقد
رَجَعَ أَبُو بكر رضي الله عنه وَهُوَ أفضل مني فَخرج إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَه فَقَالَ يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي وجدته سَاجِدا فَكرِهت أَن أَقتلهُ وَاضِعا وَجهه لله تَعَالَى قَالَ صلى الله عليه وسلم من يقتل الرجل قَالَ عَليّ أَنا قَالَ أَنْت إِن أَدْرَكته قتلته فَوَجَدَهُ عَليّ قد خرج فجَاء فَقَالَ وجدته بِأبي أَنْت وَأمي قد خرج قَالَ لَو قتلته مَا اخْتلف من أمتِي رجلَانِ كَانَ أَوَّلهمْ وَآخرهمْ وَاحِدًا
وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ هُوَ الَّذِي قَتله عَليّ يَوْم النهروان رُؤْيَته مثل البراغيث إِنَّمَا نبت لَهُ جَنَاحَانِ يطير بهم حرقوص ذُو الثدية
عَن أبي سَلمَة رضي الله عنه قَالَ وقف رجل على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يقسم تبرا فَقَالَ يَا مُحَمَّد اعْدِلْ فَرفع بَصَره إِلَيْهِ فَقَالَ وَيلك إِذا لم أعدل فَمن يعدل يُوشك مثل هَذَا يظهرون يقرأون الْقُرْآن لَا يُجَاوز تراقيهم فَإِذا ظَهَرُوا فاضربوا أَعْنَاقهم
قَالَ وَالظَّاهِر من قَوْلهم وفعلهم يسبي نفوس الْجُهَّال والحمقى وَالْبَاطِن ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض زيغ وَكفر وزندفة وتشبيه
-
الأَصْل الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي فَضِيلَة المؤذنين
عَن مُعَاوِيَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم المؤذنون أطول النَّاس أعناقا يَوْم الْقِيَامَة
قَالَ أَبُو عبد الله المؤذنون هم دعاة إِلَى أَمر الله فزيدوا على النَّاس مرتبَة بطول أَعْنَاقهم ليشرفوا على النَّاس بأعناقهم وَهَذَا الطول عندنَا فِي شخصهم وخيالهم فَأَما نفس الْخلقَة بِحَيْثُ خلقهَا الله تَعَالَى من جنس خلق أهل الْجنَّة وَإِنَّمَا ذكر الْعُنُق للمقدار لِأَن هُنَاكَ طبقَة أَعلَى مِنْهُم هم الْأَنْبِيَاء والأولياء الَّذين هم دعاة إِلَى الله تَعَالَى زيدوا فِي الْقَامَة كلهَا لَا فِي الْعُنُق فَقَط وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُوصف فِي هَذِه الْحَيَاة بِصفة تدل على مَا قُلْنَا وَهُوَ أَنه عليه السلام كَانَ إِذا مَشى رُبمَا إِذا اكتنفه رجلَانِ طويلان فَيَمْشِي هُوَ بَينهمَا فيطولهما فَإِذا مَشى وَحده نسب إِلَى الربعة
قَالَ عَليّ رضي الله عنه أَنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بقصير وَلَا طَوِيل وَإِذا جَاءَ مَعَ النَّاس غمرهم
عَن أم معبد فِي صفته صلى الله عليه وسلم قَالَت كَانَ أنظر الثَّلَاثَة منْظرًا
وَوجه آخر أَنهم أطول النَّاس أعناقا بِمد أَعينهم إِلَى عَظِيم مَا يأملون من الثَّوَاب وَمد الْعين إِلَى الشَّيْء تأميلا إشراف بالعنق فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة وَوصف الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام إِلَى كَرَامَة الله تَعَالَى كَانَت قامتهم على حسب درجاتهم فِي الْموقف إِذا أتوها حَتَّى يصدروا من الْموقف إِلَى الْجنَّة فيعطون قامة أهل الْجنَّة وَمِمَّا يُحَقّق مَا قُلْنَاهُ مَا رَوَاهُ ابْن عمر رضي الله عنهما عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ أحْشر أَنا وَأَبُو بكر وَعمر يَوْم الْقِيَامَة هَكَذَا وَأخرج السبابَة وَالْوُسْطَى والبنصر وَنحن مشرفون على النَّاس وَقد ذَكرْنَاهُ فِي الأَصْل الرَّابِع وَالْعشْرُونَ
وَمِمَّا يُحَقّق مَا قُلْنَا مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ يحْشر الجبارون والمتكبرون يَوْم الْقِيَامَة فِي صُورَة الذَّر يطأهم النَّاس تَحت أَقْدَامهم
فالمتكبرون الَّذين تكبروا على الله تَعَالَى فَلم يوحدوه قَالَ تَعَالَى {إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ} فقامتهم قامة الذَّر يَوْم الْقِيَامَة فَكل من كَانَ أَشد تكبرا كَانَ أقصر قامة وعَلى هَذَا السَّبِيل كل من كَانَ أَشد تواضعا لله تَعَالَى فَهُوَ أشرف قامة على الْخلق
-
الأَصْل الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي تَسْلِيم الْحق وسر مصافحته لعمر رضي الله عنه
عَن أبي بن كَعْب رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أول من يصافحه الْحق عمر وَأول من يسلم عَلَيْهِ وَأول من يَأْخُذ بِيَدِهِ فيدخله الْجنَّة
قَالَ أَبُو عبد الله الرَّحْمَة وَالْحق لَهما شَأْن فِي الْموقف يَوْمئِذٍ الْحق يَقْتَضِي الْخلق عبودته وَالرَّحْمَة تشْتَمل على من وفى بالعبودة لَهُ فَمن طَالبه الْحق بالعبوده وَلم تُدْرِكهُ الرحمه فقد هلك وَكَانَ من شَأْن عمر رضي الله عنه الْقيام بِالْحَقِّ وَكَانَ الْغَالِب على قلبه عَظمَة الله وجلاله وهيبته سبحانه وتعالى وَكَانَ الْحق عز وجل معتمله حَتَّى يقوم بِأَمْر الله وَيُحَاسب نَفسه وَسَائِر الْخلق على الذّرة والخردلة فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَهُوَ الْوَفَاء بِمَا قلد الله الْخلق من رِعَايَة هَذَا الدّين الَّذِي ارْتَضَاهُ لَهُم وَهُوَ الْإِسْلَام فَكَأَنَّهُ خلق عزا لِلْإِسْلَامِ
وَبِذَلِك دَعَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ اللَّهُمَّ أعز الدّين بعمر بن الْخطاب أَو بِعَمْرو بن هِشَام
عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت دَعَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الْخطاب وَأبي جهل بن هِشَام فَأصْبح عمر وَكَانَت الدعْوَة يَوْم الْأَرْبَعَاء وهم تِسْعَة وَثَلَاثُونَ رجلا فَأسلم عمر رضي الله عنه يَوْم الْخَمِيس فَكبر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأهل الْبَيْت تَكْبِيرَة سَمِعت بِأَعْلَى مَكَّة وَخرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مختفيا فِي بَيت الأرقم فأظهر الْإِسْلَام وَطَاف بِالْبَيْتِ وَعمر متقلد السَّيْف حَتَّى صلى الظّهْر مُعْلنا
وَكَانَ كَمَا قَالَت عَائِشَة رضي الله عنها وَكَانَ أحوذيا نَسِيج وَحده قد أعد للأمور أقرانها
عَن سعيد بن جُبَير عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه أَن جبرئيل عليه السلام جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا مُحَمَّد أقرىء عمر السَّلَام وَأخْبرهُ أَن غَضَبه عز وَأَن رِضَاهُ عدل
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا عمر إِن غضبك عز ورضاك حكم
وَهَذَا لِأَن من استولى على قلبه الْحق إِذا غضب غضب للحق وَإِذا رَضِي رَضِي من أجل الْحق وَكَانَ الْغَالِب على قلب عمر رضي الله عنه الْحق ونوره وسلطانه
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أرْحم أمتِي بأمتي أَبُو بكر وَأَقْوَاهُمْ فِي دين الله عمر
وَإِنَّمَا الْقُوَّة من أجل أَن الْحق على الْقلب سُلْطَانه وَكَانَ أَبُو بكر رضي الله عنه من شَأْنه الْقيام برعاية تَدْبِير الله ومراقبة صنعه فِي الْأُمُور حَتَّى يَدُور مَعَ الله تَعَالَى فِي تَدْبيره وَكَانَ مُسْتَعْملا بِالتَّدْبِيرِ وَعمر مُسْتَعْملا بِالْحَقِّ فَمن شَأْن أبي بكر رضي الله عنه الْعَطف وَالرَّحْمَة والرأفة والرقة واللين وَمن شَأْن عمر رضي الله عنه الشدَّة وَالْقُوَّة والصلابة والصرامة وَلذَلِك شبه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثه أَبَا بكر بإبراهيم من الرُّسُل وبميكائيل من الْمَلَائِكَة عليهم السلام وَشبه عمر بِنوح من الرُّسُل وبجبرئيل من الْمَلَائِكَة عليهم السلام فابتدأ الله الْمُؤمنِينَ بِالرَّحْمَةِ ورزقهم الْإِيمَان ثمَّ اقتضاهم حَقه فشرع لَهُم الشَّرِيعَة واستهداهم الْقيام بذلك فَمن وفى لَهُ بِالْقيامِ بذلك فقد أرْضى الْحق تَعَالَى
فَأَبُو بكر مَعَ الْمُبْتَدَأ وَهُوَ الْإِيمَان وَعمر مَعَ الَّذِي يتلوه وَهُوَ الْحق وَهُوَ الشَّرِيعَة لِأَن من حق الله تَعَالَى على عباده أَن يوحدوه وَإِذا وحدوه فَمن حَقه عَلَيْهِم أَن يعبدوه بِمَا أَمرهم بِهِ ونهاهم عَنهُ
وَلذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ أمرت أَن أؤول الرُّؤْيَا على أبي بكر وَأمرت أَن أَقرَأ الْقُرْآن على عمر لِأَن الرُّؤْيَا جُزْء من أَجزَاء النُّبُوَّة وَالْقُرْآن بَيَان حُقُوقه وَلذَلِك قيل أَبُو بكر الصّديق لِأَنَّهُ صدق بِالْإِيمَان بِكَمَال الصدْق
وَقيل لعمر فاروق لِأَنَّهُ يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل وأسماؤهما دليلان على مراتبهما من الله تَعَالَى بالقلوب ويكشف لَك عَن درجتيهما أَن مجْرى أبي بكر مجْرى صدق الْإِيمَان ومجرى عمر مجْرى وَفَاء الْحق وَكَيف مَا دَار الْحق مَعَ الْعباد يَوْم الْموقف باقتضاء أَمر الله عز وجل وحبسهم على الْبَاب والانتقام بالنَّار مِنْهُم فالعاقبة الرَّحْمَة لِأَن الرَّحْمَة لَا تتْرك أحدا قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مرّة وَاحِدَة فِي دَار الدُّنْيَا فِي جَمِيع عمره صدقا فِي قلبه ثمَّ لم يُوجد لَهُ مِثْقَال خردلة من خير إِلَّا وتأخذه من النَّار وَلَو بعد مِقْدَار عمر الدُّنْيَا
وَكَذَلِكَ جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي قصَّة الشَّفَاعَة إِذا انْقَضتْ شَفَاعَة الرُّسُل وَالْمَلَائِكَة والأنبياء وَالْمُؤمنِينَ جَاءَ مُحَمَّد فِي الْمرة الرَّابِعَة صلى الله عليه وسلم فَيسْأَل فِيمَن قَالَ مرّة لَا إِلَه إِلَّا الله فَيَقُول الله عز وجل إِنَّهَا لَيست لَك وَلَا لأحد من خلقي فتجيء الرَّحْمَة من وَرَاء الْحجاب فَتَقول يَا رب مِنْك بدأت وَإِلَيْك أَعُود فشفعني فِيمَن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مرّة وَاحِدَة فتجاب إِلَى ذَلِك
فَإِنَّمَا أَعْطَاهُم قَول لَا إِلَه إِلَّا الله بِالرَّحْمَةِ ثمَّ لَا تتركهم تِلْكَ الرَّحْمَة حَتَّى تأخذهم من الْحق سبحانه وتعالى وانتقامه مِنْهُم بالنَّار ويكشف عَن شَأْن درجتيهما الْأَخْبَار المتواترة فَمِنْهَا ماروي عَن ابْن شريحة قَالَ سَمِعت عليا رضي الله عنه على الْمِنْبَر يَقُول إِن أَبَا بكر أَواه منيب الْقلب وان عمر نَاصح الله فنصحه الله تَعَالَى
عَن ابْن سِيرِين رضي الله عنه أَن أَبَا بكر رضي الله عنه كَانَ إِذا صلى فَقَرَأَ خفض صَوته وَكَانَ عمر رضي الله عنه كَانَ إِذا قَرَأَ جهر فَقيل لأبي بكر لم تصنع هَذَا قَالَ أُنَاجِي رَبِّي وَقد علم حَاجَتي قيل أَحْسَنت وَقيل لعمر رضي الله عنه لم تصنع هَذَا قَالَ أطْرد الشَّيْطَان وواقظ الْوَسْنَان قيل أَحْسَنت فَلَمَّا نزل {وَلَا تجْهر بصلاتك وَلَا تخَافت بهَا وابتغ بَين ذَلِك سَبِيلا} فَقيل لأبي بكر ارْفَعْ شَيْئا وَقيل لعمر اخْفِضْ شَيْئا
عَن عبد الله بن بُرَيْدَة رضي الله عنه قَالَ سَمِعت أبي يَقُول خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي بعض مغازيه فَلَمَّا انْصَرف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جَاءَت جَارِيَة سَوْدَاء فَقَالَت يَا نَبِي الله كنت نذرت إِن ردك الله سالما أَن أضْرب بَين يَديك بالدف فَقَالَ إِن كنت نذرت أَن تضربي وَإِلَّا فَلَا فَدخل أَبُو بكر وَهِي تضرب ثمَّ دخل عمر فَأَلْقَت الدُّف تحتهَا ثمَّ قعدت عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الشَّيْطَان ليخاف مِنْك يَا عمر إِنِّي كنت جَالِسا وَهِي تضرب فَدخل أَبُو بكر وَهِي تضرب ثمَّ دخل عَليّ وَهِي تضرب ثمَّ دخل عُثْمَان وَهِي تضرب فَلَمَّا دخلت أَنْت أَلْقَت الدُّف
فَلَا يظنّ ذُو عقل أَن عمر فِي هَذَا أفضل من أبي بكر وَأَبُو بكر شَبيه برَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِك وَلَكِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع الْأَمريْنِ والدرجتين فَلهُ دَرَجَة النُّبُوَّة لَا يلْحقهُ أحد وَأَبُو بكر لَهُ دَرَجَة الرَّحْمَة وَعمر لَهُ دَرَجَة الْحق
عَن الْأسود بن هِلَال رضي الله عنه قَالَ قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه لأَصْحَابه ذَات يَوْم مَا ترَوْنَ فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} وَقَالَ {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم}
قَالُوا استقاموا فَلم يذنبوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم بذنب قَالَ لقد حملتموها على غير الْمحمل {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} فَلم يلتفتوا إِلَى إِلَه غَيره {وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} أَي بشرك
عَن الزُّهْرِيّ أَن عمر رضي الله عنه تَلا هَذِه الْآيَة {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} قَالَ استقاموا وَالله لله بِطَاعَتِهِ ثمَّ لم يروغوا روغان الثعالب
عَن مَكْحُول رفع الحَدِيث إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ كَانَ بَين رجل من الْمُنَافِقين وَرجل من الْمُسلمين مُنَازعَة فِي شَيْء ادَّعَاهُ الْمُنَافِق فَأتيَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فقصا عَلَيْهِ قصتهما فَلَمَّا توجه الْقَضَاء على الْمُنَافِق قَالَ الْمُنَافِق يَا رَسُول الله ادفعني وإياه إِلَى أبي بكر قَالَ انْطلق مَعَه إِلَى أبي بكر فَانْطَلق مَعَه فقصا قصتهما على أبي بكر رضي الله عنه فَقَالَ مَا كنت لأقضي بَين من رغب عَن قَضَاء الله وَقَضَاء رَسُوله فَرَجَعَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا نَبِي الله ادفعني وإياه الى عمر
قَالَ انْطلق مَعَه إِلَى عمر قَالَ يَا نَبِي الله أَنطلق مَعَ رجل إِلَى عمر قد رغب عَن قَضَاء الله وَقَضَاء رَسُول الله قَالَ انْطلق مَعَه فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا عمر رضي الله عنه فقصا عَلَيْهِ قصتيهما فَقَالَ عمر رضي الله عنه لَا تعجلا حَتَّى أخرج إلَيْكُمَا فَدخل فَاشْتَمَلَ على السَّيْف وَخرج عَلَيْهِمَا فَقَالَ أعيدا عَليّ قصتكما فاعادا فَلَمَّا تبين لعمر رضي الله عنه أَن الْمُنَافِق رغب عَن قَضَاء الله وَقَضَاء رَسُوله حمل سَيْفه على ذؤابة الْمُنَافِق حَتَّى خالط كبده ثمَّ قَالَ هَكَذَا أَقْْضِي بَين من لم يرض بِقَضَاء الله وَقَضَاء رَسُوله فَأتى جبرئيل عليه السلام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن عمر قد قتل الرجل وَفرق الله بَين الْحق وَالْبَاطِل على لِسَان عمر رضي الله عنه فَسُمي الْفَارُوق وَيلْزم اسْم الصّديق من أَقَامَ الصدْق فِي أُمُوره كلهَا وَيلْزم اسْم الْفَارُوق من أَقَامَ الْحق فِي أُمُوره كلهَا وَلَو كَانَ فِي بَعْضهَا لَكَانَ هَذَا صَادِقا وَذَاكَ فارقا من الْعَرَبيَّة فِي قالب فَاعل وَأما فعيل وفاعول هُوَ الَّذِي تمكن ذَاك الْأَمر فِيهِ فَصَارَ لَهُ عَادَة وطبعا
7 -
الأَصْل الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي مَا يعدونه صدق الحَدِيث
قَالَ المُصَنّف حَدثنَا الْحُسَيْن بن عَليّ الْعجلِيّ الْكُوفِي قَالَ حَدثنَا يحيى بن آدم قَالَ حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا حدثتم عني بِحَدِيث تعرفونه وَلَا تُنْكِرُونَهُ قلته أَو لم أَقَله فصدقوا بِهِ وَإِنِّي أَقُول مَا يعرف وَلَا يُنكر وَإِذا حدثتم عني بِحَدِيث تُنْكِرُونَهُ وَلَا تعرفونه فكذبوا بِهِ فَإِنِّي لَا أَقُول مَا يُنكر وَلَا يعرف
فالرسل بعثوا إِلَى الْخلق بِحمْل الْأُمُور وَمَعْرِفَة التَّدْبِير فِي الْأُمُور وَكَيف وَلم وكنه الْأُمُور عِنْدهم مَكْنُون قد أفشى الله من ذَلِك إِلَى الرُّسُل من غيبه مَا لَا يحْتَملهُ عقول من دونهم وبفضل النُّبُوَّة قدرُوا على احْتِمَاله
فالعلم إِنَّمَا بَدَأَ من عِنْد الله تَعَالَى إِلَى الرُّسُل ثمَّ من الرُّسُل إِلَى الْخلق فالعلم بِمَنْزِلَة الْبَحْر فأجري مِنْهُ وَاد ثمَّ أجري من الْوَادي نهر ثمَّ أجري مِنْهُ جدول ثمَّ من الْجَدْوَل إِلَى ساقية فَلَو أجري إِلَى الْجَدْوَل ذَلِك الْوَادي غرقه وأفسده وَلَو مَال الْبَحْر إِلَى الْوَادي لأفسده وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم أنزل من السَّمَاء مَاء فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا
فبحور الْعلم عِنْد الله تَعَالَى فَأعْطى الرُّسُل مِنْهَا أَوديَة ثمَّ أَعْطَتْ الرُّسُل من أَوْدِيَتهمْ أَنهَارًا إِلَى الْعلمَاء ثمَّ أَعْطَتْ الْعلمَاء إِلَى الْعَامَّة جداول صغَارًا على قدر طاقتهم ثمَّ أجرت الْعَامَّة إِلَى أَهَالِيهمْ وَأَوْلَادهمْ ومماليكهم سواقي بِقدر طاقتهم وَمن هَهُنَا مَا رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن لله سرا لَو أفشاه لفسد التَّدْبِير وللأنبياء عليهم السلام سرا لَو أفشوه لفسدت نبوته وللملوك سرا لَو أفشوه لفسد ملكهم وللعلماء سرا لَو أفشوه لفسد علمهمْ وَإِنَّمَا يفْسد ذَلِك لِأَن الْعُقُول لَا تحتمله فَلَمَّا زيدت الْأَنْبِيَاء عليهم السلام فِي عُقُولهمْ قدرُوا على احْتِمَال النُّبُوَّة وزيدت الْعلمَاء فِي عُقُولهمْ وَبِذَلِك نالوا الْعلم فقدروا على احْتِمَال مَا عجزت الْعَامَّة عَنهُ
وَكَذَلِكَ عُلَمَاء الْبَاطِن وهم الْحُكَمَاء زيدت فِي عُقُولهمْ وَبِذَلِك نالوا الْعلم فقدروا على احْتِمَال مَا عجزت عَنهُ عُلَمَاء الظَّاهِر أَلا يرى أَن كثيرا من عُلَمَاء الظَّاهِر دفعُوا أَن تَنْقَطِع الوسوسة من الْآدَمِيّ فِي صلَاته ودفعوا أَن يكون لَهُ مشي على المَاء أَو تطوي لَهُ الأَرْض أَو يهيأ لَهُ رزق من غير وُجُوه الْآدَمِيّين حَتَّى أَنْكَرُوا عَامَّة هَذِه الرِّوَايَات الَّتِي جَاءَت فِي مثل هَذِه
الْأَشْيَاء وَلَو عقلوا لقالوا مثل مَا قَالَ مطرف بن عبد الله حِين سَار لَيْلَة مَعَ صَاحب لَهُ فأضاء لَهُ طرف عَصَاهُ كالسراج مَعَه فَقَالَ لَهُ صَاحبه لَو حَدثنَا بِهَذَا كذبنَا فَقَالَ مطرف المكذب بنعم الله يكذب بِهَذَا وَلَو نظر عُلَمَاء الظَّاهِر إِلَى مَا أعْطى الله تَعَالَى لَهُم من مَعْرفَته وَهِي أعظم شَيْء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض لم يستعظموا مَا إِذا أعطي أحدهم دسجة من جزر فِي بَريَّة من الأَرْض أَو رغيفا بل قَالُوا هَذَا من الله الَّذِي أَعْطَانَا مَعْرفَته الَّتِي هِيَ أثقل من سبع سموات وَسبع أَرضين لكنه من أعطي هَذَا الْعَطاء الْجَلِيل فَلم يرعه حق رعايته وَلم يشْكر الْمُعْطِي بل سَهَا وَلها وَتبطل فِي صُورَة الكفور للنعمة مُقبلا على الدُّنْيَا وَمن انتبه لما أعطي وانكشف غطاء قلبه رعى مَا أعطي وَعز عَلَيْهِ أَن يدنس خلعة الله الَّذِي خلع على قلبه كَمَا عز عَلَيْهِ أَن يدنس خلعة الْمُلُوك فِي دَار الدُّنْيَا فَكيف بالخلعة الَّتِي خلعها رب الْعَالمين على قُلُوب الْمُوَحِّدين اشتعل فِي قُلُوبهم نور التَّوْحِيد حَتَّى عرفوه وآمنوا بِهِ فاشرقت صُدُورهمْ وَنزع عَنْهَا ظلمَة الْكفْر وخلعها عَنْهُم وخلع عَلَيْهِم لِبَاس التَّقْوَى الَّذِي هُوَ وقاية من النَّار
ثمَّ قَالَ فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {ذَلِك من آيَات الله} وَقَالَ {حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون فضلا من الله ونعمة} ثمَّ قَالَ {وَالله عليم حَكِيم}
عليم بِمَعْنى أعْطى من هُوَ من عباده حَكِيم فِي أمره بالحكمة فعل هَذَا لَا بالجزاف
{هُوَ أعلم بكم إِذْ أنشأكم من الأَرْض وَإِذ أَنْتُم أجنة فِي بطُون أُمَّهَاتكُم}
فَمن انتبه لهَذِهِ النِّعْمَة وَلِهَذَا الْفضل لم يستعظم أَن تطوى لَهُ الأَرْض أَو يعْطى رغيفا فِي بَريَّة وَالله يَقُول فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {ويستجيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ويزيدهم من فَضله}
قيل هُوَ الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة فَرجل يشفع فِي أهل النَّار يَوْم الْقِيَامَة وَصَارَ مِمَّن يجوز قَوْله بَين يَدي رب الْعِزَّة فِي ذَلِك الْموقف إِن أعطَاهُ رغيفا فِي الدُّنْيَا من حَيْثُ لَا يقدر عَلَيْهِ مَاذَا يكون فِيهِ حَتَّى يُنكر هَذَا وَمَا يخرج إِنْكَار هَذَا إِلَّا من قوم جهلوا صنائع الله تَعَالَى وتدبيره فِي خلقه وَلم يتَبَيَّن لَهُم كَرَامَة الله إيَّاهُم
وَجَاء عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَو عَرَفْتُمْ الله حق مَعْرفَته لزالت بدعائكم الْجبَال
فعلماء الظَّاهِر عرفُوا الله وَلَكِن لم ينالوا حق الْمعرفَة فَلذَلِك عجزوا عَن هَذِه الْمرتبَة ودفعوا أَن يكون هَذَا كَائِنا لأحد وَلَو عرفوه حق الْمعرفَة لماتت عَنْهُم الشَّهَوَات وَحب الرياسة وَالشح على الدُّنْيَا والنتافس فِي أحوالها وَطلب الثَّنَاء ترى أحدهم ينصب سَمعه مصغيا الى مَا يَقُول النَّاس لَهُ وَفِيه وعينه شاخصة إِلَى مَا ينظر النَّاس إِلَيْهِ مِنْهُ وَقد عميت عَيناهُ عَن النّظر إِلَى صنع الله وتدبيره فَإِن الله كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن وَقد صم أُذُنه عَن مواعظ الله يقرأه وَلَا يتلذذ لَهُ وَلَا يجد لَهُ حلاوة وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا
عَنى بِهِ غَيره فَكيف يتلذذ بِمَا كلم بِهِ غَيره وَإِنَّمَا صَار كَذَلِك لِأَن الله تَعَالَى خَاطب أولي الْعُقُول والبصائر والألباب فَمن ذهب عقله وبصيرته ولبه فِي شَأْن نَفسه ودنياه كَيفَ يفهم كَلَام رب الْعَالمين ويتلذذ بِهِ وَإِنَّمَا وَقع الْبر واللطف على أهل تِلْكَ الصّفة
عدنا إِلَى تَأْوِيل الحَدِيث وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم إِذا حدثتم عني بِحَدِيث تعرفونه وَلَا تُنْكِرُونَهُ فَنَقُول من تكلم بعد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بِشَيْء من الْحق وعَلى سَبِيل الْهدى فالرسول صلى الله عليه وسلم سَابق إِلَى ذَلِك القَوْل وَإِن لم يكن تكلم بذلك اللَّفْظ الَّذِي أَتَى بِهِ من بعده فقد أَتَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بِأَصْلِهِ مُجملا فَلذَلِك قَالَ فصدقوا بِهِ قلته أَو لم أَقَله إِن لم أَقَله بذلك اللَّفْظ الَّذِي يحدث بِهِ عني فقد قلته إِذا جِئْت بِالْأَصْلِ وَالْأَصْل مؤد عَن الْفَرْع
فجَاء الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بِالْأَصْلِ ثمَّ تكلم أَصْحَابه والتابعون رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ من بعده بالفروع فَإِذا كَانَ الْكَلَام مَعْرُوفا عِنْد الْمُحَقِّقين غير مُنكر فَهُوَ قَول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قَالَه أَو لم يقلهُ يجب علينا تَصْدِيقه لِأَن الأَصْل قد قَالَه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وأعطاناه وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لأَصْحَابه الَّذين قد عرفهم بِالْحَقِّ فَإِنَّمَا يعرف الْحق المحق وَهُوَ أولو الْأَلْبَاب والبصائر فَأَما المخلط المكب على شهوات الدُّنْيَا المحجوب عقله عَن الله تَعَالَى فَلَيْسَ هُوَ المعني بِهَذَا لِأَن صَدره مظلم فَكيف يعرف الْحق وَإِنَّمَا شَرط رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِذا جائكم عني حَدِيث تعرفونه وَلَا تُنْكِرُونَهُ
وَإِنَّمَا تعرف وتنكر الْعُقُول الَّتِي لَهَا إِلَى الله سَبِيل يصل إِلَى الله وَنور الله سراجه وَالْعقل بصيرته وَالْحق جيئته والسكينة طابعه فَيرجع إِلَى
خلقه وَالْحق عِنْده أَبْلَج يضيء فِي قلبه كضوء السراج يَقِينا وعلما بِهِ كَمَا قَالَ ربيع بن خَيْثَم إِن على الْحق نورا وضُوءًا كضوء النَّهَار نعرفه وَأَن على الْبَاطِل ظلمَة كظلمة اللَّيْل ننكره فالمحقون هَكَذَا صفتهمْ يعْرفُونَ الْحق وَالْبَاطِل
وَكَذَلِكَ وعد الله تَعَالَى الْمُتَّقِينَ فَقَالَ عز من قَائِل {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا}
قَالَ أهل التَّفْسِير إخراجا أَي من الشُّبُهَات والظلمات فَأَما مَحْض التَّفْسِير فالمخرج أَن يَجْعَل لَهُ نورا فِي قلبه يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل حَتَّى يكون لَهُ مخرجا من ظلمَة الْجَهْل وشبهات الدُّنْيَا فَإِن الْجَهْل يظلم وَالدُّنْيَا تزين على الْآدَمِيّ شَهْوَته الَّتِي فِي جَوْفه فتشبه عَلَيْهِ حَتَّى تخدعه فبتقواه من هَذِه الْأَشْيَاء يَجْعَل لَهُ فرقانا وَهُوَ النُّور يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل هَذَا ثَوَاب التَّقْوَى فِي عَاجل دُنْيَاهُ وثوابه فِي الْآخِرَة قربته وكرامته ورفعة دَرَجَته قَالَ لَهُ قَائِل إِن كَانَ النّظر فِي معرفَة الْحق من الْبَاطِل إِلَى الْقلب فَمَا الْحَاجة بِنَا إِلَى هَذِه الْآثَار قَالَ اعْلَم أَن الله تَعَالَى أنار الْقلب ووفر عقله وَالْحق نور وعَلى قلب الموحد نور يتقد من قلبه على قلبه فِي صَدره فَإِذا عرض أَمر الله تَعَالَى هُوَ حق فَوَقع ذكره فِي الصَّدْر على الْقلب التقى نور الْحق وَنور الْقلب فأمتزجا وائتلفا فاطمأن الْقلب بِمَا فِيهِ وَسكن فَعلمت أَنه الْحق وَإِذا عرض بَاطِل فَوَقع ذكره فِي الصَّدْر على
الْقلب وَالْبَاطِل ظلمَة الْتَقت الظلمَة وَنور الْقلب فيفر النُّور وَلم يمزج مَعَه فاضطرب الْقلب
عَن وابصة بن معبد رضي الله عنه قَالَ قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جِئْت تسْأَل عَن الْبر وَالْإِثْم استفت قَلْبك الْبر مَا إطمأنت إِلَيْهِ النَّفس وَالْقلب وَالْإِثْم مَا حاك فِي النَّفس وَتردد فِي الصَّدْر وَإِن أَفْتَاك النَّاس
إِنَّمَا ذكر طمأنينة النَّفس ليعلم أَنَّهَا نفوس قد مَاتَت مِنْهَا الشَّهَوَات وراضها صَاحبهَا وأدبها فقارنت الْقلب فِي الصَّدْر فِي الْعُبُودِيَّة وَلَو كَانَت نفس شهوانية بطالة لم تسْتَحقّ أَن ينظر اليها لما يحيك فِيهَا وَإِلَى مَا يطمئن فالنفوس البطالة تطمئِن إِلَى الْجَهْل وَلَا يحيك فِيهَا الْحق وَالْخَيْر ويستقر فِيهَا الشَّرّ وَالْبَاطِل
عَن عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه رضي الله عنهما قَالَ رجل أَتَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله أَفْتِنَا إِن ابتلينا بِالْبَقَاءِ بعْدك قَالَ تفتيك نَفسك قَالَ وَكَيف تفتيني نَفسِي قَالَ عليه السلام ضع يدك على صدرك فَإِنَّهُ يسكن للْحَلَال ويضطرب من الْحَرَام دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك وَإِن أَفْتَاك الْمفْتُون إِن الْمُؤمن يذر الصَّغِير مَخَافَة أَن يَقع فِي الْكَبِير
عَن الْحسن بن عَليّ رضي الله عنه قَالَ سَمِعت جدي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك فَإِن الصدْق طمأنينة وَالْكذب رِيبَة
وَإِنَّمَا صير رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هَذِه الْكَلِمَة عَلامَة لقلوب قد ملكت النُّفُوس وخلت من وساوسها الصُّدُور لَا الْقُلُوب الَّتِي قد ملكتها نفوسها وشحنت بوساوسا صدورها قَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ لَكَانَ خيرا لَهُم وَأَشد تثبيتا وَإِذا لآتيناهم من لدنا أجرا عَظِيما ولهديناهم صراطا مُسْتَقِيمًا} وعد الْهِدَايَة على فعل مَا يوعظ بِهِ
وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا}
وَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا} بالهداية فِي الْقلب وَالْفرْقَان فِي الْقلب وَهُوَ نور يَجعله الله فِي الْقلب فيشرق بِهِ الصَّدْر وتنجلي ظلمَة الشَّهَوَات والهوى عَن الصُّدُور وَيَزُول رين الذُّنُوب فدلت الْآيَات أَن هَذَا لأهل التَّقْوَى والفاعلين بوعظه وَأهل المجاهدة وهم أهل الْيَقِين وطهارة الْقُلُوب وَأما الْعَامَّة فَإِنَّهُم يَحْتَاجُونَ إِلَى النُّصُوص والْآثَار على أَلْسِنَة عُلَمَاء الظَّاهِر لما دخل عَلَيْهِم من آفَة النَّفس وتخليطها فقد تراكمت على صُدُورهمْ سحائب تترى من حب الدُّنْيَا
وَحب الجاه وَحب الثَّنَاء وَحب الرياسة وَحب الشَّهَوَات وَفتن الدُّنْيَا ورين الذُّنُوب
فَإِذا عرض فِي الصَّدْر ذكر شَيْء هُوَ حق وعَلى الْحق نور حَالَتْ الظلمَة بَين نور الْحق وَنور الْقلب فَلم يمتزجا وَلم يعرف الْقلب ذَلِك الْحق فصاحبه فِي حيرة مِنْهُ وَإِذا عرض أَمر هُوَ بَاطِل وعَلى الْبَاطِل ظلمَة امتزج الْبَاطِل بظلمة الشَّهَوَات ورين الذُّنُوب فَلم يعلم الْقلب بِشَيْء من ذَلِك لِأَن نور الْقلب قد انكمن فِي الْقلب وَلم يشرق فِي الصَّدْر فَلَيْسَ لأهل التَّخْلِيط من هَذِه الْعَلامَة شَيْء فَإِنَّهُ قَالَ دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك وصدره ممتلىء ريبا فَكيف يتَبَيَّن فِيهِ الريب الزَّائِد قَالَ لَهُ قَائِل إِن رَأَيْت أَن تنص على حديثين حَدِيث يعرفهُ المحقون ببصائهم وَلَا ينكرونه وَحَدِيث ينكرونه لنعرف بِهِ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَمن قبل ذَلِك فَأخْبرنَا مَا معنى قَوْلك يعرفهُ المحقون ببصائرهم قَالَ ان الْحق الْأَعْظَم الَّذين انشعب مِنْهُ الْحُقُوق لَا يسكن إِلَّا فِي قلب طَاهِر وَكَذَلِكَ الْيَقِين لَا يسْتَقرّ إِلَّا فِي قلب طَاهِر فَمن لم يطهر قلبه فَهَذِهِ الْأَشْيَاء نافرة عَنهُ لَا تَجِد مأمنها فَإِذا وجدت قلبا وَقد تطهرت من أدناس الذُّنُوب ودرن الْعُيُوب فقد وجدت مأمنا فارتبعت فِيهِ فَوجدت صَاحبه حكيما وَوَجَدته موقنا وَوَجَدته محقا فالحكمة ينبوع قلبه وَمِثَال بَين عَيْنَيْهِ وَالْيَقِين مطالعة الملكوت وَالْحق مستعمله وَمن لم يطهر قلبه فَالْحق نافر عَنهُ فَهُوَ يتبع الْحق ليعْمَل بِهِ وَالْحق هارب مِنْهُ فَلذَلِك يشْتَد عَلَيْهِ الْقيام بِالْحَقِّ ويثقل عَلَيْهِ حَتَّى يعجز عَنهُ والمحق يجْرِي فِيهِ كالسهم وكالماء وكالدهن لينًا وكالريح سرعَة ومضيا
وَأما حَدِيث يعرفهُ المحقون فَروِيَ عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على نَاقَته الجدعاء فَقَالَ أَيهَا النَّاس كَأَن الْمَوْت فِيهَا على غَيرنَا كتب وَكَأن الْحق على غَيرنَا وَجب وَكَأن الَّذِي نشيع من الْمَوْتَى عَن قَلِيل إِلَيْنَا رَاجِعُون نبوءهم أجداثهم
وَنَأْكُل تراثهم كأنا مخلدون بعدهمْ طُوبَى لمن شغله عَيبه عَن عُيُوب النَّاس طُوبَى لمن ذل نَفسه من غير منقصة وتواضع لله تَعَالَى من غير مسكنة وَأنْفق مَالا جمعه من غير مَعْصِيّة ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الْفِقْه وَالْحكمَة طُوبَى لمن ذل نَفسه وَطلب كَسبه وصلحت سيرته وَحسنت خليقته وكرمت عَلَانِيَته وعزل عَن النَّاس شَره طُوبَى لمن عمل بِعِلْمِهِ وَأنْفق الْفضل من مَاله وَأمْسك الْفضل من قَوْله
وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ كنت رَدِيف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا غُلَام أَلا أعلمك كَلِمَات ينفعك الله بِهن قلت بلَى يَا رَسُول الله قَالَ إحفظ الله يحفظك إحفظ الله تَجدهُ أمامك تعرف إِلَى الله فِي الرخَاء يعرفك فِي الشدَّة إِذا سَأَلت فاسأل الله وَإِذا استعنت فَاسْتَعِنْ بِاللَّه وَقد جف الْقَلَم بِمَا هُوَ كَائِن فَلَو جهد الْخلق على أَن ينفعوك بِشَيْء لم يَكْتُبهُ الله لَك لم يقدروا عَلَيْهِ وَلَو جهد الْخلق على أَن يضروك بِشَيْء لم يَكْتُبهُ الله عَلَيْك لم يقدروا عَلَيْهِ فَإِن اسْتَطَعْت أَن تعْمل لله بالرضى وَالْيَقِين فافعل فَإِن لم تستطع فَإِن فِي الصَّبْر على مَا تكره خيرا كثيرا وَاعْلَم أَن النَّصْر مَعَ الصَّبْر وَأَن الْفرج مَعَ الكرب وَأَن مَعَ الْعسر يسرا
وَأما حَدِيث يُنكره المحقون فَمَا رُوِيَ عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن سُلَيْمَان عليه السلام مر فِي موكبه بِرَجُل يُقَال لَهُ مرعبدي وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فَوقف عَلَيْهِ حَتَّى فرغ فَلم يرفع رَأسه فَلَمَّا رأى ذَلِك مِنْهُ نزل إِلَيْهِ فَكَلمهُ فَقَالَ لَهُ مرعبدي أَلَسْت ابْن دَاوُد الخاطىء حملت الدُّنْيَا فَوق رَأسك وَجعلت الْآخِرَة تَحت قَدَمَيْك فصرت محجوبا عَن الدَّاريْنِ فِي كَلَام طَوِيل عامته كذب لَا يقبله قُلُوب المحقين وَقد جعل الله الرُّسُل عليهم السلام أحباءه وأصفياءه وَمن قَالَ لرَسُول مثل هَذَا فقد عابه وَمن عابه فقد كفر بِاللَّه سبحانه وتعالى وَقد جعل الله إيمَاننَا بِهِ منظوما بِهِ فإيماننا بِاللَّه لَا يقبل منا حَتَّى نؤمن بالرسل كَمَا آمنا بِهِ وَكَيف يجوز أَن يُقَال لرَسُول الله جعلت الْآخِرَة تَحت قَدَمَيْك وَالدُّنْيَا فَوق رَأسك فَهُوَ بذلك راد على الله تَعَالَى وَالله عز وجل يَقُول فِي كِتَابه الْكَرِيم ونوحا هدينَا من قبل وَمن ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى وهرون وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ
فسليمان من أهل هِدَايَة الله تَعَالَى وَسَماهُ محسنا وَهَذَا يحْكى أَنه قَالَ جعلت الْآخِرَة تَحت قَدَمَيْك وصرت محجوبا عَن الدَّاريْنِ وَقَالَ الله تَعَالَى {وَوَهَبْنَا لداود سُلَيْمَان نعم العَبْد إِنَّه أواب} ثمَّ قَالَ لنَبيه عليه السلام {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده}
فَهَذَا الَّذِي زور هَذَا الحَدِيث أَحْسبهُ من هَؤُلَاءِ الحمقى الَّذين يتزهدون فِي الدُّنْيَا رِيَاء وَسُمْعَة يُرِيدُونَ أَن يتأكلوا هَذَا الحطام بسمة الزّهْد وَلم
يعرفوا مَا الزهادة وَمَا مَعْنَاهَا حسبوا أَن الزهادة شتم الدُّنْيَا وَأكل النخالة وَلبس الصُّوف وذم الْأَغْنِيَاء ومدع الْفُقَرَاء وَمن جَهله يزْعم أَنه قَالَ مرعبدي لِسُلَيْمَان عليه السلام لَيْسَ تقضي نهمة من الدُّنْيَا إِلَّا نقص من ميزانك وَالله تَعَالَى يَقُول {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب} ثمَّ قَالَ {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب}
وَمن الحَدِيث الَّذِي يُنكره قُلُوب المحقين مَا رُوِيَ أَن قوم مُوسَى سَأَلُوا مُوسَى عليه السلام أَن يسْأَل ربه عز وجل أَن يسمعهم كَلَامه الْكَرِيم فَسَمِعُوا صَوتا كصوت الشبور إِنِّي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا الْحَيّ القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شَدِيد فَهَذَا حَدِيث من غرب فهمه وَإِنَّمَا الْكَلَام شَيْء خص بِهِ مُوسَى عليه السلام من بَين جَمِيع ولد آدم عليه السلام فَإِن كَانَ كلم قومه أَيْضا حَتَّى أسمعهم كَلَامه فَمَا فضل مُوسَى عليه السلام حَيْثُ سمي كليم الله من بَين رسله عليهم السلام وَمن الحَدِيث الَّذِي يُنكره قُلُوب المحقين مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِي قَوْله عز وجل {يُوفونَ بِالنذرِ} الْآيَات
قَالَ مرض الْحسن وَالْحُسَيْن فَعَادَهُمَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وعادهما عمومة الْعَرَب فَقَالُوا يَا أَبَا الْحسن لَو نذرت على ولديك نذرا وكل نذر لَيْسَ لَهُ وَفَاء فَلَيْسَ بِشَيْء فَقَالَ عَليّ رضي الله عنه إِن برأَ ولداي صمت لله ثَلَاثَة أَيَّام شكرا وَقَالَت جَارِيَة لَهُم ثويبة إِن برأَ سيداي صمت لله تَعَالَى ثَلَاثَة أَيَّام شكرا وَقَالَت فَاطِمَة رضي الله عنها مثل ذَلِك
فألبس الغلامان الْعَافِيَة وَلَيْسَ عِنْد آل مُحَمَّد قَلِيل وَلَا كثير فَانْطَلق عَليّ رضي الله عنه إِلَى شَمْعُون الْيَهُودِيّ الْخَيْبَرِيّ فَاسْتقْرض مِنْهُ ثَلَاثَة أصوع من شعير فجَاء بِهِ فَوَضعه فِي نَاحيَة الْبَيْت فَقَامَتْ فَاطِمَة رضي الله عنها إِلَى صَاع فطحنته واختبزته وَصلى عَليّ مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثمَّ أَتَى الْمنزل فَلَمَّا وضع الطَّعَام بَين يَدَيْهِ أَتَاهُم مِسْكين فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم أهل بَيت مُحَمَّد أَطْعمُونِي أطْعمكُم الله على مَوَائِد الْجنَّة فَسَمعهُ عَليّ رضي الله عنه فَأَنْشَأَ أبياتا لفاطمة رضي الله عنها وأنشأت فَاطِمَة أبياتا لَهُ فأطعموه الطَّعَام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يَذُوقُوا شَيْئا إِلَّا المَاء القراح وَفِي الْيَوْم الثَّانِي قَامَت إِلَى صَاع فاختبزته فَوقف بِالْبَابِ يَتِيم فَأَنْشَأَ عَليّ كرم الله وَجهه أبياتا وأنشأت فَاطِمَة رضي الله عنها أبياتا فَأَعْطوهُ الطَّعَام ومكثوا يَوْمَيْنِ وليلتين لم يَذُوقُوا شَيْئا إِلَّا المَاء فَلَمَّا أَن كَانَ الْيَوْم الثَّالِث قَامَت إِلَى الصَّاع الْبَاقِي فطحنته وأختبزته فَوقف بِالْبَابِ أَسِير استطعم أهل بَيت النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَأَنْشَأَ عَليّ رضي الله عنه أبياتا وأنشأت فَاطِمَة رضي الله عنها أبياتا فَأَعْطوهُ الطَّعَام ومكثوا ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها لم يَذُوقُوا شَيْئا إِلَّا المَاء القراح
فَلَمَّا أَن كَانَ الْيَوْم الرَّابِع وَقد قضى الله النّذر أَخذ عَليّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى الْحسن وَبِيَدِهِ الْيُسْرَى الْحُسَيْن وَأَقْبل نَحْو رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهم يَرْتَعِشُونَ كالفراخ من شدَّة الْجُوع فَلَمَّا أبصرهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا أَبَا الْحسن مَا أَشد مَا أرى بكم انْطلق بِنَا إِلَى ابْنَتي فَاطِمَة فَانْطَلقُوا إِلَيْهَا وَهِي فِي مِحْرَابهَا قد لصق بَطنهَا بظهرها وَغَارَتْ عَيناهَا من
شدَّة الْجُوع فَلَمَّا أَن رَآهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَعرف المجاعة فِي وَجههَا بَكَى فَقَالَ واغوثاه أهل بَيت مُحَمَّد يموتون جوعا فهبط جبرئيل عليه السلام فَقَالَ السَّلَام يُقْرِئك السَّلَام يَا مُحَمَّد خُذ هَنِيئًا فِي أهل بَيْتك فَأَقْرَأهُ {يُوفونَ بِالنذرِ} إِلَى قَوْله {جَزَاء وَلَا شكُورًا}
هَذَا حَدِيث مُزَوق وَقد تطرف فِيهِ صَاحبه حَتَّى يشبه على المستمعين وَالْجَاهِل يعَض على شَفَتَيْه تلهفا أَلا يكون بِهَذِهِ الصّفة وَلَا يدْرِي أَن صَاحب هَذَا الْفِعْل مَذْمُوم قَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو وَهُوَ الْفضل الَّذِي يفضل عَن نَفسك وَعِيَالك وَقَالَ صلى الله عليه وسلم خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى وابدأ بِنَفْسِك ثمَّ بِمن تعول
وافترض الله تَعَالَى على الْأزْوَاج النَّفَقَة لأهاليهم وَأَوْلَادهمْ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم كفى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَن يضيع من يقوت
أفيحسب عَاقل أَن عليا رضي الله عنه جهل هَذَا الْأَمر حَتَّى أجهد صبيانا صغَارًا من أَبنَاء خمس أَو سِتّ على جوع ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها حَتَّى تضرروا من الْجُوع وَغَارَتْ الْعُيُون فيهم لخلاء أَجْوَافهم حَتَّى أبكى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا بهم من الْجهد هَب أَنه آثر على نَفسه هَذَا السَّائِل فَهَل كَانَ يجوز لَهُ أَن يحمل على أطفاله جوع ثَلَاثَة أَيَّام بلياليهن مَا يروج هَذَا إِلَّا على حمقى جهال أَبى الله لقلوب منتبهة أَن تظن بعلي رضي الله عنه مثل هَذَا وليت شعري من حفظ هَذِه الأبيات كل لَيْلَة عَن عَليّ وَفَاطِمَة رضوَان الله عَلَيْهِمَا وَإجَابَة كل مِنْهُمَا صَاحبه حَتَّى أَدَّاهُ إِلَى هَؤُلَاءِ الروَاة فَهَذَا وأشباهه عامتها مفتعلة
وَمِمَّا يُنكره المحقون مَا يرْوى عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن فِي سنة مِائَتَيْنِ يكون كَذَا وَفِي الْعشْرين والمائتين كَذَا وَفِي الثَّلَاثِينَ كَذَا وَفِي الْأَرْبَعين كَذَا وَفِي الْخمسين كَذَا وَفِي السِّتين والمائتين تعكف الشَّمْس سَاعَة فَيَمُوت نصف الْجِنّ وَالْإِنْس فَهَل كَانَ كَذَا وَقد مَضَت هَذِه الْمدَّة وعكوف الشَّمْس لَا يَخْلُو مِنْهُ بلد فِي شَرق أَو غرب وَدلَالَة أُخْرَى وَهُوَ أَن التَّارِيخ لم يكن على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا وضعوه على عهد عمر رضي الله عنه
عَن مَيْمُون بن مهْرَان قَالَ رفع إِلَى عمر بن الْخطاب رضي الله عنه صك مَحَله شعْبَان فَقَالَ عمر رضي الله عنه أَي شعْبَان هَذَا الَّذِي هُوَ آتٍ أَو هُوَ الَّذِي نَحن فِيهِ ثمَّ قَالَ لأَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ضَعُوا للنَّاس تَارِيخا فَقَالَ بَعضهم اكتبوا على تَارِيخ الرّوم فَقيل إِنَّهُم يَكْتُبُونَ من عِنْد ذِي القرنين وَهَذَا يطول وَقَالَ بَعضهم اكتبوا على تَارِيخ الْفرس فَقيل إِن الْفرس كلما كَانَ ملك أرخ من قبله فَاجْتمع رَأْيهمْ أَن ينْظرُوا كم أَقَامَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فوجدوه عشر سِنِين فَكتب التَّارِيخ من هِجْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَمِمَّا تنكره الْقُلُوب حَدِيث رَوَوْهُ عَن عَوْف عَن أبي القموص قَالَ شرب أَبُو بكر رضي الله عنه الْخمر يَعْنِي من قبل نزُول تَحْرِيمهَا فَقعدَ ينوح قَتْلَى بدر وينشد أبياتا فَبلغ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذَلِك فَخرج حَتَّى أَتَاهُ فَرفع عَلَيْهِ شَيْئا فِي يَده فَقَالَ أَبُو بكر أعوذ بِاللَّه من غضب الله وَغَضب رَسُوله فَنزلت {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر} الْآيَة فَهَذَا مُنكر من القَوْل وَالْفِعْل
وَقد أعاذ الله الصديقين من فعل الْخَنَا وأقوال أَهله وَإِن كَانَ قبل التَّحْرِيم فقد كَانَ أَبُو بكر بِمَكَّة مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قبل أَن يُهَاجر وَقد وسم بالصديقية لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ وَعُثْمَان مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على حراء فَرَجَفَ بهم الْجَبَل فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اسكن حراء فَإِنَّمَا عَلَيْك نَبِي وصديق وشهيد
وَعَائِشَة رضي الله عنها أعلم بأبيها من أبي القموص فَهِيَ تنكر هَذَا وَتكذب أَهله
وَعَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت مَا قَالَ أَبُو بكر وَلَا عُثْمَان بَيت شعر فِي جَاهِلِيَّة وَلَا فِي إِسْلَام
وعنها أَيْضا أَنَّهَا كَانَت تَدْعُو على من يَقُول إِن أَبَا بكر قَالَ هَذِه القصيدة وأولها
(تحيا بالسلامة أم بكر
…
وَهل لي بعد قومِي بِالسَّلَامِ)
إِلَخ ثمَّ قَالَت وَالله مَا قَالَ أَبُو بكر بَيت شعر فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي الْإِسْلَام وَلَقَد ترك أَبُو بكر وَعُثْمَان شرب الْخمر فِي الْجَاهِلِيَّة وَمَا ارتاب أَبُو بكر فِي الله مُنْذُ أسلم وَلكنه كَانَ تزوج امْرَأَة من بني كنَانَة ثمَّ من بني عَوْف فَلَمَّا هَاجر أَبُو بكر طَلقهَا فَتزَوج بهَا ابْن عَمَّتهَا أَبُو بكر بن شعوب الْكِنَانِي الشَّاعِر فَقَالَ هَذِه القصيدة يرثي بهَا كفار قُرَيْش الَّذين قتلوا ببدر فحملها النَّاس أَبَا بكر من أجل امْرَأَته أم بكر الَّتِي طَلقهَا
-
الأَصْل الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي النَّهْي عَن إِكْرَاه المرضى على الطَّعَام وَالشرَاب
عَن عقبَة بن عَامر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا تكْرهُوا مرضاكم على الطَّعَام فَإِن الله يُطعمهُمْ ويسقيهم
إطْعَام الله وسقياه الْآدَمِيّ فِي دُنْيَاهُ هَذَا الَّذِي هيأه فِي أرضه وسمائه وَفِي الْآخِرَة مَا هيأه فِي جواره من جنانه ثمَّ فِيمَا بَين ذَلِك من الله تَعَالَى للعباد لطائف من خزائنه فِي أَحْوَالهم مثل مائدة عِيسَى عليه السلام وَمثل مَا أُوتِيَ مَرْيَم حَيْثُ قيل {وجد عِنْدهَا رزقا}
وسقياه مثل عَسْكَر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَصَابَهُم الْعَطش
فانفجرت من أَصَابِع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم منابع المَاء حَتَّى ارتوى الْعَسْكَر وَأما معنى قَوْله صلى الله عليه وسلم فَإِن الله يُطعمهُمْ ويسقيهم هُوَ أَنه يطهر قُلُوبهم من رين الذُّنُوب إِذا طهرهم من رين الذُّنُوب من عَلَيْهِم بِالْيَقِينِ فأشبعهم وأرواهم فَذَاك طَعَامه وسقياه لَهُم أَلا ترى أَنه يمْكث الْأَيَّام الْكَثِيرَة لَا يَذُوق شَيْئا وَمَعَهُ قوته وَلَو كَانَ ذَاك فِي أَيَّام الصِّحَّة لضعف عَن ذَلِك وَعجز عَن مقاساته وَأَقل النَّاس طَعَاما الْأَنْبِيَاء ثمَّ الْأَوْلِيَاء وَكلما كَانَ العَبْد أَكثر حظا من الْيَقِين كَانَ أقل طعما وتناولا
رُوِيَ عَن عَامر بن عبد قيس أَنه داوم شهرا لَا يَأْكُل شَيْئا قَالَ الْأَعْمَش سَمِعت إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ رحمه الله يَقُول لقد أَتَى عَليّ شهر وَمَا أكلت طَعَاما وَلَا شرابًا إِلَّا حَبَّة من عِنَب أكرهوني عَلَيْهَا وَمَا أَنا بصائم وَإِنِّي أَقْْضِي حوائجي
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء وَالْمُؤمن يَأْكُل فِي معاء وَاحِد
فقد فسرناه فِي بَابه
-
الأَصْل السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي بَيَان أَنه مِمَّا يحصل عَذَاب الْقَبْر
عَن مَيْمُونَة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَت يَا رَسُول الله من أَي شَيْء عَذَاب الْقَبْر أَفْتِنَا عَن عَذَاب الْقَبْر قَالَ من أثر الْبَوْل فَمن أصَاب مِنْهُ شَيْئا فليغسله بِمَاء فَإِن لم يصبهُ أَو يجده فليسمحه بِتُرَاب طيب
جعل التَّيَمُّم حَالَة الشَّك والتخوف أَنه أصَاب جسده الْبَوْل دافعا لعذاب الْقَبْر كَمَا جعل غسله بِالْمَاءِ فِي الْحَالة الَّتِي يدْرِي أَنه أَصَابَهُ دافعا وباله فِي الْقَبْر
-
الأَصْل السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي بَيَان أَن مُدَّة المحنة لم تقدر بِثَلَاثَة أَيَّام
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا صَبر أهل بَيت على جهد ثَلَاثَة إِلَّا آتَاهُم الله تَعَالَى برزق
إِنَّمَا صَار مُدَّة المحنة ثَلَاثَة أَيَّام لِأَن العَبْد على أَجزَاء ثَلَاثَة جُزْء مِنْهُ للْإيمَان وجزء للروح وجزء للنَّفس فالطمأنينة للْإيمَان وَالطَّاعَة للروح والشهوة للنَّفس فَإِذا منع أول يَوْم فجاع وصبر فَذَاك صَبر الْإِيمَان لِأَنَّهُ أقوى الثَّلَاثَة وَإِذا منع الْيَوْم الثَّانِي فجاع وصبر فَذَاك صَبر الرّوح يُطِيع ربه وَلَا يتَنَاوَل مَا لايحل وَإِذا منع الْيَوْم الثَّالِث فجاع وصبر فَذَاك صَبر النَّفس وتمت المحنة لِأَن المحنة إِنَّمَا تقع على أهل التُّهْمَة وَالْإِيمَان عزيمتهم وَكَذَا الرّوح وَإِنَّمَا التُّهْمَة للنَّفس وَفِي الْيَوْم الأول لم يتَبَيَّن صبرها لِأَن الْإِيمَان وَالروح لَهَا معِين وَفِي الْيَوْم الثَّانِي الرّوح معِين لَهَا فَإِذا صبرت فِي الْيَوْم الثَّالِث برزت منقبتها وَإِنَّمَا وَقعت المحنة لشأن النُّفُوس الكاذبة وامتحن ايمانهم قَالَ الله تَعَالَى {الم أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون}
-
الأَصْل الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي أَن الْبركَة فِي بيع الْعقار منزوعة
عَن سعيد بن حُرَيْث رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بَاعَ دَارا أَو عقارا فَليعلم أَنه مَال قمن أَنه لَا يُبَارك لَهُ فِيهِ إِلَّا أَن يَجعله فِي مثله
وَعَن عمرَان بن الْحصين الْخُزَاعِيّ البدري رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول من بَاعَ عقدَة وَهُوَ يجد بدا من بيعهَا وكل بذلك المَال مَا يتلفه قيل إِنَّمَا نزعت الْبركَة مِنْهَا لِأَنَّهَا ثمن الدُّنْيَا المذمومة
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الدُّنْيَا ملعونة مَلْعُون مَا فِيهَا إِلَّا ذَاكر الله أَو معلما أَو متعلما
عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ ملعونة الدُّنْيَا وملعون أَهلهَا إِلَّا ذكر الله تَعَالَى وَمَا آوى ذكر الله
وكل شَيْء أُرِيد بِهِ وَجه الله تَعَالَى من الْأُمُور والأعمال فَهُوَ مُسْتَثْنى من اللَّعْنَة لِأَنَّهُ قد آوى ذكر الله تَعَالَى
وَقيل إِنَّمَا نزعت الْبركَة عَن ثمن الْعقار لِأَنَّهُ مُخَالفَة لتدبير الله تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى خلق الأَرْض وَجعلهَا مهادا ومسكنا لَا ليتجر فِيهَا وَجعل الْجبَال أوتادا وَبَارك فِيهَا وَقدر فِيهَا أقواتها وَجعل أَثمَان الْأَشْيَاء فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِذا اتّجر فِيمَا خلق لَهُ بورك لَهُ فِيهِ وَإِذا اتّجر فِيمَا خلق مهادا وسكنا نزعت الْبركَة عَنهُ وَلِهَذَا سَمَّاهُ عقدَة لِأَنَّهُ مهاد لَك قد عقد مسكنا
-
الأَصْل التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ
-
فِي أَن النَّفَقَة فِي التُّرَاب وَالْبناء لَا أجر فِيهَا
عَن خباب رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول يُؤجر العَبْد فِي نَفَقَته كلهَا إِلَّا مَا كَانَ فِي التُّرَاب أَو قَالَ فِي الْبناء
وَفِي رِوَايَة كل نَفَقَة ينفقها العَبْد يُؤجر فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ من نَفَقَة فِي التُّرَاب
هَذَا مَا عندنَا فِي الْبناء الَّذِي يَجعله مرفقا لنَفسِهِ وَأما الْمَسَاجِد الَّتِي هِيَ لله تَعَالَى فَلَا يملكهَا أحد فَهِيَ خَارِجَة من ذَلِك وَقد جَاءَت الْآثَار عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ من بنى مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة
فَإِنَّمَا صَار غير مأجور فِي النَّفَقَة فِي التُّرَاب لِأَنَّهُ ينْفق فِي دُنْيَاهُ وَقد أذن الله فِي خرابها وَهُوَ يزِيد فِي زينتها الَّتِي جعلت فتْنَة وبلوى للعباد وَتصير عَاقبَتهَا إِلَى مَا قَالَ الله تَعَالَى {وَإِنَّا لجاعلون مَا عَلَيْهَا صَعِيدا جرزا}
عَن رَاشد بن الْحَارِث أَو غَيره قَالَ بنى أَبُو الدَّرْدَاء كنيفا فِي منزله بحمص فَكتب إِلَيْهِ عمر رضي الله عنه لقد كَانَ لَك يَا عُوَيْمِر فِيمَا بنت فَارس وَالروم كِفَايَة عَن تَزْيِين الدُّنْيَا وَقد أذن الله بخرابها فَإِذا أَتَاك كتابي هَذَا فارتحل من حمص إِلَى دمشق قَالَ يَعْنِي أَنه عاقبه بِمَا بنى
فَإِن كَانَ الْبناء مِمَّا لَا يسْتَغْنى عَنهُ وَقد بنى محتسبا فَهُوَ خَارج عَن ذَلِك لِأَن الْحَاجة إِلَى الْمسكن كالحاجة إِلَى الْمطعم وَالْمشْرَب والملبس والمركب فَإِن كَانَ فِي نَفَقَته فِي هَذِه الْأَشْيَاء محتسبا فَهُوَ مأجور فَكَذَلِك الْمسكن وَإِنَّمَا تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث عندنَا إِذا بنى لنَفسِهِ بِنَاء مرفق لَا يحْتَسب بهَا
وَجَاء عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ كل نَفَقَة ينفقها العَبْد على نَفسه فَهِيَ صدقه
وَعَن الْمِقْدَام بن معدي كرب قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا أنفقت على نَفسك فَهُوَ صَدَقَة وَمَا أنفقت على زَوجك فَهُوَ صَدَقَة
-
الأَصْل الْخَمْسُونَ
-
فِي الِاعْتِصَام بِالْكتاب والعترة وبيناها
عَن جَابر بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي حجَّته يَوْم عَرَفَة وَهُوَ على نَاقَته الْقَصْوَاء يخْطب فَسَمعته يَقُول أَيهَا النَّاس قد تركت فِيكُم مَا إِن أَخَذْتُم بِهِ لم تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بَيْتِي
وَعَن حُذَيْفَة بن أسيد الْغِفَارِيّ رضي الله عنه قَالَ لما صدر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من حجَّة الْوَدَاع خطب فَقَالَ
أَيهَا النَّاس إِنَّه قد نَبَّأَنِي اللَّطِيف الْخَبِير أَنه لن يعمر نَبِي إِلَّا مثل نصف عمره الَّذِي يَلِيهِ من قبل وَإِنِّي أَظن موشك أَن أدعى فَأُجِيب وَإِنِّي فَرَطكُمْ على الْحَوْض وَإِنِّي سَائِلكُمْ حِين تردون عَليّ عَن الثقلَيْن فانظروا كَيفَ تخلفونني فيهمَا الثّقل الْأَكْبَر كتاب الله تَعَالَى سَبَب طرفه بيد الله تَعَالَى وطرف بِأَيْدِيكُمْ فاستمسكوا فَلَا تضلوا وَلَا تبدلوا والثقل الْأَصْغَر
عِتْرَتِي أهل بَيْتِي فَإِنِّي قد نَبَّأَنِي اللَّطِيف الْخَبِير أَنَّهُمَا لن يَتَفَرَّقَا حَتَّى يردا على الْحَوْض
رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه دعاهم ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَة {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا}
فذريتهم مِنْهُم فهم صفوة وَلَيْسوا بِأَهْل عصمَة إِنَّمَا الْعِصْمَة لِلنَّبِيِّينَ عليهم السلام والمحنة لمن دونهم وَإِنَّمَا يمْتَحن من كَانَت الْأُمُور محجوبة عَنهُ فَأَما من صَارَت الْأُمُور لَهُ مُعَاينَة ومشاهدة فقد ارْتَفع عَن المحنة
وَقَوله صلى الله عليه وسلم لن يَتَفَرَّقَا حَتَّى يردا على الْحَوْض وَقَوله صلى الله عليه وسلم مَا إِن أَخَذْتُم بِهِ لن تضلوا وَاقع على الْأَئِمَّة مِنْهُم السَّادة لَا على غَيرهم وَلَيْسَ بالمسيء المخلط قدوة وكائن فيهم المخلطون والمسيئون لأَنهم لم يعروا من شهوات الْآدَمِيّين وَلَا عصموا عصمَة النَّبِيين وَكَذَلِكَ كتاب الله تَعَالَى من قبل مَا مِنْهُ نَاسخ ومنسوخ فَكَمَا ارْتَفع الحكم بالمنسوخ مِنْهُ كَذَلِك ارْتَفَعت الْقدْوَة بالمخذولين مِنْهُم
وَإِنَّمَا يلْزمنَا الِاقْتِدَاء بالفقهاء الْعلمَاء مِنْهُم بالفقه وَالْعلم الَّذِي ضمن الله تَعَالَى بَين أحشائهم لَا بِالْأَصْلِ والعنصر فَإِذا كَانَ هَذَا الْعلم وَالْفِقْه مَوْجُودا فِي غير عنصرهم لزمنا الِاقْتِدَاء بهم كالاقتداء بهؤلاء وَقد قَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم}
فَإِنَّمَا يَلِي الْأَمر منا من فهم عَن الله تَعَالَى وَعَن رَسُوله صلى الله عليه وسلم مَا يهم الْحَاجة إِلَيْهِ من الْعلم فِي أَمر شَرِيعَته
وَرُوِيَ عَن جَابر وَابْن عَبَّاس وعدة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} قَالَ هم الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء
وَإِنَّمَا أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا نرى إِلَيْهِم لِأَن العنصر إِذا طَابَ كَانَ معينا لَهُم على فهم مَا يحْتَاج إِلَيْهِم وَطيب العنصر يُؤَدِّي إِلَى محَاسِن الْأَخْلَاق ومحاسن الْأَخْلَاق تُؤدِّي إِلَى صفاء الْقلب ونزاهته وَإِذا نزه الْقلب وَصفا كَانَ النُّور أعظم وأشرق الصَّدْر بنورة فَكَانَ ذَلِك عونا لَهُ على دَرك مَا بِهِ الْحَاجة إِلَيْهِ من شَرِيعَته
-
الأَصْل الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ
-
فِي بَيَان عدد الأبدال وصفاتهم
-
عَن عبَادَة بن الصَّامِت رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الأبدال ثَلَاثُونَ رجلا قُلُوبهم على قلب إِبْرَاهِيم عليه السلام إِذا مَاتَ الرجل أبدل الله مَكَانَهُ آخر
عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ البدلاء أَرْبَعُونَ رجلا اثْنَان وَعِشْرُونَ بِالشَّام وَثَمَانِية عشر بالعراق وَكلما مَاتَ وَاحِد بدل آخر فَإِذا كَانَ عِنْد الْقِيَامَة مَاتُوا كلهم
وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثين اخْتِلَاف وَإِنَّمَا هم أَرْبَعُونَ رجلا فثلاثون مِنْهُم قُلُوبهم على قلب إِبْرَاهِيم عليه السلام دلّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ ان الْأَنْبِيَاء عليهم السلام كَانُوا أوتاد الأَرْض فَلَمَّا انْقَطَعت النُّبُوَّة أبدل الله تَعَالَى مكانهم قوما من أمة أَحْمد يُقَال لَهُم الآبدال لم يفضلوا النَّاس بِكَثْرَة صَوْم وَلَا صَلَاة وَلَا تَسْبِيح وَلَكِن بِحسن الْخلق وبصدق الْوَرع وَحسن النِّيَّة وسلامة قُلُوبهم لجَمِيع الْمُسلمين والنصيحة لله تَعَالَى ابْتِغَاء مرضاته بصبر وحلم ولب وتواضع فِي غير مذلة فهم خلفاء من الْأَنْبِيَاء قوم اصطفاهم الله تَعَالَى لنَفسِهِ واستخلصهم بِعِلْمِهِ لنَفسِهِ وهم أَرْبَعُونَ صديقا مِنْهُم ثَلَاثُونَ رجلا على مثل يَقِين إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن بهم تدفع المكاره عَن أهل الأَرْض والبلايا عَن النَّاس وبهم يمطرون وبهم يرْزقُونَ لَا يَمُوت الرجل مِنْهُم أبدا حَتَّى يكون الله تَعَالَى قد أنشأ من يخلفه وَلَا يعلنون شَيْئا وَلَا يُؤْذونَ من تَحْتهم وَلَا يتطاولون عَلَيْهِم وَلَا يحقرونهم وَلَا يحسدون من فَوْقهم وَلَا يحرصون على الدُّنْيَا لَيْسُوا بمتماوتين وَلَا متكبرين وَلَا متخشعين أطيب النَّاس خَبرا وأورعهم أنفسا طبيعتهم السخاء وصفتهم السَّلامَة من دَعْوَى النَّاس قبلهم لَا تتفرق صفتهمْ لَيْسُوا الْيَوْم فِي حَال خشيَة وَغدا فِي حَال غَفلَة وَلَكِن مداومين على حَالهم وهم فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم لَا تتدركهم الرّيح العاصف وَلَا الْخَيل المجراة قُلُوبهم تصعد فِي السَّمَاء ارتياحا إِلَى الله تَعَالَى واشتياقا إِلَيْهِ قدما فِي اشتياق الْخيرَات {أُولَئِكَ حزب الله أَلا إِن حزب الله هم المفلحون}
قلت يَا أَبَا الدَّرْدَاء مَا شَيْء أثقل عَليّ من هَذِه الصّفة الَّتِي وصفتها فَكيف لي بِأَن أدْركهَا قَالَ لَيْسَ بَيْنك وَبَين أَن تكون فِي أَوسط ذَلِك إِلَّا أَن تبغض الدُّنْيَا فَإِذا أبغضت الدُّنْيَا أقبل عَلَيْك حب الْآخِرَة وبقدر مَا
تزهد فِي الدُّنْيَا تحب الْآخِرَة وبقدر مَا تحب الْآخِرَة تبصر مَا ينفعك وَمَا يَضرك فَإِذا علم الله صدق الطّلب من عَبده أفرع عَلَيْهِ السداد واكتنفه بعصمته وتصديق ذَلِك فِي كتاب الله الْعَزِيز {إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون}
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَمَا تلذذ المتلذذون بِشَيْء أفضل من حب الله تَعَالَى وَطلب مرضاته
عَن الْحسن رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن بدلاء امتي لَا يدْخلُونَ الْجنَّة بِكَثْرَة صَوْم وَلَا صَلَاة وَلَكِن دخلوها برحمة الله وسلامة الصُّدُور وسخاوة الْأَنْفس وَالرَّحْمَة وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين
عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان رضي الله عنه قَالَ الأبدال بِالشَّام وهم ثَلَاثُونَ رجلا على منهاج إِبْرَاهِيم عليه السلام كلما مَاتَ رجل أبدل الله مَكَانَهُ آخر
فالعصب بالعراق أَرْبَعُونَ رجلا كلما مَاتَ رجل أبدل الله مَكَانَهُ آخر عشرُون مِنْهُم على اجْتِهَاد عِيسَى بن مَرْيَم عليه السلام وَعِشْرُونَ مِنْهُم قد أُوتُوا مَزَامِير آل دَاوُد والعصب رجال تشبه الأبدال
وَعَن وهب بن مُنَبّه فِي مَا يَجِيء فِي مُنَاجَاة مُوسَى عليه السلام عَن الله تَعَالَى قَالَ هم أَرْبَعُونَ صديقا كلهم بِي ولي وإلي
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الأَرْض شكت إِلَى الله تَعَالَى ذهَاب الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وَانْقِطَاع النُّبُوَّة فَقَالَ لَهَا سَوف أجعَل على ظهرك صديقين أَرْبَعِينَ فسكنت
فالصديقون إِنَّمَا بانوا من الْخلق بِصدق الْقُلُوب مَعَ الله تَعَالَى لَا
بِصدق الْأَعْمَال مَعَ الْمَلَائِكَة والعمال لَيْسَ لقُلُوبِهِمْ طَرِيق إِلَى الله تَعَالَى إِنَّمَا طَرِيق قُلُوبهم إِلَى الثَّوَاب والأنبياء وَالصِّدِّيقُونَ قد انْكَشَفَ الغطاء عَنْهُم وَصَارَ لَهُم الى الله طَرِيق ليعبده كَأَنَّهُمْ يرونه كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ وَهُوَ مَا وعد الله تَعَالَى من هِدَايَة السَّبِيل للَّذين جاهدوا فِيهِ فَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا}
ويعقبه التَّوَكُّل قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا لنا أَلا نتوكل على الله وَقد هدَانَا سبلنا ولنصبرن على مَا آذيتمونا} وَإِنَّمَا سموا أبدالا لوَجْهَيْنِ
وَجه أَنه كلما مَاتَ رجل بدل مَكَانَهُ آخر لتَمام الْأَرْبَعين
وَوجه آخر أَنهم بدلُوا أَخْلَاقهم السَّيئَة وراضوا أنفسهم حَتَّى صَارَت محَاسِن أَخْلَاقهم حلية أَعْمَالهم
وَأما قَوْله تَعَالَى فِي مُنَاجَاة مُوسَى عليه السلام كلهم بِي أَي بِي يقومُونَ ويقعدون وَبِي ينطقون وَبِي يَأْخُذُونَ ويعطون
وَهُوَ قَوْله عليه السلام فِيمَا يحْكى عَن الله عز وجل فَإِذا
أَحْبَبْت عَبدِي كنت سَمعه وبصره وَلسَانه وَيَده وَرجله وفؤاده فَبِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي ينْطق وَبِي يَأْخُذ وَبِي يبطش وَبِي يعقل
وَقَوله ولي أَي هم صفوتي قد بذلوا لي قُلُوبهم ونفوسهم فهم لي لَا يشركني فيهم نُفُوسهم
وَقَوله إِلَيّ أَي تأوي قُلُوبهم إِلَيّ فِي كل أَمر وسعي وَحَال أما الَّذين قُلُوبهم على قلب إِبْرَاهِيم عليه السلام فهم الَّذين لَا تسكن قُلُوبهم الى من دون الله تَعَالَى فِي شَيْء من أَمر الدّين وَالدُّنْيَا وَأما العصب فهم المحقون فَمنهمْ مستعملون على طَرِيق الْجهد وَمِنْهُم روحانيون قد أُوتُوا مَزَامِير آل دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام
-
الأَصْل الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ
-
فِي أَنه يقبض العَبْد حَيْثُ اثره
عَن عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِذا كَانَ أجل العَبْد بِأَرْض أتيت لَهُ الْحَاجة إِلَيْهَا حَتَّى إِذا بلغ أقْصَى أَثَره قَبضه الله سُبْحَانَهُ فَتَقول الأَرْض يَوْم الْقِيَامَة رب هَذَا عَبدك مَا استودعتني
قَالَ أَبُو عبد الله إِنَّمَا صَار أَجله هُنَاكَ لِأَنَّهُ خلق من تِلْكَ الْبقْعَة
وَقد قَالَ عز وجل فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم} وَإِنَّمَا يُعَاد الْمَرْء من حَيْثُ بَدَأَ
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بِبَعْض نواحي الْمَدِينَة فَإِذا بِقَبْر يحْفر فَأقبل حَتَّى وقف عَلَيْهِ
فَقَالَ لمن هَذَا قيل لرجل من الْحَبَشَة فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله سيق من أرضه وسمائه حَتَّى دفن فِي التربة الَّتِي مِنْهَا خلق
وَرُوِيَ أَن الأَرْض عجت إِلَى رَبهَا تَعَالَى لما أخذت تربة آدم عليه السلام مِنْهَا فَقَالَ لَهَا إِنِّي سأرده إِلَيْك فَإِذا مَاتَ دفن فِي الْبقْعَة الَّتِي مِنْهَا تربته
وَإِنَّمَا صَارَت وَدِيعَة عِنْدهَا حَتَّى تَقول يَوْمئِذٍ رب هَذَا عَبدك مَا استدعتني لإنها عبدت رَبهَا فالعبودة وَدِيعَة فِي الأَرْض حَتَّى يبْعَث للثَّواب فَيكون الْحق عز وجل أَحَق بِهِ من الأَرْض لِأَنَّهُ كَانَ وَالِي الْحق وَنَصره فَصَارَ الْحق أملك بِهِ فَأَعَادَهُ سويا وَسلمهُ إِلَى الْحق ليعيده إِلَى دَار السَّلَام أَو عبد جحد العبودة فَهُوَ مسجون فِي بطن الأَرْض للحق عِنْده تبعة وطلبة حَتَّى يبْعَث للعقاب فَيكون الْحق أَحَق بِهِ من الأَرْض وَهُوَ خَصمه وَله فِيمَا لَدَيْهِ طلبة وتبعة فَإِن الله تَعَالَى لم يخلق جسده لعبا إِنَّمَا خلقه للحق وبالحق
وَفِي الحَدِيث أَن الْملك الْمُوكل بالأرحام يَأْخُذ النُّطْفَة من الرَّحِم فَيَضَعهَا على كَفه ثمَّ يَقُول يَا رب مخلقة أَو غير مخلقة فَإِن قَالَ مخلقة قَالَ يَا رب مَا الرزق مَا الْأَثر مَا الْأَجَل فَيُقَال أنظر فِي أم الْكتاب فَينْظر فِي اللَّوْح فيجد فِيهِ رزقه وأثره وأجله وَعَمله ثمَّ يَأْخُذ التُّرَاب الَّذِي يدْفن فِي بقعته فيعجن بِهِ نطفته فَذَلِك قَوْله الْكَرِيم {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم}
عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله رضي الله عنه قَالَ إِن النُّطْفَة إِذا اسْتَقَرَّتْ من الرَّحِم أَخذهَا الْملك بكفيه فَقَالَ أَي رب أمخلقة أم غير مخلقة فَإِن قَالَ غير مخلقة لم تكن نسمَة وقذفتها الْأَرْحَام دَمًا وَإِن قَالَ
مخلقة قَالَ أَي رب أذكر أم انثى أشقي أم سعيد مَا الْأَجَل وَمَا الْأَثر وَمَا الرزق بِأَيّ أَرض تَمُوت فَيُقَال لَهُ إذهب إِلَى أم الْكتاب فَإنَّك ستجد هَذِه النُّطْفَة فَيُقَال للنطفة من رَبك فَتَقول الله تَعَالَى فَيُقَال من رازقك فَتَقول الله فتخلق فتعيش فِي أجلهَا وتأكل رزقها وَتَطَأ أَثَرهَا فَإِذا جَاءَ أجلهَا مَاتَت فدفنت فِي ذَلِك الْمَكَان
فالأثر هُوَ التُّرَاب الَّذِي يُؤْخَذ فيعجن بِهِ مَاؤُهُ وَذكر الزبير بن بكار الزبيرِي الْمدنِي رضي الله عنه كتابا صنفه بعض أهل الْمَدِينَة فِي فضل الْمَدِينَة وكتابا صنفه بعض أهل مَكَّة فِي فضل مَكَّة فَلم يزل كل وَاحِد مِنْهُمَا يذكر بقعته بفضيلة يُرِيد كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يبرز على صَاحبه بفضيلة بقعته حَتَّى برز الْمدنِي على الْمَكِّيّ فِي خلة وَاحِدَة عجز عَنْهَا الْمَكِّيّ فَقَالَ إِن كل نفس إِنَّمَا خلقت من تربَتهَا الَّتِي دفنت فِيهَا بعد الْمَوْت فَكَأَن نفس الرَّسُول صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا خلقت من تربة مدفنه فَبَان أَن تِلْكَ التربة لَهَا فَضِيلَة بارزة على سَائِر الْأَرْضين
عَن ابْن سِيرِين رضي الله عنه يَقُول رحمه الله لَو حَلَفت حَلَفت صَادِقا بارا غير شَاك وَلَا مستثن أَن الله عز وجل مَا خلق نبيه صلى الله عليه وسلم وَلَا أَبَا بكر وَلَا عمر رضي الله عنهما إِلَّا من طِينَة وَاحِدَة ثمَّ ردهم إِلَى تِلْكَ الطينة
-
الأَصْل الثَّالِث وَالْخَمْسُونَ
-
فِي أَن الْكَبَائِر لَا تجامع طمأنينة الْقلب بِاللَّه تَعَالَى
عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشرب وَهُوَ مُؤمن
وَعَن عبد الله بن الزبير عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رضي الله عنهم مثله وَعَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما مثله وَعَن مدرك بن عمَارَة عَن ابْن أبي أوفى مثله
قَالَ أَبُو عبد الله الْإِيمَان هُوَ الطُّمَأْنِينَة واستقرار الْقلب وَإِنَّمَا هما اثْنَتَانِ
الأول طمأنينة التَّوْحِيد وَهُوَ أَن يوحد الله تَعَالَى فَلَا يلْتَفت إِلَى شَيْء سواهُ فيتخذه رَبًّا
وَالْآخر طمأنينة الإقبال وَهِي أَن يكون مُقبلا عَلَيْهِ بِجَمِيعِ قلبه فَلَا يلْتَفت إِلَى شَيْء من شهوات نَفسه وَلَا إِلَى أحوالها فَالَّذِي يسرق ويزني هُوَ فِي حَالَته تِلْكَ غير مطمئن إِلَى ربه سبحانه وتعالى طمأنينة الإقبال وَلَو كَانَ كَذَلِك لم يزن وَلم يسرق بل هُوَ مقبل على شهوات نَفسه وَهُوَ فِي طمأنينة التَّوْحِيد وَالْإِيمَان اسْم يلْزم العَبْد بِفِعْلِهِ وبدؤه من النُّور الَّذِي جعل الله فِي قلبه فأحياه بِهِ وَشرح صَدره ونطق بتوحيده لِسَانه وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور
وكل شَيْء لَهُ مُبْتَدأ وَنِهَايَة فأوله لَازم ذَلِك الِاسْم لَهُ ومنتهاه هُوَ الْبَالِغ فَالَّذِي وحد ربه بِقَلْبِه وَلسَانه وَقبل الشَّرِيعَة هُوَ مُؤمن قد حرم مَاله وَدَمه وَعرضه ثمَّ هُوَ أَسِير نَفسه وَالْمُؤمن الْبَالِغ الَّذِي مَاتَت شَهْوَة نَفسه وَقطع قبله عَن كل شَيْء سواهُ وَهَذِه قُلُوب الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام وَلِلْمُؤْمنِينَ بَين هذَيْن الحدين دَرَجَات كل يعْمل على دَرَجَته فكلهم عبيد قد أقرُّوا لَهُ بالعبودة الْكَامِلَة وَلَا يقر لَهُ بالعبودة الْكَامِلَة إِلَّا الْأَنْبِيَاء والأولياء وَذَلِكَ أَنهم تركُوا مشيئتهم فِي جَمِيع أُمُورهم لمشيئته وَهَكَذَا صفة العبيد رفض الْمَشِيئَة فِي جَمِيع الْأَشْيَاء وَترك الِاخْتِيَار للأحوال
وَلَا يقدر على هَذَا إِلَّا من نور الله الْإِيمَان فِي قلبه كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي صفة حَارِثَة رضي الله عنه حَيْثُ قَالَ لَهُ كَيفَ أَصبَحت قَالَ أَصبَحت مُؤمنا حَقًا قَالَ وَمَا حَقِيقَة إيمانك قَالَ كَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزا وَإِلَى أهل الْجنَّة كَيفَ يتزاورون وَإِلَى أهل النَّار كَيفَ يتعاوون قَالَ عرفت فَالْزَمْ ثمَّ قَالَ من سره أَن ينظر إِلَى عبد نور الله الْإِيمَان فِي قلبه فَلْينْظر إِلَى هَذَا فَإِذا إمتلأ الصَّدْر وَالْقلب من
النُّور كَانَ كَمَا وَصفه الله تَعَالَى {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه}
وَكَانَ الْمُؤمن عِنْدهم فِي زمن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من كَانَ بِهَذِهِ الصّفة
وَلذَلِك قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه وددت أَنِّي شَعْرَة فِي صدر مُؤمن لما عرفُوا غور هَذِه الْكَلِمَة وَأثْنى الله تَعَالَى على إِبْرَاهِيم خَلِيله عليه السلام بَعْدَمَا شهد لَهُ بِالتَّسْلِيمِ حِين أَرَادَ ذبح ابْنه وَهُوَ الْإِسْلَام وَشهد لَهُ بِالْإِحْسَانِ فَأثْنى عَلَيْهِ فَقَالَ {إِنَّه من عبادنَا الْمُؤمنِينَ} وَقيل ان الله تَعَالَى إِذا أثنى على عبد فأبلغ فِي الثَّنَاء قَالَ {إِنَّه من عبادنَا الْمُؤمنِينَ}
وَالله تَعَالَى وصف الْمُؤمنِينَ فِي تَنْزِيله الْكَرِيم فَقَالَ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} إِلَى قَوْله {أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا}
فَمن هَهُنَا استجاز من قَالَ الْإِيمَان يزِيد وكما يزِيد فَإِنَّهُ ينقص سمي الزَّائِد من النُّور فِي صَدره إِيمَانًا وَمَا نقص فَمِنْهُ ينقص وَالْأَصْل الَّذِي مِنْهُ بَدَأَ التَّوْحِيد قَائِم فبأقل النُّور يصير موحدا فاطمأن بِهِ وَعَبده رَبًّا وَهُوَ إيمَانه حَتَّى إِذا نما النُّور وامتلأ الْقلب وأشرق الصَّدْر مِنْهُ اطْمَأَن الى جَمِيع مشيئآته وَأَحْكَامه وأموره كَمَا اطْمَأَن بِهِ وَمن قبل هَذَا لم يقدر أَن يطمئن إِلَى مشيئآته وَأَحْكَامه للشهوات المستولية على قلبه فَلَمَّا امْتَلَأَ الْقلب من نوره خشيَة ومهابة وَدخلت عَظمته فِي قلبه مَاتَت شهواته
وَسكن قلبه الى تَدْبيره وَأَحْكَامه وأقضيته كَمَا سكن على توحيده فِي بَدْء الْأَمر
وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الصّفة وَكَانُوا إِذا قَالُوا مُؤمن إِنَّمَا يسمون مَا يعْرفُونَ من أنفسهم وَكَانَ بَعضهم فِي تَخْلِيط من هَذَا أَلا ترى أَنه لما هَاجَتْ الْفِتَن وَقع التَّخْلِيط
قَالَ حُذَيْفَة رضي الله عنه لَو رميت صَخْرَة من أَعلَى مَسْجِد مَا أَصَابَت مُؤمنا
وَلم يَكُونُوا عِنْدهم كفَّارًا بِمَا أَحْدَثُوا وَلَكِن زلوا عَن تِلْكَ الدرجَة الَّتِي كَانُوا يسمون أَهلهَا بذلك الِاسْم وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا رُوِيَ عَن كَعْب بن مَالك رضي الله عنه كَانَ يحدث عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِنَّمَا نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة حَتَّى يرجعه الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَى جسده ثمَّ يَبْعَثهُ
قَالَ أَبُو عبد الله فَلَيْسَ هَذَا لأهل التَّخْلِيط فِيمَا نعلمهُ إِنَّمَا هُوَ للصديقين وَكَانَ إسم الْمُؤمن عِنْدهم هَكَذَا
فَقَوْل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن إِنَّمَا يَعْنِي بذلك الْإِيمَان الْبَالِغ لَا انه يذهب توحيده وَيكفر وَإِنَّمَا يتَأَوَّل مثل هَذَا جهال النَّاس وحمقاهم وَلَو كفرُوا بذلك وَزَالَ عَنْهُم الْإِيمَان لَكَانَ حَدهمْ الْقَتْل وحدودهم قَائِمَة جلد مَائه فِي الزِّنَى وَقطع الْيَد فِي السّرقَة وَلَكِن تَأْوِيل ذَلِك أَنه إِذا زنى الْمُؤمن فَهُوَ فِي ذَلِك فقد
نور إيمَانه وحجبته شَهْوَته الَّتِي حلت بِهِ عَن ذَلِك النُّور فسلب ذَلِك النُّور وَصَارَ محجوبا عَن الله تَعَالَى فَلَمَّا تَابَ رَاجعه النُّور وَذَلِكَ النُّور يُسمى إِيمَانًا لِأَنَّهُ اطْمَأَن بذلك إِلَى ربه عز اسْمه فَذَهَبت طمأنينته فِي وَقت اسْتِعْمَال الشَّهْوَة فاطمأن الى شَهْوَته وَالْعَبْد عِنْدَمَا أَدْرَكته الْهِدَايَة من ربه عز وجل قد كَانَ من قبل ذَلِك قلبه فِي تردد وجولان طَالبا لمن يَتَّخِذهُ رَبًّا ويعبده فَلَمَّا جَاءَتْهُ الْهِدَايَة واستنار الْقلب سكن الْقلب واطمأنت النَّفس عَن الجولان والتردد فِي طلب المعبود فَقيل آمن يُؤمن إِيمَانًا وَهُوَ فِي قالب افْعَل
وَمن الْخَوْف قيل أَمن لِأَنَّهُ كَانَ يضطرب فَلَمَّا ذهب الْخَوْف سكن فَقيل أَمن على قالب فعل فَكلما إزداد العَبْد نورا إزداد سكونا وطمأنينة عِنْد أُمُوره وَأَحْكَامه وَمن قبل ذَلِك كَانَ الْغَالِب على نَفسه شهوات نَفسه فَكَانَ الْقَوْم إِذا ذكرُوا الْمُؤمن يعلمُونَ أَنه ذَلِك الْمُؤمن الَّذِي قد اطْمَأَن قلبه عِنْد أُمُوره وَأَحْكَامه إِلَيْهِ وَمن هَهُنَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رضي الله عنه مثل الْإِيمَان مثل قَمِيصك بَينا أَنْت لبسته إِذْ أَنْت نَزَعته
وَعَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه أَنه قَالَ كَانَ عبد الله بن رَوَاحَة إِذا لَقِيَنِي قَالَ اجْلِسْ يَا عُوَيْمِر فلنؤمن سَاعَة فنجلس فَنَذْكُر الله تَعَالَى بِمَا شَاءَ ثمَّ قَالَ يَا عُوَيْمِر هَذَا مجْلِس الْإِيمَان إِن مثل الْإِيمَان وَمثلك مثل قَمِيصك بَينا أَنْت نَزَعته إِذْ لبسته وَبينا أَنْت لبسته إِذْ نَزَعته يَا عُوَيْمِر الْقلب أسْرع تقلبا من الْقدر إِذْ استجمعت غلبا
وَعَن عتبَة بن عبد الله بن خَالِد بن معدان عَن أَبِيه عَن جده رضوَان الله عَلَيْهِم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الْقَمِيص مرّة تقمصه وَمرَّة تنزعه
وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ لم يزن عبد قطّ إِلَّا نزع نور الْإِيمَان مِنْهُ ثمَّ إِن شَاءَ رده وَإِن شَاءَ مَنعه
وَعَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رضي الله عنه قَالَ ليَأْتِيَن على الرجل أحايين وَمَا فِي جلده مَوضِع إبرة من النِّفَاق وليأتين عَلَيْهِ أحايين وَمَا فِي قلبه مَوضِع إبرة من الْإِيمَان
قَالَ فَإِنَّمَا يَخْلُو مِنْهُ ذَلِك النُّور الْمشرق فِي صَدره وَأما الْإِيمَان إِيمَان التَّوْحِيد فَهُوَ بمكانه
وَقَول ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما حَيْثُ قَالَ لم يزن عبد قطّ إِلَّا نزع مِنْهُ نور الْإِيمَان يدل على تَفْسِير حَدِيثه الَّذِي رَوَاهُ لَا يَزْنِي العَبْد حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن
وَفِي قَوْله حِين يَزْنِي وَهُوَ وَقت الْفِعْل دَلِيل على أَنه فِي ذَلِك الْوَقْت صَار محجوبا عَن النُّور وزائله
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن قيل يَا رَسُول الله فَكيف يصنع إِذا وَقع شَيْء من ذَلِك قَالَ إِن رَاجع رَاجعه الْإِيمَان وَإِن ثَبت لم يكن مُؤمنا
وَعَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشرب وَهُوَ مُؤمن وَلَا يقتل وَهُوَ مُؤمن فاذا فعل نزع مِنْهُ نور الْإِيمَان كَمَا ينْزع مِنْهُ قَمِيصه فَإِن تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو عبد الله وَإِنَّمَا خَفِي شَأْن هَذَا وَذَهَاب هَذَا النُّور من الْقُلُوب ورده عَلَيْهِ لِأَن فتن الْقُلُوب قد عَمت والصدور قد شحنت بظلمة الْإِصْرَار على الذُّنُوب من المآكل الرَّديئَة والمكاسب الدنسة والأخلاق البذلة الْفَاسِدَة
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ الْمُؤمن فِي الدُّنْيَا على ثَلَاثَة أَجزَاء الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَالَّذِي يأمنه النَّاس على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وَالَّذِي إِذا أشرف على طمع تَركه لله تَعَالَى
قَالَ فالجزء الأول هم الظَّالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ آمنُوا ثمَّ لم يرتابوا فِي إِيمَانهم وَلَكنهُمْ ضيعوا العبودة واستوفوا الرزق واكتالوا النعم بِالْكَيْلِ الأوفى وكالوا الطَّاعَات بكيل الخسران فَهُوَ من المطففين الظَّالِمين
والحزء الثَّانِي قد أَمنه النَّاس على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ لِأَنَّهُ متق مُسْتَقِيم وَهُوَ المقتصد
والجزء الثَّالِث تركُوا الْهوى وشهوة النَّفس وَرَضوا بتدبيره فِي جَمِيع الْأَحْوَال فهم المقربون وَذَلِكَ مثل مَا جَاءَنَا عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه أُتِي بشراب قد خيض بِعَسَل فَتَركه ثمَّ قَالَ أما إِنِّي لَا أحرمهُ وَلَكِنِّي أتركه تواضعا لله تَعَالَى
عَن كثير بن مرّة أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لعَائِشَة رضي الله عنها أطعمينا يَا عَائِشَة قَالَت لَيْسَ عندنَا طَعَام قَالَ أطعمينا يَا عَائِشَة قَالَت وَالله مَا عندنَا طَعَام فَقَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه يَا رَسُول الله إِن الْمَرْأَة المؤمنة لَا تحلف أَنه لَيْسَ عندنَا طَعَام وَهُوَ عِنْدهَا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمَا يدْريك أَنَّهَا مُؤمنَة إِن الْمَرْأَة المؤمنة فِي النِّسَاء كالغراب الأعصم فِي الْغرْبَان وَإِن النَّار خلقت للسفهاء وان النِّسَاء من السُّفَهَاء إِلَّا صَاحِبَة الْقسْط والسراج
قَالَ أَبُو عبد الله يعرفك هَذَا الحَدِيث أَن الْمُؤمن فِي ذَلِك الْوَقْت بأية صفة كَانَ عِنْدهم
فَأم قَوْله صَاحِبَة الْقسْط والرج فالقسط الْعدْل وَهُوَ الَّذِي على سَبِيل استقامة وَهُوَ المقتصد والقسط وَالْقَصْد بِمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَن هَذَا مُسْتَعْمل فِي نوع وَذَاكَ فِي نوع كَمَا قيل تَوْكِيل وتفويض وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَن التَّوْكِيل فِي أَسبَاب الرزق يسْتَعْمل والتفويض فِي سَائِر الْأُمُور فالقسط الْعدْل من أُمُوره وَالْقَصْد أَن تَأْخُذ من كل أَمر وَسطه وَهُوَ الَّذِي أَمر بِهِ وَأما السراج فَهُوَ الْيَقِين وَمن أشرق فِي قلبه الْيَقِين فقلبه يزهر وَمِنْه قَول حُذَيْفَة رضي الله عنه قلب أغلف وَهُوَ قلب الْكَافِر وقلب مصفح وَهُوَ قلب الْمُنَافِق وقلب أجرد وأزهر وَهُوَ قلب الْمُؤمن وَإِنَّمَا يزهر بالسراج الَّذِي فِيهِ
عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا شبهت خُرُوج الْمُؤمن من الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَة إِلَّا مثل خُرُوج الصَّبِي من بطن أمه من ذَلِك الْغم والظلمة إِلَى روح الدُّنْيَا
فالمؤمن الَّذِي هُوَ بَالغ فِي إيمَانه الدُّنْيَا سجنه وَهِي مظْلمَة عَلَيْهِ ضيقَة حَتَّى يخرج مِنْهَا إِلَى روح الْآخِرَة وَهَذَا غير مَوْجُود فِي الْعَامَّة وَإِنَّمَا ذكر الْمُؤمن وَوَصفه بذلك ليعلم أَن الْمُؤمن عِنْدهم الْبَالِغ فِي إيمَانه وَهُوَ
كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رضي الله عنه مَا كَفرْتُمْ فنتبرأ مِنْكُم وَلَا عنْدكُمْ إِيمَان بَالغ فنحبكم عَلَيْهِ وَمَا فرق بَين أهوائكم إِلَّا خبث سرائركم وَلَا أرى الله إِلَّا قد تخلى عَنْكُم
عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ مَا لكم لَا تحابون وانكم اخوان على الدّين مَا فرق بَين أهوائكم إِلَّا خبث سرائركم وَلَو اجْتَمَعْتُمْ على أَمر تحاببتم مَا هَذَا إِلَّا من قلَّة الْإِيمَان فِي صدوركم وَلَو كُنْتُم توقنون بِخَير الْآخِرَة وشرها لكنتم للآخرة أطلب لِأَنَّهَا أملك بأموركم فبئس الْقَوْم أَنْتُم إِلَّا قَلِيلا مِنْكُم مَا حققتم إيمَانكُمْ بِمَا يعرف بِهِ الْإِيمَان الْبَالِغ فِيكُم فَمَا كَفرْتُمْ فنتبرأ مِنْكُم وعامتكم تركُوا كثيرا من أَمر دينهم ثمَّ لَا يستبين ذَلِك فِي وُجُوهكُم وَلَا تَغْيِير حالاتكم مَا هَذَا إِلَّا شَرّ حل بكم وَإِنِّي لأرى الله قد تخلى عَنْكُم فَأنْتم تخطئون وتمنون الْأَمَانِي وَالله إِنِّي لأستعين على نَفسِي وَعَلَيْكُم فَإِنَّمَا قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤمن أَي بذلك الْإِيمَان الْبَالِغ فَأَما ايمان التَّوْحِيد فَهُوَ مَعَه وَإِنَّمَا زَالَ عَنهُ نور الْإِيمَان أَلا يرى إِلَى قَول أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه وَإِن زنا وَإِن سرق فَلَو كَانَ زِنَاهُ وسرقته يُخرجهُ من إيمَانه لم يدْخل الْجنَّة
عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} قلت يَا رَسُول الله وان زنى وَإِن سرق فَقَالَ وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان قلت وَإِن زنى وَإِن سرق فَقَالَ وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان قلت يَا رَسُول الله وَإِن زنى وَإِن سرق قَالَ وَإِن زنى وَإِن سرق وَإِن رغم أنف أبي الدَّرْدَاء
وَمِمَّا يُحَقّق مَا قُلْنَا مَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ بروايات جمة وطرق شَتَّى
قَالَ أَبُو عبد الله فالمؤمن المخلط قد يلْدغ مَرَّات وَهُوَ لسكره لَا يجد لدغة اللدغة وَقد عمل فِيهِ حمة السم فَلَو قد أَفَاق لاحتاج إِلَى من يمسِكهُ من الِاضْطِرَاب والتلوي وَإِنَّمَا عَنى بِالْمُؤمنِ ذَلِك الْبَالِغ الَّذِي وقف بِهِ حذره على أَمر عَظِيم كَمَا رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه سُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن أبي بكر رضي الله عنه قَالَ كَانَ كالخير كُله من رجل كَانَ فِيهِ حِدة وَسُئِلَ عَن عمر رضي الله عنه فَقَالَ كَانَ كالطير الحذر الَّذِي يرى أَن لَهُ فِي كل طَرِيق شركا يَأْخُذهُ
فالمؤمن الْبَالِغ إِذا وَقع فِي الْخَطِيئَة وجع قلبه وتمرر عيشه وقلقت نَفسه فَهُوَ يتلوى كاللديغ يتململ ندما وتحسرا وأسفا يبيت ساهرا ويظل نائحا قد أنكت فِيهِ هَذِه الْخَطِيئَة سمها فَكَأَنَّهُ أيقظته من الْغَفْلَة فَلَا يواقع تِلْكَ الْخَطِيئَة مَخَافَة أَن يَقع فِيهَا وَهَذَا لمن لدغته الْخَطِيئَة
وَعمل فِيهِ سمها كَمَا فعل يُوسُف عليه السلام بعد الْهم كَانَ لَا يكلم امْرَأَة حَتَّى يُرْسل على وَجهه ثوبا
عَن أبي الْأَحْوَص عَن عبد الله قَالَ كَانَ يُوسُف عليه السلام إِذا جَاءَتْهُ امْرَأَة تستفتيه ألْقى على وَجهه ثوبا مَخَافَة أَن تفتتن
عَن الشّعبِيّ عَن فَاطِمَة بنت قيس رضي الله عنهما أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا حِين جَاءَتْهُ بعد مَا طَلقهَا زَوجهَا فَقَالَ بِيَدِهِ على وَجهه فاستتر بِهِ وَذَلِكَ بعد مَا لَقِي من شَأْن زَيْنَب مَا لَقِي
فَأَما مُؤمن عمل بالخطيئة فَلم تلدغه وَلم يتَبَيَّن فِيهِ عمل سمها لِأَنَّهُ سَكرَان قد أسكرته شهوات الدُّنْيَا وَمَات قلبه عَن الشُّعُور بذلك فَمَتَى يحذر حَتَّى لَا يلْدغ وسم الْخَطِيئَة هُوَ الظلمَة الَّتِي تتراكم فِي صَدره على قلبه فتحجبه عَن ربه فَيصير قلبه مسجونا محجوبا عَن الملكوت وَهُوَ قَول عبد الله بن عمر رضي الله عنه لنَفس الْمُؤمن أَشد ارتكاضا فِي الْخَطِيئَة من العصفور حِين يغدف بِهِ والإغداف الْإِرْسَال يَعْنِي إرْسَال الشبكة عَلَيْهِ
وَقَول عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه إِن الْمُؤمن إِذا أذْنب فَكَأَنَّهُ تَحت صَخْرَة يخَاف أَن تقع عَلَيْهِ فتقتله وَالْمُنَافِق ذَنبه كذباب مر على أَنَفَة وَقَوله لَا تَجِد الْمُؤمن بَخِيلًا وَلَا تَجِد الْمُؤمن جَبَانًا وَلَا تَجِد الْمُؤمن كذابا
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خصلتان لَا تجتمعان فِي قلب مُؤمن الْبُخْل وَسُوء الْخلق
فَهَذِهِ الْخِصَال كلهَا مَوْجُودَة فِي الْمُوَحِّدين فَإِذا ذكرُوا الْمُؤمن فَإِنَّمَا يعنون بِهِ الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى بِأَنَّهُم مُؤمنُونَ حَقًا وصير لَهُم الدَّرَجَات فِي الْجنَّة بِمَا ترقوا من دَرَجَات الْإِيمَان
عَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ رضي الله عنه أَن الحواريين طلبُوا عِيسَى عليه السلام فَقيل لَهُم توجه إِلَى الْبَحْر فجاءوه وَهُوَ يمشي على المَاء يرفعهُ الموج ويضعه فَقَالَ أفضلهم أَلا أجيئك يَا رَسُول الله فَأدْخل رجله المَاء وَرفع الْأُخْرَى فَقَالَ أدركني فقد عرقت فَقَالَ يَا قصير الْإِيمَان أَو قَالَ هَات يدك يَا قصير الْإِيمَان لَو أَن لِابْنِ آدم مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل من الْيَقِين مَشى على المَاء
عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ لَو وزن ايمان أبي بكر رضي الله عنه بِإِيمَان أهل الأَرْض لرجع إِيمَان أبي بكر يإيمان أهل الأَرْض
عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه أَيْضا أَنه قَالَ تَزْعُمُونَ أَنكُمْ مُؤمنُونَ وَفِيكُمْ مُؤمن جَائِع
عَن أبي إِسْحَق السبيعِي رضي الله عنه قَالَ سَمِعت وهب بن مُنَبّه رضي الله عنه يَقُول اسْمَع يَا أخي إِلَى مَا أصف لَك من صفة
الْمُؤمن وجدت فِي التَّوْرَاة الْمُؤمن الَّذِي إِلَى الْإِسْلَام هدي وبالاقرار بدي ظَاهر الْإِيمَان بدنه على الْإِيمَان بني وَذَلِكَ أَنه عَالم بِالْعلمِ نَاطِق بالحلم صَادِق بالفهم ورع عَن الْحَرَام بَين الْإِعْلَام كثير السَّلَام لين الْجَانِب قريب الْمَعْرُوف سريع الرضاء بعيد السخط يعلم إِذا فهم وَإِذا علم علم ويكف إِذا شتم إِن صحبته تسلم وَإِن شاركته تغنم وَإِن فارقته تندم وَإِن سَمِعت مِنْهُ تتعلم كثير الْوَقار مكرم للْجَار مُطِيع للجبار قلبه بِمَعْرِِفَة الله زَاهِر وَلسَانه بِذكر الله غازر وبدنه فِي طَاعَة الله ساهر فَهُوَ من نَفسه فِي تَعب وَالنَّاس مِنْهُ فِي أرب فَمثله كَمثل المَاء لِأَن المَاء حَيَاة الْأَشْيَاء كلهَا فكمال الْمُؤمن الرضى وَعَمله التَّقْوَى مبغض للدنيا قَلِيل المنى صَادِق اللِّسَان صابر الْبدن قَانِع الْقلب أَن ائْتمن أَمَانَة أَدَّاهَا وَإِن ائْتمن هُوَ غَيره لم يتهم أَب للْيَتِيم وللأرملة رَحِيم وَإِلَى الْجنَّة مشتاق وبالوالدين غير عَاق لَهُ علم يرضى وعقل ينمى كَلَامه مَنْفَعَة وجواره رفْعَة إِن استكتمته كتم وَإِن استطعمته أطْعم جواد لله بالعطاء وَلِلنَّاسِ بِحسن الْخلق والرضى إِن اسْتقْرض أدّى وَإِن سُئِلَ أعْطى إِن كَانَ فَوْقك اتضع وَإِن كَانَ دُونك اعتدل فَمثله كَمثل شَجَرَة ثَبت أَصْلهَا وجاد فرعها وَكثر ثَمَرهَا فَهُوَ من رَآهَا رغب فِيهَا لَا يَأْخُذ شَيْئا إِن أَخذ رِيَاء وَلَا يتْركهُ إِن تَركه حَيَاء بل أَخذه لله تَعَالَى سالما وَتَركه لله تَعَالَى غانما محاسب نَفسه نَاظر فِي عيوبه مستعرض لعمله إِن كَانَ محسنا يخَاف على نَفسه أَن لَا يقبل مِنْهُ وَإِن كَانَ مقصرا يخْشَى أَن لَا يغْفر لَهُ وَإِن كَانَ فَاضلا كَانَ شاكرا لَا يظلم وَلَا يَأْثَم وَلَا يتَكَلَّف لين تَدْبيره كثير عمله قَلِيل ذلله سهل أمره
عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْوَرع سيد الْعَمَل من لم يكن لَهُ ورع يردهُ عَن مَعْصِيّة الله تَعَالَى إِذا خلا بهَا لم يعبأ الله بِسَائِر عمله شَيْئا
فَذَلِك مَخَافَة الله تَعَالَى فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة والاقتصاد فِي الْفقر والغنى
والصدق عِنْد الرضاء والسخط أَلا وَإِن الْمُؤمن حَاكم على نَفسه يرضى للنَّاس مَا يرضى لنَفسِهِ وَالْمُؤمن حسن الْخلق وَأحب الْخلق إِلَى الله تَعَالَى أحْسنهم خلقا ينَال بِحسن الْخلق دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم وَهُوَ رَاقِد على فرَاشه لِأَنَّهُ قد رفع لِقَلْبِهِ علم فَمن شهد مشَاهد الْقِيَامَة يعد نَفسه حَنِيفا فِي بَيته وروحه عَارِية فِي بدنه لَيْسَ بِالْمُؤمنِ جفَاء حملانه على نَفسه النَّاس مِنْهُ فِي مِنْهُ فِي عفاء وَهُوَ من نَفسه فِي عناء رَحِيم فِي طَاعَة الله بخيل على دينه حَيّ مطواع وَأول مَا فَاتَ ابْن آدم من دينه الْحيَاء خاشع الْقلب لله تَعَالَى متواضع قد برىء من الْكبر ينظر إِلَى اللَّيْل وَالنَّهَار يعلم أَنَّهُمَا فِي هدم عمره لَا يركن إِلَى الدُّنْيَا ركون الْجَاهِل
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا جرم أَنه إِذا خلف الدُّنْيَا خلف ظَهره خلف الهموم وَالْأَحْزَان وَلَا حزن على الْمُؤمن بعد الْمَوْت بل فرحه وسروره دَائِم بعد الْمَوْت
فَمن هَذِه صفته فلدغ من حجرالمعاصي مرّة كَانَ ذَلِك الْحجر نصب عَيْنَيْهِ أبدا فَمَتَى يمر بهَا حَتَّى تلدغه ثَانِيَة فَإِنَّمَا ذكر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أوحشته الْمعْصِيَة حَتَّى أسهر ليله مَا حل بِقَلْبِه من وَجه الذَّنب كمن يُفَارق محبوبه من المخلوقين بِمَوْت أَو غيبَة يفجع لفراقه
فألم الْمُؤمن إِذا أصَاب الذَّنب أَشد من مصيبته بِفِرَاق المخلوقين فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر وَاحِد مرَّتَيْنِ أَي هَذَا الْأَمر قد لدغته مرّة فأوجعته فوجع ذَلِك تذكرة لَهُ من الْغَفْلَة فِي ذَلِك
حَتَّى لَا يَقع فِيهِ ثَانِيَة أَي أَن هَذَا صفة الْمُؤمن وشرطة حَتَّى يسْتَحق شَرط الْإِيمَان
عَن يحيى بن أبي كثير رضي الله عنه أَن نَبِي الله كَانَ فِي سفر وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر رضي الله عنهما فأرسلو إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه لَحْمًا فَقَالَ أَو لَيْسَ قد ظللتم من اللَّحْم شباعا قَالُوا من أَيْن فوَاللَّه مَا لنا بِاللَّحْمِ عهد مُنْذُ أَيَّام فَقَالَ من لحم صَاحبكُم الَّذِي ذكرْتُمْ قَالُوا يَا نَبِي الله إِنَّمَا قُلْنَا وَالله إِنَّه لعفيف مَا يعيننا على شَيْء قَالَ وَذَاكَ فَلَا تَقولُوا فَرجع إِلَيْهِم الرجل فَأخْبرهُم بِالَّذِي قَالَ فجَاء أَبُو بكر رضي الله عنه فَقَالَ يَا نَبِي الله طأ على صماخي واستغفر لي فَفعل وَجَاء عمر رضي الله عنه فَقَالَ يَا نَبِي طأ عل صماخي واستغفر لي فَفعل فَهَذَا تكون اللدغة ألجأته الْخَطِيئَة إِلَى أَن فزع إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَألقى نَفسه فِي التُّرَاب تذللا وَأَن يطَأ بقدمه عل صماخه فَهَذَا شَأْن الْمُؤمن الْبَالِغ وَأما الَّذِي يلْزمه اسْم الْمُؤمن فَيحرم مَاله وَدَمه وَعرضه فهم الموحدون
عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من سرته حسنته وساءته سيئته فَهُوَ مُؤمن
-
الأَصْل الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ
-
فِي أول تحفة الْمُؤمن بعد الْمَوْت
عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أول تحفة الْمُؤمن أَن يغْفر لمن صلى عَلَيْهِ
الْمُؤمن كريم على ربه عز وجل ومقدمه على رب كريم وَمن شَأْن الْمُلُوك أَن أحدهم إِذا قدم عَلَيْهِ بعض خدمه من سفرة طَال غيبته فِيهَا أَن يتلقاه ببشرى وكرامة ويخلع عَلَيْهِ ويجيزه بالجائزة السّنيَّة وَيَأْمُر بِأَن يهيأ لَهُ نزل وَالله تَعَالَى أرانا تَدْبِير الْمُلُوك فِي الدُّنْيَا فَإِذا قدم عَلَيْهِ الْمُؤمن لقاه روحا وريحانا وبشرى على أَلْسِنَة الرُّسُل عليهم السلام
قَالَ الله تَعَالَى إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة أَلا تخافوا وَلَا تحزنوا وابشروا بِالْجنَّةِ الَّتِي كُنْتُم
توعدون) قَالَ {من عمل صَالحا فلأنفسهم يمهدون} وَقَالَ {لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا نزلا من عِنْد الله}
وَأول تحفته أَن يغْفر لحملته إِلَى بَابه والمصلين عَلَيْهِ فَإِن الرجل من عرض النَّاس ليحمل إِلَيْهِ الْهَدِيَّة فيستحيى أَنه ينْصَرف عَنهُ الْحَامِل للهدية خائبا صفر الْيَد حَتَّى يناوله شَيْئا فَكيف الْملك من مُلُوك الدُّنْيَا وَالله تَعَالَى أخرج الْمُؤمن إِلَى الدُّنْيَا ليستكمل ويستعد للقائه ويتزود للأخرة فَمَا زَالَ يسْعَى فِي إرضاء الْحق سبحانه وتعالى فَلَمَّا مَاتَ غسلوه وطيبوه وكسوه وَحَمَلُوهُ هَدِيَّة إِلَى الْحق عز وجل فَقبله الْحق تَعَالَى وَأَدَّاهُ إِلَى الرَّحْمَة فَلم يستجز أَن ينْصَرف حَملَة هَذِه الْهَدِيَّة خائبين فغفر لَهُم
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ أول مَا يجازى بِهِ العَبْد أَن يغْفر لمن يُصَلِّي عَلَيْهِ قَوْله يجازي من الْجَائِزَة
والتحفة عندنَا هِيَ الطرفة والهدية هِيَ الْعَطِيَّة ومعناهما قريب إِلَّا أَن بَينهمَا نُكْتَة فِي الْفرق فالهدية مَا تعطيه لتستميل بِهِ وَالْهَدْي الْميل وَمِنْه قيل مَشى يتهادى أَي يتمايل وَمِنْه سمي الْهَدْي لِأَنَّهُ يمِيل بِهِ إِلَيْهِ والطرفة شَيْء يُعْطِيهِ بعد الاستمالة وَبعد أَن صَار لَهُ وليا وثقة فَهُوَ يطرفه بِشَيْء يُرِيد أَن يحليه بذلك كالسكر على رَأس الْأرز وَنَحْوه وَالله تَعَالَى يوالي بَين نعمه على العَبْد ثمَّ يُرِيد أَن يبره ويطرفه بِشَيْء لَيْسَ عِنْده فِي الْجنَّة ليتجدد بِهِ بره فَذَلِك الْبر يكون أعظم موقعا وَمن طرقه مَا جَاءَ فِي الْخَبَر إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يتحف عَبده الْمُؤمن سلط عَلَيْهِ من يَظْلمه
لِأَن بلوى الدُّنْيَا كَثِيرَة من الْأَمْرَاض والمصائب وللنفس فِيهَا فجعة ثمَّ يرجع إِلَى ربه تَعَالَى فِي أَن هَذَا صنعه وتدبيره وَإِذا ظلم اشتدت فجعته وتضاعفت لوعته فَتلك المصائب والأمراض هَدَايَا من رب الْعَالمين وَالظُّلم تحفة قد طرفه الله بهَا والطرفة هِيَ شَيْء يكون فِي الْأَحَايِين مرّة لم يكن عِنْده مثله وَقد سلط على يحيى بن زَكَرِيَّا صلوَات الله عَلَيْهِمَا من ذبحه ذبحا وَهَذَا شَيْء نَادِر طريف لَيْسَ مِمَّا يجْرِي فِي بلوى أهل الدُّنْيَا ومصائبهم وَكَذَلِكَ يَجْعَل لَهُ الْجنَّة ثَوابًا ثمَّ يُوجب لَهُ رضوانه الْأَكْبَر وَمن جعلت لَهُ الْجنَّة هَدِيَّة فتحفه من ألطافه الجسيمة
-
الأَصْل الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ
-
فِي بَيَان مَا يهرم ويشب من الْآدَمِيّ
عَن أنس رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ يهرم ابْن آدم ويشب مِنْهُ اثْنَان الْحِرْص على المَال والحرص على الْعُمر الْحِرْص لهيان الشَّهْوَة والشهوة نَار ذَات دُخان فَكلما زِدْت النَّار وقودا إزدادت نورا وتلهبا وَسمي المَال مَالا لِأَنَّهُ يمِيل بِالْقَلْبِ عَن الله تَعَالَى والعمر مُدَّة عمَارَة الْبدن بِالْحَيَاةِ وَذكر المَال لِأَن بِهِ ينَال جَمِيع الشَّهَوَات وَذكر الْعُمر لِأَن بدوامه تدوم الشَّهَوَات
فَإِذا ذهب الْعُمر وَزَالَ المَال تعطلت الشَّهَوَات فَوجدت النَّفس
لَذَّة الشَّهَوَات وَلَذَّة دوَام الْعُمر فتشبثت بِهِ واستأثرت الْقلب والهرم الْخَالِي من الْأَشْيَاء قد خلت طبائعة من الْحَرَارَة والقوى وقحل جلده من الْحَرَارَة لانتشاف الْحَيَاة مَاء جلدته ودق عظمه وانتشف النَّقْص مَاء شبابه وَلَا يطفىء لهيب الْحِرْص إِلَّا الْإِيمَان بِاللَّه فَكلما ازْدَادَ العَبْد إِيمَانًا بربه وَهُوَ النُّور الَّذِي ينشرح بِهِ صَدره فَهُوَ على نور من ربه ازْدَادَ ثِقَة بربه وطمأنينة إِلَيْهِ وَكلما إزداد ثِقَة إزداد غنى قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض إِنَّمَا الْغنى غنى النَّفس فَإِذا استغنت النَّفس بِاللَّه تَعَالَى لما دخل الصَّدْر من نور الْيَقِين المنشرح بِهِ صَدره صَار عرض الدُّنْيَا فضلا
عَن مَكْحُول رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نفس ابْن آدم شَابة وَلَو الْتَقت ترقوتاه من الْكبر إِلَّا من امتحن الله تَعَالَى قلبه للتقوى وَقَلِيل مَا هم
فَهَذَا الْخَبَر يكْشف عَمَّا ذكرنَا من الْمَعْنى لِأَن النَّفس مَعْدن الشَّهَوَات فَهِيَ شَابة لِأَن الشَّهَوَات بِمَنْزِلَة النَّار لَا تزَال متوقدة مَا دَامَت واجدة للحطب فَإِذا أمسك عَنْهَا الْحَطب خمدت خامدة لَا محَالة فَكَذَلِك النَّفس لَا تزَال رطبَة متوقدة بشهواتها مَا دَامَت واجدة للنعم فَإِذا أمسك عَنْهَا ذبلت ويبست فَإِذا امتحن الله تَعَالَى قلبا للتقوى قوى صَاحبه على
الِامْتِنَاع من قَضَاء الشَّهَوَات والامتحان هُوَ أَن يسْتَخْرج سره والسر هُوَ النُّور الَّذِي قذفه فِي قلبه فَإِذا اسْتَقر ذَلِك فِي قلبه وأشرقه بِهِ صَدره صَار ذَاك وقاية لَهُ من جَمِيع مكاره الْآخِرَة فَقيل تقوى وَإِنَّمَا هُوَ وقوى حولت الْوَاو تَاء ومأخذه من الْوِقَايَة فَإِذا فعل ذَلِك فقد امتحنه لِأَنَّهُ يظْهر على الْأَركان بالأفعال المحمودة المرضية
فالنفوس شَابة وَإِن هرمت الْجَوَارِح ونهدت الْأَركان لدوام التنعم بِالْمَالِ والعمر الا هَذِه الطَّبَقَة الممتحنة الَّذين استثناهم فنفوسهم هرمت فِي وَقت شبابهم لإن شهواتهم ذبلت وضعفت بالخشية الَّتِي دخلت قُلُوبهم لما اطلعوا عَلَيْهِ بقلوبهم من علم الملكوت ولعلمهم بِاللَّه تَعَالَى صَارُوا سبيا من سبيه فالمشغوف سبي من بِهِ شغف
فَإِن شغفت بالدنيا فَأَنت سبيهَا وَإِن شغفت بِالآخِرَة فَأَنت سبيهَا وَإِن شغفت بالخالق فَأَنت سبيه وَابْن آدم ركب فِي طبعه أَن لَا تزَال نَفسه تجمع فِي طلب شَيْء حَتَّى إِذا اطَّلَعت على أفضل مِنْهُ رفضب هَذِه وَأَقْبَلت على الْأَفْضَل فَلَا يزَال طَالبا للدنيا حَتَّى إِذا طالع الْآخِرَة رفض هَذِه وَأَقْبل عَلَيْهَا فَلَا يزَال لَهَا طَالبا حَتَّى إِذا طالع الملكوت أقبل على مَوْلَاهُ وَلها عَن ذكر الدَّاريْنِ واشتغل بالماجد الْكَرِيم فتراه سَلس القياد منكسر الْقلب قد أخذت الأحزان بِمَجَامِع قلبه فقطعته عَن فكر الدُّنْيَا وَأَهْلهَا وَمَا هم فِيهِ فَهُوَ حبيس الله فِي سجنه وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الدُّنْيَا سجن الْمُؤمن وجنة الْكَافِر والمسجون عينه إِلَى الْبَاب يراقب دَعْوَة من يدعى فيجيب
الأَصْل السَّادِس وَالْخَمْسُونَ
-
فِي أَن عدد الشَّرَائِع بِتَعَدُّد الرُّسُل
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه حدث أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول إِن لله عز وجل ثلثمِائة وَخمْس عشرَة شَرِيعَة يَقُول الرَّحْمَن وَعِزَّتِي لَا يَأْتِين عبد من عبَادي لَا يُشْرك بِي شَيْئا بِوَاحِدَة مِنْهُنَّ إِلَّا أدخلته الْجنَّة
فالرسل ثلثمِائة وَخَمْسَة عشر وَلكُل رَسُول شَرِيعَة قَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} وَقَالَ {ثمَّ جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر فاتبعها}
وان الله تَعَالَى دَعَا الْعباد الى دَار السَّلَام بعد أَن دعاهم إِلَى الاقرار بِالتَّوْحِيدِ فَأَجَابُوهُ وَإِنَّمَا أَجَابَهُ من هداه ثمَّ شرع لكل رَسُول طَرِيقا إِلَيْهَا وَهُوَ الْحَلَال وَالْحرَام فاحلال مرضاته وَالْحرَام مساخطه وَإِذا استقام العَبْد فِي سيؤه فِي شَرِيعَته أدخلهُ الْجنَّة فَقَوله لَا يأتيني عبد لَا يُشْرك بِي شَيْئا بِوَاحِدَة من هَذِه الشَّرَائِع أَي شَرِيعَة زَمَانه وَرَسُوله فَلَو
أَتَى رجل بشريعة هود فِي زمن مُوسَى عليهما السلام لم ينْتَفع بِهِ وَلَو أَتَى بشريعة مُوسَى فِي زمن عِيسَى عليهما السلام لم ينْتَفع بِهِ وَلَو أَتَى بشريعة عِيسَى فِي زمن مُحَمَّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يقبل مِنْهُ وَلم ينْتَفع بِهِ إِنَّمَا يقبل من كل عبد شَرِيعَته الَّتِي شرعت لَهُ على لِسَان رَسُوله صلى الله عليه وسلم وان الله تَعَالَى شرع الطَّرِيق لِعِبَادِهِ ليحلوا حَلَاله ويحرموا حرَامه كي يصلحوا لدار السَّلَام يَوْم مقدمهم عَلَيْهِ
الأَصْل السَّابِع وَالْخَمْسُونَ
-
فِي حَقِيقَة الْيَقِين وَمعنى الْعَافِيَة
عَن سلمَان بن عَامر رضي الله عنه يَقُول سَمِعت أَوسط البَجلِيّ على مِنْبَر حمص يَقُول سَمِعت أَبَا بكر الصّديق على الْمِنْبَر وَهُوَ يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على هَذَا الْمِنْبَر عَام أول والعهد قريب سلوا الله الْيَقِين والعافية فَإِن النَّاس لم يُعْطوا شَيْئا خيرا من الْيَقِين والعافية
فاليقين هُوَ اسْتِقْرَار النُّور فِي الْقلب والصدر وَذَلِكَ أَن نور الْإِيمَان فِي الْقلب والشهوات بظلمتها وفوران دخانها متراكمة على الْقلب قد أظلمت من الصَّدْر وحالت بَين عَيْني الْقلب وَبَين رُؤْيَة أُمُور الْغَيْب فَهُوَ مقرّ بِالْغَيْبِ من الْجنَّة وَالنَّار والحساب وأهوال الْموقف وتدبير الله تَعَالَى فِي دُنْيَاهُ إِلَّا أَن نَفسه تشبه عَلَيْهِ بخدعها وأمانيها لِأَنَّهَا لم تصر لَهُ كالمعاينة
وَلَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة فَإِذا امْتَلَأَ الْقلب من النُّور كَانَ كمن قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لحارثة حِين قَالَ يَا رَسُول الله كَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزا الْخَبَر فاليقين اسْتِقْرَار الْقلب بذلك النُّور يُقَال فِي اللُّغَة يقن المَاء فِي الحفرة أَي اسْتَقر وَأما الْعَافِيَة وَالْعَفو فَكل وَاحِد مِنْهُمَا مُشْتَقّ من صَاحبه فالعفو فِي الْآخِرَة والعافية فِي الدُّنْيَا وَهُوَ أَن يُعْفَى عَنْك من الخذلان فَلَا تخذل حَتَّى لَا تقع فِي الذَّنب وَأَن يُعْفَى عَنْك حَتَّى لَا تصيبك الشدائد والبلايا وَأَصله من الْعَفو فقد عفى عَنْك أَن يصيبك هَذَا وَأَن تصيبك شَدَائِد الْآخِرَة وَكِلَاهُمَا فِي الْمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَن الْعَفو يسْتَعْمل فِي أُمُور الْآخِرَة والعافية فِي أُمُور الدُّنْيَا
-
الأَصْل الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ
-
فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {فَروح وَرَيْحَان} بِالْوَجْهَيْنِ
عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقْرَأ {فَروح وَرَيْحَان} الرَّاء مَضْمُومَة وَقد قُرِئت الرَّاء مَفْتُوحَة فَمن قَرَأَ فَروح مَضْمُومَة الرَّاء ذهب الى أَن الرّوح أَمر جليل من أمره يحل بِالْقَلْبِ فبه تطمئِن الْقُلُوب الى الله تَعَالَى وَبِه ينَال الذّكر الصافي وَبِه يصير محقا وَبِه يقدس الْقلب وَبِه يشتاق عِنْد حُضُور أَجله إِلَى اللِّقَاء فيهون عَلَيْهِ الْمَوْت ويبشر وتطيب النَّفس للشخوص إِلَى الله وَبِه تأتلف قُلُوب المتحابين فِي الله وَبِه عصمَة قُلُوب الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وَمن قَرَأَهَا فَروح مَفْتُوحَة الرَّاء فَإِنَّهُ ذهب الى أَن يسلم عَلَيْهِ ملك الْمَوْت عليه السلام فِي ذَلِك الْوَقْت ويقرئه السَّلَام من رب الْعِزَّة فيجد لذَلِك رَاحَة على الْقلب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {تحيتهم يَوْم يلقونه سَلام}
-
الأَصْل التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ
-
فِي معنى معاء الْآدَمِيّ لم كَانَت سبعا فَصَارَت وَاحِدَة
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الْمُؤمن يَأْكُل فِي معاء وَاحِد وَالْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء
وَعَن أبي مُوسَى رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مثله
قَالَ أَبُو عبد الله الْإِنْسَان مَبْنِيّ على سَبْعَة على الشّرك وَالشَّكّ والغفلة وَالرَّغْبَة والرهبة والشهوة وَالْغَضَب فَهَذِهِ أخلاقه وَأي خلق من هَذِه الْأَخْلَاق إستولى على قلبه نسب إِلَيْهِ دون الآخر وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك قَوْله تَعَالَى وَإِن جَهَنَّم لموعدهم أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَة أَبْوَاب لكل بَاب مِنْهُم جُزْء مقسوم فَأهل النَّار مجزءون مقسمون على هَذِه
الْأَبْوَاب السَّبْعَة فَكل جُزْء مِنْهُم صَار جُزْءا بِخلق من هَذِه الْأَخْلَاق المستولية عَلَيْهِ
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم للنار بَاب لَا يدخلهَا مِنْهُ إِلَّا من شفا غيظه بسخط الله تَعَالَى
وَعَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لِجَهَنَّم سَبْعَة أَبْوَاب بَاب مِنْهَا لمن سل سَيْفه على أمتِي
فَهَذِهِ للرغبة وَالْأول للغضب فَابْن آدم مَبْنِيّ على هَذِه الْأَخْلَاق السَّبْعَة فَإِذا ولج الْإِيمَان الْقلب نفى هَذِه السَّبْعَة من الْقلب فبقدر قُوَّة الْإِيمَان تذوب هَذِه الْأَخْلَاق من النَّفس وعَلى قدر ضعفه يبْقى ضررهن فَإِذا اكمل النُّور وامتلأ الْقلب مِنْهُ لم يبْق لهَذِهِ الْأَخْلَاق فِيهِ مَوضِع فنفى الشّرك وَالشَّكّ والغفلة أصلا وَصَارَ بدل الشّرك إخلاصا وَبدل الشَّك يَقِينا وَبدل الْغَفْلَة انتباها وكشف غطاء معاينه وَصَارَ الْغَضَب لَهُ وَفِي ذَاته وَصَارَت الرَّغْبَة إِلَيْهِ والرهبة مِنْهُ وَصَارَت الشَّهْوَة منية وَكَانَت نهمة وبقدر ضعف الْإِيمَان وسقمه يبْقى من هَذِه الْأَخْلَاق فِي الْمُؤمن فَبَقيَ مِنْهُ شرك الْأَسْبَاب وَشك الأرزاق وغفلة التَّدْبِير فِي كنه الْأُمُور وَالرَّغْبَة والطمع فِي الْخلق والرهبة مِنْهُم فِي المضار وَالْمَنَافِع وَاسْتِعْمَال الشَّهَوَات على النهمة فإيمانه يَقْتَضِيهِ مَا عقد فِي توحيده لرَبه أَن هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا مِنْهُ وَله وأخلاقه تَمنعهُ الْوَفَاء بذلك عِنْد نوائبه فَلذَلِك يبْقى فِي عَرصَة الْقِيَامَة محاسبا فِي مُدَّة طَوِيلَة وَالْآخر كمل إيمَانه فَامْتَلَأَ قلبه من نور الْإِيمَان فَصَارَ كَمَا وَصفنَا بدءا فَسقط عَنهُ الْحساب غَدا
فَابْن أَدَم يَأْكُل فِي معاء وَاحِد اعني الْخلقَة إِلَّا أَن هَذِه الْأَخْلَاق السَّبْعَة سوى الْغَضَب قد عملت على قلبه فَصَارَ كَأَنَّهُ يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء فَإِذا آمن فَامْتَلَأَ قلبه من نور الْإِيمَان سكنت هَذِه الْأَخْلَاق فشبع وَرُوِيَ لِأَنَّهُ
قد ثقل قلبه بِمَا ولج فِيهِ من الْإِيمَان فَإِذا آمن فَإِنَّمَا يَأْكُل بمعاه الَّذِي خلق فِيهِ وَكلما كَانَ أوفر حظا من إيمَانه كَانَ أقل لطعمه بِهَذَا المعاء الْوَاحِد أَيْضا وَإِذا كَانَ كَافِرًا فَهَذِهِ الْأَخْلَاق السِّتَّة تعْمل على قلبه حَتَّى يصير كَأَنَّهُ يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء لِأَن الشّرك وَالشَّكّ والغفلة والشهوة وَالرَّغْبَة والرهبة هِيَ أعوان لِحِرْصِهِ فَإِذا أحرص لم يشْبع وَاحْتَاجَ إِلَى الْكثير وَالَّذِي سكنت عَنهُ هَذِه السِّتَّة الْأَخْلَاق بولوج الْإِيمَان قلبه ذاب الْحِرْص فِي جَوْفه وَثقل الْإِيمَان فِي قلبه فَأكل بمعاه الَّذِي خلق للآدميين فَاكْتفى بذلك
عَن أبي صَالح السمان قَالَ قدم ثَلَاثُونَ رَاكِبًا على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من غفار فيهم رجل يُقَال لَهُ أَبُو بَصِيرَة مثل الْبَعِير فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابه بددوا الْقَوْم فَجعل الرجل يُقيم الرجل وَالرجل يُقيم الرجلَيْن على قدر مَا عِنْده من الطَّعَام حَتَّى تفرق الْقَوْم غير أبي بَصِيرَة قَالَ وكل الْقَوْم يرى أَن لَيْسَ عِنْده مَا يشبعه فَلَمَّا رأى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذَاك قَامَ واستتبعه فَتَبِعَهُ فَلَمَّا دخل دَعَا لَهُ بِطَعَام فَوَضعه بَين يَدَيْهِ فَكَأَنَّمَا لحسه ثمَّ دَعَا بقدح فَحلبَ فِيهِ فشربه حَتَّى حلب لَهُ فِي سَبْعَة أقداح فَشربهَا وَبَات عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَتكلم مِنْهُ بِشَيْء فَلَمَّا خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى صَلَاة الْغَدَاة واستتبعه فَتَبِعَهُ فصلى مَعَه الْغَدَاة فَلَمَّا سلم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أقبل على الْقَوْم بِوَجْهِهِ فَقَالَ علمُوا أَخَاكُم وبشروه فَأقبل الْقَوْم بنصح يعلمونه وَألقى عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثوبا حِين أسلم ثمَّ قَامَ فاستتبعه فَتَبِعَهُ فَلَمَّا دخل دَعَا لَهُ بِطَعَام فَوَضعه بَين يَدَيْهِ فَلم يَأْكُل إِلَّا يَسِيرا حَتَّى قَالَ شبعت ثمَّ دَعَا لَهُ بقدح فَحلبَ فِيهِ فَلم يشرب إِلَّا يَسِيرا حَتَّى قَالَ رويت فَضرب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على مَنْكِبه فَقَالَ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله إِنَّك كنت أمس كَافِرًا وَإنَّك الْيَوْم مُؤمن وَإِن الْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء وَإِن الْمُؤمن يَأْكُل فِي معاء وَاحِد
-
الأَصْل السِّتُّونَ
-
فِي أَن للصَّائِم دَعْوَة مستجابة عِنْد إفطاره
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لكل عبد صَائِم دَعْوَة مستجابة عِنْد إفطاره اعطيها فِي الدُّنْيَا أَو ذخر لَهُ فِي الْآخِرَة
فَكَانَ ابْن عمر رضي الله عنهما يَقُول عِنْد إفطاره يَا وَاسع الْمَغْفِرَة اغْفِر لي
خص أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من بَين الْأُمَم فِي شَأْن الدُّعَاء فَقيل {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم}
وَإِنَّمَا كَانَ يكون ذَلِك للأنبياء عليهم السلام فَأعْطيت هَذِه الْأمة مَا أَعْطَيْت الْأَنْبِيَاء عليهم السلام فَلَمَّا دخل التَّخْلِيط فِي أُمُورهم من
أجل الشَّهَوَات الَّتِي استولت على قُلُوبهم حجبت قُلُوبهم فالصوم منع النَّفس عَن الشَّهَوَات وَإِذا ترك شَهْوَته من أَجله صفا قلبه وَصَارَت دَعوته بقلب فارغ قد زايلته ظلمَة الشَّهَوَات وتولته الْأَنْوَار فاستجيب لَهُ فان كَانَ مَا يسْأَل فِي الْمَقْدُور عجل لَهُ وَإِن لم يكن كَانَ مدخورا لَهُ فِي الْآخِرَة وبلغنا أَن العَبْد إِذا دخل الْجنَّة أعطي من الْجنَّة بِقدر مَا يسْتَقرّ فِي ملكه ويجاز لَهُ ثَوَابه فَإِذا زيد قيل لَهُ هَذَا دعواتك الَّتِي كنت لَا ترى لَهَا إِجَابَة كَانَ لَك ذخْرا عَظِيما
وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رضي الله عنه يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ للصَّائِم عِنْد فطره دَعْوَة لَا ترد
-
الأَصْل الْحَادِي وَالسِّتُّونَ
-
فِي سُجُود الشُّكْر
عَن أبي بكر رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا جَاءَهُ الْأَمر يسر بِهِ خر لله سَاجِدا شكرا
فالسجود أقْصَى حَالَة العَبْد فِي التَّوَاضُع لله تَعَالَى بِهِ ترتبط النِّعْمَة ويجتلب الْمَزِيد فالشكر رُؤْيَة العَبْد النِّعْمَة وَلَا يَنْفَكّ من رأى النِّعْمَة من الْجَبَّار إِذا استحيى خجل وتذلل وتواضع وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من شَأْنه إِذا فَرح غض بَصَره وغض الْبَصَر من الْحيَاء لِأَن الْحيَاء فِي الْعَينَيْنِ من أجل أَن الْحيَاء من شَأْن الرّوح وبصره مُتَّصِل ببصر الرّوح وَأَيْضًا الْفَرح فِي الْقلب مؤد الى الْعين فَإِذا انْتهى الْفَرح إِلَى الْعين فَلم يغضها انْتَشَر الْفَرح وَقَوي فَلم يكن صلى الله عليه وسلم يحب أَن ينتشر فرحه فِي دَار الأحزان حَتَّى يكون ذَلِك كُله فِي دَار الله تَعَالَى
عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر رضي الله عنهما قَالَ جِئْت أَزور عَائِشَة رضي الله عنها فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يوحي إِلَيْهِ ثمَّ سرى
عَنهُ فَقَالَ يَا عَائِشَة ناوليني رِدَائي فناولته ثمَّ أَتَى الْمَسْجِد فَإِذا مُذَكّر يذكر فَجَلَسَ حَتَّى قضى الْمُذكر تَذكرته افْتتح {حم تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم} فَسجدَ فطالت سجدته ثمَّ تسامع بِهِ أَظُنهُ قَالَ من كَانَ على ميلين وملىء عَلَيْهِ الْمَسْجِد وَأرْسلت عَائِشَة رضي الله عنها فِي حَاجَتهَا أَن احضروا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَقَد رَأَيْت مِنْهُ أمرا مَا رَأَيْته مِنْهُ مُنْذُ كنت مَعَه فَرفع رَأسه فَقَالَ سجدت هَذِه السَّجْدَة شكرا لرَبي تَعَالَى فِيمَا أبلاني فِي أمتِي فَقَالَ لَهُ - أَحْسبهُ أَبُو بكر رضي الله عنه -وماذا أبلاك فِي أمتك قَالَ أَعْطَانِي سبعين ألفا من أمتِي يدْخلُونَ الْجنَّة فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن امتك كثير طيب فازدد يَا رَسُول الله قَالَ قد فعلت فَأَعْطَانِي مَعَ كل وَاحِد من السّبْعين الْألف سبعين ألفا قَالَ يَا رَسُول الله ازدد لأمتك فَقَالَ بيدَيْهِ ثمَّ قَالَ بهما إِلَى صَدره أَو إِلَى بعض جسده فَقَالَ عمر أَو غَيره أوعيت يَا رَسُول الله أَو كلمة نَحْوهَا
عَن عبد الله بن بكر أبي وهب السَّهْمِي حَدثنَا هِشَام بن حسان عَن الْقَاسِم بن مهْرَان عَن مُوسَى بن وردان عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله تَعَالَى أَعْطَانِي سبعين ألفا من أمتِي يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب فَقَالَ عمر يَا رَسُول الله فَهَلا استزدته قَالَ قد استزدته فَأَعْطَانِي مَعَ كل وَاحِد من السّبْعين الْألف سبعين ألفا فَقَالَ رضي الله عنه يَا رَسُول الله فَهَلا استزدته قَالَ استزدته فَأَعْطَانِي هَكَذَا وَفتح أَبُو وهب يَدَيْهِ قَالَ أَبُو وهب قَالَ هِشَام هَذَا من الله لَا يدْرِي مَا عدده
وَهَذَا الحَدِيث أتم وَأَشْبع وَالْأول لم يذكر فِيهِ أَنهم يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب
وَعَن قيس بن أبي حَازِم عَن أبي بكر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَعْطَيْت سبعين ألفا من أمتِي يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب قُلُوبهم على قلب رجل وَاحِد واستزدت فزادني مَعَ كل وَاحِد سبعين ألفا
وَعَن أم قيس أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خرج آخِذا بِيَدِهَا فِي سكَّة من سِكَك الْمَدِينَة حَتَّى انْتهى إِلَى بَقِيع الْغَرْقَد فَقَالَ يبْعَث مِنْهَا سَبْعُونَ ألفا يَوْم الْقِيَامَة فِي صُورَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب
فَقَامَ رجل فَقَالَ يَا رَسُول الله ادْع الله أَن يَجْعَلنِي مِنْهُم قَالَ أَنْت مِنْهُم فَقَامَ آخر فَقَالَ يَا رَسُول الله ادْع الله أَن يَجْعَلنِي مِنْهُم فَقَالَ سَبَقَك بهَا عكاشة
فَهَذَا الْعدَد من مَقْبرَة وَاحِدَة فَكيف سَائِر مَقَابِر أمته وَإِنَّمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنْت مِنْهُم كَأَنَّهُ رأى فِيهِ أَنه مِنْهُم وَالْآخر لم يره بِموضع ذَاك وَأم قيس هِيَ ابْنة مُحصن وَهِي أُخْت عكاشة بن مُحصن الْأَسدي فالسبعون الْألف الْأَولونَ سقط عَنْهُم الْحساب لِأَن الله تَعَالَى أَيّدهُم بِالْيَقِينِ حَتَّى عاملوا الله تَعَالَى على الصدْق وَالْوَفَاء بيقينهم وهم أَوْلِيَاء الله تَعَالَى لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ وهم السَّابِقُونَ المقربون يشفع كل وَاحِد مِنْهُم فِي سبعين ألفا مِمَّن احتسب لِلْحسابِ
فِي الْموقف مِمَّن وَجَبت لَهُ الْجنَّة ثمَّ يشفع كل وَاحِد مِنْهُم فِي سبعين ألفا مِمَّن وَجب عَلَيْهِ الْوُقُوف طول الْموقف
عَن عبد الله ابْن أبي أوفى قَالَ إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لما أَتَى بِرَأْس أبي جهل صلى رَكْعَتَيْنِ وَصلى بهم يَوْم الْفَتْح رَكْعَتَيْنِ
وَسجد عمر بن عبد الْعَزِيز ثَلَاث سَجدَات تباعا حَيْثُ روى لَهُ أَبُو بردة بن أبي مُوسَى عَن أَبِيه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الحَدِيث الَّذِي قَالَ يجاء باليهودي وَالنَّصْرَانِيّ يَوْم الْقِيَامَة فَيُقَال هَذَا فداؤك يَا مُسلم من النَّار
-
الأَصْل الثَّانِي وَالسِّتُّونَ
-
فِي بَيَان أفضل الصَّدَقَة
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا من صَدَقَة بِأَفْضَل من صَدَقَة يتصدقها على مَمْلُوك عِنْد مليك سوء فالمملوك عِنْد المليك السوء مُضْطَر وَالصَّدَََقَة على الْمُضْطَر أَضْعَاف مضاعفة لأَنهم ثَلَاثَة أَصْنَاف فَقير مستغن عَن الصَّدَقَة فِي ذَلِك الْوَقْت وفقير مُحْتَاج ومضطر فالصدقة على المستغنى عَنهُ وَهُوَ فِي حد الْفقر صَدَقَة وَالصَّدَََقَة على الْمُحْتَاج مضاعفة وَالصَّدَََقَة على الْمُضْطَر أَضْعَاف مضاعفة والمملوك عِنْد المليك السوء انتظمت حَالَته هَذِه الثَّلَاث هُوَ فَقير وَهُوَ مُحْتَاج وَهُوَ مُضْطَر
-
الأَصْل الثَّالِث وَالسِّتُّونَ
-
فِي أَنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يحب الفأل الْحسن
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا بعثتم إِلَيّ رَسُولا فَاجْعَلُوهُ حسن الْوَجْه حسن الِاسْم
هَذَا من طَرِيق التفاؤل وَذَلِكَ أَن أهل الْيَقَظَة والانتباه يرَوْنَ الْأَشْيَاء كلهَا من الله تَعَالَى وَإِذا ورد وَارِد حسن الْوَجْه حسن الِاسْم تفاءل بِهِ وَهُوَ حسن الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل وَلَا يتطير لِأَن التفاؤل هُوَ حسن الظَّن بِاللَّه تَعَالَى والفأل هُوَ شَيْء يخص بِهِ قوم وَلَيْسَ يكون لكل أحد كالفراسة والألهام وكالحكمة وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الفأل مُرْسل
فَمن أعطي حظا من التفاؤل انْتفع بِهِ كمن أعطي الفراسة فَلهُ مِنْهَا حَظّ وَمن لم يُعْط لم يكن لَهُ مِنْهَا حَظّ والفأل قريب من الْأَركان والحظ نَحوه
وَكَانَت قُرَيْش جعلت مائَة من الأبل فِي من يَأْخُذ نَبِي الله صلى الله عليه وسلم فَيردهُ عَلَيْهِم حَيْثُ توجه إِلَى الْمَدِينَة فَركب بُرَيْدَة فِي سبعين رَاكِبًا من أهل بَيته من بني سهم فَتلقى نَبِي الله فَقَالَ لَهُ نَبِي الله صلى الله عليه وسلم من أَنْت قَالَ أَنا بُرَيْدَة فَالْتَفت إِلَى أبي بكر رضي الله عنه فَقَالَ يَا أَبَا بكر برد أمرنَا وَصلح فَقَالَ وَمِمَّنْ قَالَ من اسْلَمْ فَقَالَ لأبي بكر سلمنَا قَالَ ثمَّ مِمَّن قَالَ من بني سهم قَالَ خرج سهمك فَأسلم بريده وَأسلم الَّذين مَعَه جَمِيعًا فَلَمَّا أَن أصبح قَالَ بريده لنَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم لَا تدخل الْمَدِينَة إِلَّا ومعك لِوَاء فَحل عمَامَته ثمَّ شدّ بهَا فِي رمح ثمَّ مَشى بَين يَدَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا نَبِي الله تنزل عَليّ فَقَالَ إِن نَاقَتي مأمورة فسارت حَتَّى وقفت على بَاب أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رضي الله عنه فبركت فَقَالَ بُرَيْدَة الْحَمد لله الَّذِي أسلم بَنو سهم طائعين غير مكرهين
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ قَالَ الله تَعَالَى أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي فليظن بِي مَا شَاءَ فَإِذا أحسن ظَنّه وفى لَهُ بِمَا أمل وَظن والتطير سوء الظَّن بِاللَّه وهروب من قَضَائِهِ والعقوبة إِلَيْهِ سريعة أَلا ترى إِلَى الْعِصَابَة الَّتِي فرت من الطَّاعُون كَيفَ أماتهم قَالَ الله تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم}
عَن أبي رَافع قَالَ أتيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمَعِي مكتل فِيهِ شَاة
مشوية فَقَالَ لي يَا أَبَا رَافع ضع مَا مَعَك ثمَّ قَالَ ناولني الذِّرَاع فناولته فَأكلهَا ثمَّ قَالَ ناولني الذِّرَاع فناولته فَأكلهَا ثمَّ قَالَ ناولني الذِّرَاع فَقلت وَهل للشاة أَكثر من ذراعين فَقَالَ لَو سكت لوجدتها
-
الأَصْل الرَّابِع وَالسِّتُّونَ
-
فِي معنى الْفطْرَة الْأَصْلِيَّة
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تناتج الْإِبِل من بَهِيمَة جَمْعَاء هَل يحس من جَدْعَاء قَالُوا يَا رَسُول الله أَفَرَأَيْت من يَمُوت صَغِيرا قَالَ الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين على الْفطْرَة أَي على الْإِسْلَام
وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى أَخذ من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم فأسلموا لَهُ طَوْعًا وَكرها وألقوا بأيدهم اعترافا بربويته فَمنهمْ مُسلم وَمِنْهُم مستسلم وَفِي الْجُمْلَة كلهم أقرُّوا لَهُ بالربوبية وَحده وبالسمع وَالطَّاعَة لَهُ فَأخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق ثمَّ ردهم إِلَى الأصلاب فَلَمَّا خَرجُوا من الْأَرْحَام الى الدُّنْيَا مولودين إِنَّمَا خَرجُوا على تِلْكَ الْفطْرَة فَمن وَلَده يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ أَو مَجُوسِيّ فَالْوَلَد فِي الحكم لَهُ
قَالَ المُصَنّف رحمه الله الْوَلَد فِي الحكم لِأَبِيهِ دون أمه لِأَن الْعِظَام والعصب وَالْعُرُوق من الْأَب وَاللَّحم وَالدَّم وَالشعر وَالْجَلد من الْأُم فَأصل الْجَسَد من الْأَب أَلا ترى أَن اللَّحْم وَالدَّم وَالْجَلد وَالشعر يذهب وَيَجِيء والجسد بَاقٍ وَالْعِظَام والعصب وَالْعُرُوق إِذا ذهب ذهب الْجَسَد وَلذَلِك نسب إِلَى أَبِيه والعصوبة لَهُ فِي الْمِيرَاث وَالْولَايَة وَسَائِر الْأَحْكَام
أما قَوْله كَمَا تناتج الابل هَل يحس من جَدْعَاء فَإِنَّهُ يَقُول ان الانعام إِذا تناتجت فمولودهن صَحِيح سوي فَعمد الْمُشْركُونَ فجدعوا آذانها
روى عَوْف بن مَالك الْجُشَمِي رضي الله عنه قَالَ أتيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَصَعدَ فِي الْبَصَر وَصَوَّبَهُ وَقَالَ أرب إبل أَنْت ام رب غنم قلت من كل المَال قد آتَانِي الله تَعَالَى فَأكْثر وَأطيب قَالَ أفلست تنتجها وافية أعينها وآذانها قلت بلَى قَالَ فتجدع آذانها فَتَقول صرماء وتشق من هَذِه فَتَقول بحيرة فساعد الله أَشد من ساعدك وموساه أحد لَو شَاءَ الله أَن يَأْتِيك بهَا صرماء فعل
فَقَوْل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تناتج الْإِبِل فَهَل تحس من جدعا أَي أَن الله تَعَالَى خلقه سويا وافرا وافيا فَأنْتم جدعتموه وَكَذَلِكَ خلق الله تَعَالَى هَذَا الْمَوْلُود على الْفطْرَة الَّتِي فطرهم حَيْثُ استخرجهم من صلب آدم عليه السلام معترفين لَهُ بالربوبية وَأَنْتُم هودتموه ونصرتموه وَمِنْه قَول الله تَعَالَى {صبغة الله وَمن أحسن من الله صبغة}
كَانَت الْيَهُود إِذا ولد لَهُم ولد صبغته وَكَانَت النَّصَارَى إِذا ولد لَهُم مَوْلُود صبغته فِي مَاء لَهُم يَقُولُونَ تطهر بذلك فَقَالَ الله تَعَالَى {صبغة الله} أَي فطْرَة الله الَّتِي فطرهم عَلَيْهَا أحسن من صبغتهم
عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كل مَوْلُود يُولد من ولد كَافِر أَو مُسلم فَإِنَّمَا يولدون على الاسلام كلهم وَلَكِن الشَّيَاطِين أَتَتْهُم فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم فهودتهم ونصرتهم ومجستهم وأمرتهم أَن يشركوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَقَالَ الله تَعَالَى وَقَوله الْحق خلقت عبَادي حنفَاء وأمرتهم أَن لَا يشركوا بِي شَيْئا
عَن عِيَاض بن حمَار رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ فِي خطبَته ان الله تَعَالَى أَمرنِي أَن أعلمكُم وَقَالَ تَعَالَى خلقت عبَادي حنفَاء فأتتهم الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم وأمرتهم أَن يشركوا بِي وَحرمت عَلَيْهِم مَا أحللت عَلَيْهِم
قَالَ أَبُو عبد الله فَهَذَا بعد الْإِدْرَاك حِين عقلوا أَمر الدُّنْيَا وتأكدت حجَّة الله عَلَيْهِم وعملت أهواؤهم فِيهِ لِأَن الشَّيَاطِين وجدت قلوبا خَالِيَة وَالنَّفس وَالروح يعقلان أَمر الدُّنْيَا والمضار وَالْمَنَافِع والآيات ظَاهِرَة من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وَهَذِه حجج الله سبحانه وتعالى على عبيده فَذَهَبت بأهوائهم يَمِينا وَشمَالًا وَأما الْمُؤْمِنُونَ فهم أهل منَّة الله تَعَالَى من الله عَلَيْهِم فَجعل لَهُم نورا فأحياهم فَقَالَ أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس
كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا) {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور}
فَأهل منته أحياهم الله تَعَالَى بنوره وَأهل عداوته حرمُوا ذَلِك فخابوا وَالْحجّة عَلَيْهِم قَائِمَة بِمَا أعْطوا من الْمعرفَة بِأُمُور الدُّنْيَا
قَالَ الله تَعَالَى {قد أَفْلح من زكاها وَقد خَابَ من دساها} إِنَّمَا زكاها بِنور الْمعرفَة وَإِنَّمَا دسي قلب الْكَافِر وَقَوله دسي ودسس ودس كُله بِمَعْنى وَاحِد وَهُوَ أَن يدس بَاب قلبه كَمَا تدس الكوة حَتَّى لَا يَقع فِي الْبَيْت ضوء فَهُوَ بَيت مظلم وَقد مَال بِهِ هوى نَفسه
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَمُوت لأحد من الْمُسلمين ثَلَاثَة من الْوَلَد فتمسهم النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقسم
عَن معَاذ بن جبل رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ مَا من مُسلمين يتوفى لَهما ثَلَاثَة أَوْلَاد لم يبلغُوا الْحِنْث إِلَّا أَدخل الله تَعَالَى والديهم الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن السقط ليجر أمه إِلَى الْجنَّة بسرره إِذا احتسب
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول يَا عَائِشَة من مَاتَ لَهُ فرطان من أمتِي أدخلهُ الله الْجنَّة بِفضل
رَحمته إيَّاهُم قَالَت يَا رَسُول الله فَمن كَانَ لَهُ فرط وَاحِد قَالَ وَمن كَانَ لَهُ فرط وَاحِد يَا موفقة قَالَت وَمن لم يكن لَهُ فرط قَالَ فَأَنا فرط أمتِي لم يصابو بمثلي
فَإِذا كَانَ الوالدن إِنَّمَا يدخلهم الله الْجنَّة بِفضل رَحمته للْوَلَد فَكيف يكون رَحمته للْوَلَد
عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت سَأَلت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن أَوْلَاد الْمُسلمين أَيْن هم يَوْم الْقِيَامَة قَالَ فِي الْجنَّة يَا عَائِشَة وَسَأَلت عَن أَوْلَاد الْمُشْركين فَقَالَ فِي النَّار يَا عَائِشَة قلت لم يدركوا الْأَعْمَال يَا رَسُول الله وَلم تجر عَلَيْهِم الأقلام فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رَبك أعلم بِمَا كَانُوا عاملين
عَن عَليّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن السقط ليراغم ربه عز وجل إِذا إِذا أَدخل أَبَوَيْهِ النَّار فَيُقَال لَهُ أَيهَا السقط المراغم ربه قد أَدخل أَبَوَيْك الْجنَّة فَيَقُول لَا حَتَّى يجرهما بسرره
عَن معَاذ بن جبل رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة بالممسوخ عقلا وبالهالك فِي الفترة وبالهالك صَغِيرا فَيَقُول الممسوخ عقلا يَا رب لَو آتيتني عقلا مَا كَانَ من آتيته عقلا بِأَسْعَد مني وَيَقُول الْهَالِك فِي الفترة يَا رب لَو أَتَانِي مِنْك عهد مَا كَانَ
من أَتَاهُ مِنْك عهد بِأَسْعَد بعهدك مني وَيَقُول الْهَالِك صَغِيرا يَا رب لَو آتيتني عمرا مَا كَانَ من آتيته عمرا بِأَسْعَد بعمره مني فَيَقُول الرب تبارك وتعالى فَإِنِّي آمركُم بِأَمْر أفتطيعونني فَيَقُولُونَ نعم وَعزَّتك فَيَقُول لَهُم فاذهبوا وادخلوا جَهَنَّم وَلَو دخلوها مَا ضرتهم شَيْئا فَتخرج عَلَيْهِم قوابض من نَار يظنون أَنَّهَا قد أهلكت مَا خلق الله من شَيْء فيرجعون سرَاعًا وَيَقُولُونَ يَا رَبنَا خرجنَا وَعزَّتك نُرِيد دُخُولهَا فَخرجت علينا قوابض من نَار فظننا أَنَّهَا قد أهلكت مَا خلق الله تَعَالَى من شَيْء ثمَّ يَأْمُرهُم ثَانِيَة فيرجعون وَيَقُولُونَ كَذَلِك فَيَقُول الرب خلقتكم على علمي وَإِلَى علمي تصيرون ضميهم فتأخذهم النَّار
عَن عبد الله بن شَدَّاد رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ رجل فَسَأَلَهُ عَن ذَرَارِي الْمُشْركين الَّذين هَلَكُوا صغَارًا فَوضع رَأسه سَاعَة ثمَّ قَالَ أَيْن السَّائِل فَقَالَ هَا أَنا ذَا يَا رَسُول الله فَقَالَ إِن الله تَعَالَى إِذا قضى بَين أهل الْجنَّة وَالنَّار لم يبْق غَيرهم عجوا فَقَالُوا اللَّهُمَّ رَبنَا لم يأتنا رَسُولك وَلم نعمل شَيْئا فَأرْسل اليهم ملكا وَالله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين فَقَالَ إِنِّي رَسُول ربكُم إِلَيْكُم فَانْطَلقُوا فَاتَّبعُوهُ حَتَّى أَتَوا النَّار فَقَالَ لَهُم إِن الله عز وجل يَأْمُركُمْ أَن تقتحموا فِيهَا فَاقْتَحَمت طَائِفَة مِنْهُم ثمَّ اخْرُجُوا من حَيْثُ لَا يشْعر أَصْحَابهم فَجعلُوا من السَّابِقين المقربين ثمَّ جَاءَهُم الرَّسُول عليه السلام فَقَالَ إِن الله تَعَالَى يَأْمُركُمْ أَن تقتحموا فِي النَّار فَاقْتَحَمت طَائِفَة أُخْرَى ثمَّ أخرجُوا من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَجعلُوا من أَصْحَاب الْيَمين ثمَّ جَاءَ الرَّسُول فَقَالَ إِن الله تَعَالَى يَأْمُركُمْ أَن تقتحموا فِي النَّار فَقَالُوا رَبنَا لَا طَاقَة لنا بِعَذَابِك فَأمر بهم فَجمعت نواصيهم وأقدمهم ثمَّ القوا فِي النَّار
قَالَ أَبُو عبد الله الْوَلَد عُضْو من الرجل فَإِذا قدمه من قبل أَن يبلغ الْحِنْث فقد عتق من أسار الذُّنُوب وَفِي الشَّرْع أَن الْمَمْلُوك إِذا عتق جُزْء مِنْهُ شاعت الْحُرِّيَّة فِي جَمِيع أَجْزَائِهِ فَهَذَا الطِّفْل قدم على ربه وَهُوَ غير مَطْلُوب بذنب فَصَارَ حرا من رق الذُّنُوب وَهُوَ جُزْء من أَجزَاء الْوَالِدين
وَقَوله لم يبلغُوا الْحِنْث أَي مَا أدركوا مدرك الرِّجَال فتركوا الْوَفَاء بِمَا عَاهَدُوا يَوْم الْمِيثَاق
وَقَوله تَحِلَّة الْقسم يُرِيد قَوْله تَعَالَى {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها}
وَعَن أنس بن مَالك رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنِّي سَأَلت رَبِّي أَوْلَاد الْمُشْركين فأعطانيهم خدما لأهل الْجنَّة قَالَ لأَنهم لم يدركهم مَا أدْرك آباؤهم من الشّرك وَلِأَنَّهُم فِي الْمِيثَاق الأول
-
الأَصْل الْخَامِس وَالسِّتُّونَ
-
فِي بَيَان قَوْله صلى الله عليه وسلم ان هَذَا المَال خضرَة حلوة
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه قَالَ إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن هَذَا المَال خضرَة حلوة فَمن أَخذه بِحقِّهِ فلنعم المعونة هُوَ
الْأَخْذ على ثَلَاثَة أوجه عندنَا فالظالم يَأْخُذهُ تمتعا والمقتصد يَأْخُذهُ تزودا والمقرب يَأْخُذهُ تبلغا فالظالم لم يَأْخُذهُ بِحقِّهِ لِأَن الدُّنْيَا إِنَّمَا خلقت مُتْعَة للأعداء وهم الْكفَّار يتمتعون ويأكلون كَمَا تَأْكُل الْأَنْعَام وَالنَّار مثوى لَهُم فَهَذَا قد ظلم نَفسه حَيْثُ أَخذهَا أَخذ الْأَعْدَاء قَالَ الله تَعَالَى {ذرهم يَأْكُلُوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فَسَوف يعلمُونَ}
لِأَن الْمُؤمن قد علم أَنه عَابِر سَبِيل وَلم يخلق للبقاء فِي هَذِه الدُّنْيَا فَهُوَ مُسَافر يقطع الدُّنْيَا بعمره إِلَى الله تَعَالَى وَاللَّيْل وَالنَّهَار يركضان بِهِ اليه وَقد آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الْأُخَر وَمن صدق إيمَانه أَن يرفع باله عَن الدُّنْيَا وييأس من الخلود فِيهَا وَيَأْخُذ مِنْهَا مَا يَأْخُذ المتزود لما بَين يَدَيْهِ من السّفر الطَّوِيل وَأخذ التزود أَن يكون لَهُ إِرَادَة فِيمَا يَأْخُذ مِنْهَا أَن يَأْخُذهَا لقوام دينه وَيقدم فَضله مَا بَين يَدَيْهِ ليَكُون ذَلِك زادا لَهُ فِي الْمَحْشَر فَالْأول ظَالِم أَخذه أَخذ الْأَعْدَاء وَهَذَا أَخذه بِحقِّهِ فلنعم المعونة وَالثَّالِث أَخذه تبلغا لِأَنَّهُ خلق مُحْتَاجا مُضْطَرّا لاينفك فِي دُنْيَاهُ أَيَّام حَيَاته من حَاجَة بِهِ إِلَيْهِ أما فِي نَفسه وَأما فِي المتصلين بِهِ من عِيَال وقرابة وجيرة واخوان من أجل حرا وبردا وجوع أَو عرى أَو نَوَائِب من سقم أَو غَيره
وتدبير رب الْعَالمين فِي هَذَا المَال أَنه وَضعه فِي هَذَا الدَّار وَأَنه يصلح بِهِ هَذِه الْمصَالح فَمَا تنَاول مِنْهُ تنَاول مِنْهُ تنَاول على التبلغ إِلَى الله تَعَالَى لينفذ عمره ويبلغ إِلَى ربه تَعَالَى دافعا هَذِه النوائب الَّتِي تنوبه فِي هَذِه الدُّنْيَا عَن نَفسه وَعَن هَؤُلَاءِ بِهَذَا المَال الَّذِي هَكَذَا دبره رب الْعَالمين وَكَانَ أَبُو بكر رضي الله عنه بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُعْطي المَال بِغَيْر عدد وَلَا تَقْدِير يحثي حثوا وَيُعْطِي قبضات فراوده عمر رضي الله عنه على أَن يقدر ويفضل الْمُهَاجِرين لفضلهم وَمن لَهُ قدوة فِي الْإِسْلَام يبرر لَهُ ذَلِك بِالْمَالِ فَأبى عَلَيْهِ وَقَالَ إِن هَذَا المَال بَلَاغ وَخير الْبَلَاغ أوسعه وأجورهم على الله تَعَالَى فَلَمَّا ولي عمر رضي الله عنه فضل أَصْحَاب بدر وَجعل بَين النَّاس فَضَائِل فَفعل أبي بكر رضي الله عنه فعل الصديقين المَال عِنْده بَلَاغ فَكلما تنَاول شَيْئا مِنْهُ فقدمه فِي نوع من أَنْوَاع الْبر لم يَجعله عدَّة ليَوْم فقره كَمَا فعل هَذَا المقتصد لِأَن عدَّة الصديقين والمقربين خالقهم وأعينهم مَادَّة إِلَى رَحمته والمقتصدون وَمن دونهم عدتهمْ خالقهم عدَّة الايمان فَإِذا صَارُوا إِلَى الْحَقَائِق صيروا أَعْمَالهم عدَّة
-
الأَصْل السَّادِس وَالسِّتُّونَ
-
فِي أَن الِاخْتِيَار من الْخَيْر
عَن أبي بكر رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا أَرَادَ أمرا قَالَ اللَّهُمَّ خر لي واختر لي
قَالَ أَبُو عبد الله الْخيرَات كلهَا من خيرته والصفوة من الْخيرَات محبوبة ومختارة خار لِعِبَادِهِ الْأَعْمَال وَالْأَفْعَال وَاخْتَارَ لنَفسِهِ من الَّذِي خار لَهُم فَذَاك محبوبه ومصطفاه سَأَلَهُ أَن يُخَيّر لَهُ أَن يرزقه الْخَيْر وَإِذا رزقه الْخَيْر وَقَاه الشَّرّ ثمَّ سَأَلَهُ أَن يخْتَار لَهُ من الْخَيْر محبوبه وَله دَعْوَة أُخْرَى فِي حَدِيث آخر وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك التَّوْفِيق لمحابك من الْأَعْمَال وَصدق التَّوَكُّل عَلَيْك وَحسن الظَّن بك
فَانْظُر إِلَى هَذِه الْخِصَال الثَّلَاث كانها نظام وَاحِد وَهَذَا بَاب غامض يخفى على الصَّادِقين وَإِنَّمَا ينْكَشف للصديقين دون الصَّادِقين لِأَن الصَّادِق يفتش عَن الْأَعْمَال كَيْلا يدْخل فِيهِ الْعَدو وَالنَّفس والهوى ويروجه عَلَيْهِ بخدعه فَهُوَ يَبْغِي الصدْق وَالْإِخْلَاص ويلحظه وَالصديق يلحظ فِي أَعماله إِلَى الله تَعَالَى لِأَنَّهُ استقام قلبه على الصدْق وانطرد عَنهُ الْهوى واختسأ الْعَدو فَهُوَ يفر من ظله وَهُوَ الَّذِي ينْكَشف لَهُ التَّوْفِيق
من الله لمحبوبه فَرب عمل هُوَ فِي الظَّاهِر أَعلَى وأشرف على أَلْسِنَة الرُّسُل عليهم السلام والكتب الْمنزلَة والمحبوب فِي ذَلِك الْوَقْت مَا هُوَ دونه فِي الظَّاهِر فَالَّذِي يُحِبهُ فِي ذَلِك الْوَقْت قد خَفِي على الْأَنْبِيَاء عليهم السلام حَتَّى سَأَلَهُ التَّوْفِيق لذَلِك
وَأما بَيَان انتظام هَذِه الْأُمُور فِي طلق فَهُوَ أَن الله تَعَالَى إِذا وَفقه لمحبوبه وَهُوَ أدنى فِي الظَّاهِر وآثر الْأَدْنَى وَإِن كَانَ الْأَدْنَى فِي الْحَقِيقَة من محاب الله تَعَالَى فَسَأَلَهُ صدق التَّوَكُّل والتوكل هُوَ أَن يتَّخذ الله وَكيلا ويفوض إِلَيْهِ جَمِيع أُمُوره فَسَأَلَهُ صدق ذَلِك حَتَّى لَا يتَرَدَّد وَلَا يتلكأ فِيهِ ويسارع فِيهِ كَمَا يُسَارع فِي الَّذِي كَانَ عِنْده أَعلَى
ثمَّ قَالَ وَأَسْأَلك حسن الظَّن بك فَإِن النَّفس إِذا مرت فِي الادون دَخلهَا سوء الظَّن من قبلهَا فَتَقول لعَلي فِيهِ مخذول إِذا أَقبلت على الادون وأعرضت عَن الْأَعْلَى فِي الظَّاهِر فَسَأَلَهُ حسن الظَّن كي لَا تَأْخُذهُ الْحيرَة وَلَا يخَاف أَنه خذل فلهذه الْخِصَال الثَّلَاث كلهَا منظومة مُحْتَاج إِلَيْهَا فِي طلق لَا يَسْتَغْنِي بِبَعْضِهَا عَن بعض لمن سَأَلَ أَن يخْتَار لَهُ محبوبه ويوفقه لمحابه من الْأُمُور
فَجَاءَت الرِّوَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِهَاتَيْنِ اللفظتين وَكِلَاهُمَا يؤديان إِلَى معنى وَاحِد قَوْله اختر لي وَقَوله وفقني لمحابك فالاختيار من الْخَيْر هُوَ محابه فِي ذَلِك الْوَقْت قَالَ لَهُ قَائِل صف لنا وَاحِدَة من هَذِه الْأُمُور نعتبر بهَا مَا سواهَا قَالَ نعم خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَمِرًا يزور بَيت الله الْحَرَام لبعد عَهده بِهِ قصد عَن الْبَيْت فَكَانَ محاب الله تَعَالَى فِي ذَلِك أَن يصالحهم ويعطيهم مَا يُرِيدُونَ من ذَلِك فَإِنَّهُم كَانُوا يُرِيدُونَ أَن لَا يدْخل مَكَّة فِي هَذِه الْهَيْئَة فحلق دون قَضَاء الْعمرَة وَنحر الْهَدْي وَلما يصل إِلَى الْبَيْت وَلم يبلغ محلهَا وَكَانَ فِي الظَّاهِر تَعْظِيم الْبَيْت والاعتمار وَالْوَفَاء بِالنذرِ وَهُوَ الاحرام وهدي الْبدن وَهِي سَبْعُونَ بَدَنَة أَعلَى عِنْدهم وأشرف وَالصُّلْح وَالرُّجُوع عَنْهُم
محاب الله فِي ذَلِك الْوَقْت فاتسع لهَذَا الْأَمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلم يضق بِهِ ذرعا واتسع أَبُو بكر رضي الله عنه وضاق عمر رضي الله عنه حَتَّى صَار إِلَى أبي بكر رضي الله عنه فَقَالَ يَا أَبَا بكر أَلَيْسَ هَذَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَو لَيْسَ نَحن الْمُسلمُونَ فَقَالَ بلَى فَقَالَ فعلى م نعطي الدنية فِي ديننَا وهم الْكفَّار قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه يَا عمر الزم غرز رَسُول الله صلى الله عليه وسلم واسمع وأطع فَإِنِّي أشهد أَنه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ وَأَنا أشهد فَلم يصبر على ذَلِك فَأتى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله أَلَسْت رَسُول الله أولسنا بِالْمُسْلِمين أوليسوا بالمشركين قَالَ بلَى قَالَ فعلى م نعطي الدنية فِي ديننَا وهم الْكفَّار قَالَ أَنا عبد الله وَرَسُوله وَلنْ أُخَالِف أمره وَلنْ يضيعني
قَالَ عمر رضي الله عنه فمازلت أَصوم وأصلي وأتصدق وَأعْتق من الَّذِي صنعت مَخَافَة كَلَامي الَّذِي تَكَلَّمت بِهِ يَوْمئِذٍ
فَصَالح رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْمُشْركين وَكتب الْكتاب فِيمَا بَينهم على وضع الْحَرْب عشر سِنِين يَأْمَن مِنْهُم النَّاس ويكف بَعضهم عَن بعض فَأمنُوا وَلَقي بَعضهم بَعْضًا وخالطوهم وَاسْتَمعُوا إِلَى الْقُرْآن وَإِلَى مَا جَاءَ بِهِ عَن الله تَعَالَى وَالرجل يكلم أَخَاهُ وَصديقه ورحمه بذلك فَدخل النَّاس أَفْوَاجًا فِي دين الله مثل مَا دخلُوا فِي سِنِين كَثِيرَة
فَانْظُر إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَيفَ فوض أمره إِلَى الله تَعَالَى وأبرز صدق توكله وَكَيف حسن ظَنّه بِاللَّه تَعَالَى فَقَالَ إِنِّي لن أُخَالِف أمره وَلنْ يضيعني وَكَيف تَابعه على ذَلِك أَبُو بكر رضي الله عنه واتسع
فِيهِ وَكَيف ضَاقَ عمر رضي الله عنه وَمن بعد عمر عَامَّة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى بلغ من أَمرهم أَنه أَمر مناديه فَنَادَى بِأَن يحلقوا رؤوسهم فَلم يحلقوا حَتَّى دخل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْخَيْمَة فَقَالَ يَا أم سَلمَة أَلا تَرين أَن النَّاس لَا يحلقون فَقَالَت يَا نَبِي الله بِأبي أَنْت وَأمي احْلق أَنْت فَلَو قد رأوك حلقت لقد فَعَلُوهُ فحلق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأخذ النَّاس يحلقون وَمِنْهُم من قصر فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر للمحلقين قَالُوا والمقصرين يَا رَسُول الله قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر للمحلقين قَالُوا والمقصرين يَا رَسُول الله قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر للمحلقين قَالُوا والمقصرين يَا رَسُول الله قَالَ والمقصرين قَالُوا ظَاهَرت بالترحم وَالْمَغْفِرَة للمحلقين قَالَ لأَنهم لم يشكوا
فَلَيْسَ هَذَا شكا فِي أصل الْفِعْل إِنَّمَا الشَّك هُنَا ضيق الصَّدْر بذلك الْفِعْل احتاجوا إِلَى أَن يحلقوا وهم فِي إِحْرَام وَلم يحلوا بعد لِأَن السَّبِيل كَانَ عِنْدهم فِي الْجَاهِلِيَّة وراثة أَن لَا يحل أحد من إِحْرَامه دون الطّواف بِالْبَيْتِ فَلَمَّا أَمرهم بِالْحلقِ استعظموا ذَلِك وَضَاقَتْ صُدُورهمْ ثمَّ اتَّبعُوهُ فقصروا كَأَنَّهُمْ على كَرَاهَة شَدِيدَة وَهَذَا من خلق النَّفس وكزازته فحرموا الدعْوَة للكزازة الَّتِي فيهم وركوب الْهوى
وَقَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنِّي لن أُخَالِف أمره أَي لن أُخَالِف أَمر الله أَي لن أُخَالِف مَا استقبلني من وَجه الْأَمر وَمن توفيقه لما هُوَ أحب إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَن أهل مَكَّة لما تلقوهُ ليردوه فِي جمعهم أَخذ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي أَسْفَل مَكَّة فَلَمَّا بلغ الْحُدَيْبِيَة بَركت نَاقَته فَقَالَ النَّاس
خلأت أَي حزنت فَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا خلأت وَمَا لَهَا ذَلِك بِخلق كَأَن مَعْنَاهُ أَن هَذِه نَاقَة مسخرة لصَاحِبهَا وصاحبها لَيْسَ بحرون فَإِذا لم يحرن الَّذِي سخر على ربه لم تحرن المسخرة فَقَالَ مَا خلأت وَلَكِن حَبسهَا حَابِس الْفِيل فَعلم أَن بروك النَّاقة هَهُنَا لَيْسَ من الحرانة لِأَنَّهُ لم يحرن على ربه فِي أمره وَلَكِن هَذَا شَيْء بديع قد اخْتَار لَهُ ربه مَا هُوَ أحب إِلَيْهِ فَنزل وعسكر هُنَاكَ وانتظر مَا يكون ثمَّ وَجه الرُّسُل إِلَى أهل مَكَّة وَاحِدًا بعد آخر أَنِّي لم أجئكم لِحَرْب وَإِنَّمَا جِئْت مُعظما للبيت وَمَعِي هدي فعاهدوا الله أَن لَا يدخلهَا أبدا أَو نحاربك ثمَّ كَانَ من تِلْكَ الرُّسُل عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه فَأَتَاهُ الْخَبَر أَن عُثْمَان قد قتل فَانْتدبَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لحربهم وَقَالَ لَا نَبْرَح حَتَّى نناجزهم فَدَعَا إِلَى الْبيعَة تَحت الشَّجَرَة فَبَايعُوهُ فَقَالَ أَصْحَابه بعد ذَلِك بِحِين بَايعنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الْمَوْت وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّن فهم الْأَمر لم نُبَايِعهُ على الْمَوْت لَكِن بَايَعْنَاهُ على أَن لَا نفر فَأنْزل الله تَعَالَى {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة} الْآيَة فَأوجب لَهُم رِضَاهُ وبشرهم بذلك وَوَعدهمْ النُّصْرَة وَالْفَتْح
وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رأى فِي الطَّرِيق رُؤْيا أَن يدْخل الْمَسْجِد الْحَرَام مَعَ أَصْحَابه مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ لَا يخَافُونَ فَأخْبر بهَا أَصْحَابه فَلم يشكوا أَنَّهَا تفتح لَهُم فَلَمَّا اسْتَقْبَلَهُمْ هَذَا الصُّلْح شكوا فِي الرُّؤْيَا وَسَاءَتْ ظنون كثير مِنْهُم قَالَ الله تَعَالَى {فَجعل من دون ذَلِك فتحا قَرِيبا} فصالحوا وَانْصَرفُوا فَخَرجُوا إِلَى خَيْبَر فَفتح الله عَلَيْهِم فاستأصلوا الْيَهُود وهم اُحْدُ الْأَعْدَاء وغنموا العنائم الْكَثِيرَة وتقووا بِمَا
غنموا وَأخذُوا الْعدة من الكراع وَالسِّلَاح وَبلغ الْمُشْركين ذَلِك فذلوا وانقصموا
وَعَاد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من الْعَام الْمقبل فَقضى عمرته وأخلوا لَهُ مَكَّة من نِسَائِهِم وَأَوْلَادهمْ حَتَّى انْصَرف ثمَّ عَاد من الْعَام الْقَابِل لفتح مَكَّة فِي عشرَة آلَاف رجل وَكَانَ ذَلِك الْعَام الَّذِي صدر عَنهُ فِي سَبْعمِائة وَكثر أَصْحَابه لدُخُول النَّاس فِي دين الله وَذَلِكَ للصلح الَّذِي كَانَ بَينهم وَمَا الْتَقَوْا فوعظ بَعضهم بَعْضًا وَقَرَأَ عَلَيْهِم مَا نزل
فَانْظُر إِلَى محاب الله تَعَالَى ومختاره وَإِلَى محاب الْخلق ومختارهم فقد كَانَ مُخْتَار الْخلق أَن يدخلوها عنْوَة فيقتلون وَيقْتلُونَ وَقد كَانَ لله عز وجل فِيهَا أَوْلِيَاء قد اجتباهم واختارهم وسبقت لَهُم مِنْهُ الْحسنى وَلم يجىء وَقت إسْلَامهمْ بعد وَفِيهِمْ أَيْضا قد أَسْلمُوا من الْمُسْتَضْعَفِينَ نسَاء وشيوخا وعجزة وَلَو دخلوها بِقِتَال لأصابهم معرة الْجَيْش فَقَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم {وَهُوَ الَّذِي كف أَيْديهم عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم بِبَطن مَكَّة من بعد أَن أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم}
وَكَانَت طَائِفَة من أهل مَكَّة خَرجُوا عَلَيْهِ من وَرَاء عسكره فَهَزَمَهُمْ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأخذُوا أسراء فَأعْتقهُمْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلذَلِك قَوْله تَعَالَى {من بعد أَن أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم}
ثمَّ قَالَ وَلَوْلَا رجال مُؤمنُونَ وَنسَاء مؤمنات لم تعلموهم أَن تطئوهم فتصيبكم مِنْهُم معرة بِغَيْر علم إِلَى قَوْله {عذَابا أَلِيمًا}
فَهَؤُلَاءِ رجال مُؤمنُونَ وَنسَاء مؤمنات قد كَانُوا هُنَاكَ فِي أَيْديهم مستضعفين فَلَو دَخَلْتُم الْحَرْب لوطأتهم الْخَيل وهلكوا وَلَو تزيلوا أَي فارقوهم وزايلوهم لعذبنا الَّذين كفرُوا أَي لنسلطنك عَلَيْهِم بِالْحَرْبِ حَتَّى تقتلهم وَلَكِن هيأ الصُّلْح وَحبس النَّاقة فبركت فَلَمَّا بَركت قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَبسهَا حَابِس الْفِيل لَا تَدعُونِي الْيَوْم قُرَيْش إِلَى خطة فِيهَا صلَة الرَّحِم إِلَّا أَعطيتهم إِيَّاهَا
وَكَانَ رجال مُؤمنُونَ وَنسَاء مؤمنات فِي أصلاب الْآبَاء وأرحام الْأُمَّهَات لم يخرجهم الله تَعَالَى إِلَى الدُّنْيَا وَكَانَ فِي سَابق علمه أَنه يخرجهم إِلَى مُدَّة وأسماؤهم مَكْتُوبَة فِي اللَّوْح بالسعادة من الله تَعَالَى فَلَو دخلوها عنْوَة لهلك آباؤهم وأمهاتهم فِي الْحَرْب ومعرة الْجَيْش فَلَو تزيلوا أَي زايلوا الأصلاب والأرحام لعذبنا الَّذين كفرُوا أَي الْآبَاء والأمهات الْكَفَرَة وأنجينا هَؤُلَاءِ الْأَطْفَال الَّذين هم فِي علمي أوليائي فَهَيَّأَ الله عز وجل الصُّلْح بَينهم حَتَّى تَوَالَدُوا وَخَرجُوا من أصلاب آبَائِهِم من يعبد الله وَحده وتهيأ للمستضعفين حَال نجاح وَفتح الله تَعَالَى مَكَّة شرفها الله تَعَالَى من الْعَام الثَّالِث عَلَيْهِم وأظفره بهم
وَمن قبل فتح مَكَّة سهل الله سَبيله حَتَّى جَاءَ قَاضِيا لعمرته فِي ذَلِك الشَّهْر الَّذِي كَانَ جَاءَ أول عَام الْحُدَيْبِيَة فَاعْتَمَرَ وغاظ الْمُشْركين فِي ذَلِك واقتص الله عز وجل لنَبيه صلى الله عليه وسلم مِنْهُم كَمَا ردُّوهُ وصدوه عَن الْعمرَة فَأنْزل الله تَعَالَى {الشَّهْر الْحَرَام بالشهر الْحَرَام والحرمات قصاص}
ثمَّ فتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ مَكَّة من الْعَام الثَّالِث من الْحُدَيْبِيَة وَهُوَ سنة
ثَمَان من الْهِجْرَة وَكَانَت الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ وَقَضَاء الْعمرَة فِي سنة سَبْعَة وافتتح مَكَّة سنة ثَمَان من الْهِجْرَة فغص الْمَسْجِد الْحَرَام بأصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَكَانَ فِي عشرَة آلَاف حَتَّى لم تَجِد نَاقَته موضعا تبرك فِيهِ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام حَتَّى دنا من الْبَيْت فاحتملوه على أَيدي الرِّجَال فَدَعَا بالمفتاح فَفتح لَهُ فَدخل الْبَيْت فصلى فِيهِ ثمَّ خرج فَوقف على الْبَاب فَقَالَ الله أكبر الله أكبر صدق الله وعده ونصرعبده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده
فَانْظُر إِلَى هَذِه الْكَلِمَات عظم ربه وَصغر مَا دونه بتعظيمه ثمَّ قَالَ صدق الله وعده نشر عَن ربه الْجَمِيل بِأَنَّهُ وَفِي لَهُ ثمَّ قَالَ وَنصر عَبده رأى النَّصْر من عِنْده وَرَأى دوران الْأُمُور بِهِ وَنظر إِلَى تَدْبيره من لدن مبعثه وَمَا لَقِي مِنْهُم من الْأَذَى وَالضَّرْب والشتم والمصائب وَمَا حرم أَقَاربه وأرحامه من بركَة مَا جَاءَ بِهِ والى النَّاس من افناء النَّاس غرباء كَيفَ رزقوا ذَلِك وَاحِد من الرّوم وَوَاحِد من الْحَبَشَة وَآخر من فَارس وَوَاحِد من الْخيام وَآخر من حَضرمَوْت وبلاد الشَّام وَأَبُو لَهب وَأَبُو طَالب وَولد عمومته حَارَبُوهُ وعادوه وأخرجوه من بِلَاد الله وَمن وَطنه وَبَيت الله الْحَرَام وغربوه وتواطئوا على قَتله وطلبوه فَلم يظفروا بِهِ وَانْظُر إِلَى تَدْبِير الله تَعَالَى فِي الْأَنْصَار وبذلهم أنفسهم قَالَ الله تَعَالَى {فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ فقد وكلنَا بهَا قوما لَيْسُوا بهَا بكافرين}
ثمَّ حروبهم ببدر وَاحِد وَتلك الْعَجَائِب الَّتِي كَانَت هُنَاكَ مرّة لَهُم وَمرَّة عَلَيْهِم إِلَى يَوْم الْحُدَيْبِيَة وصلحه وَأَنَّهُمْ قد وضعُوا الْحَرْب فِيمَا قد وضعُوا الْحَرْب فِيمَا بَينهم عشر سِنِين فَضَاقَ عمر رضي الله عنه بذلك يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَلم يعلم أَن الله تَعَالَى سيفتح لَهُم مَكَّة فِي الْعَام الثَّالِث من
عَامهمْ فِي أعز نصر وأوفر جمع فَحسن الظَّن وَسُوء الظَّن هَهُنَا يتيبن فَرَأى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمئِذٍ جميل صنع الله تَعَالَى فِي أمره فَقَالَ الله أكبر صدق الله وعده وَنصر عَبده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده
فَلَو شَاءَ الله تَعَالَى لبعث مَعَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مَلَائكَته عليهم السلام مَعَهم الشهب فيدمرون على من جَحده وَلَكِن تَدْبِير الله تَعَالَى فِي عباده فِي التؤدة والتأني والرفق بهم ليتسعوا مَعَ تَدْبيره فَإِن الإتساع مَعَ تَدْبيره عبودة والضيق من الاستبداد وكزازة النَّفس والعبودية الصادقة أَن يَدُور مَعَ تَدْبِير الله تَعَالَى فِي الْأَحْوَال كَيفَ مَا دارت فهناك تكون عِنْد الله تَعَالَى رَاضِيا فِي الْأَحْوَال فيرضى عَنْك وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية} إطمأنت إِلَى الله سبحانه وتعالى وَمَاتَتْ شهواتها وَذهب استبدادها فرضيت عَن الله تَعَالَى فِي أحوالها على اخْتِلَاف محبوبها ومكروهها فَرضِي الله عَنْهَا
فَلَمَّا تكلم على بَاب الْكَعْبَة بِمَا تكلم قَالَ لأهل مَكَّة وَهُوَ حوله مَاذَا تَقولُونَ وماذا ترَوْنَ أَنِّي صانع بكم قَالُوا أَخ كريم وَابْن أَخ كريم قَالَ فَإِنِّي أَقُول كَمَا قَالَ أخي يُوسُف لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ
قَالَ عمر رضي الله عنه وانتضحت عرقا من الْحيَاء من قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ أَنِّي كنت قلت لَهُم حِين دَخَلنَا مَكَّة الْيَوْم ننتقم مِنْكُم ونفعل ونفعل فَلَمَّا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ استحييت من قولي
فَهَكَذَا يكون فعل النَّاظر إِلَى تَدْبِير الله تَعَالَى فيهم من قبل فِي تِلْكَ الْأُمُور الْمَاضِيَة وحكمته
وَأَيْضًا قصَّة أُخْرَى فِي شَأْن أبي جندل بن سُهَيْل بن عَمْرو وَكَانَ مُسلما فِي أَيدي الْمُشْركين مُقَيّدا بِمَكَّة فَلَمَّا جَاءَ سُهَيْل بن عَمْرو أَبوهُ يُرَاجع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الصُّلْح وَهُوَ بعض رُؤَسَائِهِمْ أبرم الصُّلْح وَكتب الْكتاب فجَاء ابْنه أَبُو جندل يرسف فِي قيوده قد انفلت من محبسه فَقَالَ يَا مُحَمَّد يَا رَسُول الله إِنِّي مُسلم فِي أَيدي الْمُشْركين واستغاث برَسُول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين فَقَامَ إِلَيْهِ أَبوهُ فَضرب وَجهه ورده وَقَالَ يَا مُحَمَّد لقد لجت الْقَضِيَّة فِيمَا بَيْننَا فَتَركه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي يَده حَتَّى رده فكاد الْمُسلمُونَ أَن يفتتنوا فِي ذَلِك الْأَمر وَأَخذهم الغيظ الشَّديد وَلم يقدروا على شَيْء من الصُّلْح وَكَانَ وَقع الصُّلْح بَينهم على أَن من صَار من الْمُشْركين إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مُسلما أَن يرد عَلَيْهِم وَمن صَار من الْمُسلمين إِلَيْهِم مُرْتَدا لم يطْلب فأجابهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِك فَتحَرك أَصْحَابه فِي ذَلِك فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من جَاءَنَا مُسلما فرددناه عَلَيْهِم فَإِن الله عز وجل جَاعل لَهُ فرجا ومخرجا وَمن صَار إِلَيْهِم مُرْتَدا فالى النَّار فَمَا نصْنَع بِمن ارْتَدَّ عَن دين الله
فَأنْظر إِلَى حسن ظَنّه حَيْثُ قَالَ فَإِن الله جَاعل لَهُ فرجا ومخرجا فَكيف لَا يحسن ظَنّه وَقد أوحى إِلَيْهِ عز وجل وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب
فالوحي قد نجع فِيهِ وانكشف الغطاء عَن قلبه حَتَّى عاين حسن تَدْبِير الله وصنائع ربه وعرفه بالمجد وَالْكَرم فَذهب سُهَيْل بن عَمْرو بِابْنِهِ إِلَى
مَكَّة فِي قيوده وَرجع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَة فَفتح خَيْبَر فَقَالَ عمر رضي الله عنه كنت أماشي أَبَا جندل وَهُوَ فِي قيوده وَهُوَ جنب أَبِيه وأهوى بمقبض سَيفي نَحوه أدنيه مِنْهُ وَأَقُول يَا أَبَا جندل لِيهن عَلَيْك فانما دم أحدهم دم كلب وَأدنى قَائِمَة السَّيْف مِنْهُ رَجَاء أَن يَأْخُذ السَّيْف فَيضْرب بِهِ أَبَاهُ قَالَ فضن الرجل بِأَبِيهِ وَسُهيْل آخذ بتلبيبه يجره إِلَى الْمنزل وَأَبُو جندل يصْرخ يَا معشر الْمُسلمين أرد الى الْمُشْركين يفتنونني عَن ديني فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اصبر واحتسب أَبَا جندل فَإِن الله عز وجل جَاعل لَك وللمسلمين فرجا إِنَّا قد عَقدنَا بَيْننَا وَبَين الْقَوْم صلحا وانا لن نغدر
فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم يلبث إِلَّا قَلِيلا حَتَّى انفلت أَبُو جندل من قيوده وَمر إِلَى نَاحيَة الْبَحْر على طَرِيق الشَّام فَقعدَ هُنَاكَ لِأَنَّهُ قد علم أَنه إِن صَار إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد بدا من رده عَلَيْهِم لما جرى بَينهم فِي الصُّلْح من ذَلِك فَأَقَامَ هُنَاكَ أَيَّامًا فَكَانَ كل من سمع بِهِ من الشذاذة المنفلتين مِمَّن هم فِي مجَالِس الْمُشْركين لحق بِهِ حَتَّى توافوا نَحوا من سبعين رجلا فَقطعُوا على الْمُشْركين عيرهم وَأخذُوا أَمْوَالهم وأضروا حَتَّى بلغ من أَمرهم وَمَا تأذى بهم الْمُشْركُونَ أَن وجهوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أَن يضمهم إِلَى نَفسه حَتَّى يرْتَفع عَنْهُم ضررهم ثمَّ أسلم سُهَيْل بن عَمْرو وَقتل شَهِيدا فِي خِلَافه عمر رضي الله عنه
قَالَ أَبُو عبد الله فَأهل سَعَة الصَّدْر عاشوا مَعَ الله تَعَالَى فِي دَار الْحَبْس والضيق عَيْش أهل الْجنان وَإِنَّمَا نالوا ذَلِك كُله بذلك النُّور الَّذِي إنشرح بِهِ صُدُورهمْ فاتسعت لتدبير الله تَعَالَى وان الله تَعَالَى دبر للعباد امور امرن
النُّفُوس سلوك طَرِيق ذَلِك التَّدْبِير وعرفوه ووطنوه ثمَّ لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِك التَّدْبِير تَدْبِير آخر مُخْتَصّ
فَأهل الضّيق يتحيرون ويضيقون وَمن عاين الصنعين والتدبيرين لم يضق وان لله عز وجل فِي كل تَدْبِير مَشِيئَة إِن شَاءَ أَمْضَاهُ وَإِن شَاءَ أَخّرهُ فالتدبير الَّذِي قد وَطنه النَّاس ان يكون بِالْوَلَدِ من ذكر وانثى فاختص الله تَعَالَى لعيسى عليه السلام تدبيرا فَحملت بِهِ مَرْيَم من غير ذكر فتحير فِيهِ عُلَمَاء ذَلِك الزَّمَان وَأَحْبَارهمْ وَهلك فِيهِ الْعَام والسفهاء وَأدْركَ مَرْيَم رضي الله عنه بعض تِلْكَ الْحيرَة فَقَالَت
أَنى يكون لي ولد وَلم يمسسني بشر وَلم أك بغيا {قَالَ كَذَلِك الله يخلق مَا يَشَاء}
فَأَبْصَرت وأذعنت لحكم رَبهَا تَعَالَى وتقدس فاستوجبت بذلك أَن أثنى عَلَيْهَا رب الْعَالمين فَقَالَ وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا وَقَالَ وامه صديقَة
وَكَذَلِكَ فعل زَكَرِيَّا عليه السلام فِيمَا بشر بِهِ من الْوَلَد بعد الْكبر وَكَذَلِكَ رزق مَرْيَم رضي الله عنه {كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب وجد عِنْدهَا رزقا قَالَ يَا مَرْيَم أَنى لَك هَذَا قَالَت هُوَ من عِنْد الله إِن الله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب}
فقد علم النَّاس أَرْزَاقهم من مظانها من السُّوق وَمن الكدح وَمن
الْكَرم وَمن الْكيس وَمن أَيدي الْخلق فرزقت على وَجه التَّدْبِير الْمُخْتَص مِمَّا لم تمسه أَيدي الْعَالمين فأبصر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم التدبيرين وَدخُول أَحدهمَا فِي الآخر وخفاء شَأْنهمَا فَسَأَلَ التَّوْفِيق وَسَأَلَ مَعَ التَّوْفِيق أَن لَا يكون من نَفسه إِذا وَفقه تلكأ وَسَأَلَهُ إِذا وَفقه فَلم يُوَافق شَهْوَة نَفسه أَن يحسن الظَّن بِهِ فقد يكون الرجل من أهل الْغَفْلَة يَقُول اللَّهُمَّ اختر لي ووفقني فَإِذا وَفقه هرب من مُخْتَار الله وَدفع عَن نَفسه ذَلِك
بلغنَا أَن مُوسَى عليه السلام قَالَ يَا رب أَي عِبَادك أَكثر ذَنبا قَالَ الَّذِي يتهمني قَالَ وَمن يتهمك يَا رب قَالَ الَّذِي يستخيرني فِي الْأُمُور فَإِذا اخْتَرْت لَهُ لم يرض بقضائي وخيرتي
وَأَيْضًا قصَّة أُخْرَى فِي شَأْن بدر وعدهم الله تَعَالَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لكم الظفر بالعير أَو الظفر بالعدو الَّذِي انتدب من مَكَّة وهم رُؤَسَاء الْكفْر وصناديد قُرَيْش
وَكَانَ محاب الله تَعَالَى فِي ذَلِك أَن يظفروا بالعدو فيقتلهم على أَيْديهم وَيقطع دابرهم ومحابهم الظفر بالعير ليتقووا بِهِ وينكوا فيهم فَقَالَ فِي تَنْزِيله الْكَرِيم وتودون أَن غير ذَات الشَّوْكَة تكون لكم الْآيَة
-
الأَصْل السَّابِع وَالسِّتُّونَ
-
فِي عِقَاب من غش الْعَرَب
عَن عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من غش الْعَرَب لم يدْخل فِي شَفَاعَتِي وَلم تنله مودتي
غش الْعَرَب أَن يصدهم عَن سَبِيل الْهدى أَو يحملهم على أُمُور يبعدون بهَا عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمن فعل ذَلِك فقد قطع الرَّحِم فِيمَا بَينهم وَبَين الرَّسُول صلى الله عليه وسلم
وَمن غشهم أَيْضا أَن يحسدهم على مَا آتَاهُم الله من فَضله وَأَن يضع مَا رَفعه الله ويغمر فَضلهمْ وَالْأَخْبَار قد أَتَت بفضلهم
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله تَعَالَى قسم الْخلق قسمَيْنِ فجعلني فِي خيرهما قسما فَذَلِك قَوْله
تَعَالَى وَأَصْحَاب الْيَمين مَا أَصْحَاب الْيَمين وَأَصْحَاب الشمَال مَا أَصْحَاب الشمَال فَأَنا من أَصْحَاب الْيَمين وَأَنا خير أَصْحَاب الْيَمين
ثمَّ جعل الْقسمَيْنِ أَثلَاثًا فجعلني فِي خَيرهمْ ثلثا فَلذَلِك قَوْله تَعَالَى فأصحاب الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة وَأَصْحَاب المشئمة مَا أَصْحَاب المشئمة وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ فَأَنا من السَّابِقين وَأَنا خير السَّابِقين
ثمَّ جعل الأثلاث قبائل فجعلني فِي خير قَبيلَة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم فَأَنا أتقى ولد آدم وَأكْرمهمْ على الله تَعَالَى وَلَا فَخر
ثمَّ جعل الْقَبَائِل بُيُوتًا فجعلني فِي خَيرهَا بَيْتا فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا}
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ بَيْنَمَا نَحن جُلُوس عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذْ مرت بِنَا امْرَأَة من بَنَات رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بعض الْقَوْم هَذِه ابْنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو سُفْيَان إِنَّمَا مثل مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فِي بني هَاشم كالريحانة فِي وسط النتن فَسمِعت الْمَرْأَة فَدخلت على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَذَكرته لَهُ فَخرج وَلَا أرَاهُ إِلَّا مغضبا فَصَعدَ الْمِنْبَر وَقَالَ مَا بَال أَقْوَال تبلغني عَن أَقوام أَن الله تَعَالَى خلق سبع
سموات فَاخْتَارَ الْعليا فسكنها وأسكن سمواته من شَاءَ من خلقه وَخلق سبع أَرضين فَاخْتَارَ الْعليا فأسكنها خلقه ثمَّ اخْتَار خلقه فَاخْتَارَ بني آدم ثمَّ اخْتَار بني آدم فَاخْتَارَ الْعَرَب ثمَّ اخْتَار الْعَرَب فَاخْتَارَ مُضر ثمَّ اخْتَار مُضر فَاخْتَارَ قُريْشًا ثمَّ اخْتَار قُريْشًا فَاخْتَارَ بني هَاشم ثمَّ اخْتَار بني هَاشم فاختارني فَلم أزل خيارا من خِيَار أَلا فَمن أحب الْعَرَب فبحبي أحبهم وَمن أبْغضهُم فببغضي أبْغضهُم
عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَتَانِي جبرئيل عليه السلام فَقَالَ يَا مُحَمَّد إِن الله بَعَثَنِي فطفت شَرق الأَرْض وغربها وسهلها وجبلها فَلم أجد حَيا خيرا من الْعَرَب ثمَّ أَمرنِي فطفت فِي الْعَرَب فَلم أجد حَيا خيرا من مُضر ثمَّ أَمرنِي فطفت فِي مُضر فَلم أجد حَيا خيرا من كنَانَة ثمَّ أَمرنِي فطفت فِي كنَانَة فَلم أجد حَيا خيرا من قُرَيْش ثمَّ أَمرنِي فطفت فِي قُرَيْش فَلم أجد حَيا خيرا من بني هَاشم ثمَّ أَمرنِي أَن أخْتَار من أنفسهم فَلم أجد فيهم نفسا خيرا من نَفسك
إِنَّمَا ذكر النَّفس لِأَن الْأَخْلَاق هِيَ فِي النَّفس حسنها وسيئها فَهَذَا يدل على مَا قُلْنَا أَنه إِنَّمَا طَاف فِي هَذَا الْخلق يطْلب النُّفُوس الطاهرة الصافية الزاكية بمحاسن الْأَخْلَاق فَمن أجل ذَلِك اخْتَارَهُمْ فَلم ينظر إِلَى أَعْمَالهم فَإِنَّهُم كَانُوا أهل جَاهِلِيَّة إِنَّمَا نظر إِلَى أَخْلَاقهم فَوجدَ الْخَيْر فِي هَؤُلَاءِ وجواهر النُّفُوس مُتَفَاوِتَة بعيدَة التَّفَاوُت وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى خلق آدم عليه السلام من قَبْضَة
عَن قسَامَة بن زُهَيْر عَن الْأَشْعَرِيّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله تَعَالَى خلق آدم من قَبْضَة قبضهَا من جَمِيع الأَرْض فجَاء بَنو آدم على قدر الأَرْض جَاءَ مِنْهُم الْأَحْمَر وَالْأسود والأبيض وَمن ذَلِك السهل والحزن والخبيث وَالطّيب فالتربة الطّيبَة نفوسها سهلة
كَرِيمَة وَلَيْسَت فِيهَا كزازة وَلَا يبوسة وَلَا شعوثة فهم أَحْرَار كرام ولدتهم أمهاتهم من رق النُّفُوس وشهواتها وَالْآخرُونَ كَانَت الحزونة فِي تربتهم فَجَاءَت الكزازة والشعوثة والصعوبة ولدتهم أمهاتهم عبيدا قد ملكهم رق نُفُوسهم بشهواتها وَهُوَ قَول عِيسَى عليه السلام فِيمَا يعظ بِهِ بني إِسْرَائِيل فَقَالَ لَا عبيد أتقياء وَلَا أَحْرَار كرماء
مَعْنَاهُ لَسْتُم من العبيد الَّذين يجاهدون أنفسهم ويتقون الله وَلَا من الْأَحْرَار الَّذين نَجوا من رق النُّفُوس فَسَارُوا إِلَى الله تَعَالَى سير الْكِرَام بِلَا تعريج وَلَا تردد وَالْبخل والضيق والحدة والعجلة والحقد والحرص وَمَا أشبهه من كزازة النَّفس والجود والسماحة وَالسعَة واللين والتؤدة والتأني والرفق من سهولة النَّفس وطيبها فنفوس الْعَرَب بارزة أخلاقها لَا ينكرها إِلَّا معاند وَلَا يجحدها إِلَّا مارد إِنَّهَا أَخْلَاق الْكِرَام فَبِهَذَا فضلوا لَا بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيّ وَالله تَعَالَى يحب معالي الْأَخْلَاق وَيبغض مدانيها
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي يَوْم بدر أَنه سمع رجلا يَقُول بعد مَا انصرفوا من بدر إِنَّمَا قتلنَا عَجَائِز صلعا فَأنْكر ذَلِك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَه أُولَئِكَ الْمَلأ من قُرَيْش لَو نظرت إِلَى فعالهم لاحتقرت فعالك عِنْد فعالهم لَوْلَا أَن تطغى قُرَيْش لأخبرتها بِمَا لَهَا عِنْد الله تَعَالَى اللَّهُمَّ إِنَّك أذقت أول قُرَيْش نكالا فأذق آخرهَا نوالا
فالعرب بالأخلاق شرفوا وَإِلَّا فالشجرة وَاحِدَة وَهُوَ خَلِيل الرَّحْمَن
عَلَيْهِ السَّلَام وَمِمَّا يدلك على ذَلِك دعوات إِبْرَاهِيم عليه السلام حَيْثُ رفع الْقَوَاعِد من الْبَيْت وَأتم بناءه فَقَالَ رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك ثمَّ قَالَ وَمن ذريتنا أمة مسلمة لَك فَإِنَّمَا سَأَلَ من ذُرِّيَّة إِسْمَاعِيل عليه السلام خَاصَّة أَلا يرى أَنه قَالَ على أثر ذَلِك {رَبنَا وَابعث فيهم رَسُولا مِنْهُم} يَعْنِي مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم
فالإسلام هُوَ تَسْلِيم النَّفس وبذلها والجود بهَا وَمن جاد بِنَفسِهِ على الله تَعَالَى فَلَا أحد أحسن خلقا مِنْهُ وَلَا أكْرم مِنْهُ فَلَيْسَ الشَّأْن فِي الْجُود بِالْمَالِ إِنَّمَا الشَّأْن فِي الْجُود بِالنَّفسِ حَتَّى يُسلمهُ إِلَى خالقه فجرت هَذِه الدعْوَة فِي ولد إِسْمَاعِيل عليه السلام خَاصَّة أَن صيرهم أمة مسلمة لَهُ فوهب لَهُم أَخْلَاق الْكِرَام حَتَّى تكرمت نُفُوسهم على الله تَعَالَى بذلا حِين جَاءَهُم الرَّسُول عليه السلام وَمن قبل مَجِيء الرَّسُول صلى الله عليه وسلم كَانَت تِلْكَ الْأَخْلَاق ظَاهِرَة فيهم فَلَمَّا جَاءَهُم الرَّسُول عليه السلام وجدهم مهذبين كراما فصاروا صديقين وأبرارا وأتقياء وحكماء وعلماء بِاللَّه تَعَالَى باذلين مهجهم وَأَمْوَالهمْ لله تَعَالَى وَالسُّيُوف على عواتقهم وَالْحجر على بطونهم من الْجُوع وينصرون الله وَرَسُوله
وَبَنُو إِسْرَائِيل قَالُوا لمُوسَى عليه السلام إذهب أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ وَقيل لأمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم {إِن النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إِيمَانًا وَقَالُوا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل}
فَصَارَ قَوْلهم هُنَا كَقَوْل أَبِيهِم حَيْثُ ألقِي فِي النَّار حسبي من سُؤَالِي علمه بحالي فَهَل يُمكن أَن يَقُول هَذَا إِلَّا من حسن خلقه فجاد بِنَفسِهِ على الله تَعَالَى وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يَوْم أحد بعد مَا انْهَزمُوا وأصابتهم جراحات وَقتل من قتل مِنْهُم وَانْصَرف عَسْكَر الْمُشْركين فنزلوا مَكَانا وَتَآمَرُوا فِيمَا بَينهم أَن يجمعوا جمعا فيكروا عَلَيْهِم ودسوا إِلَى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هَذَا الْخَبَر ليفزعوهم فَانْتدبَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابه رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَفِيهِمْ من الْجِرَاحَات غير قَليلَة يمضون الى جمعهم وَفِيهِمْ مشَاة حَتَّى أَن الرجل ليغشى عَلَيْهِ فِي الطَّرِيق من كَثْرَة مَا يسيل من الدَّم من جراحته فيحمله صَاحبه يَسِيرُونَ بِمثل هَذَا الْحَالة إِلَى الْعَدو وَقَالُوا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل فوجدوا الْعَدو تفَرقُوا وذهبوا قَالَ الله تَعَالَى {فانقلبوا بِنِعْمَة من الله وَفضل لم يمسسهم سوء وَاتبعُوا رضوَان الله} وَلم يقل رِضَاء الله فان الرضْوَان أَكثر من الرِّضَا وَهُوَ غَايَة الرضاء
فنهاية الْعَرَب إِلَى إِسْمَاعِيل عليه السلام والشجرة وَاحِدَة وَهُوَ إِبْرَاهِيم خَلِيل الله عليه السلام وَلسَانه عبراني وأنهما غصنان لهَذِهِ الشَّجَرَة إِسْمَاعِيل واسحاق عليهما السلام فاسماعيل عَرَبِيّ اللِّسَان وَإِسْحَاق عبراني اللِّسَان فاسماعيل أَب الْعَرَب واسحاق أَب العبرانيين وهم بَنو إِسْرَائِيل نسبوا إِلَى يَعْقُوب عليه السلام إِسْرَائِيل الله تَعَالَى ابْن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَلكُل وَاحِد من الغصنين حَظّ من الله تَعَالَى وَنصِيب وفضيلة وكرامة وموهبة فَصَارَت وراثة فِي أولادهما إِلَى الْأَبَد فَظهر فِي ولد إِسْحَاق من تِلْكَ الموهبة والكرامة الْجهد وَالْعِبَادَة وَظهر فِي ولد
إِسْمَاعِيل حسن الْخلق والسماحة والشجاعة والموهبة إِنَّمَا تكون على قدر الْحَظ والجاه لَهُ عِنْده على قدر ذَلِك فَنَظَرْنَا إِلَى موهبه كل وَاحِد مِنْهُمَا وَمن أَي خزانَة أعطي لنستدل بِهِ على حظيهما مِنْهُ فَوَجَدنَا الْجهد وَالْعِبَادَة من خَزَائِن الْحِكْمَة والأخلاق من خَزَائِن الْمِنَّة فَنَظَرْنَا إِلَى الْحِكْمَة والْمنَّة من أَيْن بَدَت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فَوَجَدنَا الْحِكْمَة من الْعدْل بَدَت وَالْعدْل من الربوبية والربوبية من الْملك وَالْقُدْرَة وَوجدنَا الْمِنَّة أَنَّهَا بَدَت من الْعَطف والعطف من الْفضل وَالْفضل من الْجمال فَمن الْملك بدا الْغَضَب فأسعرت فاستجرت النَّار واسودت من الْغَضَب فَهِيَ سَوْدَاء مظْلمَة مشحونة بغضبه وَمن جماله بَدَت الرَّحْمَة وَظهر الْفضل والعطف حَتَّى اهتزت الْجنان وتوردت واستنارت بنوره فَهِيَ بَيْضَاء نورانية مشحونة برحمته وروحه وَإِنَّمَا هِيَ نظرة وجفوة فَأهل الثَّوَاب سعدوا مِنْهُ بنظرة وَاحِدَة وَأهل الْعقَاب شَقوا مِنْهُ بجفوة وَاحِدَة ففهمنا بمبلغ مَا علمنَا من ظَاهر مَا عَلَيْهِمَا وعَلى أولادهما من بعدهمَا مَا بطن من حظيهما وموهبتيهما وَإِنَّمَا كثر ولد إِسْحَق وظهروا فِي وَقت مُوسَى عليه السلام حَيْثُ أنقذهم من ملكة فِرْعَوْن وسخرته وَجَاء بالكتب من الله تَعَالَى وَظَهَرت العبودة لله تَعَالَى إِلَى وَقت عِيسَى عليه السلام ثمَّ صَارَت فَتْرَة فظهرت مَنَازِلهمْ ودرجاتهم وجواهر نُفُوسهم بِمَا عاملهم الله تَعَالَى وَمَا عاملوه وَكثر ولد إِسْمَاعِيل وَظهر شَأْنهمْ بمبعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَظَهَرت سيرتهم فِي دينهم وَمَا عاملهم الله تَعَالَى وَمَا عاملوه فَتبين لنا بفعليهما شَأْن نُفُوسهم ومحلهم من الله تَعَالَى وحظوظهم
عَن مَكْحُول رضي الله عنه قَالَ لما كثر بَنو معد أغار مِنْهُم اربعون فَارِسًا على عَسْكَر بني إِسْرَائِيل فيهم مُوسَى وَهَارُون عليهما السلام فملئوا أَيْديهم من الْغَنِيمَة وَرَجَعُوا بغنيمتهم لم يستنقذ مِمَّا فِي أَيْديهم شَيْء فَقَالُوا لمُوسَى عليه السلام أغار علينا بَنو معد وهم قَلِيل فَكيف لَو كَانُوا كثيرا وَأَنْتُم فِينَا فَكيف لَو لم تَكُونُوا فِينَا فَادع الله
عَلَيْهِم وَكَانَت الْأَنْبِيَاء عليهم السلام تفزع إِلَى الصَّلَاة فصلى فَقَالَ اللَّهُمَّ إِن بني معد أَغَارُوا على قومِي فَفَعَلُوا وفعلوا وَإِن قومِي أمروني أَن أَدْعُو عَلَيْهِم فَقيل لَهُ لَا تدع عَلَيْهِم فانهم عبَادي وانهم ينتهون إِلَى أَدَاء أَمْرِي وَإِنِّي أَغفر لَهُم أول مَا يستغفروني قَالَ يَا رب اجعلهم من أمتِي قَالَ نَبِيّهم مِنْهُم قَالَ يَا رب فَاجْعَلْنِي مِنْهُم قَالَ استقدمت واستأخروا
وَجَاء عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ فِي حَدِيث الْمِعْرَاج فَلَمَّا جَاوَزت مُوسَى عليه السلام فِي السَّمَاء السَّادِسَة بَكَى مُوسَى وَقَالَ يزْعم بَنو إِسْرَائِيل أَنِّي أكْرم ولد آدم على الله تَعَالَى وَهَذَا عبد أكْرم على الله مني وَلَو كَانَ وَحده هان وَلَكِن الله تَعَالَى قضى أَن مَعَ كل نَبِي تبعه من أمته ثمَّ انْطلق بِي إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة فَإِذا إِبْرَاهِيم عليه السلام ملزق ظهر هـ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُور وَمَعَهُ تبعه من أمته فَقَالَ لي جبرئيل هَذِه منزلتك ومنزلة أمتك وَهَذَا أَبوك إِبْرَاهِيم عليه السلام فَقَالَ تَعَالَى إِن أولى النَّاس بإبراهيم للَّذين اتَّبعُوهُ وَهَذَا النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه وَالله ولي الْمُؤمنِينَ
فَألْحق هَذِه الْأمة بابراهيم عليه السلام وضمهم فِي الْولَايَة جَمِيعًا وَلم يدْخل فِيهِ بَنو إِسْرَائِيل وهم ولد إِبْرَاهِيم أَيْضا فَبين فِي هَذَا الحَدِيث منزلتيهما ودرجتيهما وانما أرى فِي السَّمَاء الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وأتباعهم على درجاتهم وَإِبْرَاهِيم عليه السلام الْمُقدم عَلَيْهِم وَوصف الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم شَأْن الأمتين فَوَجَدنَا شَأْن بني إِسْرَائِيل يجْرِي على سَبِيل الْعدْل وأساس الربوبية وشأن فِي هَذِه الْأمة يجْرِي على سَبِيل الْفضل والألوهية فظهرت فِي بني إِسْرَائِيل السياحة والرهبانية وَعَلَيْهِم فِي شريعتهم الأغلال والآصاد
وَظَهَرت فِي هَذِه الْأمة السماحة والصديقية والشجاعة وَالْولَايَة وسيوف الله تَعَالَى فِي أَيْديهم يقتلُون اباق عبيده ويردونهم لله تَعَالَى للرق والعبودة وَفك عَنْهُم الأغلال وَوضع عَنْهُم الآصاد فصاروا فِي حد الْأُمَنَاء وَجعلت شريعتهم أسمح الشَّرَائِع وأوسعها فهم فِي عبودتهم فِي صُورَة الخدم وَبَنُو إِسْرَائِيل فِي عبودتهم فِي صُورَة عبيد الْغلَّة أَلا ترى أَنه لما خاطبهم تَعَالَى قَالَ يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وَإِيَّاك فارهبون كَمَا يَقُول الرجل لعَبْدِهِ أوف لي بِهَذِهِ الْغلَّة عِنْد كل هِلَال أوف لَك بِالْعِتْقِ فِي سنة كَذَا
ثمَّ قَالَ لهَذِهِ الْأمة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فَدَعَاهُمْ بالكنية كنية بَاطِنهَا منَّة وظاهرها مِدْحَة من عَلَيْهِم فِي الْبَاطِن بالايمان ثمَّ نسب ذَلِك إِلَى فعلهم فَقَالَ آمنُوا فمدحهم بذلك فبتلك الكنية دعاهم ودعا أُولَئِكَ فنسبهم إِلَى أَبِيهِم فَقَالَ (يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وَأَنِّي فضلتكم على الْعَالمين) أَي عالمي زمانكم وَلكُل زمَان عَالم
وَقَالَ لهَذِهِ الْأمة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ارْكَعُوا واسجدوا واعبدوا ربكُم} الْآيَة ثمَّ قَالَ وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده ثمَّ قَالَ {هُوَ اجتباكم} أَي اختاركم ثمَّ قَالَ وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج أَي من ضيق {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم} ثمَّ قَالَ {هُوَ سَمَّاكُم الْمُسلمين من قبل وَفِي هَذَا} أَي من
قبل أَن يخلقكم فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ سَمَّاكُم هَكَذَا وتكونوا شُهَدَاء على النَّاس فهم شُهَدَاء الله تَعَالَى للأنبياء عليهم السلام على الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة ليَكُون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا واعتصموا بِاللَّه هُوَ مولاكم فَنعم الْمولى وَنعم النصير
فَانْظُر إِلَى مُخَاطبَة بني إِسْرَائِيل فِي أَي صُورَة هِيَ وَانْظُر إِلَى مُخَاطبَة هَذِه الْأمة فِي أَي صُورَة هِيَ يتَبَيَّن لَك أَنهم فِي صُورَة عبيد الْغلَّة وَهَذِه الْأمة فِي صُورَة عبيد الْخدمَة وَعبيد الْخدمَة أولى بالسيد من عبيد الْغلَّة
فساحت بَنو إِسْرَائِيل بأبدانهم إِلَى الْجبَال فِي مفاوز الدُّنْيَا عزلة بالأبدان من الْخلق كي يصدقُوا الله تَعَالَى فِي طلب مَا عهد لَهُم ويوفوا بِعَهْد الله عَلَيْهِم
وساحت أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بقلوبهم فِي مفاوز الملكوت إِلَى خَالق الْعَرْش عزلة بالقلوب عَن همم النُّفُوس كي يصدقُوا الله فِي طلبه والوصول إِلَيْهِ
فَإِن الله تَعَالَى دَعَا الْخلق إِلَيْهِ فَقَالَ {اسْتجِيبُوا لربكم من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا مرد لَهُ من الله}
وَقَالَ تَعَالَى يأيها الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذْ دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ)
وَقَالَ الله تَعَالَى فِيمَا حكى عَنهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَيّ إِلَيّ يأهل الْمَوْت
الْمَوْت والفناء لَا إِلَى غَيْرِي فَإِنِّي قد قضيت بِالرَّحْمَةِ على نَفسِي وأوجبت الْمَغْفِرَة لمن استغفرني فَأَنا الْعَفو أعفو عَن صَغِير الذُّنُوب وكبيرها وَلَا أُبَالِي
فَلَمَّا أَبْطَأت النُّفُوس فِي الْإِجَابَة قَالَ {وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام}
فَأهل الِالْتِفَات إِلَى الثَّوَاب وَالْعِقَاب فِي الْحيَاء من الْفرق إِلَى الْقدَم بَين يَدَيْهِ غَدا لِأَن نُفُوسهم لم تسمح بالعبودة لِرَبِّهَا إِلَّا باسترواح إِلَى الثَّوَاب وهرب من الْعَذَاب فَهَذِهِ عبودة برشوة وعربون وَلَيْسَت عبودة الْأَنْبِيَاء وَلَا الصديقين وَلَا الْأَوْلِيَاء عليهم السلام فَجعل حظوظ بني إِسْرَائِيل على قُلُوبهم فِي دَار الدُّنْيَا حُقُوقه وَعَهده وَفِي الْآخِرَة جنانه ثَوابًا لرعاية حُقُوقه وَالْوَفَاء بعهده وحظوظ هَذِه الْأمة على قُلُوبهم فِي دَار الدُّنْيَا جَلَاله وعظمته وسلطانه وَمَعْرِفَة آلائه وفضله وَرَحمته وَفِي الْآخِرَة قربه وَرفع الْحجاب فِيمَا بَينه وَبينهمْ وَقَدَّمَهُمْ فِي الدُّنْيَا خُرُوجًا وأخرنا وَقدمنَا فِي الْجنَّة دُخُولا وأخرهم
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الْجنَّة مُحرمَة على الْأَنْبِيَاء حَتَّى أدخلها وعَلى الْأُمَم حَتَّى تدْخلهَا أمتِي
فبهذه الْأمة فتح العبودة يَوْم الْمِيثَاق وبهذه الْأمة يخْتم العبودة يَوْم تصرم الدُّنْيَا وبهذه الْأمة يفتح بَاب الرَّحْمَة فَيدْخلُونَ دَاره
ثمَّ ظَهرت من مُعَاملَة بني إِسْرَائِيل رَبهم وَمن مُعَاملَة هَذِه الْأمة رَبهَا مَا دلّت على نُفُوسهم وأخلاقهم ومحلهم من المكارم الَّتِي أعطيتا والمواهب فَكَانَت مكرمَة إِسْمَاعِيل عليه السلام بَيت الله الَّذِي خلقه قبل
السَّمَوَات وَالْأَرْض فَكَانَت زبدة بَيْضَاء إِذْ عَرْشه على المَاء مبوء الذّكر هُنَاكَ وَخلق ملكَيْنِ يسبحانه ويقدسانه على الزبدة فأبيضت فهناك مظهره ومعلمه ومبوء ذكره وَمَوْضِع تقديسه وَلَا سَمَاء وَلَا أَرض وَلَا خلق فولاه الله تَعَالَى رفع قَوَاعِد بَيته مَعَ أَبِيه دون إِسْحَاق عليهم السلام وَجعل حجابته بيد وَلَده فهم يحجبون ويأتون وانبط زَمْزَم سقيا لَهُ ولولده من بعده وَلِجَمِيعِ من أم الْبَيْت مُعظما وسَاق إِلَيْهِ عينا من عُيُون الْجنَّة فَفتح فِيهِ ينبوعا وَجعله مهبط رَحمته فِي كل يَوْم وَمِنْه تَنْتَشِر على أهل الدُّنْيَا فَيخْتَص مِنْهَا أَهلهَا بِمِائَة رَحْمَة وَعشْرين لأهل الدُّنْيَا
ومكرمة إِسْحَاق عليه السلام الصَّخْرَة الَّتِي إِلَيْهَا يجمع الْخلق ويحاسبهم وَهِي صَخْرَة من الْجنَّة عَلَيْهَا الأرضون السَّبْعَة وَهِي رَأس تِلْكَ الصَّخْرَة وَأما الْمُعَامَلَة فَإِنَّهُ لما جَاءَت المحنتان من الله تَعَالَى لَهما فِي وقتيهما برز مَا فِي نُفُوسهم وبرز مَا لَهُم من الْحَظ فِي الْغَيْب عِنْده بالمحنة فَإِن السَّيِّد إِذا كَانَ لَهُ عبيد فَإِنَّمَا يتَبَيَّن لَهُ حظوظ العبيد مِنْهُ بمعاملته إيَّاهُم ويتبين جَوَاهِر نُفُوسهم بمعاملتهم إِيَّاه
وَإِنَّمَا كثر ولد إِسْحَاق عليه السلام فِي زمن يُوسُف عليه السلام بِمصْر بعد مَا حَاز الله تَعَالَى ليوسف عليه السلام مَدَائِن مصر وَأَسْكَنَهُ إِيَّاهَا وَجعل بِيَدِهِ خزائنها ودخلها إِسْرَائِيل وَهُوَ يَعْقُوب عليه السلام فِي سِتَّة وَسبعين نفسا من وَلَده وَولد وَلَده ونسلهم فأنمى الله تَعَالَى عَددهمْ وَبَارك فِي ذُريَّته حَتَّى خَرجُوا إِلَى الْبَحْر يَوْم غرق فِرْعَوْن وهم سِتّمائَة ألف من الْمُقَاتلَة سوى الشُّيُوخ والذرية وَالنِّسَاء وَجَاوَزَ عَددهمْ ألف ألف فَقَالَ الله تَعَالَى فِيمَا يحْكى عَنْهُم وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن يبْعَث الله من بعده رَسُولا
فَهَذَا قَوْلهم بعد أَن صيرهم مُلُوك مصر وأربابهم فَغير الله تَعَالَى مَا بهم فصاروا سخرة لآل فِرْعَوْن يخدمونهم خدمَة العبيد وَالْإِمَاء وَمن عجز عَن الْخدمَة لسنه وضع عَلَيْهِ الْغلَّة فاستودى مسَاء كل يَوْم فَإِن أعْطى وَإِلَّا غلت يَمِينه وَيقْتلُونَ أَبْنَاءَهُم مَخَافَة رُؤْيا فِرْعَوْن أَنه يُولد مِنْهُم مَوْلُود يكون هَلَاك ملكه على يَدَيْهِ فَبعث الله عز وجل مُوسَى عليه السلام ورحمهم بِهِ فَقَالَ فِي تَنْزِيله الْكَرِيم ونريد أَن نمن على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض ونجعلهم أَئِمَّة
الْآيَة فَجعل فيهم الْأَنْبِيَاء وَبث فيهم الْكتب وجعلهم أهل عبَادَة وَجهد وميثاق وعهد وأنقذ الله بني إِسْرَائِيل من ملكة فِرْعَوْن وعذابه وسخرته بمبعث مُوسَى عليه السلام وغرق فِرْعَوْن وَجعل لَهُم فِي الْبَحْر طَرِيقا يبسا فَلَمَّا جاوزوه قَالُوا يَا مُوسَى إِن قُلُوبنَا لَا تطمئِن ان فِرْعَوْن غرق حَتَّى أَمر الله تَعَالَى الْبَحْر فلفظه فنظروا إِلَيْهِ فَلَمَّا اطمأنوا وصاروا من طَرِيق الْبر إِلَى مَدَائِن فِرْعَوْن حَتَّى نقلوا كنوزه وغرقوا فِي النِّعْمَة رَأَوْا قوما يعكفون على أصنام لَهُم فَقَالُوا يَا مُوسَى إجعل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة حَتَّى زجرهم مُوسَى عليه السلام وَقَالَ {أغير الله أبغيكم إِلَهًا وَهُوَ فَضلكُمْ على الْعَالمين} أَي عالمي زمانهم
ثمَّ أَمرهم أَن يَسِيرُوا إِلَى الأَرْض المقدسة الَّتِي كَانَت مسَاكِن آبَائِهِم ويتطهروا من أَرض فِرْعَوْن وَكَانَت الأَرْض المقدسة فِي أَيدي الْجَبَابِرَة قد غلبوا عَلَيْهَا فَقَالُوا لَهُ أَتُرِيدُ أَن تجعلنا لحْمَة للجبارين لَو تركتنا فِي يَدي فِرْعَوْن كَانَ خيرا لنا قَالَ {يَا قوم ادخُلُوا الأَرْض المقدسة} الْآيَة قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لن ندْخلهَا أبدا مَا داموا
فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك) الْآيَة حَتَّى دَعَا عَلَيْهِم وَسَمَّاهُمْ فاسقين فبقوا فِي التيه أَرْبَعِينَ سنة عُقُوبَة
ثمَّ رَحِمهم فَمن عَلَيْهِم بالمن والسلوى وبالغمام يظللهم وبالحجر ينفجر مِنْهُ اثْنَتَيْ عشرَة عينا إِذا ضربه بعصاه فَقَالُوا لَو أَن مُوسَى انْكَسَرَ عَصَاهُ لمتنا عطشا فَأوحى الله تَعَالَى إِلَى مُوسَى عليه السلام إِذا كَانَ وَقت المَاء فَكلم الْحجر وَلَا تضربه بالعصى حَتَّى ينفجر مِنْهُ المَاء من الْعُيُون بكلمتك ثمَّ سَار مُوسَى عليه السلام إِلَى طور سيناء ليجيئهم بِالتَّوْرَاةِ فاتخذوا الْعجل فَقَالَ لَهُم السامري هَذَا إِلَهكُم واله مُوسَى فاطمأنوا إِلَى قَوْله ونهاهم هَارُون عليه السلام فَقَالَ {يَا قوم إِنَّمَا فتنتم بِهِ وَإِن ربكُم الرَّحْمَن فَاتبعُوني وَأَطيعُوا أَمْرِي قَالُوا لن نَبْرَح عَلَيْهِ عاكفين حَتَّى يرجع إِلَيْنَا مُوسَى}
فَلم يتبع هَارُون وَلم يطعه فِي ترك الْعجل إِلَّا إثني عشر ألفا فِيمَا رُوِيَ فِي الْخَبَر وتهافت فِي عِبَادَته سَائِرهمْ وهم أَكثر من ألفي ألف فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى ألْقى الألواح فَرفع من التَّوْرَاة سِتَّة أَجزَاء وَبَقِي جُزْء وَاحِد وَهُوَ من مائَة حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرَة وورمت بطونهم فتابوا فَلم تقبل تَوْبَتهمْ دون أَن يقتلُوا أنفسهم فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم}
فَقَامُوا بالخناجر وَالسُّيُوف بَعضهم على بعض من لدن طُلُوع الشَّمْس إِلَى ارْتِفَاع الضُّحَى لَا يسْأَل وَالِد عَن ولد وَلَا ولد عَن وَالِد وَلَا أَخ عَن أَخِيه كل من استقبله ضربه بِسَيْفِهِ وضربه الآخر بِمثلِهِ حَتَّى عج مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الله تَعَالَى صَارِخًا يَا رباه قد فنيت بَنو إِسْرَائِيل فَرَحِمهمْ الله تَعَالَى فَقبل تَوْبَة من بَقِي وَجعل من قتل فِي الشُّهَدَاء
ثمَّ قَالُوا يَا مُوسَى أرنا الله جهرة فَجَاءَت صَاعِقَة فأحرقت من جمعهم أَرْبَعِينَ ألفا فِيمَا جَاءَ فِي الْخَبَر ثمَّ عرض عَلَيْهِ مَا فِي التَّوْرَاة ليقبلوها فَأَبُو وَقَالُوا لَا نطيق هَذَا فنتق الله عَلَيْهِم الْجَبَل ونودوا مِنْهَا خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة وَإِلَّا رميناكم بِالْجَبَلِ فسجدوا على حُرُوف وُجُوههم ينظرُونَ إِلَى الْجَبَل وَيَقُولُونَ قبلنَا قبلنَا ثمَّ قيل لَهُم قد وصلتم الى بَيت الْمُقَدّس وادخلوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة أَي حط عَنَّا بِمَنْزِلَة قَوْله اسْتغْفر الله
جَاءَ فِي الْخَبَر أَنهم أمروا أَن يدخلُوا الْبَاب سجدا على ركبهمْ فَعلم الله تَعَالَى مِنْهُم ضيق أَخْلَاقهم وَأَنَّهُمْ لن يدخلوها سجدا فَلَمَّا صَارُوا الى الْبَاب طوطىء لَهُم الْبَاب حَتَّى لم يُمكنهُم أَن يدخلوها قيَاما فكزت نُفُوسهم والتوت وانكشف سوء أَخْلَاقهم فاستلقوا على ظُهُورهمْ زحفا على الإستاه وهم يَقُولُونَ حِنْطَة حِنْطَة هطى سمقائا سخرية واستخفافا بِمَا أعْطوا قَالَ الله تَعَالَى فبدل الَّذين ظلمُوا قولا غير الَّذِي قيل لَهُم الْآيَة
وَكَانَ مُوسَى عليه السلام شَدِيد الْحيَاء ستيرا فَقَالُوا انه آدر فَلَمَّا اغْتسل وضع على الْحجر ثَوْبه فَعدى الْحجر بِثَوْبِهِ الى مجَالِس بني اسرائيل ومُوسَى على أَثَره عُرْيَان وَهُوَ يَقُول يَا حجر ثوبي فَذَلِك قَوْله
تَعَالَى وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى فبرأه الله مِمَّا قَالُوا
ثمَّ لما مَاتَ هَارُون قَالُوا لَهُ أَنْت قتلت هَارُون وحسدته حَتَّى نزلت الْمَلَائِكَة بسريره وَهَارُون ميت عَلَيْهِ ثمَّ سالوه أَن يكون مَا نقدم من أَمْوَالنَا نعلم تقبلهَا فَجعلت نَار تَجِيء من السَّمَاء فَتقبل قُرْبَانهمْ
ثمَّ سَأَلُوهُ أَن يبين لنا كَفَّارَات ذنوبنا فِي الدُّنْيَا فَكَانَ من أذْنب ذَنبا أصبح وعَلى بَابه مَكْتُوب عملت كَذَا وكفارته قطع عُضْو من أعضائك يُسَمِّيه لَهُ وَمن أَصَابَهُ بَوْل لم يطهر حَتَّى يقْرضهُ ويزيل جلدته من بدنه
ثمَّ بدلُوا التَّوْرَاة من بعده وافتروا على الله وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِم ليشتروا بِهِ من الدُّنْيَا عرضا ثمَّ صَار أَمرهم إِلَى أَن قتلوا أَنْبِيَائهمْ عليهم السلام فَهَذِهِ معاملتهم مَعَ الله تَعَالَى وسيرتهم فِي دينهم قد انْكَشَفَ لنا عَن جواهرهم وأخلاقهم وحظوظهم عَن رَبهم بِمَا أنزل الله علينا من أخبارهم وَلمن كَانَ لَهُ فهم
وَأما ولد إِسْمَاعِيل عليه السلام فَجعل فيهم السخاء هم أولو الْأَخْلَاق السّنيَّة والمكارم ومنحهم من خزائنه تِلْكَ الْأَخْلَاق الطاهرة الَّتِي عَيْش أَهلهَا عَيْش أهل الْجنان فَإِن صَاحب الْأَخْلَاق قلبه فِي رَاحَة لِأَن نَفسه طيبَة كَرِيمَة وَصَاحب الضّيق قلبه معذب لِأَن نَفسه شكسة كزة يابسة فقيرة هَذَا من قبل أَن تأتيهم الْهِدَايَة فَلَمَّا جَاءَتْهُم الْهِدَايَة من الله تَعَالَى ورد على قُلُوب بني إِسْرَائِيل نور التَّوْحِيد وروحه وَتركُوا مَعَ مجاهدة نفس كزة يابسة ضيقَة وَورد على قُلُوب هَذِه الْأمة نور التَّوْحِيد وروحه وَنور الْيَقِين وروحه فقلوب بني إِسْرَائِيل مؤيدة بِالتَّوْحِيدِ معذبة بكزازة النَّفس وضيقها وَقُلُوب هَذِه الْأمة مؤيدة بِالتَّوْحِيدِ مستريحة بِنور
الْيَقِين وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى} {قل إِن الْهدى هدى الله أَن يُؤْتى أحد مثل مَا أُوتِيتُمْ} {قل إِن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء} وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا {يخْتَص برحمته من يَشَاء}
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَيْت أمة من الْيَقِين مثل مَا أَعْطَيْت أمتِي وَمثل من أعطي الْيَقِين وَمن حرم ذَلِك كَمثل شَجَرَة لَهَا غصنان والسقيا وَاحِد فَلَمَّا جرى المَاء إِلَى أحد الغصنين تحول طيبا بِإِذن الله تَعَالَى وَجرى فِي الْغُصْن الآخر فتحول ثمارا فَمن الثِّمَار حُلْو وحامض ومدخول وعفن وَمر فَمِنْهُ مَا ينْتَفع بِهِ وَمِنْه مَا ينفى فَيرمى بِهِ وَالطّيب يطيب بِهِ كل شَيْء من الْمَأْكُول والمشروب والملبوس والمركوب والمنكوح
فَهَذِهِ الْأمة نفوسها طيبَة أيدت بِروح الْيَقِين فَخرجت الْأَعْمَال طيبَة فِيهَا الهناءة والمراءة يهنأ بهَا الْحق ويستمرىء بهَا
فولد إِسْمَاعِيل عليه السلام لم يزَالُوا مذكورين بالسماحة والأخلاق السّنيَّة يطْعمُون الطَّعَام ويفكون العاني ويكفلون الْأَيْتَام ويرعون الذمام وهم فِي شركهم وَلم يُسَلط عَلَيْهِم أحد فيسبيهم ويستخسرهم وَلَا صَارُوا ملكا لأحد من الفراعنة حَتَّى أكْرمهم الله تَعَالَى ببعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وصاغ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم صياغة برز على الْأَنْبِيَاء وَالرسل فَصَارَ
سيدا لجَمِيع ولد آدم عليه السلام وَأنزل عَلَيْهِ كتابا مهيمنا على الْكتب أجمل فِيهِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَاخْتصرَ لَهُ الْكَلم وزاده الْمفصل وفاتحة الْكتاب وَآيَة الْكُرْسِيّ وخاتمة سُورَة الْبَقَرَة من كنزه الَّذِي ادخره لهَذِهِ الْأمة ووصفهم فِي التَّوْرَاة بمحاسنهم لبني إِسْرَائِيل من قبل أَن يخلقهم بآلاف من السنين ولعيسى عليه السلام ولقومه فِي الْإِنْجِيل حَتَّى رُوِيَ فِي الحَدِيث أَن أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يسمون فِي التَّوْرَاة صفوة الرَّحْمَن وَفِي الْإِنْجِيل حكماء عُلَمَاء أبرار أتقياء كَأَنَّهُمْ من الْفِقْه أَنْبيَاء
وَقَالَ عز وجل فِي الْقُرْآن الْكَرِيم {ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} الْآيَة تَصْدِيقًا لما فِي التَّوْرَاة صفوة الرَّحْمَن وَقَالَ {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَقَالَ عز وجل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} أَي عدلا لتكونا شُهَدَاء على النَّاس
أَي شُهَدَاء للرسل بالبلاغ عِنْدَمَا تجحد الْأُمَم تَبْلِيغ الرُّسُل عليهم السلام رسالات الله تَعَالَى فَتشهد هَذِه الْأمة لنوح عليه السلام فَمن دونه رَسُولا رَسُولا أَنهم أَدّوا الرسَالَة فَيحكم الله تَعَالَى بِشَهَادَتِهِم على سَائِر الْأُمَم ويتخلص الرُّسُل عليهم السلام من أَمَانَة الرسَالَة وَذَلِكَ بعد مَا يعدلهم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا}
فَتكون شَهَادَة أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم يَوْمئِذٍ مَقْبُولَة على جَمِيع الْأُمَم
لجَمِيع الْأَنْبِيَاء عليهم السلام ثمَّ أَعْطَاهُم سَيْفه ليقتلوا بِهِ أعداءه وَلَا يقتل أعداءه إِلَّا أولياؤه ثمَّ قَالَ {وَالله ولي الْمُؤمنِينَ}
فهم أَوْلِيَاء الله وَالله تَعَالَى وليهم وهم أهل حميته وأنصاره فدعوا إِلَى الْحَرْب فوضعوا السيوف على عواتقهم وربطوا الْحجر على بطونهم من الْجُوع والخرق على ظُهُورهمْ من العري وَقد هجروا أوطانهم ومقرهم وَحرم الله تَعَالَى عَدَاوَة فِي الله لأهل الشّرك وَخَرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ ونابذوا أرحامهم فِي الله حَتَّى كَانَ الرجل يقتل أَبَاهُ وأخاه فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح رضي الله عنه مِمَّن قتل أَبَاهُ فَأنْزل الله تَعَالَى {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم}
ثمَّ أثنى عَلَيْهِم فَقَالَ {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ} الْآيَة
وَقَالُوا عِنْدَمَا استشارهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي شَيْء من أَمر الْحَرْب مرنا بِمَا شِئْت وسر بِنَا حَيْثُ شِئْت فَلَو سرت بِنَا الى برك الغماد لسرنا مَوضِع بعيد ذَكرُوهُ فوَاللَّه لَا نقُول لَك كَمَا قَالَت بَنو إِسْرَائِيل {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} الْآيَة
وافتتح خَيْبَر وغنم الْغَنَائِم فقسم فِي الْمُهَاجِرين وَلم يقسم فِي الْأَنْصَار لإنهم فِي أَمْوَالهم والمهاجرون خلفوا أَمْوَالهم بِمَكَّة وَكَانُوا فُقَرَاء
فسمحت الْأَنْصَار بذلك وَكَانُوا حِين قدمُوا الْمَدِينَة ناصفوهم الْأَمْوَال وواسوهم بالكثير حَتَّى كَانَ الرجل يُطلق إِحْدَى امرأتيه ليتزوجها أَخُوهُ المُهَاجر
هَذَا كُله لحب الله تَعَالَى وَحب طَاعَته وَحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأنْظر أَي قُلُوب هَذِه وَأي شَيْء فِي هَذِه الْقُلُوب من منن الله تَعَالَى من خَزَائِن فَضله وَانْظُر أَي نفوس هَذِه شيمها وَأنْظر أَي أَخْلَاق لهَذِهِ النُّفُوس اللَّهُمَّ إِنَّا نتقرب إِلَيْك بحبهم فَإِنَّهُم أحبوك وَلم يحبوك حَتَّى أَحْبَبْتهم فبحبك إيَّاهُم وصلوا إِلَى حبك وَنحن لم نصل إِلَى حبهم فِيك إِلَّا بحظنا مِنْك فتمم لنا ذَلِك حَتَّى نلقاك بِهِ يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ وَأثْنى الله تَعَالَى على الْأَنْصَار رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ ومدح سرائرهم فَقَالَ عز وجل {يحبونَ من هَاجر إِلَيْهِم وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا}
أَي لَا يَجدونَ ضيقا وَلَا بخلا وَلَا نفاسة فَمَا أُوتِيَ الْمُهَاجِرين من غنيمَة خَيْبَر وَلم يُؤْت الْأَنْصَار ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة
يخبر أَنه كَانَ بالأنصار فقر وحاجة إِلَى تِلْكَ الْغَنَائِم فآثروا الْمُهَاجِرين على أنفسهم ثمَّ أخبر أَن هَذَا من منَّة الله تَعَالَى على الْأَنْصَار أَن أمات مِنْهُم الْحِرْص وَهُوَ الشُّح فَقَالَ عز من قَائِل وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون
وَإِنَّمَا أمات مِنْهُم الْحِرْص بِمَا أَعْطَاهُم من الْيَقِين وَمَا يصنع من احتشى قلبه بِنور الله تَعَالَى وَيرى قربَة الله مِنْهُ بظلمات الدُّنْيَا وحطامها ولهوها وَسَار بهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى فتح مَكَّة وَهُوَ وطنهم وأرضهم
المقدسة كَمَا سَار بهَا مُوسَى عليه السلام فَمَا تلكأ مِنْهُم شَاب وَلَا شيخ حَتَّى فتح الله عَلَيْهِم من غير أَن يمسهم سوء ثمَّ قبض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فابتعث الله تَعَالَى لهَذَا الدّين أَئِمَّة صديقين خلفاء الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وأوتاد الْحق يقومُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ فتفاوت الْأَمْرَانِ والشأنان شَأْن بني إِسْرَائِيل وشأن هَذِه الْأمة
عَن سَالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قَالَ بَيْنَمَا رجلَانِ جالسان إِذْ قَالَ أَحدهمَا لقد رَأَيْت البارحة كل نَبِي فِي الأَرْض وَقَالَ آلاخر هَات قَالَ رَأَيْت كل نَبِي مَعَه أَرْبَعَة مصابيح مِصْبَاح من بَين يَدَيْهِ ومصباح من خَلفه ومصباح عَن يَمِينه ومصباح عَن يسَاره وَمَعَ كل صَاحب لَهُ مِصْبَاح ثمَّ رَأَيْت رجلا قَامَ أَضَاءَت لَهُ الأَرْض وكل شَعْرَة فِي رَأسه مِصْبَاح وَمَعَ كل صَاحب لَهُ أَرْبَعَة مصابيح مِصْبَاح من بَين يَدَيْهِ ومصباح من خَلفه ومصباح عَن يَمِينه ومصباح عَن يسَاره فَقلت من هَذَا قَالُوا مُحَمَّد بن عبد الله
قَالَ كَعْب رضي الله عنه مَا هَذَا الحَدِيث الَّذِي تحدث بِهِ قَالَ رُؤْيا رَأَيْتهَا البارحة قَالَ وَالَّذِي بعث مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ انها فِي كتاب الله كَمَا رَأَيْت
فبرز ولد إِسْمَاعِيل عليه السلام وهم الْعَرَب بِمَا منحهم الله تَعَالَى من أخلاقه
وَجَاء عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ ان لله مائَة وَسَبْعَة عشر خلقا من أَتَى بِوَاحِدَة مِنْهَا دخل الْجنَّة
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الْأَخْلَاق فِي الخزائن فاذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا منحه خلقا
أَلا يرى أَن الرجل المفرط فِي دينه المضيع لحقوقه يَمُوت وَقد كَانَ صَاحب خلق من هَذِه الْأَخْلَاق فتنطلق أَلْسِنَة الْعَامَّة بالثناء عَلَيْهِ والمؤمنون شُهَدَاء الله فِي الأَرْض كَذَلِك رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ مَاتَ رجل على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأثْنى عَلَيْهِ خير فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَجَبت ثمَّ مَاتَ آخر فأثني عَلَيْهِ شَرّ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَجَبت فَقيل لَهُ يَا رَسُول الله قلت لذَلِك وَجَبت وَقلت لهَذَا وَجَبت قَالَ إِنَّكُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض ثمَّ تَلا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا
إِذا مَاتَ صَاحب التَّخْلِيط انْطلق أَلْسِنَة الْمُؤمنِينَ بالثناء عَلَيْهِ فَيُقَال كَانَ سخي النَّفس فَيقبل الله شَهَادَتهم عَلَيْهِم ويدخله الْجنَّة بسخاوته وَيَمُوت أحدهم فَيُقَال كَانَ لينًا وَيُقَال كَانَ رحِيما وَيُقَال كَانَ حسن الْخلق وَيُقَال كَانَ حَلِيمًا وَيُقَال كَانَ رزينا وَكَانَ عطوفا أَو برا أَو متوددا وَكَانَ مواتيا منبسطا كَانَ سهلا كَرِيمًا كَانَ عفوا حمولا كَانَ عفيفا كَانَ شكُورًا كَانَ شجاعا صَارِمًا
فَهَذِهِ أَخْلَاق الله تَعَالَى أَكْثَرهَا مِمَّا تسمى بِهِ وَالَّذِي لم يتسم بِهِ فَهُوَ دَاخل فِيمَا تسمى بِهِ لِأَن اللين والرزانة من الْحلم وَالرَّحْمَة والعفاف من النزاهة وَالطَّهَارَة
فَمن منحه الله تَعَالَى وَاحِدَة من هَذِه الْأَخْلَاق يُعْطِيهِ نور ذَلِك الآسم
الَّذِي تسمى بِهِ رَبنَا عز وجل فيشرق نوره على قلبه وَفِي صَدره فَيصير لنَفسِهِ بذلك الْخلق بَصِيرَة فيعتادها ويتخلق بهَا فحقيق عَلَيْهِ إِذا أكْرمه بذلك أَن يهب لَهَا مساويه ويستره بمغفرته ويدخله الْجنَّة فَإِنَّهُ مَا أعطَاهُ ذَلِك حَتَّى أوجب لَهُ ذَلِك فِي غيبه
يُحَقّق ذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم انه قَالَ بَيْنَمَا رجل لم يعْمل خيرا قطّ فَرفع غُصْن شَوْكَة من الطَّرِيق وَقَالَ لَعَلَّ مارا يمر بِهِ فيؤذيه فغفر الله لَهُ وَإِنَّمَا غفر لَهُ بِالرَّحْمَةِ الَّتِي فِي قلبه وبالعطف الَّذِي عطف على خلقه
وَجَاء عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ بَيْنَمَا رجل حُوسِبَ فَلم تُوجد لَهُ حَسَنَة فَقَالَ الله تَعَالَى اذكر شَيْئا كنت تَفْعَلهُ فِي الدُّنْيَا قَالَ العَبْد لَا أذكر شَيْئا إِلَّا أَنِّي كنت أسامح النَّاس وآمر غلماني أَن يسامحوهم فِي اقْتِضَاء مَالِي مِنْهُم فَيَقُول الله تَعَالَى فَأَنا أَحَق الْيَوْم أَن أسامحك
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن الله تَعَالَى يحب كل عبد طلق سهل لين هَين وَحرمه على النَّار
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الراحمون يرحمهم الرَّحْمَن تبارك وتعالى ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء
وَقَالَ الْجنَّة دَار الأسخياء وَمَا جبل الله قطّ وليا لَهُ إِلَّا على السخاء ولجاهل سخي أحب إِلَى الله تَعَالَى من عَابِد بخيل
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم حسن الْخلق ذهب بِخَير الدَّاريْنِ وَيدْرك بِهِ الرجل دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم
فَهَذِهِ أَخْلَاق الْعَرَب منحها الله تَعَالَى إيَّاهُم وطهرهم بِالتَّوْحِيدِ وطيبهم بِالْيَقِينِ فعبدوا الله كَأَنَّهُمْ يرونه فشرع الله تَعَالَى لَهُم أوسع الشَّرَائِع وأسمحها وَستر عَلَيْهِم ذنوبهم وَجعل خُرُوجهمْ مِنْهَا بالندم وَالِاسْتِغْفَار وَقَالَ لبني إِسْرَائِيل عاقبوا أبدانكم بذنوبكم فَاقْطَعُوا مِنْهَا كَذَا وَتَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا على أبوابكم وَقَالَ لنا تُوبُوا إِلَى الله أَي ارْجعُوا إِلَيّ بقلوبكم فِيمَا بيني وَبَيْنكُم وَقَالَ لَهُم قُولُوا حطة أَي حط عَنَّا وَقَالَ لنا قُولُوا اغْفِر لنا
فجوهر هَذَا الْكَلَام غير ذَلِك وَإِنَّمَا صَار هَذَا هَكَذَا لِأَن كَلَام كل قوم عِنْد رَبهم على مَا هم عَلَيْهِ فبنو إِسْرَائِيل لم يكن عِنْدهم من الْيَقِين مَا عِنْد هَذِه الْأمة فَلَمَّا أذنبوا قيل لَهُم قُولُوا حطة وَهَذِه الْأمة بِفضل يقينها استحيت من الله تَعَالَى من الذَّنب الَّذِي يعمله وَكَأَنَّهُ رأى نَفسه خَارِجا من ستر الله عُريَانا فَأعْطى الْكَلِمَة الَّتِي تكون دَوَاء لما حل بِهِ فَقيل لَهُ قل إغفر فَمن استحيا من ذَنبه وَرَأى نَفسه عَارِيا بَين يَدي الله تَعَالَى قيل لَهُ قل اغْفِر وَمن عجز عَن رُؤْيَة هَذَا قيل لَهُ قل حطة وَصَارَت صَدَقَاتهمْ عودا بهَا على فقرائهم فطابت نُفُوسهم بِمَا رَأَوْا على فقرائهم من فَضلهمْ وسكنت قُلُوبهم على الصَّدقَات أَنَّهَا تصير إِلَى الله
تَعَالَى قَالَ الله تَعَالَى {أَن الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَأْخُذ الصَّدقَات}
وَقَالَ عليه السلام إِن الصَّدَقَة لتقع فِي يَد الله من قبل أَن يَأْخُذهَا السَّائِل
فرزقهم الله تَعَالَى من الْيَقِين مَا إِذا قبل لَهُم الشَّيْء سكنت قُلُوبهم فَكَانَ أحدهم يمشي بِصَدَقَتِهِ إِلَى السَّائِل لَا يكلها إِلَى غَيره ويقبلها من قبل أَن يَضَعهَا فِي يَده ليقينهم بِمن يَأْخُذهَا مِنْهُم
وَقيل إِن قُلُوب هَذِه الْأمة تأوي إِلَى ذكر الله كَمَا تحن الْحَمَامَة الى وَكرها ولهي أسْرع إِلَى الذّكر من ظمأ الْإِبِل يَوْم وردهَا الى المَاء وَأمرت بَنو إِسْرَائِيل أَن يضعوا فِي أرديتهم خيوطا خضرًا كي إِذا نظرُوا إِلَيْهَا ذكرُوا السَّمَاء فاذا ذكرُوا السَّمَاء ذكرُوا الْعَرْش فَيذكرُونَ الله تَعَالَى وَيَوْم الْوِفَادَة حَيْثُ اخْتَار مُوسَى عليه السلام سبعين رجلا لميقات الله تَعَالَى فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الْجَبَل أَعْطَاهُم الله تَعَالَى ثَلَاث خِصَال فِيمَا رُوِيَ فِي الْخَبَر فَقَالَ أُعْطِيكُم الْحِفْظ لتقرؤها عَن قُلُوبكُمْ فَقَالُوا إِنَّا نحب أَن نَقْرَأ التَّوْرَاة نظرا فَقَالَ ذَلِك لأمة أَحْمد صلى الله عليه وسلم قَالَ وأعطيكم السكينَة فِي قُلُوبكُمْ فَقَالُوا لَا نقدر على حملهَا فاجعلها لنا فِي تَابُوت فكلمنا مِنْهَا إِذا احتجنا قَالَ فَذَلِك لأمة أَحْمد قَالَ وأعطيكم أَن تصلوا من الأَرْض حَيْثُ أدركتم قَالُوا لَا نحب أَن يكون ذَلِك إِلَّا فِي كنائسنا قَالَ فَذَلِك لأمة أَحْمد فَكَانَ نوف البكائي إِذا حدث بِهَذَا الحَدِيث قَالَ احمدوا ربكُم الَّذِي شهد غيبتكم وَأخذ
بحظكم وَجعل وفادة بني إِسْرَائِيل لكم فَجعل الله السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ وَجعل لَهُم الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا وَقرن الْحِفْظ بالعقول مِنْهُم ليقرءوا عَن قُلُوبهم
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم أَعْطَيْت أمتِي ثَلَاثًا لم يُعْط أحد صُفُوف الصَّلَاة وتحية أهل الْجنَّة وآمين الا مَا أعطي مُوسَى وَهَارُون من قَوْله آمين وَكَانَ من قبلهم يتفرقون فِي الصَّلَاة وُجُوه بَعضهم إِلَى بعض وقبلتهم الى الصَّخْرَة وَإِذا لَقِيَهُمْ لَقِي أحدهم أَخَاهُ انحنى لَهُ بدل السَّلَام يخضع لَهُ وَفِيه مُؤنَة يُرِيد بذلك أَمَانه فأعطينا تَحْتَهُ أهل الْجنَّة أَن يَقُول أحدهم بِلِسَانِهِ فيؤمنه وَجعل سيماء عبودتنا يَوْم الْقِيَامَة على وُجُوههم وأطرافهم غرا من السُّجُود محجلين من الْوضُوء وَقد سجدت الْأُمَم من قبلهم فَلم يظْهر على جباههم وَلَا على أَطْرَافهم وَتلك بِشَارَة أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فِي الْموقف وبهم يعْرفُونَ وهم أهل الله وخاصنته قيل يَا رَسُول الله من أهل الْجنَّة قَالَ أهل الْقُرْآن وَمَا زَالَ مُوسَى عليه السلام يَقُول يَا رب إِنِّي أجد فِي الألواح أمة لَهُم كَذَا ويعملون كَذَا فاجعلهم أمتِي وَيَقُول الله تَعَالَى هم أمة أَحْمد حَتَّى قَالَ فِيمَا رُوِيَ يَا لَيْتَني كنت مَعَهم غِبْطَة بهم
وَفِي الْخَبَر عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنه أَن مُوسَى عليه السلام اشتاق إِلَى رُؤْيَتهمْ فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ بطور سيناء أَتُحِبُّ أَن أسمعك أَصْوَاتهم فَقَالَ نعم يَا رب فَنَادَى يَا أمة أَحْمد فَأَجَابُوهُ من الأصلاب لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك فَقَالَ أَعطيتكُم قبل أَن تَسْأَلُونِي وأجبتكم قبل أَن تَدعُونِي ورحمتكم قبل أَن تعصوني وغفرت لكم قبل أَن تستغفروني من لَقِيَنِي مِنْكُم يشْهد ان لَا إِلَه إِلَّا أَنا وَأَن مُحَمَّدًا عَبدِي
ورسولي أدخلته جنتي فَذَلِك قَوْله تَعَالَى وَمَا كنت بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا وَلَكِن رَحْمَة من رَبك
يمن على نبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أَي لم تكن يَا مُحَمَّد بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا أمتك وَلَكِن كَانَت مني رَحْمَة عَلَيْهِم قبل أَن أخلقهم فالعرب رَأس الْأمة وسابقها الى المكارم قَالَ الله تَعَالَى {لقد من الله على الْمُؤمنِينَ إِذْ بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم} وَقَالَ وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه وَقَالَ وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك وسوف تسئلون أَي شرف لَك ولقومك حَيْثُ خاطبتهم بِالْوَحْي وسوف تسئلون عَن شكر هَذَا الشّرف
والعجم وَإِن شاركوا الْعَرَب فِي مَنَاقِب هَذِه الْأمة لَكَانَ السَّبق للْعَرَب وَتلك الْأَخْلَاق غير مَوْجُودَة فِي الْعَجم إِلَّا فِي الْوَاحِد بعد الْوَاحِد تخلقا لَا طبعا وبلغنا أَن كنَانَة كَانَ إِذا لم يجد من يَأْكُل مَعَه وضع بَين يَدَيْهِ حجرا فَأكل لقْمَة وَألقى إِلَيْهِ لقْمَة أَنَفَة أَن يَأْكُل وَحده وَكَانَت مائدة عبد الْمطلب مَوْضُوعَة وَكَانَ يرفع مِنْهَا للطير وَالسِّبَاع فِي رُؤُوس الْجبَال وَكَانَ سَوط أدبه مُعَلّقا حَيْثُ يرَاهُ السَّفِيه يؤدبهم بذلك
عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنِّي دَعَوْت الْعَرَب فَقلت اللَّهُمَّ من لقيك مِنْهُم مُؤمنا موقنا مُصدقا بلقائك فَاغْفِر لَهُ أَيَّام حَيَاته وَهِي دَعْوَة أَبينَا إِبْرَاهِيم عليه السلام ولواء الْحَمد بيَدي يَوْم الْقِيَامَة وَمن أقرب النَّاس إِلَى لِوَائِي يَوْمئِذٍ الْعَرَب
وَمِمَّا يُحَقّق مَا قُلْنَا قَول الله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا مِنْهُم} الْآيَة ثمَّ قَالَ {وَآخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم} ثمَّ قَالَ {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء}
فهم الرَّأْس وَنحن مِنْهُم لَا أَنهم منا وَالْفضل لَهُم بِمَا منحهم الله تَعَالَى من الْأَخْلَاق لَا بِمُجَرَّد اللِّسَان فَمن لم يُوجد فيهم بِهَذِهِ الْأَخْلَاق فَهُوَ هجين والهجنة ضائرة جدا حَتَّى فِي الْخَيل فَكيف فِي الْآدَمِيّين وبلغنا أَن سُلَيْمَان بن دَاوُد عليه السلام أرسل الْخَيل من صنعاء إِلَى تدمر فَتقدم فرسَان من الْخَيل فَقَالَ الْمَسْبُوق للسابق لَوْلَا هجنة فِي أدركتني من ثَمَانِي عشرَة جدة مَا سبقتني
-
الأَصْل الثَّامِن وَالسِّتُّونَ
-
فِي الْأَمر بِالْعقدِ بالأنامل فِي الذّكر
-
عَن حميضة بنت يَاسر عَن جدَّتهَا يسيرَة رضوَان الله عَلَيْهِنَّ أخْبرتهَا أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أمرهن أَن يراعين الشَّمْس بالتسبيح وَالتَّقْدِيس والتهليل وَأَن يعقدن بالأنامل فَإِنَّهُنَّ مسئولات ومستنطقات
وَعَن حميضة عَن جدَّتهَا يسيرَة رضي الله عنهما قَالَت دخل علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَنحن نُسَبِّح بالسبح فَقَالَ ألقين أَو دعن عنكن وعليكن بالأنامل فسبحن بهَا فَإِنَّهُنَّ مسئولات مستنطقات
مُرَاعَاة الشَّمْس مراقبة وَقت طُلُوعهَا وغروبها وَهُوَ قَوْله تَعَالَى وسبحوه بكرَة وَأَصِيلا
وَالتَّقْدِيس هُوَ التَّنْزِيه وَهُوَ التَّكْبِير والتهليل هُوَ التَّوْحِيد وَالْعقد بالأنامل من أجل أَنَّهَا تنطق وَتشهد لصَاحِبهَا
أما الْمُؤمن فَتَنْطِق عَنهُ بِخَير وتصمت عَن السوء سترا من الله تَعَالَى
عَلَيْهِ وَأما الْكَافِر فَتَنْطِق عَنهُ بالسوء وتصمت عَن محاسنه لِأَنَّهُ لغير الله فَهُوَ هباء منثور
قَالَ الله تَعَالَى {شهد عَلَيْهِم سمعهم وأبصارهم وجلودهم}
كنى بالجلود عَن الْفروج وَقَالُوا لجلودهم لم شهدتم علينا رجعُوا باللوم على الْفروج لِأَن الْأَمر فِيهِ أَشد والعار أَكثر
ثمَّ بَين بقوله أنطقنا الله الْآيَات أَنَّهَا تشهد على من لم يعرف الله
فَأَما الْمُؤمن فَهُوَ يعلم أَن الله تَعَالَى مطلع عَلَيْهِ فيتوب ويستغفر وَإِنَّمَا يُعَامل الْمُشرك بِمثل هَذِه الْأَشْيَاء فَإِنَّهُ لَا يعرف الله تَعَالَى معرفَة الْمُوَحِّدين بل معرفَة الْمُشْركين
وَمَعْرِفَة الْمُشْركين معرفَة الْفطْرَة فَلَيْسَ لأحد أَن يُنكره وَمَعْرِفَة الْمُؤمنِينَ معرفَة التَّوْحِيد والتنزيه قَالَ الله تَعَالَى وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون وَقَالَ عز من قَائِل قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا الْآيَات إِلَى قَوْله فَأنى تسحرون سحرتهم أهواؤهم وانقلبت بهم عَن الله تَعَالَى منكوسين لم يمن الله تَعَالَى عَلَيْهِم بِنور التَّوْحِيد وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور
-
الأَصْل التَّاسِع وَالسِّتُّونَ
-
فِي أَن حق الْمُؤمن على الْمُؤمن سِتّ خِصَال
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط وَمن تبعها حَتَّى يفرغ من أمرهَا فَلهُ قيراطان أَحدهمَا أَو أصغرهما مثل أحد
فالقيراط سدس المثقال فِيمَا نرى أَنه كَانَ عِنْد الْقَوْم فِي ذَلِك الزَّمَان وَقد تغير بناحيتنا فِي عصرنا
وَجَاء عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِن للْمُسلمِ على الْمُسلم سِتّ خِصَال يجِيبه إِذا دَعَاهُ وَيسلم عَلَيْهِ إِذا لقِيه ويعوده إِذا مرض وَيُصلي عَلَيْهِ إِذا مَاتَ وينصحه إِذا استنصحه ويشمته إِذا عطس
فَذكر القيراط يعلمك أَنه إِذا صلى عَلَيْهِ فقد قضى سدس حَقه وَأما القيراط الآخر بدفنه أَو انْتِظَاره حَتَّى يدْفن فَذَاك من النَّصِيحَة لَهُ وَهِي إِحْدَى الْخِصَال السِّت وَمن النَّصِيحَة أَن يكون فِي المشهد والمغيب على حَالَة وَاحِدَة
-
الأَصْل السبعون
-
فِي فضل الشَّهِيد وكرامته على الله عز وجل
عَن جَابر بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ لَقِيَنِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا جَابر مَا لي أَرَاك منكسرا قلت يَا رَسُول الله اسْتشْهد أبي وَعَلِيهِ دين وَترك عيالا ودينا قَالَ صلى الله عليه وسلم أَفلا أُبَشِّرك بِمَا لَقِي الله بِهِ أَبَاك قلت بلَى يَا رَسُول الله قَالَ مَا كلم الله أحدا قطّ إِلَّا من وَرَاء حجاب وَأَنه أَحْيَا أَبَاك فَكَلمهُ كفاحا فَقَالَ تَعَالَى يَا عَبدِي تمن عَليّ أُعْطِيك قَالَ يَا رب تحييني فأقتل فِيك قَالَ الله تَعَالَى سبق مني أَنهم إِلَيْهَا لَا يرجعُونَ وَنزلت وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ كفاحا أَي وجاها وَهُوَ كَقَوْلِه شفاها إِلَّا أَن الشفاه للمخلوقين
والكفاح لَهُ غير مَوْصُوف بالأدوات وَفِيه مَا يدل على أَن قَوْله
وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب أَن هَذَا فِي الدُّنْيَا
أما فِي الْآخِرَة فلأهل الْجنان الْحَظ من الْكَلَام كفاحا لما بذل نَفسه لله تَعَالَى سَاعَة فَازَ بِهَذِهِ الدرجَة فَكيف بالصديقين الَّذين بذلوا نُفُوسهم عمرا وتمنيه أَن يحيى لِأَنَّهُ وجد لَذَّة بذله لنَفسِهِ حِين قتل وَإِنَّمَا بذل نفسا خاطئة قد تدنست بِالذنُوبِ فَأحب أَن يبذلها ثَانِيَة طَاهِرَة
-
الأَصْل الْحَادِي السبعون
-
فِي بَيَان الْمُنَافَاة بَين اللّعان وَالصديق
عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يكون اللعانون شُهَدَاء وَلَا شُفَعَاء
اللّعان متعسف لِأَن اللَّعْنَة مستأصلة فَإِن أُجِيب الى ذَلِك فقد أهلك وَإِن لم يجب فقد عمل عمله من الافراط والتعسف فَهُوَ جَائِر والجائر لَا شَهَادَة لَهُ
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يكون اللعانون شُهَدَاء لما عِنْدهم من الأحنة والعداوة والجور وَلَا يكونُونَ شُفَعَاء لِأَن قُلُوبهم خَالِيَة من الرَّحْمَة
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَا يدْخل الْجنَّة وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ أحدكُم حَتَّى يرحم الْعَامَّة كَمَا يرحم أحدكُم خويصته
عَن عَائِشَة رضي الله عنه قَالَت سمع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَبَا بكر رضي الله عنه وَهُوَ يلعن بعض رَقِيقه فَالْتَفت إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ يَا أَبَا بكر لعانين وصديقين كلا وَرب الْكَعْبَة فَأعتق أَبُو بكر يَوْمئِذٍ بعض رَقِيقه وَجَاء إِلَيْهِ فَقَالَ لَا أَعُود إِلَيْهِ يَا رَسُول الله
-
الأَصْل الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ
-
فِي الذّكر الْخَفي
عَن حَنْظَلَة الأسيدي وَكَانَ من كتاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَقِيَنِي أَبُو بكر رضي الله عنه فَقَالَ كَيفَ أَنْت يَا حَنْظَلَة قلت نَافق حَنْظَلَة يَا أَبَا بكر قَالَ سُبْحَانَ الله مَا تَقول قلت نَافق حَنْظَلَة قَالَ مِم ذَاك قلت نَكُون عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بِالْجنَّةِ وَالنَّار حَتَّى كأنا رَأْي عين أَو كأنا نراهما فَإِذا خرجنَا من عِنْده عافسنا الْأزْوَاج وَالْأَوْلَاد والضيعات فَفَزعَ أَبُو بكر فَقَالَ وَالله إِنَّا لنلقى مثل هَذَا فَانْطَلَقت أَنا وَأَبُو بكر حَتَّى دَخَلنَا على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَآنِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ كَيفَ أَنْت يَا حَنْظَلَة قلت نَافق حَنْظَلَة يَا رَسُول الله قَالَ مِم ذَاك قلت نَكُون عنْدك يَا رَسُول الله فتذكرنا بِالْجنَّةِ وَالنَّار حَتَّى كأنا رَأْي عين حَتَّى اذا خرجنَا من عنْدك عافسنا الْأزْوَاج وَالْأَوْلَاد والضيعات فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي
نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّكُم لَو تدومون على مَا تَكُونُونَ عِنْدِي فِي الذّكر لصافحتكم الْمَلَائِكَة على فرشكم وطرقكم وَلَكِن يَا حَنْظَلَة سَاعَة وَسَاعَة
الذّكر المذهل للنفوس إِنَّمَا يَدُوم سَاعَة ثمَّ يَنْقَطِع وَلَوْلَا ذَاك لما انْتفع بالعيش وَالنَّاس فِي الذّكر على طَبَقَات فَمنهمْ من يَدُوم لَهُ ذكره فِي وَقت الذّكر ثمَّ تعلوه غَفلَة حَتَّى يَقع فِي التَّخْلِيط وَهُوَ الظَّالِم وَمِنْهُم من يَدُوم لَهُ ذكره فِي وَقت الذّكر ثمَّ تعلوه مَعْرفَته بسعة رَحْمَة الله وَحسن مُعَامَلَته مَعَ عباده فتطيب نَفسه بذلك فيصل إِلَى معاشه وَهُوَ المقتصد على سبل الاسْتقَامَة
وَأما أهل الْيَقِين وهم السَّابِقُونَ المقربون جاوزوا هَذِه الخطة وَلَهُم دَرَجَات فأولها الخشية يمنتع بهَا من جَمِيع مَا كره الله تَعَالَى دق أَو جلّ والخشية من الْقرْبَة وَالْعلم بِاللَّه فَإِذا علم لزمَه خوف العظمة لَا خوف الْعقَاب وَإِذا كَانَ الْخَوْف لَازِما للقلب غشاه بالمحبة فَيكون بالخوف معتصما مِمَّا كره وبالخشية وبالمحبة منبسطا فِي أُمُوره إِذْ لَو ترك مَعَ الْخَوْف لانقبض وَعجز عَن كثير من أُمُوره وَلَو ترك مَعَ الْمحبَّة لَا ستبد وتعدى لكنه لطف لَهُ فَجعل الْخَوْف بطانته والمحبة ظهارته حَتَّى يَسْتَقِيم بِهِ قلبه ثمَّ يرقيه الى مرتبَة أُخْرَى وَهِي الهيبة والأنس فالهيبة من جَلَاله والأنس من جماله فاذا نظر الى جلا لَهُ هاب وانقبض وَلَو ترك هَكَذَا لصار عَاجِزا فِي جَمِيع أُمُوره كجنة بِلَا روح وَإِذا نظر الى جماله امْتَلَأَ كل عرق مِنْهُ فَرحا وسرورا وَلَذَّة ونعيما لامتلاء قلبه وَلَو ترك
هَكَذَا أَدَّاهُ الى التَّعَدِّي والافراط لكنه لطف لَهُ فَجعل الهيبة شعاره والأنس دثاره حَتَّى يَسْتَقِيم بِهِ قلبه فَهُوَ عبد ظَاهره الْأنس بِاللَّه تَعَالَى وباطنه الهيبة من الله تَعَالَى ثمَّ يرقيه إِلَى مرتبَة أُخْرَى وَهِي مرتبَة الِانْفِرَاد بِاللَّه قربه الْقرْبَة الْعُظْمَى وَأَدْنَاهُ وَمكن لَهُ بَين يَدَيْهِ ونقاه وَفتح لَهُ الطَّرِيق إِلَى وحدانيته فَهُوَ نَاظر إِلَى فردانيته فأحياه الله تَعَالَى بِهِ وَاسْتَعْملهُ فبه ينْطق وَبِه يعقل وَبِه يعلم وَبِه يعْمل وَقد جَاوز مقَام الهيبة والانس الى مقَام الْأُمَنَاء وَيصير سيد الْأَوْلِيَاء والعارفين وأمان أهل الأَرْض ومنظر أهل السَّمَاء وخاصة الله تَعَالَى وَمَوْضِع نظره وَمَوْضِع سره وَهُوَ سَوط الله فِي خلقه يُؤَدب بِهِ عباده وَبِه يحيي الْقُلُوب الْميتَة وَبِه يرحم أهل الأَرْض وَبِه يمطر ويرزق وَيدْفَع عَنْهُم الْبلَاء مِفْتَاح الْهدى وسراج الأَرْض وَهُوَ شِفَاء الأدواء وَإِمَام الْأَطِبَّاء كَلَامه قيد الْقُلُوب وَنَظره شِفَاء النُّفُوس وإقباله قهر الْأَهْوَاء فَهُوَ ربيع يزهر بنوره وخريف يجتنى ثماره وكهف يلجأ إِلَيْهِ ومعدن يؤمل مَا لَدَيْهِ وَفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل وَهُوَ الْوَلِيّ الْعَارِف وَالصديق المقرب والفاروق الْمُجْتَبى وَاحِد الله فِي أرضه كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيم عليه السلام اللَّهُمَّ أَنْت الْوَاحِد فِي السَّمَاء وَأَنا الْوَاحِد فِي الأَرْض
وَقد قَالَ النَّبِي عليه السلام يكون فِي هَذِه الْأمة رجال قُلُوبهم على قلب إِبْرَاهِيم عليه السلام
وَقَوله سَاعَة وَسَاعَة أَي سَاعَة للذّكر وَسَاعَة للنَّفس فساعة الذّكر تكون الْجنَّة وَالنَّار رَأْي عينه وَسَاعَة يقبل على المعاش ومرمته لِأَن الْقلب رُبمَا عجز عَن احْتِمَال مَا يحل بِهِ فَيحْتَاج الى مزاج أَلا ترى أَن مَا روى أنس رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لما انْتَهَيْت الى السِّدْرَة إِذا وَرقهَا مثل آذان الفيلة وَإِذا نبقها أَمْثَال القلال فَلَمَّا غشيها من أَمر الله تَعَالَى مَا غشيها تحولت ياقوتا وَفِي رِوَايَة حَال دونهَا فرَاش
من ذهب وَفِي رِوَايَة رَأَيْت النُّور الْأَعْظَم ولط دوني الْحجاب رفرفنا الدّرّ والياقوت فَأوحى إِلَيّ مَا شَاءَ أَن يوحي
لما لم يعم بَصَره للنور عورض بالزبرجد والياقوت وفراش الذَّهَب حَتَّى يقوى ويستقر كَأَنَّهُ شغل قلبه بِهَذَا المزاج عَمَّا رأى حَتَّى لَا ينفر ويجد قرارا وَيقدر احْتِمَاله فَكَانَ هَذَا من تَدْبِير الله تَعَالَى للعبيد وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يطْلبُونَ تِلْكَ السَّاعَة حَتَّى قَالَ معَاذ رضي الله عنه لرجل تعال نؤمن سَاعَة فَذكر ذَلِك الرجل لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَول معَاذ وَقَالَ يَا رَسُول الله أَو مَا نَحن بمؤمنين فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم دع عَنْك قَول معَاذ فَإِن الله تَعَالَى يباهي بِهِ الْمَلَائِكَة
ولهذه قَالَ عبد الله بن رَوَاحَة لأبي الدَّرْدَاء يَا عُوَيْمِر تعال نؤمن سَاعَة فللقلب أسْرع انقلابا من الْقدر حِين تغلي وَإِنَّمَا الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الْقَمِيص بَيْنَمَا أَنْت لبسته إِذْ أَنْت نَزَعته
وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن
أَي أَنه إِذا فعل ذَلِك فقد خلع الْقَمِيص وَوَضعه نَاحيَة وَإِذا تَابَ وَرجع إِلَيْهِ بِالصّدقِ كَسَاه وَألبسهُ ذَلِك الْقَمِيص فَكَانَ هَذَا الْإِيمَان عِنْدهم اسْتِقْرَار ذَلِك النُّور وإشراقه فِي صُدُورهمْ حَتَّى تصير الْآخِرَة وَأمر الملكوت لَهُم مُعَاينَة فَمنهمْ من هَذَا النُّور لَهُ دَائِم فتدوم لَهُ مُعَاينَة أُمُور
الْآخِرَة وَأمر الملكوت وَهُوَ مَعَ ذَلِك يصاحب الْأزْوَاج وَالْأَوْلَاد ويرم المعاش وعددهم فِي كل زمَان قَلِيل قَالَ الله تَعَالَى وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون فِي جنَّات النَّعيم ثلة من الْأَوَّلين فالثلة الْجَمَاعَة وهم الْأَنْبِيَاء عليهم السلام
وختمت النُّبُوَّة برسولنا صلى الله عليه وسلم {وَقَلِيل من الآخرين} وهم الْأَوْلِيَاء عَددهمْ قَلِيل فِي كل زمَان
وَقَالَ عليه السلام فِي كل قرن من أمتِي سَابِقُونَ وهم البدلاء وَالصِّدِّيقُونَ بهم يسقون وبهم يرْزقُونَ وبهم يدْفع الْبلَاء عَن أهل الأَرْض
-
الأَصْل الثَّالِث وَالسَّبْعُونَ
-
فِي خِصَال سَأَلَهَا سُلَيْمَان عليه السلام
عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول لما فرغ سُلَيْمَان عَن بِنَاء بَيت الْمُقَدّس سَأَلَ ربه حكما يُصَادف حكمه وملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده وَأَن لَا يَأْتِي أحد هَذَا الْبَيْت لَا يُرِيد إِلَّا الصَّلَاة فِيهِ إِلَّا خرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أما اثْنَتَانِ فقد أعطيهما وَأما الثَّالِثَة فأرجو أَن يكون قد أعْطى
قَوْله حكما يُصَادف حكمه مَعْنَاهُ أَن يحكم بَين عباد الله بِمَا يُصَادف حكم الله تَعَالَى لِأَن أُمُور الْعباد فِي الْغَيْب وَإِنَّمَا أمروا أَن يعملوا بِالظَّاهِرِ عِنْدهم بِالشَّاهِدِ أَو الْيَمين وَرُبمَا كَانَ شَاهد زورا أَو كَانَ فِي يَمِينه كَاذِبًا فَلَيْسَ على الْحَاكِم إِلَّا الحكم بِمَا يظْهر عِنْدهم ويكلهم فِيمَا غَابَ عَنْهُم إِلَى الله تَعَالَى وَأما سُؤَاله ملكه لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده فَإِن أحباب الله وخاصته يتنافسون فِي الْمنزلَة عِنْده ويغار أحدهم أَن يتقدمه
غَيره من نظرائه قَالَ عليه السلام فِي حَدِيث الْمِعْرَاج لقِيت مُوسَى عليه السلام فِي السَّمَاء السَّادِسَة فَلَمَّا جاوزته بَكَى وَقَالَ يزْعم بَنو إِسْرَائِيل أَنِّي أكْرم ولد آدم على الله عز وجل وَقد جاوزني
فللأنبياء والأولياء عليهم السلام تنافس فِي مَحل الْقرْبَة وَحقّ لَهُم ذَلِك فَسخرَ الله لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء حَيْثُ أصَاب أَي ليته مَعَ قوتها وشدتها حَتَّى لَا تضر بِأحد وتحمله بعسكره وَجُنُوده وموكبه وَكَانَ موكبه فِيمَا رُوِيَ فرسخا فِي فَرسَخ مائَة دَرَجَة بَعْضهَا فَوق بعض فِي كل دَرَجَة صنف من النَّاس وَهُوَ فِي أَعلَى دَرَجَة مِنْهُ مَعَ جواريه وحشمه وخدمه وَكَانَت الرّيح تحمله بِهَذَا الموكب فَتَهْوِي بِهِ فِي الجو مسيرَة شهر فِي غَدَاة وَاحِدَة ومسيرة شهر فِي رواح وَاحِد قَالَ الله تَعَالَى {غدوها شهر ورواحها شهر}
وَكَانَت الرّيح لَا تدع كلمة يتَكَلَّم بهَا إِلَّا ألقتها فِي إِذْنه وَعلم منطق الطير وَمر بوادي فَقَالَت نملة يَا أَيهَا النَّمْل ادخُلُوا مَسَاكِنكُمْ لَا يحطمنكم سُلَيْمَان وَجُنُوده وهم لَا يَشْعُرُونَ
فمرت بِهِ الرّيح فألقته فِي مسامعه وسخر لَهُ الْجِنّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أخذت لَيْلَة شَيْطَانا فخنقته حَتَّى وجدت برد لِسَانه ولهاته على يَدي فَأَرَدْت أَن أربطه على سَارِيَة فِي الْمَسْجِد لتنظروا إِلَيْهِ إِذا أَصبَحت
ثمَّ ذكرت دَعْوَة أخي سُلَيْمَان فتركته وَكَانَ لكل نَبِي دَعْوَة فَجَعلهَا سُلَيْمَان فِي ذَلِك وأخرها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لأمته
وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عقيل رضي الله عنه قَالَ انْطَلَقت فِي وَفد إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فأتيناه فَقَالَ قَائِل منا يَا رَسُول الله أَلا سَأَلت رَبك ملكا كملك سُلَيْمَان فَضَحِك ثمَّ قَالَ فَلَعَلَّ لصاحبكم عِنْد الله أفضل من ملك سُلَيْمَان إِن الله عز وجل لم يبْعَث نَبيا إِلَّا أعطَاهُ دَعْوَة فَمنهمْ من اتخذ بهَا دينا فأعطيها وَمِنْهُم من دَعَا بهَا على قومه إِذا عصوه فأهلكوا بهَا وَإِن الله تَعَالَى أَعْطَانِي دَعْوَة اختبأتها عِنْد رَبِّي شَفَاعَة لأمتي يَوْم الْقِيَامَة فَلِكُل نَبِي دَعْوَة مجابة وَسليمَان عليه السلام مَا سَأَلَ الدُّنْيَا لنَفسِهِ وَإِنَّمَا سَأَلَهَا لله تَعَالَى
وَكَانَ رَسُولنَا صلى الله عليه وسلم يسْأَل شَيْئا من الدُّنْيَا وَلم يسْأَل كلهَا قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَل أوسع رِزْقِي عِنْد كبر سني
وَكَانَ نوح عليه السلام سَأَلَ إهلاك الدُّنْيَا فَقَالَ رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا فغرقت الدُّنْيَا كلهَا بدعوته وَإِنَّمَا سَأَلَ إهلاكها لله تَعَالَى لَا لنَفسِهِ فَأُجِيب الى ذَلِك
وَأما رَسُولنَا صلى الله عليه وسلم فأخرها لتَكون تِلْكَ الْحَاجة مقضية لَهُ فِي الْيَوْم
الَّذِي يعز فِيهِ الْعَفو وَيظْهر الْجُود وَالْكَرم من رَبنَا وَمَا يقْضِي لَهُ هُنَاكَ فالخلق إِلَيْهِ أحْوج مِنْهُ فِي هَذِه الدُّنْيَا مِمَّا سَأَلَ سُلَيْمَان عليه السلام فَإِنَّمَا سَأَلَهُ مملكة الدُّنْيَا وَقد كَانَ أَبَوَاهُ دَاوُد عليه السلام مِمَّن عرضت عَلَيْهِ الْخلَافَة فقبلها وَكَانَ حَاكم الله فِي أرضه
وَعرضت على لُقْمَان فَأبى فَأعْطِي الْحِكْمَة فَكَانَ حَكِيم الله فِي أرضه قَالَ الله تَعَالَى وَلَقَد آتَيْنَا لُقْمَان الْحِكْمَة أَن اشكر لله
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن لُقْمَان كَانَ عبدا كثير التفكر حسن النّظر كثير الصمت أحب الله فَأَحبهُ الله فَمن عَلَيْهِ بالحكمة نُودي بالخلافة قبل دَاوُد عليه السلام فَقيل لَهُ يَا لُقْمَان هَل لَك أَن يجعلك الله خَليفَة فِي الأَرْض تحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ قَالَ لُقْمَان عليه السلام إِن جبرني رَبِّي قبلت فَإِنِّي أعلم إِن فعل ذَلِك بِي أعانني وَعَلمنِي وعصمني وَإِن خيرني رَبِّي قبلت الْعَافِيَة وَلم أسأَل الْبلَاء فَقَالَت الْمَلَائِكَة بِصَوْت لَا يراهم يَا لُقْمَان لم قلت هَكَذَا قَالَ لِأَن الْحَاكِم بأشد الْمنَازل وأكدرها يَغْشَاهُ الظُّلم من كل مَكَان فيخذل أَو يعان وَإِن أصَاب فبالحري أَن ينجو وَلَئِن أَخطَأ أَخطَأ طَرِيق الْجنَّة وَمن يكن فِي الدُّنْيَا ذليلا خير من أَن يكون شريفا ضائعا وَمن يخْتَار الدُّنْيَا على الْآخِرَة فَاتَتْهُ الدُّنْيَا وَلَا يصير إِلَى ملك الْآخِرَة فعجبت الْمَلَائِكَة لحسن مَنْطِقه فَنَامَ نومَة فغط بالحكمة غطا فانتبه فَتكلم بهَا ثمَّ نُودي دَاوُد عليه السلام بعده بالخلافة فقبلها وَلم يشْتَرط شَرط لُقْمَان فَأَهوى فِي الْخَطِيئَة فصفح الله عَنهُ وَتجَاوز
وَكَانَ لُقْمَان يوازره بِعِلْمِهِ وحكمته فَقَالَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام
طُوبَى لَك يَا لُقْمَان أُوتيت الْحِكْمَة وصرفت عَنْك البلية وأوتي دَاوُد الْخلَافَة وابتلي بالرزية والفتنة فَكَانَ دَاوُد عليه السلام يحكم بَين خلقه قَالَ الله تَعَالَى وشددنا ملكه وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب
وسخرت لَهُ الْجبَال ليسبحن مَعَه بالْعَشي وَالْإِشْرَاق وَالطير كي يزْدَاد قُوَّة على إسعاد الْجبَال وَالطير لَهُ بذلك فَلَا يفتر فَتْرَة الْآدَمِيّين فَإِن فِي الإسعاد قُوَّة قَالَ الله تَعَالَى {يَا جبال أوبي مَعَه وَالطير} ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وألنا لَهُ الْحَدِيد} فَجعل الْحَدِيد فِي يَده كالعجين يعْمل الدروع فَجعل قوته ومطعمه مِنْهَا ليَكُون من كديده
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَنه كَانَ عليه السلام يرْتَفع لَهُ كل يَوْم درع فيبيعه بِسِتَّة آلَاف فينفق على بني إِسْرَائِيل أَرْبَعَة آلَاف وعَلى عِيَاله أَلفَيْنِ فأوتي دَاوُد مَا أُوتِيَ ثمَّ قيل لَهُ {اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا}
وَأعْطِي سُلَيْمَان منطق الطير وَالرِّيح وَعين الْقطر أسيلت لَهُ ثَلَاثَة أَيَّام فَاتخذ مِنْهَا تماثيل على صور الرِّجَال من النّحاس
رُوِيَ عَن إِبْنِ عَبَّاس رضي الله عنه فِي قَوْله تَعَالَى وتماثيل قَالَ اتخذ سُلَيْمَان تماثيل من نُحَاس فَقَالَ يَا رب انفخ فِيهَا الرّوح فَإِنَّهَا أقوى على الْخدمَة فَنفخ الله فِيهَا الرّوح فَكَانَت تخدمه وَكَانَ اسبنديار من بقاياهم
فَلَمَّا انْتَهَت خلَافَة دَاوُد عليه السلام أَرَادَ أَن يسْتَخْلف ابْنه سُلَيْمَان عليه السلام قَالَ لَهُ سُلَيْمَان أبحب الْوَلَد تفعل هَذَا أم
بِشَيْء أَمرك الله تَعَالَى قَالَ دَاوُد عليه السلام بحب الْوَلَد فَأبى سُلَيْمَان عليه السلام أَن يقبلهَا حَتَّى أمره الله تَعَالَى بذلك قَالَ تَعَالَى وَورث سُلَيْمَان دَاوُد
وَجعل الله تَعَالَى السَّيْف فِي يَد مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم والرعب جنده يرعب مِنْهُ الْعَدو مسيرَة شهر وَجعل قوته ومطعمه من الْغَنَائِم فَقيل لداود عليه السلام خُذ هَذَا الْحَدِيد فقد ألنتها لَك من عطفي عَلَيْك لتعمل مِنْهُ دروعا فَيكون مِنْهَا رزقك وَقيل لمُحَمد صلى الله عليه وسلم خُذ هَذَا الْحَدِيد الَّذِي قد حددتها من سلطاني فَاضْرب بهَا رِقَاب أعدائي وصيرت أَمْوَالهم نحلة وطعمة خصصتك بهَا من بَين الْخلق وَلم تكن لأحد قبلك ثمَّ قَالَ حَلَالا طيبا وَفِي السَّيْف عز وسلطان وَملك لَيْسَ فِي التِّجَارَة ذَلِك فَأَنت تُجَاهِد أعدائي لي وتملك مَا خولتهم فتأخذ مِنْهُم ذَلِك على سَبِيل الْقَهْر وَأَنا مَعَك فِي النُّصْرَة
فلمحمد صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا تكرمة الْعِزّ وَالسُّلْطَان ولداود عليه السلام تكرمة الْعَطف أَن لَان لَهُ الْحَدِيد
قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الله تَعَالَى بَعَثَنِي بِالسَّيْفِ بَين يَدي السَّاعَة حَتَّى يعبد الله وَحده لَا شريك لَهُ وَجعل رِزْقِي تَحت ظلّ رُمْحِي وَجعل الذلة على من خَالف أَمْرِي وَمن تشبه بِقوم فَهُوَ مِنْهُم
فَلَمَّا ورث سُلَيْمَان دَاوُد جعل دَعوته فِي ذَلِك فَسَأَلَ مملكة الدُّنْيَا كلهَا ليسوي الدُّنْيَا وَأَهْلهَا وَيحكم فيهم حكما يُصَادف حكمه وينفي الظُّلم عَن أهل الأَرْض وينصف بَعضهم من بعض حَتَّى الْجِنّ وَالْإِنْس
وَالطير والوحوش وَالسِّبَاع وبقاع الْأَرْضين وَالْجِبَال والبحار فَكَانَ لَهُ حكم فِي كل ذَلِك ومملكة وسلطان وأعين بِالرِّيحِ وَالشَّيَاطِين وَالْجِنّ فَسخرَ ذَلِك لَهُ وَأعْطِي الْفَهم لما زيد فِي الْمعرفَة قَالَ عليه السلام إِن المعونة تنزل من السَّمَاء على قدر الْمُؤْنَة
وَكَانَ يعول خلقا من خلق الله تَعَالَى ويعطف على عبيد الله تَعَالَى وإمائه شَفَقَة على خلق الله فوهب لَهُ ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعده ثمَّ قَالَ {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب}
فَكَانَ المهنأة فِيهِ أَنه لَا تبعة لَهُ عَلَيْهِ وَجعل نوح عليه السلام دَعوته إهلال الْكفَّار لتطهر الأَرْض من أقذارهم ونجاسة شركهم شَفَقَة على حق الله ليخلص الْحق من أنجاسهم وَمُحَمّد صلى الله عليه وسلم أخر دَعوته الى يَوْم الثَّوَاب وَالْعِقَاب ليفتح الله تَعَالَى على لِسَانه خَزَائِن الرَّحْمَة على عبيده فِي يَوْم بروز الْجُود وَالْكَرم وَشدَّة الْفَاقَة فِي ذَلِك الْمقَام الْمَحْمُود فعمت الْمَلَائِكَة والأنبياء وَالرسل وَجَمِيع الْمُوَحِّدين بِالرَّحْمَةِ وَسكن الهول واطمأنت الْقُلُوب وَكَانَ أهل الْموقف كلهم مُحْتَاجين إِلَى مَا ادخره عليه السلام ليَوْم الْقِيَامَة وصاروا عيالا عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ عليه السلام إِن إِبْرَاهِيم عليه السلام ليرغب إِلَيّ يَوْم الْقِيَامَة فِي تِلْكَ الدعْوَة وَيحْتَاج إِلَيّ
وَرُوِيَ عَن أنس رضي الله عنه أَنه قَالَ عليه السلام لكل نَبِي دَعوته دَعَا بهَا فِي أمته فَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَتِي لأمتي يَوْم الْقِيَامَة
-
الأَصْل الرَّابِع وَالسَّبْعُونَ
-
فِي نشر السجلات يَوْم الْحَشْر
عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول سيصاح بِرَجُل من أمتِي يَوْم الْقِيَامَة على رُؤُوس الْخَلَائق فينشر عَلَيْهِ تِسْعَة وَتسْعُونَ سجلا كل سجل مِنْهَا مد الْبَصَر فَيَقُول الله تَعَالَى عَبدِي هَل تنكر من هَذَا شَيْئا فَيَقُول هَذِه حجتك فَيَقُول لَا يَا رب فَيَقُول هَل لَك من حجَّة فَيَقُول لَا يَا رب فَيَقُول بلَى لَا ظلم عَلَيْك الْيَوْم فَيخرج الله تَعَالَى لَهُ بطاقة فَيَقُول هَذِه حجتك فَيَقُول أَي رب وَمَا تغني هَذِه البطاقة من السجلات فَيَقُول يَا عَبدِي لَا ظلم عَلَيْك الْيَوْم فَيُؤتى بالميزان فتوضع السجلات فِي كفة والبطافة فِي كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة وَإِذا فِيهَا شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله
فَهَذَا عبد كثرت سيئاته حَتَّى غمرته فأدركه غوث تِلْكَ الْكَلِمَة وَلَيْسَت تِلْكَ بِأول مِمَّا قَالَهَا وَلكنهَا كَانَت مقَالَة طَاهِرَة خرجت من زكاوة قلبه فِي سَاعَة من عمره فأنجته فحاطت ذنُوبه وهدمتها وطاشت بالسجلات يَوْم الْوَزْن لوزن تِلْكَ الْكَلِمَة وَإِنَّمَا ثقلت لعظم نورها لِأَنَّهَا خرجت من نور استنار قلبه بالنطق بهَا وَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا من عَلَيْهِ فِي سَاعَة من عمره ونبهه فَإِذا انتبه انْفَتح قلبه واستنار صَدره من تِلْكَ الفتحة فَإِذا انْفَتح الْقلب خرج النُّور إِلَى الصَّدْر فأشرق فَأَي كلمة نطق بهَا فِي ذَلِك الْوَقْت فَإِنَّمَا ينْطق على شرح الصَّدْر والمعاينة لصورة تِلْكَ الْكَلِمَة تسمى كلمة الْإِخْلَاص وَكلمَة يَقِين تثقل فِي الْوَزْن يَوْم الْوَزْن وَتَكون سَببا لنجاة صَاحبهَا وَهَذَا لَا يكون فِي شَهَادَة التَّوْحِيد إِذْ لَو كَانَ لَهَا لاستوى النَّاس فِيهَا
قد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيى وَيُمِيت وَهُوَ على كل شَيْء قدير مخلصا بهَا روحه مُصدقا بهَا لِسَانه وَقَلبه إِلَّا فتقت لَهُ السَّمَاء فتقا حَتَّى ينظر الرب سبحانه وتعالى إِلَى قَائِلهَا من أهل الدُّنْيَا وَحقّ لعبد إِذا نظر الله إِلَيْهِ أَن يُعْطِيهِ سؤله
شَرط إخلاص الرّوح فَإِن الرّوح سماوي خلقهَا الطَّاعَة وَالنَّفس أرضية خلقهَا الشَّهْوَة مَعْصِيّة كَانَت أَو طَاعَة فَإِذا قَالَ العَبْد هَذِه الْكَلِمَة فِي وَقت فَتْحة الْقلب واستنارته وانشراح الصَّدْر فنمقت النَّفس وذلت وانخشعت وتخلص الرّوح من أسرها وتعلقها بِهِ فَصَارَ روحه كالعازم
على هَذِه الْكَلِمَات بحقائقها فَصَارَ خَالِصا لله تَعَالَى وَقد باين النَّفس وهواها وَصدق بهَا لِسَانه وَقَبله لِأَن الْقلب قد استنار بالكلمات فَاسْتَوَى اللِّسَان بِالْقَلْبِ وَالْقلب بِاللِّسَانِ وَقد صدق بِالْكَلِمَةِ لِسَانه وَقَلبه وأخلص روحه فاستوجب النّظر إِلَيْهِ فَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا رزقه فَتْحة قلبه وَخرجت مِنْهُ هَذِه الْكَلِمَة فِي ذَلِك الْوَقْت فَعظم وَزنهَا وقدرها عِنْد رَبهَا قَالَ الله تَعَالَى {الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} ثمَّ قَالَ {أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} وَصفهم بِحَقِيقَة الْإِيمَان
قَالَت عَائِشَة وَأم الدَّرْدَاء رضي الله عنهما إِنَّمَا إِيمَان الرجل فِي الْقلب كاحتراق السعفة لَا يكَاد يلبث طَويلا فَإِذا وجد أحدكُم فَليدع الله تَعَالَى فَإِن الدُّعَاء عِنْد ذَلِك يُسْتَجَاب
وَعَن ثَابت الْبنانِيّ رضي الله عنه عَن رجل قَالَ إِنِّي لأعْلم مَتى يُسْتَجَاب لي قَالُوا وَمن أَيْن تعلم ذَلِك قَالَ إِذا اقشعر جلدي ووجل قلبِي وفاضت عَيْنَايَ فَذَاك حِين يُسْتَجَاب لي لِأَن هَذِه نفوس لَا تحْتَمل مَا يرد على الْقلب فتقشعر مِنْهُ الْجُلُود أما أهل الْيَقِين الَّذِي استنارت صُدُورهمْ بنوره فَهَذَا لَهُم دَائِم فِي الْأُمُور كلهَا وهم الَّذين يذكرُونَ الله تَعَالَى على كل حَال لَا يَنْقَطِع ذكرهم لأَنهم بِنور يقينهم قد صَارَت قُلُوبهم بَين يَدَيْهِ يعبدونه كانهم يرونه قَالَ عليه السلام أعبد الله كانك ترَاهُ وَلِأَن نُفُوسهم قد إطمأنت إِلَى رُؤْيَة الملكوت وَمَا يرد على الْقُلُوب ومرنت على ذَلِك واعتادت
وَمثل ذَلِك فِي الدُّنْيَا مثل جرة لم يصبهَا المَاء فَإِذا وَضَعتهَا فِي المَاء انتشقت وَسمعت لَهَا قشيشا فَإِذا تكَرر عَلَيْهَا ذَلِك لم تسمع لَهَا ذَلِك لِأَنَّهَا قد تشربت من المَاء وارتوت فَكَذَلِك قلب الْعَارِف قد ارتوى من سقيا الله تَعَالَى
وَعَن جَابر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لي جِبْرَائِيل يَا مُحَمَّد إِن الله عز وجل يخاطبني يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُول يَا رب جِبْرَائِيل مَا لي أرى فلَان بن فلَان فِي صُفُوف أهل النَّار فَأَقُول يَا رب انا لم نجد لَهُ حَسَنَة يعود عَلَيْهِ خَيرهَا الْيَوْم قَالَ يَقُول الله تَعَالَى إِنِّي سمعته فِي دَار الدُّنْيَا يَقُول يَا حنان يَا منان فأته فَاسْأَلْهُ مَاذَا عني بقوله يَا حنان يَا منان فآتيه فأسأله فَيَقُول وَهل من حنان ومنان غير الله فآخذ بِيَدِهِ من صُفُوف أهل النَّار فَأدْخلهُ فِي صُفُوف أهل الْجنَّة
-
الأَصْل الْخَامِس وَالسَّبْعُونَ
-
فِي أَن غرس الله مَحْفُوظ فِي الدَّاريْنِ
عَن أبي عتبَة الْخَولَانِيّ رضي الله عنه وَكَانَ مِمَّن صلى الْقبْلَتَيْنِ مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يزَال الله يغْرس فِي هَذَا الدّين غرسا يستعملهم بِطَاعَتِهِ فغرس الله محروس فِي الْأَحْوَال ومحفوظ فِي الأصلاب والأرحام ومراعي فِي قطع الْأَسْفَار إِلَيْهِ يكلؤه ويرعاه وهم رِجَاله فِي أرضه وأولياؤه والدعاة إِلَيْهِ وغرس الله راسخ عروقه فِي الأَرْض باسق فروعه فِي الملكوت غرسهم الله تَعَالَى وأنبتهم وَهُوَ يجني ثمرتهم
وغرسهم أَي اجتباهم بمشيئته وأنبتهم أَي رَاض نُفُوسهم وأدبها وَقوم أخلاقها بتدبيره وَهُوَ يجني ثَمَرَتهَا أَي لما وصلوا إِلَيْهِ وقبلهم ورتب لَهُم عِنْده فِي تِلْكَ الخلوات والمجالس وصاروا فِي قَبضته وَهُوَ الَّذِي يستعملهم بِطَاعَتِهِ وَهُوَ قَوْله عليه السلام فِيمَا يَحْكِي عَن الله تَعَالَى أَنه
قَالَ إِذا أَحْبَبْت عَبدِي كنت سَمعه وبصره وَيَده وَرجله فَبِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي ببطش وَبِي ينْطق
وَمن عَلامَة أُولَئِكَ أَنه يخرجهم من بطُون أمهاتهم أحرارا من رق النُّفُوس قد طبع نُفُوسهم على أَخْلَاق الْكِرَام من السخاوة والشجاعة والسماحة والحلم والتأني والنزاهة والصيانة فَهَذَا حر من رق النَّفس وَمن كَانَ ضد هَذِه الْأَشْيَاء مثل الْبُخْل والضيق وَالْمَكْر والعجلة وحدة الشَّهْوَة والحرص والجبن فَهُوَ عبد نَفسه فَإِن رزق تقوى احْتَاجَ إِلَى أَن يُجَاهد نَفسه حَتَّى لَا يستعجل أَرْكَانه بِمَا يصير بِهِ عَاصِيا فَهُوَ وَإِن جَاهد فَهَذِهِ الْأَخْلَاق بَاطِنه وَهُوَ قَول عِيسَى عليه السلام لبني إِسْرَائِيل فَلَا عبيد أتقياء وَلَا أَحْرَار كرماء فالعبيد الأتقياء هَؤُلَاءِ الَّذين فيهم هَذِه الْأَخْلَاق فهم أتقياء يَتَّقُونَ الله أَن يعصوه بجارحة وتتردد فيهم هَذِه الْأَخْلَاق فَإِن عمِلُوا بِطَاعَة عملوها بكزازة نفس وَجهد والأحرار الكرماء قد عوفوا من هَذِه الْأَخْلَاق طبعا فَإِن انْتَهوا عَمَّا نهى الله تَعَالَى عَنهُ لم يحتاجوا إِلَى أَن يحاربوا ويجاهدوا نُفُوسهم وَإِن عمِلُوا بِطَاعَة عملوها تكرما وسماحة فقلبه لين منقاد لَيْسَ فِيهِ كزازة حَيْثُ مَا قَادَهُ مَوْلَاهُ فِي أُمُوره انْقَادَ من غير تلجلج
قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تَقولُوا للعنب كرم إِنَّمَا الْكَرم قلب الؤمن وَإِنَّمَا سمي الْعِنَب كرما لِأَنَّهُ لين ينقاد حَيْثُ مَا استقيد
فَكَذَلِك الْمُؤمن قلبه لين رطب بِذكر الله سبحانه وتعالى ينقاد لله تَعَالَى فِي أُمُوره وَأَحْكَامه
-
الأَصْل السَّادِس وَالسَّبْعُونَ
-
فِي منع الشَّيْطَان من الْمُشَاركَة فِي كل شَيْء
عَن نُبَيْشَة الْخَيْر وَأنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أكل من قَصْعَة ثمَّ لحسها استغفرت لَهُ الْقَصعَة وصلت عَلَيْهِ
الْمُؤمن إِذا سمى الله تَعَالَى على كل أَمر منع الشَّيْطَان من مشاركته فِي طَعَامه وَشَرَابه ولباسه وَجَمِيع أُمُوره وَإِذا ترك التَّسْمِيَة وجد فرْصَة فشاركه فِي ذَلِك حَتَّى فِي إِتْيَانه أَهله
وَعَن مُجَاهِد رضي الله عنه قَالَ إِذا جَامع الرجل أَهله وَلم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع مَعَه فَذَلِك قَوْله تَعَالَى لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَامَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يخْطب فَقَالَ إِن الله عز وجل أَمرنِي أَن أعلمكُم مَا عَلمنِي وَأَن أؤدبكم إِذا اقمتم على أَبْوَاب حجركم فَسَلمُوا يرجع الْخَبيث عَن مَنَازِلكُمْ وَإِذا وضع بَين يَدي أحدكُم طَعَام فليسم كَيْلا يشارككم الْخَبيث فِي أرزاقكم وَمن اغْتسل بِاللَّيْلِ فليحاذر على عَوْرَته فَإِن لم يفعل فَأَصَابَهُ لمَم فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه وَإِذا رفعتم الْمَائِدَة فاكنسوا مَا تحتهَا فَإِن الشَّيَاطِين يلتقطون مَا تحتهَا فَلَا تجْعَلُوا لَهُم نَصِيبا فِي طَعَامكُمْ
وَعَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ إِذا وضعت يدك فِي الطَّعَام فنسيت أَن تَقول بِسم الله فَقل حِين تذكر بِسم الله فِي أَوله وَآخره فَإِنَّمَا يمْتَنع الْمُؤمن من هَذَا الْعَدو باسم الله تَعَالَى فَإِذا سمى على طَعَامه فالشيطان مِنْهُ بمزجر الْكَلْب وَإِذا فرغ من الطَّعَام وَلم يلحس الْقَصعَة جَاءَ الشَّيْطَان فلحسها لينال مَا بَقِي هُنَاكَ فَإِذا لحسها فقد خلصها من الشَّيْطَان ولحسه فاستغفرت لَهُ وصلت عَلَيْهِ شكرا لَهُ
-
الأَصْل السَّابِع وَالسَّبْعُونَ
-
فِي حَقِيقَة الرُّؤْيَا وان الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي فَإِن الشَّيْطَان لَا يَسْتَطِيع أَن يتَمَثَّل بِي فَكَانَ الرجل إِذا قصّ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا يَقُول لَهُ كَيفَ رَأَيْته فَإِن جَاءَ بالرؤيا على وَجههَا وَإِلَّا قَالَ لم تره
قَوْله من رَآنِي فِي الْمَنَام أَي على نعتي الَّذِي أَنا عَلَيْهِ وَاعْلَم أَن الرُّؤْيَا على ثَلَاث منَازِل مِنْهَا مَا يرِيه الْملك الْمُوكل على الرُّؤْيَا فَذَاك حق وَمِنْهَا مَا يمثل لَهُ الشَّيْطَان وَمِنْهَا مَا يحدث بِهِ الْمَرْء نَفسه
قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه الرُّؤْيَا ثَلَاثَة فرؤيا حق ورؤيا يحدث بِهِ الْمَرْء نَفسه ورؤيا تحزين من الشَّيْطَان فَمن رأى مَا يكره فَليقمْ فَليصل
وَفِي رِوَايَة أبي قَتَادَة رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الرُّؤْيَا على ثَلَاث منَازِل فَمِنْهَا مَا يحدث بِهِ الْمَرْء نَفسه لَيست بِشَيْء وَمِنْهَا مَا يكون من الشَّيْطَان فَإِذا رأى أحدكُم مَا يكره فليبصق عَن يسَاره وليستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان فَلَنْ يضرّهُ بعد ذَلِك وَمِنْهَا بشرى من الله تَعَالَى رُؤْيا الرجل الصَّالح جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة فَإِذا رأى أحدكُم رُؤْيا فليعرضها على ذِي رَأْي نَاصح فَلْيقل خيرا أَو ليتأول خيرا فَقَالَ عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ رضي الله عنه وَالله يَا رَسُول الله لَو كَانَت حَصَاة من عدد الْحَصَى لَكَانَ كثيرا
وَفِي رِوَايَة لَقِيط بن عَامر رضي الله عنه أَنه قَالَ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا على رجل طَائِر مَا لم تعبر فَإِذا عبرت وَقعت
فالرؤيا أَصله حق جَاءَ من عِنْد الْحق يخبر عَن أنباء الْغَيْب وَهُوَ من الله تَعَالَى تأييد لعَبْدِهِ بشرى ونذارة ومعاتبة ليَكُون لَهُ فِيمَا ندب لَهُ ودعي إِلَيْهِ عونا وَقد وكل بالرؤيا ملك يضْرب من الْحِكْمَة الْأَمْثَال وَقد اطلع على قصَص ولد آدم من اللَّوْح فَهُوَ ينْسَخ مِنْهَا وَيضْرب لكل على قصَّة
مثله فَإِذا نَام وَخرجت نَفسه تمثل لَهُ تِلْكَ الْأَشْيَاء على طَرِيق الْحِكْمَة لتَكون لَهُ بشرى أَو نذارة أَو معاتبة ليكونوا على بَصِيرَة من أُمُورهم
فَأَما الْبُشْرَى فَمثل مَا يرْوى أَن صهيبا جَاءَ إِلَى أبي بكر رضي الله عنه فَقَالَ إِنِّي رَأَيْت كَأَن يدك مغلولة إِلَى عُنُقك إِلَى سَرِير الى الْحَشْر فَقَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه الله أكبر جمع لي ديني إِلَى يَوْم الْحَشْر
وَأما النذارة فَمَا يرْوى عَن معَاذ بن جبل رضي الله عنه أَنه رَجَعَ من الْيمن بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قدم مَعَه برقيق قد أَصَابَهُ هُنَاكَ فَقَالَ لَهُ عمر إذهب بهَا إِلَى أبي بكر حَتَّى تطيب لَك فَأبى وَقَالَ إِنَّمَا بَعَثَنِي رَسُول الله ليجبرني فِيمَا أصابني من الدّين وَطيب لي الْهَدِيَّة فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَهله وَبَات رأى تِلْكَ اللَّيْلَة كَأَنَّهُ قد وَقع فِي مَاء غمره فَأَتَاهُ عمر فَأخذ بِيَدِهِ حَتَّى أخرجه مِنْهَا فَلَمَّا أصبح غَدا بِالسَّبْيِ إِلَى أبي بكر رضي الله عنه فَقص عَلَيْهِ قصَّته فَقَالَ أَبُو بكر قد علمت أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا بَعثك ليجبرك هم لَك حل
وَمَا رُوِيَ فِي فتح نهاوند حَيْثُ حمل إِلَى عمر السفطين فيهمَا حلي وَقد كَانَ للنجيرجان كنز فدله ذَلِك الرجل على الْكَنْز على أَن لَهُ الْأمان وَلأَهل بَيته فَجمع ذَلِك فَحَمله السَّائِب بن الْأَقْرَع إِلَى عمر رضي الله عنه مَعَ أَصْحَابه مجمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فختمه وَوَضعه فِي خزائنه فَرَأى تِلْكَ اللَّيْلَة كَأَن مَلَائِكَة جَاءَت بسفطين فأوقدوا مَا فيهمَا جمرا يتوقد فَجعلت أنثني عَنْهُمَا وأنكص واقدم إِلَيْهِمَا فكاد ابْن الْخطاب يَحْتَرِق فَأتبعهُ بريدا إِلَى الْكُوفَة حَتَّى جَاءَ فَقَالَ مَا لي وَلَك يَا سائب إِنِّي رَأَيْت كَذَا فَاذْهَبْ بهما إِلَى الْكُوفَة وبعهما بأعطيات الْمُقَاتلَة والذرية
وَأما المعاتبة فَمَا روى سُلَيْمَان بن يسَار قَالَ اسْتَيْقَظَ أَبُو أسيد الْأنْصَارِيّ رضي الله عنه وَهُوَ يَقُول إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فَاتَنِي وردي اللَّيْلَة وَكَانَ وردي الْبَقَرَة فقد رَأَيْت فِي الْمَنَام كَانَ بقرة تنطحني
وَأما الْخَبَر الَّذِي يلقِي إِلَيْهِ من أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مثل مَا روى ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ جَاءَ رجل إِلَى عمر وَهُوَ عِنْد أبي بكر رضي الله عنهما فَقَالَ إِنِّي رَأَيْت رُؤْيا فَقَالَ عمر رضي الله عنه لَا حَاجَة لنا برؤياك فَقَالَ أَبُو بكر هَات قَالَ رَأَيْت كَأَن النَّاس قد حشروا فكأنك قرعت النَّاس بِثَلَاث بسطات قلت بِأَيّ شَيْء قرع عمر النَّاس بِثَلَاث بسطات قَالَ بِأَنَّهُ يكون خَليفَة وَأَنه لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم وَأَنه يقتل شَهِيدا فَقَالَ عمر رضي الله عنه أضغاث أَحْلَام لَا حَاجَة لنا برؤياك قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه رَأَيْت خيرا وَخيرا يكون فَلَمَّا أَتَى عمر رضي الله عنه الشَّام وبصر بِالرجلِ قَالَ عَليّ بِالرجلِ وَقَالَ أَنْت صَاحب الرُّؤْيَا قَالَ وَمَا تصنع برؤياي وَمَا تنتهرني حَتَّى أَنِّي قد جِئْت بِأَمْر قَالَ قصها قَالَ رَأَيْت كَأَن النَّاس يحشرون فرأيتك قرعت النَّاس بِثَلَاث بسطات فَقلت بِأَيّ شَيْء قرع عمر النَّاس بِثَلَاث بسطات قَالَ بِأَنَّهُ يكون خَليفَة قَالَ فقد كَانَت نسْأَل الله خَيرهَا ونعوذ بِاللَّه من شَرها قَالَ وَبِأَنَّهُ لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم قَالَ إِنِّي أَرْجُو من الله أَن يكون كَذَلِك أَو أَن يعلم الله ذَلِك مني قَالَ وَبِأَن تقتل شَهِيدا قَالَ عمر رضي الله عنه أما الشَّهَادَة فَأَنِّي الشَّهَادَة ثمَّ قَالَ بلَى يَأْتِي الله بِكَافِر فينقرني نقر الديك فيكرمني الله بهوانه ويهينه بكرامتي
وَكَأن شَأْن الرُّؤْيَا عَظِيما عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه رُوِيَ عَن سفينة قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا صلى الصُّبْح أقبل على أَصْحَابه قَالَ أَيّكُم رأى اللَّيْلَة رُؤْيا فَقَالَ ذَات يَوْم ذَلِك فَقَالَ رجل أَنا يَا رَسُول الله رَأَيْت كَأَن ميزانا دُلي من السَّمَاء فَوضعت فِي كفة الْمِيزَان وَوضع أَبُو بكر فِي كفة فرجحت بِأبي بكر ثمَّ رفعت وَترك أَبُو بكر ثمَّ جِيءَ بعمر فَوضع فِي الكفة الْأُخْرَى فرجح أَبُو بكر بعمر ثمَّ رفع أَبُو بكر وَترك عمر حَتَّى جِيءَ بعثمان فَوضع فِي الكفة الْأُخْرَى فرجح عمر
بعثمان ثمَّ رفع الْمِيزَان فَتغير وَجه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ قَالَ خلَافَة نبوة ثَلَاثِينَ عَاما ثمَّ يكون ملك قَالَ سفينة أمسك سنتَيْن أَبُو بكر وَعشرا عمر وثنتي عشرَة عُثْمَان وستا عَليّ رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ
الرُّؤْيَا من أَخْبَار الملكوت من الْغَيْب وَهُوَ جُزْء من أَجزَاء النُّبُوَّة وَقد قَالَ عليه السلام يَوْم وَفَاته انه لم يبْق بعدِي من مُبَشِّرَات النُّبُوَّة إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَة وَقَالَ الله تَعَالَى لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة
قَالَ عبَادَة بن الصَّامِت رضي الله عنه سَأَلت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن قَوْله تَعَالَى {لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} قَالَ هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَة يَرَاهَا الرجل الْمُسلم أَو ترى لَهُ
وَعَن عبَادَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رُؤْيا الْمُؤمن كَلَام يكلم بِهِ العَبْد ربه فِي الْمَنَام
وَقَالَ بعض أهل التَّفْسِير فِي قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب قَالَ فِي مَنَامه
وَعلم الله تَعَالَى يُوسُف عليه السلام تَأْوِيل الرُّؤْيَا وَسَماهُ حَدِيثا فَقَالَ تَعَالَى ولنعلمه من تَأْوِيل الْأَحَادِيث
والمحدث على ثَلَاثَة أَنْوَاع مُحدث بِالْوَحْي وَهُوَ الَّذِي يخْفق على الْقلب بِالروحِ ومحدث فِي الْمَنَام أمره على الْأَرْوَاح إِذا خرجت الْأَرْوَاح من الأجساد كلموا ومحدث فِي الْيَقَظَة على الْقلب بِالسَّكِينَةِ فيعقلوه ويعلموه
أما الْمُحدث فِي الْمَنَام مثل مَا رُوِيَ عَن رقية بن مصقلة قَالَ رَأَيْت رب الْعِزَّة جل جلاله فِي الْمَنَام فَقَالَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لأكرمن مثوى سُلَيْمَان التَّيْمِيّ وَمَا رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم بن أدهم رحمه الله أَنه قَالَ ذَات يَوْم اللَّهُمَّ فَإِنَّهُ قد وَقع الشوق إِلَيْك فِي قلبِي وَالنَّظَر إِلَيْك وَقد علمت أَنَّك لَا ترى فِي الدُّنْيَا فَهَب لي من عنْدك مَا يسكن إِلَيْهِ قلبِي فغفى فِي مَجْلِسه ذَلِك ثمَّ أَفَاق فَقَالَ سُبْحَانَ الله فَقيل لَهُ لم سبحت قَالَ من لطف رَبِّي إِنِّي بَيْنَمَا أَنا غاف إِذا أَتَانِي آتٍ من رَبِّي فَقَالَ يَا رجل أجب رَبك فَأتيت رَبِّي فكاد يذهب بَصرِي لنُور رَبِّي فناداني رَبِّي فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم تَسْأَلنِي بَدَلا من النّظر إِلَيّ والشوق إِلَى لقائي فَهَل لذاك من بدل فَقلت يَا رب دهشت فِي حبك وَكَانَ قلبِي إِلَيْك فَلم أتمالك أَن قلت مَا قلت فَكيف تَأْمُرنِي أَن أَقُول فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم من وجدت قلبه خَالِيا من الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ملأته حبي حَتَّى إِذا ملأته قبضت عَنهُ فَكَانَ فِي قبضي فَإِذا كَانَ فِي قبضي كنت سَمعه الَّذِي بِهِ يسمع وبصره الَّذِي بِهِ يبصر وَيَده الَّذِي بهَا يبطش وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَو سَأَلَني جَمِيع الدُّنْيَا كلهَا فِي كَفه لفَعَلت وَكَيف يتفرغ الى الْمَسْأَلَة من سهلت لَهُ السَّبِيل إِلَى نَفسِي وأريته كَرَامَتِي فَإِن كنت لَا بُد سَائِلًا فاسألني أَن أجمعك إِلَيّ وأونسك بكلامي وآذن لأرواح انبيائي فِي الالتقاء مَعَك فَإِن ذَلِك يهون عَليّ لأوليائي
وَهَذَا لِأَن الْعَامَّة فِي تخطيط من الشَّهَوَات وميل النُّفُوس فَلم يكلموا الا بعد مزايلة الْأَرْوَاح من النُّفُوس والشهوات وَلما صفت عقول الْمُحدثين وطهرت قُلُوبهم وتنزهت من الْآفَات والشهوات والعلائق كلموا على
الْقُلُوب فَإِذا كَانَ الْكَلَام على الْأَرْوَاح فِي الْمَنَام جُزْءا من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة كَانَ الْكَلَام على الْقُلُوب فِي الْيَقَظَة أَكثر من ثلث النُّبُوَّة على قدر قربهَا من رَبهَا فِي تِلْكَ الْمجَالِس
وَعَن أبي سَلمَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَينا أَنا نَائِم إِذا اتيت بقدح لبن فَشَرِبت مِنْهُ حَتَّى أَنِّي لأرى الرّيّ جرى من أطرافي ثمَّ اعطيت فضلي عمر بن الْخطاب فَقَالَ من حوله مَاذَا أولته يَا رَسُول الله قَالَ الْعلم قَالَ وَرَأَيْت النَّاس يعرضون عَليّ وَعَلَيْهِم قمص مِنْهَا مَا يبلغ الثدي وَمِنْهَا مَا يبلغ الركب وَمر عمر وَعَلِيهِ قَمِيص يجره قَالُوا فَمَا أولته يَا رَسُول الله قَالَ الدّين
-
الأَصْل الثَّامِن وَالسَّبْعُونَ
-
فِي أَن الْمعدة إِذا كَانَت صَحِيحَة ترجى مَعهَا النجَاة
عَن بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده حَدثنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه كَانَ عبد من عباد الله آتَاهُ الله مَالا وَولدا فَكَانَ لَا يدين لله دينا فَلبث حَتَّى إِذا مَا ذهب عمر وَبَقِي عمر ذكر فَعلم أَنه لم يبتئر عِنْد الله خيرا دَعَا بنيه فَقَالَ أَي بني تعلموني قَالُوا خيرا يَا أَبَانَا قَالَ فَإِنِّي وَالله لَا أدع عِنْد رجل مِنْكُم مَالا هُوَ مني إِلَّا أَنا آخذ مِنْهُ أَو لتفعلن بِي مَا آمركُم فَأخذ مِنْهُم ميثاقا وربي قَالَ اما اني فَإِذا مت فخذوني فألقوني فِي النَّار حَتَّى إِذا كنت حمما فدقوني ثمَّ اذروني فِي الرّيح لعَلي أضلّ الله فَفَعَلُوا بِهِ وَرب مُحَمَّد حِين مَاتَ فجيء بِهِ أحسن مَا كَانَ قطّ فَعرض على ربه فَقَالَ مَا حملك على النَّار قَالَ خشيتك يَا رباه قَالَ إِنِّي أسمعك رَاهِبًا فتيب عَلَيْهِ
وَفِي رِوَايَة أبي سعيد رضي الله عنه دخل رجل الْجنَّة مَا عمل خيرا قطّ فَذكر الحَدِيث
وَفِي رِوَايَة أبي بكر رضي الله عنه فَيَقُول الله عز وجل انْظُر إِلَى ملك أعظم ملك فِي الدُّنْيَا فَإِن لَك مثله وَعشرَة أَمْثَاله فَيَقُول لم تسخر بِي وَأَنت الْملك قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَذَاك الَّذِي أضحكني
قَوْله لَا يدين الله دينا أَي لم يكن يسير فِي شَرِيعَته سير المطيعين فَأَما قبُول الشَّرِيعَة فَلم يكن يَخْلُو مِنْهُ إِذْ لَو جحد الدّين لكفر وَهُوَ مثل قَوْله فِي الحَدِيث الآخر لم يعْمل خيرا لله قطّ قَوْله أسمعك رَاهِبًا أَي رهبت مني وَهُوَ كَقَوْلِه هربت مني والهرب بِالنَّفسِ والرهب بِالْقَلْبِ فَهَذَا عبد كَانَت الْمعرفَة اسْتَقَرَّتْ فِي قلبه بِالتَّوْحِيدِ لله تَعَالَى وبالمبعث بعد الْمَوْت وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب وَالْغَالِب عَلَيْهِ الْجَهْل بِاللَّه وبأمره فأهمل الْحُدُود وعطل الْعُمر فَلَمَّا حَضَره الْمَوْت هاج مِنْهُ خوف التَّوْحِيد فأعمل فِي قلبه فطلبته نَفسه الجاهلة بِاللَّه ملْجأ وخلاصا من الله فدلته نَفسه على مَا أوصى بِهِ أَهله من الإحراق والسحق والتذرية فذهل عقله من المخافة وانقطعت حيله فَهَذَا بذلك فألجأه الله تَعَالَى بالمعرفة من غير الْتِفَات الى العبودة قَالَ الله تَعَالَى الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن وهم مهتدون فَلم يعْمل خيرا قطّ فَأَدْرَكته دولة السَّعَادَة فَأصَاب حظا من الخشية والخشية إِنَّمَا تنَال عِنْد كشف الغطاء وانشراح الصَّدْر بِالنورِ وَكَانَ قد
سبق لَهُ من الله تَعَالَى أَثَره وحظ وَهُوَ يقطع عمره فِي رفض العبودة ويضيعها فَلَمَّا حضر أَوَان شخوصه إِلَى الله تَعَالَى جَاءَت الأثرة والسعادة بذلك الْحَظ الَّذِي كَانَ سبق لَهُ فاسنتار الصَّدْر بِالنورِ وانكشف الغطاء حَتَّى صَار بِحَال لَا يعقل مَا يَقُول من الرهب من الله تَعَالَى فَقدم عَلَيْهِ مَعهَا فغفر لَهُ بخشيته
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ بَيْنَمَا عبد لم يعْمل لله خيرا قطّ فَفرق فَخرج هَارِبا فَجعل يُنَادي يَا أَرض اشفعي لي وَيَا سَمَاء اشفعي لي وَيَا كَذَا اشفعي لي حَتَّى أَصَابَهُ الْعَطش فَوَقع فَلَمَّا أَفَاق قيل لَهُ قُم فقد شفع لَك من قبل فرقك من الله تَعَالَى
وَعَن الْعَبَّاس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا اقشعر جلد العَبْد من خشيَة الله تحاتت عَنهُ خطاياه كَمَا تحات عَن الشَّجَرَة البالية وَرقهَا
وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ قَالَ الله تَعَالَى وَعِزَّتِي لَا أجمع على عَبدِي خوفين وَلَا أجمع لَهُ أمنين فَمن خافني فِي الدُّنْيَا أمنته فِي الْآخِرَة
-
الأَصْل التَّاسِع وَالسَّبْعُونَ
-
فِي أَن فِي الْخلّ مَنَافِع الدّين وَالدُّنْيَا
عَن عَائِشَة رضي الله عنه قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا أقفر بَيت فِيهِ خل أقفر أَي خلا والخل من الْأدم الَّتِي تعم مَنَافِعهَا
وَقيل فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا وَرِزْقًا حسنا} أَنه الْخلّ وَفِيه مَنَافِع الدّين وَالدُّنْيَا فَلذَلِك قَالَ مَا أقفر بَيت فِيهِ خل أَي مَا خلا من أَمر الدّين والدينا وَذَلِكَ بِأَنَّهُ بَارِد يطفىء حرارة الشَّهْوَة ويقطعها
وَعَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن قَالَت كَانَ عَامَّة أَدَم أَزوَاج النَّبِي صلى الله عليه وسلم بعده الْخلّ ليقطع عَنْهُن ذكر الرِّجَال
وَخلق ابْن آدم مجبولا على الشَّهَوَات الرِّجَال مِنْهُم وَالنِّسَاء وَكلما
وجدوا عونا لَهُم على طفء ذَلِك مِنْهُم كَانَ عونا لَهُم وكل شَيْء هُوَ عون للدّين فالبركة حَالَة بِهِ وَإِذا بورك فِي الشَّيْء سعد بِهِ أَهله
قَالَ عليه السلام فِيمَا رَوَاهُ أنس رضي الله عنه نعم الادام الْخلّ
-
الأَصْل الثَّمَانُونَ
-
فِي دفع الْمُنْكَرَات بِالدُّعَاءِ
عَن زِيَاد بن علاقَة عَن عَمه رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول اللَّهُمَّ جنبني مُنكرَات الْأَعْمَال والأخلاق والأهواء والأدواء
ابْن آدم لَا يَنْفَكّ فِيمَا عده عليه السلام فِي متقلبه لَيْلًا وَنَهَارًا فالكبائر مُنكرَات الْأَعْمَال وَسُوء الْخلق من مُنكرَات الْأَخْلَاق وَهُوَ الحقد والحسد وَالْبخل وَالشح وَمَا أشبهه والزيغ مُنكرَات الْأَهْوَاء والسل وَذَات الْجنب والجذام وَمَا أشبهه مُنكرَات الأدواء وَهَذِه كلهَا بوائق الدَّهْر وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُول أعوذ بك من بوائق الدَّهْر وفجأة النقم
فَأَما مُنكرَات الْأَعْمَال والأخلاق والأهواء فَمِنْهَا مَا يعظم الْخطب فِيهِ
حَتَّى يصير مُنْكرا غير مُتَعَارَف فِيمَا بَينهم فَذَاك الَّذِي يشار إِلَيْهِ بالأصابع
رُوِيَ أَن عبد الله بن عَائِد الثمالِي رضي الله عنه حِين حَضرته الْوَفَاة قَالَ لَهُ غُضَيْف بن الْحَارِث إِن اسْتَطَعْت أَن تلقانا فتخبرنا مَا لقِيت فَتوفي فرؤي فِي الْمَنَام فَقَالَ وجدنَا رَبنَا خير رب يقبل الْحَسَنَات وَيغْفر السَّيِّئَات إِلَّا مَا كَانَ من الأحراض قيل وَمَا الأحراض قَالَ الَّذِي يشار إِلَيْهِ بالأصابع فِي الشَّرّ
وروى الْحسن رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ بِحَسب إمرىء من الشَّرّ أَن يشار إِلَيْهِ بالأصابع فِي دين أَو دنيا إِلَّا من عصمه الله تَعَالَى إِنَّمَا يشار إِلَيْهِ فِي دين لِأَنَّهُ أحدث بِدعَة ومنكرا وَفِي دنيا أحدث مُنْكرا من الْكَبَائِر فأشير إِلَيْهِ
وَقَوله عليه السلام بِحَسبِهِ من الشَّرّ لِأَنَّهُ قد هتك الله ستره والمهتوك ستره يكون فِي دُنْيَاهُ فِي عَار وَغدا فِي النَّار وَمن ستر الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا رجا لَهُ الْعَفو فِي الْآخِرَة
قَالَ عليه السلام إِذا ستر الله على عبد فِي الدُّنْيَا لم يَفْضَحهُ غَدا
وَقَالَ عَليّ رضي الله عنه أقسم على ذَلِك من غير أَن أستثني لَا يستر الله على عبد فيفضحه غَدا
-
الأَصْل الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أَن النَّفس تألف بِمن يبرها وَبَيَان سره
عَن جَابر رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول إِذا دعِي احدكم إِلَى طَعَام فليجب فان شَاءَ طعم وَإِن شَاءَ ترك
الْمَقْصُود من الدعْوَة ابْتِغَاء الألفة والمودة وَفِي النَّفس هناة وَفِي الصَّدْر سخائم والنفوس جبلت على حب من أكرمها وَقد حثهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الاجابة ليصل ذَلِك الْبر الَّذِي بر بِهِ أَخُوهُ حَتَّى تتأكد الألفة وتصفو الْمَوَدَّة وتنفي حزازات الصَّدْر فَإِن صَاحب الغل والحقد لَا يسلم لَهُ دينه من سوء مَا يضمر لِأَخِيهِ فالإطعام بر للنَّفس يطفي حرارة الحقد وينفي مكامن الغل وَقد كَانَت للْقَوْم أحقاد الْجَاهِلِيَّة فألف الله تَعَالَى بَين قُلُوبهم بِالْإِيمَان فحثهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على إِجَابَة الدعْوَة لألفة النُّفُوس ولذذلك قَالَ عليه السلام من لم يجب الدعْوَة فقد عصى الله وَرَسُوله لأَنهم كَانُوا يتخذون الطَّعَام يدعونَ عَلَيْهَا لنفي السخيمة
فَمن امْتنع عَلَيْهِ ليثبت على الغل والحقد فقد عصى الله وَرَسُوله وَامْتنع من حق عَظِيم والألفة من ثَلَاثَة وُجُوه إِذا حصل تَأَكد واستتم فالقلب يألف بِالْإِيمَان الَّذِي فِي قلب صَاحبه وَالروح تألف بِطَاعَتِهِ وَالنَّفس من شَأْنهَا الشَّهْوَة واللذة وَلَيْسَت همتها الْإِيمَان وَالطَّاعَة فتألف ببرها فَإِذا برهَا صفت وَصَارَت طَوْعًا وَإِلَّا فَهُوَ كالمكره فَإِنَّمَا دَعَاهُ أَخُوهُ إِلَى قبُول بره فندبه صلى الله عليه وسلم إِلَى أَن يقبل ذَلِك من أَخِيه كَيْلا يضيع كرامته وَلَا يجد الشَّيْطَان سَبِيلا إِلَى وسوسته بِالشَّرِّ ثمَّ لَهُ الْخِيَار إِن شَاءَ طعم وَإِن شَاءَ ترك وَترك الْإِجَابَة مِمَّا يدل على الْجفَاء والبعد والاستهانة بِهِ فهناك يجد الْعَدو سَبِيلا إِلَّا أَن يعْتَذر إِلَيْهِ الْمَدْعُو فَيقبل الدَّاعِي عذره وَإِن أحس بِالشَّرِّ فِي الدعْوَة فَلهُ فِي التَّخَلُّف عَنْهَا عذر مثل إِن كَانَ ذَلِك الطَّعَام لمباهاة أَو رِيَاء فَلهُ عذر فِي ترك الْإِجَابَة وَقد نهى عليه السلام عَن طَعَام المتباهين أَن يُؤْكَل أَو يكون فِي تِلْكَ الدعْوَة أُمُور مَنْهِيّ عَنْهَا من اللَّهْو واللعب الْمَحْظُور عَلَيْهِم فَهَذَا عذر لما روى الحكم بن عُمَيْر وَكَانَ بَدْرِيًّا قَالَ أرسل رجل من الْأَنْصَار إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَدعُوهُ إِلَى طَعَام وَكَانَ عليه السلام يحْفر الخَنْدَق فجَاء وَأَصْحَابه فَقَالَ ادخل يَا نَبِي الله الْبَيْت فَدخل فَرَأى الْبَيْت منجدا مسترا فَخرج فَقَالَ يَا رَسُول الله مَا أخرجك فَقَالَ أطعمنَا بالفناء فأطعمهم حَتَّى إِذا شبع الْقَوْم فَلَمَّا تفَرقُوا قَالَ يَا رَسُول الله لَو كنت دخلت فَإِن الْبَيْت كَانَ أبرد وَأطيب قَالَ إِنَّك نجدت الْبَيْت وسترته وَهَذَا لَا يحل شبهته بَيت الله الله وَلَو شئب بسطت فِيهِ وطرحت فِيهِ وسائد
-
الأَصْل الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أصل الْأَدْوِيَة وسر الْحِكْمَة فِي التَّدَاوِي
عَن عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله تَعَالَى لم ينزل دَاء إِلَّا أنزل لَهُ شِفَاء علمه من علمه وجهله من جَهله
وَعَن أُسَامَة بن شريك رضي الله عنه يَقُول شهِدت الْأَعْرَاب يسْأَلُون رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هَل علينا جنَاح فِي كَذَا هَل علينا جنَاح أَن نتداوى فَقَالَ تداووا عباد الله فَإِن الله تَعَالَى لم ينزل دَاء إِلَّا وضع لَهُ شِفَاء إِلَّا الْهَرم
فالطبائع تَتَغَيَّر بحدوث الْأَزْمِنَة من الْحر وَالْبرد وَفَسَاد الْهَوَاء فَيصير دَاء فِي الأجساد وتحدث فِي الْجَسَد الْأَحْدَاث من الطّعْم وَمَا يتعاطاه ابْن آدم من قَضَاء الشَّهَوَات وَاللَّذَّات وَالنّصب والسهر والتعب والهموم وَمَا يجْتَمع فِي الْجَسَد من الدَّم والمرة والبلغم وكل ذَلِك يحدث مِنْهُ مَا يتَغَيَّر حَاله فَيحْتَاج إِلَى دَوَاء يسكن مِنْهُ مَا هاج فَهَذَا تَدْبِير الْجَسَد فَإِذا ترك تَدْبيره ضيعه كَمَا لَو ترك تَدْبِير المعاش ضَاعَ فالتداوي حق وَهُوَ فعل الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وَقدم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة وهم يُلَقِّحُونَ النّخل فَقَالَ مَا أرى يُغني هَذَا شَيْئا فَذَهَبت عَامَّة ثمارهم وَصَارَت دفلا فَعرف أَن التَّدْبِير من الله تَعَالَى فِي ذَلِك غير مَا رأى فَأَمرهمْ أَن يعودوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَكَذَا وضعت علل الأجساد أَن تعالج حَتَّى ترد إِلَى الْهَيْئَة الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا وَلَوْلَا ذَلِك لكَانَتْ الْأَدْوِيَة مُهْملَة وَلم يخلقها الله تَعَالَى عَبَثا وَكَانَ سُلَيْمَان عليه السلام تنْبت فِي محرابه كل يَوْم شَجَرَة ثمَّ تناديه الشَّجَرَة أَنا دَوَاء لكذا فتقطع وتوضع فِي ديوَان الطِّبّ فعامة الطِّبّ إِنَّمَا ورثوه من تِلْكَ الْكتب
فَالنَّاس فِي التَّدَاوِي على ثَلَاث طَبَقَات
فالطبقة الأولى هم الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام أهل يَقِين ومشاهدة يتداوون وَقُلُوبهمْ مَعَ خَالق الدَّوَاء الَّذِي جعل الشِّفَاء فِي ذَلِك الدَّوَاء فهم يتداوون على مَا هيأ لَهُم من التَّدْبِير وينتظرون الشِّفَاء من الله تَعَالَى وَقُلُوبهمْ خَالِيَة عَن فتْنَة الدَّوَاء
والطبقة الثَّانِيَة هم أهل الْيَقِين لم يأمنوا خِيَانَة نُفُوسهم أَن تطمئِن إِلَى الدَّوَاء وتركن إِلَيْهِ فيفروا من ذَلِك فَكلما عرض لَهُم دَاء فَوضُوا الْأَمر فِي ذَلِك الى الله تَعَالَى وتوكلوا عَلَيْهِ وَلم يتكلفوا تداويا وَتركُوا التَّدَاوِي من ضعف يقينهم خوفًا على قُلُوبهم أَن تطمئِن نُفُوسهم الى الدُّنْيَا فَيصير سَببا يتَعَلَّق بِهِ قُلُوبهم وَالْأول أَعلَى وَأقوى
والطبقة الثَّالِثَة أهل تَخْلِيط وَقُلُوبهمْ مَعَ الْأَسْبَاب لَا ينفكون مِنْهَا فهم محتاجون الى التَّدَاوِي وَلَا يصبرون على تَركهَا وهم الْعَامَّة
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله تَعَالَى من الْمُؤمن الضَّعِيف وَفِي كل خير احرص على مَا ينفعك وَلَا تعجز فَإِن غلبك أَمر فَقل قدر الله وَمَا شَاءَ فعل وَإِيَّاك واللو فَإِن اللو يفتح عمل الشَّيْطَان
فالأقوياء تداووا ومروا فِي الْحِيَل والأسباب وَقُلُوبهمْ مَعَ رب الْأَدْوِيَة لَا مَعَ الْأَسْبَاب وهم الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام وَالْمُؤمن الضَّعِيف انه يَحْجُبهُ تداويه عَن الله تَعَالَى وَيتَعَلَّق قلبه بِهِ وَذَلِكَ لضعف يقينه وَفِي كل خير وَالْقَوِي أحب إِلَى الله تَعَالَى
وَقَوله احرص على مَا ينفعك أَي اسْتعْمل تَدْبِير الله تَعَالَى فِي هَذِه الْأُمُور وَلَا تعجز بِتَرْكِهِ فَإِن اسْتعْملت وَلم يكن الَّذِي أردْت فَقل قدر الله وَمَا شَاءَ أَي هَكَذَا كَانَ قدر وَشاء فارض بِحكمِهِ وَإِيَّاك أَن تَقول لَو كَانَ كَذَا كَانَ هَذَا الْأَمر كَذَا وَلَو لم يكن كَذَا لَكَانَ كَذَا فَهَذَا قَول من يتَعَلَّق قلبه بالأسباب وَعمي عَن تَدْبِير الله تَعَالَى وصنعه
وَمَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يدْخل سَبْعُونَ ألفا من أمتِي الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب قيل يَا نَبِي الله من
هم قَالَ الَّذين لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يسْتَرقونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ
فَإِنَّمَا كره رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الكي وَاسْتِعْمَال النَّار فِي الْأَدْوِيَة وَكَذَلِكَ الرقى لِأَن أَكْثَره يشوبه الشّرك
قَالَ عليه السلام أقرب الرقى إِلَى الشّرك رقية الْحَيَّة وَالْجُنُون وَكَذَلِكَ الطَّيرَة من فعل الْجَاهِلِيَّة فَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الْخِصَال الْمَكْرُوهَة انهم تركوها تورعا وتوكلوا على رَبهم وَلم يذكر أَنهم لَا يتداوون وَلَيْسَ فِي طلب المعاش والتداوي والمضي فِي الْأَسْبَاب على تَدْبِير الله تَعَالَى ترك للتفويض والتوكل إِذْ الْأَنْبِيَاء وَالرسل عليهم السلام هم طلاب المعاش وَأهل الْحَرْف والتجارات
قَالَ عليه السلام إِن الله يحب أَن يرى العَبْد محترفا
وَمر عمر رضي الله عنه بِقوم فَقَالَ من أَنْتُم قَالُوا المتوكلون فَقَالَ أَنْتُم المتأكلون إِنَّمَا المتَوَكل رجل ألْقى حَبَّة فِي بطن الأَرْض وتوكل على ربه
وَإِنَّمَا ترك التَّوَكُّل بِالْقَلْبِ إِذا غفل عَن الله تَعَالَى وَكَانَ قلبه محجوبا فَإِذا طلب المعاش أَو تداوى صَار فتْنَة عَلَيْهِ وَتعلق قلبه بِهِ وَقد نهى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن الرقى ثمَّ رخص فِيمَا يُؤمن فِيهِ الشّرك
روى جَابر رضي الله عنه أَن عَمْرو بن حزم دَعَا لامْرَأَة بِالْمَدِينَةِ
لدغتها حَيَّة ليرقيها فَأبى فَأخْبر بذلك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَدَعَاهُ فَقَالَ عَمْرو إِنَّك لتزجر عَن الرقى فَقَالَ اقرأها عَلَيْهِ فقرأها فَقَالَ لَا بَأْس بهَا إِنَّمَا هِيَ مواثيق فَارق بهَا
وَعَن جَابر رضي الله عنه كَانَ بِالْمَدِينَةِ رجل يكنى أَبَا مُذَكّر يرقي من الْعَقْرَب ينفع الله بهَا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا أَبَا مُذَكّر مَا رقيتك هَذِه اعرضها عَليّ فَقَالَ ابو مُذَكّر شجة قرينَة ملحة بَحر قغطى فَقَالَ عليه السلام لَا بَأْس بهَا إِنَّمَا هِيَ مواثيق أَخذهَا سُلَيْمَان بن دَاوُد عليه السلام على الْهَوَام وَهَذِه لُغَة حمير
-
الأَصْل الثَّالِث وَالثَّمَانُونَ
فِي التَّنْبِيه على أَن الْعقُوبَة من الله تَعَالَى تعم وَالرَّحْمَة للمطيع
عَن يُوسُف بن عَطِيَّة الصفار قَالَ سَمِعت ابْن سِيرِين وَسَأَلَهُ رجل فَقَالَ يَا أَبَا بكر مَا تَقول فِي هَذَا الذَّر يَقع فِي طعامنا وشرابنا فنقتله فَقَالَ حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن نَبيا من الْأَنْبِيَاء كَانَ فِي غزَاة لَهُ فَنزل تَحت شَجَرَة فلذعته نملة فامر بِتِلْكَ الشَّجَرَة فاحرقت فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ الا نملة مَكَان نملة
كَانَ هَذَا النَّبِي قد حاور ربه فِي شَأْن الْخلق وَرُوِيَ أَن ذَلِك كَانَ مُوسَى بن عمرَان فَقَالَ يارب تعذب أهل قَرْيَة بمعاصيهم وَفِيهِمْ
الْمُطِيع فَكَأَنَّهُ أحب أَن يرِيه ذَلِك من عِنْده فَسلط عَلَيْهِ الْحر حَتَّى التجأ الى ظلّ شَجَرَة مستروحا وَعِنْدهَا بَيت النَّمْل فغلبه النّوم فَلَمَّا وجد لَذَّة النّوم لذعته النملة فأضجرته فدلكهن بقدمه وأحرق تِلْكَ الشَّجَرَة الَّتِي عِنْدهَا مساكنهم فَأرَاهُ الله تَعَالَى الْعبْرَة فِي ذَلِك إِنَّك تحيرت فِي عَذَابي أهل قَرْيَة وَفِيهِمْ الْمُطِيع والعاصي وَإِنَّمَا أجرمت إِلَيْك نملة فَكيف قَتلتهمْ وَلَيْسَ فِي هَذَا خطر عَن قتل النَّمْل لِأَن كل مَا أذاك أُبِيح لَك قَتله أَلا ترى أَن الفأر والغراب وَالْكَلب والحية وَالْعَقْرَب قد أُبِيح للْمحرمِ قَتلهَا وَكَذَلِكَ سَائِر الْهَوَام المؤذية إِلَّا إِن الْمُؤمن لَا يقتل هَذِه الْأَشْيَاء عَبَثا وَلكنه يَقْتُلهَا بِحَق إِذا كَانَ من تاذ أَو خوف وَلَيْسَ ذَاك بأعظم حُرْمَة من الْمُؤمن وَمَعَ ذَلِك يُبَاح دَفعه بِالْقَتْلِ
-
الأَصْل الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أَن النَّاس ينزلون مَنَازِلهمْ وتدبير الله فِي اخْتِلَاف أَحْوَالهم
عَن مَيْمُون بن أبي شبيب عَن عَائِشَة رضي الله عنه قَالَت مر عَلَيْهَا سَائل فَأمرت لَهُ بكسرة وَمر عَلَيْهَا رجل ذُو هَيْئَة فأقعدته فَقيل لَهَا فَقَالَت إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أمرنَا ان ننزل النَّاس مَنَازِلهمْ
دبر الله تعال لعبيده الْأَحْوَال غنى وفقرا وَعزا وذلا ورفعة وضعة ليبلوهم فِي الدُّنْيَا أَيهمْ يشْكر على الْعَطاء وأيهم يصبر على الْمَنْع وأيهم يقنع بِمَا أُوتِيَ وأيهم يسْخط ثمَّ ينقلهم الى الْآخِرَة فَذَلِك يَوْم الْجَزَاء فالعاقل يعاشر أهل دُنْيَاهُ على مَا دبر الله لَهُم فالغني قد عوده الله النِّعْمَة وَهِي مِنْهُ كَرَامَة ابتلاء لَا كَرَامَة ثَوَاب قَالَ الله تَعَالَى فَأَما الْإِنْسَان إِذا مَا ابتلاه ربه فَأكْرمه ونعمه فَيَقُول رَبِّي أكرمن وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه فَيَقُول رَبِّي أهانن كلا
أَي لست أكْرم بالدنيا وَلَا أهين بمنعها فَإِذا لم تنزله الْمنزلَة الَّتِي أنزل الله تَعَالَى استهنت بِهِ وجفوته من غير جرم اسْتحق بِهِ ذَلِك الْجفَاء وَتَركه مُوَافقَة الله تَعَالَى فِي تَدْبيره وأفسدت عَلَيْهِ دينه وَهُوَ قَوْله عليه السلام أنزلوا النَّاس مَنَازِلهمْ أَي الْمنَازل الَّتِي أنزلهم الله من دنياهم أما الْآخِرَة فقد غيب شَأْنهَا عَن الْعباد فَإِذا سويت بَين الْغَنِيّ وَالْفَقِير فِي مجْلِس أَو مأدبة أَو هَدِيَّة كَانَ مَا أفسدت أَكثر مِمَّا أصلحت فَإِن الْغَنِيّ يجد عَلَيْك إِذا أزريت بِحقِّهِ فَإِن الله تَعَالَى لم يعودهُ ذَاك وَالْفَقِير يعظم ذَلِك الْقَلِيل فِي عينه ويقنع بذلك لِأَن تِلْكَ عَادَته وَكَذَلِكَ مُعَاملَة الْمُلُوك والولاة على هَذَا السَّبِيل فَإِذا عاملت الْمُلُوك بمعاملة الرّعية فقد استخففت بِحَق السُّلْطَان وَهُوَ ظلّ الله تَعَالَى فِي أرضه بِهِ تسكن النُّفُوس وتجتمع الْأُمُور فالناظر إِلَى ظلّ الله عَلَيْهِم فِي الشّغل عَن الالتفاف الى سيرهم وأعمالهم وَإِنَّمَا نفر قوم من السّلف عَنْهُم وجانبوهم لِأَنَّهُ لم تمت شهوات نُفُوسهم وَلم يكن لقُلُوبِهِمْ مطالعة ظلّ الله تَعَالَى عَلَيْهِم فخافوا أَن يخالطوهم أَن يَجدوا حلاوة برهم فتخلط قُلُوبهم بقلوبهم فجانبوهم وأعرضوا عَنْهُم وتأولوا فِي ذَلِك لحَدِيث ابْن
عَبَّاس رضي الله عنهما مَلْعُون من أكْرم بالغنى وأهان بالفقر وَهَذَا من قلَّة معرفتهم بتأويله فَإِنَّهُم لَو نظرُوا إِلَيْهِم بِمَا ألبسوا من ظله لشغلوا عَن جَمِيع مَا هم فِيهِ وَلم يضرهم اختلاطهم وبهذه الْقُوَّة كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون من بعدهمْ بِإِحْسَان يلقون الْأُمَرَاء الَّذين قد ظهر جَوْرهمْ ويقبلون جوائزهم ويظهرون الْعَطف عَلَيْهِم والنصيحة لَهُم
وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس رضي الله عنه فتأويله أَن الَّذِي يعظم فِي عينه حطام الدُّنْيَا وَبَاعَ آخرته بدنياه من المنافسة فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَة فِيهَا وَعظم شَأْن الْأَغْنِيَاء فِي عينه لما يرى عَلَيْهِم من الدُّنْيَا فيعظمهم ويتملقهم ويكرمهم تكريما وتعظيما لما فِي أَيْديهم وَإِذا رأى من قد منع هَذَا وزويت عَنهُ الدُّنْيَا ازدراه وحقره فلغلبه الشَّهَوَات يعظم أَبنَاء الدُّنْيَا ويحقر أَبنَاء الْآخِرَة فَهُوَ مستوجب لعنة الله تَعَالَى لِأَنَّهُ مفتون يكرم مفتونا فَأَما عبد دقَّتْ الدُّنْيَا فِي عينه ورحم أهل الْبلَاء فَهُوَ يرى الْغَنِيّ مبتلى بغناه قد تراكمت عَلَيْهِ أثقال النِّعْمَة وغرق فِي حِسَابهَا وَعَلِيهِ وبالها غَدا فيرحمه فِي ذَلِك كالغريق الَّذِي يذهب بِهِ السَّيْل فَإِذا لقِيه أكْرمه وبره على مَا عوده الله تَعَالَى إبْقَاء على دينه لِئَلَّا يفْسد فَإِنَّهُ قد تعزز بدنياه وتكبر وتاه ويعظم ذَلِك فِي نَفسه فَإِذا حقرته فقد أهلكته لِأَن عزه دُنْيَاهُ فَإِذا أسقطت عزه فقد سلبته دُنْيَاهُ وَهَذِه محاربه لَا عشرَة فَعَلَيْك أَن تبره وتكرمه مداريا لَهُ على دينه ورفقا بِهِ وترحمه بقلبك وَقد صغر فِي عَيْنَيْك مَا خوله الله تَعَالَى من الدُّنْيَا وَهَذَا فعل الأنيباء والأولياء وَبِذَلِك أوصى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِذا جَاءَكُم كريم قوم فأكرموه
أَرَادَ من عوده قومه الاكرام من غير أَن ينسمه إِلَى دين أَو صَلَاح فَإِذا
أَنْت مأجور باكرام من عوده قومه الاكرام فَكيف من عوده الله تَعَالَى وأكرمه ونعمه كَرَامَة الِابْتِلَاء فَإِذا رأى ذَا نعْمَة عظمه فِي الظَّاهِر تَعْظِيم بر ولطف ليبقى من دينه وَدين نَفسه وليكون تَدْبِير الله تَعَالَى الَّذِي وَضعه لَهُ فِي الْعِزّ والتعظيم بمكانه وَهُوَ فِي الْبَاطِن قلبه مِنْهُ بعيد وَهَكَذَا أهل الْفساد من الْمُوَحِّدين يلطف بهم ويرفق بهم فِي الظَّاهِر إبْقَاء على أَحْوَالهم فِي امْر دينهم والرفق مَحْبُوب مبارك
عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله يحب الرِّفْق كُله
وَقَالَ عليه السلام من أعطي حَظه من الرِّفْق أعطي حَظه من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن حرم حَظه من الرِّفْق حرم حَظه من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَقَالَ عليه السلام إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى بِأَهْل بَيت خيرا أَدخل عَلَيْهِم بَاب الرِّفْق صدق رَسُول الله
-
الأَصْل الْخَامِس وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أَن الْمُؤمن يَمُوت بعرق الجبين
عَن بُرَيْدَة عَن أَبِيه رضي الله عنهما وَكَانَ بخراسان فَدخل على ابْن أَخ لَهُ يعودهُ فَوَجَدَهُ فِي الْمَوْت فَإِذا هُوَ يعرق جَبينه فَقَالَ بُرَيْدَة الله أكبر سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الْمُؤمن يَمُوت بعرق الجبين
الْمُؤمن لما رأى من ذنُوبه فِي وَقت مقدمه على ربه فتراءى لَهُ قبح مَا جَاءَ بِهِ فيستحيي مِنْهُ فيعرق لذَلِك وَجهه لِأَن مَا سفل مِنْهُ قد مَاتَ وَإِنَّمَا بقيت قوى الْحَيَاة وحركاتها فِيمَا علا والحياة فِي الْعَينَيْنِ وَذَلِكَ وَقت الْحيَاء والرجاء والأمل فَإِذا عرق فَذَاك عَلامَة الْإِيمَان فَأَما الْكَافِر فَفِي عمى عَن هَذَا كُله
وَعَن سعيد بن سوفة قَالَ دَخَلنَا على سلمَان الْفَارِسِي نعوده وَهُوَ مبطون فَقَالَ إِنِّي محدثك حَدِيثا لم أحدثه أحدا قبلك وَلَا أحدث أحدا بعْدك سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول ارقبوا الْمَيِّت عِنْد مَوته فَأَما إِن رشحت جَبينه وذرفت عَيناهُ وانتشر منخراه فَهِيَ رَحْمَة من الله تَعَالَى قد نزلت بِهِ فَإِن غط غطيط الْبكر المخنوق وخمد لَونه وأزبد شدقاه فَهُوَ عَذَاب من الله تَعَالَى قد حل بِهِ ثمَّ قَالَ لامْرَأَته مَا فعل الْمسك الَّذِي جِئْنَا بِهِ من بلنجر قَالَت هوذا قَالَ فألقيه فِي المَاء ثمَّ اضربي بعضه بِبَعْض ثمَّ انضحي حول فِرَاشِي فَإِنَّهُ يأتيني الْآن قوم لَيْسُوا بجن وَلَا إنس فَفعلت فقمنا من عِنْده ثمَّ رَجعْنَا فوجدناه قد قبض
وَعَن عبد الله قَالَ موت الْمُؤمن بعرق الجبين إِن الْمُؤمن يبْقى عَلَيْهِ خَطَايَا من خطاياه فيجازف بهَا عِنْد الْمَوْت فيعرق لذَلِك جَبينه
الأَصْل السَّادِس وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أَن الْكيس من أبْصر الْعَاقِبَة والأحمق من عمي عَنْهَا
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما أَن رجلا قَالَ يَا نَبِي الله أَي الْمُؤمنِينَ أَكيس قَالَ أَكْثَرهم ذكر للْمَوْت وَأَحْسَنهمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا وَإِذا دخل النُّور فِي الْقلب اِنْفَسَحَ وَاسْتَوْسَعَ قَالُوا مَا آيَة ذَلِك يَا نَبِي الله قَالَ الْإِنَابَة الى دَار الخلود والتجافي عَن دَار الْغرُور والاستعداد للْمَوْت قبل نزُول الْمَوْت ثمَّ قَرَأَ {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه}
الْمَوْت عَاقِبَة أَمر الدُّنْيَا فالكيس من أبْصر الْعَاقِبَة والأحمق من عمي عَنْهَا بحجب الشَّهَوَات الَّتِي قَامَت بَين يَدي قلبه فاقتضته إنجازها وجاءته
الْأَمَانِي بمواعيدها الكاذبة المخلقة فَتَقول لَهُ خُذْهَا ثمَّ تتوب وأتته الشَّهْوَة وَتقول لَهُ خذني إِلَيْك ثمَّ تستغفر فَإِن الله غَفُور للمذنبين وحبِيب للتائبين فَهَذِهِ حجب كثيفة دون الْعَاقِبَة فَلَا يَرَاهَا والكيس من سعد بجميل نظر الله تَعَالَى واعطى النُّور الزَّائِد على نور الْمُوَحِّدين وَهُوَ نور الْيَقِين يهتك هَذَا النُّور الْحجب وَالدُّخَان والظلمة الَّتِي فِي الصَّدْر من الشَّهَوَات فسكن الدُّخان وانقشعت الظلمَة واستنار الصَّدْر فأبصر عَاقِبَة أمره وَأَنَّهَا قَاطِعَة لكل لَذَّة وشهوة وحائلة بَينه وَبَين كل أُمْنِية وَأَن عمره أنفاس مَعْدُودَة لَا يدْرِي مَتى ينْفد الْعدَد فَصَارَ من ذَلِك على خطر عَظِيم وَلَا يعلم مَتى يحل بِهِ الْمَوْت ويبغت بِهِ الْأَمر فيرحل إِلَيْهِ من دَار الْغرُور مغترا بِهِ مخدوعا عَنهُ مَعَ دنس الْمعاصِي وقبح الآثام فَلَا وُصُول إِلَى تَوْبَة وَلَا مهلة لَهُ فِي إنابة فَيكون مقدمه مقدم العبيد الاباق الَّذين أمهلهم الله فِي الدُّنْيَا وحلم عَنْهُم وَكَانُوا يحكمون لأَنْفُسِهِمْ بِمَا يشتهون فِي دنياهم وهم مستدرجون فِي مكره فيردهم إِلَيْهِ وَيحكم فيهم بِمَا يستوجبون من إباقهم قَالَ الله تَعَالَى ثمَّ ردوا الى الله تَعَالَى مَوْلَاهُم الْحق أَلا لَهُ الحكم وَهُوَ أسْرع الحاسبين فالكيس نظر بنوره الَّذِي من الله تَعَالَى عَلَيْهِ بِهِ فأبصر أَن الْمَوْت قَاطع لكل لَذَّة حَائِل بَينه وَبَين التَّوْبَة فانكسر قلبه وذبلت نَفسه وخمدت نَار شَهْوَته واكفهر الْحق فِي وَجه أمْنِيته واستعد لكل ذَنْب تَوْبَة واعتذارا وَمَكَان كل سَيِّئَة حَسَنَة واستغفارا لتَكون الْحَسَنَة غطاء للسيئة وَالتَّوْبَة محاء للخطيئة فَهَذَا تَفْسِير قَوْله عليه السلام أكيسهم أَكْثَرهم ذكرا للْمَوْت وَأَحْسَنهمْ لَهُ استعداد فالاستعداد أَن يجانب التخليض مجانبة لَا يحْتَاج إِلَى استمهال إِذا فاجأه أَمر الله تَعَالَى وجاءته دَعوته فَيَقُول أمهلني حَتَّى أَتُوب وَأصْلح أَمْرِي وَحسن الاستعداد أَن يكون قد استعد للقائه وَالْعرض عَلَيْهِ بعد علمه أَن الْمَوْت يُؤَدِّيه إِلَيْهِ فطاب قلبه بِاللَّه
تَعَالَى وروحه بِالطَّاعَةِ وَنَفسه تتجنب الشَّهَوَات والمنى ورفض التَّدْبِير لنَفسِهِ وتفويض ذَلِك إِلَى خالقه
وَهَذَا صفة أهل الْيَقِين الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فيهم {الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة طيبين يَقُولُونَ سَلام عَلَيْكُم ادخُلُوا الْجنَّة} الْآيَة تسلم عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة من الله تَعَالَى وتبشرهم بِدُخُول الْجنَّة من غير حبس فِي موطن أَي حِسَاب فِي موقف وَإِنَّمَا سموا طيبين لِأَنَّهُ لم يبْق فيهم تَخْلِيط فطابوا روحا وطابوا قلبا وطابوا نفسا وَأما أهل التَّخْلِيط لَا يُقَال لَهُم هَذِه الْكَلِمَة عِنْد الْمَوْت وَإِنَّمَا يُقَال لَهُم {طبتم فادخلوها خَالِدين} عِنْد بَاب الْجنَّة بعد مَا محصوا بِعَذَاب الْقَبْر وأهوال الْقِيَامَة وَتَنَاول النيرَان فيهم بلفحاتها على الصِّرَاط وَالْحَبْس فِي الْعرض الْأَكْبَر فَإِذا خلي عَنْهُم وبلغوا بَاب الْجنَّة نُودُوا {سَلام عَلَيْكُم طبتم فادخلوها خَالِدين}
وَقد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ النَّاس يعرضون ثَلَاث عرضات يَوْم الْقِيَامَة
فَأَما عرضتان فجدال ومعاذير وَأما فِي العرضة الثَّالِثَة تطاير الصُّحُف فالجدال للأعداء لأَنهم لَا يعْرفُونَ رَبهم فيظنون أَنهم إِذا جادلوه نَجوا وَقَامَت حججهم والمعاذير لله الْكَرِيم يعْتَذر الى أنبيائه عليهم السلام وَيُقِيم حجَّته عِنْدهم على الْأَعْدَاء ثمَّ يَبْعَثهُم الى النَّار قَالَ عليه السلام لَا أحد أحب إِلَيْهِ الْمَدْح من الله تَعَالَى وَلَا أحد أحب إِلَيْهِ الْعذر من الله تَعَالَى
والعرضة الثَّالِثَة للْمُؤْمِنين وَهُوَ الْعرض الْأَكْبَر وهم على ضَرْبَيْنِ مِنْهُم من نبهه فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا فكاد يَمُوت حَيَاء وفرقا فَأعْطى الْأمان غَدا من ذَلِك فَإِنَّهُ لن يجمع ذَلِك على العَبْد فِي موطنين
قَالَ عليه السلام قَالَ ربكُم وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أجمع على عَبدِي خوفين وَلَا أجمع لَهُ أمنين فَمن خافني فِي الدُّنْيَا أمنته فِي الْآخِرَة وَمن أمنني فِي الدُّنْيَا أخفته فِي الْآخِرَة
وَمِنْهُم من يُرِيد أَن يعاتبه حَتَّى يَذُوق وبال الْحيَاء مِنْهُ ويرفض عرقا بَين يَدَيْهِ وَيفِيض الْعرق مِنْهُم على اقدامهم من شدَّة الْحيَاء ثمَّ يغْفر لَهُم ويرضى عَنْهُم فَمن استحيى من الله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا مِمَّا صنع استحيى الله تَعَالَى من تفتيشه وسؤاله وَلَا يجمع عَلَيْهِ حيائين كَمَا لَا يجمع عَلَيْهِ خوفين وَقد ستر محاسنه مساويه حَتَّى يصير فِي ستر محاسنه وَستر عَلَيْهِ علمه حَتَّى لَا يستحيي من الْخلق وَمن نَفسه
وَقَوله عليه السلام إِذا دخل النُّور الْقلب اِنْفَسَحَ وانشرح فدخول النُّور فِي الْقلب والانفساح فِي الصَّدْر فَإِن الصَّدْر بَيت الْقلب وَمِنْه تصدر الْأُمُور فَيدْخل النُّور فِي الْقلب وَمِنْه ينفسح الصَّدْر وينشرح ويتسع لِأَن الصَّدْر كَانَ مظلما بالشهوات المتراكمة فِيهِ والأماني والفكر وعجائب النَّفس ودواهيها فَكَانَ يضيق بأوامر الله تَعَالَى لِأَنَّهَا خلاف امنيته وهواه فَلَمَّا قذف بِالنورِ فِيهِ نفى الظلمَة وأشرق الصَّدْر واتسع فِيهِ أَمر الله تَعَالَى ونصائحه وآدابه ومواعظه فَهَذَا كُله عَلامَة الْبَاطِن وَأما عَلامَة الظَّاهِر فَثَلَاث خِصَال أَشَارَ عليه السلام إِلَيْهَا بقوله الْإِنَابَة إِلَيّ دَار الخلود والتجافي عَن دَار الْغرُور والاستعداد للْمَوْت فَأَما الانابة
إِلَى دَار الخلود فَهِيَ أَعمال الْبر لِأَنَّهَا وضعت جَزَاء لأعمال الْبر قَالَ الله تَعَالَى {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ}
فَإِذا إنكمش فِي أَعمال الْبر فَهُوَ إنابته وَأما التَّجَافِي عَن دَار الْغرُور فَهُوَ أَن يخمد حرصه على الدُّنْيَا وَلها عَن طلبَهَا وَأَقْبل على مَا يعنيه مِنْهَا وَاكْتفى بهَا وقنع فقد تجافى عَن دَار الْغرُور
وَأما الاستعداد للْمَوْت هُوَ أَن يعلم أَنه رُبمَا كَانَ فِي قَضَاء شَهْوَة فِي مساخط الله تَعَالَى ويخافض بِأَمْر الله تَعَالَى ويبغت بدعوته وَلَا بُد من الْإِجَابَة فِي أسْرع من اللمحة فَلَا رَجَاء للمهلة وَلَا وُصُول الى التَّوْبَة فَيحكم أُمُوره بالتقوى فَكَانَ نَاظرا فِي كل أَمر وَاقِفًا متأثيا متثبتا حذرا يتورع عَمَّا يرِيبهُ إِلَى مَا لَا يرِيبهُ فَمن فعل ذَلِك فقد استعد للْمَوْت وَإِنَّمَا صَارَت لَهُ هَذِه الرُّؤْيَا بِالنورِ الَّذِي ولج الْقلب
-
الأَصْل السَّابِع وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أَن من النَّاس مَفَاتِيح للخير وَمن النَّاس نَاس مَفَاتِيح للشر
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من النَّاس نَاس مَفَاتِيح للخير مغاليق للشر وَمن النَّاس مَفَاتِيح للشر مغاليق للخير فطوبى لمن جعل مَفَاتِيح الْخَيْر على يَدَيْهِ وويل لمن جعل مَفَاتِيح الشَّرّ على يَدَيْهِ
فالخير مرضاة الله وَالشَّر مسخطه وَإِذا رَضِي الله عَن عبد كَانَ عَلامَة رِضَاهُ عَنهُ أَن يَجعله مفتاحا للخير فَإِن رُؤِيَ ذكر الْخَيْر بِرُؤْيَتِهِ وَإِن حضر حضر مَعَه الْخَيْر وَإِن ذكر ذكر الْخَيْر مَعَه وَإِن نطق نطق بِخَير وَعَلِيهِ من الله تَعَالَى سمات ظَاهِرَة تذكر بِالْخَيرِ من لقِيه يتقلب فِي الْخَيْر بِعَمَل الْخَيْر وينطق بِالْخَيرِ ويفكر فِي الْخَيْر ويضمر على الْخَيْر وَهُوَ مِفْتَاح الْخَيْر حَيْثُ مَا حضر وَسبب الْخَيْر لكل من خالطه أَو عاشره أَو صَحبه وَالْآخر يتقلب فِي الشَّرّ يعْمل بِالشَّرِّ وينطق بِالشَّرِّ ويفكر بِالشَّرِّ ويضمر على شَرّ فَهُوَ مِفْتَاح الشَّرّ حَيْثُمَا حضر وَسبب الشَّرّ لكل من
421 -
@ خالطه أَو صَحبه فصحبة الأول دَوَاء لَا ترجع مِنْهُ إِلَّا بِزِيَادَة وصحبة الثَّانِي دَاء لَا ترجع مِنْهُ إِلَّا بِنُقْصَان فَمن كَانَ بَين يَدي قلبه دُنْيَاهُ فَإِنَّمَا يفْتَتح بدنياه إِذا لقيك وَمن كَانَ بَين يَدي قلبه آخرته فَإِنَّمَا يفْتَتح بآخرته إِذا لقيك وَمن كَانَ بَين يَدي قلبه خالقه فَإِنَّمَا يفْتَتح بِذكرِهِ إِذا لقيك قل انما ينشر عَلَيْك بره ويحدثك عَمَّا يطالع قلبه فالناطق عَن دُنْيَاهُ يرغبك فِيهَا ويزين لَك أحوالها فالاستمتاع مِنْهُ سقم يورطك فِي ورطته ويلقيك فِي وهدته والناطق عَن آخرته يرغبك فِيهَا ويزين لَك أحوالها ويقلل الدُّنْيَا فِي عَيْنك ويزهدك فِيهَا وَيقف بك مِنْهَا على سَبِيل خطر لما يُخْبِرك عَن فتنها وغرورها وخدعها وأمانيها الكاذبة وَمَا يلقى أَهلهَا غَدا من شدَّة الْحساب وأهوال الْقِيَامَة والناطق عَن الله تَعَالَى عز ذكره يقف بك على تَدْبِير الله تَعَالَى وعَلى سَبِيل الاسْتقَامَة فِي العبودة ويلهيك عَن نَفسك وَعَن الدَّاريْنِ لما يفتح عَلَيْك من منن الله تَعَالَى وإحسانه وَلما يكْشف عَن آلَاء الله من الغيوب المستترة الَّتِي حرم هَذَا الْخلف مَعْرفَتهَا والانتباه لَهَا حَتَّى يؤديك الى سنَن التَّوْحِيد فيرقى بك الى فردانيته فتتفرد للفرد الْوَاحِد وهم الكبراء الَّذين رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ يَا أَبَا جُحَيْفَة جَالس الكبراء وخالل الْحُكَمَاء وَسَائِل الْعلمَاء
فَالْعُلَمَاء بِعلم اموره ينطقون فَالْمَسْأَلَة لَهُم تسائلهم عَن حَلَال الله وَحَرَامه والحكماء بِعلم تَدْبيره ينطقون فالمخاللة لَهُم تخالله وَتصير لَهُ مأمنا فيفضي إِلَيْك حكمته والكبراء بِعلم آلائه ينطقون تكبروا فِي كبرياء الله وعظمته وانفردوا فِي فردانيته واعتزوا بِهِ فرؤيتهم دَوَاء وَكَلَامهم شِفَاء فالمجالسة لهَؤُلَاء فقد جعل الله تَعَالَى فِي الْخَيْر من الْبركَة مَا يغلب الشَّرّ حَيْثُ مَا كَانَ
-
الأَصْل الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ
-
فِي أَن إِجْمَاع الْأمة حجَّة وَاخْتِلَافهمْ رَحْمَة
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يجمع الله أمتِي أَو هَذِه الْأمة على ضَلَالَة أبدا وَيَد الله على الْجَمَاعَة هَكَذَا فاتبعوا السوَاد الْأَعْظَم فَإِنَّهُ من شَذَّ شَذَّ فِي النَّار
وعد الله رَسُوله أَن لَا يزَال دينه ظَاهرا على الْأَدْيَان عَالِيا غَالِبا لأَهْلهَا النُّصْرَة مَعَه حَيْثُمَا كَانَ قَالَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله
وَهَذَا الدّين يشْتَمل على الْإِيمَان وَالْإِسْلَام فجملة الْإِيمَان هُوَ الايمان بِاللَّه وَحده لَا شريك لَهُ وبالرسل عليهم السلام والكتب كلهَا
وَالْمَلَائِكَة وَالْيَوْم الآخر والبعث وَالْجَزَاء وَالْقدر خَيره وشره هَذَا جملَة الْإِيمَان وَجُمْلَة الاسلام هِيَ الصَّلَوَات الْخمس بوضوئها فِي مواقيتها وَالْغسْل من الْجَنَابَة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج وَتَحْرِيم مَا حرم الله وَتَحْلِيل مَا أحل الله تَعَالَى هَذِه جملَة الْإِسْلَام وَعَلِيهِ السوَاد الْأَعْظَم لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَمن شَذَّ عَن شَيْء مِنْهُ فجحده فقد خرج من الشَّرِيعَة وخاب من الْإِسْلَام وزاغ عَن سَبِيل الْهدى وشذ إِلَى النَّار ثمَّ للْعُلَمَاء مدَاخِل ومقال فِي الْحَوَادِث من طَرِيق الاحكام وَاخْتِلَافهمْ فِيهَا رَحْمَة وَاسِعَة لأمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من الله تَعَالَى عَلَيْهِم بذلك وَسَهل لَهُم سبل النّظر وَالِاجْتِهَاد فِي الرَّأْي فِيمَا لم يَجدوا فِيهِ تَنْزِيلا وَلَا سنة عَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام
-
الأَصْل التَّاسِع وَالثَّمَانُونَ
-
فِي صفة الْجنان الْأَرْبَع
عَن عبد الله بن قيس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جنان الفردوس أَربع جنتان من فضَّة آنيتهما وَمَا فيهمَا وجنتان من ذهب آنيتهما وَمَا فيهمَا وَمَا بَين الْقَوْم وَبَين أَن ينْظرُوا الى رَبهم إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء على وَجهه فِي جنَّة عدن
هَذَا تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان وَقَوله وَمن دونهمَا جنتان وَقد وَصفهم الله تَعَالَى فِي سُورَة الرَّحْمَن وَقَوله مَا بَين الْقَوْم وَبَين أَن ينْظرُوا الى رَبهم إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء فِي جنَّة عدن
فجنة عدن دَار الرَّحْمَن ومقصورته والفردوس جنَّات الْأَوْلِيَاء والأنبياء عليهم السلام بِقرب جنَّة عدن فعدن كالمدينة والفردوس كالقرى حولهَا فَإِذا تجلى الرب لأهل الفردوس رفع الْحجاب وَهُوَ رِدَاء الْكِبْرِيَاء فَيَنْظُرُونَ الى جَلَاله وجماله فحجابه فِي جنَّات عدن رِدَاء الْكِبْرِيَاء وَفِي الدُّنْيَا النَّار
وَقَالَ عليه السلام حجابه النَّار لَو كشفها لأحرقت سبحات وَجهه كل شَيْء أدْركهُ بَصَره
وَهَذَا لِأَن أَيَّام الدُّنْيَا أَيَّام الْملك وَالسُّلْطَان والربوبية وَأَيَّام الْآخِرَة أَيَّام الْمجد وَالْكَرم وَالْبر والمفاوضة فَقَالَ هَهُنَا حجاب وَهُنَاكَ رِدَاء
قَالَ عليه السلام ان من أهل الْجنَّة من ينظر الى الله تَعَالَى غدْوَة وعشيا
وَفِي حَدِيث آخر أَن أهل الْجنَّة يزورون فِي كل يَوْم جُمُعَة فَيَنْظُرُونَ إِلَى الله تَعَالَى وَلِلْقَوْمِ فِي ذَلِك منَازِل ودرجات متفاوته