الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
الأَصْل التِّسْعُونَ
-
فِي الْفرق بَين حسن الْأَشْيَاء عِنْد أولي الْأَلْبَاب وَبَين حسنها عِنْد السُّفَهَاء
عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت أهْدى النَّجَاشِيّ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حلية فِيهَا خَاتم من ذهب فِيهِ فص حبشِي فَأَخذه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِعُود أَو بِبَعْض أَصَابِعه وَإنَّهُ لمعرض عَنهُ ثمَّ دَعَا ابْنة ابْنَته امامة ابْنة أبي الْعَاصِ فَقَالَ (تحلي بِهَذَا يَا بنية)
جعل صلى الله عليه وسلم الْحِلْية زِينَة لجوارح الْإِنْسَان فَإِذا لبسهَا زانه لذَلِك وَإِذا زانه حلاه فَصَارَ ذَلِك الْعُضْو أحلى فِي أعين الناظرين وَلذَا سمي حلية لِأَنَّهُ تحلي تِلْكَ الْجَوَارِح فِي أعين الناظرين وَفِي قُلُوبهم قَالَ الله تَعَالَى وتستخرجون مِنْهُ حلية تلبسونها وَهِي اللُّؤْلُؤ فَمَا كَانَ من ذهب فللاناث وَيحرم على الذُّكُور وَمَا كَانَ من فضَّة أَو جَوْهَر فمطلق للرِّجَال وَالنِّسَاء وَقد لبس صلى الله عليه وسلم ام خَاتمًا اتَّخذهُ من فضَّة وفصه مِنْهُ
وَعَن نَافِع أَن حَفْصَة زوج النَّبِي صلى الله عليه وسلم صاغت حليا بِثَلَاثِينَ ألف
دِرْهَم وَجَعَلته حَبِيسًا على نسَاء آل عمر رضي الله عنه فَلم تكن تُؤدِّي زَكَاته وَقد خلق الله تَعَالَى الْآدَمِيّ خلقا سويا بارزا فَضله قدمه على سَائِر الْخلق فِي أرضه وكل خلق رَبِّي حسن قَالَ الله تَعَالَى أحسن كل شَيْء خلقه
وَظهر حسن الْأَشْيَاء عِنْد أولي الْأَلْبَاب والبصائر والعقول لأَنهم ينظرُونَ إِلَى صنعه فِي الْأُمُور وَأَحْكَامه ولطفه فِي الْأَشْيَاء وَظهر الْحسن عِنْد السُّفَهَاء مَا تحلو فِي نُفُوسهم عِنْد مُوَافقَة شهواتهم فَإِنَّهُم ينظرُونَ بِعَين الشَّهْوَة وَهِي سقيمة والحكماء ينظرُونَ بِعَين الْحِكْمَة وَهِي صَحِيحَة والعارفون ينظرُونَ بِعَين الْمعرفَة إِلَى صنعه ولطفه فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ والزينة والحلية حق وَإِنَّمَا يُفْسِدهَا الْإِرَادَة وَالْقَصْد فَإِذا كَانَ الْإِرَادَة لله تَعَالَى فقد أَقَامَ حَقًا من حُقُوق الله تَعَالَى وَعبد الله باقامته وَإِذا كَانَ لغير الله صَار وبالا كَسَائِر الْأَشْيَاء وَمثل ذَلِك مَا يرْوى أَن جمَاعَة أَتَوْ منزل زَكَرِيَّا عليه السلام فَإِذا فتاة جميلَة رائعة أشرق لَهَا الْبَيْت حسنا قَالُوا من أَنْت قَالَت أَنا إمرأة زَكَرِيَّا قَالُوا فِيمَا بَينهم كُنَّا نرى نَبِي الله لَا يُرِيد الدُّنْيَا فَإِذا هُوَ قد اتخذ امْرَأَة جميلَة رائعة قَالُوا فَأَيْنَ هُوَ قَالَت فِي حَائِط آل فلَان يعْمل لَهُ فَأتوهُ فَإِذا هُوَ قرب رغيفين فَأكل وَلم يدعهم ثمَّ قَامَ فَعمل بَقِيَّة عمله وَقَالَ لَهُم حَاجَتكُمْ قَالُوا جِئْنَا لأمر وَلَقَد كَانَ يغلبنا مَا رَأينَا على مَا جِئْنَا لَهُ فَقَالَ هاتوا قَالُوا أَتَيْنَا مَنْزِلك فَإِذا امْرَأَة جميلَة رائعة وَكُنَّا نرى نَبِي الله لَا يُرِيد الدُّنْيَا فَقَالَ إِنِّي إِنَّمَا تزوجت امْرَأَة جميلَة رائعة لأكف بهَا بَصرِي وأحفظ بهَا فَرجي قَالَ فَخرج نَبِي الله مِمَّا قَالُوا وَقَالُوا ورأيناك قربت رغيفين فَأكلت وَلم تدعنا قَالَ إِن الْقَوْم استأجروني على عمل فَخَشِيت أَن أَضْعَف عَن عَمَلهم إِن لم آكل وَلَو أكلْتُم معي لم يكفني وَلم يكفكم فَخرج نَبِي الله مِمَّا قَالُوا
-
الأَصْل الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ
-
فِي الْخِصَال الْمَنْظُومَة للشكر
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ على الْمِنْبَر يخْطب النَّاس وتلا هَذِه الْآيَة إعملوا آل دَاوُد شكرا وَقَلِيل من عبَادي الشكُور
ثمَّ قَالَ (ثَلَاث من أوتيهن فقد أُوتِيَ مثل مَا أُوتِيَ دَاوُد فَقيل لَهُ مَا هِيَ يَا رَسُول الله قَالَ الْعدْل فِي الرضى وَالْغَضَب وَالْقَصْد فِي الْفقر والغنى وخشية الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة)
مَعْنَاهُ أَن هَذِه الْخِصَال منتظمة للشكر من أَتَى الله بِهن فَهُوَ شَاكر وَهُوَ قَوْله عليه السلام (ثَلَاث منجيات وَثَلَاث مهلكات فَأَما المنجيات فخشية الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَالْحكم بِالْحَقِّ عِنْد الرضى وَالْغَضَب والاقتصاد عِنْد الْفقر والغنى وَأما المهلكات فشح مُطَاع وَهوى مُتبع وَإِعْجَاب الْمَرْء بِنَفسِهِ)
وَقد أَمر الله آل دَاوُد أَن يعملوا شكرا أَي يعملوا عملا يكون ذَلِك الْعَمَل شكرا لما آتَاهُم من النعم وفضلهم بهَا فأجمل عليه السلام لهَذِهِ الْأمة فِي ثَلَاث خِصَال فَقَالَ من أوتيهن فقد أُوتِيَ الشُّكْر فَهُوَ شَاكر كشكر آل دَاوُد صلى الله عليه وسلم وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ أَن الْأَشْيَاء الَّتِي أَعْطَيْت دَاوُد وَسليمَان عليهما السلام فاستعملاها من أَجلي شكرا لي وَلم يبطروا بِهَذِهِ النِّعْمَة فيغفلوا عني بل صيروا اسْتِعْمَالهَا لي فَصَارَ شكرا وَإِذا أُوتِيَ العَبْد هَذِه الْخِصَال الثَّلَاث قوي على مَا قوي عَلَيْهِ آل دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام
-
الأَصْل الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ
-
فِي الْحَث على ترك مَا لَا يَعْنِي
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه)
الْأَشْيَاء لَا تكون قبيحة وَلَا حَسَنَة فِي نَفسهَا وَإِنَّمَا تحسن وتقبح بِالشَّرْعِ وَلِهَذَا كَانَ فِيمَا تقدم من الشَّرَائِع أَفعَال قد أطلق الله تَعَالَى فِيهَا فَكَانَ غير قَبِيح فَلَمَّا حرمه حل بِهِ الْقبْح كَنِكَاح الْأَخَوَات وَالْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ كَانَ مُطلقًا وَكَانَ حسنا فَلَمَّا حرمهَا صَارَت فَاحِشَة ومقتا وَالْمُسلم قد اعْتقد بِقَلْبِه وحدانية الله تَعَالَى لَا شريك لَهُ وعرفه رَبًّا أسلم نَفسه إِلَيْهِ وَصَارَ لَهُ عبدا بِكُل مَا يَأْمر وَينْهى وَيحكم ويشاء فامرهم بِالْحَقِّ وزجرهم من الْبَاطِل وَبَين الْحق وَالْبَاطِل
فِي تَنْزِيله الْكَرِيم فَكل شَيْء يعرض لِلْمُؤمنِ فَلم يعنه تَركه من فضول الْأَشْيَاء وفضول الطَّعَام وفضول الْكَلَام وفضول المَال وفضول الْأَعْمَال والأمور الَّتِي لَهُ مِنْهَا يَد وغنى فَترك هَذِه الفضولات دَلِيل على حسن إِسْلَام نَفسه إِلَى ربه وبذله عبودية لَهُ
-
الأَصْل الثَّالِث وَالتِّسْعُونَ
-
فِي التَّعَوُّذ بِنِسْبَة الْحق تَعَالَى
عَن عُثْمَان رضي الله عنه قَالَ دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يعودنِي فَقَالَ أُعِيذك بِاللَّه الْأَحَد الصَّمد الَّذِي لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد من شَرّ مَا تَجِد فرددها سبعا فَلَمَّا أَرَادَ الْقيام قَالَ (تعوذ بهَا فَمَا تعوذ بِخَير مِنْهَا يَا عُثْمَان فَمن تعوذ بهَا فقد تعوذ بِمَا يعدل ثلث الْقُرْآن وبنسبة الله تَعَالَى الَّتِي رضيها لنَفسِهِ)
-
الأَصْل الرَّابِع وَالتِّسْعُونَ
-
فِي حِكْمَة الله تَعَالَى فِيمَا نهى عَن قَتله وَأمر بقتْله
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ نهى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد
خلق الله تَعَالَى فِي الأَرْض أمما ثمَّ خلق آدم عليه السلام وأبرز فَضله على سَائِر الْبَريَّة بِأَن سخر لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض قَالَ الله تَعَالَى {خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} بِأَن فضل الْآدَمِيّ على سَائِر الْأُمَم قَالَ الله تَعَالَى وَلَقَد كرمنا بني آدم الْآيَة
وَعَن عمر رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول (إِن الله تَعَالَى خلق ألف أمة سِتّمائَة فِي الْبَحْر وَأَرْبَعمِائَة فِي الْبر وَإِن
أول هَلَاك هَذِه الْأمة الْجَرَاد فَإِذا هَلَكت الْجَرَاد تتابعته الْأُمَم مثل نظام السلك إِذا انْقَطع)
وَإِنَّمَا تهْلك الْأُمَم لهلاك الْآدَمِيّين لِأَنَّهَا سخرت لَهُم وَمن فضل الْآدَمِيّين على سَائِر الْأُمَم أَن جَمِيعهَا يعودون تُرَابا يَوْم الْقِيَامَة والآدميون يوقفون للثَّواب وَالْعِقَاب والآدميون وَغَيرهم من الْأُمَم جَوَاهِر على اخْتِلَاف تربَتهَا الَّتِي مِنْهَا خلقت وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (إِن الله تَعَالَى خلق آدم من قَبْضَة قبضهَا من جَمِيع الأَرْض فجَاء بَنو آدم على قدر الأَرْض جَاءَ مِنْهُم الْأَحْمَر وَالْأسود والأبيض والسهل والحزن والخبيث وَالطّيب)
فَكَمَا ترى فِي بني آدم جواهرهم حَتَّى يظْهر مِنْهُم معالي الْأَخْلَاق ومدانيها كَذَلِك فِي سَائِر هَذِه الْأَشْيَاء من الدَّوَابّ والوحوش وَالطير فالحية أبدت جوهرها حَيْثُ خانت آدم عليه السلام حَتَّى لعنت وأخرجت من الْجنَّة فَأمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وَقَالَ (اقتلوها وَإِن كُنْتُم فِي الصَّلَاة) والوزغة أبدت جوهرها فنفخت على نَار نمْرُود عَلَيْهِ اللَّعْنَة فلعنت
قَالَ عليه السلام (من قتل وزغة فَكَأَنَّمَا قتل كَافِرًا)
والفأر أبدت جوهرها فَكُن يقرضن حبال سفينة نوح عَلَيْهِ السَّلَام
فَشكى نوح إِلَى الله تَعَالَى فَأوحى إِلَيْهِ أَن امسح جبهة الْأسد فعطس فَخرج سنوران فأكلا الفار ثمَّ كثرت الْعذرَة فِي السَّفِينَة فَأوحى إِلَيْهِ أَن امسح ذَنْب الْفِيل فنثر خنزيران فاكلا الْعذرَة والغراب أبدى جوهره حَيْثُ بَعثه نوح عليه السلام من السَّفِينَة ليَأْتِيه بِخَبَر الأَرْض فَترك أمره وَأَقْبل على جيفة وَالْحمار أبدى جوهره حَيْثُ تلوط ونزا على ذكر
قَالَ ابْن سِيرِين لَيْسَ شَيْء من الدَّوَابّ يعْمل عمل قوم لوط إِلَّا الْخِنْزِير وَالْحمار والضفدع أبدى جوهره حَيْثُ جَاءَ بِالْمَاءِ ليطفىء عَن إِبْرَاهِيم عليه السلام ناره فأثيب أَن جعل مَكَانَهُ المَاء وَأَنَّهَا أَكثر الدَّوَابّ تسبيحا والنملة أبدت جوهرها حَيْثُ أثنت على سُلَيْمَان عليه السلام فَقَالَت {لَا يحطمنكم سُلَيْمَان وَجُنُوده وهم لَا يَشْعُرُونَ} والنحلة مَذْكُورَة فِي التَّنْزِيل قَالَ الله تَعَالَى {أَن اتخذي من الْجبَال بُيُوتًا}
والهدهد كَانَ رَسُول سُلَيْمَان عليه السلام الي بلقيس وحامل كِتَابه والمؤدي عَنْهَا خَبَرهَا إِلَى سُلَيْمَان عليه السلام والصرد يُقَال لَهُ صرد الصوام
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه أول طير صَامَ الصرد لما خرج إِبْرَاهِيم عليه السلام من الشَّام إِلَى الْحرم فِي بِنَاء الْبَيْت كَانَت السكينَة مَعَه والصرد وَكَانَ الصرد دَلِيله إِلَى الْموضع والسكينة مِقْدَاره فَلَمَّا صَار إِلَى الْبقْعَة وقفت السكينَة على مَوضِع الْبَيْت وَنَادَتْ ابْن يَا إِبْرَاهِيم على مِقْدَار ظِلِّي
نهى عَن قتل النملة لِأَنَّهَا أثنت على سُلَيْمَان عليه السلام بأبلغ مَا تقدر وَنهى عَن قتل النَّحْل لِأَن فِيهِ شِفَاء
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه الذبان كلهَا فِي النَّار يَجْعَلهَا عذَابا لأهل النَّار إِلَّا النَّحْل
وَنهى عَن قتل العنكبوت لِأَنَّهُ نسج على غَار رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَعَن الهدهد لِأَنَّهُ كَانَ دَلِيل سُلَيْمَان عليه السلام على المَاء وَعَن الضفدعة لِأَنَّهَا كَانَت تصب المَاء على نَار إِبْرَاهِيم عليه السلام وَعَن الصرد لِأَنَّهُ دلّ إِبْرَاهِيم عليه السلام على الْبَيْت فقد علم الله سُبْحَانَهُ من جَوَاهِر هَذَا الْخلق فَاخْتَارَ لمحبوبه من الْأُمُور من قد علم طيب جوهره وَأظْهر الْآخرُونَ بأفعالهم خبث جواهرهم مثل الْفَأْرَة والغراب والوزغة والحية وَيحل قَتلهَا من غير أَذَى فَأَما غير ذَلِك إِذا آذَى فَيحل قَتله وَدفع شَره عَن نَفسه
وَعَن زيد قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (لَا تسبوا الديك فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الصَّلَاة)
-
الأَصْل الْخَامِس وَالتِّسْعُونَ
-
فِي سر قَوْله تَعَالَى {من يعْمل سوءا يجز بِهِ وَلَا يجد لَهُ من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا}
عَن حَيَّان قَالَ صَحِبت ابْن عمر من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة فَقَالَ لنافع لَا تمر بِي على المصلوب يَعْنِي ابْن الزبير قَالَ فَمَا فجئه فِي جَوف اللَّيْل أَن صك محمله جذعه فَجَلَسَ يمسح عَيْنَيْهِ ثمَّ قَالَ يَرْحَمك الله أَبَا خبيب ان كنت وان كنت وَلَقَد سَمِعت أَبَاك الزبير يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من يعْمل سوء يجز بِهِ فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة فَإِن يَك هَذَا بِذَاكَ فهمه همه قَالَ الله تَعَالَى {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} وَهَذَا عَام
ثمَّ ميز رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يجز بِهِ فِي الدُّنْيَا أَو الْآخِرَة وَلَيْسَ يجمع الْجَزَاء فِي الموطنين
وَرُوِيَ أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه يَا رَسُول الله مَا هَذِه بِبَقِيَّة منا قَالَ يَا أَبَا بكر إِنَّمَا يجزى بِهِ الْمُؤمن فِي الدُّنْيَا ويجزى بهَا الْكَافِر يَوْم الْقِيَامَة
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى قَالَ أَلَسْت تنصب أَلَسْت تحزن أَلَسْت تصيبك اللأواء قَالَ بلَى قَالَ فَذَلِك مَا تُجْزونَ بِهِ
وَقَول ابْن عمر ان يَك هَذَا بِذَاكَ فهمه همه فَإِن ابْن الزبير قَاتل فِي حرم الله وأحدث فيهمَا حَدثا عَظِيما حَتَّى أحرق الْبَيْت وَرمى الْحجر الْأسود بالمنجنيق فانصدع حَتَّى ضبب بِالْفِضَّةِ فَهُوَ إِلَى يَوْمنَا كَذَلِك وَسمع للبيت أنينا آه آه
وَقد قَالَ عليه السلام يَوْم فتح مَكَّة إِنَّهَا لَا تحل لأحد بعدِي وَإِنَّمَا احلت لي سَاعَة من نَهَار وانها حرمت يَوْم خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض
فَلَمَّا رأى ابْن عمر فعله ثمَّ رَآهُ مصلوبا ذكر قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ذَلِك وَذَلِكَ لِأَن الْمُؤمن من يجزى بالسوء فِي الدُّنْيَا بِالنّصب والتعب ونوائب الدُّنْيَا الْحزن وَالْغَم وَالْكَافِر يُصِيبهُ ذَلِك وَلَيْسَ ذَاك جَزَاء لَهُ بالسوء الَّذِي قد عمل وادخر جَزَاؤُهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لِأَن جَمِيع مَا يُصِيب الْكَافِر من المصائب لَا يصبر فِيهَا وَإِن صَبر فصبره تجلد لَا حسبَة وَتَسْلِيم وَالْمُؤمن فِي كل ذَلِك صابر محتسب مذعن وَالْكَافِر ساخط على ربه مُضْمر على عداوته لِأَن الْمُؤمن حبب إِلَيْهِ الْإِيمَان وزين فِي قلبه فالتذت نَفسه وَطَابَتْ فلَان الْقلب ورق الْفُؤَاد وراحت النَّفس وَطَابَتْ بلذتها فانقاد لَهُ واستسلم وَأُلْقِي بيدَيْهِ سلما فان جَاءَتْهُ أَحْوَال المكاره تحملهَا وَهُوَ فِي ذَلِك رَاض عَنهُ طيب النَّفس يحمده بِلِسَانِهِ ويرجوه بِقَلْبِه وَطَابَتْ نَفسه بِمَا يرى من رَحْمَة
الله تَعَالَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قد محصه وطهره وَإِذا خرج من الدُّنْيَا انْقَطع رجاؤه من جَمِيع الْخلق وَكَانَ مُتَعَلق رجائه خالقه فَإِذا أعْطى صَحِيفَته يَوْم الْقِيَامَة فَأتى على سيئاته قيل لَهُ تجَاوز عَن قرَاءَتهَا فقد تجاوزنا عَنْك بِمَا أَصَابَك فِي الدُّنْيَا
قَالَ صلى الله عليه وسلم (مَا من شَيْء يُصِيب الْمُؤمن من حزن وَلَا نصب وَلَا وصب حَتَّى الْهم يهمه إِلَّا أَن الله تَعَالَى يكفر عَنهُ سيئاته)
وَفِي رِوَايَة عَائِشَة رضي الله عنها قَالَ صلى الله عليه وسلم (لَا تصيب الْمُؤمن شَوْكَة فَمَا فَوْقهَا إِلَّا رَفعه الله بهَا دَرَجَة أَو حط عَنهُ خَطِيئَة)
وَمن هَهُنَا قيل إِن الْمَرَض إِذا كَانَ عُقُوبَة لَا يقبل الدَّوَاء لِأَنَّهُ قد جوزي بهَا فِي الدُّنْيَا
قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم (مَا أنزل الله من دَاء إِلَّا أنزل لَهُ دَوَاء فَإِذا كَانَت عُقُوبَة فَلَا دَوَاء لَهُ حَتَّى تَنْقَضِي مُدَّة الْعقُوبَة وَينزل الْعَفو إِن شَاءَ الله تَعَالَى)
-
الأَصْل السَّادِس وَالتِّسْعُونَ
-
فِي الْقبْلَة وتقبيل الباكورة
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أُتِي بالباكورة من كل شَيْء قبلهَا ووضعها على عينه الْيُمْنَى ثَلَاثًا ثمَّ على عينه الْيُسْرَى ثَلَاثًا ثمَّ يَقُول (اللَّهُمَّ كَمَا بلغتنا أَولهَا فَبَلغنَا آخرهَا ثمَّ يُعْطِيهَا أَصْغَر الْولدَان)
الْقبْلَة على وُجُوه قبْلَة شَهْوَة وقبلة رَحْمَة وقبلة حنين وقبلة اشتياق وَكلهَا عبَادَة إِذا أُرِيد بهَا وَجه الله تَعَالَى وَأَصلهَا من الْقلب لِأَن الرأفة وَالرَّحْمَة معدنهما الْقلب ثمَّ تصير الرَّحْمَة مِنْهَا إِلَى الكبد والرأفة إِلَى الطحال وَلذَلِك قَالَ عَليّ كرم الله وَجهه الرَّحْمَة فِي الكبد والرأفة فِي الطحال
فَإِذا تقلب الْقلب بِمَا فِيهِ من الرأفة فارت الرأفة وَإِنَّمَا قيل رأفة
لِأَنَّهُ يرؤف ويفور بحرارته والرؤف والفؤر بِمَعْنى وَاحِد وَإِذا فار خرجت حرارته من فَم الْقلب إِلَى الصَّدْر وفار إِلَى الْحلق فَاسْتعْمل الشفتين بذلك وَهُوَ تقبيلهما لتقليب الْقلب بالرأفة فَقبل وَقبل وقلب بِمَعْنى وَاحِد إلاأن فِي الشفتين قبل وَفِي الْقلب قلب وَإِنَّمَا يفور ذَلِك من نور الْإِيمَان وَكَانَت الْأَنْبِيَاء عليهم السلام أعظم نورا وأوفر حظا من الرأفة إِذا عرفت هَذَا فقبلة الشَّهْوَة للزَّوْجَة وَذَاكَ من الرَّحْمَة والمودة الَّتِي جعلت بَين الزَّوْجَيْنِ قَالَ الله تَعَالَى وَجعل بَيْنكُم مَوَدَّة وَرَحْمَة
والرأفة وَالرَّحْمَة يهيجان الشَّهْوَة لِأَنَّهَا حارة وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقبل عَائِشَة ويمص لسانها وَهُوَ صَائِم وَأما قبْلَة الرَّحْمَة فَهِيَ للولدان وَمن أشبههم وَإِذا قبله فَمن رَحمته لَهُ من لِأَنَّهُ ريحَان الله تَعَالَى وَكَانَ يستروح إِلَى تَقْبِيل الْوَلَد
قَالَ صلى الله عليه وسلم حِين قبل الْحسن (إِنَّكُم لتبخلون أَو تجهلون وتجبنون وَأَنْتُم لمن ريحَان الله تَعَالَى) وَفِي رِوَايَة (من ريحَان الْجنَّة)
وَأما قبْلَة الحنين فَهِيَ للحجر الْأسود فَكَانَ إِذا قبل الْحجر قبله حنينا إِلَى الْجنَّة لِأَنَّهُ من الْجنَّة وَالْجنَّة دَار الله تَعَالَى وَإِنَّمَا يحن الْأَنْبِيَاء عليهم السلام إِلَى دَار الله تَعَالَى لأجل الله سبحانه وتعالى لَا من أجل التنعم قَالَ صلى الله عليه وسلم لعمر حِين قبل الْحجر وَبكى هَهُنَا تسكب العبرات وَأما قبْلَة الاشتياق فَهِيَ للباكورة لِأَنَّهُ يرى أثر صنعه لِعِبَادِهِ فَأول مَا تخرج الثَّمَرَة طريا لم تدنس بظلمة الدُّنْيَا وَهُوَ فلقها قَالَ الله تَعَالَى {فالق الْحبّ والنوى}
فَإِذا رأى الباكورة وَهُوَ الَّذِي قد ابتكر بِخُرُوجِهِ تحرّك نور الْإِيمَان بِمَا أبْصر من صنعه ولطفه فَانْقَلَبَ بالرأفة الَّتِي فِيهِ فانفلق الْقلب أَي فتح بَابه فَخرجت تِلْكَ الْحَرَارَة من الْقلب إِلَى الْفَم فَاسْتعْمل الشفتين بالحركة فيقبلها ثمَّ يَضَعهَا على عينه وأشفاره إِكْرَاما وتعظيما لَهُ ثمَّ يَدْعُو بذلك الدُّعَاء ثمَّ يُعْطِيهَا من لم يتدنس بِالذنُوبِ وَهُوَ الصَّبِي لِأَن الْقَلَم عَنهُ مَرْفُوع وَالرَّحْمَة عَلَيْهِ ظَاهِرَة وَلَا يُؤَاخذ بذنب
-
الأَصْل السَّابِع وَالتِّسْعُونَ
-
فِي أَن رَهْبَانِيَّة هَذِه الْأمة الْجِهَاد فِي سَبِيل الله تَعَالَى
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (لكل أمة رَهْبَانِيَّة ورهبانية أمتِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله)
فالرهبانية والسياحة قد كَانَت فِي الْأُمَم الْمَاضِيَة كَانَ أحدهم إِذا علاهُ الْخَوْف والرهبة من الله تَعَالَى ساح فِي البراري وَاتخذ صومعة فِي بَريَّة فترهب بهَا لتدوم رهبته فِي تِلْكَ الْعُزْلَة ليستعين بهَا على بذل النَّفس لله تَعَالَى عبودة وَأعْطى الله تَعَالَى هَذِه الْأمة السَّيْف يضْربُونَ بِهِ وُجُوه أعدائه ويضربون قَالَ الله تَعَالَى {يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ}
وَهَذِه أعظم الامتحان فِي بذل النَّفس فَمن تلقى سيوف الْعَدو بِوَجْهِهِ فقد صدق الله تَعَالَى فِي بذل النَّفس لَهُ عبودة فَهِيَ رَهْبَانِيَّة هَذِه الْأمة ورسولنا صلى الله عليه وسلم مَبْعُوث بِالْجِهَادِ وَالْحَرب عَن الله تَعَالَى حمية لَهُ ونصرة لحقه وكلمته الْعليا قَالَ صلى الله عليه وسلم (إِن الله تَعَالَى
بَعَثَنِي بِالسَّيْفِ بَين يَدي السَّاعَة حَتَّى يعبد الله وَحده لَا شريك لَهُ وَجعل رِزْقِي تَحت ظلّ رُمْحِي وَجعل الذلة على من خَالف أَمْرِي وَمن تشبه بِقوم فَهُوَ مِنْهُم)
-
الأَصْل الثَّامِن وَالتِّسْعُونَ
-
فِي دَعْوَة المغموم
عَن سعد بن أبي وَقاص رضي الله عنه قَالَ ذكر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم دَعْوَة فَشَغلهُ إعربي فَلَمَّا قَامَ تَبعته فَلَمَّا خفت أَن يسبقني إِلَى بَيته ضربت بقدمي على الأَرْض فَالْتَفت فَقَالَ أَبُو إِسْحَاق مَه قلت يَا رَسُول الله دَعْوَة ذكرتها فشغلك الإعرابي قَالَ (نعم دَعْوَة ذِي النُّون فِي بطن الْحُوت لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين مَا دَعَا بهَا مُسلم إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ)
العَبْد إِذا وَحده وَنفى عَنهُ الشّرك ثمَّ نزهه عَمَّا رَآهُ عَلَيْهِ من السوء واعترف بِأَنَّهُ من الظَّالِمين تكرم عَلَيْهِ ربه وتفضل على العَبْد فَلم يخيبه فِيمَا أمل وَرَجا وَكَذَلِكَ وعد الله فِي تَنْزِيله الْكَرِيم فَقَالَ وَذَا النُّون إِذا ذهب مغاضبا الْآيَة
-
الأَصْل التَّاسِع وَالتِّسْعُونَ
-
فِي أَن هدى الله تَعَالَى على لِسَان الناطقين بِالْحَقِّ
عَن أبي رَافع رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (لِأَن يهدي الله على يَديك رجلا خير لَك مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس)
الْهدى على يَدَيْهِ شُعْبَة من الرسَالَة لِأَن الرُّسُل عليهم السلام بعثت لتؤدي عَن الله تَعَالَى عز وجل وتهدي عباده فالرسول هاد بِمَا جَاءَ من الْبَيَان وَالله هادي الْقُلُوب يهدي الْقُلُوب بِمَا يهدي رَسُوله بالْمَنْطق بَيَانا وَأَدَاء عَنهُ فَمن كَانَ دَاعيا إِلَى الله فهدى الله بِهِ عبدا فقد أَخذ شُعْبَة من الرسَالَة واحتظى من ثَوَاب الرُّسُل حظا من الْكَرَامَة فَلذَلِك صَار خيرا لَهُ مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس قَالَ الله تَعَالَى (يَا دَاوُد لِأَن تَأتِينِي بِعَبْد آبق أحب إِلَيّ من عبَادَة الثقلَيْن)
وَإِذا هدى الله تَعَالَى قلبا على لِسَان نَاطِق بِالْهدى فقد أكْرم النَّاطِق بجزيل الْكَرَامَة فَمن إِحْدَى الكرامات أَن جعل لكَلَامه حكم الصدْق وَالْعَدَالَة فِي الْقُلُوب وكساه من النُّور كسْوَة تلج آذان السامعين من
تِلْكَ الْكسْوَة فتخرق حجب الشَّهَوَات حَتَّى تصل إِلَى مُسْتَقر الْإِيمَان من قُلُوبهم فيحيي مَا مَاتَ مِنْهُم ويشفي مَا سقم مِنْهُم وَجعل لَهُ من السُّلْطَان مَا يذهل نفوس المخاطبين عَن شهواتهم فَيَأْخُذ بنواصي قُلُوب العبيد الاباق فيردهم إِلَى الله تَعَالَى جذبا وَجعله من العملة الحرثة للقلوب يبذر بذره فيزرعه الله وينميه
وروى أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من أفضل مَا أعطي العَبْد فِي الدُّنْيَا الْعَافِيَة وَمن أفضل مَا أعطي العَبْد فِي الْآخِرَة الْمَغْفِرَة وَمن أفضل مَا أعطي العَبْد من نَفسه موعظة حسنه صدر بهَا قوم عَن خير)
-
الأَصْل الْمِائَة
-
فِي حَقِيقَة النصح لله تَعَالَى وَبَيَان سره
عَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ الله عز وجل أحب مَا تعبدني بِهِ عَبدِي النصح لي
فالنصح لَهُ الاقبال عَلَيْهِ بالعبودية وَأَن يرفض جَمِيع مشيئاته بِمَشِيئَة مَوْلَاهُ وَأَن لَا يخلط بالعبودية شَيْئا من شَأْن الْأَحْرَار وأفعالهم فَيكون فِي سره وعلانيته قد آثر أَمر الله تَعَالَى على هَوَاهُ وآثر حق الله الْكَرِيم على شهوات نَفسه فَهَذَا هُوَ النصح لله تَعَالَى
رُوِيَ أَبُو امامة رضي الله عنه قَالَ قَالَ الحواريون لعيسى بن مَرْيَم عليه السلام مَا الناصح لله قَالَ الَّذِي يبْدَأ بِحَق الله قبل حق النَّاس ويؤثر حق الله تَعَالَى على حق النَّاس وَإِذا عرض أَمْرَانِ أَحدهمَا للدنيا وَالْآخر للآخرة بَدَأَ بِأَمْر الْآخِرَة قبل أَمر الدُّنْيَا
وَهَذَا دَرَجَة الْمُقْتَصِدِينَ وَأما المقربون فقد جاوزوا هَذِه الخطة بِجَمِيعِ
أُمُورهم كلهَا للآخرة لِأَنَّهَا صَارَت لله تَعَالَى وَقد مَاتَت نُفُوسهم عَن أَن تَأْخُذ بحظها من الْأَعْمَال وحيت قُلُوبهم بِاللَّه تَعَالَى فَاسْتَوَى عِنْدهم عمل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَحُقُوق الله تَعَالَى وَحُقُوق النَّاس فَصَارَت كلهَا حُقُوق الله تَعَالَى عِنْدهم وَلِهَذَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَهُوَ حَامِل أُمَامَة بنت زَيْنَب فَإذْ سجد وَضعهَا وَإِذا قَامَ رَفعهَا
وروى شَدَّاد بن الْهَادِي عَن أَبِيه قَالَ خرج علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي إِحْدَى صَلَاتي الْعشَاء وَهُوَ حَامِل إِحْدَى ابْني ابْنَته الْحسن أَو الْحُسَيْن فَتقدم فَوَضعه عِنْد قدمه الْيُمْنَى ثمَّ صلى فَسجدَ بَين ظهراني صلَاته سَجْدَة أطالها قَالَ أبي فَرفعت رَأْسِي من بَين النَّاس وَإِذا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ساجد وَإِذا الْغُلَام على ظَهره فعدت فسجدت فَلَمَّا قضى صلَاته قيل يَا رَسُول الله لقد سجدت سَجْدَة مَا كنت تسجدها أفشيء أمرت بِهِ أم كَانَ يوحي إِلَيْك قَالَ كل لم يكن وَلَكِن ابْني ارتحلني فَكرِهت أَن أعجله حَتَّى يقْضِي حَاجته
وَعَن عَلْقَمَة قَالَ قدم وَفد ثَقِيف على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُمْ هَدِيَّة فقبضها ثمَّ جَلَسُوا وشغلوه بِالْمَسْأَلَة فَمَا صلى الظّهْر إِلَّا عِنْد الْعَصْر فالأنبياء والأولياء المقربون عليهم السلام قد تخلصوا من نُفُوسهم فأعمالهم خَالِصَة لله تَعَالَى دنيا كَانَت أَو آخِرَة حق الله تَعَالَى كَانَ أَو حق النَّاس لِأَن الْأُمُور قد صَارَت لَهُم مُعَاينَة بِنور يقينهم وَعَلمُوا أَن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لله تَعَالَى وَأَن حق النَّاس هُوَ حق الله تَعَالَى أوجبه عَلَيْهِم وهم فِي قَبْضَة الله تَعَالَى يستعملهم فِي أُمُور دنياهم وأخراهم وحقوقه وَحُقُوق النَّاس كَيفَ شَاءَ وَقد فارقهم المقتصدون فِي ذَلِك لأَنهم قد احتاجوا إِلَى تَقْدِيم الْأَمريْنِ وتمييز الْحَقَّيْنِ لأَنهم لما يفارقوا
أنفسهم فَأَي عمل عملوه من دنيا وآخرة فحظوظ نُفُوسهم فِيهَا قَائِمَة لِأَن شهواتهم عاملة تَأْخُذ بحظها فَإِذا اجْتمع عَلَيْهِم أَمْرَانِ أَحدهمَا للدنيا وَالْآخر للآخرة أَو حقان أَحدهمَا لله تَعَالَى وَالْآخر للنَّاس فشهواتهم عاملة فِي أَمر دنياهم منزوعة فِي أَمر آخرتهم فَمن نصيحتهم لله تَعَالَى أَن يؤثروا الْأَمر الَّذِي لَا شَهْوَة لنفوسهم فِيهِ ويؤخروا مَا فِيهِ حَظّ للنَّفس
كَمَا يرْوى عَن أم سَلمَة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَت يَا رَسُول الله إِن بني أبي سَلمَة فِي حجري وَلَيْسَ لَهُم شَيْء إِلَّا مَا أنفقت عَلَيْهِ أفلي أجر إِن أنفقت عَلَيْهِم فَقَالَ صلى الله عليه وسلم أنفقي عَلَيْهِم فَإِن لَك أجر مَا أنفقت عَلَيْهِم
فَإِذن المقتصد إِذا صلى أَو قَرَأَ الْقُرْآن أَو عمل شَيْئا من هَذِه الْأَعْمَال عدهَا آخِرَة وَإِذا أكل أَو شرب أَو نَام أَو جَامع عدهَا دنيا لِأَنَّهُ لَا يقدر أَن يخلصها حَتَّى يصفو من الشَّهْوَة النفسية فافترق أمراه دنيا وآخرة فَمَا كَانَ من أَمر الْآخِرَة أمكنه تصفيته على حسب طاقته وَمَا كَانَ من أَمر دُنْيَاهُ فالشهوة غالبة عَلَيْهِ قاهرة لَهُ فَمن النصح لَهُ أَن يبْدَأ بِأَمْر الْآخِرَة وَأما المقرب فقد صَارَت شَهْوَته منية فَالْفرق بَين الشَّهْوَة والمنية أَن النَّفس صَارَت حَيَّة بشهوتها فَإِذا عرض لَهَا مَا تلتذ بِهِ اهتشت النَّفس بالعجلة إِلَيْهِ حرصا وشرها فَتلك شَهْوَة والمنية لما مَاتَت شَهْوَة النَّفس حييّ الْقلب بِاللَّه تَعَالَى فَإِذا عرض لَهَا مَا تلتذ بِهِ بِاللَّه تَعَالَى لحظت إِلَى الله تَعَالَى وراقبت تَدْبيره فَإِن أَعْطَيْت أخذت وَإِن منعت قنعت فَتلك منية فالمقرب منيته فِيمَا دبر الله تَعَالَى لَهُ يراقب مَا يَبْدُو لَهُ من غيب الملكوت فيتلقاه بالرضاء والذلة والانقياد وَالْقَبُول عبودة لله تَعَالَى ومسكنة فَصَارَت الْأُمُور كلهَا آخِرَة عِنْده والحقوق كلهَا حُقُوق الله تَعَالَى فالغالب على أُمُور المقرب ذكر الله تَعَالَى وَالْغَالِب على أُمُور المقتصد ذكر النَّفس
قَالَ عَليّ كرم الله وَجهه فِي وصف الشَّيْخَيْنِ أَن أَبَا بكر كَانَ أَواه الْقلب منيبا وَأَن عمر كَانَ عبدا ناصحا لله تَعَالَى فنصحه
فالأواه لَا يُمَيّز بَين الْأَمريْنِ لِأَنَّهُمَا كلهما لله تَعَالَى وَلَيْسَ فيهمَا ذكر النَّفس والناصح لله عبد تفرد لله تَعَالَى بِقِيَام حُقُوقه فَكلما اجْتمع أَمْرَانِ للنَّفس فِي أَحدهمَا نصيب آثر الَّذِي لَا نصيب لَهَا فِيهِ وَبَدَأَ بِهِ فَفعل عمر رضي الله عنه فِي الظَّاهِر فعل الْمُقْتَصِدِينَ وَفِي الْبَاطِن من المقربين لِأَن المقربين صنفان صنف مِنْهُم قد انفردوا فِي فردانيته فخلت قُلُوبهم من ذكر نُفُوسهم وَالله تَعَالَى يستعملهم ووحدانيته تملك قُلُوبهم وَهَذِه صفة أبي بكر رضي الله عنه وصنف مِنْهُم لم يصلوا إِلَى هَذِه الخطة قد انْكَشَفَ على قُلُوبهم من جلال الله تَعَالَى وعظمته مَا مَلَأت قُلُوبهم من هيبته فهم القائمون على نُفُوسهم فَلَا يدعونها تلحظ إِلَّا إِلَى حق فَالْحق يستعملهم والهيبة تملك قُلُوبهم وَعمر رضي الله عنه مِنْهُم
روى كَعْب بن مَالك أَن أَبَا بكر رضي الله عنه أَتَى من الْيمن بِثَلَاثَة سيوف أَحدهَا محلي فَقَالَ ابْنه عبد الله بن أبي بكر مر لي بِهَذَا السَّيْف الْمحلي فَقَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه فَهُوَ لَك فَقَالَ عمر رضي الله عنه بل إيَّايَ فاعطني فَقَالَ أَبُو بكر فَأَنت أَحَق بِهِ فَأَخذه عمر رضي الله عنه فَانْقَلَبَ عمر بِالسَّيْفِ إِلَى منزله فراح وَقد جعل حلية السَّيْف فِي ظَبْيَة والنصل مَعَه فَقَالَ عمر يَا أَبَا بكر اسْتَعِنْ بِهَذِهِ الْحِلْية على بعض مَا يعروك وَرمى بالنصل إِلَى عبد الله ابْن أبي بكر وَقَالَ وَالله مَا صنعت هَذَا نفاسة عَلَيْك يَا أَبَا بكر وَلَكِن للنَّظَر لَك فَبكى أَبُو بكر رضي الله عنه وَقَالَ يَرْحَمك الله يَرْحَمك الله
دق عِنْد أبي بكر شَأْن ذَلِك السَّيْف وحليه فَلم يظْهر على قلبه قدر ذَلِك فَاسْتَوَى عِنْده سُؤال وَلَده وسؤال الْأَجْنَبِيّ فأنعم ثمَّ لما
سَأَلَهُ الأولى آثره عَلَيْهِ وَعمر نظر إِلَى الْحق وَإِلَى تَدْبِير الْحق فَإِن من تَدْبِير الْحق جل جلاله أَن ينْزع الْحِلْية فيستعين بهَا فِي النوائب وَفِي النصل بِلَا حلية كِفَايَة وَتَابعه أَبُو بكر رضي الله عنه فِي ذَلِك لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْحق وَبكى فَرحا بِمَا وجد من التأييد والعون فِيمَا قَلّدهُ الله تَعَالَى عِنْد أَخِيه وَصَاحبه ودعا لَهُ بِالرَّحْمَةِ لما وجده ناصحا لله تَعَالَى ولإمامه مشفقا عَلَيْهِ وَلَكِن فعل أبي بكر فعل الرُّسُل عليهم السلام فالرسول وَمن فِي دَرَجَته قريب مِنْهُ فِي سَعَة عَظِيمَة من ملكه وَفعل عمر رضي الله عنه فعل المحقين لأَنهم فِي أَمر عَظِيم من الْقيام بِحقِّهِ حزما واحتياطا وَصِحَّة وتقويما
وَقد روى زيد بن أسلم عَن أَبِيه قَالَ قدم عبد الله وعبيد الله ابْنا عمر رضي الله عنهم على أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ من مغربي لَهما فَقَالَ أَبُو مُوسَى وددت أَنِّي قدرت أَن أنفعكما قَالَ ثمَّ قَالَ هَهُنَا من مَال الله فخذاه فاشتريا بِهِ تِجَارَة من تِجَارَة الْمَدِينَة واضمناه فَإِذا قدمتما فأديا المَال إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكتب إِلَى عمر رضي الله عنه أَن اقبض مِنْهُمَا كَذَا وَكَذَا فَلَمَّا قدما على عمر رضي الله عنه قَالَ لَهما أديا المَال وَربحه فَأَما عبد الله فَسكت وَأما عبيد الله فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَرَأَيْت لَو تلف هَذَا المَال أما كنت تَأْخُذهُ منا قَالَ بلَى قَالَ فَلم تَأْخُذ الرِّبْح فَقَالَ رجل فِي مَجْلِسه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو جعلته قراضا قَالَ فقاسمهما الرِّبْح وَأخذ المَال فَهَذِهِ مُعَاملَة عمر مَعَ وَلَده وَمَعَ سَائِر الْخلق إِقَامَة الْحق ونصرته فِي الْأُمُور كلهَا
قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الله ضرب الْحق على لِسَان عمر وَقَلبه وَقَالَ فِي رِوَايَة الْحق بعدِي مَعَ عمر وَقَلبه وَقَالَ فِي رِوَايَة الْحق بعدِي مَعَ عمر حَيْثُ كَانَ
وَوَصفه ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما فَقَالَ كَانَ عمر رضي الله عنه كالطير الحذر الَّذِي يرى أَن لَهُ فِي كل طَرِيق شركا فَهَذَا شَأْن النصحاء لله تَعَالَى
وروى جَابر رضي الله عنه قَالَ دخل أَبُو بكر رضي الله عنه على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يضْرب بالدف عِنْده فَقعدَ وَلم يزْجر لما رأى من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فجَاء عمر رضي الله عنه فَلَمَّا سمع رَسُول الله صَوته كف عَن ذَلِك فَلَمَّا خرجا قَالَت عَائِشَة رضي الله عنها يَا رَسُول الله كَانَ حَلَالا فَلَمَّا دخل عمر صَار حَرَامًا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم يَا عَائِشَة لَيْسَ كل النَّاس مرخيا عَلَيْهِ
فَهَذِهِ كلمة تكشف لَك أَن المقربين صنفان صنف مِنْهُم قُلُوبهم فِي جَلَاله وعظمته هائمه فقد ملكتهم هيبته فَالْحق سبحانه وتعالى يستعملهم فِي كل أَمر فهم مشرفون على الْأُمُور مشمرون لَهَا وصنف آخر قد أرْخى من عنانه فَالْأَمْر عَلَيْهِ أسهل لِأَنَّهُ قد جَاوز قلبه هَذِه الخطة فقلبه فِي مَحل الشَّفَقَة فِي ملك الوحدانية وَكلما كَانَ الْقلب مَحَله أَعلَى وَمن الْقرْبَة أوفر حظا كَانَ الْأَمر عَلَيْهِ أوسع وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى تلطف بِلُطْفِهِ بِعَبْدِهِ الْمُؤمن فَإِذا علم مِنْهُ أَن نَفسه صعبة وَأَنه مُحْتَاج إِلَى اللجام ألجمها بلجام الهيبة وَأبْدى على قلبه من سُلْطَانه وعظمته لِئَلَّا يفْسد وَإِذا علم أَن نَفسه لينَة كَرِيمَة أرْخى من عنانه فأبدى على قلبه من الوحدانية والفردانية مَا انْفَرد لَهُ قلبه وَنَفسه وَمَاتَتْ شَهْوَته وَذهل عَن ذكر نَفسه فَهُوَ يَسْتَعْمِلهُ وَهُوَ يكلؤه فالمحق فِي الظَّاهِر أعلا فعلا عِنْد أَهله والأواه فِي الْبَاطِن أعلا
-
الأَصْل الْحَادِي وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْعقُوبَة لَا تثني فِي الْآخِرَة
عَن عَليّ كرم الله وَجهه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أصَاب فِي الدُّنْيَا ذَنبا فَعُوقِبَ بِهِ فَالله أعدل من أَن يثني عَلَيْهِ عُقُوبَته وَمن أذْنب فِي الدُّنْيَا ذَنبا فستره الله وَعَفا عَنهُ فَالله أكْرم من أَن يعود فِي شَيْء وَقد عَفا عَنهُ قَالَ الله تَعَالَى وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير وَالْكثير من الله تَعَالَى لَا يُحْصى عددا
وَقد بَين صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الحَدِيث مَا يُعْفَى عَنهُ مِمَّا لَا يُعْفَى فَقَالَ من أذْنب ذَنبا فستره الله ذكر السّتْر وَقَوله تَعَالَى وَيَعْفُو عَن كثير هم الَّذين قد ستر الله عَلَيْهِم فَإِذا دَامَ هَذَا السّتْر لَهُم فَالله سبحانه وتعالى أكْرم من أَن يهتك مَا قد ستره أَيَّام الدُّنْيَا
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم قَالَ الله تَعَالَى لأَنا أكْرم وَأعظم عفوا من أَن أستر على عبد لي مُسلم فِي الدُّنْيَا ثمَّ أفضحه بعد أَن سترته وَلَا أَزَال أَغفر لعبدي مَا استغفرني
وَقَالَ عليه السلام يَقُول الله تَعَالَى إِنِّي لأجدني أستحيي من عَبدِي يرفع يَدَيْهِ إِلَى ثمَّ أردهما صفرا قَالَت الْمَلَائِكَة إلهنا لَيْسَ لذَلِك بِأَهْل قَالَ الله تَعَالَى لكني أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة وأشهدكم أَنِّي قد غفرت لَهُ
قَالَ وَيَقُول الله تَعَالَى إِنِّي لاستحيي من عَبدِي وَأمتِي يشيبان فِي الْإِسْلَام ثمَّ أعذبهما بعد ذَلِك فِي النَّار
فنستغفر الله الْعَظِيم
-
الأَصْل الثَّانِي وَالْمِائَة
-
فِيمَا كتب على جباه الجهنميين وجباه المتحابين فِي الله
عَن أنس رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ يدْخل قوم النَّار حَتَّى إِذا صَارُوا فحما أخرجُوا فأدخلوا الْجنَّة فَيَقُول أهل الْجنَّة من هَؤُلَاءِ فَيُقَال الجهنميون
هَؤُلَاءِ قوم موحدون وحدوا الله تَعَالَى بألسنتهم وَقُلُوبهمْ وضيعوا العبودة الَّتِي أوجبهَا الله تَعَالَى على خلقه امتحانا فهم مكذبون فِي الظَّاهِر مصدقون فِي الْبَاطِن فقدموا عَلَيْهِ مَعَ كذب الظَّاهِر وَصدق الْبَاطِن وَإِنَّمَا وكل الْحق بِفعل الظَّاهِر فَهُوَ يَقْتَضِي الْخلق الْقيام بذلك قَالَ الله تَعَالَى وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون
فَإِذا كَانَ يَوْم الْجَزَاء جَاءَ الْحق تَعَالَى يَقْتَضِي حَقه فَلم يجد عِنْدهم
شَيْئا فحبسهم فِي النَّار ثمَّ تُدْرِكهُمْ رَحمته وَيتْرك مَا وَجب لَهُ من العبودة ويهبها مِنْهُم ويعتقهم وَيكْتب على جباههم الجهنميون عُتَقَاء الله تَعَالَى وَفِي رِوَايَة محرري الرَّحْمَن رَحِمهم بِصدق الْبَاطِن وَأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يلتفتون إِلَى غَيره وَلَا يشركُونَ بِهِ
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الشَّفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة لمن عمل الْكَبَائِر من أمتِي ثمَّ مَاتُوا عَلَيْهَا فهم فِي الْبَاب الأول من جَهَنَّم لَا تسود وُجُوههم وَلَا تزرق أَعينهم وَلَا يغلون بالأغلال وَلَا يقرنون مَعَ الشَّيَاطِين وَلَا يضْربُونَ بالمقامع وَلَا يطرحون فِي الأدراك فَمنهمْ من يمْكث سَاعَة ثمَّ يخرج وَمِنْهُم من يمْكث فِيهَا يَوْمًا ثمَّ يخرج وَمِنْهُم من يمْكث فِيهَا شهرا ثمَّ يخرج وَمِنْهُم من يمْكث فِيهَا سنة ثمَّ يخرج وأطوالهم مكثا فِيهَا مثل الدُّنْيَا من يَوْم خلقت إِلَى يَوْم أقتت وَذَلِكَ سَبْعَة آلَاف سنة ثمَّ إِن الله عز وجل إِذا أَرَادَ أَن يخرج الْمُوَحِّدين مِنْهَا قذف فِي قُلُوب أهل الْأَدْيَان فَقَالُوا لَهُم كُنَّا نَحن وَأَنْتُم جَمِيعًا فِي الدُّنْيَا فآمنتم وكذبنا وأقررتم وجحدنا فَمَا أغْنى عَنْكُم فَنحْن وَأَنْتُم الْيَوْم فِيهَا جَمِيعًا سَوَاء تعذبون كُنَّا نعذب وتخلدون كَمَا نخلد فيغضب الله تَعَالَى عِنْد ذَلِك غَضبا لم يغضبه فِي شَيْء فِيمَا مضى وَلَا يغْضب فِي شَيْء فِيمَا بَقِي فَيخرج أهل التَّوْحِيد مِنْهَا إِلَى عين بَين الْجنَّة والصراط يُقَال لَهَا نهر الْحَيَاة فيرش عَلَيْهِم من المَاء فينبتون كَمَا تنْبت الْحبَّة فِي حميل السَّيْل مَا يَلِي الظل مِنْهَا أَخْضَر وَمَا يَلِي الشَّمْس مِنْهَا أصفر ثمَّ يدْخلُونَ الْجنَّة فَيكْتب فِي جباههم عُتَقَاء الله من النَّار إِلَّا رجلا وَاحِدًا فَإِنَّهُ يمْكث فِيهَا بعدهمْ ألف سنة ثمَّ يُنَادي يَا حنان يَا منان فيبعث الله إِلَيْهِ ملكا ليخرجه فيخوض فِي النَّار فِي طلبه سبعين عَاما لَا يقدر عَلَيْهِ ثمَّ يرجع فَيَقُول يَا رب إِنَّك أَمرتنِي أَن أخرج عَبدك فلَانا من النَّار وَإِنِّي أطلب فِي النَّار مُنْذُ سبعين سنة فَلم أقدر عَلَيْهِ فَيَقُول الله تَعَالَى انْطلق فَهُوَ فِي وَادي كَذَا وَكَذَا تَحت صَخْرَة فَأخْرجهُ فَيذْهب فيخرجه مِنْهَا فيدخله الْجنَّة
تَحت صَخْرَة فَأخْرجهُ فَيذْهب فيخرجه مِنْهَا فيدخله الْجنَّة
ثمَّ إِن الجهنميين يطْلبُونَ إِلَى الله تَعَالَى أَن يمحو ذَلِك الِاسْم عَنْهُم فيبعث ملكا فَيَمْحُو عَن جباههم ذَلِك ثمَّ إِنَّه قَالَ لأهل الْجنَّة وَمن دَخلهَا من الجهنميين اطلعوا إِلَى النَّار فيطلعون إِلَيْهِم فَيرى الرجل أَبَاهُ وَيرى أَخَاهُ وَيرى جَاره وَيرى صديقه وَيرى العَبْد مَوْلَاهُ ثمَّ إِن الله تَعَالَى يبْعَث إِلَيْهِم مَلَائِكَة بأطباق من نَار ومسامير من نَار وَعمد من نَار فيطبق عَلَيْهِم بِتِلْكَ الأطباق ويشد بِتِلْكَ المسامير ويمد بِتِلْكَ الْعمد وَلَا يبْقى فِيهِ خلل يدْخل فِيهِ روح وَلَا يخرج مِنْهُ غم وينساهم الْجَبَّار على عَرْشه ويتشاغل أهل الْجنَّة بنعيمهم وَلَا يستغيثون بعْدهَا أبدا وَيَنْقَطِع الْكَلَام فَيكون كَلَامهم زفيرا وشهيقا فَذَلِك قَوْله تَعَالَى إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة فِي عمد ممدة
أحب الله تَعَالَى أَن يظْهر عذره عِنْد أهل الْجنان فِي تأخرهم دُخُول الْجنَّة وَأَنَّهُمْ لم يدخلوها إِلَّا برحمته وَلم ينالوا جواره إِلَّا بكرمه وَهَؤُلَاء قوم لم يتخلصوا من نُفُوسهم فِي الْآخِرَة كَمَا لم يتخلصوا فِي الدُّنْيَا طرفَة عين وأنفوا من هَذَا الِاسْم أَن ينسبوا إِلَى جَهَنَّم واستحيوا من إخْوَانهمْ وَأَرَادُوا أَن تكون الْعقُوبَة الَّتِي حلت بهم مستورة عِنْد أهل الْجنَّة وَلَا يدْرِي أحد أَنهم مِمَّن ابتلوا بهوان الله وعقوبته أَنَفَة وذهابا بِنَفسِهِ وَلَيْسَ فِي الْجنَّة أَذَى إِنَّمَا هِيَ محشوة بكرم رب الْعِزَّة فَترك الله تَعَالَى محبته لمحابهم ومحى عَنْهُم ذَلِك الِاسْم تكرما وتفضلا وإتماما للمن عَلَيْهِم وَلَو كَانَ لَهُم من الانسانية والتكرم لما آثروا محابهم على محابه وَلَو كَانَ المحبون لَهُ ابتلوا بِهَذَا لم يسألوه أبدا أَن يمحو اسْمه من جباههم وَالْكِتَابَة على الجباه سِيمَاهُمْ فِي الْجنان كَمَا كتبت على جباه أهل الصفوة والأولياء عليهم السلام هَؤُلَاءِ المتحابون فِي الله
روى ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن المتحابين فِي الله لعلى عَمُود من ياقوتة حَمْرَاء فِي رَأس العمود سَبْعُونَ ألف غرفَة يضيء حسنهم أهل الْجنَّة كَمَا تضيء الشَّمْس أهل الدُّنْيَا يَقُول بَعضهم لبَعض انْطَلقُوا بِنَا نَنْظُر إِلَى المتحابين فِي الله فَإِذا أشرفوا عَلَيْهِم أَضَاء حسنهم أهل الْجنَّة كَمَا تضيء الشَّمْس أهل الدُّنْيَا عَلَيْهِم ثِيَاب خضر من سندس مَكْتُوب على جباههم هَؤُلَاءِ المتحابون فِي الله
-
الأَصْل الثَّالِث وَالْمِائَة
-
فِي عَلَامَات أَوْلِيَاء الله تَعَالَى
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَنه قَالَ قيل يَا رَسُول الله من أَوْلِيَاء الله قَالَ الَّذين إِذا رَأَوْا ذكر الله
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ قيل يَا رَسُول الله أَي جلسائنا خير قَالَ من ذكركُمْ بِاللَّه رُؤْيَته وَزَاد فِي أَعمالكُم مَنْطِقه وذكركم بِالآخِرَة عمله
وَفِي رِوَايَة عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنه وَقَالَ صلى الله عليه وسلم خياركم من ذكركُمْ بِاللَّه رُؤْيَته وَزَاد فِي عَمَلكُمْ مَنْطِقه ورغبكم فِي الْآخِرَة عمله وهم الْأَوْلِيَاء الَّذين عَلَيْهِم سمات ظَاهِرَة من الله تَعَالَى قد علاهم بهاء الْقرْبَة وَنور الْجلَال وهيبة الْكِبْرِيَاء وَأنس الْوَقار
فَإِذا نظر النَّاظر إِلَيْهِ ذكر الله لما رأى عَلَيْهِ من آثَار الملكوت وَالْقلب مَعْدن هَذِه الْأَشْيَاء ومستقر النُّور وَشرب الْوَجْه من مَاء الْقلب فَإِذا كَانَ على الْقلب نور سُلْطَان الْوَعْد والوعيد تأدي إِلَى الْوَجْه ذَلِك النُّور فَإِذا وَقع بَصرك عَلَيْهِ ذكرك الْبر وَالتَّقوى وَوَقع عَلَيْك مِنْهُ مهابة الصّلاح وَالْعلم بِأُمُور الله تَعَالَى وَمَتى كَانَ على الْقلب نور سُلْطَان الْحق ذكرك الصدْق وَالْحق وَوَقع عَلَيْك مهابة الْحق والاستقامة وَإِذا كَانَ عَلَيْهِ نور سُلْطَان الله تَعَالَى وعظمته وجلاله ذكرك عَظمته وجلاله وسلطانه وَإِذا كَانَ على الْقلب نوره وَهُوَ نور الْأَنْوَار بهتك رُؤْيَته فَكل نور من هَذِه الْأَنْوَار كَانَ فِي قلب فَشرب وَجهه من تِلْكَ الْأَنْوَار الَّتِي فِيهِ لَا غير قَالَ الله تَعَالَى ولقاهم نَضرة وسرورا أَي سُرُورًا فِي الْقلب ونضرة فِي الْوَجْه فَإِذا سر الْقلب برضاء الله تَعَالَى عَن العَبْد وَبِمَا يشرق قلبه وصدره من نوره حَيْثُ ينْكَشف الغطاء نضرت الْوُجُوه بِمَا ولجت الْقُلُوب وَهُوَ الَّذِي دله عليه السلام على الذّكر عِنْد رُؤْيَته وصيره عَلامَة لأهل ولَايَته وَالنَّاس على ثَلَاث طَبَقَات كل طبقَة تعرف بِمَا عِنْدهَا وهم رجال مَا عِنْدهم فرجال هم عُلَمَاء بِأُمُور الله تَعَالَى من الْحَلَال وَالْحرَام فَعَلَيْهِم سمات الْعلم وبالعلم يعْرفُونَ وَرِجَال هم عُلَمَاء بتدبير الله تَعَالَى فَعَلَيْهِم سمات الْحِكْمَة وبالحكمة يعْرفُونَ وَرِجَال هم عُلَمَاء بِاللَّه تَعَالَى فَعَلَيْهِم سمات نوره وهيبته فبالله يعْرفُونَ فهم أَوْلِيَاء الله وهم الَّذين قَالَ عَنْهُم عليه السلام لأبي جُحَيْفَة سَائل الْعلمَاء وخالط الْحُكَمَاء وجالس الكبراء لِأَن فِي مجالستهم شِفَاء وَفِي رُؤْيَتهمْ دَوَاء وَسَائِر النَّاس عُمَّال وَعباد وَأهل بر وتقوى بذلك يعْرفُونَ وَإِلَى أَعْمَالهم ينسبون يُقَال هَذَا رجل زاهد وَهَذَا رجل متق فَإِذا جَاءَ الْوَلِيّ ذهب هَذَا الذّكر من الْقُلُوب وَغلب على قُلُوب الناظرين ذكر الله تَعَالَى
روى عَمْرو بن الجموح رضي الله عنه أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول قَالَ الله تَعَالَى إِن أوليائي من عبَادي وأحبائي من خلقي الَّذين يذكرُونَ بذكري وأذكر بذكرهم
وَعَن أنس رضي الله عنه يَقُول قَالُوا يَا رَسُول الله أَيّنَا أفضل كي نتخذه جَلِيسا معلما قَالَ الَّذين إِذا رَأَوْا ذكر الله لرؤيتهم
وَقَوله يزِيد فِي عَمَلكُمْ مَنْطِقه لِأَنَّهُ عَن الله ينْطق وَمن كَانَ يذكر بِاللَّه رُؤْيَته يزِيد فِي الْعَمَل مَنْطِقه والناطق صنفان فصنف ينْطق بِالْعلمِ عَن الصُّحُف تحفظا وَعَن أَفْوَاه الرِّجَال تلقفا وصنف ينْطق بذلك الْعلم عَن الله تلقيا فَالَّذِي ينْطق عَن الصُّحُف وَهُوَ غير عَامل بِهِ يلج آذان المستمعين عُرْيَان بِلَا كسْوَة وَالَّذِي ينْطق كَذَلِك وَهُوَ عَامل بِهِ يلج آذانهم عَارِيا خلق الْكسْوَة لِأَنَّهُ لم يخرج من قلب نوراني وَإِنَّمَا خرج من قلب دنس وَصدر مظلم وإيمان مغشوش بحب الرياسة والعز وَالشح على حطام الدُّنْيَا وَالَّذِي ينْطق عَن الله تَعَالَى إِنَّمَا يلج آذان المستمعين مَعَ الْكسْوَة الَّتِي تخرق كل حجاب وَهُوَ نور الله تَعَالَى لِأَنَّهُ خرج من قلب مشحون بِالنورِ وَصدر مشرق بِهِ فَإِذا خرج الْمنطق مَعَ ذَلِك النُّور فولج آذان المستمعين خرق هَذَا النُّور كل حجاب قد تراكم على قُلُوب المخلطين من رين الذُّنُوب وظلمة الشَّهَوَات ومحبة الدُّنْيَا فخلصته إِلَى نور التَّوْحِيد فأنارته وَمثل ذَلِك مثل جَمْرَة قد أحَاط بهَا الرماد فَذهب بحرها وضيائها فَلَمَّا وصلت النفخة إِلَيْهَا طيرت الرماد عَنْهَا فتلهبت وأضاءت الْبَيْت كَذَلِك الْكَلِمَة الَّتِي تخرج من النَّاطِق
عَن الله تَعَالَى تخرج من نور وَكسوته النُّور فَإِذا وصل إِلَى الصَّدْر خرقت حجب الظُّلُمَات حَتَّى وصلت إِلَى الْقلب فأثارت نور التَّوْحِيد فَأَضَاءَتْ الْبَيْت فَاسْتَغْفر وَبكى وَنَدم وَأبْصر قَالَ الله تَعَالَى قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة أَنا وَمن اتبعني أَي على مُعَاينَة وَهَذَا لمن تفرغ من نَفسه واشتغل بِاللَّه تَعَالَى فَأَما من لَيْسَ عبدا لله تَعَالَى وَلَا هُوَ لله عز وجل وَإِنَّمَا قلبه عبد نَفسه ولنفسه ومشغول بشهوته ونهمته فَكيف يَدْعُو إِلَى الله تَعَالَى
وَقَوله يزِيد فِي عَمَلكُمْ مَنْطِقه فَإِنَّهُ إِذا نطق نطق بآلاء الله تَعَالَى وتدبيره وصنعه فَأَما آلَاء الله تَعَالَى فَهُوَ مَا أبدا من الهيبة فِي وحدانيته كالجلال وَالْجمال وَالْعَظَمَة والهيبة والكبرياء والبهاء وَالسُّلْطَان والعز وَالْفَخْر فَهَذِهِ صِفَات على قُلُوب الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام فتمالكوا مَعَ ذَلِك واحتملته عُقُولهمْ وَأما تَدْبيره فَمَا دبر من خلقهمْ من تُرَاب ثمَّ جعل فيهم أرواحا سَمَاوِيَّة ثمَّ أَعْطَاهُم جوارح قوالب لتِلْك الْأَرْوَاح ثمَّ اضطرهم إِلَى التربية والمعاش ثمَّ دبر لَهُم الْمَوْت ثمَّ هيأ لَهُم يَوْمًا يحاسبهم ويفتشهم ويقتضيهم حَقه فِيهِ ثمَّ جعل ممرهم إِلَى الْجنَّة على متن النَّار ثمَّ أكْرم وأهان وَأدنى وأقصى وَحرم وَأعْطى وأبرز عدله ثمَّ أفضل على من شَاءَ بجوده وَكَرمه ومنته فَهَذَا من تَدْبيره مُنْذُ أبدا خلقه وَأما صنعه فأحوال الْعباد فِي الدُّنْيَا كَيفَ يفقر وَكَيف يُغني ويعز ويذل وَيملك وَينْزع الْملك ويبتلي ويعافي ويغير الْأَحْوَال سَاعَة فساعة
وَقَوله ويرغبكم فِي الْآخِرَة عمله لِأَن على عمله نورا وعَلى أَرْكَانه خشوعا وعَلى تصرفه فِيهَا صدق العبودة مَعَ الْبَهَاء وَالْوَقار والحلاوة والمهابة لِأَنَّهُ عمل على معنى المعاينة وعامل الله بِتِلْكَ الْأَعْمَال
عبودة لَا متاجرة فَإِذا رَآهُ الراءون تقاصرت إِلَيْهِم أَعْمَالهم وهم فِي تِلْكَ الْأَعْمَال بِأَعْيَانِهَا وَلَيْسَ لأعمالهم ذَلِك النُّور وَتلك المهابة والحلاوة لأَنهم يعاملون على الرَّغْبَة والرهبة وَالْخَوْف والطمع وَهَؤُلَاء أهل الْيَقِين يعاملونه على المعاينة على الشوق والمحبة عبودة لَهُ قد سبت قُلُوبهم محبته فعملوا على الْيُسْر وَطيب وَالنَّفس
قَالَ بعض الْأَنْبِيَاء عليهم السلام لبَعض الْعباد أَنْتُم تَعْمَلُونَ على الرَّغْبَة والرهبة وَنحن نعمل على الشوق والمحبة وشتان مَا بَين عَبْدَيْنِ أَحدهمَا يعْمل لخوف وَعِيد مَوْلَاهُ وحرمان وعده وَالْآخر يعْمل لمَوْلَاهُ شَفَقَة على عمله وَنصحا لَهُ وتذللا وتخشعا ومحبة لَهُ وشغوفا بِهِ
قَالَ صلى الله عليه وسلم لعوف بن مَالك الْجُشَمِي رضي الله عنه أَرَأَيْت لَو كَانَ لَك عَبْدَانِ أَحدهمَا يخونك ويكذبك وَالْآخر يصدقك وَلَا يخونك أَيهمَا أحب إِلَيْك قَالَ الَّذِي يصدقني وَلَا يخونني قَالَ فَكَذَلِك أَنْتُم عِنْد ربكُم
-
الأَصْل الرَّابِع وَالْمِائَة
-
فِي أَن التمطر من امارات المشتاقين إِلَى الله تَعَالَى
عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ أصابتنا السَّمَاء وَنحن مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي مطر فحسر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الثَّوْب عَن رَأسه حَتَّى أَصَابَهُ من الْمَطَر فَقُلْنَا يَا رَسُول الله لم صنعت هَذَا قَالَ لِأَنَّهُ قريب عهد بربه سُبْحَانَهُ
هَذَا فعل المشتاقين وأولاهم بِاللَّه أَشَّدهم شوقا وَكلما ازْدَادَ العَبْد انتباها ويقظة ازْدَادَ شوقا وكمدا وَكَانَ صلى الله عليه وسلم طَوِيل الْفِكر دَائِم الاحزان وَلَا يكون حزنه إِلَّا من الْحَبْس عَن لِقَاء الصفاء فأعلاهم منزلَة وأقربهم قربا وأشدهم حرقة فِي الْقُلُوب شوقا وينتظر مَتى يدعى فيجيب فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وجد روحا إِلَى ذَلِك الْمَطَر بِمَا وصف من حَدَاثَة عَهده بربه عز وجل وَكَذَلِكَ جد المشتاق إِلَى لِقَاء من غَابَ عَنهُ فَهُوَ قلق لمكانه فَإِذا ورد عَلَيْهِ مِنْهُ كتاب أَو شَيْء
من آثاره كَانَ لَهُ فِيهِ أنس وَإِلَيْهِ استرواح وَبِه تلذذ
وَرُوِيَ عَن مُوسَى عليه السلام أَنه كَانَ يخرج إِلَى طور سيناء فَرُبمَا ضَاقَ عَلَيْهِ الْأَمر فِي الطَّرِيق فشق قَمِيصه من شدَّة الشوق والعجلة الَّتِي كَانَت تَأْخُذهُ وَهُوَ الَّذِي حمله على سُؤال الرُّؤْيَة لما سمع الْكَلَام قلق وغلي شوقه غلي الْمرجل وضاق بِهِ الْأَمر فَفَزعَ إِلَى الرُّؤْيَة طَمَعا لتسكين غليانه فَاعْلَم الله تَعَالَى أَنه لَا يحْتَمل ذَلِك فَأبى عَلَيْهِ وَألقى إِلَيْهِ عذره بِأَن جعل الْجَبَل دكا يُعلمهُ أَنَّك لَا تقدر احْتِمَال ذَلِك لِأَن الْجَبَل حجر وحديد وصخر وَأَنت لحم وَدم
وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي قَوْله تَعَالَى {رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} قَالَ تَعَالَى يَا مُوسَى لن تراني إِنَّه لَا يراني حَيّ إِلَّا مَاتَ وَلَا يَابِس إِلَّا تدهده وَلَا رطب إِلَّا تفرق إِنَّمَا يراني أهل الْجنَّة الَّذين لَا تَمُوت أَعينهم وَلَا تبلى أَجْسَادهم
وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول أَسأَلك الشوق إِلَى لقائك وَلَذَّة النّظر إِلَى وَجهك الْكَرِيم
وَعَن زيد بن ثَابت رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اجْعَل فِي دعائك ارزقني لَذَّة النّظر إِلَى وَجهك الْكَرِيم والشوق إِلَى لقائك
-
الأَصْل الْخَامِس وَالْمِائَة
-
فِي أَن مناولة الْمِسْكِين تَقِيّ ميتَة السوء وَأَن خَصْلَتَيْنِ لَا يكلهما إِلَى أحد
عَن حَارِثَة بن النُّعْمَان أَنه جعل خيطا من مُصَلَّاهُ إِلَى بَاب حجرته وَكَانَ قد ذهب بَصَره فَيَضَع مكتلا فِيهِ تمر وَغير ذَلِك فَكَانَ إِذا أسلم الْمِسْكِين أَخذ من ذَلِك المكتل ثمَّ أَخذ الْخَيط حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى بَاب الْحُجْرَة فيناول الْمِسْكِين فَكَانَ أَهله يَقُولُونَ نَحن نكفيك فَيَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول ان مناولة الْمِسْكِين تَقِيّ ميتَة السوء
فَفِي مناولة الْمِسْكِين خصْلَة تعلو الْخِصَال لِأَن الله تَعَالَى قد شرف هَذِه الْأمة من بَين الْأُمَم وَعظم شَأْنهَا وَأَكْرمهَا بِفضل يقينها وَجعل صدقاتها تُؤْخَذ من أغنيائها فَترد إِلَى فقرائها فَيبقى النَّفْع فيهم وَكَانَت الْأُمَم من بني إِسْرَائِيل صدقاتها وقرباتها تُوضَع فتجيء نَار فتقبله وتترك من لم يتَقَبَّل مِنْهُ فَيصير منهتك السّتْر وَكَانَت نُفُوسهم لَا تسخوا إِلَّا على عيان وجهر حَتَّى بلغ بهم أَن قَالُوا لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام
{أرنا الله جهرة} وأيدت هَذِه الْأمة بِفضل يَقِين فَعَلمُوا أَن الشَّيْء إِذا أَعْطوهُ لله تَعَالَى أَن الله لَا يضيعه وتفضل عَلَيْهِم أَن ولي أَخذ صَدَقَاتهمْ بِنَفسِهِ الْكَرِيمَة فَلم يكلها إِلَى مَلَائكَته وَلَا إِلَى أحد من خلقه قَالَ الله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَأْخُذ الصَّدقَات
وَلِهَذَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لايكل خَصْلَتَيْنِ إِلَى أحد فَكَانَ يمشي بِالصَّدَقَةِ إِلَى الْمِسْكِين ويستقي لوضوء المَاء وَلَا يكله إِلَى أحد
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا من عبد يتَصَدَّق بصدقه حَسَنَة طيبَة فَيَضَعهَا فِي حق إِلَّا كَانَت تقع فِي يَد الرَّحْمَن يُرَبِّيهَا كَمَا يُربي أحدكُم فَصِيله أَو فلوه حَتَّى أَن التمرة واللقمة لتصير مثل الْجَبَل الْعَظِيم ثمَّ قَرَأَ يمحق الله الرِّبَا ويربي الصَّدقَات
وَقَالَ عليه السلام إِن الصَّدَقَة لَو جرت على يَد سبعين نفسا لَكَانَ أجر أحدهم مثل أجر آخِرهم
وَمَعْنَاهُ أَن هَذِه الْأَيْدِي كلهَا منتهية إِلَى يَد الله تَعَالَى بِنَقْل تِلْكَ الصَّدَقَة
وَكَانَ عَليّ بن حُسَيْن رضي الله عنه إِذا أعْطى لسائل شَيْئا قبله وَوَضعه على يَده وَإِنَّمَا قبله لِأَنَّهُ علم من يَأْخُذهُ
وَقَوله صلى الله عليه وسلم مناولة الْمِسْكِين تَقِيّ ميتَة السوء لِأَنَّهُ يصير بالمناولة فِي قرب الله تَعَالَى وَمن وَقع فِي قرب الله كَانَ لَهُ مأمنا وَذمَّة وَكَانَ فِي ذمَّته ويوقى مصَارِع السوء وميتة السوء أَن يَمُوت مصرا على مَعْصِيَته أَو قانطا من رَحمته أَو يفجأه الْمَوْت من غير تَوْبَة فَمن كَانَ فِي ذمَّة الله وقِي هَذِه الْأَشْيَاء
قَالَ صلى الله عليه وسلم من صلى الْغَدَاة فَهُوَ فِي ذمَّة الله لِأَنَّهُ شهد الله عز وجل وَمَلَائِكَته قَالَ تَعَالَى {إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} مَعْنَاهُ ليشهد الله وَمَلَائِكَته
-
الأَصْل السَّادِس وَالْمِائَة
-
فِي حَقِيقَة الزهاد وَحَقِيقَة الْإِيمَان وَحَقِيقَة الْإِخْلَاص
عَن أبي ذَر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ الزهادة فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيم الْحَلَال وَلَا باضاعة المَال وَلَكِن الزهادة أَن لَا يكون شَيْء مِمَّا فِي يَديك أوثق مِنْك مِمَّا فِي يَدي الله تَعَالَى وَأَن يكون ثَوَاب الْمُصِيبَة أحب إِلَيْهِ من أَن لَو نفيت الْمُصِيبَة عَنهُ وَلكُل حق حَقِيقَة وَلَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الْإِيمَان حَتَّى يعلم أَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه وان مَا أخطأه لم يكن ليصيبه وَلكُل حق حقيقه وَلَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الْإِخْلَاص حَتَّى لَا يحب أَن يحمد فِي كل شَيْء يعمله لله تَعَالَى
الزّهْد الْقلَّة فالزاهد قلت فِي عينه الدُّنْيَا بِمَا فتح لَهُ من الْغَيْب فَرَأى الْآخِرَة ببصر قلبه فاستقل هَذِه وتهاون بهَا وشخص بَصَره إِلَى ضَامِن الرزق الَّذِي ضمن لَهُ رزقه ووثق بضمانه وَصَارَ هَذَا الَّذِي فِي يَده كَأَنَّهُ أودع وَدِيعَة وكل بحفظها على نَوَائِب الْحق لينفقها هُنَاكَ وَضَمان الرب لعَبْدِهِ الرزق لَهُ أوكد عِنْده وَأعظم شَأْنًا من أَن يتْلف مِمَّا فِي يَده وَيكون ثَوَاب الْمُصِيبَة آثر عِنْده من أَن لَو بَقِي عِنْده ذَلِك الشَّيْء لِأَن الشَّيْء من الدُّنْيَا وَقد دق فِي عينه وَالثَّوَاب من الْآخِرَة وَقد عظم فِي عينه
فَأَما من لم يفتح بَصَره فِي الْآخِرَة وَعظم قدر الدُّنْيَا فِي عينه حَتَّى وجد شَيْئا مِنْهَا إحتدت مخاليبه فِيهَا وعلق قلبه بهَا وَلم يستبن عِنْد قلبه ضَمَان الرزق وَكلما ذكر الْفقر أَو حبس فِي نَفسه خيفة فركن إِلَى مَا فِي يَده فَهَذَا وان جَانب الدُّنْيَا وَلبس المسوح وَأكل الْحَشِيش فَلَيْسَ بزاهد إِنَّمَا هُوَ متزهد يتَكَلَّف الزّهْد بجوارحه
وَقَوله وَلَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الْإِيمَان حَتَّى يعلم أَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه فالموحدون كلهم يعلمُونَ هَذَا علم اللِّسَان وَلَكِن لَا تَسْتَقِر قُلُوبهم مَعَ هَذِه الْكَلِمَة وَلِهَذَا يفرون من الْمَخْلُوق فِرَارًا فِيهِ عصيان الله تَعَالَى فَأَما أهل الْيَقِين فقد اسْتَقر هَذَا الْعلم فِي قُلُوبهم وانشرحت بِهِ صُدُورهمْ فَكَانُوا فِي النوائب كرأي الْعين أَن هَذَا الَّذِي نَاب قد كَانَ فِي سَابق الْعلم ثمَّ تصور عِنْدهم كَونه فِي اللَّوْح مسطورا فاستقرت نُفُوسهم لعلم يقينهم بذلك فَهَذَا حَقِيقَة الْإِيمَان
وَأما حَقِيقَة الْإِخْلَاص فَأن يَنْفِي عَن قلبه وصدره حب المحمدة وَالثنَاء وَيكون مخلصا لله تَعَالَى فِي أُمُور يعملها من أَعمال الْبر وَذَلِكَ لِأَن النَّفس تحب المحمدة وَالثنَاء لينفذ قَوْله وينال نهمته فِي دُنْيَاهُ من خلقه وَيَقُول بِلِسَان التَّوْحِيد هَذَا كُله من الله تَعَالَى ثمَّ ترَاهُ مُعَلّق الْقلب بخلقه طامعا فِيمَا لديهم غير نَاجٍ من التزين والترايئ
يُرِيد بذلك التحمد عِنْدهم لتنال النَّفس مَا تطمع فِيهِ وَلم يبلغ حَقِيقَة الاخلاص حَتَّى استنار صَدره بِالْإِيمَان وَتعلق قلبه بِاللَّه تَعَالَى وينجو من الْخلق والأسباب وشخصت آماله إِلَى خالقه فينبىء الْخلق مَا تصور فِي صَدره مِمَّا تنطق الْأَلْسِنَة بِهِ من قَوْله لَا مَانع لما أعطي وَلَا معطي لما منع
-
الأَصْل السَّابِع وَالْمِائَة
-
فِي أَن الله تَعَالَى أَحَق أَن يستحيي مِنْهُ
عَن بهز بن حَكِيم عَن جده عَن أَبِيه رضي الله عنه قَالَ قلت يَا رَسُول الله عوراتنا مَا نأتي مِنْهَا وَمَا نذر قَالَ احفظ عورتك إِلَّا من زَوجتك أَو مَا ملكت يَمِينك
قلت أَرَأَيْت إِذا كَانَ الْقَوْم بَعضهم فِي بعض
قَالَ فَإِن اسْتَطَعْت أَن لَا يَرَاهَا أحد فَلَا يرينها
قلت أَفَرَأَيْت إِذا كَانَ أَحَدنَا خَالِيا
قَالَ صلى الله عليه وسلم فَالله سبحانه وتعالى أَحَق أَن يستحيي مِنْهُ
فالعورة كَانَت مستورة من آدم وحواء عليهما السلام وعاشا ودخلا
الْجنَّة فَلَمَّا خرجا من ستر الله تَعَالَى بالخطيئة وأكلا من الشَّجَرَة وإنكشفت سوآتهما أمرا بالستر قَالَ تَعَالَى {ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوآتهما}
وَالزَّوْجَة وَملك الْيَمين مُطلق فِي ملامستهما فَيحل النّظر إِلَيْهِمَا قَالَ الله تَعَالَى وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فانهم غير ملومين
إِلَّا أَن الْحيَاء يحْجر صَاحبه عَن ذَلِك وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يتوقى أَن يرى أحد من نِسَائِهِ عَوْرَته
قَالَت عَائِشَة رضي الله عنها مَا رَأَيْت ذَلِك من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمَا رأى مني قطّ
وَأما إِذا كَانَ خَالِيا فتعرى وَلم يحتشم عَن ذَلِك فَهَذَا قلبه غافل عَن الله تَعَالَى لم يعلم أَن الله تَعَالَى يرَاهُ ثمَّ لَا يَأْخُذهُ الْحيَاء وَلَا يثقل ذَلِك عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه إِنِّي لأدخل الْخَلَاء فأقنع رَأْسِي حَيَاء من الله تَعَالَى
وَكَانَ عُثْمَان رضي الله عنه إِذا اغْتسل اغْتسل فِي بَيت مظلم
-
الأَصْل الثَّامِن وَالْمِائَة
-
فِي فضل الْإِحْسَان إِلَى الْيَتِيم
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن إِلَى يَتِيم أَو يتيمة كنت أَنا وَهُوَ فِي الْجنَّة كهاتين وَقرن بَين اصبعيه
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَنا وكافل الْيَتِيم لَهُ وَلغيره إِذا اتَّقى الله فِي الْجنَّة كهاتين
إِنَّمَا فاق هَذَا سَائِر الْأَعْمَال لِأَن الْيَتِيم افْتقدَ بر أَبِيه ولطفه وتعاهده ومصالح أُمُوره وَالله تَعَالَى ولي ذَلِك كُله يجريها على الْأَسْبَاب فَإِذا قبض أَبوهُ فَهُوَ الْوَلِيّ لذَلِك الْيَتِيم فِي جَمِيع أُمُوره يَبْتَلِي بِهِ عبيده لينْظر أَيهمْ يتَوَلَّى ذَلِك
قَالَ مُوسَى عليه السلام يَا رب أتميت أَبَوي الصَّبِي وَمن لَا
حِيلَة لَهُ وتدعه هَكَذَا قَالَ يَا مُوسَى أما ترْضى بِي كافلا
فاليتيم كافله خالقه لِأَنَّهُ قطع عَنهُ من كَانَ قيض لَهُ وطوى عَنهُ أَسبَابه فَمن مد يَده إِلَى كفَالَته فانما ذَلِك عمل يعمله عَن الله تَعَالَى لَا عَن نَفسه كَمَا أَن الرُّسُل عليهم السلام يعْملُونَ عَن الله تَعَالَى يؤدون عَنهُ حججه إِلَى خلقه وَبَيَانه وهدايته وَالَّذِي يكفل الْيَتِيم يُؤَدِّي عَن الله تَعَالَى مَا تكفل بِهِ فَلذَلِك صَار بِالْقربِ مِنْهُ فِي الدرجَة فِي ذَلِك الْموقف وَلَيْسَ فِي الْجنَّة بقْعَة أروح وَلَا أطيب وَلَا أنور وَلَا آمن من الْبقْعَة الَّتِي يكون بهَا الرُّسُل عليهم السلام فَإِذا نَالَ كافل الْيَتِيم الْقرب من تِلْكَ الْبقْعَة فقد سعد جده وَأما سَائِر الْأَعْمَال سوى الْجِهَاد فيعمله الْعمَّال عَن أنفسهم وَالْجهَاد فِيهِ ذب عَن الدّين وإعلاء كلمة الله تَعَالَى فهم على أثر الْأَنْبِيَاء عليهم السلام يَوْمئِذٍ وبالقرب مِنْهُم وَقد ذكر الله تَعَالَى شَأْن الْعَفو فَقَالَ وَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله
وَلم يُوجد شَيْء من أَعمال الْبر أجره مَضْمُونا فِي عَاجل الدُّنْيَا غير الْعَفو لِأَن الرجل إِذا ظلم وَقع قلبه فِي سجن الْمعْصِيَة وَصَارَ محجوبا عَن الله تَعَالَى فَهُوَ وَإِن تَابَ فَهُوَ غير مَقْبُول مِنْهُ حَتَّى يتَحَلَّل الْمَظْلُوم فيهب ظلامته فَيكون فِي خذلان من ربه وعمى عَن رُؤْيَة الْحق تَعَالَى فَإِذا رَحمَه هَذَا الْمَظْلُوم لما يعلم من فَسَاد قلبه وَعَفا وَأصْلح مَا فسد من قلبه لسؤال ربه الْمَغْفِرَة لَهُ فَإِنَّمَا عمل لله تَعَالَى لَا لنَفسِهِ فَأَجره على الله تَعَالَى فِي عَاجل الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى وَلمن صَبر وَغفر إِن ذَلِك لمن عزم الْأُمُور
فَسمى سُؤال الغفران لَهُ من عزم الْأُمُور فقد أَخذ هَذَا الَّذِي عَفا
وَطلب لَهُ الْمَغْفِرَة بحظ من أَمر أولي الْعَزْم وَكَانَ أولي الْعَزْم من الرُّسُل عليهم السلام من يضر بِهِ قومه حَتَّى تسيل دُمُوعه على وجنته فاذا أَفَاق اللَّهُمَّ قَالَ اغْفِر لقومي فانهم لَا يعلمُونَ
وَعَن الْحسن رضي الله عنه قَالَ يُنَادي مُنَاد يَوْم الْقِيَامَة أَلا من كَانَ لَهُ على الله أجر فَليقمْ فَلَا يقوم إِلَّا من عَفا الله تَعَالَى
-
الأَصْل التَّاسِع وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْحَوْض لَا يردهُ من كذب بِهِ
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن لي حوضا مَا بَين عدن إِلَى عمان آنيته عدد نُجُوم السَّمَاء وَله مِيزَابَانِ أَحدهمَا من ورق وَالْآخر من ذهب يمدانه من الْجنَّة لَا يرد عَلَيْهِ من كذبه
فالحياض يَوْم الْقِيَامَة للرسل عليهم السلام لكل على قدره وَقدر تبعه وَقد هيأ لَهُ مشربا يرْوى مِنْهُ فَلَا يظمأ بعْدهَا أبدا
عَن أبي بن كَعْب رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أول من يدعى يَوْم الْقِيَامَة أَنا فأقوم وألبي ثمَّ يُؤذن لي بِالسُّجُود فأسجد لَهُ سَجْدَة يرضى بهَا عني ثمَّ يَأْذَن لي فأرفع وأدعو بِدُعَاء يرضاه عني فَقُلْنَا يَا رَسُول الله وَكَيف تعرف أمتك يَوْم الْقِيَامَة
قَالَ يقومُونَ غرا محجلين من آثَار الطّهُور ويردون إِلَى الْحَوْض
مَا بَين بصرى إِلَى صنعاء أَشد بَيَاضًا من اللَّبن وَأحلى من الْعَسَل وأبرد من الثَّلج وَأطيب ريحًا من الْمسك فِيهِ من الْآنِية عدد نُجُوم السَّمَاء من ورده فَشرب مِنْهُ لم يظمأ بعده أبدا وَمن صرف عَنهُ لم يرو بعده أبدا ثمَّ يعرض النَّاس على الصِّرَاط فيمر أوائلهم كالبرق ثمَّ يَمرونَ كَالرِّيحِ ثمَّ يَمرونَ كالطرف ثمَّ يَمرونَ كأجود الْخَيل والركاب وعَلى كل حَال وَهِي الْأَعْمَال وَالْمَلَائِكَة جَانِبي الصِّرَاط يَقُولُونَ رب سلم سلم فسالم نَاجٍ ومخدوش نَاجٍ ومرسل فِي النَّار وجهنم تَقول هَل من مزِيد حَتَّى يضع فِيهَا رب الْعَالمين مَا شَاءَ أَن يضع فتنزوي وتنقبض وتغرغر كَمَا تغرغر المزادة الجديدة إِذا ملئت وَتقول قطّ قطّ
-
الأَصْل الْعَاشِر وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْوَلَد من ريحَان الله تَعَالَى
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ لما قبض إِبْرَاهِيم بن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا تدرجوه فِي أَكْفَانه حَتَّى أنظر إِلَيْهِ فَأَتَاهُ وانكب عَلَيْهِ وَبكى
الْوَلَد من ريحَان الله تَعَالَى يشمه الْمُؤمن فيلتذ بِهِ قَالَ صلى الله عليه وسلم إِنَّكُم لتجهلون ولتجبنون وتبخلون وانكم لمن ريحَان الله تَعَالَى
فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أحب أَن يتزود من ريحَان الله تَعَالَى آخر
الْعَهْد بِهِ وَلذَلِك قيل ريح الْوَلَد ريح الْجنَّة فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يفعل فعل المشتاقين إِذا هاج غليان الشوق إِلَى الله تَعَالَى وَلِهَذَا كَانَ إِذا مطرَت السَّمَاء تجرد وكشف عَن رَأسه وأبرز ثمَّ يتلقاه بجسده وَيَقُول إِنَّه حَدِيث الْعَهْد بربه وَكَانَ ينكب على الْحجر الأسنود وَيَقُول هَهُنَا تسكب العبرات أَلا ترى أَنه كَانَ يستبطىء جبرئيل عليه السلام فِي مَجِيئه حَتَّى قَالَ يَا مُحَمَّد مَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك فانكبابه على إِبْرَاهِيم صلى الله عليه وسلم تزَود مِنْهُ وبكاؤه توجع مِنْهُ لمفارقة من يشمه ريحانا من الله تَعَالَى فنسب إِلَى الله تَعَالَى لِأَنَّهُ هبة الله وَالْهِبَة مِنْهُ حشوها الْبر واللطف وظاهرها الِابْتِلَاء قَالَ تَعَالَى يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم أَوْلَادكُم من هبة الله تَعَالَى لكم فَكُلُوا من كسبكم
-
الأَصْل الْحَادِي عشر وَالْمِائَة
-
فِي أَن إقراض الله تَعَالَى سفاتج الْآخِرَة وسره
عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ لما نزلت {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا} قَالَ أَبُو الدحداح الْأنْصَارِيّ أَو أَن الله تَعَالَى يُرِيد الْقَرْض منا قَالَ نعم يَا أَبَا الدحداح قَالَ أَرِنِي يدك يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي قَالَ فَنَاوَلَهُ يَده قَالَ فَإِنِّي أقرضت رَبِّي حائطي فِيهِ سِتّمائَة نَخْلَة قَالَ فجَاء إِلَيْهِ فَنَادَى وَهُوَ خَارج من الْحَائِط يَا أم الدحداح مرَّتَيْنِ قَالَت لبيْك قَالَ اخْرُجِي فقد أقرضت رَبِّي عز وجل
الْقَرْض سفاتج الْآخِرَة فان الله تَعَالَى خلق هَذَا المَال قواما لِمَعَاش بني آدم وَجعل قوام الرّوح بِهِ فَأَحبهُ الْآدَمِيّ على قدر نَفعه مِنْهُ والمحبة لَازِقَة بِالْقَلْبِ لِأَنَّهَا تخلص إِلَى حَبَّة الْقلب أَي بَاطِنه وشهوته
وَإِنَّمَا هما بضعتان قلب وفؤاد فالقلب مَا بطن والفؤاد الْبضْعَة الَّتِي قد اشْتَمَلت على قلبه وَفِي الْفُؤَاد الْعين وَالْأُذن قَالَ الله تَعَالَى {مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى}
نسب الرُّؤْيَة إِلَى الْفُؤَاد ثمَّ قد يَجْتَمِعَانِ فِي اسْم وَاحِد فَيُقَال للْكُلّ قلب كَمَا قيل نفس
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم أَتَاكُم أهل الْيمن أَلين قلوبا وأرق أَفْئِدَة وصف الْقلب باللين والفؤاد بالرقة وَذَلِكَ لِأَن الْقلب بضعَة لحم فِي بضعَة أُخْرَى فالقلب مَا بطن مِنْهُ والفؤاد مَا ظهر مِنْهُ وَفِيه العينان والأذنان يُقَال فِي اللُّغَة لخبز الْملَّة خبز فئيد إِذا كَانَ لَهُ ظهارة وبطانة فنور التَّوْحِيد فِي الْقلب وشهوة النَّفس قد خلصت إِلَى حَبَّة الْقلب فلصقت بِهِ وَذَاكَ مَعْدن الْإِيمَان وَالْحكمَة وَالْعلم ومستقر النُّور وَلَيْسَ بِموضع شَهْوَة فَإِن الشَّهْوَة دَاء الْقلب وسقم الْإِيمَان
قَالَ صلى الله عليه وسلم حبك الشَّيْء يعمي ويصم
فَإِذا خلص حب الشَّهَوَات إِلَى الْقلب فقد أعمى بصر الْقلب وأصم أُذُنه لِأَنَّهُ صَار سميعا وبصيرا بِالنورِ فَإِذا خالطه حب الشَّهَوَات ودخانها ثقل الْأذن وَغشيَ الْبَصَر وَمن هَهُنَا قَالَ صلى الله عليه وسلم لسلمان رضي الله عنه قل اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك صِحَة فِي الْإِيمَان
سَأَلَ الصِّحَّة من السقم وسقم الْإِيمَان مَا خالط من شَهْوَة النَّفس وَقد ذكر الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم خُرُوج الْعباد من أَمْوَالهم وَذكر ثَوَاب كل وَاحِد مِنْهَا فَذكر الْإِنْفَاق والإيتاء وَالْإِطْعَام وَأَشَارَ فِي جَمِيع ذَلِك إِلَى الْمَسَاكِين وَإِلَى سَبيله فَقَالَ تَعَالَى وَمَا تنفقوا من خير يوف إِلَيْكُم
وَقَالَ وَمثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل
وَقَالَ فِي شَأْن الصَّدَقَة وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ
وَقَالَ فِي شَأْن الْإِطْعَام {فوقاهم الله شَرّ ذَلِك الْيَوْم}
فَلَمَّا صَار إِلَى ذكر الْقَرْض أَشَارَ إِلَى إقراضه دون خلقه وَذكر ثَوَاب الْقَرْض فَقَالَ إِن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم وَيغْفر لكم
وعد الْمَغْفِرَة والتضعيف وَقَالَ فِي مَوضِع آخر {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا فيضاعفه لَهُ أضعافا كَثِيرَة}
وَالْكثير من الله تَعَالَى لَا يُحْصى وَالْقَرْض زَائِد على الْجَمِيع فِي الِاسْم الَّذِي سمي بِهِ وَالشّرط الَّذِي علق بِهِ فَقَالَ تَعَالَى {يقْرض الله قرضا حسنا}
فالقرض هُوَ الْقطع وَسمي بالمقراض لِأَنَّهُ يقطع بِهِ الشَّيْء اللاصق بالشَّيْء وَلَيْسَ مِنْهُ وَإِنَّمَا يحسن قرضه إِذا قرضه من أَصله قرضا لَا يبْقى هُنَاكَ شئ فَإِذا أقْرض الشَّيْء الَّذِي قد لصقت شَهْوَته ومحبته بِالْقَلْبِ وَصَرفه إِلَى نوع من أَنْوَاع الْبر فقد قرض محبته من قلبه لِأَنَّهُ قد فَارقه ملكا وَأخرجه إِلَى ملك غَيره فَأَما إِذا أعْطى وعَلى قلبه كَرَاهَة الْإِعْطَاء وعسره فقد قطعه وَبَقِي هُنَاكَ شَيْء فَلم يستأصله وَإِذا أعْطى وانتظر الْخلف وَالثَّوَاب فقد شخصت عَيناهُ إِلَى محبَّة شَيْء هُوَ أعظم من الَّذِي أعْطى فقد أَنْهَك الْقطع وَقصر فِيهِ وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى ابتلى الْعباد بِمَا أَعْطَاهُم من الدُّنْيَا ثمَّ سَأَلَهُمْ مِنْهَا بعد إِذْ ولجت لَذَّة مَنَافِعه قُلُوبهم محنة لسرائرهم فَمن أسكرته لَذَّة هَذِه الْمَنَافِع فقد سكرت عُقُولهمْ عَن الله تَعَالَى فَصَارَت فتْنَة لَهُم فَإِن أعْطى كرها أَو أعْطى على طمع ثَوَاب أَو خلف لم تصف عطيته وَإِنَّمَا تصفو إِذا أعْطى ربه عَطاء لَا تتبع نَفسه الْعَطِيَّة وَلَا تنْتَظر الْخلف مِنْهَا وَلَا الثَّوَاب عَلَيْهَا عَطاء من كَانَ الشَّيْء عِنْده بأمانة فَإِذا اسْتردَّ اغتنم ذَلِك مِنْهُ وتسارع إِلَى ردهَا وَلَا يقوى على هَذِه الخطة إِلَّا أهل الْيَقِين وهم المقربون السَّابِقُونَ لِأَن الْأَشْيَاء عِنْدهم عواري وودائع قبلوها عَن الله تَعَالَى بقلوبهم وأمسكوها لله تَعَالَى على نَوَائِب حُقُوقه وَقد سقط عَن قُلُوبهم قدر الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وولجت قُلُوبهم عَظمَة الله تَعَالَى
فرقت الدُّنْيَا فِي أَعينهم فَإِذا أعْطوا مِنْهَا شَيْئا فَإِنَّمَا هِيَ عِنْدهم أَمَانَة خَرجُوا مِنْهَا إِلَى الله تَعَالَى فِي وَقت نائبة الْحق فهم خزانه وأعوانه وأمناؤه فِي أرضه وَقد مَاتَت شهوات نُفُوسهم عَن جَمِيع حطامها وإمساكها حرصا وعدة وَالدُّنْيَا عِنْدهم كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا مثل الدُّنْيَا كراكب استظل تَحت شَجَرَة ثمَّ رَاح مِنْهَا
وكما فعل أَبُو بكر رضي الله عنه حِين حثهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الصَّدَقَة فَأَتَاهُ بِمَالِه كُله فَقَالَ مَا تركت لأهْلك يَا أَبَا بكر قَالَ الله تَعَالَى وَرَسُوله
فالمستغني بِاللَّه لَا بِالْمَالِ هَكَذَا قلبه فَمن أعْطى الْعَطِيَّة وغناه بِاللَّه تَعَالَى لم تشخص عَيناهُ إِلَى الْخلف وَالثَّوَاب وَلم يكن عَلَيْهِ فِي وَقت الْإِعْطَاء عسر وَلَا كَرَاهِيَة فَهَذِهِ عَطِيَّة الْأَوْلِيَاء ونفقاتهم وَمن قبيل ذَلِك مَا فعله أَبُو الدحداح فانه صفق يَده على يَد رَسُول الله بالعطاء فَإِن من أعْطى الرَّسُول فقد أعْطى الله فالرسول ولي الله تَعَالَى فِي الأَرْض يتَوَلَّى قبض مَا يعْطى لله تَعَالَى حَتَّى يَضَعهُ حَيْثُ يَأْمر الله تَعَالَى ثمَّ صَار إِلَى الحديقة لم يدخلهَا وَأخرج عِيَاله مِنْهَا وخلا عَنْهَا وَقَالَ إِنِّي أَقْرَضته رَبِّي وَإِنَّمَا توقى دُخُولهَا مَخَافَة أَن تتبعه نَفسه شَيْئا مِمَّا ذكرنَا فَلم يَأْمَن نَفسه فاجتنب دُخُولهَا لِئَلَّا يكون فِي النَّفس شَيْء مِنْهُ
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم كم من عذق مذلل لأبي الدحداح فِي الْجنَّة
وَكَانَ ابْن عمر رضي الله عنهما إِذا أعجبه الشَّيْء أخرج مِنْهُ إِلَى الله تَعَالَى وَكَانَت لَهُ سَرِيَّة وَكَانَ بهَا معجبا فَأعْتقهَا وَزوجهَا بعض موَالِيه فَولدت لَهُ غُلَاما وَكَانَ ابْن عمر رضي الله عنهما يضم وَلَدهَا إِلَى نَفسه ثمَّ يقبله ثمَّ يَقُول واها إِنِّي أجد مِنْك ريح فُلَانَة يَعْنِي جَارِيَته
قَالَ وَكَانَ رَاكِبًا بَعِيرًا لَهُ فأعنق وَأَعْجَبهُ سيره فَقَالَ أَخ أَخ فَنزل ثمَّ قَالَ يَا نَافِع جلله وألحقه بِالْبدنِ
-
الأَصْل الثَّانِي عشر وَالْمِائَة
-
فِي أَن زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم هِجْرَة الْمُضْطَرين
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من زار قَبْرِي وَجَبت لَهُ شَفَاعَتِي
زِيَارَة قَبره صلى الله عليه وسلم هِجْرَة الْمُضْطَرين هَاجرُوا إِلَيْهِ فتوجب لَهُم شَفَاعَة تقيم حُرْمَة زيارتهم والشفاعة لمن أوبقته ذنُوبه
قَالَ صلى الله عليه وسلم شَفَاعَتِي للمتلوثين المتلطخين المؤيسين فَأَما المتقون فقد كفوا أنفسهم
وشفاعته صلى الله عليه وسلم من الْجُود قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن إِبْرَاهِيم
عَلَيْهِ السَّلَام ليرغب إِلَيّ يَوْم الْقِيَامَة وَفِي حَدِيث آخر يحْتَاج إِلَيّ وشفاعة غَيره من الْأَنْبِيَاء عليهم السلام من الصدْق وَالْوَفَاء والحظوظ
-
الأَصْل الثَّالِث عشر وَالْمِائَة
-
فِي أَن أفضل الصَّلَاة الصَّلَاة لوَقْتهَا
عَن أبي ذَر رضي الله عنه قَالَ قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صل الصَّلَاة لوَقْتهَا فان أتيت النَّاس وَقد صلوا كنت قد أحرزت وَإِن لم يَكُونُوا صلوا كَانَت لَك نَافِلَة
وَقت الصَّلَاة ممتد إِلَى آخر الْوَقْت وَأعلم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَصْحَابه بِمَا يكون بعده من الْأَحْدَاث والفتن حَتَّى قَالَ سَيكون بعدِي امراء يميتون الصَّلَاة فيصلونها لغير وَقتهَا فصلوها لوَقْتهَا واجعلو صَلَاتكُمْ مَعَهم سبْحَة
وَظهر تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث فِي زمن بني أُميَّة فَإِنَّهُ روى أَبُو مُسلم قَالَ كَانَ يَخْطُبنَا الْحجَّاج يَوْم الْجُمُعَة فَلم يزل يخْطب حَتَّى غربت الشَّمْس ثمَّ نزل وَصلى الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب
وَرُوِيَ سَالم قَالَ لما قدم الْوَلِيد بن عبد الْملك جَاءَت الْجُمُعَة فَجمع بِنَا فَمَا زَالَ يخْطب حَتَّى مضى وَقت الْجُمُعَة ثمَّ مَا زَالَ يخْطب حَتَّى مضى وَقت الْعَصْر وَلم يصل قَالَ لَهُ الْقَاسِم بن مُحَمَّد فَمَا قُمْت وَصليت قَالَ لَا قَالَ فَمَا صليت قَاعِدا قَالَ لَا قَالَ فَمَا أَو مأت قَالَ لَا وَالله خشيت أَن يُقَال رجل من آل عمر
وَقَوله صلى الله عليه وسلم كَانَت لَك نَافِلَة أَي صَلَاتك الَّتِي صليت مَعَهم هِيَ النَّافِلَة لِأَن الْفَرِيضَة قد مَضَت
-
الأَصْل الرَّابِع عشر وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْبِدَايَة فِي الْخيرَات بالأكابر
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اسْتنَّ فَأعْطِي أكبر الْقَوْم ثمَّ قَالَ أَمرنِي جبرئيل عليه السلام أَن أكبر
وروى زيد بن رفيع قَالَ دخل على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل وَمِيكَائِيل وَهُوَ يستاك فناول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل السِّوَاك فَقَالَ جبرئيل لَهُ أكبر أَي ناول مِيكَائِيل فَأَنَّهُ أكبر
وَعند عبد الله بن كَعْب أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا اسْتنَّ أعْطى السِّوَاك الْأَكْبَر وَإِذا شرب أعْطى الَّذِي عَن يَمِينه لِأَن أكبرهم سنا أقدمهم خُرُوج أَسْنَان وَمن كَانَ أقدم فَهُوَ أَحَق وَهَكَذَا فِي حق الْجَوَارِح يبْدَأ بالأقدم
روى أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أدهن أحدكُم فليبدأ بحاجبه فَإِنَّهُ يذهب بالصداع وَذَلِكَ أول مَا ينْبت على ابْن آدم من الشّعْر فَإِذا قدم الشَّيْء فِي الْخلقَة فَهُوَ الْمُقدم فِي التَّدْبِير عِنْد خالقه وَصَاحبه مَطْلُوب بِحِفْظ ذَلِك ورعايته ليقدم مَا قدم الله سبحانه وتعالى وَيُؤَدِّي حَقه فَإِذا اتبع الْحق فِي كل شَيْء
من أمره فعقله مستريح وَإِذا اتبع الْجَهْل أتعبه لِأَن الْعقل مَسْكَنه الدِّمَاغ وتدبيره على الْقلب فَإِذا بَدَأَ بالحاجبين فِي الإدهان فقد أُدي حَقه لِأَنَّهُ بُدِئَ بِهِ فِي الْخلقَة فَإِذا ضيع الْحق فِي ذَلِك فَقدم الْمُؤخر وَأخر الْمُقدم فَغير مستنكر أَن يهيج الصداع لِأَن فِي فعله اتعاب الْحق وَالْعقل وَيبدأ بالأكبر فالأكبر فِي كل شَيْء لِأَنَّهُ إِذا لم يبْدَأ بِهِ لم يوقره
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ منا من لم يوقر كَبِيرنَا
وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا سقِِي قَالَ إبدءوا بالأكابر فان الْبركَة مَعَ أكابركم
وَقَوله إِذا شرب أعطي الَّذِي عَن يَمِينه لِأَن الْإِنَاء كَانَ وَاحِدًا فَإِذا شرب الْكَبِير وَقد فضلت فضلَة لم يجد بدا من مناولته غَيره فَالْحق للْيَمِين وَمن على الْيَمين كَذَلِك يرْوى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
-
الأَصْل الْخَامِس عشر وَالْمِائَة
-
فِي الْمُبَادرَة إِلَى الْآخِرَة
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ أَخذ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِبَعْض جَسَدِي فَقَالَ كن فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيب أَو عَابِر سَبِيل وعد نَفسك من أهل الْقُبُور
الْغَرِيب نَازع قلبه إِلَى الوطن ماد عينه إِلَى أَهله شاخص أمله إِلَى وَقت الارتحال مَتى يُنَادى بالرحيل فيرتحل وَكلما قطع مرحلة خف ظَهره وهاج شوقه ينْتَظر نفاد المراحل وَنِهَايَة الْمسَافَة فَإِذا بلغ آخر مر حلَّة قلق وضاق ذرعا فَإِذا وَقع نظره على وَطنه رق ودمعت عَيناهُ فَبكى من طول الغربة ومقاساة الوحشة ثمَّ بَكَى فَرحا بوصوله
إِلَى الوطن وَنَظره إِلَى الأحباب فعلى هَذِه الصّفة دله صلى الله عليه وسلم أَن يكون نَازع الْقلب إِلَى دَار السَّلَام مَادًّا عينه إِلَى الْملك العلام شاخصا أمله إِلَى دَعوته ينْتَظر مَتى يدعى فيجيب وَكلما قطع يَوْمًا من عمر خف ظَهره من أثقال الْعُمر وهاج شوقه ينْتَظر نفاد اللَّيَالِي وَالْأَيَّام الَّتِي أجلت لَهُ وَإِذا بلغ آخر يَوْمه قلق وضاق ذرعا لخوف الْخطر الَّذِي رَكبه وَأَنه لَا يدْرِي بِمَا يخْتم لَهُ فَإِذا كشف الغطاء عَنهُ وَبشر بالسلامة وأري مَكَانَهُ رق وَبكى من طول الغربة ومقاساة جهد النَّفس ثمَّ بَكَى فَرحا بلقاء مَوْلَاهُ ووصوله إِلَيْهِ والغريب مُنْفَرد منكسر الْقلب لَا يتهنى بعيش وَإِن كَانَ فِي سَعَة من الْعَيْش ونعمة لَا يتوجع لما ينوبه فِي سَفَره وَلَا يجزع لما يقاسي من الشدَّة لِأَنَّهُ يعلم أَن سَفَره مُنْقَطع
وَقَوله وعد نَفسك من أهل الْقُبُور أَن يَقُول سَاعَة بعد سَاعَة الْآن يحضرني أَمر الله تَعَالَى فيعد نَفسه مِنْهُم لَا من الْأَحْيَاء لِأَن أهل الْقُبُور قد انْقَطَعت أطماعهم من الْأَحْيَاء وَقَطعُوا الدُّنْيَا وَرفعُوا بالهم عَنْهَا وَلِهَذَا كَانَ السّلف يبادرون إِلَى تَصْحِيح الْأُمُور مَخَافَة أَن يُحَال مِمَّا يحافظ بَينهم وَبَين ذَلِك فَإِن الْأَمر قد غيب عَن الْخلق وَكَانَ عَامر بن عبد الْقَيْس رَحْمَة الله عَلَيْهِ يمر مسرعا إِلَى أَمر فَقيل لَهُ فَقَالَ أبادر طي صحيفتي وانْتهى كرز بن وبرة إِلَى قنطرة وَعَلَيْهَا زحام فَنزل عَن حِمَاره وَقَامَ يُصَلِّي وَقَالَ أكره أَن تبطل من عمري سَاعَة وَقيل لجَعْفَر بن برْقَان أَلا تخضب قَالَ أكره أَن يأتيني رَسُول رَبِّي وَأَنا مشتغل بِهِ وَسُئِلَ مُحَمَّد بن النَّضر عَن الصَّوْم فِي السّفر فَقَالَ الْمُبَادرَة الْمُبَادرَة فاغتنم وَسُئِلَ دَاوُد الطَّائِي عَن الرَّمْي وتعليمه فَقَالَ إِنَّمَا هِيَ أيامك فاقطعها بِمَا شِئْت
-
الأَصْل السَّادِس عشر وَالْمِائَة
-
فِي أَن خوف الإقلال من سوء الظَّن بِاللَّه تَعَالَى
عَن عمر رضي الله عنه أَن رجلا أَتَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ أَن يُعْطِيهِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا عِنْدِي شَيْء وَلَكِن اتبع عَليّ فَإِذا جَاءَ قضينا فَقَالَ عمر رضي الله عنه مَا كلفك الله مَا لَا تقدر عَلَيْهِ فكره رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَول عمر فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار يَا رَسُول الله أنْفق وَلَا تخف من ذِي الْعَرْش إقلالا فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وَعرف السرُور فِي وَجهه لقَوْل الْأنْصَارِيّ ثمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم بذلك أمرت
خوف الإقلال من سوء الظَّن بِاللَّه تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى خلق الأَرْض بِمَا فِيهَا لبني آدم قَالَ تَعَالَى خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض
فَهَذِهِ الْأَشْيَاء للآدمي قطعا لعذره ليَكُون لَهُ عبدا فِي الدُّنْيَا وَيقدم عَلَيْهِ غَدا فيحرره من الْعُبُودِيَّة ويبعثه ملكا إِلَى دَاره فالمستقيم من رفع باله وهمته عَن الدُّنْيَا وَكَانَ كل همته فِي إِقَامَة العبودة والكون لَهُ كَمَا خلقه مراقبا لأموره فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة منقادا لحكمه يعد نَفسه عبدا لَا يملك شَيْئا وأحواله عواري يقلبها وَليهَا سَاعَة فساعة كَيفَ شَاءَ لَيست لَهُ فِيهَا مَشِيئَة ويتوقى أَن يفكر فِيهَا فَيحدث لَهُ مَشِيئَة نَاظرا إِلَى مَا برز لَهُ من مَشِيئَة الْغَيْب وَخَوف الإقلال يضمحل من الْقلب بِأَن يحسن الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وَيعلم أَنه رب غَنِي كريم وَقد استنار فِي صَدره غناهُ وَكَرمه فَإِذا أنْفق لم يخف الإقلال لِأَنَّهُ يخلف وَلَا يعوزه شَيْء وَإِذا عرفه بالقلة أَو بالضيق وَالْبخل جبن فِي ذَلِك
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ الله تَعَالَى سبقت رَحْمَتي غَضَبي يَا ابْن آدم أنْفق عَلَيْك يَمِين الله ملأى سحاء لَا يغيضها شَيْء بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار
وَعَن عَائِشَة رضي الله عنها أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ أطعمنَا يَا بِلَال قَالَ مَا عِنْدِي إِلَّا صَبر من تمر قد خبأته لَك قَالَ أما تخشى أَن يخسف الله بِهِ نَار جَهَنَّم أنْفق يَا بِلَال وَلَا تخشى من ذِي الْعَرْش إقلالا
وَعَن الزبير رضي الله عنه قَالَ جِئْت حَتَّى جَلَست بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأخذ بِطرف عمامتي من ورائي ثمَّ قَالَ يَا زبير إِنِّي رَسُول الله إِلَيْك خَاصَّة وَإِلَى النَّاس عَامَّة أَتَدْرِي مَاذَا قَالَ ربكُم
قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ قَالَ ربكُم حِين اسْتَوَى على عَرْشه وَنظر إِلَى خلقه
عبَادي أَنْتُم خلقي وَأَنا ربكُم أرزاقكم بيَدي فَلَا تتعبوا فِيمَا تكفلت لكم واطلبوا مني أرزاقكم وإلي فارفعوا حَوَائِجكُمْ انصبوا الى أَنفسكُم أصب عَلَيْكُم أرزاقكم
أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ ربكُم قَالَ الله تَعَالَى عَبدِي أنْفق أنْفق عَلَيْك وأوسع أوسع عَلَيْك وَلَا تضيق فأضيق عَلَيْك وَلَا تضر فأضر عَلَيْك وَلَا تحزن فأحزن عَلَيْك
إِن بَاب الرزق مَفْتُوح من فَوق سبع سموات متواصل إِلَى الْعَرْش لَا يغلق لَيْلًا وَلَا نَهَارا ينزل الله تَعَالَى مِنْهُ الرزق على كل امْرِئ بِقدر نِيَّته وعطيته وصدقته وَنَفَقَته من أَكثر أَكثر لَهُ وَمن أقل أقل لَهُ وَمن أمسك أمسك عَلَيْهِ يَا زبير فَكل وَأعْطى وَلَا توك فيوكى عَلَيْك وَلَا تحصي فيحصى عَلَيْك وَلَا تقتر فيقتر عَلَيْك وَلَا تعسر فيعسر عَلَيْك يَا زبير إِن الله تَعَالَى يحب الْإِنْفَاق وَيبغض الاقتار وَإِن السخاء من الْيَقِين وَالْبخل من الشَّك فَلَا يدْخل النَّار من أَيقَن وَلَا يدْخل الْجنَّة من شكّ يَا زبير إِن الله يحب السخاء وَلَو بفلق تَمْرَة والشجاعة وَلَو بقتل عقرب أَو حَيَّة يَا زبير إِن الله تَعَالَى يحب الصَّبْر عِنْد زَلْزَلَة الزلزال وَالْيَقِين النَّافِذ عِنْد مَجِيء الشُّبُهَات وَالْعقل الْكَامِل عِنْد نزُول الشَّهَوَات والورع الصَّادِق عِنْد الْحَرَام والخبيثات يَا زبير عظم الاخوان وجلل الْأَبْرَار وَوقر الأخيار وصل الْجَار وَلَا تماش الْفجار وادخل الْجنَّة بِلَا حِسَاب وَلَا عَذَاب هَذِه وَصِيَّة الله إِلَيّ ووصيتي إِلَيْك يَا زبير
-
الأَصْل السَّابِع عشر وَالْمِائَة
-
فِي النِّعْمَة وَالرَّحْمَة وَذكر بُلُوغ ذرى الْإِيمَان
عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يبْعَث الله يَوْم الْقِيَامَة عبدا لَا ذَنْب لَهُ فَيَقُول لَهُ بِأَيّ الْأَمريْنِ أحب إِلَيْك أجزيك بعملك أم بنعمتي عَلَيْك قَالَ يَا رب تعلم أَنِّي لم أعصك قَالَ خُذُوا عَبدِي بِنِعْمَة من نعمي فَلَا تبغي لَهُ حَسَنَة إِلَّا استفرغتها تِلْكَ النِّعْمَة فَيَقُول يَا رب بنعمتك ورحمتك قَالَ فَيَقُول بنعمتي ورحمتي وَيُؤْتى بِعَبْد محسن فِي نَفسه لَا يرى أَن لَهُ سَيِّئَة فَيُقَال لَهُ هَل كنت توالي أولياءي قَالَ يَا رب كنت من النَّاس سلما قَالَ فَهَل كنت تعادي أعدائي قَالَ يَا رب لم أكن احب أَن يكون بيني وَبَين أحد شَيْء قَالَ يَقُول الله عز وجل وَعِزَّتِي لَا ينَال رَحْمَتي من لم يوال أوليائي وَلم يُعَاد أعدائي
فَالْأول عبد غافل عَن ربه متيقظ لآخرته مكب على نَفسه يحب أَن يلق الله تَعَالَى بِالصّدقِ من نَفسه فَيَقْتَضِي الثَّوَاب مِنْهُ على صدقه وَقد خَفِي عَلَيْهِ شَأْن الْمِنَّة وَالنعْمَة عَاشَ حَافِظًا لأموره مَادًّا عينه إِلَى ثَوَابه فَإِذا لقِيه نطق لِسَانه بِمَا توطنه فِي الدُّنْيَا وعامل الله تَعَالَى
بِهِ فتح لَهُ الْحق وَطلب مِنْهُ مَا يَقْتَضِيهِ شكرا لنعمه فَأخذ بأصغرها فاستفرغت عمله فَعندهَا انْكَشَفَ لَهُ الغطاء عَن شَأْن الْمِنَّة وَالنعْمَة وقدرهما فَطلب النِّعْمَة وَالرَّحْمَة وَهَذَا عبد لم يفقه إِذْ لَو فقه وَكَانَت لَهُ عبَادَة الثقلَيْن عمر الدُّنْيَا لم يلحظ إِلَيْهَا أَنه عمل شَيْئا وَلم يوازن ذَلِك أَصْغَر نعْمَة من نعم الله تَعَالَى
قَالَ صلى الله عليه وسلم مَا عبد الله بِمثل الْفِقْه وَقَالَ من أَرَادَ الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين وَلَو كَانَ جريج الراهب فَقِيها لعلم أَن إِجَابَة أمه من عبَادَة ربه تَعَالَى
وَأما العَبْد الثَّانِي فَهُوَ عبد رعى نَفسه وَعجز عَن رِعَايَة الْحق سُبْحَانَهُ فَمن رعى نَفسه فَإِنَّمَا عمله حفظ جوارحه وَأَدَاء فَرَائِضه ائتمارا لأَمره وتناهيا عَن نَهْيه لِئَلَّا يهْلك نَفسه فَلذَلِك صَار للنَّاس سلما وَلم يدر أَن فِي رِعَايَة الْحق نجاة نَفسه والراعي للحق انْكَشَفَ لَهُ الغطاء عَن جَلَاله وعظمته فاشتعلت الحرقات فِي جَوْفه حبا لَهُ وشغوفا بِهِ حَتَّى أَدَّاهُ ذَلِك إِلَى مَعْرفَته فَامْتَلَأَ قلبه من جلال الله وعظمته فوالى أولياءه وعادى أعداءه مُوَافقَة لَهُ كَمَا أَن من حل من قَلْبك محلا ترى الدُّنْيَا بِهِ فيهيج حبك لَهُ أَن تحب من أحبه وتعادي من عَادَاهُ وَهَذَا من بُلُوغ العَبْد ذرى الْإِيمَان
-
الأَصْل الثَّامِن عشر وَالْمِائَة
-
فِي دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم
عَن عمر رضي الله عنه قَالَ عَلمنِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَل علانيتي صَالِحَة وَاجعَل سريرتي خيرا من علانيتي اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك من خير مَا يُؤْتِي النَّاس من المَال وَالْولد غير الضال والمضل
الْعَلَانِيَة الصَّالِحَة مرضاة الله تَعَالَى من الائتمار بِأَمْر الله تَعَالَى والتناهي عَن نَهْيه والسريرة الَّتِي هِيَ خير من الْعَلَانِيَة تَعْظِيم أمره وَنَهْيه وَالْوُقُوف عِنْد حكمه وَترك الِاخْتِيَار فِي جَمِيع أَحْوَاله وموافقته فِي مَشِيئَته حَتَّى مَا يحب إِلَّا مَا يحب وَلَا يكره إِلَّا مَا يكره وَلَا يُرِيد إِلَّا مَا يُرِيد
وَقَوله أَسأَلك من صَالح مَا يُؤْتِي النَّاس فَإِن الله يُؤْتِي النَّاس مَا يصير عَلَيْهِم وبالا ويؤتي مَا يُبَارك لَهُم فِيهِ فَمَا بورك لَهُم فِيهِ من مَال وَولد فَهُوَ صَالح مَا يُؤْتِي وَلَيْسَ ذَلِك بضال وَلَا مضل وَمَا نزعت مِنْهُ الْبركَة من المَال وَالْولد فَهُوَ الْفَاسِد وَهُوَ الضال المضل
-
الأَصْل التَّاسِع عشر وَالْمِائَة
-
فِي مبادرة الْعَاطِس بِالْحَمْد
عَن وَاثِلَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بَادر الْعَاطِس بِالْحَمْد لم يضرّهُ شَيْء من دَاء الْبَطن
العطاس تنفس الرّوح وسطوعه إِلَى الملكوت حنينا إِلَى قرب الله تَعَالَى لِأَنَّهُ من عِنْده جَاءَ وَهُوَ شَيْء لطيف طَاهِر طيب ملكوتي تمكن لَهُ فِي لحم وَدم وَأمر بالقرار فِيهِ فاستقر فَهَذَا من لطف رَبنَا لعَبْدِهِ وكرامته إِيَّاه وَلَوْلَا الْأَرْوَاح لم ينْتَفع بِهَذِهِ الْجَوَارِح قَالَ الله تَعَالَى وَلَقَد كرمنا بني آدم إِلَى قَوْله وفضلناهم على كثير مِمَّن خلقنَا تَفْضِيلًا
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم الْأَرْوَاح للْمَلَائكَة والآدميين وَالْجِنّ والانفاس للدواب
وَيُقَال ان الرّوح فِي الرَّأْس ثمَّ هُوَ بعد كالسربال فِي الْجَسَد قَالَ الله تَعَالَى {فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق واضربوا مِنْهُم كل بنان}
دلّ على مُسْتَقر الرّوح وَهُوَ المقتل فَإِذا عطس الْمُؤمن فَإِنَّمَا ذَلِك وَقت ذكر الله تَعَالَى لعَبْدِهِ وتعزية للروح بِمَا وَقع فِيهِ من الضّيق فاذا خلص إِلَى الرّوح تاق إِلَى مَوْضِعه وموطنه فَتلك الصَّيْحَة مِنْهُ فالمؤمن من رأى عَظِيم صنع الله تَعَالَى فِي جسده فحمده على صنعه وكرامته إِيَّاه بِالروحِ فالمبادر بِالْحَمْد أفهمهم لذَلِك أَلا ترى أَن آدم عليه السلام لما عطس بَادر بِالْحَمْد فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ يَرْحَمك رَبك سبقت رَحْمَتي غَضَبي
فَكَذَلِك الْمُؤمن المتنبه لما عطس حمد فبورك عَلَيْهِ وَإِذا سمع عاطسا سبقه إِلَى الْحَمد لِأَنَّهُ رأى عَظِيم صنع الله تَعَالَى فِيهِ فاستوجب بذلك الْبركَة والعطف من الله وَإِذا بورك فِيهِ وقِي دَاء الْبَطن وَهُوَ وجع الخاصرة
وَقد رُوِيَ وقِي وجع الخاصرة وَالْمَكْر وَسُوء السرائر فِي الكليتين فَذَلِك دَاء الْبَطن فَإِذا كَانَ سَابِقًا بِالْحَمْد كَانَ متنبها وَكَانَ صَدره وجوفه مستنيرا فَلم يعْمل الْمَكْر فِيهِ شَيْئا
رُوِيَ أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَى سُلَيْمَان عليه السلام إِن عطس عاطس من وَرَاء سَبْعَة أبحر فاذكرني
وَلذَلِك قَالَ صلى الله عليه وسلم حق الْمُسلم على الْمُسلم سِتّ خِصَال فَكَانَ إِحْدَاهُنَّ تشميت الْعَاطِس وَذَاكَ تهنئة بِمَا ظهر للْعَبد من الْحَال عِنْد ربه تَعَالَى فَإِذا لم يهنه فقد استهان بِهِ وَمن استهان بِأَمْر الله أهانه الله تَعَالَى
-
الأَصْل الْمِائَة وَالْعشْرُونَ
-
فِي أَن أطيب الْكسْب كسب التُّجَّار وسني خصالهم
عَن معَاذ بن جبل رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الْكسْب كسب التُّجَّار الَّذين إِذا حدثوا لم يكذبوا وَإِذا ائتمنوا لم يخونوا وَإِذا وعدوا لم يخلفوا وَإِذا اشْتَروا لم يذموا وَإِذا باعوا لم يطروا وَإِذا كَانَ عَلَيْهِم لم يمطلوا وَإِذا كَانَ لَهُم لم يعسروا
فَهَذِهِ خِصَال الحافظين لحدود الله وَلَا يقدر على الْوَفَاء بهَا إِلَّا من وثق بضامن الرزق فِي شَأْن الرزق وَسقط عَن قلبه خَوفه وسكنت نَفسه ودرس محسبة الرزق من أَيْن وَكَيف فَعندهَا يسْتَحق اسْم التقوي والتقوي يصير رزقه من غير محسبة قَالَ الله تَعَالَى وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب
ومحسبة الرزق مظانه ومعادنه وأسبابه الَّتِي تعلّقت قُلُوب الْخلق بهَا حَتَّى يَعْصِي الله من أجل سَبَب لَا يدْرِي فِيهِ رزقه أم لَا مثل
ان اشْترى سلْعَة فخان فِيهَا أَو مدح بِمَا لَيْسَ فِيهِ فانما فعل ذَلِك لغنية قلبه وَأَنه يحْسب أَن ذَلِك رزقه ومعيشته وَكم من مغرور بِمثل هَذَا قد خدعه شَيْطَانه وأماني نَفسه ثمَّ يبغت بِالْمَوْتِ وَقد عري من منفعَته فَيصير مهنأة لوَارِثه والوبال عَلَيْهِ فَلَو سقط عَن قلبه محسبة معاشه ورزقه وَعلم أَن ذَلِك بيد الله تَعَالَى يُخرجهُ من مَشِيئَة الْغَيْب فيجريها بالأسباب كَانَ مراقبا لما يصنع مَوْلَاهُ مَادًّا عينه إِلَى مَا تخْتَار لَهُ ثمَّ لَا يتهمه إِن أَتَاهُ غير مَا تحب نَفسه يُؤْتى برزقه عفوا صفوا وتقواه مَعَه وعَلى رزقه طَابع الْإِيمَان
قَالَ صلى الله عليه وسلم أفضل الْأَعْمَال أَن لَا تتهم الله تَعَالَى فِي شَيْء قضي عَلَيْك
والمتعلق بِأَسْبَاب الرزق قلبه جوال وَنَفسه جشعة وَهُوَ كالهمج فِي الْمَزَابِل يطير من مزبلة إِلَى مزبلة حَتَّى يجمع أوساخ الدُّنْيَا ثمَّ يخلفها وَرَاء ظَهره وَينْزع قَابض الْأَرْوَاح مخاليبه الَّتِي قد احتدت للقبض على حطام الدُّنْيَا ويلقى الله تَعَالَى بايمان سقيم دنسة وسخة ويخاطبه ربه عز وجل فِي وقفته بَين يَدَيْهِ عَبدِي من كنت تعرف لنَفسك رَبًّا وإلها فَيَقُول لَهُ إياك عرفت وَبِك آمَنت فَيُجِيبهُ أَمن معرفتك إيَّايَ أَو إيمانك بِي كَانَ يحل بك من خوف الْقُوت والرزق مَا عَمَلك على أَن عَصَيْتنِي بأنواع الْمعْصِيَة لأَجله أشككت فِي ضماني أم اتهمتني أم أَسَأْت الظَّن بِي
فَمن فتح لَهُ طَرِيق الْهِدَايَة إِلَى الله تَعَالَى وَعرف ربه عز وجل معرفَة الموقنين سقط عَن قلبه هم الرزق وفكره وَلها عَنهُ وشغله
عَن ذَلِك خوف جَلَاله وعظمته فَكفى مُؤْنَته وَمن لم يفتح لَهُ طَرِيق الْهِدَايَة تَعب قلبه بِمَا يرد عَلَيْهِ من المخاوف وَنصب مِمَّا تتعاوره ظنون السوء بِاللَّه تَعَالَى وكل بدنه فِي السَّعْي خلف زَانِيَة لَا ترد يَد لامس تتزين وتتشوق حَتَّى إِذا سبت الْقلب ولت هاربة والمسبي على أَثَرهَا كالواله وَهَذَا جَزَاء من أعرض عَن الله تَعَالَى وإحسانه وأياديه ومننه وَهل يجازى إِلَّا الكفور المكب على جمع حطام الدُّنْيَا من بَين شُبْهَة وَحرَام وحلال وَقد عصى الله تَعَالَى وينفقها فِي شهواته ومناه مضيعا لحدود الله تَعَالَى فِيهَا مُسْرِفًا بطرا يَأْخُذُونَ الدُّنْيَا على غَفلَة ويخزنونها على تُهْمَة وينفقونها فِي نهمة وَلَا يذكرُونَ مَا أمامهم من الصِّرَاط وَالْعرض على الله تَعَالَى وَالسُّؤَال ونسوا وعيده الَّذِي قدمه الله فَقَالَ كلا إِنَّهَا لظى نزاعة للشوى تَدْعُو من أدبر وَتَوَلَّى وَجمع فأوعى
وَمن قنعت نَفسه بِمَا أَعْطَيْت من الدُّنْيَا وَلم يرفع بِمَا سواهُ رَأْسا ورضيت فِي الْأَحْوَال بتدبير الله تَعَالَى وَحكمه فَقَالَ لَهُ يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم من انْقَطع إِلَى الله كَفاهُ الله مُؤْنَته ورزقه من حَيْثُ لَا يحْتَسب
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم التَّاجِر الصدوق مَعَ النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَعَن قيلة أُخْت بني النمار رضي الله عنها قَالَت
كنت امْرَأَة أَشْتَرِي وأبيع فِي السُّوق فَقدم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَكَّة فَأَتَيْته وَهُوَ عِنْد الْمَرْوَة فَقلت يَا رَسُول الله إِنِّي امْرَأَة أَشْتَرِي وأبيع فِي السُّوق فيأتيني الرجل يُرِيد أَن يَشْتَرِي مني الشَّيْء فأستام عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا أُرِيد أَن أبيعه فَلَا أَزَال أنقص وأنقص حَتَّى أبيعه بِالَّذِي أُرِيد وَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاء قَالَ فَلَا تفعلي يَا قيلة إِذا أردْت أَن تبيعي شَيْئا فاستامي بِالَّذِي تريدين أَن تبيعيه بِهِ أَعْطَيْت أَو منعت وَإِذا أردْت أَن تشتري شَيْئا فاشتري بِالَّذِي تريدين أَن تشتريه بِهِ أَعْطَيْت أَو منعت
وَكَانَ زَاذَان رضي الله عنه يَبِيع الكرابيس وَكَانَ يسوم سومة وَاحِدَة وَكَانَ إِذا جَاءَ المُشْتَرِي نَاوَلَهُ شَرّ الطَّرفَيْنِ
-
الأَصْل الْحَادِي وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الروحانيين قراء أهل الْجنَّة وَأَن من اسْتمع الى صَوت غناء لم يُؤذن لَهُ أَن يستمع أَصْوَاتهم
عَن سهل من ولد أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من اسْتمع إِلَى صَوت غناء لم يُؤذن لَهُ أَن يستمع الروحانيين فِي الْجنَّة فَقيل وَمَا الروحانيون يَا رَسُول الله قَالَ قراء أهل الْجنَّة
وَفِي الْجنَّة أَئِمَّة كالعرفاء وهم الْأَنْبِيَاء عليهم السلام إِذا صَارُوا إِلَى الله تَعَالَى فهم أَمَام الْقَوْم وَالسَّابِقُونَ إِلَيْهِ وعرفاؤهم أهل الْقُرْآن الَّذين عرفُوا بِهِ هَهُنَا تِلَاوَة لَهُ وَعَملا بِهِ
قَالَ صلى الله عليه وسلم أهل الْقُرْآن عرفاء أهل الْجنَّة وقراؤها فيلذذون أهل الْجنَّة بِمَا يُعْطون من الْأَصْوَات وحظ كل وَاحِد مِنْهُم من الله
على قدر دَرَجَته فَمنهمْ من كَانُوا يفرحون فِي الدُّنْيَا بالعطاء مَعَ نُفُوسهم فهم كَذَلِك فِي الْجنَّة فَرَحهمْ بِمَا يُعْطون فِي الْجنَّة فبه يتلذذون وَبِه يفرحون وَمِنْهُم من كَانُوا يفرحون بِاللَّه تَعَالَى فهم كَذَلِك فِي الْجنَّة فَرَحهمْ بِاللَّه تَعَالَى ودقت الْجنَّة فِي جنب فَرَحهمْ بِاللَّه تَعَالَى وهم الْأَوْلِيَاء ويسمون الروحانيين فالروح الَّذِي على قُلُوبهم شهرهم وَحسن أَصْوَاتهم فِي الْجنَّة حَتَّى يطربوا ويلذذوا أهل الْجنان وَهَذِه الطَّبَقَة على ثَلَاثَة أَصْنَاف مِنْهُم من يكون الرّوح على قُلُوبهم والفرح غَالب عَلَيْهِم ومثالهم فِي الْمَلَائِكَة هم المقربون وَمِنْهُم من يكون الهول على قُلُوبهم وَالْأَحْزَان غَالب عَلَيْهِم ومثالهم فِي الْمَلَائِكَة الكروبيون فَالْأول أهل روح من شَأْنهمْ التَّسْبِيح والتحميد وَالتَّقْدِيس فتح لَهُم من جماله وبهائه فانبسطوا وملكهم الْفَرح بِهِ وَالثَّانِي أهل كرب من شَأْنهمْ الْبكاء فتح لَهُم من جَلَاله وعظمته فاكتأبوا وملكهم الكرب وَيَقُولُونَ فِي تسبيحهم سُبْحَانَكَ مَا لم تبلغه قُلُوبنَا من خشيتك فَاغْفِر لنا يَوْم نقمتك من أعدئك
وَإِنَّمَا يَأْخُذ كل وَاحِد مَا أعطي وَينظر إِلَى مَا وضع بَين يَدَيْهِ وكشف لَهُ عَنهُ وَفتح لَهُ من الْغَيْب فالكروبيون كربهم وأحزانهم من رُؤْيَة التَّقْصِير والروحانيون شغلهمْ جماله عَن الِالْتِفَات إِلَى أنفسهم وأعمالهم فَإِذا ذكروها لم تَدعهُمْ رُؤْيَة جماله إِلَّا أَن يحسنوا الظَّن بِهِ فَحسن الظَّن بِهِ غَالب على رُؤْيَة التَّقْصِير والفرح لَهُم بِهِ دَائِم وَالروح على قُلُوبهم مترادف وصنف ثَالِث أَعلَى من هذَيْن قد جاوزوا هَاتين الخطتين إِلَى وحدانيته فانفردوا بِهِ فشغلتهم وحدانيته عَن الْجلَال وَالْجمال فهم أُمَنَاء الله تَعَالَى وأعلامه فِي أرضه وقواد دينه وهم الَّذين قَالَ صلى الله عليه وسلم لأبي جُحَيْفَة جَالس الكبراء وهم الَّذين تكبروا فِي عَظمَة الله تَعَالَى وجلاله واعتزوا بِهِ وَله
والفرح على ثَلَاثَة أضْرب فَرح بالدنيا الدنية الزائلة فقد خسر أَهله
وَهُوَ فَرح الظَّالِمين قَالَ الله تَعَالَى وفرحوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مَتَاع
وَقَالَ فِي قصَّة قَارون {لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين}
وَفَرح بِفضل الله تَعَالَى وَرَحمته أَن فَضلهمْ بمعرفته وَالْإِيمَان بِهِ وَهَذَا فَرح الْمُقْتَصِدِينَ الشَّاكِرِينَ قَالَ تَعَالَى قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ
وَفَرح بِاللَّه تَعَالَى حَيْثُ انتبهوا أَنه رَبهم فِي عَظمته وجلاله ومجده وكبريائه وَملكه وَكَرمه وغناه وَهَذَا فَرح المقربين
فَالْأول عبد ملكته دُنْيَاهُ فَكَانَ بهَا يفتخر ويصول وَبهَا يفرح
ثمَّ أَفَاق إفاقة فملكته نَفسه بالعطايا الَّتِي وَردت على قلبه فَكَانَ بهَا يفتخر ويصول وَبهَا يفرح ثمَّ أَفَاق إفاقة فملكه الْحق ليروضه ويؤدبه بَين يَدَيْهِ حَتَّى يصلح لَهُ فَإِذا تمت رياضة الْحق لَهُ بِبَاب الْملك الْأَعْلَى رفع الْحجاب عَن قلبه وأوصله إِلَى قربه فَكَانَ بَين يَدَيْهِ بِهِ يفتخر وَبِه يصول وَبِه يفرح حَتَّى إِذا اطْمَأَن على الْمقَام واعتاده وسكنت مِنْهُ الأفراح والأهوال والدهشات من النّظر إِلَى جَلَاله وجماله قدمه إِلَى الْوَسِيلَة الْعُظْمَى والقربة الأوفى فغرق قلبه فِي وحدانيته فَصَارَ مُنْفَردا بِهِ مَشْغُولًا عَن جَمِيع صِفَاته فَهُوَ أَمِينه وَوَاحِد بَين عبيده فَهُوَ الَّذِي إِذا ناداه فِي أرضه يَا واحدي يصدق فِي قَوْله وهوالذي قَالَ صلى الله عليه وسلم سِيرُوا فقد سبق المفردون قَالُوا يَا رَسُول الله وَمن المفردون قَالَ الَّذين اهتروا فِي ذكر
الله يأْتونَ يَوْم الْقِيَامَة خفافا يضع الذّكر عَنْهُم أثقالهم
فالمهتر هُوَ الَّذِي خرف فَذهب عقله فَإِذا تكلم هتر فِي كَلَامه كَأَنَّهُ يهذي والمفرد قد فَرد قلبه للْوَاحِد فِي وحدانيته وَجَاز من الْجلَال وَالْجمال إِلَى وحدانيته قد خمد نور عقله لنُور وَجهه الْكَرِيم فَصَارَ كالواله فِي ذكره كَالَّذي يهذي لِأَن من شَأْن الْعقل أَن يُقيم بك على الْحُدُود والأشياء الْمقدرَة الْمَعْلُومَة فَإِذا خمد الْعقل فقد ذهب عمله فَهُوَ الَّذِي اهتر فِي ذكر الله تَعَالَى فالمقتصدون يتعبدون بِذكرِهِ ويفرحون بفضله عَلَيْهِم وَالصِّدِّيقُونَ بِهِ يتنعمون بِهِ ويفرحون فَإِذا أدخلُوا الْجنَّة فهمة الْمُقْتَصِدِينَ الْوُصُول إِلَى ثَوَابه من المساكن والحور فِي الحجال وهمة الصديقين وقصدهم قربهم إِلَى رَبهم
يروي أَن الْمَلَائِكَة يأْتونَ الْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُولُونَ يَا أَوْلِيَاء الله انْطَلقُوا فَيَقُولُونَ إِلَى أَيْن فَيَقُولُونَ إِلَى الْجنَّة فَيَقُولُونَ إِنَّكُم لتذهبون بِنَا إِلَى غير بغيتنا فَيُقَال لَهُم مَا بغيتكم فَيَقُولُونَ المقعد الصدْق مَعَ الحبيب
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْله تَعَالَى إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات ونهر فِي مقْعد صدق عِنْد مليك مقتدر أَن أهل الْجنَّة يدْخلُونَ على الْجَبَّار كل يَوْم مرَّتَيْنِ فَيقْرَأ عَلَيْهِم الْقُرْآن وَقد جلس كل امرىء مِنْهُم مَجْلِسه على مَنَابِر الدّرّ والياقوت والزمرد وَالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْأَعْمَالِ فَلَا تقر أَعينهم قطّ كَمَا تقر بذلك وَلم يسمعوا شَيْئا أعظم مِنْهُ
وَلَا أحسن مِنْهُ ثمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى رحالهم قريرة أَعينهم ناعمين إِلَى مثلهَا من الْغَد
فَهَؤُلَاءِ الروحانيون الَّذين ذكرهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنهم قراء أهل الْجنَّة فَمن اسْتمع إِلَى صَوت غناء فِي الدُّنْيَا ثمَّ دخل الْجنَّة حرم أَصْوَاتهم
-
الأَصْل الثَّانِي وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن خير هَذِه الْأمة أَولهَا وَآخِرهَا استقامة
عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خير أمتِي أَولهَا وَآخِرهَا وَفِي وَسطهَا الكدر
وَفِي رِوَايَة ابْن عمر رضي الله عنهما مثل أمتِي مثل الْمَطَر لَا يدْرِي أَوله خير أَو آخِره
وَعَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة رضي الله عنه قَالَ بَعَثَنِي خَالِد ابْن الْوَلِيد بشيرا إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْم مُؤْتَة فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ قلت يَا رَسُول الله فَقَالَ على رسلك يَا عبد الرَّحْمَن أَخذ اللِّوَاء زيد بن حَارِثَة فقاتل زيد حَتَّى قتل رحم الله زيدا ثمَّ أَخذ اللِّوَاء جَعْفَر فقاتل جَعْفَر حَتَّى قتل رحم الله جعفرا ثمَّ أَخذ اللِّوَاء عبد الله بن رَوَاحَة فقاتل فَقتل رحم الله عبد الله ثمَّ أَخذ اللِّوَاء خَالِد فَفتح الله لخَالِد فَخَالِد سيف من سيوف الله تَعَالَى فَبكى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهم حوله فَقَالَ مَا يبكيكم فَقَالُوا وَمَا لنا لَا نبكي وَقد قتل
خيارنا وَأَشْرَافنَا وَأهل الْفضل منا قَالَ لَا تبكوا فانما مثل أمتِي مثل حديقة قَامَ عَلَيْهَا صَاحبهَا فاجتثت رواكبها وهيأ مساكنها وَحلق سعفها فأطعمت عَاما فوجا ثما عَاما فوجا ثمَّ عَاما فوجا وَلَعَلَّ آخرهَا طعما يكون أَجودهَا قنوانا وأطولها شمراخا وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبيا ليجدن بن مَرْيَم فِي أمتِي خلقا من حواريه وَفِي رِوَايَة أُخْرَى ليدركن الْمَسِيح من هَذِه الْأمة أَقوام انهم لمثلكم أَو خير مِنْكُم ثَلَاث مَرَّات وَلنْ يخزي الله أمة أَنا أَولهَا والمسيح آخرهَا
من الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة فَقَالَ تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} وَقَالَ تَعَالَى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا أَي عدلا لَا يمِيل إِلَى إفراط وَلَا إِلَى نُقْصَان فالميزان لِسَانه فِي وَسطه وباستواء الطَّرفَيْنِ والكفتين يَسْتَوِي لِسَان الْمِيزَان وَيقوم الْوَزْن فَجعلت أَوَائِل هَذِه الْأمة وأواخرها ككفتي الْمِيزَان يستويان لأَنهم يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ وَمَا بَينهمَا من العوج كلسان الْمِيزَان يَسْتَقِيم باستواء الكفتين فَإِنَّهُ إِن مَال الْوسط إِلَى أَي الْجَانِبَيْنِ مَال إِلَى ركن وثيق فَعم اسْتِوَاء الكفتين اعوجاج الْوسط
وَقد جَاءَ فِي الْخَبَر أَنه سَيظْهر الْعلم فِي آخر الزَّمَان وَيقبل النَّاس على أمرالله تَعَالَى حَتَّى تتمّ حجَّة الله على عباده
-
الأَصْل الثَّالِث وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي شَرَائِط الْولَايَة
عَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول إِن من أغبط أوليائي عِنْدِي مُؤمن خَفِيف الحاذ ذُو حَظّ من صلَاته أحسن عبَادَة ربه وَكَانَ غامضا فِي النَّاس وَكَانَ رزقه كفافا فَصَبر عَلَيْهِ فعجلت منيته وَقل تراثه وَقلت بوَاكِيهِ
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا ونقر باصبعه هَكَذَا
الْوَلِيّ من كتب الله لَهُ الْولَايَة وَجعل لَهُ حظا فبحظه من الله تَعَالَى يقدر أَن يَتَوَلَّاهُ كَمَا أَن النُّبُوَّة لمن كتب لَهُ النُّبُوَّة وَجعل لَهُ حظا فبحظه من الله تَعَالَى قَامَت لَهُ النُّبُوَّة وَبَين الْأَنْبِيَاء عليهم السلام تفَاوت فِي الدَّرَجَات قَالَ تَعَالَى وَلَقَد فضلنَا بعض النَّبِيين على بعض
وَقَالَ تَعَالَى لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله الْآيَة وَهَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي عُبَيْدَة ابْن الْجراح رضي الله عنه حِين قتل أَبَاهُ يَوْم بدر
وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر لِأَبِيهِ رضي الله عنهما بَعْدَمَا أسلم يَا أَبَت لقد أهدفت لي يَوْم بدر فضفت عَنْك فَقَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه أما أَنَّك لَو أهدفت لي مَا ضفت عَنْك
وَكتب الله لأهل الْولَايَة ولايتهم وأيدهم بِروح مِنْهُ فَلَا تأحذهم
فِي الله لومة لائم وَلَا حب ولد وَلَا وَالِد وَلَا أهل وَلَا تالد
قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما لَا ينَال الرجل ولَايَة الله وَإِن كثرت صلَاته وصيامه حَتَّى يحب فِي الله وَيبغض فِي الله ويوالي فِي الله ويعادي فِي الله
فَبين الْأَنْبِيَاء تفَاوت فِي الْقُلُوب والدرجات وَكلهمْ أَنْبيَاء عليهم السلام فَكَذَلِك الْأَوْلِيَاء بَينهم تفَاوت وَكلهمْ أَوْلِيَاء فَهَذَا الَّذِي وَصفه صلى الله عليه وسلم كَأَنَّهُ يَحْكِي عَن الله تَعَالَى فَقَالَ إِن من أغبط أوليائي عِنْدِي فالمغبوط من يقرب دَرَجَته من دَرَجَة الْأَنْبِيَاء علوا وارتفاعا مُؤمن خَفِيف الحاذ مثل أويس الْقَرنِي وأشباهه وَهَذِه صفة الظَّاهِر لَا صفة الْبَاطِن
وَقد يكون من الْأَوْلِيَاء من هُوَ أرفع دَرَجَة وَذَلِكَ عبد قد ولي الله اسْتِعْمَاله فَهُوَ فِي قَبضته يتقلب بِهِ ينْطق وَبِه يبصر وَبِه يبطش وَبِه يعقل شهره فِي أرضه وَجعله إِمَام خلقه وَصَاحب لِوَاء الْأَوْلِيَاء وأمان أهل الأَرْض ومنظر أهل السَّمَاء وَرَيْحَانَة الْجنان وخاصة الله وَمَوْضِع نظره ومعدن سره وسوط الله فِي أرضه يُؤَدب بِهِ خلقه ويحيي الْقُلُوب الْميتَة بِرُؤْيَتِهِ وَيرد الْخلق إِلَى طَرِيقه وينعش بِهِ حُقُوقه مِفْتَاح الْهدى وسراج الأَرْض وَأمين صحيفَة الْأَوْلِيَاء وَقَائِدهمْ والقائم بالثناء على ربه بَين يَدي رَسُوله صلى الله عليه وسلم يباهي بِهِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِك الْموقف وينوه الله باسمه فِي ذَلِك الْمقَام ويقر عين الرَّسُول بِهِ صلى الله عليه وسلم قد اخذ الله بِقَلْبِه أَيَّام الدُّنْيَا ونحله حكمته الْعليا وَأهْدى إِلَيْهِ توحيده ونزه طَرِيقه عَن رُؤْيَة النَّفس وظل الْهوى وائتمنه على صحيفَة الْأَوْلِيَاء وعرفه مقاماتهم وأطلعه على مَنَازِلهمْ فَهُوَ سيد النجباء وَصَالح الْحُكَمَاء وشفاء الأدواء وَإِمَام الْأَطِبَّاء كَلَامه قيد الْقُلُوب ورؤيته شِفَاء النُّفُوس وإقباله قهر الْأَهْوَاء وقربه طهر الأدناس فَهُوَ ربيع يزهر بنوره وخريف يجتنى ثماره وكهف يلجا إِلَيْهِ ومعدن
يؤمل مَا لَدَيْهِ وَفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل وَهُوَ الصّديق والفاروق وَالْوَلِيّ والعارف والمحدث وَاحِد الله فِي ارضه
قَالَ صلى الله عليه وسلم يكون فِي هَذِه الْأمة قُلُوب على قلب إِبْرَاهِيم عليه السلام وهم صنف من البدلاء
وَقَالَ فِي شَأْن هِلَال عبد الْمُغيرَة بن شُعْبَة هَذَا أحد السَّبْعَة الَّذين بهم تقوم الأَرْض بل هُوَ خير مِنْهُم
رُوِيَ أَبُو الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ كنت مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يدْخل من هَذَا الْبَاب رجل من أهل الْجنَّة فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاة قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رضي الله عنه فَخرجت من ذَلِك الْبَاب فمضيت فَنَظَرت هَل أرى أحدا فَلم أر أحدا فَدخلت فِيهِ فَقَعَدت إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أما أَنَّك لست بِهِ يَا أَبَا الدَّرْدَاء ثمَّ جَاءَ رجل حبشِي فَدخل من ذَلِك الْبَاب وَعَلِيهِ جُبَّة صوف فِيهَا رقاع من آدم رام بطرفه إِلَى السَّمَاء حَتَّى قَامَ على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَسلم عَلَيْهِ فَقَالَ كَيفَ أَنْت يَا هِلَال فَقَالَ بِخَير يَا رَسُول الله جعلك الله بِخَير فَقَالَ صلى الله عليه وسلم ادْع لنا يَا هِلَال واستغفر لنا فَقَالَ رَضِي الله عَنْك يَا رَسُول الله وَغفر لَك فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء فَقلت لَهُ اسْتغْفر لي يَا هِلَال فَأَعْرض عني ثمَّ عاودته الثَّانِيَة فَأقبل على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ قَالَ أراض أَنْت عَنهُ يَا رَسُول الله قَالَ نعم قَالَ رَضِي الله عَنْك وَغفر لَك ثمَّ خرج وَهُوَ رام بطرفه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء لقد رَأَيْت عجبا يَا رَسُول الله لقد أقبل وَهُوَ رام بطرفه إِلَى السَّمَاء وَمَا يقْلع ثمَّ خرج وَهُوَ على ذَلِك فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَئِن قلت ذَاك ان قلبه لمعلق بالعرش أما أَنه لم يبْق فِيكُم أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام فأحصيت الْأَيَّام فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّالِث وَصلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْفجْر خرج من الْمَسْجِد وَنحن مَعَه فَخرج يؤم دَار الْمُغيرَة بن شُعْبَة فلقي الْمُغيرَة خَارِجا من دَاره فَقَالَ لَهُ
آجرك الله يَا مُغيرَة قَالَ يَا رَسُول الله مَا مَاتَ فِي دَارنَا اللَّيْلَة أحد قَالَ بلَى توفّي هِلَال فالتمسه برَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَهُ فِي نَاحيَة الدَّار فِي إصطبل لَهُ خارا على وَجهه سَاجِدا مَيتا فَأمر أَصْحَابه فاحتملوه فولي أمره رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِنَفسِهِ حَتَّى دفن ثمَّ أقبل على أبي الدَّرْدَاء فَقَالَ يَا أَبَا الدَّرْدَاء أما إِنَّه أحد السَّبْعَة الَّذين بهم كَانَت تقوم الأَرْض وبهم كُنْتُم تستسقون الْمَطَر بل هُوَ خَيرهمْ
فالصديقون أَمَان أهل الأَرْض وهم خلفاء النَّبِيين لما خلت الأَرْض عَن النُّبُوَّة شكت إِلَى الله تَعَالَى وعجت فَقَالَ سَوف أجعَل عَلَيْك أَرْبَعِينَ صديقا كلما مَاتَ وَاحِد بدل الله مَكَانَهُ والحظ هُوَ أَن فتح الله تَعَالَى لعَبْدِهِ قلبه وَقذف فِي صَدره النُّور حَتَّى ينخرق حجب الشَّهَوَات ويضيء فَهُوَ على نور من ربه وَجعل لَهُ طَرِيقا إِلَيْهِ فَذَاك مُبْتَدأ الْحَظ فَلَا يزَال يسير إِلَيْهِ ويأتيه المدد من النُّور حَتَّى يصل إِلَيْهِ فَيظْهر على قلبه جَلَاله وعظمته وجماله وبهاؤه فَلَا يزَال هُنَاكَ حَتَّى يصل إِلَى فرديته فَيصير والها بِهِ مبهوتا فِي وحدانيته فَهَذَا هُوَ الْحَظ الوافر الباهر
قَالَ الله تَعَالَى وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا
فالأنبياء عليهم السلام لَهُم حَظّ النُّبُوَّة والأولياء لَهُم حَظّ الْولَايَة قَالَ تَعَالَى أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة لَا تَبْدِيل لكلمات الله
هم طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ قد خصهم الله تَعَالَى بِالْولَايَةِ وعصمهم بِالْيَقِينِ وَنور قُلُوبهم بالهداية ولي الله تَعَالَى مِنْهُم ذَلِك واجتباهم لنَفسِهِ
فهم صَنِيعه وهم الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى {فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه}
قَالَ الضَّحَّاك رحمه الله أحْسنه مَا أَمر الله تَعَالَى النَّبِيين من الطَّاعَة وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث جِبْرَائِيل عليه السلام حَيْثُ سَأَلَهُ عَن الْإِحْسَان مَا الْإِحْسَان فَقَالَ أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك قَالَ فَإِذا فعلت ذَلِك فَأَنا محسن قَالَ نعم قَالَ صدقت
فَمن عبد الله كَأَنَّهُ يرَاهُ إستمع إِلَى القَوْل فَاتبع أحْسنه وَنظر إِلَى الْأُمُور فَعمل بأحسنها
-
الأَصْل الرَّابِع وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي ضغطة الْقَبْر وعذابه
عَن حُذَيْفَة رضي الله عنه قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا انتهينا إِلَى الْقَبْر جلس صلى الله عليه وسلم على شفته وَجعل ينظر ثمَّ قَالَ يضغط الْمُؤمن فِي هَذَا ضغطة يَزُول مِنْهَا حمائله ويملأ على الْكَافِر نَارا
فالمؤمن من أشرق نور الْإِيمَان فِي صَدره فباشر اللَّذَّات والشهوات وَهِي من الأَرْض وَالْأَرْض مطيعة وَخلق الْآدَمِيّ مِنْهَا وَقد أَخذ عَلَيْهِ الْعَهْد والميثاق فِي العبودة فَمَا نقض من وَفَاء العبودة صَارَت واجدة عَلَيْهِ فَإِذا وجدته فِي بَطنهَا ضمته ضمة ثمَّ تُدْرِكهُ الرَّحْمَة فترحب عَلَيْهِ وعَلى قدر مَجِيء الرَّحْمَة يتَخَلَّص من الضمة فَإِن كَانَ محسنا فَإِن رَحْمَة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ فَلم يكن للضمة لبث وَإِن كَانَ خَارِجا عَن حد المحسنيين يطول اللّّبْث فِي الضمة حَتَّى تُدْرِكهُ الرَّحْمَة وَهَذَا لِأَن المحسن توسع عَلَيْهِ الرَّحْمَة وَتلك الضمة ضمة الشَّفَقَة لَا ضمة السخطة لِأَنَّهُ كَانَ على ظهرهَا محسنا وَكَانَت مشتاقة إِلَيْهِ
فَلَمَّا وجدته فِي بَطنهَا ضمته كغائب وجد غائبه بعد الشوق إِلَيْهِ والظالم المخلط يكون لضمته لبث حَتَّى تُدْرِكهُ الرَّحْمَة وَالْكَافِر لَا خلاق لَهُ من الرَّحْمَة فَيمْلَأ عَلَيْهِ نَارا
روى أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الْمُؤمن فِي قَبره فِي رَوْضَة خضراء يرحب لَهُ قَبره سبعين ذِرَاعا وينور لَهُ قَبره مثل لَيْلَة الْبَدْر أَتَدْرُونَ فيمَ نزلت هَذِه الْآيَة {فَإِن لَهُ معيشة ضنكا} قَالَ عَذَاب الْقَبْر وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّه ليسلط عَلَيْهِ تِسْعَة وَتسْعُونَ تنينا أَتَدْرُونَ مَا التنين تِسْعَة وَتسْعُونَ حَيَّة لكل حَيَّة مِنْهَا تِسْعَة رُؤُوس ينفخن فِي جِسْمه ويلسعنه ويخدشنه إِلَى يَوْم يبعثون
وَهَذَا لِأَن من عَاد من بني آدم إِلَى الأَرْض بعد الْمَوْت وَقد وضع الله تَعَالَى وزره فَلَا سَبِيل للْأَرْض عَلَيْهِ لِأَنَّهُ نَفسه قد طهرت من الدنس فَإِذا عَاد جسده إِلَى الأَرْض الَّتِي مِنْهَا ابتدئت مَعَ نور الْإِيمَان وَنور الطَّاعَات فَذَاك جَسَد أشرف وَأعظم خطرا من أَن تضمه الأَرْض وتضغطه فَإِن هَذَا الْجَسَد صَار فِي مرتبَة أعظم من مرتبَة الأَرْض من منن الله تَعَالَى فِيهَا وطاعته لَا تشبه طَاعَة الأَرْض لِأَن نفس الأَرْض مجبورة وَنَفس الْآدَمِيّ مَفْتُونَة بالشهوات فَلَيْسَتْ طَاعَة شَيْء من خلق الله تشبه طَاعَة الْآدَمِيّ لِأَنَّهُ يُخرجهُ من بَين شهوات ووساوس وعجائب
وَمَا رُوِيَ عَن ابْن عمر رضي الله عنهما فِي شَأْن سعد بن معَاذ رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم دخل قَبره فاحتبس فَقَالُوا مَا حَبسك يَا رَسُول الله قَالَ ضم سعد فِي الْقَبْر ضمة فدعوت الله أَن يكْشف عَنهُ
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى جلس على الْقَبْر فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله سُبْحَانَ الله هَذَا العَبْد الصَّالح لقد ضيق عَلَيْهِ قَبره حَتَّى خشيت أَن لَا يُوسع عَلَيْهِ ثمَّ وسع عَلَيْهِ
وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَنه سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِك فَقَالَ كَانَ يقصر فِي بعض الطّهُور من الْبَوْل
فَإِن الْقَوْم من ابْتِدَاء الْإِسْلَام يتمسحون بِالْحِجَارَةِ وَالتُّرَاب فَلَمَّا نزل قَوْله تَعَالَى {رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين} فَشَا فيهم الطّهُور فَمنهمْ من كَانَ يستنجي وَمِنْهُم من كَانَ يتَطَهَّر بِالْمَاءِ وَلَيْسَ الِاسْتِنْجَاء بذنب عِنْدهم وَلَا خَطِيئَة فيحاسبون فِي قُبُورهم فَمن ورد اللَّحْد مَعَ التَّقْصِير نالته ضمة الأَرْض كَمَا نَالَتْ سَعْدا مَعَ عظم قدره فَكَانَت ضمة ثمَّ فرج عَنهُ
قَالَ حُذَيْفَة بن الْيَمَان رضي الله عنه فِي الْقَبْر حِسَاب وَفِي الْآخِرَة حِسَاب فَمن حُوسِبَ فِي الْقَبْر لم يعذب فِي الْآخِرَة
وَعَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اتَّقوا الْبَوْل فَإِنَّهُ من أول مَا يُحَاسب بِهِ العَبْد فِي الْقَبْر
وَرُوِيَ أَنه لما توفيت زَيْنَب بنت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى جنازتها قَالَ فَكَأَنَّمَا يسفي على وَجه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الرماد فَلَمَّا دفنت ذهب عَنهُ بعض ذَلِك فَقَالُوا يَا رَسُول الله لَا نزال نرى فِي وَجهك مَا نكرهه قَالَ إِنِّي ذكرت ضعفها وضغطة الْقَبْر فعفي لي عَنْهَا وَلَقَد ضغطت ضغطة سمع كل شَيْء صَوتهَا إِلَّا الثقلَيْن
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَو أفلت من فتْنَة الْقَبْر أَو ضمه لنجا سعد وَلَقَد ضم ضمة ثمَّ أرْخى عَلَيْهِ
وَهَذَا لأهل الاسْتقَامَة يكون من التَّقْصِير ثمَّ رفع عَنْهُم لِأَن الْحق يَقْتَضِي حَقه ثمَّ تجيئه الرَّحْمَة فتكشف عَنهُ
فَأَما الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام فَلَيْسَ لَهُم ضمة وَلَا سُؤال لأَنهم بحظهم من رَبهم امْتَنعُوا من ذَلِك وتخلصوا فان على قُلُوبهم من جلال الله تَعَالَى وعظمته مَا إِذا وردوا اللحود تهابهم اللحود من جلالتهم
قَالَ صلى الله عليه وسلم من هاب الله تَعَالَى أهاب الله مِنْهُ كل شَيْء وَقَالَ صلى الله عليه وسلم من اتقِي الله أهاب الله عز وجل مِنْهُ كل شَيْء وَمن لم يتق الله أهابه الله من كل شَيْء
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَو عَرَفْتُمْ الله تَعَالَى حق مَعْرفَته لزالت بدعائكم الْجبَال
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود رضي الله عنه على مصاب {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} الْآيَة فبرأ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَو قَرَأَهَا موقن على جبل لزال وَهَذَا لِأَن الْقلب إِذا كَانَ لَهُ حَظّ من السُّلْطَان والهيبة والجلال نفذ قَوْله وَفعله فَمن نور الله قلبه بِالْيَقِينِ وَفتح على قلبه من جَلَاله وعظمته وسلطانه هابه كل من رَآهُ
وَمن هَهُنَا قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما وَالله لدرة عمر كَانَت أهيب فِي صُدُور النَّاس من سيوف غَيره
وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يهابونه وَإِذا أَرَادوا أَن يكلموه بِشَيْء رفعوا ذَلِك إِلَى بنته حَفْصَة رضي الله عنها هَيْبَة لَهُ
وَعَن نَافِع قَالَ خرج عنق نَار من حمرَة النَّار لَا تمر على شَيْء إِلَّا أحرقته فاتى عمر رضي الله عنه فَأخْبر بهَا فَصَعدَ الْمِنْبَر وَحمد الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ أَيهَا النَّاس أطفئوها بِالصَّدَقَةِ فجَاء عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف بأَرْبعَة آلَاف دِينَار فَقَالَ عمر مَاذَا صنعت حصرت النَّاس فَتصدق النَّاس فَأتى عمر رضي الله عنه فَقَالُوا لَهُ قد طفئت فَقَالَ لَو لم تفعل لذهبت حَتَّى أنزل عَلَيْهَا وزلزلت الْمَدِينَة على عهد عمر رضي الله عنه حَتَّى اصطفقت السرر فَقَامَ عمر رضي الله عنه على الْمِنْبَر فَقَالَ أَيهَا النَّاس مَا هَذَا مَا أسْرع مَا أحدثتم قَالَ فسكنت فَقَالَ لَئِن عَادَتْ لَا أساكنكم فِيهَا وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ طلاقته وبشاشته إِلَى أَصْحَابه وَرَحمته وَعطفه على الْأمة يهابه الْخلق كَأَنَّمَا على رُءُوسهم الطير حَتَّى كَانُوا يغتنمون أَن يجيئهم أحد من الْبَادِيَة فِي جفائه فيسأله عَن بعض الْأَمر وَقَالَ لرجل جلس عِنْده فَأَخَذته الرعدة فَقَالَ هون عَلَيْك فَإِنَّمَا أَنا ابْن امْرَأَة كَانَت تَأْكُل القديد
فَإِذا كَانَ هَذَا حَال الْمُؤمن على ظهر الأَرْض فَكيف يجوز أَن تضمه عَن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الْمُؤمن إِذا مَاتَ تجملت الْمَقَابِر لمَوْته فَلَيْسَ مِنْهَا بقْعَة إِلَّا وَهِي تتمنى أَن يدْفن فِيهَا فَإِذا دفن فِي الْبقْعَة الَّتِي قضى الله أَن يدْفن فِيهَا دخل عَلَيْهِ ملكا الرَّحْمَة فأجلساه ثمَّ سألاه فَقَالَ أَحدهمَا للاخر أرْفق بولِي الله فانه نجا من هول شَدِيد ثمَّ يسْأَله عَن الرب فَعظم إجلاله فَأخْبرهُ بعظمته ثمَّ يسْأَله عَن نَبِي الله فصلى عَلَيْهِ وَأثْنى عَلَيْهِ وان الأَرْض تزينت لَهُ فَقَالَت رب مني خلقته وَفِي أعدته ومني تبعثه لِلْحسابِ فاذن لي حَتَّى أَدخل على عَبدك فلَان فَأمر الله الأَرْض فتزينت فِي صُورَة لم تَرَ الْأَعْين مثلهَا وَدخلت على من هُوَ أحسن مِنْهَا فَقَالَت لَهُ حِين دخلت عَلَيْهِ مَا أحسن وَجهك وأطول نعمك وأفسح مضجعك فَقَالَ لَهَا وَمن رآك فِي هَذِه الصُّورَة فليحسن وَجهه وليطل نعمه وليفسح مضجعه فَقَالَت لَهُ أَنْت مني خلقت وَعلي أعدت وَفِي أكرمت وَخرجت من عِنْده فَكَانَ ابْن آدم نَاعِمًا حَتَّى يبْعَث أَوْلِيَاء الله تَعَالَى لم يذقْ عَذَاب الْقَبْر وَيبْعَث مبياض وَجهه حَتَّى يبلغ الْجنَّة فَتَلقاهُ الْمَلَائِكَة فَيَقُولُونَ سَلام عَلَيْكُم هَذَا بِشِرَاك الَّذِي كنت توعد
عَن أبي الْحجَّاج الثمالِي رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الْقَبْر للْمَيت حِين يوضع فِيهِ وَيحك يَا ابْن آدم مَا غَرَّك بِي ألم تعلم أَنِّي بَيت الظلمَة وَبَيت الْفِتْنَة وَبَيت الْوحدَة وَبَيت الدُّود مَا غَرَّك بِي إِذْ كنت تمر بِي فدادا قَالَ فَإِن كَانَ مصلحا أجَاب
عَنهُ مُجيب الْقَبْر فَيَقُول أَرَأَيْت ان كَانَ مِمَّن يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر فَيَقُول اني إِذا أَعُود إِلَيْهِ خضرًا وَيعود جسده عَلَيْهِ نورا وتصعد روحه إِلَى رب الْعَالمين
-
الأَصْل الْخَامِس وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن سَعَادَة ابْن آدم الاستخارة والرضى بِالْقضَاءِ
عَن سعد بن أبي وَقاص رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من سَعَادَة ابْن آدم استخارته ربه وَمن سَعَادَة ابْن آدم رِضَاهُ بِقَضَاء الله تَعَالَى الاستخارة فِي الْأُمُور لمن ترك التَّدْبِير فِي أمره وفوضه إِلَى ولي الْأُمُور الَّذِي دبر لَهُ ذَلِك وَقدره قبل أَن يخلقه
قَالَ الله تَعَالَى لداود عليه السلام تُرِيدُ وَأُرِيد وَيكون مَا أُرِيد فَإِذا أردْت مَا أُرِيد كفيتك مَا تُرِيدُ وَيكون مَا أُرِيد وَإِذا أردْت غير مَا أُرِيد عنيتك فِيمَا تُرِيدُ وَيكون مَا أُرِيد
وَسُئِلَ بعض السّلف رَحِمهم الله تَعَالَى بِمَ تعرف رَبك قَالَ بِفَسْخ الْعَزْم فالآدمي يفكر وَيُدبر ويعزم وتدبير الله تَعَالَى من وَرَائه بِإِبْطَال ذَلِك وَتَكون تِلْكَ الْأُمُور على غير مَا فكر ودبر فَأهل الْيَقِين
والبصائر والتفويض لما علمُوا علم الْيَقِين أَن إرادتهم تبطل عِنْد إِرَادَته رموا بإرادتهم وفكرهم وَأَقْبلُوا عَلَيْهِ يراقبون تَدْبيره وينتظرون حكمه فِي الْأُمُور فَإِذا نابهم أَمر قَالُوا اللَّهُمَّ خر لنا فَهَذَا من سعادته فَإِذا خار الله لَهُ رَضِي بذلك وَافقه أَو لم يُوَافقهُ وَالْآخر ترك الاستخارة فَإِذا حل بِهِ تَدْبيره وقضاؤه سخط وضاق بِهِ ذرعا وخنق نَفسه وَلَا يزْدَاد إِلَّا اختناقا وَقد صَار الوهن فِي عُنُقه
وَمن سنة الاستخارة مَا رُوِيَ جَابر رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنَا الاستخارة فِي الْأُمُور كلهَا كَمَا يعلمنَا السُّورَة من الْقُرْآن يَقُول إِذا هم أحدكُم بِالْأَمر فليركع رَكْعَتَيْنِ من غير الْفَرِيضَة ثمَّ ليقل اللَّهُمَّ إِنِّي أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وَأَسْأَلك من فضلك الْعَظِيم فَإنَّك تقدر وَلَا أقدر وَتعلم وَلَا أعلم وَأَنت علام الغيوب اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر خير لي فِي ديني ودنياي ومعاشي ومعادي وعاقبة أَمْرِي أَو قَالَ عَاجل أَمْرِي وآجله فاقدره لي ويسره لي وَبَارك لي فِيهِ وَإِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر شَرّ لي فِي ديني ودنياي ومعاشي ومعادي وعاقبة أَمْرِي فاصرفه عني واصرفني عَنهُ واقدر لي الْخَيْر حَيْثُ كَانَ ورضني بِهِ وتسمي حَاجَتك باسمها
فان قيل هَذَا رِضَاهُ بالمقدور من المضار وَالْمَنَافِع فِي الدُّنْيَا فَكيف يكون رِضَاهُ بالمقدور من الْمعاصِي قيل لَهُ رِضَاهُ بِتَقْدِير الله تَعَالَى وَسخطه على نَفسه بارادتها وعَلى جوارحه فِي حركاتها فِيمَا لم يُؤذن لَهُ فِيهِ وَتَقْدِيره مَحْمُود عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يظلمك وَمن هُوَ منزه عَن الظُّلم فمحمود فِي جَمِيع شَأْنه وَقد اتخذ عَلَيْك الْحجَّة الْبَالِغَة بِمَا أَعْطَاك من الْعلم وَالْعقل وَالْهدى وَالْبَيَان وَلم يُوجب لَك على نَفسه الْعِصْمَة إِن شَاءَ عصم وَإِن شَاءَ خذل فارض بتقديره وَلَا تسخط عَلَيْهِ واسخط على نَفسك الجائرة وَمعنى تَقْدِير الله تَعَالَى إبراز علمه فِي عَبده من الْغَيْب فقد علم مَا يعْمل هَذَا العَبْد فابرز علمه
-
الأَصْل السَّادِس وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن النَّدَم التَّوْبَة
عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ النَّدَم التَّوْبَة
وَعَن أنس رضي الله عنه مثله
النَّدَم الْعَزْم على أَن لَا يعود وَمَعْنَاهُ إِقَامَة الْقلب بَين يَدي الرب جل جلاله لِأَن العَبْد بَايع ربه أَن يكون بَين يَدَيْهِ وَمَا دَامَ بَين يَدَيْهِ فَهُوَ مُطِيع لَهُ فَإِذا أقبل على عمل غَيره فقد أعرض عَنهُ وَتَوَلَّى فَإِذا انتبه من نومته أَو أَفَاق من سكرته انْقَلب رَاجعا إِلَى مَوْلَاهُ فَوقف بَين يَدَيْهِ عَازِمًا على أَن لَا يبرح فَتلك الْإِقَامَة تسمى ندما وَمِنْه سمى النديم لِأَنَّهُ مداوم على مُجَالَسَته وَيُقَال مدن الرجل بِأَرْض كَذَا إِذا أَقَامَ بهَا وَمِنْه سميت الْمَدِينَة لإِقَامَة النَّاس بهَا واتخاذها وطنا بِحَيْثُ
لَا يبرحون عَنْهَا فَإِذا كَانَت الْإِقَامَة بِالْبدنِ قيل مدن وَإِذا كَانَ بِالْقَلْبِ بَين يَدي الله تَعَالَى قيل نَدم فَقدم الْمِيم وَأخر النُّون هُنَاكَ وَقدم النُّون وَأخر الْمِيم هَهُنَا وَهُوَ ذَلِك الْعَزْم الَّذِي يعزم للإقامة بَين يَدي الله تَعَالَى مُطيعًا وَالتَّوْبَة الرّجْعَة إِلَى الله تَعَالَى وَهُوَ أَن يُعْطي من جوارحه لله تَعَالَى مَا يَأْمر بِهِ حَتَّى يُقيم العبودة الَّتِي لأَجلهَا خلق فَإِذا أذْنب فقد منع الله تَعَالَى من جوارحه العبودة فَلَيْسَ بمطيع والمؤمنون فِي أَحْوَالهم على ضَرْبَيْنِ
ضرب مِنْهُم سكارى وَقد أسكرتهم شهوات نُفُوسهم عَن الله تَعَالَى وحالت تِلْكَ الشَّهَوَات بَين قُلُوبهم وَبَين الْعقل فَلَا يبصرون قبح مَا يأْتونَ لِأَن مَعْدن الْعقل فِي الدِّمَاغ وعَلى الْقلب تَدْبيره فبذلك النُّور الَّذِي على الْقلب من الْعقل يبصر محَاسِن الْأُمُور ومشانيها فَجَاءَت هَذِه الشَّهَوَات فَسدتْ طَرِيق الْعقل فَسَكِرَ وَضرب آخر قد أفاقوا من سكرتهم بِعَمَل النُّور الْوَارِد على قُلُوبهم فَأَبْصرُوا الْوَعْد والوعيد فَذهب سد الطَّرِيق فهم على مُعَاينَة من الْجنَّة وَالنَّار إِلَّا أَنهم نيام عَن الله تَعَالَى وهم المقتصدون أهل الاسْتقَامَة مطيعون لله تَعَالَى حافظون لحدوده وَلَكِن لنومته عَن الله إِن أطَاع وَعمل أَعمال الْبر استكثر ذَاك من نَفسه وَإِن تورع عَن الذَّنب كبر فِي صَدره فعله وَيرى أَنه عمل شَيْئا عَظِيما وَلم ير أَنه غريق فِي نعم الله تَعَالَى ومننه وتتابع إحسانه فَإِذا أَفَاق الضَّرْب الأول من سكرته وانتبه الآخر من نومته فر إِلَى الله رَاجعا إِلَى الْكَوْن بَين يَدَيْهِ فعزم على أَن لَا يبرح فَذَلِك الْعَزْم هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه تَوْبَة لِأَنَّهُ بَاطِن فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَلم يظهره بِلِسَانِهِ وَالِاسْتِغْفَار سُؤال العَبْد ربه أَن يستره بعد ذَلِك فانه لما برح من بَين يَدَيْهِ وَترك مقَامه فأخل بمركزه انحطت دَرَجَته وَبعد من ربه وَخرج من ستره وتعرى فَلَمَّا رَجَعَ بندمه إِلَيْهِ عَارِيا استحيى مِنْهُ وَمن خليقته فَأمر أَن يسْأَل ربه الْمَغْفِرَة أَي الغطاء والستر فاذا قَالَ اغْفِر لي أَي غطني واسترني فَانِي خرجت من
سترك وَبقيت عَارِيا بَين يَديك تنظر إِلَيّ ملائكتك وسماؤك وأرضك وَلم يكن أحد يسترني غَيْرك وَهُوَ مُضْطَر لَا يجد أحدا يستره عَلَيْهِ فستره الله تَعَالَى وغفره قَالَ الله تَعَالَى أَمن يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ ويكشف السوء
وَقَالَ وَمن يغْفر الذُّنُوب إِلَّا الله
فَهَذَا عزم أهل الْيَقِين وتوبتهم فَمن فهم ذَلِك فَلهُ حَظه وَمن لم يفهم مر على الظَّاهِر كَمَا وجد وَقيل لَهُ التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار بِاللِّسَانِ والندم بِالْقَلْبِ والإقلاع بِالْبدنِ والاضمار على أَن يعود
-
الأَصْل السَّابِع وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي بَيَان أَن الدُّعَاء لم صَار مخ الْعِبَادَة
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الدُّعَاء مخ الْعِبَادَة
إِنَّمَا صَار مخا لَهَا لِأَنَّهُ تبرؤ من الْحول وَالْقُوَّة واعتراف بِأَن الْأَشْيَاء كلهَا لَهُ وَتَسْلِيم إِلَيْهِ إِن كَانَ رزقا أَو عَافِيَة أَو نوالا أَو دفع عِقَاب فَمِنْهُ إِذا سَأَلَهُ فقد تَبرأ من الاقتدار والتملك والحول وَالْقُوَّة وَالدُّعَاء سُؤال حَاجَة وافتقار فَإِنَّمَا يظْهر على الْقلب ثمَّ على اللِّسَان فَمَا على الْقلب يُسمى عبودة وَمَا على اللِّسَان عبَادَة
وَعَن كَعْب رضي الله عنه قَالَ قَالَ الله تَعَالَى لمُوسَى يَا مُوسَى قل للْمُؤْمِنين لَا يستعجلوني إِذا دَعونِي وَلَا يبخلوني أَلَيْسَ يعلمُونَ أَنِّي أبْغض الْبُخْل فَكيف أكون بَخِيلًا يَا مُوسَى لَا تخف من أَن تَسْأَلنِي عَظِيما وَلَا تَسْتَحي أَن تَسْأَلنِي صَغِيرا اطلب الي الْعلف لشاتك يَا مُوسَى أما علمت أَنِّي خلقت الخردلة فَمَا فَوْقهَا وَأَنِّي لم أخلق
شَيْئا إِلَّا وَقد علمت أَن الْخلق يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فَمن سَأَلَني مَسْأَلَة وَهُوَ يعلم أَنِّي قَادر أعطي وَأَمْنَع أَعْطيته مَسْأَلته مَعَ الْمَغْفِرَة فَإِن حمدني حِين أعْطِيه وَحين أمْنَعهُ أسْكنهُ دَار الحامدين وَأَيّمَا عبد لَا يسألني مَسْأَلَة ثمَّ أعْطِيه كَانَ أَشد عَلَيْهِ عِنْد الْحساب ثمَّ إِذا أَعْطيته وَلم يشكرني عَذبته عِنْد الْحساب
وَقَالَ عُرْوَة بن الزبير رضي الله عنه إِنِّي لأسأل الله تَعَالَى حوائجي فِي صَلَاتي حَتَّى الْملح لأهلي
وَكَانَ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر رضي الله عنه يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ قو ذكري فان فِيهِ مَنْفَعَة لأهلي سَأَلَ الْقُوَّة فِي ذَلِك لِلْخُرُوجِ من حق الزَّوْجَة لِأَن الْمَرْأَة نهمتها فِي الرِّجَال فَإِذا لهي عَن حَاجَتهَا فَهُوَ مسئول عَن ذَلِك وَمَا سَأَلَ لقَضَاء نهمة نَفسه
-
الأَصْل الثَّامِن وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي تلاقي الْأَرْوَاح فِي الدُّنْيَا
عَن عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ لتتلاقى على مسيرَة يَوْم وَمَا رأى صَاحبه قطّ
الْأَرْوَاح شَأْنهَا عَجِيب وَهِي خَفِيفَة سَمَاوِيَّة وَإِنَّمَا ثقلت إِذا اشْتَمَلت النَّفس عَلَيْهَا بظلمة شهواتها وَإِذا ريضت النَّفس وتخلص الرّوح مِنْهَا وَصفا من كدورتها عَادَتْ إِلَى خفتها وطهارتها وَكَانَ لَهَا شَأْن لَا يُؤمن بِهِ إِلَّا كل مُؤمن قلبه بِاللَّه مطمئن وَمن هَهُنَا قَالَ عمر رضي الله عنه لأبي مُسلم الْخَولَانِيّ حِين ورد الْمَدِينَة بَعْدَمَا ألقِي فِي النَّار فَلَقِيَهُ عمر رضي الله عنه فَقَالَ أنْشدك بِاللَّه أَنْت عبد الله بن توسي الَّذِي حرقه الْكذَّاب صَاحب صنعاء قَالَ اللَّهُمَّ نعم فاعتنقه عمر رضي الله عنه
وَمثله مَا يرْوى أَن الْحَارِث بن عميرَة أَتَى بَاب سلمَان رَضِي
الله عَنهُ فَخرج إِلَيْهِ فَقَالَ أما تعرفنِي يَا أَبَا عبد الله قَالَ نعم عرف روحي روحك قبل أَن أعرفك
وَمثله قَول أويس لهرم حَيْثُ قَالَ لَهُ السَّلَام عَلَيْك يَا أويس قَالَ وَعَلَيْك السَّلَام يَا هرم بن حَيَّان قَالَ وَمن أَيْن علمت رَحِمك الله أَنِّي هرم بن حَيَّان قَالَ عرف روحي روحك وَإِن الْأَرْوَاح خلقت قبل الأجساد بألفي عَام فتشامت كَمَا تشام الْخَيل وَهَذَا لِأَن بصر الرّوح مُتَّصِل ببصر الْعقل فِي عين الْإِنْسَان فالعين جارحة وَالْبَصَر من الرّوح وَإِدْرَاك الألوان من بَينهمَا فَإِذا تفرغ الْعقل وَالروح من اشْتِغَال النَّفس أبْصر الرّوح وَأدْركَ الْعقل مَا أبْصر الرّوح فَعلم وَإِنَّمَا عجزت الْعَامَّة عَن هَذَا لشغل الْأَرْوَاح بالنفوس واشتباك الشَّهَوَات بهَا فيشغل بصر الرّوح عَن دَرك هَذِه الْأَشْيَاء وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم يطلع عَلَيْكُم من هَذَا الْفَج رجل من أهل الْجنَّة فَاطلع جرير
وَقَوله صلى الله عليه وسلم إِن أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ لتتلاقى أَرَادَ بذلك الْمُؤمن المستكمل لحقائقه الَّذِي قد شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه لَيْسَ الموحد الَّذِي أقبل على شهواته وتشاغل عَن عبودته حَتَّى خلط على نَفسه الْأُمُور قلبه مأسور وروحه مَشْغُول وَنَفسه مَفْتُونَة فَكيف يبصر أَو يعقل
-
الأَصْل التَّاسِع وَالْعشْرُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن أَمِين هَذِه الْأمة أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لكل أمة أَمِين وَأمين هَذِه الْأمة أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح
فالأمانة ترك الْأَشْيَاء فِي موَاضعهَا كَمَا وضعت وإنزالها حَيْثُ أنزلت وَقد جعل الله تَعَالَى الدُّنْيَا ممرا وَالْآخِرَة مقرا وَالروح عَارِية والرزق بلغَة والمعاش حجَّة والفضول بلوى ووديعة وَالسَّعْي جَزَاء إِن خيرا فَخير وَإِن شرا فشر وَخلق الْخلق فِي ظهر آدم عليه السلام واستخرجهم وَلَهُم بَين يَدَيْهِ مقَام قررهم بالعبودة وقلدهم إِيَّاهَا وَأخذ عَلَيْهِم الْعَهْد والميثاق ثمَّ نقلهم من الأصلاب إِلَى الْأَرْحَام وَمن الْأَرْحَام إِلَى الدُّنْيَا وَمن الدُّنْيَا إِلَى اللحود وَمن اللحود إِلَى النشور وَمن المنشر
إِلَى الْمَحْشَر وَمن الْمَحْشَر إِلَى الصِّرَاط وَمن الصِّرَاط إِلَى مقَام الْعرض وَالسُّؤَال من الْوَقْت الَّذِي بلغ الْحلم إِلَى وَقت فِرَاقه من الدُّنْيَا وَخلق اللَّيْل وَالنَّهَار ليركضا بالخلق إِلَيْهِ دءوبا فالأمين اسْتَقَرَّتْ نَفسه فأبصر هَذِه الْأَشْيَاء ببصيرة نَفسه على هيئتها الَّتِي خلقت وَإِنَّمَا تبصر إِذا سكنت واستقرت واطمأنت إِلَى خَالِقهَا فقد صَارَت أمينة لَا تخون وَأما إِذا كَانَت فِي الْعَدو والالتفات إِلَى أَحْوَاله يمنة ويسرة وفيهَا شَهْوَة وَلها اخلاق رَدِيئَة دنيئة مفرطة لأمر الله عجولة فِي مهواها تشبثت بمخاليبها فِي دنياها لما وجدت من اللَّذَّة وَقَضَاء النهمة عميت عَن أَنَّهَا دَار ممر وألهتها عَن أَن تذكر دَار الْمقر وشغفت بِالْحَيَاةِ فنسيت عَن أَن تذكر الرّوح وَكَونهَا عَارِية وَطلبت المعاش حرصا لِتجمع الْكَثِيرَة عدَّة لنهماتها وتناولت الرزق على قَضَاء شهواتها ولهت عَن السَّعْي وَرفعت بالها عَنْهَا ونسيت أَنَّهَا تحْتَاج إِلَى سعي مِنْهَا مَعَ ركض اللَّيْل وَالنَّهَار سعيا يصلح فِي ذَلِك الْموقف الْعَظِيم فِي صُفُوف الْمَلَائِكَة والأنبياء وَالْمُرْسلِينَ وعباده الصَّالِحين وَإِنَّمَا جَاءَت هَذِه الْفِتْنَة من قبل النَّفس فَإِذا كَانَت سَاكِنة الطَّبْع مطمئنة الْفطْرَة ميتَة الشَّهَوَات وَجدتهَا كَرِيمَة حرَّة وَوجدت أخلاقها مستوية فأبصر الْقلب الْأَشْيَاء على هيئتها الَّتِي خلقت وَصَارَ ذَا أَمَانَة إِذْ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يظلم الصَّدْر ويحجب النُّور عَن إشراقه وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم مَا من أحد من أَصْحَابِي إِلَّا لَو شِئْت عبت عَلَيْهِ فِي خلقه غير أبي عُبَيْدَة بن الْجراح
-
الأَصْل الْمِائَة وَالثَّلَاثُونَ
-
فِي الِاعْتِبَار بِكُل شَيْء والاتعاظ بِكُل شَيْء
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نعم الْبَيْت يدْخلهُ الرجل الْمُسلم بَيت الْحمام وَذَلِكَ إِذا دخله سَأَلَ الله تَعَالَى الْجنَّة واستعاذه من النَّار وَبئسَ الْبَيْت يدْخلهُ الْمُسلم بَيت الْعَرُوس وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يرغبه فِي الدُّنْيَا وينسيه الاخرة
وَهَذَا لأهل الْغَفْلَة فَأَما أهل الْيَقِين قد صَارَت الْآخِرَة نصب أَعينهم لَا بَيت الْحمام يزعجه وَلَا بَيت الْعَرُوس يستفزه لقد دقَّتْ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا فِي جنب الْآخِرَة حَتَّى أَن جَمِيع الدُّنْيَا فِي أَعينهم كنثارة الطَّعَام من مائدة عَظِيمَة وَجَمِيع شدائدها فِي أَعينهم كتفلة عُوقِبَ بهَا محرم اسْتوْجبَ الْقَتْل فَلم يحتاجوا إِلَى الاتعاظ وَالِاعْتِبَار بالحمام وَعمل على قُلُوبهم شَأْن كرمه وجوده ومجده وبره بعباده فأنساهم كل نعيم وبؤس فَأَما أهل الْغَفْلَة فيحتاجون إِلَى كل شَيْء من الدُّنْيَا أَن يتعظوا
مِنْهَا ويعتبروا بهَا فَإِذا رأى بقْعَة حامية ذَات بخار وَمَاء حميم وَمرَّة هائجة تذكره الْآخِرَة وعجائبها وَدَار الْعقَاب وفنون عَذَابهَا وَإِذا عاين بقْعَة مزينة بزينة الدُّنْيَا منجدة بمتاع غرورها مشرقة بحطامها مغشوشة بأفراح خدعها تمنيه نَفسه وترغبه فِي ذَلِك وأنسته الْآخِرَة لعاجل مَا يجد من اللَّذَّة والشهوة وَدخُول الْحمام الَّذِي ذكره رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَمن دخله متأدبا بأدب الله تَعَالَى مستترا طَالبا لخلوة أَو غاضا بَصَره لَا يرى عَورَة وَلَا يرى لَهُ
وَقد جَاءَ عَنهُ صلى الله عليه وسلم مَا يحذر ذَلِك ويؤدب وَإِن كَانَ خَالِيا اتَّقوا بَيْتا يُقَال لَهُ الْحمام قيل يَا رَسُول الله إِنَّه يذهب الْوَسخ وَيذكر النَّار فَقَالَ إِن كُنْتُم لَا بُد فاعلين فادخلوه مستترين
وَعَن مُعَاوِيَة الْقشيرِي رضي الله عنه قلت يَا رَسُول الله عوراتنا مَا نأتي مِنْهَا وَمَا نذر قَالَ إحفظ عورتك إِلَّا من زَوجتك أَو مَا ملكت يَمِينك قلت يَا رَسُول الله فَإِذا كَانَ أَحَدنَا خَالِيا قَالَ فَالله أَحَق أَن يستحيي مِنْهُ
-
الأَصْل الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْهَدِيَّة خلق من خلق الْإِنْسَان
عَن الرّبيع بنت معوذ بن عفراء قَالَت أتيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من رطب واجر زغب فَأَعْطَانِي ملْء كَفه حليا أَو ذَهَبا فَقَالَ تحلي بِهَذِهِ يَا بنية
القناع الطَّبَق وكل شَيْء أقنع أَي ارْتَفع من الأَرْض وَأجر وَاحِدَة جرو وَهُوَ القثاء أول مَا يدْرك وَهُوَ الَّذِي لَهُ زغب كَهَيئَةِ زئبر الثَّوْب فالهدية خلق من خلق الْإِنْسَان عَلَيْهِ دلّت الرُّسُل وَإِلَيْهِ ندبت لائتلاف الْقُلُوب ولنفي سخائم الصُّدُور فَإِن ابْن آدم مقسوم على ثَلَاثَة أَجزَاء الْقلب بِمَا فِيهِ من الْإِيمَان وَالروح بِمَا فِيهِ من الطَّاعَة وَالنَّفس بِمَا فِيهِ من الشَّهْوَة فالإيمان يَدْعُو إِلَى الله وَالروح تَدْعُو إِلَى الطَّاعَة وَالنَّفس تَدْعُو إِلَى الْبر واللطف والنوال فَكَانَت الْقُلُوب تأتلف بِالْإِيمَان والأرواح بالطاعات وحظ النَّفس بَاقِيَة فَإِذا تهادوا تمت الألفة وَلم تبْق هُنَاكَ حزازة وَكَانَ صلى الله عليه وسلم جوادا يقبل الْهَدِيَّة ويكافىء من وجده بأمثالها وَالربيع كَانَت مِمَّن قتل أَبوهَا يَوْم بدر وَكَانَ عَلَيْهِ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يبرها وَيكرم أحوالها فَوَافَقت هديته سَعَة الوجد مِنْهُ وَكَانَ قلبه وَاسِعًا وَأَعْطَاهَا ملْء الْكَفّ ذَهَبا ليعلم من بلغه ذَلِك وَمن عاينه أَن لَا قدر للدنيا عِنْده وَلِأَن للبر أثقالا فالكريم لَا يكَاد يتَخَلَّص من تِلْكَ الأثقال إِلَّا بأضعاف ذَلِك الْبر فَإِذا ضاعف فِي الْمُكَافَأَة انحطت عَنهُ أثقال بره وَذهب عَنهُ وَجل نَفسه
وَقَوله صلى الله عليه وسلم تحلي بهَا يَا بنية رخصَة لَهَا فِي الْحِلْية وَأَنَّهَا حق وَأَنه يجوز أَن يُقَال لولد غَيره يَا بني والمكافأة حق من الْحُقُوق وكل أحد يكافىء على قدره من خلقه وسعته وَلم يكن يَخْلُو فِي ذَلِك الْوَقْت بِالْمَدِينَةِ من فَقير وَذي حَاجَة من أَصْحَابه وَلكنه كَانَ يُعْطي على نَوَائِب الْحق فَرَأى هَذَا حَقًا فَأعْطَاهُ
قَالَ وهب رضي الله عنه ترك الْمُكَافَأَة من التطفيف
ناول شَاب اللَّيْث بن سعد رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ اترنج باكورة فَأمره أَن يعْطى دِينَارا وَكَانَ الأسخياء يَفْعَلُونَ مثل ذَلِك وَجَاءَت عَجُوز إِلَى اللَّيْث بن سعد رضي الله عنه فَقَالَت يَا أَبَا الْحَارِث مر وكيلك أَن يعطيني رطلا من عسل فَإِن ابْني مَرِيض يشتهيه فَقَالَ لوَكِيله أعْطهَا مَطَرا من عسل قيل لَهُ إِنَّمَا سَأَلتك رطلا فَقَالَ هِيَ سَأَلت على قدرهَا وَنحن نعطيها على قَدرنَا والمطر وقر بعير مِائَتَان وَخَمْسُونَ منا
وأتى قوم عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما فَقَالُوا إِن لنا مَرِيضا قد تشنجت أعضاؤه من الرِّيَاح وَوصف لنا أَن نعالجه بِلَبن الجواميس فينفعه فِيهِ فَنحب أَن تعيرنا من جواميسك فَقَالَ لوَكِيله كم لنا يَا لطف من الجواميس قَالَ خَمْسمِائَة فَقَالَ سقها إِلَيْهِم فَقَالُوا رَحِمك الله إِنَّا سألناك عَارِية قَالَ إِنَّا لَا نعير الجواميس وَأَعْطَاهَا إيَّاهُم وَعَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْهَدِيَّة رزق من الله طيب فَإِذا أهدي إِلَى أحدكُم فليقبلها وليعط خيرا مِنْهَا
-
الأَصْل الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي بَيَان صِفَات وُلَاة الْأُمُور العادلين
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من ولي من أَمر أمتِي شَيْئا فحسنت سَرِيرَته رزق الهيبة من قُلُوبهم وَإِذا بسط يَده لَهُم بِالْمَعْرُوفِ رزق الْمحبَّة مِنْهُم وَإِذا وفر عَلَيْهِم أَمْوَالهم وفر الله عَلَيْهِ مَاله وَإِذا أنصف الضَّعِيف من الْقوي قوى الله سُلْطَانه وَإِذا عدل مد الله فِي عمره
فَحسن السريرة من هَيْبَة الله تَعَالَى فَإِذا هاب عبد ربه ظَاهرا وَبَاطنا سرا وعلنا أهاب الله مِنْهُ خلقه وصنائع الْمَعْرُوف لَا تكون إِلَّا من حسن الْخلق وَمن حسن الله خلقه أحبه وَمن أحبه الله ألْقى محبته على قُلُوب عباده قَالَ تَعَالَى لمُوسَى عليه السلام وألقيت عَلَيْك محبَّة مني
فَكَانَ لَا يرَاهُ أحد إِلَّا أحبه حَتَّى فِرْعَوْن اللعين الَّذِي كَانَ يذبح بني إِسْرَائِيل لأَجله وَهُوَ يوسعه فِي صَدره وَمن بسط الْيَد سقط عَن قلبه قدر الدُّنْيَا فَهِيَ وَمن فِيهَا مقبلة عَلَيْهِ خادمة لَهُ وإنصاف
الضَّعِيف فانما أعطي السُّلْطَان على أَن يَأْخُذ للضعيف من الْقوي وَلَوْلَا ذَلِك لم يحْتَج إِلَى سُلْطَان فإذافإذا فعل ذَلِك فقد تمسك بِالَّذِي أعطي على هَيْئَة مَا أعطي فاديمت لَهُ قُوَّة ذَلِك الَّذِي أعْطى وَإِذا ضيع ذَلِك فقد ضيع سُلْطَانه وَذَلِكَ لله فَكيف يبْقى مَعَه قُوَّة وَالسُّلْطَان ظلّ الله فِي الأَرْض يأوي إِلَيْهِ كل مظلوم وَإِذا عدل مد فِي عمره لِأَن الْعدْل صَلَاح الأَرْض والجور فَسَادهَا وبالعدل قَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض فَإِذا جَار فالأرض تعج مِنْهُ وَالسَّمَاء تجأر والبحار تَئِنُّ وَالْجِبَال تَشْكُو فَيقطع الله عمره وَإِذا عدل وصل الله عمره من كرمه فَمد لَهُ لِأَنَّهُ أَقَامَ عدله الَّذِي ارْتَضَاهُ لنَفسِهِ عزت من نفس كَرِيمَة شريفة
-
الأَصْل الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِيمَا يعلم بِهِ منزلَة العَبْد عِنْد الله تَعَالَى
عَن جَابر رضي الله عنه قَالَ خرج علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَيهَا النَّاس من كَانَ يحب أَن يعلم مَنْزِلَته عِنْد الله فَلْينْظر كَيفَ منزلَة الله عِنْده فَإِن الله عز وجل ينزل العَبْد مِنْهُ حَيْثُ أنزلهُ من نَفسه وَإِن لله سَرَايَا من الْمَلَائِكَة تحل وتقف على مجَالِس الذّكر فاغدوا وروحوا فِي ذكر الله فِي الأَرْض أَلا فارتعوا فِي رياض الْجنَّة قَالُوا وَأَيْنَ رياض الْجنَّة يَا رَسُول الله قَالَ مجَالِس الذّكر قَالَ فاغدوا وروحوا فِي ذكر الله واذكروه بِأَنْفُسِكُمْ
فمنزلة الله عِنْد العَبْد إِنَّمَا هُوَ على قلبه على قدر مَعْرفَته إِيَّاه وَعلمه بِهِ وهيبته مِنْهُ وإجلاله وتعظيمه لَهُ وخشيته وحيائه مِنْهُ وَالْخَوْف من عِقَابه والوجل عِنْد ذكره وَإِقَامَة الْحُرْمَة لأَمره وَنَهْيه ورؤيه تَدْبيره وَالْوُقُوف عِنْد أَحْكَامه بِطيب النَّفس وَالتَّسْلِيم لَهُ بدنا وَقَلْبًا وروحا
ومراقبة لتدبيره فِي أُمُوره وَلُزُوم ذكره والنهوض بأثقال نعمه وإحسانه وَترك مشيئاته لمشيئاته وَحسن الظَّن بِهِ فِي كل مَا نابه وَالنَّاس فِي هَذِه الْأَشْيَاء يتفاضلون فمنازلهم عِنْد رَبهم على قدر حظوظهم مِنْهَا فأوفرهم حظا من الْمعرفَة أعلمهم بِهِ وأعلمهم بِهِ أوفرهم حظا من هَذِه الْأَشْيَاء وأوفرهم حظا مِنْهَا أعظمهم منزلَة عِنْده وأقربهم وَسِيلَة وأرفعهم دَرَجَة وعَلى قدر نقصانه من هَذِه الْأَشْيَاء ينتقص حَظه وتنحط دَرَجَته وتبعد وسيلته ويقل علمه وتضعف مَعْرفَته قَالَ الله تَعَالَى وَلَقَد فضلنَا بعض النَّبِيين على بعض
وَإِنَّمَا فضلوا على الْخلق وَبَعْضهمْ على بعض بالمعرفة لَهُ وَالْعلم بِهِ لَا بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَة فبالمعرفة تطهر الْأَبدَان وتزكو الْأَعْمَال وَبهَا تقبل مِنْهُم فَإِن الْيَهُود وَالنَّصَارَى عمِلُوا أَعمال الشَّرِيعَة فَصَارَت هباء منثورا فَمن فضل بالمعرفة فقد أُوتِيَ حظا من الْعلم
قَالَ صلى الله عليه وسلم حِين عرج بِهِ إِلَى السِّدْرَة فَإِذا النُّور الْأَكْبَر قد تدلى فَالْتَفت إِلَى جِبْرَائِيل فَإِذا هُوَ ميت من الْفرق كالحلس الْملقى من خشيَة الله فَعرفت فضل علمه بِاللَّه على علمي
وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صَلَاة الصُّبْح فَصنعَ شَيْئا لم نره صنع فِي غَيره مديده ثمَّ أَخّرهَا فَقُلْنَا يَا رَسُول الله لقد صنعت فِي صَلَاتك شَيْئا لم نرك صنعت فِي غَيرهَا قَالَ إِنِّي رَأَيْت الْجنَّة فَرَأَيْت فِيهَا دالية قطوفها دانية حبها كالدباء فَأَرَدْت أَن أتناول مِنْهَا فاوحى إِلَيْهَا أَن استأخري ثمَّ رَأَيْت النَّار فِيمَا بيني وَبَيْنكُم حَتَّى رَأَيْت ظِلِّي وظلكم فأومأت إِلَيْكُم أَن استأخروا
فَقيل لي أقرهم فانك أسلمت وَأَسْلمُوا وَهَاجَرت وَهَاجرُوا وجاهدت وَجَاهدُوا فَلم أر لي فضلا عَلَيْكُم إِلَّا بِالنُّبُوَّةِ
فبالنبوة أدْرك رُؤْيَة مَا وصف فأدنيت الْجنَّة مِنْهُ ليعرف حَاله صلى الله عليه وسلم أَنه بِهَذِهِ الْمنزلَة لَيْسَ بَينه وَبَينهَا إِلَّا قبض الرّوح وَلِهَذَا لما مد يَده ليتناولها أوحى إِلَيْهَا أَن تأخري فَإِنَّهُ فِي بَقِيَّة من أَجله صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَلَا ينَال أحد الْجنَّة إِلَّا بعد مُفَارقَة الرّوح ثمَّ أرى النَّار بَينه وَبَين الْقَوْم رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ يعرفهُ أَنَّك قد جزت النَّار بقلبك بِمَا أَعْطَيْت من النُّبُوَّة وفرغت من أَمر الصِّرَاط وَمن خَلفك من الْأمة لم يجوزوا بعد بقلوبهم فَهُوَ بَاقٍ عَلَيْهِم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
قَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ أنس رضي الله عنه إِذا ضرب الصِّرَاط على النَّار قيل قرب أمتك فَإِذا دَنَوْت مِنْهَا قَالَ لي جبرئيل يَا مُحَمَّد خُذ بحجزتي فآخذ بحجزة جبرئيل فيضعني من وَرَاء النَّار وَيُقَال للْأمة جوزوا فيجوزون بأبدانهم فَمنهمْ فِي السرعة فِي مثل اللحظة والبرقة وَمِنْهُم فِي مثل الرّيح وَمِنْهُم فِي مثل أجاويد الْخَيل وَمِنْهُم ركضا وَمِنْهُم سعيا وَمِنْهُم مشيا وَمِنْهُم زحفا
فالنبي صلى الله عليه وسلم بِفضل النُّبُوَّة جَازَ النَّار بِقَلْبِه أَيَّام الْحَيَاة فَلَمَّا وصل إِلَيْهَا أُجِيز من غير تكلّف وَلَا مُبَاشرَة وَأهل الْيَقِين لَهُم حَظّ من النُّبُوَّة
قَالَ صلى الله عليه وسلم الاقتصاد وَالْهَدْي الصَّالح والسمت الْحسن جُزْء من أَرْبَعَة وَعشْرين جُزْءا من النُّبُوَّة
فيجوزونها بأبدانهم على قدر إِيمَانهم ويقينهم وحظهم من النُّبُوَّة قَالَ تَعَالَى {لَو تعلمُونَ علم الْيَقِين لترون الْجَحِيم ثمَّ لترونها عين الْيَقِين}
فَأهل الْيَقِين فِي الدُّنْيَا يرونها بِعلم الْيَقِين فيجوزونها بقلوبهم ثمَّ يرونها عين الْيَقِين غَدا مُعَاينَة فمعاينة الْقلب علم الْيَقِين ومعاينة الْجَسَد بِعَيْنِه الَّتِي ركبت فِيهِ عين الْيَقِين فَمن أعطي علم الْيَقِين فِي الدُّنْيَا طالع الصِّرَاط وأهوالها بِقَلْبِه فذاق من الْخَوْف وركبته من الْأَهْوَال فَوضع عَنهُ غَدا وَمر عَلَيْهَا فِي مثل الْبَرْق فَأن الله تَعَالَى لَا يجمع على عبد خوفين
قَالَ صلى الله عليه وسلم قَالَ ربكُم وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أجمع على عَبدِي خوفين وَلَا أجمع لَهُ أمنين
وكل من كَانَ لَهُ هَهُنَا حَظّ من الْيَقِين طالع بِقَلْبِه بِقُوَّة ذَلِك الْيَقِين فعاين مِنْهُ مَا ذاق من الْخَوْف فَسقط عَنهُ من الْخَوْف على قدر مَا ذاق هَهُنَا فَكَذَلِك تفَاوت جوازهم
وَقَوله صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَأَيْت ظِلِّي وظلكم فِيهَا فان النَّار سَوْدَاء مظْلمَة والمؤمنون أهل نور وضياء فَوَقع ضوءهم على ظلمَة النَّار على مقادير نورهم وأجسادهم
وَقَوله صلى الله عليه وسلم أقرهم مَعْنَاهُ أَنهم قد ائْتَمرُوا بأَمْري فَانِي أَمرتهم بِالْإِسْلَامِ وَالْهجْرَة وَالْجهَاد فَلَيْسَ للنار عَلَيْهِم سَبِيل لِأَن رَحْمَتي قد نالتهم
قَالَ الله تَعَالَى إِن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ يرجون رَحْمَة الله وَالله غَفُور رَحِيم حقق رجاءهم وَأخْبر أَنهم صدقُوا فِي الرَّجَاء ثمَّ وعدهم الْمَغْفِرَة
وَقَوله صلى الله عليه وسلم وَلم أر لي فضلا عَلَيْكُم إِلَّا بِالنُّبُوَّةِ كفى بهَا فضلا وَلَا ينَال مَا وصف إِلَّا بِالْأَعْمَالِ والأعمال إِنَّمَا تقوم ويعظم خطرها بِالنِّيَّاتِ وَالنِّيَّة بدؤها من الْإِيمَان يَبْدُو لَهُم من إِيمَانهم ذكر الطَّاعَة فينهض قُلُوبهم إِلَى الله تَعَالَى من مُسْتَقر نُفُوسهم وَالنِّيَّة النهوض يُقَال ناء ينوء إِذا نَهَضَ فنهوض الْقلب من مَعْدن الشَّهَوَات إِلَى الله تَعَالَى بِأَن يعْمل طَاعَة هُوَ نِيَّة فَأَما أهل الْيَقِين فقد جاوزوا هَذِه الْمنزلَة فَإِنَّهُ زايلت قُلُوبهم نُفُوسهم وَصَارَت مَعَ الله تَعَالَى وَقد فرغوا من النِّيَّة فَمن كَانَ قلبه بَين يَدي الله تَعَالَى محَال أَن يُقَال لَهُ نَهَضَ قلبه إِلَى الله فِي أَمر فَإِن قلبه ناهض إِلَيْهِ بِمرَّة وَاحِدَة وَاقِف بَين يَدَيْهِ نهوضا لَا يرجع وَلَا ينْصَرف إِذْ قد نقض الوطن وارتحل إِلَى الله تَعَالَى ويعملون وَقُلُوبهمْ هُنَاكَ وافقة بَين يَدي الله تَعَالَى فِي جلال الله وعظمته باهتين سكارى وَمَا هم بسكارى فارتفع أَعمال هَؤُلَاءِ من الَّذين ينهضون بقلوبهم فِي ذَلِك الْعَمَل لله عز وجل ويريدونه بِهِ وهم المقتصدون فتفاوتت لذَلِك مُدَّة جوازهم على الصِّرَاط
-
الأَصْل الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي فضل الاستغاثة من النَّار بِعَفْو الله تَعَالَى
عَن سعد بن أبي وَقاص رضي الله عنه قَالَ سمع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فِي جَوف اللَّيْل وَهُوَ يَقُول واغوثاه من النَّار يُرَدِّدهَا ذَلِك لَيْلًا طَويلا ثمَّ غَدا على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَنْت الْقَائِل اللَّيْلَة واغوثاه من النَّار قَالَ نعم يَا رَسُول الله قَالَ لقد أبكيت أَعْيَان مَلأ من الْمَلَائِكَة كَثِيرَة
النَّار حشوها غضب الله وَإِنَّمَا اسودت من غَضَبه يحل ذَلِك الْغَضَب عذَابا بأجساد العداة العصاة فتنتقم النَّار مِنْهُم لحق الله عز وجل جَلَاله والمستغيث مِنْهُ على ثَلَاثَة أضْرب مستغيث من نَار الله بِعَفْو الله ومستغيث من غضب الله تَعَالَى برحمة الله ومستغيث بِاللَّه من الله تَعَالَى
وَقد جمع ذَلِك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَتَاهُ جبرئيل وَأمره أَن يكون
ذَلِك فِي السُّجُود فَقَالَ أعوذ بعفوك من عقابك ثمَّ قَالَ وَأَعُوذ برضاك من سخطك ثمَّ قَالَ وَأَعُوذ بك مِنْك
-
الأَصْل الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم إِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائَة مرّة
عَن الْأَغَر الْمُزنِيّ رضي الله عنه قَالَ خرج إِلَيْنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ رَافع يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُول يَا أَيهَا النَّاس اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فوَاللَّه إِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائَة مرّة
وَفِي رِوَايَة وَإنَّهُ ليغان على قلبِي وَإِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائَة مرّة
الْمَغْفِرَة هِيَ الغطاء والستر وَمِنْه سمي المغفر دبير الثَّوْب وَهُوَ الَّذِي يعلق الثَّوْب الْجَدِيد وَالْعَبْد الْمُؤمن بَايع الله تَعَالَى يَوْم الْمِيثَاق أَن يطيعه وَيكون بَين يَدَيْهِ فَلَمَّا أذْنب ذَنبا وَترك مقَامه خرج من ستره فتعرى
فَقيل لَهُ تب أَي ارْجع إِلَى مقامك فَلَمَّا رأى نَفسه عَارِيا طلب السّتْر فَفَزعَ إِلَى الله تَعَالَى عَن عريه فَستر فَقيل ارْجع إِلَى رَبك إِلَى مقامك فِي الْبيعَة مَعَ السّتْر فَأَنت فِي كنفه مَا دمت وَاقِفًا بمقام الْبيعَة فَلذَلِك بدىء بالاستغفار ثمَّ بِالتَّوْبَةِ قَالَ تَعَالَى {اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم طُوبَى لمن وجد فِي صَحِيفَته اسْتِغْفَارًا كثيرا وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن للقلوب صدءا كصدأ الْحَدِيد وجلاؤه الاسْتِغْفَار
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن العَبْد إِذا أذْنب نكتت فِي قلبه نُكْتَة سَوْدَاء فَإِذا عَاد نكتت أُخْرَى حَتَّى يسود الْقلب فَإِذا تَابَ وَنزع صقل قلبه ثمَّ تَلا {كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
وَاعْلَم أَن للمغفرة دَرَجَات فمغفرة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر ومغفرة من بعده بأعمال بر عملوها لَا يَخْلُو من ذَلِك والستر أَنْوَاع فَمنهمْ من لَا يستر عَلَيْهِ أَيَّام الْحَيَاة فَإِذا صَار مَمَره إِلَى النَّار يستر لِئَلَّا تصيبه النَّار وَمِنْهُم من يستر فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلم يستر عَلَيْهِ فِي الْعرض وَمِنْهُم من يستر عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالْعرض عِنْد الْمَلَائِكَة وخلا بِهِ ربه فِي السُّؤَال فلقي شدَّة الْحيَاء وَمِنْهُم من يستر عَلَيْهِ فِي الْحجب عَن نَفسه حَتَّى لَا يَرَاهَا فيستحيي وَمِنْهُم من يستر عَلَيْهِ سترا لَا يذكرهَا حَتَّى يذهب عَنهُ ذكرهَا فَذَاك ستر
بَينه وَبَين العَبْد يستره عَن عمله وَحَتَّى لَا يخجل كَمَا ستر أهل الْجنان بالأنس بِهِ إِذا ذكرُوا ذنوبهم لم يخجلوا وَلم يثقل عَلَيْهِم ذكرهَا فَكل من كَانَ فِي الدُّنْيَا من الْأنس بِهِ أوفر حظا فَإِن ستره من ذنُوبه هُنَاكَ أكشف وأنسه بِاللَّه تَعَالَى أَكثر
والأنس بِاللَّه تَعَالَى من الاحتظاء من جماله فَإِذا كَانَ قلبه عِنْده فِي ملك الْجمال فالغالب عَلَيْهِ الْأنس وَجَزَاء الْأنس بِهِ الْيَوْم الأمل غَدا وَمن كَانَ قلبه عِنْده فِي ملك الْجلَال فالغالب عَلَيْهِ الهيبة وجزاؤه مِنْهُ الْأَمْن غَدا وَمن كَانَ قلبه عِنْده فِي ملك ملكه وَجَاوَزَ ملك الْجمال والجلال إِلَى وحدانيته وَانْفَرَدَ بِهِ فِي فردانيته وهم الَّذين وَصفهم صلى الله عليه وسلم سِيرُوا فقد سبق المفردون قَالُوا من هم يَا رَسُول الله قَالَ الَّذين اهتروا بِذكر الله تَعَالَى يضع الذّكر اثقالهم يأْتونَ يَوْمئِذٍ خفافا فهم أمناؤه فِي أرضه قُلُوبهم فِي ملك الْملك فِي تِلْكَ الْخلْوَة الَّتِي قد انْقَطع علم الصِّفَات عِنْدهَا فَلَا يُوصف مَا فِي قُلُوبهم أَيَّام الْحَيَاة فجزاؤهم غَدا الدَّلال فَصَاحب الهيبة فِي عبودته ومعاملته من الْفرق كالميت فِي كل أَمر من أُمُوره على هول عَظِيم وخطر جسيم وَصَاحب الْأنس فِي عبودته ومعاملته قد خف عَنهُ ذَلِك لما يأمل من عطفه ورأفته بِهِ ومحبته وَصَاحب البهتة أَمِينه فَهُوَ كالمطمئن لِأَنَّهُ صَار فِي قَبضته وَهُوَ يَسْتَعْمِلهُ فباستعماله أشرف على الْأُمُور فَهُوَ المدل فِي دُنْيَاهُ المدل فِي آخرته وَهُوَ الْأمين الَّذِي بَسطه فانبسط وَهُوَ الْمُحدث وَهُوَ أَعلَى من الصِّنْفَيْنِ الْأَوَّلين صَاحب الْأنس وَصَاحب الهيبة فَإِن صَاحب الْأنس بَسطه الْأنس بِالْملكِ وَهَذَا قد بَسطه الْملك وشتان من بَسطه الْملك وَمن بَسطه الْأنس بِالْملكِ
-
الأَصْل السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي تَأْثِير هَيْبَة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاته وتأثير وَفَاته فِي الْقُلُوب
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ لما كَانَ الْيَوْم الَّذِي دخل فِيهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَة أَضَاء كل شَيْء مِنْهَا فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ أظلم كل شَيْء مِنْهَا وَمَا نفضنا الْأَيْدِي عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَنا لفي دَفنه حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبنَا
كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نورا أَضَاء الْعَالمين قَالَ تَعَالَى إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا وداعيا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا
فَكَانَ يَسْتَنِير سراجه فِي الْعَالمين وَإِذا مَشى فِي الطَّرِيق فاح مِنْهُ ريح الطّيب حَتَّى يُوجد عرفه فِي مَمَره صلى الله عليه وسلم فَيعرف أَنه مر بِهَذَا الْمَكَان وَكَانَ طَاهِرا طيبا طهره الله تَعَالَى بِالْحِفْظِ فِي الأصلاب والأرحام وطفلا وناشئا وكهلا حَتَّى قدسه بطهر النُّبُوَّة وشرفه بالقربة وطيبه بِرُوحِهِ وجلله ببهائه فَمن فتح الله قلبه بِالنورِ الَّذِي جعله فِي قلبه وأبصره وَمَا نحله الله تَعَالَى وزينه بِهِ كَانَ رُؤْيَته شِفَاء قلبه ودواء سقمه
وَلَا يخيب بِرُؤْيَتِهِ عَن أَن يكون شِفَاء الْقلب إِلَّا من ختم الله على قلبه وَجعل على سَمعه وبصره غشاوة كَمَا قَالَ تَعَالَى وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون
وَكَانَت هيبته ووقاره وجلاله وطهارته سدا بَين الْقُلُوب والنفوس فَكَانَت النُّفُوس قد أَلْقَت بأيديها منقادة مستسلمة هَيْبَة لَهُ وإجلالا وحياء مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لَهُ طلاوة وحلاوة ومهابة فَأَيْنَ مَا حل ببقعة أَضَاءَت تِلْكَ الْبقْعَة بنوره وطلاوته وحليت بحلاوته وتهيأت شئونها بمهابته فَلَمَّا قبض صلى الله عليه وسلم ذهب السراج وَزَالَ الضَّوْء وفاتت تِلْكَ الطلاوة والحلاوة والمهابة
وَقَوله وَمَا نفضنا الْأَيْدِي حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبنَا أخبر عَن قلبه وَعَن قلب أشباهه من الْقُلُوب الَّتِي لم تغلب عَلَيْهَا الهيبة من الله تَعَالَى وتأخذها هَيْبَة المخلوقين وَكَانَ صلى الله عليه وسلم آيَة من آيَات الله الْعُظْمَى فَمن عرفه وتمكنت مَعْرفَته من هَذَا الطَّرِيق فَإِذا فَقده أنكر قلبه لِأَن نَفسه كَانَت فِي قهر مَا أعطي الرَّسُول صلى الله عليه وسلم من السُّلْطَان فَلَمَّا أحست النَّفس بذهابه وجدت زمامها سَاقِطَة بِالْأَرْضِ كالمخلاة عَنْهَا فتحركت وتشوقت لمناها وأصاخت أذنا لمطامعها وَمن غلب الهيبة من الله تَعَالَى على قلبه وملكته لم يُنكر قلبه بِقَبْضِهِ وَلم يتَغَيَّر شَأْنه بفقده وهم الصديقون والأولياء عليه السلام فقد دخل قُلُوبهم من جلال الله تَعَالَى وعظمته مَا بهتهم فهابوه ونفوسهم قد صَارَت كالميتة من الْخُشُوع لله تَعَالَى فَتلك هَيْبَة احتشت الْقُلُوب مِنْهُم من محبَّة الله تَعَالَى فغمرت مَا كَانَ للمخلوقين فِيهَا من الْمحبَّة من غير أَن تَزُول هَيْبَة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ومحبته من قلبه فَإِن كل مَا عظمت هَيْبَة الله تَعَالَى ومحبته فِي قلب عبد فَهُوَ للهيبة من رَسُول
الله صلى الله عليه وسلم أَشد وحبه فِي قلبه أعظم وأصفى وَلَكِن محبته وهيبته غامرة لما سواهَا فَلَا يستبين بِمَنْزِلَة وَاد ينصب فِي بَحر فالوادي ينصب بهيبته وَلَكِن لَا يستبين فِي جنب الْبَحْر وبمنزلة قمر مضيء فَإِذا أشرقت الشَّمْس غمر إشراقها ضوء الْقَمَر فالقمر يضيئ فِي مجْرَاه وَالشَّمْس بإشراقها غالبة عَلَيْهِ كَذَا حب الله تَعَالَى وهيبته فِي حب الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وهيبته
-
الأَصْل السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي فضل نظرة المشتاق
عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نظر الرجل إِلَى أَخِيه على شوق خير من اعْتِكَاف سنة فِي مَسْجِدي هَذَا
الِاعْتِكَاف إقبال العَبْد على الله تَعَالَى والتخلي عَن الدُّنْيَا وشهواتها وكف النَّفس عَن التَّرَدُّد فِي ساحات الْعَيْش ومنعها عَن الانبساط والتفسح وَمَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمَوْضِع مهاجره ومبوء الاسلام يعدل الِاعْتِكَاف فِيهِ سنة اعْتِكَاف ألف سنة فِي سَائِر الْمَسَاجِد
قَالَ صلى الله عليه وسلم صَلَاة فِي مَسْجِدي هَذَا تعدل ألف صَلَاة فِيمَا سواهُ
كَذَا حكم الِاعْتِكَاف فقد جعل صلى الله عليه وسلم النّظر إِلَى أَخِيه على شوق مِنْهُ أَكثر مِنْهُ لِأَنَّهُ الْمُؤمن لما انتبه بِقَلْبِه وَعرف ربه تبارك وتعالى واشتغل نور الْيَقِين فِي قلبه فانكشف لَهُ الغطاء عَن جَلَاله وعظمته وجماله ومجده وبهائه اشتاق إِلَيْهِ فَلم يزل يَدُوم لَهُ الشوق حَتَّى قلق وبرم بِالْحَيَاةِ وضاق بِهِ ذرعا فَهُوَ عطشان من ظمأ الشوق قد أسكرته محبته عَن جَمِيع الدُّنْيَا وأذهلته آماله فِيهَا عَن جَمِيع مناه فِيهَا وأقلقته بَقِيَّة أنفاسه ويتمنى أَن يَنْقَضِي جَمِيع أنفاسه فِي نفس وَاحِد حَتَّى يطير بِرُوحِهِ إِلَى الله تَعَالَى فَهُوَ فِي محبسه يتَرَدَّد آثَار من قد اجتباه من بَين خلقه وَسبي قلبه بنوره وَقد انْقَطع طمعه من أَن يرَاهُ وَهُوَ يُنَادي فِي خلال ذَلِك ارْحَمْ من ترَاهُ وَلَا يراك لِأَنَّهُ قد سبق إِلَى ذَلِك رَأس المشتاقين كليم الله صلوَات الله عَلَيْهِ لما من عَلَيْهِ بالْكلَام طمع فِي الرُّؤْيَة فآنسه وأعلمه سَبَب الْمَنْع كالمعتذر فَقَالَ {لن تراني} أَي لَا تقدر وَلَكِن أنظر إِلَى الْجَبَل فَإِن إستقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني
وَكَذَلِكَ فعل الحبيب بالحبيب إِذا سَأَلَهُ حَاجَة لَا طَاقَة لَهُ بهَا وَلَا يقوم لَهَا وان الْحَاجة تضيع لم يواجهه بِالْمَنْعِ وَلم يوحشه بِالرَّدِّ وَيُقِيم لنَفسِهِ عذرا فالمؤمن من يطْلب الْآثَار إِلَيْهِ شوقا وَللَّه تَعَالَى فِي أرضه اربعة من آثاره بهَا يقطع المشتاقون أعمارهم فاحدى الْآثَار كَلَامه وَعَلِيهِ طَلَاق فَإِذا نظر إِلَى الْقُرْآن استروح لِأَنَّهُ كَلَامه وَالثَّانِي كعبته وَهُوَ بَيته ومعلمه ومظهره وَعَلِيهِ وقاره فَإِذا نظر إِلَيْهَا استروح وَالثَّالِث السُّلْطَان وَهُوَ ظله وعَلى ظله هيبته فَإِذا نظر إِلَيْهِ استروح وَالرَّابِع وليه الْمُؤمن وَهُوَ خَلِيفَته فِي أرضه وَعَلِيهِ نور جَلَاله فَإِذا نظر إِلَيْهِ استروح لِأَنَّهُ حَبِيبه وَفِيه بره وسيماء نوره قد أشرق فِي وَجهه
قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الله أعْطى الْمُؤمن ثَلَاثَة المقة والملاحة والمحبة فِي صُدُور الْمُؤمنِينَ ثمَّ تَلا إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودا
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم من نظر إِلَى أَخِيه نظر ود غفر الله لَهُ لِأَن المشتاق آيس من أَن ينظر إِلَى مَوْلَاهُ فِي الدُّنْيَا فَإِذا نظر إِلَى هَذَا العَبْد فانما يقْضِي الْمنية من ربه وَلَا يشفيه ذَلِك بل يذوب على قَدَمَيْهِ فَكل لَحْظَة بلحظة إِلَى هَذَا العَبْد وَقصد بِهِ التشفي من حرقات الشوق إِلَى الله تَعَالَى وَقد حَبسه الله تَعَالَى بباقي أنفاسه يسْتَوْجب بِتِلْكَ النظرة الَّتِي من أجل الله تَعَالَى كَانَت وَلم يصل إِلَى مُرَاده ومنيته الرضْوَان وَالْمَغْفِرَة مِنْهُ وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة الَّذين هم آثَار الله تَعَالَى فِي أرضه بهم تقوم الأَرْض فَإِذا دنا قيام السَّاعَة رفع الْقُرْآن وهدمت الْكَعْبَة وَذهب السُّلْطَان وَقبض الْأَوْلِيَاء عَن آخِرهم فالمتنبهون إِنَّمَا يَأْخُذُونَ من الْقُرْآن لطائفه وطلاوته ويلحظون من السُّلْطَان هَيْبَة ظله دون أَفعاله وسيره وَمن الْبَيْت وقاره دون الْأَحْجَار والبنيان وَمن الْوَلِيّ نور جَلَاله الَّذِي قد أشرق فِي صَدره دون جسده ولحمه وَدَمه
-
الأَصْل الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أدب التَّنَزُّه فِي الْمَأْكُول وتناوله
عَن عبد الله بن بشير رضي الله عنه قَالَ دخل علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَطَعِمَ ثمَّ أُتِي بسويق فَشرب ثمَّ أعطي الَّذِي عَن يَمِينه وَكَانَ إِذا أكل التَّمْر وضع النواة على ظهر اصبعه الْوُسْطَى والمشيرة ثمَّ أَلْقَاهَا
لَو أَخذ النواة بباطن أَصَابِعه ثمَّ عَاد إِلَى بَقِيَّة التَّمْر لَكَانَ لَا يَخْلُو أَن تكون أَصَابِعه مبتلة من ريق الْفَم عِنْد أَخذ النواة فكره أَن يعود إِلَى بَقِيَّة التَّمْر وَفِي يَده بلة النواة مُرَاعَاة للأكيل وَحُرْمَة للصاحب ليتأدب بِهِ من بعده فَإِنَّهُ قد يعاف الرجل صَاحبه فِي فعله من ذَلِك ويكرهه فَكَانَ يَأْخُذ النواة بظاهرإصبعيه وَيسْتَعْمل باطنهما فِي تنَاوله
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا روى أنس رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نهى أَن يجمع بَين التَّمْر والنوى وَبَين الرطب والنوى على الطَّبَق
وَعَن أنس رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَتَى بطبق من رطب فَأكل مِنْهُ شَيْئا ثمَّ يلقِي النَّوَى من فَمه بِشمَالِهِ فمرت بِهِ داجنة فناولها إِيَّاه فَأكلت
-
الأَصْل التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن مَا يستصلح بِهِ الأقوات سيد الْأدم
عَن عِيسَى بن أبي عزة رضي الله عنه قَالَ سَمِعت أنس ابْن مَالك رضي الله عنه يَقُول سَمِعت نَبِيكُم صلى الله عليه وسلم يَقُول سيد ادامكم الْملح
فالملح بِهِ إصْلَاح الْأَطْعِمَة وطيبها فَيكون مزاجا للأشياء
-
الأَصْل الْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْمَرْء مَعَ من أحب
عَن عَليّ كرم الله وَجهه قَالَ جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَتى السَّاعَة قَالَ وَمَا أَعدَدْت لَهَا قَالَ حب الله وَرَسُوله قَالَ فَأَنت مَعَ من أَحْبَبْت
الْحبّ هيجه للسؤال عَن قيام السَّاعَة لِأَنَّهُ علم أَن لِقَاء العَبْد سَيّده بعد قيام السَّاعَة فقلق وضاق بِالْحَيَاةِ ذرعا فَسَأَلَ عَن السَّاعَة مَتى تقوم استرواحا إِلَيْهَا وَإِنَّمَا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا أَعدَدْت لَهَا تطلعا لمن يحن ضَمِيره وتعرفا للَّذي عجله عَلَيْهِ من السُّؤَال إِلَى مَعْدن هَاجَتْ هَذِه الْكَلِمَة وَهَذَا السَّائِل من المشتاقين أَلا ترى انه لم يذكر من عدته شَيْئا من أَعمال الْبر وَإِنَّمَا ذكر الَّذِي كَانَ بَين يَدي قلبه وَمَا اعْترض بِهِ فِي صَدره فَأَجَابَهُ على مَا وجده عَلَيْهِ فَقَالَ أَنْت مَعَ من أَحْبَبْت فالموحدون كلهم يحبونَ الله تَعَالَى حب إِيمَان لِأَن
الْغَالِب عَلَيْهِ نَفسه وشهوته وَإِنَّمَا يقلق لذَلِك ويجيش صَدره إِذا فَاتَهُ شَيْء من شهواته ونهماته فِي الدُّنْيَا فَذَاك إِنَّمَا يعد للساعة أَعمال بره وَجعل ذَلِك عدته يَرْجُو لَهَا الثَّوَاب من الله تَعَالَى حَتَّى إِذا ورد الْقِيَامَة حصلت سرائره وبلي خَبره وَاقْتضى صدقه فِي الْأَعْمَال فان وجد صَادِقا فِي ذَلِك أثيب وَأكْرم على قدره وَإِن وجد كَاذِبًا رمي بِهِ فِي وَجهه وَهُوَ مَوْقُوف فِي الحرصة يَرْجُو بِأَعْمَالِهِ النجَاة من النَّار ونوال الثَّوَاب فتخلص حَسَنَاته وتصفى ثمَّ توزن بالسيئات فَإِن فضل لَهُ شَيْء أعطي بِقدر مَا فضل وَهَذَا السَّائِل قد كَانَت الْأَشْيَاء كلهَا تلاشت عَن قلبه فِي جنب معبوده فلحبه إِيَّاه غليان فِي صَدره فَكَانَ ذَلِك عدته فَلذَلِك قَالَ أَنْت مَعَ من أَحْبَبْت
وَلَعَلَّه كَانَ أَشَّدهم اجْتِهَادًا وأصفاهم عملا وأخلصهم قلبا وأطهرهم إِيمَانًا وأبعدهم عَن كل رِيبَة وريب ودنس وعيب وأخلقهم بمعالي الْأَخْلَاق وأنزههم عَن مدانيها لِأَن حب الله تَعَالَى لَا ينَال إِلَّا محبوبه قَالَ تَعَالَى يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
بَدَأَ بحبه إيَّاهُم ثمَّ بحبهم لَهُ ثمَّ وصف أَخْلَاقهم وشمائلهم فَقَالَ {أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين} الْآيَة
وَإِذا فتح الله قلب عبد وأشرق النُّور فِي صَدره وانتبه من غفلته فمحال أَن لَا يَجِيش صَدره بحب مَوْلَاهُ حَتَّى ينسى فِي حبه حب كل مَذْكُور ويلهو عَن كل شَيْء سواهُ كَمَا قَالَ الْحسن رضي الله عنه حق على من عرفه أَن يُنكر كل شَيْء سواهُ
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَا يبلغ أحدكُم ذرْوَة الْإِيمَان حَتَّى يكون
النَّاس عِنْده أَمْثَال الاباعر فِي جنب الله تَعَالَى ثمَّ يرجع إِلَى نَفسه فَيكون لَهَا أَحْقَر حاقر
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم حبك الشَّيْء يعمي ويصم
فالقلب وَاحِد فَإِذا أحب الدُّنْيَا أعماه وأصمه عَن الْآخِرَة فَإِن الْحبّ حرارة تتوقد فِي الْقلب فَإِذا ولج الْقلب حرارة الشَّهْوَة تعميه وتصمه عَن كل شَيْء سواهُ وَإِذا أحب الْآخِرَة أعماه عَن الدُّنْيَا وأصمه لِأَنَّهُ صَارَت لَهُ الْآخِرَة مُعَاينَة بِالنورِ الْوَارِد على قلبه وهاجت شَهْوَته لَهَا واستجر قلبه وتوقد فأعماه وأصمه عَن كل شَيْء سواهَا وَإِذا أحب مَوْلَاهُ أعماه وأصمه عَن جَمِيع مَا خلق وَعَن كل مَا سواهُ لِأَنَّهُ إِذا توقد نوره فِي قلبه انْكَشَفَ الغطاء عَن جَلَاله وعظمته وجماله وبهائه وكبريائه فأعماه وأصمه عَن كل شَيْء سواهُ وَهَكَذَا ركب فِي طباع الْآدَمِيّين أَن يسموا قلبه إِلَى الأرفع فالأرفع إِذا رأى أهل النَّعيم والزينة يُسَمِّي قلبه أعظمهم قدرا وأوفرهم حظا من ذَلِك وَإِذا عاين الْآخِرَة رق هَذِه فِي جنبها وَإِذا وَقع على قلبه من جلال الله وعظمته رق هَذَا كُله فِي جنب مَا عاين وَيُحب الْآدَمِيّ كلا على قدره وَأهل الْمحبَّة قوم سبقت لَهُم من الله تَعَالَى سَعَادَة زَائِدَة فاضلة على من دونهم من عُمَّال الله تَعَالَى اجتباهم بمشيئته وهداهم بإنابتهم وهم صنفان ذكرهمَا الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم الله يجتبي إِلَيْهِ من يَشَاء وَيهْدِي إِلَيْهِ من ينيب
فَالْأول طَرِيق الْأَنْبِيَاء عليهم السلام بمشيئته اجتباهم وجذب قُلُوبهم إِلَيْهِ جذبة بمشيئته من غير تردد وتكلف وَطلب وَالثَّانِي طَرِيق الْأَوْلِيَاء المهذبين سَلام الله تَعَالَى عَلَيْهِم أنابوا وَسَارُوا إِلَيْهِ بقلوبهم وأوصلهم
إِلَيْهِ فأحبهم وبحبه أوصلهم إِلَى حبه وَقَالَ الله تَعَالَى {أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين}
وَلِهَذَا تفسيران تَفْسِير الْمُقْتَصِدِينَ أهل الاسْتقَامَة وَتَفْسِير الْأَوْلِيَاء أهل الْيَقِين فَأَما أهل الإستقامة فيذل عِنْد حق الْمُؤمن لحقه ويرق لَهُ ويعطف عَلَيْهِ وَيُحب لَهُ مَا يحب لنَفسِهِ ويعز على الْكَافِر بِاللَّه تَعَالَى على باطله فيقهره يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم فَمن حبهم إِيَّاه دق شَأْن الْخلف وذمهم ومدحهم فِي جنبه
وَأما تَفْسِير أهل الْيَقِين {أعزة على الْكَافرين} يذلون عِنْد كل مَشِيئَة لله تَعَالَى فَيظْهر من الْغَيْب من احكامه عَلَيْهِم فينقادون لَهُ تَسْلِيمًا لَهُ بِلَا تلجلج ويعزون على الْبَاطِل فيمتنعون مِنْهُ حَتَّى لَا يَجدوا سَبِيلا وَلَا تَجِد النَّفس إِلَى خدعها طَرِيقا ويعزون على أَهله فَلَا يستقبلهم مضاد إِلَّا انقمع لَهُم وسلس وَلَا يخَافُونَ لومة لائم قد سقط عَن قُلُوبهم خوف سُقُوط الْمنزلَة عِنْد الْخلق وَهَذِه عقبَة عَظِيمَة من جازها فقد ولى الدُّنْيَا وَرَاء ظَهره وَرفع عَن النَّاس بَالا وهما عقبتان كئودتان فطلاب الْآخِرَة أَعرضُوا عَن الدُّنْيَا توليا عَنْهَا وَأَقْبلُوا على الْآخِرَة الا أَنهم بقوا فِي الْعقبَة الثَّانِيَة فهم حرصاء أَن يكون جاههم وقدرهم بَاقِيا عِنْد الْخلق وَأَن لَا يسقطوا من أَعينهم وَهُوَ الشَّهْوَة الْخفية الَّتِي بَكَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم الشّرك والشهوة الْخفية
فحب الثَّنَاء وَحب المحمدة هِيَ الشَّهْوَة الْخفية وَهِي من أقوى الْأَشْيَاء فِي الْآدَمِيّ يبْقى ذَلِك فِي الْعمَّال والقراء والزهاد والورعين فهم مِنْهُ فِي جهد وَهَذَا الَّذِي حملهمْ على الاختفاء والهرب من الْخلق وإخفاء الْعَمَل وكتمان الْأَشْيَاء الَّتِي يكرمهم الله تَعَالَى بهَا مَخَافَة التزين والمباهاة فِي الْأَقْوَال فَمن أشْرب حب الله قلبه شربة أسكرته عَن الدَّاريْنِ وَعَن الْخلق فطارت هَذِه المحبات عَنهُ وَزَالَ عَنهُ حب المحمدة وَالثنَاء وَرفع الْمنزلَة عِنْد الْخلق وَذهب باله وَنسي هَذَا كُله وَلَا يبْقى على قلبه إِلَّا عَظمَة الله تَعَالَى وجلاله إِذْ أشرق الصَّدْر بنوره فَامْتَلَأَ من عَظمته وَلَزِمتهُ هيبته وهاجت هوائج الْمحبَّة لَهُ والشوق إِلَيْهِ وَظهر الوله والحنين فِيهِ فَحِينَئِذٍ تَمُوت هَذِه الْأَشْيَاء مِنْهُ وَيحيى قلبه بِهِ وَلَا يخَاف فِي الله لومة لائم فَإِذا ترقى من هَذِه الدرجَة إِلَى الدرجَة الْعُظْمَى فَانْفَرد بوحدانيته وبهت فِي جماله وجلاله واستولت على قلبه هيبته افْتقدَ ذكر هَذَا كُله من نَفسه فَيصير فِي قَبضته مستعمله فِي أُمُوره معتزا بِهِ بِهِ يقوم وَبِه يقْعد وَبِه يتَصَرَّف فِي الْأَحْوَال
وَهَذَا السَّائِل الَّذِي سَأَلَهُ صلى الله عليه وسلم عَن السَّاعَة من جُمْلَتهمْ وَلِهَذَا روى أنس بن مَالك رضي الله عنه فِي آخر الحَدِيث كم من بدوي من رجال الله وخاصته لَا يعرف وَلَا يؤبه بِهِ
وَقَالَ ثَابت الْبنانِيّ رضي الله عنه لَا تسخروا من أحد وَلَا تستهزءوا من أحد فَإِن أنس بن مَالك رضي الله عنه حَدثنَا أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ بِالبَقِيعِ فَإِذا هُوَ باعرابي أعمش الْعَينَيْنِ خَمش الذراعين دَقِيق السَّاقَيْن عَلَيْهِ شملتان وَمَعَهُ عكة من سمن يَبِيعهَا فجَاء جبرئيل عليه السلام إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله هَذَا زَاهِر
هَذَا يحب الله وَالله يُحِبهُ فَدَنَا مِنْهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا زَاهِر قَالَ لبيْك يَا رَسُول الله قَالَ من يَشْتَرِي مني زاهرا فَقَالَ يَا رَسُول الله إِذا تجدني كاسدا فَقَالَ يَا زَاهِر إِن تكن عِنْد النَّاس كاسدا فانك لست عِنْد الله كاسدا إِذا قدمت الْمَدِينَة فَانْزِل عَليّ وَإِذا أَنا بدوت نزلت عَلَيْك
-
الأَصْل الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَي النِّسَاء خير
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قيل يَا رَسُول الله أَي النِّسَاء خير قَالَ الَّتِي تسرهُ إِذا نظر وَلَا تعصيه إِذا أَمر وَلَا تخَالفه لما يكره فِي نَفسهَا وَمَالهَا
تسرهُ إِذا نظر لعفتها وجمالها فَإِن الْمَرْأَة إِذا كَانَ لَهَا جمال كَانَ ذَلِك عونا على عفة الرجل وَدينه فَلَا يلحظ إِلَى إمرأة إِلَّا كَانَ فِي غنى عَنْهَا بِمَا عِنْدهَا من جمَالهَا
رُوِيَ أَن جمَاعَة قصدُوا دَار زَكَرِيَّا عليه السلام فَإِذا فتاة جميلَة رائعة قد أشرق الْبَيْت لَهَا حسنا قَالُوا من أَنْت قَالَت أَنا امْرَأَة زَكَرِيَّا عليه السلام قَالُوا بَينهم كُنَّا نرى نَبِي الله زَكَرِيَّا لَا يُرِيد الدُّنْيَا فَإِذا هُوَ اتخذ امْرَأَة جميلَة رائعة فَقَالَ عليه السلام إِنِّي إِنَّمَا تزوجت إمرأة جميلَة رائعة لأكف بهَا بَصرِي وأحفظ بهَا فَرجي
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم مثل عَائِشَة فِي النِّسَاء كالثريد فِي الطَّعَام فَهَذَا تَمْثِيل مِنْهُ وَذَلِكَ أَن الثَّرِيد مشبع يَجْزِي عَن سَائِر الطَّعَام يَسْتَغْنِي بِهِ صَاحبه عَمَّا سواهُ وَلَا يقوم مقَامه شَيْء من الطَّعَام وَلِأَن الله تَعَالَى قد اخذ على الْأزْوَاج ميثاقهم فِي شَأْن نِسَائِهِم وَأمرهمْ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِنَّ وَالْمَعْرُوف لَهُنَّ قَالَ تَعَالَى {فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان}
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم النِّسَاء عنْدكُمْ عوان اخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله فَاتَّقُوا الله فِيهِنَّ أَي فِي حسن عشرتهن وَالْخُرُوج إلَيْهِنَّ من حقوقهن فَمن رزق امْرَأَة على وفَاق نَفسه كَانَ ذَلِك عونا لَهُ على حسن الْعشْرَة وَإِقَامَة الْحُقُوق فَإِن النَّفس إِذا هويت شَيْئا مَالَتْ إِلَيْهِ فَصَارَ أَمرهمَا على اتِّفَاق فَلم يبْق للنَّفس تردد وَلَا تلكؤ فَهَذَا قَوْله صلى الله عليه وسلم تسرهُ إِذا نظر
وَقَوله وَلَا تعصيه إِذا أَمر فَإِنَّمَا عظم أَمر الْأزْوَاج الَّذِي يلزمهن
أَن لَا تخرج من بَيته إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تكلم غير ذِي محرم من الرِّجَال ولاتمنع نَفسهَا فِي حَال حَاجته إِلَيْهَا هويت أَو لم تهو خف ذَلِك عَلَيْهَا أَو ثقل
قَالَ صلى الله عليه وسلم لَا تمنع الْمَرْأَة نَفسهَا من الزَّوْج وَإِن كَانَت على رَأس تنور
وَفِي حَدِيث آخر وَإِن كَانَت على قتب أَي فِي حَال وِلَادَتهَا فَإِن القوابل كَانَت يعز وجودهَا فِي تِلْكَ الْبَوَادِي فيحملون نِسَائِهِم على القتب عِنْد ولادها وَقد هيىء القتب بِالْأَرْضِ حَتَّى يتَمَكَّن من الْقعُود عَلَيْهَا فتلد ويقبلون وَلَدهَا من تَحت القتب
وَعَن أبي كَبْشَة رضي الله عنه صَاحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا مرت بِنَا امْرَأَة فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَدخل منزله ثمَّ خرج إِلَيْنَا قد اغْتسل فَقُلْنَا نرى أَن قد كَانَ شَيْء يَا رَسُول الله قَالَ مرت بِي فُلَانَة فَوَقَعت فِي نَفسِي شَهْوَة النِّسَاء فَقُمْت إِلَى بعض أَهلِي فَوضعت شهوتي فِيهَا وَكَذَلِكَ فافعلوا فانه من أماثل أَعمالكُم
وَقَوله وَلَا تخَالفه لما يكره فِي نَفسهَا وَمَالهَا هُوَ أَن تساعده على أُمُوره مَا لم يكن فِيهَا مَعْصِيّة فَإِن حسن الصُّحْبَة فِي المساعدة وَحسن الْعشْرَة ترك هَواهَا لهواه
روى أنس رضي الله عنه أَن رجلا انْطلق غازيا فأوصى امْرَأَته أَن لَا تنزل من فَوق الْبَيْت وَكَانَ والدها فِي أَسْفَل الْبَيْت فاشتكى أَبوهَا فَأرْسلت إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تخبره وتستأمره فَأرْسل إِلَيْهَا اتَّقِ الله وأطيعي زَوجك ثمَّ إِن والدها توفّي فارسلت إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم تستأمره فَأرْسل إِلَيْهَا مثل ذَلِك وَخرج رَسُول صلى الله عليه وسلم وَأرْسل إِلَيْهَا أَن الله قد غفر لَك بطواعيتك لزوجك
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم الدُّنْيَا مَتَاع وَخير متاعها الْمَرْأَة الصَّالِحَة وَقَالَ صلى الله عليه وسلم خير مَا أعطي العَبْد من الدُّنْيَا زَوْجَة مُؤمنَة تعينه على إيمَانه
وَقَالَ لُقْمَان عليه السلام مثل الْمَرْأَة الصَّالِحَة مثل التَّاج على رَأس الْملك وَمثل الْمَرْأَة السوء كَمثل الْحمل الثقيل على ظهر الشَّيْخ الْكَبِير
-
الأَصْل الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي المعمرين فِي الْإِسْلَام
عَن عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول قَالَ الله عز وجل إِذا بلغ عَبدِي أَرْبَعِينَ سنة عافيته من البلايا الثَّلَاث من الْجُنُون والبرص والجذام فَإِذا بلغ خمسين سنة حاسبته حسابا يَسِيرا وَإِذا بلغ سِتِّينَ سنة حببت إِلَيْهِ الْإِنَابَة وَإِذا بلغ سبعين سنة أحبته الْمَلَائِكَة وَإِذا بلغ ثَمَانِينَ سنة كتبت حَسَنَاته وألقيت سيئاته وَإِذا بلغ تسعين سنة قَالَت الْمَلَائِكَة أَسِير الله فِي أرضه فغفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر وشفع فِي أَهله
يرْوى هَذَا الحَدِيث بروايات أخر عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ فِيهَا حِكَايَة عَن الله تَعَالَى
وَفِي رِوَايَة أنس رضي الله عنه مَا من معمر يعمر فِي الْإِسْلَام أَرْبَعِينَ سنة إِلَّا صرف الله تَعَالَى عَنهُ ثَلَاثَة أَنْوَاع من الْبلَاء وَقَالَ فِي الْخمسين لين الله حسابه
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن أنس رضي الله عنه قَالَ الْمَوْلُود قبل أَن يبلغ الْحِنْث مَا يعْمل من حسنه كتبت لوَالِديهِ وَإِن عمل سَيِّئَة لم تكْتب عَلَيْهِ وَلَا على وَالِديهِ فاذا بلغ الْحِنْث وَجرى عَلَيْهِ الْقَلَم
أَمر الْملكَانِ اللَّذَان مَعَه أَن يحفظا ويسددا فَإِذا بلغ أَرْبَعِينَ سنة وسرد الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ بعد التسعين فَإِذا بلغ أرذل الْعُمر لكيلا يعلم بعد علم شَيْئا كتب الله لَهُ بِمثل مَا كَانَ يعْمل فِي صِحَّته من الْخَيْر وَإِن عمل سَيِّئَة لم تكْتب عَلَيْهِ
وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه فَإِذا بلغ مائَة سنة سمي حبيس الله فِي الأَرْض حق على الله أَن لَا يعذب حبيسه فِي الأَرْض هَذَا الحَدِيث يخبر عَن حُرْمَة الْإِسْلَام وَمَا يُوجب الله تَعَالَى لمن قطع عمره مُسلما من الكرامات وَمَا يقْصد فِي ذَلِك بَيَان الْأَعْمَال والدرجات واكتساب الطَّاعَات فَذَاك ثَوَابه على قدر مَا سعى واكتسب وَمثل هَذَا مَوْجُود فِي حق الْخلق ترى الرجل يَشْتَرِي عبدا فَإِذا أَتَت عَلَيْهِ سِتُّونَ يُقَال عتق عندنَا وطالت صحبته مَعنا فترتفع عَنهُ بعض العبودة ويخفف عَلَيْهِ فِي الضريبة فَإِذا زَادَت مُدَّة صحبته زيدت رفقا وعطفا وَإِذا وجد مِنْهُ تَخْلِيط وإساءة عمل فلطول صحبته لَا يمْنَع رفده ورفقه لإساءته فَإِذا شاخ وَكبر اعتقه احتشاما من بَيْعه والإساءة إِلَيْهِ
وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الله تَعَالَى يستحي من عَبده وَأمته أَن يشيبا فِي الْإِسْلَام فيعذبهما
فَفِي بُلُوغ الْعُمر أَرْبَعِينَ سنة استكمال الشَّبَاب واستجماع الْقُوَّة وَهُوَ عمر تَامّ وَلَا يزَال بعده فِي نُقْصَان وإدبار فَإِذا عَاشَ فِي الْإِسْلَام عمرا تَاما وَجب لَهُ من الْحُرْمَة مَا يدْفع عَنهُ الْآفَات الثَّلَاث الَّتِي لَا تقبل الدَّوَاء مِنْهُ من الدَّاء العضال وَوُجُود الْعَدو إِلَيْهِ سَبِيلا فِي أَخذ قلبه فَإِذا بلغ خمسين سنة وَهُوَ نصف الْمِائَة الَّتِي هِيَ أرذل الْعُمر الَّذِي يرفع عَنهُ الْحساب فَهُوَ على النّصْف من ذَلِك فَخفف عَنهُ حسابه ولين وحوسب حسابا يَسِيرا وخفة الْحساب فِي الدُّنْيَا أَن لَا يؤاخذه فِيهَا وَلَا ينْزع مِنْهُ الْبركَة وَلَا يحرمه ألطافه وَلَا يقصيه وَلَا يَخْذُلهُ وَمن قبل الْخمسين لم يسْتَوْجب هَذِه الْحُرْمَة فَإِذا بلغ سِتِّينَ سنة وَهُوَ عمر التَّذَكُّر والتوقف قَالَ صلى الله عليه وسلم إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نُودي أَبنَاء السِّتين {أولم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر}
فَإِذا عمر سِتِّينَ سنة فقد جَاءَ أَوَان التَّذَكُّر لِأَن الْأَرْبَعين مُنْتَهى استتمام الْقُوَّة فَإِذا جَاوز إِلَى سِتِّينَ فقد أَتَى عَلَيْهِ عشرُون سنة فِي النُّقْصَان وَهُوَ نصف الْأَرْبَعين الَّذِي هُوَ مُنْتَهى الْقُوَّة فقد افْتقدَ من نَفسه نصف الْقُوَّة فَلذَلِك صَار حجَّة عَلَيْهِ فَأوجب لَهُ حُرْمَة بِأَن رزقه الْإِنَابَة إِلَيْهِ فِيمَا يحب وَهُوَ التَّذَكُّر فَإِنَّهُ إِذا تذكر رزقه الْإِنَابَة إِلَيْهِ فِي الطَّاعَات وَلم يَخْذُلهُ حَتَّى يصير عمره وبالا وَحجَّة عَلَيْهِ فيعير بِهِ كَمَا يعير أهل النَّار قَالَ الله تَعَالَى أولم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر وَجَاءَكُم النذير فَذُوقُوا فَمَا للظالمين من نصير
وَإِذا بلغ سبعين سنة فقد عمر حقبا من الدَّهْر وَهُوَ سَبْعُونَ سنة وَهُوَ غَايَة وَقد يَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي الطول وَهُوَ مُنْتَهى أَعمار هَذِه الْأمة
قَالَ صلى الله عليه وسلم أقل أمتِي أَبنَاء السّبْعين وَقَالَ صلى الله عليه وسلم معترك المنايا مَا بَين السِّتين إِلَى السّبْعين
فَإِذا عمر فِي الْإِسْلَام سبعين سنة قَالَ هَذَا عبد قد كَانَ فِي عبودة مَوْلَاهُ حقبا لم يأبق مِنْهُ وَلم يتول حَتَّى مَاتَ فِي عبودته وَذهب شبابه وقوته فِي طَاعَته فَأوجب لَهُ محبته وأحبه أهل السَّمَاء فَإِنَّهُ يشهر حبه فيهم وَتَحْقِيق مَا ذكرنَا مَا روى وهب قَالَ مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة أَبنَاء الْأَرْبَعين زرع قد دنا حَصَاده ابناء الْخمسين هلموا إِلَى الْحساب لَا عذر لكم أَبنَاء السِّتين مَاذَا قدمتم وماذا أخرتم أَبنَاء السّبْعين مَاذَا تنتظرون أَلا لَيْت الْخلق لم يخلقوا فَإِذا خلقُوا علمُوا لماذا خلقُوا أَلا أتتكم السَّاعَة فَخُذُوا حذركُمْ
فَإِذا بلغ ثَمَانِينَ سنة قبلت حَسَنَاته وَتجَاوز الله تَعَالَى عَن سيئاته فَإِنَّهُ عمر ضعف الْعُمر فَإِن الْعُمر التَّام أَرْبَعُونَ ثمَّ عمر أَرْبَعِينَ أخر فِي نُقْصَان وإدبار فِي الْإِسْلَام فاستوجب أَن قبلت حَسَنَاته وَتجَاوز عَن سيئاته فَإِن الله تَعَالَى قَالَ فِي الاسْتقَامَة حَتَّى إِذا بلغ أشده وَبلغ أَرْبَعِينَ سنة قَالَ رب أوزعني إِلَى آخر الْآيَة وَقَالَ الله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين نتقبل عَنْهُم أحسن مَا عمِلُوا} إِلَى قَوْله {يوعدون} فَهَذَا لمن بلغ أَرْبَعِينَ سنة فِي الاسْتقَامَة
فَإِذا كَانَ مخلطا فعمر فِي الْإِسْلَام ضعف أَرْبَعِينَ أوجب لَهُ بِحرْمَة ذَلِك الْعُمر مَا يُوجب للمستقيم فِي وَقت الْأَرْبَعين
روى أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا بلغ الرجل من أمتِي ثَمَانِينَ سنة حرم الله جلده على النَّار وَإِذا بلغ تسعين سنة فقد أفند وفقد عقله وَكَانَ الْعقل حجَّة الله عَلَيْهِ فغفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه بِقطع هَذَا الْعُمر مُسلما وَمَا تَأَخّر بفقد عقله لِأَنَّهُ فِي أول مَا اجتباه ألْقى فِي قلبه نور الْمعرفَة فسبى قلبه عَلَيْهِ فَمَا زَالَ يستغله فيغل غَلَّته وَيُؤَدِّي خراجه حَتَّى إِذا شاخ وَكبر وَعجز عَن الْعلَّة وَذَهَبت الْقُوَّة وفقد الْعقل رفع عَنهُ الضريبة وَالْخَرَاج وتبعة الذَّنب فِيمَا بَقِي وَسمي أَسِير الله فِي الأَرْض لِأَنَّهُ فِي ربقة الايمان كأسير فِي وثاق لَا يقدر براحا قد عجز عَن أَعمال الْبر وَهُوَ فِي ربقة الاسلام فَإِذا بلغ مائَة سنة فقد رد إِلَى أرذل الْعُمر فَصَارَ كَالصَّبِيِّ فَبلغ من حرمته أَن يجْرِي لَهُ حَسَنَاته وَلم يكْتب عَلَيْهِ سيئاته لِأَنَّهُ قد بلي فَوجدَ صَادِقا فِي التَّوْحِيد لم يتَرَدَّد فِيهِ ودام عَلَيْهِ ناشئا فتيا وشابا طريا وكهلا سويا وبجالا بهيا وشيخا رَضِيا فَلَمَّا صَار إِلَى أرذل عمره عَاد إِلَى أَحْكَامه طفْلا وصبيا فَأجرى لَهُ مَا كَانَ يعْمل من الْحَسَنَات فِي سالف أَيَّامه وَرفع عَنهُ سيىء مَا يَجِيء مِنْهُ
قَالَ الله تَعَالَى {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم ثمَّ رددناه أَسْفَل سافلين} ثمَّ اسْتثْنى فَقَالَ إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فَلهم أجر غير ممنون أَي غير مَقْطُوع
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم غير ممنون مَا يكْتب لَهُم صَاحب الْيَمين فَإِن عمل خيرا كتب صَاحب الْيَمين وَإِن ضعف عَن ذَلِك كتب لَهُ صَاحب الْيَمين وَأمْسك صَاحب الشمَال فَلم يكْتب سَيِّئَة
-
الأَصْل الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي فضل ذَاكر الله فِي أهل الْغَفْلَة
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من دخل سوقا من أسواق الْمُسلمين فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيي وَيُمِيت وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوت بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ على كل شَيْء قدير كتب الله لَهُ ألف ألف حَسَنَة وحطت عَنهُ ألف ألف خَطِيئَة وَرفعت لَهُ ألف ألف دَرَجَة
هَذِه كَلِمَات يخرج بهَا العَبْد من حَال الْغَفْلَة وَإِنَّمَا خص بهَا الْأَسْوَاق لِأَن الْغَفْلَة مستولية على أَهلهَا وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى هُوَ الْمُعْطِي وَالْمَانِع والقابض والباسط والرازق بِيَدِهِ خَزَائِن الْأَشْيَاء ومفاتيح الْغَيْب فَمن قدر على شَيْء فبقدرته إِيَّاه قدر وَوضع الْأَشْيَاء فِي الْأَسْبَاب وَجعل الْأَسْبَاب من أَبْوَاب المكاسب ووجوه الأرزاق نصب أعين الْآدَمِيّين
فَأهل الْيَقِين بِنور بصائرهم نفذوا من الْأَسْبَاب إِلَى وَليهَا بِحَيْثُ لَا تقدر الْأَسْبَاب أَن تصير فتْنَة عَلَيْهِم فهم يعْملُونَ فِي الْأَسْبَاب مَعَ وَليهَا يزرعون وينتظرون رحمتن فَإِذا أزكى قَالُوا هَذَا من فضلك ورحمتك ويتجرون يَبْتَغُونَ الأرباح من فضل الله تَعَالَى فَإِذا تعذر عَلَيْهِم شَيْء سَأَلُوهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وابتغوا من فضل الله} واسألوا الله من فَضله
وَأهل الْغَفْلَة تعلّقت قُلُوبهم بالزراعات والحرف والتجارات وَمَا وضع لَهُم فِيهِ من التدبيرات فاليه ينظرُونَ وإياه يطْلبُونَ وَبِه يفتنون وَمن أَجله يعصون فالأسواق مَعْدن النوال ومظان الأرزاق وَهِي مملكة وَضعهَا الله تَعَالَى لأهل الدُّنْيَا يتداولون ملك الْأَشْيَاء فِيمَا بَينهم فترى الشَّيْء الْوَاحِد يَدُور ملكه فِي الْيَوْم الْوَاحِد على أَيدي المالكين مَرَّات وَالتَّدْبِير على المملكة الْأَعْلَى وَهِي الْعَرْش فملكة التداول فِي الْأَسْوَاق ومملكة تَدْبِير التداول هِيَ الْعَرْش والسوق رَحْمَة من الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ دبره معاشا لخلقه يدر عَلَيْهِم مِنْهَا حوائجهم لَيْلًا وَنَهَارًا وشتاء وصيفا ونقلا من بلد إِلَى بلد لتَكون الْأَشْيَاء كلهَا مَوْجُودَة فِي الْأَيْدِي عِنْد الْحَاجة إِلَيْهَا قَالَ تَعَالَى وَقدر فِيهَا أقواتها
وَجعل الذَّهَب وَالْفِضَّة أَثمَان كل شَيْء وَمَا سواهَا عرضا وَصرف أَرْزَاقهم إِلَى مثل هَذِه الأرباح وَصرف بِوُجُوهِهِمْ للطلب إِلَى مطَالب الْكسْب لتَكون الْأَسْوَاق قَائِمَة وَالتَّدْبِير جَارِيا والمعاش نظاما وَجعل الْحَرْف والصنائع بَعْضهَا مُتَعَلقَة بِالْبَعْضِ ينْتَفع هَذَا بصنعة ذَاك وَذَاكَ بصنعة هَذَا وَلَو لم يكن هَكَذَا لَكَانَ الْوَاحِد يحْتَاج إِلَى آلَة جَمِيع الْحَرْف وَإِلَى تعلم كل حِرْفَة فِي الأَرْض فيصيرون عجزة وأسواقهم
بصنوف مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مشحونة ثمَّ صيرهم يَبْتَغُونَ من فضل الله تَعَالَى فِي هَذِه الْأَشْيَاء بتغيير الأسعار فَإِن الله تَعَالَى هُوَ المسعر وَهُوَ الْقَابِض والباسط فبتغيير الأسعار يتناولون الأرباح ويدر عَلَيْهِم الشَّيْء بعد الشَّيْء وَيكون ذَلِك معاشا لَهُم تفضل الله تَعَالَى عَلَيْهِم بِهِ فَأهل الْغَفْلَة صيروا هَذِه الرَّحْمَة وبالا على أنفسهم بتعلق قُلُوبهم بالأسباب وغفلتهم عَن الْمُدبر لَهَا والسائق أَرْزَاقهم إِلَيْهِم من فَضله فالناطق بِهَذِهِ الْكَلِمَات بَين أُولَئِكَ الْغَفْلَة فِي هَذَا الْحَظ من ربه فتكتب لَهُ الْحَسَنَات وتمحى عَنهُ السَّيِّئَات وترفع لَهُ الدَّرَجَات
قَالَ صلى الله عليه وسلم ذَاكر الله فِي الغافلين كالشجرة الخضراء فِي السّنة الْحَمْرَاء
وَهَذَا لِأَن الْعَدو قد انتهز الفرصة من أهل الْأَسْوَاق لما رأى من أَحْوَالهم من حرصهم وشحهم ورغبتهم فِي الدُّنْيَا وصيرها عدَّة وسلاحا لفتنته فَدَخَلُوا أسواقهم وهم طالبون للمعاش وَالرَّغْبَة فيهم حَاصِلَة والحرص كامن فنصب كرسيه فِي وسط أسواقهم وركز رايته وَبث جُنُوده وَقَالَ دونكم من رجال مَاتَ أبوهم وأبوكم حَيّ فَمن بَين مطفف فِي كيل وطائش فِي ميزَان ومنفق سلْعَة بِالْحلف الْكَاذِب وَحمل عَلَيْهِم بجُنُوده حَملَة فَهَزَمَهُمْ عَن مقاومهم إِلَى المكاسب الرَّديئَة وإضاعة الصَّلَوَات وَمنع الْحُقُوق فَمَا داموا فِي هَذِه الْغَفْلَة على مثل هَذِه الْأَحْوَال فهم على خطر من رَبهم من نزُول الْعَذَاب وَتغَير الْأُمُور وَكَون الْأَحْدَاث فالذاكر فِيمَا بَينهم يرد سخط الله تَعَالَى ويطفىء ثَائِر غَضَبه لِأَن فِي كَلِمَاته هَذِه نسخا لتِلْك الْأَعْمَال قَالَ تَعَالَى وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض
فَيدْفَع عَن أهل الْغَفْلَة بالذاكرين وَعَن غير الْمُصَلِّي بالمصلين وَفِي
هَذِه الْكَلِمَات الَّتِي ذكرهَا صلى الله عليه وسلم نسخ لأفعال أهل السُّوق لِأَن قُلُوبهم قد وَله بَعْضهَا إِلَى بعض فِي النَّفْع والضر فَإِذا قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله كَانَ نسخا لوله قُلُوبهم وَإِذا قَالَ وَحده لَا شريك لَهُ يكون نسخا لما تعلّقت قُلُوبهم بَعْضهَا بِبَعْض فِي نوال أَو مَعْرُوف أَو رَجَاء نفع أَو خوف ضرّ وَقَوله لَهُ الْملك وَله الْحَمد نسخ لما يرَوْنَ من صنع أَيْديهم وتصرفهم فِي الْأُمُور بتحمل بَعضهم بذلك إِلَى بعض وَقَوله يحيي وَيُمِيت نسخ لحركاتهم وَمَا يرجون فِي أسواقهم للتبايع أحياهم حَتَّى انتشرت الحركات ويميتهم فَلَا يبْقى متحرك وَقَوله وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوت نفى عَنهُ مَا ينْسب إِلَى المخلوقين من الْمَوْت وَقَوله بِيَدِهِ الْخَيْر أَي هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي تطلبونها من الْخَيْر فِي الْأَسْوَاق وَهُوَ على كل شَيْء قدير
وَمثل أهل التَّخْلِيط والغفلة فِي الْأَسْوَاق كَمثل الذبان والهمج يجتمعن على مزبلة يتطايرن فِيهَا على ألوان القاذورات فيقعن على ضروب مَا هُنَاكَ فَعمد رجل إِلَى مكنسة ذَات شعوب وَقُوَّة فكنس هَذِه المزبلة فجرفها فِي الْوَادي فَإِذا الْبقْعَة نظيفة وصاحبها معجب بهَا فالناطق بِهَذِهِ الْكَلِمَات وجد أسواقا مشحونة بِالْكَذِبِ وَالْفُحْش والخيانة وَالظُّلم والعدوان والأيمان الكاذبة والمكاسب الرَّديئَة قد هَزَمَهُمْ الْعَدو وهم على شرف حريق ونزول عَذَاب فَنَطَقَ بِهَذِهِ الْكَلِمَات وَرمى بالمزابل فِي وَجه الْعَدو وطهر الْأَسْوَاق مِنْهُم وأطفأ نائره سخط الله تَعَالَى وَستر مساوىء أهل السُّوق وَنفى ظلمتهم وطهر أرجاسهم فاستوجب من الله تَعَالَى من الثَّوَاب مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
-
الأَصْل الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الموحد وَالصديق فِي النَّاس قَلِيل
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تَجِدُونَ النَّاس كَالْإِبِلِ الْمِائَة لَيْسَ فِيهَا رَاحِلَة أوليس فِيهَا إِلَّا رَاحِلَة
فالراحلة هِيَ الَّتِي قد ريضت وأدبت فسمحت بِالطَّاعَةِ وَتركت شرتها وسارت بزمامها وذلت لصَاحِبهَا وأعطت سَيرهَا وجادت بِنَفسِهَا وأعطت من نَفسهَا السّير فِي وَجههَا فَمَا زَالَ ذَلِك عَادَتهَا فِي الرجل ودأبها فِي الانقياد وصاحبها يرعاها ويلي تأديبها ويتفقد أحوالها حَتَّى تمكنت عِنْده منزلَة وحظا حَتَّى صيرها نجيبة من نجائبه وكريمة من كرائم إبِله سَمْحَة لَا تحرن وكريمة لَا تجمح وجريئة لَا تنفر ووادعة لَا تشمس وساكنة لَا تضطرب إِذا حملت حملت
وَإِذا سَارَتْ استمرت وَإِذا حركت أَعْنَقت فصاحبها بأحوالها معجب وَبهَا ضنين لَا يملكهُ أحدا وَلَا يُطلق لغيره عَلَيْهِ يدا حَتَّى يتَحَمَّل أثقال صَاحبه فَيكون من نجائبه فَكَانَت كإحدى الْإِبِل الْمِائَة سَائِمَة ترعي فِي مظانها وَتذهب فِي مهواها يَمِينا وَشمَالًا لَا ينْتَفع بهَا برسل وَلَا حمولة فالواحد مِنْهَا ركُوبه وسائرها للْأَكْل قَالَ الله تَعَالَى وذللناها لَهُم فَمِنْهَا ركوبهم وَمِنْهَا يَأْكُلُون فَالَّذِي ذلل للرُّكُوب صَارَت رَاحِلَة وسائرها لحم
فَكَذَلِك النَّاس انتشروا على بسيط الأَرْض فربتهم نعم الْخَالِق وأظلتهم سحائب رَحمته واكتنفتهم رأفته وتولتهم نعْمَته ومنته فَإِذا ألجمت أحدهم بلجام الْحق أَو زممته بزمام الصَّبْر هز رَأسه ولوى عُنُقه فَرمى باللجام وجاذب بالزمام فَمر شاردا وَرمى بحمولته فَمن الْمِائَة لَا تَجِد فِيهَا رَاحِلَة وَاحِدَة عز أَن تَجِد نفسا سَمْحَة سخية منقادة مطيعة لِرَبِّهَا قد أَلْقَت بِيَدِهَا سلما وانخشعت لِعَظَمَة رَبهَا ووطنت نَفسهَا على العبودة فَلَا يزَال فِي عطف الله تَعَالَى وَرَحمته وتأييده ونصرته حَتَّى يصير ذَا حَظّ من ربه فبحظه مِنْهُ تنجب وتزكو نَفسه وتطيب أخلاقه وينشرح صَدره وتلين عروقه ويرطب قلبه ويألف ربه فَإِن رَحْله انْقَادَ وَإِن سيره سَار وَإِن عطفه انعطف وَإِن كبح بِهِ وقف وَإِن بَعثه انْبَعَثَ وَإِن حركه هملج أَو جمز وَإِن أوقره اسْتمرّ وان أنصبه احْتمل وَإِن خلى زمامه تفويضا إِلَيْهِ استقام فَهُوَ لرَبه أليف وربه بِهِ ضنين
قَالَ صلى الله عليه وسلم الله أضن بِدَم عَبده الْمُؤمن من أحدكُم بكريمة مَاله حَتَّى يقبضهُ على فرَاشه
وَقَالَ عليه السلام إِن لله تَعَالَى عبادا يضن بهم عَن الْأَمْرَاض والأسقام يحييهم فِي عَافِيَة ويميتهم فِي عَافِيَة ويدخلهم الْجنَّة فِي عَافِيَة
فالراحلة فِي الْإِبِل قَليلَة والنجيبة فِي الرَّوَاحِل قَليلَة فالموحدون فِي النَّاس قَلِيل والمستقيمون بلجام الله فِي سيرهم قَلِيل فِي الْمُوَحِّدين وَالصِّدِّيقُونَ فِي المستقيمين قَلِيل قَالَ الله تَعَالَى وَقَلِيل من عبَادي الشكُور
فالسابقون أهل الشُّكْر وَالْوَفَاء والمؤيدون بالمن وَالعطَاء والممتلئة قُلُوبهم من الْجلَال والبهاء وَالْعَظَمَة الآلاء
قَالَ صلى الله عليه وسلم طُوبَى للسابقين إِلَى ظلّ الله تَعَالَى قيل وَمن هم يَا رَسُول الله قَالَ الَّذين إِذا أعْطوا الْحق قبلوه وَإِذا سئلوا بذلوه وَالَّذين يحكمون للنَّاس بحكمهم لأَنْفُسِهِمْ
وَهَذِه صفة أهل القناعة فَإِنَّهُم استغنوا بِاللَّه تَعَالَى حَتَّى قنعوا بِمَا أعْطوا وَللَّه انقادوا وألقوا بِأَيْدِيهِم حَتَّى بذلوا الْحق إِذْ سئلوا وَإِلَى الله تَعَالَى أَقبلُوا حَتَّى عدل قُلُوبهم فصاروا أمناءه وحكامه فِي أرضه يحكمون للنَّاس بحكمهم لأَنْفُسِهِمْ قَالَ تَعَالَى فلنحيينه حَيَاة طيبَة ولنجزينهم أجرهم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ
وَفِي مُنَاجَاة مُوسَى عليه السلام يَا رب كَيفَ أصل رحمي وَقد تباعدوا عني فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا قَالَ يَا مُوسَى أحب
لَهُم مَا تحب لنَفسك وَلَا يُقَوي على ذَلِك إِلَّا عبد سقط عَن قلبه منزلَة نَفسه ومنزل دُنْيَاهُ وَلها عَنْهُمَا وشغف بمولاه فنبه من رقدة الغافلين فانتبه وأشرق فِي صَدره النُّور فَوقف بِقَلْبِه على جلال الله تَعَالَى وعظمته وعَلى جماله وبهائه وعَلى كبريائه وسلطانه فَصَارَت دُنْيَاهُ عِنْده أقل من جنَاح بعوضة وَصَارَت نَفسه عِنْده قَبْضَة من تُرَاب وَردت على قلبه من محبَّة الله تَعَالَى والحلاوة الَّتِي وجد لَهَا مَا أسكرته وألهته عَن محبَّة نَفسه ودنياه وَمَا يُؤمن بهَا إِلَّا كل مُؤمن قد إمتحن الله قلبه للْإيمَان وَقَلِيل مَا هم
قَالَ صلى الله عليه وسلم يَقُول (الله تَعَالَى يَا جبرئيل انسخ من قلب عَبدِي الْمُؤمن الْحَلَاوَة الَّتِي كَانَ يجدهَا لي) قَالَ فَيصير العَبْد الْمُؤمن والها طَالبا للَّذي كَانَ تعاهد من نَفسه وَنزلت بِهِ مُصِيبَة لم ينزل بِهِ مثلهَا قطّ فَإِذا نظر الله تَعَالَى إِلَيْهِ على تِلْكَ الْحَال قَالَ يَا جبرئيل (رد إِلَى قلب عَبدِي مَا نسخت مِنْهُ فقد إبتليته فَوَجَدته صَادِقا وسأمده من قبلي بِزِيَادَة)
فَهَذِهِ حلاوة الْمحبَّة من نالها فقد غلب على عقله وَصَارَت جَمِيع الْأَشْيَاء خولا لَهَا كمن وجد درهما فَأَحبهُ على قدره ثمَّ وجد دِينَارا فَأَحبهُ على قدره ثمَّ وجد جوهرا لَا يدْرِي مَا قِيمَته قد رق فِي عينه الدِّرْهَم وَالدِّينَار لاستغنائه بِهِ وانتفاعه بذلك أَكثر من الِاسْتِغْنَاء وَالِانْتِفَاع بهما وَإِذا فتح الله قلب الْمُؤمن وَنور صَدره وعرفه من صِفَاته مَا جَهله قبل ذَلِك علم أَن الْخَيْر كُله بيد الله تَعَالَى والنفع مِنْهُ كَانَ غناهُ بِاللَّه تَعَالَى أَكثر ورجاؤه مِنْهُ أعظم من الدِّينَار وَالدِّرْهَم فَإِن أحبه حبا يلهيه عَن حب الدِّرْهَم وَالدِّينَار فَلَيْسَ بعجيب بل هُوَ
المتمكن فِي الْعُقُول فَإِن من لَهُ بَيت مَمْلُوء من دَنَانِير فَلَو سقط مِنْهُ عشرَة مثلا لم يجد على قلبه حزنا عَلَيْهَا وَلَو أهدي إِلَيْهِ هَذَا الْقدر لم يفرح بهَا لاستغنائه بِتِلْكَ الدَّنَانِير فَإِذا كَانَت هَذِه الدَّنَانِير قد أغنته وفرحته فَرحا لَا يجده لحُصُول هَذِه الدَّرَاهِم القليلة فَرحا وَلَا لفواتها حزنا فَمَا ظَنك بِمن عرف الله تَعَالَى فِي جَلَاله وعظمته وَملكه وَعرف إحسانه إِلَيْهِ أَلا يكون غناهُ بِهِ وفرحه فَرحا لَا يجد لشَيْء من عرُوض دُنْيَاهُ فَرحا وَلَا يجد على فَوَاتهَا حزنا
روى أنس رضي الله عنه قَالَ بَيْنَمَا نَحن جُلُوس عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يطلع عَلَيْكُم الْآن رجل من أهل الْجنَّة فَأطلع رجل من الْأَنْصَار تنطف لحيته من مَاء وضوئِهِ مُعَلّق نَعله فِي يَده الشمَال فَلَمَّا كَانَ من الْغَد قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يطلع عَلَيْكُم الْآن رجل من أهل الْجنَّة فَأطلع ذَلِك الرجل على مثل مرتبَة الأولى فَلَمَّا كَانَ من الْغَد قَالَ صلى الله عليه وسلم مثل ذَلِك فَأطلع الرجل فَلَمَّا قَامَ اتبعهُ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رضي الله عنه فَقَالَ إِنِّي لاحيت لأبي فأقسمت أَن لَا أَدخل عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِن رَأَيْت أَن تؤويني إِلَيْك حَتَّى يحل يَمِيني فعلت قَالَ نعم فَإِذا لَهُ خيمة ونخل وشَاة فَلَمَّا أَمْسَى خرج من خيمته فاحتلب العنز واجتنى لي رطبَة ثمَّ وَضعه فَأكلت فَبَاتَ نَائِما وَبت قَائِما وَأصْبح مُفطرا وأصبحت صَائِما فَفعل ذَلِك ثَلَاث لَيَال غير أَنه كَانَ إِذا انْقَلب على فرَاشه ذكر الله تَعَالَى وَكبر حَتَّى يقوم لصَلَاة الْفجْر فيسبغ الْوضُوء غير أَنِّي لَا أسمعهُ يَقُول إِلَّا خيرا فَلَمَّا مَضَت اللَّيَالِي وكدت أحتقر عمله قلت يَا عبد الله إِنَّه لم يكن بيني وَبَين وَالِدي غضب وَلَا هِجْرَة وَلَكِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول لَك ثَلَاث مَرَّات فِي ثَلَاث مجَالِس
يطلع عَلَيْكُم الْآن رجل من أهل الْجنَّة فطلعت أَنْت تِلْكَ المرات الثَّلَاث فَأَرَدْت أَن آوي إِلَيْك فَأنْظر مَا عَمَلك فَأَخْبرنِي مَا عَمَلك قَالَ فأت الَّذِي أخْبرك حَتَّى يُخْبِرك بعملي فَأتيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ائته فمره فليخبرك فَقلت إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرك أَن تُخبرنِي قَالَ أما الْآن فَنعم لَو كَانَت الدُّنْيَا لي فَأخذت مني لم أَحْزَن عَلَيْهَا وَلَو أعطيتهَا لم أفرح بهَا وأبيت وَلَيْسَ على أحد فِي قلبِي غل وَلَا أحسده على خير أعطَاهُ الله إِيَّاه
قَالَ عبد الله لكني وَالله أقوم اللَّيْل وَأَصُوم النَّهَار وَلَو وهبت لي شَاة لفرحت بهَا وَلَو ذهبت لحزنت عَلَيْهَا وَالله لقد فضلك الله علينا فضلا بَينا وجماع الْأَمر فِي هَاتين الخصلتين سُقُوط منزلَة دنياك من قبلك وَسُقُوط منزلَة نَفسك عَن قَلْبك فَإِذا لم يكن لدنياك عنْدك قدر لم تفرح بِهِ وَلم تحزن عَلَيْهِ وَإِذا لم يكن لنَفسك عنْدك قدر لم تغل وَلم تحقد على من آذَاك
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم حِين سُئِلَ أَي الْمُؤمنِينَ أفضل قَالَ مخموم الْقلب صَدُوق اللِّسَان قَالُوا يَا رَسُول الله مَا مخموم الْقلب قَالَ التقي النقي لَا إِثْم فِيهِ وَلَا بغي وَلَا غل وَلَا حسد قَالُوا مَا نَعْرِف هَذَا فِينَا يَا رَسُول الله فَمن يَلِيهِ قَالَ الَّذين شنئوا الدُّنْيَا وأحبوا الْآخِرَة قَالُوا مَا نَعْرِف هَذَا فِينَا إِلَّا رَافع مولى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَمن يَلِيهِ قَالَ مُؤمن فِي خلق حسن
فالمخموم مُؤمن ولج النُّور قلبه فَأخْرج مَا فِيهِ من شَهْوَة النَّفس والخمامة قماش الْبَيْت وَمَا يكنس عَن وَجه الأَرْض فعز وجود هَذَا فِي وقتهم على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأبى الله أَن يكون ذَاك إِلَّا فِي خَاص من النَّاس قَلِيل فِي كل وَقت قَالَ تَعَالَى فِي التَّنْزِيل فِي
بَيَان المقربين السَّابِقين ثلة من الْأَوَّلين وَقَلِيل من الآخرين
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي كل قرن من أمتِي السَّابِقُونَ
وَقَوله صلى الله عليه وسلم النَّاس كَالْإِبِلِ الْمِائَة تَمْثِيل لِأَن الْإِبِل الْمِائَة هِيَ سَائِمَة ترعى مرعاها بهواها لَيْسَ على ظُهُورهَا حمولة وَلَا فِي أنفها أزمة ولاخطم فَهِيَ فِي استبدادها تعْمل مَا هويت فَإِن لم يكن لَهَا رَاع فكم من متردية فِي جرف هار وَكم من فريسة بَين أَنْيَاب السبَاع وَكم من آكِلَة دفلى تَمُوت آكلته وَآخر تَمُوت عطشا وَآخر تَمُوت جربا فالراعي يرعاهم المرعى ويجنبهم الدفلى ويذود عَنْهُم السبَاع ويعدل بهم عَن الجرف ويوردهم الْمِيَاه العذبة وَكَذَلِكَ النَّاس هم بِهَذِهِ الصّفة فالراحلة هُوَ الَّذِي رَحل نَفسه وراضها وجنبها سموم الدُّنْيَا وآفاتها وَقوم أخلاقها حَتَّى استقامت لله تَعَالَى فَصَارَت رَاحِلَة تركبها حُقُوق الله تَعَالَى فتنقاد لَهَا وَتحمل أثقال الْحُقُوق فتسير بهَا إِلَى الله تَعَالَى فَإِذا رَحل نَفسه وارتحل إِلَى الله تَعَالَى ثمَّ صَار رَاعيا يرْعَى عباده فيصلح للرعاية يجنبهم الْآفَات ويهديهم للهدايات ويوردهم الْمِيَاه العذبة وَهُوَ الْعلم الصافي بِلَا تَخْلِيط وَلَا كدورة ويعرفهم خداع الْعَدو ومراصده ومكامن النَّفس وَهُوَ فِي ذَلِك يحب أَن تكون أُمُورهم على وفَاق مَا بَين الله تَعَالَى لَهُم وعَلى محاب الله تَعَالَى وَلَا يكون كَذَلِك فَرُبمَا انتشرت الْإِبِل عَلَيْهِ فيضطرب فِي ذَلِك ويتلوى وَيقبل وَيُدبر احتيالا وتكلفا ويضيق صَدره بأمورهم فَهُوَ فِي جهد من ذَلِك لما يحب أَن تستوي أُمُورهم وتستقيم سيرتهم ويأبى الله إِلَّا أَن يكون كَمَا قدر حَتَّى إِذا فتح عَلَيْهِ بَاب النجباء الْكِرَام فأبصر
بذلك النُّور أَن هَذَا تَدْبيره لَهُم ومشيئته فيهم وَأَنه أعلم بِمَا يُرَاد لَهُم فَإِنَّمَا خلقهمْ من وَجه الأَرْض تربَتهَا مُخْتَلفَة وَأَن الْقُلُوب أوعية فِي أرضه يضع فِيهَا مَا أحب وَأَن الْعُقُول مقسومة بَين العبيد وَأَن الْأَخْلَاق لَهُم من الخزائن ممنوحة وَأَن الْأَنْوَار على مَا اختصه برحمته من بَينهم ممنونة وَأَن لَهُ من خلقه صفوة وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة وَأَن العبيد فُقَرَاء حَتَّى يغنيهم الله من فَضله غنى الْقلب وَأَن الْقُلُوب بِيَدِهِ يقلبها كَيفَ يَشَاء وَأَن الْهِدَايَة مِنْهُ {يهدي الله لنوره من يَشَاء} وَأَن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عوتب فِي ذَلِك حَتَّى قيل لَهُ وَإِن كَانَ كبر عَلَيْك إعراضهم الْآيَة وَقَوله تَعَالَى إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء
وَكَانَ ذَلِك بعد مُضِيّ السنين من النُّبُوَّة ثمَّ أدبه صلى الله عليه وسلم وَقَومه فَألْقى بِيَدِهِ سلما وذل لمَوْلَاهُ وَترك مَشِيئَته لمشيئته وراقب تَدْبيره فيهم فَصَارَ نجيبة من نجائبه يصونه مَوْلَاهُ عَن المكاره والآفات والبلايا والعاهات وَأثْنى عَلَيْهِ فَقَالَ وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم
قَالَت عَائِشَة رضي الله عنها كَانَ صلى الله عليه وسلم يرضى بِرِضَاهُ ويسخط بسخطه
-
الأَصْل الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي حَقِيقَة الْخُشُوع
عَن أم رُومَان وَالِدَة عَائِشَة رضي الله عنهما قَالَت رَآنِي أَبُو بكر أتميل فِي صَلَاتي فزجرني زَجْرَة كدت أنصرف من صَلَاتي ثمَّ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول إِذا قَامَ أحدكُم إِلَى الصَّلَاة فليسكن أَطْرَافه لَا يتميل تميل الْيَهُود فَإِن سُكُون الْأَطْرَاف من تَمام الصَّلَاة
فالوقوف فِي الصَّلَاة يَنْبَغِي أَن يكون وقُوف تذلل وتخشع والخشوع الْبَالِغ خشوع الْقلب قَالَ الله تَعَالَى {الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون}
وَقد يتخشع الرجل بأركانه وَلَيْسَ بخاشع فَإِن أَرَادَ بخشوعه ابْتِغَاء
وَجه الله تَعَالَى فَهُوَ مَحْمُود وعَلى ذَلِك مأجور وَإِن كَانَ لغير الله تَعَالَى فَهُوَ تماوت وَعَلِيهِ ممقوت
قَالَ صلى الله عليه وسلم تعوذوا بِاللَّه من خشوع النِّفَاق قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا خشوع النِّفَاق قَالَ خشوع الْبدن ونفاق الْقلب
وَمعنى ذَلِك أَن يتماوت وَيَرْمِي ببصره إِلَى الأَرْض تقربا وترائيا وَقَالَ صلى الله عليه وسلم حِين رأى رجلا يعبث بلحيته فِي صلَاته لَو خشع قلبه لخشع جوارحه
فالخشعة للقلب الَّذِي قد مَاتَت شهوات نَفسه فاطمأن لفراغه من النَّفس وفراغه من تكلفها وَأما تميل الْيَهُود فأصله أَن مُوسَى عليه السلام كَانَ إِذا قَرَأَ التَّوْرَاة على بني إِسْرَائِيل تلذذ بِمَا فِيهِ وهاجت مِنْهُ اللَّذَّة فَكَانَ يتمايل على قِرَاءَته كَالَّذي يضطرب على الشَّيْء يقرأه فخلت قُلُوب مَا بعده مِمَّا كَانَ يجده عليه السلام فاستعملوها من بعده على خراب الْقُلُوب وخلاء الْبَاطِن من ذَلِك
قَالَ مُوسَى عليه السلام يَوْم الْوِفَادَة إِن هدنا إِلَيْك أَي ملنا إِلَيْك وَهُوَ التَّوْبَة فَأخذُوا هَذَا من قَوْله وَجعلُوا يتهادون فِي صلَاتهم وَكَانَ مُوسَى عليه السلام هَبَط الْوَادي حِين أنس النَّار وَكَانَ نعلاه من جلد حمَار غير مزكى فَقيل لَهُ اخلع نعليك إِنَّك بالوادي الْمُقَدّس فَأخذُوا هَذَا من فعله وَإِذا صلوا خلعوا نعَالهمْ فَأمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم باهدار هَذِه الْأَفْعَال وَقَالَ سكنوا أطرافكم فِي الصَّلَاة وَقَالَ فِي حَدِيث آخر صلوا فِي نعالكم وَلَا تشبهوا باليهود
وَكَانَ مُوسَى عليه السلام يُعَامل بني إِسْرَائِيل على ظَاهر الْأُمُور لقلَّة مَا فِي باطنهم فَكَانَ يهيب الْأُمُور ويعظمها فِي الظَّاهِر لَهُم ويكتفي لنَفسِهِ بِمَا فِي بَاطِنه عليه السلام حَتَّى أَن بني إِسْرَائِيل لَا تعظم التَّوْرَاة فَأوحى إِلَيْهِ أَن هَذِه التَّوْرَاة صَارَت فِي حجور بني إِسْرَائِيل وَلَا تكَاد تعظمها فَحلهَا بِذَهَب لم تمسه يَد الْآدَمِيّين فأنزلت عَلَيْهِ الكيمياء فَعلمه فَعمد إِلَى اسماء تِلْكَ الْأَدْوِيَة والعقاقير ففرقها ثَلَاثَة أَجزَاء فَأعْطى جُزْءا مِنْهَا هَارُون عليه السلام وجزءا مِنْهَا يُوشَع عليه السلام وجزءا مِنْهَا قَارون ليأتوا بهَا من الْجبَال كي لَا يجْتَمع عِنْد أحدهم علمهَا فَيعْمل بهَا فَذهب قَارون فَقعدَ على طَرِيق هَارُون ويوشع عليهما السلام حِين رجعا من الْجبَال فاستدرجهما مختدعا لَهَا فَقَالَ لكل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَ أَمرك مُوسَى فَأخْبرهُ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالَّذِي أمره فأثبتهما عِنْده فضم على الجزئين إِلَى الْجُزْء الَّذِي عِنْده ثمَّ عمد إِلَى الصفر فأذابه وَألقى عَلَيْهِ فَأخذ يعْمل ذَلِك شهره ودهره حَتَّى اجْتمع لَهُ أَمْوَال كَانَت تحمل مَفَاتِيح كنوزه سَبْعُونَ بغلا قَالَ الله تَعَالَى وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز مَا إِن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي الْقُوَّة
ونافق فوعظ فَقيل لَهُ أحسن كَمَا أحسن الله إِلَيْك وَلَا تَبْغِ الْفساد فِي الأَرْض قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم عِنْدِي فَخسفَ الله بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض
وَكَانَ مُوسَى عليه السلام عمل هَذَا الذَّهَب وحلى التوارة بِهِ ثمَّ تَركه وَكَانَ يُعَامل أمته بِظَاهِر الْأُمُور فحلى باطنهم بتعظيم الله تَعَالَى وتعظيم كَلَامه فَأمرت هَذِه الْأمة بتسكين الْأَطْرَاف والخشوع
لِرَبِّهَا فِي الظَّاهِر للعامة وَفِي الْبَاطِن للخاصة قَالَ الله تَعَالَى {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون}
فَأهل الظَّاهِر يحفظون لحظات الْعُيُون عَن الِالْتِفَات يمنة ويسرة وجوارحهم عَن الحركات فِي غير مَا أمروا بِهِ وَأهل الْبَاطِن قد جاوزوا ذَلِك وحفظوا لحظات الْقُلُوب لِئَلَّا تلحظ أحدا سواهُ فَتكون قُلُوبهم منتصبة بَين يَدي الله تَعَالَى كَمَا انتصبت جوارحهم فِي الظَّاهِر وَذَلِكَ بِمَا ولج قُلُوبهم من عَظمَة الله تَعَالَى وجلاله فهابت واستقرت فِي تِلْكَ الهيبة لله تَعَالَى فَانْتفى عَنْهُم وساوس نُفُوسهم وَمن هَهُنَا مَا أنب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الوسوسة فَقَالَ هَكَذَا أخرجت عَظمَة الله تَعَالَى من قُلُوب بني إِسْرَائِيل حَتَّى شهِدت أبدانهم وَغَابَتْ قُلُوبهم لَا يقبل الله صَلَاة أمرىء لَا يشْهد فِيهَا قلبه مَا يشْهد بدنه وَإِن الرجل ليُصَلِّي الصَّلَاة وَمَا يكْتب لَهُ عشرهَا
-
الأَصْل السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي سر التَّحِيَّة بِالسَّلَامِ
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا تبدأوا بالْكلَام قبل السَّلَام وَمن بَدَأَكُمْ بالْكلَام قبل السَّلَام فَلَا تجيبوه
شَرط الله تَعَالَى مَعَ هَذِه الْأمة فِي دينهم أَن يَأْمَن بَعضهم بَعْضًا وَيسلم بَعضهم من بعض وَلذَلِك سماهم مُؤمنين مُسلمين والأسماء سمات الشَّيْء فَكل اسْم دَلِيل على صَاحبه ومشتق من مَعْنَاهُ والأسماء الْأَصْلِيَّة هِيَ الَّتِي جَاءَت من عِنْد الله تَعَالَى مثل يحيى قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا نبشرك بِغُلَام اسْمه يحيى لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا} أَي لم نجْعَل أحدا لَا يُذنب سواهُ لِأَن يحيى من الْحَيَاة وَقد أحيى الله تَعَالَى قلبه بِهِ فَلم يُذنب وَلم يهم بِهِ
قَالَ صلى الله عليه وسلم مَا من آدَمِيّ إِلَّا قد أَخطَأ أَو هم بخطيئة غير يحيى بن زَكَرِيَّا
وَمثل أَحْمد قَالَ الله تَعَالَى وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد
قَالَ صلى الله عليه وسلم أَعْطَيْت مَا لم يُعْط أحد سميت أَحْمد ونصرت بِالرُّعْبِ
فَكَذَلِك شَأْن هَذِه الْأمة والأمم فَإِن كل أمة تسمت باسم من تِلْقَاء نَفسهَا مثل الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس فولي الله تَعَالَى تَسْمِيَة هَذِه الْأمة فَقَالَ عز من قَائِل {هُوَ سَمَّاكُم الْمُسلمين من قبل} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الله سمى أمتِي فاشتق لَهَا اسْمَيْنِ من اسْمه وَهُوَ السَّلَام وَالْمُؤمن وَسَمَّاهُمْ مُسلمين ومؤمنين فاسم هَذِه الْأمة على الْحَقِيقَة الْأَصْلِيَّة الَّتِي علم آدم عليه السلام فَاقْتضى مِنْهَا وَفَاء هَذَا الِاسْم أَن يَأْمَن بَعضهم من بعض وَيسلم بَعضهم
من بعض قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة} وَقَالَ والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَقَالَ صلى الله عليه وسلم الْمُؤْمِنُونَ كَرجل وَاحِد
فَوضعت هَذَا التَّحِيَّة فِيمَا بَينهم كَرَامَة لَهُم فَأكْرم الله تَعَالَى هَذِه الْأمة بِأَن جعل تحيتهم على ألسنتهم أشرف القَوْل وأطيبها من قَوْله السَّلَام عَلَيْكُم وَكَانَ فِي بني إِسْرَائِيل إِذا لَقِي بَعضهم بَعْضًا ينحني لَهُ ويومىء بِرَأْسِهِ كَهَيئَةِ السُّجُود فَتلك تحيتهم
روى أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أعطي أمتِي ثَلَاثًا لم يُعْط أحد قبلهن السَّلَام وَهِي تَحِيَّة أهل الْجنَّة وصفوف الْمَلَائِكَة وآمين إِلَّا مَا كَانَ من مُوسَى وَهَارُون
وَإِنَّمَا جعل السَّلَام وَهُوَ اسْم من أَسْمَائِهِ مَوْضُوعا بَينهم ليَكُون أَمَانًا للعباد فِي الدَّم وَالْعرض وَالْمَال
قَالَ أَبُو بكر الصّديق رضي الله عنه السَّلَام أَمَان للعباد فِيمَا بَينهم
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم من بَدَأَ بِالسَّلَامِ فَهُوَ أولى بِاللَّه وبرسوله فَلَمَّا كَانَ هَذَا السَّلَام مأمن الْعباد فِيمَا بَينهم كَانَ من بَدَأَ بالْكلَام فقد ترك الْحق وَالْحُرْمَة فحقيق أَن لَا يُجَاب
-
الأَصْل السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي هم الْأَنْبِيَاء الثَّلَاث وتنزههم عَمَّا لَا يَلِيق
عَن أنس رضي الله عنه يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول إِن دَاوُد عليه السلام حِين نظر إِلَى الْمَرْأَة فهم بهَا قطع على بني إِسْرَائِيل بعثا وَأوصى صَاحب الْبَعْث فَقَالَ إِذا حضر الْعَدو فَقرب فلَانا بَين يَدي التابوت فَكَانَ ذَلِك التابوت فِي ذَلِك الزَّمَان يستنصر بِهِ فَمن قدم بَين يَدي التابوت لم يرجع حَتَّى يقتل أَو ينهزم عَنهُ الْجَيْش الَّذِي يُقَابله فَقدم فَقتل زوج الْمَرْأَة وَنزل الْملكَانِ على دَاوُد عليه السلام فقصا عَلَيْهِ الْقِصَّة فَفَزعَ مِنْهُم فَفطن دَاوُد عليه السلام فَسجدَ فَمَكثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَة سَاجِدا حَتَّى نبت الزَّرْع من دُمُوعه على رَأسه وأكلت الأَرْض جَبينه يَقُول فِي سُجُوده رب زل دَاوُد زلَّة أبعد مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب رب إِن لم ترحم ضعف دَاوُد وَتغْفر ذَنبه جعلت ذَنبه حَدِيثا فِي الخلوق من بعده قَالَ فَجَاءَهُ جِبْرِيل عليه السلام بعد أَرْبَعِينَ لَيْلَة فَقَالَ يَا دَاوُد إِن الله قد غفر لَك الْهم الَّذِي هَمَمْت بِهِ فَقَالَ لَهُ دَاوُد وَقد علمت أَن الله تَعَالَى قَادر على أَن يغْفر لي الَّذِي هَمَمْت بِهِ وَقد عرفت أَن الله تَعَالَى عدل لَا يمِيل فَكيف بفلان إِذا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة فَقَالَ يَا رب دمي الَّذِي عِنْد دَاوُد فَقَالَ لَهُ جبرئيل عليه السلام مَا سَأَلت رَبك ذَلِك وَلَئِن
شِئْت لَأَفْعَلَنَّ قَالَ نعم فعرج جبرئيل عليه السلام إِلَى السَّمَاء وَسجد دَاوُد عليه السلام فَمَكثَ مَا شَاءَ الله وَنزل فَقَالَ سَأَلت يَا دَاوُد عَن الَّذِي أرسلتني إِلَيْهِ فَقَالَ قل لداود إِن الله يجمعكما يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يَقُول لَهُ هَب لي دمك الَّذِي عِنْد دَاوُد فَقَالَ هُوَ لَك يَا رب فَنَقُول لَهُ فَإِن لَك الْجنَّة فالهم من الْأَوْلِيَاء وَالرسل عليهم السلام عَظِيم شَأْنه لِأَنَّهُ ميل عَن الله تَعَالَى فنسأله الْعِصْمَة فِي الحركات والسكنات إِنَّه قريب مُجيب
وَرُوِيَ أَن قَاضِيا فِي بني إِسْرَائِيل بلغ اجْتِهَاده أَن طلب إِلَى ربه أَن يَجْعَل بَينه وَبَينه علما إِذا هُوَ قضى بِالْحَقِّ عرف ذَلِك وَإِذا قصر عَن الْحق عرف ذَلِك فَقيل لَهُ ادخل مَنْزِلك ثمَّ مد يدك فِي جدارك ثمَّ أنظر كَيفَ تبلغ أصابعك من الْجِدَار فاخطط عِنْدهَا خطا وَكلما قُمْت من مجْلِس الْقَضَاء فامدد يدك إِلَيْهِ فَإنَّك مَتى كنت على الْحق ستبلغه وَإِن قصرت عَن الْحق قصر بك وَكَانَ يجْتَهد وَلَا يقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِذا قَامَ من مَجْلِسه يَأْتِي ذَلِك الْخط فَإِذا بلغه حمد الله وأفضى إِلَى كل مَا أحل الله لَهُ من أهل ومطعم ومشرب فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم وَهُوَ فِي مجْلِس الْقَضَاء أقبل إِلَيْهِ رجلَانِ يُريدَان أَن يختصما إِلَيْهِ وَكَانَ أَحدهمَا لَهُ صديق فَتحَرك قلبه عَلَيْهِ محبَّة أَن يكون الْحق لَهُ فَيَقْضِي لَهُ بِهِ فَلَمَّا أَن تكلما دَار الْحق على صَاحبه فَقضى عَلَيْهِ فَقَامَ من مَجْلِسه وَذهب إِلَى خطه وَمد يَده إِلَيْهِ فَإِذا الْخط قد شمر إِلَى السّقف وَإِذا هُوَ لَا يبلغهُ فَخر سَاجِدا وَهُوَ يَقُول يَا رب شَيْئا لم أتعمده وَلم أرده فبينه لي فَقيل لَهُ أتحسب أَن الله تَعَالَى لم يطلع على جور قَلْبك حَيْثُ أَحْبَبْت أَن يكون الْحق لصديقك فتقضي لَهُ قد أردته وأحببته وَلَكِن الله قد رد الْحق إِلَى أَهله وَأَنت لذَلِك كَارِه
وَعَن لَيْث رضي الله عنه قَالَ تقدم إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ
خصمان فأقامهما ثمَّ عادا ففصل بَينهمَا فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ تقدما إِلَيّ فَوجدت لأَحَدهمَا مَا لم أجد لصَاحبه فَكرِهت أَن أفصل بَينهمَا على ذَلِك ثمَّ عادا وَقد ذهب ذَلِك ففصلت
وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ اخْتصم إِلَيّ سُلَيْمَان عليه السلام فريقان أَحدهمَا من أهل امْرَأَته جَرَادَة وَكَانَ يُحِبهَا فهوى أَن يَقع الْقَضَاء لَهُ ثمَّ قضى بَينهمَا بِالْحَقِّ فَأَصَابَهُ الَّذِي أَصَابَهُ عُقُوبَة لذَلِك الْهوى
وَعَن سَالم مولى أبي جَعْفَر الْمَنْصُور قَالَ خرجنَا مَعَ أبي جَعْفَر إِلَى بَيت الْمُقَدّس فَلَمَّا دخل دمشق بعث إِلَى الْأَوْزَاعِيّ فَأَتَاهُ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حَدثنِي حسان بن عَطِيَّة عَن جدك ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض} ان ارْتَفع إِلَيْك خصمان فَكَانَ لَك فِي أَحدهمَا هوى فَلَا تشته فِي نَفسك الْحق لَهُ فيفلج على صَاحبه فأمحو اسْمك من نبوتي ثمَّ لَا تكون خليفتي
يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حَدثنِي حسان عَن جدك قَالَ من كره الْحق فقد كره الله لِأَن الله تَعَالَى هُوَ الْحق
يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حَدثنِي حسان عَن جدك فِي قَوْله تَعَالَى لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها قَالَ الصَّغِيرَة التبسم والكبيرة الضحك فَكيف بِمَا جنته الْأَيْدِي
فالهم بِمَا عدل عَن الْحق هُوَ ميل عَن الله تَعَالَى وإعراض وَقُلُوب الْأَنْبِيَاء عليه السلام معيار التَّوْحِيد وموازين الْأَعْمَال وحجج الله تَعَالَى على الْخَواص والهم همان هم عَارض لَا قَرَار لَهُ يَنْفِيه الْقلب
بيقظته ونباهته وطيبه ونزاهته ونسيم روحه وفسيح ساحته وَذَاكَ يعتري الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام وَذَاكَ مَرْفُوع عَنْهُم لِأَنَّهُ عَارض لَا يملكهُ وَلَا يتكلفه وَلم يكن فِيهِ حَرَكَة فِي ظَاهر وَلَا فِي بَاطِن وَإِنَّمَا أيد من الرّوح والسكينة وَالْيَقِين وهم آخر وَهُوَ هم عَارض لله تَعَالَى مَعَه مَشِيئَة وتدبير فِي أُمُوره والأنبياء والأولياء عليهم السلام بمعزل عَنهُ وَفِي انحطاط مِنْهُ وَإِنَّمَا يَعْتَرِيه الْعَامَّة فان ربوبيته قاهرة لجَمِيع مَا عِنْد هَذَا العَبْد من الْقُوَّة والتأييد فَإِذا هُوَ مخذول فَصَارَ همه عزما وَهُوَ عقد الْقلب وَصَارَ بذلك فِي ميل عَن الله تَعَالَى وَإِذا استعملوا هَذَا الْعَزْم فأخرجوه إِلَى الْأَركان فَعمِلت بِهِ جوارحهم وَقد بلي بالهم الأول ثَلَاثَة أَعْلَام فِي الأَرْض من الرُّسُل مُحَمَّد وَدَاوُد ويوسف صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ
أما يُوسُف عليه السلام فهم بهَا حَتَّى روى ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَنه قعد مِنْهَا مقْعد الرِّجَال فانفرج السّقف وتراءى لَهُ جبرئيل عليه السلام فِي صُورَة يَعْقُوب عاضا على إصبعه وَنُودِيَ يَا يُوسُف أتعمل عمل السُّفَهَاء وَأَنت مَكْتُوب فِي ديوَان الْأَنْبِيَاء فولى هَارِبا ثمَّ أوصلها تزويجا بَعْدَمَا نالته الْعقُوبَة بالهم من طول اللّّبْث فِي السجْن
عَن وهب رضي الله عنه قَالَ أَصَابَت امْرَأَة الْعَزِيز حَاجَة فَقيل لَهَا لَو أتيت يُوسُف فَسَأَلته فاستشارت النَّاس فِي ذَلِك فَقَالُوا لَا تفعلي فانا نَخَاف عَلَيْك قَالَت كلا إِنِّي لَا أَخَاف مِمَّن يخَاف الله تَعَالَى قَالَ فَدخلت عَلَيْهِ فرأته فِي ملكه فَقَالَت الْحَمد لله الَّذِي جعل العبيد ملوكا بِطَاعَتِهِ وَجعل الْمُلُوك عبيدا بمعصيته قَالَ فَقضى
جَمِيع حوائجها ثمَّ تزَوجهَا فَوَجَدَهَا بكرا فَقَالَ لَهَا أَلَيْسَ هَذَا أجمل مِمَّا أردْت قَالَت يَا نَبِي الله إِنِّي ابْتليت فِيك بِأَرْبَع كنت أجمل النَّاس كلهم وَكنت أَنا أجمل أهل زماني وَكنت بكرا وَكَانَ زَوجي عنينا
وَأما دَاوُد عليه السلام فَفتح من الْمِحْرَاب بَاب الكوة واطلع على تِلْكَ الْمَرْأَة فَوَقع فِي نَفسه شَأْنهَا وفتنتها فَلم يملك نَفسه حَتَّى وَجه إِلَيْهَا من يَوْمه ليضمها إِلَى نِسَائِهِ كي يسكن الهائج من نَفسه انتظارا لما يكون فَأَبت الْمَرْأَة فَمشى إِلَى بَابهَا فَمر بملكين يُنَاجِي أَحدهمَا صَاحبه وَهُوَ يَقُول لقد أكْرم الله إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق عَن مثل هَذَا الممشى وَمضى فَلم يعتصم حَتَّى وقف ببابها فَاسْتَفْتَحَ فَقَالَت من ذَا فَأَخْبرهَا فَقَالَت أعاذ الله دَاوُد من أَن يمشي هَذَا الممشى فَانْصَرف فَكتب إِلَى صَاحب بعث كَانَ زَوجهَا فِيهِ وَأمره أَن يقدم زَوجهَا فِي مِائَتي رجل من بني إِسْرَائِيل مَعَ تَابُوت السكينَة وَكَانَ من قدم مَعهَا لم يرجع حَتَّى يفتح عَلَيْهِ أَو يقتل فَتقدم فَقتل فَلَمَّا انْقَضتْ عدتهَا خطبهَا فَتَزَوجهَا فَلبث بذلك مَا شَاءَ الله فَلم يرعه إِلَّا وَقد تسور الخصمان عَلَيْهِ الْمِحْرَاب فَفَزعَ فقصا الْقِصَّة وعرجا فانكشف الغطاء عَن دَاوُد عليه السلام وخر لله سَاجِدا أَرْبَعِينَ صباحا حَتَّى نبت المرعى حول وَجهه وغمر رَأسه ثمَّ نُودي أجائع فتطعم أَو عَار فتكسى فَنحب نحبة هاج المرعى من حر جَوْفه فغفر لَهُ وَبشر بهَا فَقَالَ يَا رب هَذَا ذَنبي فِيمَا بيني وَبَيْنك قد غفرته فَكيف بفلان وَكَذَا رجلا من بني إِسْرَائِيل تركت أَوْلَادهم أيتاما ونساءهم أرامل قَالَ يَا دَاوُد لَا يجاوزني يَوْم الْقِيَامَة ظلم أمكنه مِنْك ثمَّ أستوهبك مِنْهُ بِثَوَاب الْجنَّة قَالَ يَا رب هَكَذَا تكون الْمَغْفِرَة الهنيئة ثمَّ قيل يَا
دَاوُد ارْفَعْ رَأسك فَذهب ليرْفَع رَأسه فَإِذا بِهِ قد نشب فِي الأَرْض فَأَتَاهُ جِبْرَائِيل عليه السلام فاقتلعه عَن وَجه الأَرْض كَمَا تقتلع عَن الشَّجَرَة صمغتها حَتَّى سَأَلَ ربه تَعَالَى أَن ينقش خَطِيئَة فِي كَفه فَكَانَ لَا يبسط كَفه لطعام وَلَا شراب إِلَّا رَآهَا فابكته
قَالَ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا مثل عَيْني دَاوُد مثل القربتين تنطفان المَاء لقد خدد الدُّمُوع فِي وَجه دَاوُد خديد المَاء فِي وَجه الأَرْض وَكَانَ من دُعَاء دَاوُد رب اغْفِر للخطائين لكَي تغْفر لداود مَعَهم سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي خرجت أسأَل أطباء عِبَادك أَن يداووا لي خطيئتي فكلهم يدل عَلَيْك إلهي أَخْطَأت خَطِيئَة قد خفت أَن يَجْعَل حصادها عذابك يَوْم الْقِيَامَة إِن لم تغفرها سُبْحَانَ خَالق النُّور إلهي إِذا ذكرت خطيئتي ضَاقَتْ الأَرْض برحبها عَليّ وَإِذا ذكرت رحمتك إرتد إِلَيّ روحي
وَرُوِيَ أَنه كَانَ إِذا ذكرهَا انْحَلَّت مفاصله ثمَّ يذكر رَحْمَة الله تَعَالَى فَيرجع بأوصالها إِلَى مَكَانهَا
وَأما مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لما عاين زَيْنَب فَوَقع فِي نَفسه شَأْنهَا وَذَلِكَ أَنه أبصرهَا قَائِمَة فِي صحن الدَّار فِي درع وخمار أسود فَلَمَّا وَقعت فِي نَفسه فزع إِلَى الله تَعَالَى وَوضع يَده على وَجهه وَقَالَ سُبْحَانَ مُقَلِّب الْقُلُوب فنزهه تعوذا بالتنزيه وتغوثا بِالِاسْمِ الَّذِي مِنْهُ حدث على قلبه التقليب عَن أَن يقلبه بِمَشِيئَة تورثه غَدا الْحيَاء والعويل واضطراب الصَّوْت فِي الملكوت كَمَا أورث من قبله من إخوانه عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وصيره ملْجأ ومفزعا وَاسْتعْمل التَّدْبِير الْمَوْضُوع بَين الْعباد أَن غض بَصَره وَمَال بِيَدِهِ على وَجهه ليَكُون لَهُ
فِي ذَلِك تمسكن وتضرع وانقياد ليرحمه وَيصرف عَنهُ الْفِتْنَة الَّتِي أحس بهَا فشكره على ذَلِك مَوْلَاهُ حَيْثُ فزع إِلَيْهِ وَلم يفزع إِلَى نهمة النَّفس وَلم يتدبر بالحيل الَّتِي توصله إِلَيْهَا
رُوِيَ فِي الْخَبَر أَنه أَمْسَى زيد فآوى إِلَى فرَاشه قَالَت زَيْنَب رضي الله عنها لم يستطعني زيد وَمَا امْتنع عَنهُ غير مَا مَنعه الله مني فَلَا يقدر عَليّ
وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن زيدا تورم ذَلِك مِنْهُ حِين أَرَادَ أَن يقربهَا فَعلم زيد بِمَا أخْبرته زَيْنَب من فعل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَوله حِين أبصرهَا وَصَارَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ إِن زَيْنَب تؤذيني وَلَا تاتي مَا أحب وَلَا تبر قسمي وَلَا تطيعني وَتفعل وَتفعل وَإِنِّي أُرِيد أَن أطلقها
فَقَالَ لَهُ أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله فَلم يزل زيد على عزمه الَّذِي عزم الله على قلبه فَكَمَا قلب قلب رَسُوله صلى الله عليه وسلم بهواها قلب قلب زيد حَتَّى يطلقهَا فَلَمَّا انْقَضتْ عدتهَا نزل الْقُرْآن بتزويجها مِنْهُ وَولي الله تَعَالَى تَزْوِيجهَا مِنْهُ على لِسَان الرّوح الْأمين فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَدخل عَلَيْهَا بِغَيْر إِذن وَكَانَ قبل نزُول الْآيَة قدم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْخطْبَة إِلَيْهَا وَوجه زيد بن حَارِثَة يعلمهَا ذَلِك فَدخل عَلَيْهَا وَهِي فِي مَسْجِدهَا فَذكر لَهَا حَاجَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَت حَتَّى أؤامر رَبِّي عز وجل فَنزلت قَوْله تَعَالَى {زَوَّجْنَاكهَا} فَهِيَ بعد فِي مؤامرتها وَزيد عِنْدهَا إِذْ دخل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِغَيْر إِذن فَقعدَ عِنْدهَا وتلا الْآيَة فخرت سَاجِدَة وَكَانَت تَفْخَر بذلك على نسَاء رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَتقول إِن الله أنكحني من الْعَرْش وَهُوَ وليي من دون الْخلق والسفير فِي ذَلِك جِبْرَائِيل
وَكَانَت تسامي عَائِشَة رضي الله عنها فِي الوسامة والحظ من
رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَت أَنا الَّذِي نزل تزويجي من السَّمَاء فَقَالَت عَائِشَة رضي الله عنها أَنا الَّذِي نزل عُذْري من السَّمَاء فِي كِتَابه حِين حَملَنِي ابْن الْمُعَطل على الرَّاحِلَة قَالَ الله تَعَالَى وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ أَي زيد بِالْعِتْقِ أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله وتخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه وتخشى النَّاس وَالله أَحَق أَن تخشاه الْآيَة
فعوتب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم والحبيب يحب عتاب الحبيب حَتَّى يَدُوم الصفاء وَيكون العتاب بدل الوجد
قَالَت عَائِشَة رضي الله عنها لَو أَن مُحَمَّدًا قدر على أَن يكتم شَيْئا من الْوَحْي لكَتم هَذِه الْآيَة
وَسبب العتاب على وَجْهَيْن
أَحدهمَا قَول ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما وتخفي فِي نَفسك الْحبّ لَهَا وطلاقه إِيَّاهَا وتزويجك بهَا وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يهوى أَن يخلي سَبِيلهَا وخشي قالة النَّاس وَذَلِكَ أَنه تبنى زيد بن حَارِثَة فَقَالَ المُنَافِقُونَ ينهانا عَن نسَاء أَبْنَائِنَا ويتزوج امْرَأَة ابْنه فخشي هَذِه القالة وقالوها من بعد تَزْوِيجه إِيَّاهَا فَنزلت قَوْله تَعَالَى {مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أحد من رجالكم} وَنزلت {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أقسط عِنْد الله}
إِنَّمَا جَاءَت المعاتبة من قبل أَنه قَالَ {أمسك عَلَيْك زَوجك} وَهُوَ يُحِبهَا وَيَوَد فِي نَفسه أَن يطلقهَا وَقد كَانَ فِي الْغَيْب أَن سيطلقها ويبدي الله تَعَالَى مَا فِي نفس مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم إِذْ يُزَوّجهَا
الْوَجْه الثَّانِي مَا ذكره عَليّ بن الْحُسَيْن رضي الله عنهما وَهُوَ جَوْهَر من الْجَوَاهِر إِنَّمَا عتب الله تَعَالَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قد أعلمهُ أَن سَتَكُون هَذِه الْأمة من أَزوَاجك فَكيف قلت بعد هَذَا لزيد أمسك عَلَيْك زَوجك وأخذتك خشيَة النَّاس أَن يَقُولُوا تزوج امْرَأَة ابْنه وَالله أَحَق أَن تخشاه فتراقب أمره وتدبيره فِيك وفيهَا فَتكون مِمَّن أطلق ذَلِك كي لَا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج فِي أَزوَاج أدعيائهم إِذا قضوا مِنْهُنَّ وطرا ثمَّ قَالَ مَا كَانَ على النَّبِي من حرج فِيمَا فرض الله لَهُ سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا
فرض الله مَا أعلمهُ أَن تكون زَيْنَب من أَزوَاجه وَذَلِكَ سنة الله تَعَالَى فِي دَاوُد عليه السلام حَتَّى جمع بَينه وَبَين تِلْكَ الْمَرْأَة وَكَانَ ذَلِك قدرا مَقْدُورًا على دَاوُد عليه السلام أَن يكون الْجمع بَينهمَا على تِلْكَ الْجِهَة وَيغْفر لَهُ وَيضمن عَنهُ تَبعته لخصمه
-
الأَصْل الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي الثَّلَاثَة الَّتِي تَحت الْعَرْش
عَن الْحُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَة تَحت الْعَرْش الْقُرْآن لَهُ ظهر وبطن يحاج الْعباد وَالرحم تنادي صل من وصلني واقطع من قطعني وَالْأَمَانَة ظهر وبطن فالظهر يحاج الْعَامَّة والبطن يحاج الْخَاصَّة
وَهَذَا لِأَن الْأمة على صنفين أهل يَقِين وَأهل علم فَأهل الْعلم صنفان مخلط وَهُوَ الظَّالِم ظلم نَفسه وَالْحق عز وجل وَمَلَائِكَته والأنبياء صلى الله عليه وسلم فَإِن الله تَعَالَى بعث بِالْحَقِّ على أَيدي الْمَلَائِكَة على أَلْسِنَة الرُّسُل عليهم السلام فَإِذا أخل بذلك سمي ظَالِما ومستقيم وَهُوَ المقتصد
وَأما أهل الْيَقِين وهم السَّابِقُونَ الْأَوْلِيَاء المقربون فَظَاهر الْقُرْآن يحاج المقتصد فِي تَفْسِيره والظالم فِي تخليطه وباطن الْقُرْآن يحاج السَّابِقين
المقربين فِي تقصيرهم وخطراتهم وزلاتهم قَالَ الله تَعَالَى {اتَّقوا الله إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور}
فالظالم يَتَّقِي تخليطه حَتَّى لَا يدْخل فِي عمله شَيْء نهى الله عَنهُ والمقتصد قد فزع من التَّخْلِيط فَهُوَ يَتَّقِي أَن يشوبه عجب أَو رِيَاء أَو فَسَاد أَو خطأ وَالسَّابِق قد فرغ من هَذَا فَهُوَ يَتَّقِي الْأَسْبَاب والعلائق والاعتماد على شَيْء دونه وَيَتَّقِي الخطرات وَهَذَا كُله هُوَ التَّقْوَى وَلكنه يَتَّقِي كل صنف مِمَّا بَقِي عَلَيْهِ من التَّقْوَى فَإِن لم يفعل حاجه الْقُرْآن بِمَ بَقِي عَلَيْهِ
وَأما قَوْله الرَّحِم تنادي صل من وصلني واقطع من قطعني فالرحم لَهَا شَأْن عَظِيم قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الله تَعَالَى خلق الْخلق حَتَّى إِذا فرغ مِنْهُم قَامَت الرَّحِم فَأخذت بحقوي الرَّحْمَن فَقَالَ مَه قَالَت هَذَا مقَام العائذ من القطيعة قَالَ نعم أَلا ترْضينَ أَن أصل من وصلك وأقطع من قَطعك قَالَت بلَى قَالَ فَذَلِك لَك ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إقرؤا إِن شِئْتُم {فَهَل عسيتم إِن توليتم} الْآيَة
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ الله تَعَالَى للرحم خلقتك بيَدي وشققت لَك اسْما من اسْمِي
وَقربت مَكَانك مني وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لأصلن من وصلك ولأقطعن من قَطعك وَلَا أرْضى حَتَّى ترْضينَ
فخلق الله تَعَالَى الرأفة وَالرَّحْمَة يرؤف بهَا عباده وَيرْحَم بهَا عباده والرأفة غالبة على الرَّحْمَة وَلها سُلْطَان إِذا تحرّك علا كل شَيْء وَغلب وبدء الرأفة من رأفة الله تَعَالَى ورأفته من فَضله وَالْفضل من جماله فَهَذِهِ الرأفة الَّتِي خلقهَا يتراءفون ويتعاطفون وَبهَا يتراحمون ويتعاطفون فَقَامَتْ تناشد رَبهَا فقربها من رأفته وَبَين بَدو مَكَانهَا من أَيْن بداثم جعلهَا كالشجنة قد برزت إِلَى مَا دون الْعَرْش فَلَمَّا قربهَا جعل لَهَا السَّبِيل إِلَى الحقو فِي الْقرْبَة فشق لَهَا اسْما من اسْمه وَهُوَ الرَّحْمَن ثمَّ جعل لَهَا سُلْطَانا ممدودا من الحقو كالشجنة إِلَى مَا تَحت الْعَرْش فاستعاذت هُنَاكَ من القطيعة حَيْثُ أشارت من مقَامهَا فَقَالَ الله تَعَالَى لأصلن من وصلك أَي اصل واصلك بِهَذِهِ الرأفة مني وأقطع من هَذِه الرأفة من قَطعك فَيكون صَاحب القطيعة مَقْطُوعًا من رأفته قَالَ صلى الله عليه وسلم الرَّحِم معلقَة بالعرش
وَقَالَ فِي رِوَايَة ابْن عَمْرو رضي الله عنهما يَقُول الله عز وجل أَنا الرَّحْمَن وَهِي الرَّحِم جعلت لَهَا شجنة من وَصلهَا وصلته وَمن قطعهَا بنته لَهَا يَوْم الْقِيَامَة لِسَان طلق تقوم فِيمَا شَاءَت فقد
بَين أَنَّهَا الرأفة الَّتِي خلقهَا ثمَّ قَامَت مقَام العائذ إِلَى الحقو من القطيعة فَتلك شجنة ناتئة من الْعَرْش معلقَة مِنْهُ بهَا يتواصلون ويتقاطعون وحرقتها فِي الأجواف وَالرَّحْمَة هُنَاكَ ثمَّ هِيَ مقسومة بَين الْخلق فِيهَا يتراءفون وَبهَا يتعاطفون فَإِذا قطعهَا فقد انْقَطع من رأفة الله تَعَالَى فَلذَلِك يَجْعَل عُقُوبَته فِي الدُّنْيَا وَلذَلِك قيل أعجل الْبر ثَوابًا صلَة الرَّحِم فأسرع الشَّيْء عقَابا الْبَغي وَقَطِيعَة الرَّحِم وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى خلق الْإِنْسَان فَجعل الرأفة مِنْهُ فِي الطحال وَهُوَ فِي مَوضِع الحقو يجد الْآدَمِيّ مِنْهُ حرقة تصل إِلَى الْفُؤَاد فيعلمه وَهُوَ الَّذِي يُسمى بالعجمية مهر وَجعلهَا دَمًا فِي الطحال لَهُ حرارة ثمَّ جعل لَهَا فِي الْعُرُوق مجْرى مِنْهَا فصيرها فِي الْأَرْحَام جَارِيَة ليصلوها قَالَ صلى الله عليه وسلم إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يخلق النَّسمَة فغشى الرجل وَالْمَرْأَة أحضر كل رحم لَهُ ثمَّ قَرَأَ {فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك}
وَقَالَ فِي رِوَايَة ابْن بُرَيْدَة إِن رجلا من الْأَنْصَار ولدت لَهُ امْرَأَته غُلَاما حَبَشِيًّا أسود فَأخذ بيد امْرَأَته فاتى بهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَت وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لقد تزَوجنِي بكرا وَمَا أقعدت مَقْعَده أحدا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم صدقت إِن لَك تِسْعَة وَتِسْعين عرقا وَله مثل ذَلِك
فَإِذا كَانَ حِين الْوَلَد اضْطَرَبَتْ الْعُرُوق كلهَا لَيْسَ مِنْهَا عرق الا يسْأَل الله تَعَالَى أَن يَجْعَل ذَلِك الشّبَه بِهِ فَهَذِهِ عروق فِيهَا دِمَاء وَالرحم خلقتها من الْمَرْأَة كالكيس وَهِي عضلة وَعصب وعروق وَرَأس عصبها فِي الدِّمَاغ وَلها فَم بحذاء قبلهَا وَلها قرنان شبه الجناحين تجذب بهما النُّطْفَة لقبولها وَمن دَاخل فمها أَرْبَعَة أَفْوَاه إِلَى الرَّحِم فَإِن دخل النُّطْفَة من بَاب فولد وَإِن دخل من بَابَيْنِ فولدان وعَلى هَذَا وَهَذِه الدِّمَاء جَارِيَة من الْأَرْحَام إِلَى الْأَرْحَام منتقلة بَعْضهَا إِلَى بعض إِلَى
هَذِه الْعُرُوق فَأمروا بالصلة لهَذِهِ الدِّمَاء لِئَلَّا تَنْقَطِع
قَالَ صلى الله عليه وسلم بلوا أَرْحَامكُم وَلَو بِالسَّلَامِ فَإِن الدَّم إِذا يَبِسَتْ تقطعت فتبل حَتَّى لَا تَنْقَطِع وبللها من السَّلَام والزيارة والعطية
وَقَوله صلى الله عليه وسلم الْأَمَانَة تَحت الْعَرْش فالأمانة معلقَة بِالْإِيمَان
قَالَ صلى الله عليه وسلم لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ
وَإِنَّمَا آمن ليأمن الْخلق جوره فَإِن الله تَعَالَى عدل لَا يجور وبدؤه من عدله فَهُوَ مُعَلّق تَحت الْعَرْش فَهَذِهِ الثَّلَاث تَحت الْعَرْش الْقُرْآن وَهُوَ كَلَامه وَالرحم وَهِي رأفته وَالْأَمَانَة وَهِي أَمَانَته
-
الأَصْل التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْكَلَام عَلَيْك لَا لَك وضروبه
عَن أم حَبِيبَة رضي الله عنها قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَلَام ابْن آدم كُله عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا أمرا بِالْمَعْرُوفِ أَو نهيا عَن منكرأو ذكرا لله تَعَالَى
فاللسان ترجمان الْقلب يعبر عَمَّا فِي الْقلب من الْعلم فَيَرْمِي بِهِ إِلَى الأسماع فيولج الْقلب إِن خيرا فَخير وَإِن شرا فشر قَالَ صلى الله عليه وسلم الأذنان قمع
قَالَ كَعْب لعَائِشَة رضي الله عنها فِي نعت الْإِنْسَان قَالَ عَيناهُ هاد وأذناه قمع وَلسَانه ترجمان وَرجلَاهُ بريد وكبده رَحْمَة ورئتاه نفس وطحاله ضحك وكلواتان مكر وَالْقلب ملك فَإِذا طَابَ الْملك
طابت جُنُوده وَإِذا فسد الْملك فَسدتْ جُنُوده قَالَت هَكَذَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ينعَت
وَالْكَلَام على ضروب مِنْهَا مَا يخلص للآخرة ويصفو فَذَاك مَنْدُوب إِلَيْهِ مَوْعُود عَلَيْهِ خير وَمِنْهَا مَا يخلص للدنيا وَلَا نصيب للآخرة فِيهِ فَذَلِك مزجور عَنهُ مَوْعُود عَلَيْهِ الوبال والعقوبة وَمِنْهَا مَا يتجارى النَّاس فِيمَا بَينهم فِي أَمر معاشهم مِمَّا لَا بُد مِنْهُ فِي الْأَخْذ والإعطاء فِي تصرفهم وأحوالهم فَذَاك مَأْذُون لَهُ فِيهِ والحساب من وَرَائه وَالنَّاس فِي أَمر دينهم على ضَرْبَيْنِ فَضرب مِنْهُم يعاملون الله تَعَالَى على الْوَظَائِف كعبيد الْغلَّة يؤدون الْغلَّة وَمَا بَقِي فَهُوَ لَهُم فقد خلى بَينهم وَبَين ذَلِك ثمَّ هم فِي تصرفهم وأحوالهم يدبرون لأَنْفُسِهِمْ ويهتمون لَهَا ويكدون ويسعون لنوائبهم وينفقون على أنفسهم وعيالهم مشاغيل الْقُلُوب والأبدان متعبون بذلك فهم على تَدْبِير أنفسهم يمضون وباختيارهم الْأُمُور يعْملُونَ وغموم ذَلِك متراكم على قُلُوبهم يَحْتَاجُونَ إِلَى توفير الْغلَّة على الْمولى وتدبير معاشهم وَمَرَمَّة أُمُور عِيَالهمْ فَهَكَذَا من يُعَامل الله تَعَالَى على هَذَا السَّبِيل عهد إِلَيْهِ ربه عز وجل من اداء فَرَائِضه وَاجْتنَاب مَحَارمه فِي الْجَوَارِح السَّبع من جسده وَفِي مَاله ووعده على ذَلِك الْجنَّة وعَلى تضييعه أوعد النَّار قَالَ الله تَعَالَى أَوْفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون
فَهُوَ يقطع عمره بِهَذَا وَيَقْتَضِي مِنْهُ الثَّوَاب غَدا فَإِذا قدم على ربه عز وجل حَاسبه وَحصل أُمُوره وَبلا سرائره فَإِذا وجده قد وفر حُقُوقه فِيمَا عهد إِلَيْهِ أعْتقهُ من رق الْعُبُودِيَّة وَمكن لَهُ فِي جواره مَا يكون لَهُ جَزَاء لسعيه ووفاء لكده فَهَؤُلَاءِ إِن نطقوا بِإِذْنِهِ ينطقون فَمَا صفا للآخرة فلرجاء ثَوَابه الَّذِي وعد وَمَا كَانَ للمعاش ومتصرف
الْأُمُور فِيمَا أذن لَهُم فِيهِ وقفُوا لِلْحسابِ فَذَاك عَلَيْهِ لَا لَهُ حَتَّى يتَخَلَّص مِنْهُ فَإِن تخلص مِنْهُ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ فَنعم مَا يتَخَلَّص مَعَ أَنه لَا يَنْفَكّ مَعَ الْخَلَاص من حسرة موجعة للقلب مفجعة للنَّفس إِذْ يرى أَكثر عمره قد أهدره وأبطله فَإِن أهل الْغَفْلَة حظهم من أعمارهم يَوْم الْقِيَامَة السَّاعَات الَّتِي كَانُوا فِي أُمُور آخرتهم من أَعمال الْبر وَسَائِر ذَلِك هدر وَإِنَّمَا يثابون على أَعمال الْبر لأَنهم عملوها على ذكر الاخرة فَأَما مَا عملوها على الْعَادة والشهوة وحظ النَّفس فَلَا نِيَّة لَهُم وَلَا حسبَة فَهُوَ بطال غافل ينْكَشف لَهُ الغطاء يَوْم الْحَسْرَة والندامة قَالَ تَعَالَى وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة إِذْ قضي الْأَمر وهم فِي غَفلَة
فَهَؤُلَاءِ إِن نطقوا فَعَن علومهم وعقولهم ينطقون وَإِن صمتوا فَفِي أَحْوَالهم يتفكرون وإياهم يذكرُونَ وبدنياهم يشتغلون وَفِي منامهم وشهواتهم يرتاحون وَهَذَا صفة هَؤُلَاءِ المستورين المعروفين عِنْد الْعَامَّة بأعمال الْبر وبالعدالة وَالصَّلَاح والرئاسة وَالْعلم فَإِنَّهُم قد رَضوا من حظهم بِمَا نالوا من مرفق النَّفس والوصول إِلَى النهمة وَرَضوا من دينهم بِهَذِهِ الْأَعْمَال الَّتِي تستروا بهَا ليحمدوا عِنْد الْخلق بذلك وَلَا تلحظ قُلُوبهم إِلَى مَالك الْملك الَّذِي يراهم على هَذِه الصّفة حَتَّى يستحيوا مِنْهُ
وَأما الضَّرْب الآخر فهم يعاملون الله تَعَالَى على العبودة كعبيد الْخدمَة انتبهوا من رقدة الغافلين فدبروا لأَنْفُسِهِمْ أمرا علمُوا أَنه قد مضى التَّدْبِير من قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وأثبته فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فائتمنوه على أنفسهم وألقوا بِأَيْدِيهِم سلما وفوضوا أُمُورهم إِلَيْهِ وشغلهم جَلَاله وجماله وعظمته ومجده عَن أَن يتفرغوا لأَنْفُسِهِمْ فيفكروا ويدبروا لَهَا
أَو يهتموا لرزق أَو يهربوا من حكم أَو يتخيروا عَلَيْهِ فِي شَيْء من الْأَحْوَال عزا وذلا وفقرا وغنى وَصِحَّة وسقما ومحبوبا ومكروها وَقد وقفُوا بقلوبهم بَين يَدَيْهِ ناظرين إِلَى جَلَاله مبهوتين فِي جماله منفردين بوحدانيته مُتَعَلقين بكرمه ينتظرون رزقه ويراقبون تَدْبيره ويتوخون من الْأُمُور محابه وآذانهم مصيخة إِلَى دَعوته مَتى يدعونَ فيجيبون فَكَلَام هَؤُلَاءِ فِي الْمَنْدُوب إِلَيْهِ مِمَّا صفا للآخرة وَفِي الْمَأْذُون لَهُم مِمَّا يجارى بَين أهل المعاش فِي أَحْوَالهم قد صَارُوا شَيْئا وَاحِدًا لأَنهم لَهُ وَفِي خدمته وأموره فَإِن نطقوا فَعَنْهُ ينطقون وَإِن صمتوا فإياه يذكرُونَ وَبِه يشتغلون وَفِي نَجوَاهُ يرتاحون
وَقَوله صلى الله عليه وسلم كَلَام ابْن آدم كُله عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا هَذِه الْخِصَال أَرَادَ بذلك الضَّرْب الأول وَأما الضَّرْب الثَّانِي فهم أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وخاصة عبيده فهم أُمَنَاء الله تَعَالَى وخدمه فأعمالهم ومتقلبهم كلهَا لَهُ فَلَا تبعة عَلَيْهِم فِي ذَلِك
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم حِكَايَة عَن الله تَعَالَى إِذا أَحْبَبْت عَبدِي كنت سَمعه وبصره وَلسَانه فَبِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي ينْطق وَبِي يعقل
فَإِذا كَانَ مِمَّن بِهِ ينْطق إِذا نطق فَكيف يكون عَلَيْهِ فِي ذَلِك تبعة
-
الأَصْل الْمِائَة وَالْخَمْسُونَ
-
فِي أَن من غير الْحق من الْعلمَاء يمسخ وسر مَا يمسخون بِهِ
عَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تكون فِي أمتِي فزعة فَيصير النَّاس إِلَى عُلَمَائهمْ فَإِذا هم قردة وَخَنَازِير
فالمسخ تَغْيِير الْخلقَة وَإِنَّمَا حل بهم المسخ لأَنهم غيروا الْحق عَن جِهَته وحرفوا الْكَلَام عَن مَوْضِعه فمسخوا قُلُوب الْخلق وأعينهم عَن رُؤْيَة الْحق فمسخ الله تَعَالَى صورهم وَبدل خلقتهمْ كَمَا بدلُوا الْحق بَاطِلا فعلماء السوء على ضَرْبَيْنِ مِنْهُم مكب على حطام الدُّنْيَا لَا يمل من جمعه فتراه شهره ودهره يتقلب فِي ذَلِك كالخنزير على الْمَزَابِل يصير من عذرة إِلَى عذرة قد أَخذ بِقَلْبِه دُنْيَاهُ وألزمه خوف الْفقر وألهجه باتخاذه عدَّة للنوائب لَا يتفكر عَلَيْهِ تقلب أحوالها وَلَا يتَأَذَّى بِسوء رائحتها قد احتشمت من الْحَرَام ووسخت حلالها من تراكم الشَّهَوَات فأفعال هَذَا الضَّرْب واكبابه على هَذِه الْمَزَابِل كإكباب الْخَنَازِير فَإِذا حلت السخطة مسخوا هَؤُلَاءِ فِي صُورَة الْخَنَازِير إِن جوز المسخ فِي هَذِه الْأمة وَإِن لم يجوز ذَلِك فَيحمل على أَن مَعْنَاهُ معنى الْخَنَازِير وَالضَّرْب الثَّانِي هم أهل تصنع وتراء ومخادعة وتزين
للمخلوقين شحا على رئاستهم يتبعُون الشَّهَوَات ويلتقطون الرَّفْض ويخلون بِسوء السريرة ويخادعون الله بالحيل فِي أُمُورهم دينهم المداهنة وَسَاكن قُلُوبهم المنى وطمأنينتهم إِلَى الدُّنْيَا وركونهم إِلَى أَسبَابهَا رَضوا من هَذَا كُله بالْقَوْل دون الْفِعْل فَلَمَّا حلت السخطة مسخوا قردة فَإِن من شَأْن القردة المداهنة واللعب والبطالة وَمن شَأْن الْخِنْزِير الإكباب على الْمَزَابِل والعذرات
-
الأَصْل الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي ضروب الْبكاء وَهِي عشرَة
عَن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنِّي قارىء عَلَيْكُم سُورَة الهاكم فَمن بَكَى فَلهُ الْجنَّة فَقَرَأَ فمنا من بَكَى وَمنا من لم يبك فَقَالَ الَّذين لم يبكوا قد جهدنا يَا رَسُول الله أَن نبكي فَلم نقدر عَلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي قَارِئهَا عَلَيْكُم الثَّانِيَة فَمن بَكَى فَلهُ الْجنَّة وَمن لم يقدر أَن يبكي فليتباك
الْبكاء على ضروب وينشأ من أَسبَاب مُخْتَلفَة
بكاء من فجعة النَّفس وَهُوَ بكاء مصائب النَّفس يهان وَيضْرب وَيظْلم فِي نَفسه وَمَاله فيبكي ويتولد مِنْهُ صداع الرَّأْس وَضعف الْبَصَر
وبكاء الخدعة وَهُوَ بكاء اللُّصُوص يَبْكُونَ وَالسَّرِقَة فِي أحضانهم لَا يفارقونها وتورث مِنْهُ الْقَسْوَة والمقت
وبكاء المباعدة وَهُوَ بكاء النِّسَاء وَهُوَ يُورث الفترة
وبكاء خوف الْوَعيد وَهُوَ بكاء من آمن بوعيد الله تَعَالَى فرق قلبه بفجعة النَّفس وَهُوَ يُوجب الْجنَّة ونزول الرَّحْمَة
وبكاء الْحزن وَهُوَ من المراقبة وَهُوَ أَن يعلم أَنه لَا يكون إِلَّا مَا شَاءَ الله تَعَالَى وَقد شخصت آماله نَحوه وَلَا يصل إِلَى ذَلِك فلفقد مَا يأمل تَأْخُذهُ الأحزان وَهَذَا الْبكاء يُورث نورا فِي الْقلب
وبكاء الْفَرح وَهُوَ لوجدان مَا يأمل وَيُورث الطُّمَأْنِينَة والثقة وَحسن الظَّن بِهِ
وبكاء الخشية فَمن الْعلم بِاللَّه عز وجل وَوُجُود السَّبِيل إِلَى الْقرْبَة رق قلبه من الرَّحْمَة الَّتِي قرب قلبه مِنْهَا وَيُورث الْخُشُوع
وبكاء الشوق وَهُوَ يُورث الْقرْبَة
وبكاء الحنين إِذا تَحَنن الله تَعَالَى على عبد وَقسم لَهُ الْحَظ من اسْمه الحنان فرأفته مظلة عَلَيْهِ تكتنفه وتحوطه فتثير الْبكاء مِنْهُ من سابغ الرأفة وَهَذَا الْبكاء يُورث الدنو والعطف والشفقة
وبكاء القبضة وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ الدنو فَهُوَ الَّذِي أبكاه قَالَ الله تَعَالَى وانه هُوَ أضْحك وأبكى
وَرَأى ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما رجلا يضْحك فِي جَنَازَة فَقَالَ هُوَ أضْحك وأبكى
قَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يذكر عَن ربه تَعَالَى أَنه قَالَ لمُوسَى عليه السلام أما البكاءون من خَشْيَتِي فَلهم الرفيق الْأَعْلَى لَا يشركهم فِيهِ أحد
وَقَالَ خَالِد بن معدان رضي الله عنه مَا بَكَى عبد من خشيَة
الله تَعَالَى إِلَّا خَشَعت لذَلِك جوراحه وَكَانَ مَكْتُوبًا فِي الْمَلأ الْأَعْلَى باسمه فلَان بن فلَان منور قلبه بِذكر الله تَعَالَى
وَعَن مَالك بن دِينَار رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول الباكي من خشيَة الله تَعَالَى تهتز لَهُ الْبِقَاع الَّتِي يبكي عِنْدهَا وتغمره الرَّحْمَة مَا دَامَ باكيا
وَقَالَ عمر بن ذَر رَحمَه الله تَعَالَى إِن الْبكاء من خشيَة الله يُبدل بِكُل قَطْرَة أَو دمعة تخرج من عَيْنَيْهِ أَمْثَال الْجبَال من النُّور فِي قلبه وَيُزَاد فِي قوته من الْعَمَل ويطفىء بِتِلْكَ المدامع بحورا من النَّار
وَعَن مفضل بن مهلل قَالَ أَن العَبْد إِذا بكي من خشيَة الله تَعَالَى ملئت جوارحه نورا وإستبشرت ببكائه وتداعت بَعْضهَا بَعْضًا من هَذَا النُّور فَيُقَال هَذَا غشيكم من نورالبكاء
وَقَالَ فرقد السبخى رَحمَه الله تَعَالَى قَرَأت فِي بعض الْكتب أَن العَبْد إِذا بَكَى من خشيَة الله تَعَالَى تحاتت عَنهُ ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه وَلَو أَن عبدا جَاءَ بجبال الأَرْض ذنوبا وآثاما لوسعته الرَّحْمَة إِذا بَكَى وَإِذا بَكَى على الْجنَّة تشفع لَهُ الْجنَّة تَقول يَا رب أدخلهُ عَليّ كَمَا بَكَى عَليّ وَإِذا بَكَى خوفًا من النَّار فَالنَّار تستجير لَهُ من ربه تَقول يَا رب أجره مني وبكي خوفًا من دخولي
وَعَن كَعْب رضي الله عنه قَالَ من بَكَى خوفًا لله تَعَالَى من ذَنْب غفر لَهُ ذَلِك الذَّنب وَمن بَكَى اشتياقا إِلَى الله تَعَالَى أَبَاحَهُ الله تَعَالَى النّظر إِلَيْهِ مَتى شَاءَ
وَقَالَ الله تَعَالَى فِي بكاء الْحزن توَلّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أَلا يَجدوا مَا يُنْفقُونَ
وَقَالَ فِي بكاء الْفَرح وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق
وَبكى صلى الله عليه وسلم على ابْنه إِبْرَاهِيم فَقيل أَتَبْكِي يَا رَسُول الله قَالَ إِنَّمَا هَذِه رَحْمَة وَمن لَا يرحم لَا يرحم
وَأما حَدِيث جرير رضي الله عنه فقد خَاطب صلى الله عليه وسلم الْعَامَّة والمياسير وَقَرَأَ عَلَيْهِم التكاثر وَالسُّؤَال عَن النَّعيم وَفِيه وَعِيد على أثر وَعِيد فخوف الْوَعيد أبكاهم فَقَالَ من بَكَى فَلهُ الْجنَّة قَالَ تَعَالَى ذَلِك لمن خَافَ مقَامي وَخَافَ وَعِيد
وَقَوله صلى الله عليه وسلم فليتباك أَي يتَمَثَّل لرَبه فِي صُورَة الْبكاء حَتَّى يلْحقهُ بهم فِي الثَّوَاب
وَأما بكاء السَّابِقين وبكاؤهم بكاء أهل الخشية والمشتاقين والمحزونين وبكاء من أبكى الله تَعَالَى وأضحكه وَهُوَ إِذا نظر إِلَى جَلَاله أبكاه وَإِذا نظر إِلَى جماله أضحكه وَمن وَرَاء هَذِه منزلَة أُخْرَى أشرف من هَذِه وَهُوَ بكاء الدنو فَتلك غَمَرَات الْقلب صَاحب هَذَا قلبه مُنْفَرد فِي وحدانيته فَإِذا أدناه أبكاه للرقة الَّتِي تحل بِهِ فَإِذا رَجَعَ إِلَى مرتبته هابه فقلص دمعه وانتشفت الهيبة رقته فيبس فَإِذا أدناه رق فَبكى فالدنو مِنْهُ بر لعَبْدِهِ فالبر يرقه ويبكيه قَالَ هَارُون
ابْن أبي زِيَاد رحمه الله إِن الْبكاء مَثَاقِيل لَو وزن بالمثقال الْوَاحِد مثل الْجبَال لرجح بِهِ الْبكاء وَإِن الدمعة لتخدر فتطفىء البحور من النَّار وَمَا بَكَى عبد لله مخلصا فِي مَلأ من الْمَلأ إِلَّا غفر لَهُم جَمِيعًا ببركة بكائه
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَو أَن عبدا بَكَى فِي أمة من الْأُمَم لأنجى الله تِلْكَ الْأمة من النَّار ببكاء ذَلِك العَبْد وَمَا من عمل إِلَّا لَهُ وزن وثواب إِلَّا الدمعة فَإِنَّهَا تطفىء بحورا من النَّار وَمَا اغرورقت عين بِمَائِهَا من خشيَة الله إِلَّا وَحرم الله جَسدهَا على النَّار وَإِن فاضت على خَدّه لم يرهق وَجهه قتر وَلَا ذلة
-
الأَصْل الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الشُّكْر اعْتِرَاف وَالصَّبْر بِالتَّسْلِيمِ
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا من نعْمَة وَإِن تقادم عهدها فيجددها العَبْد بِالْحَمْد إِلَّا جدد الله تَعَالَى لَهُ ثَوابًا وَمَا من مُصِيبَة وَإِن تقادم عهدها فيجدد لَهَا العَبْد الاسترجاع إِلَّا جدد الله لَهُ ثَوَابهَا وأجرها وَالشُّكْر على النِّعْمَة يُخَفف أثقالها وَالصَّبْر على الشدَّة يحرز لَك ثَمَرَتهَا
وَالشُّكْر معرفتك بِأَن هَذَا مِنْهُ فاداء فَرَائِضه وَحفظ الْجَوَارِح عَن مساخطه والتكلم بِالْحَمْد لله إتْمَام الشُّكْر فَإِنَّهُ اعْتِرَاف بِأَن هَذِه النِّعْمَة مِنْهُ وَالصَّبْر على الْمُصِيبَة والثبات على حفظ الْجَوَارِح لِئَلَّا تعصى والتكلم بالاسترجاع اعْتِرَاف بِالتَّسْلِيمِ لَهُ وكما أَن الْإِيمَان هُوَ الْمعرفَة لله تَعَالَى بوحدانيته والطمأنينة بِهِ وَالتَّسْلِيم لَهُ قلبا والتكلم بِلَا إِلَه إِلَّا الله إعتراف بذلك وبحقيقة الْعَمَل بِهِ ثمَّ العَبْد مَأْمُور بتجديد الْإِيمَان بِهَذِهِ الْكَلِمَة
قَالَ جددوا إيمَانكُمْ بِلَا إِلَه إِلَّا الله
فَإِذا كَانَ إيمَانه يَتَجَدَّد بِهَذِهِ الْكَلِمَة فَكَذَلِك حَمده واسترجاعه يَتَجَدَّد وَهَذَا لِأَن العَبْد يتَكَلَّم بِلَا إِلَه إِلَّا الله ثمَّ يدنسها ويكدرها بِسوء أَفعاله لِأَن من شَرط الْمُؤمنِينَ فِي هَذِه الْكَلِمَة أَن لَا يكون لقُلُوبِهِمْ وَله فِي شَيْء إِلَّا إِلَى الله وَأَنه لَا إِلَه غَيره
فَإِذا نابتهم النوائب وَظَهَرت الْحَوَائِج ولهت قُلُوبهم إِلَى المخلوقين فقد دنسوا هَذِه الْكَلِمَة وأخلقوها فَأمروا بالتجديد والاستقبال بالتكلم بهَا وَكَانَ من شَأْن الصّديق رضي الله عنه أَن يَقُول كَانَ كَذَا وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَفعلت كَذَا وَلَا إِلَه إِلَّا الله
وَهَذَا تَفْسِير قَول معَاذ رضي الله عنه تعال نؤمن سَاعَة أَي نذكرهُ ذكرا يجمع قُلُوبنَا عِنْده وَيكون الوله إِلَيْهِ فَكَذَلِك الْحَمد والاسترجاع يدنسان ويخلقان بضدهما من الْأَفْعَال الَّتِي تظهر من العَبْد فيجددان ذَلِك فَيكْتب لَهُ ثَوَابهَا يَوْمئِذٍ لِأَنَّهُ جددها بالْقَوْل قَالَ صلى الله عليه وسلم الْحَمد لله رَأس الشُّكْر مَا شكر الله عبد لَا يحمده
-
الأَصْل الثَّالِث وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي حَقِيقَة الاسْتِغْفَار
عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن اسْتَطَعْتُم أَن تَسْتَكْثِرُوا من الاسْتِغْفَار فافعلوا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْء أنجح عِنْد الله تَعَالَى وَلَا أحب إِلَيْهِ مِنْهُ
وَالِاسْتِغْفَار سُؤال العَبْد من الله تَعَالَى السّتْر والغفر الغطاء وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى اجتبى عَبده وَاخْتَارَهُ للْإيمَان وَجعل نوره فِي قلبه فهداه لنوره وأحياه بِهِ وَجعل للنور الْأَعْظَم الَّذِي فِي قلبه سترا من نور وقاية ولباسا لَهُ وحجب ذَلِك عَن أعين الثقلَيْن فَهَذَا النُّور الظَّاهِر هُوَ كسْوَة النُّور الْبَاطِن قَالَ تَعَالَى يَا بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التَّقْوَى ذَلِك خير
وَالْمُؤمن فِي بهاء هَذَا السّتْر يمشي على أرضه والخليقة ينظرُونَ إِلَيْهِ بِعَين الْجلَال والشرف فَإِذا هم بالمعصية وعزم عَلَيْهَا تجافى عَنهُ
السّتْر فَإِذا عَملهَا تبَاعد عَنهُ وَبَقِي العَبْد عَارِيا من الْبَهَاء والجلال والشرف فَإِن أصر لم يَزْدَدْ إِلَّا ضعة ودنسا وَلم يَزْدَدْ السّتْر إِلَّا بعدا ونزاهة عَنهُ فَإِذا نَدم رَجَعَ إِلَيْهِ بِقَلْبِه فمدن هُنَاكَ أَي أَقَامَ واقامة عزمه أَن لَا يبرح عَن مقَام الطَّاعَة فَإِذا سَأَلَ الْمَغْفِرَة قَالَ استغفرك أَي أَسأَلك أَن ترد عَليّ السّتْر فَيصير فِي ذَلِك النُّور مَسْتُورا وبدو ذَلِك من آدم عليه السلام كَانَ لِبَاسه ستره وَهُوَ النُّور فَلَمَّا عصى انْكَشَفَ النُّور وعري فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوآتهما} وَقَوله تَعَالَى فوسوس لَهما الشَّيْطَان ليبدي لَهما مَا ووري عَنْهُمَا من سوآتهما
قَالَ جعل على عَورَة كل وَاحِد مِنْهُمَا نور فَلَا يرى وَاحِد مِنْهُمَا عَورَة الآخر وَقد جعل الله تَعَالَى لهَذِهِ الْجَارِحَة من الْآدَمِيّ شَأْنًا عجيبا لِأَنَّهُ أَدَاة الذُّرِّيَّة فِي صلبه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة والصلب بَاب الذُّرِّيَّة والفرج أَدَاة الشَّهْوَة وَلِهَذَا سَأَلَ دَاوُد سُلَيْمَان عليهما السلام عَن كَلِمَات أَن من اخبره بهَا وَرثهُ الْعلم والنبوة فَمن جملَته قَالَ لَهُ أَيْن بَاب الشَّهْوَة مِنْك قَالَ الْفرج فَقَالَ أَي بَاب الذُّرِّيَّة مِنْك قَالَ الصلب
وَعَن عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما قَالَ أول مَا خلق الله تَعَالَى من الْإِنْسَان فرجه فَقَالَ هَذَا أَمَانَة خبأتها عنْدك فَلَا تبسل مِنْهَا شَيْئا إِلَّا بِحَقِّهَا
وَقد خلق الله تَعَالَى آدم ليذرأ من صلبه هَذَا الْخلق فَجعل مُبْتَدأ خلقه من الْموضع الَّذِي يذرأ مِنْهُ الْخلق ثمَّ جعل الْحَيَاة فِي الْقلب وَجعل هَذِه الآداة ركنا من أَرْكَان الْقلب وَمِنْه ينشىء الرّيح فيقويه ليقدر على اسْتِعْمَاله فبروح الشَّهْوَة يقوى وَيقدر على الِاسْتِعْمَال وخبأها
عِنْده وَجعلهَا أَمَانَة لِئَلَّا يستعملها إِلَّا فِيمَا خلقت لَهُ ثمَّ خلقت مِنْهُ حَوَّاء وَستر عَلَيْهَا ذَلِك مِنْهَا فَلم ينْكَشف السّتْر عَنْهُمَا حَتَّى عصيا فعريا
قَالَ وهب رضي الله عنه الْإِيمَان عُرْيَان فلباسه التَّقْوَى وزينته الْحيَاء وَمَاله الْفِقْه فالمؤمن بَين الْخلق فِي ذَلِك اللبَاس يوقر ويعظم ويبجل ويهاب وَلَيْسَ يرى من تقواه إِنَّمَا يرى عَلَيْهِ طلاوة اللبَاس وزهرته ولبق حركاته وتصرفه فِي الْأُمُور وَعَلِيهِ مهابة ذَلِك اللبَاس
وَعَن جُبَير بن نفير رضي الله عنه قَالَ صلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بِالنَّاسِ صَلَاة الصُّبْح فَلَمَّا فرغ أقبل بِوَجْهِهِ على النَّاس رَافعا صَوته حَتَّى كَاد يسمع من فِي الْخُدُور وَهُوَ يَقُول يَا معشر الَّذين أَسْلمُوا بألسنتهم وَلم يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبهم لَا تُؤْذُوا الْمُسلمين وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تتبعوا عثراتهم فَإِنَّهُ من يتبع عَثْرَة أَخِيه الْمُسلم يتبع الله عثرته وَمن يتبع الله عثرته يَفْضَحهُ وَهُوَ فِي قَعْر بَيته
فَقَالَ قَائِل يَا رَسُول الله وَهل على الْمُؤمن من ستر
فَقَالَ ستور الله تَعَالَى أَكثر من أَن تحصى إِن الْمُؤمن ليعْمَل بِالذنُوبِ فيهتك عَنهُ سترا سترا حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُ شَيْء فَيَقُول الله تَعَالَى لملائكته استروا على عَبدِي من النَّاس فَإِن النَّاس يعيرون وَلَا يغيرون فتحف بِهِ الْمَلَائِكَة بأجنحتها يسترونه من النَّاس قَالَ فَإِن تَابَ قبل الله مِنْهُ ورد عَلَيْهِ ستوره وَمَعَ كل ستر تِسْعَة أَسْتَار فَإِن تتَابع فِي الذُّنُوب قَالَت الْمَلَائِكَة رَبنَا قد غلبنا وأقذرنا فَيَقُول الله عز وجل للْمَلَائكَة إستروا على عَبدِي من النَّاس فَإِن النَّاس يعيرون وَلَا يغيرون فتحف بِهِ الْمَلَائِكَة بأجنحتها يسترونه من النَّاس فَإِن تَابَ قبل الله تَعَالَى مِنْهُ فَإِن عَاد قَالَت الْمَلَائِكَة رَبنَا إِنَّه قد غلبنا وأقذرنا فَيَقُول الله
تَعَالَى للْمَلَائكَة تخلوا عَنهُ فَلَو عمل ذَنبا فِي بَيت مظلم فِي لَيْلَة مظْلمَة فِي حجر أبدى الله عَنهُ وَعَن عَوْرَته
وَقَالَ سلمَان الْفَارِسِي رضي الله عنه إِن الْمُؤمن فِي سبعين حِجَابا من نور فَإِذا عمل خَطِيئَة بعد الْكَبَائِر ثمَّ تناساها حَتَّى يعْمل أُخْرَى يهتك مِنْهَا حجاب من تِلْكَ الْحجب وَلَا يزَال كَذَلِك فَإِذا عمل كَبِيرَة من الْكَبَائِر تهتك عَنهُ تِلْكَ الْحجب كلهَا إِلَّا حجاب الْحيَاء وَهُوَ أعظمها حِجَابا فَإِن تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ ورد تِلْكَ الْحجب كلهَا فَإِن عمل خَطِيئَة بعد الْكَبَائِر ثمَّ تناساها حَتَّى يعْمل أُخْرَى قبل أَن يَتُوب يهتك عَنهُ حجاب الْحيَاء فَالْعَبْد لَا يزَال فِي عيب يحدثه وَستر يَزُول عَنهُ والستر الْأَعْظَم قَائِم فَإِذا أذْنب كَبِيرَة عري
فَقَوله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ شَيْء عِنْد الله أنجح من الاسْتِغْفَار لِأَنَّهُ ستر نوره وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم لله أفرح بتوبة العَبْد من رجل وجد ضالته فِي مفازة مهلكة عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ دخلت على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فرآني حَزينًا فَقَالَ مَا لي أَرَاك حَزينًا يَا أَبَا هُرَيْرَة فَقلت كَانَ بيني وَبَين أهل بَيْتِي شَيْء فعجلت إِلَيْهِم فَقَالَ أَيْن أَنْت ثكلتك أمك عَن الاسْتِغْفَار فوالذي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ إِنِّي لأستغفر فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة مِائَتي مرّة فَأكْثر من الاسْتِغْفَار فان فِي الأَرْض أمانين يُوشك أَن تفقدوا أَحدهمَا عَن قريب وَهُوَ موت نَبِيكُم قَالَ الله تَعَالَى وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ
فَإِنَّهُ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة محدقا بأعمال الْخَلَائق لَهُ زئير حول الْعَرْش يَقُول إلهي حَقي حَقي فَيُجِيبهُ الْجَبَّار جل جلاله فَيَقُول خُذ حَقك فَمَا يتْرك من سيئات بني آدم إِلَّا اجتحفها بِالْجُمْلَةِ
وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ صلى الله عليه وسلم من أدمن الاسْتِغْفَار جعل الله لَهُ من كل هم فرجا وَمن كل ضيق مخرجا ورزقه من حَيْثُ لَا يحْتَسب
أَشَارَ إِلَى الإدمان إِلَى الاسْتِغْفَار لِأَن الْآدَمِيّ لَا يَخْلُو من ذَنْب أَو عيب سَاعَة فساعة
وَلذَلِك صلى الله عليه وسلم قَالَ خياركم كل مفتن تواب
فَإِن أدمن على الاسْتِغْفَار خرج من الْعُيُوب والذنُوب وَدخل فِي السّتْر الْأَعْظَم وعادت عَلَيْهِ الستور فالإدمان عَلَيْهِ يحط الذُّنُوب قَالَ الله تَعَالَى وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ
فَإِذا كَانَ العَبْد متيقظا مشرفا على أُمُوره فَكلما أعيب وأذنب أتبعهما اسْتِغْفَارًا لم يبْق فِي وبالهما وعذابهما
وَإِذا كَانَت مِنْهُ الْعُيُوب والذنُوب وَلها عَن الاسْتِغْفَار تراكمت الذُّنُوب والعيوب فَجَاءَت الهموم والضيق والعسر والكد وَالنّصب فِي الدُّنْيَا
وَفِي الْآخِرَة عَذَاب وَإِذا اسْتغْفر خرج من الْعَيْب والذنب فَصَارَ لَهُ من الهموم فرجا وَمن الضّيق مخرجا وأسبغ عَلَيْهِ الرزق وَهُوَ قَوْله تَعَالَى وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب
وَالتَّقوى اجْتِنَاب الْعَيْب والذنب فَإِذا وَقع فِيهِ لَا يسْتَقرّ حَتَّى يَتُوب
وَعَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ صلى الله عليه وسلم مَا من رجلَيْنِ مُسلمين إِلَّا بَينهمَا ستر فَإِذا قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه هجرا هتك سترالله تَعَالَى
وَقَوله لَا شَيْء أنجح عِنْد الله وَلَا أحب إِلَيْهِ من الاسْتِغْفَار فأقرب الْأَشْيَاء من الشَّيْء كسوته ووقايته ولعظم قدر الشَّيْء يَجْعَل لَهُ وقاية وَكِسْوَة وسترا وكل شَيْء لَهُ نفاسة وخطر جعل فِي ستر فَهُوَ مَحْظُور وَعَن الْجَمِيع مَسْتُور فَإِذا أذْنب العَبْد تبَاعد عَنهُ السّتْر لنفاسته ونزاهته فَإِذا نَدم فالندم وَالتَّوْبَة بدؤهما من النُّور الَّذِي فِي قلبه هُوَ الَّذِي يندمه ويقتضيه الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى ويهديه لذَلِك فَلَمَّا أُتِي بِهِ وَسَأَلَ السّتْر فَإِنَّمَا يسْأَل بِالنورِ الَّذِي فِي قلبه فَيُحِبهُ لحُرْمَة ذَلِك النُّور قَالَ تَعَالَى إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين
فالتوابون هم الَّذِي رجعُوا إِلَى الله تَعَالَى وَتطَهرُوا بِقُرْبِهِ من نَجَاسَة الذُّنُوب ورجاسة الْعُيُوب
قَالَ صلى الله عليه وسلم إِذا تَابَ العَبْد فَقبل الله تَوْبَته أنسى الْحفظَة مَا كَانَ يعْمل وَقيل للْأَرْض ولجوارحه اكْتُمِي عَلَيْهِ فَلَا تظهري مساوئه أبدا
وَهَكَذَا من شَأْن الْخلق إِذا أحب أحدهم آخر واستقبله فِي طَرِيق وَهُوَ سَكرَان الْتفت يمنة ويسرة هَل رَآهُ أحد على تِلْكَ الْحَالة ثمَّ ستره وَأدْخلهُ منزلا وأنامه إشقافا عَلَيْهِ وَكَرَاهَة أَن يرَاهُ على تِلْكَ الْحَالة أحد وَإِذا اسْتغْفر العَبْد غفر الله لَهُ قَالَ تَعَالَى {فَقلت اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا}
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم أَربع من أعطيهن لم يمْنَع من الله من أَربع من أعطي الدُّعَاء لم يمْنَع الْإِجَابَة قَالَ الله تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم}
وَمن أعطي الاسْتِغْفَار لم يمْنَع الْمَغْفِرَة قَالَ الله تَعَالَى {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا} وَمن أعْطى الشُّكْر لم يمْنَع الزِّيَادَة قَالَ الله تَعَالَى {لَئِن شكرتم لأزيدنكم}
وَمن أعطي التَّوْبَة لم يمْنَع الْقبُول فَإِنَّهُ قَالَ وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات
وَهَذِه كلهَا على الْحَقَائِق لَا على التجويز فحقيقة الاسْتِغْفَار أَن يرى العَبْد عِنْد الذَّنب خُرُوجه من ستر ربه وتعريه فَيَأْخذهُ الْحيَاء كَمَا يستحي إِذا سلب عَنهُ ثَوْبه فِي مَلأ عَظِيم فيعرى فِي ذَلِك الْمَلأ فينقبض من الْحيَاء
وَحَقِيقَة الشُّكْر أَن يرى النِّعْمَة مِنْهُ رُؤْيَة الْقلب خلقه وتربيته وسياقته
وإيصاله إِلَيْهِ فَيَأْخذهُ من أثقال ذَلِك من الخجل مَا يَأْخُذهُ مِمَّن أهدي إِلَيْهِ نعما كَثِيرَة كرات ومرات ودفعات
وَحَقِيقَة التَّوْبَة أَن يرى إباقه من مَوْلَاهُ فَيرجع إِلَيْهِ بندم واعتذار ووجل وحياء فيعزم على التوطن عِنْده بَين يَدَيْهِ أَشد من عزم من أبق من الْآدَمِيّ وَقد أحسن إِلَيْهِ كل الْإِحْسَان ومناه الْعتْق وَالْبر واللطف فَلَمَّا عَاد إِلَيْهِ تأسف على نَفسه تلظيا من فعله وَثقل عَلَيْهِ أَن يتَرَاءَى لَهُ من شدَّة مَا يعلوه من الْحيَاء فَهُوَ يتستر مِنْهُ بِكُل شَيْء ويتوطن أَن لَا يُفَارِقهُ إِلَى الْمَمَات
وَحَقِيقَة الدُّعَاء أَن يسْأَله سُؤال من احضر قلبه كَمَا أحضر بدنه بتضرع وسؤال مُضْطَر فَقير وجد إِذن دُخُول على ملك عطوف رَحِيم
فَإِذا عَامل العَبْد مَعَ الله فِي هَذِه الْخِصَال الْأَرْبَع على غير مَا وَصفنَا فَيُشبه ذَلِك فعل السَّكْرَان والنائم
وقولهما وَلَا يعبأ عِنْد الْعُقَلَاء بفعلهما وَلَا قَوْلهمَا فالمخلط سَكرَان والمستقيم وَهُوَ الْوَرع نَائِم وَإِنَّمَا يفوز بِهَذِهِ الخطة الْعَظِيمَة المتنبهون عَن الله تَعَالَى مزق شعل أنوار الله حجب قُلُوبهم ثمَّ أحرقها فانحسر الْقلب لأمر عَظِيم فَصَارَت هَذِه الْأَرْبَع كلهَا عطاياه فاعطي الاسْتِغْفَار وَالتَّوْبَة وَالشُّكْر وَالدُّعَاء
فاما من دون هَؤُلَاءِ أمروا أَن يَتَطَهَّرُوا من الأوساخ والأدران الَّتِي على قُلُوبهم حَتَّى يُعْطوا النُّور فَتكون هَذِه الْأَرْبَع لَهُم عَطاء على الْحَقِيقَة فيجابوا إِلَى مَا وعدوا لِأَن الله تَعَالَى لم يعد إِلَّا على الْحَقِيقَة والحقيقة هِيَ بُلُوغ الصّفة الَّتِي رسم الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِيمَا بَينهم فَمن دَعَا حَقًا واستغفر حَقًا وشكر حَقًا وَتَابَ حَقًا يُجَاب
قَالَ صلى الله عليه وسلم إِذا فتح الله على عبد الدُّعَاء فَليدع فَإِن الله يستجيب لَهُ
وَقَالَ أَبُو حَازِم رحمه الله لأَنا من أَن أمنع الدُّعَاء أخوف مني من أَن أمنع الأجابة
فالدعاء هُوَ الْعَدو إِلَى الله تَعَالَى بِالْقَلْبِ فَإِذا كَانَ الْقلب فِي حبس النَّفس لَا يَسْتَطِيع الْعَدو إِلَيْهِ وَالتَّوْبَة الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى بِالْقَلْبِ فَإِذا كَانَ الْقلب فِي حبس النَّفس لم يقدر وَالِاسْتِغْفَار سُؤال الغطاء من الذَّنب للعري فَإِذا كَانَ النَّفس حجاب الْقلب لَا يقدر أَن يرى عريه حتي يسبل السّتْر وَالشُّكْر رُؤْيَة النِّعْمَة فَإِذا كَانَ النَّفس حجاب الْقلب لَا يقدر أَن يرى نعمه فَإِذا أُتِي بِهَذِهِ الْأَشْيَاء فَلم يَأْتِ بِهِ على الْحَقِيقَة فإمَّا إِذا أعْطى النُّور وَعدا الْقلب إِلَيْهِ عِنْد الْحَاجة فَسَأَلَ أُجِيب وأسعف بِهِ وَإِذا أعطي النُّور فَرَأى الاباق مِنْهُ رَجَعَ إِلَيْهِ مَعَ النُّور فَتَابَ قبل مِنْهُ وَإِذا رأى العري فَسَأَلَ السّتْر أعطي الْمَغْفِرَة وَإِذا رأى النِّعْمَة فَشكر قبل مِنْهُ فَأعْطِي الزِّيَادَة لِأَن الله تَعَالَى يستأدي من الْخلق الْحَقَائِق دون الْمجَاز
-
الأَصْل الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْغنى فِي النَّفس والتقى فِي الْقلب
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا جعل غناهُ فِي نَفسه وتقاه فِي قلبه
الْحَاجة فِي النَّفس لِأَنَّهَا مَعْدن الشَّهَوَات وشهواتها لَا تَنْقَطِع فَهِيَ أبدا فقيرة لتراكم الشَّهَوَات عَلَيْهَا واقتضائها وَخَوف فَوتهَا قد برح بهَا وضيق عَلَيْهَا فَهِيَ مغبونة وخلصت فتنتها إِلَى الْقلب فَصَارَ مفتونا فأصمته عَن الله تَعَالَى وأعمته فَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا قذف فِي قلبه النُّور فامتزق الْحجاب وانحسر النُّور الْأَصْلِيّ وأشرق هَذَا النُّور الْوَارِد فِي الْقلب والصدر فَذَاك تقواه بِهِ يَتَّقِي مساخط الله تَعَالَى وَبِه يحفظ حُدُوده وَبِه يُؤَدِّي فَرَائِضه وَبِه يخشي الله تَعَالَى وَيصير ذَلِك النُّور وقايته يَوْم الْجَوَاز على الصِّرَاط فِيهِ يَتَّقِي النَّار حَتَّى يجوزها إِلَى دَار الله تَعَالَى فَهَذَا تقواه فِي قلبه وَأما غناهُ فِي نَفسه فَإِنَّهُ إِذا أشرق الصَّدْر بذلك النُّور تأدى إِلَى النَّفس فأضاء وَوجدت النَّفس لَهَا حلاوة وروحا وَلَذَّة تلهيه عَن لذات الدُّنْيَا وشهواتها وَتذهب مخاوفها
وعجلتها وحرقتها وبلاهتها تحيى بحياة الْقلب وتستضيء بِنور الْقلب فتطمئن لِأَن الْقلب صَار غَنِيا بانتباهه عَن الله تَعَالَى وَالنَّفس جَاره وشريكه فَفِي غنى الْجَار غنى وَفِي غنى الشَّرِيك غنى وَالتَّقوى فِي الْقلب وَهُوَ النُّور والغنى فِي النَّفس وَهُوَ الطمأنية
-
الأَصْل الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني
عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي قَوْله تَعَالَى قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني على الْبر وَالتَّقوى والتواضع وذلة النَّفس
الْبر مَا افْترض الله تَعَالَى على العَبْد والتوقي والكف عَمَّا نهى الله تَعَالَى عَنهُ والتواضع أَن يضع مَشِيئَته فِي أُمُوره لمشيئة مَوْلَاهُ وذلة النَّفس ترك المنى فِي عطاياه فِي الدَّرَجَات وَفِي إِقَامَة هَذِه الْأَرْبَع صفو الْعِبَادَة
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قدم وَفد الْيمن على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا أَبيت اللَّعْن فَقَالَ صلى الله عليه وسلم سُبْحَانَ الله إِنَّمَا يُقَال هَذَا لملك وَلست ملكا أَنا مُحَمَّد بن عبد الله
قَالُوا إِنَّا لَا ندعوك بِاسْمِك
قَالَ فَأَنا أَبُو الْقَاسِم
قَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِم إِنَّا قد خبأنا لَك خبيئا
فَقَالَ سُبْحَانَ الله إِنَّمَا يفعل هَذَا بالكاهن والكاهن والمتكهن وَالْكهَانَة فِي النَّار
فَقَالَ لَهُ أحدهم فَمن يشْهد لَك أَنَّك رَسُول الله
قَالَ فَضرب بِيَدِهِ إِلَى حفْنَة حَصْبَاء فَأَخذهَا فَقَالَ هَذَا يشْهد أَنِّي رَسُول الله
قَالَ فسجن فِي يَده وقلن نشْهد أَنَّك رَسُول الله
فَقَالُوا اسمعنا بعض مَا أنزل عَلَيْك فَقَرَأَ {وَالصَّافَّات صفا} حَتَّى انْتهى إِلَى قَوْله تَعَالَى {فَأتبعهُ شهَاب ثاقب} وَإنَّهُ لساكن مَا ينبض مِنْهُ عرق وان دُمُوعه لتسبقه إِلَى لحيته
قَالُوا لَهُ إِنَّا نرَاك تبْكي أَمن خوف الَّذِي بَعثك تبْكي
قَالَ من خوف الَّذِي بَعَثَنِي أبْكِي إِنَّه بَعَثَنِي على طَرِيق مثل حد السَّيْف إِن رغبت عَنهُ هَلَكت ثمَّ قَرَأَ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك
إِنَّمَا صَار فِي مثل حد السَّيْف لِأَن طَرِيق الْأَعْمَال على النَّفس ومبتدأه من الْقلب وطريقها على النَّفس فَإِذا مرت فَلم يلْتَفت إِلَى النَّفس فقد صفا الْعَمَل وصفت العبودة فَهَذِهِ منزلتان إِحْدَاهمَا أشرف من الْأُخْرَى فَالْأولى أَن يبتدىء الْعَمَل من الْقلب فَيخرج إِلَى الْأَركان وَنَفسه حَيَّة تحب أَن تشركه فِي ذَلِك وَالثَّانيَِة أَن تَمُوت النَّفس وَيقوم
الْقلب فِي مقَام الهيبة فَيخرج الْعَمَل إِلَى الْأَركان فَلَا يلْتَفت إِلَى النَّفس وَلَا بِالنَّفسِ حراك فتشخص إِلَيْهِ طرفا فَهَذَا صفو العبودة يعْمل مَا يُؤمر وَلَا يتَكَلَّف من تِلْقَاء نَفسه وَلَا يدبر لنَفسِهِ بل فوض ذَلِك إِلَى مَوْلَاهُ لِأَن من شَأْن الْمُحب أَن لَا تكون لَهُ نهمة دون لِقَاء الحبيب فَإِذا لم يهتد إِلَيْهِ وَوجد دَلِيلا يُؤَدِّيه إِلَيْهِ أَن يققو أثر الدَّلِيل حَتَّى يُؤَدِّيه إِلَيْهِ قَالَ الله تَعَالَى لنَبيه صلى الله عليه وسلم فاستقم كَمَا أمرت
فالاستقامة فِي السّير أَن لَا يلْتَفت يَمِينا وَشمَالًا وَلَا يعرج على شَيْء فيشتغل بِهِ دونه
وَاجْتمعَ نفر من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فأفاضوا فِي الذّكر فرقوا فطربت نُفُوسهم وَقَالُوا لَو نعلم أَي الْأَعْمَال أحب إِلَى الله تَعَالَى فنعمله فَجَاءَت الْمحبَّة من الله تَعَالَى فَأنْزل الله تَعَالَى {إِن الله يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص}
ليظْهر صدق مَا نطقوا بِهِ فَخَرجُوا إِلَى الْقِتَال فَلم يكن من بَعضهم الَّذِي قَالُوا فَأنْزل الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}
ثمَّ قَالُوا إِنَّا لنحب رَبنَا فامتحنوا فَأنْزل الله تَعَالَى {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله}
فَإِن من شَأْن الْكَرِيم أَن يحب من أحبه وَلم ينل حبه أحد إِلَّا من بعد حبه لَهُ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
والاتباع فِي سيرته عَلامَة المحقين وَسيرَته العبودة فِي هَذِه الْخِصَال الْأَرْبَع على مَا ذكرنَا
-
الأَصْل السَّادِس وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي سر الْحيَاء والتقى وَالصَّبْر بالتمثيل
عَن جَابر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْحيَاء زِينَة والتقى كرم وَخير المراكب الصَّبْر وانتظار الْفرج من الله تَعَالَى عبَادَة
الْحيَاء من فعل الرّوح وَالروح سماوي وَعمل أهل السَّمَاء يشبه بعضه بَعْضًا فِي العبودة وَالنَّفس أرضي شهواني ميال إِلَى شَهْوَة عقيب شَهْوَة ومنية على اثر منية لَا تهدأ وَلَا تَسْتَقِر فاعمالها مُخْتَلفَة لَا يشبه بَعْضهَا بَعْضًا مرّة عبودة وَمرَّة ربوبة وَمرَّة استسلام وَمرَّة تملك وَمرَّة عجز وَمرَّة اقتدار فَإِذا ريضت النَّفس وذلت وأدبت انقادت وَكَانَ السُّلْطَان وَالْغَلَبَة للروح جَاءَ الْحيَاء وَالْحيَاء خجل الرّوح عَن كل أَمر لَا يصلح فِي السَّمَاء فَهُوَ يكاع ويزين الْجَوَارِح والأمور وَهُوَ زِينَة العَبْد فَمِنْهُ الْعِفَّة وَالْوَقار والحلم
وَقَوله والتقى كرم فالكرم مَا انْقَادَ وذل وَلذَلِك سمى شَجَرَة الْعِنَب كرما لِأَنَّهُ حَيْثُ مَا مددتها امتدت وذلت لَك
قَالَ صلى الله عليه وسلم لَا تَقولُوا للعنب كرما إِنَّمَا الْكَرم قلب الْمُؤمن
فَإِذا ولج النُّور الْقلب رطب ولان وبرطوبته وَلينه ترطب النَّفس وتلين وَتذهب كزازتها ويبسها وطفئت حرارة الشَّهَوَات بِالنورِ الْوَارِد على الْقلب لِأَنَّهُ من الرَّحْمَة وَالرَّحْمَة بَارِدَة فانقاد الْقلب فاتقى
وَقَوله وَخير المراكب الصَّبْر فالصبر ثبات العَبْد بَين يَدي ربه فِي مقَامه لأموره وَأَحْكَامه خف أَو ثقل أحب أَو كره يسرا وعسرا فَهُوَ خير مركب ركب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى وَهُوَ مركب الْوَفَاء بالعهد فَإِن الله تَعَالَى خلق الدُّنْيَا ممرا لعبيده إِلَى دَار السَّلَام فالقوم المختارون يَأْخُذُونَ الزَّاد ويمرون وَمن الْوَفَاء أَن لَا يلْتَفت إِلَى شَيْء سوى الزَّاد قَالَ الله تَعَالَى أَوْفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون أَي فارهبوا من نفوسكم إِلَيّ والهرب والرهب بِمَعْنى وَاحِد
وَقَوله انْتِظَار الْفرج من الله عبَادَة لِأَن فِي انْتِظَار الْفرج قطع العلائق والأسباب إِلَى الله تَعَالَى وَتعلق الْقلب بِهِ وشخوص الأمل إِلَيْهِ والتبري من الْحول وَالْقُوَّة فَهَذَا خَالص الْإِيمَان
-
الأَصْل السَّابِع وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي فضل مَاء زَمْزَم
عَن جَابر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم زَمْزَم لما شربت لَهُ
فزمزم سقيا الله وغياثه لولد خَلِيله إِسْمَاعِيل عليهما السلام فَبَقيَ غياثا لمن بعده فِي كل نائبة إِن شربت لمَرض شفيت وَإِن شربت لغم فرج عَنْك وَإِن شربت لحَاجَة استعنت وَإِن شربت لنائبة صلحت لِأَن أَصله من الرَّحْمَة بدا غياثا فلأي شَيْء شربه الْمُؤمن وجد غوث ذَلِك الْأَمر
-
الأَصْل الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن عمل الْأَنْبِيَاء والأولياء فِي الدَّاريْنِ خدمَة وعبودة
عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا دخل الْبَيْت كأحدكم يخيط ثَوْبه وَيعْمل كأحدكم
هَكَذَا شَأْن الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام لأَنهم عبيد الله تَعَالَى على العبودة وقفُوا بَين يَدَيْهِ وَرَأَوا أَن هَذِه الْأَعْمَال الَّتِي للدنيا وَالْآخِرَة كلهَا تَدْبِير الله تَعَالَى فِي أرضه وَأَنَّهَا كلهَا معلقَة بَعْضهَا بِبَعْض وَأَنَّهَا لله تَعَالَى فَمَا اسْتَقْبَلَهُمْ من أَمر لم يؤثروا عَلَيْهِ شَيْئا وَلَا اخْتَارُوا من تِلْقَاء أنفسهم أمرا فلزموه ورفضوا لما سواهُ لأَنهم يحبونَ أَن يَكُونُوا كالعبيد مَا وضع بَين أَيْديهم عملوه عبودة حَتَّى يلْقوا الله تَعَالَى بهَا فَيَضَع عَنْهُم رق العبودة ويرضي عَنْهُم هَذَا بغيتهم
وَأما الْآخرُونَ فقد اخْتَارُوا من الْأَعْمَال وآثروا هَذَا على ذَلِك وَذَاكَ على هَذَا طلبا للأفضل لينالوا من نعيم الْجنان ورفضوا كثيرا من الْأَعْمَال
ضيعوا بِهِ حقوقا وَاعْتبر هَذَا بِحَدِيث جريج الراهب حِين نادته أمه وَهُوَ فِي الصَّلَاة يَا جريج أَرِنِي وَجهك من الصومعة فَقَالَ صلاتاه فآثرها على أمه فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَو كَانَ جريج الراهب فَقِيها عَالما لعلم أَن إِجَابَة أمه من عبَادَة ربه
فَمن فقه عَن الله تَعَالَى أمره وَرَأى تَدْبيره لم يجد بدا من رفض الِاخْتِيَار فَلَا يُؤثر أمرا على أَمر وَلَا حَالا على حَال وَكَانَ صلى الله عليه وسلم لما بعث أَصْحَابه إِلَى تَبُوك أَمر عَلَيْهِم زيد بن حَارِثَة وَقَالَ إِن قتل زيد فجعفر أَمِير عَلَيْكُم فَقَالَ جَعْفَر رضي الله عنه يَا رَسُول الله أتؤمر علينا زيدا قَالَ إِنَّك لَا تَدْرِي فِي أَي ذَلِك خير
وَرُوِيَ أَن مُوسَى عليه السلام قَالَ يَا رب أَي عِبَادك أكبر ذَنبا قَالَ الَّذِي يتهمني قَالَ وَمن يتهمك يَا رب قَالَ الَّذِي يستخيرني فَإِذا خرت لَهُ لم يرض بذلك
فَمن جعل أُمُور الْآخِرَة وَأُمُور الدُّنْيَا كلهَا لله تَعَالَى وَأَرَادَ بذلك إِقَامَة العبودة فقد سَقَطت عَنهُ مُؤنَة الأختيار وَلَا تملكه الْأَحْوَال وَلَا الْأَعْمَال
-
الأَصْل التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَة
-
فِي المقة والصيت وعلامة أَهلهَا
عَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم المقة من الله فِي الأَرْض والصيت فِي السَّمَاء فَإِذا أحب الله تَعَالَى عبدا نَادَى جبرئيل فِي السَّمَاء أَن الله تَعَالَى يحب فلَانا فَأَحبُّوهُ فتنزل المقة فِي الأَرْض
أَرَادَ بالصيت اضْطِرَاب الصَّوْت والنداء وَقَوله تَعَالَى وألقيت عَلَيْك محبَّة مني قَالَ ملاحة وحلاوة
وَقَوله تَعَالَى وَحَنَانًا من لدنا قَالَ معبد الْجُهَنِيّ رضي الله عنه الحنان المحبب
وَقَالَ عَليّ كرم الله وَجهه سَأَلت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن قَوْله تَعَالَى {سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودا} مَا هُوَ يَا رَسُول الله قَالَ الْمحبَّة يَا عَليّ فِي صُدُور الْمُؤمنِينَ وَالْمَلَائِكَة المقربين يَا عَليّ إِن الله تَعَالَى أعْطى الْمُؤمن ثَلَاثًا المقة والمحبة والملاحة والمهابة فِي صُدُور الصَّالِحين فَمن اصطنعه لنَفسِهِ قبل نَفسه فَوجدَ لَهُ حلاوة وملاحة وَمن دَعَاهُ فَأَجَابَهُ وَصدقه فِي الإفجابة قربه فَقبل قلبه فَوجدَ لَهُ فِي الْقُلُوب وده وَهُوَ الْمحبَّة قَالَ الله تَعَالَى {واصطنعتك لنَفْسي}
فَكَانَ لَا يرَاهُ أحد إِلَّا أحبه حَتَّى فِرْعَوْن الَّذِي كَانَ يذبح أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل من أَجله كَانَ يرشفه فِي حجره
فَمن كَانَ من بعده على مثل سَبيله وَطَرِيقه إِلَيْهِ فَلهُ الْحَلَاوَة والملاحة وَمن سَار إِلَيْهِ حَتَّى وصل فنال الْقرْبَة فَلهُ الود فِي الْقُلُوب
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لكل عبد صيت فان كَانَ صَالحا وضع فِي السَّمَاء وَإِن كَانَ سَيِّئًا وضع فِي الأَرْض
-
الأَصْل الْمِائَة وَالسِّتُّونَ
-
فِي الِاسْتِعَاذَة من النِّفَاق وثمراته
عَن أم معبد رضي الله عنها قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول اللَّهُمَّ طهر قلبِي من النِّفَاق وعملي من الرِّيَاء ولساني من الْكَذِب وعيني من الْخِيَانَة فَإنَّك تعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور
وَعَن حَنْظَلَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا جَاءَنِي جِبْرَائِيل إِلَّا أَمرنِي بِهَاتَيْنِ قَالَ تَقول اللَّهُمَّ ارزقني طيبا واستعملني صَالحا
والنفاق مَا كَانَ ذَا لونين يَقِين وَشك وإخلاص ورياء وَغير ذَلِك وَإِنَّمَا سمي نفَاقًا لِأَنَّهُ يدْخل عَلَيْهِ الْأَمر من بَابَيْنِ من بَاب الله تَعَالَى فَيقبل عَنهُ من طَرِيق الْإِيمَان وَمن بَاب النَّفس فَيقبل عَنْهَا من طَرِيق الشَّهْوَة وَكَذَلِكَ نافقاء اليربوع يدْخل من هَذَا الْبَاب وَيخرج من الْبَاب الآخر
وَكَذَلِكَ النَّفَقَة تَأْخُذ بِالْيَدِ وتنفق بِالْأُخْرَى فَسَأَلَ صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل أَن يطهر قلبه من آفَات النَّفس فأجملها فَقَالَ طهر قلبِي من النِّفَاق وعملي من الرِّيَاء
رُوِيَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه قَالَ كُنَّا نوب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يطرقه أمرا وَيَأْمُر بشئ قَالَ فَكثر أهل النوب والمحتسبون لَيْلَة حَتَّى كُنَّا نتحدث فَخرج علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا هَذِه النَّجْوَى ألم تنهوا عَن النَّجْوَى فَقُلْنَا تبنا إِلَى الله يَا رَسُول الله إِنَّا كُنَّا فِي ذكر الْمَسِيح نتخوف مِنْهُ فَقَالَ أَلا اخبركم بِمَا هُوَ أخوف عَلَيْكُم عِنْدِي من الْمَسِيح قَالَ بلَى يَا رَسُول الله قَالَ الشّرك الْخَفي رجل يعْمل لمَكَان رجل
وَقَوله صلى الله عليه وسلم ولساني من الْكَذِب فَإِن اللِّسَان يعبر بِهِ عَن مَكْنُون الْقلب وَإِذا قَالَ بِلِسَانِهِ مَا لم يكن كذبه الله تَعَالَى وَكذبه إيمَانه لِأَنَّهُ إِذا قَالَ لشَيْء لم يكن انه قد كَانَ فقد زعم أَن الله تَعَالَى خلقه وَإِذا أخبر أَنه قد كَانَ وَلم يكن الله تَعَالَى كَونه فقد افترى على الله تَعَالَى
وَلذَلِك قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه الْكَذِب مُجَانب للْإيمَان فإيمانه فِي قلبه يكذبهُ فَسَأَلَ أَن يطهر لِسَانه من ذَلِك
وَقَوله صلى الله عليه وسلم وعيني من الْخِيَانَة فخيانة الْعين المسارقة كَأَنَّهُ يُرِيد أَن يسرق مِمَّن لَا يسرق مِنْهُ ويستخفي مِمَّن لَا تخفي عَلَيْهِ لمحة فَإِنَّهُ لَا ينظر وَلكنه يلحظ سَرقَة واختلاسا لمَكَان المخلوقين وَقد غفل قلبه عَن أَن يرَاهُ أبْصر الناظرين قَالَ الله تَعَالَى يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفى الصُّدُور
وَقَوله فِي الحَدِيث الآخر ارزقني طيبا واستعملني صَالحا سَأَلَهُ عَيْش أهل الْجنان رزقهم طيب وأفعالهم صَالِحَة كلهَا لَيْسَ فِيهَا فَسَاد فَإِن الْعباد على ضَرْبَيْنِ مِنْهُم من وضع بَين يَدَيْهِ فَقيل لَهُ اعْمَلْ هَذَا ودع هَذَا وَأَقْبل على هَذَا وجانب هَذَا بَين لَهُ الشَّرِيعَة ثمَّ قيل لَهُ سر فِيهَا مُسْتَقِيمًا وَخذ الْحق واجتنب الْبَاطِل وَكَثِيرًا مَا يَقع فِي التَّخْلِيط والأغاليط ويشوبه مَا لَيْسَ مِنْهُ وَمِنْهُم من جازوا هَذِه الخطة وعافوا لمنتهى ونسوه طهرت قُلُوبهم وأركانهم فاستعملهم رَبهم فِي الشَّرِيعَة لمحابه وَبِمَا قد علم أَن صَلَاحهمْ فِي ذَلِك فَسَأَلَ صلى الله عليه وسلم الِاسْتِعْمَال صَالحا
-
الأَصْل الْحَادِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم للْأمة عَشِيَّة عَرَفَة وغداة الْمزْدَلِفَة
عَن عَبَّاس بن مرداس رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم دَعَا لأمته عَشِيَّة عَرَفَة بالمغفرة وَالرَّحْمَة فَأكْثر الدُّعَاء فَأَجَابَهُ أَنِّي فعلت إِلَّا ظلم بَعضهم بَعْضًا فَأَما ذنوبهم فِيمَا بيني وَبينهمْ فقد غفرتها قَالَ يَا رب إِنَّك قَادر أَن تثيب هَذَا الْمَظْلُوم خيرا من مظلمته وَتغْفر لهَذَا الظَّالِم فَلم يجبهُ تِلْكَ العشية فَلَمَّا كَانَ الْغَدَاة غَدَاة الْمزْدَلِفَة اجْتهد فِي الدُّعَاء فَأَجَابَهُ أَنِّي قد غفرت لَهُم فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقيل تبسمت فِي سَاعَة لم تكن تتبسم فِيهَا فَقَالَ تبسمت من عَدو الله إِبْلِيس انه لما علم أَن الله قد اسْتَجَابَ لي فِي أمتِي أَهْوى يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور ويحثي على وَجهه ويفر قد نالتهم الْمَغْفِرَة عَشِيَّة عَرَفَة وستروا من الذُّنُوب وَالْحق تَعَالَى يناشدهم وَيَقْتَضِي تبعات الْخلق وَلَا مرد لَهُ وَلَا معَارض فَلَو تَركهم وَالْحق سبحانه وتعالى لأخرجهم من السّتْر حَتَّى يعودوا إِلَى الْحَالة الأولى عُرَاة فعطف الله تَعَالَى عَلَيْهِم وَلم يخيب أضيافه وزائريه والمنيخين بفنائه يستعطفونه ويسألونه سُؤال الْمَسَاكِين فَيضمن عَنْهُم التَّبعَات ويرضى أَهلهَا عَنْهُم فغفرها فبقوا فِي ستره وَرَضي الْحق جل جلاله ضَمَان الْكَرِيم الوفي وخلا
عَنْهُم فصاروا إِلَى تطواف بَيته الْمحرم لائذين بِهِ بعد أَن أرضوا الْحق تَعَالَى وَتطَهرُوا من الأدناس فحباهم وخلع على قُلُوبهم من النُّور وَتلك عرائس الضِّيَافَة
-
الأَصْل الثَّانِي وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي صفة الْأَوْلِيَاء وَحَقِيقَة الْولَايَة أَو التحذير من إهانتهم
عَن أنس رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن جبرئيل عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وَإِنِّي لأسرع شَيْء إِلَى نصْرَة أوليائي لِأَنِّي لأغضب لَهُم كَمَا يغْضب اللَّيْث الْحَرْب وَمَا ترددت عَن شَيْء أَنا فَاعله ترددي عَن قبض روح الْمُؤمن يكره الْمَوْت وأكره مساءته وَلَا بُد لَهُ مِنْهُ وَمَا تعبد لي عَبدِي الْمُؤمن بِمثل الزّهْد فِي الدُّنْيَا وَلَا تقرب إِلَيّ عَبدِي الْمُؤمن بِمثل أَدَاء مَا افترضت عَلَيْهِ وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيّ بالنوافل حَتَّى أحبه فاذا أحببته كنت سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا إِن سَأَلَني أَعْطيته وَإِن دَعَاني استجبت لَهُ وَإِن من عبَادي الْمُؤمنِينَ لمن لَا يصلحه إِلَّا الْغَنِيّ وَلَو أفقرته لأفسده ذَلِك وَإِن من عبَادي الْمُؤمنِينَ من لَا يصلحه إِلَّا الْفقر وَلَو أغنيته لأفسده ذَلِك وَإِن من عبَادي الْمُؤمنِينَ من لَا يصلحه إِلَّا الصِّحَّة وَلَو أسقمته لأفسده ذَلِك وَإِن من عبَادي الْمُؤمنِينَ من لَا يصلحه إِلَّا السقم وَلَو صححته لأفسده ذَلِك إِنِّي أدبر عبَادي بعلمي بقلوبهم إِنِّي عليم خَبِير
وَفِي رِوَايَة عَائِشَة رضي الله عنها فَإِذا أحببته كنت بَصَره الَّذِي بِهِ يبصر وَلسَانه الَّذِي بِهِ ينْطق وَأذنه الَّذِي بهَا يسمع وفؤاده الَّذِي بِهِ يعقل وَيَده الَّذِي بهَا يبطش وَرجله الَّذِي بهَا يمشي
قَوْله من أهان لي وليا فالولي من ولي الله هدايته وَنَصره وَأَخذه من نَفسه وَرَفعه بمحمل عَليّ جَاهد فَصدق الله فِي جهده حَتَّى إِذا استفرغ وَسعه فِي ذَلِك ألْقى نَفسه بَين يَدَيْهِ ضرعا مستكينا مستغيثا بِهِ صَارِخًا إِلَيْهِ مُضْطَرّا وَقَالَ تَعَالَى أَمن يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأَرْض
فَأَجَابَهُ الله تَعَالَى ورحمه وَأَخذه من نَفسه بِنور فتح لِقَلْبِهِ من الْغَيْب فاشتعل نَارا أحرقت شهوات نَفسه وأشرق الصَّدْر بنوره فكشف السوء وَجعله من خلفائه إِمَامًا من أَئِمَّة الْهدى وَجعله ربيعا يشم أزهاره وخريفا يجتني أثماره وَولي إِقَامَته على طَرِيقَته حَتَّى رتب لَهُ مَا عِنْده وَهُوَ قَوْله تَعَالَى وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا وَإِن الله لمع
الْمُحْسِنِينَ)
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم الْمُجَاهِد من جَاهد نَفسه فِي ذَات الله تَعَالَى وَذَلِكَ أفضل الْجِهَاد
فَمن أهان هَذَا الْوَلِيّ فقد خرج إِلَى مبارزة الله تَعَالَى يُرِيد أَن يسلبه مَا أَخذ وَيَأْخُذ مِنْهُ مَا قد رفع فيضعه
وَقَوله وَإِنِّي لأسرع شَيْء إِلَى نصْرَة أوليائي فَإِن من تَدْبِير الله تَعَالَى أَن الْحق عزو جلّ وَالرَّحْمَة مقتضيان فِي شَأْن الْخلق فَالْحق تَعَالَى يَقْتَضِي عبودته فَمن لم يقبلهَا فَهُوَ ذَرأ النَّار قَالَ تَعَالَى لأملئن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ
وَمن قبلهَا فوفى بهَا فَلَا حِسَاب وَلَا عَذَاب وَيدخل الْجنَّة بِسَلام وَمن قبلهَا فوفى بِبَعْض وضيع بَعْضًا اقْتضى الْحق تَعَالَى ذَلِك وَالنَّار منتقمة تَأْخُذ من جسده وَتَدَع كَمَا وفى بِبَعْض وَترك بَعْضًا فَإِذا قَالَ جَاءَت الْمَشِيئَة جَاءَت الرَّحْمَة فَأَخَذته من الْحق تَعَالَى فأنقذته من الْعَذَاب فَإِن الْحق تَعَالَى يَقْتَضِي الْغَضَب وَالنَّار وتجيء الرَّحْمَة لمن سبقت لَهُ رَحمته غَضَبه فَأَخَذته من الْحق قَالَ تَعَالَى سبقت رَحْمَتي غَضَبي
وَهَذَا لعامة الْمُوَحِّدين فَأَما الْأَوْلِيَاء فَإِنَّمَا نالوا الْولَايَة بِالرَّحْمَةِ الْعُظْمَى
فَمن نازعه أَو آذاه أَو ظلمه فالرحمة خَصمه وَالْحق عز وجل خصم الْجَمِيع فقد اجْتمع الْحق وَالرَّحْمَة فِي طلب ثَأْره من ظالمه فَلذَلِك كَانَ أسْرع شَيْء إِلَى نصْرَة أوليائه عليهم السلام وَالرَّحْمَة من الْمَشِيئَة وَالْحق من الْقُدْرَة
وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك مَا روى ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نَادَى مُنَاد ليقمْ أهل الله فَيقوم أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رضي الله عنهم فَيُقَال لأبي بكر رضي الله عنه قُم على بَاب الْجنَّة فَأدْخل فِيهَا من شِئْت برحمة الله تَعَالَى ورد مِنْهَا من شِئْت بقدرة الله تَعَالَى وَيُقَال لعمر رضي الله عنه قُم عِنْد الْمِيزَان فثقل ميزَان من شِئْت برحمة الله واخف ميزَان من شِئْت بقدرة الله وَيُقَال لعُثْمَان رضي الله عنه خُذ هَذِه الْعَصَا فذد بهَا للنَّاس عَن الْحَوْض وَيُقَال لعَلي رضي الله عنه البس هَذِه الْحلَّة فَإِنِّي قد خبأتها لَك مُنْذُ خلقت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَى الْيَوْم
فقد بَين صلى الله عليه وسلم منَازِل الْقَوْم أَنهم أهل الله عز وجل وخاصته وَأَنه ينْكَشف ذَلِك لأهل الْموقف غَدا يظهره عَلَيْهِم عِنْد خلقه وَقد صَارُوا أُمَنَاء الله تَعَالَى ووقفت قُلُوبهم بَين يَدَيْهِ رافضين لمشيئتهم وَلذَلِك سماهم أهل الله والأهل والآل بِمَعْنى يئولون إِلَيْهِ فِي كل شَيْء فيبرز لأهل الْموقف مقاومهم بقلوبهم وضمائرهم الَّتِي كَانَت فِيمَا بَينهم وَبَين الله تَعَالَى كَرَامَة لَهُم وتنويها بِأَسْمَائِهِمْ فِي ذَلِك الْجمع فَكَانَ الْغَالِب على أبي بكر رضي الله عنه الرَّحْمَة فِي أَيَّام الْحَيَاة وَالْغَالِب على عمر رضي الله عنه الْقيام بِالْحَقِّ وتعزيزه وكأنهما كَانَا مِمَّن هُوَ فِي قَبضته يَسْتَعْمِلهُ فَاسْتعْمل هَذَا بِالرَّحْمَةِ وَهَذَا بِالْحَقِّ فَهَذَا وقف عِنْد بَاب الْجنَّة يطْلب أهل الْموقف بِالرَّحْمَةِ ليوردهم الْجنَّة وَذَا يقف عِنْد الْمِيزَان وَيُطَالب أهل الْموقف بِالْعَدْلِ
وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم بِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي ينْطق
وَمِنْه قَول عمر رضي الله عنه حَيْثُ أَتَاهُ رجل وَالدَّم يسيل على وَجهه من شجته فَقَالَ وَيحك من فعل بك قَالَ عَليّ فَقَالَ عَليّ رضي الله عنه رَأَيْته مقاوما إمرأة فأصغيت إِلَيْهِمَا فساءني مَا سَمِعت فشججته فَقَالَ عمر رضي الله عنه أصابتك عين من عُيُون الله تَعَالَى وَإِن لله تَعَالَى فِي الأَرْض عيُونا فَهَذَا قَوْله صلى الله عليه وسلم بِي يسمع وَبِي يبصر وَبِي يبطش
وَأما عُثْمَان رضي الله عنه فَكَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ إغاثة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي نوائبه بِالْمَالِ فَحكمه فِي شَأْن الْحَوْض ليذود من لم يسْتَحق من الْحَوْض شرابًا فَإِن الْحَوْض غياث الْخلق يَوْمئِذٍ
وَأما عَليّ كرم الله وَجهه فالغالب عَلَيْهِ النَّفاذ فِي علم التَّوْحِيد وَبِه كَانَ يبرز على عَامَّة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَرَضي الله عَنْهُم وَيدل على ذَلِك خطبه فَإِنَّهُ بَالغ فِي التَّوْحِيد وَالثنَاء على ربه تَعَالَى وبرز على غَيره والحلة الَّتِي خبأها لَهُ هِيَ حلَّة التَّوْحِيد فَهَذَا قسم الله لَهُم وحظوظهم مِنْهُ فيظهرها الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة على أَحْوَالهم
قَالَ صلى الله عليه وسلم أرْحم أمتِي بأمتي أَبُو بكر وَأَقْوَاهُمْ فِي دين الله عمر وأصدقهم حَيَاء عُثْمَان
وَقَوله مَا ترددت فِي شَيْء ترددي عَن قبض روح عَبدِي فَإِن الْمَوْت خلق فظيع مُنكر لَا بُد للأحباب أَن يذوقوه وَأمر ثقيل مر لَا يَخْلُو من أَن يكرهوه وَقد علم الله تَعَالَى أَنه يشْتَد عَلَيْهِم ويتأذون بِهِ فتردد فِي فعله لكَرَاهَة مساءتهم وَقد قضى الله تَعَالَى على نَفسه حتما أَنه يَفْعَله فمشيئته لموتهم تردد بَين الْحق وَالرَّحْمَة فَالْحق تَعَالَى ينفذ الْمَوْت وَالرَّحْمَة تَدْفَعهُ والمشيئة مترددة بَينهمَا مرّة إِلَى الرَّحْمَة وَمرَّة إِلَى الْحق فَمن كَانَ أَيَّام الْحَيَاة اهتش إِلَى ذكر الله شوقا إِلَيْهِ فغليان الشوق فِي قلبه مراجل وَهَذَا الشوق فِي الْقلب بِالرَّحْمَةِ فَتلك الرَّحْمَة تتحرك لَهُ عِنْد كل نائبة وَأعظم نوائبه الْمَوْت يُرِيد خلاصه وَالْحق من ناحيته يَقْتَضِيهِ أَن ينفذ الْمَوْت عَلَيْهِ والمشيئة من الله تَعَالَى مترددة فِيمَا بَينهمَا مرّة إِلَى هَذَا وَمرَّة إِلَى ذَلِك وَلَا بُد من الْمَوْت فَأَما غير هَؤُلَاءِ فَلَيْسَ لَهُم هَذَا الْحَال فَإِذا جَاءَت الْمَشِيئَة مَعَ الْحق نفذ أمره قَالَ تَعَالَى وَجَاءَت سكرة الْمَوْت بِالْحَقِّ ذَلِك مَا كنت مِنْهُ تحيد
فالحائد من الْمَوْت أَيَّام الْحَيَاة يَأْخُذهُ الْحق بتنفيذ الْمَوْت وَلَيْسَ للرحمة حَرَكَة فِي الدّفع عَنهُ لِأَن الْمَشِيئَة لم تَتَرَدَّد بَينهمَا فنفذ
وَقَوله إِنِّي لأغضب لَهُم كَمَا يغْضب اللَّيْث الْحَرْب فالليث كريم لَا يُؤْذِي حَتَّى يجترأ عَلَيْهِ فاذا اجترىء عَلَيْهِ اصطفه حَرْب فَكسر وَدَمرَ على من ظفر بِهِ فَمن آذي ولي الله تَعَالَى فَإِنَّمَا يجترىء على الله تَعَالَى يُرِيد أَن يحاربه فَيَأْخُذ مِنْهُ مَا إصطفاه لنَفسِهِ فَيفْسد شَأْنه ويهدم تَرْبِيَته وبنيانه فَإِن الْوَلِيّ إِذا بلغ غَايَة الصدْق فِي السّير إِلَى الله تَعَالَى ومجاهدة النَّفس وفطم نَفسه عَن سيىء الْأَخْلَاق وَقد انْقَطَعت حيلته وَبَقِي بَين يَدَيْهِ ينْتَظر رَحمته انتخبه الله تَعَالَى للولاية ووكل
الْحق بِهِ يهديه ويطهره ويسير بِهِ إِلَيْهِ وَترد إِلَيْهِ الْأَنْوَار من قربه وتطهر نَفسه وتميت مِنْهُ الْأَخْلَاق الرَّديئَة فَذَاك تربية الله تَعَالَى لَهُ فَإِذا تمّ الْبُنيان والتربية كشف الغطاء وأشرق على صَدره نوره وَجعل لِقَلْبِهِ إِلَيْهِ طَرِيقا لَا يَحْجُبهُ عَنهُ شَيْء فَهُوَ ولي الله يَتَوَلَّاهُ فِي أُمُوره وَهُوَ يكلؤه ويستعمله فَمن يتَعَرَّض لَهُ ويظلمه فقد اجترأ على الله تَعَالَى يُرِيد أَن يهدم بُنْيَانه وَيفْسد تَرْبِيَته فَغَضب الله لَهُ
وَهَذَا مثل قَوْله صلى الله عليه وسلم إياك ونار الْمُؤمن لَا تحرقك وَإِن عثر كل يَوْم سبع مَرَّات فَإِن يَمِينه بيد الله تَعَالَى إِذا شَاءَ أَن ينعشه نعشه
وَأَرَادَ بِالْمُؤمنِ هَهُنَا الْمُؤمن الْبَالِغ وَهُوَ الْوَلِيّ لله تَعَالَى الَّذِي احتظى من النُّور والقربة وَقد تولاه الله تَعَالَى فَإِذا تعرضت لَهُ بمكروه فَنَار نوره تحرقك فَأَما الْعَامَّة من الْمُؤمنِينَ فمعه نور التَّوْحِيد وَلَا حَظّ لَهُ من نوره فَلَيْسَ لَهُ نَار تحرق وَلِهَذَا حذرك صلى الله عليه وسلم أَن يشْتَبه عَلَيْك أمره فَإِذا رَأَيْته عثر أَو وَقع فِي زلَّة أَن تنظر إِلَيْهِ بِعَين الازراء كَسَائِر الْعَامَّة فَإِن يَمِينه بيد الله تَعَالَى لِأَنَّهُ صَار فِي قَبضته وَقد أَخذه من نَفسه فَهُوَ يمسِكهُ وَهُوَ يحفظه فَإِذا عثر فَتلك العثرة كَانَت فِي تَدْبِير الله تَعَالَى لَهُ ليجدد عَلَيْهِ أَمر أَو ليرفعه إِلَى مَا هُوَ أعظم شَأْنًا وَلَيْسَت تِلْكَ عَثْرَة رفض إِنَّمَا هِيَ عَثْرَة تَدْبِير كَذَا دبر لَهُ كَمَا دبر لداود عليه السلام تِلْكَ الْخَطِيئَة ثمَّ انْظُر أَي شَيْء كَانَ لَهُ بعد الْخَطِيئَة من الْكَرَامَة والقربة وَظهر لَهُ من الله تَعَالَى الزلفة والعطف عَلَيْهِ فَيكون للأولياء عثرات يجدد الله تَعَالَى لَهُم بهَا كرامات ويبرز لَهُم مَا كَانَ مغيبا عَنْهُم من حبه إيَّاهُم وَعطفه عَلَيْهِم فينعشهم فَهُوَ مَعَ ذَلِك الذَّنب يَمِينه بيد الله لم يكله إِلَى نَفسه وَلَا تخلى عَنهُ
وَإِنَّمَا يجْرِي عَلَيْهِ الذَّنب ثمَّ ينعشه فيدخله الله الْجنَّة وَيدخل الَّذِي يعير بِهِ النَّار
وَقَوله وَمَا تقرب إِلَيّ عَبدِي الْمُؤمن بِمثل أَدَاء مَا افترضته فَإِنَّمَا فرض الله تَعَالَى الْفَرَائِض من الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج ليحط بهَا عَنهُ الْخَطَايَا وليتطهر بهَا العَبْد قَالَ تَعَالَى وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار إِلَى قَوْله إِن الْحَسَنَات يذْهبن السيئآت فَإِن العَبْد قد يلهو عَن العبودة ويطيع الْهوى ويركب الْخَطَايَا والذنُوب
فَهَذِهِ سيئآت قد قبحته وشانته فَإِذا صلى فالقيام تذلل وَتَسْلِيم وَالرُّكُوع خشوع وَالسُّجُود خضوع وَالْجُلُوس رَغْبَة وضرع فَهَذِهِ حَسَنَات تذْهب السيآت وَتظهر الزين وتستر الشين وَأما الزَّكَاة فَقَالَ تَعَالَى خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا
وَأما الْحَج فَإِن الله تَعَالَى أَمر بِالْوُقُوفِ ثمَّ قَالَ فِي آخِره فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ أَي يرجعُونَ مغفورين قد حطت عَنْهُم الآثام
فَهَذِهِ الْفَرَائِض فَرضهَا عَلَيْهِم لتَكون دَوَاء للداء الَّذِي اكتسبوه فَإِذا أَقَامَهَا فقد تطهر فصلح للقربة فَإِذا تنفل بعد ذَلِك اسْتوْجبَ الْمحبَّة فَإِن النَّفْل فِي الْمَغَازِي كالعطف من الْأَمِير على الْوَاحِد من أهل الْعَسْكَر يَخُصُّهُ بِهِ وَالنَّفْل زِيَادَة على الْقِسْمَة خَارج مِنْهَا يبره الْأَمِير على قدر عنائه فِي الْحَرْب وبلائه فَإِذا تنفل العَبْد بِزِيَادَة على الْفَرْض ينفل الْقرْبَة والمحبة فَإِذا أحبه أَحْيَاهُ وَاخْتَارَهُ وأوصله إِلَى حَبَّة الْقُرْبَى وَلكُل
شَيْء حَبَّة وحبة كل شَيْء وَسطه وجوفه ولبابه فنال الْقرْبَة بأَدَاء الْفَرَائِض وَنفل بالمحبة بالتطوع فأوصل إِلَى أقرب الْقرْبَة وحبته فهناك يحيى قلبه بالحي الَّذِي لَا يَمُوت فَإِذا أَحْيَاهُ بِهِ كَانَ سَمعه وبصره وفؤاده وَلسَانه
وَقَوله وَمَا تعبد لي عَبدِي بِمثل الزّهْد فِي الدُّنْيَا هَكَذَا شَأْن العَبْد يزهد فِي كل شَيْء لم يقدر لَهُ فِي اللَّوْح فَمَا أعطي علم أَنه كَانَ قدر لَهُ فَقبله وَمَا منع علم أَنه لم يكن قدر لَهُ فَرفع عَنهُ باله فَإِذا فعل ذَلِك فقد أبرز صدق الْعِبَادَة وتهاون بالدنيا فَلم يلحظ إِلَيْهَا فَهَذَا مِنْهُ تَصْدِيق إِيمَان وَتَحْقِيق لِأَنَّهُ لما أَيقَن بِالآخِرَة وَنظر إِلَيْهَا بِنور الْيَقِين تلاشت الدُّنْيَا فِي عينه فِي جنب مَا أعد الله لَهُ فِي الْآخِرَة فصغرت عِنْده وزهدت وَإِذا قل الشَّيْء فِي عين الْمَرْء تهاون بِهِ فَإِنَّمَا أبصروا قلَّة الدُّنْيَا بِنور الْإِيمَان الَّذِي أبصروا بِهِ كَثْرَة الْآخِرَة وعظمها فنيلوا بذلك وشرفوا وأعرضوا عَن جَمِيعهَا إِلَّا مَا قدر لَهُم فِي اللَّوْح فَعَظمُوا ذَلِك الْقدر الَّذِي أوصل إِلَيْهِم لأَنهم علمُوا أَن هَذَا وصل إِلَيْهِم بتدبير الله تَعَالَى وصنعه وَعطفه وَرَحمته فَعظم شَأْن ذَلِك عِنْدهم فَفَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا وحمدوا رَبهم وتوسعوا فِي ذَلِك فَمن بلغك عَن أحد من أَئِمَّة السّلف رحمهم الله أَنه فَرح بِشَيْء مِمَّا أُوتِيَ أَو عظمه فَإِنَّمَا عظمه أَو فَرح بِهِ لَا من طَرِيق قدر الشَّيْء بل فرحه بتدبير الله تَعَالَى وصنعه لَهُ كَيفَ دبر لَهُ مَا قسم لَهُ فِي اللَّوْح وَلها عَمَّا سوى ذَلِك فأنعم فِيهِ النّظر كي لَا تغلط وتظن بهم ظن السوء فالزاهدون متعبدة فعبدوه بالزهد حَتَّى تقربُوا إِلَيْهِ وأعرضوا عَن الدُّنْيَا والأولياء عبيد تَعْبُدُوهُ بالعبودة وتقربوا إِلَيْهِ حَتَّى أَعرضُوا عَن النَّفس فَمن أعرض عَن الدُّنْيَا أَقَامَ الزّهْد وَمن أعرض عَن النَّفس أَقَامَ العبودة
وَعَن الْحسن رضي الله عنه بني الْإِسْلَام على عشرَة أَرْكَان أَحدهَا الْإِخْلَاص بِاللَّه تَعَالَى وَهِي الْفطْرَة وَمعنى ذَلِك أَن الْخلق
فطروا على الْمعرفَة فَلَيْسَ أحد يقدر أَن يُنكره فهم يقرونَ بِهِ ويعرفونه معرفَة الْفطْرَة وَقد اسْتَوَى فِيهِ الْخلق قَالَ تَعَالَى {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا}
قَوْله الْإِخْلَاص بِاللَّه أَي الْمُؤمن لما أَدْرَكته الْهِدَايَة وَجعل الله تَعَالَى لَهُ نورا فأحياه خلص الله تَعَالَى أمره
الثَّانِي الصَّلَاة وَهِي الْملَّة وَمعنى ذَلِك أَنَّهَا تشْتَمل على أَفعَال مَضْمُومَة بَعْضهَا إِلَى بعض فصيرت فعلا وَاحِدًا وَكَذَلِكَ يجْتَمع الْخلق بأجسادهم على هَذَا الْأَمر الْوَاحِد فَتكون صلَاتهم مَضْمُومَة بَعْضهَا إِلَى بعض فَتكون صَلَاة وَاحِدَة وَالْملَّة مَا ضمت وَلذَلِك سميت الخبزة المضمومة إِلَى الحفرة مِلَّة
الثَّالِث الزَّكَاة وَهِي الطهرة وَمَعْنَاهُ أَن الزَّكَاة طهرة لَهُم من أدناسهم قَالَ تَعَالَى خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا
فَإِن الله تَعَالَى جعل المَال سَببا لقوام معاشهم وخلقهم مُحْتَاجين مضطرين والمضطر مفزعه إِلَى من اضْطر إِلَى نَفسه فَترك مفزعه وَجعل الْبَاب الَّذِي صير سَببا مفزعا لِحَاجَتِهِ فَمَال بِقَلْبِه عَن الله تَعَالَى وَلِهَذَا سمي مَالا لميل الْقُلُوب عَن الله تَعَالَى إِلَيْهَا فقد دنس بذلك فَقيل تصدقوا أَي أعْطوا من هَذَا المَال مَا يظْهر صدق أقوالكم انا لله وان الْأَمْوَال مِنْهُ فِي أَيْدِينَا وَسميت صَدَقَة لِأَنَّهُ يظْهر بالإعطاء صدق أَقْوَالهم فَتَصِير صَدَقَاتهمْ طهرة لَهُم من أدناسهم إِذا أَصَابَهُ من الْحَلَال يصير دنسا لميل قلبه عَن الله تَعَالَى فَكيف بالحرام والشبهة فالحرام لَا
يطهرها شَيْء والشبهة مَوْقُوفَة والحلال متقبل وَقد أَمر الله تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ من مكاسب الْحَلَال والغنائم
الرَّابِع الصّيام وَهِي الْجنَّة قَالَ صلى الله عليه وسلم حفت الْجنَّة بالمكاره وَالنَّار بالشهوات وَفِي الصّيام ترك الشَّهَوَات فَإِذا تَركهَا فقد ترك حفاف النَّار فَصَارَ جنَّة لَهُ من النَّار
الْخَامِس الْحَج وَهِي الشَّرِيعَة فَإِن الله تَعَالَى دعاهم إِلَى أَن يُؤمنُوا بِهِ ويسلموا إِلَيْهِ وَجها وَجعل الْبَيْت معلمه فهناك آثاره وآياته وَقد كَانَ من قبل خلق الأَرْض زبدة بَيْضَاء فاقتضاهم الْإِجَابَة لَهُ بإتيانهم الْمظهر الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَرْش قلبا وبإتيانهم الْمعلم الَّذِي على الأَرْض بدنا وهما طَرِيقَانِ لَهُم إِلَيْهِ
السَّادِس الْجِهَاد وَهِي الْعِزَّة وَمعنى ذَلِك أَن الله تَعَالَى دَعَا الْعباد إِلَى أَن يوحدوه فأجابته طَائِفَة وامتنعت طَائِفَة وتعززوا بِالْكبرِ الَّذِي فِي صُدُورهمْ وَالْقُوَّة الَّتِي فِي أبدانهم وَالنعْمَة الَّتِي أسبغها عَلَيْهِم فَقَالَ للطائفة المجيبة أَنْتُم أَنْصَارِي وأوليائي {فَإِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا فَضرب الرّقاب} فثارت هَذِه الطَّائِفَة حمية لله تَعَالَى ونصرته وولايته فَقَتَلُوهُمْ وأخذوهم وَأسرُوهُمْ قَالَ الله تَعَالَى وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ فالجهاد هُوَ الْعِزَّة
السَّابِع الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ الْحجَّة لِأَن الْمُرْسلين بعثوا لذَلِك
فَمن فعله من بعدهمْ فَهُوَ من خلفائهم يُقيم حجَّة الله على خلقه
الثَّامِن النَّهْي عَن الْمُنكر وَهُوَ الواقية قَالَ الله تَعَالَى {كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ}
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الظَّالِم إِذا لم يَأْخُذُوا على يَدَيْهِ يُوشك أَن يعمهم الله بِعَذَاب
وروى النُّعْمَان بن بشير رضي الله عنه يَقُول سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على منبرنا هَذَا يَقُول مثل الْقَائِم على حُدُود الله والمداهن فِي حُدُود الله والساكت عَنهُ والراكب حُدُود الله كَمثل قوم ركبُوا سفينة فاقترعوا منازلها فَأخذ أحدهم الْقدوم فَنقرَ السَّفِينَة فَقَالَ أحدهم لآخر يخرق السَّفِينَة وَيُرِيد أَن يغرقنا فَقَالَ لَهُ الآخر دَعه فَإِنَّمَا يخرق مَكَانَهُ فَإِن تَرَكُوهُ هلك وهلكوا وَإِن أخذُوا على يَدَيْهِ نجا ونجوا فَإِذا غيروا ونهوا كَانَ ذَلِك واقية للعذاب
وَالتَّاسِع الطَّاعَة وَهِي الْعِصْمَة فَإِن طَاعَة الْأَئِمَّة مَنُوط بِطَاعَة الله تَعَالَى وَهِي عصمَة بهم يعصمهم الله تَعَالَى ويسكن الْفِتْنَة ويقمع أهل الريب وَيقوم الْحَج وَالْجهَاد وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر
فالسلطان شَأْنه عَظِيم وَهُوَ رَحْمَة من الله تَعَالَى فطاعتهم عصمَة
والعاشر الْجَمَاعَة وَهِي الألفة فَإِن الله تَعَالَى جمع الْمُؤمنِينَ على معرفَة وَاحِدَة وَشَرِيعَة وَاحِدَة ليألف بَعْضهَا بَعْضًا بِاللَّه تَعَالَى وَفِي الله فيكونون كَرجل وَاحِد قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة}
فَإِذا لم يخرج إِلَى حدث وَلَا إِلَى بِدعَة فَهُوَ فِي الألفة مَعَهم وَالله أعلم وَأحكم
-
الأَصْل الثَّالِث وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي مَذَاهِب أهل الْأَهْوَاء
عَن عَائِشَة رضي الله عنها أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا من هم قلت الله وَرَسُوله أعلم قَالَ هم أَصْحَاب الْأَهْوَاء وَأَصْحَاب الْبدع وَأَصْحَاب الضلال من هَذِه الْأمة يَا عَائِشَة إِن لكل ذَنْب تَوْبَة مَا خلا أَصْحَاب الْأَهْوَاء والبدع لَيْسَ لَهُم تَوْبَة أَنا مِنْهُم بَرِيء وهم مني برَاء
أهل الْأَهْوَاء قوم استعملوا أهواءهم والأهواء ميالة عَن الله تَعَالَى فَحَيْثُ مَا مَالَتْ اتبعها قُلُوبهم لِأَنَّهُ لم يكن فِي قُلُوبهم من النُّور مَا يصدهم عَن إتباعها قَالَ الله تَعَالَى {فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله}
وَسميت زيغا لِأَنَّهَا زائغة بِالْقَلْبِ عَن الله تَعَالَى وَأهل الْأَهْوَاء كلما استحلوا شَيْئا ركبوه واتخذوه دينا حَتَّى ضربوا الْقُرْآن بعضه بِبَعْض وحرفوه فَمنهمْ من يرفض حَتَّى جحد نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ونسبوا الرسَالَة
إِلَى عَليّ كرم الله وَجهه وَمِنْهُم من اتَّخذهُ رَبًّا فَدخل عَلَيْهِ فَقَالَ أَنْت رَبِّي فَقَامَ عَليّ فوطئه بقدمه حَتَّى قَتله وَأحرقهُ بالنَّار
وَمِنْهُم من أبدعوا من تِلْقَاء أنفسهم بدعا فازالت بهم تِلْكَ الْبدع حَتَّى أدتهم إِلَى الْخُرُوج على عَليّ رضي الله عنه وَإِلَى حربه وهم الْخَوَارِج وَأهل حروراء
وَقوم قد تزهدوا بِغَيْر علم فأداهم الْجَهْل إِلَى أَن أبدعوا من تِلْقَاء أنفسهم بدعا وَحَسبُوا أَن الزّهْد فِي الدُّنْيَا تجنب الْأَشْيَاء فعلا وَالْعُزْلَة من أهل الدُّنْيَا فضيعوا الْحُقُوق وَقَطعُوا الْأَرْحَام وجفوا الْخلق واكفهروا فِي وُجُوه الْأَغْنِيَاء وَفِي قُلُوبهم من شَهْوَة الْغنى أَمْثَال الْجبَال الشامخات وَلم يعلمُوا أَن أصل الزّهْد موت الشَّهَوَات من الْقلب فَلَمَّا اعتزلوها بالجوارح اكتفوا بِهِ وَحَسبُوا أَنهم استكملوا الزّهْد حَتَّى تأدى بهم الْجَهْل إِلَى أَن طعنوا فِي الْأَئِمَّة الَّذين عرفُوا بسعة المعاش وَكَثْرَة المَال حَتَّى عابوا الْأَنْبِيَاء وطعنوا على سُلَيْمَان عليهم السلام
وَقوم زَعَمُوا أَنهم توكلوا على رَبهم وَأَن الطّلب شكّ وَأَن الرزق يَأْتِي فِي وقته فقعدوا رفضا للطلب والمكسب فضيعوا الأهلين وَالْأَوْلَاد فِي خلال ذَلِك يتدنسون فِي أَبْوَاب المطامع ويخادعون الله تَعَالَى فِي مُعَامَلَته
وَقوم اتَّخذُوا الْعلم الَّذِي هُوَ حجَّة الله تَعَالَى على عباده حِرْفَة وصيروها مأكلة فأكدوا بهَا رياستهم واحتظوا بِهِ من الْقُلُوب وصحبوا بهَا الْمُلُوك ختلا لما فِي أَيْديهم من الحطام فلينوا لَهُم فِي القَوْل طَمَعا لما فِي أَيْديهم وداهنوهم لما يرجون من نوالهم وساعدوهم على تجبرهم وجورهم
وَقوم مفتونون نسبوا إِلَى الدّين والتقطوا الرُّخص وزلات الْعلمَاء فاتخذوها دينا وتذرعوا بذلك إِلَى شهواتهم وزينوا لِلْخلقِ بذلك تسترا على أَحْوَالهم السَّيئَة من تعَاطِي الْأَشْرِبَة الْمُحرمَة والمكسبة الرَّديئَة وَأَشْبَاه ذَلِك
وَقوم هم أهل الضَّلَالَة كالمشبهة والقدرية والجبرية والجهمية وأشباههم مَالَتْ قُلُوبهم وأبدعوا وَضَلُّوا عَن الله تَعَالَى فَإِن الله تَعَالَى اقْتضى للعباد الْإِسْلَام دينا وَالْإِسْلَام تَسْلِيم النَّفس وَالدّين الخضوع لله تَعَالَى بِتَسْلِيم النَّفس إِلَيْهِ قَالَ الله تَعَالَى وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ
فَجعل الدّين فِي تَسْلِيم النَّفس إِلَيْهِ فدانوا بِأَن سلمُوا نُفُوسهم إِلَيْهِ قبولا لآمره وطاعته فَأنْزل كلَاما فرقانا يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل وَأمر بالاعتصام بِهِ وَأَشَارَ إِلَى دَار السَّلَام أَن هَذَا مصيركم وإليها أدعوكم فَقَالَ واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا وَهُوَ عَهده
الَّذِي أنزل قَالَ وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام
وَدلّ على الطَّرِيق الْمُسْتَقيم إِلَيْهَا من غير تعريج وَلَا تلوية ودبر فِي هَذَا الطَّرِيق فَرَائض مَعْلُومَة وسننا وَأخذ زِينَة ليَوْم الْعرض عَلَيْهِ
فالزائغون تركُوا الخضوع لله تَعَالَى وَتَسْلِيم النَّفس إِلَيْهِ ففارقوا دينهم فصاروا شيعًا وأحزابا وزين لَهُم سوء أَعْمَالهم وسد عَلَيْهِم بَاب الْقدر فاستبدوا وتعمقوا فِي طلبه حَتَّى هَلَكُوا وأداهم ذَلِك إِلَى أَن برءوا الله من قدرته وشاركوه فِي مَشِيئَته إفكا وافتراء وسد عَلَيْهِم بَاب دَرك الْكَيْفِيَّة فاستبدوا يطْلبُونَ الكنه والكيفية حَتَّى عدلوه بخلقه وسد عَلَيْهِم بَاب التعمق فَمَا زَالُوا ينزهونه حَتَّى تاهوا فِي الْإِلْحَاد عَنهُ فنفوا عَنهُ مَا لم ينف عَن نَفسه الْكَرِيمَة
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم قد افْتَرَقت بَنو إِسْرَائِيل الْيَهُود مِنْهُم على إِحْدَى وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة وافترقت النَّصَارَى على اثْنَتَيْنِ وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة وَسَتَفْتَرِقُ هَذِه الْأمة على ثَلَاث وَسبعين فرقة كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة قيل يَا رَسُول الله من هَذِه الْوَاحِدَة قَالَ السوَاد الْأَعْظَم
وَعَن عمر رضي الله عنه قَالَ أَتَانِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنا أعرف الْحزن فِي وَجهه فَأخذ بلحيته فَقَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
قَالَ وأتاني جبرئيل فَقَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
قلت أجل فانا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فمم ذَاك يَا جبرئيل
قَالَ إِن أمتك مفتتنة بعْدك بِقَلِيل من الدَّهْر غير كثير
فَقلت فتْنَة كفر أَو فتْنَة ضَلَالَة
قَالَ كل ذَلِك سَيكون
قلت وَمن أَيْن ذَاك وَأَنا تَارِك فيهم كتاب الله تَعَالَى
قَالَ بِكِتَاب الله يضلون وَأول ذَلِك من قبل قرائهم وأمرائهم يمْنَع الْأُمَرَاء النَّاس حُقُوقهم فَلَا يعطونها فيقتتلوا وَيتبع الْقُرَّاء أهواء الْأُمَرَاء فيمدونهم فِي الغي ثمَّ لَا يقصرون
قلت يَا جبرئيل فَبِمَ يسلم من يسلم مِنْهُم
قَالَ بالكف وَالصَّبْر إِن أعْطوا الَّذِي لَهُم أَخَذُوهُ وَإِن منعُوا تَرَكُوهُ
وَعَن أَفْلح مولى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أخوف مَا أَخَاف على أمتِي ثَلَاث ضَلَالَة الْأَهْوَاء وَاتِّبَاع الشَّهَوَات فِي الْبَطن والفرج وَالْعجب
وَإِنَّمَا صَار هَؤُلَاءِ فرقا لأَنهم فارقوا دينهم فبمفارقة الدّين تشتتت أهواءهم فافترقوا فَأَما اصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بعده فقد اخْتلفُوا فِي أَحْكَام الدّين فَلم يفترقوا لأَنهم لم يفارقوا الدّين وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِيمَا أذن لَهُم النّظر فِيهِ وَالْقَوْل بِاجْتِهَاد الرَّأْي وَاخْتلفت آراؤهم فاختلفت أَقْوَالهم وَقد أمروا بذلك فصاروا باختلافهم محمودين لِأَنَّهُ أدّى كل وَاحِد مِنْهُم على حياله مَا أَمر من جهد الرَّأْي وَالنَّظَر فِيهِ
وَكَانَ ذَلِك الِاخْتِلَاف رَحْمَة من الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة حَيْثُ
أَيّدهُم بِالْيَقِينِ ثمَّ وسع على الْعلمَاء مِنْهُم النّظر فِيمَا لَا يَجدونَ ذكره فِي التَّنْزِيل وَلَا فِي سنة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم حَتَّى يلحقوه بِبَعْض وَكَانُوا أهل مَوَدَّة وَعطف متناصحين أخوة الْإِسْلَام فِيمَا بَينهم قَائِمَة فَكل مَسْأَلَة حدثت فِي الْإِسْلَام فَخَاضَ فِيهَا النَّاس وَاخْتلفُوا فَلم يُورث ذَلِك الِاخْتِلَاف عَدَاوَة بَينهم وَلَا بغضا وَلَا فرقة علم أَن ذَلِك من مسَائِل الْإِسْلَام يتناظر فِيهِ وَيَأْخُذ كل فريق بقول من تِلْكَ الْأَقْوَال ثمَّ لَا يكونُونَ على أَحْوَالهم من الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة والألفة والمودة والنصيحة كَمَا فعل الصَّحَابَة والتابعون رضوَان الله عَلَيْهِم وكل مَسْأَلَة حدثت فَاخْتَلَفُوا فِيهَا فردهم اخْتلَافهمْ فِي ذَلِك إِلَى التولي والإعراض وَالرَّمْي بالْكفْر علم أَن ذَلِك لَيْسَ من أَمر الدّين فِي شَيْء بل حدثت من الْأَهْوَاء المردية الداعية صَاحبهَا إِلَى النَّار وتورث الْعَدَاوَة والتباين والفرقة لِأَنَّهَا من الَّتِي ابتدعها الشَّيْطَان فأقاها على أَفْوَاه أوليائه ليختلفوا وَيَرْمِي بَعضهم بَعْضًا بالْكفْر لِأَنَّهُ مَا خلت قُلُوبهم من خشيَة الله تَعَالَى وَخَوف عِقَابه بِمَا قدمت أَيْديهم من ذكر الْمَوْت والأهوال الَّتِي أمامهم والاهتمام بِصِحَّة الْأُمُور وَطلب الْخَلَاص فِيمَا بَينهم والانتباه لحسن صَنِيعه بهم وَطلب النجَاة من رق النُّفُوس إِلَى حريَّة العبودة لرَبهم عز وجل فَلَمَّا خلت من هَذِه الْأَشْيَاء قُلُوبهم وجد الْعَدو فرْصَة فَألْقى إِلَيْهِم مثل هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي يعلم المستنيرة قُلُوبهم أَن هَذَا تكلّف وخوض فِيمَا لَا يعنيه مثل قَوْلهم فِي الْجَبْر وَالْقدر والاستطاعة قبل الْفِعْل وَمَعَهُ وَطلب كَيْفيَّة صِفَات الله تَعَالَى وَفِي الْإِيمَان مَخْلُوق هُوَ أم لَا وَفِي الْقُرْآن مَا هُوَ وَفِي الْإِمَامَة من اسْتحقَّهَا بعد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم حَتَّى أداهم ذَلِك إِلَى أَن رفضوا الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وأظهروا شتمهم فلولا خذلانهم ونكوس قُلُوبهم لكانوا لَا يشتغلون بِمثل هَذَا وهم قوم قد مضوا إِلَى الله تَعَالَى بأعمالهم وَهُوَ يقسم لَهُم الْمنَازل بهواه وَيحمل بَعْضًا على بعض قَالَ الله تَعَالَى تِلْكَ أمة قد
خلت لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا كسبتم وَلَا تسْأَلُون عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ)
وَقد بعث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مبلغا ومعلما وهاديا فَخرج من الدُّنْيَا وَقد بلغ الرسَالَة وَأدّى الْأَمَانَة وَعلم وَهدى وأبلغ فِي النَّصِيحَة فَأَيْنَ القَوْل مِنْهُ للْأمة فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَأَيْنَ هدايته وتعليمه لَهُم وَلم يُوجد من الرَّسُول صلى الله عليه وسلم خبر وَاحِد فِي ذَلِك فَإِن كَانَ بعث مبلغا وَقد بلغ وَلم يكتم شَيْئا من الْوَحْي فَأَيْنَ هَذَا فِي الْوَحْي وَفِي السّنَن الَّتِي جَاءَت عَنهُ وَقد أدَّت عَنهُ أَئِمَّة الدّين آدَاب الْإِسْلَام فِي طعامهم وشرابهم ونومهم وخلائهم ووضوئهم ولباسهم ومشيهم وزيهم وَتركُوا هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي أدّى اخْتِلَاف الْقَائِلين عَنهُ إِلَى اكفار بَعضهم بَعْضًا ليعلم أَن هَذِه من مسَائِل الْفِتْنَة وَأَنَّهَا تُؤدِّي إِلَى الْحيرَة وَأَن الْكَلَام فِي ذَلِك مِمَّا لم يُؤذن فِيهِ
-
الأَصْل الرَّابِع وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن أحب الْأَصْوَات إِلَى الله تَعَالَى صَوت عبد لهفان
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا من صَوت أحب إِلَى الله تَعَالَى من صَوت عبد لهفان قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا اللهفان قَالَ صلى الله عليه وسلم عبد أصَاب ذَنبا فَكلما ذكر بِذَنبِهِ امْتَلَأَ قلبه فرقا من الله تَعَالَى فَقَالَ يَا رباه
اللهفان على مخرج فعلان إِذا كَانَ الشَّيْء الغا غَايَته فَهُوَ غَايَة التلهف على مَا فَاتَهُ بالتوجع وَالْفرق نفار الْقلب وَالْعَبْد إِذا اشْتَدَّ هيبته وَهُوَ الْغَالِب على قلبه وَذكر ذَنبه نفر قلبه بِمَا يلاحظه فَذَاك الْفرق فَإِذا امْتَلَأَ قلبه من ذَلِك فرق فَنَادَى نِدَاء من ينحط من مهوى لَا يدْرِي مَا قَعْره فَهُوَ فِي الانحطاط يُنَادي نِدَاء مستغيث يتلهف على مَا فَاتَهُ من مَكَان الْقرْبَة بغاية التلهف يَا رباه نِدَاء ندبة الثكلى نِدَاء توجع وحرقة وللفرق شَأْن عَظِيم لِأَنَّهُ عاين الْقلب سُلْطَانا عَظِيما وَهُوَ فِي مَحل ملك الْملك فَلم يَتَمَالَك الْقلب أَن لَا يفرق لانه فتح لَهُ من ملك الهيبة مَا فرقه
وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَرَأَ الْقُرْآن وَبَين يَدَيْهِ رجل فَسقط فَمَاتَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الْفرق فلذ كبده أَي قطعه لِأَن الكبد مُتَّصِل بِالْقَلْبِ من شقَّه الْأَيْمن فحرارته أحرقت الكبد
-
الأَصْل الْخَامِس وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي سنَن الْمُرْسلين
عَن مليح بن عبد الله الخطمي عَن أَبِيه عَن جده رضوَان الله عَلَيْهِم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خمس من سنَن الْمُرْسلين الْحيَاء والحلم والحجامة والسواك والتعطر
وَفِي رِوَايَة أبي أَيُّوب أَربع من سنَن الْمُرْسلين التعطر وَالْحيَاء وَالنِّكَاح والسواك
مَعْنَاهُ هَذِه الْخَمْسَة من شَأْنهمْ أما الْحيَاء فَإِن النُّور إِذا دخل الْقلب تخلص الرّوح من أسر النَّفس فَصَارَ إِلَى طبعه السماوي فالحياء خجالة الرّوح وتلكيه عَن كل عمل لَا يحسن فِي أهل السَّمَاء فَصَارَ الْحيَاء من شَأْنهمْ لطهارة الرّوح من أَسبَاب النَّفس
وَأما الْحلم فَهُوَ سَعَة الصَّدْر وانشراحه لوُرُود النُّور
وَأما الْحجامَة فلأجل أَن للدم حرارة وَقُوَّة وللنور حرارة فَإِذا لم ينقص من حرارة الدَّم أضربه وتبيغ الدَّم فَقتل لِأَن النُّور غَالب على صُدُورهمْ وَقُلُوبهمْ فتغلي من ذَلِك دِمَاؤُهُمْ فَإِذا لم يأخذوها فارت وأضرت وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يلقى من الصداع من نور الْوَحْي فيغلف رَأسه بِالْحِنَّاءِ ليخفف عَن رَأسه بِالْحِنَّاءِ سُلْطَان تِلْكَ الْحَرَارَة
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ مَا مَرَرْت بملأ من الْمَلَائِكَة لَيْلَة أسرِي بِي إِلَّا قَالُوا يَا مُحَمَّد مر أمتك بالحجامة وَإِنَّمَا خصت هَذِه الْأمة من أجل زِيَادَة النُّور قَالَ صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَيْت أمة مَا أَعْطَيْت أمتِي من الْيَقِين
وَأما السِّوَاك فَلِأَنَّهُ طَرِيق التَّنْزِيل وَالْوَحي الْوَارِد وَمَوْضِع نجوى الْمَلَائِكَة فَكَانُوا يقصدون تطييبها وتطهيرها لِئَلَّا يُؤْذِي الْملك وتضيع حُرْمَة الْوَحْي
وَأما النِّكَاح فَإِن الْأَنْبِيَاء عليهم السلام زيدوا فِي النِّكَاح بِفضل نبوتهم فَإِنَّهُ إِذا امْتَلَأَ الصَّدْر بِالنورِ وفاض فِي الْعُرُوق التذت النَّفس وَالْعُرُوق فأثارت الشَّهْوَة وقواها وريح الشَّهْوَة إِذا قويت فَإِنَّمَا تقَوِّي من الْقلب وَالنَّفس فَعندهَا تَجِد الْقُوَّة
قَالَ صلى الله عليه وسلم أَعْطَيْت قُوَّة أَرْبَعِينَ رجلا من الْبَطْش وَالنِّكَاح وَأعْطِي الْمُؤمن قُوَّة عشرَة
قَالَ ابْن عمر رضي الله عنهما مَا أعطي أحد من الْجِمَاع بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَيْت أَنا
وَأما التعطر فَإِن الطّيب يذكي الْفُؤَاد وَأَصله من الْجنَّة وَحين تستر آدم عليه السلام بِوَرَقَة مِنْهَا فرحم وَتركت عَلَيْهِ فَمن ذَلِك أصل الطّيب فَفِي تذكية الْفُؤَاد قُوَّة الْقلب والجوارح لِأَن حسن الْقلب بالفؤاد لِأَن الْأذن عَلَيْهِ وَالْبَصَر لَهُ والنور بَين الْقلب والفؤاد والرؤية للفؤاد قَالَ الله تَعَالَى {مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى}
والفؤاد اللحمة الظَّاهِرَة وَالْقلب اللحمة الْبَاطِنَة وَإِنَّمَا هِيَ بضعَة وَاحِدَة بَعْضهَا مُشْتَمل على بعض فأظهر فَهُوَ فؤاد فاذا كَانَ الْفُؤَاد منحرفا لم يع شَيْئا من النُّور قَالَ الله تَعَالَى وأفئدتهم هَوَاء أَي منحرفة لَا تعي شَيْئا وَلَا تعقل وَهُوَ قَوْله صلى الله عليه وسلم أَتَاك أهل الْيمن أَلين قلوبا وأرق أَفْئِدَة
-
الأَصْل السَّادِس وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي ذكر الْفَاجِر بِمَا فِيهِ للتحذير مِنْهُ
عَن بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده رضوَان الله عَلَيْهِم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَتَرْعَوْنَ عَن ذكر الْفَاجِر حَتَّى يعرفهُ النَّاس إذكروه بِمَا فِيهِ يحذرهُ النَّاس
الْفَاجِر هُوَ الَّذِي يفجر الْحُدُود فَإِن الْإِسْلَام كحظيرة حظرها الله تَعَالَى على أَهله فَلَا يتعدون حُدُود الحظائر فَإِذا ثلم أحدهم الحظيرة بِالْخرُوجِ مِنْهَا متخطيا إِلَى مَا وَرَائِهَا فقد فجرها ونعني بالفاجر الْفَاجِر الموحد دون الْكَافِر فَإِن الْمُشرك لَا حُرْمَة لَهُ وَلَا يتوقى لذكره وَقد تورعوا عَن ذكر الْمُسلم لحُرْمَة التَّوْحِيد وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يحث على السّتْر وَهُوَ يَقُول من ستر الْمُسلم ستره الله تَعَالَى وَمن هتك سترا لِأَخِيهِ هتك الله تَعَالَى ستره فهابوا هَذَا الْأَمر
وَكفوا فَقَالَ لَهُم صلى الله عليه وسلم أَتَرْعَوْنَ عَن ذكر الْفَاجِر
مَعْنَاهُ إِذا غلب عَلَيْهِ الْفُجُور وَقد أعلن بِهِ وهتك ستره فَإِذا لم يبْق لَهُ سترا اسْتَحَالَ أَن يستر أَو يكتم أمره وَفِي كتمان أمره خِيَانَة وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يعرفهُ النَّاس ثمَّ بَين نفع الذّكر فَقَالَ يحذرهُ النَّاس وَإِنَّمَا هَذَا الذّكر لمن احتسب بِهِ النَّصِيحَة للعامة لِئَلَّا يعثر مُسلم بِهِ فَأَما من ذكر تشفيا لغيظه أَو تنقما لنَفسِهِ فَهُوَ خَارج عَن هَذَا الحَدِيث حَتَّى يذكرهُ على تِلْكَ النِّيَّة
-
الأَصْل السَّابِع وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن لَا أحد أحب إِلَيْهِ الْعذر من الله تَعَالَى وَعرض الاعمال
عَن النُّعْمَان بن بشير رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم يبْق من الدُّنْيَا إِلَّا مثل الذُّبَاب تمور فِي جوها فَالله الله فِي إخْوَانكُمْ من أهل الْقُبُور فان أَعمالكُم تعرض عَلَيْهِم
الْأَرْوَاح أَنْوَاع أَرْوَاح تجول فِي البرزخ فتبصر أَحْوَال الدُّنْيَا وَالْمَلَائِكَة تَتَحَدَّث فِي السَّمَاء عَن أَحْوَال الْآدَمِيّين وأرواح تَحت الْعَرْش وأرواح طيارة فِي الْجنان على قدر أقدارهم من السَّعْي أَيَّام الْحَيَاة إِلَى الله تَعَالَى والعبودة لَهُ فِي محلهم
قَالَ سلمَان رضي الله عنه أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ تذْهب فِي بزرخ من الأَرْض حَيْثُ شَاءَت من السَّمَاء وَالْأَرْض حَتَّى يردهَا الله تَعَالَى إِلَى جَسدهَا فَإِذا تردت الْأَرْوَاح هَكَذَا علمت أَحْوَال الْأَحْيَاء وَإِذا ورد عَلَيْهِم ميت الْتَقَوْا بِهِ فتحدثوا وتسائلوا عَن الْأَخْبَار وَخرج من تَدْبِير الله تَعَالَى أَن وكل بهم أَيْضا مَلَائِكَة تعرض أَعمال الْأَحْيَاء عَلَيْهِم كي إِذا عرضوا عَلَيْهِم مَا يعاقبون بِهِ فِي الدُّنْيَا ويصابون بِهِ من أَنْوَاع
المصائب من أجل الذُّنُوب كَانَ عذر الله تَعَالَى ظَاهرا مكشوفا عِنْد الْأَمْوَات بِأَنَّهُ لَا أحد احب إِلَيْهِ الْعذر من الله تَعَالَى
قَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ أنس رضي الله عنه إِن أَعمالكُم تعرض على عشائركم وأقاربكم من الْمَوْتَى فَإِن كَانَ خيرا اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَإِن كَانَ غير ذَلِك قَالُوا اللَّهُمَّ لَا تمتهم حَتَّى تهديهم إِلَى مَا هديتنا
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم تعرض الْأَعْمَال يَوْم الِاثْنَيْنِ وَيَوْم الْخَمِيس على الله تَعَالَى وَتعرض على الْأَنْبِيَاء وعَلى الْآبَاء والأمهات يَوْم الْجُمُعَة فيفرحون بحسناتهم ويزدادون وُجُوههم بيضًا ونزهة فَاتَّقُوا الله وَلَا تُؤْذُوا مَوْتَاكُم
وروى أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول إِن الله تَعَالَى يعْتَذر إِلَى آدم يَوْم الْقِيَامَة بِثَلَاثَة معاذير يَقُول الله تَعَالَى يَا آدم لَوْلَا أَنِّي لعنت الْكَذَّابين وَأبْغض الْكَذِب وَالْحلف وأعذب عَلَيْهِ لرحمت الْيَوْم ذريتك أَجْمَعِينَ من شدَّة مَا أَعدَدْت لَهُم من الْعَذَاب وَلَكِن حق القَوْل مني لمن كذب رُسُلِي وَعصى أَمْرِي لأملئن جَهَنَّم مِنْهُم أَجْمَعِينَ وَيَقُول الله تَعَالَى يَا آدم إِنِّي لَا أَدخل أحدا من ذريتك النَّار وَلَا أعذب أحدا مِنْهُم بالنَّار إِلَّا من قد علمت فِي سَابق علمي أَنِّي لَو رَددته إِلَى الدُّنْيَا لعاد إِلَى شَرّ مِمَّا كَانَ فِيهِ لم يُرَاجع وَلم يعتب وَيَقُول لَهُ يَا آدم قد جعلتك الْيَوْم حكما بيني وَبَين ذريتك قُم عِنْد الْمِيزَان فَانْظُر مَا يرفع إِلَيْك من أَعْمَالهم فَمن رجح مِنْهُم خَيره على شَره مِثْقَال ذرة فَلهُ الْجنَّة حَتَّى تعلم أَنِّي لَا أَدخل النَّار مِنْهُم إِلَّا ظَالِما فَإِذا ستر الله على عبد فِي دُنْيَاهُ عِنْد
الْأَحْيَاء ستر عَلَيْهِ عِنْد الْأَمْوَات وَذَلِكَ لمن ولي الله تَدْبيره ستره لِئَلَّا يرى الْخلق من الْأَحْيَاء والأموات معايبه
رُوِيَ أَن أَبَا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رضي الله عنه خرج غازيا فِي أَرض الرّوم فَقص عَلَيْهِ قاص فَقَالَ لَيْسَ أحد من بني آدم يعْمل عملا أول النَّهَار إِلَّا عرض على معارفه من أهل الْآخِرَة فِي آخر النَّهَار وَلَا عمل عملا فِي آخر النَّهَار إِلَّا عرض على معارفه من أول الْغَد فَقَالَ أَبُو أَيُّوب إِن ذَاك لكذاك اللَّهُمَّ لَا تفضحني عِنْد سعد بن عبَادَة وَلَا عِنْد عبَادَة بن الصَّامِت مِمَّا عملت بعدهمَا فَقَالَ الْقَاص وَالله الَّذِي لَا إِلَه غَيره مَا كتب الله لعبد ولَايَته إِلَّا ستر عَوْرَته وَأثْنى عَلَيْهِ بِأَحْسَن عمله
وَمعنى ولَايَة التَّدْبِير أَن الله تَعَالَى شرع السَّبِيل وَهدى الْقُلُوب ورزق الْعُقُول وأكد الْحجَّة بالرسل وَبِمَا جَاءُوا بِهِ من الْبَيَان وأيد بِالْمَلَائِكَةِ يهْدُونَ ويسددون وَقيل لَهُم سِيرُوا إِلَى الله تَعَالَى سيرا مُسْتَقِيمًا فِي هَذَا الصِّرَاط فَإِن عارضتم نفوسكم بِخِلَاف مَا أَمر الله تَعَالَى فجاهدوها وسلوا الله المعونة
فَهَذَا تَدْبيره الَّذِي وَضعه للْجَمِيع فَمن صدق الله تَعَالَى فِي مجاهدة النَّفس حَتَّى بلغ أقصاها لم يقدر على أَكثر من أَن يمْنَع قلبه من الْكفْر كَمَا يمْنَع جوارحه من الْعَمَل فَهَذَا غَايَة جِهَاد النَّفس وَتَصْحِيح الْبَاطِن وَالظَّاهِر وَنِهَايَة الصدْق فقد أَتَى بالوسع وَحَال الطَّبْع بَاقٍ على تركيبه من الشَّهْوَة واللذة وَالْغَضَب وَالرَّغْبَة والرهبة وَمن هَذِه الْأَشْيَاء حدثت الْمعاصِي إِلَى الْقُلُوب وَمِنْه إِلَى الْأَركان فيجأر إِلَى الله تَعَالَى لكدورة الْأَخْلَاق فَإِنَّهَا تكدر عَلَيْهِ إيمَانه فَلَا يصفو فَعندهَا يرحمه الله تَعَالَى عِنْد انْقِطَاع أَسبَابه وتغوثه بهَا صَارِخًا مُضْطَرّا فَيَأْخذهُ من تَدْبيره الَّذِي وَضعه لِعِبَادِهِ وَمن مجاهدة النَّفس إِلَى تَدْبيره الَّذِي وَضعه لِعِبَادِهِ وَمن مجاهدة النَّفس إِلَى تَدْبِير نَفسه فَهُوَ الْقَادِر على ذَلِك
فيوكل بِهِ الْحق تبارك وتعالى حَتَّى يسير بِهِ إِلَى منَازِل الْقرْبَة فَلَمَّا سَار فِي الْقرْبَة زيد مركبا من النُّور ليسير بِهِ إِلَى مَحَله من الْقرْبَة فَكل نور يُزَاد يَمُوت من طبعه بِقدر ذَاك لِأَنَّهُ يُزَاد بِكُل نور قربَة وتخطي إِلَى مَحَله فَيَزْدَاد بِاللَّه تَعَالَى علما مِنْهُ وخشية فَالْحق تبارك وتعالى يربيه بِهَذِهِ الْأَنْوَار حَتَّى إِذا انْتَهَت التربية وَتغَير الطَّبْع عَن النفسية إِلَى خلق الْإِيمَان جذب جذبة إِلَى مَحل الْقرْبَة وانكشف لَهُ الغطاء عَن جلال الله تَعَالَى وعظمته فانتهبت فِيهِ وَإِذا الْهوى قد طاوعته وَالنَّفس قد مَاتَت فحيى قلبه بِاللَّه تَعَالَى فَهُوَ الصدْق فَهَذَا وَإِن كَانَ صديقا فَلم يخل من ذَنْب كَانَ فِي سَابق علم الله تَعَالَى وَجرى بذلك الْقَلَم فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَهُوَ يعمله لَا محَالة لكنه فِي ستر عِنْد الْأَحْيَاء وَفِي ستر عِنْد الْأَمْوَات وَالله سبحانه وتعالى أَعلَى وَأعلم وَأحكم
-
الأَصْل الثَّامِن وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْمَرَض لِلْمُؤمنِ تمحيص للذنوب
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مثل الْمَرِيض إِذا برىء من مَرضه وَصَحَّ كَمثل الْبردَة تقع من السَّمَاء فِي صفائها ولونها
الْمُؤمن يتلوث فِي شهواته فتدنس الْأَفْعَال وتوسخ الْأَركان وتكدر الطلاوة فَإِذا رَحمَه وَأَرَادَ بِهِ خيرا أسقمه حَتَّى يطهره ويصفيه فالمرض لِلْمُؤمنِ تمحيص من الآثام كالفضة تلقى فِي كيرة ينْفخ عَلَيْهِ يَزُول خبثه وتصفو فضته فتصلح للضرب وَالسِّكَّة والتشرف باسم الْملك على وَجهه فشبهه بعد الْبُرْء بالبردة صفاء وطيبا وطهارة ونظافة
-
الأَصْل التَّاسِع وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَة
-
فِي حسن الْمُجَاورَة لنعم الله تَعَالَى
عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَرَأى كسيرة ملقاة فَمشى إِلَيْهَا فمسحها فَقَالَ يَا عَائِشَة أحسني جوَار نعم الله تَعَالَى فَإِنَّهَا قل مَا نفرت عَن أهل بَيت فَكَادَتْ ترجع إِلَيْهِم
حسن الْمُجَاورَة لنعم الله من تعظيمها وتعظيمها شكرها وَالرَّمْي بهَا من الاستخفاف بهَا وَذَلِكَ من الكفران والكفور ممقوت مسلوب فارتباط النعم فِي شكرها وزوالها فِي كفرانها وَمن عظمها فقد ابْتَدَأَ فِي شكرها وَمن صغرها أَو استخف بهَا فقد تعرض لزوالها وفيهَا رأى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خِصَالًا غير وَاحِدَة مِنْهَا الاستخفاف بِالنعْمَةِ وَالْفساد والاسراف
-
الأَصْل الْمِائَة وَالسَّبْعُونَ
-
فِي تَفْسِير الْمَرْوِيّ لِلْآيَةِ {هَل جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان}
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ تَلا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم {هَل جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان} ثمَّ قَالَ هَل تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ ربكُم قَالُوا الله وَرَسُوله أعلم قَالَ
إِن ربكُم يَقُول هَل جَزَاء من أَحْسَنت إِلَيْهِ بِأَن هديته للتوحيد إِلَّا أَن أسْكنهُ دَاري فِي جواري وَهل جَزَاء من قربته بالمعرفة قلبا حَتَّى يعرفنِي إِلَّا أَن أقربه فِي الْمسكن نفسا حَتَّى ينظر إِلَى وَهل جَزَاء من أكرمته بمعرفتي إِلَّا أَن أَغفر لَهُ ذنُوبه وأتجاوز عَن سيئاته وأصفح عَنهُ تكرمات كَمَا تكرمت وجدت عَلَيْهِ بتوحيدي هَل جَزَاء من ابتدأته بِهَذِهِ النعم الْعَظِيمَة فمننت عَلَيْهِ بهَا إِلَّا أَن أحفظها عَلَيْهِ حَتَّى أختم لَهُ بهَا وأتمم عَلَيْهِ وَله كَرَامَتِي
-
الأَصْل الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْكَلِمَة من الْبَاقِيَات خير من الدُّنْيَا بحذافيرها
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَو أَن الدُّنْيَا كلهَا بحذافيرها فِي يَد رجل من أمتِي ثمَّ قَالَ الْحَمد لله لَكَانَ الْحَمد لله أفضل من ذَلِك
مَعْنَاهُ من أعطي الدُّنْيَا ثمَّ أعطي على أَثَرهَا هَذِه الْكَلِمَة حَتَّى نطق بهَا لكَانَتْ هَذِه الْكَلِمَة أفضل من الدُّنْيَا كلهَا لِأَن الدُّنْيَا فانية والكلمة بَاقِيَة قَالَ تَعَالَى والباقيات الصَّالِحَات خير عِنْد رَبك ثَوابًا وَخير أملا
وَفِي رِوَايَة لَكَانَ مَا أعطي أفضل مِمَّا أَخذ
-
الأَصْل الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي ذكر جملَة من مَكَارِم الْأَخْلَاق
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا محق الاسلام محق الْبُخْل شَيْء قطّ وَمن كف غَضَبه كف الله عَنهُ عَذَابه وَمن حفظ لِسَانه ستر الله عَوْرَته وَمن اعتذر إِلَى الله فِي الدُّنْيَا قبل الله تَعَالَى معذرته
بني أس الْإِسْلَام على السماحة والجود لِأَنَّهُ هُوَ تَسْلِيم النَّفس وَالْمَال لحقوق الله تَعَالَى فَإِذا جَاءَ الْبُخْل فقد ذهب بذل المَال وَمن بخل بِالْمَالِ كَانَ بِالنَّفسِ أبخل وَمن جاد بِالنَّفسِ كَانَ بِالْمَالِ أَجود فالبخل يمحق الْإِسْلَام ويبطله ويدرس الْإِيمَان وَفِيه سوء الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وَمنع حُقُوقه والاعتماد على المَال دون الله تَعَالَى
وَقَوله من حفظ لِسَانه ستر الله عَوْرَته إِنَّمَا يحفظ عَن أَعْرَاض الْمُسلمين كَيْلا يهتك استارهم فعاجل الله تَعَالَى ثَوَابه بِأَن ستر عَوْرَته
وَقَوله من كف غَضَبه كف الله عَنهُ عَذَابه فعذابه النَّار وحشوها غَضَبه وَإِنَّمَا تلظت وتسعرت بغضب الله تَعَالَى فَإِذا كف غَضَبه فقد
تواضع لله تَعَالَى فَكف عَنهُ غَضَبه وَإِذا كف غَضَبه فَمن وَرَائه الرضى عَن الله تَعَالَى
وَقَوله من اعتذر إِلَى الله فِي الدُّنْيَا قبل الله معذرته فالكريم يقبل الْعذر إِذا اعتذر إِلَيْهِ صَادِقا كَانَ أَو كَاذِبًا لِأَن اعتذاره نَدم وتوبة وإقبال إِلَيْهِ فيأبى الْكَرِيم أَن يخيبه من معذرته
قَالَ صلى الله عليه وسلم مَا من أحد يعْتَذر إِلَى أَخِيه فَلم يقبل عذره إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ كخطيئة صَاحب مكس وَهُوَ العشار
-
الأَصْل الثَّالِث وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي قدر تَعْظِيم الدُّنْيَا والمداهنة ووزر السيئآت
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا عظمت أمتِي الدُّنْيَا نزعت مِنْهَا هَيْبَة الْإِسْلَام وَإِذا تركت الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر حرمت بركَة الْوَحْي وَإِذا تَسَابَّتْ أمتِي سَقَطت من عين الله تَعَالَى
شَرط الْإِسْلَام تَسْلِيم النَّفس وبذلها لله تَعَالَى عبودة فَإِذا عظم مَا صغر الله تَعَالَى وحقرها وَقد أخذت بِقَلْبِه فسبته ذهبت العبودة وَلم يقدر على بذل النَّفس لله تَعَالَى فَكَانَ إِسْلَامه مَدْخُولا وَإِذا فسد الْبَاطِن ذهبت الهيبة لِأَنَّهُ لَو هابه لم يسْتَقرّ قرارا حَتَّى يصلح بَاطِنه وَإِنَّمَا يهابه من صلحت سَرِيرَته
قَالَ صلى الله عليه وسلم تَمام الْبر أَن تعْمل فِي السِّرّ عمل الْعَلَانِيَة وَإِذا عظمت النَّفس الدُّنْيَا آثرها على حُقُوق الله تَعَالَى
وَلَا يجْتَمع تَعْظِيم الْحُقُوق وتعظيم الدُّنْيَا فِي قلب فَأَما إِذا أسلم نَفسه وَوَجهه إِلَى الله تَعَالَى وبذل نَفسه لله تَعَالَى عبودة صَار من رجال الله تَعَالَى وعبيده وخاصته فتعلوه مهابة كَمَا إِذا صَار عبدا للْملك ظهر عَلَيْهِ من بهجة ملكه وغناه وَوجدت لَهُ هَيْبَة فعبيد الله صدقا عَلَيْهِم من الله تَعَالَى طلاوة وحلاوة وملاحة ومهابة فَإِذا غيروا وبدلوا فَعَظمُوا الدُّنْيَا بخراب قُلُوبهم فقد ارتجعوا فِي نُفُوسهم فَذَهَبت الهيبة لِأَنَّهُ الْآن لَيْسَ من عبيد الْملك إِنَّمَا هُوَ عبد نَفسه وهواه ودنياه وشهواته وسلطانه
وَقَوله وَإِذا تركت الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر حرمت بركَة الْوَحْي فَإِن فِي ترك ذَلِك خذلانا للحق تَعَالَى وجفوة للدّين وَفِي ذَلِك ذهَاب البصيرة وفقد النُّور فَيصير الْقلب محجوبا فَيحرم بركَة الْوَحْي فيقرأه وَلَا تعي اذنه مِنْهُ شَيْئا قد حرم فهمه وَهُوَ من أعلم النَّاس باللغة وأبصرهم بتفسيره وَقد عمي عَن لطائفه ومعانيه ووعده ووعيده وَأَمْثَاله لِأَنَّهُ إِذا وَقع من لِسَانه فِي أُذُنه صَار إِلَى قلب صَدره مظلما فَكَأَنَّهُ قد غرق فِي لجة إِنَّمَا هُوَ كَلَام يدْخل سَمعه فَإِذا صَار إِلَى الصَّدْر صَار فِي عمى وَالَّذِي أشرق صَدره بِالنورِ فعلى قلبه ينابيع الْفَهم يلتذ باللطائف أحلى من القطائف ويفرح بالوعد ويحذر الْوَعيد ويرغب ويرهب وَيعْتَبر ويتعظ فَهَذَا بركَة الْوَحْي
وَقَوله وَإِذا تَسَابَّتْ أمتِي سَقَطت من عين الله تَعَالَى لِأَن بدوه الْكبر والإستحقار للْمُسلمين والحسد وَالْبَغي والتنافس فِي أَحْوَال الدُّنْيَا فَبِهَذَا سقط من عين الله والساقط من عينه قد خرج من كلاءته وَحفظه ورعايته فليستعد للخذلان فِي نَوَائِب الدّين وَالدُّنْيَا فَإِنَّهُ إِذا زَالَت عَنهُ رعايته ذهبت عصمته وَله فِي كل نائبة ورطة حَتَّى تُؤَدِّيه إِلَى الورطة الْكُبْرَى سلب الدّين والانتكاص على العقبين وَمن سقط عَن عينه لم يبال فِي أَي وَاد هلك وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى مِنْهُ
-
الأَصْل الرَّابِع وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي إِيدَاع الْعَهْد بِالدُّعَاءِ بعد الصَّلَاة
عَن أبي بكر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من قَالَ فِي دبر الصَّلَاة بعد مَا يسلم هَؤُلَاءِ الْكَلِمَات كتبه ملك فِي رق فختم بِخَاتم ثمَّ رَفعهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَإِذا بعث الله العَبْد من قَبره جَاءَهُ الْملك وَمَعَهُ الْكتاب يُنَادي أَيْن أهل العهود حَتَّى يدْفع إِلَيْهِ والكلمات أَن تَقول
اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الرَّحْمَن الرَّحِيم إِنِّي أَعهد إِلَيْك فِي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا أَنَّك أَنْت الله لَا إِلَه إِلَّا أَنْت وَحدك لَا شريك لَك وَأَن مُحَمَّدًا عَبدك وَرَسُولك فَلَا تَكِلنِي إِلَى نَفسِي فَإنَّك أَن تَكِلنِي إِلَى نَفسِي تقربني من الشَّرّ وَتُبَاعِدنِي من الْخَيْر وَإِنِّي لَا أَثِق إِلَّا بِرَحْمَتك فَاجْعَلْ رحمتك لي عهدا عنْدك تُؤَدِّيه إِلَيّ يَوْم الْقِيَامَة إِنَّك لَا تخلف الميعاد
صَاحب هَذَا الْعَهْد يتحلى بِهَذَا الْعَهْد الَّذِي عهد إِلَى ربه من الْأَسْبَاب وَيكون مُتَعَلّقه رَحمته وَلَا يَثِق إِلَّا بهَا وَلَا يلحظ النجَاة إِلَّا بهَا
وَيجْعَل هَذَا الْعَهْد فِي الدُّنْيَا كَالْوَدِيعَةِ عِنْد ربه وانه أمله ورجاؤه فَمن كرم رَبنَا أَن لَا يقطع رَجَاءَهُ وَلَا يخيب أمله قَالَ الله تَعَالَى {لَا يملكُونَ الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا}
واتخاذ الْعَهْد من صدق لَا إِلَه إِلَّا الله وَالْوَفَاء بهَا وَهُوَ أَن لَا يعْتَمد قَلْبك شَيْئا سواهُ فِي أَمر آخِرَة وَلَا دنيا فَيكون هُوَ كافيك وحسبك من الدَّاريْنِ
-
الأَصْل الْخَامِس وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي سر الْكَلِمَات الْعشْر بعد الصَّلَاة
عَن بُرَيْدَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من قَالَ عشر كَلِمَات عِنْد دبر كل صَلَاة وجد الله عِنْدهن مكفيا مجزيا خمس للدنيا وَخمْس للآخرة حسبي الله لديني حسبي الله لدنياي حسبي الله لما أهمني حسبي الله لمن بغي عَليّ حسبي الله لمن حسدني حسبي الله لمن كادني بِسوء حسبي الله عِنْد الْمَوْت حسبي الله عِنْد المساءلة فِي الْقَبْر حسبي الله عِنْد الْمِيزَان حسبي الله عِنْد الصِّرَاط حسبي الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب
هَذِه مَوَاطِن نَوَائِب العَبْد فِي دُنْيَاهُ وآخرته وَقد جعل لَهُ فِي كل موطن سَببا وعدة يقطع بِهِ تِلْكَ النائبة فاذا أعرض عَن الْعدة وَالسَّبَب وَضرب عَنهُ صفحا واغتنى بِاللَّه تَعَالَى كَافِيا وحسيبا كَفاهُ الله تَعَالَى وَكَانَ عِنْد ظَنّه بِهِ فعدته فِي دينه الْعَهْد الَّذِي أنزل وَهُوَ الْحَبل الَّذِي أَمر بالاعتصام بِهِ وعدته فِي دُنْيَاهُ التَّوَكُّل وَالْكَسْب من الطّيب وعدته
فِيمَا أهمه الْحِيَل الَّتِي وضعت لكل هم وحيلة وعدته فِي الْبَغي الِاحْتِرَاز والتجافي وَالْأَخْذ بالحزم وعدته فِي الْحَسَد التَّوَاضُع والمقاربة للحاسد وعدته فِي المكابدة بالسوء سد الْأَبْوَاب الَّتِي مِنْهَا يجد الكائد السَّبِيل عَلَيْهِ وعدته فِي الْمَوْت الْعَمَل الصَّالح وعدته فِي المساءلة فِي الْقَبْر تَصْحِيح الْأَمر للجواب وعدته عِنْد الْمِيزَان كَثْرَة الْأَعْمَال لثقل الْوَزْن وعدته عِنْد الصِّرَاط النُّور للْجُوَاز فَإِذا لَهَا عَن هَذِه الْعدَد وَكَانَ الله تَعَالَى شرح بهَا صَدره وَلم يشخص أمله إِلَى شَيْء سواهُ وَلَا لحظ إِلَى خلق وَلَا إِلَى فعل وَقَالَ حسبي الله عِنْد كل موطن فقد تعلق بربه تَعَالَى وَمن تعلق بِهِ لم يخيبه وَكَانَ لَهُ فِي تِلْكَ المواطن كظنه بِهِ
قَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يروي عَن ربه تَعَالَى أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي وَأَنا مَعَه إِذا دَعَاني
وَكَانَ إِبْرَاهِيم عليه السلام لما وضع فِي المنجنيق ليرمي بِهِ فِي النَّار جأرت السَّمَوَات والأرضون وَالْمَلَائِكَة والخلق والخليقة بكاء وعويلا قَالَت يَا رب عَبدك يحرق بالنَّار فَأذن الله لَهُم فِي نصرته ان اسْتَغَاثَ بهم ودعاهم إِلَى نصرته وَرمي فِي الْهَوَاء إِذْ عَارضه جبرئيل عليه السلام بلوى من الله تَعَالَى فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم هَل من حَاجَة
فَقَالَ أما إِلَيْك فَلَا حسبي الله قَالَ الله تَعَالَى يَا نَار كوني بردا وَسلَامًا على إِبْرَاهِيم
فولي الله تَعَالَى نصرته إِذْ لم يفزع إِلَى اُحْدُ سواهُ فَلم يكله إِلَى أحد من خلقه فَهَذَا صدق قَوْله حسبي الله فَإِذا لم يكن العَبْد فِي قلبه من الْحَقِيقَة مَا كَانَ لإِبْرَاهِيم عليه السلام فَإِن لكل مقَال حُرْمَة وَالله تَعَالَى لَا يضيع حرمته فَإِذا ردد هَذِه الْكَلِمَات نفعته فِي هَذِه المواطن بِأَن كن شُفَعَاء إِلَى الله تَعَالَى وَإِذا تكلم بهَا على يقظة وانشراح صدر وجد الله تَعَالَى فِي هَذِه المواطن قد كَفاهُ
قَالَ صلى الله عليه وسلم إِذا قَالَ العَبْد حسبي الله سبع مَرَّات قَالَ الله تَعَالَى صدق عَبدِي لأكفينه صَادِقا أَو كَاذِبًا
-
الأَصْل السَّادِس وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن حسن الْجَواب فِي خلال الْخطاب من لطافة الْفَهم من قِرَاءَة الرَّحْمَن من الْوَحْي
عَن جَابر رضي الله عنه قَالَ قَرَأَ علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سُورَة الرَّحْمَن حَتَّى خَتمهَا ثمَّ قَالَ مَا لي أَرَاكُم سكُوتًا للجن كَانُوا أحسن ردا مِنْكُم مَا قَرَأت عَلَيْهِم هَذِه الْآيَة من مرّة فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ إِلَّا قَالُوا وَلَا بِشَيْء من نعم رَبنَا نكذب فلك الْحَمد
حسن الرَّد فِي الْجَواب من لطائف الْفَهم وأجساد الْجِنّ من نَار وَلم يشغلهم شغل الْآدَمِيّين فجوهرهم أرق وجوهر الْآدَمِيّ أغْلظ لأَنهم من تُرَاب وَهَذِه السُّورَة قد عدد الله تَعَالَى فِيهَا النعم وخاطب بتعديده الثقلَيْن وَقَالَ فِي ذكر كل نعْمَة فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ
فَكل هَذَا القَوْل سُؤال يحْتَاج إِلَى رد الْجَواب فِيهِ وَأثْنى صلى الله عليه وسلم على مُؤمن الْجِنّ بِحسن ردهم الْجَواب وَمن رُتْبَة الْخطاب
أَن لَا يتْرك الْخطاب الَّذِي لَهُ جَوَاب مهملا ليَكُون المستمع كالغافل وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أَتَوا على هَذِه الْآيَة {أَلَيْسَ ذَلِك بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى}
قَالُوا اللَّهُمَّ بلَى
وَإِذا مروا بِذكر النَّار استعاذوا بِاللَّه فاقتضاهم صلى الله عليه وسلم فِي وَقت قِرَاءَته عَلَيْهِم مَا وجده من الْجِنّ وَاسْتَحْسنهُ مِنْهُم وَكَانَ من أَصْحَابه صلى الله عليه وسلم من يشْغلهُ ذرو كَلَامه عَن النّظر فِي مَعْنَاهُ إجلالا لكَلَام الله تَعَالَى ودهشا فِي ذكره وَمِنْهُم من يتَعَلَّق قلبه بِأول الْآيَة فيشغله أَولهَا عَن ذكر مَا بعْدهَا كَمَا صلى عَليّ بن فُضَيْل بن عِيَاض رضي الله عنه خلف إِمَام قَرَأَ سُورَة الرَّحْمَن فَلَمَّا انْفَتَلَ قيل لَهُ يَا عَليّ ألم تسمع إِلَى مَا أعد الله للْمُؤْمِنين من نعيم الْجنان فَقَالَ شغلني مَا قبلهَا عَن ذكر الْجنان يَعْنِي ذكر النَّار وسلطان كَلَام الله تَعَالَى على الْقُلُوب على قدر مَا فِيهَا من الْعلم بِاللَّه تَعَالَى والخشية لَهُ والحظ من الْقرْبَة وَإِنَّمَا ينزل من الْقلب كَلَام كل وَاحِد مِنْهُم على قدر مَنْزِلَته عِنْده
قَالَ صلى الله عليه وسلم من أحب أَن يعلم مَا مَنْزِلَته عِنْد الله فَلْينْظر مَا لله عِنْده من الْمنزلَة فَإِن الله تَعَالَى ينزل من العَبْد حَيْثُ أنزلهُ العَبْد من نَفسه
-
الأَصْل السَّابِع وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي كَلِمَات الْفرج وَالْمَغْفِرَة والتلقين
عَن عبد الله بن جَعْفَر رضي الله عنهما قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول لقنوا مَوْتَاكُم لَا إِلَه إِلَّا الله الْحَلِيم الْكَرِيم سُبْحَانَ الله رب السَّمَوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين قَالُوا يَا رَسُول الله فَكيف هِيَ للحي قَالَ أَجود وأجود
وتسمي هَذِه الْكَلِمَات عِنْد أهل الْبَيْت كَلِمَات الْفرج يدعونَ بهَا فِي النوائب والشدائد
وَذَلِكَ مَا روى عَليّ كرم الله وَجهه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَلا أعلمك كَلِمَات إِذا قلتهن غفرت لَك ذنوبك مَعَ أَنه مغْفُور لَك لَا إِلَه إِلَّا الله الْعلي الْعَظِيم لَا إِلَه إِلَّا الله الْحَلِيم الْكَرِيم سُبْحَانَ الله رب السَّمَوَات وَرب الْعَرْش الْعَظِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين
-
الأَصْل الثَّامِن وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي حِكْمَة الصَّدَقَة لم صَارَت بِعشر وَالْقَرْض بِثمَانِيَة عشر
عَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رَأَيْت على بَاب الْجنَّة مَكْتُوبًا الْقَرْض بِثمَانِيَة عشر وَالصَّدَََقَة بِعشر فَقلت يَا جبرئيل مَا بَال الْقَرْض بِثمَانِيَة عشر وَالصَّدَََقَة بِعشر قَالَ لِأَن صَاحب الْقَرْض لَا يَأْتِيك إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاج وَرُبمَا وضعت الصَّدَقَة فِي غَنِي
الْمُتَصَدّق حسب لَهُ الدِّرْهَم بِعشْرَة فدرهم صدقته وَتِسْعَة زَائِدَة فَصَارَت لَهُ عشرَة وَالْقَرْض على ضعف الصَّدَقَة فدرهم قرضه يرجع إِلَيْهِ فَلَا يحْسب بَقِي تِسْعَة فتضاعف فَيكون ثَمَانِيَة عشر وَالله أعلم وَأحكم
-
الأَصْل التَّاسِع وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي بَيَان أفضل مَا أعطي النَّاس
عَن أبي بكر رضي الله عنه وَكَانَ يخْطب وَقَالَ قَامَ فِينَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي فِيكُم ثمَّ بَكَى ثمَّ أَعَادَهَا ثمَّ بَكَى ثمَّ أَعَادَهَا ثمَّ بَكَى فَقَالَ إِن النَّاس لم يُعْطوا شَيْئا أفضل من الْعَفو والعافية فأسألوههما الله سبحانه وتعالى
الْعَفو والعافية مُشْتَقّ أَحدهمَا من الآخر أَلا إِن الْعَفو يسْتَعْمل فِي نَوَائِب الْآخِرَة والعافية تسْتَعْمل فِي نَوَائِب الدُّنْيَا وأصل ذَلِك التفضل عَلَيْهِ أَن يتفضل على عَبده فَلَا يُعَاقِبهُ وَلَا يَبْتَلِيه وَالْعَفو الدَّرْس وَمَعْنَاهُ أَن يدرس عَنهُ آثَار الذُّنُوب وَالْبَلَاء عَن جوارحه فَإِن لكل نعْمَة تبعة وَلكُل ذَنْب نقمة فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة فَإِذا درست عَنهُ التَّبعَات والنقمات تخلص بِهَذَا فِي الْعَفو وَالله أعلم
-
الأَصْل الثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي الإلحاح فِي الدُّعَاء وسر كَونه محبوبا
عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول إِن الله يحب الملحين فِي الدُّعَاء
الإلحاح ملق وَالْمُؤمن حبيب الله وَكلما كثر سُؤال الحبيب فَهُوَ أحب إِلَى محبه وَالله تَعَالَى يحب صَوته
قَالَ صلى الله عليه وسلم يَقُول الله تَعَالَى لجبرئيل عليه السلام يَا جبرئيل قد قضيت حَاجَة فلَان وأجبت دَعوته وَلَكِن احبسها عَنهُ فَانِي أحب صَوته
وَعَن وهب رضي الله عنه قَالَ إِن الله تَعَالَى يَقُول أنزل الْبلَاء استخرج مِنْهُ الدعْوَة
وَإِنَّمَا صَار الْملح محبوبا لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِع رجاؤه فَهُوَ يسْأَل فَلَا يرى إِجَابَة فَلَا يزَال يلح وَلَا يَنْقَطِع رجاؤه وَلَا يدْخلهُ الْيَأْس فَذَلِك لعلمه بِاللَّه تَعَالَى وَصِحَّة قلبه وَصدق عبودته واستقامة وجهته فَمن صدق
الله فِي دَعوته اسْتعْمل اللِّسَان وانتظر بِالْقَلْبِ مَشِيئَته فَلَا يضيق وَلَا ييأس لِأَن قلبه صَار مُعَلّقا بمشيئته فانتظاره الْمَشِيئَة من أفضل مَا يقدم بِهِ على ربه وَهُوَ صفو العبودة واستعماله اللِّسَان عبَادَة لِأَن فِي السُّؤَال اعترافا بِأَنَّهَا لَهُ وإنتظار مَشِيئَته لقضائه عبَادَة فَهُوَ بَين عبادتين وجهتين وَأفضل الدُّعَاء من داوم عَلَيْهِ
قَالَ صلى الله عليه وسلم ليَدع أحدكُم وَلَا يَقُولَن قد سَأَلت وَلم يستجب لي قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن العَبْد الْمُؤمن يُسْتَجَاب لَهُ فَإِذا قَالَ العَبْد يَا رب قَالَ الله تَعَالَى لبيْك فَإِذا سَأَلَهُ حَاجَة فإمَّا أَن يعجل لَهُ حَاجته وَإِمَّا أَن يصرف عَنهُ شرا بدل حَاجته وَإِمَّا أَن يدّخر لَهُ فِي آخرته مَا هُوَ خير لَهُ مِمَّا سَأَلَ فَلم تسْقط دَعوته على كل حَال
وَأما أهل الْيَقِين فَإِنَّهُم يدعونَ ويلحون فَإِن أجَاب قبلوا وَإِن تَأَخّر صَبَرُوا وَإِن منع رَضوا وأحسنوا الظَّن وهم فِي الْأَحْوَال ساكنون مطمئنون ينتظرون مَشِيئَته
قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ رحمه الله أتيت أَبَا حبيب الْعَدوي أسلم عَلَيْهِ وَمَا كنت رَأَيْته قطّ قَالَ لي أَنْت سُفْيَان الثَّوْريّ الَّذِي يُقَال قلت نعم نسْأَل الله تَعَالَى بركَة مَا يُقَال ثمَّ قَالَ يَا سُفْيَان مَا
رَأينَا خيرا قطّ إِلَّا من رَبنَا قلت أجل قَالَ فَمَا لنا نكره لِقَاء من لم نر خيرا قطّ إِلَّا مِنْهُ ثمَّ قَالَ لي يَا سُفْيَان منع الله إياك عَطاء مِنْهُ لَك وَذَاكَ أَنه لم يمنعك من بخل وَلَا عدم وَإِنَّمَا مَنعه نظرا واختيارا يَا سُفْيَان ان فِيك لأنسا ومعك شغلا سَلام عَلَيْك ثمَّ أقبل على غنيمته وَتَرَكَنِي
فالإعطاء أحب إِلَى أهل الْجُود من الْأَخْذ للسؤال وهم يلتذون بالجود والإعطاء أَكثر مِمَّا يلتذ الْآخِذ بالنوال لِأَن الْأَخْذ خلق الْفُقَرَاء والإعطاء خلق الْأَغْنِيَاء وَهُوَ خلق أهل الْجنان وَهُوَ خلق الله الْأَعْظَم وَكَانَ من دُعَاء سُفْيَان رحمه الله يَا من يحب أَن يسْأَل ويغضب على من لَا يسْأَل وَيَا من أحب عباده إِلَيْهِ من سَأَلَهُ فَأكْثر سُؤَاله وَلَيْسَ أحد غَيْرك كَذَلِك يَا كريم وَيَا من أبْغض عباده إِلَيْهِ من لَا يسْأَله وَلم يطْلب إِلَيْهِ وَلَيْسَ أحد غَيْرك كَذَلِك يَا كريم وَيَا من أحب عباده إِلَيْهِ من سَأَلَهُ الْعَظِيم وَلم يعظم عَلَيْك وَعزَّتك عَظِيم يَا عَظِيم
وَقَالَ الله تَعَالَى لمُوسَى عليه السلام اطلب الي الْعلف لشاتك وَلَا تَسْتَحي أَن تَسْأَلنِي صَغِيرا وَلَا تخف مني بخلا أَن تَسْأَلنِي وَالله أعلم
-
الأَصْل الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي قِرَاءَة الْقُرْآن فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَة
عَن عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أمره أَن يقْرَأ الْقُرْآن فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَة فاستزاده حَتَّى رَجَعَ إِلَى سبع
فالأربعون مُدَّة الضُّعَفَاء وأولي الأشغال وَيكون خَتمه فِي السّنة تسع مَرَّات وَمُدَّة الْأَرْبَعين مرددة فِي الْأَشْيَاء كَثِيرَة وَأما تَوْقِيت السَّبع فَإِنَّهُ للأقوياء الَّذين يقوون على سهر اللَّيَالِي واحترفوا الْعِبَادَة وتفرغوا من أشغال النَّفس وَالدُّنْيَا
قَالَ رجل يَا رَسُول الله من قَرَأَ الْقُرْآن فِي سبع قَالَ ذَاك عمل المقربين قَالُوا يَا رَسُول الله فَمن قَرَأَهُ فِي خمس قَالَ ذَاك عمل الصديقين قَالُوا يَا رَسُول الله فَمن قَرَأَهُ فِي ثَلَاث قَالَ ذَاك عمل النَّبِيين وَذَاكَ الْجهد لَا أَرَاكُم تطيقونه إِلَّا أَن تصبروا على مكابدة اللَّيْل أَو يبدا أحدكُم بالسورة وهمه فِي آخرهَا قَالُوا يَا رَسُول الله وَفِي
أقل من ثَلَاث قَالَ لَا وَمن وجد مِنْكُم نشاطا فليجعله فِي حسن تلاوتها
أَرَادَ صلى الله عليه وسلم بذلك المداومة عَلَيْهِ وَأَن يصيرها عَادَة وَلَو قَرَأَ فِي يَوْم وَلَيْلَة لَكَانَ عَظِيم الْقدر وَكَانَ عُثْمَان رضي الله عنه ختم فِي رَكْعَة وَاحِدَة وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِمَّا يقرأه فِي سبع تيسيرا على الْأمة
عَن أَوْس رضي الله عنه قَالَ احْتبسَ عَنَّا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَة فَقُلْنَا لَهُ فَقَالَ إِنَّه طَرَأَ على حزب من الْقُرْآن فَأَحْبَبْت أَن لَا أخرج من الْمَسْجِد حَتَّى أقضيه فَقُلْنَا لأَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَيفَ تحزبون قَالُوا ثَلَاث سور وَخمْس سور وَسبع سور وتسع سور وَإِحْدَى عشرَة سُورَة وَثَلَاث عشرَة سُورَة وحزب الْمفصل مَا بَين قَاف فأسفل
ودلهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الأول على حسن التِّلَاوَة فَإِن الْقُرْآن موعظة وَالله تَعَالَى يحب أَن تعقل مواعظه ونصائحه ولطائفه فَإِذا خَاطب عَبده بِشَيْء يُرِيد إِظْهَار مَا لَهُم عِنْده من الأثرة والمحبة وَيُحب أَن يعجل أَوَائِل بره فِي عَاجل محياهم ليتلذذوا بِهِ ويفرحوا فَإِذا مر عَلَيْهِ التَّالِي يهذه هذاو قلبه فِي عماء من ذَلِك مقته كَمَا أَن وَاحِدًا منا إِذا كلم آخر بِشَيْء يُرِيد بِهِ بره والطافه فاستمع إِلَى كَلَامه باذنه لاهيا عَن ذَلِك بِقَلْبِه سقط عَن عَيْنَيْهِ فَكيف بِرَبّ الْعَالمين وَقد أدب الله تَعَالَى عباده ودلهم على الترتيل فَقَالَ تَعَالَى ورتل الْقُرْآن ترتيلا
وَقَالَ تَعَالَى وقرآنا فرقناه لتقرأه على النَّاس على مكث
وَقَالَ تَعَالَى كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك ليدبروا آيَاته وليتذكر أولُوا الْأَلْبَاب
ودلهم على الترتيل والتؤدة والتدبر ليصل إِلَيْهِم نفع ذَلِك فأفضلهم قِرَاءَة أعقلهم عَنهُ فَمن أسْرع الْقِرَاءَة وعقل عَنهُ كَانَ فِي نور عَظِيم ومنزلة علية لفضل نوره وَمن قصر ذَلِك فالتفكر والتدبر خير لَهُ وأنفع
-
الأَصْل الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن النَّفس لَا تَمُوت حَتَّى تستكمل رزقها
عَن حُذَيْفَة رضي الله عنه قَالَ قَامَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الْمِنْبَر فَدَعَا النَّاس بِيَدِهِ هَكَذَا فَقَالَ اجلسوا وَأَقْبل النَّاس فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا اجلسوا ثمَّ قَالَ إِنِّي رأيتكم تطلبون معايشكم هَذَا رَسُول رب الْعَالمين جبرئيل نفث فِي روعي أَن لَا تَمُوت نفس حَتَّى تستكمل رزقها وَإِن أَبْطَأَ عَلَيْهَا فَاتَّقُوا الله أَيهَا النَّاس وأجملوا فِي الطّلب وَلَا يحملنكم استبطاء شَيْء من الرزق أَن تأخذوه بِمَعْصِيَة فَإِن الله لَا يدْرك مَا عِنْده إِلَّا بِطَاعَتِهِ
الروع الْقلب والنفث هُوَ من الرّوح وَيُشِير فِي قَوْله هَذَا رَسُول رب الْعَالمين أَن جبرئيل عليه السلام شَاهده فِي ذَلِك الْوَقْت
والأرزاق مَعْلُومَة وقسط كل نفس وَاصل إِلَيْهَا وَإِن هربت مِنْهُ وَلَا تَمُوت حَتَّى تستوفي مَا قسم لَهَا فَحَذَّرَهُمْ صلى الله عليه وسلم عَن الْغَفْلَة ودلهم على إِجْمَال الطّلب وَهُوَ أَن يحسن نِيَّته فِي طلبه ويطلبه للعفة ولقوام الدّين وَالْقِيَام بِمَا أَمر الله تَعَالَى فِي ذَلِك ويحفظ فِيهِ الْجَوَارِح ويبذل النَّصِيحَة ويراعي الْأَمَانَة ويتجنب الْخِيَانَة وَالْحلف وَالْكذب والغش ويطلبه مَعَ ذكر آخرته كَمَا قَالَ تَعَالَى رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله
طهر قُلُوبهم خوف ذَلِك الْيَوْم وأذهل نُفُوسهم عَن شَهْوَة تستخفهم أَو فتْنَة فِي طلبَهَا تستفزهم وأمات خوف الْعقَاب مِنْهُم كل حرص وأكسلهم ثقل الْحساب عَن طلبه فتخلصوا بذلك من فتنته
-
الأَصْل الثَّالِث وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أجر الصَّبْر الْجَمِيل عِنْد الْمُصِيبَة
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ الله تَعَالَى إِذا وجهت إِلَى عبد من عبَادي مُصِيبَة فِي بدنه أَو فِي وَلَده أَو فِي مَاله فَاسْتَقْبلهُ بصبر جميل استحييت يَوْم الْقِيَامَة أَن أنصب لَهُ ميزانا أَو أنشر لَهُ ديوانا
الصَّبْر ثَلَاث الأول صَبر الْمُوَحِّدين وَهُوَ أَن لَا يسخطوا على رَبهم وَلَا يجوروه فلموجب إِيمَانهم صَبَرُوا واعترفوا أَنه عدل فِي ذَلِك ثمَّ أهملوا جوارحهم فِي الْمعاصِي لحرقة تِلْكَ الْمُصِيبَة فَهُوَ صَبر الظَّالِمين
وَالثَّانِي صَبر الْمُقْتَصِدِينَ فَإِنَّهُم صَبَرُوا بِالْقَلْبِ والجوارح فرضوا بِالْقَلْبِ عَن رَبهم وحفظوا جوارحهم عَن الْمعْصِيَة بِسَبَب مَا نزل بهم لَكِن فِي النَّفس شدَّة كزة ومرارة وعسر وَلم يملكُوا أَكثر من ذَلِك فَهَذَا صَبر قد أذهبت النَّفس بشؤمها جماله
وَالثَّالِث صَبر المقربين فَهُوَ الرضاء لم تَجِد لوعة الْمُصِيبَة مساغا
فِي قُلُوبهم لما فِيهَا من الْحَلَاوَة واللذاذة بِقرب الله تَعَالَى لِأَن النُّور لما اشتعل فِي صُدُورهمْ بعد امتلاء الْقلب مِنْهُ وأحرقت شهوات النَّفس ومناها وَصَارَ الصَّدْر مستنيرا من نور الْقلب وَشرح الله صَدره بِالْإِسْلَامِ لم يبْق فِي النَّفس غل وَلَا كزة وَلَا مرَارَة وَلَا عسر انْتَبَهت النَّفس عَن نومتها وَخرجت من مشيئتها وأفاقت عَن سكرتها فَصَارَت مَشِيئَة الله تَعَالَى عِنْدهَا أحلى من مَشِيئَته وَصَارَ بدل المرارة حلاوة وَعوض الْعسر غنى فَأَيْنَ مَا برزت مَشِيئَته فِي شَيْء من حجب غيبه وقفت قُلُوبهم عِنْد مَشِيئَته وهم الصادقون فِي قَوْلهم مَا شَاءَ الله كَانَ
فَصَبر المخلطين صَبر إِيمَان محشو بالجزع وصبر الْمُقْتَصِدِينَ رِضَاء مَعَ كزة النَّفس وصبر المقربين رِضَاء الْقلب ورضاء النَّفس لِأَنَّهُ قد انْكَشَفَ لَهُم أَنه قد أوصلهم إِلَى أشرف الْأَشْيَاء لعطفه ورأفته وَهُوَ مَعْرفَته فَلم يتهموه بعد ذَلِك فِي حَال من أَحْوَال نُفُوسهم فَكيف مَا دبر لَهُم من مَحْبُوب أَو مَكْرُوه وَقع ذَلِك مِنْهُم موقع بر وَرَحْمَة وَعطف ورأفة كَمَا قَالَ معَاذ رضي الله عنه حِين اشْتَدَّ بِهِ النزع فِي الطَّاعُون فيغشي عَلَيْهِ ثمَّ يفِيق فَيَقُول اخنقني خنقك رب فوعزتك لَا تزداد بذلك عِنْدِي إِلَّا حبا
وَكَانَ الرّبيع بن خَيْثَم رضي الله عنه رُبمَا خرج إِلَى صلَاته فِي مَرضه فَغشيَ عَلَيْهِ فيجده إخوانه صَرِيعًا فِي الطَّرِيق فيرشون عَلَيْهِ المَاء حَتَّى يفِيق فَيَقُول يَا رب غط مَا شِئْت أَن تغط فوعزتك لَا تزداد بذلك عِنْدِي إِلَّا حبا فَيُقَال لَهُ إِنَّك لفي سَعَة أَن لَا تكلّف نَفسك هَذَا فَيَقُول فَكيف بِهَذَا الَّذِي يُنَادي حَيّ على الصَّلَاة لَا أقدر أَن لَا أُجِيبهُ
وروى أَبُو مُوسَى رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الصَّبْر رِضَاء
قَوْله فَاسْتَقْبلهُ بصبر جميل استحييت أَن أنصب لَهُ ميزانا لِأَن العَبْد إِذا صَار يتلَقَّى أَحْكَامه بِالرِّضَا وَهُوَ جمال الصَّبْر صَار من أوليائه وخاصته والخاصة لَا يحاسبون وَلَا يفتشون وَلَا يقابلون فِي الثَّوَاب بِالْأَعْمَالِ بل يرفعون إِلَى معالي الدَّرَجَات بالحظوظ الَّتِي كَانَت فِي قُلُوبهم من رَبهم ويسامحون بالنوال فِي الدَّرَجَات كَمَا سامحوا بنفوسهم وَلم يكن لَهُم شَيْء أعظم مِنْهَا فألقوها بَين يَدَيْهِ عبيدا كَمَا خلقهمْ فثوابهم بِغَيْر حِسَاب ونوالهم بِغَيْر مِقْدَار وقربتهم بِغَيْر حد وَلَا ضبط
-
الأَصْل الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي طلب الْخَيْر والتعرض لنفحات رَحْمَة الله
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اطْلُبُوا الْخَيْر دهركم وتعرضوا لنفحات رحمه الله فَإِن لله تَعَالَى نفحات من رَحمته يُصِيب بهَا من يَشَاء من عباده وسلوا الله أَن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم
فالنفحة الدفعة من الْعَطِيَّة فيعطي فِي دفْعَة وَاحِدَة مَا يَأْتِي على كثير من النعم والنفحات من فتحات بَاب خَزَائِن المنن فَإِن خَزَائِن الثَّوَاب بِمِقْدَار وعَلى طَرِيق الْجَزَاء وخزائن المنن تغرق الْوَاحِدَة مِنْهَا لِأَنَّهَا مِنْهُ يمن جودا وعطفا وو قت الفتحة غير مَعْلُوم وَإِنَّمَا غيب علمه عَنْهُم ليداوموا على طلبَهَا بالسؤال المتدارك ويكونوا متعرضين لَهُ فِي كل وَقت وكل حَال فَإِنَّهُ إِذا داوم على ذَلِك كَانَ وشيكا أَن يُوَافق دَعوته الْوَقْت الَّذِي يفتح فَيكون قد ظفر بالغنى الْأَكْبَر وَسعد سَعَادَة الْأَبَد كملك قدر الأرزاق على عبيده وجنده شهرا شهرا ثمَّ لَهُ فِي خلال ذَلِك عَطِيَّة من سماحة وجود فَيفتح بَاب الخزانة فيعطي
مِنْهَا مَا يعم ويستغرق فِي جَمِيع الأرزاق الدارة الَّتِي أخذوها مُدَّة سِنِين فَمن وَافق ذَلِك من الْملك اسْتغنى آخر الْأَبَد وَلَا يدْرِي أَي وَقت يسمح ويعطف فَيَنْبَغِي أَن يديم الِاخْتِلَاف إِلَيْهِ فِي الْيَوْم مرَارًا رَجَاء أَن يُوَافق تِلْكَ السَّاعَة
قَالَ لُقْمَان عليه السلام لِابْنِهِ يَا بني عود لسَانك أَن تَقول اللَّهُمَّ اغْفِر لي فَإِن لله سَاعَات لَا ترد
وَقَالَ الْحسن أَكْثرُوا الاسْتِغْفَار على أحوالكم فَإِنَّكُم لَا تَدْرُونَ أَي حِين تنزل الْمَغْفِرَة
-
الأَصْل الْخَامِس وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي عَثْرَة الْحَلِيم وتجربة الْكَرِيم الْحَكِيم
عَن أبي سعيد رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لاحليم إِلَّا ذُو عَثْرَة وَلَا حَكِيم إِلَّا ذُو تجربة
الْحَلِيم المنشرح صَدره الَّذِي يَتَّسِع صَدره لمساوىء الْخلق وَسُوء سيرتهم وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أَصْبِر النَّاس على أقذار الْخلق
وَقَالَ الْحسن رضي الله عنه مَا سَمِعت الله تَعَالَى نحل عباده شَيْئا أقل من الْحلم قَالَ تَعَالَى {إِن إِبْرَاهِيم لحليم} وَقَالَ {فبشرناه بِغُلَام حَلِيم}
إِنَّمَا عظم حلمهما بِمَا أتسع صدرهما لِلْأَمْرِ الْعَظِيم الَّذِي حل بهما
من الذّبْح فاتسع صدر إِبْرَاهِيم عليه السلام لذبح وَلَده وَصدر الْغُلَام عليه السلام لتسليم نَفسه لله تَعَالَى
فالحليم من يسلم النَّفس لرَبه عز وجل عبودة فِي جَمِيع مَا يَأْمر وَفِيمَا يحكم عَلَيْهِ فِي الْأَحْوَال والحلم وَالْملح وَاحِد كَمَا لَا تطيب الْأَطْعِمَة إِلَّا بالملح لَا تطيب النَّفس إِلَّا بالحلم
قَالَ عَليّ كرم الله وَجهه الْحلم كظم الغيظ وملاك النَّفس وَفِي الْخَبَر أَن أَيُّوب عليه السلام كَانَ أحلم النَّاس وأصبره وأكظمه لغيظه
قَوْله لَا حَلِيم إِلَّا ذُو عَثْرَة أَي لَا يَتَّسِع الرجل لما يرى من الْخلق إِلَّا بعد مَا يعثر فَإِذا رأى عثرته رحم الْخلق واتسع لَهُم وَاتَّقَى أَن يلوم أحدا بِعَيْب أَو يعيره بذنب
وَكَانَ دَاوُد عليه السلام يشدد على الْخَطَّائِينَ وَلَا يجالسهم وَقَالَ يَا رب لَا تغْفر للخطائين لشدَّة الْغيرَة لله تَعَالَى وَكَثْرَة الحنق عَلَيْهِم فَلَمَّا عثر كَانَ ينظر إِلَى أغمص مجْلِس فِي بني إِسْرَائِيل وَيقْعد مَعَهم وَيَقُول مِسْكين بَين ظهراني مَسَاكِين رب اغْفِر للخطائين كي تغْفر لداود مَعَهم
وَقَوله لَا حَكِيم إِلَّا ذُو تجربة فالعقل يدل على الرشد وَالْحكمَة نور يكْشف عَن مَكْنُون الْأُمُور وَلَا تستكمل الْحِكْمَة مَعَ كشف الغطاء وإطلاعه بِالْقَلْبِ حَتَّى يطالع الْأُمُور بِمُبَاشَرَة النَّفس فَإِن كل شَيْء تَجدهُ الْقُلُوب فمباشرة النَّفس مَعَ الْقُلُوب أثبت وآكد فالحكيم قد انْكَشَفَ لَهُ الغطاء فَيرى عواقب الْأُمُور وزينها وشينها فَإِذا رأى ذَلِك بالجوارح كَانَ ذَلِك عيَانًا لَا يرفع وَلَا ينسى فَبعد التجارب تستكمل الْحِكْمَة لِأَنَّهَا كَانَت قبل التجربة مُعَاينَة الْقلب فَصَارَت مُعَاينَة الْعين وَكَانَ ذَلِك علم الْيَقِين فَصَارَ الْآن عين الْيَقِين وَلِهَذَا قيل إِن الْعقل بالتجارب
-
الأَصْل السَّادِس وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن فزع وعد الْقُرْآن يُورث الشيب وسر اللحظات
عَن أبي جُحَيْفَة رضي الله عنه قَالَ قَالُوا يَا رَسُول الله نرَاك قد شبت قَالَ شيبتني هود وَأَخَوَاتهَا
الْفَزع يذهل النَّفس فينشف رُطُوبَة الْجَسَد وَتَحْت كل شَعْرَة منبع وَمِنْه يعرق فَإِذا انتشف الْفَزع رطوبته يَبِسَتْ المنابع فيبس الشّعْر فابيض لذهاب رطوبته ويبس جلده كالزرع إِذا ذهب سقياه يبس وابيض وَلِهَذَا يسْرع الشيب إِلَى المحرور لانتشاف المَاء لِأَن الْمرة يابسة فتأدت إِلَى المنابع فيبست وإبيض الشّعْر فَالنَّفْس تذهل لوعيد الله تَعَالَى فتذبل وينشف ماءها ذَلِك الْوَعيد والهول الَّذِي حل بهَا فَمِنْهُ تشيب قَالَ
الله تَعَالَى {يَوْمًا يَجْعَل الْولدَان شيبا}
وَسورَة هود وَأُخُوَّتهَا مثل الحاقة وَسَأَلَ سَائل وَإِذا الشَّمْس كورت وَالْقَارِعَة فَفِيهَا ذكر الْأُمَم وَمَا حل بهم من عَاجل بَأْس الله تَعَالَى فَفِي تلاوتها ينْكَشف لقلوب العارفين سُلْطَان الله تَعَالَى وبطشه فتذهل مِنْهُ النُّفُوس وتشيب مِنْهُ الرؤوس وَلَو مَاتُوا من الْفَزع لحق لَهُم وَلَكِن الله تَعَالَى يلطف بهم فِي تِلْكَ الْأَحَايِين حَتَّى يعوا وحيه وتنزيله قَالَ تَعَالَى {لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا متصدعا من خشيَة الله}
وَرُوِيَ أَنه صلى الله عليه وسلم تَلا آيَة وَعِنْده شَاب فَخر مَيتا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الْفرق فلذ كبده أَي قطعه
فَأهل الْيَقِين بارز على قُلُوبهم لحظات الله تَعَالَى وَالْعَفو جنايب لَوْلَا ذَلِك مَا اسْتَقر لَهُم قَرَار من هول أَخذه واللحظة قد شملت الْقُدْرَة والحلم إِلَّا أَن أهل الْيَقِين قد اطمأنت قُلُوبهم فارتفعت فِي سَعَة عَفوه
قَالَ مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رضي الله عنه إِن لله ثلثمِائة وَسِتِّينَ لَحْظَة يلحظ بهَا إِلَى كل عبد من عبيده فِي كل صباح فَإِن أَخذ أَخذ بِقدر وَإِن عَفا عَفا بحلم وَكتب عَليّ بن الْحُسَيْن رضي الله عنهما إِلَى الْحجَّاج جَوَاب كِتَابه الَّذِي كَانَ يوعده فِيهِ بَلغنِي أَن
رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن لله عز وجل فِي كل يَوْم ثلثمِائة وَسِتِّينَ لَحْظَة يلحظ بهَا إِلَى أهل الأَرْض فَمن أدْركهُ تِلْكَ اللحظة صرف الله عَنهُ شَرّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأَعْطَاهُ خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأَرْجُو من الله أَن يدركني بعض لحظاته فَيصْرف عني شرك ويرزقني مَا وَعَدَني رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَبلغ هَذَا الْكَلَام هِرقل فَقَالَ لَا يخرج هَذَا إِلَّا من أهل بَيت نبوة
-
الأَصْل السَّابِع وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي النَّهْي عَن الاعتزاز بالعبيد
عَن عمر رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول من اعتز بالعبيد أذله الله تَعَالَى
الاعتزاز الِامْتِنَاع من الْأَشْيَاء الَّتِي تنوبه فَإِن امْتنع بِمن لَا يملك لنَفسِهِ ضرا وَلَا نفعا فَذَاك من الْعِزَّة والاعتزاز بالعبيد من الْجَهْل بِاللَّه وجهله بِهِ سَبَب لضَعْفه فِي كل الْأُمُور وَقد دلهم الله تَعَالَى على مَا فِيهِ رشدهم فَقَالَ واعتصموا بِاللَّه هُوَ مولاكم
والاعتصام بِهِ والاعتزاز من ذرى الايمان وَمن اعْتصمَ بالمخلوقين واعتز لعرض الدُّنْيَا فَهُوَ المخذول فِي دينه السَّاقِط عَن عين الله تَعَالَى وَأوحى الله تَعَالَى إِلَى دَاوُد عليه السلام مَا من عبد يعتصم بِي دون خلقي فتكيده السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا جعلت لَهُ من ذَلِك مخرجا
وَمَا من عبد يعتصم بمخلوق دوني إِلَّا قطعت أَسبَاب السَّمَاء من بَين يَدَيْهِ وأسخطت الأَرْض من تَحت قَدَمَيْهِ
وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ الله تَعَالَى إِنِّي وَالْجِنّ وَالْإِنْس فِي نبأ عَظِيم أخلق ويعبد غَيْرِي وأرزق ويشكر غَيْرِي
-
الأَصْل الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي خِصَال طعم يحصل بهَا طعم الْإِيمَان
عَن عبد الله بن مُعَاوِيَة العامري رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ ثَلَاث من فعلهن طعم طعم الْإِيمَان من عبد الله وَحده انه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأعْطى زَكَاة مَاله طيبَة بهَا نَفسه وَلم يُعْط الهرمة وَلَا الذُّرِّيَّة وَلَا الْمَرِيضَة وَلَكِن من أَوسط أَمْوَالكُم فَإِن الله يَأْمُركُمْ بخيره وَلم يَأْمُركُمْ بشره وزكى نَفسه فَقَالَ رجل وَمَا تَزْكِيَة نَفسه قَالَ أَن يعلم أَن الله مَعَه حَيْثُمَا كَانَ
فالزكاة ثَلَاثَة زَكَاة الْقلب لَا إِلَه إِلَّا الله وَزَكَاة المَال إِخْرَاج مَا افْترض الله فِيهِ مِنْهُ وَزَكَاة النَّفس علمهَا بِأَن الله تَعَالَى مَعَه حَيْثُمَا كَانَ فَإِذا علم ذَلِك اسْتَوَت سَرِيرَته وعلانيته وهابه واستحيى مِنْهُ كل الْخلق فِي كل وَقت وَمَكَان والهيبة وَالْحيَاء وثاقان لنَفس العَبْد من جَمِيع مَا كره الله سرا وجهرا وظاهرا وَبَاطنا وَالنَّفس فِي هَذِه الْأَحْوَال تخشع لهيبته وتذل وتخمد شهواته وتذبل حركاته وانبعاثه وتخجل وتنقبض للحياء مِنْهُ فَإِذا كَانَ من الله تَعَالَى لعَبْدِهِ تأييد بِهَذَيْنِ فاكتنفاه فقد استقام
وأردنا بِالْعلمِ علم الْقلب لَا علم اللِّسَان فَإِن علم اللِّسَان أَصله من
الْقلب وَلَا قَرَار لَهُ لِأَنَّهُ شرارة من شرر الْإِيمَان وَهِي حجَّة الله تَعَالَى على ابْن آدم وَعلم الْقلب علم الْيَقِين
قَالَ صلى الله عليه وسلم الْعلم علمَان علم بِالْقَلْبِ فَذَاك الْعلم النافع وَعلم على اللِّسَان فَذَاك حجَّة الله على ابْن آدم
فالزكاة هِيَ الطهرة والنماء فَإِذا قَالَ العَبْد صَادِقا من قلبه هَذِه الْكَلِمَة فَإِنَّمَا قَوْله من النُّور الَّذِي أحيى الله تَعَالَى بِهِ قلبه فَذَلِك النُّور طهر جَمِيع جسده ولصدق هَذِه الْكَلِمَة ثَلَاث منَازِل أَولهَا الظَّالِمُونَ وأوسطها المقتصدون وَآخِرهَا المقربون فالظالمون زكوا قُلُوبهم وجوارحهم بِهَذَا القَوْل ثمَّ دنسوها بِالْمَعَاصِي فَهُوَ مَعَ ظلمه شرِيف الْمنزلَة رفيع الْقدر لم يخرج بظلمه نَفسه من ولَايَة الله تَعَالَى وَمن رَحمته وَلَا زَالَت عَنهُ حرمته وَإِن تابعوا زَالَت الأدناس وصاروا من أهل نورالطاعات
والمقتصدون زكوا قُلُوبهم بِهَذِهِ الْكَلِمَة وزكوا أَمْوَالهم وأجسادهم بالائتمار بِأَمْر الله والتناهي عَن نَهْيه ثمَّ ثبتوا على تَزْكِيَة الْأَمْوَال والأجساد ودنسوا قُلُوبهم بالرغبة والرهبة والشهوة والغفلة والحرص والعجلة ومحبة النَّفس وهواها ومحبة الدُّنْيَا وَأَحْوَالهَا
والمقربون زكوا بِمَا زكى بِهِ المقتصدون وَأَقْبلُوا على قُلُوبهم فرعوها عَن أَن تتدنس بِشَيْء مِمَّا ذكرنَا فَكَانَ مرعى قُلُوبهم بَين يَدَيْهِ لم يكن للدنيا وَلَا للنَّفس هُنَاكَ دنو وَلَا لحاظ فتزكية قُلُوب الظَّالِمين بِنور التَّوْحِيد وَجَاءَت الشَّهَوَات بظلمتها وأحاطت بِالْقَلْبِ وَلم يكن لنوره الَّذِي أعطي مَا يحرق هَذِه الشَّهَوَات
وتزكية قُلُوب الْمُقْتَصِدِينَ بِنور الْإِنَابَة فَإِنَّهُ إِذا أناب العَبْد استنار قلبه بنوره فَأخْرجهُ من سكر الظَّالِمين فأفاق فخاف الْعقَاب وَرَجا الثَّوَاب وَأبْصر الْآخِرَة حَتَّى صَارَت نصب عَيْنَيْهِ
وتزكية قُلُوب المقربين نور الْقرْبَة فَأحرق الشَّهَوَات وامتلأ الْقلب من نور التَّوْحِيد وأشرق الصَّدْر بنوره فأيقظه من نومَة الغافلين فانتبه وَفِي المقربين قوم مصطفون مجتبون هم خَاصَّة المقربين وهم المحدثون فتزكية قُلُوبهم نور وَجهه الْكَرِيم فهم فِي قَبضته يتصرفون
فالظالمون علانيتهم أكبر من سريرتهم وَهُوَ الْجور
والمقتصدون اسْتَوَت سريرتهم وعلانيتهم وَهُوَ الْعدْل
والمقربون فضلت سريرتهم علانيتهم فللحظة من سرائرهم أعظم من أَعمال الثقلَيْن عمر نوح عليه السلام
قَالَ إِبْنِ مَسْعُود رضي الله عنه إِن الرجل من هَذِه الْأمة يبلغ عمله يَوْمًا وَاحِدًا مَا يكون أثقل من سبع سموات وَسبع أَرضين فِي الْوَزْن
وَنظر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى جبل أحد فَقَالَ رب رجل من أمتِي يعدل الْحَرْف الْوَاحِد من تَسْبِيحَة هَذَا الْجَبَل
وَقَوله أَن يعلم أَن الله مَعَه حَيْثُ مَا كَانَ فَهَذِهِ تَزْكِيَة النُّفُوس وَهَذَا الْعلم علم الْإِنَابَة فَإِنَّهُ إِذا أناب استنار فَبَقيَ خَوفه مَعَه فقيده عَن الْمعاصِي سرا وجهرا وَهُوَ علم الْقلب الَّذِي قَالَ صلى الله عليه وسلم فَذَاك الْعلم النافع والظالم إِنَّمَا يعلم علم إِيمَان أَن الله تَعَالَى مَعَه ثمَّ لَا تَأْخُذهُ مَخَافَة هذاالعلم حَتَّى يُقَيِّدهُ عَن الْمعاصِي سرا وجهرا فَذَاك هُوَ الْعلم الَّذِي قَالَ صلى الله عليه وسلم هُوَ علم اللِّسَان وَأما المقرب فَعلمه علم يُقَارب المعاينة قَالَ صلى الله عليه وسلم أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ
وكلم عُرْوَة بن الزبير عبد الله بن عمر رضي الله عنهم فِي الطّواف بِشَيْء من خطْبَة ابْنَته فَلم يجبهُ فَلَمَّا لقِيه بعد ذَلِك قَالَ إِنَّا كُنَّا نتراءى الله سبحانه وتعالى فِي الطّواف بَين أَعيننَا فَذَاك الَّذِي مَنَعَنِي من جوابك
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن أفضل إِيمَان العَبْد أَن يعلم أَن الله مَعَه حَيْثُ مَا كَانَ
وَهَذَا علم الْيَقِين لَا علم الْقلب وَلَا اللِّسَان فالموحدون علمُوا أَن الله تَعَالَى مَعَهم وقررهم إِيمَانهم بِهِ ثمَّ لم يعملوا فِي قُلُوبهم وَرَاء ذَلِك شَيْئا والمقتصدون أعْطوا علم الْإِنَابَة وَهُوَ النُّور الَّذِي إِذا أناب أعطي فَوجدَ المخافة فقيده ذَلِك النُّور الَّذِي ورد على قلبه عَمَّا كره الله تَعَالَى ووقف بِهِ على سَبِيل الاسْتقَامَة والمقربون من أعطي الْيَقِين وانكشف الغطاء عَن قلبه بنوره وَهُوَ نور الْأَنْوَار فَنظر إِلَى جلال الله تَعَالَى وعظمته فاندست أعضاؤه بَعْضهَا فِي بعض وَصَارَت نَفسه الشهوانية كشجرة أَصَابَهَا الْحَرِيق فيبست حَتَّى صَارَت جذعا وَصَارَت أَرْكَانه كوعاء فِيهِ حبوب عذرا وضعفا وعجزا ثمَّ أحله مرتبَة من مراتبه بَين يَدَيْهِ فأحيا قلبه فقوي بِاللَّه تَعَالَى وخبت شهواته وَرطب جسده وانبسطت جوارحه وانفتقت أعضاؤه وعاش فِي غذائه ونجواه وبشراه بَقِيَّة محياه مراقبا لأموره كَأَنَّهُ يرَاهُ فحياؤه مِنْهُ أَكثر من حَيَاء ملاء عَظِيم ضمهم اشراف الْمُسلمين وهيبته لَهُ أَكثر من هيبته من ملك من مُلُوك الدُّنْيَا بل يدق حياؤهم فِي جنب حيائه مِنْهُ وهيبته لذَلِك الْملك فِي جنب هيبته لَهُ وَهُوَ الَّذِي قد علم حق الْحق أَن الله تَعَالَى مَعَه فلولا أَن الله تَعَالَى يلطف لَهُ حَتَّى ينبسط مِنْهُ ويؤنسه ويقويه لَا حتمال ذَلِك لما قدر عَلَيْهِ وَلَا صلح للمعاش وَالْعشرَة
-
الأَصْل التَّاسِع وَالثَّمَانُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الأَرْض تنادي ابْن آدم كل يَوْم سبعين مرّة
عَن ثَوْبَان رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن الأَرْض لتنادي كل يَوْم سبعين مرّة يَا بني آدم كلوا مَا شِئْتُم واشتهيتم فوَاللَّه لاكلن لحومكم وجلودكم
هَذَا نِدَاء متسخط فِيهِ وَعِيد يَقع على من أكل بِشَهْوَة ونهمة وغفلة فَإِن الله تَعَالَى سخر لنا لنشكر لَا لنكفر وَالشُّكْر ذكره عِنْد كل نعْمَة وقبولها وَالْحَمْد عَلَيْهَا فَإِذا غفل عَن هَذَا كُله فقد أكل مِنْهَا بِغَيْر حق فسلطت الأَرْض عَلَيْهِ لتأكله كَمَا أكل مِنْهَا بِغَيْر حق فَأَما الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام فَلَا تسخط الأَرْض عَلَيْهِم بل تفرح بكونهم على ظهرهَا وتفخر بقاعها بمنقلبهم عَلَيْهَا فَإِذا وَجَدتهمْ فِي بَطنهَا ضمتهم ضمة الوالدة الوالهة الواجدة بِوَلَدِهَا وَلِأَنَّهُم أكلُوا بِاللَّه وَللَّه وَفِي ذَات الله تَعَالَى وَمن كَانَ كَذَلِك فالأرض أذلّ وَأَقل من أَن تجترىء عَلَيْهِ لِأَن الأَرْض دون النَّار وَقد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن النَّار تنادي جز يَا مُؤمن فقد أطفأ نورك لهبي
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن النَّار تنزوي وتنقبض عِنْد وُرُود الْمُؤمن وَقَالَ صلى الله عليه وسلم يَجْعَل الله النَّار على الْمُؤمن بردا وَسلَامًا كَمَا كَانَت على إِبْرَاهِيم
فَإِذا كَانَت النَّار تخمد لممر عبد فَكيف تجترىء الأَرْض على أكله وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الشُّهَدَاء لَا تأكلهم الأَرْض وَرُوِيَ أَن من أذن سبع سِنِين لم يدود فِي قَبره
فَإِذا كَانَ الشَّهِيد والمؤذن قد امتنعا من الأَرْض بحالتيهما فحالة الْأَنْبِيَاء وَالصديقين والأولياء عليهم السلام أرفع من هَذَا وَأجل فانهم هم الشُّهَدَاء أَيَّام الْحَيَاة والدعاة إِلَى الله تَعَالَى على بَصِيرَة
وروى جَابر رضي الله عنه قَالَ لما أَرَادَ مُعَاوِيَة رضي الله عنه أَن يجْرِي الْعين إِلَى جنب أحد عِنْد قُبُور الشُّهَدَاء أَمر مناديا فنادي فيهم من كَانَ لَهُ قَتِيل فَليخْرجْ إِلَيْهِ قَالَ جَابر فخرجنا إِلَيْهِم فوجدناهم رطابا فرأيتهم ينثون على رِقَاب الرِّجَال كَأَنَّهُمْ رجال نوم فأصابت المسحاة قدم حَمْزَة بن عبد الْمطلب رضي الله عنه فثارت إصبعه فانبعث دَمًا
ثمَّ الْأَوْلِيَاء على ثَلَاث مَرَاتِب مِنْهُم من أكل بِاللَّه تَعَالَى وَهُوَ الأرفع وَهُوَ من كَانَ فِي قَبضته قد انْفَرد بِهِ وخلص قلبه إِلَى وحدانيته فبه يقوم وَبِه يقْعد وَبِه ينْطق على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ فَإِذا أَحْبَبْت عَبدِي فَكنت سَمعه وبصره الحَدِيث
وَمِنْهُم من أكل لله تَعَالَى ومقامه دون مقَام الأول وَهُوَ عبد ألْقى نَفسه بَين يَدَيْهِ سلما يراقب أُمُوره فَهُوَ يمْضِي فِيهَا كالعبيد لَا يُؤثر أمرا على أَمر وَلَا يدبر لنَفسِهِ تدبيرا بل يراقب تَدْبيره وَيعْمل لَهُ
وَمِنْهُم من أكل فِي ذَات الله سبحانه وتعالى وَهُوَ دون الثَّانِي بِدَرَجَة
وَذَاكَ عبد قد شغف بحب الله تَعَالَى وَذكر آلائه يَبْتَغِي فِي جَمِيع متقلبه رِضَاهُ فهم كلهم أهل ولَايَة الله تَعَالَى وَحرَام على الأَرْض لحومهم ودماؤهم لأَنهم عبيد الله تَعَالَى وخاصته وَالْأَرْض سخرة لَهُم فالأرض تمْضِي فِي سخرتها وَالْعَبِيد يمضون فِي حُقُوق الله تَعَالَى فَإِن الله تَعَالَى جعل الأَرْض ممرا للآدميين ليأخذوا مِنْهَا الزَّاد ليقطعوا هَذِه السفرة فَهِيَ بلغتهم قل أَو كثر ضَاقَ أَو اتَّسع فالمنتبه اطلع على هَذَا المطلع فَأَخذهَا تزودا وَوَجهه إِلَى الله تَعَالَى وَقَلبه مَعَ الله تَعَالَى يسير إِلَيْهِ ركضا يقطع اللَّيْل وَالنَّهَار كلما ذكر الْمَوْت وارتاح لعلمه بِأَن الْمَوْت يذهب بِهِ إِلَيْهِ وَيقدم بِهِ عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ لأحد أَن يقدم على مَوْلَاهُ الَّذِي هُوَ عطشان إِلَى لِقَائِه إِلَّا بعد وُرُود الْمَوْت الَّذِي وَكله بِهِ وَالرَّسُول الَّذِي جعله بَين يَدَيْهِ فَإِذا صَار إِلَى ملحده لم يكن بَينه وَبَين الأَرْض إِلَّا كل جميل
قَالَ صلى الله عليه وسلم إِنَّهَا تستاذن رَبهَا فِي أَن تدخل عَلَيْهِ فِي لحده فِي صورتهَا الَّتِي خلقت فِيهَا فَإِن لكل شَيْء صُورَة فَيُؤذن لَهَا فَتدخل عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الصُّورَة وتؤنسه وتبشر بِهِ وَتقول طَال مَا كنت تمشي على ظَهْري وَأَنا إِلَيْك مشتاقة ويبكي ظهر الأَرْض عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ صباحا وَتقول فِي بكائها يَا رب عَبدك كَانَ يذكرك فِي فجاجي وبقاعي أسفا على مَا فاتها وافتقدت من ذَلِك وَالسَّمَاء تبْكي عَلَيْهِ فَتَقول يَا رب عَبدك كَانَ ينزل عَلَيْهِ رزقه مني ويصعد عمله إِلَيّ فَلَا يزَال ذَلِك دأبهما من الْبكاء وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى جعل هَذِه الأَرْض سخرة للآدمي لتَكون لَهُ قواما قطعا لعذره وَخلق الْآدَمِيّ لعبودته وَإِقَامَة حُقُوقه فَإِذا اشْتغل العَبْد فِي إِقَامَة حُقُوقه ونهمته وهمته وهواه ذَلِك فالسخرة لَهُ سليمَة طيبَة بِلَا وبال وَإِذا أحدث فِي السخرة حَدثا لم يكن لَهُ بِأَن إشتغل عَن إِقَامَة حَقه بهَا بِمَا سخر لَهُ عَادَتْ عَلَيْهِ وبالا وَصَارَت عَلَيْهِ فتْنَة وَقد تحولت العبودة عَن الْوَاحِد إِلَى الْأَعْدَاد قَالَ
الله تَعَالَى ضرب الله مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هَل يستويان مثلا
فَهَذِهِ الْآيَة لَهَا ظهر وبطن فَأَما ظَاهره فَهُوَ الْمُشرك والموحد وباطنه رجل فِي شُرَكَاء متشاكسون أَي قلب فِيهِ شُرَكَاء قد سبوه وادعوه كل على ناحيته يَدعِيهِ فَكل همة لَهَا شقص من قلبه فقد صَار فِيهِ شُرَكَاء أحزابا فَفِي قلبه أفراح شهوات الدُّنْيَا وَأَحْوَالهَا اللذيذة وسلطان الْكل قَائِم على قلبه يزاحم صَاحبهَا فهم متشاكسون أَي متشاقصون فِيمَا بَينهم وَهُوَ مفتون بِكُل شَهْوَة قد سبت شُعْبَة من قلبه
رُوِيَ عَن ابْن عمر رضي الله عنهما أَنه بَاعَ حمارا لَهُ فَقَالَ كَانَ لنا مُوَافقا وَلكنه أذهب شُعْبَة من قلبِي فَبِعْته
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم من تشعبت بِهِ همومه فِي دُنْيَاهُ لم يبال الله فِي أَي وَاد هلك
وَبَاعَ عمر رضي الله عنه حمارا لَهُ فَقَالَ قد كَانَ مُوَافقا لنا وَلكنه أذهب شُعْبَة من قلبِي فَبِعْته
فَهَذَا قلب فِيهِ فتْنَة المَال والأهل وَالْولد والعز وَحب الرياسة وَالثنَاء والمحمدة وفتنة الْعلم ورجلا سالما لرجل أَي قلبا سلما للْوَاحِد الْفَرد
فالمخذول من عبيده من قلبه بَين هَذِه الشُّرَكَاء فكلهم يَدعِيهِ ويستعبده وَكلهمْ ساخط عَلَيْهِ إِذْ لَا ينَال غَايَة نهمته والمؤيد من أَخذ الله تَعَالَى بِقَلْبِه فَجَذَبَهُ إِلَيْهِ جذبة فأقامة فِي فرديته
وَقد قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن هَذِه الدُّنْيَا خضرَة حلوة فاتقوها وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن هَذَا المَال خضر حُلْو فَمن أَخذه بِحقِّهِ بورك لَهُ فِيهِ وَنعم المعونة هُوَ وَمن أَخذه بِغَيْر حَقه لم يُبَارك لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذي يَأْكُل وَلَا يشْبع
فالأخذ بِحقِّهِ أَن يَأْخُذهُ بحاجة إِلَيْهِ للتزود وَالْأَخْذ بِغَيْر حَقه أَن يَأْخُذهُ بِشَهْوَة التَّمَتُّع
-
الأَصْل التِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي سر مَكَارِم الْأَخْلَاق
عَن عَائِشَة رضي الله عنها تَقول كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول مَكَارِم الْأَخْلَاق عشرَة تكون فِي الرجل وَلَا تكون فِي ابْنه وَتَكون فِي الابْن وَلَا تكون فِي أَبِيه وَتَكون فِي العَبْد وَلَا تكون فِي سَيّده يقسمها الله تَعَالَى لمن أَرَادَ بِهِ السَّعَادَة صدق الحَدِيث وَصدق الْبَأْس وَإِعْطَاء السَّائِل والمكأفاة بالصنايع وَحفظ الْأَمَانَة وصلَة الرَّحِم والتذمم للْجَار والتذمم للصاحب واقراء الضَّيْف ورأسهن الْحيَاء وكل خلق من هَذِه الْأَخْلَاق مكرمَة لمن منحها
قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الْأَخْلَاق مخزونة عِنْد الله فَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْد خيرا منحه مِنْهَا خلقا
والأخلاق الطبيعية كَالْأَكْلِ وَالشرب وَغير ذَلِك والأخلاق الَّتِي ركب عَلَيْهَا الْآدَمِيّ تِلْكَ أَخْلَاق الطبيعة وَقد عَم الْجَمِيع ثمَّ لله تَعَالَى منائح من فَضله لعبد من عبيده يختصهم بمشيئته منا مِنْهُ عَلَيْهِم من المخزونات عِنْده
قَالَ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا بعثت لأتمم مَكَارِم الْأَخْلَاق فَهَذَا يدل على أَن الْأَنْبِيَاء عليهم السلام قبله صلى الله عليه وسلم كَانَت مَعَهم هَذِه الْأَخْلَاق وَبقيت مِنْهَا بَقِيَّة بعث هُوَ ليتممها
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن لله مائَة وَسَبْعَة عشر خلقا فَمن أَتَى بِوَاحِدَة مِنْهَا دخل الْجنَّة
وَقَالَ عليه السلام إِن الله تَعَالَى يحب معالي الْأَخْلَاق فَإِذا جعل من محابه فِي عبد من عبيده أَنْجَاهُ محبوبه
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الله تَعَالَى قسم بَيْنكُم أخلاقكم كَمَا قسم بَيْنكُم أرزاقكم
فَالله تَعَالَى يحب العَبْد على أخلاقه إِذا تخلق بهَا لَهُ فَإِذا تخلق بهَا لدُنْيَا كَانَ من حُرْمَة تِلْكَ المكرمة الَّتِي أعطيها أَن يعقبه مِنْهَا مَعْرُوفا فَإِن كَانَ ظَالِما يتب عَلَيْهِ ورزق الْإِنَابَة وَإِن مَاتَ على غير تَوْبَة غفر لَهُ بِحرْمَة ذَلِك الْخلق وَإِن كَانَ كَافِرًا خفف عَنهُ الْعَذَاب
قَالَ صلى الله عليه وسلم لأم حَبِيبَة رضي الله عنها ذهب حسن الْخلق بِخَير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَقَالَ إِنَّه لينال بِحسن الْخلق دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم رَأَيْت رجلا من أمتِي جاثيا على رُكْبَتَيْهِ بَينه وَبَين لله حجاب فَجَاءَهُ حسن خلقه فَأدْخلهُ على الله تَعَالَى
وَعَن عَليّ رضي الله عنه قَالَ سُبْحَانَ الله مَا أزهد النَّاس فِي الْخَيْر عجبت لرجل يَجِيئهُ أَخُوهُ الْمُسلم فِي حَاجته لَا يرى نَفسه للخير أَهلا فَلَو كُنَّا لَا نرجو جنَّة وَلَا نخشى نَارا وَلَا ثَوابًا وَلَا عقَابا لَكَانَ يَنْبَغِي لنا أَن نطلب مَكَارِم الْأَخْلَاق فانها مِمَّا تدل على سَبِيل النجاح
فَقَامَ رجل فَقَالَ فدَاك أبي وَأمي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ نعم وَمَا هُوَ خير مِنْهُ لما أَتَانَا سَبَايَا طيىء وَقعت لي جَارِيَة حماء حَوَّاء لعساء لمياء عيطاء مسنونة الْخَدين صلته الجبين مقرونة الحاجبين صَغِيرَة الْأُذُنَيْنِ شماء الْأنف مَقْبُوضَة الهامه درماء الْكَعْبَيْنِ خدلة السَّاقَيْن لفاء الفخذين خميصة الخصرين ممكورة الكحشين مسقولة المتنين فَلَمَّا رايتها أعجبت بهَا وَقلت لاطلبن إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن يَجْعَلهَا فِي فيئي فَلَمَّا تَكَلَّمت نسيت جمَالهَا لما رَأَيْت من فصاحتها فَقَالَت يَا مُحَمَّد إِن رَأَيْت أَن تخلي عني وَلَا تشمت بِي احياء الْعَرَب فَإِنِّي ابْنة سرة قومِي كَانَ أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضَّيْف ويشبع الجائع ويفرج عَن المكروب وَيطْعم الطَّعَام ويفشي السَّلَام وَلم يرد طَالب حَاجَة قطّ وَأَنا ابْنة حَاتِم طيىء فَقَالَ يَا جَارِيَة هَذِه صفة الْمُؤمن حَقًا لَو كَانَ أَبوك إسلاميا لترحمنا عَلَيْهِ خلوا عَنْهَا فَإِن أَبَاهَا كَانَ يحب مَكَارِم الْأَخْلَاق وَالله تَعَالَى يحب مَكَارِم الْأَخْلَاق فَقَامَ أَبُو بردة رضي الله عنه فَقَالَ يَا رَسُول الله الله يحب مَكَارِم الْأَخْلَاق فَقَالَ يَا أَبَا بردة لَا يدْخل الْجنَّة أحد إِلَّا بِحسن الْخلق
فَأَما مَا عده رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عشرا مِنْهَا صدق الحَدِيث وَهُوَ من الْإِيمَان لِأَن الْكَذِب مُجَانب للْإيمَان لِأَنَّهُ إِذا كذب فَقَالَ كَانَ كَذَا وَلم يكن فقد افترى على الله تَعَالَى لِأَنَّهُ زعم أَن الله تَعَالَى قد كَونه وَإِن كَانَ ذَلِك فَزعم أَنه لم يكن فقد افترى على الله تَعَالَى
قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه الْكَذِب مُجَانب للْإيمَان
وَقَوله صدق الْبَأْس لِأَنَّهُ من الثِّقَة بِاللَّه تَعَالَى شجاعة وسماحة وَإِعْطَاء السَّائِل من الرَّحْمَة والمكافأة بالصنايع من الشُّكْر وَحفظ الْأَمَانَة من الْوَفَاء وصلَة الرَّحِم من الْعَطف والتذمم للْجَار من نزاهة النَّفس وَكَذَلِكَ التذمم للصاحب وإقراء الضَّيْف من سخاوة النَّفس وَالْحيَاء من عفة الرّوح وكل خلق من هَذِه الْأَخْلَاق مكرمَة عَظِيمَة يسْعد بِالْوَاحِدِ مِنْهَا صَاحبه فَكيف لمن جمعت لَهُ المكارم والأخلاق الْحَسَنَة كَثِيرَة وَكلهَا تقرب إِلَى الله تَعَالَى وَلَكِن هَذِه مَكَارِم تِلْكَ الْأَخْلَاق فَكل مكرمَة مِنْهَا تمنح العَبْد فَهِيَ لَهُ شرف وفضيلة فِي الدُّنْيَا ورفعة ووسيلة فِي الْآخِرَة
-
الأَصْل الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي الْخِصَال الْأَرْبَع الَّتِي تطهر الْجَسَد وَالْقلب
عَن عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَربع خِصَال إِذا أعطي العَبْد فَلَا يضرّهُ مَا عزل عَنهُ من الدُّنْيَا حسن خلقه وعفاف طعمه وَصدق حَدِيث وَحفظ أَمَانَة
هَذِه خِصَال كلهَا تطهر الْجَسَد وَالْقلب فَأَما حسن خلقه فَأن يكون حسن الْعشْرَة مَعَ الْخلق حسن الْخلق مَعَ أَمر الله تَعَالَى وَنَهْيه حسن الْعشْرَة والخلق مَعَ تَدْبِير الله تَعَالَى وَأَحْكَامه
وعفاف طعمه بِأَن يطعم مَا لَا يشوبه الْحَرَام وَلَا الشَّهْوَة وَلَا المطامع وَصدق الحَدِيث فَأن يعف لِسَانه وَحفظ أَمَانَة بِأَن يحفظ جوارحه وَمَا ائْتمن عَلَيْهِ
-
الأَصْل الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي فضل صَلَاة الْفجْر يَوْم الْجُمُعَة
عَن أبي عُبَيْدَة رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول لَيْسَ من الصَّلَوَات أفضل من صَلَاة الغدوة يَوْم الْجُمُعَة فِي جمَاعَة وَمَا أَحْسبهُ شَهِدَهَا أحد مِنْكُم إِلَّا مغفورا لَهُ
يَوْم الْجُمُعَة اصطفاه الله تَعَالَى واستأثر بِهِ على الْأَيَّام وَختم فِيهِ آخر الْخلق وَهُوَ آدم عليه السلام وَفِيه قَبضه وَجعله يَوْم الْجَزَاء وَفِيه تقوم السَّاعَة وَفِيه فصل الْقَضَاء وَفِيه زِيَارَة الأحباب إِلَى الله تَعَالَى فِي الفراديس وَصَلَاة الغدوة فَإِن الله تَعَالَى يشهدها وَمَلَائِكَته عليهم السلام كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم ثمَّ قَرَأَ وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا
وَلذَلِك قَالَ صلى الله عليه وسلم من صلى الصُّبْح فِي جمَاعَة فَهُوَ فِي
ذمَّة الله تَعَالَى فَإِذا وَافق العَبْد شُهُوده فِي يَوْمه دخل فِي ستره وذمته
فالستر الْمَغْفِرَة والذمة الْجوَار والحصن من الْعَدو
-
الأَصْل الثَّالِث وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي تَمْثِيل بِلَال رضي الله عنه بالنحلة
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مر ببلال رضي الله عنه وَهُوَ يقْرَأ من هَذِه السُّورَة وَهَذِه السُّورَة وَقَالَ أخلط الطّيب بالطيب فَقَالَ صلى الله عليه وسلم إقرأ السُّورَة على نَحْوهَا ثمَّ قَالَ مثل بِلَال كَمثل نحلة غَدَتْ تآكل من الحلو والمر ثمَّ يُمْسِي حلوا كُله
النحلة مأمورة بذلك وَجعل الحلو والمر رزقا لَهَا فَإِن فِي الحلو شِفَاء وداء وَفِي المر شِفَاء وداء فَأمرت بِالْجمعِ بَين ذَلِك ليَكُون الدَّاء بالشفاء والشفاء بالداء فيعتدل فَلَا يضرّهُ وَيكون شِفَاء قَالَ الله تَعَالَى وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل
فذللت لله تَعَالَى مطيعة فاتخذت بُيُوتًا من الْأَمَاكِن الَّتِي تسير إِلَيْهَا وَاتَّبَعت رزقها من حَيْثُ ذكر لَهَا فالمر من الثِّمَار كريه على كل دَابَّة وَنَفس لَكِن النحلة كَمَا سخرت للآدمي فذلت وإنقادت كَذَلِك
فِيمَا صرفت إِلَيْهَا من الرزق سخرت لأكلها حلوا كَانَ أَو مرا وَقد نجد الدَّوَابّ فِي مرعاهن يتقين كثيرا من الكلاء ونبات الأَرْض فَلَا يقربن وَذَوَات الأجنحة يتقين كثيرا من الثِّمَار فَلَا يقربنه وسخرت النحلة لأكل كل الثمرات حلوها ومرها ومحبوبها ومكروهها واتخذت النَّحْل بُيُوتًا بِمَا أُوحِي إِلَيْهَا لتَكون أوعية لما يَجْعَل الله تَعَالَى فِي مأكولها من الشِّفَاء للآدميين وَلَوْلَا تِلْكَ الْبيُوت لَكَانَ الَّذِي يخرج مِنْهَا يذهب فَسَادًا فَهَذِهِ الْبيُوت وَإِن كَانَت مساكنها فَهِيَ للعسل ولأمر الله تَعَالَى وَسَائِر الْهَوَام وَالدَّوَاب والطيور تتَّخذ المأوى والأوكار لقرارها ثمَّ أمرهَا الله تَعَالَى أَن تَأْكُل من كل الثمرات فَإِن لكل ثَمَرَة نفعا فَإِذا أكلت من الْكل فقد جمعت النَّفْع كُله فِي أكلهَا وَإِذا تركت شهوتها اسْتَوَى عِنْدهَا مَحْبُوب الثِّمَار ومكروهها لما ذلت لأمر الله تَعَالَى وَصَارَ هَذَا الْأكل لله تَعَالَى لَا لنَفسهَا إِذْ لَو آثرت المحبوب على الْمَكْرُوه لَكَانَ أكلهَا لنَفسهَا فَلَمَّا ذللت لَهُ عز وجل فِي أكل الثمرات فِيمَا وافقته وَفِيمَا لم توافقه صَار ذَلِك شِفَاء بِمَنْزِلَة الْأَدْوِيَة يخلط من كل نوع فَإِذا ذلت النَّفس ذهبت الْكَرَاهَة وانتظمت الطَّاعَة فِي أكلهَا لله تَعَالَى لَا لنَفسهَا وَحسب شهوتها ونهمتها صَار مَا فِي جوفها من الْمَأْكُول حلوا وَصَارَ شِفَاء لأسقام الْآدَمِيّين أَلا ترى أَن الْبَقَرَة صَار لَبنهَا شِفَاء ولحمها دَاء لِأَنَّهَا تَأْكُل من كل الشّجر
قَالَ صلى الله عليه وسلم عَلَيْكُم بألبان الْبَقر فَإِنَّهَا ترم أَي تآكل من كل الشّجر
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَبنهَا دَوَاء وسمنها شِفَاء ولحمها دَاء
إِنَّمَا صَار لَبنهَا دَوَاء لِأَنَّهَا تَأْكُل من كل شجر وَصَارَ لَحمهَا دَاء لِأَنَّهَا تَأْكُل بالنهمة لِأَنَّهَا جعمة وَلِهَذَا ترعى من كل الشّجر حلوه ومره لجعامتها لِأَنَّهَا ذللت لله تَعَالَى بِأَمْر رَبهَا كالنحل فَإِنَّهَا لم يلق إِلَيْهَا مَا ألقِي إِلَى النَّحْل إلهاما من الله تَعَالَى وَلِهَذَا ترعى من الْمَزَابِل وترتع من القاذورات لجعامتها فَصَارَت لَحمهَا دَاء وَاللَّبن الَّذِي حدث عَن أخلاط الشّجر دَوَاء للنهمة عَلَيْهَا صَارَت لحمانها منزوعة الْبركَة وكل شَيْء لَا يُبَارك فِيهِ فَهُوَ دَاء فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَأَما النحلة ذلت بالهام الله تَعَالَى وأكلت من الحلو والمر لله تَعَالَى فَصَارَ مَا فِي جوفها شِفَاء وَلِهَذَا نهى صلى الله عليه وسلم عَن قتل النحلة لِأَن فِي خلقهَا جوهرا يتَقَدَّم الْجَوَاهِر وَقد شرحناه فِيمَا قبله وَثَمَرَة هَذِه الْآيَة لمن صفا فكره فِيهَا أَن الله يعلمك أَن النحلة الَّتِي سخرتها لَك ذلت لي فَاسْتَوَى عِنْدهَا فِي الْمطعم محبوبها ومكروهها وَتركت نهمتها وشهوتها فَجعلت مَا فِي بَطنهَا حلوها ومرها حلوا كُله وَجَعَلته شِفَاء من الأسقام فَكيف بالآدمي المسخر لَهُ إِذا ذلت نَفسه لي فَتركت نهمتها وشهوتها رياضة لَهَا حَتَّى إستوي عِنْدهَا الْمَكْرُوه والمحبوب من أحوالها وَيصير ذَلِك الْمَكْرُوه كُله عِنْده حلوا محبوبا يكون كَلَامه شِفَاء للمذنبين وأفعاله شِفَاء للناظرين إِلَيْهِ من الْمعاصِي ورؤيته حَيَاة قُلُوبهم
وَأما تَمْثِيل فعل بِلَال رضي الله عنه بالنحلة أَنه إِذا قَرَأَ قصد آيَات الرَّحْمَة وصفات الْجنَّة فيتلوها نظاما وَإِنَّمَا يقْصد من الْقُرْآن مَا طيب نَفسه فَأمره صلى الله عليه وسلم أَن يقْرَأ السُّورَة على نَحْوهَا كَمَا
جَاءَت ممزوجة وَالله تَعَالَى أعلم بدواء الْعباد وحاجتهم إِذْ وَلَو شَاءَ لصنفها أصنافا كل صنف عل حِدة لكنه مزجها ليعْمَل على الْقُلُوب على المزاج وَلَا يفهم نظامه إِلَّا الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام وَحرَام على قُلُوب التفتت إِلَى أَحْوَال النَّفس أَو حجبت عقولها عَنهُ لشَهْوَة أَن تفهم نظامه فنظامه فِي جَمِيع كَلَامه نظام يعجز عَنهُ الواصف والمفكر وَمن هَذَا النظام تخرج اللطائف وَكَانَ بِلَال رضي الله عنه عجز عَن إِدْرَاكه فقصد مَا تطيب بِهِ النُّفُوس من آيَات الرَّحْمَة فَأمره النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن يقْرَأ على نظام رب الْعِزَّة وَهُوَ أعلم بالشفاء فانه سَمَّاهُ شِفَاء لما فِي الصُّدُور فَإِن فِي الصُّدُور دَاء النُّفُوس وَهِي الشَّهَوَات وَإِذا جَاءَت مواعظ الله تَعَالَى جَاءَت بالشفاء مَعهَا فَذهب الدَّاء ثمَّ مثل شَأْن بِلَال رضي الله عنه بالنحلة تَغْدُو فتآكل حلوا وَمَرا ثمَّ يُمْسِي كلهَا حلوا فَكَذَلِك الْمُؤمن يَتْلُو آيَة الْوَعْد فيسر قلبه ثمَّ يَتْلُو آيَة الْوَعيد فينكسر قلبه فَهُوَ بَين خوف ورجاء فَهَذَا حُلْو وَذَاكَ مر ثمَّ يطمئن إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَإِلَى مَعْرفَته بربه فَيصير حلوا كُله قَالَ الله تَعَالَى تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم ثمَّ تلين جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله
اقشعرت الْجُلُود من هول الْوَعيد الَّذِي حل بقلوبهم فَهَذِهِ مرَارَة ثمَّ اطمأنت جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله تَعَالَى بِمَا عرفوه كَرِيمًا رحِيما سَمحا جوادا ودودا رؤوفا فطابت نُفُوسهم ولانت جُلُودهمْ فَإِذا تَلا وعده رجا وَإِذا تَلا وعيده خَافَ ثمَّ التَّوْحِيد لَا يَدعه حَتَّى يجذب قلبه إِلَى ربه تَعَالَى فيطمئن إِلَى عطفه فشبهه بالنحلة تَأْكُل حلوا وَمَرا ثمَّ أَمْسَى فَعَاد كُله حلوا
-
الأَصْل الرَّابِع وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي سر دعوات نبوية
عَن أبي بكر رضي الله عنه قَالَ قلت يَا رَسُول الله عَلمنِي دُعَاء أَدْعُو بِهِ قَالَ قل اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا وَلَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك وارحمني إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم
قد اعْترف بالظلم ثمَّ إلتجأ إِلَيْهِ التجاء مُضْطَر لَا يجد لذنبه ساترا غَيره ثمَّ سَأَلَهُ الْمَغْفِرَة من عِنْده وَإِن كَانَ الْأَشْيَاء كلهَا من عِنْد الله تَعَالَى إِلَّا أَن لله تَعَالَى رَحْمَة قد عَمت الْخلق فِي أَرْزَاقهم ومعاشهم وأحوالهم ثمَّ لَهُ رَحْمَة الْإِيمَان خص بهَا الْمُؤمنِينَ وَله رَحْمَة الطَّاعَة وَقد خص بهَا الْمُتَّقِينَ وَله رَحْمَة قد خص بهَا الْأَوْلِيَاء فبها نالوا الْولَايَة قَالَ الله تَعَالَى والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد
رَبنَا) إِلَى أَن قَالَ {وهب لنا من لَدُنْك رَحْمَة}
وَله رَحْمَة قد خص بهَا الْأَنْبِيَاء عليهم السلام فبها نالوا النُّبُوَّة قَالَ الله تَعَالَى وَوَهَبْنَا لَهُم من رَحْمَتنَا سَأَلُوهُ رَحْمَة من عِنْده
-
الأَصْل الْخَامِس وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي سر قَوْله تَعَالَى هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم قَالَ ربكُم جلّ وَعز أَنا أهل أَن أتقى فَلَا يَجْعَل معي اله فَمن اتَّقى أَن يَجْعَل معي إِلَهًا كَانَ أَهلا أَن أَغفر لَهُ وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَنا أهل أَن أَغفر لَهُ
فَالْعَبْد إِذا اتَّقى أَن يَجْعَل مَعَه إِلَهًا آخر فربنا أهل لذَلِك لِأَنَّهُ لَا إِلَه غَيره فَهُوَ أهل أَن يَتَّقِي دَعْوَى الشّرك لأحد فِي ربوبيته وإلهيته وَلَو أشرك بِهِ لفعل محالا لَا يكون وَلَيْسَ بكائن فَمن اتَّقى كَانَ أَهلا أَن يستر عَلَيْهِ ذنُوبه وعيوبه ويقيه ظلمَة النَّار وحرها قَالَ تَعَالَى
والزمهم كلمة التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا
وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى فَأَنا أهل أَن أَغفر لَهُ وَمَعْنَاهُ أَغفر لمن وحدني وَاتَّقَى أَن يَجْعَل معي إِلَهًا وَهَذَا رد على من قَالَ إِن أهل التَّوْحِيد يبْقى فِي النَّار أبدا وَمَا أَتَى من لفظ الْخلد أَرَادَ بِهِ طول الْمكْث قَالَ الله تَعَالَى {أخلد إِلَى الأَرْض} أَي أَبْطَأَ عَن الْآخِرَة إِلَيْهَا
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم خيرني رَبِّي بَين لِقَائِه وَبَين الْخلد فِي الدُّنْيَا فاخترت لِقَاء رَبِّي وَلَا شكّ أَن الْخلد فِي الدُّنْيَا لَا يكون أبدا
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ الله عز وجل
إِنِّي لأجدني أستحيي من عَبدِي يرفع يَدَيْهِ ثمَّ أردهما
قَالَت الْمَلَائِكَة إلهنا لَيْسَ لذَلِك بِأَهْل
قَالَ الله تَعَالَى لكني أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة أشهدكم أَنِّي غفرت لَهُ
-
الأَصْل السَّادِس وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي ديدان الْقُرَّاء والتمسك بِالسنةِ
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يكون فِي آخر الزَّمَان ديدان الْقُرَّاء فَمن أدْرك ذَلِك فليتعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم وَمِنْهُم وَهُوَ الأنتنون ثمَّ تظهر قلانس البرود فَلَا يستحيي يَوْمئِذٍ من الرِّيَاء والمتمسك يَوْمئِذٍ بِدِينِهِ كالقابض على جَمْرَة والمتمسك بِدِينِهِ أجره كَأَجر خمسين قَالُوا أمنا أَو مِنْهُم قَالَ بل مِنْكُم
وَفِي رِوَايَة ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي على النَّاس زمَان المتمسك فِيهِ بِسنتي عِنْد اخْتِلَاف أمتِي كالقابض على الْجَمْر
الْقُرَّاء على ثَلَاثَة أَنْوَاع ديدان الْقُرَّاء والصادقون وَالصِّدِّيقُونَ فَأَما ديدان الْقُرَّاء فهم الَّذين تنسكوا فِي ظَاهر الْأَحْوَال تصنعا ليأكلوا بِهِ الدُّنْيَا قد رموا أَبْصَارهم إِلَى الأَرْض ومدوا بأعناقهم تيها وتكبروا إعجابا بِظَاهِر أَحْوَالهم يقصرون الْخَطَأ ويتماوتون وَيَنْظُرُونَ إِلَى أهل الذُّنُوب بِعَين الإزدراء حقارة لَهُم وعجبا بِأَنْفسِهِم أعْطوا الْقُوَّة على لبس الخشن وَالصَّبْر على ترك ملاذ الدُّنْيَا وشهواتها وسخت نُفُوسهم بترك جَمِيع اللَّذَّات فِي جنب لَذَّة ثَنَاء الْخلق عَلَيْهِم والتعظيم لَهُم وَالنَّظَر إِلَيْهِم بِعَين الإجلال وسولت لَهُم نُفُوسهم أَنه إِنَّمَا تنَال الرّفْعَة الْعُظْمَى عِنْد الْخلق بترك ظَاهر الدُّنْيَا ولذاتها حَتَّى تنَال ملكا بِلَا سلَاح وجندا بِلَا إرتزاق وغنى بِلَا خزانَة وَعبيد بِلَا ملك فسبت قُلُوبهم بِمَا مُنَاهُمْ فَأَقْبَلُوا على ترك الدُّنْيَا وذمها وذم من تنَاولهَا والطعن على من وسم بالغنى من أَئِمَّة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى أداهم جهلهم إِلَى أَن خَرجُوا على من وسع عَلَيْهِ هَذِه الدُّنْيَا من الرُّسُل عليهم السلام طَعنا ورميا فمرقوا من الدّين وَعظم شَأْن هَؤُلَاءِ فِي أعين الْخلق حِين تركُوا هَذَا الحطام وَكبر فِي صُدُورهمْ ذَلِك وَحَسبُوا أَنه لم يبْق وَرَاء هَذَا شَيْء وَإِن هَذَا عبد قد بلغ الْغَايَة وَلَا يعلمُونَ أَنه ترك شَيْئا قَلِيلا مِمَّا لَا يزن جَمِيع ذَلِك عِنْد الله تَعَالَى جنَاح بعوضة قد تركُوا الدُّنْيَا من حَيْثُ يظْهر لِلْخلقِ وأخذوها من حَيْثُ يخفى عَلَيْهِم اتَّخَذُوهَا بِتَرْكِهَا فِي الظَّاهِر واكتسبوا عِنْد الْخلق منزلَة نالوا فِي الْبَاطِن بِتِلْكَ الْمنزلَة أوفر مِمَّا تركوها وأسهل مِمَّا تناولوها يزرون على أهل الْغنى ويجفون أهل الذَّنب ويشمئزون عَن مُخَالطَة الْعَامَّة العبوس فِي وُجُوههم والتماوت فِي أركانهم وَعجب النَّفس فِي صُدُورهمْ وَسُوء الْخلق فِي أفعالهم وضيق الصَّدْر فِي عشرتهم الْوَاحِد مِنْهُم فِي نَفسه أعظم من
ملْء بلدته رجَالًا يهابهم النَّاس هَيْبَة سوء الْخلق لَا هَيْبَة الْحق والخشية هم الأنتنون لأَنهم فِي نَتن من الْأُمُور ودناءة وصدورهم أنتن من أُمُورهم لأَنهم يموتون على الدُّنْيَا عشقا همتهم هواهم وَدينهمْ مُنَاهُمْ وتبعهم غواة وهم من الصدْق عُرَاة قد ملكوا الْقُلُوب بتصنعهم وريائهم وهجروا الْخلق من أجل دنياهم كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ضعوها حَتَّى نرفعها وتخلوا عَنْهَا حَتَّى نملكها
رُوِيَ فِي الْخَبَر أَن الله تَعَالَى يَقُول لتارك الدُّنْيَا زهدت فِي الدُّنْيَا رَاحَة تعجلتها وَيَقُول للعابد عبدتني فحملك الْعباد فَوق رؤوسهم هَل فِي وليا أَو عاديت فِي عدوا وَعِزَّتِي لَا ينَال رَحْمَتي من لم يوال فِي وَلم يُعَاد فِي
وصنف آخر تصنعوا لِلْخلقِ بزِي أهل المسكنة والفقر من حسن اللابس وَطول القلانس وطرة اللحى وصف الشَّوَارِب ليتمكنوا فِي صُدُور الْمجَالِس وليستدروا الحطام من الشَّيَاطِين والأبالس
فالمتمسك بِسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عِنْد ظُهُور هَذَا كالقابض على الْجَمْر لِأَن هذَيْن الصِّنْفَيْنِ قد تمكنوا من صُدُور الْخلق لغَلَبَة الْجَهْل فهم الْمُقْتَدِي بهم والمنظور إِلَيْهِم فهم عِنْد الْخلق عُلَمَاء وَفِي الملكوت جهال
قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الله لَا يقبض الْعلم ينتزعه إنتزاعا من قُلُوب النَّاس وَلَكِن يقبض الْعلمَاء فَإِذا مَاتُوا إتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا
فَمن تمسك بِالسنةِ بَين ظهرانيهم بعد تمكنهم من الرياسة ونفاذ القَوْل فيهم فقد هتك سترهم وكشف عورتهم وَأَبَان كذبهمْ وَحط رياستهم وَقطع مآكلهم وَقد بارزهم بالمحاربة وهم يستعدون لمحاربته ينتقصونه وَيطْلبُونَ الغوايل مِنْهُ فَصَارَت مؤنتهم عَلَيْهِ أعظم من مُؤنَة محاربة الْكَافرين لِأَن الْكَافِر لَا حُرْمَة لَهُ وَالْقلب والأركان قد تعاونوا عَلَيْهِ فِي إهلاكه وَهَذَا مَعَه حُرْمَة الْإِيمَان فَاحْتَجت إِلَى أَن تداريه وتداهنه وتلاطفه وترفق بِهِ وتراقب الله تَعَالَى فِي شَأْنه وتحتمل أَذَاهُ وَتحفظ جوارحك حَتَّى لَا تعتدي وقلبك حَتَّى لَا يجور وهمك فِيهِ حَتَّى لَا يغش وتنتظر الْفرج من خالقك وَترى تَدْبيره فِيهِ وفيك فَلذَلِك شبهه بالقابض على الْجَمْر لِأَن الْجَمْر يحرق الْيَد وَهَذَا يحرق الْقلب والكبد من تَغْيِيره الْحق عَن جِهَته واغترار الْخلق بِهِ وتحتاج أَن تعاشره معاشرة يسلم إيمانك وإيمانه وتذب عَن الْحق الَّذِي بِهِ ألف الله تَعَالَى الْعباد وجمعهم عَلَيْهِ ذبا لَا يدْخل عَلَيْهِ من نَاحيَة أُخْرَى بِمَا يؤذية ويثلمه وَتحفظ قَلْبك مَعَ الله تَعَالَى فِي هَذِه الْأَحْوَال لِأَن هَذَا الْمِسْكِين قد غلب عَلَيْهِ سكرتان سكرة الْجَهْل وسكرة حب الدُّنْيَا وخطاب السكارى على سَبِيل الْعدْل والإنصاف أَمر من الصَّبْر وَأَشد من الْقَبْض على الْجَمْر
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابه أَنْتُم الْيَوْم على بَيِّنَة من ربكُم تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتجاهدون فِي سَبِيل الله ثمَّ تظهر فِيكُم سكرتان سكرة الْعَيْش وسكرة الْجَهْل وستحولون إِلَى غير ذَلِك يفشو فِيكُم حب الدُّنْيَا فَإِذا كُنْتُم كَذَلِك لم تأمروا بِمَعْرُوف وَلم تنهوا عَن مُنكر وَلم تجاهدوا فِي سَبِيل الله والقائمون يَوْمئِذٍ بِالْكتاب وَالسّنة فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة السَّابِقُونَ الْأَولونَ
هَذَا شَأْن ديدان الْقُرَّاء
وَأما الصادقون فهم قوم تَابُوا صدقا فَتَابَ الله عَلَيْهِم فَأَعْطَاهُمْ نورا قذفه فِي قُلُوبهم فشرح صُدُورهمْ من الَّذِي أشرق فِي قُلُوبهم وَبرد وهج حر نُفُوسهم وَسكن غليان شهواتهم فَأَقْبَلُوا على تَصْحِيح أُمُورهم فِيمَا بَينهم وَبَين الله تَعَالَى وَعَن التخلي عَن كل مَا نهى الله عَنهُ دق أَو جلّ وَجَاهدُوا أنفسهم فِي ذَات الله تَعَالَى حق جهاده فَلم يزل هَذَا دأب أحدهم يُجَاهد نَفسه فِي شَأْن الاسْتقَامَة لله تَعَالَى على سَبِيل الطَّاعَة ويأتيه المدد من الله تَعَالَى نورا على نور حَتَّى قوي على ترك كثير من الْحَلَال تَحَصُّنًا مِمَّا نهى الله تَعَالَى عَنهُ حَتَّى دق نظره فِي الْأَشْيَاء وورعه عَن دَقِيق الْأُمُور الَّتِي يخَاف مِنْهَا غَدا فَثَبت على ذَلِك يَرْجُو الثَّوَاب وَيخَاف الْعقَاب وَيطْلب الْخَلَاص فِي الْإِتْيَان بِمَا امْر والتناهي عَن كل مَا نهى وَيعلم أَنه لَا يُثَاب غَدا إِلَّا على الصدْق مَشْغُول بِنَفسِهِ لَا يتفرغ لغيره فيعيبه أَو يزري عَلَيْهِ فِي ريبه قد أوثقه خَوفه من الله تَعَالَى وثاقا شغله عَن جَمِيع الْخلق برعاية هَذِه الْجَوَارِح السَّبع الَّتِي وكل برعايتهن وَأخذ عَلَيْهِ الْعَهْد والميثاق فِيهِنَّ يطْلب إِلَى الله تَعَالَى فكاكهن مِمَّا انْفَلق بِهِ من الْأَعْمَال السَّيئَة والعون على رعايته إياهن فِيمَا بَقِي من عمره المأتم نَهَاره وَالنوح ليله وَالصَّلَاة نحلته وَالصَّوْم عَادَته وكل مَا شغله عَن أمره فالهرب مِنْهُ عَزِيمَة قد تحصن من الْخلق بعزلته وباينهم بهمته مبتهلا إِلَى الله تَعَالَى فِي طلب الْمَغْفِرَة لجماعته وَأهل مِلَّته وَهُوَ على مثل هَذَا الْحَال يطْلب معيشته ويقوت عِيَاله وَيحسن إِلَيْهِم ويعطف عَلَيْهِم فَإِن كَانَ عِنْده سَعَة أنْفق من سعته وَألا يجْرِي من وُجُوه المكاسب أسلمها وأحمدها عُقبى وجد فِيهِ واجتهد حفظا للجوارح فِي طلبَهَا وَأَدَاء الْأَمَانَة وإنصاف الْخلق فِي تنَاولهَا واجتزاء باليسير لنَفسِهِ وسعة على عِيَاله وعفة عَن المطامع الخبيثة ونزاهة عَن شُبُهَات الدُّنْيَا والمكاسب الرَّديئَة وصيانة لوجهه وَدينه عَن المعايش الشائنة لدينِهِ وَكَانَ فِي طلبَهَا كالمضطر
الَّذِي لَا يجد عَنهُ مندوحة ليطلبها على خطر وحذر مَخَافَة أَن تَدعُوهُ نَفسه إِلَى فتْنَة وبلية ويقصد بذلك أَن تطمئِن نَفسه كَمَا قَالَ سلمَان رضي الله عنه النَّفس إِذا أحرزت رزقها اطمأنت يطْلبهَا على أحسن هَيْئَة وأجمل طلب مَعَ قلب واثق بِاللَّه تَعَالَى فِي رزقه وَنَفس قنعة لم يفتنها حرصها حَتَّى يدعوها إِلَى تنَاول شُبْهَة أَو طلب رخصَة قَالَ الله تَعَالَى رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله
فَهَؤُلَاءِ هم المقتصدون أهل الاسْتقَامَة أَعينهم مَادَّة إِلَى الثَّوَاب والتفاتهم إِلَى أَعْمَالهم عَلَيْهَا يعتمدون وَبهَا يدلون وفيهَا يفكرون وَعَلَيْهَا ينطقون وَإِيَّاهَا يطْلبُونَ حَتَّى إِذا وردوا عَرصَة الْقِيَامَة وانكشف الغطاء صَارَت رؤوسهم بَين أَرجُلهم من الْحيَاء فلولا رَحْمَة الله تَعَالَى الَّتِي قد شملتهم من الدُّنْيَا إِلَى ذَلِك الْموقف لكانوا من الهالكين
وَأما الصديقون فقوم فتح لَهُم الطَّرِيق إِلَى الله تَعَالَى فَمروا إِلَيْهِ لَا يعرجون على شَيْء وَلَا يلتفتون إِلَى جنَّة وَلَا نَار وَلَا ثَوَاب وَلَا عِقَاب حَتَّى وصلوا إِلَى الْبَاب فَمَا زَالُوا إِلَى بَابه يرفعون إِلَيْهِ شكواهم حَتَّى فتح لَهُم وأشرق على قُلُوبهم بِنور جَلَاله فشغفوا بِهِ وشغلوا عَن كل شَيْء سواهُ فوقفوا بَين يَدَيْهِ للعبودة صدقا وفوضوا إِلَيْهِ أُمُورهم وائتمنوا على نُفُوسهم وآثروا مختاره كَيفَ مَا دبر لَهُم وَاخْتَارَ رَضوا عَن الله تَعَالَى فِي الْأَحْوَال وَرَضي الله عَنْهُم عز وجل فِي الْأُمُور يقبلُونَ النِّعْمَة مِنْهُ ويتلقون أوامره ونواهيه بالبشاشة والسماحة يراقبون أمره ويقفون عِنْد حكمه وهم مَعَ الله تَعَالَى فِي كل أَمر وَحَال فسلطان الله على قُلُوبهم قد أمات من نُفُوسهم الشَّهَوَات فَلَا يخَافُونَ من خِيَانَة النَّفس وخروجها عَلَيْهِم من مكامنها كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَا لَقِي الشَّيْطَان عمر إِلَّا خر لوجهه وَمَا سمع حسه إِلَّا فر
فَهَؤُلَاءِ أهل الْيَقِين وهم السَّابِقُونَ المقربون {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم}
-
الأَصْل السَّابِع وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي شرف الْخبز وقوام الرّوح
عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَرَأى كسيرة ملقاة فَمشى إِلَيْهَا فمسحها وَقَالَ يَا عَائِشَة أحسني جوَار نعم الله فَإِنَّهَا قل مَا نفرت عَن أهل بَيت فَكَادَتْ ترجع إِلَيْهِم
الْخبز غذَاء الْجَسَد والغذاء قوام الرّوح وَقد جعل الله تَعَالَى الْخبز أشرف الأرزاق
قَالَ صلى الله عليه وسلم أكْرمُوا الْخبز فَإِن الله عز وجل أنزلهُ من بَرَكَات السَّمَاء وَأخرج لَهُ من بَرَكَات الأَرْض
فاكرامه أَن لَا يُوطأ وَلَا يطْرَح فَإِذا رمي بِهِ أَو طَرحه مطرح الرَّفْض والهوان كَانَ قد كفر النِّعْمَة وجفاها وَفِي سَعَة الرزق قُوَّة عَظِيمَة على الدّين فَإِذا جفاها صيرت للنعمة الْعُظْمَى نفرة وَإِذا نفرت لم تكد ترجع لِأَنَّهَا قد وسمتهم بالجفاء
وَقَالَ بعض التَّابِعين الدُّنْيَا ظئر وَالْآخِرَة أم وَلكُل يتبعهَا بنوها فَإِذا جفوت الظِّئْر نفرت وأعرضت وَإِذا جفوت الْأُم عطفت لِأَن الظِّئْر لَيْسَ لَهَا عطف الْأُمَّهَات وَهَذِه النِّعْمَة تخرج من هَذِه الأَرْض المسخرة هِيَ بِمَنْزِلَة الظِّئْر تربيك
-
الأَصْل الثَّامِن وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي أَن الْمُؤمن يبْلى ويصفى
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مثل الْمَرِيض إِذا برىء وَصَحَّ من مَرضه كَمثل الْبردَة تقع من السَّمَاء فِي صفائها ولونها
يقدم الله تَعَالَى إِلَى الْعباد أَن يحفظوا جوراحهم من أَن يتدنسوا لِيُصْلِحُوا لدار الْقُدس فِي جوَار القدوس فتركوا الرِّعَايَة وضيعوا الْحِفْظ فتدنسوا وتوسخوا فدلهم على أَن يَتَطَهَّرُوا بِالتَّوْبَةِ فَلم يَفْعَلُوا لأَنهم تَابُوا من الْبَعْض وأصروا على الْبَعْض على الْجهد من نُفُوسهم الشهوانية ثمَّ دعاهم إِلَى هَذِه الْفَرَائِض مثل الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحج وَصَوْم رَمَضَان ليتطهروا بهَا قَالَ تَعَالَى فِي شَأْن الصَّلَاة وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات
وَقَالَ فِي الزَّكَاة خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا
وَقَالَ فِي الْحَج فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ أَي مغفورا لَهُ
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم الصَّوْم جنَّة
فدلهم على هَذِه الْفَرَائِض ليتطهروا بهَا خلطوها وغشوها وأدوها مَعَ النُّقْصَان والوسوسة والمكاسب الرَّديئَة
فَلم يَك هَذَا مِمَّا يطهرهم إِذْ لَا تطهر النَّجَاسَة بِالنَّجَاسَةِ وَلَا ينفى الْوَسخ بالوسخ فَلَمَّا رأى الله تَعَالَى حَالهم هَذِه وَأَنَّهُمْ قد توسخوا وتدنسوا وكدرت طينتهم فَأبى أَن يضيعهم وَقد اكتنفتهم رَحمته فداواهم بِهَذِهِ الأسقام ليمحصهم ويطهرهم ثمَّ يداويهم ويشفيهم كَمَا تداوي الشفيقة من الْأُمَّهَات لولدها بمر الْأَدْوِيَة البشعة لما تَأمل من شفائه عَن سقمه فَسلط الله تَعَالَى عَلَيْهِم الأسقام حَتَّى إِذا تمت مُدَّة
التمحيص خرج مِنْهَا كالبردة فِي الصفاء فِي الْقلب واللون فِي الْوَجْه طلاوة وحلاوة
قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الله تَعَالَى ابْتُلِيَ عَبدِي الْمُؤمن فَإِن لم يشكني إِلَى عواده أطلقته من أسَارِي ثمَّ أبدلته لَحْمًا هُوَ خير من لَحْمه ودما هُوَ خير من دَمه ثمَّ ليأتنف الْعَمَل
وشتان بَين مَا داويت بالفرائض جوارحك وَبَين مَا داواك رَبك فدواؤك قل مَا يَخْلُو من الْعجب والرياء والتخليط والشبه وَمَا داواك لَا رِيَاء فِيهِ وَلَا عجب وَلَا صلف ولاتخليط وَإِنَّمَا هِيَ أسقام حل بلحمك ودمك ومخك وقواك ليأخذها ويبدلك خيرا مِنْهَا أَو يقبضك إِلَيْهِ طَاهِرا حَتَّى إِذا وصلت إِلَى الْعَرَصَة واضطررت إِلَى الْجَوَاز على الصِّرَاط إِلَى دَار الله وَجَدْتُك النَّار قد تطهرت إِمَّا بِالتَّوْبَةِ أَو بالفرائض أَو بالأسقام والمصائب الَّتِي احتسبتها وَصَبَرت عَلَيْهَا فطهرك وأعطاك ثَوَاب الصابرين وَإِن حمدته كتبك من الحامدين وَقدم عَلَيْهِ بِغَيْر تمحيص مَعَ دنس الْمعاصِي وأوساخها فَالنَّار بالمرصاد قد أعدت منتقمة من الْأَعْدَاء ومطهرة للموحدين فَإِذا مر عَلَيْهَا أخذت فِي الْمَمَر من جوارحه تِلْكَ الأدناس فتأكل من لَحْمه وَدَمه ثمَّ يُبدل لَحْمًا طريا وجسدا يصلح لدار السَّلَام
عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه أَنه وضع يَده على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَبِه حمى فَوَجَدَهَا من فَوق اللحاف فَقَالَ يَا رَسُول الله مَا أَشدّهَا عَلَيْك
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِنَّا كَذَلِك يشْتَد علينا الْبلَاء ويضاعف لنا الْأجر
فَقلت يَا رَسُول الله أَي النَّاس أَشد بلَاء
قَالَ الْأَنْبِيَاء
قلت ثمَّ من
قَالَ الصالحون إِن كَانَ الرجل ليبتلى بالفقر حَتَّى مَا يجد إِلَّا العباءة يحوها وَإِن كَانَ الرجل ليبتلى بالقملة حَتَّى تقتله وَإِن كَانَ أحدهم ليفرح بالبلاء كَمَا يفرح أحدكُم بالرخاء
-
الأَصْل التَّاسِع وَالتِّسْعُونَ وَالْمِائَة
-
فِي تخير المغبون
عَن عَليّ كرم الله وَجهه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم المغبون لَا مَحْمُود وَلَا مأجور إِذا استرسل فِي وَقت الْمُبَالغَة فَاشْترى فغبن لم يَقع عِنْد البَائِع موقع الْمَعْرُوف فيحمد وَلَا يحْتَسب بِمَا زَاد على قِيمَته ليسر فيؤجر
فالكيس يماكس مستقصيا وَلَا يخرج مَاله الَّذِي ائْتمن عَلَيْهِ وَجعل قواما لَهُ بَاطِلا بِلَا حمد وَلَا أجر وَفِي المكاس شَرَائِط وَهُوَ أَن يحفظ لِسَانه وأمانته وَعَهده يماكس لَا لحرص على الدُّنْيَا وَلَا رَغْبَة فِيهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِك حَافظ لدينِهِ وَدين صَاحبه لِئَلَّا يَأْثَم أَو يؤثم
رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مر برجلَيْن يتبايعان وَأَحَدهمَا يَقُول للْآخر لَا أُعْطِيك وَقَالَ الآخر لَا أزيدك فَمر الرجل بالسلعة قد اشْتَرَاهَا
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم قد وَجب إِثْم أَحدهمَا وساوم معَاذ رضي الله عنه رجلا سلْعَة فَقَالَ لَا أُعْطِيك فَانْصَرف معَاذ ثمَّ دَعَاهُ فَقَالَ هَل لَك فِيهِ قَالَ لَا إِنِّي أكره أَن أعينك على إِثْم
-
الأَصْل المائتان
-
فِيمَا يُقَال عِنْد إهلال الْهلَال
عَن طَلْحَة بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا رأى الْهلَال قَالَ اللَّهُمَّ أَهله علينا بِالْيمن وَالْإِيمَان والسلامة وَالْإِسْلَام رَبِّي وَرَبك الله
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى قَالَ إلهي وَإِلَهك وربي وَرَبك الله الْحَمد لله الَّذِي سخرك لنا
الْيمن السَّعَادَة وَالْإِيمَان الطُّمَأْنِينَة بِاللَّه تَعَالَى كَأَنَّهُ سَأَلَهُ دوامها والسلامة وَالْإِسْلَام أَن يَدُوم لَهُ الْإِسْلَام وَيسلم لَهُ شهره
وَقَوله رَبِّي وَرَبك الله فَإِن من النَّاس من كَانَ يسْجد للشمس وَالْقَمَر دون الله تَعَالَى فَقَالَ تَعَالَى لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ
وَقَوله الْحَمد لله الَّذِي سخرك لنا فخاطبه أَن الْإِلَه إِلَيْهِ الربوبية وَهُوَ الْملك لَهُ وَأَنت مسخر لنا يحمده على تسخيره إِيَّاه شكرا لَهُ فقد سَخَّرَهُ ليضيء لأهل الأَرْض وَقدره منَازِل ليعلم عدد السنين والحساب وَيكون معلم مَوَاقِيت حجنا وديوننا وَعدد نسائنا وَعند مستهل كل شهر حكم وَأمر مَعْلُوم وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ
-
الأَصْل الْحَادِي والمائتان
-
فِي الْحَسَنَة الحديثة والذنب الْقَدِيم
عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لم أر شَيْئا أحسن طلبا وَلَا أسْرع إدراكا من حَسَنَة حَدِيثَة لذنب قديم إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات ذَلِك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ
الْحَسَنَة نور والسيئة ظلمَة فإدراك النُّور الظلمَة سريع لِأَن الْحَسَنَة نور مُبتَدأَة من نور الْإِيمَان وَالْإِيمَان هدى الله فبنور الْإِيمَان يحسن طلبه وبقوة هدى الله تَعَالَى يسْرع إِدْرَاكه
فَلَمَّا كَانَ فِي الْحَسَنَة نور ربه كَانَ هادي الْحَسَنَة حَتَّى يلْحق السَّيئَة بِسُرْعَة ومركب الْحَسَنَة فَإِن مركب الْحَسَنَة نِيَّته وَالنِّيَّة من نور التَّوْحِيد فَمن كَانَ مركبه نور التَّوْحِيد فلحاقه بِمن يطْلب سريع فِي أسْرع من الطّرف فَطَلَبه أحسن طلب لِأَن مَعَه هداه وَمن ولى الله هداه فهداه فِي لَحْظَة أَو أسْرع وَمن ولى الله إبلاغه فدركه فِي أسْرع من الطرفة وَالْقَدِيم والْحَدِيث عِنْد الله بِمَنْزِلَة وَإِنَّمَا يتَفَاوَت هَذَا عِنْد الْآدَمِيّ وَسَائِر المخلوقين وَلِأَن السَّيئَة قد تقدّمت فِي الصَّحِيفَة مَوضِع
تخليطها مُنْذُ أَعْوَام كَثِيرَة والحسنة الحديثة لذَلِك الذَّنب هِيَ التَّوْبَة وَهِي طالبة لموضعها من الصَّحِيفَة أحسن طلب وأسرع إِدْرَاك حَتَّى تصير مَكْتُوبَة تَحت السَّيئَة أَنه تَابَ ثمَّ تضيء تِلْكَ الْحَسَنَة فِي مَكَانهَا حَتَّى تعلو الظلمَة الَّتِي على السَّيئَة
وَفِي الْخَبَر أَنه إِذا تنَاول العَبْد الصَّحِيفَة يَوْم الْقِيَامَة أعطي مِنْهَا مَا يَلِي السَّيِّئَات فيجد تَحت كل سَيِّئَة مَكْتُوبَة تَابَ وَتلك حَسَنَة تضيء بمكانها فتستر على السَّيئَة فيقرأها العَبْد فَرُبمَا أَتَى العَبْد على عَظِيمَة يشْتَد عَلَيْهِ النّظر إِلَيْهَا فَتُدْرِكهُ رَحْمَة من ربه فِي ذَلِك الْمَكَان فتستر عَلَيْهِ تِلْكَ الْعَظِيمَة وَيُقَال لَهُ جاوزها لِأَنَّهُ قد كَانَ دَعَاهُ أَيَّام الْحَيَاة بِأَحْسَن التجاوز فَإِذا انْتهى إِلَى آخرهَا غفر لَهُ مَا فِيهَا فَيصير جَمِيع مَا فِيهَا بَيَاضًا لِأَن التَّوْبَة قد علت السَّيئَة بضوئها ثمَّ يقلب الصَّحِيفَة فَيقْرَأ الْحَسَنَات والخلق ينظرُونَ إِلَى صَحِيفَته حَسَنَات فَإِذا قَلبهَا نظرُوا إِلَى الْوَجْه الآخر فرأوها قد علت بضوئها فَيَقُولُونَ طُوبَى لهَذَا العَبْد لم يُذنب ذَنبا قطّ فَقبل حَسَنَاته فَعِنْدَ ذَلِك يُنَادي هاؤم إقرءوا كِتَابيه الْآيَة
-
الأَصْل الثَّانِي والمائتان
-
فِي أَن عرامة الصَّبِي من ذَكَاة فُؤَاده
عَن عَمْرو بن معد يكرب رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عرامة الصَّبِي فِي صغره زِيَادَة فِي عقله فِي كبره
العرم الْمُنكر وَصَارَ ذَلِك من ذكاوة فُؤَاده وحرارة رَأسه وَالنَّاس يتفاضلون فِي أصل البنية فِي الفطنة والكياسة والحظ من الْعقل
وَالْعقل على ضَرْبَيْنِ ضرب مِنْهُ يبصر أَمر دُنْيَاهُ وَهُوَ من نور الرّوح وَهُوَ مَوْجُود فِي عَامَّة ولد آدم عليه السلام إِلَّا من كَانَ فِيهِ خلل أَو عِلّة وَبينهمْ فِي ذَلِك الْعقل تفَاوت عَظِيم
وَضرب مِنْهُ يبصر أَمر آخرته وَهُوَ من نور الْهِدَايَة والقربة وَذَاكَ مَوْجُود فِي الْمُوَحِّدين مَفْقُود فِي الْمُشْركين وَبَين الْمُوَحِّدين فِي ذَلِك الْعقل تفَاوت عَظِيم وَسمي عقلا لِأَن الْجَهْل ظلمَة وَعَمله على الْقلب فَإِذا غلب النُّور وبصره فِي تِلْكَ الظلمَة زَالَت الظلمَة وَأبْصر فَصَارَ عقَالًا للْجَهْل
فالصبي إِذا رُؤِيَ مِنْهُ زِيَادَة بَصِيرَة فِي الْأُمُور وذكاوة فهم قيل عَارِم والعرم بلغَة أهل الْعَرَب المسناة وَهِي السد وَهِي عَرَبِيَّة يَمَانِية فالصبي يسد أَبْوَاب البلاهة بِزِيَادَة ذَلِك النُّور فيكايس فِي الْأَعْمَال ويهتدي للطائف الْأُمُور ومحاسنه بِالنورِ الزَّائِد المتقد فِي دماغه فَإِذا أدْرك مدرك الرِّجَال وجاءه نور الْهِدَايَة من الله تَعَالَى فأمن كَانَ الَّذِي ركب فِي صغره عونا لَهُ فِي جَمِيع أُمُوره فَصَارَ بذلك زِيَادَة فِي عقله وَمن لم يكن لَهُ ذَلِك فِي صغره فَيكون فِيهِ نقص الْعُقُول الديناوية من البلة والحمق فَإِذا جَاءَهُ الْعقل الثَّانِي إفتقد العون وَلم يكن لَهُ فِي النوائب هِدَايَة الطَّبْع وَإِنَّمَا لَهُ هِدَايَة الْإِيمَان فَحسب وَقد إجتمع للعارم هِدَايَة الطَّبْع وهداية الْإِيمَان وَالله أعلم
-
الأَصْل الثَّالِث والمائتان
-
فِي حق الْوَلَد على الْوَالِد
عَن أبي رَافع رضي الله عنه قَالَ قلت يَا رَسُول الله للْوَلَد علينا حق كحقنا عَلَيْهِم قَالَ نعم حق الْوَلَد على الْوَالِد أَن يُعلمهُ الْكِتَابَة والسباحة والرماية وَأَن لَا يرزقه إِلَّا طيبا
الْكِتَابَة عون لَهُ على الدّين وَالدُّنْيَا والسباحة منجاة من الْهَلَاك والرماية دفع عَن مهجته وحريمه وَشرف لَهُ عِنْد لِقَائِه الْعَدو وَلَا يرزقه إِلَّا طيبا لِئَلَّا ينْبت لَحْمه على سحت فتنزع مِنْهُ الْبركَة وَهَذِه الْخِصَال رُؤُوس الْآدَاب
-
الأَصْل الرَّابِع والمائتان
-
فِي حَال التائب وإتباع الذَّنب بِالْحَسَنَة
عَن أبي سعيد الْأنْصَارِيّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم التائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ والندم تَوْبَة التائب حبيب الله تَعَالَى إِن الله يحب التوابين
والحبيب يستر الحبيب وَيُحب زينه فَإِن بدا شين ستره فَإِذا أحب الله عبدا فأذنب ستره فَصَارَ كمن لَا ذَنْب لَهُ فَإِن الذَّنب يدنس العَبْد وَالرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ يطهره لِأَن بالرجعة يصير فِي مَحل الْقرْبَة مِنْهُ وَمحل الْقرْبَة ينوره وَيذْهب دنسه
قَالَ صلى الله عليه وسلم إِذا أذْنب العَبْد نكتت فِي قلبه نُكْتَة سَوْدَاء فَإِذا عَاد نكتت أُخْرَى فَإِذا تَابَ صقل قلبه فَذَهَبت النُّكْتَة وَصَارَت كالمرآة تتلألأ وَمن هَهُنَا قَالَ الشّعبِيّ رضي الله عنه إِذا أحب الله عبدا لم يضرّهُ ذَنبه حَدثنَا بذلك عبد الله بن الوضاح النَّخعِيّ قَالَ حَدثنَا ابْن يمَان عَن سُفْيَان عَن عَاصِم الْأَحول عَن الشّعبِيّ وَاعْتبر بِهَذِهِ الرأفة وَالرَّحْمَة الَّتِي وَضعهَا فِي الْآبَاء والأمهات ثمَّ تراهم كَيفَ مَحل أَوْلَادهم مِنْهُم فِي مَحل البطالة وَالْفساد من الرَّحْمَة عَلَيْهِم والشفقة والرفق بهم والتأني والانتظار والاحتراق عَلَيْهِم مِمَّا يخَافُونَ عَلَيْهِم من الوبال وفرحهم بِالتَّوْبَةِ إِذا هم تَابُوا إِلَى الله تَعَالَى فَاعْتبر بِهَذِهِ الرأفة الَّتِي فِي جَمِيع الْأُمَّهَات والآباء لَو جمعهَا فوضعها فِي أم وَاحِدَة أَو أَب وَاحِد لولد وَاحِد لَكَانَ لَا يتَرَاءَى لَهُ فَسَاد هَذَا الْوَلَد وسيئ عمله من عَظِيم الشَّفَقَة عَلَيْهِ والمحبة لَهُ وَكَانَ ذَلِك ساترا لَهُ فَكيف بالخالق الْبَارِي الْمَاجِد الْكَرِيم الْبر الرَّحِيم الَّذِي يدق جَمِيع رأفة أهل الدُّنْيَا ورحمتهم جنب رَحْمَة من الْمِائَة المخلوقة ثمَّ مَاذَا تكون تِلْكَ فِي جنب الرَّحْمَة الْعُظْمَى الَّتِي شملت كل الْخَيْر للعبيد فَهَذَا العَبْد الْمُؤمن لَهُ كل هَذَا الْحَظ فَإِذا تَابَ صَار فِي كنفه وَهُوَ فِي الأَصْل حَبِيبه فَيدق ذنُوبه فِي جنب مَا لَهُ عِنْده من الرأفة وَالرَّحْمَة وَإِن الله تبارك وتعالى اسْمه لما وَقعت خيرته وجبايته على عبد من عبيده ثمَّ أخرجه امهِ إِلَى الدُّنْيَا فَأَدْرَكته الْهِدَايَة بِمَا سبقت لَهُ من الجباية وَكتب عَلَيْهِ هَذَا الذَّنب أَنه سيصيبه لَا محَالة فَلَمَّا أَصَابَهُ لم يتْركهُ حيران فَلم يغلق عَنهُ بَاب التَّوْبَة وتكرم على أَن يرجع إِلَيْهِ عَبده صدق الرُّجُوع أَن لَا يقبله وَإِذا قبله صَار كمن لَا ذَنْب لَهُ فِي معنى الْقبُول
-
الأَصْل الْخَامِس والمائتان
-
فِي أَن الالتفاع لبسة أهل الْإِيمَان
عَن ابْن عمر رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الالتفاع لبسة أهل الْإِيمَان والتردي لبسة الْعَرَب
الإلتفاع الالتحاف بِالثَّوْبِ متقنعا وَهُوَ أستر وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يكثر التقنع وَذَلِكَ للحياء من الله تَعَالَى لِأَن الْحيَاء فِي الْعين والفم وَهُوَ من عمل الرّوح وسلطانه فِي الرَّأْس ثمَّ هُوَ متفش فِي جَمِيع الْجَسَد
وَرُوِيَ أَن من أَخْلَاق النَّبِيين التقنع وَهَذَا من آدَاب الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام لأَنهم أبصروا بقلوبهم أَن الله تَعَالَى يراهم فَصَارَت الْأُمُور كلهَا لَهُم مُعَاينَة يعبدونه كَأَن هم يرونه فَفِي الْأَعْمَال الَّتِي فِيهَا حشمة يعلوهم الْحيَاء وَالْحيَاء من الْإِيمَان فَلذَلِك قَالَ لبسة أهل الْإِيمَان
قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه إِنِّي لأدخل الْخَلَاء فأقنع رَأْسِي حَيَاء من الله تَعَالَى
والتردي لبسة الْعَرَب توارثوه فِي الْجَاهِلِيَّة من آبائها كَانُوا فِي إِزَار ورداء والالتفاع وَرثهُ بَنو إِسْرَائِيل على أَنْبِيَائهمْ عليهم السلام لأَنهم قطعُوا أعمارهم بِالْعبَادَة وَكَانُوا أَصْحَاب لفاع
-
الأَصْل السَّادِس والمائتان
-
فِي أَن الِاعْتِبَار فِي الِاجْتِهَاد بِعقد الْعقل
عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا بلغه عَن رجل شدَّة عبَادَة سَأَلَ كَيفَ عقله فَإِن قَالُوا غير ذَلِك قَالَ لن يبلغ
وَذكر لَهُ عَن رجل من أَصْحَابه رضي الله عنهم شدَّة عبَادَة واجتهاد فَقَالَ كَيفَ عقله قَالُوا لَيْسَ بِشَيْء قَالَ لن يبلغ صَاحبكُم حَيْثُ تظنون
الْعقل نور خلقه الله تَعَالَى وقسمه بَين عباده على مَشِيئَته فيهم وَعلمه بهم فَروِيَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لما خلق الله الْعقل قَالَ لَهُ أقبل فَأقبل ثمَّ قَالَ لَهُ أدبر فَأَدْبَرَ ثمَّ قَالَ لَهُ أقعد فَقعدَ ثمَّ قَالَ لَهُ انطق فَنَطَقَ ثمَّ قَالَ لَهُ اصمت فَصمت فَقَالَ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وكبريائي وسلطاني وجبروتي مَا خلقت خلقا أحب إِلَيّ مِنْك وَلَا أكْرم عَليّ مِنْك بك أعرف وَبِك أَحْمد وَبِك أطَاع وَبِك آخذ وَبِك أعطي وَإِيَّاك أعاتب وَلَك الثَّوَاب وَعَلَيْك الْعقَاب وَمَا أكرمتك بِشَيْء أفضل من الصَّبْر
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن أول شَيْء خلق الله تَعَالَى الْقَلَم ثمَّ خلق النُّون وَهِي الدواة ثمَّ قَالَ لَهُ أكتب قَالَ وَمَا أكتب قَالَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من عمل أَو أثر أَو رزق أَو أجل فَكتب مَا يكون وَمَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ن والقلم}
ثمَّ ختم على فِي الْقَلَم فَلم ينْطق وَلَا ينْطق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ خلق الْعقل فَقَالَ وَعِزَّتِي لأكملنك فِيمَن أَحْبَبْت ولأنقصنك فِيمَن أبغضت
قسم الله تَعَالَى الْعقل بَين خلقه على علمه بهم ثمَّ قسم بَين الْمُوَحِّدين عقل الْهِدَايَة على علمه بهم فتفاوت الْقسم فَكل مَا اسْتَقر فِي عبد كَانَ دَلِيله على مقاديره الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمئِذٍ فَكل فعل فعله يلهم الْعقل صَاحبه فِي كل مَا أذن لَهُ وَمَا خطر عَلَيْهِ فَكل من كَانَ حَظه من الْعقل أوفر فسلطان الدّلَالَة فِيهِ أعظم وأنور
وَمن شَأْن الْعقل الدّلَالَة على الرشد وَالنَّهْي عَن الغي فَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذا ذكر لَهُ عَن رجل شدَّة اجْتِهَاد وَعبادَة سَأَلَ عَن عقله لما قد علم أَن الْعقل هُوَ الَّذِي يكْشف عَن مقادير العبودة ومحبوب الله تَعَالَى ومكروهه لِأَن الْعِبَادَة الظَّاهِرَة قد تكون من الْعَادة وَقد تكون من المساعدة فَإِن كَانَ الْعقل يدله على الْعِبَادَة الظَّاهِرَة كَانَ علامته أَن يتورع عَن مساخط الله تَعَالَى فَكَانَ الْعقل مِمَّا عقل عَن
الله تَعَالَى مَا أمره وَنَهَاهُ فائتمر بِمَا أمره وانزجر عَمَّا نَهَاهُ فَتلك عَلامَة الْعقل فَإِذا تعبد عَن عقل تعبد عَن بَصِيرَة وَإِذا تعبد عَن عَادَة ومساعدة فَلم يحسن الظَّن بِهِ
وَلذَلِك قَالَ صلى الله عليه وسلم لَا يعجبنكم إِسْلَام رجل حَتَّى تعلمُوا مَا عقده عقله
مَعْنَاهُ لَا يعجبنكم ظَاهر مَا ترَوْنَ حَتَّى تعلمُوا بِأَيّ شَيْء عقد عقله بِهِ فَإِن كَانَ عقله عقيد هَوَاهُ لَا يتورع وَلَا يَتَّقِي قَالَ لن يبلغ صَاحبكُم حَيْثُ تظنون
قَالَ صلى الله عليه وسلم الْوَرع سيد الْعَمَل وَمن لم يكن لَهُ ورع يردهُ عَن مَعْصِيّة الله تَعَالَى إِذا خلا بهَا لم يعبأ الله سَائِر عمله شَيْئا
فَذَلِك مَخَافَة الله تَعَالَى فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة والاقتصاد فِي الْفقر والغنى والصدق عِنْد الرضاء والسخط الا وَأَن الْمُؤمن حَاكم على نَفسه يرضى للنَّاس مَا يرضى لنَفسِهِ وَالْمُؤمن حسن الْخلق وَأحب الْخلق إِلَى الله تَعَالَى أحْسنهم خلقا ينَال بِحسن الْخلق دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم وَهُوَ رَاقِد على فرَاشه
قَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه إِنَّكُم لتعملون أعمالا لهي أدق عنْدكُمْ من الشّعْر كُنَّا نعدها على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم يَا عَائِشَة إياك والمحقرات فَإِن لَهَا من الله تَعَالَى طَالبا
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الله ناجى مُوسَى فَكَانَ فِيمَا قَالَ يَا مُوسَى إِنَّه لن يتَقرَّب إِلَيّ المتقربون بِمثل الْوَرع عَمَّا حرمت عَلَيْهِم فَإِنَّهُ لَيْسَ من عبد يلقاني يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا ناقشته الْحساب وفتشته عَمَّا كَانَ فِي يَدَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ من الورعين فَإِنِّي أَجلهم وَأكْرمهمْ وأدخلهم الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم ثَلَاث من لم يَأْتِ بِهن يَوْم الْقِيَامَة فَلَا شَيْء لَهُ ورع يحجره عَن محارم الله تَعَالَى وَخلق يُدَارِي بِهِ النَّاس وحلم يرد بِهِ جهل السَّفِيه
وَعَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت قلت يَا رَسُول الله بِأَيّ شَيْء يتفاضل النَّاس قَالَ بِالْعقلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
قلت أَلَيْسَ يجزى النَّاس بأعمالهم قَالَ يَا عَائِشَة وَهل يعْمل بِطَاعَة الله تَعَالَى إِلَّا من عقل فبقدر عُقُولهمْ يعْملُونَ وعَلى قدر مَا يعْملُونَ يجزون
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الرجل لينطلق إِلَى الْمَسْجِد فَيصَلي فَصلَاته لَا تعدل جنَاح بعوضة وَإِن الرجل ليَأْتِي الْمَسْجِد فَيصَلي فَصلَاته تعدل جبل أحد إِذا كَانَ أحسنهما عقلا قيل وَكَيف يكون أحسنهما عقلا فَقَالَ أورعهما عَن محارم الله تَعَالَى وأحرصهما على أَسبَاب الْخَيْر وَإِن كَانَ دونه فِي الْعَمَل والتطوع
وَعَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ: قضي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَين مُهَاجِرِي وأنصاري فَقَالَ الْمُهَاجِرِي يَا رَسُول الله حَقي ثَابت وَمَا قضى لي شَيْئا قَالَ الْأنْصَارِيّ صدق يَا رَسُول الله إِن
حَقه ثَابت وَمَا قَضيته شَيْئا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم فأد إِلَيْهِ فَقَالَ أما دَعْوَاهُ فقد أدّيت إِلَيْهِ وَأما حق ثَوَاب معروفه فَإِنَّهُ عَليّ أكافئه فَقَالَ الْمُهَاجِرِي صدق يَا رَسُول الله فَقَالَ صلى الله عليه وسلم تبَارك الَّذِي قسم الْعقل بَين عباده أشتاتا ان الرجلَيْن ليستوي عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما لكنهما يتفاوتان فِي الْعقل كالذرة فِي جنب أحد وَمَا قسم الله تَعَالَى لخلقه حظا هُوَ أفضل من الْعقل وَالْيَقِين
قَالَ وهب رضي الله عنه أجد فِي سبعين كتابا أَن جَمِيع مَا أعطي النَّاس من بَدو الدُّنْيَا إِلَى انقطاعها من الْعقل فِي جنب عقل مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم إِلَّا كحبة رمل رفعت من بَين جَمِيع رمال الدُّنْيَا
وَقَالَ إِن الشَّيْطَان لم يكن يكابد شَيْئا أَشد عَلَيْهِ من الْمُؤمن الْعَاقِل إِنَّه ليكابد مائَة ألف جَاهِل فيسخرهم ويكابد الْمُؤمن الْعَاقِل فيضعف عَنهُ وَمَا من شَيْء أحب إِلَيْهِ من فتْنَة الْعَاقِل وفتنة عَاقل أحب إِلَيْهِ من غواية ألف جَاهِل
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الأحمق يُصِيب بحمقه أعظم من فجور الْفَاجِر وَإِنَّمَا يقرب النَّاس الزلف على قدر عُقُولهمْ
وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ قيل يَا رَسُول الله رجل يكون قَلِيل الْعَمَل كثير الذُّنُوب قَالَ كل آدَمِيّ خطاء فَمن كَانَت لَهُ سجية عقل وغريزة يَقِين لم يضرّهُ ذنُوبه شَيْئا قيل وَكَيف ذَاك يَا رَسُول الله قَالَ كلما أخطألم يلبث أَن يَتُوب فيمحى ذنُوبه وَيبقى فضل يدْخلهُ الْجنَّة
قَالَ ابْن مَسْعُود رضي الله عنه وَمن أَعقل مِمَّن خَافَ ذنُوبه واستحقر عمله
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا عُوَيْمِر إزدد عقلا تَزْدَدْ من رَبك قربا قلت يَا رَسُول الله كَيفَ قَالَ اجْتنب مساخط الله وأد فَرَائض الله تكن عَاقِلا ثمَّ تنفل بالصالحات من الْأَعْمَال تَزْدَدْ فِي الدُّنْيَا عقلا وَمن رَبك قربا وَعَلِيهِ عزا
عَن كَعْب رضي الله عنه قَالَ تَجِد الرجل يستكثر من أَنْوَاع الْبر ويحتاط فِي صنائع الْمَعْرُوف ويكابد سهر اللَّيْل وَشدَّة ظماء الهواجر وَهُوَ فِي ذَلِك لَا يُسَاوِي عِنْد الله جيفة حمَار قَالُوا وَكَيف قَالَ ذَاك من قلَّة عقله وَسُوء رعايته ولعلك تَجِد الرجل الْعَاقِل نَائِما بِاللَّيْلِ مُفطرا بِالنَّهَارِ لَا يظْهر لَك بره وَلَا ينْسب إِلَى صنائع الْمَعْرُوف وَبَينهمَا كَمَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قيل وَكَيف ذَاك قَالَ لِأَن رَبنَا افْترض على عباده أَن يعرفوه ويطيعوه ويعبدوه وَإِنَّمَا يطيعه ويعرفه ويعبده من يعقل فَأَما الْجَاهِل فَإِنَّهُ لَا يعرفهُ وَلَا يطيعه وَلَا يعبده
عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله عز وجل خلق الْعقل أَكثر من عدد الرمل فَمن النَّاس من أعطي حَبَّة من ذَلِك وَمِنْهُم من أعطي حبتين وَمِنْهُم من أعطي مدا وَمِنْهُم من أعطي صَاعا وَمِنْهُم من أعطي فرقا وَبَعْضهمْ وسْقا فَقَالَ ابْن سَلام من هم يَا رَسُول الله قَالَ الْعمَّال بِطَاعَة الله على قدر عُقُولهمْ ويقينهم وجدهم والنور الَّذِي فِي قُلُوبهم
عَن مهْدي قَالَ شهِدت عمر وَعِنْده ابْن مَسْعُود وَأَبُو مُوسَى رضي الله عنهم فَقَالَ أَبُو مُوسَى سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول رب رجل يعْمل بِطَاعَة الله فَلَعَلَّ الْحَرْف الْوَاحِد من تسبيحه وتحميده وبره أثقل من أحد ثمَّ على قدر ذَلِك يتفاضل عمله
قَالَ ابْن مَسْعُود رضي الله عنه إِن من الْمُؤمنِينَ من يكون عمله يَوْمًا وَاحِدًا أثقل من السَّمَوَات وَالْأَرْض
قَالَ عمر رضي الله عنه فَكيف ذَاك قَالَ إِن الله قسم الْأَشْيَاء بَين عباده على قدر مَا أحب أَن يقسمهُ وَلما خلق الْخلق أقسم بعزته أَنه أحب خلقه إِلَيْهِ وأعزهم عَلَيْهِ وأفضلهم عِنْده وأرجح عباده أحْسنهم عقلا وَأَحْسَنهمْ من كَانَ فِي ثَلَاث خِصَال صدق الْوَرع وَصدق الْيَقِين وَصدق الْحِرْص على الْبر وَالتَّقوى فَبكى عمر رضي الله عنه بكاء نشج مِنْهُ
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم قسم الله الْعقل ثَلَاثَة أَجزَاء فَمن كَانَ فِيهِ فَهُوَ الْعَاقِل حسن الْمعرفَة بِاللَّه تَعَالَى وَحسن الطَّاعَة لله وَحسن الصَّبْر لله تَعَالَى فَحسن الْمعرفَة الثِّقَة بِاللَّه فِي كل أَمرك والتفويض إِلَيْهِ والائتمار على نَفسك وأحوالك فِي الْوُقُوف عِنْد مَشِيئَته لَك فِي كل أمره دينا وَدُنْيا وَحسن الطَّاعَة أَن تُطِيعهُ فِي كل أَمر ثمَّ لَا تلْتَفت إِلَى نوال فتتخذه عدَّة دون الله تَعَالَى
وَحسن الصَّبْر أَن تصبر فِي النوائب صبرا لَا يرى عَلَيْك أثر النائبة من الاستكانة وَأَن تتلقى حكمه بالرضاء كَمَا تتلقى مَا وَافق نَفسك فيستوي عنْدك المحبوب وَالْمَكْرُوه
-
الأَصْل السَّابِع والمائتان
-
فِي تَفْسِير المغربين
عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن فِيكُم مغربون قلت يَا رَسُول الله مَا المغربون قَالَ الَّذين يشْتَرك فيهم الْجِنّ
فالجن وَالْإِنْس ابتليا بِالْعبَادَة وَلَهُمَا الثَّوَاب وَعَلَيْهِمَا الْعقَاب وَأمر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بالنذارة إِلَى الْجِنّ والرسالة إِلَى الْآدَمِيّين فأنذرهم وعلمهم الْقُرْآن فللجن مُسَاوَاة بِابْن آدم فِي الْأُمُور والاختلاط فَمنهمْ من يتَزَوَّج فيهم وَكَانَت بلقيس ملكة سبأ أحد أَبَوَيْهَا من الْجِنّ وَرُبمَا غلب الْجِنّ الْآدَمِيّ على أَهله فَيَأْخُذ بقلبها ويعذبها والامتناع مِنْهُم باسم الله تَعَالَى فَإِذا أحب الْآدَمِيّ أَن يطرده من مشاركته طرده باسم الله
قَالَ صلى الله عليه وسلم ستر بَين عورات بني آدم وَبَين أعين الْجِنّ إِذا وضع الرجل ثَوْبه أَن يَقُول باسم الله قَالَ مُجَاهِد رَضِي الله
عَنهُ إِذا جَامع الرجل وَلم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع مَعَه
قَالَ فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان}