المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

-‌ ‌ الأَصْل الثَّامِن والمائتان - ‌ ‌فِي سر شَهَادَة العطاس   عَن أبي هُرَيْرَة رضي - نوادر الأصول في أحاديث الرسول - جـ ٣

[الحكيم الترمذي]

فهرس الكتاب

-‌

‌ الأَصْل الثَّامِن والمائتان

-

‌فِي سر شَهَادَة العطاس

عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من حدث بِحَدِيث فعطس عِنْده فَهُوَ حق)

العطسة تنفس الرّوح وتحننه إِلَى الله تَعَالَى لِأَنَّهَا من الملكوت فَإِذا تحرّك ساطعا عِنْد حَدِيث فَهُوَ شَاهد يُخْبِرك عَن صدقه وَحقه

قَالَ عليه السلام (إِن الله يحب العطاس وَيكرهُ التثاؤب فَإِذا

ص: 5

عطس أحدكُم فَحَمدَ الله فَحق على كل مُسلم سَمعه يشمته والتثاؤب من الشَّيْطَان فَإِذا تثاءب أحدكُم فليرده مَا اسْتَطَاعَ فَإِن أحدكُم إِذا قَالَ هاه ضحك الشَّيْطَان مِنْهُ)

وَقَالَ عمر رضي الله عنه لعطسة وَاحِدَة عِنْد حَدِيث أحب إِلَيّ من شَاهد عدل

وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (الفال مُرْسل والعاطس شَاهد عدل

قَوْله (الفال مُرْسل) مثل مَا يرْوى أَنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يَقُول فِي الْعَسْكَر يَا حسن فَقَالَ أَخذنَا فالك من فِيك واستقبله بُرَيْدَة فِي طَرِيق الْهِجْرَة فَقَالَ مَا اسْمك قَالَ بُرَيْدَة فَالْتَفت إِلَى أبي بكر رضي الله عنه فَقَالَ برد أمرنَا قَالَ مِمَّن قَالَ من أسلم قَالَ سلمنَا يَا أَبَا بكر

وَمَعْنَاهُ أَن هَذِه الْأَسْمَاء مِمَّا يُرْسِلهُ الله تَعَالَى حَتَّى يستقبلك كالبشير لَك فَإِذا تفاءلت فقد أَحْسَنت بِهِ الظَّن وَالله سبحانه وتعالى عِنْد ظن عَبده

وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ عطس عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثَلَاث عطسات مُتَوَالِيَات فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا عُثْمَان أَلا أُبَشِّرك هَذَا جِبْرَائِيل يُخْبِرنِي عَن الله تَعَالَى أَنه قَالَ (مَا من مُؤمن يعطس ثَلَاث عطسات مُتَوَالِيَات إِلَّا كَانَ الْإِيمَان فِي قلبه ثَابتا)

ص: 6

-‌

‌ الأَصْل التَّاسِع والمائتان

-

‌فِي النَّهْي عَن الْجُلُوس على الْقُبُور

عَن أبي مرْثَد الغنوي رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول (لَا تجلسوا على الْقُبُور وَلَا تصلوا إِلَيْهَا)

نهى أَن يُوطأ الْقَبْر أَو يجلس عَلَيْهِ استهانة بِهِ إِقَامَة لحُرْمَة الْمُسلم بعد مَوته

وَعَن معَاذ رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يكره أَن تُوطأ الْقُبُور إعظاما للْمُسلمين وإكراما لَهُم وَيكرهُ أَن يتَّخذ الْقُبُور مَسْجِدا وقبلة يصلى إِلَيْهَا فَإِن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك

وروى بشر بن الخصاصية أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يمشي فِي الْقُبُور فِي نَعْلَيْنِ فَقَالَ (يَا صَاحب السبتين اخلع)

ص: 7

وَفِي رِوَايَة أُخْرَى (ألق سبتيك لَا تشغله)

هَذَا يدل على إِقَامَة الْحُرْمَة وتعظيم شَأْن الْمُسلم أَن يمشي الْمَرْء على أعظم مدفونة قد اختبأها الرب عز وجل واختارها لمحبته ملكا فِي الْجنان فِي جواره

وَقَالَ عليه السلام لمن رَآهُ جَالِسا على قبر (انْزِلْ عَن الْقَبْر لَا تؤذ صَاحبك وَلَا يُؤْذِيك)

مَعْنَاهُ أَن الْأَرْوَاح تعلم بترك إِقَامَة الْحُرْمَة وبالاستهانة فتتأذى بذلك

ص: 8

-‌

‌ الأَصْل الْعَاشِر والمائتان

-

‌فِي أَن أَبَا بكر رضي الله عنه ويومه خير من مُؤمن آل فِرْعَوْن

عَن عمر رضي الله عنه قَالَ مَا نيل من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا نيل مِنْهُ ذَات يَوْم أَنه كَانَ يطوف بِالْبَيْتِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقطعُوا عَلَيْهِ الطّواف وَأخذُوا بتلابيبه وَقَالُوا أَنْت الَّذِي تَنْهَانَا أَن نعْبد مَا يعبد آبَاؤُنَا قَالَ (هُوَ ذَاك) وَأَبُو بكر رضي الله عنه ملتزمه من خَلفه وَهُوَ يَقُول أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَعَيناهُ تهملان فَخلوا سَبيله

مرتبَة أبي بكر رضي الله عنه من الدّين وَمحله من الْإِسْلَام أَن يذب عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَحده وَلم يهب شَرْقي الدُّنْيَا وغربيها

ص: 9

وَقَالَ الْحسن رضي الله عنه عَاتب الله تَعَالَى جَمِيع أهل الأَرْض غير أبي بكر فَقَالَ {إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا}

وَعَن سَالم بن عبيد قَالَ لما قبض النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ رجل من الْأَنْصَار منا أَمِير ومنكم أَمِير قَالَ عمر رضي الله عنه سيفين فِي غمد لَا يصطلحان ثمَّ أَخذ بيد أبي بكر فَقَالَ من لَهُ هَذِه الثَّلَاثَة {ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا} ثمَّ بَايعه فَبَايع النَّاس أحسن بيعَة وأجملها

وَعَن عَليّ رضي الله عنه قَالَ اجْتمعت قُرَيْش بعد وَفَاة أبي طَالب بِثَلَاث فأرادوا قتل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأقبل هَذَا يجاؤه وَهَذَا يتلتله إِلَّا أَبُو بكر وَله ضفيرتان فَأقبل يجَأ ذَا ويتلتل ذَا وَيَقُول بِأَعْلَى صَوته وَيْلكُمْ أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَالله إِنَّه لرَسُول الله فَقطعت إِحْدَى ضفيرتي أبي بكر يَوْمئِذٍ فَقَالَ عَليّ رضي الله عنه ليَوْم من أبي بكر خير من مُؤمن آل فِرْعَوْن إِن ذَلِك رجل كتم إيمَانه فَأثْنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كِتَابه وَهَذَا أَبُو بكر أظهر إيمَانه وبذل مَاله وَدَمه لله تَعَالَى

وَعَن أَسمَاء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أَنهم قَالُوا لَهَا

ص: 10

مَا أَشد شَيْء رَأَيْت الْمُشْركين بلغُوا من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَت كَانَ الْمُشْركُونَ قعُودا فِي الْمَسْجِد الْحَرَام يتذاكرون رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا يَقُول فِي آلِهَتهم فَبينا هم كَذَلِك إِذْ دخل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَامُوا إِلَيْهِ بأجمعهم وَكَانُوا إِذا سَأَلُوهُ عَن شَيْء صدقهم فَقَالُوا لَهُ أَلَسْت تَقول فِي آلِهَتنَا كَذَا قَالَ بلَى فتشبسوا بِهِ بأجمعهم فَأتى الصَّرِيخ إِلَى أبي بكر فَقيل لَهُ أدْرك صَاحبك فَخرج من عندنَا وَإِن لَهُ غدائر فَدخل الْمَسْجِد وَهُوَ يَقُول وَيْلكُمْ أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله فلهوا عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَقْبلُوا إِلَى أبي بكر فَرجع إِلَيْنَا أَبُو بكر فَجعل لَا يمس شَيْئا من غدائره إِلَّا جَاءَ مَعَه وَهُوَ يَقُول تَبَارَكت يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام

ص: 11

-‌

‌ الأَصْل الْحَادِي عشر والمائتان

-

‌فِي المصافحة وسرها

عَن عمر رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول (إِذا التقى المسلمان كَانَ أحبهما إِلَى الله أحسنهما بشرا لصَاحبه فَإِذا تصافحا أنزل الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا مائَة رَحْمَة تسعون مِنْهَا للَّذي بَدَأَ بالمصافحة وَعشرَة للَّذي صوفح)

الْمُؤمن عَلَيْهِ سمة الْإِيمَان ووقاره وبهاء الْإِسْلَام وجماله فأحسنهما بشرا أعقلهما عَن الله تَعَالَى مَا من الله عز وجل عَلَيْهِ وَيظْهر بشره لعلمه بِاللَّه تَعَالَى ولمنة الله على عَبده وَلِأَن الْمُؤمن عطشان إِلَى لِقَاء ربه شوقا إِلَيْهِ فَإِذا رأى الْمُؤمن اهتش إِلَى ذَلِك روحه وتنسم قلبه روح مَا وجد من آثَار مَوْلَاهُ فيطمئن ويبشر بذلك فَيظْهر بشره وَإِنَّمَا صَار أحب إِلَى الله تَعَالَى بِمَا لَهُ من الْحَظ من الله تَعَالَى وَلِأَن الَّذِي يظْهر الْبشر لِأَخِيهِ يسر أَخَاهُ الْمُؤمن لِأَن فِي ذَلِك إِظْهَار الْمَوَدَّة لَهُ

ص: 12

وَرُوِيَ أَن يحيى بن زَكَرِيَّا عليهما السلام إِذا لقى عِيسَى عليه السلام بَدَأَ بِالسَّلَامِ فَسلم عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يلقاه إِلَّا باشا مُتَبَسِّمًا وَلَا يلقى عِيسَى إِلَّا مَحْزُونا شبه الباكي فَقَالَ لَهُ عِيسَى إِنَّك تَبَسم تَبَسم رجل يضْحك كَأَنَّك آمن فَقَالَ يحيى إِنَّك لتعبس تعبس رجل يبكي كَأَنَّك آيس فَأوحى الله تَعَالَى إِلَى عِيسَى عليه السلام أَن أحبكما إِلَيّ أكثركما تبسما

وَأما المصافحة هُوَ الْأَخْذ بِالْيَدِ وَهُوَ كالبيعة لِأَن من شَرَائِط الْإِسْلَام الْأُخوة قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة} وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض

شَرط الله تَعَالَى فِيمَا بَينهم الْأُخوة وَالْولَايَة فَإِذا لقِيه فصافحه كَأَنَّهُ يبايعه على هَاتين الخصلتين فَفِي كل مرّة يلقى يجدد بيعَته فيجدد الله تَعَالَى لَهما ثَوابًا كَمَا يجدد الْمُصَاب الاسترجاع فيجدد لَهُ ثَوَاب الْمُصِيبَة ويجدد صَاحب النِّعْمَة الْحَمد فيجدد لَهُ ثَوَاب الشُّكْر فللسابق إِلَى تَجْدِيد لَهُ تسعون رَحْمَة كتمسكه بِالْولَايَةِ والأخوة وَإِقَامَة الْحُرْمَة وَأول مَا ظَهرت الْبيعَة يَوْم الْمِيثَاق

وَلذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما الرُّكْن يَمِين الله يُصَافح بِهِ عباده يَوْم الْقِيَامَة لأَنهم يَوْم الْمِيثَاق بَايعُوا الله فصافحوا الْحجر فَلَمَّا أنزلهُ من الفردوس وضع فِي ركن الْبَيْت ودعى النَّاس إِلَيْهَا ليجددوا بيعتهم فَكلما تَمسحُوا فَذَلِك مِنْهُم بيعَة متجددة

ص: 13

-‌

‌ الأَصْل الثَّانِي عشر والمائتان

-

‌فِي فضل يَوْم عَاشُورَاء وسر التوسيع فِيهِ

عَن أبي سعيد رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من وسع على أَهله يَوْم عَاشُورَاء وسع الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي سنته كلهَا)

الأَصْل فِي ذَلِك أَن سفينة نوح عليه السلام اسْتَوَت على الجودي يَوْم عَاشُورَاء فَقيل لَهُ {اهبط بِسَلام منا وبركات عَلَيْك وعَلى أُمَم مِمَّن مَعَك} أَي الْمُوَحِّدين {وأمم سنمتعهم ثمَّ يمسهم منا عَذَاب أَلِيم} وهم الْمُشْركُونَ وَكَانُوا كلهم فِي صلبه وَهَذَا السَّلَام والبركات إِلَى آخر الدَّهْر

وَقيل لَهُ اهبط لتبوء لأهْلك وولدك متبوأ صدق ومستقرا لمعاشك بِهَذَا السَّلَام وَهَذِه البركات فَمن أَرَادَ أَن يَأْخُذ بحظه من تِلْكَ البركات فَوَافى ذَلِك الْيَوْم كَانَ فِي تِلْكَ الْهَيْئَة هَيْئَة من يبوء لأَهله وَعِيَاله مرمة

ص: 14

لمعاشهم وَيزِيد فِي وظائفهم ويهيئ لَهُم لينالهم حَظه من ذَلِك السَّلَام وَتلك البركات لِأَن الله تَعَالَى اسْتَقْبَلَهُمْ بالدنيا بعد أَن غرقها وخربها شرقا وغربا فَلم يبْق فِي جَمِيع الدُّنْيَا إِلَّا سفينة نوح عليه السلام بِمن فِيهَا فَرد عَلَيْهِم دنياهم يَوْم عَاشُورَاء وَأمرُوا بالهبوط للتبوئة والتهيؤ لأمر المعاش مَعَ السَّلَام والبركات عَلَيْهِم وعَلى الْأُمَم الْمُوَحِّدين الَّذين فِي صلبه فَمن أَتَى عَلَيْهِ ذَلِك الْيَوْم فَكَأَنَّهُ فِي وقته يهْبط من السَّفِينَة ويهيئ لِعِيَالِهِ معاشا وتناله السَّلامَة والبركات لذَلِك

وَرُوِيَ أَن من اكتحل يَوْم عَاشُورَاء بكحل أثمد لم تتوجع عينه تِلْكَ السّنة وعوفي من الرمد وَقَالَ عليه السلام خير أكحالكم الأثمد فَإِنَّهُ ينْبت الشفر ويجلو الْبَصَر

فالاكتحال مرمة الْعين وَفِي الْكحل قُوَّة لِلْبَصَرِ ومدد للروح لِأَنَّهُ ينْبت الأشفار وَهُوَ ستر الناظرين وَيُقَوِّي الْبَصَر فَإِنَّهُ يجليه وَيذْهب بالغشاوة وَمَا يتحلب من الماقين من فضول الدُّمُوع والبلة الطبيعية ينشفه الأثمد وَلَا يَدعه يتلبث فَيصير غشاوة وغيما على حدقتيه وَفِيه مدد للروح لِأَن بصر الرّوح فِي الْبَاطِن مُتَّصِل ببصر الْعين فَإِذا ذهبت الغشاوة وصل النَّفْع إِلَى بصر الرّوح وَوجد لذهابه رَاحَة وخفة فَإِذا كَانَ مِنْهُ فِي هَذَا الْيَوْم مرمة النَّفس نَالَ الْبركَة والسلامة وعوفي من الضّيق ووسع عَلَيْهِ سَائِر سنته وَإِن كَانَت مرمة الرّوح عوفي من الرمد

ص: 15

-‌

‌ الأَصْل الثَّالِث عشر والمائتان

-

‌فِي أَن العَبْد يسْأَل عَن صدق لَا إِلَه إِلَّا الله وَالْفرق بَين أهل الْكَلِمَة وَأهل القَوْل بِالْكَلِمَةِ

عَن أنس رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي قَوْله تَعَالَى {فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ} قَالَ عَن لَا إِلَه إِلَّا الله

مَعْنَاهُ عَن صدق لَا إِلَه إِلَّا الله وَالْوَفَاء بهَا

قَالَ الْحسن رضي الله عنه لَيْسَ الْإِيمَان بالتحلي وَلَا بالتمني وَلَكِن مَا وقر فِي الْقُلُوب وصدقته الْأَعْمَال

وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله مخلصا دخل الْجنَّة) قيل يَا رَسُول الله مَا إخلاصها قَالَ (أَن يحجره عَن محارم الله تَعَالَى)

ص: 16

قَالَ عليه السلام (إِن الله تَعَالَى عهد إِلَيّ أَن لَا يأتيني أحد من أمتِي بِلَا إِلَه إِلَّا الله لم يخلط بهَا شَيْئا إِلَّا وَجَبت لَهُ الْجنَّة) قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا الَّذِي يخلط بِلَا إِلَه إِلَّا الله قَالَ (حرصا على الدُّنْيَا وجمعا لَهَا ومنعا لَهَا يَقُولُونَ قَول الْأَنْبِيَاء ويعملون أَعمال الْجَبَابِرَة)

وَثَمَرَة هَذِه الْكَلِمَة لأَهْلهَا وَأَهْلهَا من رعاها حَتَّى قَامَ بوفائها وصدقها وَمن لم يرعها فَلَيْسَ من أهل لَا إِلَه إِلَّا الله إِنَّمَا هم من أهل قَول لَا إِلَه إِلَّا الله فَأهل قَول لَا إِلَه إِلَّا الله من كَانَ مرجعه إِلَى القَوْل بِهِ وَالْعَمَل بهواه وَأهل لَا إِلَه إِلَّا الله من كَانَ مرجعه إِلَى إِقَامَة هَذَا القَوْل وَفَاء وصدقا

قَالَ عليه السلام (لَا إِلَه إِلَّا الله يمْنَع الْعباد من سخط الله تَعَالَى مَا لم يؤثروا صَفْقَة دنياهم على دينهم فَإِذا آثروا صَفْقَة دنياهم على دينهم ثمَّ قَالُوا لَا إِلَه إِلَّا الله ردَّتْ عَلَيْهِم وَقَالَ الله تَعَالَى كَذبْتُمْ)

وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (لَا يزَال قَول لَا إِلَه إِلَّا الله يرفع سخط الله عَن الْعباد حَتَّى إِذا نزلُوا بالمنزل الَّذِي لَا يبالون مَا نقص من دينهم إِذا سلمت دنياهم فَقَالُوا عِنْد ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى لَهُم كَذبْتُمْ كَذبْتُمْ)

وَصدق لَا إِلَه إِلَّا الله أَن يقف عِنْد صنع الله تَعَالَى وَعند أمره كالعبيد أما صنعه فَهُوَ أَحْكَامه عَلَيْك وتدبيره فِيك مثل الْعِزّ والذل وَالصِّحَّة والسقم والفقر والغنى وكل حَال مَحْبُوب ومكروه فتقف هُنَاكَ كالعبيد لَا تعصى الله فِي جنب مَا حكم عَلَيْك ودبر لَك وَيحكم بِهِ عَلَيْك وَأما أمره فَهُوَ أَدَاء الْفَرَائِض وَاجْتنَاب الْمَحَارِم فَلَا تعصيه فِي ترك فَرِيضَة وَلَا انتهاك محرم وَهَذَا أدنى منزلَة فِي صدق لَا إِلَه إِلَّا الله لِأَنَّهُ بعد فِي حفظ الْجَوَارِح وَأما الْمنزلَة الْأَعْلَى أَن

ص: 17

يكون مَعَ هذَيْن حَافِظًا لِقَلْبِهِ قد رَاض نَفسه وَمَاتَتْ شهواته فَمَا ورد عَلَيْهِ من أَحْكَام الله تَعَالَى رَضِي بهَا واهتشت نَفسه إِلَى قبُولهَا حبا لَهُ وإعظاما وَمَا أعطي من الدُّنْيَا قنع بهَا وَكَانَ كالخازن الَّذِي يُعْطِيهِ مَوْلَاهُ شَيْئا يأتمنه عَلَيْهِ فَهُوَ يمْسِكهَا بالأمانة يرقب مَتى يُومِئ إِلَيْهِ حَتَّى يبذلها من غير تلجلج وَمَا ورد عَلَيْهِ من أمره وَنَهْيه أنفذ من غير أَن يلْتَفت إِلَى عوض عَنْهَا فِي عَاجل أَو ثَوَاب فِي آجل

فَهَؤُلَاءِ هم السَّابِقُونَ راضوا أنفسهم وفطموها عَن الشَّهَوَات فَلَمَّا جَاءَهُم أَمر الله وَأَحْكَامه انقادوا وذلت نُفُوسهم لأَمره إعظاما لجلاله ذلة العبيد الَّذين قد استسلموا لسيدهم وهم المبهوتون فِي طَاعَة الله تَعَالَى لَا يفرقون بَين أُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قد اسْتَوَت عِنْدهم لأَنهم لله وَبِاللَّهِ لَا يخْطر على بالهم عِنْد تصرفهم فِي الْأُمُور اخْتِيَار الْأُمُور وَالْأَحْوَال فَإِن كَانَ فِي مرمة نفس أَو إصْلَاح معاش فَهُوَ لله وَإِن كَانَ فِي أَمر الْآخِرَة فَهُوَ لله تَعَالَى فأعمارهم غير معطلة كلهَا عبَادَة لمليكهم عبدُوا الله بنومهم كَمَا عبدوه بسهرهم وبأكلهم كَمَا عبدوه بجوعهم وعبدوه بتناول الدُّنْيَا وَأَخذهَا كَمَا عبدوه بِتَرْكِهَا إِنَّمَا نظرهم إِلَى تَدْبيره لَهُم فعلى أَي حَال سَار بهم إِلَيْهِ سَارُوا طيبَة بذلك نُفُوسهم حَسَنَة أَخْلَاقهم فَإِنَّهُم نظرُوا إِلَى الْمُقْتَصِدِينَ الَّذين لم يرْضوا أنفسهم وَلَا فطموها عَن الشَّهَوَات إِلَّا أَن خوف الْوَعيد حَال بَين نُفُوسهم وَبَين الْمعاصِي فحجرهم عَن أَعمال أهل الهلكى وَحَملهمْ على أَعمال أهل النوال لما أطمعوا من الثَّوَاب كَفعل الدَّوَابّ تتلكأ وتبطئ فِي السّير حَتَّى إِذا أحست بالدنو من الْمنزل اسْتَقَلت الحمولة وجدت للسير تحننا إِلَى الاوازي أَو أحست بِالسَّوْطِ من راكبها فتهتاج فِي السّير مجدا فَهَؤُلَاءِ قد اسْتَحْيوا من أَن يكون شَبِيها بهم وَأَن تكون عِبَادَتهم طَمَعا فِي الثَّوَاب أَو رهبة من الْعقَاب فَإِن هَؤُلَاءِ انقادوا لله تَعَالَى من أجل نُفُوسهم وَلَيْسَ هَذَا بخالص العبودة إِنَّمَا خَالص

ص: 18

العبودة لقوم هامت قُلُوبهم فِي حب الله تَعَالَى وهامت فِي جَلَاله وعظمته فانبعثوا لأعمال الْبر شفوفا بهم لعلمهم أَنه يحب ذَلِك وامتنعوا عَن الآثام هَيْبَة لَهُ وإجلالا لمعرفتهم أَنه مساخطه ومكروهه فهذان الصنفان هم أهل لَا إِلَه إِلَّا الله إِلَّا أَن أَحدهمَا أَعلَى من الآخر وَمن لم يكن فِيهِ ذَلِك فَهُوَ من أهل قَول لَا إِلَه إِلَّا الله

قَالَ عليه السلام (لَيْسَ على أهل لَا إِلَه إِلَّا الله وَحْشَة فِي الْقُبُور وَلَا فِي النشور كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِم وهم يَنْفضونَ التُّرَاب عَن رؤوسهم وهم يَقُولُونَ الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن)

وَالنَّاس فِي الْحزن على دَرَجَات وكل يحمد الله على إذهاب حزنه فالمتقون حزنهمْ قطع النَّار وفوت الْجنَّة ومجاهدة النَّفس أَيَّام الْحَيَاة وَالصِّدِّيقُونَ حزنهمْ تَقْصِير شكر مَا لَزِمَهُم من الْعِصْمَة والتوفيق بِأَن وفقهم للطاعات وعصمهم من الآثام فوجدوا أنفسهم مقصرين فِي شكره ينتظرون الْعَفو والعارفون على صنفين وحزنهم على وَجْهَيْن فصنف مِنْهُم حزنهمْ حزن الْعَاقِبَة وَهُوَ الْغَالِب على قلبه فَإِنَّهُ اشتاق إِلَى الله تَعَالَى فرقي بِهِ إِلَى دَرَجَة الْجلَال وَالْجمال فسكن شوقه لطعم لَذَّة مَا نَالَ من الْقرْبَة فَمر فِي العبودة بِقُوَّة حَظه من الْجلَال وَعظم عمله لغد بِقُوَّة حَظه من الْجمال فَهُوَ مطمئن سَاكن

وَلِهَذَا قيل لوَاحِد مِنْهُم أما تشتاق فَقَالَ إِنَّمَا يشتاق الْغَائِب فاستعظموا هَذَا وصيروه غَايَة الْأَمر وَلَا يعلمُونَ أَن وَرَاء هَذَا دَرَجَة فِيهَا تنافس الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام المجذوبين الْمُحدثين وَهُوَ حزن القلق فَإِنَّهُ يقلقل أحشاءهم إِلَى آخر رَمق من الْحَيَاة حَتَّى تخرج أَرْوَاحهم بغصة من الكمد لأَنهم خلصوا إِلَى فردانيته وتعلقوا بوحدانيته

ص: 19

فظمئت أكبادهم عطشا إِلَى لِقَائِه وَهَذَا هُوَ الَّذِي أقلق مُوسَى عليه السلام حَتَّى حمله على سُؤال الرُّؤْيَة ثمَّ عَاشَ أَيَّام الدُّنْيَا عطشان إِلَى لِقَائِه فمحال أَن يسْتَقرّ الْعَارِف حَتَّى ينْكَشف لَهُ الغطاء يَوْم الزِّيَادَة ويصل إِلَى مَا سَأَلَ كليم الله عليه السلام لِأَنَّهُ كلما ازْدَادَ العَبْد إِلَيْهِ قربا زَاده مَوْلَاهُ دنوا فازداد هيمانا وولها حَتَّى يقلق ويكمد ويحترق من نيران الشوق

ص: 20

-‌

‌ الأَصْل الرَّابِع عشر والمائتان

-

‌فِي أَن الْأَمْثَال من مَعْدن الْحِكْمَة وَأَن الْمَرْأَة لم مثلت بِالسَّيْفِ المصقول

عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مر لُقْمَان عليه السلام على جَارِيَة فِي الْكتاب فَقَالَ لمن يصقل هَذَا السَّيْف

هَذِه كلمة تَمْثِيل من مَعْدن الْحِكْمَة وَعَامة الْحِكْمَة فِي الْأَمْثَال لِأَن الْأَمْثَال أنموذج الْآخِرَة والملكوت وبالخلق حَاجَة إِلَى مُعَاينَة الْأَجَل وَإِنَّمَا يعاينوه بالعاجل وَلِهَذَا مَا ضرب الله تَعَالَى الْأَمْثَال فِي تَنْزِيله الْكَرِيم وَعجل لأهل الدُّنْيَا من نعيم الْجنان أنموذجا من الْأَنْوَار وَالطّيب وَالذَّهَب وَالْفِضَّة واللؤلؤ والزبرجد وَسَائِر الْجَوَاهِر لأَنهم لَو لم يرَوا ذَلِك فِي الدُّنْيَا لم يفهموا مِنْهُ تِلْكَ الصّفة فوصف لَهُم ثَلَاث دَرَجَات دَرَجَة فضَّة ودرجة ذهب ودرجة نور وَأمْسك عَن وصف سَائِر الدَّرَجَات إِذْ لَيْسَ عِنْدهم أنموذجاتها فيفهمون بهَا عَنهُ مَا يصفه فَقَالَ {لَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين}

ص: 21

وَالسيف أمره وجي لَا يكَاد يلبث بِصَاحِبِهِ فَكَذَلِك الْمَرْأَة شهوتها من بَين الشَّهَوَات كالسيف من بَين الأسلحة

رُوِيَ أَن إِبْلِيس لما خلقت الْمَرْأَة قَالَ أَنْت نصف جندي وَأَنت مَوضِع سري وَأَنت سهمي الَّذِي أرمي بك فَلَا أخطئ

وَذكر الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم حب الشَّهَوَات فَبَدَأَ بِذكر النِّسَاء فَقَالَ عز من قَائِل {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين} ليعلم أَنَّهَا أقوى الشَّهَوَات وَقَالَ {وَخلق الْإِنْسَان ضَعِيفا} أَي فِي شَأْن النِّسَاء وَقَالَ تَعَالَى {لتسكنوا إِلَيْهَا} وَلَا يكون السكن إِلَّا من الِاضْطِرَاب والجولان

وَذكر الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم شَأْن ثَلَاثَة من أنبيائه وأعلام أرضه ابتلوا بِهن يُوسُف وَدَاوُد وَمُحَمّد عليهم السلام

فَأَما يُوسُف فابتلي بِامْرَأَة الْعَزِيز فَلَمَّا تزينت لَهُ وراودته {قَالَ معَاذ الله إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي}

فَلم تزل فِي مراودته ومخادعته حَتَّى خلت بِهِ فِي بَيتهَا وغلقت الْأَبْوَاب

فَقَالَت لَهُ يَا يُوسُف مَا أحسن صُورَة وَجهك

قَالَ فِي الرَّحِم صورني

قَالَت مَا أحسن شعرك

قَالَ هُوَ أول شَيْء يبْلى مني فِي قَبْرِي

ص: 22

قَالَت مَا أحسن عَيْنَيْك

قَالَ بهما أنظر إِلَى رَبِّي

قَالَت ارْفَعْ بَصرك فَانْظُر فِي وَجْهي

قَالَ أَخَاف الْعَمى فِي آخرتي

قَالَت أدنو مِنْك وتتباعد عني

قَالَ أُرِيد الاقتراب من رَبِّي

قَالَت فَادْخُلْ القيطون معي

قَالَ القيطون لَا يسترني من رَبِّي

قَالَت فرَاش الْحَرِير قد فرشته قُم فَاقْض حَاجَتي

قَالَ إِذن يذهب من الْجنَّة نَصِيبي

قَالَت إِنَّك لجريء على سخطي

قَالَ أُرِيد بِذَاكَ مرضاة رَبِّي

قَالَت أَنْت عَبدِي اشتريتك بِمَالي فتعظم عَليّ

قَالَ بجرمي وخطيئتي اشتريتني

قَالَت ضع يدك على صَدْرِي

قَالَ إِنَّه لَا صَبر لي على احتراق جَسَدِي إِذا زرعت فِي أَرض غَيْرِي

قَالَت يَا يُوسُف الجنينة قد عطشت قُم فاسقها

قَالَ الَّذِي بِيَدِهِ مفاتيحها أَحَق بسقيها

قَالَت أَعتَقتك من الرّقّ وجعلتك بِمَنْزِلَة زَوجي فَبِأَي حول امْتنعت مني

قَالَ بحول رَبِّي الَّذِي فِي السَّمَاء معمره وَمَكَان سَيِّدي الَّذِي فِي الأَرْض سُلْطَانه أخافه على نَفسِي

قَالَت إِنِّي مسلمتك إِلَى الْمُعَذَّبين

قَالَ ذَاك فعل إخوتي

قَالَت النَّار قد التهبت قُم فاطفئها

ص: 23

قَالَ أَخَاف أَن يحرقني بهَا رَبِّي

فَلم تزل تخدعه وتراوده حَتَّى هم بهَا فَلَمَّا حل سراويله ورد يَده إِلَى جيب قَمِيصه ليخلعه وَيدخل مَعهَا فِي فراشها ناداه مُنَاد من السَّمَاء ثَلَاث مَرَّات مهلا يَا يُوسُف فَإنَّك إِن واقعت الْخَطِيئَة مُحي اسْمك من ديوَان النُّبُوَّة

فَلم يكترث لذَلِك الصَّوْت وغلبه مَا حدث فِيهِ من الشَّهْوَة فَمثل الله تَعَالَى لَهُ أَبَاهُ فِي مثل صورته الَّتِي عَهده فِيهَا فَنظر إِلَيْهِ غَضْبَان عاضا على أنملته المسبحة يوعده فَلَمَّا رأى ذَلِك يُوسُف عليه السلام كف وهرب موليا نَحْو الْبَاب واتبعته سيدته فتداركا عِنْد الْبَاب ينازعها ليخرج وتجره من خَلفه ليرْجع فانقد قَمِيصه من دبر وألفيا سَيِّدهَا لَدَى الْبَاب {قَالَت مَا جَزَاء من أَرَادَ بأهلك سوءا إِلَّا أَن يسجن أَو عَذَاب أَلِيم}

فَلَمَّا رأى ذَلِك يُوسُف عليه السلام أفشاها فَقَالَ {هِيَ راودتني عَن نَفسِي} حَتَّى آل الْأَمر إِلَى أَن شاع أمرهَا فِي النِّسَاء وقبح عَلَيْهَا الْأَمر فَجمعت النِّسَاء وَجعلت عيدا واستعانت بِهن عَلَيْهِ وأوعدته وهددته إِن لم يفعل ذَلِك ليسجنن أَو عَذَاب أَلِيم وليكونن من الصاغرين {قَالَ رب السجْن أحب إِلَيّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} فَاسْتَجَاب لَهُ ربه فصرف عَنهُ كيدهن

فَلبث فِي السجْن بضع سِنِين أَي عشر سِنِين فَلَمَّا انْتَهَت مُدَّة عُقُوبَة الْهم وَجَاء أَوَان الْخُرُوج مِنْهُ قَالَ لذَلِك الَّذِي كَانَ حَبسه الْملك

ص: 24

ثمَّ أخرجه {اذْكُرْنِي عِنْد رَبك} {فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه فَلبث فِي السجْن بضع سِنِين} أَي ثَلَاث سِنِين

فَلَمَّا انْتَهَت مُدَّة عُقُوبَة قَوْله {اذْكُرْنِي عِنْد رَبك} جَاءَ جِبْرِيل عليه السلام فَقَالَ لَهُ إِن الله تَعَالَى يَقُول لَك أَتُحِبُّ أَن يكلك الله فِي شَيْء من أَمرك إِلَى فِرْعَوْن عِنْده

قَالَ يُوسُف عليه السلام أعوذ من ذَلِك برأفة رَبِّي وَرَحمته فَخرج من السجْن وآتاه الله تَعَالَى ملك مصر وخوله خَزَائِن أرْضهَا حَتَّى جمع بَينه وَبَين يَعْقُوب عليهما السلام وَجمع شَمله فِي إخْوَته وَأهل بَيته وانتقلوا إِلَى مصر

وَرُوِيَ أَن امْرَأَة الْعَزِيز أصابتها حَاجَة فَقَالُوا لَهَا لَو أتيت يُوسُف فَسَأَلته فاستشارت النَّاس فِي ذَلِك فَقَالُوا لَهَا لَا تفعلي ذَلِك فَإنَّا نَخَاف عَلَيْك قَالَت كلا إِنِّي لَا أَخَاف مِمَّن يخَاف الله تَعَالَى فَدخلت عَلَيْهِ فرأته فِي ملكه فَقَالَت الْحَمد لله الَّذِي جعل العبيد ملوكا بِطَاعَتِهِ وَجعل الْمُلُوك عبيدا بمعصيته فَقضى لَهَا جَمِيع حوائجها ثمَّ تزَوجهَا فَوَجَدَهَا بكرا فَقَالَ لَهَا أَلَيْسَ هَذَا أجمل مِمَّا أردْت

فَقَالَت يَا نَبِي الله إِنِّي ابْتليت فِيك بِأَرْبَع كنت أجمل النَّاس كلهم وَكنت أَنا أجمل أهل زماني وَكنت بكرا وَكَانَ زَوجي عنينا

وَأما دَاوُد عليه السلام فَإِنَّهُ قعد فِي الْمِحْرَاب وَالزَّبُور فِي حجره يقرأه إِذا طَائِر بَين يَدَيْهِ عَلَيْهِ من الألوان أَكْثَرهَا وَسليمَان عليه السلام صَغِير يلْعَب عِنْده فَلَمَّا أَهْوى ليأخذه طَار من الكوة وَقيل إِنَّه كَانَ إِبْلِيس فَظهر لَهُ فِي هَيْئَة طَائِر ليفتنه فَأخْرج دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام

ص: 25

رَأسه فَوَقع بَصَره على امْرَأَة حسناء تَغْتَسِل على رَأس بركَة فِي بستانها تَحت محراب دَاوُد عليه السلام فرأت ظله فِي الْبركَة وَأَنه قد اطلع عَلَيْهَا إِنْسَان فحركت شعرهَا فجللت جَمِيع جَسدهَا بشعرها فَرجع دَاوُد عليه السلام من الكوة بجسده وَبَقِي الْقلب هُنَاكَ فَخرج من الْمِحْرَاب وَقصد بَيت الْمَرْأَة لينقلها إِلَى نِسَائِهِ لتَكون لنَفسِهِ فِي ذَلِك شِفَاء مِمَّا حدث حَتَّى يقدم زَوجهَا أَو ينْتَظر مَا يكون فَوقف على مدرجته ملكان يَقُول أَحدهمَا لصَاحبه لقد أكْرم الله إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب عَن مثل هَذَا الممشى فَلم ينْتَفع بِمَا سمع حَتَّى صَار من أمره إِلَى أَن كتب لصَاحب الْبَعْث أَن يقدم زَوجهَا إِلَى التابوت وَكَانَ من قدم لذَلِك لَا يرجع حَتَّى تفتح الْمَدِينَة أَو يقتل فَقدم زَوجهَا فِي نفر إِلَى التابوت فَقَاتلُوا حَتَّى قتلوا

واعتدت الْمَرْأَة فَخَطَبَهَا وَتَزَوجهَا واشتغل عَنْهَا بِالتَّوْبَةِ وَأَقْبل على الْعِبَادَة متداركا لما سلف مِنْهُ حَتَّى شغل عَن أُمُور بني إِسْرَائِيل وَجعل يَأْكُل قويهم ضعيفهم فَلَا يجد الضَّعِيف غياثا وَيُقِيم شهرا بِبَابِهِ فَلَا يصل إِلَيْهِ لشغله بِمَا أحدث من الْأَمر حَتَّى طمع فِيهِ سُفَهَاء بني إِسْرَائِيل وائتمروا فِي خلعه فَانْطَلقُوا إِلَى إِبْنِ لَهُ أكبرهم سنا وأعزهم عَلَيْهِ وَهُوَ يكرههُ فخدعوه ومنوه الْملك وَقَالُوا أَنْت أكبر ولد أَبِيك وَقد كبر أَبوك وشغل وَعجز عَن السياسة وضاعت حُقُوق النَّاس وأحكامهم وَأَنت أَحَق من يدارك ذَلِك وَلَا نرَاهُ يكره ذَلِك فَإِن هُوَ عاتبك فِي ذَلِك أخْبرته أَنَّك إِنَّمَا فعلت ذَلِك نظرا لَهُ وشفقة عَلَيْهِ حِين خشيت

ص: 26

الْأُمَم وضياع النَّاس وخشيت على ملكه الْأَعْدَاء فَلم يزَالُوا يخدعونه حَتَّى بايعهم فَلم يشْعر دَاوُد عليه السلام حَتَّى خلع وَأصْبح ابْنه يُبَايع النَّاس وَيَدْعُو إِلَى نَفسه

فَلَمَّا بلغ ذَلِك دَاوُد عليه السلام عرف أَنه عُقُوبَة لذنبه فخاف الْفِتْنَة وَالْبَلَاء فهرب بِنَفسِهِ وَمَعَهُ أَمِير جنده وَصَاحب مشورته حَتَّى إِذا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق وَهُوَ يُرِيد جبلا يتحصن فِيهِ لقِيه رجل من بني إِسْرَائِيل قد غلب الْقُضَاة والحكام قبل دَاوُد فَلَمَّا ولي دَاوُد عليه السلام أنصف مِنْهُ الضَّعِيف وَأقَام عَلَيْهِ الْحُدُود فَلَمَّا نظر الرجل دَاوُد فِي مذلة الْبلَاء قَالَ الْحَمد لله الَّذِي نزع ملكك وأهانك وأذلك وأفردك إِلَى نَفسك وَفرق عَنْك جموعك فسل ابْن أُخْت دَاوُد الَّذِي هُوَ أَمِير جُنُوده سَيْفه ليضربه فَقَالَ لَهُ دَاوُد عليه السلام مهلا فَإِن هَذَا لَيْسَ هُوَ الَّذِي يسبني على لِسَانه وَلَكِن الله هُوَ الَّذِي يسبني على لساني بذنبي وخطيئتي وَمَتى كَانَ يطْمع هَذَا أَو يرومني حَتَّى يَأْذَن الله لَهُ فِي فَلم يظلمني رَبِّي وَأَنا الَّذِي ظلمت نَفسِي فَلَمَّا انْطَلقُوا هاربين كمنوا فِي تِلْكَ الْجبَال لَا يأمنون الْقَتْل

وَكَانَ لداود عليه السلام صَاحب شُورَى يُقَال لَهُ نوفيل فَغَضب عَلَيْهِ وعزله واستبدل بِهِ فَقَالَ ابْن دَاوُد عليه السلام لنوفيل كَيفَ الرَّأْي فِي أمره قَالَ أَن تطَأ فرَاشه حَتَّى يستيقن النَّاس أَنه لَيست لداود بَقِيَّة عنْدك

قَالَ كَيفَ الرَّأْي فِي قِتَاله

قَالَ إِن كنت تُرِيدُ من يَوْم من الْأَيَّام فعجله الْيَوْم مَا دَامَ مخذولا مسخوطا عَلَيْهِ وَإِن أخرت أمره حَتَّى يَتُوب الله عَلَيْهِ وَيغْفر لَهُ لم تطقه فَهُوَ الَّذِي قتل جالوت وبز طالوت ملكه وأذل رِقَاب الْمُلُوك

ثمَّ اسْتَشَارَ ابْن دَاوُد آخر فَقَالَ لَهُ سَمِعت بِابْن نَبِي قتل أَبَاهُ

ص: 27

أم هَل سَمِعت بِنَبِي أذْنب فَلم تقبل تَوْبَته أم مَاذَا تَقول لِرَبِّك يَوْم الْقِيَامَة وَقد قتلت نبيه وأباك ووطئت فرَاشه وَمَا وَجه من قتل أَبَا نَبيا ونكح أمه مَا أعلم يقبل مِمَّن فعل هَذَا صرف وَلَا عدل فَإِن كَانَ لَا محَالة أَنْت ضَابِط هَذَا الْملك وَبِمَا أَجمعت عَلَيْهِ من عقوق أَبِيك وخلعه فَلَا تطلبه وَلَا تقتله فَإِن كَانَ الله تَعَالَى قد أذن بفنائه فَمَا أَكثر معاريض الْبلَاء الَّتِي تكفيك ذَلِك مِنْهُ وَإِن كَانَت لَهُ مُدَّة وحياة يستكملها ألفيتك لم تأثم بِرَبِّك وَلم تفرط بوالدك

فَقَالَ الرَّأْي رَأْيك وَمَا أسمعك عرضت بغش وَلَا ادخرت نصيحة وَأَنا متابعك على مَا فِي قَلْبك وكاف عَن دَاوُد مَا كف عني فَإِن قاتلني حميت نَفسِي مَخَافَة أَن يظفر فَيَقْتُلنِي فَقَالَ لَهُ الرجل إِن دَاوُد لن يقاتلك حَتَّى يقبل الله تَوْبَته وَيَأْذَن لَهُ لِقِتَالِك وَإِن ظفر بك أحياك وأمنك فَإِنَّهُ أعظم حلما وأوسع عفوا من أَن يقتل وَلَده

ولبث دَاوُد عليه السلام من يَوْم خرج إِلَى أَن رَجَعَ إِلَى ملكه سنتَيْن وَانْقطع الْوَحْي فَلَمَّا رد الله تَعَالَى إِلَيْهِ ملكه سرح ابْن أُخْته وَهُوَ أَمِير جنده فَأمره أَن يدْخل الْمَدِينَة ثمَّ يَدْعُو إِلَى دَاوُد عليه السلام ويخبر بني إِسْرَائِيل أَن الله تَعَالَى قد قبل تَوْبَته ورد إِلَيْهِ ملكه فَاتَّبعُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُم انحازوا إِلَى ابْنه وكرهوا أَن ينْظرُوا إِلَى وَجه دَاوُد عليه السلام بعد الَّذِي كَانَ مِنْهُم فَاسْتَقْبلُوا فَقَاتلُوا قتالا شَدِيدا حَتَّى قتلوا وكف ابْن دَاوُد عليه السلام فَلم يُقَاتل حَتَّى قتل أَصْحَابه

ثمَّ إِنَّه هرب حَيَاء من أَبِيه وَأَن لَا يرى أَبوهُ وَجهه فَتَبِعَهُ ابْن أُخْت دَاوُد وعهد إِلَيْهِ دَاوُد عليه السلام وحذره أَن يقْتله وَقَالَ لَهُ إياك أَن تقتله فَإِنِّي قَاتلك بِهِ إِذا خَالَفت أَمْرِي فَإِنَّهُ أعز وَلَدي عَليّ ابتلاني الله تَعَالَى بِهِ ليذلني وينقمني بذنبي ويهينني بخطيئتي وَينْزع ملكي ثمَّ تداركني عَفوه وَرَحمته فَعَفَا عني وَقبل مني وَقبل

ص: 28

تَوْبَتِي فَيَنْبَغِي لي أَن أعفو كَمَا عَفا وَأَرْجُو لَهُ من التَّوْبَة مَا رَجَوْت لنَفْسي فَلَيْسَ هُوَ بأعظم جرما مني فالحذر على دَمه

فَلحقه فَوَجَدَهُ قد علقته شَجَرَة دخل عود مِنْهَا برنسه فاقتلعه من السرج وزلت الدَّابَّة من تَحْتَهُ حَتَّى اقتلعه الْعود فَبَقيَ مُعَلّقا وَذَهَبت الدَّابَّة فطعنه ابْن أُخْت دَاوُد بِالرُّمْحِ حَتَّى اعتدل فِيهِ وَترك وَصِيَّة دَاوُد عليه السلام ثمَّ انْصَرف وَتَركه حَتَّى مَاتَ مُعَلّقا فَغَضب دَاوُد عليه السلام وَقَالَ إِنِّي قَاتلك عَاجلا أَو آجلا فوطن نَفسك على ذَلِك واستبقاه دَاوُد عليه السلام لِأَنَّهُ كَانَ رجلا منصورا بعيد الصَّوْت والنكاية فِي الْعَدو فكره أَن يعجل قَتله فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة أوصى سُلَيْمَان عليه السلام بقتْله فَقتله سَاعَة رفع يَده من قَبره

فَلَمَّا تيب عَلَيْهِ التَّوْبَة الظَّاهِرَة ورد الله تَعَالَى إِلَيْهِ ملكه وَاطْمَأَنَّ نزل عَلَيْهِ الْملكَانِ فتسورا الْمِحْرَاب على مَا قصّ الله تَعَالَى وانكشف عَنهُ الغطاء عَن فعله فبرز صَارِخًا متململا وَسجد سَجْدَة العويل وَالنوح دَامَ فِي ذَلِك أَرْبَعِينَ صباحا حَتَّى نبت العشب حول رَأسه من دموع عَيْنَيْهِ فَأَتَاهُ جبرئيل عليه السلام فَقَالَ يَا دَاوُد ارْفَعْ رَأسك فقد غفر لَك فَقَالَ يَا جبرئيل كَيفَ بِالرجلِ قَالَ إِن الله تَعَالَى قد أعاضه الْجنَّة وَقد غفر لَك فارفع رَأسك

وَأما مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ وافى بَاب زيد بن حَارِثَة وَوَقع بَصَره على امْرَأَته زَيْنَب بنت جحش رضي الله عنها وَهِي فِي خمار أسود وَكَانَت وسيمة وَذَات هَيْئَة وَهِي واقفة فِي صحن الدَّار فَوَقَعت فِي نَفسه فَقَالَ بكفيه على عَيْنَيْهِ وَتَوَلَّى وَقَالَ سُبْحَانَ مُقَلِّب الْقُلُوب والأبصار فَرجع إِلَى منزله فَلَمَّا آوى زيد إِلَى فرَاشه عجز عَنْهَا وحيل بَينه وَبَين إتيانها فَلَمَّا رأى ذَلِك أحس بِأَمْر حَادث من الله فجَاء إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليُطَلِّقهَا فاعتل بعلل تطييبا لقلب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ (اتَّقِ الله يَا زيد وَأمْسك عَلَيْك زَوجك) فَلم يزل زيد

ص: 29

عَن عزمه الَّذِي عزم الله على قلبه فَكَمَا قلب قلب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فهويها كَذَلِك قلب قلب زيد حَتَّى طَلقهَا وَانْقَضَت عدتهَا فَنزل الْقُرْآن الْكَرِيم بتزويجها مِنْهُ على لِسَان جبرئيل فَلَمَّا نزل قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} قَامَ عليه السلام فَدخل عَلَيْهَا بِغَيْر إِذن وَهِي لَا تعلم شَيْئا فَقعدَ عِنْدهَا

فَأَما يُوسُف عليه السلام حِين الْبلَاء قَالَ معَاذ الله إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي اعْتصمَ بِاللَّه تَعَالَى وَأخذ الْعدة من التَّعَوُّذ بِهِ وَذكر إِحْسَان من ملكه وكفران نعْمَته أَن يخون فِي أَهله

وَأما دَاوُد عليه السلام حِين شخص لَهُ الْبلَاء اعْتصمَ بالحيل وَنقل تِلْكَ الْمَرْأَة إِلَى نِسَائِهِ لتطمئن النَّفس وَأما مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فزع إِلَى الله تَعَالَى فَردا حِين شخص لَهُ الْبلَاء واعتصم بفردانيته فَقَالَ سُبْحَانَ مُقَلِّب الْقُلُوب فَذكر نزاهته ومشيئته فَتعلق بهَا وتضرع إِلَيْهِ أَن لَا يقلبها إِلَى مَا لَا يَلِيق بِهِ وَلَا يحسن عِنْده فَكَانَ عُقبى نطق يُوسُف عليه السلام أَن تَركه حَتَّى هم بهَا وَكَاد الْأَمر أَن يكون ثمَّ تَدَارُكه برحمته الَّتِي بهَا نَالَ الاستخلاص وَصرف عَنهُ بالبرهان وَهُوَ جبرئيل فِي صُورَة يَعْقُوب عليه السلام وَهُوَ سَبَب من الْأَسْبَاب وَكَانَ عُقبى تعلق دَاوُد عليه السلام أَن تَركه حَتَّى هم بِمَا هم من شَأْن أوريا حَتَّى مضى الْأَمر إِلَى آخِره ثمَّ نبهه بالملكين وعاتبه وملأ الْمشرق وَالْمغْرب جزعا على مأتمه للمصيبة الَّتِي حلت بِهِ وللحرقات الَّتِي هَاجَتْ مِنْهُ وَصَارَت إنابته وتوبته حَدِيثا فِي الْعَالمين ليَكُون مدَدا للنواحين أَيَّام الدُّنْيَا

وَكَانَ عُقبى تعلق مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أَن ولي خلاصه من ذَلِك بِنَفسِهِ فَردا وَمنع زيدا من إتيانها وَأخذ بِقَلْبِه عَنْهَا حَتَّى طَلقهَا ثمَّ ولي تَزْوِيجهَا

ص: 30

مِنْهُ فَردا وَأَنْبَأَهُ من طَرِيق الْوَحْي أَن قد زَوَّجْنَاكهَا وَأخرج ذَلِك من تَدْبِير أهل الدُّنْيَا حَيْثُ تزوجوا بولِي ورضاء وشاهدان وَمهر فَهَذِهِ مرتبَة رفيعة لمُحَمد صلى الله عليه وسلم حِين أخرج تَزْوِيجه زَيْنَب من تَدْبيره لعامة من خلقه فزوج أمته من عَبده وَولي ذَلِك بكرمه وَرَحمته وَأشْهد الْوَحْي على ذَلِك وَجعل مرتبته صَدَاقا لَهَا مِنْهُ وَأعلم الْأمة مَحل هَذِه الْقُلُوب الثَّلَاثَة أَيْن كَانَت مِنْهُ وبروز قلب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم على سَائِر الْقُلُوب

ص: 31

-‌

‌ الأَصْل الْخَامِس عشر والمائتان

-

‌فِي أَن أَبَا مُوسَى أُوتِيَ مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد عليه السلام

عَن أنس رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (لقد أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد) فَبلغ ذَلِك أَبَا مُوسَى فَقَالَ يَا رَسُول الله لَو علمت أَنَّك تسمع لقراءتي لحبرته لَك تحبيرا

الرَّمْز وَالزمر بِمَعْنى وَاحِد إِلَّا أَن الرَّمْز بالشفتين وَالزمر بالحنجرة وَالرَّمْز بتحريك الشفتين فَإِذا كَانَ بِصَوْت فَهُوَ كَلَام لِأَنَّهُ يدْخل السّمع فيكلم الْقلب أَي يُؤثر فيصور مَعَاني ذَلِك الصَّوْت

ص: 32

الَّذِي نطق بِهِ فِي الصَّدْر وَإِذا كَانَ بِغَيْر صَوت فَهُوَ رمز لِأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى حُرُوف شَفَتَيْه فَيقوم مقَام الصَّوْت فيفهم مِنْهُ وَأما الرَّمْز فَإِذا خرج الصَّوْت من جو الصَّدْر إِلَى جو الرَّأْس حرك الحنجرة المركبة بَعْضهَا على بعض حَتَّى يرد الصَّوْت ويرجعه فَإِذا تردد صَارَت لَهُ صداء وَبِذَلِك الصداء يَتلون الصَّوْت فَيصير ألوانا فتلذذ بِهِ لِأَن بَين اللونين تدبيرا من تَدْبِير الله تَعَالَى ولطفا من لطفه ففصل بَين اللونين حَتَّى إِذا سَمِعت الأول ورد الثَّانِي ثمَّ عَاد الأول فورد على السّمع طريا ثمَّ عَاد الثَّانِي فورد طريا فَتلك الطراوة على السماع وجود اللَّذَّة وَلِهَذَا إِذا دَامَ اللَّوْن سمج وفقدت لذته فَأخْبر عليه السلام أَن هَذِه الْأَصْوَات الزَّائِدَة على أصوات الْعَامَّة من عَطاء رَبنَا وفضله وَإِنَّمَا يُؤْتِي من يَشَاء من رَحمته فَلَمَّا بلغ ذَلِك أَبَا مُوسَى رضي الله عنه عظمت منَّة الله تَعَالَى عَلَيْهِ أَن ركب فِي جِسْمه وخلقته شَيْئا لَهُ موقع عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من عطايا ربه فَقَالَ لَو علمت أَنَّك تسمع لقراءتي لحبرته تحبيرا

والتحبير تلوين الصَّوْت وَمِنْه برد حبرَة إِذا كَانَ ذَا ألوان وَقَالَ تَعَالَى {فِي رَوْضَة يحبرون}

وَخص أهل الْيَقِين بِهَذَا لِأَن النُّور يفتح سدد تِلْكَ الطّرق الَّتِي هِيَ مخارج الصَّوْت فيصفو

قَالَ عليه السلام (لم يبْعَث نَبِي إِلَّا حسن الصَّوْت حسن الصُّورَة)

وَأَبُو مُوسَى رضي الله عنه كَانَ من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى المشتعلة

ص: 33

قُلُوبهم بنوره سَلام الله عَلَيْهِم وَالَّذين لَا تملكهم نُفُوسهم بل أوفرهم حظا فَلم يكن تَأْخُذهُ محمدة الْخلق فتملكه فَلذَلِك أمكنه أَن يَقُول لَو علمت أَنَّك تستمع لقراءتي لحبرته تحبيرا يَبْتَغِي بذلك سرُور رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

قَالَ عليه السلام (المخلص من لَا يحب أَن يحمده النَّاس فِي شَيْء من عمله)

وأحق من ينْفق عَلَيْهِ صَوته الْمَمْنُون عَلَيْهِ بذلك هُوَ الرَّسُول عليه السلام لِأَن الصَّوْت الْحسن حلية الْقُرْآن

قَالَ عليه السلام لكل شَيْء حلية وزينة وَحلية الْقُرْآن الصَّوْت الْحسن

وَالدَّلِيل أَن أَبَا مُوسَى رضي الله عنه كَانَ من الْأَوْلِيَاء أَنه نزل قَوْله سبحانه وتعالى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}

قَالَ عليه السلام (نعم قوم هَذَا) وَأَشَارَ إِلَى أبي مُوسَى رضي الله عنه فَمَا لَبِثُوا إِلَّا يَسِيرا حَتَّى قدمت سفائن الْأَشْعَرِيين وقبائل الْيَمين من طَرِيق الْبَحْر وَكَانَ لَهُم بلَاء فِي الْإِسْلَام فِي زمن

ص: 34

رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَكَانَت عَامَّة فتوح الْعرَاق على يَدي قبائل الْيمن فِي زمن عمر رضي الله عنه

وَعَن زيد بن أسلم رضي الله عنه أَن الْأَشْعَرِيين أَبَا مُوسَى وَأَبا مَالك وَأَبا عَامر فِي نفر مِنْهُم لما هَاجرُوا قدمُوا على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي فلك وَقد أرملوا من الزَّاد فأرسلوا رجلا مِنْهُم إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يسْأَله فَلَمَّا انْتهى إِلَى بَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سَمعه يقْرَأ هَذِه الْآيَة {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} فَقَالَ الرجل مَا الأشعريون بِأَهْوَن الدَّوَابّ على الله فَرجع وَلم يدْخل على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لأَصْحَابه (أَبْشِرُوا أَتَاكُم الْغَوْث) وَلَا يظنون إِلَّا أَنه قد كلم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فوعده

فَبينا هم كَذَلِك إِذْ أَتَاهُم رجلَانِ يحْملَانِ قَصْعَة بَينهمَا مملوءا خبْزًا وَلَحْمًا فَأَكَلُوا مِنْهَا مَا شَاءُوا ثمَّ قَالَ بَعضهم لبَعض لَو أَنا رددنا هَذَا الطَّعَام إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي بِهِ حَاجته فَقَالُوا للرجلين اذْهَبَا بِهَذَا الطَّعَام إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَإِنَّا قد قضينا مِنْهُ حاجتنا ثمَّ إِنَّهُم أَتَوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا يَا رَسُول الله فَمَا رَأينَا طَعَاما أَكثر وَلَا أطيب من طَعَام أرْسلت بِهِ فَقَالَ يَا رَسُول الله فَمَا رَأينَا طَعَاما أَكثر وَلَا أطيب من طَعَام أرْسلت بِهِ فَقَالَ (مَا أرْسلت إِلَيْكُم شَيْئا) فأخبروه أَنهم أرْسلُوا صَاحبهمْ فَسَأَلَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأخْبرهُ مَا صنع وَمَا قَالَ لَهُم فَقَالَ صلى الله عليه وسلم ذَلِك شَيْء رزقكموه الله سُبْحَانَهُ

وَعَن أنس رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (يقدم عَلَيْكُم قوم هم أرق أَفْئِدَة مِنْكُم) فَقدم الأشعريون فيهم أَبُو مُوسَى

ص: 35

رَضِي الله عَنهُ فَجعلُوا يرتجزون وَيَقُولُونَ غَدا نلقى الْأَحِبَّة مُحَمَّدًا وَحزبه

وَقَوله (من مَزَامِير آل دَاوُد) فَإِن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ كَانَ دَاوُد عليه السلام يقْرَأ الزبُور بسبعين صَوتا يلون فِيهَا وَكَانَ يقْرَأ قِرَاءَة يطرب مِنْهَا المحموم وَكَانَ إِذا أَرَادَ أَن يبكي نَفسه لم تبْق دَابَّة فِي بر وَلَا بَحر إِلَّا سمعن لصوته

وَعَن عبيد بن عُمَيْر رضي الله عنه قَالَ كَانَ دَاوُد عليه السلام يَأْخُذ المعزفة فَيضْرب بهَا ثمَّ يقْرَأ عَلَيْهِم يُرِيد أَن يبكي بذلك ويبكي والمعزفة تهيج من مَعْدن السرُور مَا فِيهِ لَا من مَوضِع الْحزن فَدلَّ أَن هَذَا بكاء الشوق يبكي دَاوُد عليه السلام ويبكي المشتاقين لِأَن المشتاق الهائم من طول الْغَيْبَة عَمَّن اشتاق إِلَيْهِ يشْتَد حزنه وَفِي بَاطِن حزنه السرُور لِأَن الْحبّ أَصله وَالسُّرُور من الْحبّ والشوق من السرُور والحزن من أجل الشوق فَإِذا لَاقَى قلبه أصوات السرُور بكي.

ص: 36

-‌

‌ الأَصْل السَّادِس عشر والمائتان

-

‌فِي بئس العَبْد من ثَمَانِيَة أوجه والتحذير مِنْهَا

عَن أَسمَاء بنت عُمَيْس رضي الله عنها قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول (بئس العَبْد عبد تجبر واعتدى وَنسي الْجَبَّار الْأَعْلَى بئس العَبْد عبد سهى وَلها وَنسي المبدأ والمنتهى بئس العَبْد عبد بغى وعتا وَنسي الْمَقَابِر والبلى بئس العَبْد عبد يحتال بِالدّينِ وَالدُّنْيَا بئس العَبْد عبد يخْتل الدُّنْيَا بِالشُّبُهَاتِ بئس العَبْد عبد يذله الرعب عَن الْحق بئس العَبْد عبد طمع يَقُودهُ بئس العَبْد عبد هوى يضله)

قَوْله (تجبر واعتدي) احتشى من الشَّهَوَات وَعمل بهواه وجبر الْخلق على هَوَاهُ وَصَارَ ذَلِك لَهُ عَادَة واعتدى فِي جبريته وَنسي

ص: 37

الْجَبَّار الْأَعْلَى الَّذِي لَهُ الْجَبْر وَقد صغرت الدُّنْيَا بِمن فِيهَا والملكوت فِي ملك جبروته ودق

وَقَوله (سَهَا وَلها) سَهْوه بالأماني ولهوه بالشهوات وَنسي المبدأ من أَيْن خلق وَنسي الْمُنْتَهى إِلَى أَيْن يرد

وَقَوله (بغى وعتا) أَي طلب الْعُلُوّ كلما رأى من الدُّنْيَا دَرَجَة أحب أَن ينَال ذَلِك ويسلب غَيره ليتفرد بهَا دون نظرائه (وعتا) يبس قلبه فَإِن حرارة شَهْوَته انتشفت رُطُوبَة قلبه وَمَا ركب فِيهِ من الرأفة وَالرَّحْمَة الخلقية وَنسي أَن الْقَبْر متضمنه ومحتوى على أَرْكَانه ومبلي لَحْمه وَدَمه أكلا

وَقَوله (يحتال الدُّنْيَا بِالدّينِ) فَهُوَ متصنع مداهن همته فِيمَا يعرض لَهُ فِي العاجل من النهمة مَتى ينالها لبعد قلبه عَن الْآخِرَة مترصد للتوثب على الدُّنْيَا لينالها وليظفر بهَا منتهزا لفرصتها يتحلى بِظَاهِر الْإِيمَان ليطارد بِهِ الدُّنْيَا وصير معالم الْإِيمَان شبكة لحطامها وأوساخها يظْهر الْخُشُوع بالتماوت ليحظى عِنْد أهل الدُّنْيَا فينال من عزها وجاهها ويتحازن عِنْد لِقَاء الْخلق ويتنفس الصعداء يظْهر الاهتمام لدينِهِ والتحسر على إدبار أمره وأسفه على مَا يفوتهُ من الدُّنْيَا وَيمْتَنع من قبُول النزر الْيَسِير من الدُّنْيَا ليَكُون فِي هَيْئَة الزاهدين وَلِئَلَّا ينكسر جاهه عِنْد الْخلق وَيصير عِنْدهم فِي صُورَة الراغبين وَمَعَ ذَلِك قد هيأ على كل بَاب من منالات الدُّنْيَا بَابا من أَبْوَاب الدّين ليختله من أَيْديهم يظْهر الزهادة ليمال عَلَيْهِم الدُّنْيَا وَيظْهر الْعِبَادَة لتكفي مؤنه وَيظْهر الْوَرع ليؤتمن على الْأَمْوَال وَيظْهر الانقباض ليهاب وَيظْهر الشره على أهل الريب ليشار إِلَيْهِ بالأصابع وَيطْلب الرياسة ليحكم فِي الْخلق فِي مُعَامَلَته تحكم الْمُلُوك وَيطْلب الْعِزّ لنفاذ مشيآته فيهم

قَوْله (يخْتل الدُّنْيَا بِالشُّبُهَاتِ) فَهُوَ رجل فر من الْحَرَام ويغمص عِنْد الشُّبْهَة يُخَادع الله تَعَالَى بذلك وَيَقُول أفر من الْحَرَام

ص: 38

وَقَوله (يذله الرعب عَن الْحق) إِذا استقبله حق من حُقُوق الله تَعَالَى فَأَرَادَ أَن يقيمه جَاءَت النَّفس بِسوء ظَنّهَا فخوفته وُجُوه المهالك حَتَّى ترعبه فتذله قد علاهُ الرعب من سوء الظَّن فانكسر قلبه وانخلع جبنا

قَالَ عليه السلام (شَرّ مَا فِي الْإِنْسَان حرص هَالِع وَجبن خَالع)

وَقَوله (طمع يَقُودهُ) هُوَ أَن يتَمَنَّى أمرا من شهوات الدُّنْيَا فَلَا يزَال يتَمَنَّى ويفكر حَتَّى يجد طمعه فِي الْفِكر الَّذِي جال فِي صَدره فَإِذا وجد الْقلب طمعه قادته تِلْكَ الشَّهْوَة

وَقَوله (هوى يضله) هُوَ ترك الْحق فِي أُمُوره وَفِي سيره إِلَى الله تَعَالَى حَتَّى يَقع فِي الْبَاطِل والهوى والزيغ عَن سَوَاء السَّبِيل

ص: 39

-‌

‌ الأَصْل السَّابِع عشر والمائتان

-

‌فِي سر دعوات أبي ذَر رضي الله عنه

عَن عَليّ رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه أَتَاهُ جبرئيل عليه السلام فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْده إِذْ أقبل أَبُو ذَر فَنظر إِلَيْهِ جبرئيل فَقَالَ هُوَ أَبُو ذَر قلت يَا أَمِين الله وتعرفون أَنْتُم أَبَا ذَر فَقَالَ نعم وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ ان أَبَا ذَر أعرف فِي أهل السَّمَاء مِنْهُ فِي أهل الأَرْض وَإِنَّمَا ذَلِك لدعاء يَدْعُو بِهِ كل يَوْم مرَّتَيْنِ وَقد تعجبت الْمَلَائِكَة مِنْهُ فَادع بِهِ فسل عَن دُعَائِهِ فَقَالَ عليه السلام (يَا أَبَا ذَر دُعَاء تَدْعُو بِهِ كل يَوْم مرَّتَيْنِ) قَالَ نعم فدَاك أبي وَأمي مَا سمعته من بشر وَإِنَّمَا هُوَ عشرَة أحرف ألهمني رَبِّي إلهاما وَأَنا أَدْعُو بِهِ كل يَوْم مرَّتَيْنِ أستقبل الْقبْلَة فأسبح الله مَلِيًّا وَأهْلك مَلِيًّا وأحمده مَلِيًّا وأكبره مَلِيًّا ثمَّ أَدْعُو بِتِلْكَ الْعشْر الْكَلِمَات اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك إِيمَانًا دَائِما وَأَسْأَلك قلبا خَاشِعًا وَأَسْأَلك علما نَافِعًا وَأَسْأَلك يَقِينا صَادِقا وَأَسْأَلك دينا قيمًا وَأَسْأَلك الْعَافِيَة من

ص: 40

كل بلية وَأَسْأَلك تَمام الْعَافِيَة وَأَسْأَلك دوَام الْعَافِيَة وَأَسْأَلك الشُّكْر على الْعَافِيَة وَأَسْأَلك الْغنى عَن النَّاس

قَالَ جبرئيل يَا مُحَمَّد وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَا يَدْعُو أحد من أمتك هَذَا الدُّعَاء إِلَّا غفرت لَهُ ذنُوبه وَإِن كَانَت أَكثر من زبد الْبَحْر وَعدد تُرَاب الأَرْض وَلَا يلقاك أحد من أمتك وَفِي قلبه هَذَا الدُّعَاء إِلَّا اشتاقت إِلَيْهِ الْجنان واستغفر لَهُ الْمَكَان وَفتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة وَنَادَتْ الْمَلَائِكَة يَا ولي الله أَدخل من أَي بَاب شِئْت

(إِيمَانًا دَائِما) أَن يَدُوم لَهُ توحيده حَتَّى يخْتم لَهُ بذلك فَلَا يسلبه فَيلقى ربه بإيمانه وَأَن يكون لَهُ يَقِين يصير أُمُوره مُعَاينَة وَلَا يَنْقَطِع ذكر الله تَعَالَى عَن قلبه على كل حَال وَيصير قلبه خَالِيا عَن ذكر كل شَيْء وينفرد للفرد الْوَاحِد فيأنس بِهِ ويطمئن إِلَى حكمه وَإِذا غلبته شَهْوَة أَو رَغْبَة أَو رهبة أَو غضبة فملكته نَفسه صَار إيمَانه فِي قلبه كشمس قد انكسفت فَذهب ضوؤها فَسَأَلَ إِيمَانًا دَائِما أَي يَدُوم لَهُ شمسه فَلَا تنكسف حَتَّى يكون صَدره مستنيرا بِنور الْيَقِين فِي كل أَمر

وَمِنْه قَول أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه حِين بلغه أَن فلَانا أعتق مائَة رَقَبَة إِيمَان ملزوم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَلِسَانك رطب بِذكر الله تَعَالَى أفضل من ذَلِك

وَقَالَ ابْن رَوَاحَة رضي الله عنه إِذا دَامَ الْإِيمَان على الْقلب دَامَ الذّكر

وَمن هَهُنَا قَالَ معَاذ رضي الله عنه تعال نؤمن سَاعَة

ص: 41

وَقَالَ عليه السلام أَشد الْأَعْمَال ذكر الله تَعَالَى على كل حَال

(وَقَلْبًا خَاشِعًا) مَاتَت شهواته فذلت النَّفس لله تَعَالَى وخشع الْقلب مِمَّا طالع من جلال الله تَعَالَى وعظمته

(وعلما نَافِعًا) هُوَ الَّذِي تمكن فِي الصَّدْر وتصور بِالنورِ الَّذِي أشرق فِي الصَّدْر فتصور الْأُمُور حسنها وسيئها فَيَأْتِي حسنها ويجتنب سيئها فَذَلِك الْعلم النافع من نور الْقلب وَالْعلم الَّذِي تعلمه فَذَلِك علم اللِّسَان إِنَّمَا هُوَ شَيْء قد استودع الْحِفْظ والشهوة غالبة عَلَيْهِ قد أحاطت وأذهبت بظلمتها ضوءه

(ويقينا صَادِقا) يَنْفِي الشَّك وَلَا يغلب الشَّهْوَة وَهُوَ يَقِين التَّوْحِيد ويقين آخر نور مشرق للصدر غَالب للشهوات صَارَت لَهُ أُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأمر الملكوت مُعَاينَة قد ورث قلبه الخشية والمحبة والهيبة والتعظيم لله عز وجل

(ودينا قيمًا) أَي الخضوع لله تَعَالَى بأَمْره وَنَهْيه بِأَن يكون مسيره إِلَيْهِ فِي الشَّرِيعَة على سَبِيل الاسْتقَامَة لَا زيغ فِيهِ وَلَا بِدعَة فَيحل مَا أحله وَيحرم مَا حرمه وَيُؤَدِّي فَرَائِضه ويجتنب مساخطه قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} الْآيَة وَأَعلاهُ أَن يدين لله تَعَالَى حَتَّى لَا يلْتَفت إِلَى أحد سواهُ فَيكون هُوَ ملجأه ومفزعه

(والعافية من كل بلية) بلية تَعْجِيل عُقُوبَة العَبْد مثل مَا نزل بِيُوسُف

ص: 42

عَلَيْهِ السَّلَام من لبثه فِي السجْن بالهم وبلية امتحان مثل مَا نزل بِأَيُّوب عليه السلام قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا}

وبلية كَرَامَة مثل مَا نزل بِيَحْيَى بن زَكَرِيَّا الَّذِي لم يعْمل خَطِيئَة قطّ وَلم يهم بهَا فذبح ذبحا وأهدي رَأسه إِلَى بغي من بَغَايَا بني إِسْرَائِيل فَسَأَلَ الْعَافِيَة من ذَلِك كُله

والعافية أَن لَا يكله إِلَى نَفسه وَلَا يَخْذُلهُ بل يكلؤه ويرعاه فِي كل هَذِه الْوُجُوه

(ودوام الْعَافِيَة) أَن تدوم لَهُ فَلَا تَنْقَطِع وَتَمام الْعَافِيَة أَن تكون عَافِيَة لَا شوب فِيهَا وَالشُّكْر على الْعَافِيَة فَإِن بِهِ ترتبط النِّعْمَة ويجلب الْمَزِيد والغنى عَن النَّاس بالاستغناء بِاللَّه تَعَالَى وَفِيه الْخُرُوج من الرّقّ إِلَى الْحُرِّيَّة

ص: 43

-‌

‌ الأَصْل الثَّامِن عشر والمائتان

-

‌فِي أَن الْعين حق

عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (الْعين حق وَلَو كَانَ شَيْء سَابِقًا الْقدر لسبقه الْعين وَإِذا استغسلتم فَاغْسِلُوا)

قَالَ أَبُو عبد الله رحمه الله كَانَ الله وَلَا شَيْء ثمَّ أبدا ملكه وربوبيته ثمَّ خلق الْخلق لإِظْهَار ملكه ليدينوا لَهُ عبودة وَلَا يشغلوا بالأشياء عَن صانع الْأَشْيَاء فيلهيهم عَنهُ ويفتتنوا بهم فَإِذا أعجب وَاحِد بِشَيْء من خلقه غير ذَلِك الْحَال ليفسد إعجابه وَكَانَ هَذَا حق من فعله لِأَن شَرطه حِين خلق الْخلق أَن ينتظروا إِلَى صنعه ويرونه مَحْمُودًا

قَوْله (لَو كَانَ شَيْء سَابِقًا الْقدر لسبقته الْعين) فَإِن الله تَعَالَى

ص: 44

قدر الْمَقَادِير قبل الْخلق بِخَمْسِينَ ألف سنة فَلَيْسَ شَيْء من الْخلق سبق الْقدر لأَنهم خلقُوا بعد الْقدر وَإِنَّمَا قدر الْخلق ليخلق وَيظْهر ملكه وربوبيته فيحمدوه ويعبدوه ويضيفوا الْأَشْيَاء إِلَى وَليهَا وصانعها كَمَا رُوِيَ أَن الله تَعَالَى قَالَ (مَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس لحَاجَة كَانَت بِي إِلَيْهِ وَلَكِن لأبين بِهِ قدرتي ولأعرف بِهِ الناظرين نَفسِي ولينظروا فِي ملكي وتدبير حكمتي وليدين الْخَلَائق كلهَا لعزتي ويسبح الْخلق بحمدي ولتعنو الْوُجُوه كلهَا لوجهي)

فَمن غفل عَن الله تَعَالَى وَنظر إِلَى الْأَشْيَاء بِعَين الْغَفْلَة فيعجب بهَا وَتصير فتْنَة عَلَيْهِ وَمن شَرط الله تَعَالَى أَن يعتبروا وعبروا عَن الْأَشْيَاء إِلَى خَالِقهَا فَإِذا لم يعتبروا وبقوا مَعَ الْأَشْيَاء عجبا وفتنة فسد ذَلِك الشَّيْء عَلَيْهِم كي ينبئهم ويعير عَلَيْهِم عجبهم وَقد تقدم شَرط الْقدر على الْخلق فَلَو كَانَ شَيْء سَابق الْقدر لسبقته الْعين لقُرْبه وجواره لَهُ وَلَا يسْبقهُ لِأَن الْقدر قبل أَن يخلق الْخلق

وَقَوله (فَإِذا استغسلتم فَاغْسِلُوا) هَكَذَا جرت السّنة أَن العاين يتَوَضَّأ أَو يغْتَسل ليغسل بِتِلْكَ الغسالة هَذَا المعان فيخف مَا بِهِ وينحل من ثقله كَمَا ينْحل صَاحب الأخذة من سحره

فَإِن أَخذه المعان من قبل الْحق فَإِن الْحق عز وجل يَقْتَضِي أَن ينسبوا الْأَشْيَاء إِلَى وَليهَا ومالكها وَلَا يرضى أَن تُضَاف إِلَى غير خَالِقهَا فَإِذا أخذت الْأَشْيَاء عَن الْأَسْبَاب فِي حَالَة الْغَفْلَة عَن الله تَعَالَى وَالشّرط النّظر إِلَى صنع الله تَعَالَى ولطفه فِي صنعه وبره بِالْعَبدِ وَعطفه عَلَيْهِ فَاقْتضى الْحق تَعَالَى شكره لوَلِيّ الْخلق فَإِذا نظرُوا إِلَى الْأَشْيَاء فَأُعْجِبُوا بهَا نَاشد الْحق وَليهَا فِي إِفْسَاد مَا بِهِ أعجبوا لِأَن تِلْكَ النِّعْمَة

ص: 45

حدثت من الْملك من خَزَائِن الْمِنَّة على أَيدي لطفه فغيرها الْعباد بعمى النُّفُوس عَن جِهَتهَا فَغير الله تَعَالَى مَا بهم قَالَ الله تَعَالَى {ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} الْآيَة

فَغير الله تَعَالَى الْحَال وأفسد عَلَيْهَا إعْجَابهَا رَحْمَة للنَّاظِر والمنظور إِلَيْهِ ليَكُون للنَّاظِر عِبْرَة وللمنظور إِلَيْهِ خُرُوجًا من أَن يكون سَببا لما كره الله تَعَالَى من فتْنَة الْعباد من دونه فَأمر هَذَا العاين أَن يغْتَسل فَإِن الغسالة مرفوضة تعافها النَّفس وَجعل الله الشِّفَاء فِيمَا رفضت نَفسهَا وعافته إِذْ لَيْسَ شَيْء فِي الأَرْض مِمَّا يلائم النَّفس إِلَّا وَلها فِيهِ شَهْوَة وإليها نزوع فَإِذا استشفي هَذَا المعان بِمَا قد رفضت نفس العاين وَلَيْسَ لَهَا فِيهِ شَهْوَة وَلَا إِرَادَة تخلصت من آفَة النَّفس تقربا إِلَى الله تَعَالَى بِخِلَافِهَا وَالرَّدّ عَلَيْهَا تأميلا للشفاء وَحسن ظَنّه بِهِ فحقق الله تَعَالَى أمله ويفي بِالظَّنِّ فيعافيه وَصَارَت النَّفس مزجورة مذمومة بِفِعْلِهَا

وَعَن جَابر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (أَكثر من يَمُوت من أمتِي بِالنَّفسِ بعد كِتَابه وقضائه) يَعْنِي بِالْعينِ

وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ كَانَ عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَتِيم مَرِيض فَسَأَلَ عَنهُ يَوْمًا فَقَالُوا إِنَّه لمثبت يَا رَسُول الله قَالَ (أَفلا استرقيتم فَإِن ثلث منايا أمتِي من الْعين) وَإِنَّمَا صَار كَذَلِك لِأَن هَذِه الْأمة فضلت بِالْيَقِينِ على سَائِر الْأُمَم فحجبوا يقينهم بالشهوات فعوقبوا

ص: 46

بِآفَة رَحْمَة من الله لَهُم فَإِنَّهُ لما فَضلهمْ بِالْيَقِينِ وَهُوَ التأييد الْأَعْظَم لم يرض مِنْهُم بِأَن ينْظرُوا إِلَى الْأَشْيَاء بِعَين الْغَفْلَة وتتعطل منَّة الله تَعَالَى عَلَيْهِم وتفضيله إيَّاهُم وَالله أعلم

ص: 47

-‌

‌ الأَصْل التَّاسِع عشر والمائتان

-

‌فِي الِاسْتِعَاذَة بِاللَّه تَعَالَى

عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من استعاذكم بِاللَّه فأعيذوه وَمن سألكم بِاللَّه فَأَعْطوهُ وَمن استجاركم بِاللَّه فأجيروه وَمن أَتَى إِلَيْكُم مَعْرُوفا فكافئوه فَإِن لم تَجدوا فَادعوا لَهُ حَتَّى تعلمُوا أَن قد كافأتموه)

الِاسْتِعَاذَة بِاللَّه تَعَالَى دُخُول فِي مأمنه وحريمه وَمن التجأ إِلَى ملك فِي الدُّنْيَا هاب طَالبه أَن يتَكَلَّف عَنهُ أَذَى وكف عَنهُ إعظاما لمن التجأ إِلَيْهِ وَلم يرض الْملك أَن يتَكَلَّف الطَّالِب مِنْهُ بعد ذَلِك مَكْرُوها وَإِن خذله عد ذَلِك منقصة فَكيف مِمَّن دخل فِي عياذ الله وجواره

وَقَوله (من سألكم بِاللَّه فَأَعْطوهُ) فالسؤال بِاللَّه أَن يسْأَل ربه أَن يسْأَل هَذِه الْحَاجة لَهُ فَكَأَنَّهُ صير الرب عز وجل سَائِلًا بَينه وَبَين صَاحبه إِذا سَأَلَ بِحَق وَالله تَعَالَى لَا يرد وَإِذا سَأَلَ بباطل فَإِنَّهُ لن يسْأَل بِاللَّه تَعَالَى وَإِنَّمَا يسْأَل بالشيطان

ص: 48

سَأَلَ رجل عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه شَيْئا فَلم يُعْطه فَقَالَ أَسأَلك بِوَجْه الله تَعَالَى فَقَالَ لَهُ كذبت لَيْسَ بِوَجْه الله سَأَلتنِي إِنَّمَا وَجه الله الْحق وَلَكِن سَأَلت بِوَجْهِك الْخلق

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (من سألكم بِاللَّه فَأَعْطوهُ وَإِن شِئْتُم فَدَعوهُ)

قَالَ معَاذ رضي الله عنه فَإِن سَأَلَ وَهُوَ مُسْتَحقّ فَإِن لم تعطوه فَأنْتم ظلمَة وَإِن عَرَفْتُمْ أَنه غير مُسْتَحقّ أَو اشْتبهَ عَلَيْكُم فَلم تعرفوا أَنه سَأَلَ بِحَق فَيجوز أَن لَا تعطوه وَأما الْمَعْرُوف فَإِنَّهُ يُكَافِئ فَإِن لم يجد الْمُكَافَأَة فالدعاء أكبر من الْمُكَافَأَة بالشَّيْء لِأَن الَّذِي أعطَاهُ عوضا من الدُّنْيَا وَهَذَا قد كافأه بِالْمَسْأَلَة من الله تَعَالَى نوالا ونوال العَبْد يدق فِي جنب نوال الله تَعَالَى وَالْعَبْد إِذا صنع إِلَيْهِ مَعْرُوف فَلم يجد مَا يُكَافِئ اشْتَدَّ عَلَيْهِ لكرم طبعه وَكَونه عَارِفًا بالصنائع شاكرا لَهُ فَأَثْقَله مَعْرُوفَة فأوعزته الْحَاجة من الْخَلَائق من أثقال مَعْرُوفَة فَفَزعَ إِلَى الله تَعَالَى وَسَأَلَهُ أَن يُكَافِئهُ عَنهُ وَهُوَ يحب هَذَا الْخلق من الْمُؤمن فَإِنَّهُ مَحْض الشُّكْر فقمن أَن يستجيب لَهُ

ص: 49

-‌

‌ الأَصْل الْعشْرُونَ والمائتان

-

‌فِي أَن الْقلب ملك والأركان عبيد

عَن النُّعْمَان بن بشير رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله أَلا وَهِي الْقلب

الْقلب ملك والأركان عبيد وَإِنَّمَا يعْمل كل ركن فِي معمله بِمَشِيئَة الْقلب وَأمره وَالْقلب عَن مَشِيئَة الله تَعَالَى شَاءَ لم يكله إِلَى أحد سواهُ وَلم يطلع عَلَيْهِ أحدا يضع فِيهِ مَا يَشَاء وَيرْفَع مِنْهُ مَا شَاءَ والنور والتوحيد فِيهِ والطاعات مِنْهُ وفكر ذَلِك كُله فِي الصَّدْر وَعنهُ تصدر الْأُمُور وَلذَلِك سمي صَدرا وَالْقلب لتقلبه وَالْقلب مَعْدن النُّور ومستقر التَّوْحِيد ومنظر الرب سبحانه وتعالى والصدر مَوضِع التَّدْبِير والفكر وَالنَّفس مَعْدن الشَّهَوَات فَإِذا وجدت النَّفس طَرِيقا إِلَى الْقلب مرت بشهواتها إِلَيْهِ فدنست الْإِيمَان

ص: 50

قَالَ عليه السلام (الْغَضَب يفْسد الْإِيمَان كَمَا يفْسد الصَّبْر الْعَسَل)

وَقَالَ أَيْضا عليه السلام (الْإِيمَان حُلْو نزه فنزهوه ونزاهته أَن تفطم نَفسك عَن الشَّهَوَات حَتَّى لَا يصل إِلَى قَلْبك مِنْهُ بِمَنْزِلَة مَاء صَاف جرى إِلَيْهِ مَاء كدر فَذهب بصفائه أَو عسل ماذي وصل إِلَيْهِ الصَّبْر فَغَيره عَن حَالَته لِأَنَّهُ إِذا اسْتَقر فِي قلب الْمُؤمن تَوْحِيد رب كريم ودود ظهر لَهُ وداده وَكَرمه وبره فقد وجد حلاوة التَّوْحِيد ونزاهته فَإِذا جَاءَت شهوات النَّفس سَبِيلا إِلَى الْقلب فخالطته وكدرته ومازجت حلاوته فدنست وكدرت فَأَي خسران أعظم من هَذَا وَمن خلع عَلَيْهِ ملك خير خلعه فِي خزانته فدنسها بقلة التوقي لَهَا عَن مَوَاضِع الدنس أَو لم يكن محقوقا أَن يسلب فيهان أم لَيْسَ على حَيَاء من فعله فِي الْيَوْم الَّذِي دخل على الْملك بِتِلْكَ الخلعة فَمَا ظَنك بِمن خلع الله تَعَالَى عَلَيْهِ التَّوْحِيد فدنسه فَانْظُر مَاذَا حل بِهِ إِذا دخل عَلَيْهِ وَالْقلب مثله مثل ملك لَهُ عبيد لَهُم هَيْئَة وشارة ومراكب وزي الْأَغْنِيَاء وَالْملك فَقير معدم لَيْسَ لَهُ مَادَّة وَلَا كنز فَإِذا نظر إِلَيْهِ الْعَاقِل يَقُول لَيْسَ لهَذَا الْأَمر نظام وَلَا لَهُ دوَام فَإِنَّهُ معدم

فَهَذِهِ الهيئآت الَّتِي أَرَاهَا لَا تدوم وسيحتاج إِلَى مثلهَا وَلَيْسَ لَهُ مدد وَإِن برز لَهُ مناوئ يكون زَوَال ملكه وضياع هَؤُلَاءِ العبيد وَنظر أَحْوَالهم وَإِن كَانَ الْملك ذَا كنوز ومادة وَالْعَبِيد فِي هَيْئَة بذة يَقُول فِي نَفسه لَهُ بيُوت أَمْوَال من الْكُنُوز فَفِي سَاعَة وَاحِدَة يصيرهم فُرْسَانًا بِجَمِيعِ آلتهم ويكسوهم من الْكسْوَة ويعطيهم من الْعدة مَا يعرفهُمْ لغناه فَكَذَلِك من كَانَ قلبه بَين يَدي الله تَعَالَى فِي غناهُ وسلطانه وَقد احتظى

ص: 51

مِنْهُ الْحَظ الأوفى من جَلَاله وعظمته وكبريائه ومجده فَهُوَ فِي تِلْكَ الْأَنْوَار مشرق صَدره بهَا

فَإِذا رأى أَرْكَانه معطلة من أَعمال الْبر لم يحيره ذَلِك لِأَن الْملك غَنِي فعري الأرقام لَا يضرّهُ إِذْ لَا يتْرك فرضا وَإِنَّمَا يتْرك فضلا وَلَا تستبين الْفَضَائِل فِي جنب مَا تفضل الله تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ من مَعْرفَته الَّتِي برز بهَا على الْخلق وَقد عرف الله تَعَالَى معرفَة وثق بِهِ فِي جَمِيع أَحْوَاله وفوض أُمُوره إِلَيْهِ

فَانْظُر إِلَى تَدْبيره مراقبا لَهُ قَابلا لأحكامه قنعا بِالَّذِي يُؤْتى من دُنْيَاهُ مؤتمرا بأَمْره مطمئنا بِهِ لَيست لَهُ همة وَلَا نهمة وَلَا قَرَار إِلَّا الْخَلَاص من هَذَا السجْن الَّذِي أَخذ بِنَفسِهِ قد ضَاعَت عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَصَارَت سجنا لطول احتباسه لِأَنَّهُ ظمآن إِلَى لِقَاء مَوْلَاهُ

وَأي شَيْء ألذ من لِقَاء العَبْد سَيّده الَّذِي كَانَ أمله من الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَأَما الْإِبَاق من العبيد الَّذين جهلوا سيدهم لَا يحب لِقَاء سَيّده وَهل شَيْء أثقل عَلَيْهِ من لِقَائِه لأَنهم استطابوا الْحُرِّيَّة وتعجلوها بتقلبهم فِي دنياهم وشهواتهم وهربوا من العبودة فهم وَإِن كَانُوا قد عرفوه وَلم يشكوا فِيهِ بعد أَن أيقنوا وعلموه علم اللِّسَان إِلَّا أَنهم جهال بِهِ لم ينكروه لِأَنَّهُ لم يتراء على قُلُوبهم نور جَلَاله وَلَا حل بقلوبهم عَظمته وَلَا تجلل عَلَيْهَا كبرياؤه وَلَا طالعت مجده وسلطانه وَلَا عَايَنت منته وإحسانه وَلَا فهمت تَدْبيره ولطفه فِي الْأُمُور وَلَا انْتَبَهت لربوبيته وَلَا شربت بالكأس الأوفى من محبته وَلَا ظمئت من الشوق إِلَيْهِ وَلَا ولهت وَله العكف بِبَابِهِ وَلَا تفسحت فِي ساحات توحيده متأنسا بجماله وَلَا انْفَرَدت لأحديته وَلَا حييت بحياته وَلَا خلصت لوحدانيته وَلَا طابت بنسيم قربه وَلَا انشرحت صُدُورهمْ بذلك من قُلُوبهم بل علمُوا علما مُجملا اقتضاهم الْإِيمَان الْإِقْرَار بذلك قولا

ص: 52

والاعتقاد لَهُ قلبا وصدورهم غير منشرحة بباطن علمه فَمن جهل هَذَا اكْتفى بهيئة العبيد وَالْملك فَقير مَعْدُوم

والعاقل ينظر إِلَى صلَاته وصيامه وحجه وجهاده وأعمال بره وَكَأَنَّهُ نظر إِلَى أَرْكَان وجوارح كَهَيئَةِ العبيد عَلَيْهِم هَيْئَة مُرْتَفعَة ومراكب سَرِيَّة وأسلحة وافرة وَإِذا نظر إِلَى بَاطِن أحدهم وجد خوف الرزق على قلبه كالجبال كَاد يَمُوت من همه وَخَوف الْخلق وَسُقُوط مَنْزِلَته عَن قُلُوبهم وَوجد فيهم الْفَرح بمدح الْخلق لَهُم وَالثنَاء عَلَيْهِم وَحب الرياسة وَطلب الْعُلُوّ والتبصبص للأغنياء والاستحقار للْفُقَرَاء والأنفة مِنْهُم والاستكبار فِي مَوضِع الْحق والحقد على أَخِيه الْمُسلم والعداوة والبغضة وَترك الْحق لمخافة ذل ينزل بِهِ وَالْقَوْل بالهوى وَالرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا والحرص عَلَيْهَا وَالشح وَالْبخل وَطول الأمل والأشر والبطر والغل والغش والمباهاة والرياء والسمعة والاشتغال بعيوب الْخلق والمداهنة والإعجاب بِالنَّفسِ والتزين للمخلوقين والصلف والتجبر وغرة النَّفس وَالْقَسْوَة والفظاظة وَغلظ الْقلب والغفلة وَسُوء الْخلق وضيق الصَّدْر والفرح بالدنيا والحزن على فَوتهَا وَترك القناعة والمراء فِي الْكَلَام والجفاء والطيش والعجلة والحدة وَقلة الرَّحْمَة وَقلة الْحيَاء والاتكال على الطَّاعَات وفضول الْكَلَام والشهوة الْخفية وَطلب الْعِزّ واتخاذ الأخوان فِي الْعَلَانِيَة على عَدَاوَة فِي السِّرّ والتماس المغالبة والانتصار للنَّفس والتعظيم للأغنياء من أجل غناهم والاستهانة بالفقراء من أجل فَقرهمْ والغيبة والحسد والنميمة والجور والعدوان

فَهَذِهِ كلهَا مزابل قد انضمت عَلَيْهَا طويات صَدره وَظَاهره الْعِبَادَة وأنواع أَعمال الْبر فَإِذا انْكَشَفَ الغطاء عَن هَذِه الْأَشْيَاء بَين يَدي الله تَعَالَى كَانَ كمزبلة فِيهَا أَنْوَاع الأقذار غشيت بالديباج فَلَمَّا رفع عَنهُ الغطاء أخذت بالأنف من نتنها وَأعْرض الناظرون عَن قبحها فَهَذَا المتصنع الْمرَائِي عبد شهواته لم يقدر أَن يخلص من عمله وَنَفسه

ص: 53

متقدة بِنَار الشَّهْوَة وَقَلبه مشحون بهوى نَفسه وَلَو اجْتهد فِي إخلاص الصَّلَاة وَالصَّوْم فَهُوَ مُحْتَاج إِلَى أَن يخلص فِي مشيته وركوبه ونزوله وَأكله وشربه ومنطقه وصمته وَأَخذه وإعطائه وَجَمِيع معاملاته وَلَو أخْلص هَذَا كُله أَلَيْسَ هَذِه الْمَزَابِل مَعَه فَهَذِهِ كلهَا عُيُوب وَالْعَبْد إِذا كثرت عيوبه انحطت قِيمَته

والعاقل لَا يغره مَا رأى من ظَاهر أَحْوَاله إِذا اطلع على بَاطِنه فَوَجَدَهُ كَمَا وَصفنَا كمن رأى ملكا لَهُ عبيد فِي زِيّ وهيئة ومراكب وَالْملك بِنَفسِهِ لَيست لَهُ مَادَّة من الْأَمْوَال وَإِذا رأى عبدا أَرْكَانه معطلة من أَعمال الْبر وَقَلبه ملك من الْمُلُوك مَمْلُوءَة خزائنه أَمْوَالًا وبيوته جَوَاهِر وَالْأَمْوَال غناهُ بِاللَّه تَعَالَى وَأي غَنِي أغْنى مِمَّن اسْتغنى بِاللَّه تَعَالَى إِذْ الْغنى بالأموال مُنْقَطع والغنى بِاللَّه تَعَالَى دَائِم إِذْ هُوَ حَيّ لَا يَزُول وَأما الْجَوَاهِر فحكمة صِفَاته وَقد عجز عَن دركها الْعَامَّة وَإِنَّمَا خص بهَا الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام أهل خدمَة الله تَعَالَى فَإِنَّهُ قد انْفَرد بالفرد الْوَاحِد واحتظي من جَلَاله وعظمته وكبريائه ومجده وجماله فتواضع لَهُ وخشعت جوارحه لخشوع قلبه وَعظم أَمر الله وَحفظ حُدُوده وراقب تَدْبيره إعظاما لجلاله وهيبته وتذللا لربوبيته فَعنده الرأفة بالخلق وَالرَّحْمَة لَهُم واللين والرأفة والحلم وسعة الصَّدْر وتعظيم أَمر الله تَعَالَى وَالْإِخْلَاص لَهُ وحراسة الْقلب ودوام الْفِكر والقناعة والرضى والإنابة والشوق إِلَيْهِ والتبرم بِالْحَيَاةِ واليقظة فِي الْأُمُور والمعاينة لَهَا والرزانة والصيانة والشفقة والعطف والتأني وَالْوَقار والسكون وَالذكر الدَّائِم والرهبة وَالرَّغْبَة وَالْخَوْف والرجاء والأنس بِاللَّه تَعَالَى وَالسُّرُور بِهِ والسخاء والجود والبشاشة والنصيحة وسلامة الصَّدْر صَار كمن رأى عبدا فِي هَيْئَة رثَّة وَالْملك صَاحب كنوز وجواهر فَعلم هَذَا الْعَاقِل أَن هَذِه الْهَيْئَة لَا تضر عبيده لِأَنَّهُ مَتى عرض لَهُم أَمر فتح لَهُم بَابا من خزائنه فعرفهم فَكَذَا هَذَا الْقلب قد امْتَلَأَ خيرا

ص: 54

وامتلأ جوارحه من هَذَا الْخَيْر فلساعة من عمره بِهَذِهِ الصّفة أفضل من أَعمال الثقلَيْن دهرا وَإِذا تعطلت أَرْكَانه عَن كثير من أَعمال الْبر فَهُوَ فِي الْخَيْر كُله دَائِم عَلَيْهِ بدوام قلبه على ذَلِك وَقَلِيل من عمله أزكى من عمل ذَلِك المخلط سِنِين كَثِيرَة

يرْوى أَن رجلا جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رأى مَا بِهِ من الضّر قَالَ (مَا بلغ بك مَا أرى) قَالَ بِأبي أَنْت وَأمي السقم وَالْحَاجة قَالَ لَهُ (أَفلا أعلمك كَلِمَات إِذا أَنْت قلتهن أذهب الله عز وجل عَنْك مَا بك) قَالَ بِأبي أَنْت وَأمي مَا أحب أَن لي مِمَّا ترى بِي وقْعَة بدر وَأحد فَقَالَ عليه السلام (يَا أَخا الْأَنْصَار وَأَيْنَ تقع وقْعَة بدر وَأحد من مَوضِع الْفَقِير القانع) وَشهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بِالْجنَّةِ فَلم ير لَهُ صَوْم وَلَا صَلَاة فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ إِنِّي أَبيت وَلَيْسَ لأحد فِي قلبِي غل وَلَو أَعْطَيْت الدُّنْيَا مَا فرحت بهَا وَلَو أخذت مني لم أَحْزَن عَلَيْهَا

وَعَن أبي بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ رضي الله عنه قَالَ إِن أَبَا بكر رضي الله عنه لم يفضل النَّاس بِكَثْرَة صَلَاة وَلَا صَوْم وَإِنَّمَا فَضلهمْ بِشَيْء كَانَ فِي قلبه

وَعَن الْحسن رضي الله عنه قَالَ إِن عمر لم يغلب النَّاس بِالْأَعْمَالِ إِنَّمَا غلبهم بِالصبرِ وَالْيَقِين والزهد

وَقَالَ عبد الله رضي الله عنه أَنْتُم الْيَوْم أَكثر صَلَاة وصوما وجهادا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهم كَانُوا خيرا مِنْكُم قَالُوا مِم ذَاك قَالَ كَانُوا أزهد فِي الدُّنْيَا وأرغب فِي الْآخِرَة

وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 55

فِيمَا يَحْكِي عَن ربه عز وجل أَنه قَالَ يَا مُوسَى إِنَّه لن يتصنع المتصنعون بِمثل الزّهْد فِي الدُّنْيَا وَلنْ يتَقرَّب المتقربون بِمثل الْوَرع عَمَّا حرمت عَلَيْهِم وَلم يعبدني العابدون بِمثل الْبكاء من خَشْيَتِي فَأَما الزاهدون فأبيحهم الْجنَّة حَتَّى يتبوؤا مِنْهَا حَيْثُ شَاءُوا وَأما الورعون عَمَّا حرمت عَلَيْهِم فَإِنَّهُ لَيْسَ من عبد يلقاني يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا ناقشته الْحساب وفتشته عَمَّا فِي يَدَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ من الورعين فَإِنِّي أَجلهم وَأكْرمهمْ وأدخلهم الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب وَأما البكاءون من خَشْيَتِي فَلهم الرفيق الْأَعْلَى لَا يشركُونَ فِيهِ

وَقَالَ عليه السلام (الْوَرع سيد الْعَمَل)

وَمن لم يكن لَهُ ورع يردهُ عَن مَعْصِيّة الله تَعَالَى إِذا خلا بهَا لم يعبأ الله بِسَائِر عمله شَيْئا فَذَلِك مَخَافَة الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة والاقتصاد فِي الْفقر والغنى والصدق عِنْد الرضى والسخط أَلا وَإِن الْمُؤمن حَاكم لنَفسِهِ يرضى للنَّاس مَا يرضى لنَفسِهِ وَهَذِه الْخِصَال لَا تكون إِلَّا لأهل الْقُلُوب

وَقَالَ أنس رضي الله عنه مَا أعرف الْيَوْم فِيكُم شَيْئا كنت عهدته على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لبس قَوْلكُم لَا إِلَه إِلَّا الله

فصلاح الْقلب صَلَاح الْجَسَد وعمارته عمَارَة دينه

قَالَ عليه السلام (من كَانَ لَهُ قلب صَالح تَحَنن الله عَلَيْهِ)

وَقَالَ عليه السلام (بالقلوب الصَّالِحَة يعمر الله الأَرْض وَبهَا يخرب الأَرْض إِذا كَانَت على غير ذَلِك)

ص: 56

-‌

‌ الأَصْل الْحَادِي وَالْعشْرُونَ والمائتان

-

‌فِي أَن الوسوسة من برازخ الْإِيمَان

عَن أنس رضي الله عنه أَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم شكا إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ من الوسوسة فَقَالَ (كَيفَ أَنْتُم فِي ربكُم) قَالُوا لَا نشك فِي رَبنَا وَلِأَن يَقع أَحَدنَا من السَّمَاء فيتقطع أحب إِلَيْهِ من أَن يتَكَلَّم بِمَا يجد فِي صَدره فَقَالَ عليه السلام (الله أكبر ذَاك مَحْض الْإِيمَان)

وَكَانَ ثَابت يَقُول اللَّهُمَّ أَكثر لنا مِنْهُ

قَالَ أَبُو عبد الله أحكم الله تَعَالَى الْإِيمَان فِي قُلُوب من اجتباهم وهداهم وأبرز أَسْمَاءَهُم بالسعادة فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وأخرجهم يَوْم الْمِيثَاق فِي أَصْحَاب الْيَمين وفزع الشَّيْطَان من أَن يوسوس إِلَيْهِم فِي توحيدهم مَا يُبطلهُ عَنْهُم وَكَيف يجوز ذَلِك وَقد أَخذ الله بِقَلْبِه وناصيته وَفِي قلبه نوره فَكيف يقوم الْعَدو لنوره حَتَّى يطفئه إِذْ لَيْسَ أحد ينشرح صَدره بِاللَّه تَعَالَى وبالنطق بِلَا إِلَه إِلَّا الله إِلَّا بمنة الله عَلَيْهِ

ص: 57

فَلَنْ يُسَلط عَلَيْهِ الْعَدو حَتَّى يُبطلهُ وَالله عز وجل أكْرم من أَن يرتجع فِي منته ويسلط عَلَيْهِ الْعَدو أَلا ترى إِلَى قَوْله لِلْعَدو {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان وَكفى بِرَبِّك وَكيلا} أَي مَانِعا شَيْطَانه من أَن يدْخل عَلَيْهِ فِي قلبه فَيفْسد توحيده لِأَن التَّوْحِيد هُوَ الْإِيمَان وَذَلِكَ نور الله تَعَالَى فِي قلبه قَالَ تَعَالَى {حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ}

وَالْقلب هُوَ الْبضْعَة الْبَاطِنَة والبضعة الظَّاهِرَة يُقَال لَهَا فؤاد وفيهَا العينان والأذنان وَالْقلب يقلبه الله تَعَالَى وَلم يكله إِلَى أحد وَلم يطلع عَلَيْهَا أحدا من خلقه وَإِنَّمَا سُلْطَان الشَّيْطَان فِي الصَّدْر لِأَنَّهُ بَيت الْقلب وَالنَّفس مَعْدن الشَّهَوَات قَالَ تَعَالَى {يوسوس فِي صُدُور النَّاس}

فالشيطان يزين وَيُشِير ويمني وَيحدث فِي صُدُور النَّاس الشَّهْوَة الَّتِي فِي النَّفس حَتَّى يضله ويفتنه وَلَيْسَ يجد الْمُؤمن فِي نَفسه شَهْوَة الْكفْر لِأَن الله تَعَالَى نَزعهَا بإيصال الْإِيمَان إِلَى حَبَّة قلبه ثمَّ بَقِي شَهْوَة الْأَشْيَاء فِي قلبه ثمَّ حرم وَأحل ليبلغه بالمجاهدة فِي هَذِه الشَّهَوَات فاذن الْمُؤمن قد حلاه الله تَعَالَى بِالْإِيمَان وطهره وطيبه وزين قلبه وَلَيْسَ للكفر شَهْوَة فِي النَّفس حَتَّى يدْخل الشَّيْطَان فِيهِ بظلمته فيزين لَهُ الشّرك حَتَّى يفْسد توحيده وَلَا لَهُ إِلَيْهِ سَبِيل فَإِذا وسوس فِي صَدره أنكر الْقلب بِمَا فِيهِ من النُّور وإنكاره مَحْض الْإِيمَان لِأَنَّهُ اهتاج فَاسْتَنَارَ وَصَارَ كجمرة قد علاها الرماد لخمودها فَلَا تكَاد تضيء مِمَّا علاها فوصلت إِلَيْهِ نفحة فطار عَنْهَا رمادها فتوقدت وتلظت واستضاء الْبَيْت بتوقده فازدادت تِلْكَ الْجَمْرَة فَصَارَت مَحْضَة لما طَار عَنْهَا الرماد

ص: 58

فَكَذَلِك الْقلب فِيهِ الْإِيمَان وَقد سقم وعلاه رماد حريق الشَّهَوَات فَإِذا جَاءَهُ الوسواس بكيده وَحَدِيثه يُرِيد بِهِ نقض توحيده كَانَ ذَلِك كمن ينْفخ فِي تِلْكَ الْجَمْرَة لتتقد ويطير عَنهُ الْغُبَار وَتلك النفخة هِيَ أَمر من الله تَعَالَى خَفِي يلطف لَهُ من لطفه ليفي لَهُ بِمَا توكل لَهُ من قَوْله {وَكفى بِرَبِّك وَكيلا}

فَلَمَّا صَار إيمَانه ذَا غُبَار رَحمَه ولطف لَهُ من حَيْثُ خَفِي على الْعباد بالعصمة فَمنع كَيده من أَن يفْسد عَلَيْهِ توحيده واهتاج الْإِيمَان مُنْكرا لما جَاءَ بِهِ ونافرا عَنهُ فطار عَنهُ رماد الشَّهَوَات ودخانه واستوقدت جَمْرَة الْإِيمَان فَأَضَاءَتْ الصَّدْر فَلذَلِك صَار مَحْض الْإِيمَان لِأَنَّهُ فِي ذَلِك بِلَا رماد وَلَا دُخان

وَلِهَذَا قَالَ ثَابت رضي الله عنه اللَّهُمَّ زِدْنَا مِنْهُ سَأَلَ الزِّيَادَة من لطف الله تَعَالَى لعَبْدِهِ

وَقَالَ عبد الله رضي الله عنه حَيْثُ سُئِلَ عَن الوسوسة فَقَالَ ذَاك برازخ الْإِيمَان والبرزخ الحاجز بَين الشَّيْئَيْنِ

وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام (مثل الْمُؤمن مثل الْفرس فِي آخيته يحول ويجول ثمَّ يرجع إِلَى آخيته)

فيحق على الْمُؤمن أَن يقل عبؤه بوسوسته فأخسأ مَا يكون إِذا استحقر لَهُ وَلم يعبأ بِهِ فَمن اعتراه ضعف فِي قلبه حَتَّى يخَاف على نَفسه فَذَاك لضيق صَدره وَقلة انشراحه وظلمة الشَّهَوَات والذنُوب فَإِن وسوس إِلَيْهِ فِي التَّشْبِيه فالرد عَلَيْهِ أَن يَقُول فِي نَفسه كل مَا

ص: 59

تصور فِي صَدْرِي فالرب سبحانه وتعالى بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر فِي صَدْرِي إِلَّا مَخْلُوق لَهُ كيفيه وَمثل وربي لَا يدْرِي كَيفَ هُوَ وَلَا مثل لَهُ وَلَا كَيْفيَّة فَمَا تمثل فِي صَدْرِي فَهُوَ غير رَبِّي ثمَّ جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (الله الله رَبِّي لَا أشرك بِهِ شَيْئا) لتطيب بهَا نَفسه بِمَا ضَاقَ مِنْهُ صَدره ليخرج من ضيقه بهَا إِلَى السعَة

ص: 60

-‌

‌ الأَصْل الثَّانِي وَالْعشْرُونَ والمائتان

-

‌فِي أَن النُّجُوم أَمَان لأهل السَّمَاء

وَالْعُلَمَاء الصديقين أهل بَيت النُّبُوَّة أَمَان للْأمة

عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (النُّجُوم أَمَان لأهل السَّمَاء وَأهل بَيْتِي أَمَان لأمتي)

فالنجوم هن الطوالع السوائر الغوارب عُطَارِد والمريخ وزحل وَالْمُشْتَرِي والزهرة وَسميت نجوما لِأَنَّهَا تنجم أَي تطلع من مطالعها فِي أفلاكها

قَالَ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي جعل لكم النُّجُوم لتهتدوا بهَا} وَمَا عدا ذَلِك كواكب

ص: 61

قَالَ تَعَالَى {إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بزينة الْكَوَاكِب} فالكواكب معلقات من السَّمَاء كالقناديل والنجوم لَهَا مطالع ومغارب فهن أَمَان لأهل السَّمَاء فَإِذا ذهبت أَتَى أهل السَّمَاء مَا يوعدون وعَلى هَذَا يأول قَوْله عليه السلام (مثل أَصْحَابِي مثل النُّجُوم بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ)

وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ من لَقِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَو بَايعه أَو رَآهُ رُؤْيَة وَاحِدَة وَإِنَّمَا أَرَادَ من لَازمه غدْوَة وَعَشِيَّة وَكَانَ يتلَقَّى الْوَحْي مِنْهُ طريا وَيَأْخُذ عَنهُ الشَّرِيعَة الَّتِي جعلت منهجا للْأمة وَينظر مِنْهُ إِلَى آدَاب الْإِسْلَام وشمائله فصاروا من بعده أَئِمَّة أَدِلَّة فبهم الإقتداء وعَلى سيرتهم الاحتذاء فَكَانُوا يسمون عِنْده ويصبحون عِنْده ولازموه فِي السّفر والحضر وتفقهوا فِي دين الله وَعرفُوا النَّاسِخ والمنسوخ وَالسّنَن وهم الَّذين أثنى الله عَلَيْهِم وَأمر نبيه عليه السلام بِالصبرِ مَعَهم فَقَالَ {واصبر نَفسك مَعَ الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي}

فَهَؤُلَاءِ هم النُّجُوم الْأَدِلَّة وشبههم عليه السلام بالنجوم لِأَن بهم الإقتداء وهم من الْأَصْحَاب قَلِيل عَددهمْ كَالنُّجُومِ لأَنهم أهل بصائر ويقين وَجَاز لَهُم اجْتِهَاد الرَّأْي بِفضل الْيَقِين والبصائر فَلَمَّا اخْتلفُوا فِي اجتهادهم جَازَ لكل أحد لم يكن من أهل النّظر والتمييز أَن يَأْخُذ بقول من أَقْوَالهم تقليدا لَهُ وَمن كَانَ من أهل النّظر فَاخْتَارَ قولا من أَقْوَالهم مُجْتَهدا مستنبطا كَانَ لَهُ ذَلِك وَأما غير هَؤُلَاءِ فهم مِثَال الْكَوَاكِب يضئن لأَنْفُسِهِمْ وَلَيْسوا بأدلة وَلَا أَئِمَّة

ص: 62

وَقَوله (أهل بَيْتِي أَمَان لأمتي) فَأهل بَيته من خَلفه من بعده على منهاجه وهم الصديقون والأبدال الَّذين روى عَليّ كرم الله وَجهه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول

(إِن الأبدال يكونُونَ بِالشَّام وهم أَرْبَعُونَ رجلا كلما مَاتَ مِنْهُم رجل أبدل الله مَكَانَهُ رجلا بهم يسْقِي الْغَيْث وينصر بهم على الْأَعْدَاء وَيصرف عَن أهل الأَرْض بهم الْبلَاء)

فَهَؤُلَاءِ أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأمان هَذِه الْأمة فَإِذا مَاتُوا فَسدتْ الأَرْض وَخَربَتْ الدُّنْيَا قَالَ الله تَعَالَى {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض}

وَهَذَا لِأَن الْبَيْت من تبوئة الذّكر وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بعث ليبوئ لذكره فِي الأَرْض فَبَدَأَ بِمَكَّة فطرد وَنفى الذّكر ثمَّ جعل الله تَعَالَى لَهُ مُهَاجرا ومستقرا فَمن هَاجرُوا إِلَيْهِ ولزموه فصاروا أهل الذّكر فهم أهل بَيته وَمن آووا إِلَيْهِ وَلم يصيروا من أهل الذّكر فليسوا من أهل بَيته بل هم من أَصْحَابه وَأَتْبَاعه قَالَ تَعَالَى {فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ فقد وكلنَا بهَا قوما لَيْسُوا بهَا بكافرين} وهم الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار فتبوئوا الدَّار وَالْإِيمَان فصاروا أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لتبوئه الذّكر

ص: 63

وَإِنَّمَا يكون من أهل التبوئة من بوأ لذكره على طَرِيقه صافيا غير مغشوش صادر من إِيمَان غير مغشوش وَلَا سقيم وسقمه أَن يمازجه شَهْوَة النَّفس حَتَّى تميل بِهِ عَن الله تَعَالَى وتثقله عَن أمره وتلهيه عَن ذكره قَالَ تَعَالَى {لَا تلهكم أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم عَن ذكر الله}

إِذْ الْإِيمَان هُوَ طمأنينة الْقلب إِلَى الله تَعَالَى فِي كل أَمر فَإِذا آمن بِهِ على الْجُمْلَة ثمَّ مَال يَمِينا وَشمَالًا لِيَطمَئِن إِلَى الْخلق والأسباب فَذَلِك غش الْإِيمَان إِذْ خلط بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَأَما الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام قد اطمأنوا إِلَيْهِ يراقبون مَا يخرج من حجب الْغَيْب من مَشِيئَته وتدبيره فيقبلون مِنْهُ اهتشاشا وتسارعا لمشيئآته وَأَحْكَامه قد أخبتوا لَهُ وانخشعت نُفُوسهم لِأَن شهواتهم قد مَاتَت من هَيْبَة جَلَاله تَعَالَى وتقدس فالمستحقون للذّكر هم أهل الذّكر وهم الَّذِي ذكرهم الله تَعَالَى بِحَقِيقَة الذّكر وَهُوَ أَن لَا يبْقى على قلبه مَعَ ذكره فِي ذَلِك الْوَقْت ذكر نَفسه وَلَا ذكر مَخْلُوق فَذَاك الذّكر الصافي الَّذِي لَا غش فِيهِ

قَالَ عليه السلام (يَقُول الله عز وجل من شغله ذكري عَن مَسْأَلَتي أَعْطيته أفضل مَا أعطي السَّائِلين) هَذَا فِيمَن شغله ذكر الْخَالِق فَكيف بِمن شغله الْخَالِق بأنسه هَذَا فِيمَن شغله الْخَالِق بأنسه فَكيف بِمن شغله الْخَالِق بجلاله وجماله وَكَيف بِمن شغله الْخَالِق فِي فردانيته بِنَفسِهِ فِي وحدانيته وهم الَّذين أَشَارَ إِلَيْهِم عليه السلام فَقَالَ (سِيرُوا فقد سبق المفردون) قيل يَا رَسُول الله من المفردون

ص: 64

قَالَ (الَّذين اهتروا فِي ذكر الله يأْتونَ يَوْم الْقِيَامَة خفافا يضع الذّكر عَنْهُم أثقالهم)

فالمهتر إِذا نطق يشبه كَلَامه كَلَام من لم يَسْتَعْمِلهُ عقله لِأَن الْعقل يخرج الْكَلَام على اللِّسَان بتدبير وتؤدة وتأني وَهَذَا المهتر إِنَّمَا ينْطق بِهِ فَكَأَنَّهُ المَاء على لِسَانه يجْرِي حَتَّى يشبه الهذيان فِي بعض أَحْوَاله عِنْد الْعَامَّة وَهُوَ فِي الْبَاطِن مَعَ الله تَعَالَى من أصفي الناطقين وأصدقهم والمهتر فِي اللُّغَة الشَّيْخ الْكَبِير الَّذِي قد أفند عقله وَهُوَ يهتر فِي الْكَلَام كالخرف فَهَذَا قد خمد نور عقله لنُور وَجهه الْكَرِيم بِمَنْزِلَة قمر طلع عَلَيْهِ شمس فخمد نور الْقَمَر بضوء الشَّمْس فَلم يعْمل عقله ذَلِك الْعَمَل وَمن خمد عقله للقرب والدنو فقد اسْتوْجبَ من الله تَعَالَى كَرَامَة أنطق لِسَانه وَحفظ عَلَيْهِ شَأْنه وأيده وَعَصَمَهُ فَصَارَ بَيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لتبوئة الذّكر على الْوَجْه الَّذِي بَينا

والأهل والآل بِمَنْزِلَة وَاحِدَة إِذْ الْهَاء والهمزة أختَان تجزي أحديهما عَن الْأُخْرَى وَإِنَّمَا قيل أهل لِأَنَّهُ حَيْثُ مَا ذهب بِهِ فَهُوَ رَاجع إِلَى ذَلِك المستقر فَكَذَا الْآل حَيْثُ مَا تفرق وَالنّسب يؤول إِلَى الأَصْل فَأهل الْبَيْت كل من رَجَعَ نسبه إِلَى ذَلِك الأَصْل فَكَذَا أهل بَيت الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فَإِن الله تَعَالَى قد أَخذ الرَّسُول عليه السلام من خلقه فاختصه لنَفسِهِ واصطفاه لذكره فَكَانَ فِي كل أَمر قلبه رَاجعا إِلَى الله تَعَالَى من عِنْده يصدر وَمَعَهُ يَدُور وَإِلَيْهِ يرجع فَكَانَ هَذَا بَيْتا أشرف وَأَعْلَى من الْبَيْت الَّذِي هيأ لَهُ فِي أرضه وَهُوَ النّسَب فَكَانَ هَذَا الْبَيْت عَالِيا على ذَلِك الْبَيْت أَلا ترى أَنه غلب على النّسَب نِسْبَة مَا أكْرمه الله تَعَالَى بِهِ من الْأَمَانَة فَكَانَ يُقَال مُحَمَّد بن عبد الله ثمَّ يُقَال مُحَمَّد

ص: 65

الْأمين لِأَنَّهُ أَعلَى مِنْهُ فَلَمَّا جَاءَت الْكَرَامَة غلب على هَذَا الِاسْم فَقيل نَبِي الله وَرَسُوله

فَكَذَا كَانَ لَهُ بَيت النِّسْبَة وَأهل بَيت النِّسْبَة فَلَمَّا جَاءَهُ بَيت الْكَرَامَة والنبوة فغلب على ذَلِك الْبَيْت كَانَ كل من رَجَعَ قلبه إِلَى الله تَعَالَى على طَرِيقه من أهل ذَلِك الْبَيْت وهم الْأَرْبَعُونَ الَّذِي خلفوه من بعده حَتَّى تقوم بهم الأَرْض وبهم يمطرون وَيُرْزَقُونَ وَلَا يجوز أَن يحمل على أهل بَيت النّسَب لمعان أَحدهَا أَنه رُوِيَ فِي الحَدِيث (فَإِذا ذهب أهل بَيْتِي أَتَى أمتِي مَا يوعدون)

فَكيف يتَصَوَّر أَن يذهب أهل بَيته حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُم أحد وهم أَكثر من أَن يُحْصى وبركة الله تَعَالَى عَلَيْهِم دائمة وَرَحمته مظلة من فَوْقهم وَقد قَالَ عليه السلام (كل سَبَب يَنْقَطِع إِلَّا سببي ونسبي)

وَالثَّانِي أَن أهل بَيته نِسْبَة بَنو هَاشم وَبَنُو عبد الْمطلب وَلم يَكُونُوا أَمَانًا لهَذِهِ الْأمة حَتَّى إِذا ذَهَبُوا ذهبت الدُّنْيَا

وَالثَّالِث أَنه قد يُوجد مِنْهُم الْفساد كَمَا يُوجد فِي غَيرهم وَمِنْهُم المحسن وَمِنْهُم الْمُسِيء

فَبِأَي شَيْء صَارُوا أَمَانًا لأهل الأَرْض فَعلم أَن المُرَاد بِهِ من بِهِ

ص: 66

تقوم الدُّنْيَا وهم أَعْلَامه وأدلة الْهدى فِي كل وَقت فَإِذا تفانوا لم يبْق للْأَرْض حُرْمَة فعمهم بالبلاء

فَإِن قَالَ قَائِل بِحرْمَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وقربهم مِنْهُ صَارُوا أَمَانًا لأهل الأَرْض قيل حُرْمَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَظِيمَة جليلة وَفِي الأَرْض مَا هُوَ أعظم من حُرْمَة ذُريَّته وَهُوَ كتاب الله فَلَا نجد ذكره فِي الحَدِيث ثمَّ الْحُرْمَة لأهل التَّقْوَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا عظمت حُرْمَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لفضل النُّبُوَّة مَا أكْرمه الله تَعَالَى بِهِ

وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا روى أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ دخل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على فَاطِمَة وَعِنْدهَا صَفِيَّة عمَّة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ

(يَا بني عبد منَاف يَا بني عبد الْمطلب يَا فَاطِمَة بنت مُحَمَّد يَا صَفِيَّة عمَّة رَسُول الله اشْتَروا أَنفسكُم من الله لَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا سلوني من مَالِي مَا شِئْتُم وَاعْلَمُوا أَن أولى النَّاس بِي يَوْم الْقِيَامَة المتقون وَإِن تَكُونُوا أَنْتُم مَعَ قرابتكم فَذَلِك لَا يأتيني النَّاس بِالْأَعْمَالِ وتأتوني بالدنيا تحملونها على أَعْنَاقكُم فتقولون يَا مُحَمَّد فَأَقُول هَكَذَا ثمَّ تَقولُونَ يَا مُحَمَّد فَأَقُول هَكَذَا أعرض بوجهي عَنْكُم فتقولون يَا مُحَمَّد أَنا فلَان ابْن فلَان فَأَقُول أما النّسَب فأعرف وَأما الْعَمَل فَلَا أعرف نبذتم الْكتاب فَارْجِعُوا إِلَى قرَابَة بيني وَبَيْنكُم)

وَرُوِيَ أَنه قَالَ جهارا غير سرا (أَلا إِن أوليائي مِنْكُم لَيْسُوا بِأبي فلَان لَكِن أوليائي مِنْكُم المتقون من كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا)

ص: 67

وَمَا زَالَت الطَّبَقَة الزائفة المفتونة بحب أهل بَيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نسبا مازالت بهم فتنتهم حَتَّى عَمدُوا إِلَى كل شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء فنسبوه إِلَيْهِم وحرموا غَيرهم ذَلِك إعجابا بهم وفتنة وَإِن الله فَضلهمْ بِأَن طيب عنصرهم وطهر أَخْلَاقهم وَاخْتَارَ قبيلتهم على الْقَبَائِل فَلهم حُرْمَة التَّفْضِيل والأثرة وَحُرْمَة الِاتِّصَال برَسُول الله صلى الله عليه وسلم فيحق علينا أَن نحبهمْ حبا لَا يرجع علينا بوبال وظلمة وَهَؤُلَاء الغلاة جَاءُوا بِأَحَادِيث مُخْتَلفَة وأكاذيب مُنكرَة حَتَّى أداهم ذَلِك إِلَى أَن طعنوا فِي الشَّيْخَيْنِ المهديين المرضيين الَّذين كَانَ عَليّ كرم الله وَجهه ينكل من فَضله عَلَيْهِمَا فَقَالَ لَا أجد أحدا يُفَضِّلُنِي عَلَيْهِمَا إِلَّا جلدته حد المفترين

وَبلغ من إفراط هَؤُلَاءِ أَن رووا أَحَادِيث مُخْتَلفَة يُرِيدُونَ أَن يقيموا لعَلي رضي الله عنه فضلا وَقد فضل الله عليا رضي الله عنه بأَشْيَاء كَثِيرَة وفضائل جمة قد أغناه عَن مثل ذَلِك لكِنهمْ تركُوا لظلمة قُلُوبهم وشقاء جدهم تِلْكَ الْأَشْيَاء وَأَقْبلُوا على الْكَذِب وتأولوا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} إِنَّمَا هم عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن رضوَان الله عَلَيْهِم وَهِي لَهُم خَاصَّة وَكَيف يجوز هَذَا ومبتدأ هَذَا الْخطاب قَوْله عز وجل {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك} إِلَى قَوْله {أجرا عَظِيما}

ثمَّ قَالَ {يَا نسَاء النَّبِي} إِلَى قَوْله {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت}

ثمَّ قَالَ {واذكرن مَا يُتْلَى فِي بيوتكن}

ص: 68

وَهَذَا كَلَام منسوق بعضه على أثر بعض فَكيف صَارَت هَذِه المخاطبات كلهَا لِنسَاء النَّبِي عليه السلام قبلا وبعدا وينصرف مَا فِي الْوسط إِلَى غَيْرهنَّ وَهُوَ على نسق ونظام وَاحِد لِأَنَّهُ قَالَ {ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} ثمَّ قَالَ على أَثَره {فِي بيوتكن}

فَكيف صَار الْكَاف الثَّانِي خطابا للنِّسَاء وَالْأول لعَلي وَفَاطِمَة رضي الله عنهما وَأَيْنَ ذكرهمَا فِي هَذِه الْآيَات فَإِن قَالَ إِن كَانَ الْخطاب لنسائه فَكيف قَالَ {ليذْهب عَنْكُم} وَلم يقل (عنكن)

قُلْنَا إِنَّمَا ذكره لينصرف إِلَى الْأَهْل والأهل مُذَكّر فسماهن باسم التَّذْكِير وَإِن كن إِنَاثًا

وَقد يرْوى عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة دخل عَلَيْهِ عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن رضوَان الله عَلَيْهِم فَعمد النَّبِي عليه السلام إِلَى كسَاء فلفها عَلَيْهِم ثمَّ ألوى بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاء فَقَالَ (هَؤُلَاءِ أَهلِي أذهب عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا)

فَهَذِهِ دَعْوَة مِنْهُ لَهُم بعد نزُول الْآيَة أحب أَن يدخلهم فِي الْآيَة الَّتِي خُوطِبَ بهَا الْأزْوَاج رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ

ص: 69

-‌

‌ الأَصْل الثَّالِث وَالْعشْرُونَ والمائتان

-

‌فِي أَخْلَاق الْمُسَافِرين

عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (إِذا اجْتمع الْقَوْم فِي سفر فليجمعوا نفقاتهم عِنْد أحدهم فَإِنَّهُ أطيب لنفوسهم وَأحسن لأخلاقهم)

فِي النُّفُوس ضيق وشح وللشيء عِنْدهم قدر وَمَا أَتَى الشُّح وَالْبخل وتعظيم الشَّيْء إِلَّا لضعف يقينهم وظلمة صُدُورهمْ لِأَن الْيَقِين نور فِي قَلْبك فَإِذا تمكن صَارَت عين قَلْبك ذَا بَصِيرَة أبْصر الْغَيْب بذلك النُّور فتريك مَا فِي الملكوت فتصغر عنْدك الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا كَمَا أَن بصر عين الرَّأْس يُرِيك الْأَشْيَاء فِي الدُّنْيَا فَإِذا ضعف الْيَقِين يعجزك عَن رُؤْيَة الْآخِرَة وعظيم مَا فِي الملكوت فتصغر عنْدك بِمَا فِيهَا كَمَا أَن بصر عين الرَّأْس يُرِيك الْأَشْيَاء فِي الدُّنْيَا فَإِذا ضعف الْيَقِين يعجزك عَن رُؤْيَة الْآخِرَة وعظيم مَا فِي الملكوت وَبَين الْيَقِين تفَاوت فأوفرهم حظا من الْيَقِين أَكْثَرهم معرفَة وأغزرهم علما بِمَا فِي الملكوت وأخشاهم لله تَعَالَى وأعلمهم بتدبيره وأغناهم بغناه وَهَذَا قَلِيل فِي النَّاس

ص: 70

وَقد عجزت الْعَامَّة من هَذَا لما يرَوْنَ الْأَشْيَاء بالأسباب وتعلقت بذلك قُلُوبهم وَمِنْهَا افتتنوا حَتَّى عصوا الله فِي جنبه فمحال أَن لَا يكون للشَّيْء قدر عِنْدهم إِلَّا أَن الله تَعَالَى عصم طَائِفَة مِنْهُم لخوف الْعقَاب عَن تنَاول حرامها وأوساخها

ثمَّ هم مَعَ ذَلِك لَهَا يغضبون وَلها يرضون وَبهَا يفرحون وَمن أجلهَا يَحْزَنُونَ وَعظم قدر مَا فِي أَيْديهم من الحطام حَتَّى لَا تسخوا نفس أحدهم أَن يخرج من يَده فلسًا إِلَّا على ذكر الْخلف من الله تَعَالَى فِي دُنْيَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه أَو على ذكر الثَّوَاب فِي الْآخِرَة أَن يُعْطِيهِ قصورا وحورا وحبورا وسرورا وَلَا تسخو نُفُوسهم على إتعاب جوارحهم وأعمالهم لله تَعَالَى فِي شَيْء من أَعمال الْبر إِلَّا على نوال الثَّوَاب غَدا وَلم ينْتَهوا عَن محارم الله تَعَالَى إِلَّا على خوف الْعقَاب ركضا

فَهَؤُلَاءِ عبيد عبدُوا الله من أجل نُفُوسهم لم تأخذهم هَيْبَة عَظمته وسلطان كبريائه فيركض بهم فِي ميدان الطَّاعَة ركضا وميدان الْهَرَب عَن مساخطه ركضا إجلالا لرؤية الله تَعَالَى إيَّاهُم على الْأَحْوَال وتوخيا لمحابه وتلذذا لعبودته فَإِذا اجْتمعت هَذِه الطَّائِفَة الَّتِي للشَّيْء عِنْدهم قدر فِي السّفر وَانْفَرَدَ كل وَاحِد مِنْهُم لطعامه كَانَت فِي ذَلِك وَحْشَة ونزعت الْبركَة وَفِيه ذهَاب الألفة وَظُهُور الْفرْقَة والتصور بِصُورَة أهل الْبُخْل والدناءة وَإِذا أنْفق أحدهم على الْجَمَاعَة لم يقم بذلك وَعجز عَنهُ فالسبيل فِي ذَلِك مَا ندبهم عليه السلام إِلَيْهِ أَن يجمعوا نفقاتهم إِلَى أحدهم حَتَّى ينفقها عَلَيْهِم فَيكون أطيب لنفوسهم وَأحسن لأخلاقهم فَكل وَاحِد إِنَّمَا خرج من يَده مِقْدَار كِفَايَته وَهُوَ طيب النَّفس بذلك وَلَا يحتشم من الْأكل وَلَو أنْفق وَاحِد وَاحِد يحتشم أحدهم من صَاحبه ويستحيي ويثقل عَلَيْهِ حَتَّى تَجِيء نوبَته

ص: 71

وَرُبمَا انْقَطع السّفر وَذَهَبت النّوبَة فَفِيمَا دلّ عليه السلام تسكين النُّفُوس من وَجْهي الحشمة والتثاقل والنفوس سَاكِنة وَالْأَيْدِي مجتمعة والألفة بَاقِيَة وَالْبركَة نازلة وَالْبخل وَالشح زائل وَخلق الْإِسْلَام قَائِم وَسمي التناهد لِأَن النَّفس تنهد أَي تسارع إِلَيْهَا

وَقد سبق ذكر النهد فِي التَّنْزِيل مِمَّا قصّ الله تَعَالَى فِي شَأْن أهل الْكَهْف من قَوْله {فَابْعَثُوا أحدكُم بورقكم هَذِه إِلَى الْمَدِينَة فَلْينْظر أَيهَا أزكى طَعَاما فليأتكم برزق مِنْهُ}

وَقد قَالَ عليه السلام (إِن أحب الطَّعَام إِلَى الله مَا كثرت عَلَيْهِ الْأَيْدِي)

وَقَالَ عليه السلام (أَلا أنبئكم بشراركم قَالُوا بلَى يَا رَسُول الله قَالَ من أكل وَحده وَمنع رفده وَجلد عَبده) وَقَالَ أَبُو أُمَامَة رضي الله عنه فِي قَوْله عز وجل {إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود} وَهُوَ الَّذِي يَأْكُل وَحده

فأرشد عليه السلام الْعَامَّة إِلَى النهد فَأَما الْكِرَام مُلُوك الدّين فهم أرفع شَأْنًا من أَن يتناهدوا لِأَن قدر الشَّيْء عَن قلبهم سَاقِط وَمن طبيعتهم السخاء والجود وَقل مَا يجْرِي فِيمَا بَينهم إِذا انفردوا عَن الْعَامَّة وزن أَو عدد ومجرى أُمُورهم على صدق الْأُخوة يَأْخُذ أحدهم من مَال أَخِيه عِنْد الْحَاجة فطابت بذلك نُفُوسهم لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذ لرغبة فِيهِ أَو شَهْوَة أَو قَضَاء نهمة بل يتَنَاوَل لله تَعَالَى وَعرف أَخُوهُ ذَلِك

ص: 72

مِنْهُ وأمنه على نَفسه وَمَاله وَشهد لَهُ قلبه بالشفقة والعطف وَالرَّحْمَة فَلَا يتهمه على نفقه وَلَا على إمْسَاك

قَالَ الْحسن رضي الله عنه إِن كَانَ الرجل ليدْخل يَده فِي كيس أَخِيه فَمَا يسْأَله كم أخذت

وَقَالَ أَبُو جَعْفَر رضي الله عنه يدْخل أحدكُم يَده فِي كيس أَخِيه قُلْنَا لَا قَالَ لَسْتُم بأخوة

وَجَاء رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله لَيْسَ لي ثوب أتوارى بِهِ قَالَ (فَمَا لَك جيران) قَالَ بلَى قَالَ (فَهَل مِنْكُم أحد لَهُ ثَوْبَان) قَالَ نعم قَالَ (فَيعلم أَن لَا ثوب لَك) قَالَ نعم قَالَ (فَيَعُود عَلَيْك بِأحد ثوبيه) قَالَ لَا قَالَ مَا ذَاك بِأَخ

وَدخل عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه وَهُوَ يُصَلِّي فَعمد إِلَى مزوده فَأخذ مِنْهُ سويقا وَتَمْرًا فَأَكله وَفعل الْحسن رضي الله عنه مثل ذَلِك

وَدخل أَبُو أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ رحمه الله كرم صديق لَهُ فَأكل مِنْهُ بِغَيْر إِذن

وَإِنَّمَا كف النَّاس عَن ذَلِك بعد مُضِيّ السّلف رحمهم الله لتغير الْقُلُوب فَلَا يَأْمَن بَعضهم بَعْضًا لفقد الرَّحْمَة والعطف وَذَهَاب الألفة وَظُهُور الْحَسَد فامتنعوا من أَن يتَنَاوَل أحدهم شَيْء صَاحبه إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمن بعد الْإِذْن تأن وَنظر واحتياط وحذر وَلم يبْق لأحد على غَيره أَمن وثقة إِلَّا أُولَئِكَ الْأَرْبَعُونَ البدلاء العارفون الَّذين دقَّتْ الدُّنْيَا فِي أَعينهم فِي جنب الْآخِرَة ودقت الْآخِرَة فِي جنب ملك الله تَعَالَى وعظيم مَا أبرز من غيبه ودق مَا أبرز من ملكه فِي جنب عَظمته

ص: 73

وجلاله فهم الَّذين لَا قسْمَة بَينهم وَلَا وزن وَلَا عدد يتَنَاوَل أحدهم مَا شَاءَ من مَال أَخِيه من غير إِذن وَكَانَ عليه السلام يعْمل فِي مَال أبي بكر رضي الله عنه كَمَا يعْمل فِي مَال نَفسه كَمَا قد عرف مِنْهُ وَهل كَانَ يفعل فِي مَال غَيره مثل ذَلِك فَإِن مُخَالطَة المطبوع على السخاء أطيب والتناول من مَاله أشهى وَالْأكل من طَعَامه أطيب وَأحلى لأجل سُقُوط قدر ذَلِك عَن قلبه

وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بكر رضي الله عنه تصدق بِمَالِه كُله وَلَا يكَاد أهل الانتباه واليقظة يدْخلُونَ بيُوت البخلاء ويتناولون من أطعمتهم إِلَّا ويجدون ثقل ذَلِك على قُلُوبهم ويفتقدون ذَلِك الطّيب وَتلك الْحَلَاوَة واللذة من طعامهم لأَنهم قد أحسوا بِمَا فِي نُفُوسهم من قدر ذَلِك الشَّيْء عِنْدهم فَيذْهب طعمه وطيبه

وَرُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لما أسرِي بِهِ نزل على الْقَوْم الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} وعلمهم الشَّرِيعَة ومستقرهم بِأَرْض الصين من وَرَاء نهر الرمل فَسَأَلَهُمْ عَن معاشهم فَقَالُوا نَزْرَع ونحصد ونجمعه فِي بَريَّة من الأَرْض فَيخرج كل من احْتَاجَ إِلَى شَيْء فَيَأْخُذ مِنْهُ وسائره مَتْرُوك هُنَاكَ

فَهَذَا صدق الْأُخوة فِي أهل الْهِدَايَة بِالْحَقِّ وَالْعَدَالَة فَصَارَ الْعدْل مقومهم وَالْحق عز وجل هاديهم وَقد كَانَت أَوَائِل هَذِه الْأمة على هَذَا السَّبِيل وَقد أثنى الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله الْكَرِيم عَلَيْهِم فَقَالَ عز من قَائِل {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} {وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا}

ص: 74

وَذَلِكَ لِأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لما افْتتح خَيْبَر قسم الْغَنَائِم بَين الْمُهَاجِرين دون الْأَنْصَار فَلم يَجدوا فِي صُدُورهمْ ضيقا وَلَا حسدا وَلَا شكا وَلَا وجدا على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي فعله حِين ضربوا بِالسُّيُوفِ حَتَّى غنموا ثمَّ أعْطى الْغَنِيمَة للمهاجرين دونهم فَأثْنى الله تَعَالَى عَلَيْهِم وَشهد لَهُم بِالصّدقِ وَسُقُوط قدر الشَّيْء عَن قُلُوبهم وَقَول الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَأْكُلُوا من بُيُوتكُمْ

إِلَى قَوْله (. . أَو صديقكم) إِذن بَالغ

لَكِن الصّديق لَهُ حَقِيقَة فَمَا لم يعرف حَقِيقَة صداقته لم يغرر المتقي المتورع بِنَفسِهِ فِي ذَلِك وَأول حَقِيقَة الصداقة فِي سُقُوط قدر الشَّيْء من قلبه فَإِذا لم يعرف بِهَذَا وَإِن صادقه بِكُل قلبه فَهُوَ مُجْتَهد فِي صداقته وَلَا يَخْلُو من كَرَاهِيَة وَثقل أَن تناولت من ملكه شَيْئا وَقد أذن الله تَعَالَى فِي الْأَمْوَال عَن طيب النَّفس قَالَ عز من قَائِل فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه هَنِيئًا مريئا وَلم يقل قلبا لِأَن الْقلب رُبمَا طَابَ وَرَضي بِمَا فِيهِ من الْإِيمَان وَالنَّفس تكره بِمَا فِيهَا من الشَّهْوَة

وَقَالَ عليه السلام (لَا يحل لامرئ من عَطاء أَخِيه إِلَّا بِطيب نَفسه) فالإقدام فِي هَذَا الْيَوْم على مثل هَذَا جرْأَة عَظِيمَة إِذْ لَا تعلم هَذِه الْخصْلَة إِلَّا لأولئك الَّذين خلت قُلُوبهم من نُفُوسهم وتعلقت بالخالق الْكَرِيم فَلَا يبالون مَا أقبل وَمَا أدبر وَمن أَخذ وَمن أعْطى يتناولون من الدُّنْيَا لله تَعَالَى ويمسكونها لله على نَوَائِب الْحق ويعطونها لله تَعَالَى فَإِن تناولت من أَمْوَالهم لم يرجع عَلَيْك وبال مِنْهُم إِذْ أَخَذتهَا لله تَعَالَى فَإِن تناولته بِغَيْر حق يثقل فعله عَلَيْهِم

ص: 75

أَلا ترى أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ أسخى الْبشر وَالدُّنْيَا سَاقِطَة عَن قلبه فَقَالَ (إِنَّمَا أَنا خَازِن الله تَعَالَى يُعْطي وَأَنا أقسم فَمن أَخذ مني شَيْئا بِطيب النَّفس بورك لَهُ فِيهِ وَمن أَخذ مني شَيْئا وَأَنا لَهُ كَارِه فَإِنَّمَا يتأبطها نَارا)

وحاشا أَن يظنّ برَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه كره من أجل قدر ذَلِك الشَّيْء فَإِن ذَلِك بخل وَلَكِن إِنَّمَا كَانَ تطيب نَفسه بالإعطاء لمن سَأَلَ بِحَق وَأخذ بِحَق فَأَما من أحس بِهِ أَنه يَأْخُذهُ أشرا وبطرا وحرصا وجمعا فَكَانَ يُعْطِيهِ على كَرَاهَة نفس ويخبرهم أَنه لَا يُبَارك لَهُم فِيهِ

وَرُوِيَ فِي الحَدِيث أَنه قيل يَا رَسُول الله فَلم تعطيه قَالَ (يَأْبَى الله لي الْبُخْل)

وَكَانَ عليه السلام لَا يزن وَلَا يحصي وَقَالَ لعَائِشَة رضي الله عنها (لَا توكي فيوكى عَلَيْك وَلَا تحصي فيحصى عَلَيْك)

وَكَانَ لَا يدّخر شَيْئا لغد ليرى الْخلق عِنْده قلَّة قدره وَقَالَ جَابر رضي الله عنه مَا سُئِلَ شَيْئا قطّ فَقَالَ لَا

ص: 76

-‌

‌ الأَصْل الرَّابِع وَالْعشْرُونَ والمائتان

-

‌فِي قُوَّة الْإِيمَان وَيسر الْعَمَل

‌وَهُوَ التأييد وَالصَّبْر والاستعفاف والاستغناء

عَن أبي سعيد رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من تصبر يصبره الله وَمن يستعف يعفه الله وَمن يسْتَغْن يغنه الله وَمَا أعطي عبد عَطاء هُوَ خير وأوسع من الصَّبْر)

قَالَ أَبُو عبد الله أَعْطَاهُم الله تَعَالَى الْعُقُول وَمن عَلَيْهِم بِالْإِيمَان وَالصَّبْر والعفة والغنى إِنَّمَا يخرج كُله من الْإِيمَان فَإِذا أعطي الْإِيمَان فقد أعطي هَذَا كُله فبقوة الْإِيمَان يصبر على طَاعَة الله ويستعف عَن مَحَارمه وَتَنَاول شُبُهَات الدُّنْيَا وَيقوم فِي العبودة على سَبِيل الاسْتقَامَة ثمَّ لَا يتم لَهُ ذَلِك إِلَّا بعون من الله تَعَالَى لِأَن النَّفس تقوم بهدم ذَلِك وَتَدْعُو إِلَى خِلَافه وَوَقع العَبْد فِي المجاهدة مَعهَا فلولا عون الله تَعَالَى العَبْد لمالت النَّفس وَلَكِن سَبِيل العَبْد أَن لَا يتَخَيَّر

ص: 77

فَإِذا جَاءَ مَوضِع الصَّبْر تصبر وعزم عَلَيْهِ فوشيكا يَجِيئهُ العون من الله تَعَالَى فَوجدَ الْيُسْر فِي أمره فَذَاك عون الله تَعَالَى فَإِنَّهُ قبل ذَلِك يدْخل فِي الْأُمُور مَعَ الْجهد لِأَن النَّفس تأبى ذَلِك فَدخلت فِيهِ بإكراه صَاحبهَا لَهَا على ذَلِك فَجَاءَهُ العون من الله تَعَالَى فيسر عَلَيْهَا وعَلى ذَلِك دلّ عباده {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين}

أمره بِالْعبَادَة وسؤال العون لِأَنَّهُ أعطي الْقُوَّة على الْقيام بِمَا أمره إِلَّا أَن النَّفس تَدْعُو إِلَى خلاف ذَلِك فَجَاءَت شهواتها تُرِيدُ أَن تغلب الْقلب على مَا أَمر فَاحْتَاجَ عِنْد مجاهدة النَّفس إِلَى عون من الله تَعَالَى وَهُوَ نور على الْقلب يَسْتَنِير الْإِيمَان ويمتزج بِهِ فيقوى الْقلب وتذل النَّفس وتخمد شهواتها فتذل النَّفس

فَيَنْبَغِي للْعَبد أَن يقوم على كل أَمر أَمر بِهِ وَأَن يَنْتَهِي عَن كل نهي نهي عَنهُ بِمَا أعطي من الْعلم وَالْعقل وَالْإِيمَان وَذَلِكَ مَعَ جهد شَدِيد ينْتَظر العون من الله تَعَالَى وَلَا يلقِي بِيَدِهِ للتهلكة فَإِذا العون من الله تَعَالَى يَجِيء وييسر عَلَيْهِ كل ذَلِك فَإِن الله تَعَالَى لم يَأْمُرنَا بِأَن نقُول {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} ثمَّ يحبس عَنَّا العون وَقَالَ الله تَعَالَى {فَإِن مَعَ الْعسر يسرا إِن مَعَ الْعسر يسرا}

وَقَالَ عليه السلام (لن يغلب عسر يسرين)

فاليسر الأول هُوَ مَا أعطي العَبْد من الْآلَة والمعرفة وَالْعلم وَالْقُوَّة فلولا النَّفس الَّتِي يحارب صَاحبهَا بِدفع مَا تُرِيدُ لَكَانَ الْأَمر قد تمّ

ص: 78

فَإِنَّهُ قد أعطي يسر بِهِ يقوم الْأَمر الَّذِي أَمر وَلَكِن جَاءَت النَّفس بشهوتها فَاحْتَاجَ العَبْد إِلَى يسر آخر فوعده الله تَعَالَى فَقَالَ عسر عَلَيْك الْأَمر فأعطيتك مَعَ الْعسر يسرا وَهُوَ الْعقل الَّذِي هُوَ حجَّة الله تَعَالَى على عباده إِذْ لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا ويسرا بعد الْأَمر حِين تَأْخُذهُ فِيهِ وَهُوَ العون فَإِذا جَاءَ العون انْهَزَمت النَّفس وخمدت الشَّهْوَة وهرب الْعَدو وَبَطل كَيده فهما يسران لم يغلبهما هَذَا الْعسر الَّذِي بَينهمَا من مجاهدة النَّفس حَتَّى يَأْتِيك بحربه وجهاده ليصدك ويقهرك بشهواته وَهُوَ قَوْله عليه السلام (لن يغلب عسر يسرين) فبشرهم أَن العَبْد إِذا اسْتعْمل مَا أعطي من الْيُسْر فِي وَقت هَذَا الْعسر الَّذِي عارضته النَّفس بِهِ جَاءَ الْيُسْر الثَّانِي فَلَنْ يغلب هَذَا الْعسر هذَيْن اليسرين واليسر الثَّانِي هُوَ عونه وَهُوَ عطف الله على الْعباد وَرَحمته وَإِذا عطف على عَبده لم يبْق للنَّفس عَلَيْهِ سَبِيل وَلَا لِلْعَدو مطمع

وَقَوله (من تصبر يصبره الله تَعَالَى) أَي من اسْتعْمل مَا أعطي من الصَّبْر الَّذِي يخرج لَهُ من الْإِيمَان صبره الله أَي جَاءَهُ المدد والعون حَتَّى يتم لَهُ صبره فِي يسر وَهَكَذَا قَالَ الله تَعَالَى {واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه} أَي لَا يتم ذَلِك إِلَّا بعون الله تَعَالَى وغياث مِنْهُ

وَهَكَذَا قَوْله (من يستعفف يعفه الله) فَأَما قَوْله (فَمن يسْتَغْن يغنه الله) أَي من التجأ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِج صدقا فَهُوَ أكْرم من أَن يردك ويلجئك إِلَى عبيده

روى ثَابت رضي الله عنه قَالَ حبس ابْن أَخ لِصَفْوَان بن مُحرز فَلم يبْق بِالْبَصْرَةِ رجل لَهُ وَجه عِنْد الْأَمِير إِلَّا تحمل بِهِ عَلَيْهِ فَلم يزده إِلَّا شدَّة فَبَاتَ لَيْلَة فَقيل لَهُ فِي مَنَامه يَا صَفْوَان اطلب الْأَمر

ص: 79

من وَجهه فَقَامَ وَتَوَضَّأ وَصلى رَكْعَتَيْنِ وَسَأَلَ ربه ثمَّ عَاد إِلَى مضجعه فَنُوديَ بِالْبَابِ يَا صَفْوَان هَذَا ابْن أَخِيك قد جِئْنَا بِهِ فَصَارَ إِلَى الْبَاب فَإِذا ابْن أَخِيه فَقَالَ نبه الْأَمِير فِي جَوف اللَّيْل فَبعث إِلَى السجْن فَنُوديَ أَيْن ابْن أخي صَفْوَان فَطلب حَتَّى جِيءَ بِهِ فَإِذا هُوَ ذَا

وَخرج ابْن عمر رضي الله عنهما فِي سفر لَهُ فَإِذا بِجَمَاعَة على طَرِيق فَقَالَ مَا هَذِه الْجَمَاعَة فَقَالُوا أَسد قطع الطَّرِيق فَنزل فَمشى إِلَيْهِ حَتَّى قفده بِيَدِهِ ونحاه عَن الطَّرِيق فَقَالَ مَا كذب عَلَيْك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّمَا يُسَلط على ابْن آدم من خافه ابْن آدم وَلَو أَن ابْن آدم لم يخف غير الله لم يُسَلط الله عَلَيْهِ غَيره وَإِنَّمَا وكل ابْن آدم لمن رجا ابْن آدم فَلَو أَن ابْن آدم لم يرج إِلَّا الله لم يكله الله إِلَى غَيره)

وَقَوله (وَمَا أعطي عبد عَطاء هُوَ أوسع من الصَّبْر) لِأَن الصَّدْر قد اتَّسع وانشرح للنور الْوَارِد على قلبه وَإِذا اتَّسع الصَّدْر يسرت عَلَيْهِ الْأُمُور كلهَا وَإِذا اسْتَقر النُّور فِي الْقلب اِنْفَسَحَ الصَّدْر وانشرح وَألقى بيدَيْهِ سلما لمَوْلَاهُ فِي أمره وَنَهْيه وَجَمِيع أَحْكَامه عَلَيْهِ وتدبيره لَهُ وَلم يبْق للقلب مُنَازع لِأَن النَّفس تذل وَتَمُوت شهوتها وتلقى بِيَدَيْهَا حِين يشرق الصَّدْر فَيحل بهَا من ذَلِك الْإِشْرَاق خوف الله

ص: 80

تَعَالَى وَخَوف عِقَابه فَتحل بِهِ الرهبة ثمَّ يزْدَاد النُّور فتدخله العظمة فَتحل بهَا الهيبة وَالْخَوْف الْخَالِص مِنْهُ فتيبس وَتذهب شهوتها وتخشع لله تَعَالَى فَتَصِير تَابِعَة للقلب فحين بَدَأَ أول النُّور وجد العَبْد متسعا فِي صَدره فَقيل صابر ثمَّ زيد فَهُوَ صابر قَانِع ثمَّ زيد فَهُوَ صابر رَاض مراقب واله ثمَّ زيد فَهُوَ مُنْفَرد لرَبه وَلها عَن الصَّبْر والرضى والمراقبة والوله وَهَذَا كُله لَهُ والانفراد غَالب عَلَيْهِ فَهُوَ فِي قَبضته يَسْتَعْمِلهُ وَهُوَ قَوْله عليه السلام

(كنت سَمعه وبصره وَيَده وَرجله وَلسَانه وفؤاده فَبِي ينْطق وَبِي يعقل وَبِي يمشي وَبِي يبصر وَبِي يبطش)

وَهُوَ قَول عمر رضي الله عنه حِين شج عَليّ رجلا فَقَالَ لعمر رضي الله عنه مَرَرْت بِهِ وأصغيت إِلَيْهِ سَمْعِي فَإِذا هُوَ يكلم امْرَأَة بِكَلَام فَلم أملك حَتَّى ضَربته فَقَالَ عمر رضي الله عنه أَيهَا الرجل أصابتك عين من عُيُون الله وَإِن لله فِي الأَرْض عيُونا

وَالصَّبْر ثبات النَّفس على حكم الله تَعَالَى وتدبيره وَأمره وَنَهْيه وَرمي شَهْوَته ومنيته وَإِنَّمَا يبصر ذَلِك بِالنورِ الْوَارِد على الْقلب فيطيب ويستقر ويوقن وَأي شَيْء أوسع مِنْهُ وَبِذَلِك يثقل مِيزَانه ويملأ مِيزَانه وسعة كفته سَعَة السَّمَوَات وَالْأَرْض

ص: 81

-‌

‌ الأَصْل الْخَامِس وَالْعشْرُونَ والمائتان

-

‌فِي النَّهْي عَن إسكان النِّسَاء الغرف وتعليمهن الْكِتَابَة

عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (لَا تسكنوا نساءكم الغرف وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَة)

حذرهم ذَلِك لِأَن فِي إسكانهن الغرف تطلعا إِلَى الرِّجَال وَلَيْسَ فِي ذَلِك تحصين لَهُنَّ وَلَا ستر فَإِنَّهُنَّ لَا يملكن أَنْفسهنَّ حَتَّى يشرفن على الرِّجَال فَيحدث الْبلَاء والفتنة فَحَذَّرَهُمْ أَن يجْعَلُوا لَهَا ذَرِيعَة إِلَى الْفِتْنَة

وَهُوَ كَمَا قَالَ عليه السلام (لَيْسَ للنِّسَاء شَيْء خير لَهُنَّ من أَن لَا يراهن الرِّجَال وَلَا يرين الرِّجَال) لِأَنَّهَا خلقت من الرِّجَال فهمتها فِيهِ وَخلق فِي الرجل الشَّهْوَة فَجعلت سكنا لَهُ فَغير مَأْمُون كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي صَاحبه وَكَذَلِكَ تَعْلِيم الْكِتَابَة رُبمَا كَانَت سَببا

ص: 82

للفتنة وكتبت إِلَى من تهوى وَفِي الْكِتَابَة عين من الْعُيُون بِهِ يبصر الشَّاهِد الْغَائِب وَفِي ذَلِك تَعْبِير عَن الضَّمِير بِمَا لَا ينْطق بِهِ اللِّسَان فَهُوَ أبلغ من اللِّسَان فَأحب عليه السلام أَن يقطع عَنْهُن أَسبَاب الْفِتْنَة تحصينا لَهُنَّ وطهارة لقلوبهن

ص: 83

-‌

‌ الأَصْل السَّادِس وَالْعشْرُونَ والمائتان

-

‌فِي أَن رَأس الْحِكْمَة لم صَار مَخَافَة الله

عَن عبد الله رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (رَأس الْحِكْمَة مَخَافَة الله تَعَالَى)

فمخافة الله تَعَالَى هِيَ الَّتِي ألهت عَن الْأَسْبَاب حَتَّى صَارَت رَأس الحكم وَهِي تعلق الْقلب بِمَشِيئَة الله تَعَالَى وَلما صَار إِلَى الْمَشِيئَة

ص: 84

أبهم عَلَيْهِ الْأُمُور فَإِنَّهُ يعلم أَنه شَاءَ فخلقه وَلَا يعلم أَنه لماذا خلقه فَظهر لَهُ بعض الْمَشِيئَة وخفي عَلَيْهِ آخر شَأْنه من مَشِيئَته وأقلقه وألهاه وأذهله عَن النَّفس وَعَن دُنْيَاهُ فَلَمَّا زايلته نَفسه ودنياه انْشَرَحَ صَدره واتسع فِي الْحِكْمَة وَالله أحكم

ص: 85

-‌

‌ الأَصْل السَّابِع وَالْعشْرُونَ والمائتان

-

‌فِي حَقِيقَة الفراسة ودواعيها

عَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله تَعَالَى)

الفراسة مُشْتَقَّة من الفروسية فركضه بالجوارح على الْفرس فروسية وركضه ببصر قلبه بِنور الله تَعَالَى هِيَ فراسة فبالفرس يقطع مَسَافَة

ص: 86

الدُّنْيَا وبنور الله تَعَالَى يقطع مَسَافَة الْقلب وَذَلِكَ أَن على الْأَشْيَاء دَلَائِل وسمات وَقد وسم الله تَعَالَى خلقه بذلك فبنوره تدْرك تِلْكَ السمات حَتَّى يدْرك مَا لم يَأْتِ بعد وَكَانَ عمر رضي الله عنه تفرس روى عبد الله بن سَلمَة رضي الله عنه قَالَ دَخَلنَا على عمر معاشر وَفد مذْحج وَكنت من أقربهم مِنْهُ مَجْلِسا فَجعل ينظر عمر إِلَى الأشتر ويصوب بَصَره فَقَالَ لي أمنكم هَذَا قلت نعم فلأي باله تسأله مَا لَهُ قَاتله الله كفى الله أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم شَره وَالله أَنِّي لأحسب أَن للْمُسلمين مِنْهُ يَوْمًا عصيبا

وَعَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ مَا حذر عمر شَيْئا قطّ فَتكلم بِهِ إِلَّا كَانَ

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم (إِن لله عبادا يعْرفُونَ النَّاس بالتوسم)

وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِن فِي ذَلِك لآيَات للمتوسمين} قَالَ للمتفرسين

فالتوسم مَأْخُوذ من السمة وَهُوَ أَن يعرف سمات الله تَعَالَى وعلائمه

ص: 87

فِي الْأُمُور والتفرس أَن يرْكض قلبه فَارِسًا بِنور الله تَعَالَى إِلَى أَمر لم يكن بعد فيدركه مثل مَا أدْركهُ عمر رضي الله عنه وَمَا أدْركهُ الْحسن الْبَصْرِيّ رضي الله عنه فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنه قَالَ لعَمْرو بن عبيد هَذَا سيد فتيَان أهل الْبَصْرَة إِن لم يحدث وَقَالَ لأيوب هَذَا سيد فتيَان أهل الْبَصْرَة وَلم يسْتَثْن

وَقَالَ الشّعبِيّ رحمه الله لداود الأودي وَهُوَ يماريه إِنَّك لَا تَمُوت حَتَّى تكوى فِي رَأسك فَكَانَ كَمَا قَالَ

وَإِذا امْتَلَأَ الْقلب من نور الله تَعَالَى نظرت عينا قلبه بنوره فأبصر فِي صَدره مَا لَا يحاط بِهِ وَصفا فالفراسة من الله تَعَالَى لعَبْدِهِ كائنة

ص: 88

-‌

‌ الأَصْل الثَّامِن وَالْعشْرُونَ والمائتان

-

‌فِي تَفْسِير الِاسْتِئْنَاس

عَن أبي أَيُّوب رضي الله عنه قَالَ قُلْنَا يَا رَسُول الله هَذَا السَّلَام فَمَا الِاسْتِئْنَاس قَالَ (يتَكَلَّم الرجل بِالتَّسْبِيحَةِ وَالتَّكْبِيرَة وَالتَّحْمِيدَة وَأَن ينحنح فَيُؤذن أهل الْبَيْت)

الِاسْتِئْنَاس تَنْبِيه والاستئذان عهد فندب إِلَى أَن يَبْتَدِئ بالتنبيه ثمَّ بالعهد ليَكُون أوكد للْعهد وَأقوى للحجة وَأَنه إِذا فوجئ بِالسَّلَامِ وَالْإِنْسَان فِي غَفلَة وَالْعقل عَازِب عَنهُ كَانَت الْحجَّة عَلَيْهِ أَضْعَف يَقُول فوجئت بِالسَّلَامِ وعوجلت بِهِ فَلم أقبله بالتثبيت أَلا ترى أَن الله تَعَالَى خَاطب الْخلق فَقدم على الدعْوَة تَنْبِيها فَقَالَ {يَا} وَهُوَ كلمة تَنْبِيه حُرُوف ذَات أصداء لينبهك عَمَّا أَنْت بِهِ مشتغل ليرْجع إِلَيْك عقلك بِصَوْتِهِ كَأَنَّهُ يَعْنِي بِهَذَا أَن يَقُول يَا دَعْوَة دَعْوَة ثَانِيَة ثمَّ قَالَ أَي وَهِي كلمة الفتش مضمرة فِيهَا من كَأَنَّهُ قَالَ أَيهمْ أُرِيد بدعوتي ثمَّ قَالَ هَا هُوَ تَنْبِيه آخر يُشِير إِلَى شَيْء مَعْلُوم عينه مَعْنَاهُ

ص: 89

من أذكر اسْمه أُرِيد بدعوتي ثمَّ قَالَ (النَّاس) أَو الَّذين آمنُوا فَهَذِهِ التَّنْبِيهَات من إِلْقَاء الْعذر وإتمام الْحجَّة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ}

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (لَا أحد أحب إِلَيْهِ الْعذر من الله تَعَالَى وَلذَلِك بعث الرُّسُل عليهم السلام

فَقَالَ تَعَالَى {لَا تدْخلُوا بُيُوتًا غير بُيُوتكُمْ حَتَّى تستأنسوا وتسلموا على أَهلهَا}

فالاستئناس التَّنْبِيه ثمَّ يكون بعده التَّسْلِيم وَعِنْدهم كَانَ التَّسْلِيم هُوَ الاسْتِئْذَان فَإِذا ردوا جَاءَ الْإِذْن بعد ذَلِك وَإِن قيل ارْجعُوا رجعُوا وَأدنى الاسْتِئْذَان النحنحة لِأَن الْحس حس الْمَجِيء وَقد يخْتَلف فَإِذا سمع لم يدر السَّامع أَسَبْعٌ أم بَهِيمَة أم داهية من الدَّوَاهِي فَإِذا تنحنح عرف أَنه من جنسه فأنس بِهِ لِأَن الْآدَمِيّ يأنس بِجِنْسِهِ ويستوحش من غير جنسه وأعلا الاسْتِئْذَان التسبيحة ليعلم السَّامع أَنه أَخُوهُ الْمُسلم وَذَلِكَ أفضل لِأَن بالتنحنح لَا يعرف السَّامع أمسلم هُوَ أم كَافِر ولي هُوَ أم عَدو فتدخله روعة لمجيئه فَإِذا ذكر الله كَانَ أوفر للاستئناس

وَمَا رَوَاهُ شُعْبَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهم أَن هَذَا خطأ من الْكَاتِب إِنَّمَا هُوَ (تستأذنوا وتسلموا

ص: 90

على أَهلهَا) فَهَذَا كَلَام جَاهِل أَو ملحد يكيد الدّين أَو لَيْسَ فِيمَا روى أَبُو أَيُّوب رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِير الِاسْتِئْنَاس مَا يبطل هَذَا وَكَانَ كتاب الله تَعَالَى بَين ظهراني أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي مضيعة حَتَّى كتب الْكَاتِب فِيهَا مَا شَاءُوا أَو زادوا أَو نَقَصُوا وَكَانَ الصَّحَابَة أهملوا أَمر دينهم حَتَّى فَوضُوا عهد رَبهم إِلَى كَاتب يُخطئ فِيهِ ثمَّ يَقْرَؤُهُ أَبُو بكر وَعمر وَأبي رضي الله عنهم حَيْثُ جَمَعُوهُ فِي خلَافَة أبي بكر رضي الله عنه ثمَّ من بعده مرّة أُخْرَى فِي زمن عُثْمَان رضي الله عنه وهم على الْخَطَأ وَشعْبَة وَأَبُو بشر رُوَاة لَا يعْرفُونَ مَا غور هَذَا وَإِنَّمَا يُنكر هَذِه الْأَشْيَاء ويدفعها الرُّعَاة عقلوا عَن الله تَعَالَى وَعَن تَدْبيره فَهموا وهم المقربون أهل الْيَقِين الَّذين وَصفهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي قَوْله (كنت سَمعه وبصره) فَهُوَ الَّذِي يَنْفِي هَذِه الْأَشْيَاء ويدفعه فَإِذا نَفَاهُ وَدفعه فبه يَنْفِي وَبِه يدْفع لِأَنَّهُ بِهِ يعقل وَبِه ينْطق وَهُوَ حجَّة الله تَعَالَى على خلقه وراعي غنمه وطبيب عباده فَمن عَارضه هلك وَهُوَ لَا يشْعر

وَلِهَذَا حذر صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَن ربه عز وجل (من آذَى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وَإِنِّي لأسرع شَيْء فِي نصْرَة أوليائي أفيظن أَن يفوتني كَيفَ وَأَنا الثائر لَهُم)

ص: 91

-‌

‌ الأَصْل التَّاسِع وَالْعشْرُونَ والمائتان

-

‌فِي أَن أهل الغرف فِي الْجنَّة ومراتب الدَّرَجَات

عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن أهل الْجنَّة ليتراءون أهل الغرف من فَوْقهم كَمَا يتراءون الْكَوْكَب الدُّرِّي الغائر فِي الْأُفق من الْمشرق أَو الْمغرب لتفاضل مَا بَينهم قَالُوا يَا رَسُول الله تِلْكَ منَازِل الْأَنْبِيَاء فَلَا يبلغهَا إِلَّا هم قَالَ (بلَى وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ رجال آمنُوا بِاللَّه وَصَدقُوا الْمُرْسلين)

فَأهل الغرف أهل العليين الَّذين قد ارْتَفَعت درجاتهم إِلَى قرب الْعَرْش والإغتراف الإرتفاع وَسميت الغرفة لارتفاعها وَالْجنَّة ثَلَاثَة أَثلَاث أَعْلَاهَا للسابقين وأوسطها للمقتصدين وأدانيها وَمَا فِيهَا دني للمخلطين وعدن مَقْصُورَة الرَّحْمَن وجنات عدن مَحل الْأَنْبِيَاء عليهم السلام والفردوس مَحل الْأَوْلِيَاء وَهِي الغرف وَهِي سرة الْجنَّة بحيال بَاب

ص: 92

الْعَرْش فتوهموا أَن تِلْكَ منَازِل الْأَنْبِيَاء عليهم السلام لَا يبلغهَا غَيرهم فأعلمهم أَن ذَلِك لَيست بمنازل الْأَنْبِيَاء عليهم السلام وَإِنَّمَا هُوَ منَازِل الْأَوْلِيَاء والأنبياء فَوْقهم لِأَن دَرَجَة النُّبُوَّة أَعلَى الْأَنْبِيَاء عليهم السلام فَوق الغرف فِي جنَّات عدن وعدن كالمدينة وجنات عدن كالقرى حولهَا والفردوس حول جنَّات عدن مضموم إِلَيْهَا مَنْسُوب مِنْهَا كعوالي الْقرى وَمَا دونهَا من الْجنان كالخيام والمراعي حول عوالي الْقرى فَأعْلم صلى الله عليه وسلم أَن الغرف منَازِل رجال آمنُوا بِاللَّه وَصَدقُوا الْمُرْسلين أَرَادَ بِهِ إِيمَان الصديقين لَا إِيمَان المخلطين من الْمُوَحِّدين لِأَن أهل الغرف أهل الدَّرَجَات العلى

قَالَ تَعَالَى {وَمن يَأْته مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات فَأُولَئِك لَهُم الدَّرَجَات العلى} ثمَّ قَالَ {وَذَلِكَ جَزَاء من تزكّى} أَي تطهر من مساخط الله قلبا وقولا وفعلا

وَهَذَا شَأْن الصديقين لِأَن إِيمَانهم إِيمَان طمأنينة بِهِ وبجميع أَحْكَامه وتصديقهم الْمُرْسلين تَصْدِيق لله تَعَالَى وَسُكُون

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ يجزون الغرفة بِمَا صَبَرُوا} قَالَ الغرفة من ياقوتة حَمْرَاء أَو زبرجد خضراء أَو درة بَيْضَاء لَيْسَ فِيهَا فَصم وَلَا وصم وَإِن أهل الْجنَّة ليتراءون الغرفة فِيهَا كَمَا يتراءون الْكَوْكَب الدُّرِّي الشَّرْقِي أَو الغربي فِي أفق السَّمَاء وَإِن أَبَا بكر وَعمر رضي الله عنهما مِنْهُم وانعما

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ ابْن مَسْعُود رضي الله عنه إِن المتحابين فِي الله لعلى عَمُود من ياقوتة حَمْرَاء فِي رَأس العمود

ص: 93

سَبْعُونَ ألف غرفَة يضيء حسنهم أهل الْجنَّة كَمَا تضيء الشَّمْس أهل الدُّنْيَا يَقُول أهل الْجنَّة بَعضهم لبَعض انْطَلقُوا بِنَا حَتَّى نَنْظُر إِلَى المتحابين فِي الله فَإِذا أشرفوا عَلَيْهِم أَضَاء حسنهم أهل الْجنَّة كَمَا تضيء الشَّمْس أهل الدُّنْيَا عَلَيْهِم ثِيَاب خضر من سندس مَكْتُوب على جباههم هَؤُلَاءِ المتحابون فِي الله

فَهَؤُلَاءِ أهل الغرف وهم أهل محبَّة الله فِي الله تَعَالَى وَإِنَّمَا تحَابوا فِي الله لمحبة الله تَعَالَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى (حقت محبتي للمتحابين بجلالي)

وَقد وصف الله تَعَالَى أهل الغرفة فَقَالَ {وَعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا} إِلَى قَوْله {واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا}

وصف مشيهم وخطابهم وانتصابهم لَهُ ودعاءهم ونفقاتهم ونزاهتهم وانتباههم وَصدقهمْ ومحبتهم ونصحهم ثمَّ قَالَ {أُولَئِكَ يجزون الغرفة بِمَا صَبَرُوا}

وَالصَّبْر بذل النَّفس والثبات لَهُ وقوفا بَين يَدَيْهِ بالقلوب عبَادَة وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم} إِلَى قَوْله {وهم فِي الغرفات آمنون}

ذكر أَن الْقرْبَة لَا تنَال بالأموال وَالْأَوْلَاد وَإِنَّمَا تنَال بِالْعَمَلِ الصَّالح يعلمك أَن هَذَا إِيمَان طمأنينة وَتعلق قلب بِهِ فِي كل مَا نابه وبجميع أُمُوره وَأَحْكَامه وَالْعَمَل الصَّالح الَّذِي لَا يخلطه بضده

ص: 94

فَأَما المخلط فَغير مطمئن بأموره وَأَحْكَامه بل هُوَ تَابع لهوى نَفسه يعْمل على شَهْوَته وَقَضَاء منيته

وَهَذَانِ وَإِن كَانَ إِيمَانهم إيمانهما بِرَبّ وَاحِد إِلَّا أَن ذَلِك قد جثمت على قلبه شهوات نَفسه فأظلمت صَدره وانكمن نوره فَلَا يعْمل شَيْئا من الْإِشْرَاق والإنارة وَهَذَا الْبَالِغ من الله تَعَالَى بنوره وهتك هَذِه الْحجب من الظُّلُمَات وأمات مِنْهُ الشَّهَوَات وولج قلبه من عَظمَة الله تَعَالَى وجلاله فأذهل نَفسه واستقام الْقلب لله تَعَالَى

فعنى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِأَهْل الغرف هَؤُلَاءِ إِذْ لَو جَازَ أَن تنَال الغرف بِالْإِيمَان والتصديق الَّذِي للعامة لَكَانَ جَمِيع الْمُوَحِّدين فِي أعالي الدَّرَجَات

ص: 95

-‌

‌ الأَصْل الثَّلَاثُونَ والمائتان

-

‌فِي مَرَاتِب أهل الْجنَّة

عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من ترك الْكَذِب وَهُوَ بَاطِل بني لَهُ فِي ربض الْجنَّة وَمن ترك المراء وَهُوَ محق بني لَهُ فِي وَسطهَا وَمن حسن خلقه بني لَهُ فِي أَعْلَاهَا

ترك الْكَذِب هُوَ ترك الشّرك وَلَا كذب بأعظم من الشّرك فَمحل تَاركه فِي ربض الْجنَّة وَهُوَ أدانيها فَهَذَا الصِّنْف هُوَ الظَّالِم

وَترك المراء إِذا اقْتَضَاهُ الْحق أَمر الله من آداء فَرَائِضه وَاجْتنَاب مَحَارمه أَن يخضع للحق وَلَا يماريه فَيذْهب بِرَقَبَتِهِ من حق الله تَعَالَى فِي أمره وَنَهْيه فَهَذَا مقتصد فمحله فِي وسط الْجنَّة

وَأما حسن الْخلق فَإِن الله تَعَالَى دبر لعَبْدِهِ قبل أَن يخلقه شَأْنه من الرزق وَالْأَحْوَال والْآثَار كل ذَلِك موقت مُقَدّر يبرز لَهُ فِي وقته

ص: 96

كَمَا قدره وَدبره مرّة سقم وَمرَّة صِحَة وَمرَّة غنى وَمرَّة فقر وَمرَّة عز وَمرَّة ذل وَمرَّة مَحْبُوب وَمرَّة مَكْرُوه فأحوال الدُّنْيَا تتداوله لَا يَنْفَكّ من تَدْبيره وقضائه وَالْعَبْد يُرِيد مَا وَافقه واشتهاه وتدبير الله تَعَالَى فِيهِ غير ذَلِك فَإِذا رَاض نَفسه وقمعها وخشعت لله تَعَالَى بِمَا أريده من نور الْيَقِين حسن خلقه واستقام قلبه وَترك جَمِيع مشيئآته لمشيئته ينْتَظر مَا يبرز لَهُ من تَدْبيره فِي جَمِيع أَحْوَاله فيتلقاه بهشاشة قلب وَطيب نفس فَهَذَا حسن الْخلق فمحله فِي أعالي الدَّرَجَات وَسُوء الْخلق حجاب بَين العَبْد وَبَين ربه لِأَنَّهُ من نفس شهوانية وَالنَّفس مَا لم تمت شهوتها لَا تنقاد للحق وَلَا يتَخَلَّص الْقلب من مخاليبها وَلَا يبرأ الْإِيمَان من سقمه

قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث الرُّؤْيَا (رَأَيْت رجلا من أمتِي جاثيا على رُكْبَتَيْهِ وَبَينه وَبَين الله تَعَالَى حجاب فَجَاءَهُ حسن خلقه فَأدْخلهُ على الله تَعَالَى)

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (أوحى الله إِلَى إِبْرَاهِيم عليه السلام يَا إِبْرَاهِيم حسن خلقك وَلَو مَعَ الْكفَّار تدخل مدَاخِل الْأَبْرَار فَإِن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أَن أظلهُ فِي عَرْشِي وَأَن أسْكنهُ فِي حَظِيرَة قدسي وَأَن أدنيه من جواري)

وَحسن الْخلق على ثَلَاث منَازِل

أَولهَا أَن يحسن خلقه مَعَ أمره وَنَهْيه

الثَّانِيَة أَن يحسن خلقه مَعَ جَمِيع خلقه

الثَّالِثَة أَن يحسن خلقه مَعَ تَدْبِير ربه فَلَا يَشَاء إِلَّا مَا يَشَاء لَهُ ربه

وَمن أسوء خلقا مِمَّن دبر الله الْمَطَر من بَرَكَات السَّمَاء سقيا لِعِبَادِهِ وبلاده يَجْعَل فِيهِ أَرْزَاقهم ومعاشا لَهُم ويحيي بذلك أمة من الْأُمَم وَالْعَبْد يكرههُ ويأباه لأجل إِنَّه يبتل ثِيَابه أَو يتَأَخَّر عَن سفر يُريدهُ

ص: 97

فثقل عَلَيْهِ تَدْبِير الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة لشهوته لذَلِك الْعَمَل الَّذِي هُوَ فِيهِ وَمن كَانَ ميت الشَّهْوَة فأعماله كلهَا عبودة لله تَعَالَى وَمن كَانَ يثقل عَلَيْهِ تَدْبيره وَحسن خلقه فِي جَمِيع أُمُوره وَأَحْكَامه وَإِن محَاسِن الْأَخْلَاق جَاءَت من الله تَعَالَى وَقد خزنه الله تَعَالَى عَن خلقه فَلَا يُعْطِيهِ إِلَّا من أحبه وَسعد جده فَمن منحه خلقا من تِلْكَ الْأَخْلَاق وتخلق بهَا يرى بهجة ذَلِك فِي شمائله وَفِي مَنْطِقه ومعاشرته حَتَّى فِي سيماء وَجهه وَالله أعلم

ص: 98

-‌

‌ الأَصْل الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ والمائتان

-

‌فِي ظن العَبْد بربه إِن كَانَ حسنا حقق لَهُ ذَلِك وَإِن كَانَ سَيِّئًا وَكله إِلَيْهِ

عَن وَاثِلَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الله تَعَالَى أَنا عِنْد ظن عَبدِي فليظن بِي مَا يَشَاء

فالظن مَا تردد فِي الصَّدْر وَإِنَّمَا يحدث من الْوَهم وَهُوَ هاجسة النَّفس وأيد الله تَعَالَى الْمُؤمن بِنور التَّوْحِيد فِي الْقلب وَنور فِي الصَّدْر وَيَطوف حول الْقلب حِجَابا لذَلِك النُّور الْأَعْظَم فَإِذا هجست النَّفس بِعَارِض أَمر وَنور الصَّدْر بمكانه يضيء اسْتَقَرَّتْ النَّفس فاطمأن الْقلب وَحسن الظَّن لِأَن النُّور الَّذِي فِي قلبه يُؤَدِّي إِلَيْهِ أَن الله تَعَالَى كافيه وحسبه فِي كل أُمُوره وَأَنه كريم رؤوف رَحِيم عطوف وَإِذا كَانَت

ص: 99

النَّفس ذَات شَهْوَة غالبة فارت بِدُخَان شهوتها فأظلمت الصَّدْر فَصَارَ الصَّدْر مظلما وَجَاءَت النَّفس بهواجسها فاضطربت فَذَلِك سوء ظَنّهَا بِاللَّه تَعَالَى وَالظَّن ظنان ظن عَطاء فَذَاك الَّذِي تَسْتَقِر عَلَيْهِ النَّفس ويطمئن الْقلب ويوفي لَهُ بذلك وَلَا يخيبه

قَالَ ابْن مَسْعُود رضي الله عنه وَالله الَّذِي لَا إِلَه غَيره مَا أعطي عبد عَطاء خيرا من حسن الظَّن بِاللَّه

وَالظَّن الآخر ظن خالطه تُهْمَة فَلم يطمئن الْقلب فَإِن خيب فَغير مستنكر

وَقَوله أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي أَي أَن الْقلب بيَدي لم أكلهَا إِلَى أحد فَإِذا ظن عَبدِي بِي حسنا حققت لَهُ ذَلِك وَلم أخيبه وَإِذا ظن بِي سَيِّئًا وكلته إِلَى سيئ مَا ظن وتخليت عَنهُ لِأَنِّي أَعْطيته من النُّور فِي الْقلب مَا يُؤَدِّي إِلَى الصَّدْر وَفِي الصَّدْر مَا يضيء فيتصور لَهُ مَا يُؤَدِّي الْقلب إِلَيْهِ وَضاع ذَلِك الضَّوْء لقُوَّة مَا أَتَت بِهِ النَّفس من دُخان شهواتها وتقوية الشَّهَوَات من العَبْد فَعُوقِبَ عَلَيْهِ وَنسب إِلَيْهِ بِتَرْكِهِ تعاهد الْقلب حَتَّى استولت النَّفس عَلَيْهِ فألهته عَن ذكر الله

وَقَوله فليظن بِي مَا شَاءَ أَي يجدني قَرِيبا وفيا بِمَا أمل وَرَجا وَإِنَّمَا يحسن ظَنّه من انْفَرد لَهُ بَين يَدَيْهِ وَأعْرض عَن نَفسه وَرفع عَنهُ بالها فانكشف لَهُ الغطاء عَن رأفته وَرَحمته فاستقر قلبه وَمن كَانَ صَاحب شهوات واشتغال بِنَفسِهِ فَلَو انْكَشَفَ لَهُ الغطاء عَن رأفته وَرَحمته لأفسد أمره وضيع حُدُوده وَركب شهواته واجترأ فَستر عَنهُ حَتَّى يكون فِي مَخَافَة وحذر وَلِهَذَا كَانَت الْأَنْبِيَاء عليهم السلام لما سكنت شهواتهم وَمَاتَتْ نُفُوسهم وحييت بِاللَّه تَعَالَى قُلُوبهم بشروا بالنجاة فَلم تَضُرهُمْ الْبُشْرَى بل زادهم ألها أَي شكرا

ص: 100

-‌

‌ الأَصْل الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ والمائتان

-

‌فِي حِكْمَة دُعَاء الرمد

عَن أنس رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أَصَابَهُ الرمد أَو أحدا من أَهله وَأَصْحَابه دَعَا هَؤُلَاءِ الدَّعْوَات اللَّهُمَّ أمتعني ببصري واجعله الْوَارِث مني وَأَرِنِي ثَأْرِي فِيهِ وَانْصُرْنِي على من ظَلَمَنِي

جعل الله لِلْبَصَرِ فِي الْجَسَد محلا رفيعا ومكانا عَالِيا وَفِي الْخَبَر أَن العَبْد يُؤْخَذ يَوْم الْقِيَامَة بِنِعْمَة الْبَصَر فيوجد قد استفرغ جَمِيع حَسَنَات العَبْد وَبَقِي سَائِر النعم عَلَيْهِ مَعَ التبعة

وَمن رفيع درهته على سَائِر الْجَوَارِح أَنه ينظر بِهِ إِلَى الله تَعَالَى يَوْم الزِّيَادَة وَبِه يلذ تنعما بِرُؤْيَتِهِ وَبِه ينظر إِلَى العبر فِي الدُّنْيَا فالعين قالب الْبَصَر وَالْبَصَر من نور الرّوح وَلكُل ذِي جسم لطافة فالروح مَسْكَنه فِي الدِّمَاغ ومعلقة فِي الوتين وَهُوَ نِيَاط الْقلب ثمَّ هُوَ منفش

ص: 101

فِي سَائِر الْجَسَد من الظفر إِلَى شعر الرَّأْس نفخ فِيهِ الرّوح من طرف إبهامه فِي الْمُبْتَدَأ ثمَّ يخرج مِنْهُ عِنْد الْقَبْض من طرف لِسَانه لِأَن الله تَعَالَى رفع دَرَجَة اللِّسَان على سَائِر الْجَوَارِح بِالتَّوْحِيدِ وَبِه يظْهر مَا فِي الْقلب

قَالَ صلى الله عليه وسلم (مَا من شَيْء أحب إِلَى الله من بضعَة لحم وَذَلِكَ لِسَان الْمُؤمن وَمَا من شَيْء أبْغض إِلَى الله من بضعَة لحم وَذَلِكَ لِسَان الْكَافِر)

فَجعل سَبِيل الرّوح عِنْد خُرُوجه من طرف لِسَانه ليَكُون آخر الْجَوَارِح موتا وَتَكون حَرَكَة لِسَانه عِنْد خُرُوج الرّوح مِنْهُ بِالتَّوْحِيدِ والحياة مَعَ الرّوح وَالْعقل والمعرفة فالروح نور وَالْعقل نور والمعرفة نور وَلكُل نور بصر فَبَصر الْعقل مُتَّصِل ببصر الرّوح ولطافة الرّوح فَمَا رق مِنْهَا وَصفا فَهُوَ فِي الْعين وَإِذا أبْصر النَّاظر إِلَى حدقة رأى الرقة واللطافة فِي الحدقة فِي ذَلِك السوَاد فَتلك لطافة الرّوح كَالْمَاءِ وبصر الرّوح فِي تِلْكَ الإنسانة فِي الحدقة فَذَلِك النُّور الْمشرق فِيهِ هُوَ بصر الرّوح والضوء من خَارج وَإِدْرَاك الألوان من بَين هَذَا النُّور الَّذِي فِي الإنسانة وَبَين الضَّوْء الَّذِي هُوَ خَارج وَحَتَّى لَا يَجْتَمِعَانِ لَا يدْرك النَّاظر بِعَيْنِه الألوان فَهَذَا لعامة الْآدَمِيّين

ثمَّ خص الْمُوَحِّدين بِأَن أَرْوَاحهم من النُّور وأرواح الْكَافرين من النَّار وَلَيْسَ للْكَافِرِ عقل فَخص الموحد بِالْعقلِ فَاجْتمع نور التَّوْحِيد وَنور الْعقل وَنور الْمعرفَة وَنور الرّوح فِي تِلْكَ الإنسانة فبها تبصر الْعين فِي الدُّنْيَا وتتمثل لَهُ أُمُور الْآخِرَة

ص: 102

ثمَّ خص الْأَوْلِيَاء مِنْهُم بِنور الْقرْبَة وَلذَلِك النُّور أَيْضا بصر فالنور فِي الْقلب وبصره فِي بصر الْعين فبقوة ذَلِك يتفرس والفراسة أَمر جليل من أُمُور الْغَيْب خص بهَا الْأَوْلِيَاء عليهم السلام ينظرُونَ بِنور الله تَعَالَى إِلَى سمات الْقُدْرَة على عبيد الله تَعَالَى فِي الْغَيْب فتوسمهم نظرهم ببصر ذَلِك الْعين الَّذِي اتَّصَلت الْأَبْصَار فِيهَا بَعْضهَا بِبَعْض وغشيها بصر الْقُدْرَة فيدركون سمات الْقُدْرَة وَالتَّدْبِير فيخبرون بالعجائب فَهَذَا بصر الْأَوْلِيَاء ثمَّ للأنبياء عليهم السلام زِيَادَة نور فِي أَبْصَارهم وَهُوَ بصر النُّبُوَّة ثمَّ للرسل عليهم السلام بصر الرسَالَة ثمَّ لرسولنا صلى الله عليه وسلم بصر سيادة الرُّسُل صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فاجتمعت هَذِه الْأَبْصَار كلهَا فِي إنسانة تِلْكَ الحدقة من عينه صلى الله عليه وسلم

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (رَأَيْت لَيْلَة أسرِي بِي من العلى الذّرة تدب على وَجه الأَرْض من السِّدْرَة الْمُنْتَهى)

قَوْله (أمتعني ببصري) والإمتاع بالبصر أَن يرى هَذِه الْعَجَائِب من تَدْبِير الله تَعَالَى من أُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَيرى كل شَيْء كَمَا خلقه الله تَعَالَى بِمَا ينظر إِلَيْهِ من العبر قَالَ تَعَالَى {وأنبتنا فِيهَا من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}

والمنيب الَّذِي قد أناب بِقَلْبِه فَأقبل على الله تَعَالَى وَفرغ قلبه لَهُ من حَشْو الدُّنْيَا وطهره من أدناس الْمعاصِي وكدورة الْأَخْلَاق وفضول الدُّنْيَا فقربه ربه وَأَدْنَاهُ ونقى قلبه بنوره واحتد بَصَره فِي خلقه وصنعه وتدبيره فَلَو نظر إِلَى ورقة لحار عقله فِيهَا من الْعَجَائِب الَّتِي فِيهَا من رطوبتها ولونها وطعمها وريحها ولينها ومقدارها وتقطيعها وهيئتها ونقوشها وتخطيطها واللطف الَّذِي حواها على

ص: 103

هَذِه الصّفة ثمَّ كل شَجَرَة لَهَا ورق لَا يشبه الْأُخْرَى فللمؤمن الْمُنِيب فِي هَذَا الْبَصَر بهجة

فَأَما المكب على نَفسه فِي خلو من لطائف الله تَعَالَى فِيهِ الَّتِي هِيَ عِنْد الْعَارِف أحلى من القطايف وبره وتدبيره وَرَحمته وَإِنَّمَا بِهِ شغل نَفسه مَاذَا ينَال مِنْهَا من عَاجل النَّفْع أكلا وتمتعا واعتقادا لما فضل مِنْهُ حرصا على الدُّنْيَا وجمعا لَهَا قد اتَّخذهُ عدَّة لنوائبه دون الله تَعَالَى وَاعْتمد عَلَيْهِ فاستولت بهجة النَّفس عَلَيْهِم لينالوا بهَا عزا ويتمتعوا لهوا وسهوا فوقعوا فِي الخسران وحرموا رُؤْيَة الْبَهْجَة وَصَارَ عَاقِبَة أَمرهم إِلَى الكفران قَالَ الله تَعَالَى {لَا تلهكم أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم عَن ذكر الله وَمن يفعل ذَلِك فَأُولَئِك هم الخاسرون}

فَسَأَلَ صلى الله عليه وسلم أَن يمتعه ببصره الَّذِي ينَال بِهِ هَذِه الْأَشْيَاء حَتَّى يتوسم بِهِ آيَات الله وَينظر بِهِ إِلَى سمات الْقُدْرَة وَيكون مِمَّن يعبد الله بِكُل نظرة فَإِنَّمَا أعطي الْعباد ليعبدوا الله تَعَالَى بهَا لَا ليتمتعوا بهَا تمتّع الْكفَّار قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين كفرُوا يتمتعون ويأكلون كَمَا تَأْكُل الْأَنْعَام وَالنَّار مثوى لَهُم}

فالمؤمن يتزود فِي جَمِيع نظره وسعيه وَعَمله ينظر بِعَين الْعبْرَة والفكرة فِي أَمر الله تَعَالَى ويتقرب إِلَى الله تَعَالَى بِهِ ويتزود لآخرته وَالْكَافِر يتمتع وَإِذا نظر الْمُؤمن بِعَين الْغَفْلَة والشهوة كَانَ تمتعا فالمتنبه كلما نظر إِلَى شَيْء ازْدَادَ علما وَكَانَ بَصَره رَأس مَاله والمزيد من الْعلم ربحه وَلِهَذَا جَاءَت بِهِ الْأَخْبَار أَن النّظر إِلَى الْبَحْر عبَادَة وَإِلَى الْعَالم عبَادَة وَإِلَى وَجه الْأَبَوَيْنِ عبَادَة لِأَنَّهُ عبد الله بِتِلْكَ النظرة

ص: 104

وَقَوله (واجعله الْوَارِث مني) أَي اجْعَل بَصرِي آخر مَا يخرج مني فَيكون قد ختمت لي بِالنُّبُوَّةِ والتوحيد وَالْعقل فَيكون بَصرِي هُوَ الْوَارِث لجوارحي فَإِن هَذِه الْأَبْصَار قد اجْتمعت فِي هَذَا الْبَصَر فَكَانَ آخر مَا يخرج مني لطافة الرّوح وَهُوَ بصر الْعين فَقَط فالسعيد من قبض روحه وَكَانَ آخر مَا يخرج مِنْهُ بصر توحيده وعقله والشقي من سلب ذَلِك ثمَّ قبض روحه فَكَانَ آخر مَا يخرج مِنْهُ بصر روحه فَقَط

قَالَ صلى الله عليه وسلم (إِن الرّوح إِذا فَارق الْجَسَد تبعه الْبَصَر أَلا ترى إِلَى شخوص عينه)

فَسَأَلَ صلى الله عليه وسلم الإمتاع ببصره أَن يديم لَهُ ذَلِك إِلَى أَن تُفَارِقهُ روحه وَكَانَ آخر مَا يخرج عَنهُ بَصَره لِأَنَّهُ كَانَ مُتَّصِلا ببصر الْعقل والتوحيد وَالْولَايَة والنبوة والرسالة والقيادة والسيادة حَتَّى يكون ذَلِك ختاما لأَمره

وَقَوله (وَأَرِنِي ثَأْرِي) مَعْنَاهُ أَرِنِي ببصري هَذَا مَا يكون فِي أمتِي إِلَى آخر الدَّهْر من النُّصْرَة لما جِئْت بِهِ فاستجيب لَهُ فأري ملك فَارس وَالروم فِي أمته ومنازل الْحُكَمَاء وَالْعُلَمَاء وَالْأَئِمَّة الهادية بِالْحَقِّ والقائمة بِالْعَدْلِ والفتن الَّتِي هِيَ كائنة فِي أمته وَالرَّحْمَة الَّتِي عمتهم

وَقَوله (وَانْصُرْنِي على من ظَلَمَنِي) ظلم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أَن يكذب وتنفى عَنهُ منَّة الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي شَأْن النُّبُوَّة فَسَأَلَ إِظْهَار حَقه الَّذِي جَاءَ بِهِ فَكَانَت تِلْكَ نصْرَة النُّبُوَّة فَكَانَ المستعدي عَلَيْهِ على أحد أَمريْن إِمَّا أَن يهديه الله تَعَالَى وَإِمَّا أَن يقْتله

ص: 105

-‌

‌ الأَصْل الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ والمائتان

-

‌فِي حَقِيقَة الْخَوْف وَحَقِيقَة الْمعرفَة

عَن معَاذ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (لَو خِفْتُمْ الله تَعَالَى حق خيفتة لعلمتم الْعلم الَّذِي لَا جهل مَعَه وَلَو عَرَفْتُمْ الله تَعَالَى حق مَعْرفَته لزالت بدعائكم الْجبَال)

حَقِيقَة الْخَوْف لمن وصل قلبه إِلَى فردانيته فَامْتَلَأَ من عَظمَة الفردية باهت فِي جَلَاله فأينما وَقع بَصَره على شَيْء وأينما دارت فكره واطلعت نَفسه تِلْكَ الْمطَالع علم الْعلم الصافي الَّذِي لَا يمازجه شُبْهَة وَلَا جهل بِمَنْزِلَة الشَّمْس إِذا أشرقت على أهل الدُّنْيَا بضوئه يُرِيك الْأَشْيَاء كلهَا حَتَّى لَا يخفى عَلَيْك مِنْهُ شَيْء لعُمُوم إشراقه على الْأَشْيَاء كلهَا فَكَذَا شَأْن الْقلب إِذا كمل علمه وأشرق نور الله تَعَالَى فِي صَدره فَذَلِك الضَّوْء يُرِيك أَمر الملكوت وَأُمُور الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِنَّمَا ينَال هَذَا الْعلم بِنور الْخَوْف وَنور الْخَوْف مَا أشرق فِي صَدره من نور العظمة الفردية فخافه حق خيفته وَعلم الْعلم الَّذِي لَا جهل مَعَه

ص: 106

لِأَنَّهُ يُرِيك ذَلِك النُّور بَاطِن الْأُمُور والأسرار الَّتِي فِي الغيوب الَّتِي خص الله تَعَالَى بالكشف عَنْهَا الْأَنْبِيَاء والأولياء عليهم السلام

وَقَوله (حق مَعْرفَته) أَن تعرفه بصفاته العلى وأسمائه الْحسنى معرفَة يَسْتَنِير قَلْبك بهَا فَإِذا عَرفته بذلك كَانَ دعاؤك عَن معرفَة وَحسن الظَّن بِهِ وَقَالَ عز من قَائِل أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي والكريم يستحيي أَن يعرف بِشَيْء ثمَّ لَا يكون لَهُ من ذَلِك الشَّيْء مِنْهُ نوال فَمَا ظَنك بِعَبْد يعرف ربه بِالْكَرمِ ثمَّ يَدعُوهُ فَيَقُول يَا كريم هَل يخيب الْعَارِف لَهُ بذلك وَقد عرفه بِالْكَرمِ معرفَة يَقِين

وَقد عرف الموحدون كلهم أَنه كريم وَلَكِن تِلْكَ معرفَة التَّوْحِيد لَا معرفَة الْيَقِين وَلِهَذَا يعاملونه مُعَاملَة اللئام وَلَا يأتمنونه على أَحْوَالهم إِذْ لَو ائتمنه لم يتَخَيَّر الْأَحْوَال وَألقى مَفَاتِيح الْأُمُور إِلَيْهِ حَتَّى يكون هُوَ الَّذِي يخْتَار لَهُ وَإِذا اخْتَار لَهُ مَا تكره نَفسه ويثقل عَلَيْهَا رَاض نَفسه وأدبها حَتَّى إِذا اخْتَار الله تَعَالَى لَهُ ذَلِك اهتش إِلَى الْمَكْرُوه كَمَا يهتش إِلَى المحبوب ثِقَة بِهِ وتفويضا إِلَيْهِ فَهَؤُلَاءِ الراضون عَن الله تَعَالَى رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ فهم أهل الخشية وَالَّذين عرفوه بِالْكَرمِ معرفَة التَّوْحِيد يتخيرون لَهُ الْأَحْوَال فيهربون من الْفقر والذل ويحتالون لأَنْفُسِهِمْ الْأَحْوَال المحبوبة ويطلبونها ويدبرون لأَنْفُسِهِمْ أمورا وَإِذا جَاءَهُم الْمَكْرُوه من الْأُمُور وَذَلِكَ لَهُ صنع من الله جميل رَأَيْت لَهُ نفسا دنية وخلقا شكسا فَلَا يزَال ذَلِك السوء يتَرَدَّد فِي صَدره حَتَّى يتكدر عَلَيْهِ عيشه فَإِن كَانَ صَاحب تقوى اتَّقى الله بجوارحه وصدره بِهَذِهِ الصّفة وَإِن خذل فَترك تقواه خرج ذَلِك من صَدره إِلَى الْجَوَارِح فافتضح عِنْد الْمَلَائِكَة وعقلاء خلقه فِي الأَرْض

ص: 107

-‌

‌ الأَصْل الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ والمائتان

-

‌فِي أَن الطاعم الشاكر لم صَار بِمَنْزِلَة الصَّائِم الصابر وَأَن الصَّبْر أفضل

عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (الطاعم الشاكر بِمَنْزِلَة الصَّائِم الصابر)

الصَّوْم هُوَ أَن يعزم على أَن يكف عَن الطَّعَام وَالشرَاب ومباشرة النِّسَاء طول النَّهَار والصائم كل سَاعَة تَتَرَدَّد فِيهِ شَهْوَة الطَّعَام وَالشرَاب وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَمْنُوع مِنْهُ فَرد شَهْوَته وتجرعت نَفسه مرَارَة الرَّد فَهُوَ صابر يَتَجَدَّد عَلَيْهِ الصَّبْر سَاعَة بعد سَاعَة عِنْد تحرّك كل شَهْوَة فِي نَفسه وَمنعه مِنْهَا فَهُوَ يردهَا وَيثبت على الْوَفَاء بنذره فَسُمي

ص: 108

الصَّائِم الصابر وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) إِنَّمَا صَار مُخْتَصًّا من بَين الْأَعْمَال بِأَن نسبه إِلَى نَفسه الْكَرِيمَة وَإِن كَانَ الْأَعْمَال كلهَا لله تَعَالَى لِأَن الصَّوْم لَيْسَ بِعَمَل الْأَركان وَيَقَع سرا فِيمَا بَينه وَبَين ربه سبحانه وتعالى والحفظة لَا تعلم ذَلِك وَلَا تطلع عَلَيْهِ وخفي عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَمِقْدَار ثَوَابه فولي الله تَعَالَى ذَلِك لعَبْدِهِ لِأَنَّهُ كلما ترددت شَهْوَة تَجَدَّدَتْ للْعَبد عَزمَة على الثَّبَات فَلهُ بِكُل عَزمَة ثَوَاب جَدِيد

وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم (مَا من نعْمَة وَإِن تقادم عهدها فَذكرهَا العَبْد فَحَمدَ الله عَلَيْهَا إِلَّا جدد الله تَعَالَى لَهُ ثَوَاب شكرها كَيَوْم شكره وَمَا من مُصِيبَة وَإِن تقادم عهدها فَذكرهَا العَبْد فَاسْتَرْجع إِلَّا جدد الله لَهُ ثَوَابهَا كَهَيْئَته يَوْم أُصِيب)

فللصائم بِكُل عَزمَة اسْتِئْنَاف صَبر قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} فقد خرج هَذَا من عمل الْحفظَة وإدراكهم

قَالَ صلى الله عليه وسلم (الْأَعْمَال كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّهُ لَا يعلم ثَوَاب عَامله إِلَّا الله تَعَالَى)

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم الْأَعْمَال عِنْد الله سَبْعَة عملان موجبان

ص: 109

وعملان بأمثالهما وَعمل بِعشر أَمْثَاله وَعمل بسبعمائة ضعف وَعمل لَا يعلم ثَوَاب عَامله إِلَّا الله تَعَالَى فَأَما الموجبان فَمن لَقِي الله يعبده مخلصا لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا وَجَبت لَهُ الْجنَّة وَمن لَقِي الله قد أشرك بِهِ وَجَبت لَهُ النَّار وَمن عمل سَيِّئَة جزي بِمِثْلِهَا وَمن عمل حَسَنَة جزي عشرا وَمن أنْفق مَاله فِي سَبِيل الله ضعفت بسبعمائة وَالصِّيَام الَّذِي لَا يعلم ثَوَاب عَامله إِلَّا الله تَعَالَى

وَقَوله (الطاعم الشاكر بِمَنْزِلَة الصَّائِم الصابر) فالإيمان منقسم على الشُّكْر وَالصَّبْر

قَالَ صلى الله عليه وسلم (الْإِيمَان نِصْفَانِ نصف للشكر وَنصف للصبر)

لِأَن العَبْد فِي جَمِيع عمره بَين مَحْبُوب ومكروه فالإيمان يَقْتَضِي الشُّكْر عِنْد المحبوب وَالصَّبْر عِنْد الْمَكْرُوه فَإِذا وفى لَهما وفر إيمَانه فَإِذا طعم وَهُوَ مَحْبُوب النَّفس فَشكر فقد أَتَى بِنصْف وَفَاء الْإِيمَان وَإِذا جَاع وَهُوَ مَكْرُوه النَّفس فَصَبر فقد أَتَى بِنصْف وَفَاء الْإِيمَان وَهَكَذَا فِي جَمِيع الْأَعْمَال وَهَذَا لِأَن العَبْد لما آمن بِقَلْبِه واعترف بِلِسَانِهِ امتحن صدق مَا فِي قلبه وطمأنينة نَفسه بِالْإِيمَان بالمحبوب وَالْمَكْرُوه فَإِن أبرز عِنْد المحبوب شكرا وَعند الْمَكْرُوه صبرا فقد أَتَى بوفاء الْإِيمَان

قَالَ تَعَالَى {الم أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون وَلَقَد فتنا الَّذين من قبلهم فليعلمن الله الَّذين صدقُوا وليعلمن الْكَاذِبين}

ص: 110

لِأَن الشَّهْوَة الَّتِي فِي ابْن آدم من المحفوف بِبَاب النَّار فَإِذا أثارها مَحْبُوب من الْأُمُور فَهِيَ حِرْفَة يَقْتَضِي عَلَيْهَا الشُّكْر وَهُوَ رؤيتها من خَالِقهَا والمقدر لَهُ وَإِذا آثرها بمكروه فَهِيَ حِرْفَة يَقْتَضِي عَلَيْهَا الصَّبْر للمقدر الْحَاكِم عَلَيْهِ بذلك لتظهر صِحَة إيمَانه فيباهي الله تَعَالَى بِهِ يَوْم الْموقف مَلَائكَته عليم السَّلَام إِذا أَتَى الله تَعَالَى بِالصبرِ وَالشُّكْر

ص: 111

-‌

‌ الأَصْل الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ والمائتان

-

‌فِي أدب شرب المَاء وفوائد كل شربة وَحِكْمَة الشُّكْر والشفاء والوترية

عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (إِذا شربتم فَاشْرَبُوا بِثَلَاثَة أنفاس فَالْأول شكر لشرابه وَالثَّانِي شِفَاء فِي جَوْفه وَالثَّالِث مطردَة للشَّيْطَان وَإِذا شربتم فمصوه مصا فَإِنَّهُ أَجْدَر أَن يجْرِي مجْرَاه وَأَنه أهنا وأمرأ)

النَّفس الأول صَار شكرا للمنتهين لما خلص إِلَيْهِ عذوبة المَاء ورطوبته وبرودته ترَاءى لِقَلْبِهِ لطف الله تَعَالَى فِي ذَلِك المَاء كَيفَ جرت ربوبيته فِيهِ حَتَّى رطبه وأعذبه وبرده فَكَانَت رُؤْيَته لذَلِك شكرا وَإِذا كَانَ النَّفس الأول بِهَذِهِ الْهَيْئَة ذهب بالداء وَإِذا ذهب الدَّاء جَاءَت نوبَة الشِّفَاء فَلَمَّا شكر هَذَا العَبْد فِي النَّفس الأول اسْتوْجبَ من الله تَعَالَى الْمَزِيد قَالَ تَعَالَى {لَئِن شكرتم لأزيدنكم}

ص: 112

فاجتلب فِي النَّفس الثَّانِي الْمَزِيد فَصَارَ شِفَاء لِأَن الْبركَة قد اشْتَمَلت على الْمَزِيد

وَأما النَّفس الثَّالِث صَار مطردَة للشَّيْطَان للوترية الَّتِي فِيهِ فَإِن الله تَعَالَى وتر يحب الْوتر فَالنَّفْس الأول رَحمته وَالنَّفس الثَّانِي شكره لعَبْدِهِ وَهُوَ مزيده وَالنَّفس الثَّالِث محبوبه لسمة الوترية فوتريته تَعَالَى نفت كل خلط فِي الْأَعْمَال مِمَّا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يزاوجه لِأَنَّهُ مستعد لِأَن يزاوج بِمَا يُورد على الْقُلُوب فِي ملك الصُّدُور والموحد يَنْفِي مزاوجته بحظه من وترية الله تَعَالَى حَتَّى يبطل كَيده ويصفو عمله لله تَعَالَى الْوتر وَلذَلِك كَانَت الْعلمَاء يتوخون الْوتر فِي كل شَيْء فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يتَوَضَّأ وترا وَإِذا تكلم فَأَعَادَ الحَدِيث أعَاد وترا وَكَانَ يتوخى الوترية فِي كل شَيْء وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه يتوخى الوترية فِي كل شَيْء حَتَّى أَنه كَانَ يقْرَأ فِي صلَاته بِأم الْقُرْآن بِثَلَاثَة أنفاس وَكَانَ ابْن سِيرِين رضي الله عنه يتفقد بِطَلَب ذَلِك حَتَّى يَأْمر الْخَادِم أَن يضع على مائدته من كل شَيْء وترا يتوخون بذلك مَحْبُوب الله تَعَالَى والتماس الْبركَة وانطراد الشَّيْطَان ونفوره وَإِذا انطرد الشَّيْطَان بَقِي الشِّفَاء على هَيئته وَثَبت الشُّكْر لصَاحبه قَالَ صلى الله عليه وسلم (إِن الله ليرضى على العَبْد بالشربة الْوَاحِدَة والأكلة الْوَاحِدَة يشْربهَا أَو يأكلها فيحمد الله عَلَيْهَا)

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (مَا أنعم الله على عبد من نعْمَة صَغِيرَة وَلَا

ص: 113

كَبِيرَة فَحَمدَ الله عَلَيْهَا إِلَّا كَانَ قد أعطي خيرا مِمَّا أَخذ)

فَالنَّفْس الأول للشكر وَإِنَّمَا يثبت الشُّكْر للوترية فِي النَّفس الثَّالِث لانطراد الشَّيْطَان لِأَنَّهُ لم يكن مطرودا دخل عَلَيْهِ بوسوسة مَا يبطل شكره بِأَن يوسوس إِلَيْهِ فِي عذوبته أَو فِي صفائه أَو فِي برده خللا ينغص عَلَيْهِ النِّعْمَة حَتَّى يغيب عَن قلبه لطف ربوبية الله تَعَالَى فِي ذَلِك المَاء فِي وَقت الشّرْب

وَقد اسْتوْجبَ العَبْد رِضَاء الله تَعَالَى فِي شربة وَاحِدَة لهَذِهِ الْآدَاب الَّتِي دأب عَلَيْهَا مُطيعًا لله تَعَالَى طَالبا فِيهَا حسن الْعَمَل وَهَذِه الشربة الْوَاحِدَة إِنَّمَا رَضِي الله بهَا عَن العَبْد لِأَنَّهُ سمى فِي أَولهَا وتنفس حِين قطع الشُّكْر للمزيد ليجتلبه فَإِن الْمَزِيد أَكثر من الشُّكْر ثمَّ تنفس فَقطع ليجتلب الوترية فينفي الْعَدو الْحَاسِد الَّذِي قد أعد لَهُ فِي كل شَيْء حسدا فَيثبت لَهُ الشُّكْر فيدوم فَإِذا حمد الله فقد خَتمه بِكَلِمَة الصدْق فَرضِي عَنهُ بِتِلْكَ الْكَلِمَة الصادقة وَإِذا حمد حمدا مَعَ ترك الْأَدَب كَانَت كَلمته مدخولة فَلَا يسْتَوْجب الرضى لِأَنَّهُ مَعَ اسْتِيلَاء الْغَفْلَة كحمد السكارى وَإِذا رَضِي الله تَعَالَى عَن عَبده أثنى عَلَيْهِ وأحبه مَلَائكَته

قَالَ صلى الله عليه وسلم (من شرب المَاء بِثَلَاثَة أنفاس بَدَأَ فَسمى فِي كل مرّة وَحمد كل مرّة سبح المَاء فِي جَوْفه حَتَّى يشرب مَاء غَيره)

ص: 114

وَقَوله (إِذا شربتم فمصوا) لِأَن اللهاة تيبس من حرارة الْجوف ولهبان الكبد فتعطش اللهاة فَإِذا مص المَاء كَانَ كثير الْبُرُودَة على اللهاة فيسكن الْعَطش فاستغنى عَن كثرته إِذْ كَثْرَة المَاء تتخم وتحدث دَاء كَثِيرَة فَإِذا مص أسْرع إِلَى تسكين الْعَطش فاستغنى عَن الازدياد وَلِأَنَّهُ أرْفق لمجراه فِي الْعُرُوق

قَالَ (لَا تَعبه عبا فَإِن الكباد من العب)

فَإِنَّهُ إِذا عب أضرّ بالكبد لِأَنَّهُ مجمع الْعُرُوق وَمِنْه تَنْقَسِم فِي الْعُرُوق فَإِذا عبه فِي دفْعَة وَاحِدَة كَانَ بِمَنْزِلَة نهر فتحت مفتحه دفْعَة وَاحِدَة فَدخل المَاء جملَة لم يُؤمن البثق وَالْفساد فَكَذَا إِذا شربه عبا لَا مصا لم تحْتَمل الْعُرُوق وفاضت من الْمعدة إِلَى الْعُرُوق فَرُبمَا كَانَ على الطَّرِيق سدة فِي الْعُرُوق فاحتبس المَاء هُنَاكَ فدوي فَصَارَ خاما وَقَوي البلغم فَحدثت مِنْهُ أدواء فِي النَّفس وأورثت كسلا عَن عبَادَة الله تَعَالَى وفتورا فَمن لَهَا عَن تفقد ذَلِك يُوشك أَن يُؤَدِّيه إِلَى مَا هُوَ أكبر مِنْهُ فَكَانَ صلى الله عليه وسلم شفيقا على الْأمة رؤوفا رحِيما أَن يؤديهم إِلَى الله تَعَالَى مَعَ زِينَة الْإِسْلَام وبهاء الْإِيمَان فعلمهم تنَاول الطَّعَام وَالشرَاب وكل شَيْء للنَّفس فِيهِ حق وَقد طهره الله تَعَالَى وأدبه وَأَحْيَا قلبه وَنَفسه فَقبل أدبه وَصَارَ مهذبا وأمرنا بالاتساء بِهِ فَقَالَ تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} وَجعل الإتباع لَهُ عَلامَة محبته فِي قُلُوب الْعباد فَقَالَ {إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} فَأوجب محبته لمن اتبعهُ

ص: 115

-‌

‌ الأَصْل السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ والمائتان

-

‌فِي أَن النّوم مَعَ الطُّهْر كَالصَّوْمِ مَعَ الْقيام

عَن عَمْرو بن حُرَيْث رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (النَّائِم الطَّاهِر كالصائم الْقَائِم)

الصَّائِم بترك الشَّهَوَات يطهر وبقيامه بِاللَّيْلِ يحيا والنائم نوم الْعدة محتسبا إِذا نَام على طَهَارَة بِمَنْزِلَتِهِ فَإِن نَفسه تعرج إِلَى الله تَعَالَى فَإِذا كَانَ طَاهِرا قرب فَسجدَ تَحت الْعَرْش

قَالَ عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما تعرج الْأَرْوَاح إِلَى الله تَعَالَى فِي منامها فَمَا كَانَ طَاهِرا سجد تَحت الْعَرْش وَمَا كَانَ غير طَاهِر سجد قاصيا فَلذَلِك يسْتَحبّ أَن لَا ينَام الرجل إِلَّا وَهُوَ طَاهِر

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رضي الله عنه إِذا نَام الْإِنْسَان عرج بِنَفسِهِ

ص: 116

حَتَّى يُؤْتى بهَا إِلَى الْعَرْش فَإِذا كَانَ طَاهِرا أذن لَهَا فِي السُّجُود وَإِن كَانَ حنبا لم يُؤذن لَهَا فِي السُّجُود

وَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رضي الله عنه إِن النَّفس تعرج أصوب فَإِنَّهُ يرْوى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ (وكل بالنفوس شَيْطَان يُقَال لَهُ الهو فَهُوَ يخيل إِلَيْهَا ويتراءى إِلَى أَن يَنْتَهِي إِذا عرج بهَا فَإِذا انْتَهَت إِلَى السَّمَاء فَمَا رَأَتْ فَهُوَ الرُّؤْيَا الَّتِي تصدق) إِلَّا أَن عبد الله بن عَمْرو إستجاز أَن يُسَمِّي الرّوح باسم قرينها كالقلب والفؤاد وَالنَّفس وَالروح قرينان إِلَّا أَن الرّوح سماوي يَدْعُو إِلَى الطَّاعَة ومسكنه فِي الرَّأْس وَالنَّفس أرضية تَدْعُو إِلَى الشَّهَوَات وَقد وضع فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا شَيْء من الْحَيَاة فَيعْمل بِتِلْكَ الْحَيَاة فبالنفس يَأْكُل وَيشْرب وَيسمع ويبصر وبالروح يعف ويستحيي ويتكرم ويتلطف ويعبد ربه ويطيع وَالنَّفس هِيَ الأمارة بالسوء وَهِي حارة وَالروح بَارِد فَإِذا نَام العَبْد خرجت النَّفس بحرارتها فعرج بهَا إِلَى الملكوت وَالروح بَاقٍ مُعَلّق بنياط الْقلب يحرس الْقلب بِمَا فِيهِ من التَّوْحِيد وأصل النَّفس بَاقٍ يتَقَيَّد بِالروحِ وَقد خرج شعاعها قَالَ الله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى}

وَلذَلِك تَجِد النَّائِم اسْتَيْقَظَ فِي أَعْضَائِهِ بردا فِي أَيَّام الصَّيف لخُرُوج حرارة النَّفس

والنفوس تشترك بَين الْآدَمِيّ والبهائم وَفضل الْآدَمِيّ بِالروحِ السماوي ليَكُون دَاعيا لنَفسِهِ إِلَى الطَّاعَة وَإِذا نَام العَبْد خرجت النَّفس فَلَقِيت من أُمُور الملكوت وأخبار الْغَيْب مَا يرجع إِلَى صَاحبهَا بِالْعلمِ الشافي

ص: 117

قَالَ صلى الله عليه وسلم (رُؤْيا الْمُؤمن جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة)

وَقَالَ أَيْضا صلى الله عليه وسلم (لم يبْق بعدِي من النُّبُوَّة شَيْء إِلَّا الْمُبَشِّرَات رُؤْيا الْمُؤمن)

فَإِذا عرجت النَّفس صَارَت إِلَى فنَاء الْعَرْش فظهرت بِقرب الله تَعَالَى وبالسجود الَّذِي أذن لَهَا فَرَجَعت إِلَى صَاحبهَا طَاهِرَة بِالْقربِ محبوة بكرامة السُّجُود فَصَارَت بِمَنْزِلَة الصَّائِم الَّذِي طهر بترك الشَّهَوَات وحيى بِقِيَام اللَّيْل فَهَذِهِ منزلَة الصَّادِقين اسْتَوَى نَومه على طَهَارَة بصيامه وقيامه

وَلِهَذَا قَالَ معَاذ رضي الله عنه لأبي مُوسَى إِنِّي أَنَام نصف اللَّيْل وأقوم نصفه فأحتسب نومتي كَمَا أحتسب قومتي

فَأَما منزلَة الصديقين خَاصَّة الله تَعَالَى فَهِيَ أرفع من هَذَا فَإِن النّوم

ص: 118

عِنْدهم أثر من الْقيام لِأَن نُفُوسهم قد قلقت بَين الأحشاء فَهِيَ تطلب الانفلات إِلَى فسحة التَّوْحِيد إِلَى فحص الْعَرْش وَطلبت الْعُقُول الْوُصُول إِلَى الله تَعَالَى فاغتنم مَا تطلب النَّفس فاقترنا فَخرج الْعقل بحظه من الْقلب اشتياقا إِلَى الله تَعَالَى وَخرجت النَّفس اشتياقا إِلَى فسحة الْعَرْش وَالروح الَّذِي هُنَاكَ فَإِذا رجعا إِلَى الْبدن أوردا على الرّوح من الطهارات والكرامات مَا لَا يخْطر على قلب بشر حَتَّى يرتاح ويطهر وَلذَلِك كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يتوخى نوم السحر

قَالَت عَائِشَة رضي الله عنها مَا أَلْقَاهُ السحر عِنْدِي إِلَّا نَائِما

فالسحر سَاعَة نزُول الرب سبحانه وتعالى إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا واطلاعه على الْخلق والعطف عَلَيْهِم والنداء أَلا هَل من دَاع فأستجيب لَهُ أَلا هَل من تائب فأتوب عَلَيْهِ أَلا هَل من سَائل فَأعْطِيه أَلا هَل من مُسْتَغْفِر فَأغْفِر لَهُ وَهُوَ باسط يَده لمسيء النَّهَار أَن يَتُوب بِاللَّيْلِ ثمَّ يَقُول من يقْرض غير مَعْدُوم وَلَا مطول

فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يتوخى النّوم فِي ذَلِك الْوَقْت لعروج نَفسه إِلَى الله تَعَالَى فَتَلقاهُ فِي سمائه وَهَذَا أفضل عِنْده من قِيَامه لِأَنَّهُ فِي حَال الْقيام إِنَّمَا يعرج إِلَيْهِ قلبه بعقله وَفِي حَالَة النّوم تعرج النَّفس وَالْعقل وَالْقلب فاجتماع الثَّلَاثَة أفضل عِنْده فخاصة الله تَعَالَى نالوا هَذَا الْحَظ وتوخوا بنومهم ذَلِك فصاروا أفضل من الصائمين القائمين وَأما الصَّادِق فقد اعتدل نَومه بصومه ومكثه فِي نَومه بقومته وإليهم أَشَارَ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث وَهَذَا مثل قَوْله صلى الله عليه وسلم (الطاعم الشاكر بِمَنْزِلَة الصَّائِم الصابر)

فَهَذَا شكر الصَّادِقين عدل شكره على طَعَامه بصبره فِي صِيَامه فَأَما شكر الصديقين فقد فاق وبرز على صَبر الصائمين لِأَن الصَّبْر ثبات العَبْد فِي مركزه عَن الشَّهَوَات برد مَا يهتاج مِنْهُ من الشَّهَوَات

ص: 119

فِي وَجه النَّفس والشاكر من الصديقين يطعم ويفتتح طَعَامه بِبسْم الله الَّذِي يمْلَأ تَسْمِيَته مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض ويطفئ حرارة شَهْوَته وَيرى لطف الله تَعَالَى فِي ذَلِك الطَّعَام ورأفته بِهِ فِي سياقته إِلَيْهِ ويحمد الله تَعَالَى على مَا يرى من صَنْعَة الله تَعَالَى فِي ذَلِك الطَّعَام حمدا لَا يَنْتَهِي فقد بَان تفَاوت مَا بَين هذَيْن الْحَالين

وَعند معَاذ بن جبل رضي الله عنه قَالَ أَبْطَأَ عَنَّا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِصَلَاة الْفجْر حَتَّى كَادَت الشَّمْس تدركنا ثمَّ خرج فصلى بِنَا فَخفف فِي صلَاته ثمَّ انْصَرف فَأقبل علينا بِوَجْهِهِ فَقَالَ على مَكَانكُمْ أخْبركُم بإبطائي عَنْكُم الْيَوْم فِي هَذِه الصَّلَاة إِنِّي صليت فِي لَيْلَتي هَذِه مَا شَاءَ الله تَعَالَى ثمَّ ملكتني عَيْني فَرَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة وأجملها فَقَالَ يَا مُحَمَّد قلت لبيْك يَا رب قَالَ فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى قلت لَا أَدْرِي يَا رب ثمَّ قَالَ يَا مُحَمَّد قلت لبيْك يَا رب قَالَ فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى قلت لَا أَدْرِي يَا رب قَالَ فَوضع كَفه بَين كَتِفي فَوجدت برد أنامله بَين ثديي فَعلمت من كل شَيْء وبصرته ثمَّ قَالَ يَا مُحَمَّد قلت لبيْك يَا رب قَالَ فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى قلت فِي الْكَفَّارَات قَالَ وَمَا هن قلت فِي الْمَشْي على الْأَقْدَام إِلَى الْجَمَاعَات وَفِي إسباغ الْوضُوء فِي السبرات وَفِي الْقعُود فِي الْمَسَاجِد بعد الصَّلَوَات قَالَ ثمَّ فيمَ قَالَ قلت وَفِي إطْعَام الطَّعَام ولين الْكَلَام وَالصَّلَاة بِاللَّيْلِ وَالنَّاس نيام قَالَ سل قلت اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك حب الْحَسَنَات وَترك الْمُنْكَرَات وَحب الْمَسَاكِين وَأَن تغْفر لي وترحمني وَإِذا أردْت فتْنَة فِي خلقك فنجني إِلَيْك مِنْهَا غير مفتون اللَّهُمَّ وَأَسْأَلك حبك وَحب من يحبك وَحب عمل يقرب إِلَى حبك ثمَّ أقبل علينا فَقَالَ تُعَلِّمُوهُنَّ وادرسوهن فَإِنَّهُنَّ حق

ص: 120

فَانْظُر كم بَين النومة والقومة فَهُوَ قصد المشتاقين إِلَى الله تَعَالَى فِي الْمَنَام يتوخون بهَا تجدّد أَحْوَال النُّفُوس ويتوقعون من الله تَعَالَى المنن وَكَانَ أَبُو بكر رضي الله عنه يَقُول لِأَن أسمع برؤيا صَالِحَة أحب إِلَيّ من كَذَا وَكَذَا

ص: 121

-‌

‌ الأَصْل السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ والمائتان

-

‌فِي التَّعَوُّذ بِاللَّه من الرغب

عَن أبي سعيد رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (تعوذوا بِاللَّه من الرغب) قَالَ وَكَانَت ابْنة رغيبة فَدَعَا الله عَلَيْهَا فَمَاتَتْ

الرغب كَثْرَة الْأكل والشبع مَفْقُود حَتَّى يحْتَاج صَاحبه أَن يثابر عَلَيْهِ فِي الْيَوْم مَرَّات وَذَلِكَ من غَلَبَة الْحِرْص ولهبان ناره يهضم ذَلِك الطَّعَام وينشف رطوبته حَتَّى يسْرع فِي يبسه فَيصير تفلا يحْتَاج إِلَى أَن ينفضه نفضا

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (الرغب شُؤْم) لِأَن ذَلِك من جعامة النَّفس وَإِذا كَانَت النَّفس جعمة فصاحبها مفتون وجعامة النَّفس من قلَّة حَظه من الله تَعَالَى وَبعد قلبه مِنْهُ وربة نفس مَالَتْ جعامتها إِلَى بَطْنه فَيكون مفتونا ببطنه وَلَذَّة حلقه هالعا لَا يدع رطبا وَلَا يَابسا وربة نفس مَالَتْ جعامتها بهَا إِلَى فرجه فَكَانَ منهوما بذلك وَإِذا عجز عَنهُ فعلا لكبر أَو ضعف فقلبه منهوم وَلسَانه رافث وعينه طماحة

ص: 122

خَائِنَة قَالَ صلى الله عليه وسلم (أَكثر مَا يدْخل النَّاس الْجنَّة حسن الْخلق وَأكْثر مَا يدْخل النَّاس النَّار الأجوفان الْبَطن والفرج)

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (أشر مَا فِي الْإِنْسَان شح هَالِع وَجبن خَالع)

وَالشح الهالع هُوَ الْحِرْص الَّذِي لَهُ حريق فِي الْجوف وَصَاحبه لَا يشْبع والجبن الخالع هُوَ الَّذِي إِذا وَقع الْخَوْف فِي الرئة انتفخ من الْجُبْن وَسُوء الظَّن حَتَّى يرحل الْقلب من مَكَانَهُ فَيبقى مُعَلّقا كالمتخلع والرغب مُشْتَقّ من الرَّغْبَة وَالرَّغْبَة خلقت من أَخْلَاق الْكفْر

قَالَ وهب رضي الله عنه وجدت فِي الْحِكْمَة مَكْتُوبًا بني الْكفْر على أَرْبَعَة أَرْكَان على الرَّغْبَة والرهبة والشهوة وَالْغَضَب

فالرغبة ربع الْكفْر وَالْمُؤمن لَا يرغب بل يتَنَاوَل على الْحَاجة وَلَا يسْتَمْتع بل يتزود لِأَنَّهُ مُسَافر قد أَيقَن بِالْبَعْثِ فَهُوَ فِي السّير إِلَى ربه فَمَا أَخذه من الدُّنْيَا أَخذه تزودا ليقطع مَسَافَة أَيَّام الدُّنْيَا إِلَى يَوْم مقدمه عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ الَّذِي حل بِهِ وَالْكَافِر قد ركن إِلَى الدُّنْيَا وَنَعِيمهَا وَلم يقر بِالْبَعْثِ وَلَا اطْمَأَن إِلَى أَنه صائر إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى مَا يأمله الْمُؤمن من الرَّجَاء الْعَظِيم والأمل الفسيح فَيَأْخُذ من الدُّنْيَا متمتع وَيَأْكُل أكل متشبع

قَالَ صلى الله عليه وسلم (مَا مَلأ آدَمِيّ وعَاء شرا لَهُ من بطن بِحَسب

ص: 123

ابْن آدم لقمات يقمن صلبه فَإِن كَانَ لَا بُد فثلث طَعَام وَثلث شراب وَثلث نفس)

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لأبي جُحَيْفَة رضي الله عنه حَيْثُ تجشأ (يَا أَبَا جُحَيْفَة أقصر من جشائك فَإِن أطول النَّاس جوعا يَوْم الْقِيَامَة أَكْثَرهم شبعا فِي الدُّنْيَا)

وَيُقَال الشِّبَع أَب الْكفْر لِأَنَّهُ يحدث مِنْهُ الأشر والبطر ومنهما يتكبر ويتجبر

وَقَالَ عليه السلام إِن الله تَعَالَى يحب القتير من أمتِي قيل يَا رَسُول الله وَمَا القتير قَالَ قَلِيل الطّعْم

وَرُوِيَ عَن يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ لإبليس هَل وجدت مني شَيْئا قطّ قَالَ لَا إِلَّا أَنَّك رُبمَا شبعت فَثقلَتْ عَن الصَّلَاة فعاهد الله تَعَالَى أَن لَا يشْبع حَتَّى يخرج من الدُّنْيَا فَأمر عليه السلام بالتعوذ مِنْهُ ليعافى من هَذِه الْآفَات إِن شَاءَ الله تَعَالَى

ص: 124

-‌

‌ الأَصْل الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ والمائتان

-

‌فِي سَبَب زِيَادَة الْعُمر

عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (يَا بني أَسْبغ الْوضُوء يزدْ فِي عمرك)

فَزِيَادَة الْعُمر على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن العَبْد إِذا عمر بِالْإِيمَان وبحياة الْقلب بِهِ فَذَاك كثير وَإِن قل مدَّته لِأَن الْقصير من الْعُمر إِذا احتشى من الْإِيمَان أربى على الْكثير لِأَن المبتغي من الْعُمر العبودة لله تَعَالَى كي يصير عِنْد الله تَعَالَى وجيها أَلا ترى أَن المعمرين من الرُّسُل عليهم السلام كلهم عمروا مَا بَين الْمِائَتَيْنِ إِلَى الْألف وَمُحَمّد صلى الله عليه وسلم لبث فِي النُّبُوَّة نيفا وَعشْرين سنة فأربى على الْجَمِيع وتقدمهم لعَظيم حشوه ووفور حَظه ودنو قربه حَتَّى قَالَ (أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر وَإِن الله تَعَالَى أَعْطَانِي خِصَالًا لم يُعْط أحدا قبلي سميت

ص: 125

أَحْمد ونصرت بِالرُّعْبِ وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا وَأحلت لي الْغَنَائِم)

الْوَجْه الثَّانِي أَن الله تَعَالَى قدر الْآجَال والأرزاق والحظوظ من أَهلهَا فَجعل بَعْضهَا وَاجِبَة وَبَعضهَا هَدِيَّة ثمَّ أثبت ذَلِك فِي الْكتاب الَّذِي عِنْده لَا يطلع عَلَيْهِ أحد وَمِنْه نسخ إِلَى اللَّوْح فَيَمْحُو من ذَلِك الْأُم مَا شَاءَ وَيثبت مَا شَاءَ وَإِنَّمَا يمحو من الْهَدَايَا بالأحداث الَّتِي تكون من أَهلهَا فِي الأَرْض فَأَما الْوَاجِبَات فقد وَجَبت لأَهْلهَا فَإِذا حَافظ الْمُؤمن على الْوضُوء وأسبغه فَإِنَّمَا يَدُوم هَذَا الْفِعْل لوفارة إيمَانه واتساع صَدره شرحا لِلْإِسْلَامِ فهداياه فِي أم الْكتاب مثبتة تربو بحفظه وصونه للهدايا فَإِذا استخف بهَا دخل التَّخْلِيط فِي إيمَانه وَذَهَبت الوفارة وانتقص من كل شيئ بِمَنْزِلَة الشَّمْس الَّتِي ينكسف طرف مِنْهَا فبقدر مَا انكسف وَلَو مِقْدَار رَأس إبرة انْتقصَ من شعاعها وإشراقها فَكَذَلِك نور الْمعرفَة بِقدر مَا ينكسف من شمسها ينتقص من جَمِيع أَعماله وأخلاقه وَسيرَته فِي الدّين بَين يَدي الله تَعَالَى لِأَن الْقلب صَار محجوبا وَمن حجب عَن الله تَعَالَى بِمِقْدَار رَأس إبرة فزوال الدُّنْيَا بكليتها أَهْون من ذَلِك فَلَا يزَال العَبْد ينتقص ويدوم ويتراكم نقصانه وَهُوَ أبله لَا ينتبه بذلك حَتَّى يسْتَوْجب الحرمان فتمحى الْهَدِيَّة وَيبقى العَبْد خَالِيا وَلَو قد عقل لما حل بِهِ وانتبه لَهُ لم يزل صَارِخًا إِلَى الله تَعَالَى حَتَّى تثبت لَهُ الْهَدِيَّة وَيُزَاد فِي الْعُمر فيؤخر أَجله ويزداد فِي رزقه وقوته فِي أَعمال الدّين وَالدُّنْيَا وَيُزَاد فِي الْبركَة فِي كل شَيْء مِنْهُ

وَقد جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ (إِن الرجل ليبقى من أَجله ثَلَاثَة أَيَّام فيصل رَحمَه فيزيد الله تَعَالَى فِي عمره ثَلَاثِينَ سنة)

ص: 126

وَكَيف لَا يُزَاد فِي عمره وَقد تعلق بقميص الرَّحْمَة وَالْأَخْبَار مستفيضة فِي نسأ من أَعمال الْبر أَنه يُزَاد فِي عمره ثَوابًا لتِلْك الْأَعْمَال فَذَلِك عَاجل الثَّوَاب بشرى لما أعد لَهُ فِي الْآخِرَة من الثَّوَاب

وَعَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ تَذَاكرنَا زِيَادَة الْعُمر عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (لن يُؤَخر الله نفسا إِذا جَاءَ أجلهَا زِيَادَة الْعُمر ذُرِّيَّة صَالِحَة يرزقها الله تَعَالَى العَبْد يدعونَ لَهُ بعد مَوته يلْحقهُ دعاؤهم فَذَلِك الزِّيَادَة فِي الْعُمر)

وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من كَانَ يُرِيد أَن يبسط عَلَيْهِ فِي رزقه وينسأ فِي أَثَره فَليصل رَحمَه)

ص: 127

-‌

‌ الأَصْل التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ والمائتان

-

‌فِي خَصَائِص النَّبِي الْأُمِّي وَفِي سر قَوْله أَعْطَيْت خمْسا

إِلَخ

عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (أَعْطَيْت خمْسا لم يُعْطهنَّ نَبِي من قبلي وَلَا أَفْخَر بعثت إِلَى الْأسود والأحمر وَكَانَ النَّبِي قبلي يبْعَث إِلَى قومه وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا ونصرت بِالرُّعْبِ أَمَامِي مسيرَة شهر وَأحلت لي الْغَنَائِم وَلم تحل لأحد قبلي وَأعْطيت الشَّفَاعَة فدخرتها لأمتي فَهِيَ نائلة إِن شَاءَ الله تَعَالَى لمن لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا)

الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مَبْعُوث إِلَى الْخلق بِمَنْزِلَة الْأَمِير المؤمر يُعْطي الْإِمَارَة وَالْولَايَة وَالرِّعَايَة فَهُوَ بِمَنْزِلَة الرَّاعِي يرْعَى غنمه فِي مرَاعِي تسمن عَلَيْهَا ويوردهم صفو المَاء ويرتاد لَهُم فِي الصَّيف مشتاهم وَفِي الشتَاء

ص: 128

مصيفهم ويعد لَهُم لكل لَيْلَة مأوى قبل هجومه ويفر بهَا عَن مراتع الهلكة ويجنبها الْأَرْضين الوبئة ويحرسها من السبَاع ويحوطها عَن الشذوذ وَيلْحق شذاذها وَيجْبر كسيرها ويداوي مريضها وَيجمع رسلها من الألبان وَالصُّوف لرب الْغنم فَهَذَا رَاع نَاصح لمَوْلَاهُ وأجره موفور عَلَيْهِ يَوْم الْجَزَاء ومتوقع من رب الْغنم أفضل هَدِيَّة على قدر ملكه

فالرسول عليه السلام هُوَ راعي الْخلق والخلق غنمه بعث ليرعاهم فشرع لكل خَارِجَة فِي واديها مَاذَا تباشر وماذا تجتنب فأحل من كل خَارِجَة بَعْضًا وَحرم بَعْضًا وأوردهم من الْمِيَاه أصفاها وَهُوَ الْعلم الصافي وهيأ لَهُم المشتى والمصيف وَهُوَ الاستعداد فِي الْحَيَاة وَأَيَّام الصِّحَّة وَالْقُوَّة قبل الْهَرم وَالْمَرَض قبل الْمَوْت وَأعد لَهُم المأوى فَبين لَهُم عِنْد حُدُوث الْفِتَن كالليل المظلم إِلَى أَيْن يأوون وبمن يعتصمون ويعزلهم عَن مراتع الهلكة وَهِي الشَّهَوَات الدُّنْيَوِيَّة المشوبة بالحرص ويجنبهم الأَرْض الوبئة وَهِي الأفراح الَّتِي تحل بِالْقَلْبِ مِنْهَا فيوبأ ويمرض مِنْهَا الْقلب ويحرسهم عَن الشذوذ مَخَافَة الذئاب وَهُوَ الْعَدو وَيجْبر كسيرهم إِذا وَقَعُوا فِي الْمعاصِي ويدعوهم إِلَى التَّوْبَة ويعينهم عَلَيْهَا حَتَّى يجْبر كسيرهم ويداوي مريضهم وَهُوَ أَن يعظ مفتونهم حَتَّى يخلصهم بالمواعظ من فتن النُّفُوس وَيحمل بهماتهم وَهُوَ أَن يَدْعُو لَهُم ويستغفر لَهُم وَيسْأل الله تَعَالَى قبُول أَعْمَالهم فَهَذَا رَاع

وَهُوَ مَعَ ذَلِك أَمِير يؤدبهم ويحملهم على المكاره ويسوقهم ويسير بهم بِسَوْط الْأَدَب على مشارع الاسْتقَامَة ليوافي بهم الْموقف بَين يَدي الله عز وجل فَكل رَاع إِلَّا وَمَعَهُ عَصا يهش بهَا على الْغنم ويؤدبهم بهَا وَقد ذكر سُبْحَانَهُ عَصا مُوسَى عليه السلام فِي تَنْزِيله فَكل رَاع مُؤْنَته على قدر غنمه وكل أَمِير مُؤْنَته على قدر رَعيته فالأمير الْمَبْعُوث إِلَى كورة مُحْتَاج على قدر ولَايَته إِلَى آلَة الْولَايَة من

ص: 129

الخدم وَالدَّوَاب والمراكب والكنوز على قدر ولَايَته لينفق فِي إمارته فَمن أَمر على مجارستان فَهُوَ أقل حظا من هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي وَصفنَا وَمن أَمر على خُرَاسَان كَانَت حَاجته إِلَى مَا ذكرنَا أَكثر وَمن كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يحْتَاج إِلَى كنز عَظِيم وَمن ملك الْمشرق وَالْمغْرب احْتَاجَ إِلَى خَزَائِن الْأَمْوَال حَتَّى يضْبط بهَا ذَلِك الْملك فَكَذَلِك كل رَسُول بعث إِلَى قوم أعطي من كنز التَّوْحِيد وجواهر الْمعرفَة على قدر مَا حمل من الرسَالَة فالمرسل إِلَى قومه فِي نَاحيَة من الأَرْض إِنَّمَا يعْطى من النُّبُوَّة والكنوز على قدر مَا يقوم بِهِ من شَأْن نبوته ورعاية قومه والمرسل إِلَى جَمِيع أهل الأَرْض كَافَّة إنسها وجنها صلى الله عليه وسلم أعطي من الْمعرفَة بِقدر مَا يقوم بهَا فِي شَأْن النُّبُوَّة إِلَى جَمِيع أهل الأَرْض كَافَّة فحظنا من قَوْله صلى الله عليه وسلم بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود وَقَوله تَعَالَى لَهُ {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} كحظه من ولَايَة ملك يملك الدُّنْيَا وجواهر شرقها وغربها وَمَا بَينهمَا وَمن ملك الأَرْض كلهَا جواهرها ومعادنها وَمن ملك نَاحيَة من الأَرْض لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْدن ناحيته وجوهر ذَلِك الْمَعْدن فَلذَلِك قَالَ صلى الله عليه وسلم (اختصر لي الْكَلَام وَأُوتِيت جَوَامِع الْكَلم)

وَلذَلِك صَار كِتَابه مهيمنا على الْكتب وَصَارَ الْقُرْآن الْكَرِيم مُشْتَمِلًا على التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَالْفرْقَان وَبَقِي الْمفصل نَافِلَة لهَذِهِ الْأمة خَاصَّة وأوحي إِلَيْهِ بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي برزت على سَائِر اللُّغَات بالاتساع وَهِي لِسَان أهل الْجنَّة وَلما أعطي الرسَالَة إِلَى الكافة أعطي من الْكُنُوز

ص: 130

مِقْدَار الْكِفَايَة للْجَمِيع وأوتي من الْحِكْمَة وجواهرها كلهَا وأوتي ختم الرسَالَة والرعب فبجواهر الرسَالَة قوي على علم مُخْتَصر الحَدِيث وجوامع الْكَلم

وَكَانَ التَّوْرَاة يحملهَا سَبْعُونَ جملا موقرة وَالزَّبُور من بعْدهَا وَالْإِنْجِيل من بعده فَجمع لَهُ ذَلِك كُله فِي الْقُرْآن الْكَرِيم وَالْفرْقَان فِي فَاتِحَة الْكتاب وَلذَلِك سمي أم الْكتاب قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم} وَهِي سبع آيَات سميت مثاني لِأَن الله تَعَالَى جمع الْكتب كلهَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ ثمَّ أنزل مِنْهَا على كل رَسُول مَا علم أَنه مُحْتَاج إِلَيْهِ هُوَ وَأمته وَاسْتثنى فَاتِحَة الْكتاب من جَمِيع ذَلِك وخزنها لهَذِهِ الْأمة فَجَمِيع علم التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَالْفرْقَان مستخرج من أم الْقُرْآن وَالْقُرْآن مستخرج من أمه وَسَائِر الْكتب فِي الْقُرْآن

قَالَ صلى الله عليه وسلم (أُوتيت السَّبع يَعْنِي الطول مَكَان التَّوْرَاة وَأعْطيت المثاني مَكَان الْإِنْجِيل وَأعْطيت المتين مَكَان الزبُور وفضلت بالمفصل)

فَمن عمي قلبه عَن الله وَلم يكن فِي قلبه نور الْهِدَايَة لم يبصر آثَار النُّبُوَّة على مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا يبصر مِنْهُ شخصه وجثته قَالَ تَعَالَى {وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون}

وَمن هداه الله تَعَالَى لنوره فانفتح عين قلبه بذلك واستقرت الْمعرفَة

ص: 131

فِي قلبه أبْصر مِنْهُ شخص النُّبُوَّة بارزا من الْحَيَاة والذكاء واليقظة والانقياد والسرعة وَالْبرَاز والسبق والسماحة وَالْكَرم وَالسعَة والجود وَالْحيَاء والسكينة وَالْوَقار والحلم وَمن الْأَفْعَال السِّوَاك والحجامة والتعطر وَالْجِمَاع وَيرى على شخص النُّبُوَّة شخص الرسَالَة فائقا من الْجلَال والبهاء والنزاهة والحلاوة والطلاوة والملاحة والمهابة وَالسُّلْطَان وأصل هَذَا كُله من الْيَقِين وَالْحب والحياة وَإِنَّمَا نَالَ الْمُؤْمِنُونَ من معرفَة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم على قدر معرفتهم بِاللَّه وعلمهم بِهِ فَمن صدق مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي الصُّحْبَة كَانَ صدق صحبته على قدر مَعْرفَته إِيَّاه وَعلمه بِهِ وعَلى حسب ذَلِك كَانَ يترآى لبصر عينه فِي الظَّاهِر مَا عددنا من الْخلال فأوفرهم حظا من نور الله أوفرهم علما بِهِ وقدرة وجلاله وخطير مَنْزِلَته وأوفرهم علما بِهِ أسرعهم إِجَابَة لدعوته وأبذلهم نفسا ومالا

أَلا ترى أَن أَبَا بكر رضي الله عنه لما أفشى إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه مَبْعُوث صدقه على الْمَكَان وَلم يتَرَدَّد وَلم يضطرب وَقَالَ عَليّ كرم الله وَجهه حَتَّى أسأَل أبي ثمَّ رَجَعَ عَن الطَّرِيق وَصدقه وَصدقه عمر بعد مُدَّة وَبَعْدَمَا أسلم تسع وَثَلَاثُونَ نفسا فتم بِإِسْلَامِهِ عدد الْأَرْبَعين بعد دَعْوَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَة أسلم من الْغَد (اللَّهُمَّ أعز الدّين بعمر بن الْخطاب أَو بِعَمْرو بن هِشَام) يَعْنِي أَبَا جهل فجرت الدعْوَة من عَدو الله عَمْرو إِلَى محق الله عمر

ص: 132

رَضِي الله عَنهُ فسعد عمر رضي الله عنه وشقي عَمْرو وَدلّ اسماهما على حظيهما من الله تَعَالَى وَمِقْدَار الْكَائِن من أمريهما لِأَن عمر رضي الله عنه أول اسْمه مضموم مثقل والمضموم الَّذِي قد آواه الله وضمه إِلَى باله وَعَمْرو أول اسْمه مَفْتُوح مخفف والمفتوح هُوَ الَّذِي أهمله الله تَعَالَى وَأخرجه من باله فضمة أول اسْم عمر رضي الله عنه دَلِيل على أَنه كَانَ مضموما إِلَى بَال الله تَعَالَى فأعز الله تَعَالَى بِهِ الْإِسْلَام عزا حَتَّى صَار بِمحل أَن جَاءَ جِبْرِيل عليه السلام فَقَالَ يَا مُحَمَّد أَقْْرِئ عمر السَّلَام وَأخْبرهُ أَن غَضَبه عز وَرضَاهُ حكم

وفتحة أول الِاسْم فِي عَمْرو تدل على أَنه خرج من بَال الله تَعَالَى وَقد انْكَشَفَ الغطاء عَن شَأْنه فَكَانَت كنيته فِي قُرَيْش أَبَا الحكم فجرت كنيته فِي أهل الْإِسْلَام بِأبي جهل وعَلى حسب خُرُوجه من بَال الله تَعَالَى عظمت آفته على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وعَلى الْإِسْلَام حَتَّى قَتله الله تَعَالَى أذلّ قتلة وَقد أكْرم الله رَسُوله صلى الله عليه وسلم وأبرز فضيلته وكرامته بِأَن جعل لكل نَبِي وزيرا وَجعل لمُحَمد صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَة من الوزراء فَأَبُو بكر وَعمر رضي الله عنهما وزيرا الرسَالَة وَعُثْمَان وَعلي رضي الله عنهما وزيرا النُّبُوَّة ثمَّ نحلهم من الحظوظ من عِنْده فحظ أبي بكر رضي الله عنه مِنْهُ الْعِصْمَة وَالْحيَاء وحظ عمر رضي الله عنه الْحق وَالْوكَالَة وحظ عُثْمَان رضي الله عنه النُّور وَالْحيَاء وحظ عَليّ رضي الله عنه الْحُرْمَة والخلة فتفاوت أَعْمَالهم فِي صحبتهم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أَيَّام الْحَيَاة وَفِي سيرتهم فِي الْأمة بعده على قدر حظوظهم فَلَمَّا أحس رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بالإرتحال إِلَى الله تَعَالَى من الدُّنْيَا وابتدئ لَهُ فِي وَجَعه وَعجز عَن الْخُرُوج إِلَى الصَّلَاة بالأمة أَمر أَبَا بكر رضي الله عنه بِالصَّلَاةِ فاتفقت الْأمة على أَنه هُوَ الَّذِي ولي الصَّلَاة

وَكَانَ من صنع الله تَعَالَى للْأمة أَن خفف الله عَنهُ يَوْم قبض فَخرج

ص: 133

والمسلمون فِي صَلَاة الْغَدَاة وَرجلَاهُ يخطان الأَرْض حَتَّى جلس إِلَى جنب أبي بكر رضي الله عنه فصلى ليعلم الْجَمِيع أَنه رَضِي بذلك من فعله لِئَلَّا يبْقى لمعاند أَو طَاعن مقَال أَنه لم يَأْمر بذلك أَو أمره وَهُوَ مغلوب على عقله لشدَّة علته فأظهر الله ذَلِك بِمَا خفف عَنهُ حَتَّى خرج وَقعد إِلَى جنبه فصلى من حَيْثُ انْتهى أَبُو بكر رضي الله عنه ثمَّ صَار المتأولون لذَلِك على صنفين مِنْهُم من يَقُول أَبُو بكر هُوَ الإِمَام وَصلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِصَلَاتِهِ وَمِنْهُم من قَالَ بل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الإِمَام وَأَبُو بكر الْمُقْتَدِي

قَالَ أنس رضي الله عنه آخر صَلَاة صلاهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر

وَقَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه آخر صلاهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خَلْفي فِي ثوب وَاحِد

وَعَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت مرض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَاءَهُ بِلَال يُؤذنهُ بِالصَّلَاةِ فَقَالَ مروا أَبَا بكر فَليصل بِالنَّاسِ قلت إِن أَبَا بكر رجل أسيف وَمَتى مَا يقوم مقامك يبكي فَلَا يَسْتَطِيع فَلَو أمرت عمر يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَالَ مروا أَبَا بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ صواحبات يُوسُف قَالَت فَأَرْسَلنَا إِلَى أبي بكر فَخرج يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَوجدَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من نَفسه خفَّة فَخرج وَهُوَ يهادي بَين رجلَيْنِ وَرجلَاهُ يخطان بِالْأَرْضِ فَلَمَّا أحس بِهِ أَبُو بكر ذهب ليتأخر فَأَوْمأ إِلَيْهِ أَن مَكَانك فجَاء رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى جلس

ص: 134

إِلَى جنبه فَكَانَ أَبُو بكر يأتم بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاس يأتمون بِأبي بكر

وروى عبد الله بن زَمعَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (مروا من يُصَلِّي بِالنَّاسِ) فَخرجت فَإِذا عمر فِي النَّاس وَكَانَ أَبُو بكر غَائِبا فَقلت يَا عمر صل بِالنَّاسِ فَقَامَ فَلَمَّا كبر سمع صَوته رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَكَانَ رجلا مجهرا فَقَالَ هَذَا صَوت ابْن الْخطاب فَأَيْنَ أَبُو بكر يَأْبَى الله ذَلِك والمسلمون فَقَالَ عمر وَيحك يَا ابْن زَمعَة مَاذَا صنعت بِي مَا ظَنَنْت إِذْ قلت لي إِلَّا أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَمرك بذلك وَلَوْلَا ذَلِك مَا صليت بِالنَّاسِ فَقَالَ وَالله مَا أَمرنِي وَلَكِن لم أر أَبَا بكر فرأيتك أَحَق من حضر بِالصَّلَاةِ

وَحَدِيث عَائِشَة رضي الله عنها حَيْثُ قَالَت إِن أَبَا بكر رضي الله عنه يُصَلِّي فَصَلَاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم محسبة مِنْهَا هَكَذَا حسبت وَهِي فِي الْبَيْت

وَحَدِيث أنس رضي الله عنه أصح لِأَنَّهُ خَارج مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على رَأْي الْعين وَلِأَنَّهُ روى أَن أَبَا بكر رضي الله عنه ذهب ليتأخر وَلَو كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هُوَ الإِمَام لَكَانَ لَا يحْبسهُ عَن التَّأَخُّر وَكَانَ يقوم مقَام الْأَئِمَّة وَلِأَن أَبَا بكر رضي الله عنه قَالَ آخر صَلَاة صلاهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خَلْفي وَأَبُو بكر رضي الله عنه أعلم بِهَذِهِ الْقِصَّة من جَمِيع النَّاس فَثَبت أَن أَبَا بكر رضي الله عنه هُوَ الَّذِي ولي الصَّلَاة وَالصَّلَاة عماد الدّين وَأول شَيْء فَرْضه الله تَعَالَى يَوْم أوحى إِلَيْهِ وَالصَّلَاة إقبال الله تَعَالَى على العبيد ليقبلوا إِلَيْهِ

ص: 135

فِي صُورَة العبيد تذللا بِالْوُقُوفِ وتسلما بِالتَّكْبِيرِ وتبذلا بالثناء والتلاوة وتخضعا بِالرُّكُوعِ وتخشعا بِالسُّجُود وترغبا بِالْجُلُوسِ وتملقا بالتشهد

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (الصَّلَاة عماد الدّين) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (الصَّلَاة نور) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (إِن الله تَعَالَى جعل قُرَّة عَيْني فِي الصَّلَاة)

فَأَبُو بكر وَعمر رضي الله عنهما لَهما وزارة الرسَالَة وحاجة الْخلق إِلَى الرسَالَة أمس وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدِي أَبُو بكر وَعمر

فالحاجة إِلَى الإقتداء بالرسالة آكِد وَلذَلِك أَمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِمَا عَلَيْهِ مدَار الدّين أَبَا بكر رضي الله عنه أَن يتَقَدَّم ليتبعه الْأمة ويقتدي فَلَمَّا رأى أَبُو بكر رضي الله عنه قُوَّة مَا أعطي من تقلده لضمان الصَّلَاة عَن الله تَعَالَى لعبيده وَعَن العبيد لله تَعَالَى ثمَّ عَن الله

ص: 136

تَعَالَى فِي مرض الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أحس بالتأييد من الله تَعَالَى بعد وَفَاته صلى الله عليه وسلم أَن الله تَعَالَى مؤيده فِيمَا دون الصَّلَاة من أُمُور الشَّرِيعَة وتقلد خلَافَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وَلذَلِك قَالَت الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار رضي الله عنهم فِي وَقت المشورة قدمك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَمن يؤخرك فَبَايعُوهُ

وَمِمَّا يُحَقّق أَنَّهُمَا وزيرا الرسَالَة مَا روى أَبُو أُمَامَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنِّي رَأَيْتنِي أدخلت الْجنَّة فَلَمَّا خرجت مِنْهَا أتيت بكفة فَوضعت وَوضعت أمتِي فِي الكفة الْأُخْرَى فرجحت بأمتي ثمَّ رفعت ثمَّ جِيءَ بِأبي بكر فَوضع فِي كفة الْمِيزَان وَجِيء بأمتي فَوضعت فِي الكفة الْأُخْرَى فرجح بهَا ثمَّ رفع أَبُو بكر وَجِيء بعمر فَوضع فِي كفة الْمِيزَان ثمَّ جِيءَ بأمتي فَوضعت فِي الكفة الْأُخْرَى فرجح بهَا ثمَّ رفع الْمِيزَان إِلَى السَّمَاء

وَفِي رِوَايَة سفينة مولى أم سَلمَة رضي الله عنهما خلَافَة النُّبُوَّة ثَلَاثُونَ عَاما ثمَّ يكون ملكا فَقَالَ سفينة أمسك سنتي أبي بكر وَعشر عمر وثنتي عشر عُثْمَان وست عَليّ

ص: 137

فَمضى أَبُو بكر مَحْمُودًا بِنِعْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْخلَافَة ثمَّ نظر بحظه من الله تَعَالَى وَبِمَا وجد من تأييد الله تَعَالَى بعد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم نظرا شافيا لحق الله ثمَّ لنَفسِهِ فَلم ير أحدا أَحَق بِأَن يخلف خلَافَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من عمر رضي الله عنه وَقد كَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار حوله فَاخْتَارَ مِنْهُم عمر رضي الله عنه وَرَأى الْحق لَهُ حَتَّى جادلوه فَقَالُوا لَهُ اسْتخْلفت علينا فظا غليظا فَمَاذَا تَقول لِرَبِّك قَالَ أتهددوني وتخوفوني بربي أَقُول اسْتخْلفت عَلَيْهِم يَا رب خير أهلك فَمضى بسبيله وَولي الْأَمر عمر من بعده فحقق فراسة أبي بكر رضي الله عنه وإلهامه ووطأ الْإِسْلَام ومهده وزينه وأعزه

وَقَالَ فِيهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم (مَا من أمة إِلَّا وَلها مُحدث فَإِن يَك فِي أمتِي فعمر مِنْهُم) وَقَالَ (إِن الله جعل الْحق على لِسَان عمر وَقَلبه)

وَقَالَ أَيْضا صلى الله عليه وسلم (الْحق بعدِي مَعَ عمر حَيْثُ كَانَ)

وَقَالَ (لَو كَانَ بعدِي نَبِي لَكَانَ عمر)

قد امتثل أَبُو بكر رضي الله عنه هَذِه الْأَشْيَاء مَعَ إلهامه وفراسته فاستخلفه فَفتح الله الْفتُوح على يَده ومصر الْأَمْصَار ودر الأرزاق وَبث السَّرَايَا وجنود الله فِي نواحي أقطار الأَرْض حَتَّى تمهد الْإِسْلَام

ص: 138

فِي الوطن الَّذِي مِنْهُ بدا ثمَّ أكْرمه الله تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ ففوض ذَلِك إِلَى سِتَّة نفر أزكن فيهم الْخَيْر وَأحسن بهم الظَّن وَلَو وجد فيهم مساغا للفراسة أَو حظا من الإلهام لنصه باسمه وَلكنه انسد عَلَيْهِ بَاب الفراسة وَانْقطع حَظّ الإلهام فَرَأى التَّفْوِيض إِلَى هَؤُلَاءِ خيرا من إهمال أَمر الْأمة فَقبض إِلَى الله وَترك الْأَمر شُورَى بَينهم فَاخْتَارُوا من بَينهم وَاحِدًا بعد الِاحْتِيَاط والتأني والتشاور وافتقدت الْأمة وزارة الرسَالَة وَحَضَرت نوبَة وزارة النُّبُوَّة فاتفق أَمر السِّتَّة على أحد وزيري النُّبُوَّة إِذْ لم يبْق مِنْهُم من الْأَرْبَعَة إِلَّا هذَيْن عُثْمَان وَعلي رضي الله عنهما فَلم يزَالُوا يستخيرون الله تَعَالَى حَتَّى اتَّفقُوا على عُثْمَان رضي الله عنه ثمَّ أَقبلت الدُّنْيَا وَجَاء كفران النِّعْمَة وهاجت الْفِتْنَة وَعز الْيَقِين وَأدبر الْحق رَاجعا إِلَى الله تَعَالَى عِنْد إقبال الدُّنْيَا وَذَهَبت حَيَاة الْقُلُوب لكفران النِّعْمَة وتبديل الْأُمُور وَغَلَبَة الْهوى حَتَّى قتل عُثْمَان رضي الله عنه وَجَاءَت نوبَة عَليّ كرم الله وَجهه وَالزَّمَان بِتِلْكَ الْحَال فَلم يبْق لوزارة النُّبُوَّة من الْقُوَّة مَا يقوم مقَام أبي بكر وَلَا عمر رضي الله عنهما بَايعُوا أَبَا بكر رضي الله عنه وسلوا على أهل الرِّدَّة سيوفهم فَلم يغمدوها وَلم يخذلوه وَلم ينكثوا الْبيعَة وَبَقِي السَّيْف مسلولا إِلَى انْقِضَاء وزارة الرسَالَة بِمَوْت عمر رضي الله عنه وَبَايَعُوا عليا كرم الله وَجهه فِي وقته ثمَّ نكثوا بيعَته وسلوا السيوف عَلَيْهِ وَآخَرُونَ بَايعُوهُ وسلوا السيوف لَهُ ثمَّ خَرجُوا عَلَيْهِ مارقين وَآخَرُونَ بَايعُوهُ وسلوا السيوف لَهُ وهم أهل الْكُوفَة ثمَّ خذلوه وَآخَرُونَ امْتَنعُوا من بيعَته وأبوا خِلَافَته وحاربوه وَلَو كَانَت لَهُ وزارة الرسَالَة لَصَارَتْ الْقُلُوب كلهَا كقلب وَاحِد وَكَانَت الفئة القليلة المستضعفة يغلبُونَ الفئة الْكَثِيرَة كَمَا كَانَ فِي زمن أبي بكر رضي الله عنه وَمن لحظ إِلَى عَليّ رضي الله عنه بِالْقَرَابَةِ والختونة ومعاني لَيْسَ فِي هَذَا الْأَمر من شَيْء إِنَّمَا هَذَا أَمر الرسَالَة وَإِنَّمَا يقوم بهَا الْقَائِم ويقوى بهَا بحظه من الله الَّذِي ضمن حَشْو الرسَالَة

ص: 139

وَأما الْقَرَابَة وَالْمِيرَاث ومقالات جَاءَت عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَال من وَالَاهُ وَعَاد من عَادَاهُ) فلعلي رضي الله عنه من الْفَضَائِل والمناقب مَا يسْتَحق أَن يوالي من وَالَاهُ ويعادي من عَادَاهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِك مَا يثبت لَهُ الْخلَافَة وَيقدم على أبي بكر رضي الله عنه

قَالَ فُضَيْل بن مَرْزُوق سَأَلت عمرَان بن عَليّ هَل فِيكُم إِنْسَان مفترض طَاعَته تعرفُون لَهُ ذَلِك وَمن لم يعرفهُ فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة قَالَ لَا وَالله مَا هَذَا فِينَا فَهُوَ كَذَّاب قلت لَهُ إِن نَاسا يَقُولُونَ إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أوصى إِلَى عَليّ رضي الله عنه وَإِن عليا رضي الله عنه أوصى إِلَى الْحسن رضي الله عنه وَأَن الْحسن أوصى إِلَى الْحُسَيْن رضي الله عنهما وَأَن الْحُسَيْن أوصى إِلَى عَليّ ابْن الْحُسَيْن فَقَالَ وَالله لما مَاتَ أبي وَمَا أوصى بحرفين وَإِن هَؤُلَاءِ لمتأكلون بِنَا

قَالَ وَسمعت الْحسن بن الْحُسَيْن أَخا عبد الله بن الْحُسَيْن رضي الله عنهم وَهُوَ يَقُول لرجل مِمَّن يغلوا فيهم وَيحكم أحبونا فِي الله فَإِن أَطعْنَا الله فأحبونا وَإِن عصينا الله فابغضونا فَقَالَ الرجل إِنَّكُم لذُو قرَابَة من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ وَالله لَو كَانَ الله نَافِعًا بِقرَابَة مِنْهُ لنفع بذلك أقرب مِنْهُ أَبَاهُ وَأمه وَالله إِنِّي لأخاف أَن يُضَاعف للعاصي منا الْعَذَاب ضعفين كَمَا يُؤْتِي المحسن منا أجره مرَّتَيْنِ

وَلَو كَانَ الْأَمر على مَا يَقُولُونَ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أوصِي إِلَى عَليّ وَأمره بِالْقيامِ بِالْأَمر بعده ثمَّ ترك على مَا أمره رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَكَانَ عَليّ فِي ذَلِك أعظم النَّاس خَطِيئَة وجرما إِذْ ترك مَا أمره رَسُول الله

ص: 140

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ الرافضي ألم يقل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من كنت مَوْلَاهُ) فعلي مَوْلَاهُ فَقَالَ وَالله لَو عَنى بِهِ الامرة وَالسُّلْطَان لأفصح لَهُم كَمَا أفْصح لَهُم بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة فَقَالَ هَذَا ولي أَمركُم من بعدِي فَمَا كَانَ وَرَاء هَذَا فَإِن أنصح النَّاس للنَّاس كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وَعَن زيد بن عَليّ قَالَ لبَعْضهِم وَيلك من يخَاف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى تعرض بالخلافة

فَهَؤُلَاءِ الغلاة قد تعلقوا بِمثل هَذِه الْأَشْيَاء حَتَّى خَرجُوا إِلَى شتم وزيري رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ونسبوهما إِلَى الاغتصاب لحق الله تَعَالَى

قَالَ صلى الله عليه وسلم (إِن لي وزيرين من أهل السَّمَاء ووزيرين من أهل الأَرْض فوزيري من أهل السَّمَاء جبرئيل وَمِيكَائِيل عليهما السلام ووزيري من أهل الأَرْض أَبُو بكر وَعمر)

وَخرج صلى الله عليه وسلم وَيَمِينه على أبي بكر وشماله على عمر فَقَالَ هَكَذَا نبعث يَوْم الْقِيَامَة

ص: 141

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (أحْشر أَنا وَأَبُو بكر وَعمر وَنحن مشرفون على النَّاس هَكَذَا) وَأَشَارَ بأصابعه الثَّلَاث وَكَانَ سبابته أطول من الْوُسْطَى

وَعَن أسيد بن صَفْوَان رضي الله عنه قَالَ لما قبض أَبُو بكر ارتجت الْمَدِينَة بالبكاء كَيَوْم قبض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فسجوه وَجَاء عَليّ رضي الله عنه باكيا مسرعا مسترجعا وَهُوَ يَقُول الْيَوْم انْقَطَعت خلَافَة النُّبُوَّة حَتَّى وقف على بَاب الْبَيْت الَّذِي فِيهِ أَبُو بكر مسجى فَقَالَ

رَحِمك الله يَا أَبَا بكر كنت إلْف رَسُول الله وأنيسه وثقته وَمَوْضِع سره ومشاورته كنت أول الْقَوْم إسلاما وأخلصهم إِيمَانًا وأشدهم يَقِينا وأخوفهم لله وأعظمهم عناء فِي دين الله وأحوطهم على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَجد بهم على الْإِسْلَام وأيمنهم على أَصْحَابه وَأَحْسَنهمْ صُحْبَة وَأَكْثَرهم مَنَاقِب وأفضلهم سوالف وأرفعهم دَرَجَة وأقربهم وَسِيلَة وأشبههم برَسُول الله صلى الله عليه وسلم هَديا وسمتا وَرَحْمَة وفضلا وخلقا وأشرفهم منزلَة وَأكْرمهمْ عَلَيْهِ وأوثقهم عِنْده فجزاك الله عَن الْإِسْلَام وَعَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمين خيرا

كنت عِنْده بِمَنْزِلَة السّمع وَالْبَصَر صدقت رَسُول الله حِين كذبه النَّاس فسماك الله فِي التَّنْزِيل صديقا فَقَالَ {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ} وآسيته حِين بخلوا وَقمت مَعَه عِنْد المكاره حِين قعدوا وصحبته فِي الشدَّة أحسن الصُّحْبَة ثَانِي اثْنَيْنِ وَصَاحبه فِي الْغَار والمنزل عَلَيْهِ السكينَة ورفيقه فِي الْهِجْرَة خلفته فِي دين الله وَأمته أحسن الْخلَافَة حِين ارْتَدَّ النَّاس

وَقمت بِالْأَمر مَا لم يقم بِهِ خَليفَة نَبِي نهضت حِين وَهن أَصْحَابك

ص: 142

وبرزت حِين اسْتَكَانُوا وقويت حِين ضعفوا ولزمت منهاج رَسُوله إِذْ وهنوا

كنت خَلِيفَته حَقًا لم تنَازع وَلم تصدع برغم الْمُنَافِقين وكبت الْكَافرين وَكره الكارهين وَصغر الْفَاسِقين وغيظ الباغين

قُمْت بِالْأَمر حِين فشلوا ونطقت حِين تتعتعوا مضيت بِنور إِذْ وقفُوا فاتبعوك فهدوا

كنت أخضعهم صَوتا وَأَعْلَاهُمْ فوقا أقلهم كلَاما وأصوبهم منطقا أطولهم صمتا وأبلغهم قولا أكبرهم رَأيا وأشجعهم نفسا وأعرفهم بالأمور وأشرفهم عملا

كنت وَالله فِي الدّين يعسوبا أَولا حِين نفر النَّاس عَنهُ وآخرا حِين قَفَلُوا كنت للْمُؤْمِنين أَبَا رحِيما إِذْ صَارُوا عَلَيْك عيالا فَحملت أثقال مَا ضعفوا ورعيت مَا أهملوا وحفظت مَا أضاعوا لعلمك مَا جهلوا فشمرت إِذْ خنعوا وعلوت إِذْ هلعوا وَصَبَرت إِذْ جزعوا فأدركت أوتار مَا طلبُوا وراجعوا رشدهم بِرَأْيِك فظفروا ونالوا بك مَا لم يحتسبوا

كنت على الْكَافرين عذَابا صبيبا ونهبا وَلِلْمُؤْمنِينَ رَحْمَة وإنسا فطرت وَالله بفنائها وفزت بحبائها وَذَهَبت بفضائلها وَأدْركت سوابقها لم تغلل حجتك وَلم تضعف بصيرتك وَلم تجبن نَفسك وَلم يزغ قَلْبك وَلم يخف

كنت كالجبل لَا تحركه العواصف وَلَا تزيله القواصف وَكنت كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أأمن النَّاس عَلَيْهِ فِي صحبتك وَذَات يدك وكما

ص: 143

قَالَ ضَعِيفا فِي بدنك قَوِيا فِي أَمر الله متواضعا فِي نَفسك عَظِيما عِنْد الله جَلِيلًا فِي أعين الْمُؤمنِينَ كَبِيرا فِي أنفسهم لم يكن لأحد فِيك مغمز وَلَا لقَائِل مهمز وَلَا لأحد مطمع وَلَا لمخلوق عنْدك هوادة الضَّعِيف الذَّلِيل عنْدك قوي عَزِيز حَتَّى تَأْخُذ لَهُ بِحقِّهِ وَالْقَوِي الْعَزِيز عنْدك ضَعِيف حَتَّى تَأْخُذ مِنْهُ الْحق الْقَرِيب والبعيد عنْدك فِي ذَلِك سَوَاء أقرب النَّاس إِلَيْك أطوعهم لله وأتقاهم لَهُ شَأْنك الْحق والرفق والصدق قَوْلك حكم وحتم وأمرك حلم وحزم ورأيك علم وعزم فأقلعت وَقد نهج السَّبِيل وَسَهل العسير وأطفئت النيرَان واعتدل بك الدّين وَقَوي الْإِيمَان وَثَبت الْإِسْلَام والمسلمون وَظهر أَمر الله وَلَو كره الْكَافِرُونَ فجليت عَنْهُم فَأَبْصرُوا وسبقت وَالله سبقا بَعيدا وأتعبت من بعْدك أتعابا شَدِيدا وفزت بِالْخَيرِ فوزا مُبينًا فجللت عَن الْبكاء وعظمت رزيتك فِي السَّمَاء وهدت مصيبتك الْأَنَام فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون

رَضِينَا بِقَضَاء الله وَسلمنَا لَهُ أمره فوَاللَّه لن يصاب الْمُسلمُونَ بعد رَسُول الله بمثلك أبدا كنت للدّين عزا وحرزا وكهفا فألحقك الله بِنَبِيِّهِ وَجمع بَينه وَبَيْنك وَلَا حرمنا الله أجرك وَلَا أضلنا بعْدك فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون

قَالَ وَسكت الْقَوْم حَتَّى انْقَضى كَلَامه فَبكى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى علت أَصْوَاتهم فَقَالُوا صدقت يَا ختن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

قَوْله (جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا) وفر الله تَعَالَى حَظّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَأمته على الرُّسُل كلهم وعَلى سَائِر الْأُمَم فَحَيْثُ مَا انتصبوا لله قيَاما كَانَ لَهُم من النُّور مَا يتهيأ لَهُم الإقبال على الله وَأَقْبل الله عَلَيْهِم فطهرت لَهُم بقاع الْأَرْضين

وَقَوله وَطهُورًا إِذا لم يَجدوا المَاء الَّذِي جعله الله طهُورا لِلْخلقِ

ص: 144

وَتعذر عَلَيْهِم وجوده أَمرهم أَن يَتَطَهَّرُوا من أحداثهم بالصعيد الطّيب وَهُوَ التُّرَاب الَّذِي يصعدونها ويمشون عَلَيْهَا فَجعل مَا تَحت أَقْدَامهم طهُورا لَهُم إِذا لم يَجدوا مَا فَوق رؤوسهم من المَاء وَهُوَ مَاء الْحَيَاة الراكد تَحت الْعَرْش الَّذِي خلقه الله حَيَاة لكل شَيْء قَالَ تَعَالَى وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ

فَمِنْهُ حَيَاة الْقُلُوب والأرواح وَمِنْه يحيون فِي قُبُورهم يَوْم النشور وَإِذا دخلُوا الْجنَّة يغتسلون بِهِ حَتَّى يكون ذَلِك لَهُم طهُورا من الذُّنُوب والأدران وَمن شرب مِنْهُ زايلهم كل أَذَى فِي أَجْوَافهم وصفت ألوانهم وَجَرت النضرة فِي أَجْسَادهم ووجوههم وأمنوا الْمَوْت لقُوَّة الْحَيَاة الَّتِي فِي ذَلِك المَاء وَقد جعل الله تَعَالَى أرزاق الْخلق من ذَلِك المَاء يقدر فِي لَيْلَة الْقدر وَهِي لَيْلَة يحكم أرزاق المرتزقة من خلقه فِي تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى مثلهَا من قَابل فَإِذا نفذ ذَلِك الْبَحْر نفخ فِي الصُّور وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَفِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون}

وَأنزل الله تَعَالَى هَذَا المَاء وَسَماهُ طهُورا فَإِن الشَّيْطَان بِنَجَاسَتِهِ ورجاسته قد وجد السَّبِيل إِلَى الولوج فِي جَوف ابْن آدم وبدء ذَلِك كَانَ حِين أكل آدم صلى الله عليه وسلم من الشَّجَرَة الَّتِي أَشَارَ الْعَدو إِلَيْهِ بِأَكْلِهِ فَجعل الْعَدو السَّبِيل إِلَى الْمعدة فَجعل لَهُ هُنَاكَ موطنا فَلذَلِك نَتن مَا فِي جَوْفه حِين أخرج من الْجنَّة لرجاسة الْعَدو ونجاسته ثمَّ ورث ذَلِك وَلَده فَأمر آدم وَولده بِالْوضُوءِ لذَلِك وأعلمهم أَن هَذَا المَاء طهُور لَهُم يطهرهم من الْآفَات الظَّاهِرَة والباطنة فالظاهرة مَا يخرج من الْآدَمِيّ من الْبَوْل وَالْغَائِط فَإِنَّهُ بلغ من عداوته أَن جعل فِي ذَلِك الموطن الَّذِي صير لَهُ مِنْك معدنا وَهُوَ مجمع الطَّعَام فَإِذا انطبخ صَار رَوْثًا ودما وَالدَّم غذاؤه وَمَوْضِع الروث مِنْك مَجْلِسه

ص: 145

وَبلغ من عداوته أَنه ينْفخ عَلَيْك فَإِذا خرج مِنْك الصَّوْت هيج الضحك من الطحال فَإِن الطحال بَيته وَمِنْه يتسخط الْآدَمِيّ فِي أُمُوره وَفِيه مجمع نفاية الْبدن من كدورة الدَّم وَغَيره وَذَاكَ الضحك الَّذِي يهيج مِنْك وَمِمَّنْ سَمعه من النَّاس وَهُوَ سخرية مِنْهُ وشماتة يُرِيد أَن يعلمك أَنِّي هَهُنَا ليصغرك عِنْد نَفسك ويريك فِي باطنك مَا يستر عَنْك ليفسد منن الله تَعَالَى عَلَيْك فِي جسدك الَّذِي خلقه لَك وَقَالَ تَعَالَى {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم}

فَهَذَا الْعَدو يحسدك فِي كل شَيْء ويصيبك مِنْهُ آفاته سَاعَة فساعة من همزه ونفخه ونفثه ونزغته وَلذَلِك أَمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى {وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون}

وَقَالَ تَعَالَى {فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم}

وَقَالَ تَعَالَى {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس ملك النَّاس إِلَه النَّاس من شَرّ الوسواس الخناس الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس}

فَهَل أَمر أَن يتَعَوَّذ مِنْهُ إِلَّا من تتَابع الْآفَات وتواليها فَجعل هَذَا المَاء طهُورا من هَذِه الْآفَات الَّتِي تعتوره من هَذَا الْعَدو الَّذِي لَا يُفَارِقهُ وَذَلِكَ قَوْله صلى الله عليه وسلم (مَا من أحد من الْآدَمِيّين إِلَّا وَله قرين من الشَّيْطَان مُوكل بِهِ) قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن الله تَعَالَى أعانني عَلَيْهِ فَأسلم فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَير

ص: 146

ووسواس هَذَا الْعَدو ونزغاته وهمزاته ونفثاته تطمس وَجه الْقلب وَتذهب بحياته وَذَهَاب حَيَاة الْقلب يوهن عقد الْإِيمَان ويرخي عراه ويخمد توقده فيجد الْعَدو سَبِيلا إِلَى إهاجة النَّفس شهواتها وخدايعها وأمانيها واغترارها فَإِذا هَاجَتْ النَّفس هَاجَتْ ريَاح الْهوى فنسفت النَّفس وَالْقلب والأركان فرمته فِي آبار الْمعاصِي إِلَّا فِيمَن دخل فِي مأمن الله وحرزه ووكالته ومعاقله فَجعل الله تَعَالَى هَذَا المَاء طهُورا للْمُؤْمِنين من آفاته الظَّاهِرَة والباطنة فَأَما فِي الظَّاهِرَة فليطهر جوارحه من تِلْكَ الْأَحْدَاث الَّتِي جرت عَلَيْهَا وَفِي الْبَاطِن يرد عَلَيْهِ مَا ذهب من حَيَاة الْقلب قَالَ تَعَالَى {لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا}

فالبلدة فِي الظَّاهِر هِيَ الأَرْض الَّتِي إِذا وصل إِلَيْهَا ذَلِك المَاء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج والبلدة فِي الْبَاطِن الْقُلُوب تخلص إِلَيْهَا آفَات الْعَدو فتموت عَن الله فيحييها الله بذلك الْوضُوء

قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما فِي قَوْله تَعَالَى {اعلموا أَن الله يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا} يلين الْقُلُوب من بعد قسوتها

وَقَوله عليه السلام (لن يحافظ على الْوضُوء إِلَّا مُؤمن)

ص: 147

وَقَوله عليه السلام لأنس رضي الله عنه (يَا بني إِن اسْتَطَعْت أَن لَا تزَال على الْوضُوء فافعل فَإِنَّهُ من أَتَاهُ الْمَوْت وَهُوَ على وضوء أعطي الشَّهَادَة)

وَالْمُؤمن الْبَالِغ إيمَانه إِذا أحدث لم يقدر أَن يَدُوم على حَدثهُ وَلَا يطمئن حَتَّى يتَوَضَّأ فَيكون أبدا على الْوضُوء لِأَن قلبه فِي وَقت الْحَدث يفتقد نزاهة الْإِيمَان وطيبه ووسواسه يصير عَامله على الْقلب فانطفأ بعض توقد ناره فَإِذا تَوَضَّأ عَاد إِلَى الْحَالة الأولى فَإِذا لم يجد المَاء صَار الصَّعِيد لَهُم طهُورا بدل المَاء لهَذِهِ الْأمة خَاصَّة لِأَن الأَرْض لما أحست بمولود مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وبظهوره من بطن أمه انبسطت وتمددت وتطاولت ولبست ثِيَاب الدَّالَّة وافتخرت على السَّمَوَات وَسَائِر الْخلق بِأَنَّهُ مني خلق وعَلى ظَهْري تَأتيه كرامات الله تَعَالَى وعَلى متني يتقلب نَبيا يعبد ربه وعَلى بقاعي تسْجد جَبهته وَفِي خلال أوديتي يتنزل كَلَام الله ووحيه البارز على الْكتب كلهَا وَفِي بَطْني مدفنه وَأَنا الَّذِي أتضمن جسده وعَلى ظَهْري يكون خَاصَّة الله من أمته وورثة مِيرَاثه فجرت الأَرْض رِدَاء فخرها فَجعل ترابها طهُورا لأمته فبالأرض يتطهرون وينتصبون بهَا بَين يَدي الله تَعَالَى فَحَيْثُمَا ضربوا بأقدامهم بَين يَدي الله تَعَالَى صَارَت الأَرْض من تَحت أَقْدَامهم مَسْجِدا

قَالَت عَائِشَة رضي الله عنها يَا رَسُول الله إِنَّك إِذا دخلت صليت فِي مَوَاضِع من الْبَيْت أَفلا نهيئ لَك موضعا تصلي فِيهِ فَقَالَ (يَا عَائِشَة أما علمت أَن الْمُؤمن إِذا وضع جَبينه لله طهرت تِلْكَ الْبقْعَة إِلَى سبع أَرضين)

وَإِنَّمَا صَار التَّيَمُّم لهَذِهِ الْأمة عوضا عَن الْوضُوء بِالْمَاءِ دون سَائِر الْأُمَم لِأَنَّهُ بمجيء مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم طهرت الأَرْض فَلَمَّا جَاءَ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى الْأمة قبلوه فَحَيْثُمَا مدوا أَيْديهم إِلَى بقْعَة صَار ذَلِك التُّرَاب طَاهِرا

ص: 148

بِمد أَيْديهم وزايلته أنجاس الشّرك والمعاصي الَّتِي عَلَيْهَا وَإِنَّمَا صَارَت طَاهِرَة بِمد أَيْديهم على ذَلِك الْقبُول الَّذِي قبلوه عَن الله تَعَالَى قَاصِدا بِالْقَلْبِ التطهر قَابلا لما جَاءَ بِهِ الْهَدِيَّة وَهُوَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من الْمهْدي هَذِه الْعَطِيَّة وَالتَّيَمُّم كالطرفة والتحفة يتحف بهَا الْملك عَبده يُرِيد بِهِ لطفه وبره فَيظْهر ذَلِك التُّرَاب بِمد الْيَد إِلَيْهِ وقبوله للهدية وَهُوَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم صَار يطهر مَا جَاءَ بِهِ تُرَاب الأَرْض طهُورا كطهور المَاء الَّذِي أنزلهُ الله من بَحر الْحَيَاة قَالَ تَعَالَى {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} ثمَّ قَالَ {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون}

وَقَوْلنَا إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هُوَ الْهَدِيَّة صَحِيح فَإِنَّهُ قَالَ صلى الله عليه وسلم (بعثت إِلَيْكُم وَإِنَّمَا أَنا رَحْمَة مهداة)

فَهُوَ من الله لنا هَدِيَّة وَالرسل قبله بعثوا على الْأُمَم حجَّة وعطية والهدية لَيست كالعطية فَمن قبل الْعَطِيَّة بورك لَهُ وَمن لم يقبل تأكدت الْحجَّة عَلَيْهِ وعوجل بالعقوبة ورسولنا صلى الله عليه وسلم كَانَ عَطِيَّة وهدية فَمن قبل مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَطِيَّة وهدية سعد ورشد وَصَارَ سَابِقًا ومقربا وَمن قبل عَطِيَّة وَلم يفْطن للهدية سعد وَلم يصب ثَمَرَة الرشد وَنَجَا بالسعادة وَمن أَبَاهُ وَكفر النِّعْمَة وجحدها كَانَ حَظه من السَّعَادَة النجَاة من عقوبات الْأُمَم الَّتِي عوجلوا بهَا فِي الدُّنْيَا فسعدوا بِهَذَا الْقدر وَتَأَخر عَنْهُم الْعَذَاب إِلَى يَوْم الْقِيَامَة والأولون عوجلوا بالعقوبة فِي الدُّنْيَا إِلَى أَن ألْحقُوا بِعَذَاب الْآخِرَة فَمن قبل مُحَمَّد عَطِيَّة وهدية اجتباه الله وَمن قبله

ص: 149

عَطِيَّة هداه الله إِلَيْهِ بالإنابة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الله يجتبي إِلَيْهِ من يَشَاء وَيهْدِي إِلَيْهِ من ينيب}

والعطية من الرَّحْمَة والهدية من الْمحبَّة فَمن رق لعَبْدِهِ ورحمه إِذا رَآهُ فِي بؤس أَو ضعف قواه وجبره بِمَا يذهب ضعفه وبؤسه فَهَذِهِ عَطِيَّة من الرَّحْمَة وَمن أحب عَبده أهْدى إِلَيْهِ خلعا وحملانا يُرِيد بذلك أَن يختصه ويستميل قلبه وَلذَلِك سميت هَدِيَّة لاستمالة الْقلب بِهِ فالرسل إِلَى الْخلق عطايا من رَبنَا سبحانه وتعالى رَحِمهم فبعثهم إِلَيْهِم ليهديهم وَيذْهب عَنْهُم بؤس فقر الْكفْر وَيجْبر كسيرهم وربنا عز وجل قد رحمنا فَبعث إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَطِيَّة وهدية فَجعل الْإِيمَان وَالْإِسْلَام فِي الْعَطِيَّة وَحِكْمَة الْإِيمَان وَالْإِسْلَام فِي الْهَدِيَّة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا مِنْهُم} إِلَى أَن قَالَ {ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة}

فحكمة الْإِيمَان وَالْإِسْلَام هَدِيَّة لهَذِهِ الْأمة بمبعث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم خَاصَّة فضلا على الْأُمَم والهدية كنوز الْمعرفَة من خَزَائِن السَّمَوَات احتظى بهَا هَذِه الْأمة حَتَّى صَارُوا موصوفين فِي التَّوْرَاة صفوة الرَّحْمَن وَفِي الْإِنْجِيل حكماء عُلَمَاء أبرارا أتقياء كَأَنَّهُمْ من الْفِقْه أَنْبيَاء وَقَالَ تَعَالَى {قل إِن الْهدى هدى الله} الْآيَة

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (مَا أَعْطَيْت أمة من الْيَقِين مَا أَعْطَيْت أمتِي)

فَإِنَّمَا صير مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لنا ليهدينا إِلَى أعالي دَرَجَات الدُّنْيَا عبودة

ص: 150

لنكون غَدا فِي أعالي دَرَجَات الْجنَّة بِالْقربِ من رَسُولنَا لتقر عينه صلى الله عليه وسلم بِنَا

وَقَوله (نصرت بِالرُّعْبِ) أَصله من فورة سُلْطَان الله تَعَالَى من بَاب النَّار فَإِذا جعل نصرته من الرعب فقد أعطي جندا لَا يقاومه أحد وَلم يُعْط أحد من الرُّسُل ذَلِك فَكَانَ أَيْن مَا ذكر من مسيرَة شهر وَقع ذَلِك الرعب فِي قلب عدوه فذل بمكانه

وَقَوله (أحلّت لي الْغَنَائِم) كَانَت الْغَنَائِم نَجِسَة لِأَنَّهَا أخذت من الْعَدو وَملك الْعَدو كُله نجس أَلا يرى أَن الله ذكر حلي آل فِرْعَوْن فَقَالَ {أوزارا من زِينَة الْقَوْم}

فَكَانَت لَا تحل لَهُم لنجاستها فَكَانُوا يضعونها فتجيء نَار من السَّمَاء فتأكلها وَكَانَ هَارُون عليه السلام أَمرهم أَن يقذفوا مَا فِي أَيْديهم من تِلْكَ الحلى الَّتِي استعاروها من آل فِرْعَوْن وَقَالَ لَهُم تطهروا فرموا بهَا فجمعها السامري فاتخذها عجلا وَقذف فِيهَا التُّرَاب الَّذِي كَانَ رَفعه من حافر فرس جبرئيل فرس الْحَيَاة للفتنة الَّتِي كتب الله عَلَيْهِم بلوى بهَا فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَلَكنَّا حملنَا أوزارا من زِينَة الْقَوْم} تسمى أوزارا لنجاستها وَأحلت لي الْغَنَائِم لهَذِهِ الْأمة قَالَ تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم حَلَالا طيبا} لمُحَمد وَأمته لأَنهم ضربوا السيوف بحرارة حمية حب الله وزايلها رجاسة الْكفْر وَأَهله لِأَن حرارة الْحبّ تقطع علائق النَّفس وَتحرق أَسبَابهَا

وعلائق النَّفس من أَسبَاب الشّرك وَسَائِر الْأُمَم لم يُعْطوا هَذَا فَلم تطب لَهُم الْغَنَائِم وَلم تزل رجاسة أهل الْكفْر مِنْهَا فَلم تحل لَهُم

ص: 151

لِأَن بني إِسْرَائِيل قَاتلُوا على الديار والأرضيين الَّتِي كَانَت لِآبَائِهِمْ قَاتلُوا عَلَيْهَا ليردوها إِلَى ملكهم وأنبياؤهم بعثوا للدعوة إِلَى الله تَعَالَى وَنَبِينَا صلى الله عليه وسلم بعث للتَّوْبَة والملحمة يَعْنِي إِن لم يتوبوا لحموا بِالسُّيُوفِ قَالَ صلى الله عليه وسلم (أَنا نَبِي التَّوْبَة وَأَنا نَبِي الملحمة)

وَمعنى ذَلِك أَنِّي بعثت إِلَى الْأمة بِأَن أدعوا إِلَى لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِن أجابت وَإِلَّا أمهلهم حَتَّى يتوبوا وللتوبة انْتِظَار وَمُدَّة وَالْعَذَاب مَأْمُون فيهم يَتَقَلَّبُونَ فِي الشّرك مَعَ الْمدَّة فَإِن تَابُوا قبل الله ذَلِك مِنْهُم بِأَن جعلني نَبِي التَّوْبَة وَمن تَمَادى فِي ذَلِك لحمت أَجْسَادهم بِالسُّيُوفِ فَكَمَا صَارَت الْغَنَائِم طيبَة من رجاسة الْكفْر فَكَذَلِك طابت الأَرْض من رجاسة الْكفْر والمعاصي بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من الْأَنْوَار القدسية فَصَارَت لَهُم مَسْجِدا وَطهُورًا وَطَابَتْ أَيْضا بليلة الْقدر ومشاهدة الرب أهل الأَرْض بالقربة وَكَانَت الْمُشَاهدَة لِلنَّبِيِّينَ على أَجْسَادهم وَأعْطيت هَذِه الْأمة على أرْضهَا حَتَّى يَرَاهَا من سبقت لَهُ الْحسنى من الله بِعَيْنِه أشواق الْمُشَاهدَة

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (هَذِه لَيْلَة كشف غطاؤها)

وَقَالَ عَليّ رضي الله عنه اسْتَأْذَنت مَلَائِكَة الرّوح فِي النُّزُول إِلَى الأَرْض طَمَعا أَن ينالوا مَا لم يكن عِنْدهم فِي مقاومهم

قَالَ الله تَعَالَى {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح}

ص: 152

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (لَا يَرْمِي فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بِنَجْم وَلَا يحدث فِيهَا دَاء) لِأَن الشَّيَاطِين قد اختنست من أجل الْمُشَاهدَة والخلق فِي مأمن من مُشَاهدَة السَّلَام فَهَذَا كُله لهَذِهِ الْأمة

وَقَوله (أَعْطَيْت الشَّفَاعَة) فَإِن تِلْكَ دَعْوَة كَانَت لكل نَبِي فتعجلتها الْأَنْبِيَاء فِي الدُّنْيَا وأخرها مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ذخْرا لأمته ونصيحة لله فِي عباده فاستوجب بنصيحة الله برأفته على عبيده أَن وضع دَعوته فِي مَحل التربية حَتَّى تربو وتتضاعف حَتَّى تخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة تِلْكَ الدعْوَة بهيجة يحْتَاج الْخلق كلهم إِلَيْهَا حَتَّى إِبْرَاهِيم خَلِيل الله صلى الله عليه وسلم

قَالَ صلى الله عليه وسلم لما أَتَانِي جبرئيل بِهَذِهِ الدعْوَة قلت إِنِّي ادخرتها لأمتي فَيحْتَاج الْخلق كلهم إِلَيّ فِي هَذِه حَتَّى إِبْرَاهِيم خَلِيل الله عَلَيْهِ السَّلَام

ص: 153

-‌

‌ الأَصْل المائتان وَالْأَرْبَعُونَ

-

‌فِي فضل الْأَمَانَة

عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ)

الْإِيمَان عش الْأَمَانَة وَالْأَمَانَة فِي جَوْفه كالفرخ الَّذِي يتفقأ عَن الْبَيْضَة ووكل الْعباد بتربيتها كَمَا يُربي الطير فرخه فِي عشه ويزقه وَيَغْدُو فِي طلب تَرْبِيَته حَتَّى ينْقل إِلَيْهِ من أقطار الأرضيين ويكتنفه ويذب عَنهُ وَيُقَاتل من يرومه فِي عشه تحننا عَلَيْهِ وشفقة وصيانة حَتَّى ينْبت لَهُ جنَاح ويطير مَعَه فَكَذَا الْمُؤمن مُوكل بِحِفْظ الْأَمَانَة وَقد قبلهَا مَعَ قبُول الْإِيمَان وَلم يتم لَهُ الْإِيمَان إِلَّا بِقبُول الْأَمَانَة وَكَانَت مستورة فَأحب الله أَن يبرزها حَتَّى يقبلهَا آدم عليه السلام ظَاهرا فمثلها لَهُ درة بَيْضَاء وَجعلهَا مستورة فِي جَوْفه فعرضت على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فهبنها وأشفقن مِنْهَا لِأَنَّهُ انْكَشَفَ الغطاء عَن ذَلِك لَهُنَّ وَستر عَن آدم عليه السلام لطفا من الله حَتَّى قبلهَا لتحرك مَا فِي قلبه من الْإِيمَان فَلم يملك أَن أسْرع إِلَى الْقبُول مقتدرا فابتلي باقتداره

ص: 154

فَسُمي ظلوما لقبوله على الاقتدار جهولا بِمَا فِي بَاطِن تِلْكَ الدرة فوضعها على العاتق فألزمها عُنُقه كطوق العبيد وذلت لله رقبته فتكرر عَلَيْهِ الْأَمر للاقتدار وَإِنَّمَا عمل فِيهِ الاقتدار وانسد عَلَيْهِ بَاب التَّعَلُّق بِاللَّه لما كَانَ فِي ظَهره من الْأَعْدَاء فابتلي بِقبُول الْأَمَانَة ليميز الْخَبيث من الطّيب فَقبله على الاقتدار فَصَارَ الْقبُول حَظّ الأحباب وَصَارَ الاقتدار حَظّ الإهداء وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة} الْآيَة

ثمَّ أعلم الْعباد لم فعل هَذَا فَقَالَ {ليعذب الله الْمُنَافِقين والمنافقات} الْآيَة

وَمَعْنَاهُ لأعذب الْأَعْدَاء وَأَتُوب على الأحباب فَأغْفِر لَهُم سيئ مَا عمِلُوا وارحمهم فِي تقصيرهم حَتَّى تؤديهم الرَّحْمَة إِلَى دَار رَحْمَتي فتقلد حفظ هَذِه الْأَمَانَة فَجرى قبُولهَا من الْقلب إِلَى الْجَوَارِح السَّبع فتجزأ حملهَا على هَذِه الْجَوَارِح فللعين جُزْء وللسمع جُزْء ولليد جُزْء وللرجل جُزْء وللبطن جُزْء وللفرج جُزْء وللسان جُزْء وَجعل أَمَانَة الْفرج من بَين الْجَوَارِح كلهَا مستورة وَسميت فَاحِشَة إِذا كشف عَنْهَا بِغَيْر حق والاستعمال لَهَا بِغَيْر حق هلكة وتأديبه الْقَتْل بِالْحِجَارَةِ والتنكيل والناظر إِلَيْهَا عَامِدًا مَلْعُون والكاشف عَنْهَا منزوع الْحيَاء ممقوت

وَقَالَ عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما أول مَا خلق الله من الْإِنْسَان فرجه ثمَّ قَالَ (هَذِه أَمَانَة خبأتها عنْدك فَلَا تبسل مِنْهَا شَيْئا) إِلَّا بِحَقِّهَا

فالسمع أَمَانَة وَالْبَصَر أَمَانَة والفرج أَمَانَة والبطن أَمَانَة وَاللِّسَان

ص: 155

أَمَانَة وَالْيَد أَمَانَة وَالرجل أَمَانَة فَالَّذِي يكْشف لَك عَمَّا خبأه الله إهمالا وَاسْتعْمل بِغَيْر حق اسْتوْجبَ هَذِه الْعُقُوبَات وَالَّذِي فِي الدُّنْيَا النكال وَالرَّجم وَأما الَّذِي فِي الْآخِرَة فَإِن أهل النَّار يتأذون من نَتن فروج الزناة ويزدادون بذلك عذَابا وَلذَلِك قَالَ صلى الله عليه وسلم (أَكثر مَا يدْخل النَّاس النَّار الأجوفان الْبَطن والفرج)

فقد قلد كل جارحة بِقسْطِهِ من الْأَمَانَة فَمن استبدل بهَا خِيَانَة انْتقصَ من وزن إيمَانه وَمن ضوئه مَا دَامَ حَيا وضوء الْإِيمَان رَأس مَال الْمُوَحِّدين بِهِ يستضيئون فِي السّير إِلَى الله تَعَالَى فِي الطَّاعَات فَإِذا غَابَ الضَّوْء ضل الْقلب بِمَنْزِلَة قمر وَقع فِي كسوف فكسوف ضوء الْأَمَانَة فِي ظلمَة الْخِيَانَة فَكل فعل حرم الله على جارحة من الْجَوَارِح فهتك تِلْكَ الْجَارِحَة ذَلِك السّتْر وانهتكت تِلْكَ الْحُرْمَة بِرَفْع حجابها فقد خَان الْأَمَانَة فالمتقون فَهموا هَذِه الْقِصَّة فخرست ألسنتهم عَن أَن تنطق بِمَا نهى الله عَنهُ والسمع إِلَى الِاسْتِمَاع إِلَى مَا نهى الله عَنهُ وكل عُضْو كَذَلِك وحفظوا الْقلب وساحته وَهِي الصَّدْر مَعَ الله تَعَالَى وَفِيمَا بَينه وَبَين الْخلق فَكلما زلت جارحة من جوارحك بِفعل حظر الله عَلَيْك فقد ضيعت الْأَمَانَة بِقَدرِهَا وانكسف من ضوء قمرك بِقَدرِهِ وَنقص من وزن إيمانك غَدا بِقَدرِهِ فَإِذا حكمت شَأْن الْجَوَارِح السَّبع وجعلتها فِي وثاق الْأَمَانَة فقد نجوت فَإِن كَانَ مِمَّن فتح لَهُم الطَّرِيق فَسَار إِلَى الله صَار حفظ الْأَمَانَة أصعب وَأعظم خطرا وأوفر حظا من ثَمَرَته لِأَنَّهُ حَتَّى الْآن كَانَ فِي كسب الْجَوَارِح عملا ينَال بِهِ أجرا والآن قد وَقع فِي كسب الْقلب سعيا إِلَى الله ينَال

ص: 156

بِهِ الْقرْبَة فالحراسة هَهُنَا للأمانة من الخواطر فَإِن حرسها بِحَقِّهَا وصدقها تحول الضَّوْء الَّذِي كَانَ بدءا شعاعا يتوهج يخطف بصائر النَّفس فضوء الْإِيمَان للصادقين مَعَ جهدهمْ وشعاعه للصديقين مَعَ تفويضهم فَإِن الْكفْر كليل مظلم وَالْإِيمَان فِي الصَّدْر كَالْقَمَرِ فالموحدون يَأْخُذ كل من ذَلِك الْقَمَر بِقَدرِهِ وكل مُطِيع يَأْخُذ بِقَدرِهِ من الضَّوْء فَإِذا كَانَ صَادِقا مُطيعًا لله فِي كل جارحة فَالظَّاهِر مُسْتَقِيم وَالْبَاطِن فَاسد مجهود صَار كمن أقمر لَيْلَة بدر أَو صَار ضوء إيمَانه كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر

إِلَّا أَن الضَّوْء لَيْسَ لَهُ شُعَاع وَلَا حريق وَمن فتح لِقَلْبِهِ الطَّرِيق إِلَى الله تَعَالَى فَصَارَ على مَنْهَج الصدْق وَهُوَ الْبَذْل لنَفسِهِ لله غير ملتفت إِلَيْهَا تحول قمره شمسا فَإِنَّمَا يَبْدُو لِقَلْبِهِ من شُعَاع تِلْكَ الشَّمْس بِمِقْدَار مَا كَانَ يَبْدُو من الْقَمَر فِي مُبْتَدأ أمره فَلَا يزَال يسير حَافِظًا للأمانة فِي العطايا حَتَّى تَزُول عَنهُ الْخِيَانَة ويتبرأ من النَّفس وينسيها وافتقد مَشِيئَته بِمَشِيئَة مَوْلَاهُ وَنسي أَحْوَال نَفسه لما طالع من العظائم وأشرقت شمسه بِتَمَامِهَا بِجَمِيعِ شعاعها وَذَلِكَ قَوْله لداود عليه السلام (يمشي تَمامًا وَيَقُول صَوَابا) وَقَوله تَعَالَى {ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب تَمامًا على الَّذِي أحسن} وَهُوَ الْمُؤمن المستكمل لوقارة الْإِيمَان وبهائه

قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه وددت أَنِّي شَعْرَة فِي صدر مُؤمن

وَقَالَ تَعَالَى حِين أثنى على إِبْرَاهِيم عليه السلام {إِنَّه من عبادنَا الْمُؤمنِينَ}

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثَة تَحت الْعَرْش الْقُرْآن لَهُ ظهر وبطن يحاج الْعباد

ص: 157

وَالرحم تنادي صل من وصلني وإقطع من قطعني وَالْأَمَانَة)

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم انْطلق ثَلَاثَة نفر فَدَخَلُوا غارا فَأرْسل الله عَلَيْهِم صَخْرَة فانطبق الْغَار عَلَيْهِم فَقَالَ بَعضهم لبَعض قد ترَوْنَ مَا نَحن فِيهِ وَمَا قد ابتلينا بِهِ فَلْينْظر كل رجل مِنْكُم أفضل عمل عمله فِيمَا بَينه وَبَين ربه فليذكره ثمَّ يَدْعُو الله تَعَالَى لَعَلَّ الله يفرج عَنَّا مَا نَحن فِيهِ ويلقي عَنَّا هَذِه الصَّخْرَة فَقَالَ رجل مِنْهُم اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنه كَانَت لي بنت عَم وَكَانَت من أحب النَّاس إِلَيّ فطلبت مِنْهَا نَفسهَا فَأَبت عَليّ إِلَّا أَن أعطيها مائَة دِينَار فجمعتها من حسي وَنسي حَتَّى جِئْتهَا بهَا فدفعتها إِلَيْهَا فَلَمَّا قعدت مِنْهَا مقْعد الرجل من امْرَأَته أرعدت وبكت فَقَالَت يَا عبد الله اتَّقِ الله وَلَا تفتح هَذَا الْخَاتم إِلَّا بِحقِّهِ فَقُمْت عَنْهَا وَتركت الدَّنَانِير لَهَا من مخافتك اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي إِنَّمَا تركتهَا وَتركت الدَّنَانِير لَهَا من مخافتك فافرج لنا من هَذِه الصَّخْرَة فُرْجَة نرى مِنْهَا السَّمَاء فَفرج الله عَنْهُم مِنْهَا فُرْجَة فنظروا إِلَى السَّمَاء وَقَالَ الثَّانِي اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنه كَانَ لي أَبَوَانِ وَكَانَت لي صبية صغَار فَكنت أرعى على أَبَوي وَكنت أجيء بالحلاب فأبدأ بأبوي فأسقيهما ثمَّ أجيء بفضلهما على الصبية فأسقيهم وَإِنِّي جِئْت ذَات لَيْلَة بالحلاب فَوجدت أَبَوي نائمين والصبية يتضاغون من الْجُوع فَلم أزل بهم حَتَّى نَامُوا ثمَّ قُمْت بالحلاب على أَبَوي لَيْلَتي حَتَّى قاما وشربا ثمَّ جِئْت بفضلهما إِلَى الصبية فأسقيتهم اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي إِنَّمَا فعلت ذَلِك من مخافتك فأفرج عَنَّا مِنْهَا فُرْجَة فَفرج الله عَنْهُم مِنْهَا فُرْجَة وَقَالَ الثَّالِث اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنه كَانَ لي أجِير يعْمل عِنْدِي فأعطيته أجره فغمضه وَذهب وَتَركه فَعمِلت لَهُ بأجره حَتَّى صَار لَهُ بقر وغنم ثمَّ أَتَانِي بعد حِين يطْلب أجره فَقلت لَهُ

ص: 158

دُونك هَذَا الْبَقر وَالْغنم وراعيها فَخذهَا وَهِي لَك فَانْطَلق فَأَخذهَا اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي إِنَّمَا فعلت ذَلِك من مخافتك فَأَلْقِهَا عَنَّا فَألْقى الله عَنْهُم فَخَرجُوا يَمْشُونَ

وَعَن عَطاء قَالَ كَانَ رجل من بني إِسْرَائِيل لَهُ مَكَان من الْمُلُوك لَيْسَ مِنْهُم ملك يَمُوت فيخلفه ملك إِلَّا أنزلهُ مِنْهُ بِمَنْزِلَتِهِ من الْملك الأول فَبعث على بني إِسْرَائِيل ملك صَالح دَعَا النَّاس إِلَى الْحُقُوق والمظالم فارتحلت الْأَحْيَاء إِلَيْهِ حَيّ حَيّ لَيْسَ مِنْهُم أحد إِلَّا وَهُوَ ينظر فِي شَأْنه وَمن كَانَت لَهُ مظْلمَة يرد عَلَيْهِ مظلمته وَمن كَانَ لَهُ حق أنصفه من حَقه وَمن كَانَت لَهُ حَاجَة قضى لَهُ حَاجته حَتَّى ارتحل حَيّ الْفَتى وارتحل هُوَ فيهم وهم يظنون أَن الْملك سينزله مِنْهُ مَنْزِلَته من الْمُلُوك قبله

فَدخل على الْملك بعض قومه فَقضى حوائجهم ورد عَلَيْهِم مظالمهم حَتَّى دخل الْفَتى فَكَلمهُ بِمثل مَا كَانَ يكلم بِهِ الْمُلُوك قبله فيعجبهم ويقربونه فَقَالَ لَهُ الْملك أَولا تتقي الله وَتُؤَدِّي الْأَمَانَة قَالَ أَيَّة أَمَانَة فَأخذ رجل من حرسته بِيَدِهِ فَأخْرجهُ فَانْصَرف إِلَى قومه فَقَالَ لَعَلَّ بَعْضكُم سبقني عِنْد الْملك فَحَلَفُوا لَهُ فَصَدَّقَهُمْ فَانْصَرف إِلَى أَهله

فَمَاتَ ذَلِك الْملك وَبعث عَلَيْهِم ملك صَالح فَدَعَا النَّاس إِلَى مَا دعاهم إِلَيْهِ الْملك قبله فارتحل النَّاس إِلَيْهِ فارتحل الْفَتى مَعَ حيه فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ كلمة الْفَتى بالْكلَام الَّذِي يكلم بِهِ الْمُلُوك قبله فيقربونه فَقَالَ لَهُ الْملك أَولا تتقي الله وَتُؤَدِّي حق الْأَمَانَة فَقَالَ أَيَّة أَمَانَة

ص: 159

فَأخذ رجل من حرسته بِيَدِهِ فَأخْرج فَانْصَرف إِلَى قومه فَقَالَ لَعَلَّ بَعْضكُم سبقني عِنْد الْملك فَحَلَفُوا لَهُ فَصَدَّقَهُمْ فانصرفوا وَانْصَرف الْفَتى إِلَى أَهله فَقَالَ لَا أَحسب هَذَا إِلَّا لما كنت أصبت مِمَّا لَا يصلح لي فَوضع يَده الْيُمْنَى على الْيُسْرَى ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُبَايِعك على أَن لَا أسأَل أحدا شَيْئا أبدا فَمَكثَ بذلك ثمَّ قَالَ لَا حَاجَة لي بِقرب النَّاس ومخالطتهم

فَانْطَلق إِلَى بَريَّة فتعبد فِيهَا وتخرق عَنهُ ثِيَابه وَصَارَ كَهَيئَةِ المسمار المحترق وَجعل يَأْكُل من نَبَات الأَرْض فَبينا هُوَ على ذَلِك إِذْ هُوَ بشخين بَين أَيْدِيهِمَا طَعَام يأكلانه فتعرض لَهما فَرَفعهَا رؤوسهما ونظرا إِلَيْهِ حَتَّى إِذا علما أَنه قد علم أَنَّهُمَا قد نظرا إِلَيْهِ أكبا على طعامهما ثمَّ رفعا رؤوسهما فدعواه فَأقبل فَإِذا هما يأكلان خبز شعير فَنَظَرا إِلَيْهِ ثمَّ قَالَا اجْلِسْ فَجَلَسَ ثمَّ مد يَده إِلَى كسرة فأمسكاها فنظروا إِلَيْهِ ثمَّ أكبا على طعامنا ثمَّ قَالَا كل فَكبر فأمسكا بِيَدِهِ وَقَالا لم كَبرت على كعامنا قَالَ إِنِّي كنت حَلَفت أَن لَا أسأَل أحدا شَيْئا فلولا أنكما قلتما كل لم أتناول طعامكما قَالَا أَو لَا تتقي الله وَتُؤَدِّي الْأَمَانَة قَالَ وأية أَمَانَة فوَاللَّه مَا أخرجني من النَّاس إِلَّا هَذِه الْكَلِمَة وَلَا لقِيت مَا تريان إِلَّا لَهَا قَالَا أشرف هَذَا الشّرف فَانْظُر مَا ترى وَرَاءه ثمَّ ارْجع إِلَيْنَا

فَأَشْرَف ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ رَأَيْت خَمْسمِائَة ضائنة أَو سِتّمائَة لم أر مثلهَا حسنا جَمِيعًا قَالَا أتأخذها بأمانة الله على أَن تؤدها إِلَيْنَا إِذْ نَحن سألناكها صحاحا شقّ الشعرة شطرين قَالَ نعم فدفعا إِلَيْهِ هَذَا الْغنم وانطلقا فَنمت وَبَارك الله فِيهَا فَنزل قَرْيَة من الْقرى وَبَاعَ مِنْهَا فَاشْترى مِنْهَا رعاء فَجعلت ترعى جناب الْقرْيَة وتأوي إِلَيْهَا فكثرت ونمت وَبَارك الله وَجعل لَا يَبِيع مِنْهَا فيتخذ صنفا من أَصْنَاف الْأَمْوَال إِلَّا بَارك الله فِيهَا ونما فَتزَوج النِّسَاء وَاتخذ السراري وَكثر

ص: 160

لَهُ الْوَلَد وَكَانَ فِي ذَلِك رجلا صَالحا يقري الضَّيْف وينول ابْن السَّبِيل وَيُعْطِي السَّائِل

فَبينا هم على ذَلِك وَقد أَتَى على ذَلِك سنُون إِذْ هُوَ بشيخين يقرعان عَلَيْهِ بَاب دَاره فَنَادَى غُلَامه فَقَالَ أنظر من يقرع بَاب الدَّار فَخرج غُلَامه فَإِذا هُوَ بشيخين قَالَ مَا حاجتكما قَالَا حاجتنا إِلَى سيدك فَرجع إِلَى سَيّده فَأخْبرهُ قَالَ انْطلق بهما ففرغ لَهما بَيْتا فِي نَاحيَة الدَّار ثمَّ أفرشهما وأتحفهما وأطعمهما وأسقهما فليبيتا بِخَير ثمَّ ليغدوا لحاجتهما وَهُوَ يحْسب أَنه كَانَ كمن يضيف فَرجع الْغُلَام إِلَيْهِمَا فَقَالَ إِن سَيِّدي أَمرنِي أَن أفرغ لَكمَا بَيْتا وَأَن أفرشكما وأتحفكما وأطعمكما وأسقيكما فتبيتا بِخَير ثمَّ تغدوا لحاجتكما قَالَا هَذَا مَكَاننَا أَو يَأْذَن لنا عَلَيْهِ قَالَ وَهِي لَيْلَة قُرَّة بَارِدَة شَدِيدَة الْبرد فَرجع إِلَى سَيّده فَأخْبرهُ فَقَالَ قل لَهما إِنِّي قد وضعت ثِيَابِي وخلوت بأهلي فبيتا ثمَّ أغدوا على حاجتكما فَرجع إِلَيْهِمَا فَأَخْبرهُمَا قَالَا هَذَا مَكَاننَا أَو يَأْذَن لنا فَغَضب العَبْد فأغلق الْبَاب دونهمَا وَانْصَرف إِلَى مضجعه

فَلَمَّا أصبح دَعَا غُلَامه فَقَالَ وَيحك مَا فعل ضيفاي قَالَ عرضت عَلَيْهِمَا مَا أَمرتنِي فأبيا فأغلقت الْبَاب وانصرفت قَالَ وَيحك تركت ضَيْفِي فِي سقيع بِغَيْر عشَاء لَا جرم لَأَفْعَلَنَّ بك وَلَأَفْعَلَن ائْذَنْ لَهما فدخلا إِلَيْهِ فَجعل يعْتَذر إِلَيْهِمَا أتيتماني فِي سَاعَة لَا يدْخل عَليّ فِيهَا فَأمرت الْغُلَام بقراكما فغمضتما ذَلِك فَذكر لي أَنه أغلق الْبَاب دونكما لَا جرم لَأَفْعَلَنَّ بِهِ وَلَأَفْعَلَن

قَالَا إِن لنا حَاجَة فأخلنا لحاجتنا فَأمر من حوله فارتفع حَتَّى إِذا خلوا بِهِ قَالَا هَل تعرفنا قَالَ لَا قَالَا أَتَذكر شيخين أتيتهما ببرية كَذَا وَكَذَا وَبَين أَيْدِيهِمَا خبز شعير يأكلانه وَأَنت كالمسمار المحترق قَالَ أذكر قَالَا فَمَا فعلت الْغنم قَالَ فعلت خيرا كثرت ونمت واتخذت أَصْنَاف الْأَمْوَال قَالَا أَلَسْت قد عرفت شرطنا عَلَيْك قَالَ

ص: 161

بلَى صحاحا بشطرين قَالَا فَادع لنا بِمَا لنا قَالَ فَدَعَا بدواوينه وَإِذ الْأَمْوَال أَكثر من أَن تحصى إِلَّا بِكِتَاب فَدَعَا بالغنم فقسمت شطرين ثمَّ دَعَا بِالْإِبِلِ وَالْبَقر وَسَائِر الْأَمْوَال فقسمت شطرين فَقَالَ قد فعلت ووفيت لَكمَا بِالشّرطِ قَالَا ائتنا بأمهات أولادك قَالَ وَمَا لَكمَا وَأُمَّهَات أَوْلَادِي نسَاء قد ولدن وعتقن قَالَا إِن أَثْمَانهنَّ من مالنا قَالَ لَا أفعل قَالَا اتَّقِ الله وأد الْأَمَانَة تعلم أَنا لسنا نأخذك بسُلْطَان وَلَيْسَ لنا عَلَيْك بَيِّنَة وَإنَّك إِن تجحد يصدقك النَّاس ويكذبوننا

قَالَ فَبَاتَ يتسلق على فرَاشه وَيَقُول أيتها النَّفس اصْبِرِي واذكري الْحَال الَّذِي كنت عَلَيْهِ صدقا لعمري إِن أُمَّهَات أَوْلَادِي وَالنَّفقَة عَلَيْهِنَّ لمن مَالهمَا فَلَمَّا أصبح قَالَ ادعوا بأمهات أَوْلَادِي فَدَعَا بِهن فقسمهن شطرين فَجعل يبكي بَعضهم إِلَى بعض قَالَ قد فعلت فَقَالَا ائتنا بنسائك قَالَ وَمَا شَأْن نسَائِي بَنَات قوم أَحْرَار فَأَما أُمَّهَات أَوْلَادِي فهن من مالكما قَالَا إِن صدقاتهن وَالنَّفقَة عَلَيْهِنَّ من مالنا قَالَ لَا أفعل قَالَا اتَّقِ الله وأد الْأَمَانَة تعلم أَنا لسنا نأخذك بسُلْطَان وَلَيْسَت لنا عَلَيْك بَيِّنَة وَإنَّك إِن تجحد يصدقك النَّاس ويكذبوننا

قَالَ يَا نفس اذكري الْحَال الَّذِي أتيتهما عَلَيْهِ صدقاتهن عَلَيْهِنَّ وَالنَّفقَة عَلَيْهِنَّ من مَالهمَا ائْتُونِي بِنِسَائِي فَأتي بِهن فقسمهن شطرين قَالَ قد فعلت قَالَا ائتنا بولدك قَالَ وَمَا شَأْن وَلَدي أما أُمَّهَات أَوْلَادِي فالثمن وَالنَّفقَة من مالكما وَأما النِّسَاء فالصدقات وَالنَّفقَة من مالكما وَأما وَلَدي فَخَرجُوا من صلبي فَلم أكن لَأَفْعَلَنَّ قَالَا اتَّقِ الله وأد الْأَمَانَة تعلم أَنا لسنا نأخذك بسُلْطَان وَلَيْسَت لنا عَلَيْك حجَّة وَإنَّك إِن تجحد يصدقك النَّاس ويكذبوننا

قَالَ أيتها النَّفس اصْبِرِي واذكري الْحَال الَّذِي أتيتهما عَلَيْهِ أَرَأَيْت كسْوَة الْوَلَد وَالنَّفقَة عَلَيْهِم أليست من مَالهمَا ائْتُونِي ببني فَأتي بهم فقسموا شطرين فَإِذا مِنْهُم غُلَام لَا يعدل بِهِ أحد من الْوَلَد قَالَ

ص: 162

قد قسمت وَهَذَا غُلَام فَإِن أحببتما أَن تقوما قِيمَته ثمَّ أرد عَلَيْكُمَا الشّطْر فعلت قَالَا لَا نُرِيد أَن تشتري منا شَيْئا قَالَ فهبا لي نصيبكما قَالَا مَا نُرِيد أَن نعطي أحدا من حَقنا شَيْئا قَالَ فَأَنا أهب لَكمَا نَصِيبي قَالَا مَا نُرِيد أَن تكون لَك عندنَا منَّة قَالَ فَمَاذَا قَالَا قد عرفت شرطنا عَلَيْك صحاحا كشق الشعرة قَالَ أفأشقه قَالَا أَنْت أعلم قَالَ وَالله لَا أفعل هَذَا أبدا قَالَا اتَّقِ الله وأد الْأَمَانَة تعلم أَنا لَا نأخذك بسُلْطَان وَلَيْسَت لنا عَلَيْك بَيِّنَة وَإنَّك إِن تجحد يصدقك النَّاس ويكذبوننا

قَالَ يَا نفس اصْبِرِي واذكري الْحَال الَّذِي أتيتهما عَلَيْهِ قربوا الْمِنْشَار فَأتي بِالْمِنْشَارِ قَالَ خذا بناصيته وآخذ بناحيته قَالَا نعم ذَاك لَك قَالَ فأخذا بِنَاحِيَة الْمِنْشَار وَأخذ بناحيته ثمَّ أَدْرَكته رقة الْوَالِد فَقَالَ ابدءا فأشعراه بِهِ قَالَا أَنْت أَحَق من بَدَأَ قَالَ إِنِّي لأجد لَهُ مَا لَا تجدان فأشعراه لي قَالَا أَنْت أَحَق من بدا فتقاعس فِي الْمِنْشَار ليأشره ورفعاه قَالَا إِن كنت لفاعلا قَالَ نعم وَالله حَتَّى أوفي لله بِمَا جعلت لَهُ وأؤدي الْأَمَانَة قَالَا إذهب فلك أهلك وولدك وَمَالك بَارك الله لَك لسنا من الْبشر كَانَ هَذَا بلَاء قَضَاهُ الله عَلَيْك فبررت وأوفيت وَنحن منعنَا ملكي بني إِسْرَائِيل أَن يعطياك شَيْئا لما قَضَاهُ الله عَلَيْك من الْبلَاء فاطمئن فِي مَالك

وَعَن عَطاء قَالَ لما أعتق لُقْمَان أعطَاهُ مَوْلَاهُ مَالا فَبَارك الله للقمان فِي ذَلِك المَال فَكثر ونما وَجعل لَا يَأْتِيهِ أحد يستقرضه قرضا إِلَّا أقْرضهُ لَا يَأْخُذ عَلَيْهِ حميلا وَلَا رهنا إِلَّا أَنه إِذا أَرَادَ أَن يدْفع إِلَيْهِ المَال قَالَ تَأْخُذهُ بأمانة الله لتؤدينه إِلَيّ عَام قَابل فَإِذا قَالَ نعم دَفعه إِلَيْهِ فَجعل النَّاس يَأْخُذُونَ مِنْهُ ويؤدون فَذكر فعل لُقْمَان لرجل يسكن سَاحل الْبَحْر تِجَارَته فِي الْبَحْر لص ملط فَاجر فَقَالَ وَالله إِن رَأَيْت مَالا أضيع من هَذَا مَا يَأْخُذ مني رهنا وَلَا حميلا وَالله لَآتِيَن هَذَا

ص: 163

الرجل ولأقطعن من مَاله مَالا عَظِيما فَأقبل إِلَيْهِ فَقَالَ يَا لُقْمَان ذكر لي مَعْرُوفك وَأَنا رجل أسكن كَذَا وَكَذَا من سَاحل الْبَحْر وتجارتي فِيهِ فَإِن رَأَيْت أَن تقرضني قرضا أصبت فِيهِ ثمَّ أؤديه إِلَيْك فعلت قَالَ نعم وَكم تُرِيدُ فَسمى لَهُ فَأكْثر قَالَ نعم أما أَنِّي لست أَسأَلك جميلا حميلا وَلَا آخذ مِنْك رهنا أتأخذه بأمانة الله أَن تُؤَدِّيه إِلَى عَام قَابل فِي هَذَا الْيَوْم قَالَ نعم فَدفع إِلَيْهِ مَا سمى وَكتب عِنْده اسْمه وَاسم أَبِيه ومنزله الَّذِي سمى

فَذهب بِالْمَالِ فَوضع يَده فِيهِ وخلطه بِمَالِه وعزم أَن لَا يُؤَدِّيه إِلَيْهِ وَأدْركَ ابْن للقمان فَقَالَ يَا أَبَت إِنِّي أُرِيد أَرض كَذَا وَكَذَا وَإِن رَأَيْت أَن تَأذن لي فعلت قَالَ نعم يَا بني إذهب فاحمل على دوابك وَشد عَلَيْك ثِيَابك ثمَّ ائْتِنِي أوصيك بوصيتي فَفعل ذَلِك ابْنه ثمَّ أَتَاهُ فَقَالَ قد فعلت يَا أَبَت قد حملت على ظَهْري وشددت عَليّ ثِيَابِي فأوصني قَالَ نعم يَا بني إِن فِي طريقك مفازة فأبكر فِيهَا الدلجة فَإِنَّهُ ستعرض لَك شَجَرَة وَاسِعَة الظل تحتهَا عين فَلَا أعلمن مَا قربت الشَّجَرَة وَلَا نزلت تحتهَا يَا بني إِنِّي أَرْجُو أَن يخْرجك الله مِنْهَا سالما فتأتي حَيّ بني فلَان وهم لنا أصدقاء قد أعلم أَنهم سيكرمونك يَا بني وَفِيهِمْ امْرَأَة شَابة كَرِيمَة الْحسب كَثِيرَة المَال وَقد أعلم أَنهم سيعرضونها عَلَيْك فَلَا أعلمن نكحتها وَلَا ضمنت لشَيْء من أمرهَا يَا بني أَرْجُو أَن يسلمك الله مِنْهَا وَإِن رجلا يسكن سَاحل كَذَا وَكَذَا وَقد أَتَانِي مُنْذُ حِين فاقتطع من مَالِي كَذَا وَكَذَا وَهَذَا اسْمه وَاسم أَبِيه فأته فاقبض مَا عَلَيْهِ وَلَا تبت عِنْده

ص: 164

لَيْلَة يَا بني أنظر الَّذِي أوصيك بِهِ فافعله قَالَ الْفَتى نعم قَالَ يَا بني إِن من أفضل مَا أوصيك بِهِ إِن صحبك فِي طريقك هَذَا رجل أكبر مِنْك فَلَا تعصه حَتَّى ترجع إِلَيّ قَالَ أفعل

فَسَار ابْن لُقْمَان حَتَّى انْتهى إِلَى الْمَفَازَة بكر فِيهَا الدلجة فَإِذا هُوَ أبعد من ذَلِك واسحق فَقَامَ قَائِم الظهيرة وَاشْتَدَّ الْحر وَهُوَ فِي وسط مِنْهَا فَبينا هُوَ يسير إِذْ عرضت لَهُ الشَّجَرَة فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا عرفهَا بنعت أَبِيه فَإِذا تحتهَا شيخ جَالس فَعدل إِلَيْهَا فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ مَا الَّذِي تُرِيدُ يَا فَتى قَالَ أُرِيد أَن أَسِير قَالَ فَلَا تفعل فقد قَامَ قَائِم الظهيرة وتوقد الْحر وَلَكِن انْزِلْ فاستظل فِي ظلّ هَذِه الشَّجَرَة وضع عَن دوابك واشرب من المَاء فَإِذا أبردت فارتحل قَالَ الْفَتى فِي نَفسه هَذِه الشَّجَرَة الَّتِي نهاني عَنْهَا أبي مَا أُرِيد أَن أفعل قَالَ أَقْسَمت عَلَيْك لتنزلن قَالَ وَوَافَقَ ذَاك مِنْهُ هَوَاهُ وَذكر أَن أَبَاهُ قَالَ إِن صحبك رجل هُوَ أكبر مِنْك فَلَا تعصه

فَنزل الْفَتى فَوضع عَن دوابه واستظل وَأكل وَشرب ثمَّ رقد وأبى الشَّيْخ أَن ينَام فَلَمَّا اسْتلْقى ابْن لُقْمَان انحطت حَيَّة من رَأس الشَّجَرَة فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا الشَّيْخ رَمَاهَا فَقَتلهَا ثمَّ قطع رَأسهَا فَجعله فِي قرَابه وغيب لَحمهَا حَتَّى إِذا برد النَّهَار وَأَيْقَظَ ابْن لُقْمَان فَقَامَ فَلم يستنكر من نَفسه شَيْئا فَحمل على دوابه وَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَيْن تُرِيدُ قَالَ أُرِيد أَرض كَذَا وَكَذَا قَالَ أَنا أريدها فَهَل لَك فِي صَحَابَتِي قَالَ ابْن لُقْمَان أحب صَاحب فَلَمَّا نزلُوا بالحي الَّذِي سماهم لَهُ لُقْمَان قَالُوا ابْن لُقْمَان فأنزلوه وأكرموه

فَبينا هم يَأْكُلُون عِنْده وَيَشْرَبُونَ إِذْ قَالَ لَهُ رجل مِنْهُم يَا ابْن لُقْمَان هَل لَك فِي امْرَأَة شَابة كَرِيمَة الْحسب كَثِيرَة المَال تنكحها قَالَ ابْن لُقْمَان فِي نَفسه هَذِه الَّتِي منعنيها أبي مَا لي حَاجَة بِالنِّكَاحِ قَالَ الشَّيْخ مَا تعرضون عَلَيْهِ قَالُوا نعرض عَلَيْهِ امْرَأَة شَابة جميلَة كَبِيرَة

ص: 165

الْحسب كَثِيرَة المَال قَالَ الشَّيْخ أشباب وجمال وَمَال مَا يتْرك هَذَا أحدا نَكَحَهَا قَالَ ابْن لُقْمَان مَا أُرِيد النِّكَاح يَا عَم وَإِنِّي لعَلي رحلي قَالَ أَقْسَمت عَلَيْك لتفعلن فَوَافَقَ ذَلِك مِنْهُ هَوَاهُ وَذكر الَّذِي عوفي فِي الشَّجَرَة وَأَن أَبَاهُ قَالَ إِن صَحِبت رجلا هُوَ أكبر مِنْك فَلَا تعصه فنكحها

فَلَمَّا ملك عصمتها أَتَاهُ بعض صديق أَبِيه قَالَ مَا صنعت هَذِه امْرَأَة قد نكحت تِسْعَة لَيْسَ مِنْهُم رجل إِلَّا يصبح مَيتا على فراشها وَأَنت الْعَاشِر فَدخل الشَّيْخ على ابْن لُقْمَان وَهُوَ مهموم حَزِين قَالَ مَا يحزنك قَالَ الْمَرْأَة الَّتِي أَمرتنِي أَن أنْكحهَا نكحت قبلي تِسْعَة لَيْسَ مِنْهُم رجل إِلَّا يصبح مَيتا على فراشها وَأَنا الْعَاشِر وَأَنا أكره الْمَوْت قَالَ انْظُر الَّذِي آمُرك بِهِ فافعله فَإِذا أدخلت عَلَيْك فَلَا تَقربهَا حَتَّى تَأتِينِي

فَأَقْبَلُوا بهَا إِلَيْهِ حَتَّى أدخلوها عَلَيْهِ وَكَانَ من خلق أَهلهَا وغلمانها أَنَّهَا إِذا أدخلوها على الزَّوْج حفوا بِالْبَيْتِ فَإِذا صَاح كَانَت عَلامَة مَوته دخلُوا فاحتملوا صاحبتهم وَمَا مَعهَا وتركوه فحفوا بِالْبَيْتِ كَمَا كَانُوا يصنعون وَقَالَ ابْن لُقْمَان للْمَرْأَة إِن لي حَاجَة فَخرج إِلَى الشَّيْخ فَقَالَ الْمَرْأَة فِي الْبَيْت وَأَنا عنْدك قَالَ ائْتِنِي بمجمرة فِيهَا جمر فَأَتَاهُ بهَا ابْن لُقْمَان فَعمد إِلَى رَأس الْحَيَّة الَّتِي قتل عِنْد الشَّجَرَة فَجَعلهَا على المجمرة ثمَّ قَالَ انْطلق بهَا فاجعلها تَحت الْمَرْأَة فَإِذا برد فائتني بهَا فَفعل بهَا ابْن لُقْمَان فَقَالَ اجعلي هَذَا تَحْتك فَفعلت فَلَمَّا طفئ الْجَمْرَة أخرجهَا فَذهب ابْن لُقْمَان بهَا إِلَى الشَّيْخ فَإِذا شبه الدودة محترقة فِي المجمرة فَقَالَ إذهب إِلَى أهلك فَلَا بَأْس عَلَيْك فَإِن هَذِه الَّتِي كَانَت تقتل الرِّجَال فَانْطَلق إِلَى أَهله فَأصْبح قرير عين وأصبحت فرحة وتفرق الَّذين كَانُوا حفوا بِالْبَيْتِ فَلَمَّا أَرَادَ ابْن لُقْمَان أَن يرتحل قَالَ لَهُ الشَّيْخ أَيْن تُرِيدُ قَالَ غريما لنا فِي سَاحل بَحر

ص: 166

كَذَا وَكَذَا أُرِيد أَن آتيه فأقبض حَقنا قبله قَالَ فَهَل لَك فِي صَحَابَتِي قَالَ أحب صَاحب

فَانْطَلق مَعَه حَتَّى إِذا قدما السَّاحِل سَأَلَا عَن غريمهما فَقَالَ أهل الْبَلَد ذَاك لص ملط فَاجر وَكَانَ قد عمد إِلَى قصر فبناه على سَاحل الْبَحْر يمد الْبَحْر حِين يمد فَلَا يتْرك حول الْقصر شَيْئا إِلَّا احتمله لَا يخلص إِلَى الْقصر وَلَا إِلَى من فِيهِ فَأَتَاهُ ابْن لُقْمَان وَقَالَ لَهُ حَقنا عَلَيْك فَقَالَ مرْحَبًا بَيْتا اللَّيْلَة ثمَّ اغدوا على مالكما فَقَالَ ابْن لُقْمَان فِي نَفسه هَذَا الَّذِي مَنَعَنِي عَنهُ أبي مَا أُرِيد أَن أَبيت اللَّيْلَة قَالَ الشَّيْخ مَا تعرض عَلَيْهِ قَالَ أعرض عَلَيْكُمَا أَن تبيتا اللَّيْلَة ثمَّ تغدوا على مالكما قَالَ افْعَل يَا بني قَالَ مَا أُرِيد ذَاك قَالَ أَقْسَمت عَلَيْك لتفعلن قد أنسأته أطول من لَيْلَة فَلَا تنسئه لَيْلَة فَوَافَقَ ابْن لُقْمَان هَوَاهُ وَذكر الَّذِي عوفي من الشَّجَرَة وَالْمَرْأَة فباتا

فَلَمَّا فرغ من عشائهما عمد إِلَى وطاء تَحت الْقصر ففرش لَهما على سريرين وَقد علم أَن المَاء إِذا جَاءَ احتملهما وَعمد إِلَى ابْن لَهُ فأضجعه على سَرِير فَوْقهمَا فِي مَكَان قد علم أَن المَاء لَا يبلغهُ فرقد ابْن لُقْمَان وأبى الشَّيْخ أَن ينَام

فَلَمَّا كَانَ فِي جَوف اللَّيْل أقبل الْبَحْر فَلَمَّا رَآهُ الشَّيْخ أيقظ ابْن لُقْمَان فاحتملا سريرهما فجعلاه مَكَان سَرِير الْغُلَام وحملا سَرِير الْغُلَام وَهُوَ نَائِم فوضعاه مَوضِع سريرهما وَأَقْبل الْبَحْر فَاحْتمل الْغُلَام بسريره فَذهب بِهِ وَلم يخلص إِلَيْهِمَا

فَلَمَّا أصبحا اطلع صَاحب الْقصر ينظر مَا فعل غريماه فَإِذا هما نائمان وَإِذا ابْنه قد ذهب فناداهما فَقَالَ مكرت بكما وحاق بِي الْمَكْر فاغدوا على مالكما فَغَدوْا على مَالهمَا فانتقداه ثمَّ انصرفا إِلَى الْمَرْأَة فَأمرهَا ابْن لُقْمَان بالرحيل فارتحلت فَإِذا أَكثر مَال قَومهَا لَهَا

ص: 167

مِمَّا كَانَت تصيب من الْأزْوَاج فارتحلت بِمَال عَظِيم من أَصْنَاف المَال وَأَقْبل مَعَه الشَّيْخ حَتَّى إِذا شارفا منزل لُقْمَان قَالَ الشَّيْخ لِابْنِ لُقْمَان أَي صَاحب وجدتني فِي سفرك قَالَ خير صَاحب كف الله بك ورزق قَالَ أفما لي فِيمَا أصبت نصيب قَالَ بلَى نصفه لَك طيبَة لَك بِهِ نَفسِي قَالَ فإمَّا أَن تقسم وتخيرني وَإِمَّا أَن أقسم وأخيرك قَالَ ابْن لُقْمَان لَا بل اقْسمْ وخيرني فَعرف الشَّيْخ هوى ابْن لُقْمَان فِي الْمَرْأَة فَعمد إِلَيْهَا وَإِلَى شَيْء يسير من مَالهَا فَعَزله وَعمد إِلَى عَظِيم المَال فَتَركه

ثمَّ قَالَ لِابْنِ لُقْمَان اختر قَالَ ابْن لُقْمَان أما إِنَّك عدلت وأنصفت حِين خيرت فَإِن كنت فعلت مَا فعلت أخْتَار الْمَرْأَة وَمَا مَعهَا فارتحل ابْن لُقْمَان بِالْمَرْأَةِ وَمَا مَعهَا وَقَامَ الشَّيْخ فِي عَظِيم المَال

فَلَمَّا سَار ابْن لُقْمَان وَكَاد أَن يتغيب عَن الشَّيْخ أدْركهُ فَقَالَ أَعْطَيْتنِي مَالك فَبِمَ ذَاك لَعَلَّك تخوفت مني شَيْئا قَالَ ابْن لُقْمَان وَمَا عَسَيْت أَن أَتَخَوَّف مِنْك وَلَكِن لَا يذكر صَاحب من صَاحب أفضل مِمَّا أذكر مِنْك وَسَأَلتنِي قَالَ أتعطيني ذَاك طيبَة بِهِ نَفسك قَالَ نعم قَالَ فَاذْهَبْ فلك أهلك وَمَالك بَارك الله فِيك لست من الْبشر أَنا أَمَانَة أَبِيك الَّذِي كَانَ يأتمن بهَا النَّاس بَعَثَنِي الله لأصحبك فِي طريقك ثمَّ أردك إِلَى أَبِيك صَالحا فاطمئن فِي مَالك مُبَارَكًا لَك فِيهِ فَصَاحب الْأَمَانَة المحافظ عَلَيْهَا فِي أَمَان الله حَيْثُ مَا انْقَلب

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (أول مَا يرفع من النَّاس الْأَمَانَة)

فالأمانة من الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الْقلب من الْجَسَد فَإِذا مَال الْقلب إِلَى

ص: 168

شَيْء مَال الْجَسَد إِلَى مَا مَال إِلَيْهِ الْقلب فالإيمان يشدد عقد الْقلب ويؤكد عزمه وَيُقَوِّي ضَمِيره وَالْأَمَانَة فِي الْإِيمَان بِمَنْزِلَة الْعِمَاد فَإِذا وَهن الْعِمَاد يتضع صَاحبه بسقم الْإِيمَان وَذهب بقوته فَإِذا جَاءَت الْخِيَانَة رفعت الْأَمَانَة لِأَنَّهَا ضدها وَلنْ يجتمعا وَإِذا رفعت الْأَمَانَة سقم الْإِيمَان

قَالَ صلى الله عليه وسلم (يَا سُلَيْمَان قل اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك صِحَة فِي إِيمَان وإيمانا فِي حسن خلق ونجاحا يتبعهُ فلاح)

وَالْإِيمَان عَطِيَّة من الْمِنَّة وَالْأَمَانَة فِي الْإِيمَان هَدِيَّة من الْجُود فَإِذا ضَاعَت الْهَدِيَّة ذهب بهاء الْعَطِيَّة افْتقدَ صَاحبه زينته وحلاوته ولذاذته وذبلت النَّفس واستراحت وَإِذا ذهب بهَا الشَّيْء وثقلت عَن الْمُحَافظَة عَلَيْهَا وَذهب قُوَّة الْقلب لذبول النَّفس وثقلها فَحلت الْخِيَانَة محلهَا والخيانة فِي اللُّغَة كل شَيْء يعْمل من وَرَاء وَهِي مكر النَّفس فَإِنَّهَا لما لم تقدر على أَن تسْتَقْبل الْقلب صبرا بِالَّذِي هويت من الْمعْصِيَة أسرته من الْقلب والتمست الْغرَّة والغفلة من الْقلب فأوجدته اللَّذَّة الَّتِي وجدت فاستولت على الْقلب بسُلْطَان اللَّذَّة فِي وَقت غفلته عَن الله تَعَالَى وَانْقِطَاع المدد من رأفة الله تَعَالَى وإقباله عَلَيْهِ بِأَسْبَاب الْعِصْمَة فأمكنته أسره إِيَّاهَا لِأَن الْقلب أَضْعَف مَا يكون فِي وَقت الْغَفْلَة فتوجده شرا ومكرا تخادعه بهَا وتزين لَهُ وتموه عَلَيْهِ

وَالْأَمَانَة قرينها الْيَقِين وَإِنَّمَا ضَاعَت من قبل النَّفس وَلَيْسَ شَيْء أعز من الْيَقِين وَلَا أقل مِنْهُ وَإِذا عز الْيَقِين وَقل كثر الشَّك وتذبذب الْقلب وإرتحلت الْأَمَانَة إِلَى المبدأ وحلت الْخِيَانَة محلهَا فَكيف ينْتَفع العَبْد بِإِيمَان فِي جَوْفه الْخِيَانَة مَكَان الْأَمَانَة كَمَا كَانَ الْيَقِين علاوته فَمَا ظَنك

ص: 169

بِشَيْء ذهب علاوته وبجسد قطع رَأسه أَلَيْسَ قد ذهبت حواسه فَلَا يبصر وَلَا يسمع وَلَا ينْطق وَلَا يجد الروائح فَكَذَا من إفتقد الْيَقِين لم يسمع عَن الله مَا خاطبه وَلَا أبْصر مَا كشف لَهُ وَأرَاهُ وَلَا ينْطق عَن الله بِحِكْمَتِهِ وَلَا وجد الرّيح الطّيب الَّذِي طيبه الله بِهِ وبذهاب الْيَقِين يَمُوت الْقلب عَن الله تَعَالَى وَلم يمت عَن توحيده وَلذَلِك تَجدهُ مخلطا يعْمل عمل الْمُوَحِّدين وَالْمُشْرِكين والموقنين والشاكرين والجادين واللاعبين يعْمل عمل الْجد بِقُوَّة الْيَقِين الَّذِي فِي التَّوْحِيد فَأَما الْيَقِين الَّذِي هُوَ عماد الْقلب وَهِي الْأَمَانَة فِي جَوف الْإِيمَان فقد فَاتَهُ فَلذَلِك صَار مخلطا

قَالَ صلى الله عليه وسلم (خير مَا ألقِي فِي الْقلب الْيَقِين)

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (إِن عِيسَى كَانَ يمشي على المَاء وَلَو ازْدَادَ يَقِينا لمشى فِي الْهَوَاء)

وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَقُول (مَا أعطي أحد من الْيَقِين مَا أَعْطَيْت أمتِي)

قَالَ (وَكَانَ عِيسَى عليه السلام يَقُول مَا أنزل فِي الأَرْض شَيْء أقل من الْيَقِين)

وَأتي دَاوُد عليه السلام بِصَحِيفَة مختومة بِالذَّهَب من السَّمَاء فِيهَا عشر مسَائِل وَأمر أَن يسْأَل وَلَده مِنْهَا فَمن أَجَابَهُ بِمَا فِيهَا فَهُوَ الْخَلِيفَة فَدَعَا سُلَيْمَان من بَين أَوْلَاده فَسَأَلَهُ أَي شَيْء أقل فِي الأَرْض

قَالَ الْيَقِين

قَالَ فَأَي شَيْء أَكثر

ص: 170

قَالَ الشَّك

قَالَ فَأَي شَيْء آنس

قَالَ الرّوح فِي الْجَسَد

قَالَ فَأَي شَيْء أوحش

قَالَ الْجَسَد إِذا خرج مِنْهُ الرّوح

قَالَ فَأَي شَيْء أحسن

قَالَ الْإِيمَان بعد الْكفْر

قَالَ فَأَي شَيْء أقبح

قَالَ الْكفْر بعد الْإِيمَان

قَالَ فَأَي شَيْء أَمر

قَالَ الْفقر

قَالَ فَأَي شَيْء أقرب

قَالَ الْآخِرَة إِذْ هُوَ آتٍ

قَالَ فَأَي شَيْء أبعد

قَالَ الدُّنْيَا إِذا زَالَت عَنْك

قَالَ فَأَي شَيْء أشر

قَالَ الْمَرْأَة السوء

ففك دَاوُد خَاتم الصَّحِيفَة فَنظر فَإِذا هُوَ بتفسيرها فِي الْكتاب لم يُغَادر مِنْهُ حرفا فاستخلصه

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (سلوا الله الْيَقِين والعافية فَإِن النَّاس لم يُعْطوا شَيْئا خيرا من الْيَقِين والعافية)

ص: 171

وَمر عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه بمصاب فَقَرَأَ عَلَيْهِ فبرأ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (مَا قَرَأت) قَالَ قَرَأت {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} الْآيَة فَقَالَ صلى الله عليه وسلم (لَو قَرَأَهَا موقن على جبل لزال)

فأوفر النَّاس حظا من الْيَقِين أوفرهم حظا من الْأَمَانَة وأشدهم لَهُ حفظا وحراسة

قَالَ صلى الله عليه وسلم (الْمُؤمن العَبْد حَتَّى يَأْمَن النَّاس بوائقه)

وَقَالَ عليه السلام (الْمُؤمن الَّذِي يأمنه النَّاس)

وَقَالَ عليه السلام الْمُؤمن فِي الدُّنْيَا على ثَلَاثَة أَجزَاء الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله ثمَّ الَّذِي يأمنه النَّاس على أَمْوَالهم وأنفسهم ثمَّ الَّذِي إِذا أشرف على طمع تَركه لله تَعَالَى

فَهَذِهِ ثَلَاثَة منَازِل للْإيمَان الْمنزلَة الأولى نزلها صنف آمنُوا بِاللَّه

ص: 172

إِيمَان طمأنينة لَا ريب فِيهِ وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله بأَدَاء الْفَرَائِض وَاجْتنَاب الْمَحَارِم إِلَّا أَن الرَّغْبَة فيهم بَاقِيَة وَمن كَانَت الرَّغْبَة فيهم بَاقِيَة فالخيانة فيهم كائنة فَإِن الله تَعَالَى أعْطى الْخلق الْأَرْوَاح بِمَا فِيهَا من الْحَيَاة عَارِية وَأَعْطَاهُمْ الدُّنْيَا عَارِية ووضعها ممرا للعباد ومتزودا فَمن اشْتغل قلبه بالتمتع صيره كالمستقر وَإِنَّمَا جعلهَا للزوال والانتقال عَنْهَا فَمن تشبث بِالْحَيَاةِ وَلَا يُرِيد مفارقتها وفر من الْمَوْت فقد خَان لِأَن الْعَارِية إِذا امْتنع صَاحبهَا من الْخُرُوج مِنْهَا إِلَى مَالِكهَا قهر وسلب وَسمي بامتناعه خائنا فَكَذَا الدُّنْيَا وضعت ممرا ومتزودا فَمن صيرها مُسْتَقرًّا سلب يَوْم الْخُرُوج مِنْهَا وَهُوَ خائن وَهُوَ مَعَ هَذِه الْخِيَانَة يقوم بأَدَاء الْفَرَائِض بِلَا توفير وباجتناب الْمَحَارِم بِلَا تقوى وصيانة إِنَّمَا التَّقْوَى إِذا خرجت شَهْوَة تِلْكَ الْأَشْيَاء من قلبه وَإِنَّمَا اجْتنب من خوف الْعقَاب غَدا من غير أَن يلْتَفت إِلَى صِيَانة الْمعرفَة الَّتِي فِي قُلُوبهم فَإِن قَالَ لَهُ علام الغيوب غَدا إِن معرفتي كَانَت خلعتي على قَلْبك فاجتنب محارمي شَفَقَة على جِلْدك ولحمك وَلم تلْتَفت إِلَى خلعتي فتخاف عَلَيْهَا الدنس وَالْغُبَار وَقد عظم عنْدك شَأْن جسدك وَجل قدره فباليت بِهِ واجتنبت الْمَحَارِم توقيا عَلَيْهِ لَا على خلعتي الَّتِي بهَا طَابَ جسدك فَمَاذَا يَقُول هَذَا العَبْد فَهَذَا من دناءة الْمنزلَة

الْمنزلَة الثَّانِيَة من الْإِيمَان صنف زَالَت عَنْهُم رغبتهم فاشتاقوا إِلَى دَار الله فاطمأنت نُفُوسهم وَطَابَتْ أروحهم فَأَمنَهُمْ الْخلق على أَمْوَالهم وأنفسهم وَلم يأمنوا على أديانهم فَلَا تقبل الْقُلُوب مِنْهُم مواعظهم وإشارتهم إِلَى الله وَإِنَّمَا أَمنهم النَّاس للأمانة الَّتِي فِي جَوف إِيمَانهم وَلِأَن أَرْوَاح يَتَعَارَفُونَ بِمَا تضمنه من روح الْإِيمَان فَإِذا عاينوا الْحق فِي فعل عَامل بِهِ إستنارت لَهُ قُلُوبهم وَعرفُوا أَنه الْحق فأمنت قُلُوب الْخلق واطمأنت نُفُوسهم إِلَى مَا عِنْدهم قد أمنُوا على النُّفُوس وَالْأَمْوَال وَلم يأمنوا مِنْهُ على الدّين

ص: 173

والمنزلة الثَّالِثَة من الْإِيمَان فهم قوم بلغُوا ذرْوَة الْإِيمَان وَسَماهُ صلى الله عليه وسلم ذرْوَة لِأَنَّهُ شبه الْإِيمَان بِالْجَبَلِ وَالنَّفس كريشة طياشة تهب بهَا الرّيح فَكلما كَانَ الْجَبَل أثقل كَانَت الريشة أسكن حَتَّى إِذا بلغ العَبْد ذرْوَة الْإِيمَان كَانَ كَأَنَّهُ على قلَّة جبل وَالنَّفس تَحْتَهُ مضغوطة لَا يقدر على التحرك فَلَا يزَال كَذَلِك تَحت أثقال الْمعرفَة حَتَّى تصفو من عصارتها وتسيل مِنْهَا تِلْكَ الفضول وتيبس عَن رُطُوبَة الشَّهَوَات كَمَا يبس الْكسْب الَّذِي قد عصر تَحت الأثقال حَتَّى سَالَ دهنه وَبَقِي ثفله يَابسا فَعِنْدَ ذَلِك تجدها قد مَاتَت شهواتها وخمدت نيرانها خمودا افْتقدَ حرهَا

فَهَذَا الَّذِي قَالَ صلى الله عليه وسلم (إِذا أشرف على طمع تَركه لله) وَإِنَّمَا قدر على ذَلِك بِقُوَّة مَا فِيهِ من الْغنى بِاللَّه فالغنى بِاللَّه فِي ذرْوَة الْجَبَل وَهُوَ أَعلَى الْإِيمَان أُولَئِكَ الَّذين يأمنهم الْخلق على دينهم فَتقبل الْقُلُوب مواعظهم وإشارتهم إِلَى الله تَعَالَى لأَنهم يَسِيرُونَ إِلَى الله وَقُلُوبهمْ بَين يَدي نور الْإِيمَان ووقاره فَإِذا نطق أحدهم استنارت الْقُلُوب لنُور مقَالَته وَإِذا شخصت أَبْصَارهم إِلَيْهِ توقرت النُّفُوس لوقاره وهدأت الْأَركان وسكنت مِنْهُم الْأَصْوَات

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لما صعدت إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة إِذْ هُوَ بِرَجُل أشمط جَالس على كرْسِي عِنْد بَاب الْجنَّة وَعِنْده قوم جُلُوس بيض الْوُجُوه أَمْثَال الْقَرَاطِيس وَقوم فِي ألوانهم شَيْء فَقَامَ هَؤُلَاءِ الَّذين فِي ألوانهم شَيْء فَدَخَلُوا نَهرا فاغتسلوا فِيهِ فَخَرجُوا وَقد خلص من ألوانهم شَيْء ثمَّ دخلُوا نَهرا آخر فَخَرجُوا وَقد خلصت ألوانهم فَصَارَت مثل ألوان أَصْحَابهم فَقلت يَا جبرئيل من هَذَا الأشمط وَمن هَؤُلَاءِ وَمن هَؤُلَاءِ وَمَا هَذِه الْأَنْهَار الَّتِي دخلوها قَالَ عليه السلام هَذَا

ص: 174

أَبوك إِبْرَاهِيم أول من شمط على الأَرْض وَأما هَؤُلَاءِ الْبيض الْوُجُوه فقوم لم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم وَأما هَؤُلَاءِ الَّذين فِي ألوانهم شَيْء فقد خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا فتابوا فَتَابَ الله عَلَيْهِم وَأما الْأَنْهَار فأدناها رَحْمَة الله وَالثَّانِي نعْمَة الله وَالثَّالِث وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا

قَوْله وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ فالدين اسْم جَامع مُنْتَظم لجَمِيع الْإِسْلَام إِلَّا أَن الْإِسْلَام هُوَ تَسْلِيم النَّفس إِلَى الله عبودة وترجمة الدّين هُوَ الخضوع وَأَن تجْعَل نَفسك دون أمره وَمن قبله فشرطه مَعَ الله أَن يكون كل أمره غَالِبا على قلبه وَنَفسه وشهواته وإرادته كلهَا فَمن وفى بهَا فِي جَمِيع الْأَوْقَات فَهُوَ صَادِق مُطِيع وَقد وفى لله بِمَا قبل مِنْهُ وَمن وفى بَعْضًا وضيع بَعْضًا فدينه مَنْقُوص وعَلى حسب ذَلِك يقبض الْجَزَاء من ديان يَوْم الدّين يَوْم لَيْسَ فِيهِ لأحد أَمر ليَوْم اتملك نفس لنَفس شَيْئا وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله

وَأما الْعَهْد فَهُوَ تذكرة الله الَّذِي وَضعه فِيمَا بَينه وَبَين الْعباد يَوْم أَخذهم للعبودة قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فَلَمَّا خَرجُوا إِلَى الدُّنْيَا نَسيَه الْأَعْدَاء وَحفظه الموحدون ثمَّ غلب الْمُوَحِّدين غَفلَة على ذَلِك الْحِفْظ فوهلوا فأوفرهم حظا من الْحِفْظ أوفرهم حظا من الذّكر فالأعداء فِي غَفلَة وَمن الْغَفْلَة النسْيَان والأحباب فِي غَفلَة وَمن الْغَفْلَة الوهلة وَمن الوهلة الْخَطَايَا وَنقض الْعَهْد ودروس ذكر الْعَهْد فأوفرهم حظا من الْعَهْد أوفرهم حظا من الدّين وأشدهم انقيادا فالكافر ينسى

ص: 175

وَالْمُؤمن يغْفل فالكافر نَاس لرَبه وَنَفسه من أَيْن وَإِلَى أَيْن وَالْمُؤمن يتَرَدَّد بَين الغفلات وَالذكر فالمؤمن أَمِين الله فِي أرضه ائتمنه على مَعْرفَته وَوَضعه فِي قلبه وَجعل قلبه خزانَة لَهُ وأمنه عَلَيْهَا بِمَا فِيهَا من كنوز الْمعرفَة ووكله بحراستها من النَّفس الأمارة بالسوء وَمن الْعَدو الْحَاسِد الْقَائِم فِي ظلّ النَّفس يَرْمِي بالشَّيْء بعد الشَّيْء إِلَى النَّفس ينْتَظر مَتى يفترض النَّفس فرصتها من الْقلب وَلَيْسَ أحد أعز على الْملك وَلَا أصفى حبا لَهُ من أَمِينه الَّذِي ائتمنه على جَمِيع الْأَشْيَاء فَإِذا قَامَ العَبْد بِحِفْظ الْأَمَانَة فَهُوَ أَمِين الله فِي أرضه وَإِذا وفى بِالْقيامِ وَصدق الله فِيهِ فعين الله ترعاه وَهُوَ الْمُسْتَحق لاسم الْإِيمَان

قَالَ تَعَالَى {إِن الْمُتَّقِينَ فِي مقَام أَمِين} فَهُوَ وَاحِد الله فِي أرضه فِي كل وَقت وَإِنَّمَا سمي جبرئيل أَمِين الله قَالَ تَعَالَى {عِنْد ذِي الْعَرْش مكين مُطَاع ثمَّ أَمِين}

فَقَالَ أهل التَّفْسِير حل من الْأَمَانَة محلا أَن يدْخل سبعين ألف حجاب من نور بِغَيْر إِذن وائتمنه الله على وحيه فبرز اسْمه فِي السَّمَوَات بِأَنَّهُ أَمِين وَاسْتحق دُخُول الْحجب بِلَا إِذن وَفِي كل حجاب سر وَلذَلِك تَجِد مُلُوك الدُّنْيَا لَا يُطلق الدُّخُول لأحد بِغَيْر إِذن مَتى شَاءَ إِلَّا لمن ائْتمن على أسرار مَا فِي وَرَاء الْحجاب

ص: 176

-‌

‌ الأَصْل الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان

-

‌فِي فَضِيلَة غض الْبَصَر

عَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من نظر إِلَى محَاسِن امْرَأَة فغض طرفه فِي أول نظرة رزقه الله تَعَالَى عبَادَة يجد حلاوتها فِي قلبه)

فمحاسن الْمَرْأَة مجَالِس الشَّيْطَان وَمَوْضِع زينته الَّتِي قَالَ تَعَالَى {رب بِمَا أغويتني لأزينن لَهُم فِي الأَرْض}

فَتلك الزِّينَة يلقيها على المحاسن فَإِن وجد العَبْد فِي النظرة على غَفلَة عملت الزِّينَة الَّتِي بِيَدِهِ على عين النَّاظر عملا ينفذ إِلَى الْقلب فَيَأْخُذ الْقلب بِمَنْزِلَة السهْم المسموم إِذا خلص إِلَى الْجَسَد فقد سمه من طرف السهْم فدب فِي جَمِيع الْجَسَد فَتلك الزِّينَة الَّتِي بيد الْعَدو لَهَا سم فَإِذا أَلْقَاهَا على محَاسِن الْمَرْأَة فَإِنَّمَا يلقيها ليهيج نفوس الْآدَمِيّين

ص: 177

الَّتِي هِيَ سَاكِنة فَإِذا نظرت الْعين وحظها من الدُّنْيَا زِينَة الْأَشْيَاء وألوانها فَإِذا أخذت الزِّينَة وألوانها على غَفلَة وتخطى إِلَى مَا لم يُؤذن لَهُ فِي النّظر إِلَيْهَا أَو فِيمَا أذن لَهُ وَهُوَ غير ذَاكر لله خلصت تِلْكَ الزِّينَة الَّتِي بيد الْعَدو إِلَى النَّفس فهيجتها فَصَارَت بِمَنْزِلَة السم يدب فِي جَمِيع الْجَسَد فَإِذا تأدت إِلَى الْقلب خالطت حلاوة الْإِيمَان وحرارته فتكدر الْإِيمَان وانكسفت الْمعرفَة فَصَارَت بِمَنْزِلَة شمس صَارَت فِي كسوف فعلق الْقلب بِتِلْكَ النظرة بالمنظور إِلَيْهَا وَصَارَت كجراحة مَسْمُومَة وَالَّذِي حل بِدَاوُد عليه السلام إِنَّمَا كَانَ من نظرة وَاحِدَة وَالْعَبْد أعْطى جفون الناظرين حجَّة عَلَيْهِ وقطعا لعذره وإخراسا لِلِسَانِهِ

وَفِي الْخَبَر أَن الله تَعَالَى يَقُول يَا (ابْن آدم إِن نازعتك عَيْنك فأطبق فقد جعلت لَهما طبقًا وَإِن نازعك لسَانك فأطبق فقد أَعطيتك طبقًا وَإِن نازعك فرجك فأطبق فقد أَعطيتك طبقًا) يُرِيد بِهِ الفخذين فَهَذَا من الله تأييد لعَبْدِهِ فَإِذا اسْتقْبل زِينَة الشَّيْطَان الَّتِي أعدهَا لغوايته بهَا بتأييده الَّذِي أيده بِهِ جَاءَت الْعِصْمَة بعد التأييد وسكنت النَّفس وَبَطل كيد الْعَدو وأثابه الله فِي عَاجل الدُّنْيَا ثَوابًا أَن رزقه عبَادَة يجد حلاوتها مَعَ مَا يدّخر لَهُ من ثَوَاب الْأَجَل

وَفِي الْخَبَر (مَا ترك العَبْد شَيْئا من الدُّنْيَا لله إِلَّا آتَاهُ الله خيرا مِنْهُ وَأفضل)

وَقَالَ تَعَالَى فِي قصَّة سُلَيْمَان عليه السلام {نعم العَبْد إِنَّه أواب} إِلَى قَوْله {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب}

أخرجت لَهُ خُيُول من الْبَحْر منقوشة ذَوَات أَجْنِحَة فشغلته عَن صَلَاة الْعَصْر حَتَّى غربت الشَّمْس فَدخلت عَلَيْهِ حرقة الْفَوْت وَوجد من

ص: 178

ذَلِك وجدا شَدِيدا فَسخرَ لَهُ الرّيح ثَوابًا لعاجله ثمَّ أعد لَهُ ثَوَاب الْأَجَل فَقَالَ {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب}

فَمن غض بَصَره فقد رد حلاوة هَاجَتْ مِنْهُ حِين أحست نَفسه بالنظرة الأولى الَّتِي كَانَت لَهُ فَرد تِلْكَ الْحَلَاوَة على النَّفس فَرَجَعت النَّفس قهقرى على عقبيها وَبقيت خزانَة الله مصونة فأعقبه الله تَعَالَى فِي عَاجل دُنْيَاهُ بِمَا صان خزانته فأهاج من الخزانة من شرارات الْمعرفَة حلاوة عبَادَة طرية وخلصه من وبال النظرة وَجعل تِلْكَ الْعِبَادَة حصنه وَتلك الْعِبَادَة زَاد قلبه يقطع بهَا مَسَافَة العبودة أَيَّام الْحَيَاة وحلاوة الْعِبَادَة تحفة من الله تَعَالَى وَأَصلهَا من هيجان الْمعرفَة فالعبادة كَثِيرَة وحلاوته عزيزة لَا تنَال إِلَّا من طَرِيق التحف فَهِيَ زَاد قُلُوب العابدين وبالزاد يقطع الْأَسْفَار أسفار الملكوت

قَالَ صلى الله عليه وسلم (أحب الْعُيُون إِلَى الله تَعَالَى عينان عين غضت عَن محارم الله وَعين حرست فِي سَبِيل الله) وَقَالَ تَعَالَى {قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم ويحفظوا فروجهم}

فَخرجت مخرج النَّصِيحَة والعطف والتأييد وَقَالَ فِي سَائِر الْأَشْيَاء افعلوا وَلَا تَفعلُوا وَبَين الْأَمر وَالْقَوْل بون بعيد فَوجدَ السَّابِق سَبِيلا إِلَى صفاء الِانْتِهَاء والمقصد سَبِيلا إِلَى الِانْتِهَاء مَعَ التَّنَازُع قَالَ تَعَالَى {يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور}

ص: 179

والمقصد حَظه مِنْهُ مَا يتَخَلَّص من خِيَانَة الْعين وَمَا فِي الصُّدُور بَاقٍ

وَكَانَت أم سَلمَة ومَيْمُونَة رضي الله عنهما عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَدخل عَلَيْهِ ابْن أم كتوم فَقَالَ صلى الله عليه وسلم احتجبا مِنْهُ فَقَالَتَا يَا رَسُول الله أَلَيْسَ هُوَ أعمى لَا يُبصرنَا وَلَا يعرفنا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم (أفعمياوان أَنْتُمَا ألستما تبصرانه)

وَقَالَ تَعَالَى وَإِذ سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب ثمَّ قَالَ {ذَلِكُم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}

اعْلَم أَن المبتغى مِنْهُم طَهَارَة الْقُلُوب وَإِنَّمَا تطهر الْقُلُوب بِحِفْظ الْحَواس المؤدية الْأَخْبَار إِلَى الْبَاطِن وَقد حذر الله عباده شَأْن الزناة وعظمه وَبَين عُقُوبَته وَبَين الرَّسُول أَن لكل جارحة مِنْهُ حظا

قَالَ صلى الله عليه وسلم (الْعين تَزني وَالْيَد تَزني وَالرجل تَزني والسمع يَزْنِي وَيصدق ذَلِك كُله ويكذبه الْفرج)

ص: 180

فتكذيب الْفرج إياهن أَن لَا يُوجب حدا فَأَما الأدناس والآثام فقد أَصَابَت الْجَوَارِح وحلت بِهِ

قَالَ خَالِد بن عمرَان لَا تتبعن الْبَصَر وَالنَّظَر فَرُبمَا نظر العَبْد نظرة ينفل فِيهَا قلبه كَمَا ينفل الْأَدِيم فِي الدّباغ فَلَا ينْتَفع بِهِ

قَالَ صلى الله عليه وسلم (النّظر إِلَى محَاسِن الْمَرْأَة سهم من سِهَام إِبْلِيس مَسْمُوم فَمن صرف بَصَره عَنْهَا رزقه الله تَعَالَى عبَادَة يجد حلاوتها)

وَقَالَ عِيسَى عليه السلام إياك والزناء فَإِنَّهُ من غضب الرب وَإِنَّمَا يثيره النّظر والشهوة واتباعهما وَلَا تكونن حَدِيد النّظر إِلَى مَا لَيْسَ لَك فَإِنَّهُ لن يَزْنِي فرجك مَا حفظت عَيْنك وَإِن اسْتَطَعْت أَن لَا تنظر إِلَى ثوب الْمَرْأَة الَّتِي لَا تحل لَك فافعل وَلَا تَسْتَطِيع ذَلِك إِلَّا بِاللَّه

وَعَن عَليّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (إِن لَك من الْجنَّة كنزا وَإنَّك ذُو قرنيها فَلَا تتبعن من النظرة النظرة فَإِن لَك الأولى وَلَيْسَت لَك الْأُخْرَى)

فَمَعْنَى الْكَنْز فَاطِمَة وقرنيها الْحسن وَالْحُسَيْن رضي الله عنهم صيرها بِمَنْزِلَة الْكَنْز لِأَن الْكَنْز مَوْضُوع مَسْتُور إِلَيْهِ الموبل وَسَائِر المَال ظَاهر يذهب وَيَجِيء والكنز أصل المَال فَشبه فَاطِمَة رضي الله عنها من نعيم الْجنَّة بالكنز من المَال ثمَّ قَالَ وَأَنت ذُو قرنيها نسب

ص: 181

القرنين إِلَى فَاطِمَة رضي الله عنها وَمَعْنَاهُ أَن الْحسن وَالْحُسَيْن رضي الله عنهما قرناها وَإنَّك يَا عَليّ ذُو القرنين أَي تَجِد الْحسن وَالْحُسَيْن وهما سيد أهل الْجنَّة لَك ولدا

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (أَربع نسَاء سيد نسَاء الْعَالمين مَرْيَم وآسية وَخَدِيجَة وَفَاطِمَة)

وَقَالَ (إِنَّمَا فَاطِمَة بضعَة مني) وَقَالَ لَهَا عِنْد مَوته (إِنَّك أسْرع النَّاس لُحُوقا بِي) فَضَحكت

فبشر عليا رضي الله عنه بِأَنَّهَا لَك فِي الْجنَّة ثمَّ أوصاه على أثر الْبُشْرَى وَصِيَّة الرُّسُل على التلطف يحذرهُ إتباع النظرة النظرة لِئَلَّا يطمس وَجه الْكَنْز وَلَا يُغير مَا بِهِ من نعْمَة الله فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى التَّطْهِير فِي شَأْن الْوُصُول إِلَى الْكَنْز وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذا خص أحدا من أَصْحَابه بموعظة وتحذير فَإِنَّمَا يقْصد قصد النكبة الَّتِي يخَاف عَلَيْهِ مِنْهَا وَكَانَ الْغَالِب على قلب عَليّ كرم الله وَجهه محبَّة الله والمحبة تسير إِلَى الله فِي ميدان السعَة والتشجيع فِي الْأُمُور والمحبة لَهَا حلاوة

ص: 182

وحرارة تهيج الشَّهْوَة وتذيب مَاء الصلب فحذره عليه السلام مَا كَانَ يخَاف عَلَيْهِ فبشره بالكنز والقرنين ثمَّ أتبعه الْوَصِيَّة وحذره كي يشفق على مَا بشره لَهُ فِي الْجنَّة وَيكون عونا على غض بَصَره ورد نَفسه

قَالَ صلى الله عليه وسلم (لَأُعْطيَن رايتي غَدا لرجل يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله)

فَشهد لَهُ الرَّسُول بحب الله إِيَّاه وبحب الله والمرء ينْسب إِلَى مَا يكون الْغَالِب عَلَيْهِ من الْأُمُور والأعمال فَكَذَلِك من الحظوظ إِنَّمَا ينْسب أَصْحَاب الْقُلُوب كل إِلَى مَا وفر لَهُ من الْحَظ من ذَلِك الشَّيْء فَأَبُو بكر مَنْسُوب إِلَى الرَّحْمَة وَعمر مَنْسُوب إِلَى الْحق وَعُثْمَان مَنْسُوب إِلَى الْحيَاء وَعلي مَنْسُوب إِلَى الْمحبَّة وَإِنَّمَا نسب كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى مَا هُوَ الْغَالِب عَلَيْهِ وَكَانَ عَليّ كرم الله وَجهه ظَاهر الْأَمر من بَين الْأَصْحَاب فِي شَأْن الثَّنَاء على الله تَعَالَى وَذكر الصِّفَات وَهَذَا علم المحبين وَكَانَ مَعْرُوفا بالانبساط والانطلاق والهشاشة إِلَى الْخلق والمزاح حَتَّى قَالَ عمر رضي الله عنه فِي حَقه إِنَّه رجل تلعابة وَقَالَ مرّة أُخْرَى بِهِ دعابة

وَهَذَا لمن الْغَالِب على قلب محبَّة الله تَعَالَى لِأَن الْقلب ينبسط عِنْد الْمحبَّة وينقبض عِنْد المخافة فَإِذا غلبت الْمحبَّة على الْخَوْف انبسط وَإِذا غلب الْخَوْف على الْمحبَّة انقبض لِأَنَّهُ يُلَاحظ العظمة وَفِي وَقت الانبساط يُلَاحظ جوده وَكَرمه فَكَانَ انبساط عَليّ رضي الله عنه إِلَى الْخلق ومعاملته إيَّاهُم حسب ذَلِك من السعَة والبشر

ص: 183

والهشاشة وبتلك الْقُوَّة أمكنته الْمُحَاربَة وتشجع فِيهِ وَمن كَانَت هَذِه صفته كَانَت شَهْوَته هائجة وَكَانَ قرما فِي أَمر النِّسَاء وَكَانَ يَقُول كنت رجلا مذاء فَكنت أَغْتَسِل فِي الْيَوْم مَرَّات حَتَّى شجئت وَكنت أستحيي أَن أسأَل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أجل ابْنَته فَأمرت الْمِقْدَاد أَن يسْأَله فَسَأَلَهُ فَقَالَ يجْزِيك الْوضُوء

وَكَانَ قد هم أَن يتَزَوَّج عَليّ فَاطِمَة رضي الله عنها حَتَّى خطب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الْمِنْبَر فَقَالَ إِن بني الْمُغيرَة استأذنوني فِي أَن ينكحوا ابنتهم من عَليّ وَإِن فَاطِمَة بضعَة مني يُؤْذِينِي مَا آذاها أَلا فَإِنِّي لَا آذن ثمَّ لَا آذن

وَكَانَ عَليّ رضي الله عنه يُرِيد أَن يخْطب العوراء بنت أبي جهل فَقَالَ صلى الله عليه وسلم (وَمَا كَانَ لعَلي أَن يجمع بَين ابْنة نَبِي الله وَابْنَة عَدو الله وَإِن فَاطِمَة بضعَة مني يغضبني مَا أغضبها)

وَوَقعت فِي سَهْمه يَوْم فتح مَكَّة جَارِيَة من سبي هوزان فَذهب بهَا مستعجلا إِلَى أُخْته أم هَانِئ لتزينها فهم فِي ذَلِك إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خلوا عَن السبايا فَبَقيَ على قَارِعَة الطَّرِيق وَدخلت أم أَيمن على فَاطِمَة رضي الله عنها فرأت فِي وَجههَا شَيْئا أنكرته فسألتها فَأَبت أَن تخبرها فَقَالَت إِن أَبَاك كَانَ لَا يكتمني شَيْئا فَقَالَت جَارِيَة وَهبهَا أَبُو بكر لعَلي فَخرجت أم أَيمن فنادت أما لرَسُول الله حق أَن يحفظ من أَهله فَقَالَ عَليّ رضي الله عنه مَا هَذَا فَقَالُوا لَهُ أم أَيمن تَقول كَذَا فَقَالَ عَليّ رضي الله عنه الْجَارِيَة لفاطمة رضي الله عنها وَمَات يَوْم مَاتَ عَن سبع عشرَة من بَين حرَّة وَأم ولد وَكَانَ هَذَا كُله من غَلَبَة مَا ذكرنَا على قلبه

ص: 184

وَقد حذره صلى الله عليه وسلم النكبة الَّتِي عرفهَا فِيهِ وعرفه خطرها ووبالها

وَكَانَ من شَأْنه صلى الله عليه وسلم إِذا عرف من رجل شَيْئا يخَاف عَلَيْهِ مِنْهُ وعظه من ذَلِك الْبَاب وَلِهَذَا أَخذ بِطرف عِمَامَة الزبير وَقَالَ (يَا زبير إِنِّي رَسُول الله إِلَيْك خَاصَّة وَإِلَى النَّاس عَامَّة يَا زبير إِن الله تَعَالَى يَقُول أنْفق أنْفق عَلَيْك وَلَا تصر فأصر عَلَيْك)

هُوَ إِنَّمَا قَصده بِهَذَا لِأَن الزبير كَانَ يزن ببخل وَبلغ من إِمْسَاكه أَنه كَانَ يُوصي إِلَيْهِ أفاضل أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي أَمْوَالهم لعلمهم بإمساكه

ص: 185

-‌

‌ الأَصْل الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان

-

‌فِي فَضِيلَة صَوْم شهر رَمَضَان

عَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِن شهر رَمَضَان شهر فرض الله على الْمُسلمين صِيَامه وسننت لكم قِيَامه فَمن صَامَهُ وقامه إِيمَانًا واحتسابا خرج من الذُّنُوب كَيَوْم وَلدته أمه)

(صَامَهُ إِيمَانًا) أَي آمن بِمَا افْترض الله عَلَيْهِ ثمَّ صَامَهُ على تِلْكَ النِّيَّة وَالصَّوْم والعزم عَن الْكَفّ عَن كل شَيْء يطعم وَيشْرب وَعَن إتْيَان النِّسَاء وَهَذَا الْعَزْم عَن الْكَفّ عَن كل شَيْء يطعم وَيشْرب وَعَن إتْيَان النِّسَاء وَهَذَا الْعَزْم بَين العَبْد وَبَين ربه لَا يطلع عَلَيْهِ أحد فَهُوَ فِي كل سَاعَة من يَوْمه إِذا اعترضت لَهُ شَهْوَة فَإِنَّمَا يمْتَنع مِنْهَا لإيمانه بِأَن الله تَعَالَى مطلع على سره وإضماره فَذَاك مِنْهُ إِيمَان فِي كل وَقت

ص: 186

وَسَاعَة فِي رد كل شَهْوَة مَعَ طمأنينة نَفسه بإن الله تَعَالَى يعلم عزمه وضميره فِي هَذَا الْكَفّ فيستقر لذَلِك قلبه ويعظم أمله هَذَا أكله إِيمَان

وَقَوله صلى الله عليه وسلم (إِيمَانًا واحتسابا) فَكل عمل ابْن آدم إِنَّمَا يقوم بِالنِّيَّةِ والحسبة وَالنِّيَّة قربتان تجريان فِي الْأَعْمَال مَعًا فَإِذا انْقَطَعت النِّيَّة انْقَطَعت الْحِسْبَة وَالنِّيَّة نهوض الْقلب إِلَى الله تَعَالَى وبدؤها الخاطرة ثمَّ الْمَشِيئَة ثمَّ الْإِرَادَة ثمَّ النهوض ثمَّ اللحوق إِلَى الله تَعَالَى بعقله وَعلمه وذهنه وهمته وعزمه وإضماره فههنا تتمّ النِّيَّة وَمن هَهُنَا يخرج إِلَى الْأَركان فَيظْهر على الْجَوَارِح فعله فمبدأ النِّيَّة نهوض الْقلب ومنتهاه عزمه ثمَّ الارتحال يُقَال ناء ينوء أَي نَهَضَ والعزم عقد الْقلب وَلَا يكون نِيَّة إِلَّا بِالْعقدِ فَإِذا صَحَّ الْعَزْم خرج الرِّيَاء وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء من جَمِيع أَعماله

ثمَّ النَّاس بعد ذَلِك على طَبَقَات فالعامة لَا بُد لَهُم من أَن يَأْتُوا بِهَذِهِ الصّفة فِي كل عمل يَلْتَمِسُونَ ثَوَابه غَدا وَذَلِكَ مَوْجُود فِي الْعَامَّة من الْمُوَحِّدين فِي كل عمل أخلصوه لله تَعَالَى فَهَذِهِ الْخِصَال مَوْجُودَة فِي ذَلِك الْعَمَل إِلَّا أَنه لَا يحسن أَن يُمَيّز هَذَا الِاسْم ويطالعه بِقَلْبِه فِي صَدره لِأَن الصَّدْر مشحون بِأَفْعَال النَّفس وفتنها ووساوس شهواتها فَمن أَيْن يبصر فِي صَدره الخواطر والمشيئآت والإرادات والنهوض والإرتحال إِلَّا أَن الله لما رحم الْمُوَحِّدين وَمن عَلَيْهِم بِالتَّوْحِيدِ ضمن هَذِه الْأَشْيَاء توحيدهم وأودعها قُلُوبهم فهم بِتِلْكَ الْقُوَّة يعْملُونَ أَعمال الْبر فَرُبمَا أَخْلصُوا وَرُبمَا خلطوا وَرُبمَا إطمأنوا وَرُبمَا نافقوا وَلذَلِك وَقع الْحساب فِي الْموقف لتخلط الْإِيمَان بالنفاق والصدق بِالْكَذِبِ وَالْإِخْلَاص بشرك الْأَسْبَاب

وَإِنَّمَا يستبين مَا وَصفنَا لقلب أجرد أَزْهَر فِي صدر فسيح قد شَرحه الله لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه رطب بِذكر الله قد لَان بِلُطْفِهِ

ص: 187

وَرطب برحمته وصلبت بآلائه وَبِذَلِك وَصفه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ (قلب الْمُؤمن أجرد أَزْهَر)

فصدره كمفازة جرداء فِيهَا شموس تزهر وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم (إِن لله فِي الأَرْض أواني أَلا وَهِي الْقُلُوب فَخَيرهَا أصفاها وأرقها وأصلبها)

فأصفاها من كدورة الْأَخْلَاق وأرقها للإخوان وأصلبها فِي ذَات الله تَعَالَى

فَأَما النَّاس فِي النِّيَّة على طَبَقَات فنية الْعَامَّة ارتحالهم إِلَى الله بِهَذَا الْعقل وَالْعلم والذهن والهمة والإضمار والعزم ومبلغ ارتحالهم الجو إِذْ لَيْسَ لقُلُوبِهِمْ من الْقُوَّة مَا يرتحلون ويطيرون لِأَنَّهُ لَا ريش لقُلُوبِهِمْ فيطيرون والجو مسدود لِأَن الْقُلُوب لما مَالَتْ إِلَى النُّفُوس فأطاعتها انسد طريقها إِلَى رَبهَا لِأَن الْقُلُوب إِنَّمَا أَعْطَيْت معرفَة التَّوْحِيد وَمن عَلَيْهَا بذلك لتمد النَّفس بِمَا فِيهَا من الشَّهَوَات إِلَى الله فتطيعه فتمت حجَّة الله على الْقلب بِمَا أعْطى من الْقُوَّة الْبَالِغَة فَلَمَّا ضعف وَلم يتشمر لأمر الله بِمَا أعطي من الْجنُود وَلم يُجَاهد النَّفس حَتَّى يغلبها ويأسرها بِجَمِيعِ مَا فِيهَا من الشَّهَوَات فيذلها وَقَالَ تَعَالَى {وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده هُوَ اجتباكم}

أَي رفعكم من بَين الْأَعْدَاد جباية مِنْهُ لكم ليتخذكم أحبابا وَوضع

ص: 188

فِي قُلُوبكُمْ التَّوْحِيد بحلاوته كي إِذا جَاءَت النَّفس بحلاوة شهواتها إِلَى الْقلب ضربت بِتِلْكَ الْحَلَاوَة وَجههَا وردهَا بِقُوَّة هَذِه الْحَلَاوَة الْمَمْنُون عَلَيْهِ فَإِذا لم يُجَاهد وانخدع لنَفسِهِ وَبِمَا تَأتي بِهِ تحيرت الْجَوَارِح وتعطلت الْأَعْمَال الَّتِي بهَا وكلوا

فهناك تَجدهُ لَا يلتذ بِطَاعَة وَلَا يستروح إِلَى ذكر إِذْ لَا يجد رَائِحَة الذّكر لِأَنَّهُ يخرج من صدر كالمزابل محشو بالخبث والخيانة وَالظُّلم والعدوان وَالرَّغْبَة والتجبر والتعزز والتكبر والاستبداد والحقد والغلو وَحب الْأَشْيَاء الَّتِي يضاهي الله بهَا وينازع رِدَاءَهُ فيرجو صَاحبه أَن يلتذ بِطَاعَة أَو يستروح إِلَى ذكر أَو يُجَاوز قلبه فِي عمله فَإِن اجْتهد فأخلص فِي شَيْء وَأخذ بِحرْمَة ذَلِك التَّوْحِيد وقوته فبجهد شَدِيد وَلَا يُجَاوز قلبه الجو فَهَذَا شَأْن الْعَامَّة

وَأما الصادقون وهم الْعباد والزهاد والقراء فنياتهم صاعدة عَن هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي ذكرنَا من الْعقل وَالْعلم والفهم والهمة والعزم والإضمار فَإِذا بلغ الْمحل الَّذِي هُنَاكَ اسْتَقر الْقَرار فِي بَيت الْعِزَّة فِي سَمَاء الدُّنْيَا وضعفوا عَن تجَاوز ذَلِك إِلَى مَا فَوْقه لِأَنَّهُ لَا يقدر قلبه على الطيران إِلَى العلى وعَلى قدر علمه وعقله وذهنه واستعماله ذَلِك يُمكنهُ أَن يطير فتحظى تِلْكَ النُّفُوس من ذَلِك الْمحل وَيَأْخُذ قوتها وَيسْتَمر فِي الطَّاعَة

وَأما العارفون وهم الصديقون فَإِن نياتهم قد صَارَت كلهَا نِيَّة وَاحِدَة لِأَن الْقلب قد ارتحل إِلَى الله تَعَالَى بِمرَّة وَوجد الطَّرِيق واشتغل بِالنَّفسِ بِمَا فِيهَا من الشَّهَوَات لينَة منقادة قد تحولت من الْخِيَانَة إِلَى الْأَمَانَة وانقادت للقلب فالقلب أَمِير وَالنَّفس أَسِير فارتحال قُلُوبهم إِلَى المعسكر عِنْد ذِي الْعَرْش وَلَهُم مطاف وأعمالهم معروضة على الله فِي كل معرج وَينظر إِلَيْهَا الرب ويتقبلها ثمَّ تُوضَع بعد الْقبُول فِي الخزائن الْخَاصَّة

ص: 189

وَأما العارفون حكماء الله فهم الَّذين أطلعوا على بَدو الربوبية وَمحل الْقُدْرَة فهم خَاصَّة الله من بحور الله يعْملُونَ جَمِيع الْأَعْمَال والأعمال غَائِبَة عَن الْقُلُوب لِأَن الله تَعَالَى نصب أَعينهم فِي مجْلِس الْملك فأجمل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذكر النِّيَّة فَقَالَ (الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى) يعلمك إِن للنِّيَّة دَرَجَات كل على دَرَجَته ينَال ثَمَرَتهَا

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (لاعمل لمن لَا نِيَّة لَهُ وَلَا أجر لمن لَا حسبَة لَهُ)

والحسبة أَن يحْتَسب على الله تَعَالَى من العبودة الَّتِي قبل مِنْهُ لِأَن العَبْد فِي رق الْعُبُودِيَّة إِلَى يَوْم خُرُوجه من الدُّنْيَا لِأَنَّهُ خلقه ليعبده ثمَّ وعده أَن يحرره يَوْم الْقِيَامَة إِذا أَتَاهُ بالعبودة فيقعده ملكا فِي دَار السَّلَام قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون}

فَنحْن نسعى فِي هَذَا الرّقّ إِلَى يَوْم خُرُوج الرّوح وَقبض النَّفس عَن الدُّنْيَا فَمن أَرَادَ الْآخِرَة وسعى لَهَا سعيها وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك كَانَ سَعْيهمْ مشكورا شكر الله لَهُم بمغفرة الذُّنُوب والرضاء عَنْهُم

ص: 190

وتمليكهم الْجنان وَقَضَاء المنى والشهوات على التأييد ورضوان من الله أكبر وَإِذا آمن العَبْد بربه ألْقى بيدَيْهِ سلما إِلَيْهِ وَقبل أمره وعبودته قبله الله وَأَقْبل عَلَيْهِ بالعون قَالَ تَعَالَى {إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا} أَي من العون والنصرة

وَإِذا أعرض مغترا بخدائع النَّفس وأمانيها وأكاذيبها فَأقبل على النَّفس وَقبل مِنْهَا مَا تَأتي بِهِ فقد أعرض عَن الله تَعَالَى وَمَال عَنهُ وَأعْرض الله عَنهُ وعذب قلبه وَانْقطع المدد والعون فَإِذا تَابَ إِلَى الله وفزع وأدركه رَحْمَة الله وغوثه بِأَن فتح بَاب الرَّحْمَة نظرا مِنْهُ لمنته وأياديه الَّتِي كَانَت لَهُ عِنْد العَبْد فَوجدَ الْقلب خلاصا وَعَاد العون والمدد فَلم يزل العَبْد يترقى دَرَجَة دَرَجَة وتفضل الله عَلَيْهِ بِالْكَرمِ وجاد بالإقبال فانتعش بعد النكس وحيى بعد الْمَوْت حَتَّى توردت بساتين توحيده وانفطر مَكْنُون جواهره كانفطار الْيَنَابِيع وانغلاق الْحُبُوب عَن بذرها وازدهرت وأينعت وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فالق الْحبّ والنوى} و {فالق الإصباح} و {يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت}

فَأخذ العَبْد يسْعَى فِي الرّقّ والعبودية فَكلما عمل برا من الْأَعْمَال احتسب بِهِ على الله فِي العبودة الَّتِي قبل مِنْهُ كمن عَلَيْهِ دين فِي عُنُقه فَهُوَ يفك رقبته بِأَدَائِهِ شَيْئا بعد شَيْء وكل شَيْء يُؤَدِّيه إِلَى صَاحب الدّين احتسب عَلَيْهِ فِي قَضَاء الدّين الَّذِي فِي عُنُقه فَهَذَا العَبْد يحْتَسب فِي نَفسه وَفِي ذَاته بِهَذَا الْفِعْل يحسبه على الله تَعَالَى فِي قَضَاء دينه وَهُوَ العبودة الَّتِي لَهَا خلق الَّتِي قبلهَا فَإِذا نوى واحتسب فقد أخْلص

ص: 191

قَالَ الله تَعَالَى {ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} فَيكْتب لَهُ أجر العبودة وَلذَلِك قَالَ صلى الله عليه وسلم (لَا أجر لمن لَا حسبَة لَهُ)

فَرب رجل يعْمل أَعمال الْبر على الْعَادة لَا على يقظة العبودة فَلَا يكون لَهُ احتساب وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم (وَمن غشيانك أهلك صَدَقَة) قَالُوا يَا رَسُول الله نأتي شهواتنا ونؤجر قَالَ (أَرَأَيْت لَو وَضَعتهَا فِي حرَام أَكنت توزر) قَالُوا نعم قَالَ (فتحتسبون بِالشَّرِّ وَلَا تحتسبون بِالْخَيرِ)

مَعْنَاهُ إِذا زنى إِنَّمَا قصد قَضَاء الشَّهْوَة فاحتسب على النَّفس بإعطائها منيتها وقضائها شهوتها فَإِذا وَضعهَا فِي حَلَال وَأَرَادَ الْعِفَّة عَن الْحَرَام احتسب بهَا قَضَاء عَن العبودة فَصَارَ ذَلِك مِنْهُ صَدَقَة على أَهله وَلذَلِك قَالَ معَاذ لأبي مُوسَى أَنا أَنَام نصف اللَّيْل وأقوم نصفه فأحتسب نومتي كَمَا أحتسب قومتي فَإِذا نَام العَبْد تلذذا وأتى أَهله تلذذا لم يحتسبها قَضَاء على العبودة بَطل أجره وَبقيت العبودة فِي عُنُقه فلقي الله وَقد خسر أجر العبودة فِي ذَلِك الْوَقْت الَّذِي عطله وَإِذا مَال بِهَذِهِ الشَّهْوَة إِلَى الْحَرَام فَإِنَّمَا يقْضِي عبودة النَّفس وَقد خلقه الله تَعَالَى ليعبده فَقبل مِنْهُ ثمَّ ذهب فَصَبر نَفسه عبدا لنَفسِهِ وشهواته وَذهب بعبودة الله إِلَيْهَا وَلِهَذَا اسْتوْجبَ اللَّعْنَة من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ

ص: 192

(لعن عبد الدِّينَار لعن عبد الدِّرْهَم لعن عبد الخميصة وشيك فَلَا انتقش حبذا عبد الله وَعبيد الله)

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم (لكل امْرِئ مَا احتسب وَعَلِيهِ مَا اكْتسب والمرء مَعَ من أحب وَمن مَاتَ على ذنابى طَرِيق فَهُوَ من أَهله)

مَعْنَاهُ مَا ذكرنَا أَن مَا احتسب قَضَاء عَن العبودة فَهُوَ لَهُ وَمَا لم يحْتَسب وَلَكِن اكْتسب فَهُوَ عَلَيْهِ

وَقَالَ تَعَالَى {لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} لِأَن الْكسْب فعل الْأَركان والاكتساب فعل الذَّات يكْتَسب إتباع الْهوى فِيمَا تقضي النَّفس من مناها وشهواتها ولذاتها فَذَاك عَلَيْهِ وَإِذا جَاءَ الاحتساب من قُوَّة الْقلب بِذكر العبودة مَعَ النِّيَّة الصادقة فَتلك النِّيَّة تحول الْعَمَل فَصَارَ للنِّيَّة لَا للهوى فيحتسب بِهِ على الله قَضَاء العبودة لَا قَضَاء الفهمة والشهوة فَإِذا صَامَ رَمَضَان إِيمَانًا بِمَا كتبه الله عَلَيْهِ وَبِأَنَّهُ يطلع على عزمه فِي صَوْمه ورد شهواته فِي سَاعَات يَوْمه فَذَاك كُله إِيمَان يَتَجَدَّد عَلَيْهِ كل سَاعَة وَهُوَ سر بَينه وَبَين ربه لَا يطلع عَلَيْهِ ملك مقرب وَلَا نَبِي مُرْسل وَلذَلِك قَالَ (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ)

ص: 193

لِأَنَّهُ فِي مَا بَينه وَبَينه فَفِي كل ردة من العَبْد لشهوته تعرض لَهُ جَزَاء من ربه وَهُوَ لَا تُدْرِكهُ الْحفظَة والكتبة

ص: 194

-‌

‌ الأَصْل الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان

-

‌فِي فَضِيلَة الْأُمُور الثَّلَاثَة

عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ أَوْصَانِي حَبِيبِي أَبُو الْقَاسِم صلى الله عليه وسلم (بصيام ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر وَأَن لَا أَنَام إِلَّا على وتر وركعتي الضُّحَى)

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (يَا عُوَيْمِر حَافظ على أَن لَا تبيت إِلَّا على وتر وركعتي الضُّحَى مُقيما أَو مُسَافِرًا وَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر تستكمل الزَّمَان كُله أَو قَالَ تستكمل الدَّهْر كُله)

العَبْد مَحْسُوب عَلَيْهِ عمره مَعْدُود لَهُ أنفاسه مُقْتَضى مِنْهُ العبودة فِي كل نفس من عمره فَأمر بِشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَقبُول مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول من عِنْده على صدق الِاعْتِقَاد من قلبه ثمَّ اقْتضى مَا قبل من الله تَعَالَى مُجملا فِي جَمِيع عمره فَمِنْهُ مَا اقْتضى من وَقت دون وَقت وَهُوَ الْفَرَائِض وَمِنْه مَا اقْتضى

ص: 195

من الْأَوْقَات كلهَا وَهُوَ العبودة فِي كل نفس فأجمل الله تَعَالَى بعطفه وَكَرمه للعباد أمرا أجمل بِهِ العبودة كي إِذا فَعَلُوهَا استكملوا الدَّهْر كُله عبودة فدلهم لعبودتهم فِي النَّهَار على رَكْعَتي الضُّحَى بعد أَدَاء الْفَرَائِض وَاجْتنَاب الْمَحَارِم فَإِذا أدّى الْمَفْرُوضَة من صَلَاة الْفجْر انْتظر طُلُوع الشَّمْس وَتَحْلِيل الصَّلَاة فَإِذا أضحت صلى رَكْعَتَيْنِ على سَبْعَة أَجزَاء بِسبع جوارح مقسومة هَذِه الْأَجْزَاء بِمَا ضمنت وحشيت على ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ جُزْءا ليخرج إِلَى الله من صَدَقَة النَّفس

وَذَلِكَ قَوْله صلى الله عليه وسلم (إِن على كل آدَمِيّ ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ سلامى على كل سلامى مِنْهَا صَدَقَة وركعتي الضُّحَى تجزيك من هَذَا كُله)

فَهَذَا صَلَاة يَوْمه للعبودة

وَأما صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر فالحسنة بِعشْرَة أَمْثَالهَا فصوم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر يعدل ثَلَاثِينَ يَوْمًا فقد صَار العَبْد بِهَذَا صَائِما فِي جَمِيع عمره وبركعتي الضُّحَى قَائِما بِهَذَا فِي نَهَاره كُله

فَأَما فِي ليله فالفوز بِصَلَاة الْوتر فَإِذا كَانَ صَائِما قَائِما فِي نَهَاره وبوتره فائزا فقد اسْتكْمل الزَّمَان كُله فَهَذِهِ دلَالَة الله لأهل السَّعَادَة على مَا بِهِ يستكملون العبودة بعد أَدَاء الْفَرَائِض وَاجْتنَاب الْمَحَارِم فَمن داوم على هَذَا كَانَ اسْمه فِي ديوَان الصائمين القائمين الفائزين وَهُوَ طاعم وشارب ونائم ليعلم يسر الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة وَرفع الْحَرج عَنْهُم فِي دينه وسماحته فِيمَا اقتضاهم مِمَّا لَهُ خلقهمْ فالوتر مَحْبُوب الله تَعَالَى فِيمَا خلق من الْأَشْيَاء وَقد كتب عَلَيْهِم الْخمس المفروضات

ص: 196

غياثا لَهُم ليطفئوا بهَا حريقهم وَمَا من صَلَاة يدْخل وَقتهَا إِلَّا قَالَ أهل السَّمَاء يَا بني آدم قومُوا إِلَى نيرانكم فأطفئوها فصرن هَذِه الْخمس مكتوبات والعهد فِي الْكتاب فَإِذا أَوْفوا بالعهود أوجب لَهُم الْجنَّة ثمَّ كَانَ من عطفه أَن زادهم صَلَاة الْوتر على لِسَان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

فالصلوات الْخمس تَكْفِير لسيئآتهم وَفِي ذَلِك الْموقف من الْوتر نوال تملأ مِنْهُ رغبتهم ومركز يَجدونَ مِنْهَا معاذاتهم فالنوم بعد النوال أفضل من أَن يؤخرها إِلَى آخر اللَّيْل فَإِذا أوتر أول اللَّيْل عرجت نَفسه إِلَى الله فِي منامها مَعَ الْفَوْز بالنوال والمعاذ فَلذَلِك أوصاه صلى الله عليه وسلم أَن لَا ينَام إِلَّا على وتر فَكَانَ أَبُو بكر رضي الله عنه يُوتر قبل أَن ينَام فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (مَتى توتر يَا أَبَا بكر) قَالَ فِي أول اللَّيْل قَالَ أخذت بالحزم وَقَالَ لعمر رضي الله عنه مَتى توتر يَا عمر قَالَ آخر اللَّيْل قَالَ (أخذت بِالْقُوَّةِ)

فالحزم احْتِيَاط وثقة وَالْقُوَّة ملكة النَّفس وَأَبُو بكر لاحظ كنه الْوتر وَلِهَذَا قَالَ أحرزت نهى وابتغي النَّوَافِل مَعْنَاهُ أَن فِي موقف الْوتر نثار الله وغنمه فينتهبه ويبتغي فِيمَا بَقِي من اللَّيْل نوافل الرب وَعمر لاحظ السَّاعَة الَّتِي يُؤَدِّي فِيهَا الْوتر من سَاعَات اللَّيْل وَهِي السَّاعَة الَّتِي آثرها الله فهبط إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا واطلع على عباده وناداهم وَهِي سَاعَة اهتز لَهَا الْعَرْش واشتغلت الْمَلَائِكَة فِي صفوفها وانقطعت صلَاتهم لما رَأَوْا من هبوط الرب إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا سَمَاء العبيد واطلع عَلَيْهِم وناداهم وَقد جعل الله تَعَالَى للعباد موقفين موقف فِي كل سنة من تَاسِع ذِي الْحجَّة وَهُوَ موقف الْحَج وموقف فِي كل لَيْلَة بعد صَلَاة الْعشَاء فِي الرَّكْعَة الَّتِي وسمها بالوترية تِلْكَ رَكْعَة عَلَيْهَا

ص: 197

سمة الله تَعَالَى بِأَن فَضلهَا على الْأَعْمَال فموقف الْحَج نطق بِهِ الْكتاب وموقف الْوتر نطق بِهِ لِسَان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وللعباد فِي هذَيْن الموقفين من الله نوال وقرات أعين لَا يخْطر على قلب بشر فموقف الْحَج موقف المباهاة موقف الْإِسْلَام أَلا ترى أَنه يُقَال حجَّة الْإِسْلَام وقف العَبْد ليسلم إِلَيْهِ رقبته عبودة ليتخذه عبدا فباهى الله بِهِ فِي سمائه وَهَبَطَ إِلَى سمائه العبيد ليطلع إِلَيْهِم ويباهي بهم مَلَائكَته والمباهاة أَن يُرِيهم بهاء الْإِسْلَام الَّذِي على عبيده فِي تسليمهم النُّفُوس إِلَيْهِ معتذرين منعرضين ملقين بِأَيْدِيهِم إِلَيْهِ سلما رافعي أَيْديهم إِلَيْهِ طَمَعا فَيَقُول للْمَلَائكَة انْظُرُوا إِلَى عَبِيدِي فَتلك المباهاة وموقف الْوتر موقف هَدَايَا الْمعرفَة للأولياء والأصفياء وَحُرْمَة الْإِسْلَام للصادقين الْمُجْتَهدين وَالرَّحْمَة الْعَامَّة الْمُوَحِّدين فَيدْخل من ذَلِك الْموقف على الله بِالتَّكْبِيرِ وَيقف بَين يَدَيْهِ فِي الْقُنُوت يرفع إِلَيْهِ رغباته وَيعْتَذر إِلَيْهِ من عمل نَهَاره من تَقْصِيره وتفريطه ويفتقر إِلَى الله تَعَالَى ويتباءس ويتمسكن ويتخشع ويتضع ويتعوذ من الْأَهْوَال والأخطار الَّذِي هُوَ عَلَيْهَا وَيخرج مِنْهُ ثَنَاؤُهُ على ربه ومحامده لَهُ وَذكر آلائه وَبث مننه وَنشر صنائعه واعتراف بمساوئه واعتذار وتوبة إِلَيْهِ وقربة إِلَيْهِ وتنصل بالاستغفار وترض وملق وتضرع واستعاذة بالمعاذ وتختيم بِالْكَلِمَةِ الَّتِي بهَا يُسْتَجَاب وَيخَاف مِمَّا خص الله تَعَالَى هَذِه الْأمة

قَالَ صلى الله عليه وسلم أَمرنِي جِبْرِيل ولقاني عِنْد فراغي من فَاتِحَة الْكتاب وَعند الدُّعَاء آمين وَقَالَ إِنَّه كالطابع على الْكتاب

ص: 198

وَإِذا ختم العَبْد الدُّعَاء بآمين صَار الدُّعَاء مطويا بِالْكتاب مصونا عَن الْآفَات وَعَن تنَاوله وإطلاع مَا فِيهِ وَإِنَّمَا ختم الْكتاب لِئَلَّا ينشره أحد وَلَا يطلع عَلَيْهِ فَإِذا ختم العَبْد الدُّعَاء بآمين صانه عَن أَن يطلع فِيهِ وَصعد إِلَى الله بالختم مطويا مصونا عَن الْآفَات فَيُجِيبهُ الله تَعَالَى لِأَنَّهُ قد سبق مِنْهُ القَوْل بالخصوصية لأمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فَقَالَ تَعَالَى {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم}

وَفِيهِمْ مَا فيهم من قلَّة الشُّكْر وَالْوَفَاء وَكَثْرَة التَّخْلِيط وَالِاسْتِخْفَاف بِأَمْر الله والإعراض عَن حق الله فَلَو لم يعطهم الْخَتْم حَتَّى يختموا دعاءهم آمين فَيصير الْخَتْم مَانِعا لجَمِيع الْخلق بَين العَبْد وَبَين الله من الْهَوَاء إِلَى الْعَرْش فَكَانَ ممر دعائنا إِلَى الْعَرْش مَحل الدُّعَاء ومعدن الْإِجَابَة وَالْقَضَاء لَكَانَ لَا يَخْلُو من أَن يتَعَرَّض متعرض لإفساد ذَلِك حمية لله تَعَالَى فَإِن الْخلق كلهم مطيعون فَإِذا مرت عَلَيْهِم دَعْوَة العصاة لم يُؤمن أَن يرموا فِيهَا شَيْئا يكون فِيهِ فَسَادًا

قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن على أَبْوَاب السَّمَاء حِجَابا يردون أَعمال أهل الْكبر والحسد والغيبة

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن العَبْد ليقول يَا رب اغْفِر لي وَقد أذْنب فَتَقول الْمَلَائِكَة يَا رب إِنَّه لَيْسَ لذَلِك بِأَهْل قَالَ الله تَعَالَى لكني أهل أَن أَغفر لَهُ

فقد أعْطى الله تَعَالَى هَذِه الْأمة كلمة الْخَتْم وَهِي آمين ليصعد دعوتهم إِلَيْهِ مختومة لَا يطلع على مَا فِيهَا أحد حَتَّى لَا يَجدوا سَبِيلا

ص: 199

إِلَى الطعْن فِيهَا وَدُعَاء كل رجل يخرج على قدر مَا عِنْده من قُوَّة الْقلب فِي الدُّعَاء فَرب دُعَاء دَاع يخرج من نور وافر بِمَنْزِلَة شمس تطلع وَدُعَاء يخرج مَعَ تَقْصِير فنوره بِمَنْزِلَة قمر يطلع وَدُعَاء يخرج مَعَ تَقْصِير كثير فنوره بِمَنْزِلَة كَوْكَب وَإِنَّمَا تفَاوت الدُّعَاء لاخْتِلَاف مخارجها من الْمَعَادِن

قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الْقُلُوب أوعية وَبَعضهَا أوعى من بعض فَإِذا دعوتم الله تَعَالَى فَادعوهُ وَأَنْتُم موقنون بالاستجابة فَإِن الله تَعَالَى لن يستجيب دُعَاء عَن ظهر قلب غافل

فَظهر الْقلب دُعَاء قد تعلمه العَبْد يدبر الْكَلِمَات بمضغة لِسَانه فِي حنكه ولهاثه وَلَيْسَ عِنْده وَرَاء ذَلِك شَيْء إِلَّا تِلْكَ الْإِرَادَة الَّتِي من الْقلب يَبْتَغِي خيرا من عِنْد ربه وَهُوَ لَا يدْرِي ذَلِك الْخَيْر وَهُوَ عِنْده كالجزاف غير مفتقر إِلَى تِلْكَ الْحَاجة فَهُوَ كصبي نطق من غير عقل وَلَيْسَ لكَلَام الصَّبِي قدر عِنْد الْخلق إِلَّا أَن الْكَرِيم لما علم إِرَادَة الْخَيْر من الدَّاعِي أعطَاهُ على ذَلِك أجرا إِذا دَعَا على رَجَاء أَن ينَال مِنْهُ مَعْرُوفا فَأَما الاستجابة فَهُوَ بعيد مِنْهَا لِأَنَّهُ لم يخرج مِنْهُ الدُّعَاء على الْجد وَالِاجْتِهَاد وَلَو كَانَ ذَلِك مِنْهُ جدا لترك الْإِبَاق من ربه بِالذنُوبِ والمعاصي والبطالات والإكباب على الدُّنْيَا وَالِاسْتِخْفَاف بِحَق الله وَبِدَارِهِ وبيوم الْحساب وبوعده ووعيده ومواعظه وَمَوته فَإِن الْآبِق من مَوْلَاهُ فِي الدُّنْيَا إِذا دَعَاهُ فِي حَال اباقه ويراسله يسْتَوْجب بذلك المقت من مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ فِي صُورَة المستهزئ بِهِ فَمن أثقل ظَهره من الْخَبَائِث فَصَارَ كسلان لَحْمًا ودما ملقى على الأَرْض وخيما جلفا جَافيا فتعلم الْأَدْعِيَة عَن أَلْسِنَة النَّاس ملتمسا بهَا نوالا لَا عَن فاقة وافتقار خرجت من جَوْفه تِلْكَ الْكَلِمَات وَلَا علم لَهُ

ص: 200

بِمَا سَأَلَ وَإِن كَانَ أعلم النَّاس باللغة فَهُوَ عَالم بِالْكَلِمَةِ من طَرِيق اللُّغَة جَاهِل بغور الْكَلِمَة ومعدنها ووقتها وموضعها فَهُوَ جَاهِل بِالْمَعْنَى أعمى عَن حشوه فَصَاحب لَا يُصِيب فِي دُعَائِهِ جدا وَلَا اجْتِهَادًا وَإِنَّمَا يَدْعُو عَن ظهر قلب فَهَذَا عبد يُجَاب وَلَا يُسْتَجَاب وَإِنَّمَا يُجَاب لِأَنَّهُ مُؤمن فالإجابة للْمُؤْمِنين والاستجابة للجادين الْمُجْتَهدين المفتقرين المرتعنين المتبائسين المتخشعين الموقنين إِلَّا أَن الله هُوَ الْكَرِيم الْجواد أوسع لعبيده فجاد عَلَيْهِم بالمعرفة الَّتِي هِيَ أعظم الْأَشْيَاء استحيى أَن يتْرك هَذَا العَبْد خَالِيا صفر الْيَدَيْنِ إِذا مد يَده إِلَيْهِ حَتَّى يأجره على ذَلِك فَيكون ذَلِك إِجَابَة لَا استجابة

قَالَ عبد الرَّحْمَن بن غنم بَيْنَمَا نَحن جُلُوس يَوْمًا عِنْد معَاذ بن جبل رضي الله عنه إِذْ دَعَا بِدُعَاء لم أسمع دَاعيا يَدْعُو مثل دُعَائِهِ فَقلت لَهُ رَحِمك الله يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن لَو علمتني بعض مَا تَدْعُو بِهِ فَقَالَ لَو كنت أعلم لَك فِيهِ خيرا كنت علمتك فَقلت سُبْحَانَ الله لم لَا تعلم لي فِيهِ خيرا قَالَ لِأَن رَسُول الله كَانَ يَدْعُو بِالدُّعَاءِ الْكَبِير الْحسن الْجَمِيل الَّذِي لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يَقُول مثله فَقلت لَهُ يَوْمًا يَا رَسُول الله لَو علمتني بعض مَا تَدْعُو بِهِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَو كنت أعلم لَك فِيهِ خيرا لعلمتك فَقلت سُبْحَانَ الله يَا رَسُول الله لم لَا تعلم لي فِيهِ خيرا قَالَ لِأَن أفضل الدُّعَاء مَا خرج من الْقلب بجد واجتهاد فَذَاك الَّذِي يسمع ويستجاب وَإِن قل

فالجد أَن يقف العَبْد بِقَلْبِه فِي مَحل الدُّعَاء وَالِاجْتِهَاد مفتقر الْقلب إِلَى الله متبائس النَّفس

وَقَوله تَعَالَى {أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان} أَرَادَ إِجَابَة تَلْبِيَة على مَا قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 201

إِذا قَالَ العَبْد يَا رب قَالَ الله تَعَالَى لبيْك يَا عَبدِي

وَأما الاستجابة فَقَالَ تَعَالَى ادْعُونِي أستجيب لكم ثمَّ بَين فِي آيَة أُخْرَى لمن الاستجابة فَقَالَ {ويستجيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات}

وَيَنْبَغِي أَن يكون الدُّعَاء على هَيْئَة وأدب فَإِن لكل أدب ثَمَرَة وَلكُل هَيْئَة زِينَة يبْدَأ بمدائحه ثمَّ الثَّنَاء عَلَيْهِ والتنزيه لَهُ ثمَّ محامده وَذكر آلائه وَبث مننه وَنشر صنائعه وَالِاعْتِرَاف بالمساوئ وَالتَّوْبَة إِلَيْهِ والاعتذار والتنصل وَالِاسْتِغْفَار والتضرع والاستعاذة والاختتام بآمين وَالله أعلم وَأحكم

ص: 202

-‌

‌ الأَصْل الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان

-

‌فِي بَيَان أَقسَام الْقُرْآن

عَن عَليّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الْقُرْآن الْعَظِيم على عشرَة بشيرا وَنَذِيرا وناسخا ومنسوخا ومحكما ومتشابها وعظة ومثلا وحلالا وحراما فَمن ابتشر ببشيره وانتذر بنذيره وَعمل بناسخه وآمن بمنسوخه وَاقْتصر على محكمه ورد علم متشابهه إِلَى عالمه واتعظ بعظته وَاعْتبر بِمثلِهِ وَأحل حَلَاله وَحرم حرَامه فَأُولَئِك هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم الدَّرَجَات العلى مَعَ النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا وَهُوَ وارثي ووارث الْأَنْبِيَاء من قبلي وَلَوْلَا قسم أَنه لَا نَبِي بعدِي لَكَانَ نَبيا من أَنْبيَاء الله تَعَالَى وَلَا يزَال فِي ضَمَان الله تَعَالَى وَكَيف وَحَيْثُ مَا تَلا الْقُرْآن غَشيته الرَّحْمَة وتنزلت عَلَيْهِ السكينَة وَكَانَ بِعَين الله منورا لَهُ قلبه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ويحشر يَوْم الْقِيَامَة فِي زمرتي وَتَحْت لِوَائِي ولوائي أَبيض الْعود أَخْضَر الرقعة أفيح الرّيح لَهُ لسانان لِسَان يرى بالمشرق ولسان يرى بالمغرب يظل حَملَة الْقُرْآن والمتحابين فِي الله وَمن ضيع وَاحِدَة مِنْهُنَّ فقد ضيع كُلهنَّ ويلقى الله غَدا ظمآن محول

ص: 203

الْقلب نادم الْقلب مرتعد الْفُؤَاد حاسر الْقدَم مستحييا من الرب مغْفُور لَهُ أَو معذب

قَوْله ابتشر ببشيره الْبُشْرَى خبر عَن الْغَيْب فَإِن العَبْد فِي دَار المحنة والبلوى متعرض للآفات ممزوج بهَا مسئول عَن الشُّكْر عَلَيْهَا وَمُقْتَضى لِلْبَصَرِ على مزاجها من الْآفَات وَهُوَ فِيمَا بَين ذَلِك لَا يدْرِي مَا يظْهر لَهُ من غيب الله غَدا وَالْخَيْر كائنه فأيد الله الْمُؤمنِينَ بخطاه وبشرهم بِخَبَر نفى حيرتهم حَتَّى قويت الْقُلُوب واطمأنت النُّفُوس وتخلص الْقلب من وساوسها وَصَارَ حرا مَالِكًا قوي الْقلب وانتشر السرُور فِي الصَّدْر فنضرت الْوُجُوه وَتلك النضرة تورث الْبشر قَالَ الله تَعَالَى {ولقاهم نَضرة وسرورا} نَضرة فِي الْوُجُوه وسرورا فِي الْقلب

فالسرور يفِيض الْقلب من الْفَرح الَّذِي حل بِالنَّفسِ فالفرح فِي النَّفس وَالسُّرُور تولده فِي الْقلب وانتشاره فِي الصَّدْر ثمَّ يتَأَدَّى ذَلِك من مجمع الْعُرُوق الَّذِي على الْقلب إِلَى الْعُرُوق الَّتِي فِي الْوُجُوه فَتَشرب جلده الْوُجُوه من ذَلِك بِمَنْزِلَة شَجَرَة شربت عروقها من المَاء فِي أَصْلهَا فأدت عروقها إِلَى الأوراق فنضرت فَإِذا كَانَ كَذَلِك على أَن فِي الْبَاطِن خَبرا سارا فَعمل ذَلِك الْكَلَام فِي قلبه وصدره حَتَّى اخْتَلَط بِذَاتِهِ فاختلط بسمعه وَشمه وبصره ومخه وَجَمِيع جوارحه وَهَذَا لمن اسْتمع قلبه إِلَى خطابه بأذني قلبه فاستقر فِيهِ علم ذَلِك وَورد الْعقل على قلبه بنهاء ذَلِك الْخطاب والفهم بمكنون لطائفه والفطنة بكشف الغطاء عَن صور تِلْكَ اللطائف فطابت النَّفس بذلك وازدهرت وأينعت عَن الذبول والخمول فَمن كَانَ بِهَذِهِ الصّفة فقد ابتشر بالبشرى

ص: 204

وَقَوله انتذر بنذيره فَإِن العَبْد قد شرهت نَفسه من الْفَرح بأحوالها وبسبب نمائها فقطرت فَإِذا جاءها الْوَعيد من الله تَعَالَى ذبلت وَسكن تلظي تِلْكَ الأفراح فتنغصت عَلَيْهِ حلاوتها وتكدر عَلَيْهِ صفو النعم فَظهر فِي صَدره من كدورة دُخان الْوَعيد ومرارة التنغص فتأدى ذَلِك إِلَى الْوَجْه فأورثه العبوس فتجده مرّة ذَا بشر ونضرة وَمرَّة ذَا عبوس وكسوف وَإِذا ورد عَلَيْهِ الْبشر أقرّ وَجهه بذلك النضرة وَظهر الْبشر وَزَالَ عَنهُ الْكُسُوف وَإِذا ورد عَلَيْهِ الْوَعيد انكسف الْقَمَر الَّذِي بِوَجْهِهِ وانعبس فَمن ابتشر ببشير الله وانتذر بنذيره فَإِنَّمَا يفعل ذَلِك بقلب عَامر ومحال أَن تَجِد أَحدهمَا وتفقد الآخر لِأَن ذَلِك فعل الْقلب

قَوْله وَعمل بناسخه وآمن بمنسوخه فالناسخ آيَة قد أَمر الله بِالْعَمَلِ بهَا وَقد كَانَ قبل ذَلِك أَمر بِغَيْر ذَلِك فِي آيَة نزلت قبلهَا والناسخ والمنسوخ بلوى من الله لعَبْدِهِ لينْظر أيعبد الله ظَاهرا وَبَاطنا أم يعبده فِي الظَّاهِر ويعبد هَوَاهُ فِي الْبَاطِن

قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم من يتبع الرَّسُول مِمَّن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ}

وَقَالَ تَعَالَى {ولنبلونكم حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ}

مَعْنَاهُ حَتَّى نعلم من يُجَاهد نَفسه فِي ذاتي ويصبر عَمَّا حرمت عَلَيْهِ وعَلى مَا افترضت عَلَيْهِ وعَلى مَا حكمت عَلَيْهِ من الْأَحْوَال الْمَكْرُوهَة مثل الْفقر والذل والبؤس وَالْمَرَض

ثمَّ قَالَ ونبلوا أخباركم أَي أَنْتُم مني مَعَ هَذِه المجاهدة وَالصَّبْر أَعلَى طيب النُّفُوس أم على خبثها وترددها فَإِذا آمن بالمنسوخ وَعمل بالناسخ فَهَذَا عبد منقاد لرَبه قد ألْقى بيدَيْهِ سلما

ص: 205

قَوْله (اقْتصر على محكمه ورد علم متشابهة إِلَى عالمه) فالمحكم مَا خرج إِلَى الْعباد من الْحِكْمَة الْبَالِغَة مثل قَوْله تَعَالَى {قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم} وَقَوله {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} إِلَى قَوْله {ذَلِك مِمَّا أوحى إِلَيْك رَبك من الْحِكْمَة}

فَأعْلم الْعباد أَنه لم يَأْمر بِشَيْء وَلَا نهى عَن شَيْء جزَافا أَمرهم ونهاهم بالحكمة الْبَالِغَة

وَقد قَالَ قوم من الْعلمَاء لَيْسَ لأَمره وَنَهْيه عِلّة وَإِنَّمَا هُوَ تعبد وَلَيْسَ كَمَا زعم فَإِنَّهُ تعبد لزم الْعباد الْعَمَل بِهِ وَلَكِن تَيَقّن أَن الله تَعَالَى لم ينْه عَن شَيْء وَلَا أَمر بِشَيْء إِلَّا بالحكمة تَعَالَى الله عَن الْجزَاف المهمل عَن التَّدْبِير وَالتَّقْدِير فتطلب تِلْكَ الْحِكْمَة فِي معادنها فَإِنَّهَا تبعثك على إِقَامَة الْأَمر وَالنَّهْي

وَنحن نذْكر صُورَة نستدل بهَا وَهُوَ أَن الله تَعَالَى افْترض الصَّلَاة على عباده فَرجل أَدَّاهَا تعبدا وَآخر طالع الْحِكْمَة ببصيرته فَوجدَ العَبْد موكلا لحفظ الْجَوَارِح السَّبع السّمع وَالْبَصَر وَاللِّسَان والبطن والفرج وَالْيَدَانِ وَالرجلَانِ بِمَنْزِلَة عبد وكل بسبعة أَغْنَام لكل شَاة مِنْهَا مرعى على حِدة فَأمر بِأَن يرعاها فِي مراعيها وَمَتى تردى وَاحِد فِي جرف تبادر بِإِخْرَاجِهِ فَإِن عني بشأنهن ورعايتهن نَالَ الْكَرَامَة وَإِن أهمل مَا اكْتسب بِفِعْلِهِ إِلَّا مقتا وبعدا فَهَذَا الْمُؤمن فِي غفلاته كَالرَّاعِي فِي نفشائه وَإِنَّمَا سمي مُؤمنا لِأَنَّهُ إطمأن إِلَى الله عبودة لَهُ وَاسْتقر قلبه وَسمي مُسلما لتسليم جوارححه إِلَيْهِ فِي أمره وَنَهْيه وَعَلِيهِ الْوَفَاء بذلك إِلَى يَوْم لِقَائِه فَمَتَى مَا ضيع شَيْئا من أمره وَنَهْيه دخل فِي وَفَاء تَسْلِيمه نقص بِقدر مَا ضيع

ص: 206

وَقد علم الله من الْعباد أَنهم سيخلطون هَذَا التَّسْلِيم بتضييع أُمُوره فافترض عَلَيْهِم الْقيام بَين يَدَيْهِ عبودة وتذللا معتذرين مِمَّا ضيعوا فقد قَامَ العَبْد مقَاما جمع جوارحه المنتشرة فِي مراعيها بَين يَدَيْهِ قد أَزَال سَمعه عَن الْأُمُور وَالنَّاس وبصره عَن النّظر إِلَيْهِم وَلسَانه عَن خطاب الْخلق وَيَده عَن الْقَبْض والبسط وَرجله عَن الْمَشْي وبطنه عَن الطَّعَام وفرجه عَن الاعتمال فَهَذَا من العَبْد تَسْلِيم إِلَى الله مُسْتَقْبلا معتذرا بالثناء وَالرُّكُوع وَالسُّجُود مترضيا لَهُ حَتَّى يرجع من عِنْده على تَجْدِيد إِسْلَامه ومزيد من فضل الله وَرَحمته فعبد أدّى فَرَائِضه على هَذِه الصّفة من المطالعة وَالْعلم واليقظة والانتباه وَآخر أَدَّاهَا تعبدا وَهَذَا كُله مَسْتُور عَنهُ فَمَتَى يلْحق هَذَا ذَاك

وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الرجلَيْن ليكونان فِي صَلَاة وَاحِدَة فِي سقف وَاحِد وكما بَين صلاتيهما أبعد مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض

فالحكمة مَوْجُودَة فِي جَمِيع الْأَعْمَال وعللها قَائِمَة لَا يعلمهَا إِلَّا أَهلهَا وهم قوم تخلصت قُلُوبهم من ظلمَة الشَّهَوَات وَخَرجُوا إِلَى الْبُرْهَان الْعَظِيم وَإِلَى النُّور الْأَعْظَم

وَأما الْمُتَشَابه فأسرار الله الَّتِي طواها عَن الْعباد وأسرار الرُّسُل الَّتِي أفضاها إِلَيْهِم وطواها عَن الْعباد وأسرار الْأَوْلِيَاء الَّتِي أفضاها إِلَيْهِم وطواها عَن سَائِر الْمُوَحِّدين فَهَذِهِ أَشْيَاء قد اشْتبهَ على الْخلق لعجزهم عَن احتمالها فالمقتصر على محكمه لَا يتَعَدَّى إِلَى مَا شبه عَلَيْهِ بل يقْتَصر عَنهُ على الْمُحكم فَإِن الْحَاجة بِهِ إِلَى الْمُحكم والمتشابه زِينَة الْمُحكم طواها الله عَن الْعباد لعجزهم عَن احتمالها حَتَّى إِذا انْكَشَفَ

ص: 207

الغطاء وتبحبحوا فِي دَار الْملك وَزَالَ عَنْهُم رق العبودة وَصَارَ الْأَمر جَهرا وزاروا الله فِي دَاره طرقهم النّظر إِلَيْهِ وَاحْتِمَال لَذَّة كَلَامه أفْضى إِلَيْهِم الْأَسْرَار الَّتِي طواها عَنْهُم قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما : تَلا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هَذِه الْآيَة: {قَالَ رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} فَقَالَ:

(قَالَ يَا مُوسَى إِنَّه لَا يراني حَيّ إِلَّا مَاتَ وَلَا يَابِس إِلَّا تدهده وَلَا رطب إِلَّا تفاق إِنَّمَا يراني أهل الْجنَّة الَّذين لَا تَمُوت أَعينهم وَلَا تبلى أَجْسَادهم) فقد أعلمك سَبَب عدم الرُّؤْيَة فِي دارالفناء وَألقى عذره إِلَى مُوسَى حَيْثُ قَالَ {وَلَكِن انْظُر إِلَى الْجَبَل فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني}

فَحل بمُوسَى من الصَّعق مَا حل بِالْجَبَلِ من الدك مَا حل يُعلمهُ أَنه لَا يطيقه احْتِمَاله وَلذَلِك قَالَ (تبت إِلَيْك) لِأَنَّهُ سَأَلَهُ ذَلِك من دَار فانية قذرت بالشرك والمعاصي لشفوفه بربه وزلة عقله فلطف الله لَهُ إِلَى أَن ألْقى إِلَيْهِ عذره فِي ترك إجَابَته وألجأه إِلَى التَّوْبَة إِذْ تبين لَهُ حَتَّى فزع إِلَى التَّنْزِيه لَهُ وَإِلَى التَّوْبَة

وَذهب قوم من الغلاة المعطلة إِلَى أَن الله تَعَالَى لَا يرى فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} وَزَعَمت أَن هَذِه صفة من صِفَاته فَلَا تنسخ وَلَا تَتَغَيَّر صفته فَيكون فِي الدُّنْيَا بِخِلَاف مَا فِي الْآخِرَة

فَلَمَّا قيل لَهُم فَمن عطل صفة من صِفَاته أَلَيْسَ قد انْقَطع نظام توحيده لِأَن الْعباد وحدوا رَبًّا بِجَمِيعِ صِفَاته فَإِذا عطلت صفة فقد

ص: 208

خرجت من توحيده أفتزعمون أَنه حِين سَأَلَ الرُّؤْيَة انْقَطع النظام وعطل صفة من صِفَاته

ففزعوا من هَذَا القَوْل والتجأوا إِلَى أَن مُوسَى عليه السلام لم يسْأَل رُؤْيَة الْعين وَإِنَّمَا سَأَلَ مُشَاهدَة الْقلب فَلَمَّا قيل لَهُم إِن مُوسَى عليه السلام قَالَ {رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} وَلم يقل قلبِي ينظر إِلَيْك وَإِن كَانَ هَذَا السُّؤَال للقلب فَلم تجلى للجبل قَالُوا إِنَّمَا جعل فِي الْجَبَل آيَة من آيَاته فتجلت الْآيَة للجبل يُقَال لَهُ يَقُول الله تَعَالَى {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل} وَأَنت تَقول آيَة من آيَاته كفى لَهُ بِهَذَا خزيا

ص: 209

-‌

‌ الأَصْل الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان

-

‌فِي التَّعَوُّذ من النِّفَاق

عَن مَالك بن أنس رضي الله عنه قَالَ خَطَبنَا أَبُو بكر الصّديق رضي الله عنه فَقَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (تعوذوا بِاللَّه من خشوع النِّفَاق) قيل يَا رَسُول الله وَمَا خشوع النِّفَاق قَالَ (خشوع الْبدن ونفاق الْقلب)

عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يعبث بلحيته فِي الصَّلَاة فَقَالَ (لَو خشع قلبه لخشعت جوارحه)

قَالَ أَبُو عبد الله فخشوع الْقلب من الْمعرفَة فَكلما كَانَ أوفر حظا من الْعلم بِاللَّه والمعرفة بآلائه كَانَ أخشع فأثقال الْمعرفَة حلت بِالْقَلْبِ فأدت الْقلب إِلَى ثَلَاث خشعة وخضعة وذلة فالذلة الحذر والخضعة اللين والخشعة الانكسار والانحناء فَهَذِهِ صفة الْقلب

وَأما صفة النَّفس تَحت أثقال الْقلب فلهَا الخمود مَكَان ذلة الْقلب

ص: 210

والانثناء مَكَان الخضعة والتهافت والتهاتر كالرمل مَكَان الخشعة كَمَا وصف الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْجبَال فَقَالَ {وَكَانَت الْجبَال كثيبا مهيلا} أَي رملا ينهار ويتساقط

فَإِذا صَارَت النَّفس هَكَذَا فَصَارَ الْقلب كَمَا وَصفنَا بدءا فقد لزمَه اسْم الْخُشُوع على الْحَقِيقَة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وخشعت الْأَصْوَات للرحمن فَلَا تسمع إِلَّا همسا}

ذهب الصَّوْت وَقُوَّة ذرو الْكَلَام وَقَالَ تَعَالَى {وَمن آيَاته أَنَّك ترى الأَرْض خاشعة} أَي سَاقِطَة هامدة

فَمن لم يكن فِي قلبه تراكم أثقال الْمعرفَة فتخشع بأركانه فَذَاك نفاق لِأَنَّهُ تماوت وَهُوَ حَيّ فالتماوت مراءاة والرياء نفاق مرّة يرائي الله تَعَالَى فيبتغي عِنْده بذلك جاها ومدحا وَمرَّة يرائي عبيده يَبْتَغِي عِنْدهم جاها ومدحا فيتخشع وَلَيْسَ بخاشع أَلا ترى إِلَى قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

إِذا قَامَ العَبْد بَين يَدي الله لَا يتفرغ للعبث فِي الصَّلَاة وَإنَّهُ كَمَا انتصب لله جسده فِي الظَّاهِر فقد انتصب قلبه فِي الْبَاطِن وكما رمى ببصره فِي الظَّاهِر حَيْثُ يَقع من الْخلقَة فَكَذَلِك رمى ببصر قلبه إِلَى الْمقَام الَّذِي رتب لَهُ إِن كَانَ من أهل الْمرتبَة وَإِلَّا فِي متعبده إِن لم يكن من أهل الْمرتبَة

قَالَ لَهُ قَائِل وَأَيْنَ الْمَرَاتِب

قَالَ الصديقون مَرَاتِبهمْ من الْعَرْش على أصنافهم عَسْكَر دون الْعَرْش

ص: 211

وعسكر على الْعَرْش وعسكر فِي الملكوت والخاصة فِي ملك الْملك بَين يَدَيْهِ فأبصار قُلُوبهم هُنَاكَ وأبصار وُجُوههم فِي مواقع الْخلقَة

قيل لَهُ وَمَا مواقع الْخلقَة

قَالَ إِن العَبْد إِذا أَقَامَ على الْخلقَة ثمَّ رمى ببصره على الْخلقَة فَأَما يَقع من الأَرْض بمَكَان لَو خر سَاجِدا لوقعت جَبهته على تِلْكَ الْبقْعَة الَّتِي لَو كَانَ قَائِما فَرمى ببصره لم يَتَعَدَّ تِلْكَ الْبقْعَة وَلم يقصر عَنْهَا وَإِذا ركع فَرمى ببصره على الْخلقَة فَإِنَّمَا يَقع على مَوضِع الْقَدَمَيْنِ وَإِذا سجد فَرمى ببصره فَإِنَّمَا يَقع على مَوضِع الصَّدْر مِنْهُ وَإِذا قعد للتَّشَهُّد فَرمى ببصره فَإِنَّمَا يَقع على رَأس رُكْبَتَيْهِ وطرف فَخذيهِ فَهَذَا كُله رمى ببصره حَيْثُ وَقع لَيْسَ فِيهِ تكلّف وَلَا اسْتِعْمَال لِلْبَصَرِ وَإِنَّمَا الِاسْتِعْمَال فِي وَقت النّظر فَهَذَا رمي خرج من سُلْطَان الْبَصَر وَلَيْسَ بِنَظَر وَالْقلب رام ببصره حَيْثُ وَصفنَا من العلى فِي مَرَاتِبهمْ مَرَاتِب الْأَوْلِيَاء وَالصديقين وَمن لم يكن من أهل الْمَرَاتِب فَفِي متعبده بَين الْعِزَّة حَيْثُ اسْتَقر الْقُرْآن فِي وَقت نُزُوله جملَة فِي شهر رَمَضَان فِي السَّمَاء الدُّنْيَا فَذَاك مَحل المتعبد فَمِنْهَا قبلوا الْقُرْآن بِمَا فِيهِ من العبودة علم الْعباد هَذِه الصّفة أَو لم يعلمُوا فَإِنَّهُم داخلون فِي هَذَا الْبَاب كَمَا تَجِد الْمُسلمين كلهم قد دخلُوا فِي الْمِيثَاق يَوْم استخرجهم من الأصلاب علمُوا أَو لم يعلمُوا فَإِنَّمَا يجزون وتجزى أَرْوَاحهم ويحقق لَهُم بذلك الْأَشْيَاء من التَّقَرُّب

وَوجدنَا للصَّلَاة ثَلَاث مَرَاتِب عَلَيْهَا رتب أهل الصَّلَاة وَقد ذكرهم الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله فحافظون ومداومون وخاشعون

قَالَ تَعَالَى {الَّذين هم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ} الَّذين

ص: 212

هم على صلَاتهم دائمون) وعدهم عَلَيْهَا الْكَرَامَة فِي الْجنَّة فَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ فِي جنَّات مكرمون}

وَقَالَ {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون} فَوَعَدَهُمْ على ذَلِك الْفَلاح

والفلاح اسْم يَنْتَظِم الْكَرَامَة والترقي فِي الدَّرَجَات وَالْأَخْذ من الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب والأثرة فِي ذَات الله والمحافظة على الْوَقْت والمداومة على اسْتِعْمَال الْأَركان بحدودها فِي الصَّلَاة وَهُوَ أَن لَا يلْتَفت فِي وَقت الانتصاب وَلَا يتمايل ويسكن أَطْرَافه وَلَا يسْتَعْمل مِنْهَا شَيْئا إِلَّا لضَرُورَة وَعلة مثل الترواح على إِحْدَى الْقَدَمَيْنِ وَمثل حل شَيْء من جسده لذباب يُؤْذِي أَو بعوضة تشغله عَن الصَّلَاة فَتلك ضَرُورَة أَو بزاق أَو مخاط فَهَذِهِ كلهَا علل يعْذر فِيهَا وَإِذا ركع سوى ظَهره لركوعه فَيكون مقدمه كمؤخره وَإِذا سجد خوى وجخى التخوية إِعْطَاء كل مفصل وعضو حَظه من الانتكاس للسُّجُود والتجخية توقيا للانبساط ليَكُون كَهَيئَةِ الساجدين لَا كَهَيئَةِ المنبطحين على الأَرْض ببطونهم وصدورهم فَإِن تِلْكَ ضجعة أهل النَّار على وُجُوههم فَإِذا جخى توقى تِلْكَ الْهَيْئَة وَإِذا خوى أَرَادَ تركيب السُّجُود بَعْضًا على بعض وَإِنَّمَا سمي سجودا لتركيب الْأَعْضَاء بَعْضهَا على بعض وَإِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع لم ينحط حَتَّى يفصل الرُّكُوع من السُّجُود بِقِيَام كل عُضْو مِنْهُ إِلَى مَكَانَهُ وَإِذا سجد فَرفع رَأسه لم يعد إِلَى السَّجْدَة الْأُخْرَى حَتَّى يعود قَاعِدا كَمَا كَانَ وَيرجع كل عُضْو مِنْهُ إِلَى مَكَانَهُ فَذَاك إتْمَام الرُّكُوع وَالسُّجُود وَإِذا قعد جثا على رُكْبَتَيْهِ

ص: 213

وَنصب الْيُمْنَى مِنْهُ وافترش الْيُسْرَى مُعْتَمدًا بجلسته عَلَيْهَا فالمداومة على الصَّلَاة مَا وَصفنَا

وَأما الْخُشُوع فَهُوَ على الْقلب وَمن عِنْده يَبْتَغِي فَإِذا لم يكن هُنَاكَ فَلَيْسَ بخشوع إِنَّمَا هُوَ مداومة فالمحافظة من الخشية والمداومة من الْخَوْف والخشعة من التجلي فَإِذا خشِي الْقلب حَافظ وَإِذا خَافَ داوم وَإِذا خشع فالأركان مستعملة فِي القبضة ثمَّ يتَحَوَّل صِفَات الخشعة على اخْتِلَاف صور الْأَفْعَال فِيهَا فأولها خشعة فِي صُورَة الْأسر ثمَّ من بعْدهَا خشعة الْخدمَة ثمَّ من بعْدهَا خشعة العبودة ثمَّ من بعْدهَا خشعة الرّقّ ثمَّ من بعْدهَا خشعة الْحَمد ثمَّ من بعْدهَا خشعة التَّعَلُّق ثمَّ من بعْدهَا خشعة التضرع والملق من الأمل الفسيح فِي خشعته لِأَنَّهُ قد جعل إِلَى ذَلِك سَبِيلا للأحباب وَقَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم}

عَن الْمطلب بن أبي ودَاعَة عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ الصَّلَاة مثنى مثنى وَتشهد فِي كل رَكْعَتَيْنِ وتباؤس وتمسكن وَتَقَع بيديك وَتقول اللَّهُمَّ اللَّهُمَّ فَمن لم يفعل ذَلِك فَهُوَ خداج قَوْله تباؤس مَأْخُوذ من الْبُؤْس وَهُوَ أَن تفْتَقر إِلَى رَبك افتقار من كَانَ تُرَابا فخلق بشرا وَالتَّبَاؤُس والتخشع قريب أَحدهمَا من الآخر وَالله أعلم وَأحكم

ص: 214

-‌

‌ الأَصْل السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان

-

‌فِي مَا يُقَال عِنْد النّوم

عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رضي الله عنها أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا آوى إِلَى فرَاشه كل لَيْلَة جمع كفيه ثمَّ نفث فيهمَا فَقَرَأَ فيهمَا قل هُوَ الله أحد وَقل أعوذ بِرَبّ الفلق وَقل أعوذ بِرَبّ النَّاس وَيمْسَح بهما مَا اسْتَطَاعَ من جسده وَيبدأ بهما على رَأسه وَوَجهه وَمَا أقبل من جسده وَيفْعل ذَلِك ثَلَاث مَرَّات

وروى مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رضي الله عنها أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا اشْتَكَى قَرَأَ على نَفسه المعوذات

ص: 215

وينفث فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعه كنت أَقرَأ عَلَيْهِ وأمسح عَلَيْهِ بِيَدِهِ رَجَاء بركتها

عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا آوى إِلَى فرَاشه نفث بكفيه بقل هُوَ الله أحد والمعوذتين ثمَّ يمسح بهما وَجهه وعضده وصدره حَيْثُ مَا بلغت من جسده فَلَمَّا اشْتَكَى أَمرنِي أَن أفعل ذَلِك بِهِ فَكنت أَقُول أَعْطِنِي كفيك أَمسَح بهما ببركتهما

قَالَ يُونُس فَكنت أرى ابْن شهَاب يفعل ذَاك إِذا آوى إِلَى فرَاشه

عَن زِيَاد بن سعد أَن ابْن شهَاب حَدثهُ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رضي الله عنه قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا اشْتَكَى نفث على نَفسه بالمعوذات فَمسح بيدَيْهِ فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعه الَّذِي قبض فِيهِ طفقت أنفث عَلَيْهِ بالمعوذات وأمسح عَلَيْهِ بيدَيْهِ

قَالَ أَبُو عبد الله فَفِي حَدِيث عقيل يخبر أَنه بَدَأَ فنفث فَقَرَأَ كَأَنَّهُ دلّ على أَن النفث كَانَ قبل الْقِرَاءَة وَفِي حَدِيث مَالك بَدَأَ بِذكر الْقِرَاءَة ثمَّ النفث

وَفِي حَدِيث يُونُس بَدَأَ بِذكر النفث بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ قَالَ نفث بقل هُوَ الله أحد فَلَا يكون هَذَا النفث إِلَّا بعد الْقِرَاءَة وَإِذا فعل الشَّيْء بالشَّيْء كَانَ ذَلِك الشَّيْء مقدما حَتَّى يَأْتِي الشَّيْء الثَّانِي فَقَالَ فِي حَدِيث يُونُس نفث بقل هُوَ الله أحد دلّ على أَن الْقِرَاءَة مُقَدّمَة ثمَّ نفث ببركتها لِأَنَّهُ يَبْتَغِي من قِرَاءَة هَذِه السُّور أَن يصل إِلَى الْجَسَد

ص: 216

نورها وبركتها وَلَا يقدر على الإيصال إِلَّا بِمثل هَذَا وَذَلِكَ أَن العَبْد إِذا قَرَأَ استنار صَدره بِنور ذَلِك الْكَلَام الَّذِي يتلوه كل قَارِئ على قدره فَإِذا نفث فَإِنَّمَا ينفث من الصَّدْر فالنفث من الرّوح والنفخ من النَّفس

وعلامة ذَلِك أَن الرّوح بَارِد وَالنَّفس حَار وَإِذا قَالَ بف خرجت الرّيح بَارِدَة فَذَاك من برد الرّوح وَإِذا قَالَ هاه خرجت الرّيح حارة فَتلك من النَّفس فَالْأولى نفثة وَهَذِه الثَّانِيَة نفخة وَإِنَّمَا صَار هَكَذَا لِأَن الرّوح مَسْكَنهَا فِي الرَّأْس ثمَّ هِيَ منفث فِي جَمِيع الْجَسَد وَالنَّفس مَسْكَنهَا فِي الْبَطن ثمَّ هِيَ منفشة فِي جَمِيع الْجَسَد وَفِي كل وَاحِدَة مِنْهُمَا حَيَاة بهَا يسْتَعْمل الْجَسَد بالحركات فالروح سماوي وَالنَّفس أرضية وَالروح عَادَتهَا الطَّاعَة وَالنَّفس عَادَتهَا الشَّهَوَات فَإِذا ضم شَفَتَيْه اعتصرت الرّوح فِي مَسْكَنهَا فَإِذا قصد لإرسالها خرجت على شَفَتَيْه مَعَ الْبرد فَذَاك النفث وَإِذا فتح فَاه فاعتصرت النَّفس فَإِذا أرْسلت خرجت ريح حارة وَإِنَّمَا جَاءَ الْخَبَر بالنفث لِأَن الرّوح أسْرع نهوضا إِلَى نور تِلْكَ الْكَلِمَات وأوفر حظا من النَّفس وَالنَّفس ثَقيلَة بطيئة عاجزة فَأدى الرّوح إِلَى الْكَفَّيْنِ بذلك النفث ريحًا قد باشرت أنوار الصَّدْر الَّتِي أنارتها تِلْكَ الْكَلِمَات وأشعلتها بِمَا جَاءَ من الْمَزِيد فَإِن فِي كل كلمة مِنْهَا نورا وَفِي كل حرف من تِلْكَ الْكَلِمَة نورا فَإِذا صَارَت الرّيح إِلَى الْكَفَّيْنِ بالنفث مسح بهما وَجهه وَمَا أقبل من جسده ثمَّ بعد ذَلِك حَيْثُ مَا بلغ من جسده لِأَن الْحق للْوَجْه لِأَن الصُّورَة فِيهِ ثمَّ الْحق من بعد ذَلِك لما أقبل من الْجَسَد لِأَن قبالة الْمُؤمن حَيْثُ مَا كَانَ فَهُوَ لقبالة الله وَكَذَلِكَ قلبه فِي الْبَاطِن فَالْحق لَهُ فِي النفث أَن يبْدَأ بِالْوَجْهِ ثمَّ بِمَا أقبل من جسده وتفاوت النغثات من أَهلهَا على قدر نور قُلُوبهم وعلمهم بِتِلْكَ الْكَلِمَات فَإِذا فعل ذَلِك بجسده عِنْد إيوائه إِلَى فرَاشه كَانَ كمن اغْتسل بِأَطْهَرَ مَاء وأطيبه

ص: 217

فَمَا ظَنك بِمن يغْتَسل بأنوار كَلِمَات الله تَعَالَى وَكَانَ ذَلِك أَيْضا كَثوب نفض من غباره وخلص من شوكه وتباعد من الزهومات فَعَاد طريا طيبا فَخرجت نَفسه إِلَى الله فِي مَنَامه كَذَلِك هَذَا سوى الاسْتِغْفَار وَالتَّوْبَة وَالتَّسْبِيح وَالدُّعَاء الَّذِي أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم للْأمة عِنْد منامهم وَإِنَّمَا اخْتَار هَذِه القلات الثَّلَاث لِأَن فِي إِحْدَاهُنَّ مِدْحَة الله تَعَالَى ونعته فبه يطهر وينزه ويطيب وبالمعوذتين يتَخَلَّص من الشّرك وَلِأَن على ابْن آدم عدوين عظيمي الْمُؤْنَة النَّفس والشيطان يأتيان بِالشَّكِّ والشرك فِي الْيَقَظَة ويأتيان بِالْعينِ الحاسدة الَّتِي تهدم أَرْكَان النِّعْمَة

وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْعين حق وَأكْثر من يَمُوت من أمتِي بعد قَضَاء الله بِالنَّفسِ وَإِنَّمَا صَار هَكَذَا لِأَن هَذِه الْأمة أيدت بِالْيَقِينِ وفضلت بِهِ وطريقهم إِلَى الله تَعَالَى وَاسِعَة فطولبوا بِمَا فضلوا أَن ينسبوا كل شَيْء يستحسنونه إِلَى خالقه ويبركوا فيقولوا تبَارك الله فَإِذا تركُوا ذَلِك إعجابا بذلك الشَّيْء تهافت ذَلِك الشَّيْء وَذهب حسنه وَهلك

وَلذَلِك قَالَ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ سبق نَاقَة الاعرابي نَاقَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيْثُ استبقا فَقَالَ حق على الله أَن لَا يرفع النَّاس أَعينهم إِلَى شَيْء إِلَّا وَضعه الله

ص: 218

وَإِنَّمَا ذمّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْعُيُون الغافلة عَن الله تَعَالَى فسماها حاسدة فَقَالَ {وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد}

فَإِنَّمَا سمي حَاسِدًا لِأَنَّهُ يحصد الْأَشْيَاء حصدا ويستأصلها بِسوء نظرته العاجزة عَن الله تَعَالَى وَالسِّين وَالصَّاد يعتقبان يُجزئ أَحدهَا عَن الآخر كَقَوْلِك صِرَاط وسراط

فَإِن قَالَ قَائِل فَإِن كَانَ هَذَا النَّاظر بغفلته هُوَ الْجَانِي فَمَا بَال المنظور إِلَيْهِ لحقته الْعقُوبَة قيل لَيْسَ لَهُ ذَا عُقُوبَة وَلَكِن هَذَا تَدْبِير الله تَعَالَى فِي عباده أَلا يرى أَن السَّاحر يسحر بأخذته فيخلص الضَّرَر إِلَى من سحره حَتَّى يعالج

وَكَذَلِكَ فعل برَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى أنزلت عَلَيْهِ المعوذتان فَكَانَ جِبْرَائِيل عليه السلام يقْرَأ كل آيَة وَيحل عقدَة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد}

فالساحر يعْقد وينفث فَيُؤْخَذ بهَا أَعْضَاء من يَقْصِدهُ بذلك فَكَذَلِك هَذَا يخلص إِلَيْهِ ضَرَر نظرته المشوبة بالإعجاب حَتَّى يَأْخُذهُ

عدنا إِلَى حَدِيث يُونُس عَن الزُّهْرِيّ قُلْنَا فَمن اتخذ هَذَا الْفِعْل عِنْدَمَا يأوي إِلَى فرَاشه عَادَة رأى النَّفْع الظَّاهِر فِي جسده وَسَائِر أُمُوره لِأَن النَّفس تعرج إِلَى الله فِي منامها مَعَ الْبركَة وَالطَّهَارَة والنزاهة والتخلص من الشّرك بِقِرَاءَة هَذِه السُّورَة فتسجد تَحت الْعَرْش وَهِي بِهَذِهِ الصّفة قد اغْتَسَلت بِهَذِهِ الْأَشْيَاء فتنال من حباء الله وكرامته مَا ترجع بِهِ إِلَى الْجَسَد بِالْخَيرِ الْكثير والمزيد الشافي وَإِذا عرجت إِلَى الله تَعَالَى بِغَيْر هَذِه الصّفة سجدت وَهِي خَالِيَة عَن هَذِه الْأَشْيَاء فينال من الحباء والكرامة على قدره

ص: 219

عَن عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما قَالَ تعرج الْأَرْوَاح إِلَى الله تَعَالَى فِي منامها فَمَا كَانَ طَاهِرا يسْجد تَحت الْعَرْش وَمَا لم يكن طَاهِرا يسْجد قاصيا فَلذَلِك يسْتَحبّ أَن لَا ينَام الرجل إِلَّا وَهُوَ طَاهِر

قَالَ أَبُو عبد الله فَإِنَّمَا ذكر عبد الله بن عَمْرو فِي حَدِيثه الْأَرْوَاح وَإِنَّمَا هِيَ النُّفُوس وَقد يُسَمِّي الشَّيْء باسم قرينه كَمَا قيل قلب وفؤاد فالقلب مَا بطن والفؤاد مَا ظهر وَفِيه العينان والأذنان وَالْخُرُوج من منامها للنفوس وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى}

عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ إِن النُّفُوس تعرج إِلَى الله تَعَالَى فِي منامها فَمَا كَانَ طَاهِرا سجد تَحت الْعَرْش وَمَا كَانَ غير طَاهِر تبَاعد فِي سُجُوده وَمَا كَانَ جنبا لم يُؤذن لَهَا فِي السُّجُود

قَالَ أَبُو عبد الله فَإِذا كَانَ بِطَهَارَة الْوضُوء ينَال الْقرْبَة تَحت الْعَرْش حَتَّى يسْجد هُنَاكَ فَكيف إِذا أَتَى بِطَهَارَة وَتَوَضَّأ ونزه وطاب وطهر بأنوار كَلَام الله تَعَالَى الَّتِي ترددت فِي صَدره وَنَفث مِنْهَا على جسده إِن هَذِه لسجدة لَهَا عِنْد الله خطر عَظِيم

ص: 220

-‌

‌ الأَصْل السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان

-

‌فِي حسن الْخلق

عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن العَبْد ليبلغ بِحسن خلقه دَرَجَة الصَّوْم وَالصَّلَاة

فدرجة الصَّوْم دَرَجَة الصابرين ودرجة الصَّلَاة دَرَجَة الشَّاكِرِينَ فَإِذا وصل العَبْد إِلَى دَرَجَة الشَّاكِرِينَ وَالصَّابِرِينَ فقد جمع الْإِيمَان كُله وَذَلِكَ قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْإِيمَان نِصْفَانِ نصف للشكر وَنصف للصبر

وَإِذا جمع العَبْد الْإِيمَان كُله انْقَطع بِقُوَّة هَذَا الْإِيمَان إِلَى الله تَعَالَى وَإِذا انْقَطع إِلَى الله نجا من شرور النَّفس وخدعها وأمانيها وَصَارَ فِي معَاذ الله من وساوسها

ص: 221

روى عمرَان بن حُصَيْن عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ (من انْقَطع إِلَى الله كَفاهُ مُؤْنَته ورزقه من حَيْثُ لَا يحْتَسب)

وَبِذَلِك أَمر الله تَعَالَى نبيه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ {وَاذْكُر اسْم رَبك وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا رب الْمشرق وَالْمغْرب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه وَكيلا}

فَمن تمسك بِهَذِهِ الْآيَة عَاشَ حرا كَرِيمًا وَمَات حرا كَرِيمًا وَلَقي الله تَعَالَى عبدا صافيا خَالِصا

وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ فِي حَدِيث الرُّؤْيَا وَرَأَيْت رجلا من أمتِي بَينه وَبَين الله حجاب فَجَاءَهُ حسن خلقه فَأدْخلهُ على الله تَعَالَى

فَهَذَا يُحَقّق مَا قُلْنَا بدءا إِن حسن الْخلق يُؤَدِّيه إِلَى الله انْقِطَاعًا عَن النَّفس وفتنتها وَحسن الْخلق على ثَلَاث منَازِل أول منزلَة مِنْهَا أَن يحسن خلقه مَعَ أمره وَنَهْيه وَيَأْمُر يأتمر وَيَنْتَهِي عَن مناهيه فَإِذا أحكم هَذَا تخطى إِلَى الْمنزلَة الثَّانِيَة وَهُوَ أَن يحسن خلقه مَعَ جَمِيع خلقه على سَبِيل المساعدة والمقاربة والمساهلة واللين والرفق والمواتاة والمواراة ومعاشرة الْجَمِيل فَإِذا حكم هَذَا تخطى إِلَى الْمنزلَة الثَّالِثَة وَهُوَ أَن يحسن خلقه مَعَ تَدْبِير الله تَعَالَى فِي كل أُمُوره فَلَا يُرِيد إِلَّا مَا يُرِيد الله وَلَا يَشَاء إِلَّا مَا يَشَاء الله

فعينه مَادَّة إِلَى مَا يبرز لَهُ سَاعَة فساعة من حجاب الملكوت من تِلْكَ الغيوب من تَدْبيره فيتلقاه مهتشا رَاضِيا وَقد ائْتمن الله على نَفسه وَأَحْوَالهَا فَهَذَا رجل قد اسْتكْمل حسن الْخلق واستراح قلبه واطمأنت نَفسه واستقامت جوارحه وَألقى إِلَى الله بيدَيْهِ سلما وَوَجَدته كَافِيا كَرِيمًا حسنا مولى وناصرا فَنعم الْمولى وَنعم النصير

ص: 222

وَإِذا قَالَ حِينَئِذٍ حسبي الله صدقه على عَرْشه وَإِذا قَالَ كفى بِاللَّه وَكيلا كَفاهُ الله وَإِذا توكل على الله هيأه لَهُ وَإِذا اتكل على كرمه وفى لَهُ بِمَا هُوَ سَأَلَهُ وَلَو كَانَ ذَلِك طي الأَرْض وَالْمَشْي فِي الْهَوَاء وَلَو سَأَلَهُ يَوْم الْقِيَامَة أمة لشفعه فيهم وَكَانَ مَسْكَنه فِي أَعلَى الْجنان يُحَقّق مَا قُلْنَاهُ قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من ترك الْكَذِب وَهُوَ بَاطِل بني لَهُ فِي ربض الْجنَّة وَمن ترك المراء وَهُوَ محق بني لَهُ فِي وَسطهَا وَمن حسن خلقه بني لَهُ فِي أَعْلَاهَا

فَالَّذِي قَالَه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه إِن العَبْد ليبلغ بِحسن خلقه دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم وَهُوَ عندنَا دَرَجَة المعاشرة مَعَ خلقه مَعَ الائتمار بأَمْره والتناهي عَمَّا نهى عَنهُ فَهَذَا عبد نزل من حسن الْخلق دَرَجَتَيْنِ فَصَارَ كمن صَامَ نَهَاره وَقَامَ ليله فَهُوَ صابر شَاكر وَإِنَّمَا بقيت الدرجَة الْعليا فَتلك دَرَجَة المنفردين خَاصَّة الله

ص: 223

-‌

‌ الأَصْل الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان

-

‌فِي الصَّبْر عِنْد الْمَرَض

عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من مرض لَيْلَة فَصَبر وَرَضي بهَا عَن الله خرج من ذنُوبه كَيَوْم وَلدته أمه

قَالَ أَبُو عبد الله جاد العَبْد بِنَفسِهِ على الله لَيْلَة وَاحِدَة فجاد الله عَلَيْهِ بمغفرة طهرته من جَمِيع الذُّنُوب فَصَارَ كمن لَا ذَنْب لَهُ فَهَكَذَا شَأْن الْكَرِيم مَعَ الْمُؤمنِينَ هَذَا فِيمَن جاد عَلَيْهِ بليلة فَكيف بِمن جاد عَلَيْهِ فِي جَمِيع عمره بِمَاذَا يجود عَلَيْهِ يجود عَلَيْهِ غَدا بِوَجْهِهِ الْكَرِيم حَتَّى يصير بِالصّفةِ الَّتِي ذكرهَا فِي تَنْزِيله عِنْدَمَا ذكر لظى نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا {وسيجنبها الأتقى الَّذِي يُؤْتِي مَاله يتزكى} إِلَى قَوْله {ولسوف يرضى} أَي ابْتغى بِهَذَا التَّقْوَى والصفاء

ص: 224

وَالْإِخْلَاص أَن يلقى وَجهه الْكَرِيم قلبا ويلقاه غَدا فِي الْموقف رُؤْيَة ويلقاه فِي الفردوس نظرا وَذَلِكَ مُنْتَهى المنى

وَالنَّظَر أَكثر من الرُّؤْيَة لِأَنَّهُ يرَاهُ فِي الْموقف رُؤْيَة الديَّان عرضا وقبولا وَجَزَاء وَفِي الفردوس رُؤْيَة الحنان نظرا وبهجة وسرورا وَلَذَّة ثمَّ خَتمه بقوله {ولسوف يرضى} أَي يعْطى حَتَّى يرضى وَإِنَّمَا يعْطى مَا يعقل العَبْد ثمَّ بَين وَرَاء ذَلِك مَا لم يعقله

عَن جَابر بن عبد الله أَظُنهُ رَفعه قَالَ يَقُول الله تَعَالَى يَا أهل الْجنان بَقِي لكم شَيْء لم تنالوه فَيَقُولُونَ وَمَا هُوَ يَا رَبنَا فَيَقُول رِضْوَانِي

فالرضوان آخر مَا ينَال أهل الْجنَّة لَا شَيْء أكبر مِنْهُ ذكر الله جنَّات عدن فِي تَنْزِيله ثمَّ قَالَ {ورضوان من الله أكبر}

فَكل عبد من أهل الْجنَّة حَظه من الرضْوَان هُنَاكَ فِيهَا على قدر جوده بِنَفسِهِ على الله فِي الدُّنْيَا أَلا ترى إِلَى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة حَيْثُ بَايعُوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الْمَوْت وَكَانَت الْبيعَة تَحت الشَّجَرَة فِي ذَلِك الْوَادي أنزل الله تَعَالَى {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة فَعلم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وأثابهم فتحا قَرِيبا} الْآيَة

أوجب لَهُم الرضاء فِي بذلة وَاحِدَة بذلوا نُفُوسهم لله تَعَالَى مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَكيف بِمن بذل نَفسه فِي جَمِيع عمره لله فَمن أوجب الله لَهُ الرضاء عَنهُ فِي الدُّنْيَا فحظه فِي الْجنَّة الرضْوَان كُله

ص: 225

-‌

‌ الأَصْل التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ والمائتان

-

‌فِي مَسْأَلَة التثبيت للْمَيت عِنْد الدّفن

عَن عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا دفن مَيتا وقف وَسَأَلَ لَهُ التثبيت وَكَانَ يَقُول مَا يسْتَقْبل الْمُؤمن من هول الْآخِرَة إِلَّا والقبر أفظع مِنْهُ

قَالَ أَبُو عبد الله رحمه الله فالوقوف على الْقَبْر وسؤال التثبيت لِلْمُؤمنِ فِي وَقت دَفنه مدد للْمَيت بعد الصَّلَاة لِأَن الصَّلَاة بِجَمَاعَة الْمُؤمنِينَ كالعسكر لَهُ قد اجْتَمعُوا بِبَاب الْملك فيشفعون لَهُ وَالْوُقُوف على الْقَبْر لسؤال التثبيت مدد الْعَسْكَر وَتلك سَاعَة شغل الْمُؤمن لِأَنَّهُ يستقبله هول المطلع وسؤال وفتنة فتاني الْقَبْر مُنكر وَنَكِير فَإِنَّمَا سميا فتاني الْقَبْر لِأَن فِي سؤالهما انتهارا وَفِي خلقهما صعوبة أَلا ترى أَنَّهُمَا سميا مُنْكرا ونكيرا فَإِنَّمَا سميا بذلك لِأَن خلقهما لَا يشبه خلق الْآدَمِيّين وَلَا خلق الْمَلَائِكَة وَلَا خلق طير وَلَا خلق الْبَهَائِم وَلَا خلق

ص: 226

الْهَوَام بل هما خلق بديع وَلَيْسَ فِي خلقهما أنس للناظرين إِلَيْهِمَا خلقهما الله تَعَالَى مكرمَة للْمُؤْمِنين وتبصرة وهتكا لستر الْمُنَافِق فِي البرزخ من قبل أَن يبْعَث حَتَّى يحل عَلَيْهِ الْعَذَاب وَإِنَّمَا صَارَت مكرمَة لِلْمُؤمنِ لِأَن الْعَدو لم يَنْقَطِع طمعه بعد فَهُوَ يَتَخَلَّل السَّبِيل إِلَى أَن يحيره فِي البرزخ

وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك مَا روى سعيد بن الْمسيب رضي الله عنه قَالَ حضرت عبد الله بن عمر فِي جَنَازَة فَلَمَّا وَضعه فِي اللَّحْد قَالَ بِسم الله وَفِي سَبِيل الله وعَلى مِلَّة رَسُول الله فَلَمَّا أَخذ فِي تَسْوِيَة اللَّحْد قَالَ اللَّهُمَّ أجره من الشَّيْطَان وَمن عَذَاب الْقَبْر وَمن عَذَاب النَّار فَلَمَّا سوى الْكَثِيب عَلَيْهِ قَامَ جَانب الْقَبْر ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ جَاف الأَرْض من كثيبها وَصعد روحه ولقه مِنْك رضوانا فَقلت لِابْنِ عمر أشيئا سمعته من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أم شَيْئا قلته من تِلْقَاء نَفسك قَالَ إِنِّي إِذا لقادر على القَوْل بل سمعته من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

عَن عَمْرو بن مرّة قَالَ كَانُوا يستحبون إِذا وضع الْمَيِّت فِي اللَّحْد أَن يُقَال اللَّهُمَّ أعذه من الشَّيْطَان الرَّجِيم فَإِنَّمَا كَانُوا يتخوفون من فتْنَة الفتانين من قبل الْعَدو وَأَنه يشبه على من كَانَ فِي قلبه زيغ أَيَّام الْحَيَاة فَروِيَ عَن سُفْيَان الثورى أَنه قَالَ إِذا سُئِلَ الْمَيِّت من رَبك ترَاءى لَهُ الشَّيْطَان فِي صُورَة فيشير إِلَى نَفسه أَي أَنا رَبك فَهَذِهِ فتْنَة عَظِيمَة جعلهَا الله مكرمَة لِلْمُؤمنِ إِذا ثبته ولقنه الْجَواب فَلذَلِك كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بالثبات يَقُول اللَّهُمَّ ثَبت عِنْد الْمسَائِل مَنْطِقه وَافْتَحْ أَبْوَاب السَّمَاء لروحه

فَلَو لم يكن للشَّيْطَان هُنَاكَ سَبِيل مَا كَانَ ليدعو لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِأَن يجيره من الشَّيْطَان وَإِنَّمَا سُؤال الْمَيِّت فِي هَذِه الْأمة خَاصَّة لِأَن الْأُمَم قبلهَا كَانَت الرُّسُل تأتيهم بالرسالة فَإِذا أَبَوا كفت الرُّسُل فاعتزلت

ص: 227

وعوجلوا بِالْعَذَابِ فَلَمَّا بعث الله مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بَعثه بِالرَّحْمَةِ وأمانا لِلْخلقِ فَقَالَ {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين}

فَأمْسك عَنْهُم الْعَذَاب وَأعْطى السَّيْف حَتَّى يدْخل فِي الْإِسْلَام من دخل لمهابة السَّيْف ثمَّ يرسخ فِي قلبه فأمهلوا فَمن هَهُنَا ظهر أَمر النِّفَاق فَكَانُوا يسرون الْكفْر ويعلنون الْإِيمَان فَكَانُوا بَين الْمُسلمين فِي ستر فَلَمَّا مَاتُوا قيض لَهُم فتانا الْقَبْر ليستخرجا سرهم بالسؤال فَروِيَ فِي الحَدِيث أَنه إِذا سُئِلَ عَن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا أَدْرِي فَيضْرب بالمقامع فَيُقَال لَهُ لَا دَريت و {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة}

عَن جَابر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هَذِه الْأمة تبتلى فِي قبورها

وَأما قَوْله مَا يسْتَقْبل الْمُؤمن من هول الْآخِرَة إِلَّا والقبر أفظع مِنْهُ فَهَذَا لِلْمُؤمنِ خَاصَّة وَأما الْكَافِر فَمَا يستقبله من شَيْء إِلَّا وَهُوَ أفظع من مَا مضى لِأَن الْمُؤمن كلما قرب من ربه تيَسّر عَلَيْهِ الْأَمر وَكَانَ أقرب إِلَى الرَّحْمَة فَإِنَّمَا يُحَاسب الْمُؤمن فِي الْقَبْر ليَكُون أَهْون عَلَيْهِ غَدا إِذا وقف بَين يَدَيْهِ لِأَن الله تَعَالَى أنزل عَبده الْمُؤمن من نَفسه أَنه يستحيي مِنْهُ وَأَنه أوجب لَهُ محبته وَرَحمته ورأفته فَإِذا كَانَت

ص: 228

هَذِه مَنْزِلَته مِنْهُ وَكَانَ من العَبْد جفَاء وانتهاك شَيْء حرمه الله أَو اغترار بقول الْعَدو ويستوجب بذلك الْعقُوبَة ليرضى الْحق أناله ذَلِك فِي الْقَبْر ليمحصه فَيخرج من الْقَبْر وَقد اقْتصّ مِنْهُ وأرضى الْحق

عَن حُذَيْفَة رضي الله عنه قَالَ فِي الْقَبْر حِسَاب وَفِي الْآخِرَة حِسَاب فَمن حُوسِبَ فِي الْقَبْر نجا وَمن حُوسِبَ فِي الْقِيَامَة عذب وَلذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن أهل التَّوْحِيد الَّذين تأخذهم النَّار يميتهم الله إماتة حَتَّى تحرق النَّار مِنْهُم مَا تحرق ثمَّ يحييهم فينجيهم

عَن أبي سعيد رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فَلَا نعلم الإماتة سَببا أكشف عَن الْمَعْنى من الَّذِي ذكرنَا أَن الله تَعَالَى بَعْدَمَا أوجب لعَبْدِهِ محبته ورأفته وَرَحمته وَبِذَلِك جعله أَهلا للكلمة الْعليا لَا إِلَه إِلَّا الله وَكَانَ مِمَّن دخل اسْمه فِي الْآيَة فِي التَّنْزِيل حَيْثُ يَقُول {وألزمهم كلمة التَّقْوَى} ثمَّ قَالَ {وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا}

فَمن دخل اسْمه فِي هَذَا المديح وَفِي مثل هَذِه الْمرتبَة ثمَّ حَبسه فِي النَّار حُقُوق الله تَعَالَى حَتَّى يَحْتَرِق مِنْهَا مَا يُرْضِي الْحق كَانَ غير مَدْفُوع أَن الله عز وجل يستحيي من العَبْد فيميته فِي تِلْكَ النَّار حَتَّى يقْضِي للحق مَا وَجب لَهُ ويرضيه ثمَّ إِذا أَحْيَاهُ أَنْجَاهُ

أَلا ترى إِلَى قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله يستحيي من عَبده وَأمته أَن يشيبا فِي الْإِسْلَام شيبَة فيعذبهما بالنَّار وَفِي حَدِيث

ص: 229

آخر إِن الله تَعَالَى ليستحيي من عَبده إِذا رفع يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَن يردهما صفرا

ص: 230

-‌

‌ الأَصْل المائتان وَالْخَمْسُونَ

-

‌فِي بر الْوَالِدين

عَن عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة رضي الله عنه قَالَ خرج علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذَات يَوْم وَنحن فِي مَسْجِد الْمَدِينَة فَقَالَ إِنِّي رَأَيْت البارحة عجبا رَأَيْت رجلا من أمتِي جَاءَهُ ملك الْمَوْت ليقْبض روحه فَجَاءَهُ بره بِوَالِديهِ فَرده عَنهُ

قَالَ أَبُو عبد الله فبر الْوَالِدين شكر لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى {أَن اشكر لي ولوالديك إِلَيّ الْمصير} فَإِذا برهما فقد شكرهما وَقد قَالَ فِي تَنْزِيله {لَئِن شكرتم لأزيدنكم}

فَإِنَّمَا وجد العَبْد الْعُمر من ربه فِي وَقت انْفِصَاله من أمه وَقد كَانَ فِي الْبَطن حَيَاة وَلم يكن عمر فَلَمَّا خرج أعْطى الْعُمر بِمِقْدَار

ص: 231

فَإِذا وصل وَالِديهِ ببر كَانَ قد وصل الرَّحِم الَّذِي مِنْهُ خرج والصلب الَّذِي مِنْهُ جرى وَكَانَ فِي فعله ذَلِك شاكرا فزيد من ذَلِك الْعُمر الَّذِي شكر من أَجله فَرد عَنهُ ملك الْمَوْت يوهمك فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْعباد إِذا وصلوا أرحامهم زيد فِي أعمارهم لأَنهم بالصلة صَارُوا شاكرين فَشكر الله لَهُم ووفى لَهُم بِمَا وعد فِي تَنْزِيله فَقَالَ {لَئِن شكرتم لأزيدنكم} فَزَاد فِي أعمارهم

عَن ثَوْبَان رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يزِيد فِي الْعُمر إِلَّا الْبر وَلَا يرد الْقَضَاء إِلَّا الدُّعَاء وَإِن الرجل ليحرم الرزق بالذنب الَّذِي يُصِيبهُ

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد بسط عَلَيْهِ عَذَاب الْقَبْر فَجَاءَهُ وضوءه فاستنقذه من ذَلِك

قَالَ أَبُو عبد الله فعذاب الْقَبْر من الْبَوْل والنجاسات

كَذَلِك رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن عَامَّة عَذَاب الْقَبْر من الْبَوْل والنميمة

وَإِنَّمَا صَار كَذَلِك لِأَن الْبَوْل من مَعْدن إِبْلِيس من جَوف الْآدَمِيّ فَإِذا لم يتنزه العَبْد من ذَلِك دخل قَبره بنجاسات الْعَدو فعذب فِي

ص: 232

الْقَبْر وَعَذَاب الْمُؤمنِينَ فِي البرزخ وَعَذَاب الْكفَّار فِي الْقِيَامَة جعل الله هَذَا المَاء طهُورا يطهر نجاسات الدُّنْيَا وأدناس الذُّنُوب فَإِذا كَانَ العَبْد مداوما على الْوضُوء فَهُوَ أبدا فِي إِزَالَة الأدناس ونفض الْغُبَار عَن دينه وَإِذا كَانَ يَوْم البرزخ وَجَاء الْعَذَاب عَذَاب الأدناس الَّتِي اكتسبها بالسيئات جَاءَهُ وضوءه فاستنقذه من الْعَذَاب

عَن مَيْمُونَة رضي الله عنها إِنَّهَا قَالَت يَا رَسُول الله أَفْتِنَا عَن عَذَاب الْقَبْر قَالَ من أثر الْبَوْل فَمن أَصَابَهُ مِنْهُ شَيْء فليغسله بِمَاء فَإِن لم يصبهُ أَو يجده فليمسحه بِتُرَاب طيب

قَالَ أَبُو عبد الله رحمه الله فالغسل لما يُعلمهُ فَإِذا خَفِي عَلَيْهِ أَن يكون أَصَابَهُ شَيْء وَخَافَ من حَيْثُ لَا يدْرِي وهابه مَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من شَأْن عَذَاب الْقَبْر دله على التَّيَمُّم وَذَلِكَ أَن الْجَهْل بِهِ ضَرُورَة وفقد المَاء ضَرُورَة وَقد تفضل الله عز وجل على عبيده عِنْد فقد المَاء بِالتَّيَمُّمِ فصير طهُورا فَكَذَلِك فِي حَال الشَّك والتخوف

عَن جَابر رضي الله عنه قَالَ لما توفّي سعد بن معَاذ رضي الله عنه وَوضع فِي حفرته سبح رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَسبح الْقَوْم ثمَّ كبر وَكبر الْقَوْم مَعَه فَقَالُوا يَا رَسُول الله مِم سبحت قَالَ هَذَا العَبْد الصَّالح لقد تضايق عَلَيْهِ قَبره حَتَّى فرجه الله عَنهُ فَسئلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِك فَقَالَ كَانَ يقصر فِي بعض الطّهُور من الْبَوْل

ص: 233

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد احتوشته الشَّيَاطِين فَجَاءَهُ ذكر الله فخلصه من بَينهم

قَالَ أَبُو عبد الله فالشيطان وَجُنُوده قد أعْطوا السَّبِيل إِلَى فتْنَة الْآدَمِيّ وتزيين مَا فِي الأَرْض لَهُ طَمَعا فِي غوايته وَقد قَالَ {بِمَا أغويتني لأزينن لَهُم فِي الأَرْض ولأغوينهم أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين}

فَلَو لم يَجْعَل بِيَدِهِ شَيْء مَا قدر على أَن يزين وَلَكِن قد أعطي سُلْطَانا بِتِلْكَ الزِّينَة الَّتِي أعطيها حَتَّى يوصلها إِلَى النُّفُوس ويهيجها تهييجا يزعزع أَرْكَان الْبدن ويستفز الْقلب حَتَّى يزعجه عَن مستقره فَلَا يعتصم الْآدَمِيّ بِشَيْء أوثق وَلَا أحصن من الذّكر لِأَنَّهُ إِذا هاج الذّكر من الْقلب هَاجَتْ الْأَنْوَار فاشتعل الصَّدْر بِنَار الْأَنْوَار وهيج الْعَدو من نَفسه نَار الشَّهَوَات بنفثه ونفخه ونار الْأَنْوَار تحرق نَار الشَّهَوَات وَتحرق الْعَدو فَإِذا رأى الْعَدو هيج الذّكر من الْقلب ولى هَارِبا وَيتْرك النفخ والنفث وخمدت نَار الشَّهْوَة وامتلأ الصَّدْر نورا فَبَطل كَيده وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَإِذا ذكرت رَبك فِي الْقُرْآن وَحده ولوا على أدبارهم نفورا}

وَقَالَ جلّ اسْمه فِي التَّنْزِيل {إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بزينة الْكَوَاكِب وحفظا من كل شَيْطَان مارد} وَقَالَ {إِلَّا من خطف الْخَطفَة فَأتبعهُ شهَاب ثاقب}

فَهَذِهِ قصَّة السَّمَاء حرسها بشهب الْكَوَاكِب ثمَّ جعل صُدُور الْمُؤمنِينَ

ص: 234

كَذَلِك فَجعل قلب الْمُؤمنِينَ خزانَة لكنوز مَعْرفَته وَجعل أَعْلَام الْكُنُوز فِي الصَّدْر مَرْفُوعَة لعين الْفُؤَاد حَتَّى يؤم عين الْفُؤَاد الْعلم الَّذِي رفع لَهُ فِي كل وَقت علم لِأَن الْكُنُوز أَنْوَاع وَلكُل نوع علم فَإِنَّمَا يرفع الْعلم فِي الصَّدْر لعين الْفُؤَاد حَتَّى يتبع الْعلم فالأعلام زِينَة الصَّدْر ومصابيحه فَهَؤُلَاءِ حراس السَّمَاء يَحْرُسُونَ أَخْبَار السَّمَاء حَتَّى لَا يسترق الْعَدو سمع مَا فِي السَّمَاء فَإِذا دنوا للسمع رموا بشهب الْكَوَاكِب وَهَؤُلَاء حراس الخزنة يَحْرُسُونَ كنوز الْمعرفَة حَتَّى لَا يسترق الْعَدو سمع مَا فِي الصَّدْر ترَاءى لعين الْفُؤَاد وتدبير ذَات الصُّدُور فَإِذا هاج الذّكر فَإِنَّمَا يهيج من هَذِه الْأَعْلَام الَّتِي فِي الصَّدْر من تِلْكَ الْكُنُوز الَّتِي فِي الْقلب فاشتعل الْقلب نورا وَلكُل شعلة حريق فَإِن ترَاءى الْعَدو فِي ذَلِك الْوَقْت أحرقته تِلْكَ الشعلة يَرْمِي بشعاعها ويهرب الْعَدو ويتخلص العَبْد فَعلم الْعَدو أَن لله عبادا قد امتحنهم للتقوى واستخلصهم للكرامة واستثناهم فَقَالَ {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين}

فَإِنَّمَا استخلصهم الله بِالذكر فأصفاهم ذكرا وأطيبهم معدنا للذّكر أقواهم على الْعَدو والعدو أَشد نفارا مِنْهُم

وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الشَّيْطَان ليفر من حس عمر وَمَا رأى الشَّيْطَان عمر إِلَّا خر لوجهه

وَقَالَ تَعَالَى فِي تَنْزِيله {الوسواس الخناس}

فَإِنَّمَا سَمَّاهُ خناسا لِأَنَّهُ إِذا جَاءَ الذّكر انخنس وَذَهَبت قوته وَإِن تعرض فِي ذَلِك الْوَقْت احْتَرَقَ

وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام

ص: 235

أَمر بِأَن يَأْمر قومه بِخمْس خِصَال وَيضْرب لَهُم مثلا فَقَالَ رجل أَتَى الْعَدو من نَاحيَة فقاتله فَلَمَّا رأى أَنهم أَتَوْهُ من النواحي دخل الْحصن وأغلق بَابه فاستقر آمنا فِي الْحصن وَبَقِي الْعَدو خَارِجا

فَالْعَبْد إِذا قَاتل الشَّيْطَان بِنَوْع من أَنْوَاع الْبر جَاءَهُ من نوع آخر فَإِذا جَاءَ الذّكر هرب وَتَركه لِأَن للذّكر نورا يحرق وَلَيْسَ لأعمال الْبر تِلْكَ الْقُوَّة الَّتِي يَحْتَرِق مِنْهَا الْعَدو

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد احتوشته مَلَائِكَة الْعَذَاب فَجَاءَتْهُ صلَاته فاستنقذته من أَيْديهم

قَالَ فالعذاب إِنَّمَا يقْصد العبيد الاباق الَّذين هربوا وذهبوا برقابهم من الله وَأهل الصَّلَاة كلما أَبقوا عَادوا إِلَى الله فِي وَقت كل صَلَاة فوقفوا بَين يَدَيْهِ تَائِبين نادمين معتذرين مُسلمين نُفُوسهم مجددين لإسلامهم يقرضونه بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيح والتحميد والتهليل وَالرُّكُوع وَالسُّجُود وَالرَّغْبَة والضرع إِلَى الله فِي التَّشَهُّد فَسَقَطت عَنْهُم عُيُوب إباقهم وهربهم وزالت عَنْهُم الْعُقُوبَات الَّتِي استوجبوها

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي يَلْهَث عطشا كلما ورد حوضا منع فَجَاءَهُ صِيَامه فَسَقَاهُ وأرواه

قَالَ أَبُو عبد الله فَهَذَا عبد اتبع هَوَاهُ وأمعن فِي شهواته حَتَّى بعد من الرَّحْمَة فَإِذا بعد الْقلب من الرَّحْمَة عَطش وَإِذا عَطش يبس وَإِذا يبس قسا وَلذَلِك قَالَ {فويل للقاسية قُلُوبهم من ذكر الله} وَقَالَ {ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد قسوة}

ص: 236

فبالرحمة يرطب الْقلب ويروى وببعده من الرَّحْمَة يعطش فأورثه عَطش الْقلب عَطش يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى رَآهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامه فِي الْقِيَامَة فِي تِلْكَ الْحَالة فَإِذا ترك العَبْد إتباع الْهوى وَامْتنع من الشَّهَوَات عَادَتْ الرَّحْمَة إِلَيْهِ فَروِيَ لِأَن برد الرَّحْمَة يسكن حرارة الشَّهْوَة الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْعَطش وَالصِّيَام هُوَ ترك الشَّهَوَات والمنى ورفض الْهوى وَإِنَّمَا جعل الْحَوْض حَوْض الرَّسُول غياثا لأهل الْموقف لأَنهم يقومُونَ عطاشا من قُبُورهم لأَنهم دخلوها مَعَ الْهوى والشهوات لم يفارقوها إِلَّا بمفارقة الرّوح وَخُرُوج النَّفس فَخَرجُوا من الدُّنْيَا عطاشا فاحتاجوا إِلَى الْحَوْض وَمن خرج من الدُّنْيَا وَفَارق الْهوى والشهوات سكن عطشه وَرُوِيَ برحمة الله من قرب الله فَدخل الْقَبْر رَيَّان وَخرج مِنْهَا إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة رَيَّان من كل مَاء عطشان إِلَى الله فَأُولَئِك الَّذين يسقون قبل دُخُول الْجنَّة حَتَّى يرووا من حَيْثُ عطشوا

رُوِيَ عَن مَالك بن دِينَار أَنه قَالَ يُنَادي مُنَاد يَوْم الْقِيَامَة أَيْن أهل الْعَطش فَأول من يقوم دَاوُود عليه السلام فيسقي على رُؤُوس الْخَلَائق فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب}

وَإِنَّمَا خص دَاوُود عليه السلام بذلك لِأَن الْخَطِيئَة عطشه فَهُوَ وَإِن تَابَ وَقبلت تَوْبَته وَغفر الله لَهُ فَذَلِك الْعَطش بَاقٍ إِلَى ذَلِك الْيَوْم

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي والنبيون قعُود حلقا حلقا لما دنا إِلَى حَلقَة طرد فَجَاءَهُ اغتساله من الْجَنَابَة فَأخذ بِيَدِهِ فأقعده إِلَى جَنْبي

قَالَ أَبُو عبد الله فالجنابة إِنَّمَا سميت جَنَابَة لِأَن المَاء الَّذِي جرى من صلبه قد كَانَ جاور فِي الأَصْل مياه الْأَعْدَاء فِي ظهر آدم عَلَيْهِ

ص: 237

السَّلَام) فأصابته زهومة تِلْكَ الْمِيَاه بجواره وممره من الصلب إِلَى مُسْتَقر الْعَدو فِي الْجوف ومستقره من الْمعدة إِلَى مَوضِع الْحَدث هُوَ كُله معدنه وَإِذا خرج من العَبْد فِي يقظته أوجب غسلا وَإِذا خرج فِي مَنَامه حلما أوجب غسلا وَإِذا أخرج مِنْهُ عِنْد خُرُوج الرّوح مِنْهُ يَوْم الْمَوْت أوجب غسلا بعد الْمَوْت وَلذَلِك يغسل الْمَيِّت وَلَا يصلى عَلَيْهِ حَتَّى يغسل كَمَا كَانَ الْحَيّ لَا يجْزِيه الصَّلَاة إِلَّا بعد الْغسْل وَالْغسْل تَطْهِير من أثر الْعَدو وَالْجنب مَمْنُوع من قِرَاءَة الْقُرْآن وَمن أَن يمسهُ بِيَدِهِ وَمن أَن يتَّخذ الْمَسَاجِد مَجْلِسا لِأَن الطَّهَارَة مفقودة وآثار الْعَدو مَوْجُودَة فَإِذا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ مَمْنُوع من حلق النَّبِيين ومجالسهم فِي الْموقف لِأَن حلقهم فِي الْموقف على مَرَاتِب فالرسل مَرَاتِبهمْ مَعْلُومَة والأنبياء دونهم كل صنف على مرتبته فَهَذَا الْجنب لَو لم يكن يغْتَسل فِي الدُّنْيَا لمَنعه فقد طَهَارَته عَنْهُم فَلَمَّا اغْتسل فِي الدُّنْيَا صَارَت مَنْزِلَته بِطَهَارَتِهِ بِحَيْثُ صلح وَجَاز أَن يقْعد إِلَى سيد الرُّسُل صلى الله عليه وسلم وَلما كَانَ أصل الْجَنَابَة من الْفرج وجد المغتسل السَّبِيل إِلَى أصل الْفرج وَهُوَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي من بَين يَدَيْهِ ظلمَة وَعَن يَمِينه ظلمَة وَعَن شِمَاله ظلمَة وَمن فَوْقه ظلمَة وَمن تَحْتَهُ ظلمَة وَهُوَ متحير فِيهَا فَجَاءَهُ حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمَة وأدخلاه النُّور

قَالَ أَبُو عبد الله رحمه الله قد وعد الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله فِي شَأْن الْحَج حط الآثام عَنهُ فَقَالَ {فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ}

أَي يرجع مغفورا لَهُ قد سقط عَنهُ الآثام فَتلك الظُّلُمَات كَانَت آثام العَبْد فَإِذا قضى حجه وفى الله لَهُ بِمَا وعد

ص: 238

وَأما الْعمرَة فَإِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ الْعمرَة الْحَج الْأَصْغَر

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي يكلم النَّاس وَلَا يكلمونه فَجَاءَتْهُ صلَة الرَّحِم وَقَالَت يَا معاشر الْمُسلمين كَلمُوهُ فكلموه

قَالَ أَبُو عبد الله فالرحم أصل الْمُؤمنِينَ كلهم فَمن تمسك بصلته فقد أرْضى الْمُؤمنِينَ كلهم مَا بَينه وَبَين آدم عليه السلام وَمن تهَيَّأ لَهُ صلَة الرَّحِم تهَيَّأ لَهُ إرضاء الْمُؤمنِينَ كلهم وَمن كَانَ قَاطعا للرحم آيس الْمُؤْمِنُونَ من خَيره وَلذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِن الرَّحْمَة لَا تنزل على قوم فيهم قَاطع رحم

قَالَ وَإِنَّمَا صَار هَكَذَا لِأَن الرَّحْمَة مُنْقَطِعَة عَنهُ وَهُوَ فِي سخط الله وَإِن الله خلق الرَّحِم بِيَدِهِ وشق لَهَا اسْما من اسْمه فَقَالَ أَنا الرَّحْمَن وَأَنت الرَّحِم خلقتك بيَدي وشققت لَك اسْما من اسْمِي

ثمَّ أرسل حَوَاشِي قَمِيص الرَّحْمَة من الْعَرْش ليتعلق الْخلق بهَا فَمن وصل الرَّحِم فقد تعلق بحاشية الْقَمِيص وَمن قطعهَا قصرت يَده عَن حَاشِيَة الْقَمِيص فَانْقَطع عَن رَحْمَة الله وَلم يبْق لَهُ إِلَّا رَحْمَة التَّوْحِيد فَهَذَا الْوَاصِل للرحم كَانَ رجلا قد عمل السَّيِّئَات الْكَثِيرَة وضيع الْحُقُوق وَحسن سيرته فِي هَذِه الْخصْلَة الْوَاحِدَة فَلَمَّا وصل الرَّحِم نَالَتْ يَده حَوَاشِي الْقَمِيص فَتعلق بهَا فنال الرَّحْمَة فَجَاءَتْهُ الصِّلَة فَأخْبرت الْمُؤمنِينَ فِي الْقِيَامَة كَلمُوهُ مَعْنَاهُ أَنه دخل فِي رَحْمَة الله الَّتِي يرحم بهَا الْمُؤمنِينَ وصاروا كلهم لَهُ بعد أَن كَانُوا عَلَيْهِ

ص: 239

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي يَتَّقِي وهج النَّار وشررها بِيَدِهِ عَن وَجهه فَجَاءَتْهُ صدقته فَصَارَت سترا على وَجهه وظلا على رَأسه

قَالَ أَبُو عبد الله رحمه الله فالصدقة إِنَّمَا صَارَت سترا للْمُؤْمِنين من النَّار لِأَنَّهُ إِذا تصدق فَإِنَّمَا يفْدي نَفسه ويفل غَرَامَة جِنَايَته

وَرُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن يحيى بن زَكَرِيَّا عليهما السلام أَمر قومه بِالصَّدَقَةِ فَضرب لَهَا مثلا فَقَالَ كَمثل رجل قتل قَتِيلا ثمَّ هرب فَسَأَلَهُ أولياؤه أَن يجْعَلُوا دِيَة الْقَتِيل عَلَيْهِ نجوما فَفَعَلُوا لوا فأداها نجما نجما ففك رقبته وَصَارَ إِلَى أَهله مطمئنا فَالنَّار إِنَّمَا تطلب وُجُوه الجفاة فِي الْموقف لتلفحها فَإِذا أدّى الْجَانِي غرمه صَار الْأَدَاء سترا على الْوَجْه وظلا على الرَّأْس وَهَكَذَا شَأْن الْفِدْيَة تَأْخُذ بالحذاء وَمن فَوق فتقيك بِنَفسِهَا من كل نَاحيَة

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد أَخَذته الزَّبَانِيَة من كل مَكَان فَجَاءَهُ أمره بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيه عَن الْمُنكر فاستنقذاه من أَيْديهم فأدخلاه مَعَ مَلَائِكَة الرَّحْمَة

قَالَ أَبُو عبد الله رحمه الله فالزبانية شَرط الْمَلَائِكَة وَالشّرط لمن جاهر بِالْمَعَاصِي من أهل الريب يلتمسونهم فِي الطّرق والمسالك ليأخذوهم فَمن استتر بستر الله وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْمُنكر فَهُوَ وَإِن اسْتعْمل أَعمال أهل الريب بعد أَن يكون مَسْتُورا لَا ينتهك فَالشَّرْط فِي الدُّنْيَا مُنْتَهُونَ عَن أَخذه غير ملتمسين أشباه هَؤُلَاءِ لحُرْمَة ذَلِك السّتْر فَكَذَلِك فِي الْآخِرَة إِذا طلبت الزَّبَانِيَة فِي عَرصَة الْقِيَامَة أهل المجاهرة بِالْمَعَاصِي فَوَقع هَذَا المستور فِي أَيْديهم نَفعه ذَلِك النَّهْي

ص: 240

عَن الْمُنكر وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وكل من عمل الْمعاصِي فِي الدُّنْيَا سرا لَا يُجَاهر بِهِ فكائن مِنْهُ أَن ينْهَى عَن الْمُنكر إِذا لقِيه وَإِذا فعل ذَلِك كَانَت مَلَائِكَة الرَّحْمَة أَحَق بِهِ من مَلَائِكَة الْعَذَاب وَمن استحقته مَلَائِكَة الرَّحْمَة من الْموقف فقد نجا

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي جاثيا على رُكْبَتَيْهِ بَينه وَبَين الله حجاب فَجَاءَهُ حسن خلقه فَأخذ بِيَدِهِ فَأدْخلهُ على الله تَعَالَى

قَالَ أَبُو عبد الله رحمه الله ينبئك فِي هَذَا القَوْل أَن العَبْد تحجبه ذنُوبه عَن الله فِي الدُّنْيَا قلبا وَفِي الْموقف غَدا بدنا وَإِن حسن الْخلق منيحة من الله لعَبْدِهِ لِأَن الْأَخْلَاق فِي الخزائن فَإِذا أحب الله عبدا منحه خلقا مِنْهَا ليدر عَلَيْهِ ذَلِك الْخلق كرائم الْأَفْعَال ومحاسن الْأُمُور فَيظْهر ذَلِك على جوارحه فَيَزْدَاد العَبْد بذلك محبَّة توصله إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قلبا وَفِي الْآخِرَة بدنا وَحب الله عَبده يمحق الذُّنُوب محقا ويتركه من آثامه عطلا وَإِذا أحب الله عبدا أهْدى إِلَيْهِ خلقا من أخلاقه وَإِذا رحم الله عبدا أذن لَهُ فِي عمل من أَعمال الْبر فَهَذِهِ ثَمَرَة الرَّحْمَة وَتلك ثَمَرَة الْمحبَّة

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد هوت صَحِيفَته من قبل شِمَاله فَجَاءَهُ خَوفه من الله فَأخذ صَحِيفَته فَجَعلهَا فِي يَمِينه

قَالَ أَبُو عبد الله رحمه الله فأعظم الْأَهْوَال فِي الْقِيَامَة فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن عِنْد تطاير الصُّحُف وَعند الْمِيزَان وَعند الصِّرَاط وَذَلِكَ قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِيمَا رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ لَا يذكر أحد أحدا فِي هَذِه المواطن فَإِذا وَقعت الصَّحِيفَة بِيَمِينِهِ أَمن وَبَانَتْ سعادته قَالَ الله تَعَالَى فِي تَنْزِيله {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا وينقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا}

ص: 241

عَن الْحسن رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ ربكُم تبارك وتعالى لن أجمع على عَبدِي خوفين وَلنْ أجمع أمنين من أخفته فِي الدُّنْيَا أمنته فِي الْآخِرَة

فَمن قاسى خَوفه فِي الدُّنْيَا أوجب لَهُ الْأَمْن يَوْم الْقِيَامَة فَإِذا جَاءَهُ الهول عِنْد تطاير الصُّحُف جَاءَهُ ذَلِك الْخَوْف فنفعه بِأَن جعل صَحِيفَته فِي يَمِينه حَتَّى يَأْمَن

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد خف مِيزَانه فَجَاءَتْهُ إفراطه فثقلوا مِيزَانه

قَالَ أَبُو عبد الله فالأفراط أَوْلَاده الْأَطْفَال الَّذين لم يبلغُوا الْحلم فَإِنَّمَا ثقل مِيزَانه لأَنهم أَطْفَال موحد قدمُوا على رَبهم بِلَا شرك وَلَا ذَنْب فدبر الله خلقهمْ من صلب موحد فبهم صَار من أهل رَحْمَة الله وَإِنَّمَا يثقل الموازين بِالرَّحْمَةِ

وَقَالَ فِي حَدِيث آخر من مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة أَوْلَاد لم يبلغُوا الْحلم أدخلهُ الله الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم

والموازين تثقل بِالْحَسَنَاتِ وَمن أحسن الْحَسَنَات ذُرِّيَّة يُخرجهَا الله من صلب موحد ثمَّ يقبضهم لم يتدنسوا بِمَعْصِيَة

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قَائِما على شَفير جَهَنَّم فَجَاءَهُ وجله من الله فاستنقذه من ذَلِك وَمضى

قَالَ أَبُو عبد الله الوجل هُوَ فِي وَقت انكشاف الغطاء لقلب الْمُؤمن وَهُوَ خشيَة العَبْد وَإِن جَهَنَّم حائلة بَين الْعباد وَبَين الْجنَّة حَتَّى يضْرب

ص: 242

الجسور ويهيأ القناطر فَعندهَا يستبين الصِّرَاط وَهُوَ الطَّرِيق لأَهله فالخلق كلهم على شَفير جَهَنَّم وقُوف هائبون لَهَا فوجل الْعباد يَجْعَل لَهُم السَّبِيل ليقطعوها لِأَن الخشية ثَوَابهَا الْمَغْفِرَة قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ لَهُم مغْفرَة}

وَالْمَغْفِرَة نورها سَاطِع وَهُوَ نور الرأفة فَإِذا جَاءَت الرأفة وَجل العَبْد قلبا وَذَهَبت الْحيرَة وتشجعت النَّفس فمضت

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قد هوى فِي النَّار فَجَاءَتْهُ دُمُوعه الَّتِي بَكَى من خشيَة الله فِي الدُّنْيَا فاستخرجته من النَّار

قَالَ أَبُو عبد الله هَذَا عبد اسْتوْجبَ النَّار بِعَمَلِهِ فَأَدْرَكته رَحْمَة الله ببكائه من الخشية فأنقذته لِأَن دمعة الخشية تُطْفِئ بحورا من النيرَان

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي قَائِما على الصِّرَاط يرعد كَمَا ترْعد السعفة فَجَاءَهُ حسن ظَنّه بِاللَّه فسكن رعدته وَمضى

قَالَ أَبُو عبد الله رحمه الله حسن الظَّن من الْمعرفَة بِاللَّه وَعظم رَجَاء العَبْد وأمله لرَبه من الْمعرفَة فَلم يضيع الله معرفَة العَبْد لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي من عَلَيْهِ بهَا فَلم يرتجع فِي مِنْهُ ووفى لَهُ بِأَن أعطَاهُ حسن الظَّن فِي الدُّنْيَا من تِلْكَ الْمعرفَة الْمَمْنُون بهَا عَلَيْهِ ثمَّ حقق ظَنّه فِي ذَلِك الْموقف أَي كَمَا عَرفتنِي ثمَّ ظَنَنْت من معرفتك أَنِّي أنجيك فلك النجَاة والأمان فسكن رعدته

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي يرجع أَحْيَانًا ويحبو أَحْيَانًا وَيتَعَلَّق أَحْيَانًا فَجَاءَتْهُ صلَاته عَليّ فَأَخَذته فأقامته وَمضى على الصِّرَاط

قَالَ أَبُو عبد الله رحمه الله الصَّلَاة على الرَّسُول من العَبْد بنوة

ص: 243

لِأَبِيهِ يُرِيد أَن يرى أَبَاهُ مقَام الْوَلَد للْأَب وَلذَلِك أَمر الله الْعباد أَن يصلوا عَلَيْهِ فَذَاك حق للرسول يقضونها بِمَنْزِلَة الْأَوْلَاد يقضون حُقُوق آبَائِهِم وَإِذا كَانَ الْوَلَد هَكَذَا فَمن شَأْن الْوَالِد أَن يَأْخُذ بيد الْوَلَد فِي وَقت عثراته فيقيمه فَصَارَت صلوَات الْعباد للرسول صلى الله عليه وسلم بِمَنْزِلَة ذَلِك

وَرَأَيْت رجلا من أمتِي انْتهى إِلَى أَبْوَاب الْجنَّة فغلقت الْأَبْوَاب دونه فَجَاءَتْهُ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ففتحت لَهُ الْأَبْوَاب وأدخلته الْجنَّة

قَالَ أَبُو عبد الله رحمه الله فَهَذِهِ كلمة جعلت مفتاحا لأبواب الْجنَّة وَإِنَّمَا غلقت دون هَذَا العَبْد كَأَنَّهُ جَاءَ بمفتاح لَيْسَ لَهُ أَسْنَان وَقد نجد فِي الدُّنْيَا أَن يجِئ الرجل بمفتاح الْبَاب وَقد ضَاعَ بعض أَسْنَانه فَلَا يزَال يردده ويحركه حَتَّى يَفْتَحهُ وَإِذا لم يكن بِيَدِهِ مِفْتَاح لم يفتح فَهَذَا عبد قد ضيع الْأَسْنَان فأغاثه الله بِمَا جَاءَ بِهِ

وَقد جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الْمُؤمنِينَ يدعونَ من أَبْوَاب الْجنَّة وَأَن أَبْوَابهَا مقسومة على أَعمال الْبر فباب للصَّلَاة وَبَاب للصيام وَبَاب للصدقة وَبَاب لِلْحَجِّ وَبَاب للْجِهَاد وَبَاب للأرحام وَبَاب لمظالم الْعباد وَهُوَ آخرهَا فَهَذِهِ سَبْعَة أَبْوَاب مقسومة على أَعمال الْعباد برا وَكَذَلِكَ أَبْوَاب النيرَان مقسومة على أَعمال أَهلهَا لكل بَاب مِنْهُم جُزْء مقسوم وَبَاب للجنة زَائِد لأهل الشَّهَادَة يُسمى بَاب التَّوْبَة فَأرى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامه هَذِه الرُّؤْيَا ليعلم الْعباد قُوَّة هَذِه الْأَفْعَال الَّتِي ذكرهَا من العبيد أَيَّام الدُّنْيَا مَاذَا لكل نوع من هَذِه الْأَعْمَال من الْقُوَّة هُنَاكَ فِي الْموقف وَفِي أَي موطن وَيُؤَيِّدهُ ليعلم الْعباد أَجنَاس هَذِه الْأَفْعَال ليكْثر مِنْهَا كي إِذا استقبله أهوال الْقِيَامَة وتارات الْموقف نَسْأَلهُ عونها وقوتها

ص: 244

-‌

‌ الأَصْل الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ والمائتان

-

‌فِي وصف مشي الرَّسُول صلى الله عليه وسلم

عَن عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا مَشى تقلع كَأَنَّمَا يمشي فِي صبب

وَعَن هِنْد بن أبي هَالة الْكِنْدِيّ قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يخطو تكفئا إِذا مَشى كَأَنَّمَا يخط من صبب

عَن أنس رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا مَشى كَأَنَّمَا يتَوَكَّأ على شَيْء

قَالَ أَبُو عبد الله فالمشي بِالْقَلْبِ وَمن الْقلب يتَأَدَّى قُوَّة الْمَشْي إِلَى السَّاقَيْن أَلا ترى أَن الْقلب إِذا فزع وارتاع وَقع الْقَائِم وَذَهَبت رِجْلَاهُ والسكران إِذا غَابَ ذهنه وعقله عَن قلبه استرخت رِجْلَاهُ فاختلفتا وَرُبمَا وَقع فَإِذا ثاب إِلَيْهِ عقله وذهنه قوي ذَلِك لتعلم أَن قُوَّة جَمِيع

ص: 245

الْأَركان بِالْقَلْبِ إِذا كَانَ الذِّهْن وَالْعقل مَعَه فَكَانَ قلب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مشحونا بكنوز الْمعرفَة شحن السَّفِينَة إِذا أثقلت حَتَّى غَابَتْ فِي المَاء إِلَى منطقتها وَكَانَت كنوزه على صنفين عَن الْيَمين أسرار الله وَعَن الْيَسَار سمات الله فالرحمة مَعَ الْأَسْرَار وَالْحق مَعَ السمات وَحب الله أَمَامه جؤجؤ السَّفِينَة وشوق الله لَهُ شراع سفينته وفرحه بِهِ ريَاح الأفراح فَكَانَ إِذا مَشى مَالَتْ بِهِ الصنفات فَمرَّة أثقال أسرار الله تميل بِهِ وَمرَّة أثقال سمات الله تميل بِهِ فَإِذا اسْتَقر قَائِما على الْمِنْبَر أَو قَاعِدا فِي مجْلِس اسْتَقَرَّتْ بِهِ أثقال الْحبّ وَإِذا هبت ريَاح الأفراح وهاج الشوق قَامَ إِلَى الصَّلَاة فقرت عينه فَذَلِك قَوْله (حبب إِلَيّ الصَّلَاة وَقيل لي خُذ مِنْهَا مَا شِئْت وَإِن الله جعل قُرَّة عَيْني فِي الصَّلَاة)

فأثقال الْأَسْرَار مطوية عَن الْخلق إِلَّا عَن أهل جذبت الله الَّذين أدرجهم بِمُحَمد صلى الله عليه وسلم وجعلهم قُرَّة عينه فَسَار بهم على طَرِيقه وَجعل سقياهم من مشربه ومرعاهم من ملك الْملك بَين يَدَيْهِ على مائدته تِلْكَ ضِيَافَة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم لقرة عينه فِي عرس الله وَهُوَ بَدْء الربوبية وبدء التَّدْبِير وَتلك حِكْمَة الله وأثقال السمات حَشْو مَا فِي الْأَمْثَال الْعليا والأسماء الْحسنى فَتلك حِكْمَة الْخلق وَالْحق مُوكل بِهَذِهِ وَالرَّحْمَة الْعُظْمَى منهضة بِتِلْكَ فَصَارَ هَذَا الْقلب كسفينة موقرة من كنوز الْمعرفَة مشحونة بِعلم الله محفوفة بآلاء الله تجْرِي فِي بَحر غيب الله وَهُوَ بَحر الذّكر وَهُوَ ذَلِك الْبَحْر الَّذِي من شرب مِنْهُ شربة نسي نَفسه وَلم يلْتَفت إِلَيْهَا إِلَى يَوْم اللِّقَاء وهبوب ريَاح أفراح

ص: 246

الله قد هبت فِي شوق الله إِلَى عَبده وَرفعت السَّفِينَة بِمَا فِيهَا من الْكُنُوز وميلانها مرّة هَكَذَا وَمرَّة هَكَذَا فَالْحق يمْسِكهَا عَن الانقلاب من جَانِبه وَالرَّحْمَة تمسكها عَن الانقلاب من جَانبهَا وَالْعدْل على كوثل السَّفِينَة يَسْتَقِيم بسيرها بمجدافها ومجدافه مَشِيئَة الله تَعَالَى فلولا المجداف لَكَانَ الشراع ورياحها تطير بهَا فَتضْرب بهَا صَخْرَة حَتَّى تنكسر وتغرق أَو تقذف بهَا إِلَى جَزِيرَة يابسة فتلقيها على الأَرْض لوحا لوحا وَلَكِن المجداف الْمُوكل بِهِ على كوثلها يَسْتَقِيم بصدرها وَالْحب غَالب على الْأَشْيَاء الَّتِي فِي قلب الْمُؤمن فلولا الثَّبَات من الله تَعَالَى بِالْمَشِيئَةِ لطار الْحبّ بِهِ كل مطير وَرمى بِهِ فِي وَاد قعير أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إِلَيْهِم شَيْئا قَلِيلا إِذا لأذقناك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات}

فَانْظُر أَي وَعِيد هَذَا فَإِنَّمَا هاج من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذَلِك الْحبّ لله حَتَّى حرصه على دُخُولهمْ فِي الْإِسْلَام فَأَجَابُوهُ إِلَى الدُّخُول فِي الْإِسْلَام على شريطة أَن لَا يركعوا فِي صلَاتهم وَأَن يتركهم حَتَّى يتمتعوا بِاللات سنة فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يكَاد يَحْتَرِق من الْحبّ لله فيحرص على دُخُولهمْ فِي الْإِسْلَام فَلَمَّا جَاءُوا بِهَذِهِ الْكَلِمَة وهم ثَقِيف أهل الطَّائِف وجد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من هَذِه الْكَلِمَة وجدا شَدِيدا واشتعل نَارا ودعا بوضوئه كالمتبرد حَتَّى قَالَ عمر رضي الله عنه أحرقتم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أحرق الله أكبادكم

وَإِنَّمَا احْتَرَقَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أَنهم طمعوا فِيهِ أَن يُجِيبهُمْ إِلَى ذَلِك لما رَأَوْا من رفقه وَعطفه وسروره بمجيئهم بعد أَن كَانَ قد حَاصَرَهُمْ شهرا فهال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم طمعهم فِيهِ وَخَافَ أَن

ص: 247

يكون قد أفرط فِي تَعْظِيم مجيئهم وَأنزل الله تَعَالَى {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَن الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك لتفتري علينا غَيره وَإِذا لاتخذوك خَلِيلًا وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إِلَيْهِم}

فَلم ينْسبهُ إِلَى أَنه هم بالركون أَو مَال إِلَيْهِم بل أعلمهُ أَن الثَّبَات هُوَ الَّذِي عصمه يُعلمهُ أَن حبه هَذَا يهيج حرصه حَتَّى تَجِد النَّفس السَّبِيل إِلَى الْقلب فيشاركه فِي الْمحبَّة لِأَن الْحبّ فِي الْقلب والحرص فِي النَّفس فلولا التثبيت لأفتتن فَأعلمهُ الْمِنَّة عَلَيْهِ بالعصمة وَإِن خطر الْحبّ عَظِيم وَأَنه يسبي الْقلب فَإِذا لم يكن لَهُ ثبات ذهبت قُوَّة الْقلب فطارت بِهِ لغَلَبَة الْفَرح الَّذِي فِي الْحبّ بِمَنْزِلَة السَّفِينَة الَّتِي طارت فصدمت بهَا جبلا فتكسرت قِطْعَة قِطْعَة وتبددت كنوزه فِي بَحر الْغَيْب غرقا فَلَا حق بَقِي وَلَا رَحْمَة

ص: 248

-‌

‌ الأَصْل الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ والمائتان

-

‌فِي أَن الْأَشْرِبَة من خمس

عَن النُّعْمَان بن بشير قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (الْأَشْرِبَة من خمس من الْحِنْطَة وَالشعِير وَالتَّمْر وَالزَّبِيب وَالْعَسَل فَمَا خمر فَهُوَ خمر)

قَالَ أَبُو عبد الله رحمه الله قَوْله (الْأَشْرِبَة من خمس) أَي هَذِه أَشْيَاء ينْبذ عَلَيْهَا المَاء فيستخرج بِالْمَاءِ مَا فِيهِنَّ من الْقُوَّة

قَوْله فَمَا (خمر فَهُوَ خمر) يَعْنِي إِذا تركته نيا على هَيئته الَّتِي خرج فَلم تَأْخُذ قوته بالنَّار فَشَربته خالطت الْقُوَّة الَّتِي فِيهَا قُوَّة الْعَدو الَّتِي أعطي فَإِنَّهُ مُوكل بِمَا أعطي من هَذِه الْأَشْرِبَة فَإِذا تركتهَا بقوتها جَاءَ الْعَدو بِمَا بِيَدِهِ فخلطه بهَا ثمَّ وجد السَّبِيل إِلَى الْمعدة بِنَصِيبِهِ فَإِذا دخل الْجوف خمر الْقلب أَي غطاه وَحَال بَين الْقلب وَالْعقل لِأَن الْعقل فِي الرَّأْس وشعاعه فِي الصَّدْر وَالتَّدْبِير لِلْعَقْلِ مَعَ الْقلب

ص: 249

فِي الصَّدْر لِأَن عين الْفُؤَاد فِي الصَّدْر وشعاع الْعقل يشرق من الصَّدْر فبذلك الْإِشْرَاق يَهْتَدِي الْقلب إِلَى مَا حسن وقبح وَإِنَّمَا نزل الْقُرْآن بِتَحْرِيم الْخمر وَالْخمر اسْم لما خمر الْفُؤَاد أَي يغطيه ويحول بَينه وَبَين شُعَاع الْعقل وكل شراب كَانَت فِيهِ هَذِه الصّفة فقد لزمَه اسْم الْخمر وَلَزِمَه التَّحْرِيم

وَلذَلِك قَالَ عمر رضي الله عنه الْخمر مَا خمر الْعقل أَي غطاه وَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (كل مُسكر خمر وكل خمر حرَام) الْمُسكر هُوَ المفعل للسكر وَالسكر سد الْعقل وَمِنْه يُقَال لسد النَّهر سكر وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {سكرت أبصارنا} أَي سدت

فالماء جَار فِي النَّهر فَإِذا ألقيت فِي بعض طَرِيقه كيسا من التُّرَاب وَغَيره بَقِي المَاء إِلَى حَيْثُ انْتهى فَصَارَ مَا سفل من الْكيس فِي بطن النَّهر خَالِيا فَكَذَلِك الْعقل قراره فِي الدِّمَاغ ثمَّ شعاعه جَار إِلَى الصَّدْر إِلَى عَيْني الْفُؤَاد لتدبير الْأُمُور وتمييز الْحسن والقبيح والضر والنفع فَإِذا شرب هَذَا الشَّرَاب وَلم يكن أَخذ قوته بالطبخ فالعدو مِنْهُ بِنَصِيبِهِ يخلص إِلَى الصَّدْر برجاسته ونجاسته فَإِذا وَقعت هَذِه النَّجَاسَة والظلمة فِي هَذَا الطَّرِيق بَين عَيْني الْفُؤَاد وَالرَّأْس صَار سدا فَيبقى الصَّدْر مظلما وَمَا وَرَاء السد مَا يَلِي الرَّأْس مضيئا مشرقا لَا ينْتَفع بذلك عينا الْفُؤَاد فَيبقى الصَّدْر خَالِيا كَمَا بَقِي النَّهر وَيبقى عينا الْفُؤَاد فِي ظلمَة مَا جَاءَ بِهِ الْعَدو فَسمى ذَلِك فِي النَّهر سكرا بِفَتْح السِّين

ص: 250

وسمى هَذَا سكرا بِضَم السِّين فَمن أجَاز طَلَاق السَّكْرَان وَفرق بَينه وَبَين الْمَعْتُوه وَالْمَجْنُون وَالصَّبِيّ فَلِأَن السكر سد وَالْعقل وَرَاء السد قَائِم وَهُوَ حجَّة الله تَعَالَى على العَبْد لوُجُوب الْأَحْكَام عَلَيْهِ وَالصَّبِيّ لم يُعْط عقل الْحجَّة وَهُوَ تَمام العقد الَّذِي بِهِ يقوم حجَّة الله وعلامته أَنه إِذا تمّ فحرارة ذَلِك النُّور تُؤدِّي إِلَى الصلب فَيخرج مِنْهُ المَاء الَّذِي يُوجب الْغسْل إِمَّا بحلم أَو بجماع فَلذَلِك صيروا الْحلم عَلامَة الْإِدْرَاك وَجرى الحكم عَلَيْهِ لِأَن الْعقل قد تمّ وَقبل ذَلِك كَانَ صَغِيرا لَا يحْتَمل دماغه ذَلِك الْعقل وَأما العتاهة فَهُوَ التحير وَهُوَ أَن يهيج من الْمرة مَا يتَأَدَّى إِلَى الدِّمَاغ فَيفْسد الْعقل ويخالطه فَلَيْسَ هُنَاكَ عقل يقدر أَن يعْمل شَيْئا لِأَنَّهُ قد خالطه وَكَذَلِكَ الْجُنُون هُوَ من الْمرة فَكل مَا ستر الْعقل من دَاء فَذَاك يخالط الْعقل ويفده وَمَا كَانَ من شراب فَإِن ذَاك سد ظلمَة من رجاسة الْعَدو وَالْعقل من وَرَائه على هَيئته لم يخالطه شَيْء إِلَّا أَنه مُتَمَكن لانسداد الطَّرِيق وَقد يكون هَذَا السد سدا رَقِيقا وسدا كثيفا فَرُبمَا عمل بعض عقله من خلال ذَلِك السد أَلا ترى أَنه يعقل شَيْئا وَلَا يعقل شَيْئا لِأَن الْعقل بمكانه لم يخالطه شَيْء وَفِي حَال الْجُنُون خالط الْعقل ذَلِك الدَّاء لِأَنَّهُ خلص إِلَى الدِّمَاغ وَأما الصَّبِي فَإِنَّهُ لم يُعْط تَمامًا وَهُوَ يُزَاد قَلِيلا قَلِيلا باللطف حَتَّى يبلغ من السن مَا يحْتَمل ذَلِك وجد الْعقل مَكَانا يَنْفَسِخ فَالَّذِي فرق بَين طَلَاق السَّكْرَان وَطَلَاق الْمَعْتُوه وَالْمَجْنُون وَالصَّبِيّ إِنَّمَا فرق لهَذَا وَأما اللَّذين لم يجيزوا طَلَاقه فَإِنَّمَا نظرُوا إِلَى افتقاد الْقلب الْعقل فَإِذا افتقده لم يلزموه شَيْئا من الْأَحْكَام لِأَنَّهُ إِنَّمَا تقوم الْحجَّة بِالْعقلِ

ص: 251

-‌

‌ الأَصْل الثَّالِث وَالْخَمْسُونَ والمائتان

-

‌فِي أَن الْقُرْآن مثله كجراب فِيهِ مسك

عَن عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه قَالَ بعث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وَأمر عَلَيْهِم أَمِيرا مِنْهُم هُوَ أَصْغَرهم فَلم يَسِيرُوا فلقي النَّبِي صلى الله عليه وسلم رجلا مِنْهُم فَقَالَ يَا فلَان مَا لَك أما انطلقتم قَالَ يَا رَسُول الله أميرنا يشتكي رجله فَأَتَاهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَو بعث إِلَيْهِ فَقَالَ (بِسم الله وَبِاللَّهِ وَأَعُوذ بعزة الله وبقدرته من شَرّ مَا فِيهَا) سبع مَرَّات فَبَدَأَ الرجل فَقَالُوا لَهُ يَا رَسُول الله أتؤمره علينا وَهُوَ أصغرنا فَذكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم قِرَاءَته لِلْقُرْآنِ فَقَالَ يَا رَسُول الله لَوْلَا أَنِّي أَخَاف أَن لَا أقوم بِهِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الْقُرْآن مثله كجراب فِيهِ مسك قد ربط فِيهِ فَإِن فَتحته فاح ريح الْمسك وَإِن تركته كَانَ مسكا مَوْضُوعا مثل الْقُرْآن إِن قرأته وَإِلَّا فَهُوَ فِي صدرك

ص: 252

عَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه يبلغ بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم (قَالَ لَا تغرنكم هَذِه الْمَصَاحِف الْمُعَلقَة إِن الله تَعَالَى لَا يعذب قلبا وعى الْقُرْآن)

عَن عقبَة بن عَامر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (لَو كَانَ الْقُرْآن فِي إهَاب مَا مَسّه النَّار)

قَالَ أَبُو عبد الله من حُرْمَة الْقُرْآن أَن لَا تمسه إِلَّا طَاهِرا وَأَن تَقْرَأهُ وَأَنت على طَهَارَة وَأَن تستاك وَأَن تتخلل وتطيب فَإِن هَذَا طَرِيقه وَأَن تستوي قَاعِدا إِن كنت فِي غير صَلَاة وَلَا تكون مُتكئا وَأَن تتلبس لَهُ كَمَا تتلبس للدخول على الْأَمِير لِأَنَّك مناج وَأَن تسْتَقْبل الْقبْلَة بقرَاءَته كَانَ أَبُو الْعَالِيَة إِذا قَرَأَ اعتم وَلبس وارتدى واستقبل الْقبْلَة وَأَن تتمضمض كلما تنخع

عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَنه كَانَ يكون بَين يَدَيْهِ ثَوْر إِذا تنخع تمضمض وَأخذ فِي الذّكر وَأَن يمسك عَن الْقِرَاءَة إِذا تثاوب فَإِن التثاؤب من الشَّيْطَان وَأَن يستعيذ بِاللَّه وَيبدأ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَإِذا أَخذ فِي سُورَة لم يشْتَغل بِشَيْء حَتَّى يفرغ مِنْهَا إِلَّا من ضَرُورَة وَإِذا أَخذ فِي الْقِرَاءَة لم يقطعهَا سَاعَة بساعة بِشَيْء من كَلَام الْآدَمِيّين من غير ضَرُورَة وَأَن يَخْلُو بقرَاءَته حَتَّى لَا يقطع عَلَيْهِ أحد بِكَلَامِهِ فيخلطه بجوابه لِأَنَّهُ إِذا فعل ذَلِك زَالَ عَنهُ سُلْطَان الِاسْتِعَاذَة فِي البدء وَأَن يقرأه على تؤدة وَترسل وترتيل وَأَن يشْتَغل بِهِ ذهنه وفهمه حَتَّى يعقل مَا بِهِ يُخَاطب وَأَن يقف على آيَة الْوَعْد فيرتغب إِلَى الله تَعَالَى ويسأله من فَضله وَأَن يقف على آيَة الْوَعيد فيستجير

ص: 253

بِاللَّه مِنْهُ وَأَن يقف على أَمْثَاله فيمتثلها وَأَن يلْتَمس أعرابه وَأَن يُؤَدِّي لكل حرف حَقه من الْأَدَاء حَتَّى يبرز الْكَلَام باللطف تَمامًا فَإِن لكل حرف عشر حَسَنَات وَإِذا انْتَهَت قِرَاءَته أَن يصدق ربه وَيشْهد بالبلاغ للرسل صلوَات الله عَلَيْهِم وَيشْهد على ذَلِك أَنه حق فَيَقُول صدقت رَبنَا وَبَلغت رسلك وَنحن على ذَلِك من الشَّاهِدين اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا من شُهَدَاء الْحق القائمين بِالْقِسْطِ ثمَّ يَدْعُو بدعواته وَأَن لَا يلتقط الْآي من كل سُورَة فيقرأها فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه مر ببلال وَهُوَ يقْرَأ من كل سُورَة شَيْئا فَأمره أَن يقْرَأ السُّور كلهَا أَو كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم

وَمن حرمته إِذا وضع الصَّحِيفَة أَن لَا يتْركهُ منشورا وَأَن لَا يضع فَوْقه شَيْئا من الْكتب حَتَّى يكون أبدا عَالِيا على سَائِر الْكتب وَأَن يَضَعهُ فِي حجره إِذا قَرَأَهُ أَو على شَيْء بَين يَدَيْهِ وَلَا يَضَعهُ بِالْأَرْضِ وَأَن لَا يمحوه من اللَّوْح بالبزاق وَلَكِن يغسلهُ بِالْمَاءِ وَإِذا غسله بِالْمَاءِ أَن يتوقى النَّجَاسَات من الْمَوَاضِع والمواضع الَّتِي تُوطأ فَإِن لتِلْك الغسالة حُرْمَة وَأَن من كَانَ قبلنَا من السّلف مِنْهُم من يستشفي بغسالته وَأَن لَا يتَّخذ الصَّحِيفَة إِذا بليت ودرست وقاية للكتب فَإِن ذَلِك جفَاء عَظِيم وَلَكِن يمحوها بِالْمَاءِ وَأَن لَا يخلي يَوْمًا من أَيَّامه من النّظر فِي الْمُصحف مرّة كَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يَقُول إِنِّي لأَسْتَحي أَن لَا أنظر كل يَوْم فِي عهد رَبِّي مرّة وَأَن يُعْطي عينه حظها مِنْهُ فَإِذا الْعين تُؤدِّي إِلَى النَّفس وَبَين النَّفس والصدر حجاب وَالْقُرْآن فِي الصَّدْر فَإِذا قَرَأَهُ عَن ظهر قلب فَإِنَّمَا يسمع أُذُنه فَيُؤَدِّي إِلَى النَّفس وَإِذا نظر فِي الْحَظ كَانَت الْعين وَالْأُذن قد اشْتَركَا فِي الْأَدَاء وَذَلِكَ أوفر للْأَدَاء وَكَانَ قد أخذت الْعين بحظها كالأذن

عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (أعْطوا أعينكُم حظها من الْعِبَادَة) قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا

ص: 254

حظها من الْعِبَادَة قَالَ (النّظر فِي الْمُصحف والتفكر فِيهِ وَالِاعْتِبَار عِنْد عجائبه)

عَن عبَادَة بن الصَّامِت رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (أفضل عبَادَة أمتِي قِرَاءَة الْقُرْآن)

وَمن حرمته أَن لَا يتأوله عِنْدَمَا يعرض لَهُ من أَمر الدُّنْيَا والتأول مثل قَوْلك للرجل إِذا جَاءَك {جِئْت على قدر يَا مُوسَى} وَمثل قَوْلك {كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أسلفتم فِي الْأَيَّام الخالية} عِنْد حُضُور الطَّعَام وَأَشْبَاه هَذَا وَمن حرمته أَن لَا يُقَال سُورَة كَذَا كَقَوْلِك سُورَة الْبَقَرَة وَسورَة النِّسَاء وَسورَة النَّحْل وَلَكِن يُقَال السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا كَذَا وَمن حرمته أَن لَا يُتْلَى منكوسا كَفعل معلمي الصّبيان يلْتَمس أحدهم بذلك أَن يرى الحذق من نَفسه والمهارة فَإِن تِلْكَ مجانة مِنْهُم وَمن حرمته أَن لَا يقرأه بألحان الْغناء كلحون أهل الْعِشْق وَلَا بترجيع النَّصَارَى وَلَا نوح الرهبانية فَإِن ذَلِك كُله زيغ

عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (اقرأوا الْقُرْآن بِلُحُونِ الْعَرَب وَأَصْوَاتهَا وَإِيَّاكُم وَلُحُون أهل الْعِشْق وَأهل الْكِتَابَيْنِ فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ قوم من بعدِي يرجعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيع الْغناء والرهبانية وَالنوح لَا يُجَاوز حَنَاجِرهمْ)

وَمن حرمته أَن تجلل تخطيطه إِذا خططته عَن أبي حليمة أَنه كَانَ

ص: 255

يكْتب الْمَصَاحِف بِالْكُوفَةِ فَمر عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه فَنظر إِلَى كِتَابه فَقَالَ لَهُ أجلل قلمك فَأخذت الْقَلَم فقططت من طرفه قطا ثمَّ كتبت وَعلي رضي الله عنه قَائِم ينظر إِلَى كتابتي فَقَالَ هَكَذَا نوره كَمَا نوره الله تَعَالَى

وَمن حرمته أَن لَا يجْهر بعض على بعض فِي الْقِرَاءَة فَيفْسد عَلَيْهِ حَتَّى يبغض إِلَيْهِ مَا يسمع وَيكون كَهَيئَةِ المغالبة وَمن حرمته أَن لَا يُمَارِي وَلَا يُجَادِل فِيهِ من الْقِرَاءَة وَلَا يَقُول لصَاحبه لَيْسَ كَذَا فَلَعَلَّ تِلْكَ الْقِرَاءَة صَحِيحَة بَين الْقُرَّاء فَيكون قد جحد كتاب الله تَعَالَى وَمن حرمته أَن لَا يقرأه فِي الْأَسْوَاق وَلَا فِي مَوَاطِن اللَّغط واللغو وَمجمع السُّفَهَاء قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما} هَذَا إِذا مر بِنَفسِهِ فَكيف إِذا مر بِالْقُرْآنِ الْكَرِيم

وَمن حرمته أَن لَا يتوسد الْمُصحف وَلَا يعْتَمد عَلَيْهِ وَلَا يَرْمِي بِهِ إِلَى صَاحبه إِذا أَرَادَ أَن يناوله وَمن حرمته أَن لَا يصغر الْمُصحف

عَن عَليّ رضي الله عنه قَالَ لَا تصغر الْمُصحف

وَمن حرمته أَن لَا يخلط بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَمن حرمته أَن لَا يحلى بِالذَّهَب وَلَا يكْتب بِالذَّهَب فيخلط بِهِ زِينَة الدُّنْيَا

عَن أبي عوَانَة عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم أَنه كَانَ يكره أَن يحلى الْمُصحف أَو يكْتب بِالذَّهَب أَو يعلم عِنْد رُؤُوس الْآي أَو يصغر

عَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (إِذا زخرفتم مَسَاجِدكُمْ وحليتم مصافحكم فالدمار عَلَيْكُم)

ص: 256

عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنها أَنه رأى مُصحفا قد زين بِفِضَّة قَالَ تغرون بِهِ السَّارِق وزينته فِي جَوْفه

وَمن حرمته أَن لَا يكْتب على الأَرْض وَلَا على حَائِط كَمَا يفعل بِهِ فِي الْمَسَاجِد المحدثة

عَن عمر بن عبد الْعَزِيز رحمه الله قَالَ مر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِكِتَاب فِي أَرض فَقَالَ لشاب من هُذَيْل مَا هَذَا قَالَ من كتاب الله كتبه يَهُودِيّ قَالَ لعن الله من فعل هَذَا لَا تضعوا كتاب الله إِلَّا فِي موَاضعه

وَرَأى عمر بن عبد الْعَزِيز ابْنا لَهُ يكْتب الْقُرْآن على حَائِط فَضَربهُ وَمن حرمته أَنه إِذا اغْتسل بكتابه مستشفيا من سقم أَن لَا يصبهُ على كناسَة أَو فِي مَوضِع نَجَاسَة وَلَا على مَوضِع يُوطأ وَلَكِن نَاحيَة من الأَرْض فِي بقْعَة لَا يَطَأهَا النَّاس أَو يحْفر حُفْرَة فِي مَوضِع طَاهِر حَتَّى ينصب من جسده فِي تِلْكَ الحفير ثمَّ يكبسها أَو فِي نهر يخْتَلط بمائه فَيجْرِي

وَمن حرمته أَن يفتتحه كلما خَتمه حَتَّى لَا يكون كَهَيئَةِ المهجور وَلذَلِك كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا ختم يقْرَأ من أول الْقُرْآن قدر خمس آيَات لِئَلَّا يكون فِي هَيْئَة المهجور

وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ جَاءَ رجل فَقَالَ يَا رَسُول الله أَي الْعَمَل أفضل فَقَالَ عَلَيْك بِالْحَال المرتحل قَالَ وَمَا الْحَال المرتحل قَالَ صَاحب الْقُرْآن يضْرب فِي أَوله حَتَّى يبلغ آخِره ثمَّ يضْرب فِي أَوله كلما حل ارتحل

وَمن حرمته أَن لَا يكْتب المعاذ مِنْهُ تدْخلهَا الْخَلَاء إِلَّا أَن يكون فِي غلاف من آدم أَو فضَّة أَو غَيرهمَا فَيكون كَأَنَّهَا فِي صدرك

ص: 257

وَمن حرمته إِذا كتبه وشربه سمى الله على كل نفس وَعظم النِّيَّة فِيهِ فَإِن الله يؤتيه على قدر نِيَّته

عَن مُحَمَّد بن مَرْوَان عَن أبي جَعْفَر قَالَ من وجد فِي قلبه سوءة فليكتب يس فِي جَام بزعفران ثمَّ يشربه

عَن مُجَاهِد قَالَ لَا بَأْس أَن يكْتب الْقُرْآن ثمَّ يغسلهُ ويسقى الْمَرِيض

عَن هِلَال بن الصَّلْت أَن أَبَا بكر الصّديق رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سُورَة يس تدعى فِي التَّوْرَاة المعمة قيل وَمَا المعمة قَالَ تعم صَاحبهَا خير الدُّنْيَا وتكابد عَنهُ بلوى الدُّنْيَا وتدفع عَنهُ أهاويل الْآخِرَة وتدعى المدافعة القاضية تدفع عَن صَاحبهَا كل شَيْء وتقضي لَهُ كل حَاجَة وَمن قَرَأَهَا عدلت لَهُ عشْرين حجَّة وَمن سَمعهَا عدلت لَهُ ألف دِينَار فِي سَبِيل الله وَمن كتبهَا ثمَّ شربهَا أدخلت جَوْفه ألف دَوَاء وَألف نور وَألف يَقِين وَألف بركَة وَألف رَحْمَة وَنزع من كل غل وداء

عَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لكل شَيْء قلب وقلب الْقُرْآن يس وَمن قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآن عشر مَرَّات

فالقلب أَمِير على الْجَسَد وَكَذَلِكَ يس أَمِير على سَائِر السُّور مُشْتَمل على جَمِيع الْقُرْآن

ص: 258

عَن أبي سعيد رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الله تَعَالَى من شغله ذكري وَقِرَاءَة الْقُرْآن عَن مَسْأَلَتي أَعْطيته أفضل مَا أعطي السَّائِلين وَفضل كَلَام الله تَعَالَى على سَائِر الْكَلَام كفضل الله تَعَالَى على خلقه

فَهَذَا فضل لَا يحاط بكنهه إِذْ كَانَ لَا يحاط بِفضل الله على جَمِيع خلقه وَإِنَّمَا صَار هَكَذَا لِأَنَّهُ كَلَامه مِنْهُ خرج

عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ أدْركْت سبعين رجلا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ الله الْخَالِق وَمَا سواهُ الْمَخْلُوق غير الْكَلَام فَإِنَّهُ مِنْهُ خرج وَإِلَيْهِ يعود

عَن طَاوُوس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا رد الْعباد إِلَى الله شَيْئا أحب إِلَيْهِ من كَلَامه

عَن سُفْيَان الثَّوْريّ رضي الله عنه يَقُول سَمِعت أَن قِرَاءَة الْقُرْآن أفضل من الذّكر وجاد مَا غاص قَائِل هَذَا القَوْل لِأَن الذّكر هُوَ شَيْء يبتدعه العَبْد من تِلْقَاء قلبه من علمه بربه وَالْقُرْآن قد تكلم بِهِ الرب فَإِذا تلاه العَبْد فَإِنَّمَا يتَكَلَّم بِشَيْء قد كَانَ عِنْد الرب وَلم يخلق وَلَا يتدنس فَهُوَ على طراءته وطيبه وَأَيْضًا لَيْسَ تأليف العَبْد كتأليف الله تَعَالَى قَالَ تَعَالَى {لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ وَلَو كَانَ بَعضهم لبَعض ظهيرا}

أَلا ترى إِلَى قَول الْوَلِيد بن الْمُغيرَة حَيْثُ اسْتمع إِلَى الْقُرْآن وتحير فِيهِ فَقَالَ قد عرضته على رجز الشّعْر وهزجه وقريضه فَلم يُشبههُ

ص: 259

وَلَيْسَ بِسحر وَلَا كهَانَة وَإِن عَلَيْهِ لطلاوة وَإِن لَهُ لحلاوة وَإِن أَسْفَله لمغدق وَإِن أَعْلَاهُ لمثمر

عَن مُحَمَّد بن عَليّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْقُرْآن أفضل من كل شَيْء دون الله تَعَالَى وَفضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام كفضل الله على خلقه فَمن وقر الْقُرْآن فقد وقر الله وَمن لم يوقر الْقُرْآن لم يوقر الله وَحُرْمَة الْقُرْآن عِنْد الله تَعَالَى كَحُرْمَةِ الْوَالِد على وَلَده الْقُرْآن شَافِع مُشَفع وَمَا حل مُصدق فَمن شفع لَهُ الْقُرْآن شفع وَمن مَحل بِهِ الْقُرْآن صدق وَمن جعله أَمَامه قَادَهُ إِلَى الْجنَّة وَمن جعله خَلفه سَاقه إِلَى النَّار حَملَة الْقُرْآن هم المحفوفون برحمة الله الملبسون نور الله المعلمون كَلَام الله وَمن والاهم فقد والى الله وَمن عاداهم فقد عادى الله يَقُول الله تبَارك اسْمه يَا حَملَة الْقُرْآن اسْتجِيبُوا لربكم بتوقير كِتَابه يزدكم حبا ويحببكم إِلَى عباده يرفع عَن مستمع الْقُرْآن بلوى الدُّنْيَا وَيدْفَع عَن تالي الْقُرْآن شَرّ الْآخِرَة وَمن اسْتمع آيَة من كتاب الله كَانَ لَهُ خيرا من صَبر ذَهَبا وَمن قَرَأَ آيَة من كتاب الله كَانَ أفضل مِمَّا تَحت الْعَرْش إِلَى التخوم وَإِن فِي كتاب الله لسورة تدعى العزيزة يدعى صَاحبهَا الشريف يَوْم الْقِيَامَة تشفع لصَاحِبهَا أَكثر من ربيعَة وَمُضر وَهِي سُورَة يس

ص: 260

-‌

‌ الأَصْل الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ والمائتان

-

‌فِي سر كلمة التَّقْوَى

عَن الطُّفَيْل بن أبي بن كَعْب عَن أَبِيه سمع رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول وألزمهم كلمة التَّقْوَى لَا إِلَه إِلَّا الله

قَالَ أَبُو عبد الله إِنَّمَا سميت كلمة التَّقْوَى لِأَن العَبْد إِذا نطق بهَا إِنَّمَا ينْطق عَن نور التَّوْحِيد الَّذِي فِي قلبه فَإِذا انْتهى إِلَى الصِّرَاط صَار ذَلِك النُّور لَهُ وقاية من النَّار وَذَلِكَ النُّور برد يخمد لَهب النَّار لِأَن ذَلِك النُّور نور الرَّحْمَة وَتلك الرَّحْمَة هِيَ حَظّ الْمُؤمن من ربه فَإِذا نَالَ العَبْد تِلْكَ الرَّحْمَة أشرق الْقلب بِنور التَّوْحِيد وأضاء الصَّدْر من ذَلِك الْإِشْرَاق ونطق اللِّسَان عَن نور وضوء فَإِذا انْتهى إِلَى الصِّرَاط صَار ذَلِك النُّور والضوء وقاية فالنور يخمد مَا تَحت قَدَمَيْهِ والضوء يضيء لَهُ أَمَامه وينفرج لَهُ الطَّرِيق عَن تِلْكَ الظلمَة الَّتِي على الصِّرَاط

ص: 261

من سَواد النَّار فَلذَلِك قيل كلمة التَّقْوَى لِأَنَّهُ بهَا يَتَّقِي من النَّار فكلمة لَا إِلَه إِلَّا الله أَولهَا نفي الشّرك وَآخِرهَا تعلق بِاللَّه فَلَا يقدر العَبْد أَن يتَعَلَّق بِاللَّه حَتَّى يلْزمه الله وَإِنَّمَا يلْزمه الله بَعْدَمَا يَجْعَل لَهُ إِلَيْهِ سَبِيلا فَإِذا رحم عبدا فتح لَهُ من قلبه الطَّرِيق إِلَيْهِ حَتَّى إِذا صَار الْقلب مَحل التَّوْحِيد فهناك يلْزمه الله نور الْكَلِمَة فيصدر الْقلب عَن الله بتوحيده إِلَى النَّفس حَتَّى تطمئِن النَّفس وتسكن إِلَى ذَلِك وتستقر عَن التَّرَدُّد والجولان فِي طلب معبود سواهُ فيستقر الْقلب وَالنَّفس جَمِيعًا للعبودة لَهُ لما يَأْمر وَينْهى فَصَارَ تعلقهَا جَمِيعًا بِهِ فِي العبودة وَهُوَ قَوْله {فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا}

فَهَذِهِ عقدَة الْقلب وطمأنينة النَّفس ثمَّ بعد ذَلِك تمْضِي النَّفس فِي شهواتها حلا وحراما وَهِي مَعَ ذَلِك بِاللَّه مطمئنة أَنه معبوده على إِضْمَار أَنَّهَا تقضي شهواتها وتعود إِلَى مَكَانهَا ثَانِيَة وَأما الْقلب فَهُوَ مُنكر لذَلِك مستمسك بعروته مقهور فِي سُلْطَان النَّفس حَتَّى إِذا أقبل الله على العَبْد بِالرَّحْمَةِ وَأَعْطَاهُ سُلْطَان التَّوْبَة خمدت نَار الشَّهْوَة وَخرج الْقلب من آثَار النَّفس فالعروة الوثقى هِيَ ذَلِك النُّور الَّذِي ألزم الله قلب العَبْد فَاسْتَمْسك بِهِ وَقَوي لَا انفصام لَهَا فَإِذا انْتهى إِلَى الصِّرَاط صَار ذَلِك النُّور وقاية لَهُ من تَحت قدمه وَصَارَ الضَّوْء أَمَامه يطْرق لَهُ فِي الظلمَة حَتَّى يجوزها

وَقد قُلْنَا بدءا أَن كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله أَولهَا نفي الشّرك وَآخِرهَا تعلق بِاللَّه وَإِنَّمَا يتَعَلَّق بِاللَّه إِذا اسْتكْمل التَّقْوَى وَذَلِكَ أَن الشّرك على ضَرْبَيْنِ شرك عبودة وشرك الْأَسْبَاب وَكِلَاهُمَا علاقَة وَهُوَ مُشْتَقّ من الشّرك الَّذِي ينصب فَيتَعَلَّق بِهِ الصَّيْد فَإِنَّمَا ينصب الشّرك ويلقى هُنَاكَ حبوب ينخدع الطَّائِر لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا حَتَّى يَقع فِيهِ فَيتَعَلَّق وَكَذَلِكَ

ص: 262

السّمك إِنَّمَا يَقع فِي حبالته لشَهْوَة بَطْنه وَكَذَلِكَ الْآدَمِيّ إِنَّمَا يَقع فِي حبالة الْعَدو حَتَّى يتَوَلَّى دون الله إِلَهًا ويتخذه معبودا لشَهْوَة نَفسه يَشْتَهِي أَن يعاين معبوده فيلتذ بِالْعبَادَة فَطلب معبوده فَلَمَّا لم يجده مده الْعَدو إِلَى شَيْء وَصَوت لَهُ من جَوْفه وزينه لَهُ فالتذ بِصَوْتِهِ فعبده فَهُوَ يعبد الشَّيْطَان وَلَا يدْرِي بِحَيْثُ أَنه يعبد ذَلِك الوثن وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى لَهُم يَوْم الْقِيَامَة ألم أَعهد إِلَيْكُم يَا بني آدم أَلا تعبدوا الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين وَقَالَ واستنفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك واجلب

قَالَ لَهُ قَائِل مَا ذَلِك الصَّوْت قَالَ ذَلِك صَوت أعْطى الْعَدو ليفتن بِهِ الْآدَمِيّين أَي يهيج الحرقة الَّتِي فِي جَوف الْآدَمِيّ قَالَ الْقَائِل وَمَا تِلْكَ الحرقة قَالَ تِلْكَ حرقة الْفَرح الَّذِي خلق من النَّار فَوضع بِبَاب النَّار وحفت النَّار بِهِ وَهُوَ الشَّهَوَات فَمن سَمعهَا من المخذولين فقد سباه وَمن سَمعهَا من الْمُوَحِّدين لم يقدر أَن يسبيه لِأَن الله تَعَالَى من عَلَيْهِ بِالرشد وَمن من عَلَيْهِ بِالرشد فقد كره إِلَيْهِ الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون فضلا من الله ونعمة وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد آتَيْنَا إِبْرَاهِيم رشده من قبل}

فَمن أُوتِيَ الرشد لم يتلذذ بذلك الصَّوْت وَمن وجد قلبه خَالِيا عَن ذَلِك سباه أَلا ترى أَن الْمُوَحِّدين لما سمعُوا صَوته فِي المزامير وَالْمَعَازِف افتتنوا بِهِ وَلَوْلَا أَنه يمازج بِصَوْتِهِ ذَلِك الصَّوْت من المعازف مَا التذوا بِهِ وَقد كره الله الْكفْر إِلَى الْمُؤمن وَلم يكن إِلَيْهِ المعازف وَأمره بالمجاهدة فَإِذا جَاهد فتح لَهُ فِي الْغَيْب فنال من الْأَنْوَار مَا لَا تَجِد لَهُ هَذِه المعازف إِلَيْهِ سَبِيلا لِأَن الَّذِي فِي جَوْفه من الشَّهْوَة

ص: 263

قد مَاتَ فَلم يجد الْعَدو إِلَيْهِ سَبِيلا وَقبل ذَلِك إِنَّمَا كَانَ يلتذ بِصَوْت المعازف الممازج لصوت الْعَدو والمهيج لما فِي جَوْفه فَلَمَّا وَقع فِي منَازِل الْقرْبَة مَاتَت شَهْوَته وخشع قلبه من جلال الله تَعَالَى لم يجد الْعَدو إِلَيْهِ سَبِيلا فَصَارَت لَذَّة قلبه فِي حبه فدقت حلاوة جَمِيع الْأَشْيَاء عِنْده وَصَارَت جَمِيع الْأَشْيَاء مرفوضة

وَإِنَّمَا يتَعَلَّق الْقلب بِاللَّه إِذا نجا من تعلقه بالشهوات والمشيآت والإرادات فَهَذِهِ كلهَا شرك الْأَسْبَاب فَإِذا تخلص من هَذَا الشّرك لم يبْق لَهُ مُتَعَلق الْقلب بِاللَّه فَعندهَا صدق الله فِي مقَالَته لَا إِلَه إِلَّا الله وَتلك الْمقَالة تملأ الكفة من الْمِيزَان حَتَّى تستميل بالسموات وَالْأَرْض وَمن فيهمَا من الْخلق

عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ مُوسَى عليه السلام رب عَلمنِي شَيْئا أذكرك بِهِ وأدعوك بِهِ قَالَ قل يَا مُوسَى لَا إِلَه إِلَّا الله قَالَ كل عِبَادك يَقُول هَكَذَا قَالَ قل لَا إِلَه إِلَّا الله قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله إِنَّمَا أُرِيد شَيْئا تخصني بِهِ قَالَ يَا مُوسَى لَو أَن السَّمَوَات السَّبع وعمارهن وَالْأَرضين السَّبع فِي كفة وَلَا إِلَه إِلَّا الله فِي كفة لمالت بِهن لَا إِلَه إِلَّا الله

ص: 264

-‌

‌ الأَصْل الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ والمائتان

-

‌فِي آيَة الْكُرْسِيّ وَمَا يحرس بِهِ

عَن أبي بن كَعْب رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا أَبَا الْمُنْذر أَيَّة آيَة مَعَك من كتاب الله أعظم قلت {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم} قَالَ فَضرب فِي صَدْرِي فَقَالَ لِيهن لَك الْعلم أَبَا الْمُنْذر فوالذي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ إِن لهَذِهِ الْآيَة للسانا وشفتين تقدس الْملك عِنْد سَاق الْعَرْش

أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَجعل ثَوَابهَا لِقَارِئِهَا عَاجلا وآجلا أما فِي العاجل فَهِيَ تحرس من قَرَأَهَا من الْآفَات فَإِن الله تَعَالَى خلق آدم فَأحْسن خلقه وَقَالَ فِي تَنْزِيله {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم} فَمن ذَا يقدر على صفة حسن تَقْدِيره وَقَالَ {الَّذِي خلقك فسواك فعدلك فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك}

ص: 265

فَأخْرج تقويمه وتسويته وتعديله من بَاب الرَّحْمَة وَأخرج تركيب الصُّورَة من بَاب الْمَشِيئَة ثمَّ فَضله بِالروحِ وقرنه بِالنَّفسِ وَجعل فيهمَا الْحَيَاة للحراك للعبودة ثمَّ جعل تِلْكَ الْبضْعَة الجوفاء خزانته وَهِي الْقلب وَجعل لَهَا عينين تبصران الْغَيْب وأذنين يستمعان وحيه وَكَلَامه وَجعل لَهَا بَابا إِلَى الصَّدْر للسراج المتوقد شعاعه فِي الصَّدْر وَجعل تِلْكَ الْبضْعَة معدنا لجواهر التَّوْحِيد من الحكم الْبَالِغَة والعلوم الْعَالِيَة ثمَّ خلق الْآفَات فِي ذَلِك الْيَوْم الَّذِي خلقه وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة ليقابل كل شَيْء من صنعه الْجَمِيل فِي آدم وَولده فِي الظَّاهِر مِنْهُ وَالْبَاطِن آفَة ذَلِك الشَّيْء ليَكُون الْآدَمِيّ حامدا لَهُ شاكرا يرتبط الصنع الْجَمِيل بِالْحَمْد وَالشُّكْر ويحذر من الآفة

وَلما صَار للْعَبد هفوات وغفلات من نزغات الْعَدو ونفثاته ونفخاته من أجل الشَّهْوَة المركبة فِيهِ والهوا الهفافة فِيهَا لَا هبوب تِلْكَ الشَّهَوَات وهما سلَاح الْعَدو وسبيله إِلَى الْآدَمِيّ جعل كلمة الله الْعليا وَهِي كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله وَهِي كلمة التَّقْوَى تقيه آفَات الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَإِنَّمَا تدخل الْآفَات من التَّقْصِير فِي الشُّكْر قَالَ تَعَالَى {ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم}

وَجَاء فِي الْخَبَر عَن الله تَعَالَى من قَوْله لبني إِسْرَائِيل إِنِّي أبتدئ عبَادي بنعمتي فَإِن قبلوا أتممت وَإِن شكروا زِدْت وَإِن غيروا نقلت وَإِن بدلُوا غضِبت

قَالَ نوف الْبكالِي آيَة الْكُرْسِيّ تدعى فِي التَّوْرَاة ولية الله وتدعى قَارِئهَا فِي ملكوت السَّمَوَات عَزِيزًا وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رضي الله عنه إِذا دخل بَيته قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ فِي زَوَايَا بَيته الْأَرْبَع كَأَنَّهُ

ص: 266

يلْتَمس بذلك أَن يكون لَهَا حارسا من جوانبه الْأَرْبَعَة وَأَن يَنْفِي الشَّيْطَان من زَوَايَا بَيته

وَرُوِيَ عَن عمر رضي الله عنه أَنه صارع جنيا فصرعه عمر فَقَالَ لَهُ الجني خل عني أعلمك مَا تمتنعون بِهِ منا فَقَالَ إِنَّكُم تمتنعون منا بِآيَة الْكُرْسِيّ وَقَالَ الله تَعَالَى من قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ فِي دبر كل صَلَاة أَعْطيته ثَوَاب الْأَنْبِيَاء

مَعْنَاهُ ثَوَاب عمل الْأَنْبِيَاء فَأَما ثَوَاب النُّبُوَّة فَلَيْسَ لأحد إِلَّا للأنبياء عليهم السلام

وَقَالَ جِبْرَائِيل عليه السلام لمُوسَى عليه السلام إِن رَبك يَقُول من قَالَ فِي دبر كل صَلَاة مَكْتُوبَة مرّة وَاحِدَة اللَّهُمَّ إِنِّي أقدم إِلَيْك بَين يَدي كل نفس ولمحة ولحظة وطرفة يطرف بهَا أهل السَّمَوَات وَأهل الأَرْض وكل شَيْء هُوَ من علمك كَائِن أَو قد كَانَ أقدم إِلَيْك بَين يَدي ذَلِك كُله الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم إِلَى آخرهَا فَإِن اللَّيْل وَالنَّهَار أَربع وَعِشْرُونَ سَاعَة لَيْسَ مِنْهَا سَاعَة إِلَّا يصعد إِلَيّ مِنْهُ سَبْعُونَ ألف ألف حَسَنَة حَتَّى ينْفخ فِي الصُّور وتشتغل الْمَلَائِكَة

وَلما عجز عَن إحصاء هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي أجمل ذكرهَا على الِانْفِرَاد وَقَالَ أقدم بَين هَذِه الْأَشْيَاء أَنه الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ كَأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ إِلَى أَنه قديم لم يزل حَيّ حييت بِهِ الْأَشْيَاء فتحركت قيوم قَامَت بِهِ الْأَشْيَاء فاستقرت الشفع ضم الشَّيْء إِلَى الشَّيْء يُقَال شفع إِلَيْهِ أَي رفع إِلَيْهِ شخصه وَحَاجته وَكَانَ فِي البدء وترا وكل الْأَشْيَاء لَا تكون إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِنَّمَا يخص الدُّعَاء لِأَن الله تَعَالَى أذن فِيهِ فَقَالَ {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} وَقَالَ فِي سَائِر الْأَعْمَال إِنَّمَا يتَقَبَّل

ص: 267

الله من الْمُتَّقِينَ) {مَا بَين أَيْديهم} الْآخِرَة و {مَا خَلفهم} الدُّنْيَا وَقيل بِالْعَكْسِ عَن ذَلِك

عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما فِي قَوْله تَعَالَى {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي علمه مَعْنَاهُ وسع ذَلِك الْعلم الَّذِي عِنْد الْكُرْسِيّ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِنَّمَا وضع الله علمه بحركات الْخلق هُنَاكَ ثمَّ قرن الْحِفْظ بذلك الْعلم فَكَمَا لَا يؤوده علم الحركات لَا يؤوده حفظهما

أما قَوْله إِن لَهَا لِسَانا وشفتين مَعْنَاهُ أَن قِرَاءَة الْقَارئ بهَا يصعد إِلَى الرَّحْمَن فتقدس مليكه عِنْد سَاق الْعَرْش وَالتَّقْدِيس سُؤال الحراسة لِقَارِئِهَا لِأَن القدوس بِهِ يتقدس الْأَشْيَاء فَإِذا تقدست بقيت على هيئتها وتحصنت من الْآفَات فقراءة العَبْد الْآيَة اعْتِرَاف بِمَا تَضَمَّنت بِهِ من صِفَاته وتجديد الْإِيمَان بِهِ فَيَقَع لقرَاءَته حُرْمَة تَنْتَهِي إِلَى سَاق الْعَرْش فتقدس فَجعل ثَوَاب التَّقْدِيس حراسة العَبْد لكل مَا هيأ الله لَهُ من الْحَال المحمودة والموعود فِيهَا وَالله أعلم

ص: 268

-‌

‌ الأَصْل السَّادِس وَالْخَمْسُونَ والمائتان

-

‌فِي زَمْزَم واشتقاقه وَهِي من الْجنَّة

عَن جَابر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم زَمْزَم لما شربت لَهُ

زَمْزَم بِئْر إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عليهما السلام أنبطه الله لَهُ غياثا فِي وَقت الِاضْطِرَار والإشراف على الْمَوْت بَعْدَمَا كَانَ يتمايل عطشا فَبعث الله تَعَالَى جِبْرَائِيل عليه السلام فأدار بِطرف جنَاحه على تِلْكَ الْبقْعَة ثمَّ دَفعهَا بعقبه دفْعَة فانفتقت عَن المَاء من عين من الْجنَّة من قبل الرُّكْن الَّذِي يستلمه النَّاس الْيَوْم وزمزم هزمة جِبْرَائِيل عَلَيْهِ

ص: 269

السَّلَام بعقبه اشْتقت من الهزمة والهزمة الدفعة وَمِنْه الْهَزِيمَة وَقَوله {فهزموهم بِإِذن الله} أَي دفعوهم وكسروهم

عَن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه قَالَ بَيْنَمَا عبد الْمطلب نَائِم فِي الْحجر إِذْ أَتَى فَقيل لَهُ احْفِرْ برة قَالَ وَمَا برة ثمَّ ذهب عَنهُ حَتَّى إِذا كَانَ الْغَد نَام إِلَى مضجعه ذَلِك فَأتى فَقيل لَهُ أحفر مضنونة قَالَ وَمَا مضنونة ثمَّ ذهب عَنهُ حَتَّى إِذا كَانَ الْغَد نَام فِي مضجعه فَأتى فَقيل لَهُ احْفِرْ طيبَة ثمَّ ذهب عَنهُ فَلَمَّا كَانَ الْغَد عَاد لمضجعه فَنَامَ فِيهِ فَأتى فَقيل لَهُ أحفر زَمْزَم قَالَ وَمَا زَمْزَم قَالَ لَا تنزف وَلَا تذم ثمَّ نعت لَهُ موضعهَا فَقَامَ فحفر حَيْثُ نعت لَهُ فَقَالَت لَهُ قُرَيْش مَا هَذَا يَا عبد الْمطلب قَالَ أمرت بِحَفر زَمْزَم فَلَمَّا كشف عَنهُ وَأبْصر الطوى قَالُوا يَا عبد الْمطلب إِن لنا حَقًا فِيهَا مَعَك إِنَّهَا بِئْر أَبينَا إِسْمَاعِيل قَالَ مَا هِيَ لكم لقد خصصت بهَا دونكم فحفرها

فَهَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي ذكرت لعبد الْمطلب فِي مَنَامه دليلة على مَا فِيهَا

فَأَما قَوْله برة فَمَعْنَاه أَنَّهَا تعطيك الصدْق من نَفسهَا لِأَنَّهَا من الْجنَّة وكل شَيْء من الْجنَّة فَإِن الْأَشْيَاء المشتهات كائنة جَمِيعهَا فِي الْوَاحِد مِنْهَا وَذَلِكَ قَوْله وهم فِيمَا اشتهت أنفسهم خَالدُونَ وَقَالَ {فِيهَا مَا تشْتَهي أَنفسكُم}

ص: 270

وكل شَيْء من الْجنَّة مَوْجُود فِي وَاحِد مِنْهَا جَمِيع الشَّهَوَات أَلا ترى الْعَينَيْنِ النضاختين المذكورتين فِي الْقُرْآن تنضخان بألوان الْأَشْيَاء إِن اشْتهى ولي الله من تِلْكَ الْعين طَعَاما نضخت وَإِن اشْتهى شرابًا نضخت وَإِن اشْتهى جواري نضخت وَإِن اشْتهى دَوَاب نضخت مسرجة ملجمة وَبِذَلِك جَاءَ الْخَبَر

وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَيْضا أَن السحابة تقف على رؤوسهم فينطق مَاؤُهَا فتمطر عَلَيْهِم مَا يشتهون وَإِن الْأَشْجَار تنطق والأقداح تطير فتغترف بِمِقْدَار شَهْوَة الشَّارِب وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قدروها تَقْديرا} أَي لَا يفضل عَن الرّيّ وَلَا ينقص مِنْهُ

وَإِن الرجل مِنْهُم ليمشي فِي بيوتاته ويصعد إِلَى قصوره وَبِيَدِهِ قضيب فيشير بِهِ إِلَى المَاء فَيجْرِي مَعَه حَيْثُ مَا دَار فِي مَنَازِله على مستوى الأَرْض فِي غير أخدُود ويصعد حَيْثُ مَا صعد من أَعلَى قصوره وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {يشرب بهَا عباد الله يفجرونها تفجيرا}

وَإِن الثَّوْب الَّذِي يلْبسهُ ولي الله يَتلون عَلَيْهِ فِي الْيَوْم الْوَاحِد سبعين لونا كلما خطر بِبَالِهِ لون تغير لِبَاسه وتلون عَلَيْهِ بِمَا اشتهت نَفسه وَكَذَلِكَ فِيمَا يطعم وَيشْرب كلما تمنى أَو خطر بِبَالِهِ شَيْء تغير ذَلِك الشَّيْء الَّذِي فِي فِيهِ يمضغه إِلَى طعم مَا خطر بِبَالِهِ

فَهَذَا كُله وَفَاء رَبنَا لعَبْدِهِ حَيْثُ قَالَ وهم فِيمَا اشتهت أنفسهم خَالدُونَ لأَنهم ردوا شهوات نُفُوسهم فِي الدُّنْيَا فَشكر الله لَهُم فِي دَاره فَكلما تناولوا بِشَهْوَة من طَعَام أَو شراب أَو لِبَاس أَو مركب

ص: 271

أَو شَيْء من الْأَشْيَاء فخطر ببالهم فِي ذَلِك الشَّيْء شَهْوَة غَيرهَا تحول ذَلِك الشَّيْء إِلَى مَا اشتهت أنفسهم لِئَلَّا يتنغص عَلَيْهِم عيشهم وَلَا يتكدر عَلَيْهِم عَطاء رَبهم لِأَن الله تَعَالَى وعد فِي تَنْزِيله أَن الْجنَّة عَطاء غير مجذوذ أَي غير مُنْقَطع

وَلَو كَانَ إِذا خطر بِبَالِهِ شَيْء احْتج إِلَى مُدَّة ومهلة حَتَّى يَنَالهُ لم يكن فِي ذَلِك وَفَاء بالوعد فَجعل الله الْجنَّة وَنَعِيمهَا لَهُ نهمة كلما خطرت بِبَالِهِ شَهْوَة فِي شَيْء تحولت لَهُ تِلْكَ فِي أسْرع من طرفَة عين إِلَى الشَّهْوَة الْأُخْرَى وَفَاء لَهُ بِمَا وعد ليَكُون عَطاء غير مجذوذ دَائِما أبدا أَلا يرى أَنه يَأْتِي زَوجته وَهِي بكر فَإِذا قضى مِنْهَا شَهْوَته عَادَتْ بكرا على حَالهَا فَهَكَذَا شَأْن الْجنَّة فَإِذا خرجت من الْجنَّة إِلَى الدُّنْيَا تِلْكَ الْأَشْيَاء تَغَيَّرت أحوالها لِأَن الْجنَّة مُحرمَة على الْآدَمِيّين حَتَّى يَذُوقُوا الْمَوْت أَلا ترى أَن الْحجر الْأسود فِي الرُّكْن كَانَ يضيء كَالشَّمْسِ فاسود لأدناس الْآدَمِيّين وسترت زينته عَنْهُم فَهُوَ فِي الْبَاطِن كَهَيْئَته وَلكنه مَسْتُور وَلَو دق فَصَارَ رضيضا لم تَجدهُ إِلَّا أسود فِي رَأْي الْعين وَهُوَ فِي الْبَاطِن على هَيئته

عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَوْلَا مَا ضيع من الرُّكْن من أنجاس الْجَاهِلِيَّة وأرجاسها وأيدي الظلمَة والأثمة لاستشفى بِهِ من كل عاهة ولألفاه الْيَوْم كَهَيْئَته يَوْم خلقه الله وَإِنَّمَا غَيره الله بِالسَّوَادِ لِئَلَّا ينظر أهل الدُّنْيَا إِلَى زِينَة الْجنَّة وَإِنَّهَا لياقوتة بَيْضَاء من ياقوت الْجنَّة وَضعه الله لآدَم حِين أنزلهُ فِي مَوضِع الْكَعْبَة قبل أَن تكون وَالْأَرْض يَوْمئِذٍ طَاهِرَة لم يعْمل عَلَيْهَا شَيْء من الْمعاصِي وَلَيْسَ لَهَا أهل ينجسونها وَوضع لَهَا صفا من الْمَلَائِكَة على أَطْرَاف الْحرم يحرسونه من جَان الأَرْض وسكانها يَوْمئِذٍ الْجِنّ وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُم أَن ينْظرُوا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ شَيْء من الْجنَّة وَمن نظر إِلَى الْجنَّة دَخلهَا

ص: 272

وهم على أَطْرَاف الْحرم حَيْثُ أَعْلَامه الْيَوْم محدقون بِهِ من كل جَانب فَلذَلِك حرم وَسمي الْحرم

وَعَن وهب بن مُنَبّه قَالَ كَانَ الرُّكْن كرسيا لآدَم عليه السلام يجلس عَلَيْهِ فالركن حجر من الفردوس بَعثه الله يَوْم أَخذ الْمِيثَاق فَوَضعه بَينه وَبَين الْعباد ليبايعوه على ذَلِك الْحجر فيمسحونه بأيدهم بيعَة لله وَلذَلِك أَمر باستلامه

عَن أبي وليد الْقرشِي قَالَ سَمِعت فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن رضي الله عنهما تَقول لما أَخذ الله مِيثَاق الْعباد جعله فِي الْحجر فَمن الْوَفَاء لله بالعهد استلام الْحجر فَكَذَلِك مَاء زَمْزَم هُوَ بهيئته على مَا فِي الْجنَّة من حلاوته ولذته ولونه إِلَّا أَنه مُمْتَنع أَن يُوجد للشاربين تِلْكَ الْهَيْئَة الَّتِي فِيهِ من الْجنَّة لإغاثة ولد خَلِيل الله عليهما السلام لِأَن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ لما ولى نادته هَاجر يَا إِبْرَاهِيم إِلَى من تكلنا قَالَ إِلَى الله تَعَالَى فَكَانَ خَلِيل الله صَادِقا فِي قَوْله فوفى الله لَهُ بصدقه وأغاث وَلَده فِي وَقت الِاضْطِرَار وَبَقِي ذَلِك الغياث لمن بعده

وَذَلِكَ قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم زَمْزَم لما شربت لَهُ فالغياث أَمر جَامع ينعكس ويطرد من جَمِيع الْأُمُور فَإِذا نَاب العَبْد نائبة كائنة مَا كَانَت فنواه وقصده وجد ذَلِك الْغَوْث فِيهِ مَوْجُودا وَإِنَّمَا يَنَالهُ العَبْد على قدر نِيَّته

قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ رحمه الله إِنَّمَا الرقي وَالدُّعَاء بِالنِّيَّةِ فالنية تبلغ العَبْد عناصر الْأَشْيَاء والنيات على قدر طَهَارَة الْقُلُوب وسعيها إِلَى رَبهَا فِي تِلْكَ الْمَرَاتِب وَتَفْسِير النِّيَّة النهوض يُقَال ناء ينوء أَي نَهَضَ ينْهض فالنية نهوض الْقلب بعقله ومعرفته إِلَى الله فعلى قدر

ص: 273

الْعقل والمعرفة يقدر الْقلب على السَّعْي والطيران إِلَى الله فالشارب لزمزم إِن شرب لشبع أشبعه الله وَإِن شربه لري أرواه الله وَإِن شربه لشفاء شفَاه الله وَإِن شربه لسوء خلق حسنه الله وَإِن شربه لضيق صدر شَرحه الله وَإِن شرب لانفلاق ظلمات الصَّدْر فلقه الله وَإِن شربه لغنى النَّفس أغناه الله وَإِن شربه لحَاجَة قَضَاهَا الله وَإِن شربه لأمر نابه كَفاهُ الله وَإِن شربه للكربة كشفها الله وَإِن شربه لنصرة نَصره الله وبأية نِيَّة شربهَا من أَبْوَاب الْخَيْر وَالصَّلَاح وفى الله لَهُ بذلك لِأَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِمَا أظهره الله تَعَالَى من جنته غياثا

فَأَما قَوْله مضنونة فَإِنَّمَا سميت لِأَنَّهَا قد ضن بهَا عَمَّن قبله من الْآدَمِيّين فجاد الله بهَا على أَب الْعَرَب إِسْمَاعِيل عليه السلام لتبقى مكرمتها فِي وَلَده مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَفِي أمته وَأما قَوْله طيبَة فَإِنَّهَا طابت بِذَات الله خلقهَا بِيَدِهِ ثمَّ طابت بجود الله وبعطفه على ولد خَلِيله صلوَات الله عَلَيْهِمَا

ص: 274

-‌

‌ الأَصْل السَّابِع وَالْخَمْسُونَ والمائتان

-

‌فِي سر الدُّعَاء عِنْد المضجع

عَن أبي رمثة الْأَنمَارِي قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أَخذ مضجعه قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذَنبي واخسأ شيطاني وَفك رهاني وَثقل ميزاني واجعلني فِي النداء الْأَعْلَى

أَمر بالاستغفار فَقَالَ فِي تَنْزِيله {واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات}

فالمغفرة دَرَجَات بَعْضهَا أَعلَى من بعض فمغفرة الرُّسُل عليهم السلام أَعلَى من مغْفرَة من دونهم ومغفرة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أَعْلَاهَا أَلا ترى أَنه جَاءَ عَنهُ أَنه قَالَ إِن لي دَعْوَة أخرتها إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَإِن إِبْرَاهِيم عليه السلام ليرغب إِلَيّ فِي ذَلِك الْيَوْم

وَقَالَ إِذا زفرت النَّار على أهل الْموقف قَالَ الْأَنْبِيَاء وَالرسل عليهم السلام نَفسِي نَفسِي وَقَالَ نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أمتِي أمتِي

ص: 275

فَهَذَا لعلو دَرَجَته فِي الْمَغْفِرَة أَمر أَن يسْتَغْفر فَلم يزل ذَلِك دأبه بعد مَا بشره الله تَعَالَى فِي سُورَة الْفَتْح بقوله {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} فَنزلت عَلَيْهِ فِي آخر أمره {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} إِلَى آخر السُّورَة

وَإِنَّمَا نزلت هَذِه بعد فتح مَكَّة والبشرى بالمغفرة فِي سُورَة إِنَّا فتحنا قبل ذَلِك بِنَحْوِ من سِنِين وَذَلِكَ عِنْد فتح خَيْبَر فَلم يزل ذَلِك دأبه وَلم يُفَارق الاسْتِغْفَار إِلَى أَن قَبضه الله إِلَيْهِ وَمن يُحِيط بالمغفرة إِلَّا الله فَكلما استكثر العَبْد من سؤالها كَانَ مِنْهَا أوفر حظا

وَرُوِيَ فِي الْخَبَر الْمَأْثُور أَن الاسْتِغْفَار يخرج يَوْم الْقِيَامَة يُنَادي يَا رب حَقي فَيَقُول خُذ حَقك فيحتفل أَهله ويجتحفهم

وَرُوِيَ أَن دَاوُد عليه السلام خرج يَسْتَسْقِي فَلَمَّا انْتهى إِلَى الْبر إِذْ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لنا وَرجع فَمَا تنام آخر النَّاس حَتَّى رَجَعَ أَوَّلهمْ فكأنهم استقلوا ذَلِك مِنْهُ فَأوحى إِلَيْهِ أَن قل لقَوْمك إِنِّي من أَغفر لَهُ مغْفرَة وَاحِدَة أصلح لَهُ بهَا أَمر دُنْيَاهُ وآخرته

قَوْله أخسأ شيطاني فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد وكل بِهِ قرينه من الشَّيْطَان قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن الله أعانني عَلَيْهِ فَأسلم

ثمَّ تَأَول بَعضهم هَذِه الْكَلِمَة فَقَالَ أَي أسلم من كَيده ودواهيه وَنَفر أَن يحمل مَعْنَاهُ على الْإِسْلَام وَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح لِأَن قَوْله أسلم مَفْتُوح الْمِيم مَعْنَاهُ انْقَادَ وَأعْطى بيدَيْهِ سلما كَقَوْلِه تَعَالَى

ص: 276

{قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} أَي أعطينا بِأَيْدِينَا سلما كَقَوْلِه تَعَالَى {وألقوا إِلَى الله يَوْمئِذٍ السّلم} أَي أعْطوا بِأَيْدِيهِم وألقوا إِلَى الله أنفسهم تَسْلِيمًا

فَقَوله أخسأ شيطاني أَي أَنَّك إِذا أخسأته خسئ فَلم يبْق مَعَه شَرّ وَلَا كيد والخسأ فِي لُغَة الْعَرَب الْفَرد والزكا الزَّوْج وكل شَيْء انْضَمَّ إِلَيْهِ شَيْء فزواجه فَهُوَ زكا وَمِنْه سميت الزَّكَاة فِي المَال زَكَاة يُقَال زكى الزَّرْع وَقَوله ذَلِك أزكى لكم وَقَوله مَا زكى مِنْكُم من أحد أبدا وَمِنْه قَوْله وويل للْمُشْرِكين اللَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة أَي لَا يُؤْتونَ كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله فيخسئون من نورها فهم خسا أَي فَرد خَال عَن النُّور وَالْخَيْر فَيَقُول الله لَهُم فِي النَّار إخسأوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون أَي كونُوا فِي خلاء مني وَمن رَحْمَتي وعطفي فَعندهَا يَنْقَطِع الْكَلَام والنداء ويطبق عَلَيْهِم فَلَا يبْقى لَهُم من الرب شَيْء فَذَلِك الْحَال أخلى خلاء فَقَوله أخسأ شيطاني أَي أخله من جَمِيع الشَّرّ حَتَّى لَا يكيدني بِشَيْء

قَوْله فك رهاني فَإِن النُّفُوس حظها من الدُّنْيَا النِّعْمَة نعْمَة الْبَصَر ونعمة السّمع ونعمة اللِّسَان ونعمة سَائِر الْجَوَارِح وَسَائِر النَّعيم الَّتِي تربى بهَا الْجَوَارِح وحظها من رَبهَا الْحَيَاة وَالْعلم والذهن والمعرفة وَالْعقل وَالْحِفْظ والفطنة وَالْقُوَّة فالنفوس مرتهنة بِالنعَم وَإِنَّمَا يفكها الشُّكْر فَعلم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أَن الْعباد لَا يبلغون كنه الشُّكْر فَفَزعَ إِلَى

ص: 277

ربه أَن يتَوَلَّى فك رهانه بجوده وفضله وَقَالَ فِي تَنْزِيله {كل امْرِئ بِمَا كسب رهين} وَقَالَ {كل نفس بِمَا كسبت رهينة إِلَّا أَصْحَاب الْيَمين}

فأصحاب الْيَمين هم الموحدون وحدوا الله بقلوبهم ثمَّ أبرزوا ذَلِك التَّوْحِيد على ألسنتهم فنطقوا بِلَا إِلَه إِلَّا الله فَاقْتضى الله عباده الْوَفَاء بصدقها وصدقها مَسْتُور عَن الْخلق وَعند الله ظَاهر فاقتضاهم حفظ الْجَوَارِح السَّبع عَن المناهي وَأَدَاء الْفَرَائِض ليبرز صدق الصَّادِق وَكذب الْكَاذِب وكل الْمُوَحِّدين قد أخذُوا بِسَهْم من سِهَام يمن الْيَمين كل على قدر صدقه فَأول أَصْحَاب الْيَمين الرُّسُل عليهم السلام وَآخرهمْ من أَتَى الله بِكَلِمَة التَّوْحِيد نطقا بهَا لَيْسَ مَعَه وَرَاء ذَلِك شَيْء وَأَصْحَاب الدَّرَجَات فِيمَا بَين ذَلِك وكل من أَتَى الله مَعَ هَذِه الْكَلِمَة بِشَيْء من أَعمال الْبر من حفظ جارحة وَأَدَاء فَرِيضَة وَاحِدَة فقد أَتَى بِسَهْم من الشُّكْر وعَلى قدر ذَلِك الشُّكْر فك رهانه وَبقيت سَائِر السِّهَام عَلَيْهِ غرما وَلذَلِك قَالَ تَعَالَى {إِن عَذَابهَا كَانَ غراما}

فأوفرهم حظا من حفظ الْجَوَارِح وَأَدَاء الْفَرَائِض أوفرهم حظا من الشُّكْر وهم الرُّسُل عليهم السلام وهم مَعَ هَذَا مقصرون عَن أنفسهم فِي الشُّكْر قَالَ الله تَعَالَى {كلا لما يقْض مَا أمره} أَي لن يبلغ أحد أَن يقْضِي أمره على كنهه

وَكَيف يقدر آدَمِيّ على أَن يخرج من لَحْمه وَدَمه الَّذِي أَصله من التُّرَاب وَمَعَهُ شهوات نَفسه ووساوسها أَن يبلغ بِهِ كنه أمره الَّذِي هُوَ أَهله هَيْهَات فالآدميون عجزوا عَن ذَلِك فَلذَلِك فزع إِلَى ربه فَقَالَ

ص: 278

فك رهاني حَتَّى يكون الَّذِي عجز عَنهُ الآدميون هُوَ الَّذِي يفكه بجوده فينجو من رهائن الشُّكْر أَلا ترى إِلَى قَول مُوسَى عليه السلام يَا رب أسبغت عَليّ النعم فشكرتك عَلَيْهَا فَكيف لي بشكر شكرك قَالَ يَا مُوسَى تعلمت الْعلم الَّذِي لَا يفوقه علم بحسبك أَن تعلم أَن ذَلِك من عِنْدِي فَهَذَا مَوضِع الْعَجز فَإِذا بلغ العَبْد مَوضِع الْعَجز فزع إِلَى الله حَتَّى يجود عَلَيْهِ بِمَا بَقِي عَلَيْهِ من الشُّكْر ففكه من رَهنه

قَوْله ثقل ميزاني فالرسل فِي ستر الله الْأَعْظَم فَإِذا نصبت الموازين امْتَلَأت الكفتان من ورع أَعمال النُّبُوَّة وأفعال الرسَالَة والصدق لِسَان موازينهم فَأهل الْموقف فِي أَشد الْأَهْوَال فِي ذَلِك الْوَقْت لِأَن الرَّحْمَة لم تخرج بعد من الْحجب إِلَيْهِم والرب غَضْبَان أسفا محتجب عَن خلقه لشرك الْمُشْركين وَعبادَة الْأَوْثَان وفرية المفترين فَإِذا نصبت مَوَازِين الرُّسُل وطارت أنوار أَعْمَالهم من الْمِيزَان إِلَى الله تَعَالَى سكن الْغَضَب وَرَضي عَنْهُم الرب وَخرجت الرَّحْمَة من الْحجب إِلَى أهل التَّوْحِيد فأحاطت بهم فَصَارَ الموحدون فِي سرادقها فَعندهَا يُوزن أَفعَال الْعباد إِنَّمَا قَالَ ثقل ميزاني أَي وفر عَليّ أنوار النُّبُوَّة والرسالة حَتَّى أكون أعظمهم نورا وأشدهم صدقا حَتَّى يكون عَمَلي هُوَ الَّذِي يسكن غضبك على خلقك وَيخرج الرَّحْمَة إِلَى الْمُوَحِّدين

قَوْله واجعلني فِي النداء الْأَعْلَى فَإِن الْأَنْبِيَاء عليهم السلام فِي الْموقف لَهُم مَرَاتِب على نَحْو مقاماتهم بقلوبهم فَمن كَانَ أقرب منزلَة بِقَلْبِه فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَعلَى مرتبَة هُنَاكَ فأعلى البداء هم السَّابِقُونَ الَّذِي يبْدَأ بهم فَكَانَ هَذَا دعاؤه حَتَّى بشر بالْمقَام الْمَحْمُود

قَالَ مُجَاهِد {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} قَالَ يجلسه على عَرْشه

ص: 279